|
المؤلف: أبو سهل محمد بن عبد الرحمن المغراوي
الناشر: المكتبة الإسلامية للنشر والتوزيع، القاهرة - مصر، النبلاء للكتاب، مراكش - المغرب
الطبعة: الأولى
عدد الأجزاء: 10
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو ضمن خدمة التراجم]
آذَانِهِمْ وَقْرٌ} (1) وفي حم عسق: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} (2) وفي الزخرف: {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (3) وفي سورة العلق: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ} (4) وفي المائدة: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} (5) وفي الأنعام: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} (6) {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} (7) وفي الطور: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} (8)
وفي البقرة: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} (9)، {يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ} (10) وفي طه: {إِنَّنِي مَعَكُمَا
_________
(1) فصلت الآية (44).
(2) الشورى الآية (7).
(3) الزخرف الآيات (1 - 3).
(4) العلق الآيتان (14و15).
(5) المائدة الآية (116).
(6) الأنعام الآية (12).
(7) الأنعام الآية (54).
(8) الطور الآية (48) ..
(9) البقرة الآية (37).
(10) البقرة الآية (75).
(4/72)
{مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} (1) وفي مريم: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} (2) وفي لقمان: {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} (3) وفي النساء: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} (4) وفي الزمر: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (5) وفي المائدة: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} (6) وفي الفتح: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} (7)
وفي طه: {قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي
_________
(1) طه الآية (46).
(2) مريم الآية (42).
(3) لقمان الآية (28).
(4) النساء الآية (134).
(5) الزمر الآية (67).
(6) المائدة الآية (64).
(7) الفتح الآية (10) ..
(4/73)
{مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} (1) وفي القيامة: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (2) وفي المطففين: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ} (3)، {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} (4)، وفي الملك {قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (5) وفي النجم: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} (6). اهـ (7)
_________
(1) طه الآيات (45 - 47).
(2) القيامة الآيات (20 - 23).
(3) المطففين الآيتان (15و16).
(4) المطففين الآيتان (22و23).
(5) الملك الآيتان (25و26).
(6) النجم الآيات (10 - 14).
(7) السنة لعبد الله (ص.192 - 206).
(4/74)
- روى اللالكائي بسنده إلى حنبل قال: قلت لأبي عبد الله -يعني أحمد ابن حنبل- ما يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الشفاعة فقال: هذه أحاديث صحاح نؤمن بها ونقر، وكل ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بأسانيد جيدة نؤمن بها ونقر، قلت له: وقوم يخرجون من النار؟ فقال: نعم، إذا لم نقر بما جاء به الرسول ودفعناه رددنا على الله أمره قال الله عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (1) قلت: والشفاعة؟ قال: كم حديث يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الشفاعة والحوض، فهؤلاء يكذبون بها ويتكلون، وهو قول صنف من الخوارج، وإن الله تعالى لا يخرج من النار أحدا بعد إذ أدخله، والحمد لله الذي عدل عنا ما ابتلاهم به. (2)
- وفيه عن حنبل قال: سمعت أبا عبد الله -يعني أحمد بن حنبل- يقول: إذا صير العبد إلى لحده وانصرف عنه أهله أعيد إليه روحه في جسده فيسأل حينئذ في قبره، وهو قول الله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} (3) يعني القبر، فنسأل الله أن يثبتنا على طاعته، ويبارك لنا في تلك الساعة عند المساءلة، فالسعيد من أسعده الله عز وجل، قال: وسمعت أبا عبد الله يقول: نؤمن بعذاب القبر ومنكر ونكير. (4)
_________
(1) الحشر الآية (7).
(2) أصول الاعتقاد (6/ 1183/2090).
(3) إبراهيم الآية (27).
(4) أصول الاعتقاد (6/ 1219/2158).
(4/75)
- وفيه: وروى يوسف بن موسى البغدادي أنه قيل لأبي عبد الله أحمد ابن حنبل: الله عز وجل فوق السماء السابعة على عرشه بائن من خلقه وقدرته وعلمه في كل مكان؟ قال: نعم على العرش وعلمه لا يخلو منه مكان. (1)
- ذكر الإمام الخلال في السنة عن أبي ثابت الخطاب، قال: كنت أنا وإسحاق بن أبي عمر جالسا، فمر بنا رجل جهمي وأنا أعلم أنه جهمي، فسلم علينا فرددت عليه السلام ولم يرد عليه إسحاق بن أبي عمر، فقال لي إسحاق: ترد على جهمي السلام؟ قال: فقلت: أليس أرد على اليهودي والنصراني؟ قال: ترضى بأبي عبد الله؟ قلت: نعم. قال: فغدوت إلى أبي عبد الله، فأخبرته بالخبر، فقال: سبحان الله، ترد على جهمي؟ فقلت: أليس أرد على اليهودي والنصراني؟ فقال: اليهودي والنصراني قد تبين أمرهما. (2)
- وفيها: عن عبد الملك الميموني أن أبا عبد الله ذكر رجلا من الجهمية، فقال: أخزاه الله. (3)
- وفيها: عن أبي بكر المروذي، قال: قلت لأبي عبد الله: الرجل المقرئ يجيئه ابن الجهمي، ترى أن يأخذ عليه؟ قال: وابن كم هو؟ قلت: ابن سبع أو ثمان. قال: لا تأخذ عليه ولا تقبله، ليذل الأب به. (4)
_________
(1) أصول الاعتقاد (3/ 445 - 446/ 674).
(2) السنة للخلال (5/ 94).
(3) السنة للخلال (5/ 94).
(4) السنة للخلال (5/ 95).
(4/76)
- وفيها: عن أبي بكر المروذي، قال: قلت لأبي عبد الله: أمر بقرية جهمي وليس معي زاد، ترى أن أطوى؟ قال: نعم اطو، ولا تشتر منه شيئا. وقال المروذي في موضع آخر. قال: سألت أبا عبد الله، قلت: أبيع الثوب من الرجل الذي أكره كلامه ومبايعته، أعني الجهمي؟ قال: دعني حتى أنظر. فلما كان بعدما سألته عنها، قال: توق مبايعته. قلت لأبي عبد الله: فإن بايعته وأنا لا أعلم. قال: إن قدرت أن ترد البيع، فافعل. قلت: فإن لم يمكنني، أتصدق بالثمن؟ قال: أكره أن أحمل الناس على هذا، فتذهب أموالهم. قلت: فكيف أصنع؟ قال: ما أدري، أكره أن أتكلم فيه بشيء. قلت: إنما أريد أن أعرف مذهبك. قال: أليس بعت ولا تعرفه؟ قلت: نعم. قال: أكره أن أتكلم فيه بشيء، ولكن أقل ما هاهنا أن تصدق بالربح وتوق مبايعتهم. (1)
- وبسنده إلى أبي بكر المروذي، قال: سمعت أبا عبد الله وذكر الجهمية فقال: إنما كان يراد بهم المطابق، تدري أي شيء عملوا هؤلاء في الإسلام؟ قيل لأبي عبد الله: الرجل يفرح بما ينزل بأصحاب ابن أبي دؤاد، عليه في ذلك إثم؟ قال: ومن لا يفرح بهذا؟ قيل له: إن ابن المبارك قال: الذي ينتقم من الحجاج، هو ينتقم للحجاج من الناس. قال: أي شيء يشبه هذا من الحجاج؟ هؤلاء أرادوا تبديل الدين. (2)
- قال الإمام أحمد: وكذلك الجهم وشيعته دعوا الناس إلى المتشابه من القرآن والحديث، فضلوا وأضلوا بكلامهم بشرا كثيرا، فكان مما بلغنا من أمر
_________
(1) السنة للخلال (5/ 96).
(2) السنة للخلال (5/ 121).
(4/77)
الجهم عدو الله: أنه كان من أهل خراسان من أهل الترمذ، وكان صاحب خصومات وكلام، وكان أكثر كلامه في الله تبارك وتعالى، فلقي ناسا من المشركين يقال لهم السمنية، فعرفوا الجهم فقالوا له: نكلمك فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا، وإن ظهرت حجتك علينا دخلنا في دينك، فكان مما كلموا به الجهم أن قالوا له: ألست تزعم أن لك إلها؟ قال الجهم: نعم، فقالوا له: فهل رأيت إلهك؟ قال: لا، فقالوا له: هل سمعت كلامه؟ قال: لا، قالوا: فشممت له رائحة؟ قال: لا، قالوا: فوجدت له حسا؟ قال: لا، قالوا: فوجدت له مجسا؟ قال: لا، قالوا: فما يدريك أنه إله؟ قال: فتحير الجهم فلم يدر من يعبد أربعين يوما، ثم إنه استدرك حجة من جنس حجة الزنادقة من النصارى، وذلك أن زنادقة النصارى يزعمون أن الروح التي في عيسى هي من روح الله من ذات الله، وإذا أراد الله أن يحدث أمرا دخل في بعض خلقه فتكلم على لسان خلقه، فيأمر بما شاء وينهى عن ما شاء وهو روح غائبة عن الأبصار. فاستدرك الجهم حجة مثل هذه الحجة، فقال للسمني: ألست تزعم أن فيك روحا؟ فقال: نعم، قال فهل رأيت روحك؟ قال: لا، قال: فسمعت كلامه؟ قال: لا، قال: فوجدت له حسا؟ قال: لا، قال: فكذلك الله لا يرى له وجه، ولا يسمع له صوت، ولا يشم له رائحة، وهو غائب عن الأبصار، ولا يكون في مكان دون مكان. ووجد ثلاث آيات في القرآن من المتشابه قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (1). {وهو
_________
(1) الشورى الآية (11).
(4/78)
اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} (1). {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} (2).
فبنى أصل كلامه كله على هؤلاء الآيات، وتأول القرآن على غير تأويله، وكذب بأحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزعم أن من وصف من الله شيئا مما وصف الله به نفسه في كتابه أو حدث عنه رسوله كان كافرا، وكان من المشبهة. وأضل بكلامه بشرا كثيرا، وتبعه على قوله رجال من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب عمرو بن عبيد بالبصرة، ووضع دين الجهمية. (3)
- وقال: قال أحمد: إنه مستو على العرش عالم بكل مكان. (4)
- وفيه: قال الإمام أحمد: أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس، وقال: يجتنب المتكلم في الفقه هذين الأصلين المجمل والقياس، وهذه الطريق يشترك فيها جميع أهل البدع الكبار والصغار، فهي طريق الجهمية والمعتزلة ومن دخل في التأويل من الفلاسفة والباطنية الملاحدة. (5)
- وجاء في السير عن أبي معمر القطيعي، قال: لما أحضرنا إلى دار السلطان أيام المحنة، وكان أحمد بن حنبل قد أحضر، فلما رأى الناس يجيبون، وكان رجلا لينا، فانتفخت أوداجه، واحمرت عيناه، وذهب ذلك اللين. فقلت: إنه قد غضب لله، فقلت أبشر: حدثنا ابن الفضيل، عن الوليد بن
_________
(1) الأنعام الآية (3).
(2) الأنعام الآية (103).
(3) الرد على الجهمية والزنادقة (ص.101 - 105)، وانظر الفتاوى الكبرى لابن تيمية (5/ 39 - 40).
(4) مجموع الفتاوى (4/ 181).
(5) مجموع الفتاوى (17/ 355 - 356).
(4/79)
عبد الله بن جميع، عن أبي سلمة، قال: كان من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من إذا أريد على شيء من أمر دينه، رأيت حماليق عينيه في رأسه تدور كأنه مجنون. (1)
- وجاء في الإبانة: عن أبي نصر عصمة بن أبي عصمة، قال: حدثنا الفضل بن زياد، قال: حدثنا أبو طالب أحمد بن حميد، قال: قال لي أبو عبد الله: صاروا ثلاث فرق في القرآن. قلت: نعم: هم ثلاث: الجهمية، والواقفة، واللفظية، فأما الجهمية، فهم يكشفون أمرهم، يقولون: مخلوق. قال: كلهم جهمية، هؤلاء يستترون، فإذا أحرجتهم، كشفوا الجهمية، فكلهم جهمية، قال الله عز وجل: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (2) وقال: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} (3) فيسمع مخلوقا وجبريل جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بمخلوق. (4)
- وبسنده إلى علي بن عيسى العكبري أن حنبلا حدثهم سمع أبا عبد الله قال: من قال إن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، فقد كفر وَرَدَّ على الله أمره وقوله، يستتاب فإن تاب وإلا قتل. (5)
- وفيها: عن يعقوب بن بختان، قال: قلت لأبي عبد الله رحمه الله: من
_________
(1) سير أعلام النبلاء (11/ 238).
(2) النساء الآية (164).
(3) التوبة الآية (6).
(4) الإبانة (1/ 12/294 - 295/ 64) ونحوه في السنة للخلال (5/ 225) والسير (11/ 289).
(5) الإبانة (2/ 13/79/ 304).
(4/80)
كان له قرابة جهمي، يرثه؟ قال: بلغني عن عبد الرحمن أنه قال: لا يرثه، فقيل: ما ترى؟ فقال: إذا كان كافرا. قلت: لا يرثه؟ قال: لا. (1)
- وفيها: عن المروذي، قال: سألت أبا عبد الله عن الجهمي يموت وله ابن عم ليس له وارث غيره، فقال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يرث المسلم الكافر" (2) قلت: فلا يرثه؟ قال: لا. قلت: فما يصنع بماله؟ قال: بيت المال، نحن نذهب إلى أن مال المرتد لبيت المال. (3)
- وفيها: وروى الميموني، قال: ذاكرت أبا عبد الله أمر الجهمية وما يتكلمون، فقال: في كلامهم كلام الزنادقة، يدورون على التعطيل ليس يثبتون شيئا، وهكذا الزنادقة. (4)
- وفيها: روى المروذي عن أبي عبد الله، قال: قلت لأبي عبد الله: رجل صلى خلف الصف هو ورجل، فلما سلم نظر إلى الذي صلى على جانبه فإذا هو جهمي، قال: يعيد الصلاة، فإنه إنما صلى خلف الصف وحده، أو كلام هذا معناه: إن شاء الله. (5)
- وبسنده إلى الحارث الصائغ: قلت لأبي عبد الله إن أصحاب ابن
_________
(1) الإبانة (2/ 12/81/ 310).
(2) أخرجه من حديث أسامة بن زيد: أحمد (5/ 200،208،209) والبخاري (12/ 58/6764) ومسلم (3/ 1233/1614) وأبو داود (3/ 326 - 327/ 2909) والترمذي (4/ 369/2107) والنسائي في الكبرى (4/ 80/6371) وابن ماجه (2/ 911/2729).
(3) الإبانة (2/ 13/82 - 83/ 314).
(4) الإبانة (2/ 13/107/ 356).
(5) الإبانة (2/ 13/122/ 389).
(4/81)
الثلاج نلنا منهم ومن أعراضهم، فنستحلهم من ذلك؟ فقال: لا، هؤلاء جهمية، من أي شيء يستحلون؟. (1)
- وفيها: قال عبد الله بن أحمد: وسألت أبي عن الصلاة خلف أهل البدع، فقال: لا تصل خلفهم مثل الجهمية والمعتزلة، وقال: إذا كان القاضي جهميا، فلا تشهد عنده. (2)
- وفيها: قال حنبل: وقال أبو عبد الله: واحتججت عليهم فقلت: زعمتم أن الأخبار تردونها باختلاف أسانيدها، وما يدخلها من الوهم والضعف، فهذا القرآن نحن وأنتم مجمعون عليه وليس بين أهل القبلة فيه خلاف، وهو الإجماع. قال الله عز وجل في كتابه تصديقا منه لقول إبراهيم غير دافع لمقالته ولا لما حكى عنه، فقال: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} (3) فذم إبراهيم أباه أن عبد ما لا يسمع ولا يبصر، فهذا منكر عندكم. فقالوا: شبه، شبه يا أمير المؤمنين. فقلت: أليس هذا القرآن؟ هذا منكر عندكم مدفوع، وهذه قصة موسى، قال الله عزوجل لموسى في كتابه حكاية عن نفسه: {وَكَلَّمَ اللَّهُ موسى} (4) فأثبت الله الكلام لموسى كرامة منه لموسى ثم قال: {يا موسى إنني
_________
(1) الإبانة (2/ 13/131 - 132/ 408).
(2) الإبانة (2/ 13/139 - 140/ 414).
(3) مريم الآية (42).
(4) النساء الآية (164).
(4/82)
أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فاعبدني} (1) فتنكرون هذا، فيجوز أن تكون هذه الياء راجعة ترد على غير الله، أو يكون مخلوق يدعي الربوبية؟ وهل يجوز أن يقول هذا غير الله؟ وقال له: {يا موسى لا تخف} (2)، {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} [طه: 12] (3) فهذا كتاب الله يا أمير المؤمنين، فيجوز أن يقول لموسى: أنا ربك مخلوق؟ وموسى كان يعبد مخلوقا؟ ومضى إلى فرعون برسالة مخلوق يا أمير المؤمنين؟ قال: فأمسكوا، وأداروا بينهم كلاما لم أفهمه. قال أبو عبد الله: والقوم يدفعون هذا وينكرونه، ما رأيت أحدا طلب الكلام واشتهاه إلا أخرجه إلى أمر عظيم، لقد تكلموا بكلام، واحتجوا بشيء ما يقوى قلبي ولا ينطق لساني أن أحكيه، والقوم يرجعون إلى التعطيل في أقاويلهم، وينكرون الرؤية والآثار كلها، ما ظننت أنه هكذا حتى سمعت مقالاتهم.
قال أبو عبد الله: قيل لي يومئذ: كان الله ولا قرآن. فقلت له: كان الله ولا علم؟ فأمسك. ولو زعم غير ذلك أن الله كان ولا علم، لكفر بالله. قال أبو عبد الله: وقلت له -يعني: لابن الحجام-: يا ويلك، لا يعلم حتى يكون، فعلمه وعلمك واحد، كفرت بالله عالم السر وأخفى، عالم الغيب والشهادة، علام الغيوب، ويلك، يكون علمه مثل علمك، تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. قال أبو عبد الله: فهذه أليست مقالته؟ قال أبو عبد الله: وهذا هو
_________
(1) طه الآية (14).
(2) النمل الآية (10).
(3) طه الآية (12).
(4/83)
الكفر بالله، ما ظننت أن القوم هكذا. لقد جعل برغوث يقول يومئذ: الجسم وكذا وكلام لا أفهمه، فقلت: لا أعرف ولا أدري ما هذا، إلا أنني أعلم أنه أحد صمد، لا شبه له ولا عدل، وهو كما وصف نفسه، فيسكت عني. قال: فقال لي شعيب: قال الله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عربيًا} (1) أفليس كل مجعول مخلوقا؟ قلت: فقد قال الله: {فَجَعَلَهُمْ جذاذًا} (2) أفخلقهم {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} (3) أفخلقهم؟ أفكل مجعول مخلوق؟ كيف يكون مخلوقا وقد كان قبل أن يخلق الجعل؟ قال: فأمسك. (4)
- وبسنده إلى صالح بن أحمد أن أباه قال: قال لي رجل منهم: أراك تذكر الحديث وتنتحله. قال: فقلت له: ما تقول في قول الله عز وجل: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} (5) فقال: خص الله بها المؤمنين، قال: قلت: فما تقول إن كان قاتلا أو عبدا أو يهوديا أو نصرانيا؟ فسكت. (6)
- وفيها عن محمد بن جعفر، قال: سمعت هرثمة بن خالد -قرابة إسحاق بن داود- وكنا جميعا أنا وإسحاق، قال: قال أحمد بن حنبل، قال
_________
(1) الزخرف الآية (3).
(2) الأنبياء الآية (58).
(3) الفيل الآية (5).
(4) الإبانة (2/ 14/254 - 257/ 433).
(5) النساء الآية (11).
(6) الإبانة (2/ 14/258/ 435).
(4/84)
لي ابن أبي دؤاد -وهم يناظروني- وقد كنت قلت لهم: أوجدوني ما تقولون في كتاب الله أو في سنة رسول الله، أوجدني أنت يا ابن حنبل في علمك أن هذا البساط الذي نحن عليه مخلوق؟ قال: قلت: نعم. قال الله عز وجل: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} (1) قال: فكأني ألقمته حجرا. (2)
- وفيها: وروى الميموني، قال: سألت أبا عبد الله، قلت: من قال: إن الله تعالى كان ولا علم؟ فتغير وجهه تغيرا شديدا، وكثر غيظه، ثم قال لي: كافر. وقال لي: كل يوم أزداد في القوم بصيرة. (3)
- ونقل الخلال في السنة عن عبد الملك الميموني أن أبا عبد الله ذكر عنده بشر المريسي، فقيل: كافر. فلم أر أبا عبد الله أنكر من قول القائل شيئا. (4)
- وفيها: عن الأثرم قال: سمعت أبا عبد الله قديما يسأل عن الصلاة خلف بشر المريسي قال: لا يصلى خلفه. (5)
- وجاء في الإبانة عن المروذي، قال: سمعت أبا عبد الله وذكر بشرا المريسي، فقال: من كان يهوديا، إيش تراه يكون؟. (6)
- وجاء في السنة للخلال: عن الحسن بن ثواب المخرمي، قال: قلت
_________
(1) النحل الآية (80).
(2) الإبانة (2/ 14/258 - 259/ 436).
(3) الإبانة (2/ 12/70/ 291).
(4) السنة للخلال (5/ 100).
(5) السنة للخلال (5/ 102).
(6) الإبانة (2/ 13/112/ 367) والسنة للخلال (5/ 99) وزاد: "ملأ الله قبر المريسي نارا".
(4/85)
لأحمد بن حنبل، ابن أبي دؤاد؟، قال: كافر بالله العظيم. (1)
- وفيها: عن إسحاق بن إبراهيم حدثهم أنه حضر العيد مع أبي عبد الله، قال: فإذا بقاص يقول: على ابن أبي دؤاد لعنة الله، وحشا الله قبر ابن أبي دؤاد مئة ألف عمود من نار. وجعل يلعن، فقال أبو عبد الله: ما أنفعهم للعامة. (2)
- ونقل ابن بطة بسنده إلى أحمد بن محمد بن عبد الحميد الكوفي، قال: سمعت عبيد بن محمد القصير قال: سمعت من حضر مجلس أبي إسحاق يوم ضرب أحمد بن حنبل، قال له أبو إسحاق: يا أحمد إن كنت تخشى من هؤلاء النابتة، جئتك أنا في جيش إلى بيتك حتى أسمع منك الحديث. قال: فقال له: يا أمير المؤمنين خذ في غير هذا واسأل عن العلم واسأل عن الفقه، أي شيء تسأل عن هذا؟ قال عبيد بن محمد: وسمعت من حضر مجلس أبي إسحاق يوم ضرب أحمد بن حنبل، قال: التفت إليه المعتصم، فقال: تعرف هذا؟ قال: لا. قال: تعرف هذا؟ قال: لا. فالتفت أحمد، فوقعت عينه على ابن أبي دؤاد فحول وجهه، فكأنما وقعت عينه على قرد، قال: تعرف هذا -يعني: عبد الرحمن؟ قال: نعم. قال: قل: الله رب القرآن، قال: القرآن كلام الله. قال: فشهد ابن سماعة وقتلته، فقالوا: قد كفر، اقتله ودمه في أعناقنا. (3)
- وذكر الإمام الخلال في السنة: عن حرب بن إسماعيل الكرماني،
_________
(1) السنة للخلال (5/ 117).
(2) السنة للخلال (5/ 118).
(3) الإبانة (2/ 14/262 - 263/ 439).
(4/86)
قال: سمعت أحمد، وذكر شعيب بن سهل قاضي بغداد، فقال أحمد: خزاه الله. (1)
- وجاء في الإبانة: عن الفضل بن زياد، قال: قلت لأبي عبد الله: إن الشراك بلغني عنه أنه قد تاب ورجع. قال: كذب، لا يتوب هؤلاء، كما قال أيوب: إذا مرق أحدهم لم يعد فيه أو نحوهذا. (2)
- وفيها: عن الفضل بن زياد قال: قلت لأبي عبد الله: إن ابن عم لي قدم من طرسوس، فأخبرني عنهم أنهم يحبون أن يعلموا رأيك في الذي تكلم به موسى بن عقبة، فقال: قد كنت تكلمت بكلام فيه. قلت: إنهم يريدون منك حركة في أمره، فقال: قد أخرجت فيه أحاديث، وادفع إلي كاغدا حتى أخرجها إليك. فقام، فأخرجت كتابا فدفعه إلي، فقال: اقرأ علي، فقرأت الأحاديث، ودفع إلي طبق كاغد من عنده، فقال: انسخه. فنسخته، وعارضت به، وصححته. (3)
- جاء في الشريعة: عن الفضل بن زياد؛ قال: سمعت أبا عبد الله أحمد ابن حنبل، وبلغه عن رجل أنه قال: إن الله تعالى لا يرى في الآخرة، فغضب غضبا شديدا ثم قال: من قال بأن الله تعالى لا يرى في الآخرة فقد كفر، عليه لعنة الله وغضبه، من كان من الناس، أليس الله عز وجل قال: {وُجُوهٌ
_________
(1) السنة للخلال (5/ 119).
(2) الإبانة (2/ 13/129 - 130/ 404).
(3) الإبانة (1/ 12/357/ 165).
(4/87)
يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (1) وقال تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} (2) هذا دليل على أن المؤمنين يرون الله تعالى. (3)
- وفيها: عن حنبل بن إسحاق بن حنبل، قال: سمعت أبا عبد الله يقول: قالت الجهمية: إن الله لا يرى في الآخرة، وقال الله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} فلا يكون هذا إلا أن الله تعالى يرى، وقال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} فهذا النظر إلى الله تعالى. والأحاديث التي رويت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنكم ترون ربكم" (4) برواية صحيحة، وأسانيد غير مدفوعة، والقرآن شاهد أن الله تعالى يرى في الآخرة. (5)
- وفيها: عن أبي داود السجستاني، قال: سمعت أحمد بن حنبل وقيل له في رجل حدث بحديث عن رجل، عن أبي العطوف -يعني أن الله عز وجل لا يرى في الآخرة-، فقال: لعن الله من حدث بهذا الحديث، ثم قال: أخزى الله هذا. (6)
- وفي السنة للخلال: عن عبيد الله بن أحمد الحلبي، قال: سمعت أبا
_________
(1) القيامة الآيتان (22و23).
(2) المطففين الآية (15).
(3) الشريعة (2/ 9/618).
(4) انظر تخريجه في مواقف عبد العزيز الماجشون سنة (164هـ).
(5) الشريعة (2/ 9 - 10/ 619) ونحوه في مجموع الفتاوى (6/ 499 - 500).
(6) الشريعة (2/ 51/671).
(4/88)
عبد الله وحدثني بحديث جرير بن عبد الله في الرؤية (1)، فلما فرغ قال: على الجهمية لعنة الله. (2)
- وجاء في طبقات الحنابلة: وقال عبد الله بن أحمد: سألت أبي عن قوم يقولون: لما كلم الله موسى لم يتكلم بصوت، فقال أبي: تكلم الله تبارك وتعالى بصوت وهذه الأحاديث نرويها كما جاءت، وقال أبي: حديث ابن مسعود: إذا تكلم الله بالوحي سمع له صوت كجر السلسلة على الصفوان (3) قال أبي: والجهمية تنكره. قال أبي: وهؤلاء كفار. (4)
" التعليق:
هذه هي المسائل التي طال الحوار فيها بين السلف والجهمية وأفراخهم، وقد تصدى لهم السلف بالرد وألفوا في ذلك، ومن أحسن ما ألف: كتاب إثبات الحرف والصوت لأبي نصر السجزي الذي سيمر بنا إن شاء الله تعالى. وأثبت من المنقول والمعقول ما فيه كفاية لمن أراد الحجة، وأما الذي لا يطلب الدليل فكما قال الله تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ
_________
(1) تقدمت الإشارة إليه.
(2) السنة للخلال (5/ 95).
(3) أخرجه: أبو داود (5/ 105 - 106/ 4738)، ابن حبان (1/ 223 - 224/ 37) كلهم من طريق أبي معاوية عن الأعمش عن مسلم بن صبيح عن مسروق عن عبد الله - رضي الله عنه - به مرفوعا. وأخرجه موقوفا: ابن خزيمة في التوحيد (1/ 351/208) والبيهقي في الأسماء والصفات (1/ 507/432) من طريق سعدان بن نصر كلاهما عن أبي معاوية بهذا الإسناد موقوفا. وذكره البخاري تعليقا (13/ 554) عن مسروق عن ابن مسعود موقوفا.
وقد اختلف في رفعه ووقفه، قال الدارقطني في العلل (5/ 243): "والموقوف هو المحفوظ" ولو ثبت موقوفا فهو في حكم الرفع، لأن مثل هذا ليس من قبيل الرأي.
(4) طبقات الحنابلة (1/ 185) والسنة لعبد الله (70 - 71) والفتح (13/ 460).
(4/89)
بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} (1). فالمعاند لا ينتفع لا بالقرآن ولا بالسنة. وقد حقق الكتاب رسالة علمية مقدمة من أخينا وصديقنا الفاضل الشيخ محمد باكريم الزهراني.
- ونقل الإمام اللالكائي: عن حنبل قال: قلت لأبي عبد الله: يكلم الله عبده يوم القيامة؟ قال: نعم، فمن يقضي بين الخلق إلا الله، يكلمه الله عز وجل ويسأله الله عز وجل متكلم لم يزل بما شاء، ويحكم، وليس لله عدل ولا مثل تبارك وتعالى كيف شاء وأنى شاء. (2)
- وفي الفتاوى الكبرى قال الإمام أحمد فيما خرجه في الرد على الجهمية، بيان ما أنكرت الجهمية أن يكون الله كلم موسى صلى الله عليه وعلى نبينا وعلى سائر الأنبياء، قلنا لم أنكرتم ذلك؟ قالوا: لأن الله لم يتكلم ولا يتكلم، إنما كون شيئا فعبر عن الله وخلق صوتا فسمع. فزعموا أن الكلام لا يكون إلا من جوف وفم وشفتين ولسان، فقلنا فهل يجوز لمكون أو لغير الله أن يقول لموسى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (3)، {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} (4)؟ فمن زعم ذلك فقد زعم أن غير الله ادعى الربوبية ولو كان كما زعم الجهمية أن الله كون شيئا، كان يقول ذلك
_________
(1) الأنعام الآية (7).
(2) أصول الاعتقاد (3/ 479/738) والإبانة (2/ 14/321/ 496).
(3) طه الآية (14).
(4) طه الآية (12).
(4/90)
المكون يا موسى إن الله رب العالمين، ولا يجوز أن يقول إني أنا الله رب العالمين، وقد قال الله جل ثناؤه: {وكلم الله موسى تكليمًا} (1) وقال: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} (2) وقال: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} (3) فهذا منصوص القرآن قال: وأما ما قالوا إن الله لم يتكلم ولا يتكلم، فكيف يصنعون بحديث سليمان الأعمش عن خيثمة عن عدي بن حاتم الطائي، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان" (4) قال: وأما قولهم إن الكلام لا يكون إلا من جوف وفم وشفتين ولسان. أليس الله عز وجل قال للسموات والأرض: {ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (5) أتراها أنها قالت بجوف وشفتين ولسان؟ وقال الله: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ} (6) أتراها أنها سبحت بفم وجوف ولسان وشفتين، والجوارح إذا شهدت على الكافر فقالوا: {لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} (7)
_________
(1) النساء الآية (164).
(2) الأعراف الآية (143).
(3) الأعراف الآية (144).
(4) أخرجه: أحمد (4/ 256) والبخاري (11/ 488/6539) ومسلم (2/ 703 - 704/ 1016 [67]) والترمذي (4/ 528/2415) وابن ماجه (1/ 66/185).
(5) فصلت الآية (11) ..
(6) الأنبياء الآية (79).
(7) فصلت الآية (21).
(4/91)
أتراها نطقت بجوف وشفتين وفم ولسان، ولكن الله أنطقها كيف شاء من غير أن يقول فم ولسان وشفتان. قال: فلما خنقته الحجج قال: إن الله كلم موسى إلا أن كلامه غيره: فقلنا: وغيره مخلوق؟ قال: نعم، قلنا هذا مثل قولكم الأول إلا أنكم تدفعون الشنعة عن أنفسكم بما تظهرون ... قال وقلنا للجهمية: من القائل لعيسى يوم القيامة {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} (1) أليس الله هو القائل، قالوا: يكون الله شيئا يعبر عن الله كما كون فعبر لموسى، فقلنا: فمن القائل {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} (2) أليس الله هو الذي يسأل؟ قالوا: هذا كله إنما يكون الله شيئا فيعبر عن الله، قلنا: قد أعظمتم على الله الفرية حتى زعمتم أن الله لا يتكلم فشبهتموه بالأصنام التي تعبد من دون الله لأن الأصنام لا تتكلم ولا تتحرك ولا تزول عن مكان إلى مكان، فلما ظهرت عليه الحجة قال: أقول إن الله قد يتكلم ولكن كلامه مخلوق.
قلنا: وكذلك بنوا آدم كلامهم مخلوق، ففي مذهبكم أن الله قد كان في وقت من الأوقات لا يتكلم حتى خلق التكلم، وكذلك بنو آدم كانوا لا يتكلمون حتى خلق لهم كلاما، فقد جمعتم بين كفر وتشبيه فتعالى الله عن هذه الصفة، بل نقول إن الله جل ثناؤه لم يزل متكلما إذا شاء، ولا نقول أنه كان ولا يتكلم حتى خلق كلاما، ولا نقول أنه قد كان لا يعلم حتى خلق
_________
(1) المائدة الآية (116).
(2) الأعراف الآية (6).
(4/92)
علما فعلم، ولا نقول أنه قد كان ولا قدرة، حتى خلق لنفسه قدرة ولا نقول إنه قد كان ولا نور له حتى خلق لنفسه نورا، ولا نقول إنه كان ولا عظمة حتى خلق لنفسه عظمة. فقالت الجهمية لنا لما وصفنا من الله هذه الصفات: إن زعمتم أن الله ونوره والله وقدرته والله وعظمته فقد قلتم بقول النصارى حين زعمتم أن الله لم يزل ونوره ولم يزل وقدرته فقلنا: لا نقول أن الله لم يزل وقدرته ولم يزل ونوره، ولكن نقول: لم يزل بقدرته ونوره لا متى قدر ولا كيف قدر. فقالوا لا تكونون موحدين أبدا حتى تقولوا كان الله ولا شيء، فقلنا: نحن نقول كان الله ولاشيء ولكن إذا قلنا أن الله لم يزل بصفاته كلها أليس إنما نصف إلها واحدا بجميع صفاته وضربنا لهم مثلا في ذلك فقلنا لهم: أخبرونا عن هذه النخلة أليس لها جذوع وكرب وليف وسعف وخوص وجمار واسمها اسم واحد وسميت نخلة بجميع صفاتها، فكذلك الله جل ثناؤه وله المثل الأعلى بجميع صفاته إله واحد، لا نقول إنه قد كان في وقت من الأوقات ولا قدرة له حتى خلق قدرة، والذي ليس له قدرة هو عاجز، ولا نقول إنه قد كان في وقت من الأوقات ولا علم له حتى خلق فعلم والذي لا يعلم فهو جاهل ولكن نقول لم يزل الله قادرا عالما مالكا لا متى ولا كيف، وقد سمى الله رجلا كافرا اسمه الوليد بن المغيرة المخزومي فقال: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} (1) أو قد كان لهذا الذي سماه وحيدا عينان وأذنان ولسانا وشفتان ويدان ورجلان وجوارح كثيرة، فقد سماه الله وحيدا بجميع صفاته،
_________
(1) المدثر الآية (11) ..
(4/93)
فكذلك الله، وله المثل الأعلى هو بجميع صفاته إله واحد. (1)
- ونقل الإمام ابن بطة عن حنبل بن إسحاق، قال: وسمعت أبا عبد الله يقول: من زعم أن الله لم يكلم موسى، فهو كافر بالله، وكذب بالقرآن، ورد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يستتاب من هذه المقالة، فإن تاب، وإلا ضربت عنقه. (2)
- جاء في الشريعة عن محمد بن يوسف بن الطباع، قال: سمعت رجلا سأل أحمد بن حنبل، فقال: يا أبا عبد الله، أصلي خلف من يشرب المسكر؟ قال: لا. قال: فأصلي خلف من يقول: القرآن مخلوق؟ قال: سبحان الله! أنهاك عن مسلم، وتسألني عن كافر؟. (3)
- وجاء في الفتح: قال ابن أبي حاتم في كتاب 'الرد على الجهمية' حدثنا أبي قال: قال أحمد بن حنبل: دل على أن القرآن غير مخلوق حديث عبادة، "أول ما خلق الله القلم فقال اكتب" الحديث (4)
قال: وإنما نطق القلم بكلامه لقوله: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
_________
(1) الفتاوى الكبرى (5/ 60 - 63).
(2) الإبانة (2/ 14/320/ 495) والشريعة (2/ 85/723) بنحوه.
(3) الشريعة (1/ 222 - 223/ 187) والإبانة (2/ 12/71 - 72/ 295).
(4) أخرجه: أحمد (5/ 317) من طريق ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن الوليد بن عبادة بن الصامت عن أبيه فذكره. قال الشيخ الألباني رحمه الله في "ظلال الجنة" (1/ 48): "وإسناده لا بأس به في الشواهد رجاله ثقات غير ابن لهيعة وهو سيئ الحفظ لكنه يتقوى بما قبله وما بعده" -يعني من كتاب السنة لابن أبي عاصم. وأخرجه: أبو داود (5/ 76/4700) من طريق إبراهيم بن أبي عبلة عن أبي حفصة قال: قال عبادة بن الصامت لابنه، فذكره. الترمذي (4/ 398/2155) وقال: "وهذا حديث غريب من هذا الوجه". وفيه قصة طويلة.
وأخرجه أيضا في (5/ 394 - 395/ 3319) وقال: "هذا حديث حسن غريب".
(4/94)
(40) (1) قال فكلام الله سابق على أول خلقه فهو غير مخلوق. (2)
وفيه: وقد احتج أحمد بن حنبل بهذه الآية -يعني قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} (3) الآية- على أن القرآن غير مخلوق لأنه لم يرد في شيء من القرآن ولا من الأحاديث أنه مخلوق، ولا ما يدل على أنه مخلوق. (4)
- جاء في السنة لعبد الله: قال أحمد بن حنبل: من قال القرآن مخلوق فهو عندنا كافر، لأن القرآن من علم الله، قال الله تعالى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} (5) وقال: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} (6) وقال: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ
_________
(1) النحل الآية (40).
(2) الفتح (13/ 443).
(3) المائدة الآية (67).
(4) الفتح (13/ 504).
(5) آل عمران الآية (61).
(6) البقرة الآية (120).
(4/95)
وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} (1) وقال: {ألا له الخلق والأمر} (2) وقال: {ومن يكفر به من الأحزاب} (3). اهـ (4)
- وفيها: قال عبد الله: سمعت أبي مرة أخرى سئل عن القرآن فقال: كلام الله ليس بمخلوق. ولا تخاصموا ولا تجادلوا من يخاصم. (5)
- وفيها: قال عبد الله: سمعت أبي يقول: من كان من أصحاب الحديث أو من أصحاب الكلام فأمسك عن أن يقول القرآن ليس بمخلوق فهو جهمي. (6)
- عن أحمد بن الحسن الترمذي قال: سألت أبا عبد الله قال: قد وقع من أمر القرآن ما قد وقع، فإن سئلت عنه ماذا أقول؟ قال لي: ألست أنت مخلوقاً؟، قلت: نعم. قال: أليس كل شيء منك مخلوقاً؟ قلت: نعم. قال: فكلامك، أليس هو منك وهو مخلوق؟، قلت: نعم. قال: فكلام الله أليس هو منه؟ قلت: نعم. قال: فيكون شيء من الله مخلوقاً؟. (7)
_________
(1) البقرة الآية (145).
(2) الأعراف الآية (54).
(3) هود الآية (17).
(4) السنة لعبد الله بن أحمد (ص.9 - 10) ونحوه في الشريعة (1/ 223/189) وأصول الاعتقاد (2/ 290 - 291/ 450).
(5) السنة لعبد الله بن أحمد (ص.21).
(6) السنة لعبد الله بن أحمد (ص.29).
(7) الإبانة (2/ 12/35/ 225) وأصول الاعتقاد (2/ 291/451).
(4/96)
- وجاء في الفتاوى الكبرى: عن الميموني أنه قال لأبي عبد الله: ما تقول فيمن قال إن أسماء الله محدثة. فقال: كافر. ثم قال لي: الله من أسمائه، فمن قال إنها محدثة، فقد زعم أن الله مخلوق، وأعظم أمرهم عنده وجعل يكفرهم، وقرأ علي: {اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} (1) وذكر آية أخرى. (2)
- وفيها: وقال الخلال في كتاب السنة: أخبرني محمد بن سليمان قال: قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: ما تقول في القرآن؟ قال: عن أي قالة تسأل؟ قلت: كلام الله، قال: كلام الله وليس بمخلوق، ولا تجزع أن تقول ليس بمخلوق، فإن كلام الله من الله ومن ذات الله وتكلم الله به، وليس من الله شيء مخلوق. (3)
- وفيها: قال الخلال: وأخبرني عبيد الله بن حنبل حدثني حنبل سمعت أبا عبد الله يقول: قال الله في كتابه العزيز: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} (4) فجبريل سمعه من الله تعالى، وسمعه النبي - صلى الله عليه وسلم - من جبريل - صلى الله عليه وسلم -، وسمعه أصحاب النبي من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فالقرآن كلام الله غير مخلوق ولا نشك، ولا نرتاب فيه، وأسماء الله تعالى في القرآن
_________
(1) الصافات الآية (126).
(2) الفتاوى الكبرى (5/ 70).
(3) الفتاوى الكبرى (5/ 76) والإبانة (2/ 12/35/ 224).
(4) التوبة الآية (6).
(4/97)
وصفاته في القرآن أن القرآن من علم الله وصفاته منه، فمن زعم أن القرآن مخلوق فهو كافر، والقرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود، وقد كنا نهاب الكلام في هذا حتى أحدث هؤلاء ما أحدثوا وقالوا ما قالوا ودعوا الناس إلى ما دعوهم إليه، فبان لنا أمرهم وهو الكفر بالله العظيم. (1)
- ونقل شيخ الإسلام رحمه الله عن أحمد قال: وما في اللوح المحفوظ وما في المصاحف وتلاوة الناس وكيفما يقرأ وكيفما يوصف، فهو كلام الله غير مخلوق. (2)
- وجاء في السير: عن عبد الله بن أحمد، قال: كتب عبيد الله بن يحيى ابن خاقان إلى أبي يخبره أن أمير المؤمنين أمرني أن أكتب إليك أسألك عن القرآن، لا مسألة امتحان، لكن مسألة معرفة وتبصرة. فأملى علي أبي: إلى عبيد الله بن يحيى، بسم الله الرحمن الرحيم، أحسن الله عاقبتك أبا الحسن في الأمور كلها، ودفع عنك المكاره برحمته، قد كتبت إليك، رضي الله عنك، بالذي سأل عنه أمير المؤمنين بأمر القرآن بما حضرني، وأني أسأل الله أن يديم توفيق أمير المؤمنين، فقد كان الناس في خوض من الباطل، واختلاف شديد ينغمسون فيه، حتى أفضت الخلافة إلى أمير المؤمنين، فنفى الله به كل بدعة، وانجلى عن الناس ما كانوا فيه من الذل وضيق المحابس، فصرف الله ذلك كله، وذهب به بأمير المؤمنين، ووقع ذلك من المسلمين موقعا عظيما، ودعوا الله لأمير المؤمنين، وأسأل الله أن يستجيب في أمير المؤمنين صالح الدعاء، وأن
_________
(1) الفتاوى الكبرى (5/ 76 - 77).
(2) مجموع الفتاوى (4/ 182).
(4/98)
يتم ذلك لأمير المؤمنين، وأن يزيد في نيته، وأن يعينه على ما هو عليه. فقد ذكر عن ابن عباس أنه قال: لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض، فإنه يوقع الشك في قلوبكم.
وذكر عن عبد الله بن عمرو، أن نفرا كانوا جلوسا بباب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال بعضهم: ألم يقل الله كذا، وقال بعضهم: ألم يقل الله كذا؟ فسمع ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فخرج كأنما فقئ في وجهه حب الرمان، فقال: "أبهذا أمرتم أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض؟ إنما ضلت الأمم قبلكم في مثل هذا، إنكم لستم مما ها هنا في شيء، انظروا الذي أمرتم به، فاعملوا به، وانظروا الذي نهيتم عنه، فانتهوا عنه" (1) وروي عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مراء في القرآن كفر" (2) وروي عن أبي جهيم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تماروا في القرآن فإن مراء فيه كفر" (3) وقال ابن عباس: قدم رجل على عمر، فجعل عمر يسأله عن الناس، فقال: يا أمير المؤمنين، قد قرأ القرآن منهم كذا وكذا. فقال ابن عباس: فقلت: والله ما أحب أن يتسارعوا يومهم في القرآن هذه المسارعة. فزبرني عمر، وقال: مه، فانطلقت إلى منزلي كئيبا حزينا، فبينا أنا
_________
(1) أحمد (2/ 195 - 196) وابن ماجه (1/ 33/85) مختصرا، قال في الزوائد: "هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات". وقال الشيخ الألباني: "حسن صحيح". انظر صحيح سنن ابن ماجه (1/ 21) وصحيح الترغيب (1/ 169)، وله شاهد عن أنس وآخر عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما.
(2) أخرجه أحمد (2/ 258) وأبو داود (5/ 9/4603) والحاكم (2/ 223) وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي. وابن حبان (4/ 324 - 325/ 1464) من حديث أبي هريرة.
(3) أخرجه: أحمد (4/ 170) والطبري في التفسير (1/ 19) وأبو عبيد في فضائل القرآن (2/ 166/728) والبغوي في شرح السنة (4/ 505 - 506)، وذكره الهيثمي في المجمع (7/ 151) وقال: "رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح". وله شاهد من حديث زيد بن ثابت.
(4/99)
كذلك إذ أتاني رجل فقال: أجب أمير المؤمنين.
فخرجت، فإذا هو بالباب ينتظرني، فأخذ بيدي، فخلا بي، وقال: ما الذي كرهت؟ قلت: يا أمير المؤمنين، متى يتسارعوا هذه المسارعة، يحتقوا، ومتى ما يحتقوا يختصموا، ومتى ما يختصموا يختلفوا، ومتى ما يختلفوا يقتتلوا. قال: لله أبوك، والله إن كنت لأكتمها الناس حتى جئت بها.
وروي عن جابر، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعرض نفسه على الناس بالموقف، فيقول: "هل من رجل يحملني إلى قومه، فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي" (1). وروي عن جبير بن نفير، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنكم لن ترجعوا إلى الله بشيء أفضل مما خرج منه" (2)، يعني: القرآن. وروي عن ابن مسعود، قال: جردوا القرآن، لا تكتبوا فيه شيئا إلا كلام الله. وروي عن عمر أنه قال: هذا القرآن كلام الله، فضعوه مواضعه. وقال رجل للحسن: يا أبا سعيد، إني إذا قرأت كتاب الله، وتدبرته، كدت أن آيس، وينقطع رجائي، فقال: إن القرآن كلام الله، وأعمال ابن آدم إلى الضعف والتقصير، فاعمل وأبشر. وقال فروة بن نوفل الأشجعي: كنت جارا لخباب، فخرجت يوما معه إلى المسجد، وهو آخذ بيدي، فقال: يا هناه، تقرب إلى الله بما استطعت، فإنك لن تتقرب إليه بشيء أحب إليه من كلامه. وقال رجل للحكم: ما حمل أهل الأهواء على هذا؟ قال: الخصومات. وقال معاوية بن قرة: إياكم وهذه الخصومات، فإنها تحبط الأعمال. وقال أبو قلابة: لا
_________
(1) سيأتي تخريجه قريباً.
(2) أخرجه الترمذي (5/ 162/2912) وقال: "مرسل". وله طرق أخرى لا تخلو من مقال وانظر الضعيفة (1957).
(4/100)
تجالسوا أهل الأهواء، أو قال: أصحاب الخصومات. فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم، ويلبسوا عليكم بعض ما تعرفون. ودخل رجلان من أصحاب الأهواء على محمد بن سيرين، فقالا: يا أبا بكر، نحدثك بحديث؟ قال: لا. قالا: فنقرأ عليك آية؟ قال: لا. لتقومان عني، أو لأقومنه، فقاما. وقال: خشيت أن يقرآ آية فيحرفانها، فيقر ذلك في قلبي.
وقال رجل من أهل البدع لأيوب: يا أبا بكر أسألك عن كلمة؟ فولى، وهو يقول بيده: لا، ولا نصف كلمة.
وقال ابن طاووس لابن له يكلمه رجل من أهل البدع: يا بني أدخل أصبعيك في أذنيك حتى لا تسمع ما يقول. ثم قال: اشدد اشدد. وقال عمر ابن عبد العزيز: من جعل دينه غرضا للخصومات، أكثر التنقل. وقال إبراهيم النخعي: إن القوم لم يدخر عنهم شيء خبئ لكم لفضل عندكم. وكان الحسن يقول: شر داء خالط قلبا، يعني: الأهواء. وقال حذيفة: اتقوا الله، وخذوا طريق من كان قبلكم، والله لئن استقمتم، لقد سبقتم سبقا بعيدا، ولئن تركتموه يمينا وشمالا، لقد ضللتم ضلالا بعيدا، أو قال: مبينا. قال أبي: وإنما تركت الأسانيد لما تقدم من اليمين التي حلفت بها مما قد علمه أمير المؤمنين، ولولا ذاك، ذكرتها بأسانيدها. وقد قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} (1). وقال: {ألا لَهُ
_________
(1) التوبة الآية (6).
(4/101)
الخلق وَالْأَمْرُ} (1) فأخبر أن الأمر غير الخلق. وقال: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} (2). فأخبر أن القرآن من علمه. وقال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} (3). وقال: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} (4) إلى قوله: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} (5). فالقرآن من علم الله. وفي الآيات دليل على أن الذي جاءه هو القرآن. وقد روي عن السلف أنهم كانوا يقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق، وهو الذي أذهب إليه، لست بصاحب كلام، ولا أرى الكلام في شيء من هذا إلا ما كان في كتاب الله، أو في حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو عن أصحابه، أو عن التابعين. فأما غير ذلك، فإن الكلام فيه غير محمود.
_________
(1) الأعراف الآية (54).
(2) الرحمن الآيات (1 - 4).
(3) البقرة الآية (120).
(4) البقرة الآية (145) ..
(5) البقرة الآية (145).
(4/102)
قال الذهبي: فهذه الرسالة إسنادها كالشمس، فانظر إلى هذا النفس النوراني. لا كرسالة الإصطخري، ولا كالرد على الجهمية الموضوع على أبي عبد الله، فإن الرجل كان تقيا ورعا لا يتفوه بمثل ذلك. ولعله قاله، وكذلك رسالة المسيء في الصلاة باطلة. وما ثبت عنه أصلا وفرعا ففيه كفاية. (1)
- وفيها: وقال إسحاق بن إبراهيم البغوي: سمعت أحمد يقول: من قال: القرآن مخلوق، فهو كافر. وسمع سلمة بن شبيب أحمد يقول ذلك، وهذا متواتر عنه. وقال أبو إسماعيل الترمذي: سمعت أحمد بن حنبل، يقول: من قال: القرآن محدث، فهو كافر. وقال إسماعيل بن الحسن السراج: سألت أحمد عمن يقول: القرآن مخلوق، قال: كافر، وعمن يقول: لفظي بالقرآن مخلوق، فقال: جهمي. (2)
- ونقل الإمام البغوي عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أبيه، فيمن قال بخلق القرآن: أنه لا يصلى خلفه الجمعة، ولا غيرها، إلا أنه لا يدع إتيانها، فإن صلى أعاد الصلاة. (3)
- وجاء في الإبانة عن أبي توبة الطرسوسي -الربيع بن نافع- قال: قلت لأحمد بن حنبل وهو عندنا ها هنا بطرسوس -يعني حين حمل في المحنة: ما ترى في هؤلاء الذين يقولون: القرآن مخلوق؟ فقال: "كفار". قلت: ما يصنع بهم؟ قال: فقال: يستتابون، فإن تابوا، وإلا ضربت أعناقهم. قال:
_________
(1) سير أعلام النبلاء (11/ 281 - 287).
(2) سير أعلام النبلاء (11/ 288).
(3) شرح السنة للبغوي (1/ 229).
(4/103)
فقلت: قد جئت تضعف أهل العراق، لا بل يقتلون ولا يستتابون. قال أبو بكر الأثرم: فقال أبو إسحاق العباداني يوما لأبي عبد الله ونحن عنده: يا أبا عبد الله: حكى عنك أبو توبة كذا وكذا، فابتسم ثم قال: عافى الله أبا توبة. (1)
- وفيها عن بكر بن محمد بن الحكم عن أبيه عن أبي عبد الله، قال: سألته عمااحتج به حين دخل على هؤلاء، فقال: احتجوا علي بهذه الآية: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} (2) أي: أن القرآن محدث، فاحتججت عليهم بهذه الآية: {ص وَالْقُرْآَنِ ذي الذِّكْرِ} (3) قلت: فهو سماه الذكر، وقلت: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} فهذا يمكن أن يكون غير القرآن محدث، ولكن {ص وَالْقُرْآَنِ ذي الذِّكْرِ} فهو القرآن، ليس هو محدثا، قال: فبهذا احتججت عليهم، واحتجوا علي: ما خلق الله من سماء ولا أرض ولا كذا أعظم من آية الكرسي (4)، قال: فقلت له: إنه لم يجعل آية الكرسي مخلوقة، إنما هذا مثل ضربه، أي: هي أعظم من
_________
(1) الإبانة (2/ 13/78 - 79/ 303).
(2) الأنبياء الآية (2).
(3) ص الآية (1).
(4) أخرجه: ابن الضريس (رقم 193) من طريق حماد عن عاصم عن أبي الأحوص عن عبد الله فذكره. و (رقم 194) من طريق وكيع عن الأعمش عن أبي إسحاق عن مسروق قال: قال عبد الله فذكره. وأخرجه أبو عبيد في فضائله (2/ 34 - 35/ 421) من طريق منصور بن المعتمر عن الشعبي قال: التقى مسروق بن الأجدع وشتير بن شكل، فقال شتير لمسروق إما أن أحدثك عن عبد الله وتصدقني أو تحدثني وأصدقك. فقال مسروق تحدث وأصدقك، فقال شتير: سمعت عبد الله يقول: فذكره.
(4/104)
أن تخلق، ولو كانت مخلوقة لكانت السماء أعظم منها، أي: فليست بمخلوقة. قال: واحتجوا علي بقول: {الله خالق كل شيءٍ} (1) فقلت: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زوجين} (2) فخلق من القرآن زوجين، {وأوتيت مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} (3) فأوتيت القرآن؟ فأوتيت النبوة أوتيت كذا وكذا؟ وقال الله تعالى: {تدمر كُلَّ شَيْءٍ} (4)
فدمرت كل شيء، إنما دمرت ما أراد الله من شيء، قال: وقال لي ابن أبي دؤاد: أين تجد أن القرآن كلام الله؟ قلت: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} (5) فسكت. وقلت له بين يدي الرئيس، وجرى كلام بيني وبينه، فقلت له: اجتمعت أنا وأنت أنه كلام وقلت: إنه مخلوق، فهاتوا الحجة من كتاب الله أو من السنة، فما أنكر ابن أبي دؤاد ولا أصحابه أنه كلام. قال: وكانوا يكرهون أن يظهروا أنه ليس بكلام فيشنع عليهم. (6)
- وفيها: عن حنبل قال: قال أبو عبد الله: وكان إذا كلمني ابن أبي دؤاد لم أجبه ولم ألتفت إلى كلامه، فإذا كلمني أبو إسحاق، ألنت له القول والكلام. قال: فقال لي أبو إسحاق: لئن أجبتني لآتينك في حشمي وموالي،
_________
(1) الزمر الآية (62).
(2) الذاريات الآية (49).
(3) النمل الآية (23).
(4) الأحقاف الآية (25) ..
(5) الكهف الآية (27).
(6) الإبانة (2/ 14/250 - 253/ 431).
(4/105)
ولأطأن بساطك، ولا نوهن باسمك، يا أحمد اتق الله في نفسك، يا أحمد الله الله. قال أبو عبد الله: وكان لا يعلم ولا يعرف، ويظن أن القول قولهم، فيقول: يا أحمد إني عليك شفيق. فقلت: يا أمير المؤمنين هذا القرآن وأحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخباره، فما وضح من حجة صرت إليها. قال: فيتكلم هذا وهذا. قال: فقال ابن أبي دؤاد لما انقطع وانقطع أصحابه: والذي لا إله إلا هو، لئن أجابك لهو أحب إلي من مئة ألف ومئة ألف عددا مرارا كثيرة. قال أبو عبد الله: وكان فيما احتججت عليهم يومئذ، قلت لهم: قال الله عزوجل: {ألا له الخلق وَالْأَمْرُ} (1)، وذلك أنهم قالوا لي: أليس كل ما دون الله مخلوق؟ فقلت لهم: فرق بين الخلق والأمر، فما دون الله مخلوقا، فأما القرآن، فكلامه ليس بمخلوق. فقالوا: قال الله عز وجل: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (2) فقلت لهم: قال الله تعالى: {أتى أَمْرُ اللَّهِ} (3) فأمره كلامه واستطاعته ليس بمخلوق، فلا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض، فقد نهينا عن ذلك. (4)
- وفيها عن محمد بن يوسف المروزي -المعروف بابن سرية، قال: دخلت على أبي عبد الله والجبائر على ظهره، قال لي: يا أبا جعفر، أشاط
_________
(1) الأعراف الآية (54).
(2) النحل الآية (40).
(3) النحل الآية (1).
(4) الإبانة (2/ 14/253 - 254/ 432).
(4/106)
القوم بدمي فقالوا له -يعني المعتصم-: يا أمير المؤمنين سله عن القرآن، أشيء هو أو غير شيء؟ قال: فقال لي المعتصم: يا أحمد أجبهم. قال: فقلت له: يا أمير المؤمنين إن هؤلاء لا علم لهم بالقرآن، ولا بالناسخ والمنسوخ، ولا بالعام والخاص، قد قال الله عز وجل في قصة موسى: {وكتبنا لَهُ في الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} (1) فما كتب له القرآن. وقال في قصة سبأ: {وأوتيت مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} (2) وما أوتيت القرآن، فأخرسوا. (3)
- روى الآجري في الشريعة بسنده إلى أبي داود السجستاني قال: سمعت أحمد يسأل: هل لهم رخصة أن يقول الرجل: القرآن كلام الله، ثم يسكت؟ فقال: ولم يسكت؟ لولا ما وقع فيه الناس كان يسعه السكوت، ولكن حيث تكلموا فيما تكلموا، لأي شيء لا يتكلمون؟. (4)
- وله بسنده إلى أبي داود، قال: سمعت أحمد -وذكر رجلين كانا وقفا في القرآن، ودعوا إليه، فجعل يدعو عليهما- وقال لي: هؤلاء فتنة عظيمة، وجعل يذكرهما بالمكروه. قال أبو داود: ورأيت أحمد سلم عليه رجل من أهل بغداد، ممن وقف فيما بلغني، فقال له: اغرب، لا أراك تجيء إلى بابي. في كلام غليظ، ولم يرد عليه السلام، وقال له: ما أحوجك أن يصنع بك ما
_________
(1) الأعراف الآية (145).
(2) النمل الآية (23).
(3) الإبانة (2/ 14/257 - 258/ 434).
(4) الشريعة (1/ 232/203).
(4/107)
صنع عمر بن الخطاب بصبيغ. ودخل بيته، ورد الباب. (1)
- قال عبد الله: سمعت أبي سئل عن الواقفة فقال أبي: من كان منهم يخاصم ويعرف بالكلام فهو جهمي، ومن لم يكن يعرف بالكلام يجانب حتى يرجع، ومن لم يكن له علم يسأل يتعلم. (2)
- وجاء في أصول الاعتقاد عن سلمة بن شبيب قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: الواقفي لا تشك في كفره. (3)
- وجاء في السنة للخلال عن حنبل قال: قلت لأبي عبد الله: إن يعقوب بن شيبة وزكريا الشركي ابن عمار أنهما إنما أخذا عنك هذا الأمر الوقف. فقال أبو عبد الله: كنا نأمر بالسكوت ونترك الخوض في الكلام وفي القرآن، فلما دعينا إلى أمر ما كان بدا لنا من أن ندفع ذاك ونبين من أمره ما ينبغي. قلت لأبي عبد الله: فمن وقف، فقال: لا أقول مخلوق ولا غير مخلوق؟ فقال: كلام سوء، هو ذا موضع السوء، وقوفه، كيف لا يعلم إما حلال وإما حرام، إما هكذا وإما هكذا، قد نزه الله عز وجل القرآن عن أن يكون مخلوقا، وإنما يرجعون هؤلاء إلى أن يقولوا إنه مخلوق، فاستحسنوا لأنفسهم فأظهروا الوقف. القرآن كلام الله غير مخلوق بكل جهة وعلى كل تصريف. قلت: رضي الله عنك، لقد بينت من هذا الأمر ما قد كان تلبس على الناس.
_________
(1) الشريعة (1/ 232 - 233/ 204).
(2) السنة لعبد الله بن أحمد (ص.43) والسنة للخلال (5/ 130).
(3) أصول الاعتقاد (2/ 363/544).
(4/108)
قال: لا تجالسهم ولا تكلم أحدا منهم. (1)
- وفيها: عن أبي الحارث قال: سألت أبا عبد الله قلت: إن بعض الناس يقول: إن هؤلاء الواقفة هم شر من الجهمية. قال: هم أشد على الناس تزيينا من الجهمية، هم يشككون الناس وذلك أن الجهمية قد بان أمرهم، وهؤلاء إذا قالوا إنا لا نتكلم استمالوا العامة، إنما هذا يصير إلى قول الجهمية. قال: وسمعته يسأل عن من قال: أقول القرآن كلام الله وأسكت. قال: لا، هذا شاك، لا، حتى يقول غير مخلوق. (2)
- وفيها: عن إبراهيم بن الحارث العبادي، قال: قمت من عند أبي عبد الله، فأتيت عباس العنبري، فأخبرته بما تكلم أبو عبد الله في أمر ابن معذل، فسر به ولبس ثيابه ومعه أبو بكر بن هاني، فدخل على أبي عبد الله، فابتدأ عباس فقال: يا أبا عبد الله قوم هاهنا حدثوا يقولون: لا نقول مخلوق ولا غير مخلوق. قال: هؤلاء أضر من الجهمية على الناس، ويلكم، فإن لم تقولوا ليس بمخلوق، فقولوا مخلوق. فقال أبو عبد الله: كلام سوء. فقال العباس: ما تقول يا أبا عبد الله؟ فقال: الذي أعتقده وأذهب إليه، ولا أشك فيه أن القرآن غير مخلوق. ثم قال: سبحان الله، ومن يشك في هذا؟ ثم تكلم أبو عبد الله استعظاما للشك في ذلك، فقال: سبحان الله! في هذا شك؟ قال الله عز وجل: {ألا له الخلق والأمر} (3) ففرق بين الخلق والأمر. قال أبو عبد الله:
_________
(1) السنة للخلال (5/ 134).
(2) السنة للخلال (5/ 135) والإبانة (1/ 12/293 - 294/ 62و63).
(3) الأعراف الآية (54).
(4/109)
فالقرآن من علم الله، ألا تراه يقول: {عَلَّمَ الْقُرْآَنَ} (1) والقرآن فيه أسماء الله عز وجل، أي شيء تقولون؟ ألا تقولون أن أسماء الله عز وجل غير مخلوقة؟ من زعم أن أسماء الله عز وجل مخلوقة، فقد كفر، لم يزل الله عز وجل قديرا، عليما، عزيزا، حكيما، سميعا، بصيرا، لسنا نشك أن أسماء الله ليست بمخلوقة، ولسنا نشك أن علم الله تبارك وتعالى ليس بمخلوق، وهو كلام الله عز وجل، ولم يزل الله عز وجل حكيما، ثم قال أبو عبد الله: وأي كفر أبين من هذا، وأي كفر أكفر من هذا؟ إذا زعموا أن القرآن مخلوق، فقد زعموا أن أسماء الله مخلوقة، وأن علم الله مخلوق، ولكن الناس يتهاونون بهذا ويقولون: إنما يقولون القرآن مخلوق، فيتهاونون ويظنون أنه هين، ولا يدرون ما فيه من الكفر. قال: فأنا أكره أن أبوح بهذا لكل أحد، وهم يسألوني، فأقول: إني أكره الكلام في هذا، فبلغني أنهم يدعون علي أني أمسك.
قلت لأبي عبد الله: فمن قال القرآن مخلوق، فقال: لا أقول أسماء الله مخلوقة ولا علمه ولم يزد على هذا، أقول هو كافر؟ فقال: هكذا هو عندنا. قال أبو عبد الله: نحن نحتاج أن نشك في هذا؟ القرآن عندنا فيه أسماء الله عز وجل وهو من علم الله، من قال مخلوق، فهو عندنا كافر. ثم قال أبو عبد الله: بلغني أن أبا خالد وموسى بن منصور وغيرهم يجلسون في ذلك الجانب، فيعيبون قولنا، ويدعون إلى هذا القول أن لا يقال: مخلوق ولا غير مخلوق، ويعيبون من يكفر، ويزعمون أنا نقول بقول الخوارج. ثم تبسم أبو عبد الله
_________
(1) الرحمن الآية (2).
(4/110)
كالمغتاظ، ثم قال: هؤلاء قوم سوء. ثم قال أبو عبد الله للعباس: وذاك السجستاني الذي عندكم بالبصرة، ذاك خبيث، بلغني أنه قد وضع في هذا يوما يقول: لا أقول مخلوق ولا غير مخلوق، وذاك خبيثا ذاك الأحول. فقال العباس: كان يقول مرة بقول جهم. ثم صار إلى أن يقول هذا القول. فقال أبو عبد الله: ما يعني أنه كان يقول بقول جهم إلا الشفاعة. (1)
- وفيها: عن أبي بكر المروذي، قال: سألت أبا عبد الله عن الصلاة على الواقفي (يعني: إذا مات)؟ قال: لا تصل عليه. (2)
- وفيها: عن محمد بن النقيب بن أبي حرب الجرجرائي قال: سألت أبا عبد الله عن رجل له والد واقفي، فقال: يأمره ويرفق به. قلت: فإن أبى، يقطع لسانه عنه؟ قال: نعم. (3)
- وفيها: عن محمد بن أبي حرب، قال: سألت أبا عبد الله عن رجل له أخت أو عمة ولها زوج واقفي، قال: يلتقي بها ويسلم عليها. قلت: فإن كانت الدار له؟ قال: يقف على الباب ولا يدخل. (4)
- وجاء في الإبانة: قال أبو طالب: وجاء رجل إلى أبي عبد الله وأنا عنده، فقال: إن لي قرابة يقول بالشك، قال: فقال وهو شديد الغضب: من شك فهو كافر. (5)
_________
(1) السنة للخلال (5/ 137 - 139) والإبانة (1/ 12/291 - 293/ 61) مختصراً.
(2) السنة للخلال (5/ 141).
(3) السنة للخلال (5/ 143).
(4) السنة للخلال (5/ 143).
(5) الإبانة (1/ 12/295/ 66).
(4/111)
- وفيها: عن إسحاق بن داود: قال: سمعت جعفر بن أحمد يقول: سمعت أحمد بن حنبل يقول: اللفظية والواقفة زنادقة عتق. (1)
- وفيها: قال المروذي: وسألت أبا عبد الله عن من وقف لا يقول غير مخلوق. وقال: أنا أقول: القرآن كلام الله، قال: يقال له: إن العلماء يقولون: غير مخلوق، فإن أبى، فهو جهمي. (2)
- وفيها: قال أبو بكر المروذي: وقدم رجل من ناحية الثغر، فأدخلته عليه فقال: ابن عم لي يقف وقد زوجته ابنتي، وقد أخذتها وحولتها إلي على أن أفرق بينهما، فقال: لا ترض منه حتى يقول: غير مخلوق، فإن أبى ففرق بينهما. (3)
- وفيها عن محمد بن عبد الملك الدقيقي الواسطي قال: سمعت سلمة ابن شبيب بمكة أمله علينا في المسجد الحرام، قال: دخلت على أحمد بن حنبل فقلت: يا أبا عبد الله ما تقول فيمن يقول: القرآن كلام الله؟ فقال أحمد: من لم يقل القرآن كلام الله غير مخلوق، فهو كافر، ثم قال لي: لا تشكن في كفرهم، فإنه من لم يقل: القرآن كلام الله غير مخلوق، فهو يقول: مخلوق، فهو كافر. وقال لنا سلمة بن شبيب: وقلت -يعني: لابن حنبل- الواقفة؟ فقال: كفار. (4)
_________
(1) الإبانة (1/ 12/296/ 68).
(2) الإبانة (1/ 12/297/ 74).
(3) الإبانة (1/ 12/298/ 75).
(4) الإبانة (1/ 12/305 - 306/ 94).
(4/112)
- وفيها: عن مهنا بن يحيى، قال: قلت لأحمد بن حنبل: أي شيء تقول في القرآن قال: كلام الله وهو غير مخلوق. قلت: إن بعض الناس يحكي عنك أنك تقول: القرآن كلام الله وتسكت. قال: من قال علي ذا، فقد أبطل. (1)
- وجاء في الشريعة عن أبي طالب، قال: سألت أبا عبد الله عمن أمسك، فقال: لا أقول: ليس هو مخلوقا، إذا لقيني في الطريق، وسلم علي، أسلم عليه؟ قال: لا تسلم عليه ولا تكلمه، كيف يعرفه الناس إذا سلمت عليه؟ وكيف يعرف هو أنك منكر عليه؟ فإذا لم تسلم عليه عرف الذل، وعرف أنك أنكرت عليه، وعرفه الناس. (2)
- وفي فتاوى شيخ الإسلام: ونقل الخلال أخباره في كتاب السنة ما يوضح الأمر فقال: أخبرني الحسين بن عبد الله قال: سألت أبا بكر المروذي عن قصة ابن الثلاج. فقال: قال لي أبو عبد الله جاءني هارون الحمال فقال: إن ابن الثلاج تاب من صحبة المريسي فأجيء به إليك. قال: قلت: لا ما أريد أن يراه أحد على بابي، قال: أحب أن أجيء به بين المغرب والعشاء، فلم يزل يطلب إلى أن قال: قلت هو ذا يقول: أجب، فأي شيء أقول لك. قال: فجاء به فقلت له: اذهب حتى تصح توبتك وأظهرها ثم ارجع قال: فبلغنا أنه أظهر الوقف.
قال أبو بكر المروذي فمضيت ومعي نفسان من أصحابنا، فقلت له:
_________
(1) الإبانة (1/ 12/308/ 99).
(2) الشريعة (1/ 233/207) ونحوه في السنة للخلال (5/ 93).
(4/113)
قد بلغني عنك شيء ولم أصدق به. قال: وما هو؟ قلت: تقف في القرآن، فقال: أنا أقول كلام الله فجعل يحتج بيحيى بن آدم وغيره أنهم وقفوا، فقلت له: هذا من الكتاب الذي أوصى لكم به عبيد بن نعيم. فقال: لا تذكر الناس، فقلت له: أليس أجمع المسلمون جميعا أنه من حلف بمخلوق أنه لا كفارة عليه؟ قال: نعم. قلت: فمن حلف بالقرآن أليس قد أوجبوا عليه كفارة لأنه حلف بغير مخلوق؟ فقال: هذا متاع أصحاب الكلام، ثم قال: إنما أقول كلام الله كما أقول أسماء الله فإنه من الله، ثم قال وأي شيء قام به أحمد بن حنبل، ثم قال: علموكم الكلام وأومأ إلى ناحية الكرخ يريد أبا ثور وغيره، فقمنا من عنده فما كلمناه حتى مات.
وروى الخلال من وجهين عن زياد بن أيوب قال: قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: يا أبا عبد الله، وعلماء الواقفة جهمية؟ قال: نعم مثل ابن الثلجي وأصحابه الذين يجادلون. (1)
- وجاء في أصول الاعتقاد: قال محمد بن مسلم بن وارة قال لي أبو مصعب: من قال: القرآن مخلوق فهو كافر. ومن قال لا أدري -يعني مخلوق أو غير مخلوق- فهو مثله ثم قال: بل هو شر منه. فذكرت رجلا كان يظهر مذهب مالك فقلت إنه أظهر الوقف. فقال: لعنه الله، ينتحل مذهبنا وهو بريء منه. فذكرت ذلك لأحمد بن حنبل فأعجبه وسر به. (2)
- وفي الإبانة: قال أبو بكر المروذي: قال لي أبو عبد الله: أول من
_________
(1) الفتاوى الكبرى (5/ 82 - 83).
(2) أصول الاعتقاد (2/ 358/522).
(4/114)
سألني عن الوقف علي الأشقر، فقلت له: القرآن غير مخلوق. (1)
- وجاء في السير: قال أبو الحسن عبد الملك الميموني: قال رجل لأبي عبد الله: ذهبت إلى خلف البزار أعظه، بلغني أنه حدث بحديث عن الأحوص عن عبد الله قال: ما خلق الله شيئا أعظم .. وذكر الحديث، فقال أبو عبد الله: ما كان ينبغي له أن يحدث بهذا في هذه الأيام -يريد زمن المحنة- والمتن: "ما خلق الله من سماء ولا أرض أعظم من آية الكرسي" (2) وقد قال أحمد بن حنبل لما أوردوا عليه هذا يوم المحنة: إن الخلق واقع ها هنا على السماء والأرض وهذه الأشياء، لا على القرآن. (3)
- قال شيخ الإسلام: بل المنصوص عن الإمام أحمد وعامة أصحابه تبديع من قال لفظي بالقرآن غير مخلوق، كما جهموا من قال لفظي بالقرآن مخلوق، وقد صنف أبو بكر المروذي -أخص أصحاب الإمام أحمد به- في ذلك رسالة كبيرة مبسوطة، ونقلها عنه أبو بكر الخلال في كتاب 'السنة' الذي جمع فيه كلام الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة في أبواب الاعتقاد، وكان بعض أهل الحديث إذ ذاك أطلق القول بأن لفظي بالقرآن غير مخلوق معارضة لمن قال: لفظي بالقرآن مخلوق، فبلغ ذلك الإمام أحمد، فأنكر ذلك إنكارا شديدا، وبدع من قال ذلك وأخبر أن أحدا من العلماء لم يقل ذلك، فكيف بمن يزعم أن صوت العبد قديم. وأقبح من ذلك من يحكي عن بعض
_________
(1) الإبانة (1/ 12/297/ 71).
(2) تقدم تخريجه قريباً.
(3) السير (10/ 578).
(4/115)
العلماء أن المداد الذي في المصحف قديم، وجميع أئمة أصحاب الإمام أحمد وغيرهم أنكروا ذلك، وما علمت أن عالما يقول ذلك إلا ما يبلغنا عن بعض الجهال: من الأكراد ونحوهم. (1)
- قال عبد الله: سألت أبي رحمه الله، قلت: ما تقول في رجل قال التلاوة مخلوقة، وألفاظنا بالقرآن مخلوقة، والقرآن كلام الله وليس بمخلوق. وما ترى في مجانبته وهل يسمى مبتدعا؟ فقال هذا يجانب وهو قول المبتدع، وهذا كلام الجهمية، ليس القرآن مخلوقا. (2)
- قال عبد الله: سمعت أبي سئل عن اللفظية فقال: هم جهمية وهو قول جهم. ثم قال: لا تجالسوهم. سئل أبي وأنا أسمع عن اللفظية والواقفة فقال: من كان منهم جاهلا فليسأل وليتعلم. سئل أبي وأنا أسمع عن اللفظية والواقفة فقال: من كان منهم يحسن الكلام فهو جهمي. وقال مرة هم شر من الجهمية وقال مرة أخرى هم جهمية.
سمعت أبي يقول: من قال لفظي بالقرآن مخلوق هذا كلام سوء رديء وهو كلام الجهمية. قلت له إن الكرابيسي يقول هذا. قال كذب هتكه الله الخبيث، وقال: قد خلف هذا بشرا المريسي وكان أبي يكره أن يتكلم في اللفظ بشيء أو يقال مخلوق أو غير مخلوق. (3)
- وجاء في أصول الاعتقاد: عن محمد بن جرير الطبري قال: وأما
_________
(1) الفتاوى (12/ 238).
(2) السنة لعبد الله بن أحمد (35) والإبانة (1/ 12/342 - 343/ 149).
(3) السنة لعبد الله بن أحمد (ص.36) والإبانة (1/ 12/342/ 147).
(4/116)
القول في ألفاظ العباد بالقرآن فلا أثر فيه نعلمه عن صحابي مضى، ولا عن تابعي قفا، إلا عن من في قوله الشفا والغناء، وفي اتباعه الرشد والهدى، ومن يقوم لدينا مقام الأئمة الأولى: أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل فإن أبا إسماعيل الترمذي حدثني قال: سمعت أبا عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل يقول: اللفظية جهمية قال الله تعالى: {حَتَّى يسمع كَلَامَ اللَّهِ} (1) ممن يسمع؟ قال ابن جرير: وسمعت جماعة من أصحابنا لا أحفظ أسماءهم يحكون عنه أنه كان يقول: من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال غير مخلوق فهو مبتدع. قال ابن جرير: ولا قول عندنا في ذلك يجوز أن نقوله غير قوله إذ لم يكن لنا إمام نأتم به سواه، وفيه الكفاية والمقنع وهو الإمام المتبع. (2)
- وفي السنة للخلال: عن أحمد بن حسين بن حسان أن أبا عبد الله سأله الطالقاني عن اللفظية، فقال أحمد: لا يجالسون ولا يكلمون. (3)
وجاء في السير قال صالح بن أحمد: تناهى إلى أبي أن أبا طالب يحكي أنه يقول: لفظي بالقرآن غير مخلوق. فأخبرت بذلك أبي، فقال: من حدثك؟ قلت: فلان، قال: ابعث إلى أبي طالب، فوجهت إليه، فجاء، وجاء فوران، فقال له أبي: أنا قلت لك: لفظي بالقرآن غير مخلوق؟ وغضب، وجعل يرعد، فقال: قرأت عليك: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أحد} (4). فقلت لي: ليس هذا مخلوق.
_________
(1) التوبة الآية (6).
(2) أصول الاعتقاد (2/ 392/602) والفتاوى (3/ 171) مختصرا والسير (11/ 288).
(3) السنة للخلال (5/ 144).
(4) الإخلاص الآية (1).
(4/117)
قال: فلم حكيت عني أني قلت: لفظي بالقرآن غير مخلوق؟ وبلغني أنك كتبت بذلك إلى قوم، فامحه، واكتب إليه أني لم أقله لك. فجعل فوران يعتذر إليه. فعاد أبو طالب، وذكر أنه حكى ذلك، وكتب إلى القوم، يقول: وهمت على أبي عبد الله.
قال الذهبي: قلت: الذي استقر الحال عليه، أن أبا عبد الله كان يقول: من قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق، فهو مبتدع. وأنه قال: من قال لفظي بالقرآن مخلوق، فهو جهمي. فكان رحمه الله لا يقول هذا ولا هذا. وربما أوضح ذلك، فقال: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق، يريد به القرآن فهو جهمي (1).
- قال أحمد بن زنجويه: سمعت أحمد يقول: اللفظية شر من الجهمية. وقال صالح: سمعت أبي يقول: الجهمية ثلاث فرق: فرقة قالت: القرآن مخلوق، وفرقة قالوا: كلام الله وسكتوا، وفرقة قالوا: لفظنا به مخلوق. ثم قال أبي لا يصلى خلف واقفي، ولا لفظي.
وقال الذهبي: لأبي عبد الله في مسألة اللفظ نقول عدة، فأول من أظهر مسألة اللفظ حسين بن علي الكرابيسي، وكان من أوعية العلم. ووضع كتابا في المدلسين، يحط على جماعة فيه أن ابن الزبير من الخوارج. وفيه أحاديث يقوي به الرافضة. فأعلم أحمد، فحذر منه، فبلغ الكرابيسي، فتنمر، وقال: لأقولن مقالة حتى يقول ابن حنبل بخلافها فيكفر. فقال: لفظي بالقرآن
_________
(1) سير أعلام النبلاء (11/ 288).
(4/118)
مخلوق. فقال المروذي في كتاب 'القصص': فذكرت ذلك لأبي عبد الله أن الكرابيسي، قال: لفظي بالقرآن مخلوق، وأنه قال: أقول: إن القرآن كلام الله غير مخلوق من كل الجهات، إلا أن لفظي به مخلوق. ومن لم يقل: لفظي بالقرآن مخلوق، فهو كافر. فقال أبو عبد الله: بل هو الكافر، قاتله الله، وأي شيء قالت الجهمية إلا هذا؟ وما ينفعه وقد نقض كلامه الأخير كلامه الأول؟ ثم قال: إيش خبر أبي ثور، أوافقه على هذا؟ قلت: قد هجره. قال: أحسن، لن يفلح أصحاب الكلام. (1)
- وفيها: وقال أبو بكر المروذي في كتاب 'القصص': ورد علينا كتاب من دمشق: سل لنا أبا عبد الله، فإن هشاما، قال: لفظ جبريل عليه السلام، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - بالقرآن مخلوق. فسألت أبا عبد الله، فقال: أعرفه طَيَّاشًا، لم يجتر الكرابيسي أن يذكر جبريل ولا محمدا. هذا قد تجهم في كلام غير هذا. (2)
- وجاء في الإبانة عن أبي الحارث، قال: ذهبت أنا وأبو موسى إلى أبي عبد الله، فقال له أبو موسى: يا أبا عبد الله هذا الأمر الذي قد أحدثوه تشمئز منه القلوب، والناس يسألوننا عنه، يقولون: لفظنا بالقرآن مخلوق؟ قال أبو عبد الله بالانتهار منه: هذا كلام سوء رديء خبيث، لا خير فيه. قال له أبو موسى: أليس تقول: القرآن كلام الله ليس مخلوقا على كل حال وبجميع الجهات والمعاني؟ قال: نعم، وكلما تشعب من هذا، فهو رديء خبيث. (3)
_________
(1) سير أعلام النبلاء (11/ 288 - 289) وطبقات الحنابلة (1/ 62) مختصراً.
(2) سير أعلام النبلاء (11/ 432).
(3) الإبانة (1/ 12/334 - 335/ 139).
(4/119)
- وفيها عن أبي طالب، قال: قلت: يا أبا عبد الله إني قد احتججت عليهم بالقرآن والحديث وأحب أن أعرضه عليك، قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} (1)، أليس من محمد يسمع كلام الله؟ قال الله عز وجل: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (3) وقال: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ} (4) وقال: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} (5) وقال: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} (6) وقال: {وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآَنَ فَمَنِ اهتدى} (7) أليس يتلو القرآن؟ وقال عز وجل: {فَاقْرَءُوا مَا تيسر مِنَ الْقُرْآَنِ} (8)، فعلى كل حال، فهو قرآن، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث
_________
(1) التوبة الآية (6).
(2) البقرة الآية (75).
(3) النحل الآية (98).
(4) الإسراء الآية (45).
(5) الأعراف الآية (204).
(6) الكهف الآية (27).
(7) النمل الآية (92).
(8) المزمل الآية (20).
(4/120)
جابر: "إن قريشا منعوني أن أبلغ كلام ربي" (1)
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاوية بن الحكم: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إلا القرآن" (2) فالقرآن غير كلام الناس. وقال أبو بكر رضي الله عنه: لا والله ولكنه كلام الله. فقال لي: ما أحسن ما احتججت به، جبريل جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بمخلوق، والنبي - صلى الله عليه وسلم - جاء إلى الناس بمخلوق. (3)
- ونقل الإمام ابن بطة بسنده إلى أبي إسحاق الهاشمي قال: سألت أبا عبد الله أحمد بن حنبل، فقلت: إذا قالوا لنا: القرآن بألفاظنا مخلوق، نقول لهم: ليس هو بمخلوق بألفاظنا أو نسكت؟ فقال: اسمع ما أقول لك: القرآن في جميع الوجوه ليس بمخلوق. ثم قال أبو عبد الله: جبريل حين قاله للنبي - صلى الله عليه وسلم - كان منه مخلوقا؟ والنبي حين قاله كان منه مخلوقا؟ هذا من أخبث قول وأشره. ثم قال أبو عبد الله: بلغني عن جهم أنه قال بهذا في بدء أمره. (4)
- وجاء في الإبانة عن أبي طالب عن أبي عبد الله، قال: قلت له: كتب إلي من طرسوس أن الشراك يزعم أن القرآن كلام الله، فإذا تلوته فتلاوته مخلوقة. قال: قاتله الله، هذا كلام جهم بعينه. قلت: رجل قال في القرآن:
_________
(1) أخرجه: أحمد (3/ 322) وأبو داود (5/ 103/4734) والترمذي (5/ 168/2925) والنسائي في الكبرى (4/ 411/7727) وابن ماجه (1/ 73/201). وصححه ابن حبان (14/ 172 - 174/ 6274) الإحسان، كلهم من حديث جابر ..
(2) أخرجه: أحمد (5/ 447،448) ومسلم (1/ 381 - 382/ 537) وأبو داود (1/ 570 - 573/ 930) والنسائي (3/ 19 - 22/ 1217).
(3) الإبانة (1/ 12/335 - 337/ 141).
(4) الإبانة (1/ 12/337 - 338/ 142).
(4/121)
كلام الله ليس بمخلوق ولكن لفظي هذا به مخلوق؟ قال: هذا كلام سوء، من قال هذا فقد جاء بالأمر كله. قلت: الحجة فيه حديث أبي بكر لما قرأ: {الم (1) غُلِبَتِ الروم} (2) (1) فقالوا: هذا جاء به صاحبك؟ قال: لا، ولكنه كلام الله، قال: نعم، هذا وغيره إنما هو كلام الله، إن لم يرجع عن هذا، فاجتنبه ولا تكلمه، هذا مثل ما قال الشراك. قلت: كذا بلغني، قال: أخزاه الله، تدري من كان خاله؟ قلت: لا. قال: كان خاله عبدك الصوفي، وكان صاحب كلام ورأي سوء، وكل من كان صاحب كلام، فليس ينزع إلى خير واستعظم ذلك واسترجع وقال: إلى ما صار أمر الناس؟. (2)
- وفيها: قال المروذي: قلت لأبي عبد الله: إن رجلا من أصحابنا زوج أخته من رجل، فإذا هو من هؤلاء اللفظية، يقول: لفظي بالقرآن مخلوق، وقد كتب الحديث، فقال أبو عبد الله: هذا شر من جهمي. قلت: فتفرق بينهما؟ قال: نعم. قلت: فإن أخاه يفرق بينهما؟ قال: قد أحسن. وقال: أظهروا الجهمية، هذا كلام ينقض آخره أوله. (3)
- وفيها: عن أبي طالب عن أبي عبد الله قال: سأله يعقوب بن الدورقي عن من قال: لفظنا بالقرآن مخلوق، كيف تقول في هذا؟ قال: لا يكلم هؤلاء ولا يكلم هذا، القرآن كلام الله غير مخلوق على كل جهة، وعلى كل وجه
_________
(1) الروم الآيتان (1و2).
(2) الإبانة (1/ 12/338 - 339/ 143).
(3) الإبانة (1/ 12/344/ 151).
(4/122)
تصرف، وعلى أي حال كان. قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} (1) وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يصلح في الصلاة شيء من كلام الناس" (2) وقال - صلى الله عليه وسلم -: "حتى أبلغ كلام ربي" (3) هذا قول جهم، على من جاء بهذا غضب الله. (4)
- وفيها أيضا: عن أبي الحسن علي بن مسلم قال: القرآن كلام الله غير مخلوق، هذا قول أبي عبد الله، فبه نقتدي إذ كنا لم ندرك في عصره أحدا تقدمه في العلم والمعرفة والديانة، وكان مقدما عند من أدركنا من علمائنا، فما علمت أن أحدا بلي بمثل ما بلي به فصبر، فهو قدوة وحجة لأهل هذا العصر، ولمن يجيء بعدهم، فنحن متبعون لمقالته وموافقون له، فمن قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق، فقد أبدع، وليس هو من كلام العلماء، وهذا مما أحدثه أصحاب الكلام المبتدعة وقد صح عندنا أن أبا عبد الله أنكر على من قال ذلك، وغضب منه الغضب الشديد، وقال: ما سمعت عالما قال هذا، فمن خالف أبا عبد الله فيما نهى عنه فنحن غير موافقين له منكرون عليه، وقد أدركنا من علمائنا مثل عبد الله بن المبارك، وهشيم بن بشير، وإسماعيل بن علية، وسفيان بن عيينة، وعباد بن عباد، وعباد بن العوام، وأبي بكر بن عياش، وعبد الله بن إدريس، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، ويحيى بن زائدة، ويوسف
_________
(1) التوبة الآية (6).
(2) تقدم قريباً.
(3) تقدم قريباً.
(4) الإبانة (1/ 12/344 - 345/ 152) ونحوه في السنة (35).
(4/123)
ابن يعقوب بن الماجشون، ووكيع، ويزيد بن هارون وأبي أسامة، وقد أدركوا هؤلاء كلهم التابعين، وسمعوا عنهم ورووا عنهم، ما منهم أحد قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق، فنحن لهم متبعون، ولما أحدث بعدهم مخالفون. (1)
- وجاء في طبقات الحنابلة: حدثنا أبو جعفر محمد بن الحسن بن هارون بن بدينا قال: سألت أبا عبد الله أحمد بن حنبل رضي الله عنه، فقلت له: يا أبا عبد الله، أنا رجل من أهل الموصل، والغالب على أهل بلدنا الجهمية، ومنهم أهل سنة، نفر يسير يحبونك، وقد وقعت مسألة الكرابيسي، ففتنهم قول الكرابيسي: لفظي بالقرآن مخلوق، فقال لي أبو عبد الله: إياك وإياك وهذا الكرابيسي، لا تكلمه ولا تكلم من يكلمه، أربع مرار أو خمسا إلا أن في كتابي أربعا، فقلت يا أبا عبد الله فهذا القول عندك، وما شاعت منه يرجع إلى قول جهم قال: هذا كله من قول جهم. (2)
" التعليق:
انظر كيف طغت الجهمية وبدعتها على أهل الموصل، حتى لم يبق منهم إلا نفر يسير من أهل السنة، يحبون الإمام أحمد رضي الله عنه. وانظر كذلك شدة بغض الإمام للمبتدعة حيث كرر مقاطعة الكرابيسي أربع مرات.
وقد أصبح العالم الإسلامي منذ قرون بعيدة إلى الآن موصلا، وأهل السنة لا يكادون يذكرون.
- وجاء في الإبانة: عن أبي طالب أحمد بن حميد، قال: قلت لأبي
_________
(1) الإبانة (1/ 12/347 - 350/ 157).
(2) طبقات الحنابلة (1/ 288) والإبانة (1/ 12/329 - 330/ 129).
(4/124)
عبد الله: أخبرني ساكني أن رجلا بالرميلة كان يقول بقول الكرابيسي: لفظه بالقرآن مخلوق، ومنعوه يصلي بهم، فجاء فسألك عن الرجل يقول: لفظي بالقرآن مخلوق، يصلى خلفه؟ فقلت له: لا، فرجع إليهم فأخبرهم بقولك، وقال: إني تائب وأستغفر الله مما قلت. فقالوا له: صل بنا فصلى بهم، قال: هو كان نفسه سألني رجل طويل اللحية بعدما صليت الظهر، فقلت له: لم تكلمون فيما قد نهيتم عنه، لا يصلى خلفه ولا يجالس. (1)
- وفيها: عن أبي داود، قال: كتبت رقعة فأرسلت بها إلى أبي عبد الله وهو يومئذ متوار، فأخرج إلي جوابه مكتوبا فيه: قلت: رجل يقول: التلاوة مخلوقة وألفاظنا بالقرآن مخلوقة، والقرآن ليس بمخلوق، وما ترى في مجانبته؟ وهل يسمى مبتدعا؟ وعلى ما يكون عقد القلب في التلاوة والألفاظ؟ وكيف الجواب فيه؟ قال: هذا يجانب، وهو قول المبتدع وما أراه إلا جهميا، وهذا كلام الجهمية، القرآن ليس بمخلوق. قالت عائشة: تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} (2) .. الآية، قالت: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فاحذروهم، فإنهم هم الذين عنى الله عز وجل" (3)، فالقرآن ليس بمخلوق. (4)
_________
(1) الإبانة (1/ 12/335/ 140).
(2) آل عمران الآية (7).
(3) أخرجه: أحمد (6/ 256) والبخاري (8/ 265/4547) ومسلم (4/ 2053/2665) وأبو داود (5/ 6/4598) والترمذي (5/ 207/2993) وابن ماجه (1/ 18 - 19/ 47).
(4) الإبانة (1/ 12/330 - 331/ 130).
(4/125)
- جاء في جامع بيان العلم وفضله عنه قال: لا يفلح صاحب كلام أبدا، ولا تكاد ترى أحدا نظر في الكلام إلا وفي قلبه دغل. (1)
- وفي الإبانة: بالسند إلى أبي بكر المروذي: سمعت أبا عبد الله رحمه الله يقول: من تعاطى الكلام لم يفلح، ومن تعاطى الكلام لا يخلو من أن يتجهم. (2)
- وفي تلبيس إبليس: قال السلمي: وتكلم الحارث المحاسبي في شيء من الكلام والصفات، فهجره أحمد بن حنبل، فاختفى إلى أن مات. (3)
- وجاء في تلبيس إبليس: قال المصنف: وقد ذكر أبو بكر الخلال في كتاب السنة عن أحمد بن حنبل أنه قال: حذروا من الحارث أشد التحذير، الحارث أصل البلية -يعني في حوادث كلام جهم- ذاك جالسه فلان وفلان وأخرجهم إلى رأي جهم، ما زال مأوى أصحاب الكلام حارث بمنزلة الأسد المرابط، انظر أي يوم يثب على الناس.
وفي طبقات الحنابلة زيادة: قال المروذي: إن قوما يختلفون إليه؟ قال: نتقدم إليهم لعلهم لايعرفون بدعته. فإن قبلوا وإلا هجروا. ليس للحارث توبة، يشهد عليه ويجحد. إنما التوبة لمن اعترف. (4)
" التعليق:
انظر رحمك الله هذا التعبير البليغ الجامع المانع، وهذه الفراسة القوية،
_________
(1) جامع بيان العلم (2/ 942) وفي التلبيس (102) ومجموع الفتاوى (6/ 243) بنحوه ودرء التعارض (1/ 232).
(2) الإبانة (2/ 3/538 - 539/ 674) وطبقات الحنابلة (1/ 62) والسير (11/ 216) والاعتصام (2/ 846) وإعلام الموقعين (1/ 76).
(3) التلبيس (207).
(4) التلبيس (207) وطبقات الحنابلة (1/ 62 - 63).
(4/126)
وكيف لا وقد جمع الله له من السنة ما لم يجمع لغيره في زمنه وبعده.
فلا أدري ماذا يقول محبو الحارث الآن في مثل هذه العبارة، هل سيرفضونها أم يقولون: إن الحارث بن أسد تراجع، ونرجو الله له ولغيره ذلك. والمهم عندنا، أن السلف حذروا من جميع البدع، سواء كانت صوفية أو كلامية أو قدرية أو أشعرية أو إرجائية فجزاهم الله خيرا.
- جاء في المنهاج قال أحمد بن حنبل: علماء الكلام زنادقة. (1)
- وجاء في الإبانة: عن أحمد بن حنبل قال: عليكم بالسنة والحديث وما ينفعكم الله به، وإياكم والخوض والجدال والمراء فإنه لا يفلح من أحب الكلام، وكل من أحدث كلاما لم يكن آخر أمره إلا إلى بدعة لأن الكلام لا يدعو إلى خير ولا أحب الكلام ولا الخوض ولا الجدال، وعليكم بالسنن والآثار والفقه الذي تنتفعون به ودعوا الجدال وكلام أهل الزيغ والمراء، أدركنا الناس ولا يعرفون هذا ويجانبون أهل الكلام، وعاقبة الكلام لا تؤول إلى خير أعاذنا الله وإياكم من الفتن وسلمنا وإياكم من كل هلكة. (2)
- وفيها: قال أبو الحارث: وسمعت أبا عبد الله يقول: إذا رأيت الرجل يحب الكلام فاحذره، وأخبرت عن أبي عمران الأصبهاني، قال: سمعت أحمد ابن حنبل يقول: لا تجالس صاحب كلام وإن ذب عن السنة فإنه لا يؤول
_________
(1) المنهاج (2/ 139).
(2) الإبانة (2/ 3/539/ 676) ونحوه في السير (11/ 291).
(4/127)
أمره إلى خير. (1)
- وفيها أيضا: عن أبي طالب -أحمد بن حميد- عن أبي عبد الله قلت: قد جاءت جهمية رابعة، قال: ما هي؟، قلت: زعموا أن إنسانا أنت تعرفه، قال: من زعم أن القرآن في صدره، فقد زعم أن في صدره من الإلهية شيئا، قال: ومن قال هذا، فقد قال مثل ما قالت النصارى في عيسى أن كلمة الله فيه. فقال: ما سمعت بمثل هذا قط. قلت: هذه الجهمية. قال: أكثر من الجهمية. من قال هذا؟، قلت: إنسان. قال: لا تكتم علي مثل هذا. قلت: موسى بن عقبة، وأقرأته الكتاب فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون. فقال: ليس هذا صاحب حديث، وإنما هو صاحب كلام، لا يفلح صاحب كلام، واستعظم ذلك وقال: هذا أكثر من الجهمية، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ينزع القرآن من صدوركم" (2) وقال: في صدورنا وأبنائنا. هذا أكثر من الجهمية. ثم قلت: إنه قد أقر بما كتب به وقال: أستغفر الله، فقال: لا يقبل منه ولا كرامة، يجحد ويحلف ثم يقر، ليته بعد كذا وكذا سنة إذا عرف من الله التوبة يقبل منه، لا يكلم ويجفى، ومن كلمه وقد علم، فلا يكلم. (3)
موقفه من الخوارج:
- جاء في السنة للخلال عن يوسف بن موسى: أن أبا عبد الله قيل له:
_________
(1) الإبانة (2/ 3/540/ 679).
(2) أخرجه: ابن ماجه (2/ 1344/4049) قال في الزوائد: "إسناده صحيح، رجاله ثقات". وأخرجه الحاكم (4/ 473) وقال: "حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه". وسكت عنه الذهبي من حديث حذيفة بلفظ: " .. وليسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة، فلا يبقى منه في الأرض آية".
(3) الإبانة (1/ 12/355 - 356/ 164).
(4/128)
صلاة الجمعة والعيدين جائزة خلف الأئمة البر والفاجر ما داموا يقيمونها؟ قال: نعم. (1)
- وفيها عنه قال: الخوارج قوم سوء، لا أعلم في الأرض قوما شرا منهم وقال: صح الحديث فيهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن عشرة وجوه. (2)
- وفيها عنه أنه قيل له: أكفر الخوارج؟ قال: هم مارقة. قيل: أكفار هم؟ قال: هم مارقة مرقوا من الدين. (3)
- وفيها عنه أنه سئل عن الحرورية والمارقة: يكفرون؟ قال: اعفني من هذا، وقل كما جاء فيهم الحديث. (4)
- وفيها عن الأثرم قال: ذكر لأبي عبد الله هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متوافرون، فرأوا أن يهدر كل دم أصيب على تأويل القرآن؟ قيل له: مثل الحرورية؟ قال: نعم، قال أبو عبد الله: فأما قاطع طريق فلا. (5)
- وفيها: عن حرب بن إسماعيل الكرماني قال: قلت لأحمد بن حنبل: الرجل يبيع غلامه من الخوارج؟ قال: لا، قلت، فيبيع منهم الطعام والثياب؟ قال: لا، قلت: فإن أكرهوه؟ فكره ذلك كله، قلت فيشتري منهم؟ قال: لا يشتري ولا يبيع. (6)
_________
(1) السنة للخلال (1/ 77) والطبقات (1/ 421) بنحوه.
(2) السنة للخلال (1/ 145).
(3) السنة للخلال (1/ 145).
(4) السنة للخلال (1/ 146).
(5) السنة للخلال (1/ 152).
(6) السنة للخلال1/ 155).
(4/129)
- وفيها: عن الحسن بن محمد بن الحارث السجستاني أنه سأل أبا عبد الله عن أمر الخوارج عندنا قال: قلت: إنا في المدينة نظهر خلافهم ونصلي في جماعة ونجمع، غير أنهم إن كتبوا إلى الوالي بأمر لم يجد الوالي بدا من أن ينفذه، فقال: يظهرون مخالفتهم؟ قلت: نعم، قال: أكره مجاورتهم، قلت: إذا كانت معيشته فيها؟ يعني في البلد الذي هم فيه، قال: أرجو أن لا يكون به بأس، وإن وجدت محيصا فتخلص. (1)
- وفيها عن أحمد بن الحسين: أن أبا عبد الله سئل عن الخوارج؟ فقال: لا تكلمهم ولا تصل عليهم. (2)
- وقال حنبل: اجتمع فقهاء بغداد إلى أبي عبد الله في ولاية الواثق. وشاوروه في ترك الرضا بإمرته وسلطانه. فقال لهم: عليكم بالنكرة في قلوبكم. ولا تخلعوا يدا من طاعة، ولا تشقوا عصا المسلمين، ولا تسفكوا دماءكم ودماء المسلمين، وذكر الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "إن ضربك فاصبر" (3) أمر بالصبر. (4)
موقفه من المرجئة:
- عن أبي بكر المروذي أن أبا عبد الله قيل له: من المرجئي؟ قال: المرجئي الذي يقول الإيمان قول. (5)
_________
(1) السنة للخلال (1/ 156 - 157).
(2) السنة للخلال (1/ 157).
(3) مسلم (3/ 1476/1847 (52)) من حديث حذيفة.
(4) طبقات الحنابلة (1/ 144 - 145).
(5) السنة للخلال (3/ 565/960).
(4/130)
- عن أبي داود السجستاني، قال: سمعت أحمد بن حنبل رحمه الله يقول: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص. قال أحمد: وبلغني أن مالك بن أنس وابن جريج وفضيل بن عياض قالوا: الإيمان قول وعمل. (1)
- وعن المروذي: سمعت أبا عبد الله سئل عن الإيمان، فقال: قول وعمل يزيد وينقص. قال الله عز وجل: {وأقيموا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزكاة} (2) وقال: قال الله عز وجل: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزكاة فَإِخْوَانُكُمْ في الدين} (3) ثم قال: هذا من الإيمان، وسمعته يقول: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، وقال: الزيادة من العمل وذكر النقصان إذا زنا وسرق. (4)
- عن الفضل بن زياد، قال: سمعت أبا عبد الله يقول غير مرة: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص. قال الفضل: وسمعت أبا عبد الله يقول: إنما الزيادة والنقصان في العمل، كيف تكون حاله إذا قتل النفس، أليس قد أوجب له النار؟ كيف حاله إذا ارتكب الموبقات؟. (5)
- وعنه أيضا قال: سمعت أبا عبد الله يقول: إذا قال إني مؤمن إن شاء الله، ليس هو بشاك. قيل له: إن شاء الله، ليس هو شكا. قال معاذ الله أليس
_________
(1) الإبانة (2/ 813/1115) والشريعة (1/ 289/285).
(2) البقرة الآية (43).
(3) التوبة الآية (11).
(4) الإبانة (2/ 851/1145) والسنة للخلال (3/ 589/1035).
(5) الإبانة (2/ 851/1146).
(4/131)
قد قال الله عز وجل: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} (1) وفي علمه أنهم يدخلون، وصاحب القبر إذا قال عليه أبعث إن شاء الله، فأي شك ها هنا. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وإنا إن شاء الله بكم لاحقون". (2)
- وعن أبي بكر أحمد بن محمد بن هانىء الأثرم، قال: سمعت أبا عبد الله، سئل عن الاستثناء إذا كان يقول: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، فاستثنى مخافة واحتياطا ليس كما يقولون على الشك إنما يستثني للعمل. (3)
- وعن محمد بن داود في مسائل المروذي، قال: فقيل لأبي عبد الله: إن استثنيت في إيماني، أكن شاكا، قال: لا، ثم قال لأبي عبد الله: الحجاج بن يوسف يكون إيمانه مثل إيمان أبي بكر؟ قال: لا، قال: فيكون إيمانه مثل إيمان النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: لا، قال: فالمرجئة يقولون الإيمان قول. (4)
- قال حنبل: حدثنا الحميدي قال: وأخبرت أن ناسا يقولون: من أقر بالصلاة والزكاة والصوم والحج ولم يفعل من ذلك شيئا حتى يموت، ويصلي مستدبر القبلة حتى يموت؛ فهو مؤمن ما لم يكن جاحدا، إذا علم أن تركه ذلك فيه إيمانه إذا كان مقرا بالفرائض واستقبال القبلة، فقلت: هذا الكفر الصراح، وخلاف كتاب الله وسنة رسوله وعلماء المسلمين. قال الله تعالى:
_________
(1) الفتح الآية (27).
(2) الإبانة (2/ 874/1195).
(3) الإبانة (2/ 875/1199).
(4) الإبانة (2/ 7/905/ 1271).
(4/132)
{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (1) الآية.
وقال حنبل: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: من قال هذا فقد كفر بالله ورد على أمره وعلى الرسول ما جاء به عن الله. (2)
- وقال أحمد: وأما من زعم أن الإيمان الإقرار، فما يقول في المعرفة؟ هل يحتاج إلى المعرفة مع الإقرار؟ وهل يحتاج أن يكون مصدقا بما عرف؟ فإن زعم أنه يحتاج إلى المعرفة مع الإقرار فقد زعم أنه من شيئين، وإن زعم أنه يحتاج أن يكون مقرا ومصدقا بما عرف فهو من ثلاثة أشياء؛ وإن جحد وقال: لا يحتاج إلى المعرفة والتصديق، فقد قال قولا عظيما، ولا أحسب أحدا يدفع المعرفة والتصديق وكذلك العمل مع هذه الأشياء. (3)
- ودخل عليه شيخ فسأله عن الإيمان، فقال له: قول وعمل، يزيد وينقص. فقال له: أقول: مؤمن إن شاء الله؟ قال: نعم. فقال له: إنهم يقولون لي أنك شاك؛ قال: بئس ما قالوا، ثم خرج فقال: ردوه فقال: أليس يقولون: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص؟ قال: نعم، قال: هؤلاء يستثنون. قال له: كيف يا أبا عبد الله؟ قال: قل لهم: زعمتم أن الإيمان قول وعمل، فالقول قد أتيتم به، والعمل لم تأتوا به، فهذا الاستثناء لهذا العمل، قيل له: يستثني في الإيمان؟ قال: نعم، أقول: أنا مؤمن إن شاء الله، أستثني على اليقين لا على
_________
(1) البينة الآية (5).
(2) أصول الاعتقاد (5/ 957/1594 - 1595) والسنة للخلال (3/ 586 - 587/ 1027) وانظر مجموع الفتاوى (7/ 209).
(3) مجموع الفتاوى (7/ 393).
(4/133)
الشك؛ ثم قال: قال الله: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} (1) فقد أخبر الله تعالى أنهم داخلون المسجد الحرام. (2)
- وجاء في السير: قال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل، يقول: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، البر كله من الإيمان، والمعاصي تنقص الإيمان. (3)
- وقال حنبل سمعت أبا عبد الله أحمد سئل عن الإيمان فقال: قول وعمل ونية. قيل له: فإذا قال الرجل مؤمن أنت؟ قال: هذا بدعة. قيل له: فما يرد عليه؟ قال: يقول: مؤمن إن شاء الله، إلا أن يستثني في هذا الموضع. ثم قال أبو عبد الله: والإيمان يزيد وينقص، فزيادته بالعمل ونقصانه بترك العمل. قال الله عز وجل: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} (4) فهو يزيد وينقص. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل القبور لما أشرف عليهم: "وإنا إن شاء الله بكم لاحقون" (5)، فاستثنى، وقد علم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ميت فاستثناه. (6)
- وفي السنة لعبد الله قال: سمعت أبي سئل عن الإرجاء فقال: نحن نقول الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، إذا زنا وشرب الخمر نقص إيمانه.
_________
(1) الفتح الآية (27).
(2) السنة للخلال (3/ 596) وأورده شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (7/ 451 - 452).
(3) السير (11/ 287).
(4) الفتح الآية (4).
(5) أحمد (5/ 353، 359 - 360) ومسلم (2/ 671/975) والنسائي (4/ 399/2039) وابن ماجه (1/ 494/1547) من حديث بريدة.
(6) أصول الاعتقاد (5/ 1057/1798).
(4/134)
سألت أبي عن رجل يقول: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ولكن لا يستثني. أمرجئ؟ قال أرجو أن لا يكون مرجئا سمعت أبي يقول: الحجة على من لا يستثني قول رسول الله لأهل القبور: "وإنا إن شاء الله بكم لاحقون" (1). (2)
- وفي السنة للخلال: عن المروذي قال: قال لي أبو عبد الله في ابن أبي رزمة المروذي: بلغني أنهم سألوه بمكة عن الإيمان؟ فأبى أن يقول: الإيمان قول وعمل، ولو علمت هذا عنه، ما أذنت له بالدخول علي. وقال لي بعد يومين أو ثلاثة: أي شيء حال ابن أبي رزمة؟ قلت: ليس عندي من خبره شيء، قلت لي: لا أحب أن يذهب إليه أحد من ناحيتي، فلم أذهب إليه، فلما كان بعد، وصلينا عشاء الآخرة، قال: اذهب إليه، فإنه قد كان بيننا وبينه حرمة فقيل له: إن ابن المبارك كان يقول: الإيمان يتفاضل، فذهبت إليه، فقال: قد قلت لهم: إذا قدمت العراق، لقيت أبا عبد الله، فما أمرني من شيء، صرت إليه. ثم جاء، فقال لأبي عبد الله: أعطني حجة إذا قدمت على أهل مرو، أخبرتهم. فعلم أبو عبد الله على هذه الأحاديث، وقال لي: ادفعها إليه. (3)
- وعن عبد الله بن أحمد قال: حدثني أبي هذا الحديث؛ قال: ولكن المرجئة يكذبون الله عز وجل. (4)
- وعن حرب بن إسماعيل قال: سمعت أحمد يقول: لا يصلى خلف من
_________
(1) تقدم تخريجه.
(2) السنة لعبد الله بن أحمد (81 - 82).
(3) السنة للخلال (4/ 33 - 34).
(4) السنة للخلال (4/ 41).
(4/135)
زعم أن الإيمان قول إذا كان داعية. (1)
- وقال الخلال: أخبرني علي بن عيسى أن حنبلا حدثهم، قال: قلت لأبي عبد الله رجل زوج ابنته رجلا، وهو لا يعلم، فإذا هو يقول بمقالة رديئة من الإرجاء. فقال: إذا كان يغلي في ذلك، ويدعو إليه، رأيت أن يخلع ابنته ولا يقيم عنده. قلت: فيحرج الأب إذا فعل ذلك؟ قال: أرجو أن لا يحرج إذا علم ذلك منه وتبين له. (2)
- وعن إسحاق بن منصور، أنه قال لأبي عبد الله: المرجئ إذا كان داعيا، قال: إي والله، يجفى ويقصى. (3)
- وعن سليمان بن الأشعث، قال: قلت لأبي عبد الله: لنا أقارب بخراسان يرون الإرجاء، فنكتب إلى خراسان نقرئهم السلام؟ قال: سبحان الله، لم لا تقرئهم؟ قلت لأبي عبد الله: فنكلمهم؟ قال: نعم، إلا أن يكون داعيا ويخاصم فيه. (4)
- عن حمدان بن علي حدثهم قال: سمعت أحمد يقول: الجهمية تقول: إذا عرف ربه بقلبه وإن لم تعمل جوارحه يعني، فهو مؤمن، وهذا كفر إبليس، قد عرف ربه بقلبه، فقال: {رب بما أغويتني} (5). (6)
_________
(1) السنة للخلال (4/ 51).
(2) السنة للخلال (4/ 55).
(3) السنة للخلال (4/ 53).
(4) السنة للخلال (4/ 54).
(5) الحجر الآية (39).
(6) السنة للخلال (5/ 122).
(4/136)
موقفه من القدرية:
- جاء في أصول الاعتقاد عن حنبل قال: سمعت أبا عبد الله يقول: علم الله تعالى في العباد قبل أن يخلقهم سابق، وقدرته ومشيئته في العباد. قال: قد خلق الله آدم وعلم منه قبل أن يخلقه، وكذا علمه سابق محيط بأفاعيل العباد وكل ما هم عاملون. (1)
- وفيه عن بكر بن محمد عن أبيه عن أبي عبد الله أحمد بن حنبل قال: -وسألته عن القدري يستتاب- وقلت: إن عمر بن عبد العزيز ومالك بن أنس يريان أن يستتيبوه، فإن تاب وإلا ضربت عنقه. قال أبو عبد الله: أرى أن يستتيبه إذا جحد العلم. قلت: فكيف يجحد علم الله؟ قال: إذا قال لم يكن هذا في علم الله استتبته، فإن تاب وإلا ضربت عنقه. (2)
- وفيه عن الأثرم عن أحمد قيل له: رجل قدري أعوده؟ قال: إذا كان داعية إلى الهوى فلا. قيل له: أصلي عليه؟ فلم يجب. فقال له إبراهيم بن الحارث العبادي -وأبو عبد الله يسمع-: إذا كان صاحب بدعة فلا تسلم عليه ولا تصل خلفه ولا تصل عليه قال أبو عبد الله: كافأك الله يا أبا إسحاق وجزاك خيرا. (3)
- وفيه عن محمد بن أحمد المروزي صاحب أحمد بن حنبل قال: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل في قوله عز وجل: {وإذ أخذنا من النبيين
_________
(1) أصول الاعتقاد (4/ 775/1299).
(2) أصول الاعتقاد (4/ 785/1319) وبنحوه في السنة للخلال (532 - 533) وطبقات الحنابلة (1/ 223).
(3) أصول الاعتقاد (4/ 809/1359) والسنة للخلال (561 - 562).
(4/137)
ميثاقهم} (1) هو حجة على القدرية قال: {ومنك ومن نوحٍ} قدمه على نوح، هذه حجة عليهم. (2)
- وجاء في مجموع الفتاوى: قال الخلال: أنبأنا الميموني قال سمعت أبا عبد الله -يعني أحمد بن حنبل- يناظر خالد بن خداش يعني في القدر- فذكروا رجلا فقال أبو عبد الله: إنما أكره من هذا أن يقول أجبر الله. وقال أنبأنا المروذي قلت لأبي عبد الله: رجل يقول إن الله أجبر العباد، فقال: هكذا لا تقل. وأنكر هذا، وقال: يضل من يشاء ويهدي من يشاء. وقال أنبأنا المروذي قال: كتب إلى عبد الوهاب في أمر حسن بن خلف العكبري، وقال: إنه تنزه عن ميراث أبيه، فقال رجل قدري: إن الله لم يجبر العباد على المعاصي، فرد عليه أحمد بن رجاء فقال: إن الله جبر العباد على ما أراد، أراد بذلك إثبات القدر، فوضع أحمد بن علي كتابا: يحتج فيه، فأدخلته على أبي عبد الله، فأخبرته بالقصة فقال: ويضع كتابا وأنكر عليهما جميعا: على ابن رجاء حين قال جبر العباد، وعلى القدري الذي قال لم يجبر، وأنكر على أحمد بن علي في وضعه الكتاب واحتجاجه، وأمر بهجرانه لوضعه الكتاب، وقال لي: يجب على ابن رجاء أن يستغفر ربه لما قال جبر العباد. فقلت لأبي عبد الله فما الجواب في هذه المسئلة؟ قال: يضل الله من يشاء، ويهدي من يشاء. قال المروذي في هذه المسئلة إنه سمع أبا عبد الله لما أنكر على الذي
_________
(1) الأحزاب الآية (7).
(2) أصول الاعتقاد (3/ 627/1009) والسنة للخلال (554).
(4/138)
قال لم يجبر، وعلى من رد عليه جبر، فقال أبو عبد الله: كلما ابتدع رجل بدعة اتسعوا في جوابها، وقال: يستغفر ربه الذي رد عليهم بمحدثة، وأنكر على من رد بشيء من جنس الكلام إذا لم يكن له فيها إمام مقدم. قال المروذي فما كان بأسرع من أن قدم أحمد بن علي من عكبر ومعه مشيخة، وكتاب من أهل عكبر، فأدخلت أحمد بن علي على أبي عبد الله: فقال: يا أبا عبد الله هو ذا الكتاب ادفعه إلى أبي بكر حتى يقطعه، وأنا أقوم على منبر عكبر وأستغفر الله عز وجل. فقال أبو عبد الله لي: ينبغي أن تقبلوا منه فرجعوا إليه. (1)
- وجاء في السنة للخلال: عن عصمة بن عصام قال: حدثنا حنبل قال: سألت أبا عبد الله قلت: أفاعيل العباد مخلوقة؟ قال: نعم مقدرة عليهم بالشقاء والسعادة، قلت له: الشقاء والسعادة مكتوبان على العبد؟ قال: نعم، سابق في علم الله. وهما في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقه والشقاء والسعادة من الله عز وجل، قال عبد الله: الشقي من شقي في بطن أمه. وقال في موضع آخر الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من سعد بغيره، قال: وكتب الله عز وجل على آدم أنه يصيب الخطيئة قبل أن يخلقه، قلت: فأمر الله عز وجل العباد بالطاعة؟ قال: نعم وكتب عليهم المعصية لإثبات الحجة عليهم ويعذب الله العباد وهو غير ظالم لهم. وقال: قال ليس شيء أشد على القدرية من
_________
(1) مجموع الفتاوى (3/ 325 - 326) ودرء التعارض (1/ 70 - 71).
(4/139)
قول الله عز وجل: {وَمَا ننزله إلا بقدرٍ مَعْلُومٍ} (1) وقوله: {إنا كل شيءٍ خلقناه بقدر} (2) وفي القرآن في غير موضع إثبات القدر لمن تفهمه وتدبره. (3)
- وفيها عن جعفر بن محمد النسائي قال: سمعت أبا عبد الله وذكر عنده أن رجلا محدثا قال: ما شاء الله يفعل وما لم يشأ لم يفعل، فقال رجل عنده: ما شاء الله أو لا يشأ الله يفعل، فاستعظم ذاك قلت: يستتاب؟ قال: إيش يستتاب قال: هذا كفر. (4)
- جاء في السنة لعبد الله: قال عبد الله سمعت أبي رحمه الله يقول: لا تصل خلف القدرية والمعتزلة والجهمية. (5)
- وقال: سألت أبي مرة أخرى عن الصلاة خلف القدري فقال: إن كان يخاصم فيه ويدعو إليه فلا يصلى خلفه. (6)
- وجاء في الكفاية: قيل لأحمد بن حنبل: يا أبا عبد الله سمعت من أبي قطن القدري؟ قال لم أره داعية، ولو كان داعية لم أسمع منه. (7)
_________
(1) الحجر الآية (21).
(2) القمر الآية (49).
(3) السنة للخلال (536).
(4) السنة للخلال (558).
(5) السنة (119) وبنحوه في أصول الاعتقاد (4/ 808/1354).
(6) السنة (119).
(7) الكفاية (128).
(4/140)
أبو تَوْبَة الحلبي (1) (241 هـ)
الإمام الثقة الحافظ، بقية المشايخ، أبو توبة الربيع بن نافع الحلبي، نزيل طرسوس (من بلاد الأرمن). مولده في حدود الخمسين ومائة. سمع من معاوية بن سلام، ومحمد بن مهاجر والهيثم بن حميد ويحيى بن حمزة القاضي وشريك القاضي وإسماعيل بن عياش وغيرهم. حدث عنه أبو محمد الدارمي، وأبو حاتم وأبو داود في سننه ويزيد بن جهور الطرسوسي وإبراهيم بن سعيد الجوهري وغيرهم. قال أبو حاتم: ثقة حجة. قال أبو داود: قدم أبو توبة الكوفة ولم يرتحل إلى البصرة وكان يحفظ الطوال يجيء بها ورأيته يمشي حافيا وعلى رأسه الطويلة. توفي سنة إحدى وأربعين ومائتين.
موقفه من الجهمية:
- جاء في السنة: قال عبد الله حدثني محمد بن هارون الحربي سمعت أبا توبة الحلبي يكفر من قال القرآن مخلوق. (2)
الحسن بن حَمَّاد -سجادة- (3) (241 هـ)
الإمام القدوة المحدث الأثري، أبو علي الحسن بن حماد بن كسيب الحضرمي، البغدادي، المعروف بسجادة. حدث عن أبي بكر بن عياش،
_________
(1) الجرح والتعديل (3/ 470 - 471) وتهذيب الكمال (9/ 103 - 106) وتهذيب التهذيب (3/ 251 - 252) والسير (10/ 653 - 655).
(2) السنة لعبد الله (ص.18).
(3) تاريخ بغداد (7/ 295 - 296) وتهذيب الكمال (6/ 129 - 133) وسير أعلام النبلاء (11/ 392 - 393) وتهذيب التهذيب (2/ 272) وشذرات الذهب (2/ 99).
(4/141)
وحفص بن غياث، ومحمد بن فضيل وعدة. حدث عنه أبو داود، وابن ماجه، وأبو يعلى، وأبو القاسم البغوي، وخلق كثير. سئل عنه أحمد بن حنبل، فقال: صاحب سنة ما بلغني عنه إلا خير. كان رحمه الله من جلة العلماء وثقاتهم في زمانه. قال البخاري: توفي يوم السبت لثمان بقين من رجب سنة إحدى وأربعين ومائتين ببغداد. رحمه الله تعالى.
موقفه من الجهمية:
- عن أحمد بن عطية قال سمعت الحسن بن حماد -سجادة- قال: سأل رجل محمد بن الحسن عن القرآن مخلوق هو؟ فقال: القرآن كلام الله وليس من الله شيء مخلوق. قال أبو علي -يعني الحسن بن حماد-: وهو الحق عندنا. (1)
قال الحسن بن الصباح: قيل لأحمد بن حنبل: إن سجادة سئل عن رجل قال لامرأته: أنت طالق ثلاثا إن كلم زنديقا، فكلم رجلا يقول: القرآن مخلوق. فقال سجادة: طلقت امرأته. فقال أحمد: ما أبعد. وقال علي ابن فيروز: سألت سجادة عن رجل حلف بالطلاق، لا يكلم كافرا، فكلم من يقول: القرآن مخلوق. قال: طلقت امرأته. (2)
_________
(1) أصول الاعتقاد (2/ 298/474).
(2) السير (11/ 392) والإبانة (2/ 12/61/ 268).
(4/142)
أبو معاذ خلف بن سليمان (241 هـ)
موقفه من الجهمية:
- عن أبي قدامة السرخسي قال: سمعت خلف بن سليمان البلخي يقول: كان جهم من أهل الكوفة وكان فصيحا لم يكن عنده علم فلقيه ناس من السمنية فكلموه فقالوا له: صف لنا من تعبد. قال: أجلوني فأجلوه. فخرج إليهم قال: هو هذا الهواء مع كل شيء وفي كل شيء. (1)
- عن أبي قدامة السرخسي قال: سمعت أبا معاذ البلخي -يعني خلف ابن سليمان- بفرغانة قال: كان جهم على معبر ترمذ وكان رجلا كوفي الأصل فصيح اللسان لم يكن له علم ولا مجالسة لأهل العلم كان تكلم كلام المتكلمين وكلمه السمنية فقالوا له: صف لنا ربك الذي تعبده. فدخل البيت لا يخرج كذا وكذا قال ثم خرج عليهم بعد أيام فقال: هو ذا الهواء مع كل شيء وفي كل شيء ولا يخلو منه شيء. قال أبو معاذ: كذب عدو الله، إن الله في السماء على عرشه وكما وصف نفسه. (2)
_________
(1) أصول الاعتقاد (3/ 423/634).
(2) أصول الاعتقاد (3/ 423 - 424/ 635).
(4/143)
موقف السلف من ضرار بن عمرو المعتزلي
(لم أعثر له على تاريخ وفاته وهو من طبقة الإمام أحمد 241 هـ)
بيان اعتزاله:
- قال الذهبي: نعم ومن رؤوس المعتزلة ضرار بن عمرو، شيخ الضرارية. فمن نحلته قال: يمكن أن يكون جميع الأمة في الباطن كفارا لجواز ذلك على كل فرد منهم. ويقول: الأجسام إنما هي أعراض مجتمعة، وإن النار لا حر فيها، ولا في الثلج برد، ولا في العسل حلاوة، وإنما يخلق ذلك عند الذوق واللمس. (1)
- موقف الإمام أحمد بن حنبل منه: وقال المروذي: قال أحمد بن حنبل: شهدت على ضرار بن عمرو عند سعيد بن عبد الرحمن، فأمر بضرب عنقه، فهرب. وقال حنبل: دخلت على ضرار ببغداد، وكان مشوها وبه فالج، وكان معتزليا، فأنكر الجنة والنار، وقال: اختلف فيهما: هل خلقتا بعد أم لا؟ فوثب عليه أصحاب الحديث، وضربوه. وقال أحمد بن حنبل: إنكار وجودهما كفر، قال تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} (2)، قال أحمد: فهرب. قالوا: أخافه يحيى بن خالد حتى مات. (3)
_________
(1) السير (10/ 544).
(2) غافر الآية (46).
(3) السير (10/ 545) وهو في الميزان (2/ 328).
(4/144)
- قال ابن حزم: كان ضرار ينكر عذاب القبر. (1)
- وقال أبو همام السكوني: شهد قوم على ضرار بأنه زنديق، فقال سعيد: قد أبحت دمه، فمن شاء فليقتله. قال: فعزلوا سعيدا من القضاء، فمر شريك القاضي، ورجل ينادي: من أصاب ضرارا، فله عشرة آلاف. فقال شريك: الساعة خلفته عند يحيى البرمكي -أراد شريك أن يعلم أنهم ينادون عليه وهو عندهم. (2)
إسحاق بن سليمان الجواز (241 هـ سنة وفاة الإمام أحمد)
موقفه من الجهمية:
- قال مهنا: وسألت أبا يعقوب إسحاق بن سليمان الجواز عن القرآن، فقال: هو كلام الله وهو غير مخلوق، ثم قال لي: إذا كنا نقول: القرآن كلام الله لا نقول مخلوق ولا غير مخلوق، فليس بيننا وبين هؤلاء الجهمية خلاف. فذكرت ذلك لأحمد بن حنبل، فقال أحمد: جزى الله أبا يعقوب خيرا. (3)
_________
(1) السير (10/ 545).
(2) السير (10/ 545).
(3) السنة للخلال (5/ 136).
(4/145)
يحيى بن أَكْثَم التَّمِيمي (1) (ابن قُطَن) (242 هـ)
الفقيه العلامة، القاضي، أبو محمد يحيى بن أكثم بن محمد بن قطن، التميمي المروزي ثم البغدادي. ولد في خلافة المهدي. وسمع من: عبد العزيز ابن أبي حازم، وابن المبارك، والدراوردي، وابن عيينة، وعدة. وله رحلة ومعرفة. حدث عنه الترمذي، وأبو حاتم، وإسماعيل القاضي، وآخرون. وكان من أئمة الاجتهاد. وله تصانيف منها كتاب 'التنبيه'. قال الحاكم: من نظر في 'التنبيه' له عرف تقدمه في العلوم. قال طلحة الشاهد: كان واسع العلم بالفقه، كثير الأدب حسن العارضة، قائما بكل معضلة، غلب على المأمون، حتى لم يتقدمه عنده أحد مع براعة المأمون في العلم، وكانت الوزراء لا تبرم شيئا حتى تراجع يحيى. سئل عنه الإمام أحمد، فقال: ما عرفناه ببدعة. قال السراج في 'تاريخه': مات بالربذة منصرفه من الحج يوم الجمعة في ذي الحجة سنة اثنتين وأربعين ومائتين. قال ابن أخته: بلغ ثلاثا وثمانين سنة.
موقفه من الرافضة:
- قال أبو العيناء: حدثنا أحمد بن أبي دؤاد قال: كنا مع المأمون في طريق الشام. فأمر فنودي بتحليل المتعة. فقال يحيى بن أكثم لي ولمحمد بن منصور: بكرا غدا إليه. فإن رأيتما للقول وجها فقولا، وإلا فاسكتا إلى أن أدخل. قال: فدخلنا إليه وهو يستاك، ويقول، وهو مغتاظ: متعتان كانتا على
_________
(1) التاريخ الكبير (8/ 263) وتاريخ بغداد (14/ 191 - 204) وطبقات الحنابلة (1/ 410 - 413) وتهذيب الكمال (31/ 207 - 223) والسير (12/ 5 - 12) وتاريخ الإسلام (حوادث 241 - 250/ص.536 - 544) والبداية والنهاية (10/ 330) وتهذيب التهذيب (11/ 179 - 183) وشذرات الذهب (2/ 91؛ 101؛ 102).
(4/146)
عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعلى عهد أبي بكر، وأنا أنهى عنهما؟ ومن أنت يا أحول حتى تنهى عما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر؟ فأومأمت إلى محمد بن منصور: رجل يقول في عمر بن الخطاب ما يقول، نكلمه نحن؟ فأمسكنا. وجاء يحيى فجلس وجلسنا. فقال المأمون ليحيى: مالي أراك متغيرا؟ فقال: هو غم يا أمير المؤمنين، لما حدث في الإسلام. قال: وما حدث فيه؟ قال: النداء بتحليل الزنا. قال: الزنا؟ قال: نعم، المتعة زنى. قال: ومن أين قلت هذا؟ قال: من كتاب الله، وحديث رسوله - صلى الله عليه وسلم -. قال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (2) إلى قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} (1) يا أمير المؤمنين، زوجة المتعة ملك يمين؟ قال: لا. قال: فهي الزوجة التي عنى الله عز وجل: ترث وتورث، ويلحق بها الولد، ولها شرائطها؟ قال: لا. قال: فقد صار متجاوز هذين من العادين. وهذا الزهري يا أمير المؤمنين روى عن عبد الله والحسن ابني محمد بن الحنفية عن أبيهما محمد عن علي بن أبي طالب قال: أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أنادي بالنهي عن المتعة وتحريمها، بعد
_________
(1) المؤمنون الآيات (1 - 7).
(4/147)
أن كان أمر بها. (1) فالتفت إلينا المأمون. فقال: أمحفوظ هذا من حديث الزهري؟ فقلنا: نعم، يا أمير المؤمنين. رواه جماعة، منهم مالك. فقال: أستغفر الله، نادوا بتحريم المتعة. فنادوا بها. (2)
موقفه من الجهمية:
- عن محمد بن القاسم العتكي، سمعت الفضل الشعراني، سمعت يحيى ابن أكثم يقول: من قال: القرآن مخلوق يستتاب فإن تاب، وإلا ضربت عنقه. (3)
الحسن بن علي الحُلَوَانِي (4) (242 هـ)
الإمام الحافظ، الصدوق أبو محمد الحسن بن علي بن محمد الهُذَلِي، الرَّيْحَانِي الخَلاَّل المجاور بمكة والمحدث بها. حدث عن أبي معاوية، وابن الجراح، ومعاذ ابن هشام، وخلق. ورحل إلى عبد الرزاق فأكثر وصنف وتعب في هذا العلم. قال إبراهيم بن أورمة: بقي اليوم في الدنيا ثلاثة: الذهلي بخراسان، وابن الفرات بأصبهان، والحلواني بمكة. حدث عنه الجماعة
_________
(1) أحمد (1/ 79) والبخاري (7/ 611/4216) ومسلم (2/ 1027/1407 (29،30،31،32)) والترمذي (3/ 429/1121) والنسائي (6/ 435/3365) وابن ماجه (1/ 630/1961) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه بلفظ مغاير.
(2) طبقات الحنابلة (1/ 413).
(3) السير (13/ 319) والطبقات (1/ 412).
(4) تاريخ بغداد (7/ 365 - 366) وتهذيب الكمال (6/ 259 - 263) وتذكرة الحفاظ (2/ 522) والسير ... (11/ 398 - 400) وتهذيب التهذيب (2/ 302 - 304) وتاريخ الإسلام (حوادث 241 - 250/ص.233 - 234).
(4/148)
سوى النسائي، وأبو بكر بن أبي عاصم، وخلق سواهم. قال يعقوب بن شيبة: كان ثقة ثبتا متقنا. مات رحمه الله تعالى في ذي الحجة سنة اثنتين وأربعين ومائتين.
موقفه من الجهمية:
- عن أحمد بن أبي عوف قال: سألت الحسن بن علي الحلواني، فقلت له: إن الناس قد اختلفوا عندنا في القرآن، فما تقول رحمك الله؟ قال: القرآن كلام الله، غير مخلوق، ما نعرف غير هذا. (1)
- وقال أبو زرعة الرازي: قيل للحسن بن علي الحلواني: إنا أخبرنا عنك أنك أظهرت الوقف. فأنكر ذلك إنكارا شديدا وقال: القرآن كلام الله غير مخلوق، وهل يكون غير ذا أو يقول أحد غير هذا؟ ما شككنا في ذا قط. وسألني رجل بالشام وكان من الواقفة فأحب أن أرخص في الوقف فأبيت. (2)
محمد بن أَسْلَم الطُّوسي (3) (242 هـ)
محمد بن أسلم بن سالم بن يزيد الإمام الحافظ الرباني شيخ الإسلام أبو الحسن الكندي مولاهم الخراساني الطوسي. ولد في حدود الثمانين ومائة. سمع يزيد بن هارون والنضر بن شميل وقبيصة ويحيى بن أبي بكير وغيرهم.
_________
(1) الشريعة (1/ 219/174).
(2) أصول الاعتقاد (2/ 359 - 360/ 531).
(3) الجرح والتعديل (7/ 201) والحلية (9/ 238 - 254) وتذكرة الحفاظ (2/ 532 - 534) والوافي بالوفيات (2/ 204) وشذرات الذهب (2/ 100 - 101) والسير (12/ 195 - 207).
(4/149)
صنف 'المسند' و'الأربعين' وغير ذلك. حدث عنه إمام الأئمة ابن خزيمة، ومحمد بن وكيع الطوسي، وأبو بكر بن أبي داود، وخلق. وحدث عنه من أقرانه: علي بن الحسن الهلالي، ومحمد بن عبد الوهاب الفراء.
قال محمد بن رافع: دخلت على محمد بن أسلم فما شبهته إلا بأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. عن الحاكم: سمعت محمد بن أحمد بن بالويه سمعت ابن خزيمة يقول حدثنا من لم تر عيناي مثله أبو عبد الله محمد بن أسلم. قال الحاكم: قام محمد بن أسلم مقام وكيع، وأفضل من مقامه، لزهده وورعه وتتبعه للأثر. قال إسحاق: لم أسمع عالما منذ خمسين سنة كان أشد تمسكا بأثر النبي - صلى الله عليه وسلم - من محمد بن أسلم.
توفي لثلاث بقين من المحرم سنة اثنتين وأربعين ومائتين بنيسابور.
موقفه من المبتدعة:
- جاء في الحلية: عن خادم بن أسلم قال: سمعت إسحاق بن راهويه يقول: وذكر في حديث رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله لا يجمع أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - على ضلالة، فإذا رأيتم الاختلاف فعليكم بالسواد الأعظم" (1). فقال رجل: يا أبا يعقوب، من السواد الأعظم؟ قال: محمد بن أسلم وأصحابه ومن تبعه، ثم قال: سأل رجل ابن المبارك فقال: يا أبا عبد الرحمن من السواد الأعظم؟
_________
(1) أخرجه: ابن ماجه (2/ 1303/3950) وابن أبي عاصم في السنة (1/ 41/84) عن أبي خلف الأعمى قال: سمعت أنس بن مالك، فذكره. قال البوصيري في الزوائد (2/ 289/1387): "هذا إسناد ضعيف لضعف أبي خلف الأعمى واسمه حازم بن عطار". قال الشيخ الألباني: "الشطر الأول منه صحيح له شواهد ... والشطر الآخر ضعيف". انظر شواهد الحديث في السنة لابن أبي عاصم (1/ 40 - 42). وأخرجه الدولابي في الكنى (1/ 166) بلفظ: "إذا رأيتم الاختلاف فعليكم بالسواد الأعظم فإنه لا تجتمع أمتي على ضلالة".
(4/150)
قال: أبو حمزة السكوني. ثم قال إسحاق: في ذلك الزمان يعني أبا حمزة، وفي زماننا محمد بن أسلم ومن تبعه. ثم قال إسحاق: لو سألت الجهال من السواد الأعظم؟ قالوا: جماعة الناس، ولا يعلمون أن الجماعة عالم متمسك بأثر النبي - صلى الله عليه وسلم - وطريقه، فمن كان معه وتبعه فهو الجماعة، ومن خالفه فيه ترك الجماعة. ثم قال إسحاق: لم أسمع عالما منذ خمسين سنة أعلم من محمد بن أسلم. (1)
" التعليق:
الميزان عند السلف هو اتباع الحق الذي يتمثل في التمسك بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأما الكثرة والقلة فليست عندهم بميزان، فليعلم هذا وليكن الميزان عند كل سلفي، فلا عليه إن رفضه المبتدعة مهما تكاثروا ومهما قل أتباعه وأصحابه.
- جاء في الحلية عن محمد بن أسلم أنه قال عند موته لمحمد بن القاسم ودخل عليه: قال: يا أبا عبد الله، إن هؤلاء قد كتبوا رأي أبي حنيفة وكتبت أنا الأثر فأنا عندهم على غير طريق، وهم عندي على غير طريق. وقال لي: يا أبا عبد الله أصل الاسلام في هذه الفرائض، وهذه الفرائض في حرفين: ما قال الله ورسوله: افعل؛ فهو فريضة ينبغي أن يفعل. وما قال الله ورسوله: لا تفعل؛ فينبغي أن ينتهى عنه؛ فتركه فريضة. وهذا في القرآن وفي فريضة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم يقرءونه ولكن لا يتفكرون فيه. قد غلب عليهم حب الدنيا. حديث
_________
(1) الحلية (9/ 238 - 239) وانظر السير (12/ 196 - 197).
(4/151)
عبد الله بن مسعود: "خط لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطا فقال: "هذا سبيل الله" ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله ثم قال: "هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه" ثم قرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (1)، وحديث عبد الله بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن بني إسرائيل افترقوا على اثنتين وسبعين ملة، وأمتي تفترق على ثلاثة وسبعين، كلها في النار إلا واحدة". قالوا: يا رسول الله من هم؟ قال: "ما أنا عليه اليوم وأصحابي" (2).اهـ (3)
موقفه من الجهمية:
- جاء في أصول الاعتقاد: عن عبد الله بن محمد بن الفضل الأسدي قال سمعت إسحاق بن داود الشعراني يذكر أنه عرض على محمد بن أسلم كلام رجل تكلم في القرآن فقال محمد بن أسلم: أما أسماء الله التي قد ذكرها فإنها كلها أسماؤه، فإذا قال الإنسان نعبد الله، فإنما يعني الاسم والمعنى شيء واحد فهو موحد. (4)
- وفيه: عن محمد بن أسلم الطوسي: إن من قال إن القرآن يكون
_________
(1) تقدم ضمن مواقف الإمام مالك سنة (179هـ).
(2) تقدم ضمن مواقف الإمام أحمد سنة (241هـ).
(3) الحلية (9/ 242) وانظر السير (12/ 200).
(4) أصول الاعتقاد (2/ 240/353).
(4/152)
مخلوقا بالألفاظ فقد زعم أن القرآن مخلوق. (1)
- قال أبو نعيم: وأما كلامه في النقض على المخالفين من الجهمية والمرجئة فشائع ذائع. وقد كان رحمه الله من المثبتة لصفات الله أنها أزلية غير محدثة في كتابه المترجم بالرد على الجهمية ذكرت منه فصلا وجيزا من فصوله وهو: ما حدثناه محمد بن جعفر المؤدب حدثنا أحمد بن بطة بن إسحاق حدثنا إسماعيل بن أحمد المديني حدثنا أبو عبد الله بن موسى بمكة وهو عن محمد بن القاسم خادم محمد بن أسلم وصاحبه، قال: سمعت محمد بن أسلم يقول: زعمت الجهمية أن القرآن مخلوق وقد أشركوا في ذلك، وهم لا يعلمون لأن الله تعالى قد بين أن له كلاما فقال: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} (2) وقال في آية أخرى {وكلم الله موسى تكليمًا} (3) فأخبر أن له كلاما وأنه كلم موسى عليه السلام فقال في تكليمه إياه {يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} (4) فمن زعم أن قوله: {يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} خلق وليس بكلامه فقد أشرك بالله، لأنه زعم أن خلقا قال لموسى إني أنا ربك، فقد جعل هذا الزاعم ربا لموسى دون الله. وقول الله أيضا لموسى في تكليمه {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا
_________
(1) أصول الاعتقاد (2/ 388/588).
(2) الأعراف الآية (144).
(3) النساء الآية (164).
(4) طه الآيتان (11و12).
(4/153)
أَنَا فَاعْبُدْنِي} (1) فقد جعل هذا الزاعم إلها لموسى غير الله. وقال في آية أخرى لموسى في تكليمه إياه: {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (2)
فمن لم يشهد أن هذا كلام الله وقوله تكلم به والله قاله وزعم أنه خلق فقد عظم شركه وافتراؤه على الله لأنه زعم أن خلقا قال لموسى: {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} فقد جعل هذا الزاعم للعالمين ربا غير الله فأي شرك أعظم من هذا؟ فتبقى الجهمية في هذه القصة بين كفرين اثنين إن زعموا أن الله لم يكلم موسى فقد ردوا كتاب الله وكفروا به، وإن زعموا أن هذا الكلام {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} خلق فقد أشركوا بالله، ففي هؤلاء الآيات بيان أن القرآن كلام الله تعالى، وفيها بيان شرك من زعم أن كلام الله خلق، وقول الله خلق، وما أوحى الله إلى أنبيائه خلق. (3)
- آثاره السلفية: له كتاب الرد على الجهمية: نظر فيه أحمد بن حنبل فتعجب منه، كذا في الحلية. (4)
موقفه من المرجئة:
- جاء في ترجمته في حلية الأولياء: قال أبو نعيم: وأما نقضه رحمه الله
_________
(1) طه الآيتان (13و14).
(2) القصص الآية (30) ..
(3) حلية الأولياء (9/ 244 - 245) وفي السير (12/ 202).
(4) (9/ 239).
(4/154)
على المرجئة الكرامية التي زعمت أن الإيمان هو القول باللسان من دون عقد القلب الذي هو التصديق، فقد صنف في الايمان وفي الأعمال الدالة على تصديق القلب وأمارته كتابا جامعا كبيرا.
حدثنا أبو الحسين محمد بن محمد بن عبيد الله الجرجاني المقري ثنا محمد ابن زهير الطوسي ثنا عبد الله بن يزيد المقري ثنا كهمس عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر عن عبد الله بن عمر عن عمر أن جبرائيل عليه السلام جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن الإيمان فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر كله خيره وشره" (1). الحديث وهذا أول حديث ذكره واستفتح به كتابه وبنى عليه كلامه. قال محمد بن أسلم: فبدء الإيمان من قبل الله فضل منه ورحمة ومن يمن به على من يشاء من عباده، فيقذف في قلبه نورا ينور به قلبه ويشرح به صدره ويزيد في قلبه الإيمان ويحببه إليه، فإذا نور قلبه وزين فيه الإيمان وحببه إليه آمن قلبه بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر كله خيره وشره وآمن بالبعث والحساب والجنة والنار حتى كأنه ينظر إلى ذلك، وذلك من النور الذي قذفه الله في قلبه، فإذا آمن قلبه نطق لسانه مصدقا لما آمن به القلب وأقر بذلك وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأن هذه الأشياء التي آمن بها القلب فهي حق. فإذا آمن القلب وشهد اللسان عملت الجوارح، فأطاعت أمر الله عملت بعمل الإيمان وأدت حق الله عليها في فرائضه، وانتهت عن
_________
(1) أحمد (1/ 27) ومسلم (1/ 36 - 38/ 8) وأبو داود (5/ 69 - 73/ 4695) والترمذي (5/ 8 - 9/ 2610) والنسائي (8/ 472 - 475/ 5005) وابن ماجه (1/ 24 - 25/ 63) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
(4/155)
محارم الله إيمانا وتصديقا بما في القلب ونطق به اللسان، فإذا فعل ذلك كان مؤمنا. وقد بين الله ذلك في كتابه، وأن بدء الإيمان من قبله فقال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إليكم الإيمان وزينه في قُلُوبِكُمْ} (1)
وقال: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} (2) أفلا يرون أن هذا التزيين وهذا النور من عطية الله ورزقه، يعطي من يشاء كما يشاء أترى أن الناس يمرون؟ وقال في كتابه: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ والإيمان} (3) وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للحارث بن مالك: "عَبْدٌ نَوَّرَ الله الإيمان في قلبه" (4) وقال: "نور يقذف في القلب فينشرح وينفسح" (5)
ثم بين الرسول أنه يتبين على المؤمن إيمانه بالعمل حين قيل له هل له علامة يعرف بها قال: "نعم الإنابة إلى
_________
(1) الحجرات الآية (7) ..
(2) الزمر الآية (22).
(3) الروم الآية (56).
(4) أخرجه من حديث أنس: البزار (كشف الأستار 1/ 26/32) مطولا، وذكر له قصة. وقال عقبه: "تفرد به يوسف -أي ابن عطية- وهو لين الحديث". وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 57) وقال: رواه البزار وفيه يوسف بن عطية لا يحتج به. وأخرجه ابن المبارك في الزهد (1/ 303 - 304/ 299)، وعبد الرزاق (11/ 129/20114) كلاهما عن معمر عن صالح ابن مسمار (زاد عبد الرزاق: وجعفر بن برقان)، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للحارث بن مالك، فذكره مطولا. وهو معضل. وكذلك أخرجه ابن أبي شيبة في الإيمان (115) عن ابن نمير نا مالك بن مغول عن زبيد، معضلا. وقد رويت هذه القصة موصولة عن الحارث نفسه، أخرجها: عبد بن حميد (المنتخب445)، والطبراني (3/ 302/3367) دون ذكر محمل الشاهد. وذكرها الهيثمي في المجمع (1/ 57) وقال: رواه الطبراني في الكبير وفيه ابن لهيعة وفيه من يحتاج إلى الكشف عنه. قال العراقي في تخريج أحاديث الإحياء (5/ 2272/3608): رواه البزار من حديث أنس والطبراني من حديث الحارث بن مالك وكلا الحديثين ضعيف". وانظر كلام الزبيدي عقبه.
(5) انظر الحديث الآتي بعده ..
(4/156)
دار الخلود والتجافى عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله" (1) ألا ترون أنه قد بين أن إيمانه يعرف بالعمل لا بالقول.
وقد بين أن الإيمان الذي في القلب ينفعه إذا عمل بعمل الإيمان، فإذا عمل بعمل الإيمان تتبين علامة إيمانه أنه مؤمن. فهذا كلامه الذي عليه ابتناء الكتاب وأنه جعل الأعمال علامة للإيمان، وأن الإيمان هو تصديق القلب، وأن اللسان شاهد يشهد ومعبر يعبر عما في القلب، لا أن الشاهد المعبر نفس الإيمان من دون تصديق القلب على ما زعمت الكرامية. وضمن هذا الكتاب من الآثار المسندة وقول الصحابة والتابعين أحاديث كثيرة.
قال محمد بن أسلم: وقال المرجئ: ويتفاضل الناس في الأعمال، خطأ لأنه زعم أن من كان أكثر عملا فهو أفضل من الذي كان أقل عملا، فعلى
_________
(1) أخرجه من حديث ابن مسعود: الحاكم (4/ 311) وسكت عنه، وتعقبه الذهبي بقوله: "عدي بن الفضل ساقط".
وقال في الميزان (3/ 62): "قال ابن معين وأبو حاتم متروك الحديث". وقال يحيى لا يكتب حديثه، وقال غير واحد: ضعيف. انظر كلام أبي حاتم ويحيى بن معين في الجرح والتعديل (7/ 4). وأخرجه: ابن جرير (8/ 27)، وفي سنده سعيد بن عبد الملك بن واقد الحراني. قال أبو حاتم (4/ 45): "يتكلمون فيه، يقال إنه أخذ كتبا لمحمد بن سلمة فحدث بها، ورأيت فيها حدث أحاديث كذب" هذا أولا. والثاني الانقطاع بين أبي عبيد وأبيه عبد الله بن مسعود، فإنه لم يسمع منه. ورواه ابن جرير (8/ 27) أيضا بسند آخر وفيه محبوب بن الحسن الهاشمي واسمه محمد. قال عنه الحافظ في التقريب: صدوق فيه لين. وفي الباب عن ابن عباس مرفوعا، والحسن البصري وأبي جعفر المدائني كلاهما مرسلا. وقد فصل القول فيها الشيخ الألباني رحمه الله في الضعيفة (2/ 383 - 387) ثم قال: "وجملة القول: أن هذا الحديث ضعيف لا يطمئن القلب لثبوته عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لشدة الضعف الذي في جميع طرقه، وبعضها أشد ضعفا من بعض، فليس فيها ما ضعفه يسير يمكن أن ينجبر، خلافا لما ذهب إليه ابن كثير، وإن قلده في ذلك جماعة ممن ألفوا في التفسير، كالشوكاني في فتح القدير (2/ 154) وصديق حسن خان في فتح البيان (2/ 217)، وجزم الآلوسي في روح المعاني بنسبته إليه - صلى الله عليه وسلم -، ومن قبله ابن القيم في الفوائد (ص.27 ط. دار مصر) وعزاه للترمذي فجاء بوهم آخر. والعصمة لله وحده".
(4/157)
زعمه أن من الذي كان بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أفضل من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنهم عملوا بعده أعمالا كثيرة من الحج والعمرة والغزو والصلاة والصيام والصدقة والأعمال الجسمية، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفضل منهم بالاتفاق، ثم من كان بعد أبي بكر الصديق وعمر قد عملوا الأعمال الكثيرة التي لم يعملها عمر ولم يبلغها، وعمر أفضل منهم. ثم من بعد أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من التابعين قد عملوا أعمالا كثيرة أكثر مما عملته الصحابة، والصحابة أفضل منهم. فأي خطأ أعظم من خطأ هذا المرجئ الذي زعم أن الناس يتفاضلون بالأعمال وإنما الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، يفضل من يشاء من عباده على من يشاء عدلا منه ورحمة، فكل من فضله الله فهو أعظم إيمانا من الذي دونه، لأن الإيمان قسم من الله قسمه بين عباده كيف شاء، كما قسم الأرزاق فاعطى منها كل عبد ما شاء، ألا ترى إلى قول عبد الله بن مسعود (إذا أحب الله تعالى عبدا أعطاه الإيمان) فالإيمان عطية الله يعطيه من يشاء ويفضل من يشاء على من يشاء، وهو قوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} (1) وقال: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} (2) أفلا ترون أن هذا التزيين وهو النور من عطية الله ورزقه، يعطي من يشاء كما يشاء، ألا ترى أن الناس يمرون يوم القيامة على الصراط على قدر نورهم فواحد نوره مثل الجبل، وواحد نوره
_________
(1) الحجرات الآية (7).
(2) الزمر الآية (22) ..
(4/158)
مثل البيت فكم بين الجبل والبيت من الزيادة والنقصان؟ فإذا كان نور من خارج مثل الجبل وآخر مثل البيت، فكذلك نورهما من داخل القلب على قدر ذلك، فالمرجئة والجهمية قياسهما قياس واحد؛ فإن الجهمية زعمت أن الإيمان المعرفة فحسب، بلا إقرار ولا عمل، والمرجئة زعمت أنه قول بلا تصديق قلب ولا عمل. فكلاهما شيعة إبليس وعلى زعمهم إبليس مؤمن، لأنه عرف ربه ووحده حين قال: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (1) وحين قال: {إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} (2) وحين قَالَ {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} (3) فأي قوم أبين ضلالة وأظهر جهلا وأعظم بدعة من قوم يزعمون أن إبليس مؤمن؟ فضلوا عن جهة قياسهم يقيسون على الله دينه، والله لا يقاس عليه دينه، فما عبدت الأوثان والأصنام إلا بالقايسين، فاحذروا يا أمة محمد القياس على الله في دينه واتبعوا ولا تبتدعوا فإن دين الله استنان واقتداء واتباع لا قياس وابتداع.
قال الشيخ أبو نعيم رحمه الله: اقتصرت من تفاصيله ومعارضته على المرجئة على ما ذكرت، وكتابه يشتمل على أكثر من جزءين مشحونا بالآثار المسندة وقول الصحابة والتابعين. (4)
_________
(1) ص الآية (82).
(2) الحشر الآية (16).
(3) الحجر الآية (39).
(4) الحلية (9/ 245 - 248).
(4/159)
أحمد بن أبي بكر بن الحارث (1) (242 هـ)
الإمام الثقة، شيخ دار الهجرة، أبو مصعب، أحمد بن أبي بكر القاسم ابن الحارث بن زرارة بن مصعب بن عبد الرحمن بن عوف القرشي الزهري المدني الفقيه قاضي المدينة. ولد سنة خمسين ومائة، ولازم مالك بن أنس وتفقه به، وسمع منه 'الموطأ' وأتقنه عنه. وسمع من يوسف بن الماجشون، وابن أبي حازم، وعبد العزيز بن محمد الدراوردي، وطبقتهم. حدث عنه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وإسماعيل القاضي وبقي بن مخلد، وأبو زرعة الرازي وخلق كثير. قال الزبير بن بكار: هو فقيه أهل المدينة غير مدافع. وقال: مات في شهر رمضان سنة اثنتين وأربعين ومائتين وهو على القضاء، وله اثنتان وتسعون سنة. قال أبو إسحاق في 'طبقاته' كان أبو مصعب من أعلم أهل المدينة روي عنه أنه قال: يا أهل المدينة لا تزالون ظاهرين على أهل العراق ما دمت لكم حيا.
موقفه من الجهمية:
- جاء في أصول الاعتقاد: قال محمد بن مسلم بن واره، قال لي أبو مصعب: من قال القرآن مخلوق فهو كافر، ومن قال: لا أدري -يعني مخلوق أو غير مخلوق- فهو مثله، ثم قال: بل هو شر منه. (2)
- وفيه: عن أبي مصعب أحمد بن أبي بكر قال: من وقف في القرآن
_________
(1) تهذيب الكمال (1/ 278 - 281) وتذكرة الحفاظ (2/ 482 - 484) وتهذيب التهذيب (1/ 20) والوافي بالوفيات (6/ 269) والسير (11/ 436 - 440).
(2) أصول الاعتقاد (2/ 358/522).
(4/160)
فهو كافر. (1)
- وفيه: عن عبد الله بن محمد بن الفضل الأسدي الصيداوي قال: أتى قوم أبا مصعب الزهري المديني فقالوا: إن قبلنا ببغداد رجلا يقول: لفظه بالقرآن مخلوق؟ فقال: يا أهل العراق ما يأتينا منكم هناه. ما ينبغي أن نتلقى وجوهكم إلا بالسيوف، هذا كلام نبطي خبيث. (2)
محمد بن يحيى العَدَنِي (3) (243 هـ)
الإمام المحدث الحافظ شيخ الحرم، أبو عبد الله محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني، المجاور بمكة. حدث عن فضيل بن عياض، وسفيان بن عيينة، وعبد العزيز بن محمد، ووكيع بن الجراح وخلق كثير. حدث عنه مسلم، والترمذي، وابن ماجه، وبواسطة النسائي، وأبو حاتم، وغيرهم. قال أبو حاتم: صدوق صالح وفيه غفلة. وقال ابن العماد الحنبلي: كان عبدا صالحا خيرا. وقال مسلم وغيره: هو حجة صدوق. روي عن الحسن بن أحمد بن الليث: حدثنا ابن أبي عمر العدني وكان قد حج سبعا وسبعين حجة، وبلغني أنه لم يقعد من الطواف ستين سنة رحمه الله. قال البخاري: مات بمكة لإحدى عشرة بقيت من ذي الحجة سنة ثلاث وأربعين ومائتين.
_________
(1) أصول الاعتقاد (2/ 358/521).
(2) أصول الاعتقاد (2/ 394/609) والسير (11/ 437).
(3) الجرح والتعديل (8/ 124 - 125) وتهذيب الكمال (26/ 639 - 642) وتذكرة الحفاظ (2/ 501) والعقد الثمين (2/ 422 - 423) وتهذيب التهذيب (9/ 518 - 520) وشذرات الذهب (2/ 104) والسير (12/ 96 - 98).
(4/161)
موقفه من الجهمية:
- جاء في أصول الاعتقاد عنه قال: من قال القرآن مخلوق فهو كافر، ومن وقف فهو شر ممن قال مخلوق، لا يصلى خلفهم ولا يناكحون ولا يكلمون، ولا تشهد جنائزهم، ولا يعاد مرضاهم. (1)
موقفه من المرجئة:
- له كتاب 'الإيمان' وهو مطبوع متداول. قال محققه (2): لقد سلك ابن أبي عمر في تأليف كتابه الإيمان طريقة أسلافه المحدثين، حيث كانوا يوردون النصوص الشرعية من القرآن الكريم، ومن السنة المطهرة، وأقوال الصحابة، والتابعين، بأسانيدها، للدلالة على إثبات عقيدة أهل السنة والرد على مخالفيهم، إلا أنه كان يسرد الأحاديث سردا بدون تبويب لما تدل عليه، أو مراعاة لذلك، وبدون أن يعلق عليها، أو يذكر وجه الدلالة منها، اكتفاءا بما تدل عليه.
حارث بن أبي الحارث المحاسبي (243 هـ)
دخل هذا الرجل في خطرات ووساوس وألف في ذلك، ودخل في شيء من الكلام فنقم عليه جمع من السلف كأبي زرعة الرازي وأحمد بن حنبل وله موقف جيد من أبيه لمكان القدر أو الوقف في القرآن.
موقفه من الجهمية:
- قال الجنيد: خلَّف له أبوه مالا كثيرا فتركه، وقال: لا يتوارث أهل
_________
(1) أصول الاعتقاد (2/ 359/530).
(2) (ص.52).
(4/162)
ملتين. وكان أبوه واقفيا.
- قال أبو الحسن بن مقسم: أخبرنا أبو علي بن خيران، قال: رأيت المحاسبي متعلقا بأبيه يقول: طلق أمي، فإنك على دين، وهي على غيره. (1)
موقفه من القدرية:
- جاء في أصول الاعتقاد: مات أبو الحارث المحاسبي يوم مات وحارث محتاج إلى أقل من درهم -أو كما قال- لعيال وبنات عليه وترك أبوه مالا وضيعة وأثاثا وأموالا كثيرة نفيسة فلم يقبل منها شيئا. فقيل له في ذلك: فقال: روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أهل ملتين شتى لا يتوارثان" (2) أو كما قال. وكان أبوه يقول بالقدر. (3)
أبو موسى إسحاق بن موسى الخَطْمِي (4) (244 هـ)
الإمام الحافظ، الثقة القاضي، أبو موسى إسحاق بن موسى بن عبد الله
_________
(1) السير (12/ 110).
(2) أخرجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أحمد (2/ 178،195) وأبو داود (3/ 328 - 329/ 2911) والنسائي في الكبرى (4/ 82/6384) وابن ماجه (2/ 912/2731) وقال شاكر في تحقيقه للمسند (10/ 146): "إسناده صحيح". وللحديث شواهد من حديث جابر وأنس وأسامة بن زيد وغيرهم. (انظر كتابنا فتح البر (12/ 541)).
(3) أصول الاعتقاد (4/ 812/1367) وجاء في تاريخ بغداد (8/ 214) وتهذيب الكمال (5/ 209) والأنساب (5/ 207): وكان أبوه واقفيا.
(4) تاريخ بغداد (6/ 355 - 356) وتهذيب الكمال (2/ 480 - 483) وتذكرة الحفاظ (2/ 513) والسير ... (11/ 554 - 555) وتهذيب التهذيب (1/ 251) وشذرات الذهب (2/ 105) وتاريخ الإسلام (حوادث ... 241 - 250/ص.172 - 173).
(4/163)
ابن موسى بن عبد الله بن يزيد الخطمي الأنصاري المدني، الفقيه نزيل سامراء ثم قاضي نيسابور. سمع سفيان بن عيينة، وعبد السلام بن حرب ومعن ابن عيسى القزاز، وجماعة. حدث عنه مسلم، والترمذي والنسائي، وابن ماجه، وابن مخلد وابن خزيمة، وجعفر الفريابي، وابنه موسى، وآخرون. كان من أئمة السنة، أطنب أبو حاتم في الثناء عليه. توفي بجوسية -بليدة من أعمال حمص- في سنة أربع وأربعين ومائتين.
موقفه من المبتدعة:
- أخرج الخطيب بسنده إلى أبي حاتم قال: سمعت إسحاق بن موسى الخطمي يقول: ما مكن لأحد من هذه الأمة ما مكن لأصحاب الحديث، لأن الله عز وجل قال في كتابه: {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} (1). فالذي ارتضاه الله قد مكن لأهله فيه. ولم يمكن لأصحاب الأهواء في أن يقبل منهم حديث واحد عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأصحاب الحديث يقبل منهم حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحديث أصحابه. ثم إن كان بينهم رجل أحدث بدعة سقط حديثه، وإن كان من أصدق الناس. (2)
موقفه من الجهمية:
- عن المروذي قال: سألت أبا موسى الأنصاري عن الواقفة، فقال: هم شر من الجهمية. (3)
_________
(1) النور آية (55).
(2) شرف أصحاب الحديث (32).
(3) الإبانة (1/ 12/304/ 91).
(4/164)
محمد بن عبد الملك بن أبي الشَّوَارِب الأُموي البصري (1) (244 هـ)
الإمام الثقة، المحدث الفقيه الشريف، أبو عبد الله محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب محمد بن عبد الله بن أبي عثمان القرشي الأموي البصري ولد بعد الخمسين ومائة. وحدث عن كثير بن سليم، وكثير بن عبد الله الابلي صاحب أنس ابن مالك، وأبي عوانة، وحماد بن زيد، وخلق سواهم. حدث عنه مسلم والنسائي، والترمذي، والقزويني، وابن أبي الدنيا وأبو حاتم والبغوي وابن جرير وآخرون. وكان من جلة العلماء. قال الصولي: نهى المتوكل عن الكلام في القرآن وأشخص الفقهاء والمحدثين إلى سامراء، منهم ابن أبي الشوارب، وأمرهم أن يحدثوا وأجزل لهم الصلات. ولما تولى ولده الحسن القضاء، تخوف عليه وقال: يا حسن، أعيذ وجهك الحسن من النار. مات في جمادى الأولى سنة أربع وأربعين ومائتين.
موقفه من الجهمية:
- عن المروذي قال: سألت أبا عبد الله بن أبي الشوارب عن رجل من الواقفة سئل عن وجه الله عز وجل، أمخلوق هو أم غير مخلوق؟ فقال: لا أدري. فقال: هذا من الشاكة، أحب إلي أن يعيد الصلاة، يعني: إذا صلى خلفه. (2)
_________
(1) تاريخ بغداد (2/ 344 - 345) وتهذيب الكمال (26/ 19 - 21) والسير (11/ 103 - 104) وتهذيب التهذيب (9/ 316 - 317) وشذرات الذهب (2/ 105 - 106) وتاريخ الإسلام (حوادث 241 - 250/ص.449 - 450).
(2) الإبانة (1/ 12/305/ 93).
(4/165)
أحمد بن مَنِيع أبو جعفر البغوي (1) (244 هـ)
الإمام الحافظ، الثقة، أبو جعفر أحمد بن منيع بن عبد الرحمن البغوي ثم البغدادي، وأصله من مرو الروذ رحل وجمع وصنف 'المسند'. حدث عن هشيم وعباد بن العوام وسفيان بن عيينة وابن المبارك وابن أبي حازم وهذه الطبقة فمن بعدهم. حدث عنه الستة لكن البخاري بواسطة، وسبطه مسند وقته أبو القاسم البغوي، وخلق سواهم. كان مولده في سنة ستين ومائة. قال البغوي: أخبرت عن جدي أحمد بن منيع رحمه الله أنه قال: أنا من نحو أربعين سنة أختم في كل ثلاث. وقال: مات جدي في شوال سنة أربع وأربعين ومائتين.
موقفه من الجهمية:
- قال المروذي: سألت شجاع بن مخلد، وأحمد بن إبراهيم، وأحمد بن منيع، ويحيى بن عثمان عن القرآن، فقالوا: كلام الله وليس بمخلوق. (2)
أحمد بن حُمَيْد المشكاني (3) (244 هـ)
أبو طالب أحمد بن حميد المشكاني، صاحب أبي عبد الله أحمد بن حنبل والمتخصص في ذلك. روى عنه مسائل كثيرة، وكان أحمد يكرمه ويعظمه.
_________
(1) التاريخ الكبير (2/ 6) وتاريخ بغداد (5/ 160 - 161) وتهذيب الكمال (1/ 495 - 497) والسير ... (11/ 483 - 484) وتذكرة الحفاظ (2/ 481) وتهذيب التهذيب (1/ 84 - 85) وشذرات الذهب (2/ 105) وتاريخ الإسلام (حوادث 241 - 250/ص.149 - 150).
(2) الإبانة (2/ 12/20/ 211).
(3) تاريخ بغداد (4/ 122) وطبقات الحنابلة (1/ 39 - 40) وتاريخ الإسلام (حوادث 241 - 250/ص.39 - 40).
(4/166)
روى عنه أبو محمد فوزان، وزكريا بن يحيى وغيرهما. ذكره أبو بكر الخلال، فقال: صحب الإمام أحمد قديما إلى أن مات، وكان أبو عبد الله يكرمه ويقدمه، وكان رجلا صالحا فقيرا صبورا على الفقر، فعلمه أبو عبد الله مذهب القنوع والاحتراف. ومات قديما بالقرب من موت أبي عبد الله. قال ابن قانع: إن أبا طالب صاحب أحمد بن حنبل مات سنة أربع وأربعين ومائتين.
موقفه من الجهمية:
- عن أبي طالب، قال: قلت لأبي عبد الله: قال لي رجل: لم قلت: من كفر بآية من القرآن، فقد كفر؟ هو كافر مثل اليهودي والنصراني والمجوسي، أو كافر بنعمة، أو كافر بمقالته؟ قلت: لا أقول هو كافر مثل اليهودي والنصراني والمجوسي، ولكن مثل المرتد، أستتيبه ثلاثا، فإن تاب، وإلا قتلته. قال: ما أحسن ما قلت، ما كافر بنعمة، من كفر بآية، فقد كفر. قلت: أليس بمنزلة المرتد إن تاب وإلا قتل؟ قال: نعم. (1)
قال أبو طالب: وقلت لأبي عبد الله: سألني إنسان عن الجهمي يقول: القرآن مخلوق، فهو كافر؟ قلت: قوم يقولون: حلال الدم والمال، لو لقيته في خلاء لقتلته؟ قال: من هؤلاء؟ هذا المرتد يستتاب ثلاثة أيام قول عمر وأبي موسى، وهذا بمنزلة المرتد يستتاب. (2)
_________
(1) الإبانة (2/ 13/77 - 78/ 301).
(2) الإبانة (2/ 13/78/ 302).
(4/167)
محمد بن أَبَان حَمْدَوِيه (1) (244 هـ)
الحافظ، الإمام الثقة، أبو بكر محمد بن أبان بن وزير البلخي المستملي، يعرف بحمدويه، مستملي وكيع مدة طويلة نحو بضع عشرة سنة. حدث عن ابن علية، وابن وهب وغندر، وابن عيينة، ويحيى القطان، ووكيع ويزيد، وعبد الرزاق، وخلق كثير. وكتب العالي والنازل وتغرب مدة في الطلب. روى عنه الجماعة سوى مسلم؛ وأبو حاتم، وإسماعيل القاضي، وعبد الله بن أحمد، والبغوي، وابن خزيمة، وآخرون. قال عبد الله بن أحمد: قدم علينا رجل من بلخ يقال له: محمد بن أبان، فسألت أبي عنه فعرفه، وذكر أنه كان معهم عند عبد الرزاق فكتبا عنه. قال ابن حبان: حسن المذاكرة جمع وصنف وكان مستملي وكيع. قال الذهبي: كان ثقة حافظا مصنفا مشهورا. وقال موسى ابن هارون وغيره: مات ببلخ في المحرم سنة أربع وأربعين ومائتين.
موقفه من الجهمية:
- عن أحمد بن غسان قال: قلت لحمدويه: بأي شيء تعرف الزنادقة؟ قال: الزنادقة ضروب، ولكن من رأيته يقول: إن الله لا يرى وأن القرآن مخلوق، فهو زنديق. (2)
_________
(1) تاريخ بغداد (2/ 78 - 81) وطبقات الحنابلة (1/ 286) وتهذيب الكمال (24/ 296 - 300) وتذكرة الحفاظ (2/ 498 - 500) والسير (11/ 115 - 117) وتاريخ الإسلام (حوادث 241 - 250/ص.403 - 404) وتهذيب التهذيب (9/ 3 - 4) وشذرات الذهب (2/ 105).
(2) الإبانة (2/ 12/42/ 234).
(4/168)
أحمد بن نصر (1) (245 هـ)
الإمام القدوة، أحمد بن نصر بن زياد أبو عبد الله، القرشي النيسابوري. حدث عن عبد الله بن نمير، والنضر بن شميل، وابن أبي فديك. روى عنه أبو نعيم، والترمذي، وابن خزيمة. كان مقرئ نيسابور ومفتيها. وقال عنه الحاكم: كان فقيه أهل الحديث في عصره، كثير الرحلة والحديث. وقال عنه أحمد بن سيار: كان صاحب سنة، محبا لأهل الخير، كتب العلم، وجالس الناس. توفي سنة خمس وأربعين ومائتين.
موقفه من المبتدعة:
- عن محمد بن إسحاق بن خزيمة، قال: قلت لأحمد بن نصر، وحدث بخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنأخذ به؟ فقال: أترى على وسطي زنارا، لا تقل لخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أتأخذ به؟ وقل أصحيح هو ذا؟ فإذا صح الخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قلت به شئت أو أبيت. (2)
هشام بن عمار (3) (245 هـ)
الإمام الحافظ، العلامة المقرئ، شيخ الإسلام، عالم أهل الشام، أبو
_________
(1) السير (12/ 239) وتهذيب الكمال (1/ 501) والجرح والتعديل (2/ 79) وتذكرة الحفاظ (2/ 540).
(2) ذم الكلام (97).
(3) طبقات ابن سعد (7/ 473) والتاريخ الكبير (8/ 199) وتهذيب الكمال (30/ 242 - 255) وتذكرة الحفاظ (2/ 451) والسير (11/ 420 - 435) وتاريخ الإسلام (حوادث 241 - 250/ص.520 - 528) والبداية والنهاية (10/ 365) وغاية النهاية في طبقات القراء لابن الجزري (2/ 354) وتهذيب التهذيب (11/ 51 - 54) وشذرات الذهب (2/ 109 - 110).
(4/169)
الوليد هشام بن عمار السلمي ويقال الظفري خطيب دمشق ومقرئها ومحدثها ومفتيها. ولد سنة ثلاث وخمسين ومائة. سمع من مالك، ومسلم الزنجي، وإسماعيل بن عياش، والهيثم بن حميد، وطبقتهم، فأكثر جدا ورحل في طلب العلم. حدث عنه أبو عبيد، والبخاري، وأبو داود، والنسائي، وجعفر الفريابي، وعبدان وأمم سواهم. وعرض القرآن على عراك بن خالد وأيوب بن تميم، وهو راوي ابن عامر الشامي المقرئ. وتصدر للإقراء والاشتغال تلا عليه أبو عبيد مع تقدمه وأحمد بن الحلواني وعدة. كان رحمه الله ثقة كيسا، كبير المحل. روى عنه عبدان، قال: ما أعدت خطبة منذ عشرين سنة. قال محمد بن خريم: سمعت هشاما يقول في خطبته: قولوا الحق ينزلكم الحق منازل أهل الحق يوم لا يقضى إلا بالحق. مات في المحرم سنة خمس وأربعين ومائتين.
موقفه من الرافضة:
- وقال محمد بن الفيض الغساني: كان هشام بن عمار يربع بعلي، رضي الله عنه.
قال الذهبي: خالف أهل بلده، وتابع أئمة الأثر. (1)
موقفه من الصوفية:
- قال محمد بن الفيض: جاء رجل من قرية الحرجلة (2) يطلب لعرس أخيه لعابين، فوجد الوالي قد منعهم، فجاء يطلب مغبرين، يعني: مزمزمين
_________
(1) السير (11/ 433).
(2) قرية من قرى دمشق.
(4/170)
يغبرون بالقضيب، قال: فلقيه صوفي ماجن، فأرشده إلى ابن ذكوان، وهو خلف المنبر، فجاءه، وقال: إن السلطان قد منع المخنثين. فقال: أحسن والله، فقال: فنعمل العرس بالمغبرين، وقد دللت عليك، فقال: لنا رفيق، فإن جاء، جئت، وهو ذاك، وأشار إلى هشام بن عمار. فقام الرجل إليه، وهو عند المحراب متكئ، فقال الرجل لهشام: أبو من أنت، فرد عليه ردا ضعيفا، فقال: أبو الوليد، فقال: يا أبا الوليد، أنا من الحرجلة، قال: ما أبالي من أين كنت. قال: إن أخي يعمل عرسه، فقال: فماذا أصنع؟ قال: قد أرسلني أطلب له المخنثين. قال: لا بارك الله فيهم ولا فيك. قال: وقد طلب المغبرين فأرشدت إليك. قال: ومن بعثك؟ قال: هذاك الرجل، فرفع هشام رجله، ورفسه، وقال: قم. وصاح بابن ذكوان: أقد تفرغت لهذا؟ قال: إي والله، أنت رئيسنا، لو مضيت مضينا. (1)
أحمد بن عبدة أبو عبد الله الضَّبِّي (2) (245 هـ)
أحمد بن عبدة بن موسى الضبي أبو عبد الله البصري. روى عن حسان ابن إبراهيم الكرماني، وحماد بن زيد، وابن عيينة، وعيسى بن يونس، وفضيل ابن عياض، والقطان، وعدة. روى عنه الجماعة سوى البخاري، وبقي بن مخلد وعبد الله بن أحمد بن حنبل، وأبو زرعة الرازي، وأبو حاتم وابن خزيمة وعدة. قال أبو حاتم: ثقة. مات في رمضان سنة خمس وأربعين ومائتين.
_________
(1) السير (11/ 434) وتاريخ دمشق (27/ 9 - 10).
(2) تهذيب الكمال (1/ 397 - 399) وتهذيب التهذيب (1/ 59) وشذرات الذهب (2/ 107).
(4/171)
موقفه من الجهمية:
- روى ابن بطة في الإبانة بسنده إلى محمد بن داود قال: سمعت أبا داود السجستاني، قال: سمعت أحمد بن عبدة يقول: ما أبالي شككت في القرآن غير مخلوق أو شككت في الله عز وجل. (1)
إسحاق بن أبي إسرائيل (2) (245 هـ)
إسحاق بن أبي إسرائيل، واسمه إبراهيم بن كَامَجْر المروزي، أبو يعقوب. ولد سنة خمسين ومائة، وقيل إحدى وخمسين. روى عن حماد بن زيد وسفيان بن عيينة وشريك بن عبد الله، وروى عنه البخاري في الأدب وأبو داود وبقي بن مخلد وعبد الله بن أحمد بن حنبل. قال ابن معين: الثقة الصادق المأمون ما زال معروفا بالدين والخير والفضل. قال صالح بن محمد الحافظ: صدوق في الحديث إلا أنه كان يقول القرآن كلام الله ويقف.
وقال مصعب بن عبد الله: ناظرني إسحاق بن أبي إسرائيل، فقال: لا أقول كذا، ولا أقول غير ذا -يعني في القرآن- فناظرته فقال: لم أقل على الشك، ولكني أسكت كما سكت القوم قبلي.
قال البخاري وغيره: مات سنة خمس وأربعين ومائتين.
_________
(1) الإبانة (1/ 12/298/ 76).
(2) تاريخ بغداد (6/ 356 - 362) وتهذيب الكمال (2/ 398 - 407) وتاريخ الإسلام (حوادث 241 - 250/ص.169 - 172) وسير أعلام النبلاء (11/ 476 - 478) وتهذيب التهذيب (1/ 223 - 225).
(4/172)
موقفه من الجهمية:
- جاء في السنة لعبد الله: عن يحيى بن معين سمعت إسحاق بن أبي إسرائيل ونحن في مسجد في الزبيدية يقول القرآن كلام الله وهو غير مخلوق. (1)
محمد بن سليمان لُوَيْن (2) (245 هـ)
محمد بن سليمان بن حبيب الحافظ الصدوق الإمام شيخ الثغر، أبو جعفر الأسدي البغدادي نزيل المصيصة، المعروف بلوين، كوفي الأصل. سمع مالك بن أنس، وسليمان بن بلال، وإبراهيم بن سعد، وعبد الله بن المبارك، وابن عيينة، وحماد ابن زيد وطائفة. حدث عنه أبو داود، والنسائي، وأحمد ابن العباس البيروتي، وعبد الله بن أحمد بن حنبل وابن أبي الدنيا، وأبو حاتم الرازي وطائفة. توفي سنة خمس وأربعين ومائتين.
موقفه من الجهمية:
- جاء في الإبانة: عن أحمد بن محمد بن صدقة قال: سمعت لوينا يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق، ما أنا قلته، ولكن ابن عباس قاله، حدثنا هشيم، قال: حدثنا منصور بن زاذان عن الحكم عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال: إن أول ما خلق الله القلم. قال لوين: فأخبر ابن عباس أن أول ما خلق الله القلم. وقال الله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إذا أردناه أَنْ نَقُولَ لَهُ
_________
(1) السنة لعبد الله (34).
(2) الجرح والتعديل (7/ 268) وتاريخ بغداد (5/ 282 - 296) وتهذيب الكمال (25/ 297 - 301) وتهذيب التهذيب (9/ 198 - 199) والوافي بالوفيات (3/ 123) والسير (11/ 500 - 502).
(4/173)
كُنْ فيكون} (1)، فإنما خلق القلم بـ"كن"، وكلامه قبل الخلق. قال أبو بكر بن صدقة: قال الفضل بن زياد: فدخلت على أحمد بن حنبل وقد كنت حضرت مجلس لوين، فقال لي: يا أبا العباس حضرت مجلس هذا الشيخ؟ قلت: نعم، قال: وسمعت منه ما احتج في القرآن؟ قلت: نعم. قال: سبحان الله كأنما كان على وجهي غطاء فكشفته عنه، أما سمعت قوله: إن أول الخلق القلم، وإنما خلق القلم بكلامه، وكان كلامه قبل خلقه. ثم قال لي: تعلم أن واحد الكوفيين واحد -يعني: أن لوينا أصله كوفي-. (2)
- وفيها: عن الحسين بن البزاز قال: قيل لأبي عبد الله: إن لوينا قال: إن أول ما خلق الله القلم، فأول الخلق القلم، وكلام الله قبل خلق القلم، فاستحسنه أبو عبد الله وقال: أبلغ منهم بما حدث. (3)
- وجاء في أصول الاعتقاد: عنه قال: القرآن كلام الله غير مخلوق وما رأيت أحدا يقول القرآن مخلوق أعوذ بالله. (4)
ذو النون المصري الصوفي (245 هـ)
موقفه من المبتدعة:
- قال ذو النون المصري: من علامة حب الله متابعة حبيب الله - صلى الله عليه وسلم - في
_________
(1) النحل الآية (40).
(2) الإبانة (2/ 12/22 - 24/ 216) والشريعة (1/ 224 - 225/ 192).
(3) الإبانة (2/ 12/24 - 25/ 217).
(4) أصول الاعتقاد (2/ 294/460) والسنة لعبد الله (33).
(4/174)
أخلاقه وأفعاله وأوامره وسنته. (1)
- وقال: إنما دخل الفساد على الخلق في ستة أشياء: الأول: ضعف النية بعمل الآخرة، والثاني: صارت أبدانهم مهيئة لشهواتهم، والثالث: غلبهم طول الأمل مع قصر الأجل، والرابع: آثروا رضاء المخلوقين على رضاء الله، والخامس: اتبعوا أهواءهم ونبذوا سنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم -، والسادس: جعلوا زلات السلف حجة لأنفسهم ودفنوا أكثر مناقبهم. (2)
- وقال لرجل أوصاه: ليكن آثر الأشياء عندك وأحبها إليك: إحكام ما افترض الله عليك، واتقاء ما نهاك عنه، فإن ما تعبد الله به خير لك مما تختاره لنفسك من أعمال البر التي لا تجب عليك وأنت ترى أنها أبلغ لك فيما تريد، كالذي يؤدب نفسه بالفقر والتقلل وما أشبه ذلك، وإنما للعبد أن يراعي أبدا ما وجب عليه من فرض يحكمه على تمام حدوده، وينظر إلى ما نهي عنه فيتقيه على إحكام ما ينبغي، فإن الذي قطع العباد عن ربهم، وقطعهم عن أن يذوقوا حلاوة الإيمان، وأن يبلغوا حقائق الصدق، وحجب قلوبهم عن النظر إلى الآخرة: تهاونهم بأحكام ما فرض عليهم في قلوبهم، وأسماعهم، وأبصارهم، وألسنتهم، وأيديهم، وأرجلهم، وبطونهم، وفروجهم، ولو وقفوا على هذه الأشياء وأحكموها، لأدخل عليهم البر إدخالا تعجز أبدانهم وقلوبهم عن حمل ما رزقهم الله من حسن معونته وفوائد كرامته، ولكن أكثر القراء والنساك حقروا محقرات الذنوب، وتهاونوا بالقليل مما هم
_________
(1) الاعتصام (1/ 121).
(2) الاعتصام (1/ 121 - 122).
(4/175)
فيه من العيوب، فحرموا ثواب لذة الصادقين في العاجل. (1)
- وعنه قال: من أعلام البصر بالدين معرفة الأصول لتسلم من البدع والخطأ، والأخذ بالأوثق من الفروع احتياطا لتأمن. (2)
موقفه من الرافضة:
- عن أبي الفيض ذي النون بن إبراهيم قال: ثلاث من أعلام السنة: المسح على الخفين، والمحافظة على صلوات الجمع، وحب السلف رحمهم الله. (3)
أبو تراب النخشبي عسكر بن الحصين الصوفي (245 هـ)
موقفه من الصوفية:
- جاء في السير عنه قال: إذا رأيت الصوفي قد سافر بلا ركوة، فاعلم أنه قد عزم على ترك الصلاة. (4)
_________
(1) الاعتصام (1/ 122).
(2) جامع بيان العلم وفضله (1/ 785).
(3) جامع بيان العلم وفضله (2/ 1179).
(4) السير (11/ 545).
(4/176)
أبو عمر الدوري الضَّرِير (1) (246 هـ)
الإمام العالم الكبير، شيخ المقرئين، أبو عمر حفص بن عمر بن عبد العزيز بن صهبان ويقال: صهيب الأزدي، مولاهم الدوري الضرير، نزيل سامراء. ولد سنة بضع وخمسين ومائة في دولة المنصور. حدث عن أحمد بن حنبل، وإسماعيل بن عياش، وسفيان بن عيينة، وعلي الكسائي المقرئ، ووكيع بن الجراح، وعدة. تلا على إسماعيل بن جعفر، وسليم بن عيسى الحنفي، وشجاع بن أبي نصر الخراساني، وعلي بن حمزة الكسائي، وأبي محمد اليزيدي. روى عنه ابن ماجه، وأبو زرعة عبيد الله الرازي، وأبو حاتم الرازي، وحاجب بن أركين، وآخرون. قال أبو داود: رأيت أحمد بن حنبل يكتب عن أبي عمر الدوري. قال ابن النفاح: حدثنا أبو عمر قال: قرأت على إسماعيل بن جعفر بقراءة أهل المدينة ختمة، وأدركت حياة نافع، ولو كان عندي عشرة دراهم لرحلت إليه. قال أبو علي الأهوازي: رحل أبو عمر في طلب القراءات، وقرأ سائر حروف السبعة، وبالشواذ، وسمع من ذلك الكثير، وصنف القراءات، وهو ثقة، وعاش دهرا، وفي آخر عمره ذهب بصره وكان ذا دين. توفي سنة ست وأربعين ومائتين. زاد بعضهم في شوال.
موقفه من الجهمية:
- جاء في ذم الكلام: قال أحمد بن الوزير القاضي: قلت لأبي عمر
_________
(1) الجرح والتعديل (3/ 183 - 184) وتاريخ بغداد (8/ 203 - 204) وتهذيب الكمال (7/ 34 - 37) وتهذيب التهذيب (2/ 408) وميزان الاعتدال (1/ 566) وتذكرة الحفاظ (1/ 406) وشذرات الذهب (2/ 111) والسير (11/ 541 - 543).
(4/177)
الضرير: الرجل يتعلم شيئا من الكلام يرد به على أهل الجهل. فقال: الكلام كله جهل، وإنك كلما كنت بالجهل أعلم كنت بالعلم أجهل. (1)
- وفي السير: قال أحمد بن فرح: قلت للدوري: ما تقول في القرآن؟ قال: كلام الله غير مخلوق. (2)
أحمد بن إبراهيم الدَّوْرَقِي (3) (246 هـ)
أحمد بن إبراهيم بن كثير الحافظ أبو عبد الله الدورقي نسبة إلى بيع القلانس الدورقية. سمع من: هشيم بن بشير، ويزيد بن زريع، ووكيع. حدث عنه مسلم، وأبو داود، والترمذي. قال أبو حاتم: صدوق. توفي سنة ست وأربعين ومائتين.
موقفه من المبتدعة:
- قال أحمد بن إبراهيم -الدورقي-: من سمعتموه يذكر أحمد بن حنبل بسوء فاتهموه على الإسلام. (4)
_________
(1) ذم الكلام (257).
(2) السير (11/ 542).
(3) السير (12/ 130 - 133) وتهذيب الكمال (1/ 249 - 252) وتاريخ بغداد (4/ 6 - 7) وتهذيب التهذيب ... (1/ 10 - 11).
(4) طبقات الحنابلة (1/ 18).
(4/178)
أحمد بن أبي الحواري الصوفي (246 هـ)
موقفه من المبتدعة:
قال سعيد بن عبد العزيز: سمعت أحمد بن أبي الحواري يقول: من عمل بلا اتباع سنة فعمله باطل. (1)
موقفه من الجهمية:
- عن أبي الدحداح الدمشقي: حدثنا الحسين بن حامد أن كتاب المأمون ورد على إسحاق بن يحيى بن معاذ أمير دمشق: أن أحضر المحدثين بدمشق، فامتحنهم. قال: فأحضر هشام بن عمار، وسليمان بن عبد الرحمن، وابن ذكوان، وابن أبي الحواري، فامتحنهم امتحانا ليس بالشديد، فأجابوا خلا أحمد بن أبي الحواري، فجعل يرفق به، ويقول: أليس السماوات مخلوقة؟ أليس الأرض مخلوقة، وأحمد يأبى أن يطيعه، فسجنه في دار الحجارة، ثم أجاب بعد، فأطلقه. (2)
عبد الله بن البسري (246 هـ)
موقفه من المبتدعة:
عن أحمد بن أبي الحواري قال: قال لي عبد الله بن البسري -وكان من الخاشعين ما رأيت قط أخشع منه-: ليس السنة عندنا أن ترد على أهل
_________
(1) السير (12/ 88) والاعتصام (1/ 127).
(2) السير (12/ 92 - 93).
(4/179)
الأهواء ولكن السنة عندنا أن لا تكلم أحدا منهم. (1)
سفيان بن وكيع (2) (247 هـ)
سفيان بن وكيع بن الجراح بن مليح أبو محمد الحافظ بن الحافظ، محدث الكوفة الرؤاسي الكوفي. روى عن أبيه وعن جرير بن عبد الحميد، وحفص بن غياث، وطبقتهم فأكثر. روى عنه الترمذي، وابن ماجه، ومحمد ابن جرير وخلق. كان من أوعية العلم على لين لحقه. قال أبو حاتم بن حبان: كان سفيان شيخا فاضلا صدوقا. توفي في ربيع الآخر سنة سبع وأربعين ومائتين.
موقفه من الجهمية:
- أخرج عبد الله بن أحمد في السنة بسنده إلى سفيان بن وكيع قال: القرآن كلام الله وليس بمخلوق. (3)
أبو عثمان المازني (4) (247 هـ)
بكر بن محمد بن حبيب أبو عثمان المازني النحوي إمام العربية صاحب
_________
(1) الإبانة (2/ 3/471/ 478).
(2) السير (12/ 152 - 153) وتهذيب الكمال (11/ 200 - 203) وتهذيب التهذيب (4/ 123 - 125) وميزان الاعتدال (2/ 173) والجرح والتعديل (4/ 231 - 232) وطبقات الحنابلة (1/ 170).
(3) السنة لعبد الله (21).
(4) السير (12/ 270 - 272) طبقات النحويين واللغويين (87 - 93) وكشف الظنون (1/ 412) ووفيات الأعيان (1/ 283 - 286) والعبر (1/ 222) وتاريخ بغداد (7/ 93 - 94) وشذرات الذهب (2/ 113 - 114).
(4/180)
التصريف. أخذ عن أبي عبيدة، والأصمعي. روى عنه الحارث بن أبي أسامة، وموسى بن سهل الجوني، والمبرد ولازمه وغيرهم. قال المبرد: لم يكن أحد بعد سيبويه أعلم بالنحو من المازني. قال المازني: قرأت القرآن على يعقوب فلما ختمت رمى إلي بخاتمه وقال: خذه ليس لك مثل. قال القاضي بكار بن قتيبة: ما رأيت نحويا يشبه الفقهاء إلا حبان بن هلال والمازني. توفي سنة سبع وأربعين ومائتين.
موقفه من المشركين:
- ومما رواه المبرد أن بعض أهل الذمة قصده ليقرأ عليه (كتاب) سيبويه وبذل له مائة دينار في تدريسه إياه، فامتنع أبو عثمان من ذلك، قال: فقلت له: جعلت فداك، أترد هذه المنفعة مع فاقتك وشدة إضاقتك؟ فقال: إن هذا الكتاب يشتمل على ثلثمائة وكذا وكذا آية من كتاب الله عز وجل، ولست أرى أن أمكن منها ذميا غيرة على كتاب الله وحمية له.
وفي معجم الأدباء: فلم يمض على ذلك مديدة حتى أرسل الواثق في طلبه، وأخلف الله عليه أضعاف ما تركه لله. (1)
موقفه من الجهمية:
- قال المبرد: كان المازني إذا ناظر أهل الكلام لم يستعن بالنحو، وإذا ناظر النحاة لم يستعن بالكلام. (2)
_________
(1) وفيات الأعيان (1/ 284)، السير (12/ 271)، ومعجم الأدباء (7/ 111).
(2) السير (12/ 271).
(4/181)
أبو كُرَيْب (1) (247 هـ)
أبو كريب محمد بن العلاء بن كريب الحافظ الثقة الإمام شيخ المحدثين. ولد سنة إحدى وستين ومائة. حدث عن أبي بكر بن عياش، وهشيم، ويحيى ابن أبي زائدة، وابن المبارك، وخلق كثير. روى عنه الجماعة الستة وأبو زرعة، وأبو حاتم وعدة. قال محمد بن عبد الله بن نمير: ما بالعراق أكثر حديثا من أبي كريب، ولا أعرف بحديث بلدنا منه. قال إبراهيم بن أبي طالب: قال لي محمد بن يحيى الذهلي: من أحفظ من رأيت بالعراق؟ قلت: لم أر بعد أحمد بن حنبل أحفظ من أبي كريب. وثقه النسائي وغيره وقال أبو حاتم: صدوق. مات في جمادى الآخرة سنة سبع وأربعين ومائتين.
موقفه من الجهمية:
- قال المروذي: وسألت ابن نمير وأبا بكر بن أبي شيبة، وأبا عامر بن نزار الأشعري، وأبا كريب، وسفيان ابن وكيع، ومسروق بن المرزبان، وابن عبدة بن سليمان، وهارون بن إسحاق، وأبا سعيد بن الأشج، وأبا هاشم الرفاعي بالكوفة، وسريج بن يونس، وأبا عثمان سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي، وعبد الواحد النطري، وعباسا النرسي، فقالوا: القرآن كلام الله وليس بمخلوق. (2)
_________
(1) السير (11/ 394 - 398) وتهذيب الكمال (26/ 243 - 248) وتهذيب التهذيب (9/ 385 - 386) وطبقات ابن سعد (6/ 414) وشذرات الذهب (2/ 119).
(2) الإبانة (2/ 12/20 - 21/ 212).
(4/182)
الحسين بن عيسى (1) (247 هـ)
الحسين بن عيسى بن حُمْران الطائي، أبو علي الخُراساني القُومِسي، البسطامي، الدَّامَغَاني، سكن بنيسابور ومات بها. روى عن أحمد بن أبي طيبة الجرجاني، وأبي ضمرة أنس بن عياض الليثي، وجعفر بن عون، وأبي أسامة حماد بن أسامة وغيرهم. روى عنه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وأبو حاتم الرازي وأبو بكر بن خزيمة. وقال الحاكم أبو عبد الله: من كبار المحدثين وثقاتهم من أئمة أصحاب العربية. قال البخاري وابن حبان: مات سنة سبع وأربعين ومائتين.
موقفه من الصوفية:
- جاء في تلبيس إبليس: وأنكر أهل بسطام على أبي يزيد البسطامي ما كان يقول، حتى إنه ذكر للحسين بن عيسى أنه يقول: لي معراج كما كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - معراج، فأخرجوه من بسطام، وأقام بمكة سنتين، ثم رجع إلى جرجان، فأقام بها إلى أن مات الحسين بن عيسى ثم رجع إلى بسطام. (2)
" التعليق:
الله أكبر، إذا خلت البلاد من علماء السلف سلط الله عليها جميع البلايا، فهذا الإمام الحسين بن عيسى طرد هذا اللعين الذي ادعى لنفسه كل بلاء فقال: "سبحاني سبحاني ما أعظم شاني"، حلولي خبيث. ولكن لما مات عالم السلف فتح الباب للضلال على مصراعيه، وهكذا وقع في جميع بلاد
_________
(1) الجرح والتعديل (3/ 60) وتهذيب التهذيب (2/ 363) وتهذيب الكمال (6/ 460 - 462).
(2) التلبيس (207).
(4/183)
المسلمين قديما وحديثا.
أمير المؤمنين جعفر المتوكل (1) (247 هـ)
الخليفة، أبو الفضل، جعفر بن المعتصم بالله محمد بن الرشيد هارون بن المهدي بن المنصور، القرشي العباسي البغدادي. ولد سنة خمس ومائتين وقيل سبع ومائتين، وبويع عند موت أخيه الواثق في ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين. حكى عن أبيه، ويحيى بن أكثم. وكان أسمر جميلا، مليح العينين، نحيف الجسم، خفيف العارضين، ربعة، وأمه اسمها شجاع. قال خليفة بن خياط: استخلف المتوكل، فأظهر السنة، وتكلم بها في مجلسه، وكتب إلى الآفاق برفع المحنة، وبسط السنة، ونصر أهلها. وكان قاضي البصرة إبراهيم بن محمد التيمي يقول: الخلفاء ثلاثة: أبو بكر يوم الردة، وعمر بن عبد العزيز في رد المظالم من بني أمية، والمتوكل في محو البدع وإظهار السنة. وقال يزيد بن محمد المهلبي: قال لي المتوكل: إن الخلفاء كانت تتصعب على الناس ليطيعوهم، وأنا ألين لهم ليحبوني ويطيعوني. قتل ليلة الأربعاء أول الليل لأربع خلت من شوال من سنة سبع وأربعين ومائتين بالمتوكلية وهي الماحوزة. وله من العمر أربعون سنة وكانت مدة خلافته أربع عشرة سنة وعشرة أشهر وثلاثة أيام، رحمه الله.
_________
(1) تاريخ بغداد (7/ 165 - 173) والكامل لابن الأثير (7/ 95) ووفيات الأعيان (1/ 350 - 356) وفوات الوفيات (1/ 290 - 292) والبداية والنهاية (10/ 364 - 367) وشذرات الذهب (2/ 114 - 116) والسير (12/ 30 - 41).
(4/184)
موقفه من المشركين:
- جاء في السير: وفيها -أي سنة إحدى وأربعين ومائتين- خرج ملك البجاة، وسار المصريون لحربه، فحملوا على البجاة، فنفرت جمالهم، وكانوا يقاتلون، ثم تمزقوا وقتل خلق، وجاء ملكهم بأمان إلى المتوكل، وهم يعبدون الأصنام (1).
- وفي تاريخ ابن جرير: وفيها -أي سنة ست وثلاثين ومائتين- أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي، وهدم ما حوله من المنازل والدور، وأن يحرث ويبذر ويسقى موضع قبره، وأن يمنع الناس من إتيانه، فذكر أن عامل صاحب الشرطة نادى في الناحية: من وجدناه عند قبره بعد ثلاثة بعثنا به إلى المطبق، فهرب الناس وامتنعوا من المصير إليه وحرث ذلك الموضع وزرع ما حواليه. (2)
" التعليق:
لكن ما لبث أن تولى بعده ابنه المنتصر بالله أبو جعفر فأحيى القبورية من جديد والله المستعان. جاء في السير: وذكر المسعودي أنه أزال عن الطالبيين ما كانوا فيه من الخوف والمحنة من منعهم من زيارة تربة الحسين الشهيد، ورد فدك إلى آل علي، وفي ذلك يقول البحتري:
وإن عليا لأولى بكم ... وأزكى يدا عندكم من عمر
وكل له فضله والحجو ... ل يوم التراهن دون الغرر
_________
(1) السير (12/ 37).
(2) تاريخ الطبري (5/ 312).
(4/185)
وقال يزيد المهلبي:
ولقد بررت الطالبية بعدما ... دفوا زمانا بعدها وزمانا
ورددت ألفة هاشم فرأيتهم ... بعد العداوة بينهم إخوانا (1)
قال ابن كثير في البداية: وفيها -أي سنة خمس وثلاثين ومائتين- خرج رجل يقال له محمود بن الفرج النيسابوري، وهو ممن كان يتردد إلى خشبة بابك وهو مصلوب فيقعد قريبا منه، وذلك بقرب دار الخلافة بسر من رأى، فادعى أنه نبي، وأنه ذو القرنين وقد اتبعه على هذه الضلالة ووافقه على هذه الجهالة جماعة قليلون، وهم تسعة وعشرون رجلا، وقد نظم لهم كلاما في مصحف له قبحه الله، زعم أن جبريل جاءه به من الله، فأخذ فرفع أمره إلى المتوكل فأمر فضرب بين يديه بالسياط، فاعترف بما نسب إليه وما هو معول عليه، وأظهر التوبة من ذلك والرجوع عنه، فأمر الخليفة كل واحد من أتباعه التسعة والعشرين أن يصفعه فصفعوه عشر صفعات، فعليه وعليهم لعنة رب الأرض والسماوات. ثم اتفق موته في يوم الأربعاء لثلاث خلون من ذي الحجة من هذه السنة. (2)
موقفه من الرافضة:
- جاء في تاريخ بغداد: عن علي بن أبي طالب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ بيد حسن وحسين فقال: من أحبني وأحب هذين وأباهما وأمهما كان معي
_________
(1) السير (12/ 43 - 44).
(2) البداية والنهاية (10/ 327).
(4/186)
في درجتي يوم القيامة (1). قال أبو عبد الرحمن عبد الله: لما حدث بهذا الحديث نصر بن علي، أمر المتوكل بضربه ألف سوط، فكلمه جعفر بن عبد الواحد، وجعل يقول له: هذا الرجل من أهل السنة، ولم يزل به حتى تركه. وكان له أرزاق، فوفرها عليه موسى.
قال أبو بكر الخطيب عقبه: إنما أمر المتوكل بضربه، لأنه ظنه رافضيا فلما علم أنه من أهل السنة تركه. (2)
- وفي البداية والنهاية: وفيها -أي سنة إحدى وأربعين ومائتين- أمر الخليفة المتوكل على الله بضرب رجل من أعيان أهل بغداد، يقال له: عيسى ابن جعفر بن محمد بن عاصم، فضرب ضربا شديدا مبرحا، يقال: أنه ضرب ألف سوط حتى مات، وذلك أنه شهد عليه سبعة عشر رجلا عند قاضي الشرقية: أبى حسان الزيادي، أنه يشتم أبا بكر وعمر وعائشة وحفصة رضي الله عنهم، فرفع أمره إلى الخليفة، فجاء كتاب الخليفة إلى محمد بن عبد الله بن طاهر بن الحسين نائب بغداد، يأمره أن يضربه بين الناس حد السب، ثم يضرب بالسياط حتى يموت ويلقى في دجلة، ولا يصلى عليه ليرتدع بذلك أهل الإلحاد والمعاندة، ففعل معه ذلك قبحه الله ولعنه، ومثل هذا يكفر ان كان قد قذف عائشة بالإجماع، وفي من قذف سواها من أمهات المؤمنين قولان، والصحيح أن يكفر أيضا، لأنهن أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي
_________
(1) أحمد (1/ 77)، الترمذي (5/ 599 - 600/ 3727) وقال: "هذا حديث حسن غريب لا نعرفه من حديث جعفر بن محمد إلا من هذا الوجه". والحديث ضعفه الشيخ الألباني في ضعيف الترمذي.
(2) تاريخ بغداد (13/ 287 - 288) والسير (12/ 135).
(4/187)
عنهن. (1)
" التعليق:
رحمك الله يا خليفة المسلمين، لقد عرفت خبث الروافض وما انطووا عليه من الشر والكفر، وعلمت أن هؤلاء المجوس لم يكن قصدهم كما يدعون حب آل البيت، ولكنه هدم الإسلام بكامله، وإقامة الحكومة الفرسية المجوسية مكانه.
موقفه من الجهمية:
مر معنا في هذا البحث المبارك ما لقيه علماء السلف من المأمون والمعتصم والواثق من المحن التي نرجو الله أن تغفر بها ذنوبهم وترفع بها درجاتهم، وكما قال الله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} (2) وبعد الشدة يأتي الفرج سنة الله في ذلك، هذا وقد ادخر الله هذه الحسنة لجعفر المتوكل، فرفع المحنة، وأطلق من كان مسجونا بالظلم، وجزى الظلمة بما يستحقون.
- جاء في سير أعلام النبلاء: وفي سنة أربع وثلاثين ومائتين أظهر المتوكل السنة، وزجر عن القول بخلق القرآن وكتب بذلك إلى الأمصار، واستقدم المحدثين إلى سامراء وأجزل صِلاتِهم، ورووا أحاديث الرؤية
_________
(1) البداية والنهاية (10/ 338).
(2) الشرح الآيتان (5و6).
(4/188)
والصفات. (1)
- ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: وكان في أيام المتوكل قد عز الإسلام، حتى ألزم أهل الذمة بالشروط العمرية وألزموا الصغار، فعزت السنة والجماعة، وقمعت الجهمية والرافضة ونحوهم. وكذلك في أيام المعتضد، والمهدي والقادر وغيرهم من الخلفاء الذين كانوا أحمد سيرة، وأحسن طريقة من غيرهم، وكان الإسلام في زمنهم أعز، وكانت السنة بحسب ذلك. (2)
- وقال أيضا: ثم إن الله تعالى كشف الغمة عن الأمة، في ولاية المتوكل على الله، الذي جعل الله عامة خلفاء بني العباس من ذريته دون ذرية الذين أقاموا المحنة لأهل السنة. فأمر المتوكل برفع المحنة وإظهار الكتاب والسنة، وأن يُروى ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة والتابعين، من الإثبات النافي للتعطيل. (3)
- وفي السير: وغضب المتوكل على أحمد بن أبي دؤاد، وصادره، وسجن أصحابه، وحمل ستة عشر ألف ألف درهم وافتقر هو وآله. وولى يحيى بن أكثم القضاء، وأطلق من تبقى في الاعتقال ممن امتنع من القول بخلق القرآن، وأنزلت عظام أحمد بن نصر الشهيد ودفنها أقاربه. (4)
- وفيها: قال إبراهيم نفطويه: في سنة أربع وثلاثين ومئتين أشخص
_________
(1) السير (12/ 34).
(2) الفتاوى (4/ 21 - 22).
(3) مجموع الفتاوى (11/ 479).
(4) السير (12/ 36) والبداية (10/ 329).
(4/189)
المتوكل الفقهاء والمحدثين، فكان فيهم مصعب بن عبد الله الزبيري، وإسحاق ابن أبي إسرائيل، وإبراهيم بن عبد الله الهروي، وأبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة، وكانا من الحفاظ، فقسمت بينهم الجوائز، وأمرهم المتوكل أن يحدثوا بالأحاديث التي فيها الرد على المعتزلة والجهمية، قال: فجلس عثمان في مدينة المنصور، واجتمع عليه نحو من ثلاثين ألفا، وجلس أبو بكر في مسجد الرصافة، وكان أشد تقدما من أخيه، اجتمع عليه نحو من ثلاثين ألفا. (1)
- وفيها: وأخذ القاضي الأصم، وحلقت لحيته، وضرب بالسياط، وطيف به على حمار. وكان جهميا ظلوما. (2)
- قال ابن كثير في البداية: وفي عيد الفطر منها -سنة سبع وثلاثين ومائتين- أمر المتوكل بإنزال جثة أحمد بن نصر الخزاعي والجمع بين رأسه وجسده وأن يسلم إلى أوليائه، ففرح الناس بذلك فرحا شديدا، واجتمع في جنازته خلق كثير جدا، وجعلوا يتمسحون بها وبأعواد نعشه، وكان يوما مشهودا. ثم أتوا إلى الجذع الذي صلب عليه فجعلوا يتمسحون به، وأرهج العامة بذلك فرحا وسرورا، فكتب المتوكل إلى نائبه يأمره بردعهم عن تعاطي مثل هذا وعن المغالاة في البشر، ثم كتب المتوكل إلى الآفاق بالمنع من الكلام في مسألة الكلام والكف عن القول بخلق القرآن، وأن من تعلم علم الكلام لو تكلم فيه فالمطبق مأواه إلى أن يموت. وأمر الناس أن لا يشتغل أحد إلا بالكتاب والسنة لا غير، ثم أظهر إكرام الإمام أحمد بن حنبل واستدعاه
_________
(1) السير (11/ 125).
(2) السير (11/ 163).
(4/190)
من بغداد إليه، فاجتمع به فأكرمه وأمر له بجائزة سنية فلم يقبلها، وخلع عليه خلعة سنية من ملابسه فاستحيا منه أحمد كثيرا فلبسها إلى الموضع الذي كان نازلا فيه ثم نزعها نزعا عنيفا وهو يبكي رحمه الله تعالى. وجعل المتوكل في كل يوم يرسل إليه من طعامه الخاص ويظن أنه يأكل منه، وكان أحمد لا يأكل لهم طعاما بل كان صائما مواصلا طاويا تلك الأيام، لأنه لم يتيسر له شيء يرضى أكله، ولكن كان ابنه صالح وعبد الله يقبلان تلك الجوائز وهو لا يشعر بشيء من ذلك، ولولا أنهم أسرعوا الأوبة إلى بغداد لخشي على أحمد أن يموت جوعا، وارتفعت السنة جدا في أيام المتوكل عفا الله عنه، وكان لا يولي أحدا إلا بعد مشورة الإمام أحمد، وكان ولاية يحيى بن أكثم قضاء القضاة موضع ابن أبي دؤاد عن مشورته، وقد كان يحيى بن أكثم هذا من أئمة السنة، وعلماء الناس، ومن المعظمين للفقه والحديث واتباع الأثر. (1)
أحمد بن صالح (2) (248 هـ)
أحمد بن صالح الإمام الكبير، حافظ زمانه بالديار المصرية أبو جعفر المصري المعروف بابن الطبري، ولد بمصر سنة سبعين ومائة. روى عن ابن وهب وسفيان ابن عيينة وعبد الرزاق وأبي نعيم وعفان وخلق سواهم. روى عنه البخاري، وأبو داود، وأبو زرعة الرازي، والدمشقي، والدارمي،
_________
(1) البداية (10/ 329 - 330).
(2) السير (12/ 160 - 177) وتهذيب الكمال (1/ 340 - 354) وتهذيب التهذيب (1/ 39 - 42) وتاريخ بغداد (4/ 195 - 202) وتذكرة الحفاظ (2/ 495 - 496) والوافي بالوفيات (6/ 424) وشذرات الذهب (2/ 117).
(4/191)
وغيرهم. قال أبو زرعة الدمشقي: قدمت العراق فسألني أحمد بن حنبل من خلفت بمصر؟ قلت: أحمد بن صالح فسر بذكره وذكر خيرا ودعا الله له. قال صالح جزرة: لم يكن بمصر من يحسن الحديث غيره وكان جامعا يعرف الفقه والحديث والنحو يدري ذلك. وقال محمد بن عبد الله بن نمير: إذا جاوزت الفرات فليس أحد مثل أحمد بن صالح. قال العجلي فيه: ثقة صاحب سنة. قال البخاري: ما رأيت أحدا يتكلم فيه بحجة. وقال حافظ بن وارة: الإمام أحمد ببغداد، والنفيلي بحران، وابن نمير بالكوفة، وأحمد بن صالح بمصر هؤلاء أركان الدين. توفي في ذي القعدة سنة ثمان وأربعين ومائتين.
موقفه من المبتدعة:
- قال صالح بن محمد جزرة الحافظ: حضرت مجلس أحمد بن صالح، فقال: حرج على كل مبتدع وماجن أن يحضر مجلسي. (1)
موقفه من الجهمية:
- قال أبو داود: سألت أحمد بن صالح عن من قال: القرآن مخلوق، فقال: كافر. (2)
- وقال أبو داود أيضا: سألت أحمد بن صالح المصري عن من يقول القرآن كلام الله ولا يقول مخلوق ولا غير مخلوق. قال: هذا شاك والشاك كافر. (3)
_________
(1) السير (12/ 173).
(2) الإبانة (2/ 12/60/ 265).
(3) السنة للخلال (5/ 141) والإبانة (1/ 12/300/ 80) والشريعة (1/ 233/205).
(4/192)
قال الذهبي معلقا: ومن سكت تورعا لا ينسب إليه قول، ومن سكت شاكا مزريا على السلف فهذا مبتدع. (1)
- عن أبي داود قال: سمعت أحمد بن صالح ذكر اللفظية، فقال: هؤلاء أصحاب بدعة ويكثر عليهم أكثر من البدعة. (2)
- وقال محمد بن موسى المصري: سألت أحمد بن صالح، فقلت: إن قوما يقولون: إن لفظنا بالقرآن غير الملفوظ، فقال: لفظنا بالقرآن هو الملفوظ، والحكاية هي المحكي، وهو كلام الله غير مخلوق، من قال: لفظي به مخلوق فهو كافر.
" التعليق:
قال الذهبي: إن قال: لفظي، وعنى به القرآن، فنعم، وإن قال لفظي، وقصد به تلفظي وصوتي وفعلي أنه مخلوق، فهذا مصيب، فالله تعالى خالقنا، وخالق أفعالنا وأدواتنا. ولكن الكف عن هذا هو السنة، ويكفي المرء أن يؤمن بأن القرآن العظيم كلام الله ووحيه وتنزيله على قلب نبيه، وأنه غير مخلوق، ومعلوم عند كل ذي ذهن سليم أن الجماعة إذا قرؤوا السورة، أنهم جميعهم قرؤوا شيئا واحدا، وأن أصواتهم وقراءاتهم، وحناجرهم أشياء مختلفة، فالمقروء كلام ربهم، وقراءتهم وتلفظهم ونغماتهم متابينة، ومن لم يتصور الفرق بين التلفظ وبين الملفوظ، فدعه وأعرض عنه. (3)
_________
(1) السير (12/ 177).
(2) الإبانة (1/ 12/332/ 134).
(3) السير (12/ 177).
(4/193)
هارون بن موسى بن حيان القزويني (1) (248 هـ)
هارون بن موسى بن حيان التميمي أبو موسى القزويني وقد ينسب إلى جده. روى عن إبراهيم بن موسى الفراء والحسن بن يوسف وعبد الرحمن بن عبد الله بن سعد الدشتكي وجماعة. روى عنه ابن ماجه وسعيد بن عمرو البرذعي وابنه موسى وأبو حاتم وأبو زرعة الرازيان وغيرهم.
قال عنه الحافظ أبو يعلى الخليل: مشهور بالديانة والعلم والإمامة، مات سنة ثمان وأربعين ومائتين.
موقفه من الجهمية:
- قال أحمد بن أبي عوف: وسمعت هارون القزويني يقول: لم أسمع أحدا من أهل العلم بالمدينة، وأهل السنن، إلا وهم ينكرون على من قال: القرآن مخلوق، ويكفرونه.
قال هارون: وأنا أقول بهذه السنة.
وقال لنا أحمد بن أبي عوف: وأنا أقول بمثل ما قال هارون.
- قال ابن أبي عوف، وسمعت هارون يقول: من وقف على القرآن بالشك، ولم يقل غير مخلوق، فهو كمن قال: هو مخلوق. (2)
_________
(1) تهذيب الكمال (30/ 112 - 113) وتاريخ بغداد (14/ 32) وتهذيب التهذيب (11/ 13) وتاريخ الإسلام (حوادث 241 - 250/ص.517) والجرح والتعديل (9/ 88).
(2) الشريعة (1/ 219/175).
(4/194)
الحسين الكرابيسي أبو علي (248 هـ)
بيان جهميته:
- جاء في السير: وكان من بحور العلم -ذكيا فطنا فصيحا لسنا. تصانيفه في الفروع والأصول تدل على تبحره، إلا أنه وقع بينه وبين الإمام أحمد، فهجر لذلك، وهو أول من فتق اللفظ، ولما بلغ يحيى بن معين، أنه يتكلم في أحمد قال: ما أحوجه إلى أن يضرب، وشتمه. قال حسين في القرآن: لفظي به مخلوق، فبلغ قوله أحمد فأنكره، وقال: هذه بدعة، فأوضح حسين المسألة، وقال: تلفظك بالقرآن يعني: غير الملفوظ. وقال في أحمد: أي شيء نعمل بهذا الصبي؟ إن قلنا: مخلوق: قال: بدعة، وإن قلنا: غير مخلوق. قال: بدعة. فغضب لأحمد أصحابه، ونالوا من حسين. (1)
- وفيها: قال ابن عدي: سمعت محمد بن عبد الله الصيرفي الشافعي، يقول لتلامذته: اعتبروا بالكرابيسي، وبأبي ثور، فالحسين في علمه وحفظه لا يعشره أبو ثور، فتكلم فيه أحمد بن حنبل في باب مسألة اللفظ، فسقط، وأثنى على أبي ثور، فارتفع للزومه للسنة.
" التعليق:
قال الذهبي: ولا ريب أن ما ابتدعه الكرابيسي، وحرره في مسألة التلفظ، وأنه مخلوق هو حق، لكن أباه الإمام أحمد لئلا يتذرع به إلى القول بخلق القرآن، فسد الباب، لأنك لا تقدر أن تفرز التلفظ من الملفوظ الذي
_________
(1) السير (12/ 80 - 81).
(4/195)
هو كلام الله إلا في ذهنك. (1)
الحسن بن الصباح بن محمد (2) (249 هـ)
الحسن بن الصباح بن محمد الإمام الحافظ الحجة أبو علي البغدادي المعروف بابن البزار. حدث عن سفيان بن عيينة، وأبي معاوية، ووكيع. روى عنه البخاري، وأبو داود، والترمذي. قال عنه أبو حاتم: صدوق، كانت له جلالة ببغداد. وكان أحمد بن حنبل يرفع من قدره ويجله، ويقول: ما يأتي على ابن البزار يوم إلا وهو يعمل فيه خيرا، ولقد كنا نختلف إلى فلان، فكنا نقعد نتذاكر إلى خروج الشيخ، وابن البزار قائم يصلي. وقال عنه أيضا: ثقة صاحب سنة. وقال ابن السراج: كان من خيار الناس ببغداد. توفي سنة تسع وأربعين ومائتين.
موقفه من المبتدعة:
- قال أبو العباس السراج: سمعت الحسن بن الصباح يقول: أدخلت على المأمون ثلاث مرات: رفع إليه أول مرة أنه يأمر بالمعروف - قال: وكان نهى أن يأمر أحد بمعروف فأخذت، فأدخلت عليه، فقال لي: أنت الحسن البزار؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، قال: وتأمر بالمعروف؟ قلت: لا ولكني أنهى عن المنكر، قال: فرفعني على ظهر رجل، وضربني خمس درر وخلى سبيلي. وأدخلت المرة الثانية عليه، رفع إليه أني أشتم عليا رضي الله عنه،
_________
(1) السير (12/ 82).
(2) السير (12/ 192) وتهذيب الكمال (6/ 191) وتاريخ بغداد (7/ 330) وتهذيب التهذيب (2/ 289).
(4/196)
فأدخلت، فقال: تشتم عليا؟ فقلت: صلى الله على مولاي وسيدي علي، يا أمير المؤمنين، أنا لا أشتم يزيد لأنه ابن عمك، فكيف أشتم مولاي وسيدي؟ قال: خلوا سبيله. وذهبت مرة إلى أرض الروم إلى البذندون في المحنة، فدفعت إلى أشناس. قال: فلما مات خلي سبيلي. (1)
عبد بن حُمَيْد (2) (249 هـ)
هو الإمام الحافظ الحجة الجوال، أبو محمد عبد بن حميد بن نصر الكِسِّي، ويقال له: الكَشِّى، يقال اسمه عبد الحميد. ولد بعد السبعين ومائة. وحدث عن علي بن عاصم الواسطي، ويزيد بن هارون وعبد الرزاق، وزيد ابن الحباب وخلق كثير. حدث عنه مسلم والترمذي، والبخاري تعليقا في دلائل النبوة، وشريح بن أبي عبد الله النسفي الزاهد، وغيرهم كثير. قال أبو حاتم البستي في كتاب 'الثقات': عبد الحميد بن حميد بن نصر الكشي، وهو الذي يقال له: عبد بن حميد، وكان ممن جمع وصنف، مات سنة تسع وأربعين ومائتين. وقال السمعاني: إمام جليل القدر ممن جمع وصنف، وكان إليه الرحلة في أقطار الأرض. وقال ياقوت: صاحب المسند وأحد أئمة الحديث. قال ابن ناصر الدين: كان من الأئمة الثقات، له التفسير والمسند وغيرهما.
_________
(1) السير (12/ 193).
(2) تهذيب الكمال (18/ 524 - 527) وتهذيب التهذيب (6/ 455 - 457) وشذرات الذهب (2/ 120) والسير (12/ 235 - 239) والبداية والنهاية (11/ 5).
(4/197)
موقفه من الجهمية:
- آثاره السلفية: التفسير: ذكره شيخ الإسلام وهو من التفاسير التي اعتنت بنقل مذهب السلف وعقيدتهم، ذكر ذلك في درء التعارض وغيره. (1)
علي بن الجهم (2) (249 هـ)
علي بن الجهم بن بدر أبو الحسن السامي الخراساني الأصل البغدادي الشاعر المشهور صاحب الديوان المعروف. قيل كان يرجع إلى دين وخير وبراعة في ضروب الشعر وله اختصاص زائد بالمتوكل. وكان جيد الشعر عالما بفنونه وكان متدينا فاضلا مطبوعا مقتدرا على الشعر عذب الألفاظ. رماه المسعودي بالنصب والانحراف عن علي رضي الله عنه، وما أوردنا له من الأبيات يوهي دعوة المسعودي، وأنها ليست بشيء.
غضب عليه المتوكل فنفاه إلى خراسان وأمر نائبه بها أن يضربه مجردا ففعل به ذلك، ثم قدم الشام فلما عاد قاصدا العراق حين جاوز حلب ثار عليه أناس من بني كلب فقاتلهم فجرح جرحا بليغا فكان فيه حتفه، و ... ذلك سنة تسع وأربعين ومائتين.
موقفه من الرافضة:
- جاء في أصول الاعتقاد: عن إبراهيم بن صالح الشيرازي قال: نزل
_________
(1) درء التعارض (2/ 22).
(2) تاريخ الإسلام (وفيات 241 - 250 ص 355 - 357) وتاريخ بغداد (11/ 367 - 369) وفيات الأعيان (3/ 355 - 358) وطبقات الحنابلة (1/ 223) والبداية والنهاية (11/ 5 - 6).
(4/198)
علي بن الجهم بشيراز فقال لي: أخصك بحديث؟ فقلت: افعل قال: قال لي المتوكل: يا علي هذا الحديث الذي يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: العشرة من قريش في الجنة أي حديث هو؟ قلت يا أمير المؤمنين أصح حديث، قال: فمن رواه؟ قلت: رواه سفيان الثوري عن منصور عن هلال بن يساف عن عبد الله بن ظالم عن سعيد بن زيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عشرة في الجنة (1): فقال: ما أحسنه قلت يا أمير المؤمنين وقد حضرني شيء فأقوله: قال: قل: فقلت:
محمد خير بني النضر ... حكاه بالعدل أبو بكر
صديق خير الخلق لا وانيا ... في نصره في العسر واليسر
وثالث القوم الذي بعدهم ... يخلفهم في البر والبحر
ذاك أبو حفص مثله ... يكون حتى آخر الدهر
سبحان من أكرمهم بالتقى ... وصير الأبرار في قبر
هذا هو الفخر ولا غيره ... ما بعد ذلك الرمس من فخر
ورابع القوم إمام الهدى ... عثمان ذو النورين أبو عمر
كفى رسول الله ما همه ... وجيش الجيش لدى العسر
يخمسهم ابن أبي طالب ... إمام عدل ظاهر النصر
صاحب صفين وما قبلها ... إلى حنين والى بدر
وطلحة الخير لهم سادس ... أنقذه الله من الكفر
وسابع القوم الزبير الذي ... كان حليف الشفع والوتر
_________
(1) أحمد (1/ 187) وأبو داود (5/ 39/4649) والترمذي (5/ 609/3757) وقال: "حديث حسن صحيح"، والنسائي في الكبرى (5/ 55/8190) وابن ماجه (1/ 48/133) من طرق عن سعيد بن زيد رضي الله عنه.
(4/199)
هذا وسعد لهم ثامن ... مع ابن عوف طيب النثر
وحمزة السيد في قومه ... على وجوه القوم كالبدر
وسيد الخلق فلا تمتري ... أبو الملوك السادة الزهر
فالملك فيهم أبدا ثابت ... من أول الدهر إلى الحشر
قال: فضحك وأخرج ذلك اليوم مالا عظيما يعني فقسمه على بني هاشم وقريش والأنصار وأبناء المهاجرين وأعطاني منه صدرا صالحا. (1)
عبد الوهاب بن عبد الحكم الورَّاق (2) (250 هـ)
ابن نافع الإمام القدوة الرباني الحجة، أبو الحسن البغدادي الوراق صاحب أحمد بن حنبل وخاصته، ويقال: ابن الحكم أيضا، وهو نسائي الأصل. سمع أبا ضمرة الليثي، ويحيى بن سليم الطائفي، ومعاذ بن معاذ وطبقتهم. وروى عنه أبو داود، والترمذي، والنسائي، والبغوي، وابن صاعد، والمحاملي وعدة. قال المروذي: سمعت أحمد بن حنبل يقول: عبد الوهاب الوراق رجل صالح مثله يوفق لإصابة الحق. قال ابنه الحسن: ما رأيت أبي مازحا قط، ولا ضاحكا إلا تبسما. كان كبير الشأن من خواص الإمام أحمد. قال أبو بكر الخطيب: كان ثقة صالحا ورعا زاهدا. قال أبو بكر
_________
(1) أصول الاعتقاد (8/ 1496 - 1498/ 2720).
(2) تاريخ بغداد (11/ 25 - 28) والجرح والتعديل (6/ 74) وتذكرة الحفاظ (2/ 526 - 527) وتهذيب التهذيب (6/ 448) وتهذيب الكمال (18/ 497 - 501) وطبقات الحنابلة (1/ 209 - 212) والسير (12/ 323 - 324) وطبقات الحفاظ (229/ 230) والثقات لأبي حاتم البستي (8/ 411).
(4/200)
بن محمد بن عبد الخالق: مات سنة خمسين ومائتين، سنة الفتنة وصلي عليه خارج الباب بعدما صلى عليه أبو أحمد الموفق ودفن بباب البردان.
وقال عمر ابن أحمد بن شاهين: وجدت في كتاب جدي توفي عبد الوهاب الوراق في ذي القعدة سنة إحدى وخمسين ومائتين.
موقفه من المبتدعة:
- قال أبو الحسن الوراق: لا يصل العبد إلى الله إلا بالله، وبموافقة حبيبه - صلى الله عليه وسلم - في شرائعه، ومن جعل الطريق إلى الوصول في غير الاقتداء، يضل من حيث إنه مهتد.
وقال: الصدق: استقامة الطريق في الدين، واتباع السنة في الشرع.
وقال: علامة محبة الله متابعة حبيبه - صلى الله عليه وسلم -. (1)
موقفه من الجهمية:
- جاء في الإبانة: قال أبو بكر بن صالح: سئل عبد الوهاب -يعني الوراق- عن رجل حلف بالطلاق أن لا يكلم كافرا، فكلم رجلا يقول: القرآن مخلوق، فقال: حنث. وقال: إذا حلف بالقرآن فحنث، فعليه بكل آية يمين، ففي هذا حجة قوية على الجهمية. (2)
- وجاء في السنة عنه قال: القرآن كلام الله وليس بمخلوق. (3)
- قال عبد الله بن أحمد: وسمعت عبد الوهاب يقول: الجهمية كفار
_________
(1) الاعتصام (1/ 124).
(2) الإبانة (2/ 12/62/ 270).
(3) السنة لعبد الله (21).
(4/201)
زنادقة مشركون. (1)
- قال محمد بن داود: فسمعت عبد الوهاب الوراق ذكر يعقوب بن شيبة وابن الثلاج، فقال: جهمية زنادقة. (2)
- قال أبو داود السجستاني: سألت عبد الوهاب الوراق عن الشكاك، فقال: الشكاك مرتابون. (3)
- قال أبو جعفر محمد بن داود: وسمعت عبد الوهاب -يعني: ابن الحكم الوراق- يقول: الواقفة واللفظية والله جهمية، حلف عليها غير مرة. (4)
- وقال: ومن زعم أن الله هاهنا فهو جهمي خبيث، إن الله فوق العرش، وعلمه محيط بالدنيا والآخرة، صح ذلك عنه. (5)
الحارث بن مسكين (6) (250 هـ)
الحافظ الفقيه، عالم الديار المصرية وقاضيها، أبو عمر الحارث بن مسكين بن محمد بن يوسف الأموي، مولى زبان بن عبد العزيز بن مروان الأموي. ولد سنة أربع وخمسين ومائة. رأى الليث بن سعد وسأله، وتفقه
_________
(1) الإبانة (2/ 13/83/ 316).
(2) الإبانة (2/ 13/112/ 368).
(3) الإبانة (1/ 12/306/ 95).
(4) الإبانة (1/ 12/345/ 153).
(5) اجتماع الجيوش الإسلامية (212) ونحوه في تذكرة الحفاظ (2/ 527).
(6) تاريخ بغداد (8/ 216 - 218) وتهذيب الكمال (5/ 281 - 285) وسير أعلام النبلاء (12/ 54 - 58) وتاريخ الإسلام (حوادث 241 - 250/ص.210 - 215) والوافي بالوفيات (11/ 257) وتهذيب التهذيب (2/ 156 - 158) وشذرات الذهب (2/ 121).
(4/202)
بابن وهب وابن القاسم وروى عنهما، وعن ابن عيينة وأشهب وبشر الزهراني وعدة. وروى عنه أبو داود والنسائي وابنه أحمد بن الحارث وعبد الله ابن أحمد بن حنبل وأبو بكر بن أبي داود وأبو يعلى الموصلي. كان ثقة ثبتا في الحديث، فقيها على مذهب الإمام مالك. امتحن في فتنة خلق القرآن فلم يجب، فسجنه المأمون في بغداد، فما أطلق سراحه حتى ولي المتوكل، فكتب إليه بعهده على قضاء مصر من سنة سبع وثلاثين ومائتين إلى أن استعفي.
قال ابن نصر: عرفت الحارث أيام ابن وهب على طريقة زهادة وورع وصدق حتى مات. وسئل عنه الإمام أحمد، فقال فيه قولا جميلا، وقال: ما بلغني عنه إلا خير. قال الذهبي رحمه الله: كان مع تبحره في العلم، قوالا بالحق، عديم النظير. توفي رحمه الله ليلة الأحد لثلاث بقين من شهر ربيع الأول سنة خمسين ومائتين.
موقفه من الرافضة:
جاء في السير: قال ابن قديد: أتاه -يعني الحارث- في سنة سبع وثلاثين كتاب توليه القضاء وهو بالأسكندرية، فامتنع فلم يزل به إخوانه حتى قبل، فقدم مصر وجلس للحكم، وضرب الحد في سب عائشة أم المؤمنين. (1)
موقفه من الجهمية:
جاء في تاريخ بغداد: قال الخطيب رحمه الله: وكان فقيها على مذهب
_________
(1) السير (12/ 57).
(4/203)
مالك بن أنس، وكان ثقة في الحديث، ثبتا. حمله المأمون إلى بغداد في أيام المحنة، وسجنه لأنه لم يجب إلى القول بخلق القرآن، فلم يزل ببغداد محبوسا إلى أن ولي جعفر المتوكل، فأطلقه وأطلق جميع من كان في السجن. (1)
البَزِّي (2) (250 هـ)
أحمد بن محمد بن عبد الله بن القاسم بن أبي بَزَّة أبو الحسن مقرئ مكة ومؤذنها. ولد سنة سبعين ومائة. وتلا على عكرمة بن سليمان وأبي الإخريط وابن زياد عن تلاوتهم على إسماعيل القسط صاحب ابن كثير. سمع من ابن عيينة ومالك بن سعير والمقرئ وطائفة. وعنه البخاري في التاريخ ومضر الأسدي وغيرهما. وتلا عليه خلق منهم: أبو ربيعة محمد بن إسحاق وإسحاق الخزاعي وابن الحباب وآخرون. وهو من القراء المشهورين. قال فيه ابن الجزري: أستاذ محقق ضابط متقن. توفي سنة خمسين ومائتين وكان دينا عالما صاحب سنة.
موقفه من الجهمية:
قال ابن أبي بزة: من قال: القرآن مخلوق، أو وقف، ومن قال: لفظي بالقرآن مخلوق، أو شيء من هذا، فهو على غير دين الله تعالى، ودين رسوله
_________
(1) تاريخ بغداد (8/ 216) وتذكرة الحفاظ (2/ 514).
(2) السير (12/ 50 - 51) وميزان الاعتدال (1/ 144 - 145) وغاية النهاية في طبقات القراء (1/ 119 - 120) والبداية والنهاية (11/ 8) وشذرات الذهب (2/ 120 - 121).
(4/204)
حتى يتوب. (1)
أحمد بن عمرو (2) (250 هـ)
أحمد بن عمرو بن عبد الله بن عمرو بن السَّرح الأُموي أبو طاهر المصري الفقيه. روى عن إبراهيم بن أبي المليح، وخالد بن نزار وسفيان بن عيينة، ووكيع بن الجراح وغيرهم. وعنه مسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وغيرهم. وكان ثقة ثبتا صالحا. قال أبو سعيد بن يونس: وكان فقيها من الصالحين الأثبات. توفي يوم الاثنين لأربع عشرة خلت من ذي القعدة سنة خمسين ومائتين وصلى عليه بكار بن قتيبة.
موقفه من القدرية:
جاء في الإبانة: قال ابن السرح: الكلام في القدر أبو جاد الزندقة. (3)
الرواجني الرافضي المبتدع عباد بن يعقوب أبو سعيد الأسدي (250 هـ)
بيان رفضه:
- جاء في السير: روى علي بن محمد الحبيبي، عن صالح جزرة، قال:
_________
(1) الشريعة (1/ 234).
(2) تهذيب الكمال (1/ 415 - 417) وتهذيب التهذيب (1/ 64) والبداية والنهاية (11/ 8) وشذرات الذهب (2/ 120) والجرح والتعديل (2/ 65) والسير (12/ 62 - 63).
(3) الإبانة (2/ 10/221/ 1797).
(4/205)
كان عباد يشتم عثمان، رضي الله عنه، وسمعته، يقول: الله أعدل من أن يدخل طلحة والزبير الجنة، قاتلا عليا بعد أن بايعاه. وقال ابن جرير: سمعته يقول: من لم يبرأ في صلاته كل يوم من أعداء آل محمد، حشر معهم.
قلت -أي الذهبي-: هذا الكلام مبدأ الرفض، بل نكف، ونستغفر للأمة، فإن آل محمد في إيَّاهم قد عادى بعضهم بعضا واقتتلوا على الملك وتمت عظائم، فمن أيهم نبرأ؟. (1)
- وفيها: قال محمد بن المظفر الحافظ، حدثنا القاسم المطرِّز، قال: دخلت على عباد بالكوفة، وكان يمتحن الطلبة، فقال: من حفر البحر؟ قلت: الله. قال: هو كذاك، ولكن من حفره؟ قلت: يذكر الشيخ، قال: حفره علي، فمن أجراه؟ قلت: الله. قال: هو كذاك. ولكن من أجراه؟ قلت: يفيدني الشيخ، قال: أجراه الحسين، وكان ضريرا، فرأيت سيفا وحجفة. فقلت: لمن هذا؟ قال: أعددته لأقاتل به مع المهدي. فلما فرغت من سماع ما أردت، دخلت عليه، فقال: من حفر البحر؟ قلت: حفره معاوية، رضي الله عنه، وأجراه عمرو بن العاص، ثم وثبت وعدوت فجعل يصيح: أدركوا الفاسق عدو الله، فاقتلوه. قال الذهبي رحمه الله: إسنادها صحيح. وما أدري كيف تسمحوا في الأخذ عمن هذا حاله؟ وإنما وثقوا بصدقه. (2)
_________
(1) السير (11/ 537 - 538).
(2) السير (11/ 538) والكفاية (131 - 132).
(4/206)
محمد بن سهل بن عسكر (1) (251 هـ)
محمد بن سهل بن عسكر بن عمارة بن دويد، ويقال ابن عسكر بن مستور التميمي، مولاهم أبو بكر البخاري، سكن بغداد. روى عن آدم بن أبي إياس، وأصبغ بن الفرج، وعبد الرزاق بن همام، ومحمد بن يوسف الفريابي وغيرهم. وروى عنه مسلم، والترمذي، والنسائي، وإبراهيم الحربي، وابن أبي عاصم، وابن أبي الدنيا، والبغوي، والطبري، وخلق آخرون. سكن بغداد. قال النسائي وأبو محمد بن عدي: ثقة. مات بها في شعبان سنة إحدى وخمسين ومائتين.
موقفه من الجهمية:
- قال أبو بكر: سمعت أبا بكر بن سهل بن عسكر يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق حيث تصرف، والقرآن من علم الله، ومن زعم أنه ليس من علم الله، فهو كافر، ومن قال: لفظي بالقرآن مخلوق، فهو جهمي كافر بالله، ومن قال: إن لفظي بالقرآن غير مخلوق، فلم أر أحدا من العلماء قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق، ونحن متبعون لأحمد بن حنبل في هذه المسألة، فمن خالفه، فنحن منه بريئون في الدنيا والآخرة. (2)
_________
(1) تاريخ بغداد (5/ 312) وتاريخ الإسلام (حوادث 251 - 260/ص.291) وتهذيب الكمال (25/ 325 - 327).
(2) الإبانة (1/ 12/351 - 352/ 160).
(4/207)
أبو الحسن السري السقطي الصوفي (251 هـ)
موقفه من المبتدعة:
قال: عمل قليل في سنة، خير من كثير مع بدعة. كيف يقل مع عمل تقوى. (1)
الدَّوْرَقِي (2) (252 هـ)
يعقوب بن إبراهيم بن كثير بن زيد بن أفلح بن منصور بن مزاحم، الحافظ الإمام الحجة، أبو يوسف العبدي، القيسي مولاهم، الدورقي. ولد سنة ست وستين ومائة. حدث عن عبد العزيز بن أبي حازم وهشيم، وسفيان ابن عيينة، وعبد العزيز الدراوردي وغيرهم. وحدث عنه الستة وأخوه، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وابن خزيمة، وغيرهم. قال الخطيب: كان ثقة حافظا متقنا، صنف 'المسند'. وقال الذهبي: كان من أئمة الحديث.
مات سنة اثنتين وخمسين ومائتين.
موقفه من الجهمية:
قال أبو بكر: سمعت يعقوب الدورقي يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق، فمن زعم أنه مخلوق فهو كافر، ومن قال: لفظه بالقرآن مخلوق، فهو جهمي، ومن قال: لفظه بالقرآن غير مخلوق، فهو مبتدع محدث، يهجر ولا
_________
(1) الباعث (219).
(2) طبقات ابن سعد (7/ 360) وتاريخ بغداد (14/ 277 - 280) وطبقات الحنابلة (1/ 414 - 415) وسير أعلام النبلاء (12/ 141 - 143) وتهذيب الكمال (32/ 311 - 314).
(4/208)
يكلم ولا يجالس، لأن القرآن فيه صفات الله وأسماؤه، والقرآن كلام الله حيث تصرف غير مخلوق، ومن حكى عني أني رجعت عن تبديع من قال هذا، فهو كذاب. (1)
محمد بن بشار (بُنْدَار) (2) (252 هـ)
محمد بن بشار بن عثمان بن داود بن كيسان الإمام الحافظ، راوية الإسلام، أبو بكر العبدي البصري بندار، لقب بذلك لأنه كان بندار الحديث في عصره ببلده، والبندار الحافظ. ولد سنة سبع وستين ومائة. وحدث عن غندر ويحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي، ويزيد بن هارون، ووكيع وخلق سواهم. روى عنه الستة في كتبهم، وأبو زرعة وأبو حاتم، وإبراهيم الحربي، وبقي بن مخلد، وخلق سواهم. جمع حديث البصرة ولم يرحل برا بأمه ثم رحل بعدها. قال عبد الله بن جعفر بن خاقان المروزي: سمعت بندارا يقول: أردت الخروج -يعني الرحلة- فمنعتني أمي فأطعتها فبورك لي فيه. قال ابن خزيمة: سمعت بندارا يقول: اختلفت إلى يحيى القطان -ذكر أكثر من عشرين سنة- ولو عاش بعد لكنت أسمع منه شيئا كثيرا. وقال أبو عبيد الآجري: سمعت أبا داود يقول: كتبت عن بندار نحوا من خمسين ألف
_________
(1) الإبانة (1/ 12/351/ 159).
(2) تاريخ بغداد (2/ 101 - 105) والجرح والتعديل (7/ 214) وتهذيب الكمال (24/ 511 - 518) وشذرات الذهب (2/ 126) وتذكرة الحفاظ (2/ 511 - 512) وميزان الاعتدال (3/ 490 - 491) البداية والنهاية (11/ 13) وتهذيب التهذيب (9/ 70 - 73) والسير (12/ 144 - 149) والوافي بالوفيات (2/ 249).
(4/209)
حديث، وكتبت عن أبي موسى شيئا، وهو أثبت من بندار، ولولا سَلاَمَةٌ في بندار تُرِكَ حديثه. قال ابن خزيمة في 'التوحيد': أخبرنا إمام أهل زمانه في العلم والأخبار محمد بن بشار. قال ابن حبان: كان يحفظ حديثه ويقرؤه من حفظه وأبو موسى من أقرانه مولدا ووفاة. مات في رجب سنة ثنتين وخمسين ومائتين.
موقفه من المبتدعة:
- جاء في ذم الكلام: عنه قال: وليس لأهل البدع غيبة. (1)
موقفه من الجهمية:
- جاء في الإبانة عن بندار -محمد بن بشار- وأبي موسى -محمد بن المثنى- قالا: كنا نقرأ على شيخ ضرير بالبصرة، فلما أحدثوا ببغداد القول بخلق القرآن، قال الشيخ: إن لم يكن القرآن مخلوقا، فمحا الله القرآن من صدري. قال: فلما سمعنا هذا من قوله تركناه وانصرفنا عنه، فلما كان بعد مدة لقيناه فقلنا: يا فلان ما فعل القرآن؟ قال: ما بقي في صدري منه شيء. فقلنا: ولا (قل هو الله أحد)؟ قال: ولا (قل هو الله أحد)، إلا أن أسمعها من غيري أن يقرأها. (2)
- وفيها: قال محمد بن عمر: سمعت بندارا يقول: كان لنا جار وكان من حفاظ القرآن، فناظره رجل يوما في القرآن، فقال: إن لم يكن القرآن مخلوقا، فمحا الله ما في قلبه من القرآن. قال: فرأيته لا يحفظ من كتاب الله
_________
(1) ذم الكلام (176).
(2) الإبانة (2/ 13/115 - 116/ 377) والشريعة (1/ 245/219).
(4/210)
شيئا، يسأل عن الآية، فيقول: هاه، هاه، معروف معروف، لا يقدر يرددها. (1)
هارون بن موسى (2) (253 هـ)
هارون بن موسى بن أبي علقمة، واسمه عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أبي فَرْوَة الفَرْوِي، أبو موسى المدني، مولى آل عثمان بن عفان. قال ابن مندة: كان مولده سنة أربع وسبعين ومائة. قال الدارقطني: هو وأبوه ثقتان. قال أبو حاتم: شيخ، قال النسائي لا بأس به. روى عن إسحاق بن محمد الفروي، وأبي ضمرة أنس بن عياض الليثي، وعبد الله بن الحارث الجمحي، وعبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون وغيرهم كثير. روى عنه الترمذي والنسائي، وأبو بكر إبراهيم بن محمد بن إسحاق بن أبي الجحيم البصري، وابنه أبو علقمة عبيد الله بن هارون بن موسى الفروي وغيرهم. قال أبو القاسم مات سنة اثنتين ويقال ثلاث وخمسين ومائتين. وقال ابن حجر: قال مسلمة: ثقة توفي سنة ثلاث وخمسين.
موقفه من الجهمية:
- جاء في السنة لعبد الله: عن هارون الفروي قال: القرآن كلام الله ليس بمخلوق ومن قال مخلوق فهو كافر ومن شك في الواقفة فهو كافر.
_________
(1) الإبانة (2/ 13/116/ 378).
(2) الجرح والتعديل (9/ 95) وتهذيب التهذيب (11/ 13 - 14) وتهذيب الكمال (30/ 113 - 115) وتاريخ الإسلام (حوادث 251 - 260/ص.360 - 361).
(4/211)
قلت لهارون: اللفظية؟ قال: هؤلاء مبتدعة ضلال. (1)
- وجاء في أصول الاعتقاد: عن هارون بن موسى الفروي، أنه سئل عمن يقف في القرآن، فقال: مثل من يقول القرآن مخلوق.
وعنه: من وقف في القرآن بالشك فهو كافر. ومن وقف بغير شك فهو مبتدع. (2)
خُشَيْش بن أَصْرَم النسائي (3) (253 هـ)
خشيش بن أصرم بن الأسود أبو عاصم النسائي، الحافظ الحجة، الإمام، كان صاحب سنة واتباع. روى عن روح بن عبادة، وأبي عاصم الضحاك بن مخلد النبيل، وعبد الرزاق، وعبد الله بن بكر السهمي، وطبقتهم. روى عنه أبو داود والنسائي، وأحمد بن عبد الوارث العسال، وأبو بكر بن أبي داود، ومحمد بن أحمد الهروي وآخرون. وثقه النسائي. وله رحلة واسعة إلى الحرمين ومصر والشام واليمن والعراق. توفي في رمضان سنة ثلاث وخمسين ومائتين بمصر رحمه الله تعالى.
موقفه من المبتدعة:
- له كتاب: الاستقامة في الرد على أهل الأهواء والبدع. (4)
_________
(1) السنة لعبد الله (40).
(2) أصول الاعتقاد (2/ 359/528و529).
(3) تهذيب الكمال (8/ 251 - 253) وتذكرة الحفاظ (2/ 551) وتهذيب التهذيب (3/ 142) والسير ... (12/ 250 - 251) وشذرات الذهب (2/ 129).
(4) انظر تذكرة الحفاظ (2/ 551) وتهذيب الكمال (8/ 251) والسير (12/ 250).
(4/212)
وهو من مرويات ابن سليمان الروداني في كتابه صلة السلف بموصول الخلف (1). وقد أخذ منه الملطى في كتابه الحوادث.
موقفه من الصوفية:
جاء في دائرة المعارف الاسلامية: وخشيش بن أصرم وأبو زرعة وهما ممن تتلمذ لابن حنبل، يجعلان المتصوفة طائفة من الزنادقة. (2)
" التعليق:
فالصوفية لما لهم من خطر على العقيدة الاسلامية، حاربهم المتقدمون والمتأخرون.
أحمد بن سعيد الدارمي (3) (253 هـ)
الإمام العلامة الفقيه الحافظ الثبت، أبو جعفر أحمد بن سعيد بن صخر ابن سليمان الدارمي السَّرْخَسِي، خراساني ولد بسرخس سنة نيف وثمانين ومائة، ونشأ بنيسابور، ثم كان أكثر أوقاته في الرحلة لسماع الحديث. سمع من النضر بن شميل وأبي عاصم الطويل وعبد الصمد بن عبد الوارث وأحمد بن إسحاق الحضرمي، ووهب بن جرير وطبقتهم. وأكثر التطواف وتوسع في العلم وبعد صيته. حدث عنه الجماعة الستة سوى النسائي، وابن خزيمة
_________
(1) (ص.112).
(2) دائرة المعارف الإسلامية (9/ 331).
(3) تاريخ بغداد (4/ 166 - 169) وتهذيب الكمال (1/ 314 - 317) والسير (12/ 233 - 234) والجرح والتعديل (2/ 53) والبداية والنهاية (11/ 14) وشذرات الذهب (2/ 127) وتهذيب التهذيب (1/ 31 - 32) والوافي بالوفيات (6/ 390).
(4/213)
وخلق، وقد حدث عنه من القدماء محمد ابن المثنى الزَّمِن. أقدمه أمير خراسان عبد الله بن طاهر إلى نيسابور ليحدث بها فأقام بها مليا، ثم ولي قضاء سرخس ثم رد إلى نيسابور وبها مات. قال أبو عمرو المستملي: دخلنا عليه في مرضه فأوصى بعشرة آلاف درهم وبغلة يتصدق بها، وقال إن مت فرقيقي عنبر وفتح وحمدان وعلان أحرار لوجه الله. قال الإمام أحمد بن حنبل: ما قدم علينا خراساني أفقه بدنا من أحمد بن سعيد الدارمي. توفي رحمه الله تعالى سنة ثلاث وخمسين ومائتين.
موقفه من الجهمية:
جاء في أصول الاعتقاد عنه قال: من زعم أن لفظه بالقرآن مخلوق: فهو كافر. (1)
يوسف بن موسى القَطَّان (2) (253 هـ)
هو يوسف بن موسى بن راشد، الإمام المحدث، أبو يعقوب الكوفي القطان، نزيل بغداد. حدث عن جرير بن عبد الحميد، وسفيان بن عيينة، وأبي بكر بن عياش، وأحمد بن يونس وغيرهم. وحدث عنه البخاري، وأبو داود والترمذي، وابن ماجه، والنسائي خارج سننه، وخلق سواهم. كان من أوعية العلم، كتب عنه يحيى بن معين والكبار. توفي في صفر سنة ثلاث
_________
(1) أصول الاعتقاد (2/ 389/591).
(2) تاريخ بغداد (14/ 304 - 305) وسير أعلام النبلاء (12/ 221 - 222) وطبقات الحنابلة (1/ 421) وتهذيب الكمال (32/ 465 - 467).
(4/214)
وخمسين ومائتين.
موقفه من الجهمية:
قال الحسن بن ناصح في رواية ابن مخلد عنه: فحدثت بهذا الحديث (يعني قصة قتل خالد القسري للجعد بن درهم) يوسف القطان، فقال لي: تعرف الجعد بن درهم؟ قلت: لا. قال: هو جد جهم الذي شك في الله أربعين صباحا. (1)
إسحاق بن حنبل أبو يعقوب (2) (253 هـ)
هو إسحاق بن حنبل بن هلال بن أسد، أبو يعقوب الشيباني، وهو عم أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل. سمع: يزيد بن هارون، والحسين بن محمد المروذي. وروى عنه ابنه حنبل، ومحمد بن يوسف الجوهري وغيرهما. قال الخطيب: ثقة. مات سنة ثلاث وخمسين ومائتين وهو ابن أربع وتسعين.
موقفه من الجهمية:
قال أبو بكر المروذي: قال إسحاق بن حنبل: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق، فهو جهمي، ومن زعم أن لفظه بالقرآن غير مخلوق، فقد ابتدع، فقد نهى أبو عبد الله عن هذا، وغضب منه وقال: ما سمعت عالما قال هذا. أدركت العلماء، مثل هشيم، وأبي بكر بن عياش، وسفيان بن عيينة، فما سمعتهم قالوا هذا، وأبو عبد الله أعلم الناس بالسنة في زمانه، لقد ذب عن دين
_________
(1) الإبانة (2/ 13/121/ 387).
(2) تاريخ بغداد (6/ 369) وتاريخ الإسلام (حوادث 251 - 260/ص.79).
(4/215)
الله، وأوذي في الله، وصبر على السراء والضراء. قال أبو يوسف: فمن حكى عن أبي عبد الله أنه قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق، فقد كذب، ما سمعت أبا عبد الله قال هذا، إنما قال أبو عبد الله: اللفظية جهمية. وأبو عبد الله أعلم الناس بالسنة في زمانه. (1)
يحيى بن المغيرة المَخْزُومِي (2) (253 هـ)
يحيى بن المغيرة بن إسماعيل بن أيوب، أبو سلمة القرشي المدني المخزومي. روى عن أنس بن عياض الليثي، وعبد الملك بن عبد العزيز الماجشون، وخالد بن عبد الرحمن المخزومي، وغيرهم. وروى عنه الترمذي، وأحمد بن أبي عون، وزكريا الساجي، وغيرهم. قال أبو حاتم: صدوق ثقة. مات سنة ثلاث وخمسين ومائتين.
موقفه من الجهمية:
قال يحيى -ما أدركت أحدا من علمائنا إلا وهو يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق فمن قال مخلوق فهو كافر. فهذا إجماع أهل المدينة. (3)
_________
(1) الإبانة (1/ 12/350 - 351/ 158).
(2) تهذيب الكمال (31/ 568 - 570) وتاريخ الإسلام (حوادث 251 - 260/ص.376) وتهذيب التهذيب (11/ 288 - 289).
(3) أصول الاعتقاد (2/ 302/480).
(4/216)
أبو أحمد المَرَّار بن حَمُّويَه (1) (254 هـ)
المرار بن حمويه بن منصور أبو أحمد الثقفي الهَمَذاني. سمع من أبي نعيم، وأبي الوليد الطيالسي، والقعنبي، وطبقتهم. وحدث عنه ابن ماجه في سننه، وموسى بن هارون، وأبو عروبة الحراني، وآخرون. قال الحافظ أبو شجاع شيرويه: نزل أبو حاتم على المرار وكتب عنه، وهو قديم الموت، جليل الخطر، سأله جمهور النهاوندوي عن مسائل، وهي مدونة عنه، من نظر فيها علم محل المرار من العلم الواسع، والحفظ والإتقان والديانة. قتل المرار لما أظهر مخالفته للشيعة، في سنة أربع وخمسين ومائتين، وله أربع وخمسون سنة.
موقفه من الرافضة:
- قال الذهبي في سيره: وقيل: لما وقعت فتنة المعتز والمستعين كان على همذان الأميران جباخ وجغلان من قبل المعتز، فاستشار أهل همذان المرار والجرجاني في محاربتهما، فأمراهم بلزوم منازلهم، فلما أغار أصحابهما على دار سلمة بن سهل وغيرها، ورموا رجلا بسهم، أفتياهم في الحرب، وتقلد المرار سيفا، فخرج معهم، فقتل عدد كثير من الفريقين، ثم طلب مفلح المرار، فاعتصم بأهل قم. وهرب معه إبراهيم بن مسعود المحدث. فأما إبراهيم فهازلهم وقاربهم فسلم، وأما المرار، فأظهر مخالفتهم في التشيع، وكاشفهم، فأوقعوا به وقتلوه رحمه الله. (2)
_________
(1) تاريخ الإسلام (حوادث 251 - 260/ص.349 - 350) وسير أعلام النبلاء (12/ 308 - 311) وتهذيب الكمال (27/ 351 - 355) وتهذيب التهذيب (10/ 80 - 81) وشذرات الذهب (2/ 129).
(2) السير (12/ 310).
(4/217)
زياد بن يحيى الحَسَّانِي (1) (254 هـ)
زياد بن يحيى بن زياد بن حسان، أبو الخطاب الحساني النُّكْرِي العَدَنِي، ثم البصري. روى عن سفيان بن عيينة، وأبي داود سليمان بن داود الطيالسي، ومعتمر بن سليمان، ونوح بن قيس. وروى عنه الستة، وابن أبي عاصم، وابن خزيمة، وزكريا الساجي، ومحمد بن جرير الطبري، وخلق غيرهم. وثقه أبو حاتم والنسائي. توفي رحمه الله سنة أربع وخمسين ومائتين.
موقفه من القدرية:
- جاء في الإبانة: عن زياد بن يحيى الحساني قال: ما فشت القدرية بالبصرة حتى فشا من أسلم من النصارى. (2)
محمد بن منصور الطُّوسي (3) (254 هـ)
الإمام الحافظ محمد بن منصور بن داود بن إبراهيم الطوسي أبو جعفر العابد، نزيل بغداد. روى عن أحمد بن حنبل وإسماعيل بن علية وسفيان بن عيينة، ويحيى القطان، ومعاذ بن معاذ، وآخرين. وروى عنه أبو داود، والنسائي، وأبو حاتم الرازي، وأبو عبد الله المحاملي، ومحمد بن هارون الحضرمي، وابن صاعد. قال عبد الله بن أبي داود: حدثنا محمد بن منصور
_________
(1) تهذيب الكمال (9/ 523) وتاريخ الإسلام (حوادث 251 - 260/ص.146 - 147) وتهذيب التهذيب (3/ 388).
(2) الإبانة (2/ 10/219/ 1793).
(3) حلية الأولياء (10/ 216) وتاريخ بغداد (3/ 247) وطبقات الحنابلة (1/ 318) والوافي بالوفيات (5/ 70) والمنتظم (12/ 75 - 76) وسير أعلام النبلاء (12/ 212) وتهذيب الكمال (26/ 499).
(4/218)
الطوسي، وكان من الأخيار. وقال أبو بكر المروذي: سألت أبا عبد الله عن محمد بن منصور الطوسي قال: لا أعلم إلا خيرا، صاحب صلاة. وقال ابن الجوزي: كان ثقة خيرا صالحا. توفي رحمه الله سنة أربع وخمسين ومائتين.
موقفه من الجهمية:
- قال محمد بن منصور الطوسي قال: قدم علي بن مضاء مولى لخالد القسري. حدثنا هشام بن بهرام سمعت معافى بن عمران يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق. قال هشام: وأنا أقول كما قال المعافى قال علي: وأنا أقول كما قال -يعني هشاما- قال أبو جعفر الطوسي: وأنا أقول: القرآن كلام الله غير مخلوق. (1)
يحيى بن عثمان الحِمْصِي (2) (255 هـ)
يحيى بن عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار القرشي، أبو سليمان الرجل الصالح، أخو عمرو بن عثمان. روى عن بقية بن الوليد، ووكيع، والوليد بن مسلم، وجماعة. وروى عنه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وأبو عروبة، وأبو حاتم الرازي، وأبو بشر الدولابي وآخرون. قال أحمد بن أبي الحواري: سمعت أحمد بن حنبل يقول: يحيى بن عثمان نعم الشيخ هو. وقال محمد بن عوف، رأيت أحمد بن حنبل يجله ويقدمه في الصلاة. وقال أبو حاتم: كان
_________
(1) السنة لعبد الله (67).
(2) تهذيب الكمال (31/ 459) وسير أعلام النبلاء (12/ 306 - 307) وتاريخ الإسلام ... (حوادث 251 - 260/ص.371) وتهذيب التهذيب (11/ 255).
(4/219)
رجلا صالحا صدوقا. توفي رحمه الله تعالى سنة خمس وخمسين ومائتين.
موقفه من الجهمية:
- قال المروذي: سألت شجاع بن مخلد، وأحمد بن إبراهيم وأحمد بن منيع، ويحيى بن عثمان عن القرآن فقالوا: كلام الله وليس بمخلوق. (1)
الإمام الدَّارِمِي (2) (255 هـ)
عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل بن بهرام بن عبد الله، الحافظ الإمام، أحد الأعلام، أبو محمد التميمي، ثم الدارمي السمرقندي، ودارم هو ابن مالك بن حنظلة بن زيد مناة بن تميم، طوف أبو محمد الأقاليم وصنف التصانيف. قال إسحاق بن إبراهيم الوراق، سمعت عبد الله بن عبد الرحمن يقول: ولدت في سنة مات ابن المبارك سنة إحدى وثمانين ومائة. حدث عن يزيد بن هارون، ويعلى بن عبيد، وجعفر بن عون والنضر بن شميل، ومسلم، وخلق كثير. وحدث عنه مسلم وأبو داود والترمذي وعبد بن حميد ومحمد ابن بشار بندار، وبقي بن مخلد وأبو زرعة وأبو حاتم وغيرهم. قال عبد الصمد بن سليمان البلخي سألت أحمد بن حنبل عن يحيى الحماني، فقال: تركناه لقول عبد الله بن عبد الرحمن، لأنه إمام. وقال محمد بن عبد الله
_________
(1) الإبانة (2/ 12/20/ 211).
(2) الجرح والتعديل (5/ 99) وتاريخ بغداد (10/ 29 - 32) الأنساب (2/ 441 - 442) والسير (12/ 224 - 232) وتذكرة الحفاظ (2/ 534 - 536) وطبقات الحنابلة (1/ 188) وشذرات الذهب (2/ 130) وتهذيب الكمال (15/ 210 - 217) وتهذيب التهذيب (5/ 294 - 296) وطبقات الحفاظ (235).
(4/220)
المخرّمي: يا أهل خراسان ما دام عبد الله بن عبد الرحمن بين أظهركم فلا تشتغلوا بغيره. وقال أبو حاتم بن حبان: كان الدارمي من الحفاظ المتقنين، وأهل الورع في الدين ممن حفظ وجمع، وتفقه، وصنف وحدث، وأظهر السنة ببلده، ودعا إليها، وذب عن حريمها، وقمع من خالفها. قال أبو بكر الخطيب: كان أحد الرحالين في الحديث والموصوفين بحفظه وجمعه والإتقان له، مع الثقة والصدق، والورع، والزهد، واستقضي على سمرقند، فأبى، فألح السلطان عليه حتى يقلده، وقضى قضية واحدة ثم استعفى، فأعفي، وكان على غاية العقل، ونهاية الفضل، يضرب به المثل في الديانة والحلم والرزانة، والاجتهاد والعبادة، والزهادة والتقلل وصنف المسند والتفسير والجامع. مات في سنة خمس وخمسين ومائتين يوم التروية بعد العصر ودفن يوم عرفة يوم الجمعة وهو ابن خمس وسبعين سنة.
موقفه من المبتدعة:
- دفاعه عن العقيدة السلفية: 'السنن' لأبي محمد الدارمي من أجود كتب السنة، وعدها بعض المحدثين سادس الكتب الستة لأهميتها في هذا الفن، وكان أول ما بدأ به أبو محمد الدارمي، كتابه 'السنن' مقدمة مهمة، بين فيها شتى المسائل من سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وطلب العلم، وكيفية ذلك، وما يتعلق بالفتوى، وركز فيها على الرد على المبتدعة واتباع السنة، فساق من الآثار عن السلف ما فيه قناعة لمن يريد الحق. فرحمة الله عليه رحمة واسعة.
(4/221)
موقف السلف من محمد بن كرام (255 هـ)
بيان إرجائه:
- جاء في البداية: أقام ببيت المقدس أربع سنين، وكان يجلس للوعظ عند العمود الذي عند مشهد عيسى عليه السلام واجتمع عليه خلق كثير ثم تبين لهم أنه يقول: إن الإيمان قول بلا عمل فتركه أهلها ونفاه متوليها إلى غور زغر فمات بها، ونقل إلى بيت المقدس. مات في صفر من هذه السنة. (1)
- وقال محمد بن أسلم الطوسي: لم تعرج كلمة إلى السماء أعظم ولا أخبث من ثلاث: أولهن قول فرعون حيث قال: أنا ربكم الأعلى، والثانية: قول بشر المريسي حيث قال: القرآن مخلوق. والثالثة: قول محمد بن كرام حيث قال: المعرفة ليست من الإيمان. (2)
- وقال أبو العباس السراج: شهدت أبا عبد الله البخاري، ودفع إليه كتاب من محمد بن كرام يسأله عن أحاديث منها: الزهري، عن سالم، عن أبيه، رفعه: (الإيمان لا يزيد ولا ينقص). فكتب على ظهر كتابه: من حدث بهذا استوجب الضرب الشديد والحبس الطويل. (3)
وللحسين بن إبراهيم الجوزقاني موقف طيب منه سيأتي ذكره في سنة (543هـ).
_________
(1) البداية والنهاية (11/ 23).
(2) الأباطيل والمناكير والصحاح والمشاهير للجوزقاني (ص.138).
(3) تاريخ الإسلام للذهبي حوادث ووفيات (251 - 260/ 314).
(4/222)
موقف السلف من الجاحظ المعتزلي وبيان سوء عقيدته (255 هـ)
بيان اعتزاله:
- جاء في البداية والنهاية: وإليه تنسب الفرقة الجاحظية (1)، لجحوظ عينيه، ويقال له: الحدقى. وكان شنيع المنظر، سيء المخبر رديء الاعتقاد. ينسب إلى البدع والضلالات، وربما جاز به بعضهم إلى الانحلال، حتى قيل في المثل: يا ويح من كفره الجاحظ. (2)
الإمام البخاري (3) (256 هـ)
محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بَرْدِزْبَه (وقيل بذدزبه) وقيل ابن الأحنف الجعفي مولاهم، أبو عبد الله بن أبي الحسن البخاري الإمام الحافظ الحجة إمام هذا الشأن والمقتدى به فيه والمعول على كتابه بين أهل الإسلام. رحل في طلب الحديث إلى سائر محدثي الأمصار، وكتب بخراسان والجبال ومدن العراق كلها، وبالحجاز والشام ومصر. روى عن عدة منهم إبراهيم بن حمزة الزبيري، وأحمد ابن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وعبد الله بن الزبير الحميدي، وعلي بن المديني، وابن دكين وكتب عن أكثر من ألف
_________
(1) فرقة من فرق المعتزلة.
(2) البداية والنهاية (11/ 22).
(3) تهذيب الكمال (24/ 430 - 467) وتاريخ بغداد (2/ 4 - 33) والجرح والتعديل (7/ 191) ووفيات الأعيان (4/ 188 - 191) وشذرات الذهب (2/ 134 - 136) وتذكرة الحفاظ (2/ 555 - 556) والسير (12/ 391 - 471) والبداية (11/ 27 - 31) والوافي بالوفيات (2/ 206 - 209).
(4/223)
شيخ. روى عنه الكثير جاوز المائة منهم من روى الصحيح وغيره. فروى عنه الترمذي، وإبراهيم الحربي، والحسين المحاملي وأبو حاتم الرازي وابن خزيمة وأبو أحمد محمد بن سليمان بن فارس راوية 'التاريخ الكبير' والنسائي وغيرهم كثير، وروى عنه مسلم في غير الصحيح. أثنى عليه كل العلماء في جميع البلدان وقدموه على أنفسهم. وكان شيخا نحيف الجسم ليس بالطويل ولا بالقصير ولد يوم الجمعة بعد صلاة الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر شوال سنة أربع وتسعين ومائة، وتوفي ليلة السبت عند صلاة العشاء ليلة الفطر، ودفن يوم الفطر بعد صلاة الظهر يوم السبت لغرة شوال من سنة ست وخمسين ومائتين، عاش اثنتين وستين سنة إلا ثلاثة عشر يوما. قال أحمد بن سيار: أبو عبد الله طلب العلم وجالس الناس ورحل في الحديث ومهر فيه وأبصر وكان حسن المعرفة حسن الحفظ وكان يتفقه. ألف التاريخ والصحيح والأجزاء منها: القراءة خلف الإمام، خلق أفعال العباد، الأدب المفرد، وغيرها. قال يعقوب الدورقي: محمد ابن إسماعيل فقيه هذه الأمة. قال حاتم بن مالك الوراق: سمعت علماء مكة يقولون: محمد بن إسماعيل إمامنا وفقيهنا وفقيه خراسان. قال أبو بكر ابن خزيمة: ما رأيت تحت أديم السماء أعلم بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأحفظ له من محمد ابن إسماعيل.
نالته محنة في أواخر أيامه، وقصته مع محمد بن يحيى الذهلي مشهورة ومعروفة، رحم الله الجميع، وغفر لنا ولهم.
موقفه من المبتدعة:
من قرأ كتب أبي عبد الله الإمام البخاري رضي الله عنه، يحس بنفس
(4/224)
قوي، وعزيمة عظيمة، مع ما أوتيه من العلم الواسع والنظر الدقيق تجاه مبتدعة أهل زمانه. فالقارئ له يحس أن الإمام يكاد قلبه يتفطر من كثرة تلبيساتهم وتلاعبهم بدين الله.
وقد ترك رحمه الله تراثا عظيما خالدا يعرفه أهل المشرق والمغرب.
ألف البخاري كتابه 'الصحيح'، ولم يخله من بيان العقيدة السلفية الصحيحة، والرد على المبتدعة على اختلاف أنواعهم. فعقد ثاني كتاب من صحيحه وهو 'كتاب الإيمان'، للرد على المرجئة، وجعله مكونا من اثنين وأربعين بابا فيها من الأحاديث والآثار السلفية والاستنباطات الفقهية ما يدل على علم غزير، واطلاع واسع وفهم ثاقب.
بين دخول الأعمال في الإيمان، ولولا خشية الإطالة لذكرتها بابا بابا، ملخصا لذلك، وموضحا. وأكتفي بالإشارة إلى ذلك. والكتاب الثاني، وهو السادس والتسعون من كتب البخاري وهو كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، جعله مكونا من ثمانية وعشرين بابا، وهذا الكتاب وما يحتوي عليه من الأبواب يصلح ردا على جميع المبتدعة. وقد أبان فيه البخاري على غزارة علم، واستنباط عجيب، مما لو قرأه طالب الحق لوجد منشودته فيه ولكن المبتدعة لا يقرءون مثل هذه الكتب، وإن قرءوها فعلى سبيل التبرك وان وجد منهم من عنده بعض العلم حرفها.
وأما الكتاب الثالث فهو الكتاب السابع والتسعون من كتاب البخاري وهو الأخير من كتب صحيح البخاري سماه 'كتاب التوحيد والرد على الجهمية'، مكونا من ثمانية وخمسين بابا رد فيها على جميع شبه الجهمية
(4/225)
وفروخهم، وقد لخصه العلامة ابن القيم في كتابه العظيم: 'اجتماع الجيوش الإسلامية'.
وهذه الطريقة الحميدة، لم يتفرد بها البخاري رحمه الله وحده، بل شاركه إخوانه من المحدثين، من أصحاب الكتب الستة وغيرهم، ما من أحد منهم إلا وساق في كتابه من الأحاديث، ما يرد به على المبتدعة، فمنهم من أفرد كتبا خاصة، ومنهم من ساقها تبعا. وسنبين عند ذكر كل واحد منهم مقدار دفاعه عن العقيدة السلفية ووقوفه ضد المبتدعة.
وأما كتاب 'خلق أفعال العباد'، فهو كتاب عظيم جليل، اتخذه الناس مرجعا لهم في كتبهم، وقد نقل البيهقي في الأسماء والصفات معظمه، وغيره ممن جاء بعده، وقد طبع الكتاب، ولله الحمد طبعات متعددة، إما منفردا أو مع مجموعة من عقائد السلف.
من أقواله رضي الله عنه في الرد على المبتدعة:
- جاء في السير: وقال محمد بن أبي حاتم: سمعته يقول: لا أعلم شيئا يحتاج إليه إلا وهو في الكتاب والسنة. فقلت له: يمكن معرفة ذلك كله؟ قال نعم. (1)
" التعليق:
وقد حاول الإمام البخاري تطبيق هذه القولة في كتابه الصحيح، فقد حاول أن يذكر فيه أغرب المسائل التي اختلف فيها الفقهاء، واستعملوا في
_________
(1) السير (12/ 412).
(4/226)
أدلتها غير نصي القرآن والسنة، فجذب لها هو من الأدلة والآثار السلفية ما يراه حجة، وبوب أبوابا حيرت قرونا كثيرة، طبقها على القرآن والسنة، وقد صرح ابن خلدون في مقدمته، أن كتاب البخاري ما يزال دينا على المسلمين - يعني شرحه والكشف عن غوامضه. وقد خصت تراجم كتابه بمؤلفات مستقلة، لأهميتها الفقهية ولغموضها في الاستنباط من الكتاب والسنة. ومحاولة الحافظ ابن حجر كانت موفقة جدا، ساعده سعة اطلاعه والاستنارة بشروح غيره. وقد حمل لواء هذا القول: الحافظ الإمام الكبير أبو محمد بن حزم في كتابه الإيصال. ومختصره المحلى نموذج لذلك.
جاء في كتاب الاعتصام من صحيح البخاري:
(باب ما يكره من التعمق والتنازع والغلو في الدين والبدع). (1)
- وفيه: باب: {وكذلك جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وسطًا} (2): وما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بلزوم الجماعة وهم أهل العلم. (3)
- وفي شرف أصحاب الحديث: بالسند إلى محمد بن إسماعيل البخاري وذكر حديث موسى بن عقبة عن أبي الزبير عن جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا تزال طائفة من أمتي ... " (4) فقال البخاري يعني أصحاب الحديث. (5)
_________
(1) الفتح (13/ 275).
(2) البقرة الآية (143).
(3) الفتح (13/ 316).
(4) أحمد (4/ 244) والبخاري (13/ 542/7459) ومسلم (3/ 1523/1921) من حديث المغيرة بن شعبة. وفي الباب عن ثوبان ومعاوية وجابر بن سمرة وجابر بن عبد الله وعقبة بن عامر وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين.
(5) شرف أصحاب الحديث (27).
(4/227)
- قال ابن القيم في الصواعق: قال البخاري: كان الصحابة إذا جلسوا يتذاكرون كتاب ربهم وسنة نبيهم ولم يكن بينهم رأي ولا قياس. (1)
موقفه من الرافضة:
- قال البخاري في خلق أفعال العباد: ما أبالي صليت خلف الجهمي أو الرافضي أو صليت خلف اليهود والنصارى ولا يسلم عليهم ولا يعادون ولا يناكحون ولا يشهدون ولا تؤكل ذبائحهم. (2)
موقفه من الصوفية:
- جاء في مجموع الفتاوى: وسئل البخاري عن الخضر وإلياس: هل هما في الأحياء؟ فقال: كيف يكون هذا وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يبقى على رأس مائة سنة ممن هو على وجه الأرض أحد" (3)؟. (4)
موقفه من الجهمية:
الإمام البخاري ودفاعه عن العقيدة السلفية:
- جاء في أصول الاعتقاد عنه قال: لقيت أكثر من ألف رجل من أهل العلم، أهل الحجاز ومكة والمدينة والكوفة والبصرة وواسط وبغداد والشام ومصر، لقيتهم كرات قرنا بعد قرن ثم قرنا بعد قرن أدركتهم وهم متوافرون منذ أكثر من ست وأربعين سنة، أهل الشام ومصر والجزيرة مرتين، والبصرة
_________
(1) مختصر الصواعق (ص.512).
(2) خلق أفعال العباد (ص.16).
(3) أحمد (2/ 88) والبخاري (1/ 281 - 282/ 116) ومسلم (4/ 1965/2537) وأبو داود (4/ 516/4348) والترمذي (4/ 451/2251) والنسائي في الكبرى (3/ 441/5871) من حديث ابن عمر.
(4) الفتاوى (4/ 337 (.
(4/228)
أربع مرات، في سنين ذوي عدد، بالحجاز ستة أعوام، ولا أحصي كم دخلت الكوفة وبغداد مع محدثي أهل خراسان، منهم: المكي بن إبراهيم، ويحيى بن يحيى، وعلي بن الحسن بن شقيق وقتيبة بن سعيد وشهاب بن معمر.
وبالشام: محمد بن يوسف الفريابي وأبا مسهر عبد الأعلى بن مسهر وأبا المغيرة عبد القدوس بن الحجاج، وأبا اليمان الحكم بن نافع ومن بعدهم عدة كثيرة.
وبمصر: يحيى بن كثير وأبا صالح كاتب الليث بن سعد وسعيد بن أبي مريم وأصبغ بن الفرج ونعيم بن حماد.
وبمكة عبد الله بن يزيد المقري، والحميدي وسليمان بن حرب قاضي مكة وأحمد بن محمد الأزرقى.
وبالمدينة: إسماعيل بن أبي أويس ومطرف بن عبد الله وعبد الله بن نافع الزبيري، وأحمد بن أبي بكر أبا مصعب الزهري وإبراهيم بن حمزة الزبيري وإبراهيم بن المنذر الحزامي.
وبالبصرة أبا عاصم الضحاك بن مخلد الشيباني، وأبا الوليد هشام بن عبد الملك، والحجاج بن المنهال، وعلي بن عبد الله بن جعفر بن المديني.
وبالكوفة: أبا نعيم الفضل بن دكين وعبيد الله بن موسى وأحمد بن يونس وقبيصة بن عقبة وابن نمير وعبد الله وعثمان ابنا أبي شيبة.
وببغداد: أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأبا معمر وأبا خيثمة وأبا عبيد القاسم بن سلام.
(4/229)
ومن أهل الجزيرة: عمرو بن خالد الحراني.
وبواسط: عمرو بن عون وعاصم بن علي بن عاصم.
وبمرو: صدقة بن الفضل وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي.
واكتفينا بتسمية هؤلاء، كي يكون مختصرا وأن لا يطول ذلك فما رأيت واحدا منهم يختلف في هذه الأشياء:
إن الدين قول وعمل، وذلك لقول الله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (1).
وأن القرآن كلام الله غير مخلوق، لقوله: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} (2).
قال أبو عبد الله محمد بن إسماعيل قال ابن عيينة: فبين الله الخلق من الأمر لقوله: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (3).
_________
(1) البينة الآية (5).
(2) الأعراف الآية (54).
(3) الأعراف الآية (54).
(4/230)
وأن الخير والشر بقدر الله لقوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} (1) ولقوله: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (2) ولقوله: {إنا كل شيءٍ خلقناه بقدر} (3) ولم يكونوا يكفرون أحدا من أهل القبلة بالذنب لقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (4).
وما رأيت فيهم أحدا يتناول أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، قالت عائشة: أمروا أن يستغفروا لهم وذلك لقوله: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (5).
وكانوا ينهون عن البدع ما لم يكن عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لقوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ ولا تَفَرَّقُوا} (6) ولقوله: {وَإِنْ تطيعوه
_________
(1) الفلق الآيتان (1و2).
(2) الصافات الآية (96).
(3) القمر الآية (49).
(4) النساء الآية (48).
(5) الحشر الآية (10).
(6) آل عمران الآية (103).
(4/231)
تهتدوا} (1) ويحثون على ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأتباعه لقوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (2).
وأن لا ننازع الأمر أهله، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله، وطاعة ولاة الأمر، ولزوم جماعتهم، فان دعوتهم تحيط من ورائهم" (3) ثم أكد في قوله: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (4) وأن لا يرى السيف على أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
وقال الفضيل: لو كانت لي دعوة مستجابة لم أجعلها إلا في إمام، لأنه إذا صلح الإمام أمن البلاد والعباد.
قال ابن المبارك: يا معلم الخير، من يجترئ على هذا غيرك. (5)
" التعليق:
هؤلاء الذين ذكرهم البخاري في هذه العقيدة، هم حملة الحديث والعلم والفقه بحيث لو هلكوا جميعا ما بقي من يقول قال الله وقال رسوله
_________
(1) النور الآية (54).
(2) الأنعام الآية (153).
(3) أخرجه: أحمد (5/ 183) وابن ماجه (1/ 84/230) وابن حبان (1/ 270/67) من حديث زيد بن ثابت. وأخرجه أبو داود (4/ 68 - 69/ 3660) والترمذي (5/ 33/2656) والنسائي في الكبرى (3/ 431/5847) دون ذكر موضع الشاهد.
(4) النساء الآية (59).
(5) أصول الاعتقاد (1/ 193 - 197/ 320).
(4/232)
ولكن الله تكفل بحفظ دينه، فكان كل واحد منهم عمدة في مصره ومرجعا في فتواه وتعليمه. ولم يبق إلا شذاذ المبتدعة الذين حملوا اتجاهات مختلفة، إما اتجاه شيعي رافضي وإما جهمي هالك غارق في ضلاله، وإما قدري متحير زائغ، وإما مخرف صوفي، فضل ما عند الهنود والفرس والرهبان النصارى. فيرمي الإمام البخاري في هذا السرد إلى ما ذكرنا والله يجزيه ويثيبه ويسكنه أفضل جنانه وجامع هذه المعلومات وقارئها.
- جاء في أصول الاعتقاد: عن محمد بن يوسف بن مطر قال: سألت محمد ابن إسماعيل البخاري فقال: القرآن كلام الله غير مخلوق فمن قال مخلوق فهو كافر. (1)
- وفيه: عن إبراهيم بن محمد قال: أنا توليت دفن محمد بن إسماعيل البخاري لما مات بخرتنك فأردت حمله إلى سمرقند أن أدفنه بها فلم يتركني صاحب لنا من أهل (شكخشكت) فدفناه بها فلما أن أفرغنا ورجعت إلى المنزل الذي كنت فيه قال لي صاحب القصر سألته أمس فقلت يا أبا عبد الله: ما تقول في القرآن؟ فقال: القرآن كلام الله غير مخلوق. فقلت له: إن الناس يزعمون أنك تقول: ليس في المصحف قرآن ولا في صدور الناس. فقال: أستغفر الله أن تشهد علي بما لم تسمعه مني. إني أقول كما قال الله:
_________
(1) أصول الاعتقاد (2/ 296/468).
(4/233)
{وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} (1). أقول: في المصاحف قرآن وفي صدور الرجال قرآن فمن قال غير هذا، يستتاب فإن تاب وإلا سبيله سبيل الكفر. (2)
- وفيه: عن أحمد بن نصر بن إبراهيم النيسابوري -المعروف بالخفاف- ببخارى قال: كنا يوما عند أبي إسحاق القرشي ومعنا محمد بن نصر المروزي فجرى ذكر محمد بن إسماعيل فقال محمد بن نصر: سمعته يقول: من زعم أني قلت: لفظي بالقرآن مخلوق فهو كذاب فإني لم أقله. فقلت له يا أبا عبد الله: فقد خاض الناس في هذا وأكثروا فيه. فقال: ليس إلا ما أقول وأحكي لك عنه. قال أبو عمرو الخفاف: فأتيت محمد بن إسماعيل فناظرته في شيء من الحديث حتى طابت نفسه. فقلت له: يا أبا عبد الله هاهنا رجل يحكي عنك أنك قلت هذه المقالة؟ فقال لي: يا أبا عمرو احفظ ما أقول: من زعم من أهل نيسابور وقومس والري وهمذان وحلوان وبغداد والكوفة والمدينة ومكة والبصرة أني قلت: لفظي بالقرآن مخلوق فهو كذاب فإني لم أقل هذه المقالة إلا أني قلت: أفعال العباد مخلوقة. (3)
- قال البخاري في صحيحه: باب قول الله تعالى: {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا
_________
الطور الآيتان (1 - 2).
(2) أصول الاعتقاد (2/ 395 - 396/ 610) وتاريخ بغداد (2/ 32) والطبقات (1/ 278).
(3) أصول الاعتقاد (2/ 396 - 397/ 611) وتاريخ بغداد (2/ 32).
(4/234)
مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (1) ولم يقل ماذا خلق ربكم. (2)
- قال الحافظ ابن حجر في الفتح: وصرح البخاري بأن أصوات العباد مخلوقة وأن أحمد لا يخالف ذلك، فقال في كتاب خلق أفعال العباد ما يدعونه عن أحمد ليس الكثير منه بالبين ولكنهم لم يفهموا مراده ومذهبه، والمعروف عن أحمد وأهل العلم أن كلام الله تعالى غير مخلوق، وما سواه مخلوق لكنهم كرهوا التنقيب عن الأشياء الغامضة وتجنبوا الخوض فيها والتنازع إلا ما بينه الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم نقل عن بعض أهل عصره أنه قال: القرآن بألفاظنا وألفاظنا بالقرآن شيء واحد، فالتلاوة هي المتلو والقراءة هي المقروء، قال: فقيل له إن التلاوة فعل التالي، فقال: ظننتها مصدرين، قال: فقيل له أرسل إلى من كتب عنك ما قلت؟ فاسترده فقال: كيف وقد مضى؟ انتهى. (3)
- قال محمد بن إسماعيل البخاري: قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: أنا رجل مبتلى، قد ابتليت أن لا أقول لك، ولكن أقول: فإن أنكرت شيئا فردني عنه: القرآن من أوله إلى آخره كلام الله، ليس شيء منه مخلوق. ومن قال: إنه مخلوق، أو شيء منه مخلوق: فهو كافر. ومن زعم أن لفظه
_________
(1) سبأ الآية (23).
(2) الفتح (13/ 452).
(3) الفتح (13/ 493).
(4/235)
بالقرآن مخلوق: فهو جهمي كافر؟ قال: نعم. (1)
- وقال الحافظ أيضا: قال البخاري والقرآن كلام الله غير مخلوق، ثم ساق الكلام على ذلك إلى أن قال: سمعت عبيد الله بن سعيد يقول سمعت يحيى بن سعيد يعني القطان يقول مازلت أسمع أصحابنا يقولون إن أفعال العباد مخلوقة، قال البخاري حركاتهم وأصواتهم وأكسابهم وكتابتهم مخلوقة، فأما القرآن المتلو المبين المثبت في المصاحف المسطور المكتوب الموعى في القلوب فهو كلام الله ليس بخلق قال: وقال إسحاق بن إبراهيم يعني ابن راهويه فأما الأوعية فمن يشك في خلقها، قال البخاري فالمداد والورق ونحوه خلق، وأنت تكتب الله فالله في ذاته هو الخالق وخطك من فعلك وهو خلق لأن كل شيء دون الله هو بصنعه، ثم ساق حديث حذيفة رفعه: إن الله يصنع كل صانع وصنعته (2)، وهو حديث صحيح. (3)
- وقال أيضا: قال البخاري في كتاب 'خلق أفعال العباد': خلق الله الخلق بأمره، لقوله تعالى: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بعد} (4) ولقوله: {إِنَّمَا
_________
(1) الطبقات (1/ 278).
(2) أخرجه: البخاري في خلق أفعال العباد (92) وابن أبي عاصم في السنة (1/ 158/357 - 358)، البزار "البحر الزخار" (7/ 258/2837)، الحاكم (1/ 31 - 32) من حديث حذيفة مرفوعا، وقال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم" ووافقه الذهبي. وصححه ابن حجر في الفتح (13/ 609) وقال الهيثمي في المجمع (7/ 197): "رواه البزار ورجاله رجال الصحيح غير أحمد بن عبد الله أبي الحسين بن الكردي وهو ثقة".
(3) الفتح (13/ 498).
(4) الروم الآية (4).
(4/236)
{قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (1) ولقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} (2) قال: وتواترت الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن القرآن كلام الله وأن أمر الله قبل مخلوقاته، قال ولم يذكر عن أحد من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان خلاف ذلك وهم الذين أدوا إلينا الكتاب والسنة قرنا بعد قرن، ولم يكن بين أحد من أهل العلم في ذلك خلاف إلى زمان مالك والثوري وحماد وفقهاء الأمصار ومضى على ذلك من أدركنا من علماء الحرمين والعراقين والشام ومصر وخراسان. (3)
- قال شيخ الإسلام رحمه الله: وكذلك البخاري صاحب 'الصحيح' وسائر الأئمة أنكروا ذلك أيضا (أي مسئلة أن الله لم يتكلم بصوت)، وروى البخاري في آخر 'الصحيح' وفي 'كتاب خلق الأفعال' ما جاء في ذلك من الآثار، وبين الفرق بين صوت الله الذي يتكلم به وبين أصوات العباد بالقرآن. (4)
- وجاء في شرح السنة: قال محمد بن إسماعيل الجعفي البخاري: نظرت في كلام اليهود والنصارى والمجوس، فما رأيت قوما أضل في كفرهم
_________
(1) النحل الآية (40).
(2) الروم الآية (25).
(3) الفتح (13/ 533).
(4) مجموع الفتاوى (12/ 369).
(4/237)
من الجهمية، وإني لأستجهل من لا يكفرهم إلا من لا يعرف كفرهم. (1)
موقفه من الخوارج:
ضمن صحيحه كتابا حافلا أسماه 'استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم'، وأورد فيه بابين في الخوارج.
- فقال: باب قتل الخوارج والملحدين بعد إقامة الحجة عليهم، وقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} (2) وكان ابن عمر يراهم شرار خلق الله، وقال: إنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين.
أورد ضمنهم حديث علي في قتال الخوارج وحديث أبي سعيد الخدري وحديث عبد الله بن عمرو. (3)
- وقال أيضا: باب من ترك قتال الخوارج للتألف ولئلا ينفر الناس عنه. حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا هشام أخبرنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي سعيد قال: بينا النبي - صلى الله عليه وسلم - يقسم جاء عبد الله بن ذي الخويصرة التميمي فقال: اعدل يا رسول الله، فقال: ويلك، ومن يعدل إذا لم أعدل؟ قال عمر بن الخطاب: دعني أضرب عنقه. قال: دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاته وصيامه مع صيامه، يمرقون من الدين كما يمرق
_________
(1) شرح السنة للبغوي (1/ 228) وخلق أفعال العباد (13) والفتاوى الكبرى (5/ 47).
(2) التوبة الآية (115).
(3) الفتح (12/ 350/6930 - 6932).
(4/238)
السهم من الرمية، ينظر في قذذه فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر في نضيه فلا يوجد فيه شيء، قد سبق الفرث والدم. آيتهم رجل إحدى يديه -أو قال ثدييه- مثل ثدي المرأة، أو قال: مثل البضعة تدردر. يخرجون على حين فرقة من الناس. قال أبو سعيد: أشهد سمعت من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن عليا قتلهم وأنا معه، جيء بالرجل على النعت الذي نعته النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال: فنزلت فيه {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} (1)
قال الحافظ: قال الإسماعيلي: الترجمة في ترك قتال الخوارج والحديث في ترك القتل للمنفرد والجميع إذا أظهروا رأيهم ونصبوا للناس القتال وجب قتالهم، وإنما ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل المذكور لأنه لم يكن أظهر ما يستدل به على ما وراءه، فلو قتل من ظاهره الصلاح عند الناس قبل استحكام أمر الإسلام ورسوخه في القلوب لنفرهم عن الدخول في الإسلام، وأما بعده - صلى الله عليه وسلم - فلا يجوز ترك قتالهم إذا هم أظهروا رأيهم وتركوا الجماعة وخالفوا الأئمة مع القدرة على قتالهم. قلت: وليس في الترجمة ما يخالف ذلك، إلا أنه أشار إلى أنه لو اتفقت حالة مثل حالة المذكور فاعتقدت فرقة مذهب الخوارج مثلا ولم ينصبوا حربا أنه يجوز للإمام الإعراض عنهم إذا رأى المصلحة في ذلك كأن يخشى أنه لو تعرض للفرقة المذكورة لأظهر من يخفي مثل اعتقادهم أمره وناضل عنهم فيكون ذلك سببا لخروجهم ونصبهم القتال للمسلمين مع ما
_________
(1) التوبة (58).
(4/239)
عرف من شدة الخوارج في القتال وثباتهم وإقدامهم على الموت، ومن تأمل ما ذكر أهل الأخبار من أمورهم تحقق ذلك، وقد ذكر ابن بطال عن المهلب قال: التألف إنما كان في أول الإسلام إذ كانت الحاجة ماسة لذلك لدفع مضرتهم، فأما إذ أعلى الله الإسلام فلا يجب التألف إلا أن تنزل بالناس حاجة لذلك فلإمام الوقت ذلك. (1)
موقفه من المرجئة:
- عن محمد بن يوسف بن مطر قال: سألت محمد بن إسماعيل البخاري عن الإيمان فقال: قول وعمل بلا شك. (2)
- عن الحسين بن محمد بن الوضاح ومكي بن خلف بن عفان قالا: سمعنا محمد بن إسماعيل يقول: كتبت عن ألف نفر من العلماء وزيادة ولم أكتب إلا عن من قال: الإيمان قول وعمل ولم أكتب عن من قال: الإيمان قول. (3)
- وقال رحمه الله في عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد: كان يرى الإرجاء، كان الحميدي يتكلم فيه. (4)
- وكتاب الإيمان من صحيحه إنما وضعه رحمه الله ردا على المرجئة، فركز في جملة أبوابه على دخول الأعمال في مسمى الإيمان. وأول ما افتتح به
_________
(1) الفتح (12/ 360 - 361).
(2) أصول الاعتقاد (5/ 959/1598).
(3) أصول الاعتقاد (5/ 959/1597).
(4) تهذيب الكمال (18/ 274).
(4/240)
كتاب الإيمان قوله: باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "بني الإسلام على خمس" (1). وهو قول وفعل، ويزيد وينقص. قال الله تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} (2) {وزدناهم هدًى} (3) {ويزيد الله الذين اهتدوا هدًى} (4) {وَالَّذِينَ اهتدوا زادهم هدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} (5) {ويزداد الَّذِينَ آَمَنُوا إيمانًا} (6) وقوله: {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا} (7) وقوله جل ذكره: {فَاخْشَوْهُمْ فزادهم إيمانًا} (8) وقوله تعالى: {وما زادهم إلا إيمانًا وتسليمًا} (9). والحب في الله والبغض في الله من الإيمان. وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن عدي: إن للإيمان فرائض وشرائع وحدودا وسننا، فمن استكملها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان.
فإن أعش فسأبينها لكم حتى تعملوا بها، وإن أمت فما
_________
(1) أحمد (2/ 143) والبخاري (1/ 67 - 68/ 8) ومسلم (1/ 45/16) والترمذي (5/ 7/2609) والنسائي ... (8/ 481 - 482/ 5016) عن ابن عمر.
(2) الفتح الآية (4).
(3) الكهف الآية (13).
(4) مريم الآية (76).
(5) محمد الآية (17).
(6) المدثر الآية (31).
(7) التوبة الآية (124).
(8) آل عمران الآية (173).
(9) الأحزاب الآية (22).
(4/241)
أنا على صحبتكم بحريص (1). وقال إبراهيم: {وَلَكِنْ ليطمئن قَلْبِي} (2). وقال معاذ: اجلس بنا نؤمن ساعة (3). وقال ابن مسعود: اليقين الإيمان كله (4). وقال ابن عمر: لا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يدع ما حاك في الصدر (5). وقال مجاهد: {شرع لكم ... } (6): أوصيناك يا محمد وإياه دينا واحدا. وقال ابن عباس: {شرعةً وَمِنْهَاجًا} (7): سبيلا وسنة (8). (9)
- وقال فيه شيخ الإسلام ابن تيمية: فإن كتاب الإيمان الذي افتتح به الصحيح قرر مذهب السنة والجماعة، وضمنه الرد على المرجئة، فإنه كان من القائمين بنصرة السنة والجماعة، مذهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان. (10)
_________
(1) وصله ابن أبي شيبة في كتاب الإيمان (135) وفي المصنف (6/ 166/30384) وابن بطة (2/ 9/123/ 1166) وأصول الاعتقاد (4/ 926/1572) والخلال في السنة (4/ 57/1162) وأحمد في الإيمان كما في الفتح (1/ 65).
(2) البقرة الآية (260).
(3) تقدم في مواقف معاذ سنة (18هـ).
(4) قال الحافظ في الفتح (1/ 66): "وصله الطبراني (9/ 104/8544) بسند صحيح، وبقيته "والصبر نصف الإيمان"". وأخرجه أبو نعيم في الحلية (5/ 34) والبيهقي في الزهد من حديثه مرفوعا، ولا يثبت رفعه. اهـ
(5) قال الحافظ ابن رجب في كتابه 'فتح الباري' له (1/ 16): "هذا الأثر لم أقف عليه إلى الآن في غير كتاب البخاري)، وقال الحافظ ابن حجر: "لم أره موصولا إلى الآن". قال: قد ورد معنى قول ابن عمر عند مسلم (4/ 1980/2553) من حديث النواس بن سمعان مرفوعا.
(6) الشورى الآية (13).
(7) المائدة الآية (48).
(8) أخرجه عبد الرزاق في التفسير (1/ 193) وصحح إسناده الحافظ في الفتح (1/ 67).
(9) فتح الباري (1/ 63).
(10) مجموع الفتاوى (7/ 351).
(4/242)
- وقال أبو العباس السراج: شهدت أبا عبد الله البخاري، ودفع إليه كتاب من محمد بن كرام يسأله عن أحاديث منها: الزهري، عن سالم، عن أبيه، رفعه: (الإيمان لا يزيد ولا ينقص). فكتب على ظهر كتابه: من حدث بهذا استوجب الضرب الشديد والحبس الطويل. (1)
موقفه من القدرية:
- له كتاب 'خلق أفعال العباد': مطبوع متداول وهو رد على القدرية.
- قال ابن تيمية رحمه الله: وأنكر الأئمة من أصحاب أحمد وغيرهم من علماء السنة من قال: إن أصوات العباد وأفعالهم غير مخلوقة، وصنف البخاري في ذلك مصنفا. (2)
- وعقد في الصحيح كتابا سماه: (كتاب القدر).
المهتدي بالله (3) (256 هـ)
الخليفة الصالح، أمير المؤمنين، محمد بن هارون، أبو إسحاق، وقيل: أبو عبد الله بن الواثق بالله. ولد في خلافة جده، وبويع بعد خلع المعتز بالله سنة خمس وخمسين، وله بضع وثلاثون سنة. قال الخطيب: كان المهتدي بالله من أحسن الخلفاء مذهبا وأجملهم طريقة، وأظهرهم ورعا وأكثرهم عبادة. وكان
_________
(1) تاريخ الإسلام للذهبي حوادث ووفيات (251 - 260/ 314).
(2) مجموع الفتاوى (8/ 407).
(3) تاريخ بغداد (4/ 347) وسير أعلام النبلاء (12/ 535) وتاريخ الإسلام (حوادث 251 - 260/ص.326) والوافي بالوفيات (5/ 144) وفوات الوفيات (4/ 50 - 52) وتاريخ الخلفاء (361).
(4/243)
المهتدي بالله أسمر رقيقا، مليح الوجه، ورعا، عادلا، صالحا، متعبدا بطلا، شجاعا، قويا في أمر الله. قال الخطيب: قال أبو موسى العباسي: لم يزل صائما منذ ولي إلى أن قتل. قال نفطويه: أخبرنا بعض الهاشميين أنه وجد للمهتدي صفط فيه جبة صوف، وكساء كان يلبسه في الليل، ويصلي فيه، وكان قد اطرح الملاهي، وحرم الغناء، وحسم أصحاب السلطان عن الظلم، وكان شديد الإشراف على أمر الدواوين، يجلس بنفسه، ويجلس بين يديه الكتاب، يعملون الحساب، ويلزم الجلوس يومي الخميس والاثنين، وقد ضرب جماعة من الكبار. توفي رحمه الله مقتولا من طرف الأتراك سنة ست وخمسين ومائتين، وقام بعده المعتمد على الله.
موقفه من الرافضة:
- جاء في السير: قال نفطويه، أخبرنا بعض الهاشميين عن المهتدي أنه نفى جعفر بن محمود إلى بغداد لرفض فيه. (1)
علي بن خَشْرَم (2) (257 هـ)
علي بن خشرم بن عبد الرحمن بن عطاء بن هلال، أبو الحسن المَرْوَزِي. ولد سنة ستين ومائة. وسمع من إسماعيل بن علية وسفيان بن عيينة وعيسى ابن يونس وعبد الله بن وهب وهشيم بن بشير. روى عنه مسلم، والترمذي،
_________
(1) السير (12/ 537).
(2) تهذيب الكمال (20/ 421) وسير أعلام النبلاء (11/ 552) وتاريخ الإسلام (حوادث 251 - 260/ص.212) وتهذيب التهذيب (7/ 316 - 317).
(4/244)
والنسائي، وابن خزيمة، وأبو حامد أحمد بن حمدون الأعمش، وابن أبي داود. وثقه النسائي وغيره. توفي رحمه الله سنة سبع وخمسين ومائتين.
موقفه من الجهمية:
- عن علي بن خشرم المروزي قال: من قال القرآن، أو لفظي بالقرآن أو القرآن بقراءتي أو قراءتي للقرآن -قدم أو أخر- فهو واحد. وقال: ما أُحسِنُ هذا الكلام ليس بينهما فرق فجعل يتعجب ممن يفرق بينهما ويقول: من قال من اللفظية كلامه فإنه يخرج إلى كلام الروحانية - صنف من الزنادقة. (1)
عبد الحميد بن عصام الجُرْجَانِي (2) (257 هـ)
الإمام الحافظ، عبد الحميد بن عصام، أبو عبد الله الجرجاني، نزيل همذان. سمع سفيان بن عيينة، ويزيد بن هارون، وأبا داود الطيالسي، وجماعة. وعنه يحيى بن عبد الله الكرابيسي، وأبو حاتم، وآخرون. قال صالح ابن أحمد: كان أحد العلماء والفقهاء، ثقة صدوقا. وعن ابن حمويه قال: ما رأت عيناي قط مثل عبد الحميد بن عصام الجرجاني.
توفي سنة سبع وخمسين ومائتين.
_________
(1) أصول الاعتقاد (2/ 388 - 389/ 590).
(2) الجرح والتعديل (6/ 16 - 17) والثقات (8/ 402) وتاريخ جرجان (251 - 252) وتاريخ الإسلام (حوادث 251 - 260/ص.190) وسير أعلام النبلاء (12/ 181 - 182).
(4/245)
موقفه من الجهمية:
- قال الذهبي في سيره: ولما وقعت المحنة في اللفظ، سكت الجرجاني، فخرج عليه أصحاب الحديث، فسمعت أبي يقول: ذهبت مع صالح بن حمويه أخي المرار، فوقف على مجلس الجرجاني، فقال: ما تقول في اللفظ بالقرآن؟ فسكت حتى سأله الثالثة، فقال: أراه محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. (1)
الرِّيَاشِيُّ (2) (257 هـ)
العلامة الحافظ عباس بن الفرج، أبو الفضل الرياشي البصري النحوي. مولى محمد بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس. ولد بعد الثمانين ومائة.
روى عن أبي داود الطيالسي ووهب بن جرير ومعمر بن المثنى ومحمد ابن سلام الجمحي وأشهل بن حاتم وخلق كثير. وروى عنه أبو داود قوله في تفسير أسنان الإبل وإبراهيم الحربي وابنه محمد بن العباس ومحمد بن خزيمة وأبو العباس المبرد وغيرهم. قال أبو سعيد السيرافي: كان عالما باللغة والشعر، كثير الرواية عن الأصمعي، وروى أيضا عن غيره.
- وقال الخطيب: قدم بغداد، وحدث بها، وكان ثقة، وكان من
_________
(1) السير (12/ 182).
(2) تاريخ بغداد (12/ 138) والمنتظم (12/ 132 - 134) وفيات الأعيان (3/ 27 - 28) وتهذيب الكمال (14/ 234 - 238) والسير (12/ 372 - 376) وشذرات الذهب (2/ 136).
(4/246)
الأدب وعلم النحو بمحل عال، وكان يحفظ كتب أبي زيد، وكتب الأصمعي كلها، وقرأ على أبي عثمان المازني 'كتاب سيبويه'. وكان المازني يقول: قرأ علي الرياشي 'الكتاب' وهو أعلم به مني. قال ابن دريد: قتلته الزنج بالبصرة سنة سبع وخمسين ومائتين.
موقفه من المشركين:
- جاء في السير: وقال علي بن أبي أمية: لما كان من دخول الزنج البصرة ما كان، وقتلهم بها من قتلوا، وذلك في شوال سنة سبع، بلغنا أنهم دخلوا على الرياشي المسجد بأسيافهم، والرياشي قائم يصلي الضحى، فضربوه بالأسياف وقالوا: هات المال، فجعل يقول: أي مال، أي مال؟ حتى مات. فلما خرجت الزنج عن البصرة، دخلناها، فمررنا ببني مازن الطحانين -وهناك كان ينزل الرياشي- فدخلنا مسجده، فإذا به ملقى وهو مستقبل القبلة، كأنما وجه إليها. وإذا بشملة تحركها الريح وقد تمزقت، وإذا جميع خلقه صحيح سوي لم ينشق له بطن، ولم يتغير له حال، إلا أن جلده قد لصق بعظمه ويبس، وذلك بعد مقتله بسنتين رحمه الله.
قال الذهبي: فتنة الزنج كانت عظيمة، وذلك أن بعض الشياطين الدهاة، كان طرقيا أو مؤدبا، له نظر في الشعر والأخبار، ويظهر من حاله الزندقة والمروق، ادعى أنه علوي، ودعا إلى نفسه، فالتف عليه قطاع طريق، والعبيد السود من غلمان أهل البصرة، حتى صار في عدة، وتحيلوا وحصلوا سيوفا وعصيا، ثم ثاروا على أطراف البلد، فبدعوا وقتلوا، وقووا، وانضم إليهم كل مجرم، واستفحل الشر بهم، فسار جيش من العراق لحربهم،
(4/247)
فكسروا الجيش، وأخذوا البصرة، واستباحوها، واشتد الخطب، وصار قائدهم الخبيث في جيش وأهبة كاملة، وعزم على أخذ بغداد، وبنى لنفسه مدينة عظيمة، وحار الخليفة المعتمد في نفسه، ودام البلاء بهذا الخبيث المارق ثلاث عشرة سنة، وهابته الجيوش، وجرت معه ملاحم ووقعات يطول شرحها. قد ذكرها المؤرخون إلى أن قتل. فالزنج هم عبارة عن عبيد البصرة الذين ثاروا معه. لا بارك الله فيهم. (1)
زهير بن محمد بن قُمَيْر (2) (257 هـ)
الإمام زهير بن محمد بن قمير بن شعبة المروزي، نزيل بغداد. كنيته أبو محمد وقيل أبو عبد الرحمن. روى عن الإمام أحمد وروح بن عبادة وأبي نعيم الفضل بن دكين وعبد الرزاق بن همام وغيرهم، وروى عنه ابن ماجه وأحمد ابن عبد الله البزاز ويحيى بن صاعد وأبو عبد الله المحاملي وعمر بن بجير وآخرون.
قال محمد بن إسحاق الثقفي: ثقة مأمون، وقال الخطيب: كان ثقة صادقا ورعا زاهدا، وانتقل في آخر عمره من بغداد إلى طرسوس فرابط بها إلى أن مات.
توفي رحمه الله في آخر سنة سبع وخمسين ومائتين، وقيل سنة ثمان
_________
(1) السير (12/ 374 - 375).
(2) تاريخ بغداد (8/ 484) طبقات الحنابلة (1/ 159) وتهذيب الكمال (9/ 411 - 414) والسير (12/ 360 - 361) وتهذيب التهذيب (3/ 347 - 348) وشذرات الذهب (2/ 136).
(4/248)
وخمسين.
موقفه من المشركين:
- قال البغوي: ما رأيت بعد أحمد بن حنبل أفضل منه، سمعته يقول: أشتهي لحما من أربعين سنة، ولا آكله حتى أدخل الروم، فآكل من مغانم الروم. (1)
أحمد بن الفُرَات (2) (258 هـ)
أحمد بن الفرات بن خالد، الشيخ الإمام الحافظ الكبير الحجة محدث أصبهان، أبو مسعود الضَّبِّي الرازي نزيل أصبهان. ولد سنة نيف وثمانين ومائة في خلافة هارون الرشيد. وطلب العلم في الصغر وعد من الحفاظ، وهو شاب أمرد، وارتحل إلى العراق والشام والحجاز واليمن ولحق الكبار. سمع عبد الله بن نمير، وعبد الله بن مسلمة القعنبي، وعبد الرزاق بن همام، ويزيد ابن هارون، وأكثر الترحال في لقي الرجال. قال إبراهيم بن محمد الطيان، سمعت أبا مسعود يقول: كتبت عن ألف وسبعمائة شيخ، وكتبت ألف ألف حديث وخمسمائة ألف فعملت من ذلك في تواليفي خمسمائة ألف حديث. وألف المسند والكتب الكثيرة. روى عنه أبو داود وأبو بكر بن أبي عاصم،
_________
(1) السير (12/ 361) وتاريخ بغداد (8/ 485).
(2) الجرح والتعديل (2/ 67) وتاريخ بغداد (4/ 343 - 344) وتهذيب الكمال (1/ 422 - 425) وتذكرة الحفاظ (2/ 544 - 545) وميزان الاعتدال (1/ 127 - 128) والوافي بالوفيات (7/ 280) وشذرات الذهب (2/ 138) والسير (12/ 480 - 488).
(4/249)
وجعفر الفريابي. قال أحمد بن حنبل: ما أظن بقي أحد أعرف بالمسندات من ابن الفرات. وقال أيضا: ما تحت أديم السماء أحفظ لأخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أبي مسعود الرازي. قال أبو أحمد بن عدي: لا أعلم لأبي مسعود الرازي رواية منكرة وهو من أهل الصدق والحفظ. توفي في شعبان سنة ثمان وخمسين ومائتين.
موقفه من الرافضة:
- جاء في السير: عن أحمد بن محمود بن صبيح: سمعت أبا مسعود الرازي يقول: وددت أني أقتل في حب أبي بكر وعمر (1).
موقفه من الجهمية:
من له إلمام بتواريخ العالم الإسلامي وطبقات علمائهم، يعرف ما كان عليه هذا البلد المبارك -يعني أصبهان-، فقد خرج منه أكابر العلماء الذين كان لهم إسهام كبير في السنة عموما وفي العقيدة السلفية خصوصا. ومنهم هذا العلامة، له: 'كتاب السنة'.
- ومن مواقفه الطيبة ما جاء في أصول الاعتقاد: عن أبي مسعود أحمد ابن الفرات أنه قال: من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي. (2)
_________
(1) السير (12/ 484).
(2) أصول الاعتقاد (2/ 389/595).
(4/250)
الذُّهْلِي (1) (258 هـ)
محمد بن يحيى بن عبد الله بن خالد بن فارس بن ذؤيب، الإمام العلامة الحافظ البارع، شيخ الإسلام، وعالم أهل المشرق، وإمام أهل الحديث بخراسان، أبو عبد الله الذهلي مولاهم، النيسابوري. مولده سنة بضع وسبعين ومائة. سمع من عبد الرحمن بن مهدي، وأسباط بن محمد وأبي داود الطيالسي وعبد الرزاق وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وعبد الله بن الزبير الحميدي، وخلائق بالحرمين والشام ومصر والعراق والري وخراسان واليمن والجزيرة وبرع في هذا الشأن. حدث عنه الجماعة سوى مسلم، وأبو زرعة وابن خزيمة وأبو حاتم وأبو عوانة الاسفراييني وخلق كثير، وانتهت إليه مشيخة العلم بخراسان مع الثقة والصيانة والدين ومتابعة السنن. عن محمد بن عسكر قال: كنا عند أحمد بن حنبل فدخل محمد بن يحيى الذهلي فقام إليه أحمد وتعجب منه الناس ثم قال لبنيه وأصحابه: اذهبوا إلى أبي عبد الله واكتبوا عنه. قال أبو بكر بن زياد: وهو عندي إمام في الحديث. قال أبو سعيد المؤذن: سمعت زنجويه بن محمد يقول: كنت أسمع مشايخنا يقولون: الحديث الذي لا يعرفه محمد بن يحيى لا يعبأ به. قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: كتب عنه أبي بالري، وهو ثقة صدوق إمام من أئمة المسلمين، سئل أبي عنه فقال: ثقة. قال الحافظ أبو بكر الخطيب: كان أحد الأئمة العارفين، والحفاظ المتقنين، والثقات المأمونين، صنف حديث الزهري وجوده، وقدم بغداد
_________
(1) تاريخ بغداد (3/ 415 - 420) وتهذيب الكمال (26/ 617 - 631) وتذكرة الحفاظ (2/ 530 - 532) والوافي بالوفيات (5/ 186 - 187) والبداية والنهاية (11/ 31) وشذرات الذهب (2/ 138) والسير (12/ 273 - 285).
(4/251)
وجالس شيوخها وحدث بها وكان أحمد بن حنبل يثني عليه وينشر فضله. مات سنة ثمان وخمسين ومائتين وبلغ ستا وثمانين سنة.
موقفه من الجهمية:
- جاء في تاريخ الخطيب بالسند إلى محمد بن يحيى الذهلي يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق من جميع جهاته، وحيث يتصرف، فمن لزم هذا استغنى عن اللفظ وعما سواه من الكلام في القرآن، ومن زعم أن القرآن مخلوق فقد كفر وخرج عن الإيمان وبانت منه امرأته يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه وجعل ماله فيئا بين المسلمين ولم يدفن في مقابر المسلمين. ومن وقف وقال: لا أقول مخلوق أو غير مخلوق فقد ضاهى الكفر ومن زعم أن لفظي بالقرآن مخلوق فهذا مبتدع لا يجالس ولا يكلم. (1)
- وفي أصول الاعتقاد عنه قال: من وقف في القرآن فمحله محل من زعم أن القرآن مخلوق. (2)
- وفيه عنه قال: إن من قال إن القرآن يكون مخلوقا بالألفاظ فقد زعم أن القرآن مخلوق. وقال هو مبتدع وأمر بمباينته ومجانبته. (3)
_________
(1) تاريخ بغداد (2/ 31 - 32) والسير (12/ 289).
(2) أصول الاعتقاد (2/ 362/540).
(3) أصول الاعتقاد (2/ 388/589).
(4/252)
هارون بن إسحاق الهمداني (1) (258 هـ)
الإمام الحافظ هارون بن إسحاق بن محمد بن مالك بن زبيد الهمداني، أبو القاسم الكوفي. روى عن سفيان بن عيينة وعبد الله بن نمير وعبد الرزاق بن همام ووكيع بن الجراح وحفص بن غياث وطبقتهم. وروى عنه الترمذي والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وعبد الرحمن بن أبي حاتم، وخلق كثير. قال علي بن الحسين بن الجنيد: كان محمد بن عبد الله بن نمير يبجله. وقال أبو بكر بن خزيمة: كان من خيار عباد الله. وقال الذهبي: ثقة متعبد. توفي رحمه الله سنة ثمان وخمسين ومائتين.
موقفه من الجهمية:
- عن المروذي قال: سألت هارون بن إسحاق الهمذاني عن الواقفة فقال: هم شر من الجهمية. (2)
يحيى بن معاذ الرازي (3) (258 هـ)
يحيى بن معاذ أبو زكريا الرازي الواعظ، حكيم أهل زمانه. سمع إسحاق بن سليمان الرازي ومكي بن إبراهيم البلخي وعلي بن محمد الطنافسي. وعنه الفقيه أبو نصر بن سلام، وأبو عثمان الحيري الزاهد وعلي
_________
(1) سير أعلام النبلاء (12/ 126 - 127) وتاريخ الإسلام (حوادث 251 - 260/ص.358) وتهذيب الكمال (30/ 75) وتهذيب التهذيب (11/ 2).
(2) الإبانة (1/ 12/303 - 304/ 90).
(3) حلية الأولياء (10/ 51 - 70) وتاريخ بغداد (14/ 208) والمنتظم (12/ 148 - 149) والكامل (7/ 258) ووفيات الأعيان (6/ 165 - 168) وسير أعلام النبلاء (13/ 15 - 16) وتاريخ الإسلام (وفيات 251 - 260/ص373).
(4/253)
بن محمد القباني ومشايخ الري وهمدان وبلخ ومرو.
كان قد انتقل عن الري، وسكن نيسابور إلى أن مات بها وقدم بغداد واجمتع إليه مشايخ الصوفية.
قال عنه ابن الأثير: كان عابدا صالحا. وقال ابن خلكان: أبو زكريا يحيى بن معاذ الرازي الواعظ، أحد رجال الطريقة، ذكره أبو القاسم القشيري في 'الرسالة' وعده من جملة المشايخ. توفي سنة ثمان وخمسين مائتين بنيسابور، رحمه الله تعالى.
موقفه من المبتدعة والمشركين:
- وقال يحيى بن معاذ الرازي: اختلاف الناس كلهم يرجع إلى ثلاثة أصول، فلكل واحد منها ضد، فمن سقط عنه وقع في ضده: التوحيد وضده الشرك، والسنة وضدها البدعة، والطاعة وضدها المعصية. (1)
- روى ابن بطة بسنده إلى علي بن الحسين بن هذيل القطان، قال: سمعت يحيى بن معاذ الرازي، يقول: الناس خمس طبقات فاجتنب أربعا والزم واحدة، فأما الأربع الذين يجب عليك أن تجتنبهن. فذكر ثلاث طبقات، اختصرت أنا الكلام بترك وصفهم لكثرته، ثم قال: والطبقة الرابعة: فهم المتعمقون في الدين الذين يتكلمون في العقول ويحملون الناس على قياس أفهامهم، قد بلغ من فتنة أحدهم وتمكن الشك من قلبه أنك تراه يحتج على خصمه بحجة قد خصمه بها، وهو نفسه من تلك الحجة في شك، ليس
_________
(1) الاعتصام (1/ 122 - 123).
(4/254)
يعتقدها ولا يجهل ضعفها، ولا ديانة له فيها، إن عرضت له من غيره حجة هي ألطف منها انتقل إليها، فدينه محمول على سفينة الفتن يسير بها في بحور المهالك، يسوقها الخطر ويسوسها الحيرة، وذلك حين رأى عقله أملى بالدين وأضبط له وأغوص على الغيب، وأبلغ لما يراد من الثواب من أمر الله إياه ونهيه وفرائضه الملجمة للمؤمنين عن اختراق السدود، والتنقير عن غوامض الأمور، والتدقيق الذي قد نهيت هذه الأمة عنه، إذ كان ذلك سبب هلاك الأمم قبلها وعلة ما أخرجها من دين ربها، وهؤلاء هم الفساق في دين الله المارقون منه التاركون لسبيل الحق المجانبون للهدى، الذين لم يرضوا بحكم الله في دينه حتى تكلفوا طلب ما قد سقط عنهم طلبه، ومن لم يرض بحكم الله في المعرفة حكما لم يرض بالله ربا، ومن لم يرض بالله ربا كان كافرا، وكيف يرضون بحكم الله في الدين وقد بين لنا فيه حدودا وفرض علينا القيام عليها والتسليم بها فجاء هؤلاء بعد قلة عقولهم وجور فطنهم وجهل مقاييسهم يتكلمون في الدقائق ويتعمقون، فكفى بهم خزيا سقوطهم من عيون الصالحين يقتصر فيهم على ما قد لزمهم في الأمة من قالة السوء وألبسوا من أثواب التهمة واستوحش منهم المؤمنون ونهى عن مجالستهم العلماء وكرهتهم الحكماء واستنكرتهم الأدباء وقامت منهم فراسة البصراء، شكاكون جاهلون ووسواسون متحيرون فإذا رأيت المريد يطيف بناحيتهم فاغسل يدك منه ولا تجالسه.
(4/255)
(1)
وقال يحيى بن معاذ الرازي: إن ربنا تعالى أبدى شيئا وأخفى أشياء وإن المحفوظين بولاية الإيمان حفظوا ما أبدى وتركوا ما أخفى وذهب آخرون يطلبون علم ما أخفى فهتكوا فهلكوا فأداهم الترك لأمره إلى حدود الضلال فكانوا زائغين. (2)
موقفه من الجهمية:
- قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى: وروى أيضا -أي ابن أبي حاتم- عن يحيى بن معاذ الرازي أنه قال: إن الله على العرش بائن من الخلق، وقد أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيء عددا، لا يشك في هذه المقالة إلا جهمي رديء ضليل، وهالك مرتاب، يمزج الله بخلقه، ويخلط منه الذات بالأقذار والأنتان. (3)
موقفه من القدرية:
- جاء في الإبانة: عن أبي محمد الإسكاف: سمعت يحيى بن معاذ الرازي يقول: من أحب أن يفرح بالله ويتمتع بعبادة الله؛ فلا يسألن عن سر الله يعني القدر. (4)
_________
(1) الإبانة (1/ 2/404 - 406/ 309).
(2) الإبانة (1/ 2/419).
(3) مجموع الفتاوى (5/ 49).
(4) الإبانة (1/ 8/243/ 1282).
(4/256)
الجَوْزَجَانيّ (1) (259 هـ)
الحافظ، إمام الجرح والتعديل، إبراهيم بن يعقوب بن إسحاق السعدي، أبو إسحاق الجوزجاني، سكن دمشق. روى عن أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وسعيد بن أبي مريم، ويزيد بن هارون وخلق، روى عنه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وأبو حاتم، وأبو زرعة، وأبو بشر الدولابي وآخرون. قال أبو بكر الخلال: إبراهيم بن يعقوب جليل جدا، كان أحمد بن حنبل يكاتبه ويكرمه إكراما شديدا. قال الدارقطني: كان من الحفاظ المصنفين والمخرجين الثقات. وقال ابن حبان: كان حريزي المذهب، ولم يكن بداعية إليه، وكان صلبا في السنة حافظا للحديث إلا أن من صلابته كان يتعدى طوره. وقال الحافظ ابن حجر: ثقة حافظ، رمي بالنصب. توفي رحمه الله سنة تسع وخمسين ومائتين.
موقفه من القدرية:
- قال الجوزجاني: كان قوم يتكلمون في القدر، احتمل الناس حديثهم لما عرفوا من اجتهادهم في الدين والصدق والأمانة، ولم يتوهم عليهم الكذب، وإن بلوا بسوء رأيهم، منهم معبد الجهني، وقتادة، ومعبد رأسهم. (2)
_________
(1) تاريخ دمشق (7/ 278 - 282) وطبقات الحنابلة (1/ 98) وتهذيب الكمال (2/ 244 - 248) وميزان الاعتدال (1/ 75 - 76) وتاريخ الإسلام (حوادث 251 - 260/ص.71 - 72) وتهذيب التهذيب (1/ 181 - 183).
(2) سير أعلام النبلاء (4/ 186).
(4/257)
أحمد بن سِنَان (1) (259 هـ)
أحمد بن سنان بن أسد بن حبان الإمام الحافظ المجود، أبو جعفر الواسطي القطان، ولد بعد السبعين ومائة. سمع من وكيع وأبي معاوية الضرير، وعبد الرحمن بن مهدي، ويحيى القطان، ويزيد بن هارون، وهذه الطبقة، وصنف 'المسند'. حدث عنه البخاري، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجه، والنسائي في حديث مالك، وابنه جعفر بن أحمد وابن خزيمة وعبد الرحمن بن أبي حاتم وخلق سواهم. قال النسائي: ثقة. وقال أبو حاتم: ثقة صدوق. وقال ابنه عبد الرحمن: إمام أهل زمانه. وقال إبراهيم بن أورمة: أعدنا عليه ما سمعناه من بندار وأبي موسى يعني: لإتقانه وضبطه. توفي رحمه الله سنة تسع وخمسين ومائتين.
موقفه من المبتدعة:
- جاء في الإبانة: قال أبو حاتم: سمعت أحمد بن سنان يقول: لأن يجاورني صاحب طنبور، أحب إلي من أن يجاورني صاحب بدعة؛ لأن صاحب الطنبور أنهاه وأكسر الطنبور، والمبتدع يفسد الناس والجيران والأحداث. (2)
- وفيها أيضا قال أبو حاتم: سمعت أحمد بن سنان يقول: إذا جاور الرجل صاحب بدعة أرى له أن يبيع داره إن أمكنه وليتحول وإلا أهلك
_________
(1) الجرح والتعديل (2/ 53) وتهذيب الكمال (1/ 322 - 323) وتهذيب التهذيب (1/ 34 - 35) وتذكرة الحفاظ (2/ 521) والوافي بالوفيات (6/ 407) وشذرات الذهب (2/ 137) والسير (12/ 244 - 246).
(2) الإبانة (2/ 3/469/ 473).
(4/258)
ولده وجيرانه، فنزع ابن سنان بحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من سمع منكم بالدجال فلينأ عنه قالها ثلاثا، فإن الرجل يأتيه وهو يرى أنه كاذب فيتبعه لما يرى من الشبهات" (1).اهـ (2)
" التعليق:
وأين نسكن الآن في هذا الزمان، وقد ملأ الأرض المبتدعة إلا ما شاء الله من البقاع التي لم تنجس بنجاسة البدع والمبتدعة.
- وجاء في ذم الكلام: عن جعفر بن أحمد بن سنان الواسطي قال: سمعت أحمد بن سنان يقول: ليس في الدنيا مبتدع إلا وهو يبغض أهل الحديث، وإذا ابتدع الرجل بدعة نزعت حلاوة الحديث من قلبه. (3)
" التعليق:
وهو كذلك، فتصبح صناعة الحديث عنده لتغطية بدعته وللرياء والسمعة وللتحريف الباطل والتضليل نسأل الله العافية.
- جاء في شرف أصحاب الحديث: بالسند إلى أبي حاتم قال: سمعت أحمد بن سنان وذكر حديث: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ... " (4)
_________
(1) أخرجه: أحمد (4/ 431) وأبو داود (4/ 495/4319) والحاكم (4/ 531) وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجاه" وسكت عنه الذهبي.
(2) الإبانة (2/ 3/469/ 474).
(3) ذم الكلام (77) والسير (12/ 245) وتذكرة الحفاظ (2/ 521) وشرف أصحاب الحديث (73).
(4) تقدم تخريجه. انظر مواقف يزيد بن هارون سنة (206هـ).
(4/259)
فقال: هم أهل العلم وأصحاب الآثار. (1)
" التعليق:
وهو كذلك، لأنهم هم ورثته في علمه وعقيدته وسنته، وهم النجوم التي يهتدى بها، وعن اختفائها تتلاطم أمواج البدع والإلحاد والخرافات وجميع الضلالات، وهذا هو الواقع في غالب البلدان، إلا التي استنارت بنور الحق وهدي الطائفة المنصورة.
الحسن بن محمد بن الصَّبَّاح (2) (260 هـ)
الحسن بن محمد بن الصباح الزَّعْفَرَانِي، أبو علي البغدادي، كان يسكن درب الزعفراني ببغداد، فنسب إليه. روى عن سعيد بن منصور، وسفيان بن عيينة وعلي ابن المديني، وأبي نعيم، والشافعي، ووكيع بن الجراح، ويزيد بن هارون. وروى عنه الجماعة سوى مسلم، وأبو القاسم البغوي، وابن خزيمة، وأبو عوانة، ومحمد ابن مخلد، وخلق. قال ابن حبان: كان أحمد بن حنبل وأبو ثور يحضران عند الشافعي، وكان الحسن الزعفراني هو الذي يتولى القراءة. وقال أحمد بن محمد بن الجراح: سمعت الحسن الزعفراني يقول: لما قرأت كتاب 'الرسالة' على الشافعي قال لي: من أي العرب أنت؟ قلت: ما أنا بعربي، وما أنا إلا من قرية يقال لها الزعفرانية، قال: فأنت سيد هذه
_________
(1) شرف أصحاب الحديث (27).
(2) تاريخ بغداد (7/ 407) وطبقات الحنابلة (1/ 138) وتهذيب الكمال (6/ 310 - 313) وسير أعلام النبلاء (12/ 262 - 265) وتهذيب التهذيب (2/ 318 - 319).
(4/260)
القرية. وقال ابن عبد البر: يقال إنه لم يكن في وقته أفصح منه ولا أبصر باللغة، ولذلك اختاروه لقراءة كتب الشافعي، وكان يذهب إلى مذهب أهل العراق فتركه وتفقه للشافعي، وكان نبيلا ثقة مأمونا. توفي رحمه الله سنة ستين ومائتين.
موقفه من المبتدعة:
- عن إبراهيم بن يحيى قال: سمعت الزعفراني يقول: ما على وجه الأرض قوم أفضل من أصحاب هذه المحابر، يتبعون آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويكتبونها لكي لا تدرس. (1)
أبو شعيب السُّوسِي (2) (261 هـ)
هو صالح بن زياد بن عبد الله بن إسماعيل، الرُّسْتبي السوسي، أبو شعيب المقرئ شيخ الرَّقَّة وعالمها ومقرئها. قرأ القرآن على يحيى اليزيدي صاحب أبي عمرو. وسمع بالكوفة من عبد الله بن نمير، وأسباط بن محمد وجماعة. وبمكة من ابن عيينة وغيره. وحدث عنه أبو بكر بن أبي عاصم، وأبو عروبة الحراني والحافظ أبو علي محمد بن سعيد. قال أبو حاتم: صدوق.
توفي في أول سنة إحدى وستين ومائتين، وقد قارب التسعين.
_________
(1) ذم الكلام (99).
(2) طبقات الحنابلة (1/ 176 - 177) وتهذيب الكمال (13/ 50 - 52) وسير أعلام النبلاء (12/ 380 - 381) وتاريخ الإسلام (حوادث 261 - 270/ص.108 - 109) والوافي بالوفيات (16/ 258).
(4/261)
موقفه من الجهمية:
- قال عنه الذهبي في سيره: وكان صاحب سنة، دعا له الإمام لما بلغه، أن ختنه تكلم في القرآن، فقام أبو شعيب عليه ليفارق بنته. (1)
علي بن إِشْكَاب (2) (261 هـ)
هو أبو الحسن علي بن الحسين بن إبراهيم بن الحر بن زعلان البغدادي، كان أسن من أخيه محمد بن إشكاب. سمع إسماعيل بن علية، وإسحاق الأزرق، وأبا معاوية، وحجاج بن محمد وخلقا. وعنه أبو داود، وابن ماجه، وابن أبي حاتم وغيرهم. وطال عمره، وتزاحم عليه الطلاب. وثقه النسائي وغيره. مات في شوال سنة إحدى وستين ومائتين، وله بضع وثمانون سنة.
موقفه من الجهمية:
- قال أبو بكر المروذي: سمعت علي بن أشكاب يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال: إنه مخلوق، فهو كافر. (3)
_________
(1) السير (12/ 381).
(2) تاريخ بغداد (11/ 392 - 394) وسير أعلام النبلاء (12/ 352 - 353) وتاريخ الإسلام (حوادث261 - 270/ص.135) وتهذيب الكمال (20/ 379 - 381).
(3) الإبانة (2/ 12/72/ 296).
(4/262)
الأَثْرَم (1) (261 هـ)
الإمام الحافظ العلامة، أبو بكر أحمد بن محمد بن هانئ، الإِسْكَافِي الأثرم الطائي، وقيل الكلبي، أحد الأعلام، ومصنف 'السنن' وتلميذ الإمام أحمد، خراساني الأصل. كان من أهل إسكاف بني الجنيد وبها مات. ولد في دولة الرشيد، وسمع من أحمد بن إسحاق الحضرمي، وأبي نعيم، وعفان، والقعنبي، ومسدد بن مسرهد، وأحمد بن حنبل، وابن أبي شيبة، وخلق. حدث عنه النسائي، وموسى بن هارون، ويحيى بن صاعد، وعلي بن أبي طاهر القزويني وغيرهم. وله مصنف في علل الحديث. قال أبو بكر الخلال: كان الأثرم جليل القدر، حافظا وكان عاصم بن علي لما قدم بغداد طلب رجلا يخرج له فوائد يمليها فلم يجد في ذلك الوقت غير أبي بكر الأثرم، فكأنه لما رآه لم يقع منه موقعا لحداثة سنه، فقال له أبو بكر: أخرج كتابك، فجعل يقول له: هذا الحديث خطأ وهذا غلط، وهذا كذا. قال: فسر عاصم بن علي به وأملى قريبا من خمسين مجلسا، وكان يعرف الحديث ويحفظ فلما صحب أحمد بن حنبل ترك ذلك، وأقبل على مذهب أحمد. وكان معه تيقظ عجيب. وكان عالما بتواليف ابن أبي شيبة، لازمه مدة. توفي رحمه الله سنة إحدى وستين ومائتين.
موقفه من المبتدعة:
- قال الأثرم: كنت عند خلف البزاز يوم جمعة، فلما قمنا من المجلس
_________
(1) الجرح والتعديل (2/ 72) وتهذيب الكمال (1/ 476 - 480) وتذكرة الحفاظ (2/ 570 - 572) وتهذيب التهذيب (1/ 78 - 79) وشذرات الذهب (2/ 141 - 142) والسير (12/ 623 - 628) وتاريخ بغداد (5/ 110 - 112).
(4/263)
صرت إلى قرن الصراة. فأردت أن أغتسل للجمعة. فغرقت. فلم أجد شيئا أتقرب به إلى الله جل ثناؤه أكثر عندي من أن قلت: اللهم إن تحيني لأتوبن من صحبة حارث -يعني المحاسبي. (1)
كتابه إلى الثغر:
- قال الأثرم في أثناء كتاب إلى الثغر: أعاذنا الله وإياكم من كل موبقة، وأنقذنا وإياكم من كل مهلكة. وسلمنا وإياكم من كل شبهة، ومسكنا وإياكم بصالح ما مضى عليه أسلافنا وأئمتنا.
كتابي إليكم -ونحن في نعم متواصلة. نسأل الله تمامها، ونرغب إليه في الزيادة من فضله، والعون على بلوغ رضاه- إن في كثير من الكلام فتنة، وبحسب الرجل ما بلغ به من الكلام حاجته. ولقد حكي لنا أن فضلا كان يتلاكن في كلامه، فإن في السكوت لسَعَة، وربما كان من الأمور ما يطيق عنه السكوت. وذلك لما أوجب الله من النصيحة، وندب العلماء من القيام بها للخاصة والعامة، ولولا ذلك كان ما دعا إليه من الخمول أصوب في دهر قل فيه من يستراح إليه، ونشأ فيه من يرغب عنه. ونحن في موضع انقطاع عن الأمصار، فربما انتهى إلينا الخبر الذي يزعجنا، فنحرص على الصبر. فنخاف وجوب الحجة من العلم.
ولقد تبين عند أهل العلم عظم المصيبة بما فقدنا من شيخنا رضي الله عنه، أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل إمامنا ومعلمنا، ومعلم من كان قبلنا
_________
(1) طبقات الحنابلة (1/ 68).
(4/264)
منذ أكثر من ستين سنة. وموت العالم مصيبة لا تجبر، وثلمة لا تسد. وما عالم كعالم، إنهم يتفاضلون ويتباينون بونا بعيدا. فقد ظننت أن عدو الله وعدو المسلمين إبليس وجنوده قد أعدوا من الفتن أسبابا، انتظروا بها فقده، لأنه كان يقمع باطلهم، ويزهق أحزابهم.
وكانت أول بدعة علمتها فاشية من الفتن المضلة، ومن العماية بعد الهدى. وقد رأيت قوما في حياة أبي عبد الله كانوا لزموا البيت على أسباب من النسك، وقلة من العلم. فأكرمهم الناس ببعض ما ظهر لهم من حبهم للخير، فدخلهم العجب مع قلة العلم. فكان لا يزال أحدهم يتكلم بالأمر العجيب. فيدفع الله ذلك بقول الشيخ، جزاه الله أفضل ما جزى من تعلمنا منه، ولا يكون من أحد منهم من ذلك شيء إلا كان سبب فضيحته، وهتك ما مضى من ستره. فأنا حافظ من ذلك لأشياء كثيرة. وإنما هذا من مكايد إبليس مع جنوده. يقول لأحدهم: أنت أنت، ومن مثلك؟ فقل، قد قال غيرك، ثم يلقي في قلبه الشيء. وليس هناك سعة في علم، فيزين عنده: أن يبتدئه ليشمت به. وإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وقد ظننت أن آخرين يلتمسون الشهرة، ويحبون أن يذكروا. وقد ذكر قبلهم قوم بألوان من البدع فافتضحوا، ولأن يكون الرجل تابعا في الخير خير من أن يكون رأسا في الشر. وقد قال ابن مسعود: (اتبعوا، ولا تبتدعوا، فقد كفيتم كل بدعة ضلالة). وقال: (أيها الناس إنكم ستحدثون ويحدث لكم، فإذا رأيتم محدثة فعليكم بالأمر الأول) وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "البركة مع
(4/265)
أكابركم" (1) وقال ابن مسعود: (لا يزال الناس بخير ما أخذوا العلم عن أكابرهم) وقال ابن عمر: (كل بدعة ضلالة، وإن رآها الناس حسنة) وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ألا هلك المتنطعون" (2) وقال الصديق رضي الله عنه: (أي أرض تقلني؟ وأي سماء تظلني؟ إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم) وقال علي: (ما أبردها على الكبد إذا سئل الرجل عما لا يعلم: أن يقول: لا أعلم) وقال أبو موسى: (من علمه الله علما فليعلمه الناس، وإياه أن يقول ما لا علم له به، فيصير من المتكلفين، ويمرق من الدين) وقال ابن مسعود: (إذا سئل أحدكم عما لا يعلم، فليقر، ولا يستحي) وروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث أنه قال: "من أحدث حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" (3) ... وقال الشعبي: (ما حدثوك عن رأيهم فألقه في الحش).
وقال عمر بن عبد العزيز: إياك وما أحدث المحدثون. فإنه لم تكن بدعة إلا وقد مضى قبلها ما هو دليل عليها، وعبرة منها، فعليك بلزوم السنة. فإنها لك بإذن الله عصمة. وإن السنة إنما سنها من قد علم ما جاء في خلافها من الخطأ والزلل والحمق والتعمق. وارض لنفسك بما رضي به القوم لأنفسهم. فإنهم عن علم وقفوا وببصر ناقد كفوا، ولهم على كشف الأمور كانوا أقوى، وبفضل -لو كان فيها- أحرى. إنهم لهم السابقون. فلئن كان الهدى
_________
(1) أخرجه القضاعي في مسند الشهاب (1/ 57/36 - 37) والطبراني في الأوسط (9/ 456 - 457/ 8986) وأبو نعيم في الحلية (8/ 171،172) وابن حبان (الإحسان 2/ 319/559) والحاكم (1/ 62) وقال: "صحيح على شرط البخاري" ووافقه الذهبي. كلهم عن ابن عباس.
(2) أخرجه أحمد (1/ 386) ومسلم (4/ 2055/2670) وأبو داود (5/ 15/4608) من حديث عبد الله بن مسعود.
(3) تقدم تخريجه. انظر مواقف علي رضي الله عنه سنة (40هـ).
(4/266)
ما أنتم عليه فقد سبقتموهم إليه، وإن قلتم: حدث حدث بعدهم، ما أحدثه إلا من اتبع غير سبيلهم، ورغب بنفسه عنهم. ولقد تكلموا منه بما يكفي، ووصفوا منه ما يشفي. فما دونهم مقصر ولا فوقهم محسر. لقد قصر دونهم أقوام فجفوا، وطمح آخرون عنهم فغلوا. وإنهم مع ذلك لعلى هدى مستقيم.
وقال القاسم بن محمد: (لأن يعيش الرجل جاهلا خير له من أن يقول على الله ما لا يعلم). وقال ابن مسعود: (إن من العلم: إذا سئل الرجل عما لا يعلم: أن يقول: الله أعلم). وقال ابن عمر: (العلم ثلاث: آية محكمة، وسنة ماضية. ولا أدري). وقال الشعبي: (لا أدري: نصف العلم). وقال الربيع بن خثيم: (إياك أن يقول الرجل: حرم هذا، ونهى عن هذا. فيقول الله له: كذبت). وقال أحمد بن عبد الرحمن الحميري: (لأن أرده مغبة أحب إلي أن أتكلفه). وقال الشعبي: (والله ما أبالي سئلت عما أعلم، أو عما لا أعلم). يقول: إنه يسهل علَيّ أن أقول: لا أعلم. وقال عبد الله بن عتبة بن مسعود: (إنك لن تخطئ الطريق ما دمت على الأثر). وقال ابن عباس: (عليك بالاستقامة، وإياك والبدع والتبدع). وقال معاذ بن جبل: (إياكم والتبدع والتنطع، وعليكم بالعتيق). وقال ابن عباس: (لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض. فإن ذلك يوقع الشك في قلوبكم). وقال إبراهيم: (ما جعل الله في هذه الأهواء مثقال ذرة من خير. وما هي إلا زينة من الشيطان. وما الأمر إلا الأمر الأول. وقد جعل الله على الحق نورا يكشف به العلماء، ويصرف به
(4/267)
شبهات الخطأ. وإن الباطل لا يقوم للحق. قال الله عز وجل: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} (1) فهذه لكل واصف كذب إلى يوم القيامة. وإن أعظم الكذب أن تكذب على الله).
وإن أبا عبد الله، وإن كان قريبا موته: فقد تقدمت إمامته، ولم يخلف فيكم شبهة. وإنما أبقاه الله لينفع به. فعاش ما عاش حميدا. ومات بحمد الله مغبوطا. يشهد له خيار عباد الله الذين جعلهم الله شهداء في أرضه. ويعرفون له ورعه وتقواه، واجتهاده وزهده، وأمانته في المسلمين وفضل علمه.
ولقد انتهى إلينا أن الأئمة الذين لم ندركهم كان منهم من ينتهي إلى قوله، ويسأله. ومنهم من يقدمه ويصفه. ولقد أخبرت أن وكيع بن الجراح كان ربما سأله، وأن عبد الرحمن بن مهدي كان يحكي عنه ويحتج به. ويقدمه في العلم ويصفه. وذلك نحو ستين سنة. وأخبرت أن الشافعي كانت أكثر معرفته بالحديث مما تعلم منه. ولقد أخبرت أن إسماعيل بن علية كان يهابه. وقال لي شيخ مرة: ضحكنا من شيء، وثم أحمد بن حنبل، فجئنا بعد إلى إسماعيل فوجدناه غضبان. فقال: تضحكون وعندي أحمد بن حنبل؟ وأخبرت أن يزيد بن هارون ذكره فبكى. وأخبرت أن يزيد عاده في منزله. وأخبرت أن أبا عاصم قال: ما جاءنا مثله.
_________
(1) الأنبياء الآية (18).
(4/268)
وكم بلغنا مثل هذا. وذكر تمام الرسالة بطولها. (1)
موقفه من الرافضة والقدرية:
- قال شيخ الإسلام في الصارم المسلول: قال أبو بكر بن هاني: لا تؤكل ذبيحة الروافض والقدرية كما لا تؤكل ذبيحة المرتد، مع أنه تؤكل ذبيحة الكتابي؛ لأن هؤلاء يقامون مقام المرتد، وأهل الذمة يقرون على دينهم، وتؤخذ منهم الجزية. (2)
موقفه من الجهمية:
- هو من أكبر أئمة أصحاب الإمام أحمد وله من الآثار في العقيدة السلفية كتاب السنة. وقد ذكره غير واحد ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية. (3)
أحمد بن عبد الله العِجْلِي (4) (261 هـ)
الإمام الحافظ، الأوحد الزاهد، أبو الحسن، أحمد بن عبد الله بن صالح ابن مسلم، العجلي الكوفي، نزيل مدينة طرابلس المغرب. ولد بالكوفة في سنة اثنتين وثمانين ومائة. سمع من حسين الجعفي، وشبابة بن سوار، ومحمد بن يوسف الفريابي ووالده الإمام عبد الله بن صالح المقرئ وطبقتهم. حدث عنه ولده صالح بن أحمد، وسعيد بن عثمان الأعناقي، وسعيد بن إسحاق، وولده
_________
(1) طبقات الحنابلة (1/ 68 - 72).
(2) الصارم (572).
(3) انظر درء التعارض (7/ 108) والذهبي في السير (12/ 624).
(4) تاريخ بغداد (4/ 214 - 215) وتذكرة الحفاظ (2/ 560 - 561) والوافي بالوفيات (7/ 79 - 80) وشذرات الذهب (2/ 141) والسير (12/ 505 - 507).
(4/269)
صالح الذي روى عنه كتابه في الجرح والتعديل، المعروف بـ 'معرفة الثقات' وله مؤلف آخر هو 'التاريخ'. قال عنه عباس بن محمد الدوري: كنا نعده مثل أحمد بن حنبل ويحيى بن معين. وقال عنه يحيى بن معين: ثقة ابن ثقة ابن ثقة. وقد فر إلى المغرب ونزل طرابلس لما ظهر الامتحان بخلق القرآن فاستوطنها وولد له بها. وقيل إنما سكن بها للتفرد والعبادة. ولم يكن له بالمغرب شبيه ولا نظير في زمانه في معرفة الغريب وإتقانه وفي زهده وورعه. توفي رحمه الله سنة إحدى وستين ومائتين.
موقفه من الرافضة والجهمية:
- جاء في السير: ومن كلام أحمد بن عبد الله قال: من آمن برجعة علي رضي الله عنه فهو كافر ومن قال القرآن مخلوق فهو كافر. (1)
الإمام مسلم (2) (261 هـ)
الإمام الكبير الحافظ المجود الحجة الصادق، أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري صاحب التصانيف أشهرها 'الصحيح' ولد سنة أربع ومائتين، وأول سماعه سنة ثمان عشرة ومائتين فأكثر عن يحيى بن يحيى التميمي، والقعنبي وسمع كذلك من أحمد بن يونس وسعيد
_________
(1) السير (12/ 506) والتذكرة (2/ 561).
(2) الجرح والتعديل (8/ 182 - 183) وتاريخ بغداد (13/ 100 - 104) وتهذيب الكمال (27/ 499 - 507) والسير (12/ 557 - 580) وطبقات الحنابلة (1/ 337 - 339) والأنساب (5/ 503) وتذكرة الحفاظ (2/ 588 - 590) والمنتظم (12/ 171 - 172) ووفيات الأعيان (5/ 194 - 196) وشذرات الذهب (2/ 144 - 145).
(4/270)
بن منصور، وأحمد بن حنبل وخلق كثير، وعدتهم مائتان وعشرون رجلا. أخرج عنهم في 'الصحيح' وشيوخ آخرين في غيره، روى عنه الترمذي، وإبراهيم بن محمد الفقيه وعبد الرحمن بن أبي حاتم، وأحمد بن سلمة الحافظ، وابن خزيمة، والحافظ أبو عوانة ونصر بن أحمد الحافظ، وغيرهم. قال أحمد ابن سلمة: رأيت أبا زرعة وأبا حاتم يقدمان مسلم بن الحجاج في معرفة الصحيح على مشايخ عصرهما. وقال أبو قريش الحافظ: حفاظ الدنيا أربعة: أبو زرعة بالري، ومسلم بنيسابور وعبد الله الدارمي بسمرقند، ومحمد بن إسماعيل ببخارى. وقال الحسين بن محمد الماسرجسي: سمعت أبي يقول: سمعت مسلما يقول: صنفت هذا 'المسند الصحيح' من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة. وقد صنف رحمه الله الكثير من المصنفات الحديثية منها: 'الأسماء والكنى' و'العلل' و'الطبقات' وغيرها. توفي رحمه الله في شهر رجب سنة إحدى وستين ومائتين بنيسابور عن بضع وخمسين سنة.
موقفه من المبتدعة:
- لقد أبدى مسلم في صحيحه، براعة فائقة في الرد على المبتدعة، فكان أول كتاب افتتح به صحيحه بعد المقدمة التي ضمنها مدخلا لدراسة السنة عموما، وكتابه على الخصوص، كتاب (الإيمان)، ساق فيه من الأحاديث ما فيه رد على المرجئة والجهمية والخوارج والمعتزلة. فساق من الأحاديث الكثيرة ما يدل على زيادة الإيمان ونقصانه. وساق من أحاديث الشفاعة وعذاب القبر ودخول عصاة الموحدين إلى الجنة، ما يرد به على الخوارج والمعتزلة ومن أحاديث إثبات الرؤية لله عز وجل يوم القيامة، كما
(4/271)
ساق في ثنايا الكتاب من أحاديث الصفات ما يرد به على الجهمية وأفراخهم، خالية من التأويل والتحريف الذي هو منهج الجهمية. وعقد كتابا كبيرا في ذكر فضائل أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - عموما، والصديق وعمر على الخصوص وما يرد به على الشيعة الذين شغلهم إبليس بسب خيار الأمة.
- بعد ما ذكر الإمام مسلم رحمه الله جماعة من الضعفاء والكذابين في الحديث قال: وأشباه ما ذكرنا من كلام أهل العلم في متهمي رواة الحديث وإخبارهم عن معايبهم كثير يطول الكتاب بذكره، على استقصائه، وفيما ذكرنا كفاية لمن تفهم وعقل مذهب القوم فيما قالوا من ذلك وبينوا. وإنما ألزموا أنفسهم الكشف عن معايب رواة الحديث وناقلي الأخبار وأفتوا بذلك حين سئلوا لما فيه من عظيم الخطر؛ إذ الأخبار في أمر الدين إنما تأتي بتحليل، أو تحريم أو أمر، أو نهي، أو ترغيب، أو ترهيب، فإذا كان الراوي لها ليس بمعدن للصدق والأمانة، ثم أقدم على الرواية عنه من قد عرفه ولم يبين ما فيه لغيره ممن جهل معرفته، كان آثما بفعله ذلك، غاشا لعوام المسلمين، إذ لا يؤمن على بعض من سمع تلك الأخبار أن يستعملها، أو يستعمل بعضها ولعلها أو أكثرها أكاذيب لا أصل لها، مع أن الأخبار الصحاح من رواية الثقات وأهل القناعة أكثر من أن يضطر إلى نقل من ليس بثقة ولا مقنع.
ولا أحسب كثيرا ممن يعرج من الناس على ما وصفنا من هذه الأحاديث الضعاف والأسانيد المجهولة، ويعتد بروايتها بعد معرفته بما فيها من التوهن والضعف، إلا أن الذي يحمله على روايتها والاعتداد بها إرادة التكثر بذلك عند العوام، ولأن يقال: ما أكثر ما جمع فلان من الحديث وألف من
(4/272)
العدد.
ومن ذهب في العلم هذا المذهب، وسلك هذا الطريق فلا نصيب له فيه وكان بأن يسمى جاهلا أولى من أن ينسب إلى علم. (1)
" التعليق:
في هذه الكلمة الذهبية فوائد جمة تنبيء عن خبرة واسعة، وعن نصيحة صادقة، وعن إخلاص مستميت وكأنه معاين ما نعانيه من أهل العصر الذين قل علمهم وكثر جهلهم وجهالاتهم، وغشهم للأمة وعدم النصح لها، فجزى الله إمام أهل الحديث خيرا على هذه النصيحة الغالية والتي يستفاد منها:
1 - وجوب بيان الحق وتحريم السكوت عن الباطل.
2 - بيان بطلان مذهب المستكثرين بالباطل.
3 - خطر التساهل في تلقي المعلومات كيف ما كان نوعها في تحريم أو تحليل أو أمر أو نهي أو ترغيب أو ترهيب، وشريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - لا تخرج عن هذا.
4 - وجوب النصيحة لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - بقدر الاستطاعة وبقدر الإمكان.
موقفه من القدرية:
- عقد في صحيحه كتابا سماه: (كتاب القدر).
_________
(1) انظر مقدمة مسلم (1/ 28).
(4/273)
أبو زيد عمر بن شَبَّة النُّمَيْرِي (1) (262 هـ)
العلامة الأخباري عمر بن شبة بن عبيدة بن زيد بن رائطة النميري، أبو زيد البصري النحوي، نزيل بغداد. ولد سنة ثلاث وسبعين ومائة. روى عن يحيى بن سعيد القطان وعلي بن عاصم ويزيد بن هارون وغندر ومعاذ بن معاذ، وطائفة. وروى عنه ابن ماجه وأحمد بن يحيى ثعلب وابن صاعد وابن أبي الدنيا ومحمد بن أحمد الأثرم وعبد الرحمن بن أبي حاتم، وخلق سواهم.
قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: كتبت عنه مع أبي وهو صدوق، صاحب عربية وأدب. وقال ابن حبان: مستقيم الحديث، وكان صاحب أدب وشعر وأخبار ومعرفة بأيام الناس. وقال الخطيب: كان ثقة، عالما بالسير وأيام الناس، وله تصانيف كثيرة، وكان قد نزل في آخر عمره سر من رأى، وتوفي بها. وذلك سنة اثنتين وستين ومائتين.
موقفه من الجهمية:
- جاء في تاريخ بغداد عن أبي علي العنزي قال: امتحن عمر بن شبة بسر من رأى بحضرتي. فقال: القرآن كلام الله ليس بمخلوق. فقالوا له: فتقول من وقف فهو كافر. فقال: لا أكفر أحدا، فقالوا له أنت كافر ومزقوا كتبه، فلزم بيته وحلف أن لا يحدث شهرا، وكان ذلك حدثان قدومه من بغداد بعد الفتنة. (2)
_________
(1) تاريخ بغداد (11/ 208 - 210) والمنتظم (12/ 184) والكامل لابن الأثير (7/ 306) ووفيات الأعيان (3/ 440) وتهذيب الكمال (21/ 386 - 390) والسير (12/ 369 - 372) وشذرات الذهب (2/ 146).
(2) تاريخ بغداد (11/ 209).
(4/274)
موقف السلف من يعقوب بن شيبة (262 هـ)
بيان جهميته:
- جاء في السير: قال أحمد بن كامل القاضي: وكان يقف في القرآن.
قال الذهبي: أخذ الوقف عن شيخه أحمد المذكور، وقد وقف علي بن الجعد، ومصعب الزبيري، وإسحاق بن أبي إسرائيل، وجماعة، وخالفهم نحو من ألف إمام، بل سائر أئمة السلف والخلف على نفي الخليقة عن القرآن، وتكفير الجهمية. نسأل الله السلامة في الدين. (1)
- وفيها: وقد كان المتوكل أمر عبد الرحمن بن يحيى بن خاقان أن يسأل أحمد بن حنبل عمن يقلد القضاء. قال عبد الرحمن: فسألته عن يعقوب بن شيبة، فقال: مبتدع صاحب هوى. قال الخطيب: وصفه أحمد بذلك لأجل الوقف. (2)
محمد بن أحمد بن حفص بن الزِّبْرِقان (3) (264 هـ)
مولى بني عجل، عالم ما وراء النهر، شيخ الحنفية، أبو عبد الله البخاري. تفقه بوالده العلامة أبي حفص. قال أبو عبد الله بن مندة: كان عالم أهل بخارى وشيخهم. وكان قد ارتحل، وسمع من أبي الوليد الطيالسي،
_________
(1) السير (12/ 478).
(2) السير (12/ 478) وتاريخ بغداد (14/ 282).
(3) السير (12/ 617) وتاريخ الإسلام (حوادث 261 - 270/ص.153 - 154).
(4/275)
والحميدي، وأبي نعيم عارم، ويحيى بن يحيى، وعبد الله بن رجاء وطبقتهم. وروى عنه أبو عصمة أحمد بن محمد اليشكري، وعبدان بن يوسف، وعلي ابن حسن بن عبدة، وطائفة، آخرهم وفاة أحمد بن خالد البخاري.
رافق البخاري في الطلب مدة، وله كتاب 'الأهواء والاختلاف' وكان ثقة إماما ورعا زاهدا ربانيا، صاحب سنة واتباع، لقي أبا نعيم وهو أكبر شيوخه، وكان يقول بتحريم النبيذ المسكر، وكان أبوه من كبار تلامذة محمد ابن الحسن انتهت إليه رئاسة الأصحاب ببخارى، وإلى ابنه أبي عبد الله هذا. وتفقه عليه أئمة.
قال أبو القاسم بن مندة: توفي أبو عبد الله في رمضان سنة أربع وستين ومائتين رحمه الله.
موقفه من الجهمية:
له كتاب: 'الرد على اللفظية'. (1)
أبو حفص الحداد الصوفي (264 هـ)
موقفه من المبتدعة:
- وقال أبو حفص الحداد: من لم يزن أفعاله وأحواله في كل وقت بالكتاب والسنة، ولم يتهم خواطره، فلا تعده في ديوان الرجال. (2)
- وسئل عن البدعة؟ فقال: التعدي في الأحكام، والتهاون في السنن،
_________
(1) السير (12/ 617 - 618).
(2) الاعتصام (1/ 127) والسير (12/ 512).
(4/276)
واتباع الآراء والأهواء، وترك الاتباع والاقتداء. (1)
أبو زُرْعَة الرازي (2) (264 هـ)
الإمام سيد الحفاظ أحد الأئمة المشهورين، والأعلام المذكورين، والجوالين المكثرين، والحفاظ المتقنين، عبيد الله بن عبد الكريم بن يزيد بن فروخ مولى عياش بن مطرف القرشي، أبو زرعة الرازي. جالس الإمام أحمد مدة. وسمع أبا نعيم وقبيصة وخلاد بن يحيى ومسلم بن إبراهيم والقعنبي، وطبقتهم بالحرمين والعراق والشام والجزيرة وخراسان ومصر. وكان من أفراد الدهر حفظا وذكاء ودينا وإخلاصا وعلما وعملا. حدث عنه مسلم وابن خالته أبو حاتم، والترمذي والنسائي وابن ماجه وأبو عوانة وابن أبي حاتم وآخرون. قال البخاري: سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: نزل أبو زرعة عندنا فقال لي أبي: يا بني قد اعتضت عن نوافلي بمذاكرة هذا الشيخ. قال صالح بن محمد: سمعت أبا زرعة يقول كتبت عن ابن أبي شيبة مائة ألف حديث، وعن إبراهيم بن موسى الرازي مائة ألف، قلت: تقدر أن تملي علي ألف حديث من حفظك؟ قال: لا ولكني إذا ألقي علي عرفت. قال ابن أبي شيبة: ما رأيت أحفظ من أبي زرعة. قال أبو يعلى الموصلي: ما سمعنا بذكر
_________
(1) ذم الكلام (273) وانظر الاعتصام (1/ 127).
(2) تهذيب الكمال (19/ 89 - 104) وتذكرة الحفاظ (2/ 557 - 559) والأنساب (3/ 24) وشذرات الذهب (2/ 148) وتاريخ بغداد (10/ 326 - 337) والسير (13/ 65 - 85) والجرح والتعديل (1/ 328 - 349) وتهذيب التهذيب (7/ 30 - 34).
(4/277)
أحد في الحفظ، إلا كان اسمه أكبر من رؤيته، إلا أبا زرعة الرازي، فإن مشاهدته كانت أعظم من اسمه وكان قد جمع حفظ الأبواب والشيوخ والتفسير، كتبنا بانتخابه بواسط ستة آلاف حديث. قال إسحاق بن راهويه: كل حديث لا يعرفه أبو زرعة الرازي فليس بحديث. قال يونس بن عبد الأعلى: ما رأيت أكثر تواضعا من أبي زرعة، هو وأبو حاتم إماما خراسان. ومناقبه وسيرته رحمه الله أكبر من أن تذكر في سطور. مات بالري يوم الاثنين، ودفن يوم الثلاثاء سلخ ذي الحجة سنة أربع وستين ومائتين.
موقفه من المبتدعة والصوفية:
- قال الحافظ سعيد بن عمرو البردعي: شهدت أبا زرعة -وقد سئل عن الحارث المحاسبي وكتبه- فقال للسائل: إياك وهذه الكتب، هذه كتب بدع وضلالات؛ عليك بالأثر؛ فإنك تجد فيه ما يغنيك. قيل له: في هذه الكتب عبرة. فقال: من لم يكن له في كتاب الله عبرة فليس له في هذه الكتب عبرة، بلغكم أن سفيان ومالكا والأوزاعي صنفوا هذه الكتب في الخطرات والوساوس؟ ما أسرع الناس إلى البدع. (1)
" التعليق:
قال الذهبي: مات الحارث سنة ثلاث وأربعين ومائتين. وأين مثل الحارث؟ فكيف لو رأى أبو زرعة تصانيف المتأخرين كالقوت لأبي طالب؟ وأين مثل القوت؟ كيف لو رأى بهجة الأسرار لابن جهضم، وحقائق
_________
(1) تاريخ بغداد (8/ 215) والسير (12/ 112).
(4/278)
التفسير للسلمي؟ لطار لبه، كيف لو رأى تصانيف أبي حامد الطوسي في ذلك على كثرة ما في الإحياء من الموضوعات؟ كيف لو رأى الغنية للشيخ عبد القادر؟ كيف لو رأى فصوص الحكم والفتوحات المكية؟ بلى لما كان الحارث لسان القوم في ذلك العصر، كان معاصره ألف إمام في الحديث، فيهم مثل أحمد بن حنبل، وابن راهويه؛ ولما صار أئمة الحديث مثل ابن الدخميسي، وابن شحانة كان قطب العارفين كصاحب الفصوص، وابن سفيان. نسأل الله العفو والمسامحة آمين. (1)
قلت: في جواب الإمام أبي زرعة تكميم لأفواه الخراصين الذين يولدون مثل هذه الأسئلة السمجة التي تنم عن جهل بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وجهل بما خصهما الله به من الهداية. قال تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} وقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ
_________
(1) ميزان الاعتدال (1/ 431).
(4/279)
يَتَوَكَّلُونَ}، وقوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}.
- عن عبد الرحمن بن أبي حاتم قال: سألت أبي وأبا زرعة عن مذاهب أهل السنة في أصول الدين وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار وما يعتقدان من ذلك؟ فقالا: أدركنا العلماء في جميع الأمصار -حجازا وعراقا وشاما ويمنا- فكان من مذهبهم:
الإيمان: قول وعمل، يزيد وينقص. والقرآن كلام الله غير مخلوق بجميع جهاته.
والقدر خيره وشره من الله عز وجل. وخير هذه الأمة بعد نبيها عليه الصلاة والسلام أبو بكر الصديق ثم عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان، ثم علي بن أبي طالب عليهم السلام، وهم الخلفاء الراشدون المهديون، وأن العشرة الذين سماهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وشهد لهم بالجنة على ما شهد به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقوله الحق. والترحم على جميع أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - والكف عما شجر بينهم. وأن الله عز وجل على عرشه بائن من خلقه كما وصف نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - بلا كيف، أحاط بكل شيء علما {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1)، وأنه تبارك وتعالى يرى في
_________
(1) الشورى الآية (11).
(4/280)
الآخرة؛ يراه أهل الجنة بأبصارهم ويسمعون كلامه كيف شاء وكما شاء. والجنة حق والنار حق، وهما مخلوقان لا يفنيان أبدا، والجنة ثواب لأوليائه والنار عقاب لأهل معصيته، إلا من رحم الله عز وجل. والصراط حق والميزان حق له كفتان توزن فيه أعمال العباد حسنها وسيئها حق، والحوض المكرم به نبينا حق، والشفاعة حق، والبعث من بعد الموت حق.
وأهل الكبائر في مشيئة الله عز وجل، ولا نكفر أهل القبلة بذنوبهم ونكل أسرارهم إلى الله عزوجل، ونقيم فرض الجهاد والحج مع أئمة المسلمين في كل دهر وزمان، ولا نرى الخروج على الأئمة ولا القتال في الفتنة، ونسمع ونطيع لمن ولاه الله عز وجل أمرنا ولا ننزع يدا من طاعة ونتبع السنة والجماعة ونجتنب الشذوذ والخلاف والفرقة.
وأن الجهاد ماض مذ بعث الله عز وجل نبيه عليه الصلاة والسلام إلى قيام الساعة مع أولي الأمر من أئمة المسلمين لا يبطله شيء. والحج كذلك ودفع الصدقات من السوائم إلى أولي الأمر من أئمة المسلمين، والناس مؤمنون في أحكامهم ومواريثهم ...
والمرجئة المبتدعة ضلال، والقدرية المبتدعة ضلال. فمن أنكر منهم أن الله عز وجل لا يعلم ما لم يكن قبل أن يكون فهو كافر. وأن الجهمية كفار وأن الرافضة رفضوا الإسلام والخوارج مراق. ومن زعم أن القرآن مخلوق فهو كافر بالله العظيم كفرا ينقل عن الملة. ومن شك في كفره ممن يفهم فهو كافر، ومن شك في كلام الله عز وجل فوقف شاكا فيه يقول لا أدري مخلوق أو غير مخلوق فهو جهمي. ومن وقف في القرآن جاهلا علم وبدع
(4/281)
ولم يكفر. ومن قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي أو القرآن بلفظي مخلوق فهو جهمي ...
- قال أبو محمد: وسمعت أبي وأبا زرعة يأمران بهجران أهل الزيغ والبدع يغلظان في ذلك أشد التغليظ وينكران وضع الكتب برأي في غير آثار. وينهيان عن مجالسة أهل الكلام والنظر في كتب المتكلمين ويقولان لا يفلح صاحب كلام أبدا. (1)
موقفه من الرافضة:
جاء في الكفاية: عن أحمد بن محمد بن سليمان التستري قال: سمعت أبا زرعة يقول: إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاعلم أنه زنديق وذلك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندنا حق والقرآن حق وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة والجرح بهم أولى وهم زنادقة. (2)
- وروى ابن عساكر عن أبي زرعة الرازي أنه قال له رجل: إني أبغض معاوية، فقال له: ولم؟ قال: لأنه قاتل عليا، فقال له أبو زرعة: ويحك إن رب معاوية رحيم، وخصم معاوية خصم كريم، فإيش دخولك أنت بينهما؟ رضي الله عنهما. (3)
_________
(1) أصول الاعتقاد (1/ 197 - 201/ 321و322) واجتماع الجيوش الإسلامية (213) ومجموع الفتاوى (3/ 222 - 223) مختصرا. والأثر الأخير أخرجه الهروي في ذم الكلام (269).
(2) الكفاية (49) وتاريخ دمشق (38/ 32 - 33).
(3) البداية والنهاية (8/ 133) وفتح الباري (13/ 86).
(4/282)
موقفه من الجهمية:
- جاء في أصول الاعتقاد: قال عبد الرحمن: سئل أبو زرعة عن أفعال العباد فقال: مخلوقة. فقيل له: لفظنا بالقرآن من أفعالنا؟ قال: لا يقال هذا. (1)
-قال شيخ الإسلام: وروي عن أبي زرعة الرازي أنه لما سئل عن تفسير قوله: {الرحمن على العرش استوى} (2) فقال: تفسيره كما يقرأ، هو على العرش، وعلمه في كل مكان، ومن قال غير هذا فعليه لعنة الله. (3)
- عن أبي زرعة، قال: إن الذي عندنا أن القوم لم يزالوا يعبدون خالقا كاملا لصفاته ومن زعم أن الله كان ولا علم ثم خلق علما فعلم بخلقه، أو لم يكن متكلما فخلق كلاما ثم تكلم به، أو لم يكن سميعا بصيرا ثم خلق سمعا وبصرا، فقد نسبه إلى النقص، وقائل هذا كافر. لم يزل الله كاملا بصفاته لم يحدث فيه صفة، ولا تزول عنه صفة قبل أن يخلق الخلق وبعد ما خلق الخلق كاملا بصفاته، فمن وجه أن الرب تبارك وتعالى يتكلم كيف يتكلم بشفتين ولسان ولهوات، فهذه السماوات والأرض قال لهما: {ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (4) أفهاهنا شفتان ولسان ولهوات. (5)
_________
(1) أصول الاعتقاد (2/ 390/597).
(2) طه الآية (5).
(3) مجموع الفتاوى (5/ 50).
(4) فصلت الآية (11).
(5) الفتاوى الكبرى (5/ 63 - 64).
(4/283)
- وجاء في الميزان: قال أبو زرعة الرازي: بشر المريسي زنديق. (1)
المُزَنِي (2) (264 هـ)
الإمام العلامة، فقيه الملة، علم الزهاد، أبو إبراهيم، إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل بن عمرو بن مسلم المزني المصري، تلميذ الشافعي، مولده في سنة موت الليث بن سعد سنة خمس وسبعين ومائة. حدث عن الشافعي، وعن علي بن معبد بن شداد، ونعيم بن حماد، وغيرهم. حدث عنه إمام الأئمة أبو بكر بن خزيمة، وأبو جعفر الطحاوي وأبو نعيم بن عدي، وعبد الرحمن بن أبي حاتم، وخلق كثير من المشارقة والمغاربة. وامتلأت البلاد بمختصره في الفقه، وشرحه عدة من الكبار، بحيث يقال: كانت البكر يكون في جهازها نسخة من مختصر المزني. قال الفقيه أبو إسحاق: فأما الشافعي رحمه الله فقد انتقل فقهه إلى أصحابه، فمنهم أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني، مات بمصر. قال: وكان زاهدا عالما مناظرا محجاجا غواصا على المعاني الدقيقة صنف كتبا كثيرة: 'الجامع الكبير'، و'الجامع الصغير' و'المنثور' و'المسائل المعتبرة' و'الترغيب في العلم' وكتاب 'الوثائق'. قال الشافعي: المزني ناصر مذهبي. وعن عمرو بن عثمان المكي، قال: ما رأيت أحدا من المتعبدين في كثرة من لقيت منهم أشد اجتهادا من المزني، ولا أدوم على العبادة منه، وما
_________
(1) الميزان (1/ 323).
(2) الجرح والتعديل (2/ 204) ووفيات الأعيان (1/ 217 - 219) والسير (12/ 492 - 497) وطبقات الشافعية (1/ 238 - 249) والبداية والنهاية (11/ 40) وشذرات الذهب (2/ 148).
(4/284)
رأيت أحدا أشد تعظيما للعلم وأهله منه، وكان من أشد الناس تضييقا على نفسه في الورع، وأوسعه في ذلك على الناس، وكان يقول: أنا خلق من أخلاق الشافعي. وبه انتشر مذهب الإمام الشافعي. وكان يغسل الموتى تعبدا واحتسابا، وهو القائل: تعانيت غسل الموتى ليرق قلبي فصار لي عادة، وهو الذي غسل الشافعي رحمه الله. توفي في رمضان لست بقين من سنة أربع وستين ومائتين. وله تسع وثمانون سنة.
موقفه من المبتدعة:
- قال شيخ الإسلام: وفي مختصر المزني لما ذكر أنه اختصره من مذهب الشافعي لمن أراد معرفة مذهبه قال: مع إعلامه نهيه عن تقليده وتقليد غيره من العلماء. (1)
- قال ابن عبد البر: وقد احتج جماعة من الفقهاء وأهل النظر على من أجاز التقليد بحجج نظرية عقلية بغير ما تقدم، فأحسن ما رأيت من ذلك قول المزني رحمه الله، وأنا أورده، قال: يقال لمن حكم بالتقليد: هل لك من حجة فيما حكمت به؟ فإن قال: 'نعم' أبطل التقليد لأن الحجة أوجبت ذلك عنده لا التقليد. وإن قال: 'حكمت فيه بغير حجة ' قيل له: فلم أرقت الدماء وأبحت الفروج وأتلفت الأموال وقد حرم الله ذلك إلا بحجة؟ قال الله عز وجل: {إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا} (2) أي من حجة بها. فإن قال: 'أنا
_________
(1) مجموع الفتاوى (20/ 211).
(2) يونس الآية (68).
(4/285)
أعلم أني قد أصبت وإن لم أعرف الحجة لأني قلدت كبيرا من العلماء وهو لا يقول إلا بحجة خفيت علي' قيل له: إذا جاز تقليد معلمك لأنه لا يقول إلا بحجة خفيت عليك فتقليد معلم معلمك أولى لأنه لا يقول إلا بحجة خفيت على معلمك، كما لم يقل معلمك إلا بحجة خفيت عليك، فإن قال: 'نعم' ترك تقليد معلمه إلى تقليد معلم معلمه، وكذلك من هو أعلى حتى ينتهي الأمر إلى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن أبى ذلك نقض قوله، وقيل له: كيف تجوز تقليد من هو أصغر وأقل علما ولا تجوز تقليد من هو أكبر وأكثر علما وهذا تناقض؟ فإن قال: ' لأن معلمي وإن كان أصغر فقد جمع علم من هو فوقه إلى علمه فهو أبصر بما أخذ وأعلم بما ترك' قيل له: وكذلك من تعلم من معلمك فقد جمع علم معلمك وعلم من فوقه إلى علمه، فيلزمك تقليده وترك تقليد معلمك، وكذلك أنت أولى أن تقلد نفسك من معلمك؛ لأنك جمعت علم معلمك وعلم من هو فوقه إلى علمك، فإنفاذ (1)
قولِه جعلُ الأصغر ومن يحدث من صغار العلماء أولى بالتقليد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك الصاحب عنده يلزمه تقليد التابع، والتابع من دونه في قياس قوله، والأعلى للأدنى أبدا وكفى بقول يؤول إلى هذا قبحا وفسادا. (2)
موقفه من الجهمية:
- جاء في أصول الاعتقاد: عن محمد بن هارون بن حفص قال: سمعت عبد السلام بن شنقار المصري يقول: جاء كتاب من المحلة إلى المزني يسأل عن
_________
(1) في الأصل: فإن (فاد)، وفي المطبوع (2/ 143): أعاد، وفي إعلام الموقعين: قلد. ولعل الصواب ما أثبتناه ..
(2) جامع بيان العلم (2/ 992 - 993) وهو في إعلام الموقعين (2/ 196 - 197).
(4/286)
رجل قال: ورب يس لا فعلت كذا، ففعل فحنث؟ قال المزني: لا شيء عليه، ومن قال حانث يقول: القرآن مخلوق. (1)
- وفيه: عن يوسف بن موسى قال: كنا عند أبي إبراهيم المزني فتقدمت أنا وأصحاب لنا إليه فقلنا: نحن قوم من خراسان وقد نشأ عندنا قوم يقولون: القرآن مخلوق ولسنا ممن نخوض في الكلام ولا نستفتيك في هذه المسألة إلا لديننا ولمن عندنا لنخبرهم عنك -ثم كتبنا عنه- فقال: القرآن كلام الله غير مخلوق، فمن قال القرآن مخلوق فهو كافر. (2)
- وفي الفتاوى الكبرى: قال محمد بن عقيل بن الأزهر الفقيه: جاء رجل إلى المزني فسأله عن شيء من الكلام، فقال: إني أكره هذا بل أنهى عنه كما نهى عنه الشافعي. (3)
- وفي السير: قال عمرو بن تميم المكي: سمعت محمد بن إسماعيل الترمذي قال: سمعت المزني يقول: لا يصح لأحد توحيد حتى يعلم أن الله تعالى على العرش بصفاته. قلت له: مثل أي شيء؟ قال: سميع بصير عليم. (4)
- وفي ذم الكلام عنه قال: القرآن كلام الله غير مخلوق، وما دنت بغير هذا قط، ومن قال مخلوق، فهو كافر، ولكن الشافعي كان ينهى عن الكلام. (5)
_________
(1) أصول الاعتقاد (2/ 294 - 295/ 464).
(2) أصول الاعتقاد (2/ 295/465).
(3) الفتاوى الكبرى (5/ 244).
(4) السير (12/ 494).
(5) ذم الكلام (269).
(4/287)
- وفيه: عن أحمد بن محمد بن عمر المنكدري قال: سمعت أبا إبراهيم بن يحيى المزني في علته التي توفي فيها يقول: جعلت الناس كلهم في حل إلا من ذكر أني تكلمت في شيء من القرآن. لفظ أو وقف. كنت رجلا من العرب من أولاد المهاجرين، فكرهت أن أسلم نفسي للصبيان أن يلعبوا بي، سألوني عن القرآن فأمسكت تعجبا، وما أجبت فيه بشيء ولا يتعلق أحد من الناس أني قلت شيئا. (1)
آثاره السلفية:
- وله كتاب السنة: وهي رسالة نقلها الإمام ابن القيم في 'اجتماع الجيوش'، أسلوبها رائع وهي غزيرة المعاني كثيرة الفوائد. (2)
موقفه من المرجئة:
- عن أبي سعيد الفريابي قال: سألت المزني في مرضه الذي توفي فيه عن الإيمان -وهو يومئذ ثقيل من المرض يغمى عليه مرة ويفيق مرة، وقد كانوا صرخوا عليه تلك الليلة وظنوا أنه قد مات- فقلت له: أنت إمامي بعد كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - قولك في الإيمان: إن الناس قد اختلفوا فيه: فمنهم من زعم: أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص. ومنهم من قال: قول وعمل يزيد، ومنهم من قال قول والعمل شرائعه. فقال مجيبا بسؤال ثقيل: من الذي يقول: قول وعمل؟ قلت: مالك والليث بن سعد وابن جريج وذكرت له جماعة فقال: لا يعجبني أو لا أحبه أن يكفر أحد إنما قال سلني عن الاسم أو معنى الاسم فتعجبت من سؤاله إيايي مع ما هو فيه وهو يغمى عليه فيما بين
_________
(1) ذم الكلام (269).
(2) اجتماع الجيوش الإسلامية (155 - 158).
(4/288)
ذلك. ثم قال: من أخطأ في الاسم ليس كمن أخطأ في المعنى، الخطأ في المعنى أصعب. ثم قال: فيما يقول هذا القائل فيمن جهل بعض الأعمال؟ هو مثل من جهل المعرفة -يريد التوحيد كله- ثم قال: هذا باب لم أعمل فيه فكري ولكن انظر لك فيه. فلما قال لي ذلك أغمي عليه فقبلت جبينه ولم يعلم بذلك وما شعر بي وذلك أني قبلت في ذلك [المجلس يده] فمد يدي فقبلها فلما كان بعد العصر من يومي ذلك رجعت إليه فقال لي ابن أخيه عتيق: إنه سأل عنك، وقال: قل له: الإيمان: قول وعمل فقعدت عنده حذاء وجهه ففتح عينه ثقيلا فقال لي: الفريابي؟ قلت نعم أكرمك الله. قال: لا خلاف بين الناس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف بالبيت قال: (إيمانا بك وتصديقا بكتابك) وهذا دليل على أن جميع الأعمال من الإيمان. قال أبو سعيد: هذا آخر مسألة سألت المزني عنها ومات بعد هذا بثلاثة أيام. (1)
موقفه من القدرية:
- جاء في أصول الاعتقاد: عن عصام بن منصور الرازي قال: سألت المزني عن معنى حديث ابن مسعود عندما قال: إن يك صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان؟ قال المزني: يحتمل عندي أن ذلك من محبته لأنه عدو الله يحب الخطأ ويكره الصواب فأضاف إلى الشيطان لأن الشيطان كان له في ذلك صنع. وقد قال الله عز وجل: {لا تعبدوا الشيطان} (2) لا أنهم
_________
(1) أصول الاعتقاد (5/ 957 - 959/ 1596).
(2) يس الآية (60).
(4/289)
قصدوه بالعبادة ولكن لما عملوا بالمعاصي التي نهاهم الله عنها جعل ذلك عبادة للشيطان لأن ذلك من شأنه فأضاف ذلك إليه لا أنهم قصدوا عبادته ولا إجلاله ولا إعظامه وقال الله عز وجل {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} (1). قال في التفسير: لم يعبدوهم ولكنهم كانوا إذا حرموا شيئا حرموه وإذا أحلوا أحلوه لا أنهم اتخذوهم أربابا ولكن أطاعوهم فسموا بذلك. وقال صاحب الخضر: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} وقال: {وَأَضَلَّهُمُ السامري} (3) وقال: {قل يتوفاكم ملك الموت} (4) وقال: {اللَّهُ يتوفى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} (5) فالله الخالق لكل ذلك وإن أضيفت الأسباب إلى من يدعو إليها والله الخالق لا غير الله وأفعال العباد مخلوقة لا يقدر أحد أن يشاء شيئا إلا أن يشاء الله وقال: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (6).اهـ (7)
- وفيه: عن عصام بن الفضل: سمعت المزني يقول سألت الشافعي عن
_________
(1) التوبة الآية (31).
(2) الكهف الآية (63).
(3) طه الآية (85).
(4) السجدة الآية (11).
(5) الزمر الآية (42).
(6) التكوير الآية (29).
(7) أصول الاعتقاد (4/ 777 - 778/ 1306).
(4/290)
قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ستة لعنهم الله ... فذكر المكذب بالقدر" (1) فقلت له من القدرية؟ فقال: نعم هم الذين زعموا أن الله لا يعلم المعاصي حتى تكون. قال المزني: هذا عندي كفر. (2)
عبد الله بن أيوب المُخَرِّمي (3) (265 هـ)
الإمام المحدث أبو محمد عبد الله بن محمد بن أيوب بن صبيح البغدادي سمع من سفيان بن عيينة، ويحيى بن سليمان، وعبد المجيد بن عبد العزيز. وروى عنه علي ابن حسنويه القطان، ويحيى بن محمد، وإسماعيل بن محمد الصفار.
قال عنه محمد بن سليمان الباغندي: خرج توقيع الخليفة بتقليده القضاء، فانحدرت في الحال من سرمن رأى إلى بغداد فدققت عليه الباب فخرج إلي، فقلت له: البشرى، فقال: بشرك الله بخير، وما هي؟ قال: قلت: خرج توقيع السلطان بتقليدك القضاء، قال: فأطبق الباب وقال: بشرك الله بالنار. وجاء أصحاب السلطان إليه فلم يظهر إليهم فانصرفوا.
توفي سنة خمس وستين ومائتين.
_________
(1) أخرجه من حديث عائشة: الترمذي (4/ 397 - 398/ 2154) والحاكم في موضعين (1/ 36) وصححه ووافقه الذهبي، و (4/ 90) وصححه وخالفه الذهبي فقال: "والحديث منكر بمرة ". وابن حبان (13/ 60/5749) وابن أبي عاصم (1/ 24 - 25/ 44). وضعفه الشيخ الألباني رحمه الله في تخريج السنة لابن أبي عاصم.
(2) أصول الاعتقاد (4/ 779/1307).
(3) الثقات لابن حبان (8/ 362) والأنساب للسمعاني (5/ 225) وتاريخ بغداد (10/ 81 - 82) والسير (12/ 359) والمنتظم (12/ 200).
(4/291)
موقفه من الجهمية:
- عن أبي بكر: سمعت عبد الله بن أيوب المخرمي يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال: إنه مخلوق؛ فقد أبطل الصوم والحج والجهاد وفرائض الله، ومن أبطل واحدة من هذه الفرائض؛ فهو كافر بالله العظيم، ومن قال: إن لفظي بالقرآن غير مخلوق؛ فهو ضال مبتدع، أدركت ابن عيينة، ويحيى بن سليم، ووكيع بن الجراح، وعبد الله بن نمير وجماعة من علماء الحجاز والبصرة والكوفة ما سمعت أحدا منهم قال: لفظي بالقرآن مخلوق، ولا غير مخلوق. وقد صح عندنا أن أبا عبد الله -أحمد بن حنبل- نهى أن يقال: لفظي بالقرآن غير مخلوق، فمن قال بخلاف ما قال أبو عبد الله؛ فقد صحت بدعته. (1)
علي بن حرب بن محمد (2) (265 هـ)
علي بن حرب بن محمد، الإمام المحدث، الثقة الأديب أبو الحسن الموصلي. ولد بأذربيجان سنة خمس وسبعين ومائة. سمع سفيان بن عيينة، وحفص بن غياث، وعبد الله بن إدريس. وحدث عنه النسائي، وابن أبي حاتم، وأبو عوانة.
قال يزيد بن محمد: رحل علي مع أبيه وسمع وصنف وخرج المسند، وكان عالما بأخبار العرب وأنسابها، أديبا شاعرا. توفي رحمه الله في شوال سنة
_________
(1) الإبانة (1/ 12/352 - 353/ 161).
(2) السير (12/ 251) وتاريخ بغداد (11/ 418) وتهذيب الكمال (20/ 363) وتهذيب التهذيب (7/ 294).
(4/292)
خمس وستين ومائتين بالموصل.
موقفه من المبتدعة:
- قال علي بن حرب: من قدر أن لا يكتب الحديث إلا عن صاحب سنة فإنهم يكذبون، كل صاحب هوى يكذب ولا يبالي. (1)
محمد بن سَحْنُون (2) (265 هـ)
أبو عبد الله محمد بن سحنون بن سعيد التَّنُوخِي الفقيه المالكي القَيْرَواني. كان حافظا خبيرا بمذهب مالك، عالما بالآثار. تفقه بأبيه، وسمع من ابن أبي حسان، وموسى بن معاوية، وعبد العزيز بن كاسب. وسمع من سلمة بن شبيب. كان الغالب عليه الفقه والمناظرة، وكان يحسن الحجة والذب عن أهل السنة والمذهب، والرد على أهل الأهواء. واشتهر بالتأليف، ألف كتابه المشهور 'الجامع' جمع فيه فنون العلم والفقه، وكتاب السير وكتاب التاريخ وكتاب الزهد والأمانة وكتاب تحريم المسكر ورسالة فيمن سب النبي - صلى الله عليه وسلم - ورسالة في السنة وكتاب 'الحجة على القدرية' وكتاب 'الحجة على النصارى' وكتاب 'الرد على البكرية' وكتاب 'الإيمان والرد على أهل الشرك' وكتاب 'الرد على أهل البدع'. توفي سنة خمس وستين ومائتين، بعد موت أبيه بست عشرة سنة، وكانت وفاته بالساحل، وجيء به إلى القيروان، فدفن بها.
_________
(1) الكفاية (ص.123).
(2) ترتيب المدارك (1/ 424 - 433) والديباج المذهب (2/ 169 - 173) والوافي بالوفيات (3/ 86) وشجرة النور الزكية (1/ 70) ورياض النفوس (1/ 443 - 458) وسير أعلام النبلاء (13/ 60 - 63) وشذرات الذهب (2/ 150).
(4/293)
موقفه من المشركين:
- وقال محمد بن سحنون: أجمع العلماء على أن شاتم النبي - صلى الله عليه وسلم - والمتنقص له كافر والوعيد جار عليه بعذاب الله له، وحكمه عند الأمة القتل ومن شك في كفره وعذابه كفر. (1)
محمد بن عبد الله بن عبد الحكم (2) (268 هـ)
الإمام الحافظ شيخ الإسلام فقيه عصره أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن عبد الحكم بن أعين بن ليث المصري الفقيه. ولد سنة اثنتين وثمانين ومائة. سمع من: عبد الله بن وهب بعناية أبيه به، وأبي ضمرة الليثي وابن أبي فديك، وأشهب بن عبد العزيز، ووالده عبد الله بن عبد الحكم، وأبي عبد الرحمن المقرئ، والإمام الشافعي، وطائفة. وعنه النسائي وابن خزيمة، وأبو جعفر الطحاوي وعبد الرحمن بن أبي حاتم وخلق كثير. وكان عالم الديار المصرية في عصره مع المزني. وقال ابن خزيمة: ما رأيت في فقهاء الإسلام أعلم بأقاويل الصحابة والتابعين من محمد بن عبد الله بن عبد الحكم. وقال: كان أعلم من رأيت على أديم الأرض بمذهب مالك، وأحفظهم له، سمعته يقول: كنت أتعجب ممن يقول في المسائل: لا أدري. قال ابن الحارث: كان من العلماء
_________
(1) الصارم (9).
(2) الجرح والتعديل (7/ 300 - 301) والسير (12/ 497 - 501) ووفيات الأعيان (4/ 193 - 194) والوافي بالوفيات (3/ 338 - 339) وتهذيب الكمال (25/ 497 - 500) وتذكرة الحفاظ (2/ 546 - 548) والديباج المذهب (2/ 163 - 165) وشذرات الذهب (2/ 154) طبقات الشافعية لابن كثير (1/ 155).
(4/294)
الفقهاء، مبرزا من أهل النظر والمناظرة والحجة، فيما يتكلم فيه، ويتقلد من مذهبه، وإليه كانت الرحلة من المغرب والأندلس في العلم والفقه. له تصانيف كثيرة منها: 'الرد على الشافعي' و'أحكام القرآن' و'الرد على فقهاء العراق' وغيرها. قال أبو عمر بن عبد البر: كان فقيها نبيلا جميلا وجيها في زمنه. قال سعيد بن عثمان: وكان عالما متواضعا ثقة كان أهل مصر لا يعدلون به أحدا. توفي رحمه الله تعالى يوم الأربعاء سنة ثمان وستين ومائتين.
موقفه من المبتدعة:
- عن ابن عبد الحكم، قال: ما رأت عيني قط مثل الشافعي، قدمت المدينة، فرأيت أصحاب عبد الملك بن الماجشون يغلون بصاحبهم، يقولون: صاحبنا الذي قطع الشافعي، قال: فلقيت عبد الملك، فسألته عن مسألة، فأجابني، فقلت: الحجة؟ قال: لأن مالكا قال كذا وكذا، فقلت في نفسي: هيهات، أسألك عن الحجة، وتقول: قال معلمي. وإنما الحجة عليك وعلى معلمك. (1)
موقفه من الجهمية:
روى اللالكائي بسنده إلى أحمد بن محمد بن الحسين قال: سئل محمد ابن عبد الله بن عبد الحكم هل يرى الخلق كلهم ربهم يوم القيامة: المؤمنون والكفار؟ فقال محمد: ليس يراه إلا المؤمنون. قال محمد: وسئل الشافعي عن الرؤية؟ فقال: يقول الله عز وجل: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ ربهم يومئذٍ
_________
(1) السير (10/ 53 - 54).
(4/295)
لَمَحْجُوبُونَ} (1) ففي هذا دليل على أن المؤمنين لا يحجبون عن الله عز وجل. (2)
- وفي السير: عن أبي إسحاق الشيرازي، قال: حمل محمد في محنة القرآن إلى ابن أبي دؤاد، ولم يجب إلى ما طلب منه، ورد إلى مصر، وانتهت إليه الرئاسة في مصر، يعني: في العلم. وذكر غيره أن ابن عبد الحكم ضرب، فهرب واختفى. وقد نالته محنة أخرى صعبة. (3)
الربيع بن سليمان المُرَادِي (4) (270 هـ)
الربيع بن سليمان بن عبد الجبار بن كامل، الإمام المحدث الفقيه الكبير، بقية الأعلام، أبو محمد المرادي، مولاهم المصري المؤذن. صاحب الإمام الشافعي، وناقل علمه، وشيخ المؤذنين بجامع الفسطاط ومستملي مشايخ وقته. مولده في سنة أربع وسبعين ومائة أو قبلها بعام. سمع عبد الله بن وهب، وبشر بن بكر التنيسي، وأيوب بن سويد الرملي، وأسد السنة، وعددا كثيرا. ولم يكن صاحب رحلة، وحدث عنه أبو داود، وابن ماجه، والنسائي وأبو عيسى بواسطة في كتبهم، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وأبو جعفر الطحاوي،
_________
(1) المطففين الآية (15).
(2) أصول الاعتقاد (3/ 519/810).
(3) السير (12/ 500).
(4) تهذيب الكمال (9/ 87 - 89) والسير (12/ 587 - 591) والجرح والتعديل (3/ 464) ووفيات الأعيان (2/ 291) وشذرات الذهب (2/ 159) وتهذيب التهذيب (3/ 245 - 246).
(4/296)
وخلق كثير من المشارقة والمغاربة، وروى عنه الترمذي إجازة. وطال عمره واشتهر اسمه، وازدحم عليه أصحاب الحديث ونعم الشيخ كان، أفنى عمره في العلم ونشره. قال النسائي وغيره: لا بأس به. وروي عن الشافعي أنه قال للربيع: لو أمكنني أن أطعمك العلم لأطعمتك. وقال أيضا: الربيع راوية كتبي. قال أبو جعفر الطحاوي: مات الربيع مؤذن جامع الفسطاط في يوم الاثنين، ودفن يوم الثلاثاء لإحدى وعشرين ليلة خلت من شوال سنة سبعين ومائتين وصلى عليه الأمير خُمَارويه صاحب مصر.
موقفه من الجهمية:
- جاء في أصول الاعتقاد: قال محمد بن حمدان الطرائفي البغدادي: قال: سألت الربيع بن سليمان، عن القرآن، فقال: كلام الله غير مخلوق، فمن قال غير هذا، فإن مرض فلا تعودوه، وإن مات فلا تشهدوا جنازته، كافر بالله العظيم. (1)
" التعليق:
هكذا كان أصحاب الإمام الشافعي على عقيدة السلف، وأما الآن، فهم بين صوفية خرافية وبين أشعرية كلامية إلا من رحم الله.
إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل (2) (270 هـ)
الإمام الحافظ، أبو إسحاق، إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن سهل
_________
(1) أصول الاعتقاد (2/ 356/520).
(2) تاريخ دمشق (8/ 373 - 375/ 712) وسير أعلام النبلاء (13/ 159) والجرح والتعديل (2/ 158).
(4/297)
القرشي، مولاهم الكوفي نزيل مصر. يعرف بترنجة. حدث عن جعفر بن عون، وسعيد بن أبي مريم، وأبي نعيم، وطلق بن غنام وخلق. وروى عنه ابن خزيمة، والطحاوي، وابن زياد النيسابوري، وعبد الرحمن بن أبي حاتم وقال: هو صدوق. مات في جمادى الأولى سنة سبعين ومائتين، وكان قد فلج وثقل لسانه قبل موته بيسير.
موقفه من الرافضة:
- عن عبد الله بن محمد بن زياد قال: سمعت القاسم بن محمد أبا محمد الأشيب يقول لإسماعيل بن إسماعيل: أتي المأمون بالرقة برجلين شتم أحدهما فاطمة والآخر عائشة فأمر بقتل الذي شتم فاطمة وترك الآخر فقال: إسماعيل، ما حكمهما إلا أن يقتلا لأن الذي شتم عائشة رد القرآن. (1)
محمد بن إسحاق الصَّاغَانِي (2) (270 هـ)
محمد بن إسحاق بن جعفر، أبو بكر الصاغاني البغدادي، ولد في حدود الثمانين ومائة. كان ذا معرفة واسعة ورحلة شاسعة، بارعا في العلل والرجال. سمع من عبد الوهاب بن عطاء، ويعلى بن عبيد، وسعيد بن أبي مريم. وعنه مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن خزيمة، وأبو عوانة، وابن أبي حاتم. قال الخطيب: كان أحد الأثبات المتقنين
_________
(1) أصول الاعتقاد (7/ 1343 - 1344/ 2396)، وذكره ابن تيمية في الصارم المسلول (ص.568).
(2) تاريخ بغداد (1/ 240 - 241) وتهذيب الكمال (24/ 396 - 399) والوافي بالوفيات (2/ 195) وتاريخ الإسلام (حوادث 261 - 270/ص.157 - 158) وسير أعلام النبلاء (12/ 592 - 594).
(4/298)
مع صلابة في الدين، واشتهار بالسنة، واتساع في الرواية، رحل في طلب العلم، وكتب عن أهل بغداد، والبصرة والكوفة والمدينة ومكة والشام ومصر. توفي في سابع صفر سنة سبعين ومائتين.
موقفه من الجهمية:
- عن أبي بكر المروذي: قال: وسمعت محمد بن إسحاق الصاغاني يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق، فمن قال إنه مخلوق، فهو كافر. (1)
شاه الكرماني الصوفي (270 هـ)
موقفه من المبتدعة:
- قال شاه الكرماني: من غض بصره عن المحارم، وأمسك نفسه عن الشبهات، وعمر باطنه بدوام المراقبة وظاهره باتباع السنة، وعود نفسه أكل الحلال، لم تخطئ له فراسة. (2)
الحسن بن زيد الداعي (270 هـ)
موقفه من الرافضة:
جاء في أصول الاعتقاد عن أبي السائب عتبة بن عبد الله الهمداني قاضي القضاة قال: كنت يوما بحضرة الحسن بن زيد الداعي بطبرستان وكان يلبس الصوف ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويوجه في كل سنة بعشرين ألف
_________
(1) الإبانة (2/ 12/72/ 298).
(2) الاعتصام (1/ 129).
(4/299)
دينار إلى مدينة السلام تفرق على صغاير ولد الصحابة وكان بحضرته رجل ذكر عائشة بذكر قبيح من الفاحشة فقال: يا غلام اضرب عنقه فقال له العلويون هذا رجل من شيعتنا فقال: معاذ الله هذا رجل طعن على النبي - صلى الله عليه وسلم - قال الله عز وجل: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (1) فإن كانت عائشة خبيثة فالنبي - صلى الله عليه وسلم - خبيث فهو كافر فاضربوا عنقه فضربوا عنقه وأنا حاضر. (2)
موقف السلف من خبيث الزنج (270 هـ)
بيان فتنته:
قال الذهبي: وكاد الخبيث أن يملك الدنيا، وكان كذابا ممخرقا ماكرا شجاعا داهية، ادعى أنه بعث إلى الخلق، فرد الرسالة. وكان يدعي علم الغيب، لعنه الله.
ودخلت سنة تسع، فعرض الموفق جيشه بواسط، وأما الخبيث فدخل البطائح، وبثق حوله الأنهار وتحصن، فهجم عليه الموفق، وأحرق وقتل فيهم، واستنقذ من السبايا، ورد إلى بغداد، فسار خبيث الزنج إلى الأهواز، فوضع
_________
(1) النور الآية (26).
(2) أصول الاعتقاد (7/ 1345/2402).
(4/300)
السيف، وقتل نحوا من خمسين ألفا، وسبى أربعين ألفا، فسار لحربه موسى بن بغا فتحاربا بضعة عشر شهرا، وذهب تحت السيف خلائق من الفريقين. فإنا لله، وإنا إليه راجعون (1).
قتال الموفق له:
وفي سنة سبع كروا على واسط وعثروا أهلها، فجهز الموفق ولده أبا العباس الذي صار خليفة، فقتل وأسر، وغرق سفنهم. ثم تجمع جيش الخبيث، والتقوا بالعباس فهزمهم، ثم التقوا ثالثا فهزمهم، ودام القتال شهرين، ورغبوا في أبي العباس، واستأمن إليه خلق منهم، ثم حاربهم حتى دوخ فيهم، ورد سالما غانما، وبقي له وقع في النفوس، وسار إليهم الموفق في جيش كثيف في الماء والبر، ولقيه ولده، والتقوا الزنج، فهزموهم أيضا. وخارت قوى الخبيث، وألح الموفق في حربهم، ونازل طهثيا، وكان عليها خمسة أسوار، فأخذها، واستخلص من أسر الخبثاء عشرة آلاف مسلمة، وهدمها. وكان المهلبي القائد مقيما بالأهواز في ثلاثين ألفا من الزنج، فسار الموفق لحربه، فانهزم وتفرق عسكره، وطلب خلق منهم الأمان، فأمنهم، ورفق بهم، وخلع عليهم، ونزل الموفق بتستر، وأنفق في الجيش، ومهد البلاد، وجهز ابنه المعتضد أبا العباس لحرب الخبيث، فجهز له سفنا فاقتتلوا، وانتصر أبو العباس، وكتب كتابا إلى الخبيث يهدده، ويدعوه إلى التوبة مما فعل، فعتا وتمرد، وقتل الرسول، فسار الموفق إلى مدينة الخبيث بنهر أبي الخصيب،
_________
(1) السير (12/ 542).
(4/301)
ونصب السلالم ودخلوها، وملكوا السور، فانهزمت الزنج، ولما رأى الموفق حصانتها اندهش، واسمها المختارة، وهاله كثرة المقاتلة بها، لكن استأمن إليه عدة، فأكرمهم.
ونقلت تفاصيل حروب الزنج في 'تاريخ الإسلام' فمن ذلك لما كان في شعبان سنة سبع برز الخبيث وعسكره فيما قيل في ثلاث مئة ألف ما بين فارس وراجل، فركب الموفق في خمسين ألفا، وحجز بينهم النهر، ونادى الموفق بالأمان، فاستأمن إليه خلق، ثم إن الموفق بنى بإزاء المختارة مدينة على دجلة سماها الموفقية، وبنى بها الجامع والأسواق، وسكنها الخلق، واستأمن إليه في شهرٍ خمسة آلاف. وتمت ملحمة في شوال، ونصر الموفق.
وفي ذي الحجة عبر الموفق بجيشه إلى ناحية المختارة، وهرب الخبيث، لكنه رجع، وأزال الموفق عنها. واستولى أحمد الخجستاني على خراسان وكرمان وسجستان، وعزم على قصد العراق.
وفي سنة ثمان وستين تتابع أجناد الخبيث في الخروج إلى الموفق، وهو يحسن إليهم. وأتاه جعفر السجان صاحب سر الخبيث، فأعطاه ذهبا كثيرا، فركب في سفينة حتى حاذى قصر الخبيث فصاح إلى متى تصبرون على الخبيث الكذاب؟ وحدثهم بما اطلع عليه من كذبه وكفره، فاستأمن خلق. ثم زحف الموفق على البلد، وهد من السور أماكن، ودخل العسكر من أقطارها، واغتروا، فكر عليهم الزنج، فأصابوا منهم، وغرق خلق. ورد الموفق إلى بلده حتى رم شعثه، وقطع الجلب عن الخبيث، حتى أكل أصحابه الكلاب والميتة، وهرب خلق، فسألهم الموفق، فقالوا: لنا سنة لم نر الخبز،
(4/302)
وقتل بهبود أكبر أمراء الخبيث، وقتل الخبيث ولده لكونه هم أن يخرج إلى الموفق، وشد على أحمد الخجستاني غلمانه فقتلوه، وغزا الناس مع خلف التركي، فقتلوا من الروم بضعة عشر ألفا.
وفي سنة تسع دخل الموفق المختارة عنوة، ونادى الأمان، وقاتل حاشية الخبيث دونه أشد قتال، وحاز الموفق خزائن الخبيث، وألقى النار في جوانب المدينة، وجرح الموفق بسهم، فأصبح على الحرب، وآلمه جرحه، وخافوا، فخرجوا حتى عوفي، ورمَّ الخبيث بلده.
وفي السنة خرج المعتمد من سامراء ليلحق بصاحب مصر أحمد بن طولون، وكان بدمشق، فبلغ ذلك الموفق، فأغرى بأخيه إسحاق بن كنداج، فلقي المعتمد بين الموصل والحديثة، وقال: يا أمير المؤمنين، ما هذا؟ فأخوك في وجه العدو وأنت تخرج من مقر عزك، ومتى علم بهذا ترك مقاومة عدوك، وتغلب الخارجي على ديار آبائك. وهذا كتاب أخيك يأمرني بردك. فقال: أنت غلامي أو غلامه؟ قال: كلنا غلمانك ما أطعت الله، وقد عصيت بخروجك وتسليطك عدوك على المسلمين. ثم قام، ووكل به جماعة، ثم إنه بعث إليه يطلب منه ابن خاقان وجماعة ليناظرهم، فبعث بهم، فقال لهم: ما جنى أحد على الإمام والإسلام جنايتكم. أخرجتموه من دار ملكه في عدة يسيرة، وهذا هارون الشاري بإزائكم في جمع كثير، فلو ظفر بالخليفة، لكان عارا على الإسلام، ثم رسم أيضا عليهم، وأمر المعتمد بالرجوع، فقال: فاحلف لي أنك تنحدر معي ولا تسلمني، فحلف، وانحدر إلى سامراء. فتلقاه كاتب الموفق صاعد، فأنزله في دار أحمد بن الخصيب، ومنعه من نزول دار
(4/303)
الخلافة، ووكل به خمس مئة نفس، ومنع من أن يجتمع به أحد. وبعث الموفق إلى ابن كنداج بخلع وذهب عظيم.
قال الصولي: تحيل المعتمد من أخيه، فكاتب ابن طولون. ومما قال:
أليس من العجائب أن مثلي ... يرى ما قل ممتنعا عليه
وتؤكل باسمه الدنيا جميعا ... وما من ذاك شيء في يديه؟
ولقب الموفق صاعد بن مخلد ذا الوزارتين، ولقب ابن كنداج ذا السيفين. فلما علم ابن طولون جمع الأعيان، وقال: قد نكث الموفق بأمير المؤمنين، فاخلعوه من العهد فخلعوه سوى القاضي بكار بن قتيبة. فقال لابن طولون: أنت أريتني كتاب أمير المؤمنين بتوليته العهد، فأرني كتابه بخلعه. قال: إنه محجور عليه، قال: لا أدري. قال: أنت قد خرفت وحبسه، وأخذ منه عطاءه على القضاء عشرة آلاف دينار، وأمر الموفق بلعنة أحمد بن طولون على المنابر. وسار ابن طولون، فحاصر المصيصة، وبها خادم، فسلط الخادم على جيش أحمد بثوق النهر، فهلك منهم خلق، وترحلوا، وتخطفهم أهل المدينة، ومرض أحمد، ومات مغبونا.
وفي شوال كانت الملحمة الكبرى بين الخبيث والموفق. ثم وقعت الهزيمة على الزنج، وكانوا في جوع شديد وبلاء، لا خفف الله عنهم، وخامر عدة من قواد الخبيث وخواصه، وأدخل المعتمد في ذي القعدة إلى واسط، ثم التقى الخبيث والموفق، فانهزمت الزنج أيضا، وأحاط الجيش، فحصروا الخبيث في دار الإمارة، فانملس منها إلى دار المهلبي أحد قواده، وأسرت حرمه، فكان النساء نحو مئة، فأحسن إليهن الموفق، وأحرقت الدار، ثم جرت ملحمة بين
(4/304)
الموفق والخبيث في أول سنة سبعين، ثم وقعة أخرى قتل فيها الخبيث، لا رحمه الله. وكان قد اجتمع من الجند، ومن المطوعة مع الموفق نحو ثلاث مئة ألف. وفي آخر الأمر شد الخبيث وفرسانه، فأزالوا الناس عن مواقفهم فحمل الموفق، فهزمهم، وساق وراءهم إلى آخر النهر، فبينا الحرب تستعر إذ أتى فارس إلى الموفق وبيده رأس الخبيث، فما صدق، وعرضه على جماعة، فقالوا: هو هو فترجل الموفق والأمراء، وخروا ساجدين لله، وضجوا بالتكبير، وبادر أبو العباس بن الموفق في خواصه، ومعه رأس الخبيث على قناة إلى بغداد، وعملت قباب الزينة، وكان يوما مشهودا، وشرع الناس يتراجعون إلى المدائن التي أخذها الخبيث، وكانت أيامه خمس عشرة سنة.
قال الصولي: قد قتل من المسلمين ألف ألف وخمس مئة.
قلت: وكذا عدد قتلى بابك.
قال: وكان يصعد على منبره بمدينته، ويسب عثمان وعليا وطلحة وعائشة كمذهب الأزارقة، وكان ينادي على المسبية العلوية في عسكره بدرهمين. وكان عند الزنجي الواحد نحو عشر علويات، يفترشهن ويخدمن امرأته. وفي شعبان أعادوا المعتمد إلى سامراء في أبهة تامة.
وظهر بالصعيد أحمد بن عبد الله الحسني، فحاربه عسكر مصر غير مرة، ثم أسر وقتل.
وفيها أول ظهور دعوة العبيدية، وذلك باليمن.
وفيها نازلت الروم في مئة ألف طرسوس، فبيتهم يازمان الخادم، فقيل: قتل منهم سبعون ألفا، وقتل ملكهم، وأخذ منهم صليب الصلبوت.
(4/305)
فالحمد لله على هذا النصر العزيز الذي لم يسمع بمثله، مع تمام المنة على الإسلام بمصرع الخبيث. (1)
أبو الفضل العباس بن محمد الدُّوري (2) (271 هـ)
الإمام الحافظ، الثقة الناقد، أبو الفضل، عباس بن محمد بن حاتم بن واقد الدوري، ثم البغدادي، مولى بني هاشم أحد الأثبات المصنفين. ولد سنة خمس وثمانين ومائة. سمع حسين بن علي الجعفي ومحمد بن بشر، وأبا داود الطيالسي، ويحيى بن أبي بكر، وخلقا كثيرا، ولازم يحيى بن معين وتخرج به وسأله عن الرجال وهو في مجلد كبير. حدث عنه أرباب السنن الأربعة، وأبو عوانة، وابن صاعد، وأبو العباس الأصم، وخلق. قال إسماعيل الصفار: سمعت عباسا الدوري، يقول: كتب لي يحيى بن معين وأحمد بن حنبل إلى أبي داود الطيالسي كتابا فقالا فيه: إن هذا فتى يطلب الحديث. توفي في صفر سنة إحدى وسبعين ومائتين.
موقفه من الجهمية:
- قال رحمه الله: القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال: إنه مخلوق، فهو كافر. (3)
_________
(1) السير (12/ 545 - 550).
(2) تاريخ بغداد (12/ 144 - 146) وطبقات الحنابلة (1/ 236 - 239) وتهذيب الكمال (14/ 245 - 249) والسير (12/ 522 - 524) وتذكرة الحفاظ (2/ 579 - 580) وتاريخ الإسلام (حوادث 271 - 280/ص.371 - 372) وتهذيب التهذيب (5/ 129 - 130) وشذرات الذهب (2/ 161).
(3) الإبانة (2/ 12/72/ 297).
(4/306)
محمد بن عبد الرحمن بن الحكم (1) (273 هـ)
محمد بن عبد الرحمن بن الحكم الأموي، صاحب الأندلس، كان عالما فاضلا عاقلا، محبا للعلم، مؤثرا لأصحاب الحديث، مكرما لهم. وكان يخرج إلى الجهاد ويوغل في بلاد الكفار السنة والسنتين، وهو صاحب وقعة وادي سليط وهي من الوقائع المشهورة لم يعرف قبلها مثلها في الأندلس، وهو الذي نصر بقي بن مخلد الحافظ على أهل الرأي. وقال عنه بقي: ما كلمت أحدا من الملوك أكمل عقلا، ولا أبلغ لفظا من الأمير محمد ولقد دخلت عليه يوما في مجلس خلافته، فافتتح الكلام بحمد الله، والصلاة على نبيه، ثم ذكر الخلفاء فحلى كل واحد بحليته وصفته، وذكر مآثره بأفصح لسان حتى انتهى إلى نفسه، فحمد الله على ما قدره ثم سكت. توفي سنة ثلاث وسبعين ومائتين.
موقفه من المبتدعة:
- قال ابن حزم: كان محمد بن عبد الرحمن الأموي صاحب الأندلس محبا للعلوم عارفا بها؛ فلما دخل بقي بن مخلد الأندلس بمصنف ابن أبي شيبة وقرئ عليه أنكر جماعة من أهل الرأي ما فيه من الخلاف واستبشعوه، وقام جماعة من العامة عليه، ومنعوه من قراءته، فاستحضره الأمير محمد وإياهم، وتصفح الكتاب جزءا جزءا حتى أتى على آخره، ثم قال لخازن كتبه: هذا الكتاب لا تستغني خزانتنا عنه، فانظر في نسخه لنا، وقال لبقي: انشر
_________
(1) السير (8/ 262 - 263) والوافي بالوفيات (3/ 224 - 225) وتاريخ ابن الوردي (1/ 331) والكامل في التاريخ (7/ 424) وتاريخ الإسلام (حوادث 271 - 280/ص.451 - 452) وشذرات الذهب (2/ 164 - 165).
(4/307)
علمك، وارو ما عندك، ونهاهم أن يتعرضوا له. (1)
" التعليق:
يقال في المثل: (رُبَّ ضارة نافعة) وقال الله تعالى في قصة عائشة: {لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} (2) وقال الله تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} (3)، والله تعالى له حكم تجري لا مبدل لها ولا مغير.
ومن حكمته تبارك وتعالى أن يهيأ أسبابا للخير قد يراها الإنسان شرا وهي في واقعها خير له ولدينه، ومثل قصة هذا الأمير كثيرة في تاريخ الإسلام، فبقدر ما يحارب الحق وتحارب السنة والآثار والعقيدة الصحيحة بقدر ما تنتشر السنة وينتشر الحق وتنتشر الآثار، وإن شئت فخذ على سبيل المثال شيخ الإسلام رحمه الله؛ فإن الذي نشر كتبه وجعلها تتأصل ويحتفظ بها التاريخ وتتوارثها الأجيال جيلا بعد جيل هي محاربة أهل البدع لها وتحذيرهم منها، وقد كان الأمير عبد القادر الجزائري يشتري كتب الشيخ بأثمان غالية ويحرقها، وهكذا كتاب ابن حزم المحلى كم حاربه من محارب وهاهو الآن أحد أصول الإسلام ومراجعها الذي يرجع إليه في كل الملمات العلمية والفقهية، وهكذا لو تتبعنا السلسلة التاريخية لسودنا بذلك صحائف كثيرة، فلا غرابة أن يعترض جماعة من الفقهاء الجامدين على المذهب على مصدر
_________
(1) نفح الطيب (2/ 519)، وفي السير (13/ 288).
(2) النور الآية (11).
(3) البقرة الآية (216).
(4/308)
علمي كبير حوى بين دفتيه فقه السلف وآثارهم وفتاواهم وأقوالهم التي يستنير بها كل طالب حق ومتبع للدليل والآثار، فما في كتب المتأخرين مثل التمهيد والمغني والمحلى والمجموع وغيرها من كتب العلم من الآثار إلا وهي في أو من هذا المصدر العظيم الذي لو ضربت له أكباد الإبل من المغرب إلى المشرق لكان رخيصا فيه، ولو كتب بماء الذهب ولو كانت مجلداته محلاة بالحرير والديباج لكان كل ذلك لا يقارن بما فيه من العلم والفقه، وهذا السرطان الذي كان في الأندلس قد انتقل إلى كثير من الأمصار وابتليت به، حتى ردوا بسببه القرآن والسنن فضلا عن الآثار السلفية لما هم عليه من الأهواء والبدع والجمود الفكري والمذهبي، الذي اتخذه وصولية المرتزقة سلما لإرضاء ساداتهم وكبرائهم ولقضاء مآربهم والله المستعان. فاللهم اكف المسلمين شرهم بما شئت وكيف شئت.
موقفه من المشركين:
- قال أبو المظفر ابن الجوزي: هو صاحب وقعة سليط. وهي ملحمة مشهورة لم يعهد قبلها بالأندلس مثلها، يقال: قتل فيها ثلاث مائة ألف كافر. وهذا شيء لم نسمع بمثله. قال: وللشعراء فيه مدائح كثيرة. (1)
حنبل بن إسحاق بن حنبل (2) (273 هـ)
حنبل بن إسحاق بن حنبل، الإمام الحافظ، أبو علي الشيباني ابن عم
_________
(1) السير (8/ 263).
(2) السير (13/ 51 - 53) وطبقات الحنابلة (1/ 143) وتاريخ بغداد (8/ 286) والنجوم الزاهرة (3/ 70).
(4/309)
الإمام أحمد. ولد قبل المائتين. سمع من محمد بن عبد الله الأنصاري، وسليمان ابن حرب، والحميدي. حدث عنه ابن صاعد، وأبو بكر الخلال، ومحمد بن مخلد. وكان زاهدا عابدا. قال عنه أحمد بن ثابت: كان ثقة ثبتا. توفي سنة ثلاث وسبعين ومائتين.
موقفه من الخوارج:
موقفه من إمام المسلمين:
عن عصمة بن عصام قال: ثنا حنبل في هذه المسألة قال: وإني لأدعو له بالتسديد والتوفيق في الليل والنهار والتأييد، وأرى له ذلك واجبا علي. (1)
الإمام ابن ماجه (2) (273 هـ)
الحافظ الكبير الحجة المفسر، أبو عبد الله محمد بن يزيد الربعي مولاهم، أبو عبد الله ابن ماجه القزويني، ذو التصانيف النافعة والرحلة الواسعة. ولد سنة تسع ومائتين سمع بخراسان، والعراق والحجاز، ومصر، والشام، وغيرها من البلاد جماعةً يطول ذكرهم. روى عن علي بن محمد الطنافسي وجبارة ابن المغلس، ومصعب بن عبد الله الزبيري وعبد الله معاوية الجمحي، وأبي بكر ابن أبي شيبة وخلق كثير مذكورين في 'سننه' وتآليفه. حدث عنه محمد بن
_________
(1) السنة للخلال (1/ 83).
(2) الوافي بالوفيات (5/ 220) وتذكرة الحفاظ (2/ 636 - 637) ووفيات الأعيان (4/ 279) والمنتظم (12/ 258) وتهذيب الكمال (27/ 40 - 42) والسير (13/ 277 - 281) وشذرات الذهب (2/ 164) وتهذيب التهذيب (9/ 530 - 532).
(4/310)
عيسى الأبهري، وأبو عمرو أحمد بن روح البغدادي، وأبو الحسن القطان ومحمد بن عيسى الصفار وآخرون. صنف 'السنن' و'التاريخ' و'التفسير'. قال ابن ماجه: عرضت هذه 'السنن' على أبي زرعة الرازي فنظر فيه، وقال: أظن إن وقع هذا في أيدي الناس تعطلت هذه الجوامع أو أكثرها، ثم قال: لعل لا يكون فيه تمام ثلاثين حديثا مما في إسناده ضعف أو نحو ذا. قال أبو يعلى الخليلي: ابن ماجه ثقة كبير متفق عليه محتج به، له معرفة وحفظ وارتحل إلى العراقين ومكة والشام ومصر والري لكتب الحديث. مات في رمضان سنة ثلاث وسبعين ومائتين. وقيل سنة خمس، قال الذهبي: والأول أصح، وعاش أربعا وستين سنة.
موقفه من المبتدعة:
لقد صنف الإمام ابن ماجه كتابه السنن وهو سادس الكتب الست المشهورة المعتمدة عند جميع المسلمين. ولسلفية هذا الإمام وغيرته عليها، اهتم اهتماما بالغا في إثبات العقيدة السلفية، والرد على المبتدعة المخالفين لها، فاستهل كتابه المبارك بمقدمة مفيدة، بين فيها وجوب اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - واتباع السلف، وفي مقدمتهم الخلفاء الأربعة رضي الله عن الجميع، ثم عقد بابا جيدا ذكر ما ورد فيه من التحذير من البدع والجدل، ثم ذكر بابا آخر في اجتناب الرأي والقياس، ثم عقد بابا للرد على المرجئة سماه الإيمان، ثم القدر للرد على القدرية، ثم فضائل الصحابة للرد على الروافض، ثم عقد بابا للرد على الخوارج أعداء الله، ثم عقد بابا للرد على الجهمية، ذكر فيه أحاديث متنوعة في الصفات كالرؤية والكلام والضحك واليد والقدم
(4/311)
واليمين.
موقفه من الخوارج:
- أورد ضمن المقدمة: باب في ذكر الخوارج. (1)
موقفه من المرجئة:
- بوب ضمن مقدمة سننه: بابا في الإيمان (2) أسند فيه عدة أحاديث تدل على أن الأعمال تدخل في الإيمان، وعلى أن الإيمان يزيد وينقص.
موقفه من القدرية:
- عقد في مقدمة سننه بابا في القدر.
غلامُ خليل (3) (275 هـ)
الشيخ، العالم، الزاهد، الواعظ، شيخ بغداد، أبو عبد الله أحمد بن محمد ابن غالب بن خالد بن مرداس، الباهلي البصري، غلام خليل. سكن بغداد، وكان له جلالة عجيبة، وصولة مهيبة، وأمر بالمعروف، وأتباع كثير، وصحة معتقد. روى عن قرة بن حبيب، وسهل بن عثمان، وشيبان، وسليمان الشاذكوني. حدث عنه محمد بن مخلد، وعثمان السماك، وأحمد بن كامل وطائفة. قال ابن أبي حاتم: سئل أبي عنه فقال: رجل صالح لم يكن عندي
_________
(1) (1/ 59 - 62).
(2) (1/ 22 - 28).
(3) الجرح والتعديل (2/ 73) وتاريخ بغداد (5/ 78 - 80) والمنتظم (12/ 265 - 267) والسير (13/ 282 - 285) وميزان الاعتدال (1/ 141 - 142) واللسان (1/ 272 - 274).
(4/312)
ممن يفتعل الحديث. قال أحمد بن كامل القاضي: سنة خمس وسبعين ومائتين توفي أبو عبد الله أحمد بن محمد بن غالب بن مرداس غلام خليل ببغداد في رجب منها، وحمل في تابوت إلى البصرة وغلقت أسواق مدينة السلام، وخرج الرجال والنساء والصبيان لحضوره والصلاة عليه، فأدرك ذلك بعض الناس وفات بعضهم لسرعة السير به ودفن بالبصرة، وكان فصيحا يعرب الكلام، ويحفظ علما عظيما، ويخضب بالحناء خضابا قانيا، ويقتات بالباقلا صرفا.
موقفه من الصوفية:
قد تكلم المحدثون في روايته للحديث وهذا أمر مهم بالنسبة للرواية ونحن يهمنا موقفه العقدي الذي وقفه، لا رواية فيه ولا نقل، وهو منه مباشرة. وقد أجمع المؤرخون على هذا الموقف الذي وقفه.
- جاء في السير: قال ابن الأعرابي: قدم من واسط غلام خليل، فذكرت له هذه الشناعات -يعني خوض الصوفية- ودقائق الأحوال التي يذمها أهل الأثر، وذكر له قولهم بالمحبة، ويبلغه قول بعضهم: نحن نحب ربنا ويحبنا فأسقط عنا خوفه بغلبة حبه، فكان ينكر هذا الخطأ بخطأ أغلظ منه حتى جعل محبة الله بدعة وكان يقول: الخوف أولى بنا قال: وليس كما توهم بل المحبة والخوف أصلان لا يخلو المؤمن منهما فلم يزل يقص بهم ويحذر منهم ويغري بهم السلطان والعامة ويقول: كان عندنا بالبصرة قوم يقولون بالحلول وقوم يقولون بالإباحة، وقوم يقولون كذا، فانتشر في الأفواه أن ببغداد قوما يقولون بالزندقة، وكانت تميل إليه والدة الموفق، وكذلك الدولة والعوام
(4/313)
لزهده وتقشفه فأمرت المحتسب أن يطيع غلام خليل، فطلب القوم وبث الأعوان في طلبهم وكتبوا فكانوا نيفا وسبعين نفسا، فاختفى عامتهم وبعضهم خلصته العامة وحبس منهم جماعة مدة. (1)
" التعليق:
الذي يغلب على الظن أن ما قيل في غلام خليل من أنه قال المحبة بدعة، أمر لا يصح، لأن هذا رجل درس الكتاب والسنة، فيستبعد أن يصدر منه هذا، ويكون هذا من تلفيق الصوفية عليه، لما علمت من وقوفه ضدهم. فجزاه الله خيرا.
أبو داود السِّجِسْتَانِي (2) (275 هـ)
الإمام الثبت سيد الحفاظ شيخ السنة سليمان بن الأشعث بن شداد بن عمرو بن عامر، أبو داود الأزدي السجستاني محدث البصرة. ولد سنة اثنتين ومائتين ورحل وجمع وصنف وبرع في هذا الشأن وكتب عن العراقيين والخراسانيين والشاميين والمصريين. سمع سليمان بن حرب وابن راهويه وأحمد بن حنبل وعلي بن المديني ويحيى بن معين وأمما سواهم. حدث عنه أبو عيسى الترمذي والنسائي، وابنه أبو بكر وأبو عوانة وأبو بشر
_________
(1) السير (13/ 284).
(2) الجرح والتعديل (4/ 101 - 102) وتاريخ بغداد (9/ 55 - 59) والمنتظم (12/ 268 - 270) والسير ... (13/ 203 - 221) ووفيات الأعيان (2/ 404 - 405) وتذكرة الحفاظ (2/ 591 - 593) والوافي بالوفيات (15/ 353 - 354).
(4/314)
الدولابي. قال محمد بن إسحاق الصاغاني: لين لأبي داود الحديث كما لين لداود الحديد. وقال الحافظ موسى بن هارون: ما رأيت أفضل منه. وقيل كان أبو داود يشبه بأحمد بن حنبل. قال الحاكم أبو عبد الله: أبو داود إمام أهل الحديث في عصره بلا مدافعة. قال أبو بكر الخلال: أبو داود الإمام المقدم في زمانه، رجل لم يسبقه إلى معرفته بتخريج العلوم، وتبصره بمواضعه أحد في زمانه، رجل ورع مقدم. قال أحمد بن محمد بن ياسين: كان أبو داود أحد حفاظ الإسلام لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلمه وعلله وسنده، في أعلى درجة النسك والعفاف، والصلاح والورع من فرسان الحديث. قال أبو حاتم بن حبان: أبو داود أحد أئمة الدنيا فقها وعلما وحفظا ونسكا وورعا وإتقانا جمع وصنف وذب عن السنن. قال أبو عبيد الآجري: توفي أبو داود في سادس عشر شوال سنة خمس وسبعين ومائتين.
موقفه من المبتدعة:
- دفاعه عن العقيدة السلفية: لقد ذكر أبو داود في سننه كتابا عظيما، مكونا من اثنين وثلاثين بابا، مشتملا على سبعة وسبعين حديثا ومائة حديث، بين فيها الإمام السنة ورد على جميع المبتدعة من: مرجئة وجهمية وخوارج وشيعة. فأورد ما يدل على زيادة الإيمان وأورد أحاديث الصفات، وذكر الشفاعة وعذاب القبر، وأورد فضل الصحابة عموما والشيخين خصوصا، والتحذير من سب الصحابة رضوان الله عليهم. كما أورد أحاديث عامة تشمل التحذير من جميع أهل الأهواء والبدع. فأبو داود يعتبر من الذين وقفوا ضد المبتدعة ودافعوا عن العقيدة السلفية.
(4/315)
موقفه من الرافضة:
- قال أبو داود -في عبد الرحمن بن صالح الأزدي الشيعي-: ألف كتابا في مثالب الصحابة رجل سوء. (1)
موقفه من الصوفية:
- جاء في البداية والنهاية: وهي رابعة بنت إسماعيل مولاة آل عتيك العدوية البصرية العابدة المشهورة، ذكرها أبو نعيم في 'الحلية' و'الرسائل'، وابن الجوزي في 'صفة الصفوة' والشيخ شهاب الدين السهروردي في المعارف، والقشيري، وأثنى عليها أكثر الناس وتكلم فيها أبو داود السجستاني واتهمها بالزندقة فلعله بلغه عنها أمر. (2)
موقفه من الجهمية:
- روى أبو داود بسنده إلى ابن عباس، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوذ الحسن والحسين "أعيذكما بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة" (3) ثم يقول: كان أبوكم يعوذ بهما إسماعيل وإسحاق. وقال أبو داود: هذا دليل على أن القرآن ليس بمخلوق. (4)
- وروى أيضا بسنده إلى أبي يونس سليم بن جبير مولى أبي هريرة،
_________
(1) الميزان (2/ 569).
(2) البداية والنهاية (10/ 193).
(3) أخرجه: أحمد (1/ 236) والبخاري (6/ 503/3371) وأبو داود (5/ 104 - 105/ 4737) والترمذي ... (4/ 346 - 347/ 2060) والنسائي في الكبرى (6/ 250/10845) وابن ماجه (2/ 1164 - 1165/ 3525).
(4) سنن أبي داود (5/ 104 - 105).
(4/316)
قال: سمعت أبا هريرة يقرأ هذه الآية {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} إلى قوله تعالى: {سَمِيعًا بَصِيرًا} (1) قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضع إبهامه على أذنيه والتي تليها على عينه (2)، قال أبو هريرة: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرؤها ويضع إصبعيه، قال ابن يونس: قال المقريء: يعني أن الله سميع بصير يعني أن لله سمعا وبصرا. قال أبو داود: وهذا رد على الجهمية. (3)
- وروى ابن بطة في الإبانة بسنده إلى أبي يحيى الساجي، قال: سمعت أبا داود السجستاني يقول: بين في هذا الحديث أن القرآن كلام الله غير مخلوق، لقول آدم لموسى: أنت موسى نبي بني إسرائيل الذي كلمك الله من وراء حجاب، ولم يجعل بينك وبينه رسولا من خلقه؟ فقال المعتزلة: بل أحدث كلاما في شجرة سمعه موسى. قال: فيقال لهم: وقد أحدث الله كلاما لنبينا - صلى الله عليه وسلم - في ذراع شاة، فقد استويا في الكلام. (4)
موقفه من الخوارج:
- أورد في كتاب السنة من السنن (5) بابين في قتال الخوارج ضمنها
_________
(1) النساء الآية (58).
(2) أخرجه: أبو داود (5/ 96 - 97/ 4728) وصححه ابن حبان (1/ 498/265) والحاكم (1/ 24) وقال: "حديث صحيح ولم يخرجاه، وقد احتج مسلم بحرملة بن عمران وأبي يونس والباقون متفق عليهم". ووافقه الذهبي. وقال الحافظ في الفتح (13/ 461): سنده قوي على شرط مسلم.
(3) سنن أبي داود (5/ 96 - 97).
(4) الإبانة (2/ 14/310/ 476).
(5) (5/ 118 - 127).
(4/317)
ثلاث عشرة حديثا.
موقفه من المرجئة:
- عقد ضمن كتاب السنة من سننه بابين في الرد على المرجئة ضمنها أحاديث، وهما:
باب (15) في رد الإرجاء.
باب (16) الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه. (1)
وقال رحمه الله في عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد: وكان مرجئا داعية للإرجاء، وما فسد عبد العزيز حتى نشأ ابنه عبد المجيد. وأهل خراسان لا يحدثون عنه. (2)
موقفه من القدرية:
- عن أبي عبد الله المتوثي قال: سمعت أبا داود السجستاني يقول: كان غيلان نصرانيا. (3)
- وعقد بابا طويلا في كتاب (السنة)، من السنن في الرد على القدرية.
_________
(1) (5/ 55 - 66/ 4676 - 4690).
(2) تهذيب الكمال (18/ 274).
(3) الإبانة (2/ 10/217).
(4/318)
بَقِيُّ بن مَخْلَد (1) (276 هـ)
الإمام الحافظ القدوة شيخ الإسلام أبو عبد الرحمن القرطبي بقي بن مخلد ابن يزيد، صاحب 'التفسير' و'المسند' اللذين لا نظير لهما. مولده في رمضان سنة إحدى ومائتين، وسمع يحيى بن يحيى الليثي ويحيى بن عبد الله بن بكير وأبا مصعب الزهري وإبراهيم بن المنذر الحزامي، وابن أبي شيبة وبندارا، وطوف الشرق والغرب، وشيوخه مائتان وثمانون ونيف، وروى عن أحمد بن حنبل مسائل وفوائد ولم يرو له شيئا مسندا لكونه كان قد قطع الحديث. وعني بهذا الشأن عناية لا مزيد عليها، وأدخل جزيرة الأندلس علما جما، وبه وبمحمد بن وضاح صارت تلك الناحية دار حديث، وكان مجاب الدعوة. حدث عنه ابنه أحمد، وأيوب بن سليمان المري وأحمد بن عبد الله الأموي وأحمد بن عبد العزيز وعبد الواحد بن حمدون، وهشام بن الوليد الغافقي وآخرون. وكان إماما مجتهدا صالحا ربانيا صادقا مخلصا، رأسا في العلم والعمل، عديم المثل، منقطع القرين يفتي بالأثر، ولا يقلد أحدا. قال ابن أبي خيثمة: ما كنا نسميه إلا المكنسة وهل يحتاج بلد فيه بقي أن يأتي منه إلينا أحد؟ وعن بقي قال: لما رجعت من العراق أجلسني يحيى بن بكير إلى جنبه وسمع مني سبعة أحاديث. وقد تعصبوا على بقي لإظهاره مذهب أهل الأثر فدفعهم عنه أمير الأندلس محمد بن عبد الرحمن المرواني واستنسخ كتبه وقال
_________
(1) الصلة (1/ 116 - 119) والسير (13/ 285 - 296) والوافي بالوفيات (10/ 182 - 183) والمنتظم ... (12/ 274 - 275) وتذكرة الحفاظ (2/ 629 - 631) والبداية والنهاية (11/ 60 - 61) وشذرات الذهب (2/ 169) وتاريخ دمشق (10/ 354 - 359).
(4/319)
لبقي: انشر علمك. قال ابن حزم: كان بقي ذا خاصة من أحمد بن حنبل وجاريا في مضمار البخاري ومسلم والنسائي. وعن بقي قال: كل من رحلت إليه فماشيا على قدمي. توفي لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة سنة ست وسبعين ومائتين. ومن مناقبه أنه كان من كبار المجاهدين في سبيل الله، يقال شهد سبعين غزوة.
موقفه من المبتدعة:
- وقال أبو الوليد بن الفرضي في تاريخه: ملأ بقي بن مخلد الأندلس حديثا، فأنكر عليه أصحابه الأندلسيون: أحمد بن خالد، ومحمد بن الحارث وأبو زيد، ما أدخله من كتب الاختلاف، وغرائب الحديث، فأغروا به السلطان وأخافوه به، ثم إن الله أظهره عليهم، وعصمه منهم، فنشر حديثه وقرأ للناس روايته. ثم تلاه ابن وضاح، فصارت الأندلس دار حديث وإسناد. ومما انفرد به، ولم يدخله سواه مصنف أبي بكر بن أبي شيبة بتمامه، وكتاب الفقه للشافعي بكماله يعني الأم وتاريخ خليفة، وطبقات خليفة، وكتاب سيرة عمر بن عبد العزيز لأحمد بن إبراهيم الدورقي ... وليس لأحد مثل مسنده. (1)
- قال أسلم بن عبد العزيز: وكان بقي أول من كثر الحديث بالأندلس ونشره، وهاجم به شيوخ الأندلس، فثاروا عليه، لأنهم كان علمهم بالمسائل ومذهب مالك، وكان بقي يفتي بالأثر، فشذ عنهم شذوذا عظيما، فعقدوا
_________
(1) السير (13/ 287).
(4/320)
عليه الشهادات، وبدعوه، ونسبوا إليه الزندقة، وأشياء نزهه الله منها. وكان بقي يقول: لقد غرست لهم بالأندلس غرسا لا يقلع إلا بخروج الدجال. (1)
موقفه من الجهمية:
- جاء في تاريخ علماء الأندلس: عن أحمد بن فقي قال: سمعت أبا عبيدة يقول: حضرت الشيخ يعني بقيا وقد أتاه خليل (2) فقال له بقي: أسألك عن أربع، فقال: ما هي؟ قال: ما تقول في الميزان؟ قال: عدل الله، ونفى أن تكون له كفتان، قال: ما تقول في الصراط؟ فقال: الطريق، يريد الإسلام، فمن استقام عليه نجا. فقال له: ما تقول في القرآن؟ فلجلج ولم يقل شيئا، وكأنه ذهب إلى أنه مخلوق، فقال له: فما تقول في القدر؟ فقال: أقول إن الخير من عند الله، والشر من عند الرجل، فقال له بقي: والله لولا حالك لأشرت بسفك دمك، ولكن قم، فلا أراك في مجلسي بعد هذا الوقت. (3)
القاسم بن محمد البَيَّانِي (4) (276 هـ)
الإمام المجتهد، الحافظ عالم الأندلس أبو محمد القاسم بن محمد بن القاسم بن محمد ابن يسار مولى الخليفة بن عبد الملك، الأموي الأندلسي
_________
(1) السير (13/ 290 - 291).
(2) وهو خليل بن عبد الملك بن كليب المعتزلي القدري، كان صديقا لابن وضاح فلما تبين له أمره هجره. فلما مات قام جماعة من الفقهاء منهم أبو مروان بن أبي عيسى بإخراج كتبه وإحراقها. انظر تاريخ علماء الأندلس (1/ 165 - 166).
(3) تاريخ علماء الأندلس (1/ 165).
(4) الديباج المذهب (2/ 143 - 144) والسير (13/ 327 - 330) والتذكرة (2/ 648) وترتيب المدارك (4/ 446 - 448) والشذرات (2/ 170) وتاريخ علماء الأندلس (1/ 355 - 357).
(4/321)
القرطبي البياني أحد الأعلام. شيخ الفقهاء والمحدثين بالأندلس. غطى معرفتَه بالحديث براعتُه في الفقه والمسائل، وفاق أهل العصر وضرب بإمامته المثل، وصار إماما مجتهدا لا يقلد أحدا، مع قوة ميله إلى مذهب الشافعي وبصره به، فإنه لازم التفقه على الإمامين أبي إبراهيم المزني، ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم. مولده بعد سنة عشرين ومائتين.
روى عن إبراهيم بن محمد الشافعي، وأبي الطاهر بن السرح، وإبراهيم ابن المنذر الحزامي، والحارث بن مسكين، ويونس بن عبد الأعلى، والربيع، وخلق.
تفقه به علماء قرطبة، وحدث عنه سعيد بن عثمان الأعناقي، ومحمد ابن عمر بن لبابة، وابنه محمد بن قاسم، ومحمد بن عبد الملك بن أيمن، وآخرون. قال أحمد بن الجباب: ما رأيت مثل قاسم في الفقه ممن دخل الأندلس من أهل الرحل. قال ابن عبد الحكم: لم يقدم علينا من الأندلس أحد أعلم من قاسم بن محمد، ولقد عاتبته حين رجوعه إلى الأندلس، قلت: أقم عندنا، فإنك تعتقد هنا رئاسة، ويحتاج الناس إليك، فقال: لا بد من الوطن. قال ابن عبد البر: لم يكن أحد ببلدنا أفقه من قاسم بن محمد، وأحمد بن الجباب. قال ابن الفرضي: وكان يلي وثائق الأمير محمد -ملك الأندلس- طول أيامه. مات رحمه الله في آخر سنة ست وسبعين ومائتين، هو وبقي بن مخلد في عام، وما خلفا مثلهما.
موقفه من المبتدعة:
- قال ابن الفرضي: وذهب مذهب الحجة، والنظر وعلم الاختلاف.
(4/322)
وكان يميل لمذهب الشافعي، ولم يكن بالأندلس مثل قاسم في حسن النظر والبصر بالحجة.
- وقال أيضا: ألف قاسم كتابا في الرد على ابن مزين، والعتبي، وعبد الله بن خالد سماه الرد على المقلدة وكتابا آخر في خبر الواحد. (1)
قال الذهبي: قلت: وصنف كتاب 'الإيضاح' في الرد على المقلدين. وكان ميالا إلى الآثار. (2)
" التعليق:
قال جامعه: لعل ظاهرة التقليد المذهبي، كانت فاشية في زمانه، فحاربها وألف هذا الكتاب، ولعلنا نظفر به فنعرف قيمته العلمية.
ابن قُتَيْبَة (3) (276 هـ)
العلامة الكبير، ذو الفنون، أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، وقيل المروزي، الكاتب صاحب التصانيف. نزل بغداد وصنف وجمع وبعد صيته. حدث عن إسحاق بن راهويه، ومحمد بن زياد بن عبيد الله الزيادي، وزياد بن يحيى الحساني، وأبي حاتم السجستاني وطائفة. حدث عنه ابنه القاضي أحمد بن عبد الله بديار مصر وعبيد الله السكري، وعبيد الله بن
_________
(1) الديباج المذهب (2/ 143 - 144).
(2) السير (13/ 327 - 329) بتصرف، وتذكرة الحفاظ (2/ 648).
(3) تاريخ بغداد (10/ 170 - 171) والسير (13/ 296 - 302) والمنتظم (12/ 276 - 277) ووفيات الأعيان (3/ 42 - 44) وتذكرة الحفاظ (2/ 633) والبداية والنهاية (11/ 52) وميزان الاعتدال (2/ 503) واللسان (3/ 357 - 359) وشذرات الذهب (2/ 169 - 170).
(4/323)
أحمد بن بكر، وعبد الله بن جعفر بن درستويه النحوي. قال أبو بكر الخطيب: كان ثقة دينا فاضلا وهو صاحب التصانيف المشهورة، والكتب المعروفة منها: 'غريب القرآن'، 'غريب الحديث'، 'مشكل القرآن'، 'مشكل الحديث'، 'أدب الكاتب'، 'عيون الأخبار'، 'كتاب المعارف'، 'إعراب القرآن' وغير ذلك. وقد ولي قضاء الدينور، وكان رأسا في علم اللسان العربي والأخبار وأيام الناس. قال السلفي: ابن قتيبة من الثقات وأهل السنة. قال الذهبي: والرجل ليس بصاحب حديث، وإنما هو من كبار العلماء المشهورين، عنده فنون جمة وعلوم مهمة. مات رحمه الله في شهر رجب -أول ليلة منه- سنة ست وسبعين ومائتين.
موقفه من المبتدعة:
- قال في كتابه 'تأويل مختلف الحديث': من اعتصم بكتاب الله عز وجل، وتمسك بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد استضاء بالنور، واستفتح باب الرشد، وطلب الحق من مظانه. وليس يدفع أصحاب الحديث عن ذلك إلا ظالم، لأنهم لا يردون شيئا من أمر الدين إلى استحسان، ولا إلى قياس ونظر، ولا إلى كتب الفلاسفة المتقدمين، ولا إلى أصحاب الكلام المتأخرين. (1)
- وقال: فأما أصحاب الحديث فإنهم التمسوا الحق من وجهته، وتتبعوه من مظانه، وتقربوا من الله تعالى، باتباعهم سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وطلبهم لآثاره وأخباره، برا وبحرا، وشرقا وغربا. يرحل الواحد منهم راجلا
_________
(1) تأويل مختلف الحديث (86).
(4/324)
مقويا في طلب الخبر الواحد، أو السنة الواحدة حتى يأخذها من الناقل لها مشافهة ثم لم يزالوا في التنقير عن الأخبار والبحث لها، حتى فهموا صحيحها وسقيمها، وناسخها ومنسوخها، وعرفوا من خالفها من الفقهاء إلى الرأي. فنبهوا على ذلك حتى نجم الحق بعد أن كان عافيا، وبسق بعد أن كان دارسا، واجتمع بعد أن كان متفرقا، وانقاد للسنن من كان عنها معرضا، وتنبه عليها من كان عنها غافلا، وحكم بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن كان يحكم بقول فلان وفلان وإن كان فيه خلاف على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد يعيبهم الطاعنون بحملهم الضعيف، وطلبهم الغرائب وفي الغريب الداء. ولم يحملوا الضعيف والغريب، لأنهم رأوهما حقا، بل جمعوا الغث والسمين، والصحيح والسقيم، ليميزوا بينهما، ويدلوا عليهما، وقد فعلوا ذلك. (1)
موقفه من المشركين:
- قال رحمه الله: ولم يأت أهل التكذيب بهذا وأشباهه، إلا لردهم الغائب عنهم، إلى الحاضر عندهم، وحملهم الأشياء على ما يعرفون من أنفسهم، ومن الحيوان والموات، واستعمالهم حكم ذوي الجثث في الروحانيين. فإذا سمعوا بملائكة، على كواهلها العرش، وأقدامها في الأرض السفلى، استوحشوا من ذلك، لمخالفة ما شاهدوا -وقالوا: كيف تخرق جثث هؤلاء، السموات وما بينهما، والأرضين وما فوقها، من غير أن نرى لذلك أثرا؟ وكيف يكون خلق، له هذه العظمة؟ وكيف تكون أرواحا ولها
_________
(1) تأويل مختلف الحديث (73 - 74).
(4/325)
كواهل وأقدار. وإذا سمعوا بأن جبريل عليه السلام، مرة أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - في صورة أعرابي، ومرة في صورة دحية الكلبي، ومرة في صورة شاب، ومرة سد بجناحيه ما بين المشرق والمغرب. قالوا: كيف يتحول من صورة إلى صورة. وكيف يكون مرة، في غاية الصغر، ومرة في غاية الكبر: من غير أن يزاد في جسمه ولا جثته، وأعراضه؟ لأنهم لا يعاينون إلا ما كان كذلك. وإذا سمعوا بأن الشيطان يصل إلى قلب ابن آدم، حتى يوسوس له ويخنس. قالوا: من أين يدخل؟ وهل يجتمع روحان في جسم؟ وكيف يجري مجرى الدم؟ قال أبو محمد: ولو اعتبروا ما غاب عنهم، بما رأوه من قدرة الله جل وعز، لعلموا أن الذي قدر على أن يفجر مياه الأرض كلها إلى البحر، منذ خلق الله الأرض وما عليها، فهي تفضي إليه من غير أن يزيد فيه أو ينقص منه. ولو جعل لنهر منها مثل "دجلة" أو "الفرات" أو "النيل" سبيل إلى ما على وجه الأرض من المدائن والقرى والعمارات والخراب، شهرا، لم يبق على ظهرها شيء إلا هلك، هو الذي قدر على ما أنكروا. -وأن الذي قدر أن يحرك هذه الأرض، على عظمها وكثافتها، وبحارها، وأطوادها، وأنهارها حتى تتصدع الجبال، وحتى تغيض المياه، وحتى ينتقل جبل من مكان إلى مكان، هو الذي لطف لما قدر.
وأن الذي وسع إنسان العين، مع صغره وضعفه، لإدراك نصف الفلك، على عظمه، حتى رأى النجم من المشرق، ورقيبه من المغرب، وما بينهما، وحتى خرق من الجو، مسيرة خمسمائة عام هو الذي خلق ملكا، ما بين
(4/326)
شحمة أذنه إلى عاتقه، مسيرة خمسمائة عام. فهل ما أنكر إلا بمنزلة ما عرف؟ وهل ما رأى إلا بمنزلة ما لم يره؟ فتعالى الله أحسن الخالقين؟. (1)
موقفه من الرافضة:
- جاء في تأويل مختلف الحديث: قال أبو محمد: ثم نصير إلى هشام بن الحكم فنجده رافضيا غاليا. ويقول في الله تعالى بالأقطار والحدود، والأشبار، وأشياء يتحرج من حكايتها وذكرها، لا خفاء على أهل الكلام بها. ويقول بالإجبار الشديد، الذي لا يبلغه القائلون بالسنة.
وسأله سائل فقال: أترى الله تعالى -مع رأفته ورحمته وحكمته وعدله- يكلفنا شيئا، ثم يحول بيننا وبينه، ويعذبنا؟ فقال: قد -والله- فعل، ولكنا لا نستطيع أن نتكلم.
وقال له رجل: يا أبا محمد (2)، هل تعلم أن عليا خاصم العباس في فدك إلى أبي بكر؟ قال: نعم. قال: فأيهما كان الظالم؟ قال: لم يكن فيهما ظالم. قال: سبحان الله، وكيف يكون هذا؟ قال: هما كالملكين المختصمين إلى داود عليه السلام، لم يكن فيهما ظالم، إنما أراد أن يعرفاه خطأه وظلمه. كذلك أراد هذان، أن يعرفا أبا بكر خطأه وظلمه. (3)
- قال أبو محمد في هارون بن سعد العجلي: وهو جلد جفر، ادعوا أنه كتب فيه لهم الإمام، كل ما يحتاجون إلى علمه، وكل ما يكون إلى يوم
_________
(1) تأويل مختلف الحديث (127 - 128).
(2) هو هشام بن الحكم.
(3) تأويل مختلف الحديث (48).
(4/327)
القيامة. فمن ذلك قولهم في قول الله عز وجل: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} (1) أنه الإمام، وورث النبي - صلى الله عليه وسلم - علمه. وقولهم في قول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} (2) أنها عائشة رضي الله عنها. وفي قوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} (3) أنه طلحة والزبير. وقولهم في الخمر والميسر: إنهما أبو بكر وعمر، رضي الله عنهما والجبت والطاغوت: إنهما معاوية وعمرو بن العاص، مع عجائب أرغب عن ذكرها، ويرغب من بلغه كتابنا هذا، عن استماعه ...
قال أبو محمد: ولا نعلم في أهل البدع والأهواء أحدا ادعى الربوبية لبشر غيرهم. فإن عبد الله بن سبأ ادعى الربوبية لعلي، فأحرق علي أصحابه بالنار، وقال في ذلك:
لما رأيت الأمر أمرا منكرا ... أججت ناري ودعوت قنبرا
ولا نعلم أحدا ادعى النبوة لنفسه غيرهم. فإن المختار بن أبي عبيد، ادعى النبوة لنفسه وقال: إن جبريل وميكائيل، يأتيان إلى جهته، فصدقه قوم واتبعوه، وهم الكيسانية. (4)
_________
(1) النمل الآية (16).
(2) البقرة الآية (67).
(3) البقرة الآية (73).
(4) تأويل مختلف الحديث (71 - 73).
(4/328)
ذكر بعض طعون النظام على الصحابة رضي الله عنهم ورد ابن قتيبة عليه:
- قال أبو محمد: وذكر -أي النظام- قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لو كان هذا الدين بالقياس، لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره) فقال كان الواجب على عمر، العمل بمثل ما قال في الأحكام كلها. وليس ذلك بأعجب من قوله أجرؤكم على الجد أجرؤكم على النار ثم قضى في الجد بمائة قضية مختلفة.
وذكر قول أبي بكر رضي الله تعالى عنه، حين سئل عن آية من كتاب الله تعالى، فقال: أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني، أم أين أذهب؟ أم كيف أصنع إذا أنا قلت في آية من كتاب الله تعالى، بغير ما أراد الله. ثم سئل عن الكلالة، فقال: أقول فيها برأيي فإن كان صوابا، فمن الله، وإن كان خطأ فمني، هي ما دون الولد والوالد. قال: وهذا خلاف القول الأول ومن استعظم القول بالرأي ذلك الاستعظام، لم يقدم على القول بالرأي هذا الإقدام حتى ينفذ عليه الأحكام. وذكر قول علي كرم الله وجهه، حين سئل عن بقرة قتلت حمارا، فقال: أقول فيها برأيي، فإن وافق رأيي قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذاك، وإلا فقضائي رذل فسل. قال: وقال: من أحب أن يتقحم جراثيم جهنم، فليقل في الجد. ثم قضى فيه بقضايا مختلفة.
وذكر قول ابن مسعود في حديث، بِرَوْع بنت واشق، أقول فيها برأيي، فإن كان خطأ فمني، وإن كان صوابا، فمن الله تعالى. قال: وهذا هو الحكم بالظن، والقضاء بالشبهة، وإذا كانت الشهادة بالظن حراما، فالقضاء
(4/329)
بالظن أعظم.
قال: ولو كان ابن مسعود بدل نظره في الفتيا، نظر في الشقي كيف يشقى، والسعيد كيف يسعد، حتى لا يفحش قوله على الله تعالى، ولا يشتد غلطه، لقد كان أولى به. قال: وزعم أن القمر انشق، وأنه رآه. وهذا من الكذب الذي لا خفاء به، لأن الله تعالى لا يشق القمر له وحده، ولا لآخر معه وإنما يشقه ليكون آية للعالمين، وحجة للمرسلين، ومزجرة للعباد، وبرهانا في جميع البلاد. فكيف لم تعرف بذلك العامة، ولم يؤرخ الناس بذلك العام -ولم يذكره شاعر، ولم يسلم عنده كافر، ولم يحتج به مسلم على ملحد؟ قال: ثم جحد من كتاب الله تعالى سورتين، فهبه لم يشهد قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - بهما، فهلا استدل بعجيب تأليفهما، وأنهما على نظم سائر القرآن المعجز للبلغاء أن ينظموا نظمه، وأن يحسنوا مثل تأليفه. قال: وما زال يطبق في الركوع إلى أن مات، كأنه لم يصل مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو كان غائبا. وشتم زيد ابن ثابت بأقبح الشتم، لما اختار المسلمون قراءته لأنها آخر العرض. وعاب عثمان رضي الله عنه، حين بلغه أنه صلى بـ "منى" أربعا، ثم تقدم، فكان أول من صلى أربعا فقيل له في ذلك فقال: الخلاف شر والفرقة شر، وقد عمل بالفرقة في أمور كثيرة ولم يزل يقول في عثمان القول القبيح، منذ اختار قراءة زيد. ورأى قوما من الزط، فقال هؤلاء أشبه من رأيت بالجن، ليلة الجن، ذكر ذلك سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي. وذكر داود عن الشعبي عن علقمة قال: قلت لابن مسعود: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن؟ فقال ما شهدها منا أحد، وذكر حذيفة بن اليمان فقال: جعل يحلف لعثمان
(4/330)
على أشياء بالله تعالى ما قالها، وقد سمعوه قالها. فقيل له في ذلك فقال: إني أشتري ديني بعضه ببعض، مخافة أن يذهب كله رواه مسعر بن كدام، عن عبد الملك بن ميسرة، عن النزال بن سبرة. وذكر أبا هريرة، فقال أكذبه عمر، وعثمان، وعلي، وعائشة رضوان الله عليهم.
وروى حديثا في المشي في الخف الواحد، فبلغ عائشة، فمشت في خف واحد وقالت: لأخالفن أبا هريرة. وروى أن الكلب والمرأة والحمار، تقطع الصلاة. فقالت عائشة رضي الله عنها: ربما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي وسط السرير، وأنا على السرير معترضة بينه وبين القبلة. قال: وبلغ عليا أن أبا هريرة يبتدئ بميامنه في الوضوء، وفي اللباس. فدعا بماء فتوضأ، فبدأ بمياسره، وقال: لأخالفن أبا هريرة. وكان من قوله حدثني خليلي، وقال خليلي ورأيت خليلي. فقال له علي: متى كان النبي خليلك، يا أبا هريرة؟ قال: وقد روى "من أصبح جنبا، فلا صيام له" فأرسل مروان في ذلك إلى عائشة وحفصة، يسألهما، فقالتا: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصبح جنبا من غير احتلام، ثم يصوم. فقال للرسول: اذهب إلى أبي هريرة، حتى تعلمه. فقال أبو هريرة: إنما حدثني بذلك الفضل بن العباس. فاستشهد ميتا، وأوهم الناس أنه سمع الحديث من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يسمعه.
قال أبو محمد: هذا قوله في جِلة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي عنهم كأنه لم يسمع بقول الله عز وجل في كتابه الكريم: {محمد رسول الله
(4/331)
وَالَّذِينَ مَعَهُ} (1) إلى آخر السورة. ولم يسمع بقوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} (2) ولو كان ما ذكرهم به حقا، لا مخرج منه ولا عذر فيه، ولا تأويل له، إلا ما ذهب إليه، لكان حقيقا بترك ذكره والإعراض عنه، إذ كان قليلا يسيرا، مغمورا في جنب محاسنهم، وكثير مناقبهم، وصحبتهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبذلهم مهجهم وأموالهم، في ذات الله تعالى.
قال أبو محمد: ولا شيء أعجب عندي من ادعائه على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه قضى في الجد بمائة قضية مختلفة، وهو من أهل النظر وأهل القياس. فهلا اعتبر هذا ونظر فيه، ليعلم أنه يستحيل أن يقضي عمر في أمر واحد بمائة قضية مختلفة. فأين هذه القضايا؟ وأين عشرها ونصف عشرها؟ أما كان في حملة الحديث من يحفظ منها خمسا أو ستا؟ ولو اجتهد مجتهد أن يأتي من القضاء في الجد بجميع ما يمكن فيه، من قول ومن حيلة، ما كان يتيسر له أن يأتي فيه بعشرين قضية. وكيف لم يجعل هذا الحديث، إذ كان مستحيلا، مما ينكر من الحديث ويدفع مما قد أتى به الثقات، وما ذاك إلا لضغن يحتمله على عمر رضي الله عنه وعداوة.
قال أبو محمد: وأما طعنه على أبي بكر رضي الله عنه بأنه سئل عن آية من كتاب الله تعالى، فاستعظم أن يقول فيها شيئا، ثم قال في الكلالة برأيه.
_________
(1) الفتح الآية (29).
(2) الفتح الآية (18).
(4/332)
فإن أبا بكر رضي الله عنه سئل عن شيء من متشابه القرآن العظيم، الذي لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم، فأحجم عن القول فيه، مخافة أن يفسره بغير مراد الله تعالى. وأفتى في الكلالة برأيه، لأنه أمر ناب المسلمين، واحتاجوا إليه في مواريثهم، وقد أبيح له اجتهاد الرأي فيما لم يؤثر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شيء، ولم يأت له في الكتاب شيء كاشف، وهو إمام المسلمين ومفزعهم فيما ينوبهم، فلم يجد بدا من أن يقول. وكذلك قال عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وزيد رضي الله عنهم، حين سئلوا، وهم الأئمة والمفزع إليهم عند النوازل. فماذا كان ينبغي له أن يفعلوا عنده، أيدعون النظر في الكلالة وفي الجد، إلى أن يأتي هو وأشباهه، فيتكلموا فيهما.
ثم طعنه على عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بقوله: إن القمر انشق، وأنه رأى ذلك، ثم نسبه فيه إلى الكذب. وهذا ليس بإكذاب لابن مسعود، ولكنه بخس لعلم النبوة وإكذاب للقرآن العظيم، لأن الله تعالى يقول: {اقتربت السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} (1). فإن كان القمر لم ينشق في ذلك الوقت، وكان مراده: سينشق القمر فيما بعد، فما معنى قوله: {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} (2) بعقب هذا الكلام؟ أليس فيه دليل على أن قوما رأوه منشقا فقالوا: "هذا سحر مستمر" من سحره، وحيلة من حيله كما قد كانوا يقولون في غير ذلك من أعلامه وكيف صارت الآية
_________
(1) القمر الآية (1).
(2) القمر الآية (2).
(4/333)
من آيات النبي - صلى الله عليه وسلم - والعلم من أعلامه لا يجوز عنده أن يراها الواحد والاثنان والنفر دون الجميع. أو ليس قد يجوز أن يخبر الواحد والاثنان والنفر والجميع، كما أخبر مكلم الذئب، بأن ذئبا كلمه، وأخبر آخر بأن بعيرا شكا إليه، وأخبر آخر أن مقبورا لفظته الأرض. وطعنه عليه لجحده سورتين من القرآن العظيم، يعني "المعوذتين" فإن لابن مسعود في ذلك سببا، والناس قد يظنون ويزلون، وإذا كان هذا جائزا على النبيين والمرسلين، فهو على غيرهم أجوز. وسببه في تركه، إثباتهما في مصحفه أنه كان يرى النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوذ بهما الحسن والحسين، ويعوذ غيرهما، كما كان يعوذهما بـ "أعوذ بكلمات الله التامة" فظن أنهما ليستا من القرآن، فلم يثبتهما في مصحفه.
وبنحو هذا السبب أثبت أبي بن كعب في مصحفه، افتتاح دعاء القنوت، وجعله سورتين لأنه كان يرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يدعو بهما في الصلاة، دعاء دائما، فظن أنه من القرآن. وأما التطبيق فليس من فرض الصلاة، وإنما الفرض، الركوع والسجود، لقول الله عز وجل: {اركعوا واسجدوا} (1). فمن طبق فقد ركع، ومن وضع يديه على ركبتيه، فقد ركع. وإنما وضع اليدين على الركبتين، أو التطبيق من آداب الركوع. وقد كان الاختلاف في آداب الصلاة. فكان منهم من يقعي، ومنهم من يفترش، ومنهم من يتورك. وكل ذلك لا يفسد الصلاة وإن اختلف. وأما نسبته إياه إلى الكذب في حديثه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد
_________
(1) الحج الآية (77).
(4/334)
من سعد في بطن أمه" (1).
فكيف يجوز أن يكذب ابن مسعود على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مثل هذا الحديث الجليل المشهور، ويقول حدثني الصادق المصدوق، وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متوافرون، ولا ينكره أحد منهم؟ ولأي معنى يكذب مثله على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أمر لا يجتذب به إلى نفسه نفعا، ولا يدفع عنه ضرا، ولا يدنيه من سلطان ولا رعية، ولا يزداد به مالا إلى ماله؟ وكيف يكذب في شيء، قد وافقه على روايته، عدد منهم أبو أمامة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سبق العلم، وجف القلم، وقضي القضاء، وتم القدر بتحقيق الكتاب، وتصديق الرسل بالسعادة لمن آمن واتقى، والشقاء لمن كذب وكفر". وقال عز وجل: "ابن آدم بمشيئتي كنت. أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء، وبإرادتي كنت. أنت الذي تريد لنفسك ما تريد، وبفضلي ورحمتي أديت إلى فرائضي، وبنعمتي قويت على معصيتي". وهذا الفضل بن عباس بن عبد المطلب يروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال له: "يا غلام، احفظ الله يحفظك، وتوكل عليه تجده أمامك، وتعرف إليه في الرخاء، يعرفك في
_________
(1) أخرجه: ابن أبن عاصم في السنة (1/ 79/178) والقضاعي في مسند الشهاب (1/ 79 - 80/ 76) بلفظ: "ألا إنما الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره". قال الشيخ الألباني رحمه الله: "ضعيف مرفوعا، وإسناده كلهم ثقات رجال مسلم غير أن أبا إسحاق وهو عمرو بن عبد الله السبيعي كان اختلط ثم هو إلى ذلك مدلس، وقد عنعنه. والمحفوظ أنه موقوف على ابن مسعود. قلت: الموقوف أخرجه: مسلم (4/ 2037/2645) وابن حبان: الإحسان (14/ 52 - 53/ 6177).
والحديث أخرجه بلفظ الباب من حديث أبي هريرة مرفوعا: البزار (مختصر زوائد البزار (2/ 151/1600))، والطبراني في الصغير (ص 289/ح 760)، والآجري (2/ 368 - 369/ 405) واللالكائي (4/ 658/1057)، قال الهيثمي في المجمع (7/ 193): "رواه البزار والطبراني في الصغير ورجال البزار رجال الصحيح"، وقال ابن حجر في مختصر زوائد البزار: صحيح. وله شاهد من حديث عبد الله بن عمرو. أخرجه ابن أبي عاصم (1/ 83/188).
(4/335)
الشدة، واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأن القلم قد جف بما هو كائن إلى يوم القيامة" (1). وكيف يكذب ابن مسعود في أمر يوافقه عليه الكتاب. يقول الله تعالى: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} (2).
أي جعل في قلوبهم الإيمان كما قال في الرحمة: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} (3) الآية: أي سأجعلها. ومن جعل الله تعالى في قلبه الإيمان، فقد قضى له بالسعادة. وقال عز وجل لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (4). ولا يجوز أن يكون: إنك لا تسمي من أحببت هاديا، ولكن الله يسمي من يشاء هاديا. وقال: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (5) كما قال: {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هدى} (6) ولا يجوز أن يكون سمى فرعون قومه ضالين، وما سماهم مهتدين. وقال: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ
_________
(1) رواه عبد بن حميد في مسنده (635) عن المثنى بن الصباح عن عطاء بن أبي رباح عن عبد الله بن عباس به، وليس الفضل. قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/ 460): "إسناده ضعيف". أما اللفظ الثابت عن ابن عباس فقد أخرجه: أحمد (1/ 293) والترمذي (4/ 275 - 276/ 2516) وقال: "حسن صحيح".
(2) المجادلة الآية (22).
(3) الأعراف الآية (156).
(4) القصص الآية (56).
(5) النحل الآية (93).
(6) طه الآية (79).
(4/336)
يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} (1). وقال: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (2) وأشباه هذا في القرآن والحديث، يكثر ويطول. ولم يكن قصدنا في هذا الموضع، الاحتجاج على القدرية، فنذكر ما جاء في الرد عليهم، ونذكر فساد تأويلاتهم واستحالتها، وقد ذكرت هذا في غير موضع، من كتبي في القرآن. وكيف يكذب ابن مسعود في أمر توافقه عليه العرب في الجاهلية والإسلام قال بعض الرجاز:
يا أيها المضمر هما لا تهم ... إنك إن تقدر لك الحمى تحم
ولو علوت شاهقا من العلم ... كيف توقيك وقد جف القلم
وقال آخر:
هي المقادير فلمني أو فذر ... إن كنت أخطأت فما أخطا القدر
وقال لبيد:
إن تقوى ربنا خير نفل ... وبأمر الله ريثي وعجل
من هداه سبل الخير اهتدى ... ناعم البال ومن شاء أضل
وقال الفرزدق:
_________
(1) الأنعام الآية (125).
السجدة الآية (13).
(4/337)
ندمت ندامة الكسعي لما ... غدت مني مطلقة نوار
وكانت جنة فخرجت منها ... كآدم حين أخرجه الضرار
ولو ضنت يداي بها ونفسي ... لكان علي للقدر الخيار
وقال النابغة:
وليس امرؤ نائلا من هوا ... هـ شيئا إذا هو لم يكتب
وكيف يكذب ابن مسعود رضي الله عنه في أمر توافقه عليه كتب الله تعالى ... (1)
قال أبو محمد: وأما حديثه الآخر الذي نسبه فيه إلى الكذب، فقال رأى قوما من الزط، فقال: هؤلاء أشبه من رأيت بالجن ليلة الجن ثم سئل عن ذلك فقيل له: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن؟ فقال ما شهدها منا أحد. فادعى في الحديث الأول أنه شهدها، وأنكر ذلك في الحديث الآخر وتصحيحه الخبرين عنه فكيف يصح هذا عن ابن مسعود، مع ثاقب فهمه، وبارع علمه، وتقدمه في السنة، الذين انتهى إليهم العلم بها، واقتدت بهم الأمة مع خاصته برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولطف محله. وكيف يجوز عليه أن يقر بالكذب، هذا الإقرار، فيقول: اليوم شهدت ويقول غدا: لم أشهد؟ ولو جهد عدوه، أن يبلغ منه ما بلغه من نفسه، ما قدر ولو كان به خبل، أو عته، أو آفة، ما زاد على ما وسم به نفسه. وأصحاب الحديث لا يثبتون حديث الزط (2). وما ذكر من حضوره مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن، وهم القدوة عندنا في المعرفة بصحيح
_________
(1) تأويل مختلف الحديث (20 - 29).
(2) أخرجه الترمذي (5/ 134/2861) وقال: "حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه".
(4/338)
الأخبار وسقيمها، لأنهم أهلها والمعتنون بها وكل ذي صناعة أولى بصناعته. غير أنا لا نشك في بطلان أحد الخبرين لأنه لا يجوز على عبد الله بن مسعود، أنه يخبر الناس عن نفسه بأنه قد كذب، ولا يسقط عندهم مرتبته. ولو فعل ذلك، لقيل له: فلم خبرتنا أمس بأنك شهدت. فإن كان الأمر على ما قال أصحاب الحديث، فقد سقط الخبر الأول، وإن كان الحديثان جميعا صحيحين، فلا أرى الناقل للخبر الثاني إلا وقد أسقط منه حرفا، وهو (غيري) يدلك على ذلك أنه قال: قيل له، أكنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن؟ فقال: ما شهدها أحد منا غيري. فأغفل الراوي (غيري) إما بأنه لم يسمعه، أو بأنه سمعه فنسيه أو بأن الناقل عنه أسقطه.
وهذا وأشباهه قد يقع ولا يؤمن. ومما يدل على ذلك، أنه قال له: هل كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن؟ فقال: "ما شهدها أحد منا". وليس هذا جوابا لقوله: "هل كنت"؟ وإنما هو جواب لقول السائل: "هل كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن". وإذا كان قول السائل: هل كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الجن؟ حسن أن يكون الجواب: "ما شهدها أحد منا غيري" يؤكد ذلك ما كان من متقدم قوله.
وأما ما حكاه عن حذيفة أنه حلف على أشياء لعثمان، ما قالها، وقد سمعوه قالها، فقيل له في ذلك. فقال: إني أشتري ديني بعضه ببعض، مخافة أن يذهب كله. فكيف حمل الحديث على أقبح وجوهه، ولم يتطلب له العذر والمخرج، وقد أخبر به وذلك قوله: "أشتري ديني بعضه ببعض". أفلا تفهم عنه معناه، وتدبر قوله؟ ولكن عداوته لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما احتمله
(4/339)
من الضغن عليهم، حال بينه وبين النظر، والعداوة والبغض، يعميان ويصمان، كما أن الهوى يعمي ويصم. واعلم رحمك الله أن الكذب والحنث في بعض الأحوال، أولى بالمرء، وأقرب إلى الله من الصدق في القول والبر في اليمين. ألا ترى أن رجلا لو رأى سلطانا ظالما وقادرا قاهرا، يريد سفك دم امرئ مسلم أو معاهد بغير حق، أو استباحة حرمه، أو إحراق منزله، فتخرص قولا كاذبا ينجيه به، أو حلف يمينا فاجرة، كان مأجورا عند الله، مشكورا عند عباده؟. (1)
وقال أبو محمد: وليس يخلو حذيفة في قوله لعثمان رضي الله عنه، ما قال من تورية إلى شيء في يمينه، وقوله، ولم يحك لنا الكلام فنتناوله، وإنما جاء مجملا. وسنضرب له مثلا كأن حذيفة قال: والناس يقولون عند الغضب، أقبح ما يعلمون، وعند الرضا أحسن ما يعلمون. إن عثمان خالف صاحبيه، ووضع الأمور غير مواضعها، ولم يشاور أصحابه في أموره، ودفع المال إلى غير أهله، هذا وأشباهه. فوشى به إلى عثمان رضي الله عنه واش، فغلظ القول وقال: ذكر أنك تقول: إني ظالم خائن، هذا وما أشبهه. فحلف حذيفة، بالله تعالى ما قال ذلك، وصدق حذيفة أنه لم يقل: إن عثمان خائن ظالم وأراد بيمينه، استلال سخيمته، وإطفاء سورة غضبه وكره أن ينطوي على سخطه عليه. وسخط الإمام على رعيته، كسخط الوالد على ولده، والسيد على عبده، والبعل على زوجه. بل سخط الإمام أعظم من
_________
(1) تأويل مختلف الحديث (31 - 34).
(4/340)
ذلك حوبا، فاشترى الأعظم من ذلك بالأصغر، وقال: "أشتري بعض ديني ببعض".
وأما طعنه على أبي هريرة بتكذيب عمر وعثمان وعلي وعائشة له. فإن أبا هريرة صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، نحوا من ثلاث سنين، وأكثر الرواية عنه وعمر بعده نحوا من خمسين سنة. وكانت وفاته، سنة تسع وخمسين، وفيها توفيت أم سلمة، زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتوفيت عائشة رضي الله عنها، قبلهما بسنة. فلما أتى من الرواية عنه، ما لم يأت بمثله من صحبه من جلة أصحابه والسابقين الأولين إليه، اتهموه، وأنكروا عليه، وقالوا: كيف سمعت هذا وحدك؟ ومن سمعه معك؟ وكانت عائشة رضي الله عنها، أشدهم إنكارا عليه، لتطاول الأيام بها وبه. وكان عمر أيضا، شديدا على من أكثر الرواية، أو أتى بخبر في الحكم، لا شاهد له عليه. وكان يأمرهم بأن يقلوا الرواية، يزيد بذلك: أن لا يتسع الناس فيها، ويدخلها الشوب، ويقع التدليس والكذب، من المنافق والفاجر والأعرابي. وكان كثير من جلة الصحابة، وأهل الخاصة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - كأبي بكر، والزبير، وأبي عبيدة، والعباس بن عبد المطلب، يقلون الرواية عنه. بل كان بعضهم لا يكاد يروي شيئا، كسعيد ابن زيد بن عمرو بن نفيل، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة. وقال علي رضي الله عنه: كنت إذا سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثا، نفعني الله بما شاء منه، وإذا حدثني عنه محدث، استحلفته، فإن حلف لي صدقته وأن أبا بكر حدثني، وصدق أبو بكر. ثم ذكر الحديث. أفما ترى تشديد القوم في الحديث وتوقي من أمسك، كراهية التحريف، أو الزيادة في الرواية، أو
(4/341)
النقصان، لأنهم سمعوه عليه السلام يقول: "من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار" (1).
وهكذا روي عن الزبير أنه رواه وقال: أراهم يزيدون فيه "متعمدا" والله ما سمعته قال "متعمدا". وروى مطرف بن عبد الله، أن عمران بن حصين قال: والله، إن كنت لأرى لو شئت لحدثت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يومين متتابعين، ولكن بطأني عن ذلك أن رجالا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمعوا كما سمعت، وشهدوا كما شهدت، ويحدثون أحاديث ما هي كما يقولون، وأخاف أن يشبه لي كما شبه لهم، فأعلمك أنهم كانوا يغلطون لا أنهم كانوا يتعمدون. فلما أخبرهم أبو هريرة بأنه كان ألزمهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لخدمته وشبع بطنه، وكان فقيرا معدما، وأنه لم يكن ليشغله عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غرس الودى ولا الصفق بالأسواق، يعرض أنهم كانوا يتصرفون في التجارات ويلزمون الضياع في أكثر الأوقات، وهو ملازم له لا يفارقه، فعرف ما لم يعرفوا، وحفظ ما لم يحفظوا -أمسكوا عنه وكان مع هذا يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا، وإنما سمعه من الثقة عنده، فحكاه. وكذلك كان ابن عباس يفعل، وغيره من الصحابة، وليس في هذا كذب -بحمد الله- ولا على قائله -إن لم يفهمه السامع- جناح، إن شاء الله. وأما قوله: "قال خليلي، وسمعت خليلي". يعني النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأن عليا رضي الله عنه، قال له: "متى كان خليلك؟ ". فإن الخلة بمعنى الصداقة والمصافاة، وهي درجتان، إحداهما ألطف من الأخرى. كما أن الصحبة درجتان، إحداهما ألطف من الأخرى. ألا ترى
_________
(1) الحديث صحيح متواتر فاق رواته الستين راويا. أخرجه: أحمد (3/ 98) والبخاري (1/ 268/108) ومسلم في مقدمته (1/ 10/2) والترمذي (5/ 2661/35) وابن ماجه (1/ 32/13) من طرق عن أنس بن مالك.
(4/342)
أن القائل: أبو بكر صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لا يريد بهذا القول معنى صحبة أصحابه له، لأنهم جميعا صحابة، فأية فضيلة لأبي بكر رضي الله عنه في هذا القول؟ وإنما يريد أنه أخص الناس به.
وكذلك الأخوة التي جعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أصحابه، هي ألطف من الأخوة التي جعلها الله بين المؤمنين، فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (1) وهكذا الخلة. فمن الخلة التي هي أخص، قول الله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} (2). وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو كنت متخذا من هذه الأمة خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا" (3). يريد لاتخذته خليلا، كما اتخذ الله إبراهيم خليلا. وأما الخلة، التي تعم، فهي الخلة التي جعلها الله تعالى بين المؤمنين فقال: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} (4). فلما سمع علي أبا هريرة يقول: "خليلي، وسمعت قال خليلي" وكان سيء الرأي فيه، قال: "متى كان خليلك؟ ". يذهب إلى الخلة التي لم يتخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جهتها- خليلا، وأنه لو فعل ذلك بأحد، لفعله بأبي بكر رضي الله عنه. وذهب أبو هريرة إلى الخلة التي جعلها الله تعالى بين المؤمنين، والولاية، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هذه
_________
(1) الحجرات الآية (10).
(2) النساء الآية (125).
(3) مسلم (1/ 377/532) من حديث جندب بن عبد الله، وفي الباب حديث ابن مسعود وابن عباس وأبي سعيد وغيرهم.
(4) الزخرف الآية (67).
(4/343)
الجهة- خليل كل مؤمن، وولي كل مسلم. وإلى مثل هذا، يذهب في قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من كنت مولاه، فعلي مولاه" (1) يريد أن الولاية بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين المؤمنين، ألطف من الولاية التي بين المؤمنين بعضهم مع بعض، فجعلها لعلي رضي الله عنه. ولو لم يرد ذلك، ما كان لعلي في هذا القول فضل، ولا كان في القول دليل على شيء، لأن المؤمنين بعضهم أولياء بعض.
ولأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولي كل مسلم ولا فرق بين ولي ومولي. وكذلك قول الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا} (2) وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أية امرأة نكحت، بغير أمر مولاها، فنكاحها باطل باطل" (3). فهذه أقاويل النظام، قد بيناها، وأجبناه عنها. وله أقاويل في أحاديث يدعي عليها، أنها مناقضة للكتاب، وأحاديث يستبشعها من جهة حجة العقل. وذكر أن جهة حجة العقل، قد تنسخ الأخبار، وأحاديث ينقض بعضها بعضا. وسنذكرها فيما بعد إن شاء الله. (4)
قال أبو محمد: قالوا حديث يحتج به الروافض في إكفار أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - تسليما: قالوا: رويتم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليردن علي الحوض أقوام، ثم ليختلجن دوني، فأقول: يا رب، أصيحابي أصيحابي. فيقال لي: إنك لا
_________
(1) تقدم تخريجه ضمن مواقف الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي سنة (145هـ).
(2) محمد الآية (11).
(3) أحمد (6/ 47و165 - 166) وأبو داود (2/ 566/2083) والترمذي (3/ 407 - 408/ 1102) والنسائي في الكبرى (3/ 285/5394) وابن ماجه (1/ 605/1879) وابن حبان (9/ 384/4074 الإحسان) قال الترمذي: "هذا حديث حسن". من طرق عن عائشة رضي الله عنها.
(4) تأويل مختلف الحديث (37 - 43).
(4/344)
تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم" (1). قالوا: وهذه حجة للروافض في إكفارهم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا عليا وأبا ذر، والمقداد، وسلمان وعمار بن ياسر، وحذيفة.
قال أبو محمد ونحن نقول: إنهم لو تدبروا الحديث، وفهموا ألفاظه، لاستدلوا على أنه لم يرد بذلك إلا القليل. يدلك على ذلك قوله: "ليردن علي الحوض أقوام". ولو كان أرادهم جميعا إلا من ذكروا لقال: "لتردن علي الحوض، ثم لتختلجن دوني". ألا ترى أن القائل إذا قال: "أتاني اليوم أقوام من بني تميم، وأقوام من أهل الكوفة" فإنما يريد قليلا من كثير؟ ولو أراد أنهم أتوه إلا نفرا يسيرا قال: "أتاني بنو تميم، وأتاني أهل الكوفة" ولم يجز أن يقول قوم لأن القوم، هم الذين تخلفوا. ويدلك أيضا قوله: "يارب، أصيحابي" بالتصغير، وإنما يريد بذلك تقليل العدد، كما تقول: "مررت بأبيات متفرقة"، و"مررت بجميعة". ونحن نعلم أنه قد كان يشهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المشاهد، ويحضر معه المغازي المنافق لطلب المغنم، والرقيق الدين، والمرتاب، والشاك. وقد ارتد بعده أقوام، منهم عيينة بن حصن، ارتد ولحق بطليحة بن خوليد، حين تنبأ وآمن به، فلما هزم طليحة، هرب، فأسره خالد ابن الوليد، وبعث به إلى أبي بكر رضي الله عنه في وثاق، فقدم به المدينة فجعل غلمان المدينة ينخسونه بالجريد، ويضربونه ويقولون: "أي عدو الله، كفرت بالله بعد إيمانك؟ ". فيقول عدو الله: والله ماكنت آمنت. فلما كلمه
_________
(1) أحمد (1/ 235و253) والبخاري (8/ 363/4625) ومسلم (4/ 2194/2860) واللفظ لمسلم. والترمذي (4/ 532/2423) والنسائي (4/ 423/2086) من طرق عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(4/345)
أبو بكر رضي الله عنه رجع إلى الإسلام، فقبل منه، وكتب له أمانا، ولم يزل بعد ذلك رقيق الدين حتى مات. وهو الذي كان أغار على لقاح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالغابة، فقال له الحارث بن عوف: ما جزيت محمدا - صلى الله عليه وسلم -، أسمنت في بلاده، ثم غزوته؟ فقال: هو ما ترى. وفيه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هذا الأحمق المطاع". ولعيينة بن حصن أشباه، ارتدوا حين ارتدت العرب، فمنهم من رجع وحسن إسلامه.
ومنهم من ثبت على النفاق وقد قال الله تبارك وتعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} (1) الآية. فهؤلاء هم الذين يختلجون دونه. وأما جميع أصحابه -إلا الستة الذين ذكروا- فكيف يختلجون؟ وقد تقدم قول الله تبارك وتعالى فيهم {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (2) إلى آخر السورة. وقوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} (3).
قال أبو محمد: وحدثني زيد بن أخزم الطائي، قال: أنا أبو داود، قال: نا قرة بن خالد، عن قتادة قال: قلت لسعيد بن المسيب، كم كانوا في بيعة الرضوان؟ قال: خمس عشرة مائة. قال قلت: فإن جابر بن عبد الله قال: كانوا أربع عشرة مائة. قال أوهم رحمه الله -هو الذي حدثني، أنهم كانوا خمس
_________
(1) التوبة الآية (101).
(2) الفتح الآية (29).
(3) الفتح الآية (18).
(4/346)
عشرة مائة. فكيف يجوز أن يرضى الله عز وجل عن أقوام، ويحمدهم ويضرب لهم مثلا في التوارة والإنجيل، وهو يعلم أنهم يرتدون على أعقابهم بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إلا أن يقولوا: إنه لم يعلم، وهذا هو شر الكافرين. (1)
موقفه من الجهمية:
كان أبو محمد من خيار الناس وعلمائهم، وكان له الباع الطويل في الكتابة ومعرفة أحوال الناس. ترك آثارا تدل على ذلك، وكتبه 'تأويل مختلف الحديث' و'الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية' تدل على أن الرجل من كبار أهل السنة، واسمع ما قاله فيه الإمام الذهبي.
- جاء في السير: وقد أنبأني أحمد بن سلامة عن حماد الحراني أنه سمع السلفي ينكر على الحاكم في قوله: لا تجوز الرواية عن ابن قتيبة ويقول: ابن قتيبة من الثقات وأهل السنة ثم قال: لكن الحاكم قصده لأجل المذهب.
قال الذهبي: عهدي بالحاكم، يميل إلى الكرامية، ثم ما رأيت لأبي محمد في كتاب 'مشكل الحديث' ما يخالف طريقة المثبتة والحنابلة، ومن أن أخبار الصفات تمر ولا تتأول فالله أعلم. (2)
من مواقفه المشرفة ما جاء في تأويل مختلف الحديث:
- قال أبو محمد: وقد تدبرت -رحمك الله- مقالة أهل الكلام فوجدتهم يقولون على الله مالا يعلمون، ويفتنون الناس بما يأتون، ويبصرون القذى في عيون الناس، وعيونهم تطرف على الأجذاع ويتهمون غيرهم في
_________
(1) تأويل مختلف الحديث (233 - 235).
(2) السير (13/ 299).
(4/347)
النقل، ولا يتهمون آراءهم في التأويل. ومعاني الكتاب والحديث، وما أودعاه من لطائف الحكمة وغرائب اللغة، لا يدرك بالطفرة والتولد والعرض والجوهر، والكيفية والكمية والآينية. ولو ردوا المشكل منهما، إلى أهل العلم بهما، وضح لهم المنهج، واتسع لهم المخرج. ولكن يمنع من ذلك طلب الرياسة، وحب الأتباع، واعتقاد الإخوان بالمقالات. والناس أسراب طير يتبع بعضها بعضا. ولو ظهر لهم من يدعي النبوة -مع معرفتهم بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاتم الأنبياء، أو من يدعي الربوبية- لوجد على ذلك أتباعا وأشياعا. وقد كان يجب -مع ما يدعونه من معرفة القياس وإعداد آلات النظر- أن لا يختلفوا كما لا يختلف الحساب والمساح، والمهندسون، لأن آلتهم لا تدل إلا على عدد واحد، وإلا على شكل واحد وكما لا يختلف حذاق الأطباء في الماء وفي نبض العروق لأن الأوائل قد وقفوهم من ذلك على أمر واحد فما بالهم أكثر الناس اختلافا، لا يجتمع اثنان من رؤسائهم على أمر واحد في الدين. فـ"أبو الهذيل العلاف" يخالف "النظام" و"النجار" يخالفهما، و"هشام ابن الحكم" يخالفهم، وكذلك "ثمامة" و"مويس" و"هاشم الأوقص" و"عبيد الله ابن الحسن" و"بكر العمى" و"حفص" و"قبة" وفلان وفلان. ليس منهم واحد إلا وله مذهب في الدين، يدان برأيه، وله عليه تبع.
- قال أبو محمد: ولو كان اختلافهم في الفروع والسنن، لاتسع لهم العذر عندنا، -وإن كان لا عذر لهم، مع ما يدعونه لأنفسهم- كما اتسع لأهل الفقه، ووقعت لهم الأسوة بهم. ولكن اختلافهم، في التوحيد، وفي صفات الله تعالى، وفي قدرته، وفي نعيم أهل الجنة، وعذاب أهل النار،
(4/348)
وعذاب البرزخ، وفي اللوح، وفي غير ذلك من الأمور التي لا يعلمها نبي إلا بوحي من الله تعالى. ولن يَعدِم هذا مَن رَدَّ مثل هذه الأصول إلى استحسانه ونظره وما أوجبه القياس عنده، لاختلاف الناس في عقولهم وإراداتهم واختياراتهم، فإنك لا تكاد ترى رجلين متفقين حتى يكون كل واحد منهما يختار ما يختاره الآخر، ويرذل ما يرذله الآخر، إلا من جهة التقليد والذي خالف بين مَناظِرهم وهيئاتهم وألوانهم ولغاتهم وأصواتهم وخطوطهم وآثارهم، حتى فرق القائف بين الأثر والأثر، وبين الأنثى والذكر هو الذي خالف بين آرائهم. والذي خالف بين الآراء هو الذي أراد الاختلاف لهم. ولن تكمل الحكمة والقدرة إلا بخلق الشيء وضده ليُعرف كل واحد منهما بصاحبه. فالنور يعرف بالظلمة، والعلم يعرف بالجهل، والخير يعرف بالشر، والنفع يعرف بالضر، والحلو يعرف بالمر لقول الله تبارك وتعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ} (1) والأزواج الأضداد والأصناف كالذكر والأنثى، واليابس والرطب، وقال تعالى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} (2) ولو أردنا -رحمك الله- أن ننتقل عن أصحاب الحديث ونرغب عنهم إلى أصحاب الكلام، ونرغب فيهم، لخرجنا من اجتماع إلى تشتت، وعن نظام
_________
(1) يس الآية (36).
(2) النجم الآية (45).
(4/349)
إلى تفرق، وعن أنس إلى وحشة، وعن اتفاق إلى اختلاف، لأن أصحاب الحديث كلهم مجمعون على أن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لا يكون.
وعلى أنه خالق الخير والشر، وعلى أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وعلى أن الله تعالى يرى يوم القيامة، وعلى تقديم الشيخين وعلى الإيمان بعذاب القبر لا يختلفون في هذه الأصول ومن فارقهم في شيء منها، نابذوه وباغضوه وبدعوه وهجروه. وإنما اختلفوا في اللفظ بالقرآن، لغموض وقع في ذلك وكلهم مجمعون على أن القرآن، بكل حال -مقروءا ومكتوبا، ومسموعا، ومحفوظا- غير مخلوق، فهذا الإجماع. (1)
- قال أبو محمد: فإذا نحن أتينا أصحاب الكلام، لما يزعمون أنهم عليه من معرفة القياس، وحسن النظر، وكمال الإرادة وأردنا أن نتعلق بشيء من مذاهبهم. ونعتقد شيئا من نحلهم، وجدنا "النظام" شاطرا من الشطار، يغدو على سكر، ويروح على سكر، ويبيت على جرائرها ويدخل في الأدناس ويرتكب الفواحش والشائنات وهو القائل:
ما زلت آخذ روح الزق في لطف ... وأستبيح دما من غير مجروح
حتى انثنيت ولي روحان في جسدي ... والزق مطرح جسم بلا روح
ثم نجد أصحابه يعدون من خطئه قوله إن الله عز وجل يحدث الدنيا وما فيها، في كل وقت من غير إفنائها. قالوا فالله في قوله يحدث الموجود، ولو جاز إيجاد الموجود، لجاز إعدام المعدوم. وهذا فاحش في ضعف الرأي،
_________
(1) تأويل مختلف الحديث (13 - 16).
(4/350)
وسوء الاختيار. وحكوا عنه أنه قال: قد يجوز أن يجمع المسلمون جميعا على الخطأ. قال: ومن ذلك إجماعهم على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى الناس كافة دون جميع الأنبياء وليس كذلك وكل نبي في الأرض بعثه الله تعالى، فإلى جميع الخلق بعثه، لأن آيات الأنبياء -لشهرتها- تبلغ آفاق الأرض، وعلى كل من بلغه ذلك أن يصدقه ويتبعه. فخالف الرواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "بعثت إلى الناس كافة، وبعثت إلى الأحمر والأسود وكان النبي يبعث إلى قومه" (1) وأول الحديث. وفي مخالفة الرواية وحشة، فكيف بمخالفة الرواية والإجماع لما استحسن. (2)
قال أبو محمد: وفسروا القرآن بأعجب تفسير، يريدون أن يردوه إلى مذاهبهم، ويحملوا التأويل على نحلهم. فقال فريق منهم في قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} (3) أي علمه، وجاءوا على ذلك بشاهد لا يعرف، وهو قول الشاعر:
ولا يُكَرْسيُّ علمَ الله مخلوقُ
كأنه عندهم: ولا يعلم علم الله مخلوق.
والكرسي غير مهموز، و"يكرسئ" مهموز، يستوحشون أن يجعلوا لله تعالى كرسيا، أو سريرا، ويجعلون العرش شيئا آخر. والعرب لا تعرف العرش
_________
(1) أخرجه: أحمد (3/ 304) والبخاري (1/ 574/335) ومسلم (1/ 370 - 371/ 521) والنسائي (1/ 229 - 231/ 430) من حديث جابر رضي الله عنه.
(2) تأويل مختلف الحديث (17 - 19).
(3) البقرة الآية (255).
(4/351)
إلا السرير، وما عُرِش من السقوف والآبار. يقول الله تعالى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} (1) أي على السرير. وأمية بن أبي الصلت يقول:
مجدوا الله وهو للمجد أهل ... ربنا في السماء أمسى كبيرا
بالبناء الأعلى الذي سبق النا ... س وسوى فوق السماء سريرا
شرجعا ما يناله بصر العين ... ترى دونه الملائك صورا (2)
- قال أبو محمد: وقالوا في قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} (3) إن اليد، ههنا، النعمة لقول العرب "لي عند فلان يد" أي نعمة ومعروف. وليس يجوز أن تكون اليد ههنا، النعمة لأنه قال: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} معارضة عما قالوه فيها ثم قال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}. ولا يجوز أن يكون أراد "غلت نعمهم، بل نعمتاه مبسوطتان" لأن النعم لا تغل، ولأن المعروف لا يكنى عنه باليدين، كما يكنى عنه باليد، إلا أن يريد جنسين من المعروف، فيقول: لي عنده يدان. ونعم الله تعالى أكثر من أن يحاط بها. (4)
- قال أبو محمد: قالوا: رويتم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر، لا تضامون في رؤيته". (5)
_________
(1) يوسف الآية (100).
(2) تأويل مختلف الحديث (67).
(3) المائدة الآية (64).
(4) تأويل مختلف الحديث (70).
(5) انظر تخريجه في مواقف عبد العزيز الماجشون سنة (164هـ).
(4/352)
والله تعالى يقول: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (1) ويقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (2).
قالوا: وليس يجوز في حجة العقل، أن يكون الخالق يشبه المخلوق، في شيء من الصفات، وقد قال موسى عليه السلام: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} (3).
قالوا: فإن كان هذا الحديث صحيحا، فالرؤية فيه بمعنى العلم، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} (4) وقال: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (5).
قال أبو محمد: ونحن نقول: إن هذا الحديث صحيح، لا يجوز على مثله الكذب، لتتابع الروايات عن الثقات به، من وجوه كثيرة:
ولو كان يجوز أن يكون مثله كذبا، جاز أن يكون كل ما نحن عليه من أمور ديننا في التشهد، الذي لم نعلمه إلا بالخبر، وفي صدقة النعم، وزكاة الناض من الأموال، والطلاق، والعتاق، وأشباه ذلك من الأمور التي وصل إلينا علمها بالخبر، ولم يأت لها بيان في الكتاب - باطلا.
_________
(1) الأنعام الآية (103).
(2) الشورى الآية (11).
(3) الأعراف الآية (143).
(4) الفرقان الآية (45).
(5) البقرة الآية (106) وفي الأصل: "ألم تر" والصواب ما أثبتناه.
(4/353)
وأما قوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} وقول موسى عليه السلام: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} فليس ناقضا لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ترون ربكم يوم القيامة" لأنه أراد -جل وعز- بقوله: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} في الدنيا.
وقال لموسى عليه السلام: "لن تراني" يريد: في الدنيا، لأنه -جل وعز- احتجب عن جميع خلقه في الدنيا، ويتجلى لهم يوم الحساب، ويوم الجزاء والقصاص، فيراه المؤمنون كما يرون القمر في ليلة البدر، ولا يختلفون فيه، كما لا يختلفون في القمر.
ولم يقع التشبيه بها على كل حالات القمر، في التدوير، والمسير، والحدود وغير ذلك.
وإنما وقع التشبيه بها، على أنا ننظر إليه -عز وجل- كما ننظر إلى القمر ليلة البدر لا يختلف في ذلك، كما لا يختلف في القمر.
والعرب، تضرب المثل بالقمر في الشهرة والظهور، فيقولون: "هذا أبين من الشمس، ومن فلق الصبح، وأشهر من القمر" قال ذو الرمة:
وقد بهرت فما تخفى على أحد ... إلا على أحد لا يعرف القمرا
وقوله في الحديث: "لا تضامون في رؤيته" دليل لأن التضام من الناس يكون في أول الشهر عند طلبهم الهلال، فيجتمعون، ويقول واحد: "هو ذاك هو ذاك" ويقول آخر: "ليس به وليس القمر كذلك" لأن كل واحد يراه بمكانه، ولا يحتاج إلى أن ينضم إلى غيره لطلبه.
(4/354)
وحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاض على الكتاب، ومبين له.
فلما قال الله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} الْأَبْصَارُ وجاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالصحيح من الخبر "ترون ربكم تعالى في القيامة" لم يخف على ذي فهم ونظر ولب وتمييز، أنه في وقت دون وقت.
وفي قول موسى عليه السلام: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} أبين الدلالة، على أنه يرى في القيامة.
ولو كان الله تعالى لا يرى في حال من الأحوال، ولا يجوز عليه النظر، لكان موسى عليه السلام قد خفي عليه من وصف الله تعالى ما علموه.
ومن قال بأن الله تعالى يدرك بالبصر يوم القيامة، فقد حده عندهم، ومن كان الله تعالى عنده، محدودا، فقد شبهه بالمخلوقين، ومن شبهه عندهم بالخلق، فقد كفر.
فما يقولون في موسى عليه السلام فيما بين أن الله تعالى نبأه، وكلمه من الشجرة إلى الوقت الذي قال له فيه: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} أيقضون عليه بأنه كان مشبها لله محددا؟
لا، لعمر الله، لا يجوز أن يجهل موسى عليه السلام، من الله عز وجل مثل هذا، لو كان على تقديرهم.
ولكن موسى عليه السلام، علم أن الله تعالى، يرى يوم القيامة، فسأل الله عز وجل أن يجعل له في الدنيا، ما أجله لأنبيائه وأوليائه يوم القيامة.
(4/355)
فقال له: {لَنْ تَرَانِي} يعني في الدنيا {وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} (1).
أعلمه أن الجبل لا يقوم لتجليه حتى يصير دكا، وأن الجبال إذا ضعفت عن احتمال ذلك، فابن آدم أحرى أن يكون أضعف إلى أن يعطيه الله تعالى يوم القيامة ما يقوى به على النظر، ويكشف عن بصره الغطاء الذي كان في الدنيا.
والتجلي: هو الظهور، ومنه يقال: "جلوت العروس" إذا أبرزتها و"جلوت المرآة والسيف" إذا أظهرتهما من الصدأ.
وأما قولهم: إن الرؤية في قوله: (ترون ربكم يوم القيامة)، بمعنى العلم كما قال تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ على كُلِّ شَيْءٍ قديرٍ} (2). يريد "ألم تعلم" فإنه يستحيل، لأنا نعلمه في الدنيا أيضا - فأي فائدة في هذا الخبر إذا كان الأمر في يوم القيامة، وفي الدنيا واحدا.
وقرأت في الإنجيل أن المسيح عليه السلام حين فتح فاه بالوحي قال: "طوبى للذين يرحمون، فعليهم تكون الرحمة، طوبى للمخلصة قلوبهم، فإنهم الذين يرون الله تبارك وتعالى" والله تبارك وتعالى يقول: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (3).
_________
(1) الأعراف الآية (143).
(2) البقرة الآية (106) وفي الأصل: "ألم تر" والصواب ما أثبتناه.
(3) القيامة الآيتان (22و23).
(4/356)
ويقول في قوم سخط عليهم: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ} (1).
أفما في هذا القول، دليل على أن الوجوه الناضرة، التي هي إلى ربها ناظرة، هي التي لا تحجب إذا حجبت هذه الوجوه؟ فإن قالوا لنا: كيف ذلك النظر والمنظور إليه؟
قلنا: نحن لا ننتهي في صفاته -جل جلاله- إلا إلى حيث انتهى إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا ندفع ما صح عنه، لأنه لا يقوم في أوهامنا، ولا يستقيم على نظرنا، بل نؤمن بذلك من غير أن نقول فيه بكيفية أو حد، أو أن نقيس على ما جاء، ما لم يأت- ونرجو أن يكون في ذلك من القول والعقد، سبيل النجاة، والتخلص من الأهواء كلها غدا، إن شاء الله تعالى. (2)
- قال أبو محمد: قالوا رويتم أن قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الله عز وجل (3). فإن كنتم أردتم بالأصابع ههنا، النعم، وكان الحديث صحيحا، فهو مذهب. وإن كنتم أردتم الأصابع بعينها، فإن ذلك يستحيل لأن الله تعالى لا يوصف بالأعضاء، ولا يشبه بالمخلوقين. وذهبوا في تأويل الأصابع إلى أنه النعم لقول العرب: "ما أحسن إصبع فلان على ماله" يريدون أثره، وقال الراعي في وصف إبله:
_________
(1) المطففين الآيتان (15و16).
(2) تأويل مختلف الحديث (204 - 208).
(3) انظر تخريجه في مواقف سفيان بن عيينة سنة (198هـ) والشافعي سنة (204هـ).
(4/357)
ضعيف العصا بادي العروق ترى له ... عليها إذا ما أمحل الناس أصبعا
أي: ترى له عليها أثرا حسنا.
قال أبو محمد: ونحن نقول: إن هذا الحديث صحيح، وإن الذي ذهبوا إليه في تأويل الإصبع لا يشبه الحديث، لأنه عليه السلام قال في دعائه: "يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك" فقالت له إحدى أزواجه: "أو تخاف -يا رسول الله- على نفسك؟ " فقال: "إن قلب المؤمن، بين أصبعين من أصابع الله عز وجل" (1). فإن كان القلب عندهم بين نعمتين من نعم الله تعالى، فهو محفوظ بتينك النعمتين، فلأي شيء دعا بالتثبيت، ولم احتج على المرأة التي قالت له: "أتخاف على نفسك" بما يؤكد قولها، وكان ينبغي أن لا يخاف إذا كان القلب محروسا بنعمتين. فإن قال لنا: ما الإصبع عندك ههنا؟ قلنا، هو مثل قوله في الحديث الآخر يحمل الأرض على أصبع (2)، وكذا على أصبعين. ولا يجوز أن تكون الإصبع -ههنا- نعمة. وكقوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (3) ولم يجز ذلك. ولا نقول أصبع كأصابعنا، ولا يد كأيدينا، ولا قبضة كقبضاتنا، لأن كل شيء منه -عز وجل- لا يشبه شيئا منا. (4)
_________
(1) انظر تخريجه في مواقف سفيان بن عيينة سنة (198هـ) والشافعي سنة (204هـ).
(2) انظر تخريجه في مواقف وكيع بن الجراح سنة (196هـ).
(3) الزمر الآية (67).
(4) تأويل مختلف الحديث (208 - 210).
(4/358)
قال أبو محمد: قالوا: رويتم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا تسبوا الريح فإنها من نفس الرحمن" (1). وينبغي أن تكون الريح عندكم غير مخلوقة، لأنه لا يكون من الرحمن، جل وعز، شيء مخلوق.
قال أبو محمد: ونحن نقول: إنه لم يرد بالنفس، ما ذهبوا إليه، وإنما أراد أن الريح من فرج الرحمن -عز وجل- وروحه. يقال: اللهم نفس عني الأذى، وقد فرج الله عن نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالريح يوم الأحزاب. وقال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} (2). وكذلك قوله: "إني لأجد نفس ربكم من قبل اليمن" (3).
_________
(1) أخرجه: الترمذي (4/ 451 - 452/ 2252) وقال: "حسن صحيح" والنسائي في الكبرى (6/ 231/10769) وعبد الله بن أحمد في زوائده على المسند (5/ 123) والطحاوي في المشكل (2/ 380/918) من طرق عن أبي بن كعب مرفوعاً بلفظ: "لا تسبوا الريح فإذا رأيتم ما تكرهون فقولوا ... " الحديث. وأخرجه النسائي في الكبرى (6/ 232/10771) والحاكم (2/ 272) وصححه ووافقه الذهبي عن أبي موقوفا بلفظ "لا تسبوا الريح فإنها من نفس الرحمن" وانظر الصحيحة (2756).
(2) الأحزاب الآية (9).
(3) رواه أحمد (2/ 541) من طريق شبيب أبي روح أن أعرابياً أتى أبا هريرة فقال: يا أبا هريرة حدثنا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر الحديث فقال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ألا إن الإيمان يمان والحكمة يمانية وأجد نفس ربكم من قبل اليمن ... " قال العراقي في تخريج الإحياء (1/ 253): "أخرجه أحمد ورجاله ثقات"، وقال الهيثمي في المجمع (10/ 56): "رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير شبيب وهو ثقة".
قلت: ثقة عند ابن حبان فلم يوثقه غيره، وذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل: ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلاً. وخالف شبيبا هذا جمع من الثقات، بل والأئمة الحفاظ كمحمد بن سيرين والأعرج وأبي سلمة بن عبد الرحمن والعلاء بن عبد الرحمن وسالم أبي الغيث وسعيد بن المسيب وأبي صالح السمان، كلهم رووا الحديث عن أبي هريرة دون ذكر: (وأجد نفس ربكم من قبل اليمن). ولهذا قال الشيخ الألباني عنها في الضعيفة (3/ 217): "هي عندي منكرة أو على الأقل شاذة".
تنبيه: والحديث دون ذكر هذه الزيادة في الصحيحين.
(4/359)
قال أبو محمد: وهذا من الكناية، لأن معنى هذا، أنه قال: كنت في شدة وكرب وغم من أهل مكة، ففرج الله عني بالأنصار. يعني: أنه يجد الفرج من قبل الأنصار، وهم من اليمن. فالريح من فرج الله تعالى وروحه، كما كان الأنصار من فرج الله تعالى.
قال أبو محمد: وقد بينت هذا في كتاب 'غريب الحديث' بأكثر من هذا البيان، ولم أجد بدا من ذكره ههنا، ليكون الكتاب جامعا للفن الذي قصدوا له. (1)
- قال أبو محمد: قالوا: رويتم "أن كلتا يديه يمين" (2)، وهذا يستحيل إن كنتم أردتم باليدين العضوين، وكيف تعقل يدان كلتاهما يمين؟ قال أبو محمد: ونحن نقول: إن هذا الحديث صحيح وليس هو مستحيلا وإنما أراد بذلك معنى التمام والكمال، لأن كل شيء فمياسره تنقص عن ميامنه في القوة والبطش، والتمام. وكانت العرب تحب التيامن، وتكره التياسر، لما في اليمين من التمام، وفي اليسار من النقص، ولذلك قالوا: "اليمن والشؤم" فاليمن من اليد: اليمنى، والشؤم من اليد: الشؤمى، وهي اليد اليسرى، وهذا وجه بين. ويجوز أن يريد: العطاء باليدين جميعا، لأن اليمنى هي المعطية. فإذا كانت اليدان يمينين كان العطاء بهما، وقد روي في حديث آخر أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
_________
(1) تأويل مختلف الحديث (212).
(2) أخرجه: أحمد (2/ 160) ومسلم (3/ 1458/1827) والنسائي (8/ 612 - 613/ 5394) من طريق عمرو بن أوس عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
(4/360)
قال: "يمين الله سحاء لا يغيضها شيء الليل والنهار" (1) أي تصب العطاء ولا ينقصها ذلك، وإلى هذا ذهب المرار، حين قال:
وإن على الأوانة من عقيل ... فتى كلتا اليدين له يمين (2)
- قال أبو محمد: والذي عندي -والله تعالى أعلم- أن الصورة ليست بأعجب من اليدين، والأصابع، والعين، وإنما وقع الإلف لتلك، لمجيئها في القرآن، ووقعت الوحشة من هذه، لأنها لم تأت في القرآن. ونحن نؤمن بالجميع، ولا نقول في شيء منه، بكيفية ولا حد. (3)
- قال أبو محمد: قالوا: رويتم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تسبوا الدهر، فإن الله تعالى هو الدهر" (4) فوافقتم في هذه الرواية، الدهرية.
- قال أبو محمد: ونحن نقول: إن العرب في الجاهلية كانت تقول: "أصابني الدهر في مالي بكذا، ونالتني قوارع الدهر وبواثقه ومصايبه. ويقول الهرم "حناني الدهر" فينسبون كل شيء تجري به أقدار الله عز وجل -عليهم، من موت أو سقم، أو ثكل، أو هرم، إلى الدهر. ويقولون: لعن الله هذا الدهر، ويسمونه المنون، لأنه جالب المنون عليهم عندهم، والمنون: المنية، قال أبو ذؤيب:
أَمِنَ المنون وريبه تتوجع ... والدهر ليس بمعتب من يجزع
_________
(1) أخرجه: أحمد (2/ 313) والبخاري (8/ 449/4686) ومسلم (2/ 690 - 691/ 993) والترمذي (5/ 234/3045) وابن ماجه (1/ 71/197) من حديث أبي هريرة بلفظ: "يمين الله ملأى لا يغيضها شيء سحاء الليل والنهار".
(2) تأويل مختلف الحديث (210 - 211).
(3) تأويل مختلف الحديث (221).
(4) أخرجه: أحمد (2/ 395) ومسلم (4/ 1763/2246 [5]) والنسائي في الكبرى (6/ 457/11687) من حديث أبي هريرة.
(4/361)
قال أبو محمد: هكذا أنشدنيه الرياشي عن الأصمعي، عن ابن أبي طرفة الهذلي، عن أبي ذؤيب. والناس يروونه "وريبها تتوجع" ويجعلون المنون: المنية، وهذا غلط. ويدلك على ذلك قوله "والدهر ليس بمعتب من يجزع" كأنه قال: "أمن الدهر وريبه تتوجع" والدهر ليس بمعتب من يجزع" وقال الله عز وجل: {نتربص به ريب الْمَنُونِ} (1) أي ريب الدهر وحوادثه. وكانت العرب تقول: "لا ألقاك آخر المنون" أي آخر الدهر. وقد حكى الله عز وجل عن أهل الجاهلية، ما كانوا عليه من نسب أقدار الله عز وجل وأفعاله إلى الدهر فقال: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} (2). فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تسبوا الدهر إذا أصابتكم المصايب، ولا تنسبوها إليه، فإن الله، عز وجل، هو الذي أصابكم بذلك، لا الدهر، فإذا سببتم الفاعل، وقع السب بالله عز وجل" ألا ترى أن الرجل منهم إذا أصابته نائبة، أو جائحة في مال، أو ولد، أو بدن، فسب فاعل ذلك به، وهو ينوي الدهر، أن المسبوب هو الله عز وجل. وسأمثل لهذا الكلام مثالا أقرب به عليك ما تأولت، وإن كان -بحمد الله تعالى قريبا- كأن رجلا يسمى "زيدا" أمر عبدا له يسمى "فتحا" أن يقتل رجلا، فقتله، فسب الناس فتحا ولعنوه. فقال لهم قائل: "لا تسبوا فتحا، فإن زيدا هو فتح". يريد أن زيدا هو القاتل، لأنه هو الذي أمره كأنه قال: إن القاتل زيد، لا فتح.
_________
(1) الطور الآية (30).
(2) الجاثية الآية (24).
(4/362)
وكذلك الدهر تكون فيه المصايب والنوازل، وهي بأقدار الله عز وجل، فيسب الناس الدهر، لكون تلك المصايب والنوازل فيه، وليس له صنع، فيقول قائل: "لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر". (1)
- قال أبو محمد: قالوا: رويتم أن الله تبارك وتعالى ينزل إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل، فيقول: "هل من داع فأستجيب له؟ أو مستغفر فأغفر له؟ " (2) وينزل عشية عرفة إلى أهل عرفة (3)، وينزل في ليلة النصف من شعبان (4).
وهذا خلاف لقوله تعالى: {مَا يكون من نجوى
_________
(1) تأويل مختلف الحديث (222 - 224).
(2) انظر تخريجه في مواقف حماد بن سلمة سنة (167هـ).
(3) أخرجه من حديث جابر - رضي الله عنه -: ابن خزيمة في صحيحه (4/ 263/2840) وابن حبان (9/ 164/3853 الإحسان)، البغوي في شرح السنة (7/ 159/1931) وأبو يعلى (4/ 69/2090) والبزار "الكشف" (2/ 28/1128)، وذكره الهيثمي في موضعين: (3/ 253) وقال: "رواه أبو يعلى وفيه محمد بن مروان العقيلي وثقه ابن معين وابن حبان وفيه بعض كلام وبقية رجاله رجال الصحيح". و (4/ 17) وقال: "رواه البزار وإسناده حسن ورجاله ثقات". قال الشيخ الألباني في الضعيفة (2/ 126): "قلت إنما علة الحديث أبو الزبير فإنه مدلس، وقد عنعنه في جميع الطرق عنه".
(4) أخرجه من حديث عائشة رضي الله عنها: أحمد (6/ 238) والترمذي (3/ 116/739) وابن ماجه (1/ 444/1389) كلهم من طريق حجاج بن أرطأة عن يحيى بن أبي كثير عن عروة عن عائشة، وفيه قصة فقدها النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة. قال الترمذي عقب الحديث: "حديث عائشة لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث الحجاج، وسمعت محمدا يضعف هذا الحديث، وقال: يحيى بن أبي كثير لم يسمع من عروة، والحجاج بن أرطأة لم يسمع من يحيى بن أبي كثير.
وللحديث شواهد كثيرة يتقوى بها، انظرها في الصحيحة (3/ 135 - 139/ 1144) ثم قال عقبها رحمه الله: "وجملة القول إن الحديث بمجموع هذه الطرق صحيح بلا ريب، والصحة تثبت بأقل منها عددا، ما دامت سالمة من الضعف الشديد كما هو الشأن في هذا الحديث، فما نقله الشيخ القاسمي رحمه الله في إصلاح المساجد (ص.107) عن أهل التعديل والتجريح أنه ليس في فضل ليلة النصف من شعبان حديث يصح، فليس مما ينبغي الاعتماد عليه، ولئن كان أحد منهم أطلق مثل هذا القول فإنما أوتي من قبيل التسرع وعدم وسع الجهد لتتبع الطرق على هذا النحو الذي بين يديك، والله تعالى الموفق".
(4/363)
ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} (1) وقوله جل وعز: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} (2) وقد أجمع الناس على أنه بكل مكان، ولا يشغله شأن عن شأن.
قال أبو محمد: ونحن نقول في قوله: {ما يكون من نجوى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا}: إنه معهم بالعلم بما هم عليه، كما تقول للرجل وجهته إلى بلد شاسع، ووكلته بأمر من أمورك: "احذر التقصير والإغفال لشيء مما تقدمت فيه إليك فإني معك" تريد، أنه لا يخفى علي تقصيرك أو جدك، للإشراف عليك، والبحث عن أمورك". وإذا جاز هذا في المخلوق الذي لا يعلم الغيب، فهو في الخالق الذي يعلم الغيب أجوز. وكذلك "هو بكل مكان" يراد: لا يخفى عليه شيء، مما في الأماكن، فهو فيها بالعلم بها والإحاطة. وكيف يسوغ لأحد أن يقول: إنه بكل مكان على الحلول مع قوله: {الرحمن على العرش استوى} (3) أي: استقر كما
_________
(1) المجادلة الآية (7).
(2) الزخرف الآية (84).
(3) طه الآية (5).
(4/364)
قال: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} (1) أي استقررت. ومع قوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (2). وكيف يصعد إليه شيء هو معه؟ أو يرفع إليه عمل، وهو عنده؟ وكيف تعرج الملائكة والروح إليه يوم القيامة؟ وتعرج بمعنى تصعد -يقال: عرج إلى السماء إذا صعد، والله عز وجل "ذو المعارج" و"المعارج" الدرج. فما هذه الدرج؟ وإلى من تؤدي الأعمال الملائكة، إذا كان بالمحل الأعلى، مثله بالمحل الأدنى؟ ولو أن هؤلاء رجعوا إلى فطرهم وما ركبت عليه خلقتهم من معرفة الخالق سبحانه، لعلموا أن الله تعالى هو العلي، وهو الأعلى، وهو بالمكان الرفيع، وأن القلوب عند الذكر تسمو نحوه، والأيدي ترفع بالدعاء إليه. ومن العلو يرجى الفرج، ويتوقع النصر، وينزل الرزق. وهنالك الكرسي والعرش والحجب والملائكة.
يقول الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} (3) وقال في الشهداء: {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (4) وقيل لهم شهداء، لأنهم يشهدون ملكوت الله تعالى، وأحدهم "شهيد" كما يقال: "عليم" و"علماء" و"كفيل" و"كفلاء". وقال تعالى: {لَوْ أردنا أن نتخذ لهوًا
_________
(1) المؤمنون الآية (28).
فاطر الآية (10).
(3) الأنبياء الآيتان (19 - 20).
(4) آل عمران الآية (169).
(4/365)
لاتخذناه مِنْ لَدُنَّا} (1) أي: لو أردنا أن نتخذ امرأة وولدا، لاتخذنا ذلك عندنا لا عندكم، لأن زوج الرجل وولده، يكونان عنده وبحضرته، لا عند غيره. والأمم كلها -عربيها وعجميها- تقول: إن الله تعالى في السماء ما تركت على فطرها، ولم تنقل عن ذلك بالتعليم. وفي الحديث إن رجلا أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأمة أعجمية للعتق، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أين الله تعالى؟ ". فقالت: في السماء، قال: "فمن أنا" قالت: أنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال عليه الصلاة والسلام "هي مؤمنة" وأمره بعتقها (2) -هذا أو نحوه وقال أمية بن أبي الصلت:
مجدوا الله وهو للمجد أهل ... ربنا في السماء أمسى كبيرا
بالبناء الأعلى الذي سبق النا ... س. وسوى فوق السماء سريرا
شرجعا ما يناله بصر العيـ ... ـن ترى دونه الملائك صورا
و"صور" جمع "أصور" وهو المائل العنق. (3)
- قال أبو محمد: ثم نصير إلى الجاحظ، وهو آخر المتكلمين، والمعاير على المتقدمين، وأحسنهم للحجة استثارة، وأشدهم تلطفا، لتعظيم الصغير، حتى يعظم، وتصغير العظيم حتى يصغر، ويبلغ به الاقتدار إلى أن يعمل الشيء ونقيضه، ويحتج لفضل السودان على البيضان. وتجده يحتج مرة للعثمانية على الرافضة، ومرة للزيدية على العثمانية وأهل السنة. ومرة يفضل عليا رضي الله
_________
(1) الأنبياء الآية (17).
(2) سيأتي تخريجه في مواقف أبي عمرو السهروردي سنة (458هـ).
(3) تأويل مختلف الحديث (270 - 273).
(4/366)
عنه، ومرة يؤخره، ويقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويتبعه قال الجماز، وقال إسماعيل بن غزوان: كذا وكذا من الفواحش. ويجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أن يذكر في كتاب ذكرا فيه فكيف في ورقة، أو بعد سطر وسطرين؟ ويعمل كتابا، يذكر فيه حجج النصارى على المسلمين. فإذا صار إلى الرد عليهم، تجوز في الحجة، كأنه إنما أراد تنبيههم على مالا يعرفون، وتشكيك الضعفة من المسلمين. وتجده يقصد في كتبه للمضاحيك والعبث، يريد بذلك، استمالة الأحداث، وشراب النبيذ. ويستهزئ من الحديث استهزاء، لا يخفى على أهل العلم. كذكره كبد الحوت، وقرن الشيطان، وذكر الحجر الأسود وأنه كان أبيض فسوده المشركون، وقد كان يجب أن يبيضه المسلمون حين أسلموا. ويذكر الصحيفة التي كان فيها المنزل في الرضاع، تحت سرير عائشة، فأكلتها الشاة. وأشياء من أحاديث أهل الكتاب في تنادم الديك والغراب، ودفن الهدهد أمه في رأسه، وتسبيح الضفدع، وطوق الحمامة وأشباه هذا، مما سنذكره فيما بعد، إن شاء الله. وهو -مع هذا- من أكذب الأمة وأوضعهم لحديث، وأنصرهم لباطل. (1)
- قال أبو محمد: وقالوا في قوله تعالى: {واتخذ الله إبراهيم خليلاً} (2) أي فقيرا إلى رحمته، وجعلوه من "الخلة" بفتح الخاء، استيحاشا من أن يكون الله تعالى، خليلا لأحد من خلقه واحتجوا بقول زهير:
_________
(1) تأويل مختلف الحديث (59 - 60).
(2) النساء الآية (125).
(4/367)
وإن أتاه خليل يوم مسألة ... يقول لا غائب مالي ولا حرم
أي إن أتاه فقير. فأي فضيلة في هذا القول لإبراهيم - صلى الله عليه وسلم -؟ أما تعلمون أن الناس جميعا، فقراء إلى الله تعالى؟ وهل إبراهيم في "خليل الله" إلا كما قيل "موسى كليم الله". و"عيسى روح الله"؟. (1)
موقفه من الخوارج:
- قال أبو محمد: ثم نصير إلى "بكر" صاحب البكرية، وهو من أحسنهم حالا في التوقي. فنجده يقول: من سرق حبة من خردل، ثم مات غير تائب من ذلك، فهو خالد في النار، مخلد أبدا، مع اليهود والنصارى.
وقد وسع الله تعالى للمسلم أن يأكل من مال صديقه، وهو لا يعلم. ووسع لداخل الحائط أن يأكل من ثمره، ولا يحمل. ووسع لابن السبيل إذا مر في سفره بغنم وهو عطشان أن يصيب من رسلها. فكيف يعذب من أخذ حبة من خردل، لا قدر لها، ويخلده في النار أبدا؟. وأي ذنب هو أخذ حبة من خردل، حتى يكون منه توبة، أو يقع فيه إصرار؟ وقد يأخذ الرجل الخلال من حطب أخيه، والمدر من مدره، ويشرب الماء من حوضه، وهذا أعظم قدرا من الحبة.
وكان يقول: إن الأطفال لا تألم. فإذا سئل، فقيل له: فما باله يبكي إذا قرص أو وقعت عليه شرارة. قال: إنما ذلك عقوبة لأبويه والله تعالى أعدل من أن يؤلم طفلا لا ذنب له. فإذا سئل عن البهيمة وألمها، وهي لا ذنب لها،
_________
(1) تأويل مختلف الحديث (69 - 70).
(4/368)
قال: إنما آلمها الله تعالى لمنفعة ابن آدم لتنساق ولتقف، ولتجري إذا احتاج إلى ذلك منها.
وكان من العدل -عنده- أن يؤلمها لنفع غيرها وربما قال بغير ذلك، وقد خلطوا في الرواية عنه.
وكان يقول: شرب نبيذ السقاء الشديد، من السنة، وكذلك أكل الجدي، والمسح على الخفين.
والسنة إنما تكون في الدين لا في المأكول والمشروب. ولو أن رجلا لم يأكل البطيخ بالرطب، دهره، وقد أكله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو لم يأكل القرع، وقد كان يعجب النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل إنه ترك السنة (1).
موقفه من القدرية:
- قال رحمه الله: ثم نصير إلى عبيد الله بن الحسن وقد كان ولي قضاء البصرة -فتهجم- من قبيح مذاهبه، وشدة تناقض قوله على ما هو أولى بأن يكون تناقضا، مما أنكروه. وذلك أنه كان يقول: إن القرآن يدل على الاختلاف. فالقول بالقدر صحيح، وله أصل في الكتاب. والقول بالإجبار صحيح، وله أصل في الكتاب. ومن قال بهذا، فهو مصيب ومن قال بهذا، فهو مصيب. لأن الآية الواحدة، ربما دلت على وجهين مختلفين، واحتملت معنيين متضادين. وسئل يوما، عن أهل القدر وأهل الإجبار، فقال: كل مصيب، هؤلاء قوم عظموا الله، وهؤلاء قوم نزهوا الله. (2)
_________
(1) تأويل مختلف الأحاديث (46 - 47).
(2) تأويل مختلف الحديث (44 - 45).
(4/369)
- وقال: وقد يحمل بعضهم الحمية على أن يقول: الجبرية، هم القدرية. ولو كان هذا الاسم يلزمهم، لاستغنوا به عن الجبرية. ولو ساغ هذا لأهل القدر، لساغ مثله للرافضة، والخوارج، والمرجئة وقال كل فريق منهم لأهل الحديث، مثل الذي قالته القدرية. والأسماء لا تقع غير مواقعها، ولا تلزم إلا أهلها. ويستحيل أن تكون الصياقلة، هم الأساكفة، والنجار هو الحداد. والفطرة التي فطر الناس عليها، والنظر، يبطل ما قذفوهم به. أما الفطر، فإن رجلا لو دخل المصر، واستدل على القدرية فيه، أو المرجئة، لدله الصبي والكبير، والمرأة والعجوز، والعامي والخاصي، والحشوة والرعاع، على المسمين بهذا الاسم. ولو استدل على أهل السنة، لدلوه على أصحاب الحديث. ولو مرت جماعة فيهم القدري، والسني، والرافضي، والمرجئي، والخارجي، فقذف رجل القدرية، أو لعنهم، لم يكن المراد بالشتم أو اللعن عندهم، أصحاب الحديث. هذا أمر، لا يدفعه دافع، ولا ينكره منكر. وأما النظر، فإنهم أضافوا القدر إلى أنفسهم، وغيرهم يجعله لله تعالى، دون نفسه. ومدعي الشيء لنفسه، أولى بأن ينسب إليه، ممن جعله لغيره. ولأن الحديث جاءنا، بأنهم مجوس هذه الأمة، وهم أشبه قوم بالمجوس، لأن المجوس تقول بإلهين، وإياهم أراد الله بقوله: {لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (1). وقالت القدرية: نحن نفعل مالا يريد الله تعالى، ونقدر على ما لا
_________
(1) النحل الآية (51).
(4/370)
يقدر. (1)
- وقال: قالوا: رويتم أن موسى عليه السلام كان قدريا، وحاج آدم عليه السلام فحجه وأن أبا بكر كان قدريا، وحاج عمر، فحجه عمر.
قال أبو محمد ونحن نقول: إن هذا تخرص وكذب على الخبر، ولا نعلم أنه جاء في شيء من الحديث أن موسى عليه السلام كان قدريا، ولا أن أبا بكر رضي الله عنه، كان قدريا. حدثنا أبو الخطاب، قال: نا بشر بن المفضل، قال: نا داود بن أبي هند عن عامر عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لقي موسى آدم - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أنت آدم أبو البشر، الذي أشقيت الناس وأخرجتهم من الجنة؟ قال: نعم. فقال: ألست موسى الذي اصطفاك الله على الناس برسالاته وبكلامه؟ قال: بلى. قال: أفليس تجد فيما أنزل عليك أنه سيخرجني منها قبل أن يدخلنيها؟ قال: بلى، قال: فخصم آدم موسى صلى الله عليهما وسلم" (2).
قال أبو محمد: فأي شيء في هذا القول يدل على أن موسى عليه السلام كان قدريا، ونحن نعلم أن كل شيء بقدر الله وقضائه، غير أنا ننسب الأفعال إلى فاعليها، ونحمد المحسن على إحسانه، ونلوم المسيء بإساءته، ونعتد على المذنب بذنوبه. وأما قولهم: "إن أبا بكر رضي الله عنه كان
_________
(1) تأويل مختلف الحديث (81 - 82).
(2) أخرجه: أحمد (2/ 287 و314) والبخاري (11/ 618/6614) ومسلم (4/ 2042 - 2043/ 2652) وأبو داود (5/ 76 - 78/ 4701) والترمذي (4/ 386 - 387/ 2134) والنسائي في الكبرى (6/ 284 - 285/ 10985 - 10986) وابن ماجه (1/ 31 - 32/ 80).
(4/371)
قدريا" فهو أيضا تحريف وزيادة في الحديث. وإنما تنازعا في القدر، وهما لا يعلمان، فلما علما كيف ذلك؟ اجتمعا فيه على أمر واحد، كما كانا لا يعلمان أمورا كثيرة من أمر الدين، وأمر التوحيد، حتى أعلمهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونزل الكتاب وحدّت السنن، فعلما بعد ذلك. على أن الحديث عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما عند أهل الحديث ضعيف، يرويه إسماعيل بن عبد السلام، عن زيد بن عبد الرحمن، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده. ويرويه رجل من أهل خراسان، عن مقاتل بن حيان، عن عمرو بن شعيب، وهؤلاء لا يعرف أكثرهم. (1)
ابن أبي العوَّام (2) (276 هـ)
المحدث الإمام، أبو بكر وأبو جعفر محمد بن أحمد بن يزيد بن أبي العوام الرياحي. سمع يزيد بن هارون وعبد الوهاب بن عطاء العقدي، وقريش ابن أنس، وأبا عامر العقدي وجماعة. روى عنه أبو العباس بن عقدة، وإسماعيل الصفار، وأبو بكر الشافعي وابن الهيثم وأبو عبد الله المحاملي وآخرون. قال عبد الله بن أحمد: صدوق ما علمت منه إلا خيرا. مات رحمه الله تعالى لأيام خلون من رمضان سنة ست وسبعين ومائتين.
_________
(1) تأويل مختلف الحديث (235 - 237).
(2) تاريخ بغداد (1/ 372) وطبقات الحنابلة (1/ 263 - 264) وسير أعلام النبلاء (13/ 7) وتاريخ الإسلام (حوادث 271 - 280/ص.423 - 424) والأنساب للسمعاني (3/ 111).
(4/372)
موقفه من الجهمية:
قال ابن أبي العوام: اشهدوا علي أن ديني الذي أدين الله عز وجل به أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأن من زعم أن القرآن مخلوق، فهو كافر، وهذه كانت مقالة أبي. (1)
مصعب بن سعيد أبو خيثمة الضرير المصيصي الحراني (2) (277 هـ سنة وفاة أبي حاتم)
صاحب حديث. سمع زهير بن معاوية، وابن المبارك، وعيسى بن يونس وغيرهم. وعنه أبو حاتم وأبو الدرداء بن منيب، والحسن بن سفيان وخلق. قال أبو حاتم: كان صدوقا. قال ابن عدي: يحدث عن الثقات بالمناكير ويصحف. وهو حراني نزل المصيصة. وذكره ابن حبان في الثقات.
موقفه من الجهمية:
- قال أبو خيثمة: الجهمي يفرق بينه وبين امرأته ولا أورثه. (3)
_________
(1) الإبانة (1/ 12/246/ 19).
(2) الجرح والتعديل (8/ 309) والكامل لابن عدي (6/ 364) وميزان الاعتدال (4/ 119) والثقات لابن حبان (9/ 175) ولسان الميزان (6/ 43 - 44).
(3) الإبانة (2/ 13/101/ 314).
(4/373)
هشام بن عبيد (277 هـ سنة وفاة أبي حاتم)
موقفه من الجهمية:
- حدثنا حفص بن عمر، قال: سمعت أبا حاتم الرازي، يقول: قيل لهشام بن عبيد حين أدخل على المأمون كلم بِشْراً المريسي، فقال: أصلح الله الخليفة لا أحسن كلامه والعالم بكلامه عندنا جاهل. (1)
أبو عقيل المروزي (277 هـ سنة وفاة أبي حاتم)
موقفه من الجهمية:
- وحدثنا أبو القاسم -حفص بن عمر- قال: حدثنا أبو حاتم، قال: حدثنا أبو عقيل المعروف بشاه المروزي، وقدم علينا من البصرة يريد خراسان، أخبرني أنه رأى بالبصرة رجلا كان يقول: القرآن مخلوق، فالتقى مع رجل من أهل السنة، فابتهلا جميعا، فقال هذا: إن لم يكن القرآن مخلوقا، فمحا الله القرآن من صدري. وقال السني: إن كان هذا القرآن مخلوقا، فمحا الله القرآن من صدري، فأصبح الجهمي وهو يقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، فإذا أراد أن يقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}، لم يجر لسانه، وقال: هيهات هيهات، وأصبح السني قارئا للقرآن كما كان. (2)
_________
(1) الإبانة (2/ 3/536/ 699).
(2) الإبانة (2/ 13/116 - 117/ 379).
(4/374)
يعقوب بن سفيان الفَسَوي (1) (277 هـ)
الإمام، الحافظ، الحجة، الرحال، محدث إقليم فارس، أبو يوسف يعقوب بن سفيان بن جوان الفارسي، من أهل مدينة فسا. ويقال له يعقوب ابن أبي معاوية. مولده في حدود عام تسعين ومائة في دولة الرشيد. وله تاريخ كبير جم الفوائد و"مشيخته" في مجلد. سمع أبا عاصم النبيل وعبيد الله بن موسى، والأنصاري، ومكي بن إبراهيم وسعيد بن منصور، وصفوان بن صالح، وطبقتهم. حدث عنه الترمذي، والنسائي، والحسن بن سفيان الفسوي وابن خزيمة، وأبو عوانة الإسفراييني، وغيرهم كثير. روي عن الحافظ أبي عبد الرحمن النهاوندي أنه سمع الفسوي يقول: كتبت عن ألف شيخ وكسر، كلهم ثقات. قال أبو زرعة الدمشقي: قدم علينا رجلان من نبلاء الرجال أحدهما وأجلهما يعقوب بن سفيان أبو يوسف، يعجز أهل العراق أن يروا مثله رجلا، ثم ذكر الثاني: حرب بن إسماعيل الكرماني. مات رحمه الله بفسا في سنة سبع وسبعين ومائتين.
موقفه من المبتدعة:
هذا الإمام الكبير هو صاحب المعرفة والتاريخ كان شديدا على المبتدعة كما وصفه ابن حبان.
- قال فيه: كان ممن جمع وصنف وأكثر مع الورع والنسك والصلابة
_________
(1) الجرح والتعديل (9/ 208) والسير (13/ 180 - 184) وتهذيب الكمال (32/ 324 - 335) وتذكرة الحفاظ (2/ 582 - 583) والبداية والنهاية (11/ 63 - 64) وطبقات الحنابلة (1/ 416) وتهذيب التهذيب (11/ 385 - 389) وشذرات الذهب (2/ 171).
(4/375)
في السنة. (1)
- وذكر محقق كتاب: 'المعرفة والتاريخ': "أن اللالكائي اقتبس منه جملة في كتابه أصول اعتقاد أهل السنة قال وأحسبها من كتاب السنة ليعقوب - على أنه يتابع في عقيدته السلف وأهل الحديث، حيث خرج أحاديث في أن القرآن كلام الله ليس بمخلوق، وفي إثبات رؤية الله يوم القيامة، وذم أهل البدع والأهواء والقول بأن الإيمان قول وعمل وأنه يزيد وينقص". (2)
- وقد ذكر المحقق نفسه في الجزء الثالث من كتاب 'المعرفة والتاريخ' نصوصا في العقيدة السلفية، قال: وأحسبها من كتاب السنة. (3)
- وللشيخ رحمه الله كتاب 'السنة'. (4)
قال في السير: وله تاريخ كبير جم الفوائد. (5)
- وقال فيها أيضا: وما علمت يعقوب الفسوي إلا سلفيا، وقد صنف كتابا صغيرا في السنة. (6)
موقفه من المرجئة:
- عن أبي يوسف يعقوب بن سفيان قال: الإيمان عند أهل السنة:
_________
(1) الثقات (9/ 287).
(2) (1/ 17).
(3) (3/ 385 - 416).
(4) (1/ 18).
(5) السير (13/ 180).
(6) السير (13/ 183).
(4/376)
الإخلاص لله بالقلوب والألسنة والجوارح، وهو قول وعمل يزيد وينقص، على ذلك وجدنا كل من أدركنا من عصرنا بمكة والمدينة والشام والبصرة والكوفة. منهم: أبو بكر الحميدي وعبد الله بن يزيد المقري في نظائرهم بمكة. وإسماعيل بن أبي أويس وعبد الملك بن عبد العزيز الماجشون ومطرف بن عبد الله اليسارى في نظرائهم بالمدينة. ومحمد بن عبد الله الأنصاري والضحاك ابن مخلد وسليمان بن حرب وأبو الوليد الطنافسي وأبو النعمان وعبد الله بن مسلمة في نظرائهم بالبصرة. وعبيد الله بن موسى وأبو نعيم وأحمد بن عبد الله ابن يونس في نظرائهم كثير بالكوفة. وعمر بن عون بن أويس وعاصم بن علي بن عاصم في نظرائهم بواسط. وعبد الله بن صالح كاتب الليث وسعيد ابن أبي مريم والنضر بن عبد الجبار ويحيى بن عبد الله بن بكير وأحمد بن صالح وأصبغ بن الفرج في نظرائهم بمصر. وابن أبي إياس في نظرائهم بعسقلان. وعبد الأعلى بن مسهر وهشام بن عمار وسليمان بن عبد الرحمن وعبد الرحمن ابن إبراهيم في نظائرهم بالشام. وأبو اليمان الحكم بن نافع وحيوة بن شريح في نظرائهم بحمص. ومكي بن إبراهيم وإسحاق بن راهوية وصدقة بن الفضل في نظرائهم بخراسان كلهم يقولون: الإيمان القول والعمل ويطعنون على المرجئة وينكرون قولهم. (1)
_________
(1) أصول الاعتقاد (5/ 1035 - 1036/ 1753).
(4/377)
أبو حاتم الرازي (1) (277 هـ)
الإمام الحافظ الناقد شيخ المحدثين الثبت محمد بن إدريس بن المنذر بن داود بن مهران الحنظلي الغطفاني من تميم بن حنظلة بن يربوع وقيل عرف بالحنظلي لأنه كان يسكن في درب حنظلة بمدينة الري. كان من بحور العلم طوف البلاد وبرع في المتن والإسناد، وجمع وصنف وجرح وعدل وصحح وعلل. كان أحد الأئمة الحفاظ الأثبات، مشهورا بالعلم مذكورا بالفضل. مولده سنة خمس وتسعين ومائة وأول كتابه للحديث كان في سنة تسع ومائتين. وهو من نظراء البخاري ومن طبقته ولكنه عمر بعده أزيد من عشرين عاما. سمع محمد بن عبد الله الأنصاري وأبا زيد النحوي وأبا اليمان الحمصي وآدم بن أبي إياس وأبا نعيم وأبا توبة الحلبي وخلقا كثيرا. ويتعذر استقصاء سائر مشايخه فقد قال الخليلي: قال لي أبو حاتم اللبان الحافظ قد جمعت من روى عنه أبو حاتم الرازي فبلغوا قريبا من ثلاثة آلاف. حدث عنه ولده عبد الرحمن، ويونس بن عبد الأعلى وأبو زرعة الرازي والدمشقي، وإبراهيم الحربي وابن أبي الدنيا، والبخاري -فيما قيل- وأبو داود والنسائي والاسفراييني وخلق كثير. قال الخليلي: كان أبو حاتم عالما باختلاف الصحابة وفقه التابعين ومن بعدهم، سمعت جدي وجماعة سمعوا علي بن إبراهيم القطان يقول: ما رأيت مثل أبي حاتم فقلنا له: قد رأيت إبراهيم
_________
(1) الجرح والتعديل (1/ 349 - 375) والسير (13/ 247 - 263) وتهذيب الكمال (24/ 381 - 391) وتاريخ بغداد (2/ 773) وطبقات الحنابلة (1/ 284 - 286) والوافي بالوفيات (2/ 183) وتذكرة الحفاظ (2/ 567 - 569) والمنتظم (12/ 284 - 285) وشذرات الذهب (2/ 171) وتاريخ دمشق (52/ 3 - 16).
(4/378)
الحربي وإسماعيل القاضي، قال: ما رأيت أجمع من أبي حاتم ولا أفضل منه. قال ابن أبي حاتم: سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول: أبو زرعة وأبو حاتم إماما خراسان، ودعا لهما، وقال بقاؤهما صلاح للمسلمين. قال الحافظ ابن خراش: كان أبو حاتم من أهل الأمانة والمعرفة.
ويحكي رحمه الله عن نفسه الكثير أثناء طلبه للعلم ورحلته من أجله، فمن ذلك قوله: أول سنة خرجت في طلب الحديث أقمت سبع سنين -أحصيت ما مشيت على قدمي زيادة على ألف فرسخ، ثم تركت العدد بعد ذلك، وخرجت من البحرين إلى مصر ماشيا ثم إلى الرملة ماشيا ثم إلى دمشق ثم أنطاكية وطرسوس ثم رجعت إلى حمص ثم إلى الرقة ثم ركبت إلى العراق كل هذا في سفري الأول وأنا ابن عشرين سنة خرجت من الري فدخلت الكوفة في رمضان سنة ثلاث عشرة وجاءنا نعي المقرئ وأنا بالكوفة ثم رحلت ثانيا سنة اثنتين وأربعين ثم رجعت إلى الري سنة خمس وأربعين وحججت رابع حجة في سنة خمس وخمسين. ومناقبه كثيرة رحمه الله تعالى. قال أبو الحسين بن المنادي وغيره مات الحافظ أبو حاتم في شعبان سنة سبع وسبعين ومائتين. وقيل عاش ثلاثا وثمانين سنة.
موقفه من المبتدعة:
- عن عبد الرحمن بن حمدان بن المرزبان، قال: قال لي أبو حاتم الرازي: إذا رأيت البغدادي يحب أحمد بن حنبل، فاعلم أنه صاحب سنة، وإذا رأيته يبغض يحيى بن معين، فاعلم أنه كذاب. (1)
_________
(1) السير (11/ 83) وطبقات الحنابلة (1/ 403).
(4/379)
- قال اللالكائي في أصول الاعتقاد: ووجدت في بعض كتب أبي حاتم محمد بن إدريس ابن المنذر الحنظلي الرازي رحمه الله، مما سمع منه يقول: مذهبنا واختيارنا اتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والتابعين ومن بعدهم بإحسان وترك النظر في موضع بدعهم، والتمسك بمذهب أهل الأثر مثل: أبي عبد الله أحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم وأبي عبيد القاسم بن سلام والشافعي، ولزوم الكتاب والسنة والذب عن الأئمة المتبعة لآثار السلف واختيار ما اختاره أهل السنة من الأئمة في الأمصار مثل: مالك بن أنس في المدينة، والأوزاعي بالشام، والليث بن سعد بمصر، وسفيان الثوري وحماد بن زياد بالعراق، من الحوادث مما لا يوجد فيه رواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة والتابعين.
وترك رأي الملبسين المموهين المزخرفين الممخرقين الكذابين. وترك النظر في كتب الكرابيسي ومجانبة من يناضل عنه من أصحابه، وشاجرديه (1) مثل: داود الأصبهاني وأشكاله ومتبعيه.
والقرآن كلام الله وعلمه وأسماؤه وصفاته وأمره ونهيه وليس بمخلوق بجهة من الجهات. ومن زعم أنه مخلوق مجعول فهو كافر بالله كفرا ينقل عن الملة. ومن شك في كفره ممن يفهم ولا يجهل فهو كافر. والواقفة واللفظية جهمية. جهمهم أبو عبد الله أحمد بن حنبل.
والاتباع للأثر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعن الصحابة والتابعين بعدهم
_________
(1) هكذا بالأصل.
(4/380)
بإحسان. وترك كلام المتكلمين وترك مجالستهم وهجرانهم وترك مجالسة من وضع الكتب بالرأي بلا آثار.
واختيارنا أن الإيمان: قول وعمل إقرار باللسان وتصديق بالقلب وعمل بالأركان، مثل الصلاة والزكاة لمن كان له مال، والحج لمن استطاع إليه سبيلا. وصوم شهر رمضان وجميع فرائض الله التي فرض على عباده: العمل به من الإيمان. والإيمان يزيد وينقص.
ونؤمن بعذاب القبر. وبالحوض المكرم به النبي - صلى الله عليه وسلم -. ونؤمن بالمساءلة في القبر. وبالكرام الكاتبين. وبالشفاعة المخصوص بها النبي - صلى الله عليه وسلم -. ونترحم على جميع أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا نسب أحدا منهم لقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (1). والصواب نعتقد ونزعم أن الله على عرشه بائن من خلقه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (2).
ولا نرى الخروج على الأئمة ولا نقاتل في الفتنة ونسمع ونطيع لمن ولاه الله عز وجل أمرنا. ونرى الصلاة والحج والجهاد مع الأئمة ودفع صدقات المواشي إليهم. ونؤمن بما جاءت به الآثار الصحيحة بأنه يخرج قوم
_________
(1) الحشر الآية (10).
(2) الشورى الآية (11).
(4/381)
من النار من الموحدين بالشفاعة. ونقول: إنا مؤمنون بالله عز وجل. وكره سفيان الثوري أن يقول: أنا مؤمن حقا عند الله ومستكمل الإيمان، وكذلك قول الأوزاعي أيضا.
وعلامة أهل البدع: الوقيعة في أهل الأثر. وعلامة الجهمية: أن يسموا أهل السنة مشبهة ونابتة. وعلامة القدرية: أن يسموا أهل السنة مجبرة. وعلامة الزنادقة: أن يسموا أهل الأثر حشوية، ويريدون إبطال الآثار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وفقنا الله وكل مؤمن لما يحب ويرضى من القول والعمل وصلى الله على محمد وآله وسلم. (1)
" التعليق:
قال أبو عثمان الصابوني رحمه الله: وكل ذلك عصبية، ولا يلحق أهل السنة إلا اسم واحد، وهو أصحاب الحديث. قلت: أنا رأيت أهل البدع في هذه الأسماء التي لقبوا بها أهل السنة، سلكوا معهم مسلك المشركين مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنهم اقتسموا القول فيه: فسماه بعضهم ساحرا، وبعضهم كاهنا، وبعضهم شاعرا، وبعضهم مجنونا، وبعضهم مفتونا، وبعضهم مفتريا مختلقا كذابا، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - من تلك المعائب بعيدا بريئا، ولم يكن إلا رسولا مصطفى نبيا، قال الله عز وجل: {انْظُرْ كيف ضربوا لَكَ الْأَمْثَالَ
_________
(1) أصول الاعتقاد (1/ 202 - 204/ 323).
(4/382)
فضلوا فلا يستطيعون سبيلاً} (1). اهـ (2)
- قال أبو حاتم: وأخبرت عن بعض أهل العلم أول ما افترق من هذه الأمة الزنادقة والقدرية والمرجئة والرافضة والحرورية، فهذا جماع الفرق وأصولها ثم تشعبت كل فرقة من هذه الفرق على فرق، وكان جماعها الأصل واختلفوا في الفروع، فكفر بعضهم بعضا، وجهل بعضهم بعضا، فافترقت الزنادقة على إحدى عشرة فرقة، وكان منها المعطلة، ومنها المنانية، وإنما سموا المنانية برجل كان يقال له ماني، كان يدعو إلى الاثنين فزعموا أنه نبيهم وكان في زمن الأكاسرة، فقتله بعضهم. ومنهم: المزدكية لأن رجلا ظهر في زمن الأكاسرة يقال له مزدك. ومنهم العبدكية وإنما سموا العبدكية لأن عبدك هو الذي أحدث لهم هذا الرأي ودعاهم إليه. ومنهم الروحانية وسموا الفكرية، ومنهم الجهمية وهم صنف من المعطلة، وهم أصناف وإنما سموا الجهمية لأن جهم بن صفوان كان أول من اشتق هذا الكلام من كلام السمنية وهم صنف من العجم كانوا بناحية خراسان، وكانوا شككوه في دينه وفي ربه حتى ترك الصلاة أربعين يوما لا يصلي، فقال: لا أصلي لمن لا أعرف ثم اشتق هذا الكلام، ومنهم السبئية، وهم صنف من العجم يكونون بناحية خراسان وذكر فرقا أخر بصفات مقالاتهم.
ومنهم الحرورية وافترقوا
_________
(1) الإسراء الآية (48).
(2) عقيدة السلف (ص.305 - 306).
(4/383)
على ثماني عشرة فرقة وإنما سموا الحرورية لأنهم خرجوا بحروراء أول ما خرجوا، فصنف منهم يقال لهم الأزارقة، وإنما سموا الأزارقة بنافع بن الأزرق، ومنهم النجدية، وإنما سموا النجدية بنجدة، ومنهم الإباضية وإنما سموا الإباضية بعبد الله بن أباض، ومنهم الصفرية، وإنما سموا الصفرية بعبيدة الأصفر، ومنهم: الشمراخية، وإنما سموا الشمراخية بأبي شمراخ رأسهم، ومنهم السرية، وإنما سموا السرية لأنهم زعموا أن دماء قومهم وأموالهم في دار التقية في السر حلال، ومنهم الوليدية، ومنهم العذرية، وسموا بأبي عذرة رأسهم، ومنهم العجردية، وسموا بأبي عجرد رأسهم، ومنهم الثعلبية، سموا بأبي ثعلبة رأسهم، ومنهم الميمونية، سموا بميمون رأسهم، ومنهم الشكية، ومنهم الفضيلية، سموا بفضيل رأسهم، ومنهم الحرانية، ومنهم البيهسية، وسموا بهيصم أبي بيهس رأسهم، ومنهم الفديكية، سموا بأبي فديك وهم اليوم بالبحرين واليمامة ومنهم العطوية سموا بعطية، ومنهم الجعدية، سموا بأبي الجعد، ومنهم الرافضة وافترقوا على ثلاث عشرة فرقة، فمنهم البيانية، سموا ببيان رأسهم وكان يقول إلي أشار الله بقوله: {هذا بيانٌ لِلنَّاسِ} (1) ومنهم السبائية، تسموا بعبد الله بن سبأ، ومنهم المنصورية، سموا بمنصور الكسف، وكان يقول: إلي أشار الله بقوله: {وَإِنْ يروا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ ساقطًا} (2)، ومنهم الإمامية، ومنهم المختارية، سموا بالمختار، ومنهم الكاملية، ومنهم
_________
(1) آل عمران الآية (138).
(2) الطور الآية (44).
(4/384)
المغيرية، ومنهم الخطابية، سموا بأبي الخطاب، ومنهم الخشبية، ومنهم الزيدية، وذكر فرقا بصفات مقالاتهم ومنهم القدرية، افترقوا على ست عشرة فرقة، ومنهم المفوضة، ومنهم المعتزلة، وذكر صفات مقالاتهم حتى عد ست عشرة فرقة، ومنهم المرجئة وافترقوا على أربع عشرة فرقة فذكر صفات مقالاتهم فرقة فرقة.
قال ابن بطة: فهذا يا أخي رحمك الله ما ذكره هذا العالم رحمه الله من أسماء أهل الأهواء وافتراق مذاهبهم وعداد فرقتهم وإنما ذكر من ذلك ما بلغه ووسعه وانتهى إليه علمه، لا من طريق الاستقصاء والاستيفاء وذلك لأن الإحاطة بهم لا يقدر عليها والتقصي للعلم بهم لا يدرك، وذلك أن كل من خالف الجادة وعدل عن المحجة واعتمد من دينه على ما يستحسنه فيراه ومن مذهبه على ما يختاره ويهواه عدم الاتفاق والائتلاف وكثر عليه أهلها لمباينة الاختلاف لأن الذي خالف بين الناس في مناظرهم وهيآتهم وأجسامهم وألوانهم ولغاتهم وأصواتهم وحظوظهم كذلك خالف بينهم في عقولهم وآرائهم وأهوائهم وإراداتهم واختياراتهم وشهواتهم، فإنك لا تكاد ترى رجلين متفقين اجتمعا جميعا في الاختيار والإرادة حتى يختار أحدهما ما يختاره الآخر ويرذل ما يرذله إلا من كان على طريق الاتباع واقتفى الأثر والانقياد للأحكام الشرعية والطاعة الديانية، فإن أولئك من عين واحدة شربوا فعليها يردون وعنها يصدرون قد وافق الخلف الغابر للسلف الصادر. (1)
_________
(1) الإبانة (1/ 2/380 - 386).
(4/385)
- عن أبي حاتم الرازي قال: نشر العلم حياته، والبلاغ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رحمة، يعتصم به كل مؤمن، ويكون حجة على كل مصر به وملحد. (1)
موقفه من الجهمية:
تقدم نقل عقيدته مع أخيه أبي زرعة فمن شاءها، رجع إلى أبي زرعة في السنة الرابعة والستين بعد المائتين.
- وعن أبي زرعة وأبي حاتم قالا: من قال إن لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي. (2)
- ذكر عبد الرحمن بن أبي حاتم قال: سمعت أبي يقول: أول من أتى بخلق القرآن جعد بن درهم وقاله في سنة نيف وعشرين ومائة. (3)
- قال عبد الرحمن بن أبي حاتم في كتاب الرد على الجهمية له: حدثنا أبي وأبو زرعة قال: كان بالبصرة رجل، وأنا مقيم سنة ثلاثين ومئتين، فحدثني عثمان بن عمرو بن الضحاك عنه، أنه قال: إن لم يكن القرآن مخلوقا فمحا الله ما في صدري من القرآن. وكان من قراء القرآن. فنسي القرآن، حتى كان يقال له: قل: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرحيم} (1) فيقول: معروف، معروف. ولا يتكلم به. قال أبو زرعة: فجهدوا به أن أراه، فلم أره. (4)
_________
(1) شرف أصحاب الحديث (17).
(2) أصول الاعتقاد (2/ 389 - 390/ 596).
(3) أصول الاعتقاد (3/ 425/641).
(4) السير (13/ 259 - 260).
(4/386)
موقفه من المرجئة:
- قال أبو حاتم: هذا مذهبنا واختيارنا، وما نعتقده وندين الله به ونسأله السلامة في الدين والدنيا: أن الإيمان قول وعمل، وتصديق بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان، مثل الصلاة، والزكاة لمن كان له مال، والحج لمن استطاع إليه سبيلا، وصوم شهر رمضان، وجميع فرائض الله التي فرض على عباده العمل بها من الإيمان، والإيمان يزيد وينقص. (1)
أبو عيسى الترمذي (2) (279 هـ)
الإمام الحافظ العلم البارع أبو عيسى محمد بن عيسى بن سَوْرَة السُّلَمِي الترمذي الضرير مصنف الجامع والعلل وغير ذلك. ولد في حدود سنة عشر ومائتين، وارتحل فسمع بخراسان والعراق والحرمين ولم يرحل إلى مصر والشام. حدث عن قتيبة بن سعيد وابن راهويه، وإسماعيل بن موسى الفزاري وأبي مصعب الزهري وطبقتهم. وتفقه في الحديث بالبخاري، وقد كتب عنه البخاري حديثا واحدا. حدث عنه مكحول بن الفضل ومحمد بن محمود بن عنبر وأبو العباس محمد بن أحمد بن محبوب راوي 'الجامع' والهيثم ابن كليب الشاشي الحافظ راوي 'الشمائل' عنه وآخرون. ذكره ابن حبان
_________
(1) طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (1/ 286).
(2) الأنساب (3/ 45) ووفيات الأعيان (4/ 278) وتهذيب الكمال (26/ 250 - 252) والسير (13/ 270 - 277) وميزان الاعتدال (3/ 678) والبداية والنهاية (11/ 71 - 72) والوافي بالوفيات (4/ 294 - 296) وتذكرة الحفاظ (2/ 633 - 635) وشذرات الذهب (2/ 174 - 175).
(4/387)
في كتاب 'الثقات' وقال: كان ممن جمع وصنف وحفظ وذاكر. قال أبو سعد الإدريسي: كان أبو عيسى يضرب به المثل في الحفظ. وقال الحاكم: سمعت عمر بن علك يقول: مات البخاري فلم يخلف بخراسان مثل أبي عيسى، في العلم والحفظ والورع والزهد بكى حتى عمي، وبقي ضريرا سنين. قال أبو عيسى: صنفت هذا الكتاب وعرضته على علماء الحجاز والعراق وخراسان فرضوا به، ومن كان هذا الكتاب يعني 'الجامع' في بيته فكأنما في بيته نبي يتكلم. توفي رحمه الله في ثالث عشر رجب سنة تسع وسبعين ومائتين بترمذ.
موقفه من الجهمية:
دفاعه عن العقيدة السلفية:
لقد ألف أبو عيسى الترمذي كتابه العظيم، وساق في ثناياه من الأحاديث ما يرد به على جميع المبتدعة، وتكلم على بعضها، فخصص كتابا كبيرا من سننه للرد على القدرية، وآخر للرد على المرجئة سماه كتاب الإيمان، وعقد في الأخير كتابا للمناقب ذكر فيه جملة من الأحاديث في فضائل الصحابة عموما، والشيخين على الخصوص، رادا فيه على الرافضة أعداء الله.
نموذج من كلام الإمام الترمذي في سننه:
- قال رحمه الله عند حديث: "إن الله يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه، فيربيها لأحدكم كما يربى أحدكم مهره. حتى إن اللقمة لتصير مثل أحد" (1)
_________
(1) أخرجه: أحمد (2/ 331) والبخاري (3/ 354/1410) ومسلم (2/ 702/1014) والترمذي (3/ 49/661) والنسائي (5/ 60 - 61/ 2524) وابن ماجه (1/ 590/1842) من حديث أبي هريرة.
(4/388)
وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} (1) {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} (2). من كتاب الزكاة تحت باب: (ما جاء في فضل الصدقة).
قال أبو عيسى: "هذا حديث حسن صحيح". وقد روي عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو هذا.
وقد قال غير واحد من أهل العلم في هذا الحديث وما يشبه هذا من الروايات من الصفات، ونزول الرب تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، قالوا: قد تثبت الروايات في هذا، ويؤمن بها ولا يتوهم ولا يقال كيف؟.
هكذا روي عن مالك وسفيان بن عيينة وعبد الله بن المبارك، أنهم قالوا في هذه الأحاديث: أمروها بلا كيف، وهكذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة. وأما الجهمية، فأنكرت هذه الروايات، وقالوا: هذا تشبيه. وقد ذكر الله عز وجل في غير موضع من كتابه: اليد والسمع والبصر، فتأولت الجهمية هذه الآيات، ففسروها على غير ما فسر أهل العلم، وقالوا: إن الله لم يخلق آدم بيده، وقالوا: إن معنى اليد هاهنا القوة.
وقال إسحاق بن إبراهيم: إنما يكون التشبيه، إذا قال: يد كيد أو مثل يد، أو سمع كسمع أو مثل سمع. فإذا قال سمع كسمع أو مثل سمع فهذا التشبيه.
_________
(1) التوبة الآية (104).
(2) البقرة الآية (276).
(4/389)
وأما إذا قال كما قال الله تعالى: يد وسمع وبصر، ولا يقول: كيف، ولا يقول: مثل سمع ولا كسمع، فهذا لا يكون تشبيها، وهو كما قال الله تعالى في كتابه:} {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1). (2)
- وقال عند حديث أبي هريرة الطويل من كتاب التفسير وفيه: "والذي نفس محمد بيده، لو أنكم دليتم رجلا بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على الله". (3)
وفسر بعض أهل العلم هذا الحديث فقالوا: إنما هبط على علم الله وقدرته وسلطانه. علم الله وقدرته وسلطانه في كل مكان، وهو على العرش كما وصف في كتابه. (4)
موقفه من الخوارج:
- قال عقب حديث ابن مسعود: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" (5): ومعنى هذا الحديث قتاله كفر ليس به كفرا مثل الارتداد عن الإسلام. والحجة في ذلك ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: من قتل متعمدا
_________
(1) الشورى الآية (11).
(2) سنن الترمذي (3/ 50 - 51).
(3) جزء من حديث أخرجه: أحمد (2/ 370) والترمذي (5/ 376 - 377/ 3298) وابن أبي عاصم في السنة ... (1/ 254/578) والبيهقي في الأسماء والصفات (2/ 287 - 288/ 849) كلهم من طريق قتادة عن الحسن عن أبي هريرة مرفوعا. قال الترمذي: "هذا حديث غريب من هذا الوجه ويروى عن أيوب ويونس بن عبيد وعلي بن زيد قالوا: لم يسمع الحسن من أبي هريرة". وقال البيهقي: "وفي رواية الحسن عن أبي هريرة رضي الله عنه انقطاع ولا ثبت سماعه من أبي هريرة".
(4) سنن الترمذي (5/ 377).
(5) البخاري (1/ 147/48) ومسلم (1/ 81/64) والترمذي (5/ 22/2635).
(4/390)
فأولياء المقتول بالخيار، إن شاءوا قتلوا وإن شاءوا عفوا، ولو كان القتل كفرا لوجب ... (1) وقد روي عن ابن عباس وطاووس وعطاء، وغير واحد من أهل العلم قالوا: كفر دون كفر، وفسوق دون فسوق. (2)
موقفه من المرجئة:
عقد رحمه الله كتابا حافلا في الإيمان أورد فيه الأحاديث الدالة على بيان معتقده السلفي، وقد أوضح ذلك بتبويباته لها منها:
باب ما جاء في إضافة الفرائض إلى الإيمان (5/ 9).
باب ما جاء في استكمال الإيمان وزيادته ونقصانه (5/ 10).
باب ما جاء أن الحياء من الإيمان (5/ 12).
باب ما جاء في ترك الصلاة (5/ 14).
قال عقب أحد أحاديثه: سمعت أبا مصعب المدني يقول: من قال: الإيمان قول يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه (14/ 15).
باب ما جاء فيمن يموت وهو يشهد أن لا إله إلا الله.
قال رحمه الله معلقا على حديث "من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله حرم الله عليه النار" (3): "ووجه هذا الحديث عند بعض أهل العلم أن أهل التوحيد سيدخلون الجنة، وإن عذبوا بذنوبهم فإنهم لا يخلدون في النار.
_________
(1) بياض بالأصل بمقدار ست كلمات.
(2) السنن (5/ 22).
(3) مسلم (1/ 57 - 58/ 29) والترمذي (5/ 23 - 24/ 2638).
(4/391)
موقفه من القدرية:
- عقد رحمه الله كتابا في جامعه سماه (كتاب القدر): ذكر فيه أبوابا في ذكر القدر والرضا به، والرد على القدرية المكذبين بالقدر. (1)
موقف السلف من أبي سعيد أحمد بن عيسى الخراز (279 هـ)
بيان تصوفه:
كما قدمنا غير ما مرة، أن هناك طائفة من أهل الحق، تذب عن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن عقيدته التي بعث من أجل إبلاغها للناس، فهذا نموذج من أولئك إن شاء الله.
- جاء في تلبيس إبليس: وقال السراج: وأنكر جماعة من العلماء على أبي سعيد أحمد ابن عيسى الخراز، ونسبوه إلى الكفر بألفاظ وجدوها في كتاب صنفه وهو كتاب: 'السر' ومنه قوله: عبد طائع ما أذن له فلزم التعظيم لله فقدس الله نفسه. (2)
- قال الذهبي: ويقال: إنه أول من تكلم في علم الفناء والبقاء، فأي سكتة فاتته، قصد خيرا، فولد أمرا كبيرا، تشبث به كل اتحادي ضال به. (3)
_________
(1) السنن (4/ 386 - 399).
(2) التلبيس (210).
(3) السير (13/ 420).
(4/392)
- ومن كلامه: كل باطن يخالفه ظاهر، فهو باطل. (1)
عثمان بن سعيد الدارمي (2) (280 هـ)
الإمام العلامة الحجة الحافظ الناقد شيخ تلك الديار عثمان بن سعيد بن خالد بن سعيد أبو سعيد التميمي الدارمي، السجستاني صاحب 'المسند' الكبير والتصانيف محدث هراة وتلك البلاد. ولد قبل المائتين بيسير، وطوف الأقاليم في طلب الحديث. سمع نعيم بن حماد وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعلي بن المديني، وإسحاق بن راهويه، وأبا بكر بن أبي شيبة وخلقا كثيرا بالحرمين والشام ومصر والعراق والجزيرة وبلاد العجم. وأخذ علم الحديث وعلله عن علي ويحيى وأحمد، وفاق أهل زمانه، وكان لهجا بالسنة بصيرا بالمناظرة جذعا في أعين المبتدعة. صنف كتابا في 'الرد على بشر المريسي' و'الرد على الجهمية' و'المسند' وغيرها. حدث عنه أبو عمرو أحمد بن محمد الحيري ومحمد بن يوسف الهروي وأبو النصر محمد بن محمد الفقيه وخلق كثير من أهل هراة ونيسابور.
قال الحاكم: سمعت محمد بن العباس الضبي سمعت أبا الفضل يعقوب ابن إسحاق القراب يقول: ما رأيت مثل عثمان بن سعيد ولا رأى عثمان مثل نفسه أخذ الأدب عن ابن الأعرابي والفقه عن أبي يعقوب البويطي
_________
(1) السير (13/ 420).
(2) الجرح والتعديل (6/ 153) وتذكرة الحفاظ (2/ 621 - 622) والسير (13/ 319 - 326) وطبقات الحنابلة (1/ 221) وشذرات الذهب (2/ 176).
(4/393)
والحديث عن ابن معين وابن المديني وتقدم في هذه العلوم رحمه الله. قال محمد بن المنذر شكر: سمعت أبا زرعة الرازي وسألته عن عثمان بن سعيد، فقال: ذاك رزق حسن التصنيف. وقال أبو الفضل الجارودي: كان عثمان ابن سعيد إماما يقتدى به في حياته وبعد مماته. قال الحسن بن صاحب الشاشي: سألت أبا داود السجستاني عن عثمان بن سعيد فقال: منه تعلمنا الحديث. قال أبو إسحاق أحمد بن محمد بن يونس: توفي عثمان الدارمي في ذي الحجة سنة ثمانين ومائتين. رحمه الله تعالى.
موقفه من الجهمية:
هذا الإمام، كان شوكة في حلق المعطلة، أفحمهم بالمعقول والمنقول سجل ذلك في كتبه التي أصبحت مرجعا لمن جاء بعده، فمن قرأ ما كتبه هذا الإمام تبين له دعوى الكذب على شيخ الإسلام، وأنه هو الذي وضع القواعد للأسماء والصفات، وإن كان وقع للشيخ بعض الهفوات في الإثبات، فسبحان من تنزه عن النقص، ولعلو كعب هذا الإمام في العقيدة السلفية حط عليه الشيخ النجدي الكوثري عليه ما يستحق من ربه في مقالاته وتعاليقه، وشق ثيابه ونتف شعوره ولطم وجهه وخدوده، يوم أن سمع بطبع كتب هذا الإمام وغيره من أئمة السلف، فرفع إلى الأزهر شكوى يلوم فيها الأزهر على السماح بطبع مثل هذه الكتب. يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون.
وللشيخ رحمه الله:
1 - رد على بشر المريسي.
(4/394)
2 - الرد على الجهمية، أكثر من النقل منهما شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم في كتبهم. وقد طبعا ولله الحمد.
وقد ألف بعض الباحثين رسالة علمية في جامعة أم القرى بعنوان: 'الدارمي ودفاعه عن العقيدة السلفية'.
من درر مواقفه وغوالي أقواله:
- قال رحمه الله في كتابه المعروف بـ 'نقض عثمان بن سعيد على بشر المريسي الجهمي العنيد فيما افترى على الله في التوحيد' قال: وادعى المعارض أيضا: أن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله ينزل إلى السماء الدنيا حين يمضي ثلث الليل فيقول: هل من مستغفر؟ هل من تائب؟ هل من داع؟ " (1). قال: فادعى أن الله لا ينزل بنفسه، إنما ينزل أمره ورحمته، وهو على العرش، وبكل مكان من غير زوال، لأنه الحي القيوم، والقيوم بزعمه من لا يزول. قال: فيقال لهذا المعارض: وهذا أيضا من حجج النساء والصبيان، ومن ليس عنده بيان، ولا لمذهبه برهان، لأن أمر الله ورحمته ينزل في كل ساعة ووقت وأوان، فما بال النبي - صلى الله عليه وسلم - يحد لنزوله الليل دون النهار، ويؤقت من الليل شطره أو الأسحار؟ أفأمره ورحمته يدعوان العباد إلى الاستغفار، أو يقدر الأمر والرحمة أن يتكلما دونه فيقولا: هل من داع فأجيب؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من سائل فأعطي؟ فإن قررت مذهبك لزمك أن تدعي أن الرحمة والأمر هما اللذان يدعوان إلى الإجابة والاستغفار بكلامهما دون الله، وهذا
_________
(1) انظر تخريجه في مواقف حماد بن سلمة سنة (167هـ).
(4/395)
محال عند السفهاء، فكيف عند الفقهاء؟ قد علمتم ذلك، ولكن تكابرون، وما بال رحمته وأمره ينزلان من عنده شطر الليل، ثم لا يمكثان إلا إلى طلوع الفجر، ثم يرفعان؟ لأن رفاعة يرويه يقول في حديثه: "حتى ينفجر الفجر" (1). قد علمتم إن شاء الله، أن هذا التأويل أبطل باطل، لا يقبله إلا كل جاهل.
وأما دعواك أن تفسير "القيوم" الذي لا يزول عن مكانه ولا يتحرك، فلا يقبل منك هذا التفسير إلا بأثر صحيح مأثور عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو عن بعض أصحابه أو التابعين، لأن الحي القيوم يفعل ما يشاء، ويتحرك إذا شاء، ويهبط ويرتفع إذا شاء، ويقبض ويبسط، ويقوم ويجلس إذا شاء، لأن أمارة ما بين الحي والميت التحرك، كل حي متحرك لا محالة، وكل ميت غير متحرك لا محالة، ومن يلتفت إلى تفسيرك وتفسير صاحبك مع تفسير نبي الرحمة ورسول رب العزة إذ فسر نزوله مشروحا منصوصا، ووقت لنزوله وقتا مخصوصا، لم يدع لك ولا لأصحابك فيه لبسا ولا عويصا. (2)
وقال عثمان بن سعيد الدارمي في كتاب 'الرد على الجهمية': ما الجهمية عندنا من أهل القبلة، بل هؤلاء الجهمية أفحش زندقة، وأظهر كفرا، وأقبح تأويلا لكتاب الله ورد صفاته، من الزنادقة الذين قتلهم علي وحرقهم
_________
(1) أخرجه: أحمد (4/ 16) وابن ماجه (1/ 435/1367) والدارمي (1/ 347) والآجري (2/ 98 - 99/ 753) والطيالسي (1291) كلهم من طريق يحيى بن أبي كثير عن هلال بن أبي ميمونة عن عطاء بن يسار عن رفاعة رضي الله عنه. قال الشيخ الألباني في الإرواء (2/ 198): "وهذا سند صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين وصرح يحيى بالتحديث في رواية الآجري".
(2) درء التعارض (2/ 49 - 51).
(4/396)
بالنار. (1)
- وقال أيضا: أخبر الله أن القرآن كلامه، وادعت الجهمية أنه خلقه، وأخبر الله تبارك وتعالى أنه كلم موسى تكليما، وقال هؤلاء: لم يكلمه الله بنفسه، ولم يسمع موسى نفس كلام الله، إنما سمع كلاما خرج إليه من مخلوق، ففي دعواهم دعا مخلوق موسى إلى ربوبيته فقال: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} (2) فقال له موسى في دعواهم: صدقت، ثم أتى فرعون يدعوه إلى ربوبية مخلوق كما أجاب موسى في دعواهم، فما فرق بين موسى وفرعون في الكفر إذا؟ فأي كفر أوضح من هذا؟ وقال الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (3) وقال هؤلاء: ما قال لشيء قط -قولا وكلاما- كن فكان، ولا يقوله أبدا، ولم يخرج منه كلام قط، ولا يخرج، ولا هو يقدر على الكلام في دعواهم، فالصنم في دعواهم والرحمن بمنزلة واحدة في الكلام. (4)
- جاء في السير: قال محمد بن إبراهيم الصرام: سمعت عثمان بن سعيد يقول: لا نكيف هذه الصفات، ولا نكذب بها، ولا نفسرها. (5)
- وفيها: ومن كلام عثمان -رحمه الله- في كتاب 'النقض' له: اتفقت
_________
(1) درء التعارض (5/ 302 - 303).
(2) طه الآية (12).
(3) النحل الآية (40).
(4) درء التعارض (2/ 65 - 66).
(5) السير (13/ 324).
(4/397)
الكلمة من المسلمين أن الله تعالى فوق عرشه، فوق سماواته. قلت (أي الذهبي): أوضح شيء في هذا الباب قوله عز وجل: {الرحمن على العرش استوى} (1). فليمر كما جاء، كما هو معلوم من مذهب السلف، وينهى الشخص عن المراقبة والجدال، وتأويلات المعتزلة، {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ} (2). (3)
- وفيها: قال يعقوب القراب: سمعت عثمان بن سعيد الدارمي يقول: قد نويت أن لا أحدث عن أحد أجاب إلى خلق القرآن، قال: فتوفي قبل ذلك.
قلت (أي الذهبي): من أجاب تقية، فلا بأس عليه، وترك حديثه لا ينبغي. (4)
حرب بن إسماعيل الكَرْمَانِيّ (5) (280 هـ)
الإمام العلامة الفقيه الحافظ أبو محمد حرب بن إسماعيل بن خلف الحنظلي الكرماني تلميذ الإمام أحمد وصاحبه. رحل وطلب العلم، وأخذ عن
_________
(1) طه الآية (5).
(2) آل عمران الآية (53).
(3) السير (13/ 325).
(4) السير (13/ 322).
(5) الجرح والتعديل (3/ 253) والسير (13/ 244 - 245) وتذكرة الحفاظ (2/ 613) وشذرات الذهب (2/ 176) وطبقات الحنابلة (1/ 145 - 146).
(4/398)
أبي الوليد الطيالسي وأبي بكر الحميدي وأبي عبيد وسعيد بن منصور، وإسحاق بن راهويه وطبقتهم. روى عنه القاسم بن محمد الكرماني نزيل طرسوس، وعبد الله بن إسحاق النهاوندي، وعبد الله بن يعقوب الكرماني، وأبو حاتم الرازي رفيقه وأبو بكر الخلال وآخرون. ومسائله من أنفس كتب الحنابلة، وهو كبير في مجلدين ونقل الكثير من المسائل عن أحمد بن حنبل. قال الخلال: كان رجلا جليلا حثني المروذي على الخروج إليه. قال ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة: كان حرب فقيه البلد وكان السلطان قد جعله على أمر الحكم وغيره في البلد. توفي رحمه الله في سنة ثمانين ومائتين. وقد عمر وقارب التسعين.
موقفه من الجهمية:
- وقال أبو محمد حرب بن إسماعيل الكرماني في مسائله المعروفة -التي نقلها عن أحمد وإسحاق وغيرهما، وذكر معها من الآثار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة وغيرهم ما ذكر وهو كتاب كبير صنفه على طريقة 'الموطأ' ونحوه من المصنفات- قال في آخره في الجامع: "باب القول في المذهب: هذا مذهب أئمة العلم وأصحاب الأثر وأهل السنة المعروفين بها المقتدى بهم فيها، وأدركت من أدركت من علماء أهل العراق والحجاز والشام وغيرهم عليها، فمن خالف شيئا من هذه المذاهب أو طعن فيها أو عاب قائلها فهو مبتدع، خارج عن الجماعة، زائل عن منهج السنة وسبيل الحق، وهو مذهب أحمد وإسحاق بن إبراهيم بن مخلد وعبد الله بن الزبير الحميدي وسعيد بن منصور وغيرهم ممن جالسنا وأخذنا عنهم العلم" وذكر
(4/399)
الكلام في الإيمان والقدر والوعيد والإمامة وما أخبر به الرسول من أشراط الساعة وأمر البرزخ والقيامة وغير ذلك -إلى أن قال: "وهو سبحانه بائن من خلقه لا يخلو من علمه مكان، ولله عرش، وللعرش حملة يحملونه، وله حد، والله أعلم بحده، والله على عرشه عز ذكره وتعالى جده ولا إله غيره، والله تعالى سميع لا يشك، بصير لا يرتاب، عليم لا يجهل، جواد لا يبخل، حليم لا يعجل، حفيظ لا ينسى، يقظان لا يسهو، رقيب لا يغفل، يتكلم ويتحرك ويسمع ويبصر وينظر ويقبض ويبسط ويفرح ويحب ويكره ويبغض ويرضى ويسخط ويغضب، ويرحم ويعفو ويغفر ويعطي ويمنع، وينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا، كيف شاء، وكما شاء، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1) " -إلى أن قال-: "ولم يزل الله متكلما عالما فتبارك الله أحسن الخالقين". (2)
- جاء في اجتماع الجيوش: وله مسائل بالسند إليه قال: والماء فوق السماء السابعة والعرش على الماء والله على العرش
- قال ابن القيم: قلت هذا لفظه في مسائله وحكاه إجماعا لأهل السنة من سائر أهل الأمصار. (3)
- وجاء في أصول الاعتقاد: قال عبد الرحمن كتب إلي حرب بن
_________
(1) الشورى الآية (11).
(2) درء التعارض (2/ 22).
(3) اجتماع الجيوش (ص.214).
(4/400)
إسماعيل الكرماني الحنظلي إن الحق والصواب الواضح المستقيم الذي أدركنا عليه أهل العلم أن من زعم أن ألفاظنا بالقرآن وتلاوتنا مخلوقة فهو جهمي مبتدع خبيث. (1)
عثمان بن خُرَّزَاد (2) (281 هـ)
الحافظ الحجة الثبت شيخ الإسلام، أبو عمرو بن أبي أحمد وهو عثمان ابن عبد الله بن محمد بن خرزاد الطبري ثم البصري نزيل أنطاكية وعالمها. ولد قبل المائتين. سمع من عفان بن مسلم، وقرة بن حبيب وأبي الوليد الطيالسي وسعيد بن منصور والحكم بن موسى ومسدد وعدة وجمع وصنف. حدث عنه النسائي وأبو حاتم الرازي مع تقدمه- وأبو عوانة في صحيحه ومحمد بن المنذر شكر، وأبو القاسم الطبراني بالإجازة وخلق كثير. قال ابن أبي حاتم: كان رفيق أبي في كتابة الحديث في بعض الجزيرة والشام وهو صدوق أدركته ولم أسمع منه. وقال أبو بكر الأهوازي: أحفظ من رأيت عثمان بن خرزاد. قال ابن منده: كان أحد الحفاظ، وقال الحاكم: ثقة مأمون. قال عثمان رحمه الله: يحتاج صاحب الحديث إلى خمس، فإذا عدمت واحدة فهي نقص يحتاج إلى عقل جيد، ودين، وضبط لما يقول وحذاقة بالصناعة مع أمانة تعرف منه. توفي رحمه الله في ذي الحجة سنة إحدى وثمانين ومائتين.
_________
(1) أصول الاعتقاد (2/ 389/594).
(2) تهذيب الكمال (19/ 417 - 422) وتذكرة الحفاظ (2/ 623 - 624) والسير (13/ 378 - 381) وشذرات الذهب (2/ 177) وتهذيب التهذيب (7/ 131 - 132).
(4/401)
موقفه من الجهمية:
- جاء في أصول الاعتقاد عنه قال: من قال لفظي بالقرآن مخلوق فقد أعظم الفرية على الله. (1)
عبد الجبار بن خالد السرتي (2) (281 هـ)
الشيخ عبد الجبار بن خالد بن عمران السرتي. سمع من سحنون، ويعد من أكابر أصحابه، وصحب حمديس بن القطان. وسمع منه أبو العرب وابن اللباد وغيرهما.
قال أبو العرب: كان صالحا، متعبدا، طويل الصلاة، كثير الدعاء، مجتهدا، وكان من عقلاء شيوخ إفريقية. وقال حمديس القطان: ما رأيت أورع من عبد الجبار. وقال أبو عياش: عبد الجبار عالم واسع العلم، فهم نطاق بالحكمة.
من كلامه رحمه الله: من كان همه في الله قل في الدنيا والآخرة غمه. وكان يقول: من سكت سلم، ومن تكلم بذكر الله غنم، ومن خاض أثم.
توفي رحمه الله سنة إحدى وثمانين ومائتين، وصلى عليه صاحبه حمديس. وكان مولده سنة أربع وتسعين ومائة.
موقفه من المبتدعة:
- قال عبد الجبار: من ترك رأيه واتبع السنن والآثار رجي له أن يلحق
_________
(1) أصول الاعتقاد (2/ 388/587).
(2) رياض النفوس (1/ 463 - 470) وترتيب المدارك (4/ 384 - 389) وشجرة النور الزكية (1/ 71).
(4/402)
غدا بالأبرار، ومن تبع رأيه وترك السنن والآثار خفت غدا أن يكون مأواه النار. (1)
سهل بن عبد الله التستري الصوفي (283 هـ)
موقفه من المبتدعة:
هذا الرجل ممن دخل في خزعبلات المتصوفة يأتي التنبيه عليها، إلا أن له أقوالا وافقت ما عليه السلف منها:
- أنه سئل عن شرائع الإسلام، فقال: وقال العلماء في ذلك وأكثروا ولكن نجمعه كله بكلمتين: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (2).
ثم نجمعه كله في كلمة واحدة: {مَنْ يطع الرسول فقد أَطَاعَ اللَّهَ} (3)، فمن يطع الرسول في سنته فقد أطاع الله في فريضته. (4)
- عن أبي القاسم عبد الجبار بن شيراز بن يزيد العبدي، صاحب سهل ابن عبد الله، قال: سمعت سهل بن عبد الله يقول: وقيل له متى يعلم الرجل أنه على السنة والجماعة؟
_________
(1) معالم الإيمان (2/ 191).
(2) الحشر الآية (7).
(3) النساء الآية (80).
(4) الإبانة (1/ 1/222).
(4/403)
قال: إذا عرف من نفسه عشر خصال: لا يترك الجماعة. ولا يسب أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولا يخرج على هذه الأمة بالسيف. ولا يكذب بالقدر. ولا يشك في الإيمان. ولا يماري في الدين. ولا يترك الصلاة على من يموت من أهل القبلة بالذنب. ولا يترك المسح على الخفين. ولا يترك الجماعة خلف كل وال جار أو عدل. (1)
" التعليق:
هذه الأوصاف التي ذكرها سهل بن عبد الله التستري هي أصول أهل السنة والجماعة، وبدراستها ودراسة تفاصيلها فيها الرد على كثير من الطوائف الضالة، ولا سيما الخوارج الذين عثوا في الأرض فسادا، والذين هم في هذا الزمان شوكة في حلق نشر السنة، لأنهم ملئوا الأمة شغبا وزلازل وقلاقل، فشغلوا الأمة بالفتن وظنوها شجاعة وجهادا، وهي لعمر الله إفسادا وتخريبا وإساءة للإسلام وأهله وإحراجا للدعوة والدعاة، مع ما في الأصول من رد على الرافضة قبحهم الله والمرجئة القاعدين عن الأعمال والخيرات، والمثبطين لكل داع إلى الطاعات، والمعتذرين لكل زنديق خبيث تارك الأوامر والنواهي، مزهدين في الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
- وفي الحلية بالسند إليه قال: أصولنا ستة: التمسك بالقرآن، والاقتداء بالسنة، وأكل الحلال، وكف الأذى، واجتناب الآثام، والتوبة وأداء
_________
(1) أصول الاعتقاد (1/ 205/324).
(4/404)
الحقوق. (1)
- وفي ذم الكلام عنه: قال في قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا على البر والتقوى} على الإيمان والسنة {ولا تَعَاوَنُوا على الْإِثْمِ والعدوان} (2) قال: الكفر والبدعة. (3)
- وفيه: عنه قال: مثل السنة في الدنيا مثل الجنة في الآخرة، من دخل الجنة في الآخرة سلم، ومن دخل السنة في الدنيا سلم. (4)
- عن التستري: {قصد السبيل}: طريق السنة. {وَمِنْهَا جائرٌ} يعني: إلى النار، وذلك الملل والبدع. (6)
- قال سهل التستري: كل فعل يفعله العبد بغير اقتداء -طاعة كان أو معصية- فهو عيش النفس -يعني: باتباع الهوى- وكل فعل يفعله العبد بالاقتداء، فهو عتاب على النفس -يعني: لأنه لا هوى له فيه-. (7)
موقفه من المشركين:
- ونقل عنه الذهبي في السير: إنما سمي الزنديق زنديقا، لأنه وزن دق
_________
(1) الحلية (10/ 190) والسير (13/ 332).
(2) المائدة الآية (2).
(3) ذم الكلام (272).
(4) ذم الكلام (273).
(5) النحل الآية (9).
(6) الاعتصام (1/ 78).
(7) الاعتصام (1/ 126) وهو في الاستقامة (1/ 249).
(4/405)
الكلام بمخبول عقله وقياس هوى طبعه، وترك الأثر والاقتداء بالسنة، وتأول القرآن بالهوى، فسبحان من لا تكيفه الأوهام، في كلام نحو هذا. (1)
بيان صوفيته:
جاء في تلبيس إبليس: قال السلمي: وحكى رجل عن سهل بن عبد الله التستري أنه يقول إن الملائكة والجن والشياطين يحضرونه وإنه يتكلم عليهم فأنكر ذلك عليه العوام حتى نسبوه إلى القبائح فخرج إلى البصرة فمات بها (2).
" التعليق:
والغالب على الظن، أن الذين أنكروا عليه سلفيون، تربوا على عقيدة السلف، وبغضت إليهم البدع والشركيات. هذا في ذلك الزمان، وأما اليوم فلو ادعى أنه يجتمع مع الله ألف مرة في اليوم والنبي - صلى الله عليه وسلم - خادمه والصحابة عبيده، لوجد مصدقين به ومؤيدين له والله المستعان.
وبالمقابل، له كلام من قرأه مجردا عما يروى عنه من الخزعبلات يجده من أحسن ما يكون، ويحكم على صاحبه أنه كان من أئمة السلف، وقد تقدم بعضه، وإليك بقيته.
موقفه من الجهمية:
- جاء في السير: قال إسماعيل بن علي الأبلي: سمعت سهل بن عبد الله بالبصرة في سنة ثمانين ومائتين يقول: العقل وحده لا يدل على قديم أزلي فوق عرش محدث، نصبه الحق دلالة وعلما لنا، لتهتدي القلوب به إليه، ولا
_________
(1) السير (13/ 332).
(2) التلبيس (ص 207).
(4/406)
تتجاوز ولم يكلف القلوب علم ماهية هويته، فلا كيف لاستوائه عليه، ولا يجوز أن يقال: كيف الاستواء لمن أوجد الاستواء؟ وإنما على المؤمن الرضا والتسليم، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنه على عرشه" (1). (2)
- وفي أصول الاعتقاد: عنه قال: من قال القرآن مخلوق، فهو كافر بالربوبية لا كافر النعمة. (3)
موقفه من المرجئة:
- سئل سهل بن عبد الله التستري عن الإيمان ما هو؟ فقال: هو قول ونية وعمل وسنة، لأن الإيمان إذا كان قولا بلا عمل فهو كفر، وإذا كان قولا وعملا بلا نية فهو نفاق، وإذا كان قولا وعملا ونية بلا سنة فهو بدعة. (4)
موقفه من القدرية:
- جاء في الإبانة: عن سهل بن عبد الله التستري قال: ليس في حكم الله عز وجل أن يملك علم الضر والنفع إلا الله عز وجل، ولكن حكم العدل في الخلق إنكار فعل غيرهم من الضر والنفع، وهو حجة الله علينا، أمرنا بما لا
_________
(1) أخرجه: الدارمي في الرد على الجهمية (ص.26 - 27) تخريج الألباني، وابن خزيمة في التوحيد (1/ 242 - 243/ 149) والطبراني في الكبير (9/ 202/8987) والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن مسعود موقوفا (2/ 290/851) وقال الهيثمي في المجمع (1/ 86): "رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح". وفي الباب أحاديث كثيرة عن جمع من الصحابة بعضها في الصحيحين كلها تفيد أن الله عز وجل فوق العرش.
(2) السير (13/ 331 - 332).
(3) أصول الاعتقاد (2/ 296/469).
(4) الإبانة (2/ 6/814/ 1116).
(4/407)
نقدر عليه إلا بمعونته، ونهانا عما لا نقدر على تركه والانصراف عنه إلا بعصمته، وألزمنا بالحركة بالمسألة، له المعونة على طاعته وترك مخالفته في إظهار الفقر والفاقة إليه، والتبري من كل سبب واستطاعة دونه؛ فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (1)؛ قال فخرجت أفعال العباد في سرهم وظاهرهم على ما سبق من علمه فيهم من غير إجبار منه لهم في ذلك أو في شيء منه، ولا قسر ولا إكراه ولا تعبد ولا أمر، بل بقضاء سابق ومشيئة وتخلية منه لمن شاء كيف شاء لما شاء؛ فله الحجة على الخلق أجمعين؛ قال سهل: فأفعال الخلق وأعمالهم كلها من الله مشيئة، فيها معنيان: فما كان من خير؛ فالله أراد ذلك منهم وأمرهم به ولم يكرههم على فعله، بل وفقهم له وأعانهم عليه، وتولى ذلك الفعل منهم وأثابهم عليه، وما كان من فعل شر؛ فالله عز وجل نهى عنه، ولم يجبر عليه ولم يتول ذلك الفعل، بل أراد العبد به والتخلية بينه وبينه، وشاء كون ذلك قبيحا فاسدا ليكون ما نهى ولا يكون ما أمر، ويظهر العلم السابق فيه فمنهم شقي وسعيد، فهو من الله مشيئة ومن الشيطان تزيين، ومن العبد فعل. (2)
- وجاء في أصول الاعتقاد عن سهل بن عبد الله قال: من قال إن الله لا يعلم الشيء حتى يكون فهو كافر ومن قال أنا مستغن عن الله عز وجل فهو كافر ومن قال إن الله ظالم للعباد فهو كافر. (3)
_________
(1) فاطر الآية (15).
(2) الإبانة (2/ 11/292 - 293/ 1942).
(3) أصول الاعتقاد (4/ 786/1320).
(4/408)
- وفيه عن محمد بن علي بن حيدرة قال: حدثنا أبو هارون الابلي -وكان ممن صحب سهل بن عبد الله وكان رجلا صالحا وكان يقرينا القرآن في المسجد الجامع- قال: سئل سهل بن عبد الله عن القدر؟ فقال: الإيمان بالقدر فرض والتكذيب به كفر والكلام فيه بدعة والسكوت عنه سنة. (1)
ابن خراش الرافضي (283 هـ)
بيان رفضه:
- قال أبو زرعة محمد بن يوسف الحافظ: خرج ابن خراش مثالب الشيخين، وكان رافضيا. (2)
إبراهيم الحربي (3) (285 هـ)
الشيخ، الحافظ أبو إسحاق، إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم بن بشير البغدادي الحربي. ولد سنة ثمان وتسعين ومائة، وطلب العلم وهو حدث، فسمع من أبي نعيم وعبد الله ابن صالح العجلي وعاصم بن علي وأبي عبيد القاسم بن سلام، وتفقه على الإمام أحمد بن حنبل، وكان من أجل أصحابه. وحدث عنه ابن صاعد، وأبو بكر النجاد، وأبو بكر الشافعي وأبو بكر
_________
(1) أصول الاعتقاد (4/ 786/1321).
(2) السير (13/ 509).
(3) تاريخ بغداد (6/ 27 - 40) وطبقات الحنابلة (1/ 86 - 93) والمنتظم (12/ 379 - 386) وسير أعلام النبلاء (13/ 356 - 372) وتاريخ الإسلام (حوادث 281 - 290/ص.101).
(4/409)
القطيعي، وعثمان بن السماك، وخلق كثير. قال أبو بكر الخطيب: كان إماما في العلم، رأسا في الزهد، عارفا بالفقه، بصيرا بالأحكام حافظا للحديث، مميزا لعلله، قيما بالأدب، جَمَّاعة للغة. وقال الحاكم: سمعت محمد بن صالح القاضي يقول: لا نعلم أن بغداد أخرجت مثل إبراهيم الحربي في الأدب والفقه والحديث والزهد. وقال السلمي: سألت الدارقطني عن إبراهيم الحربي، فقال: كان يقاس بأحمد بن حنبل في زهده وعلمه وورعه. وقال الحسن بن فهم: لا ترى عيناك مثل الحربي، إمام الدنيا، لقد رأيت وجالست العلماء، فما رأيت رجلا أكمل منه. توفي رحمه الله سنة خمس وثمانين ومائتين.
موقفه من المبتدعة:
- قال محمد بن مخلد العطار: سمعت إبراهيم الحربي يقول: لا أعلم عصابة خيرا من أصحاب الحديث، إنما يغدو أحدهم، ومعه محبرة، فيقول: كيف فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وكيف صلى، إياكم أن تجلسوا إلى أهل البدع، فإن الرجل إذا أقبل ببدعة ليس يفلح. (1)
موقفه من الجهمية:
- قال القاضي أبو المطرف بن فطيس: سمعت أبا الحسن المقرئ، سمعت محمد بن جعفر بن محمد بن بيان البغدادي، سمعت إبراهيم الحربي -ولم يكن في وقته مثله- يقول: وقد سئل عن الاسم والمسمى: لي مذ أجالس أهل العلم
_________
(1) السير (13/ 358).
(4/410)
سبعون سنة، ما سمعت أحدا منهم يتكلم في الاسم والمسمى. (1)
- قال أبو ذر الهروي سمعت أبا طاهر المخلص سمعت أبي: سمعت إبراهيم الحربي، وكان وعدنا أن يمل علينا مسألة في الاسم والمسمى، وكان يجتمع في مجلسه ثلاثون ألف محبرة، وكان إبراهيم مقلا، وكانت له غرفة، يصعد، فيشرف منها على الناس، فيها كوة إلى الشارع، فلما اجتمع الناس، أشرف عليها، فقال لهم: قد كنت وعدتكم أن أملي عليكم في الاسم والمسمى، ثم نظرت فإذا لم يتقدمني في الكلام فيها إمام يقتدى به، فرأيت الكلام فيه بدعة، فقام الناس، وانصرفوا، فلما كان يوم الجمعة، أتاه رجل، وكان إبراهيم لا يقعد إلا وحده، فسأله عن هذه المسألة، فقال، ألم تحضر مجلسنا بالأمس؟ قال: بلى. فقال: أتعرف العلم كله؟ قال: لا. قال: فاجعل هذا مما لم تعرف. (2)
موقفه من القدرية:
- جاء في السير عن إبراهيم بن إسحاق قال: أجمع عقلاء كل ملة أنه من لم يجر مع القدر لم يتهنأ بعيشه. (3)
_________
(1) السير (13/ 359).
(2) السير (13/ 361).
(3) سير أعلام النبلاء (13/ 367).
(4/411)
أحمد بن أصرم (1) (285 هـ)
أحمد بن أصرم بن خزيمة بن عباد بن عبد الله بن حسان بن الصحابي عبد الله بن مغفل. حدث عن أحمد بن حنبل وابن معين وعبد الأعلى بن حماد. روى عنه أبو عوانة في صحيحه وابن أبي حاتم والقاسم بن أبي صالح. أثنى عليه أهل العلم لتمسكه بالسنة ودفاعه عنها. قال ابن أبي حاتم: كتبت عنه مع أبي، وسمعت موسى بن اسحاق القاضي يعظم شأنه، ويرفع منزلته. توفي سنة خمس وثمانين ومائتين.
موقفه من المبتدعة:
- وقال صالح بن أحمد الحافظ: كان ثبتا، شديدا على أصحاب البدع. (2)
محمد بن وَضَّاح (3) (286 هـ)
الإمام الحافظ محدث الأندلس مع بقي، أبو عبد الله محمد بن وضاح بن بَزِيع المَرْوَانِي، مولى صاحب الأندلس عبد الرحمن بن معاوية الداخل. ولد سنة تسع وتسعين ومائة بقرطبة. وسمع يحيى بن يحيى ومحمد بن خالد بالأندلس وإسماعيل بن أبي أويس وأصبغ بن الفرج، وزهير بن عباد،
_________
(1) السير (13/ 384) وتاريخ بغداد (4/ 44) وطبقات الحنابلة (1/ 22).
(2) السير (13/ 385).
(3) تذكرة الحفاظ (2/ 646 - 648) وميزان الاعتدال (4/ 59) والوافي بالوفيات (5/ 174) واللسان (5/ 416 - 417) وشذرات الذهب (2/ 194) والسير (13/ 445 - 446).
(4/412)
وحرملة، ويعقوب بن كاسب وطبقتهم. وقيل إنه ارتحل قبل ذلك في حياة آدم بن أبي إياس فلم يسمع شيئا وقد ارتحل إلى العراق والشام ومصر، وجمع فأوعى. روى عنه أحمد بن خالد الجباب، وقاسم بن أصبغ، ومحمد بن أيمن وأحمد بن عبادة، ومحمد بن المسور، وخلق. قال ابن الفرضي: كان عالما بالحديث، بصيرا بطرقه وعلله، كثير الحكاية عن العباد، ورعا زاهدا، صبورا على نشر العلم، متعففا، نفع الله أهل الأندلس به، وكان ابن الجباب يعظمه، ويصف عقله وفضله ولا يقدم عليه أحدا، غير أنه ينكر رده لكثير من الحديث. قال: وله خطأ كثير محفوظ عنه، ويغلط ويصحف ولا علم له بالعربية ولا بالفقه. وقال أيضا: رحل إلى المشرق رحلتين فسمع في الثانية خلقا كثيرا من البغداديين والكوفيين والبصريين والشاميين والمصريين والقزوينيين، وعدة شيوخه مائة وستون رجلا، وبه وببقي بن مخلد صارت الأندلس دار حديث.
توفي رحمه الله سنة ست وثمانين ومائتين.
موقفه من المبتدعة:
هذا الإمام الكبير، كان له الأثر البالغ في الأوساط العلمية في عصره، وبعده، واتخذ الناس كتابه مرجعا في دفع البدع. وقد نقل العالم الكبير أبو إسحاق الشاطبي الشيء الكثير من كتابه 'الحوادث والبدع' ومن غيره مما نقله هذا الإمام عن أئمة السلف، وخصوصا مالك وأصحابه. وكذلك شيخ
(4/413)
الإسلام ابن تيمية. (1)
وله رحمه الله في العقيدة السلفية:
1 - 'ما جاء في البدع' وقد طبع مرارا ولله الحمد. وأحسن هذه الطبعات بتحقيق بدر بن عبد الله البدر. (2)
2 - 'النظر إلى الله' مخطوط في مكتبة حسن حسني. (3)
موقفه من التثويب:
- قال ابن وضاح: وإنما أحدث هذا بالعراق.
قلت (4) لابن وضاح: من أول من أحدثه؟ فقال: لا أدري، قلت له: فهل يعمل به بمكة أو بالمدينة أو بمصر أو غيرها من الأمصار؟ فقال: ما سمعته إلا عند بعض الكوفيين والإباضيين، وكان بعضهم يثوب، عند المغرب، كان يؤذن إذا غابت الشمس ثم يؤخر الصلاة حتى تظهر النجوم ثم يثوب وبعضهم يؤذن إذا غابت الحمرة ويؤخر الصلاة حتى يغيب البياض ثم يثوب ويصلي، وبعضهم يؤذن إذا زالت الشمس ويؤخر الصلاة ثم يثوب ويصلي، وكان وكيع هو يفعل ذلك عند صلاة العشاء. (5)
- قال ابن وضاح: فعليكم بالاتباع لأئمة الهدى المعروفين، فقد قال
_________
(1) انظر درء التعارض (1/ 19).
(2) لعل هذا هو الصواب في تسمية هذا الكتاب، لا ما سماه به شيخ الإسلام، فإن 'الحوادث والبدع' للإمام الطرطوشي.
(3) انظر الأعلام للزركلي (7/ 133).
(4) لعل القائل: هو أصبغ بن مالك راوي الكتاب عنه.
(5) ابن وضاح (89).
(4/414)
بعض من مضى: كم من أمر هو اليوم معروف عند كثير من الناس كان منكرا عند من مضى ومتحبب إليه بما يبغضه عليه ومتقرب إليه بما يبعده منه، وكل بدعة عليها زينة وبهجة. (1)
- وقال محمد بن وضاح: إنما هلكت بنو إسرائيل على يدي قرائهم وفقهائهم، وستهلك هذه الأمة على يدي قرائهم وفقهائهم. (2)
- قال أصبغ بن مالك: وسمعت محمد بن وضاح يقول غير مرة: كتاب الله قد بدل، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد غيرت، ودماء قد سفكت، وكرائم قد سبيت، وحدود قد عطلت، وترأس أهل الباطل، وتكلم في الدين من ليس من أهل الدين، وخاف البريء وأمن النطيف، وحكم في أمر المسلمين وسود فيهم من هو مسخوط فيهم. (3)
موقفه من الجهمية:
- قال ابن وضاح: ولا يسع أحدا أن يقول: كلام الله قط حتى يقول: ليس بخالق ولا مخلوق ولا ينفعه علم حتى يعلم ويوقن أن القرآن كلام الله ليس بخالق ولا مخلوق، منه عز وجل بدأ وإليه يعود، ومن قال بغير هذا فقد كفر بالله العظيم. (4)
_________
(1) ابن وضاح (92).
(2) ابن وضاح (126).
(3) ابن وضاح (175).
(4) رياض الجنة بتخريج أصول السنة لابن أبي زمنين (86).
(4/415)
ابن أبي عاصم (1) (287 هـ)
أبو بكر أحمد بن عمرو بن الضحاك بن مخلد الشيباني الزاهد حافظ كبير، إمام بارع متبع للآثار كثير التصانيف قدم أصبهان على قضائها، ونشر بها علمه. قالت بنته عاتكة: ولد أبي في شوال سنة ست ومائتين، فسمعته يقول: ما كتبت الحديث حتى صار لي سبع عشرة سنة، وذلك أني تعبدت وأنا صبي، فسألني إنسان عن حديث، فلم أحفظه، فقال لي: ابن أبي عاصم لا تحفظ حديثا؟ فاستأذنت أبي، فأذن لي، فارتحلت. وأمه هي أسماء بنت الحافظ موسى بن إسماعيل التبوذكي فسمع من جده التبوذكي، ومن والده، قاضي حمص. شيوخه: أبو الوليد الطيالسي، وعمرو بن مرزوق، ومحمد بن كثير وهشام بن عمار وأبو بكر بن أبي شيبة، وعبد الأعلى بن حماد وطبقتهم. حدث عنه ابنته أم الضحاك عاتكة، والقاضي أبو أحمد العسال وأحمد بن بندار الشعار، وأبو الشيخ وأبو بكر القباب، وأبو عبد الله محمد بن أحمد الكسائي وغيرهم. قال أحمد بن محمد المديني البزاز: قدمت البصرة وأحمد بن حنبل حي، فسألت عن أفقههم، فقالوا: ليس بالبصرة أفقه من أحمد بن عمرو بن أبي عاصم. ومن تصانيفه: 'المسند الكبير' نحو خمسين ألف حديث. والآحاد والمثاني، نحو عشرين ألف حديث، و'المختصر من المسند'. مات رحمه الله سنة سبع وثمانين ومائتين ليلة الثلاثاء لخمس خلون من ربيع الأول.
موقفه من المبتدعة والرافضة والجهمية والخوارج والمرجئة:
_________
(1) الجرح والتعديل (2/ 67) وتذكرة الحفاظ (2/ 640 - 641) والوافي بالوفيات (7/ 269 - 270) واللسان (6/ 349 - 350) وشذرات الذهب (2/ 195 - 196) والسير (13/ 430 - 439).
(4/416)
كتابه 'السنة' ودفاعه عن العقيدة السلفية:
وهو من أكبر المراجع في العقيدة السلفية، رد فيه على جميع المبتدعة بما فيهم الخوارج والقدرية والجهمية والمرجئة والمعتزلة وغيرهم وقد كتب الله ولله الحمد أن يطبع وأن يشرف المكتبات الإسلامية العامة والخاصة وكان من حسن حظه أن تولى تخريج أحاديثه -إلا أنه لم يُتمَّه- عالم سلفي لم ينجسه بتعاليق باطلة مغرضة كما وقع لغيره من الكتب التي تولى تحقيقها مبتدعة هذا العصر، فياليت السلفيين ينتبهون من نومهم ويتسابقون إلى تحقيق مثل هذه الكتب، فجزى الله خيرا شيخنا الألباني على ما قام به، وقد قام الشيخ باسم الجوابرة بتحقيق الكتاب تحقيقا علميا وأتم تخريج أحاديثه وطبع في جزءين فجزاه الله خيرا.
- قال أبو بكر بن أبي عاصم رحمه الله: سألت عن السنة ما هي؟ والسنة اسم جامع لمعان كثيرة في الأحكام وغير ذلك ومما اتفق أهل العلم على أن نسبوه إلى السنة القول بإثبات القدر، وإن الاستطاعة مع الفعل للفعل والإيمان بالقدر خيره وشره حلوه ومره وكل طاعة من مطيع فبتوفيق الله له، وكل معصية من عاص فبخذلان الله السابق منه وله، والسعيد من سبقت له السعادة، والشقي من سبقت له الشقاوة، والأشياء غير خارجة من مشيئة الله وإرادته، وأفعال العباد من الخير والشر فعل لهم، خلق لخالقهم، والقرآن كلام الله تبارك وتعالى تكلم الله به ليس بمخلوق ومن قال مخلوق ممن قامت عليه الحجة فكافر بالله العظيم، ومن قال من قبل أن تقوم عليه الحجة فلا شيء عليه، والإيمان قول وعمل يزيد وينقص وإثبات رؤية الله عزوجل يراه أولياؤه
(4/417)
في الآخرة نظر عيان كما جاءت الأخبار، وأبو بكر الصديق أفضل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعده وهو الخليفة خلافة النبوة بويع يوم بويع وهو أفضلهم وهو أحقهم بها، ثم عمر بن الخطاب بعده على مثل ذلك، ثم عثمان بن عفان بعده على مثل ذلك، ثم علي بعده على مثل ذلك رحمة الله عليهم جميعا.
وأبو بكر الصديق أعلمهم عندي بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأفضلهم وأزهدهم وأشجعهم وأسخاهم. ومن الدليل على ذلك قوله في أهل الردة وقد نازله أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن يقبل منهم بعضا فأبى إلا كل ما أوجب الله عليهم أو يقاتلهم ورأى أن الكفر ببعض التنزيل يحل دماءهم فعزم على قتالهم، فعلم أنه الحق. ومن شجاعته كونه مع النبي عليه السلام في الغار وهجرته معه معرضا نفسه لقريش وسائر العرب مع قصد المشركين وطلبهم له وما بذلوا فيه من الرغائب، ثم ما ظهر في رأيه ونبله وسخائه أن كان ماله في الجاهلية أربعين ألف أوقية ففرق كله في الإسلام. ومن زهده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ندب إلى الصدقة فجاء أبو بكر بجميع ماله إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما أبقيت لأهلك؟ قال: الله ورسوله. (1)
ولم يفعل هذا أحد منهم، وقال في قصة الكتاب الذي أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكتب لهم: يأبى الله ويدفع بالمؤمنين، وسماه الله من السماء الصديق وبويع واتفق المسلمون على بيعته. وعلموا أن الصلاح فيها فسموه خليفة رسول الله وخاطبوه بها. ثم عمر بن الخطاب رحمة الله عليه على مثل سبيل أبي بكر، وما
_________
(1) أخرجه: أبو داود (2/ 312 - 313/ 1678) والترمذي (5/ 574/3675) وقال: "هذا حديث حسن صحيح".
(4/418)
وصفنا به مع شدته واستقامته وسياسته. ومن ذلك قوله لعيينة والأقرع: إنما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتألفكما والإسلام قليل. قد أغنى الله عنكما، وذكر سير عمر وسياسته كثر. ثم عثمان بن عفان من أعلمهم وأشجعهم وأسخاهم وأجودهم جودا، ومن علمه أن عليا وعبد الرحمن رحمة الله عليهما أشارا في إقامة الحد على أمة حاطب فرأى عمر ذلك معهم. قال: يا أبا عمرو ما تقول؟ قال: لا أرى عليها حدا لأنها تستهل (أو تستحل) به وإنما الحد على من عمله. فقال عمر بعد أن فهم ذلك عنه: صدقت والله إنما الحد على من عمله. وتزوج ابنتي النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يجتمع ذلك لأحد قط، ثم أذهنهم ذهنا وأظهرهم عبادة حفظ القرآن على كبر سنه في قلة مدة فكان يقوم به في ليلة واحدة (1). ومن سخائه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ندب إلى جيش العسرة فجاء بألف دينار ثم ألف ثم ألف ثم جهز جيش العسرة بأجمع جهازهم. (2)
ثم علي رحمة الله عليه مثل ذلك في كماله وزهده وعلمه وسخائه. ومن زهده أنه اشتغل في سنة أربعين ألف دينار ففرقها وقميص كرابيس سنبلاني. قال محمد بن كعب القرظي: سمعت عليا يقول: بلغت صدقة مالي أربعين ألف دينار. ومن فضائله التي أبانه الله بها تزويجه بفاطمة وولده الحسن والحسين رحمة الله عليهما وحمله باب خيبر وقتله مرحبا وأشياء يكثر ذكرها.
_________
(1) صح النهي عن قراءة القرءان في أقل من ثلاث، وما يروى عن بعض الأئمة من قراءته في أقل من ثلاث يعوزه صحة السند، وعلى فرض صحة السند فالعبرة بموافقة السنة. والله أعلم.
(2) أخرجه: أحمد (1/ 59) والترمذي (5/ 583 - 584/ 3699) وقال: "حسن صحيح غريب"، والنسائي ... (6/ 545 - 546/ 3611) وصححه ابن حبان (15/ 348/6916) وهو عند البخاري معلقا (5/ 510/2778).
(4/419)
ثم لكل واحد من أهل الشورى فضائل يكثر ذكرها.
ومما قد ينسب إلى السنة وذلك عندي إيمان نحو عذاب القبر. ومنكر ونكير. والشفاعة. والحوض. والميزان. وحب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعرفة فضائلهم وترك سبهم والطعن عليهم وولايتهم والصلاة على من مات من أهل التوحيد. والترحم على من أصاب ذنبا والرجاء للمذنبين، وترك الوعيد ورد العباد إلى مشيئة الله والخروج من النار يخرج الله من يشاء منها برحمته. والصلاة خلف كل أمير جائر. والصلاة في جماعة والغزو مع كل أمير. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتعاون. (1)
- وكان ابن أبي عاصم يقول: لا أحب أن يحضر مجلسي مبتدع ولا مدع ولا طعان ولا لعان ولا فاحش ولا بذيء، ولا منحرف عن الشافعي وأصحاب الحديث. (2)
موقفه من القدرية:
- أورد في كتابه القيم 'السنة' أبوابا في ذكر القدر والرضا به، والاحتجاج على القدرية ببعض النصوص، جريا على منهج أئمة أهل السنة في الرد على الفرق الضالة المنحرفة عن الجادة، من لدن الصحابة والتابعين وهلم جرّا. (3)
_________
(1) السنة لابن أبي عاصم (2/ 645 - 647).
(2) البداية والنهاية (11/ 90).
(3) السنة له (1/ 55 وما بعدها).
(4/420)
المعتضد بالله (1) (289 هـ)
الخليفة، أبو العباس، أحمد بن الموفق بالله ولي العهد أبي أحمد طلحة بن المتوكل جعفر بن المعتصم محمد بن الرشيد الهاشمي العباسي. ولد في أيام جده سنة اثنتين وأربعين ومائتين. ودخل دمشق سنة إحدى وسبعين لحرب ابن طولون، واستخلف بعد عمه المعتمد في رجب سنة تسع. وكان ملكا مهيبا، شجاعا، جبارا شديد الوطأة، من رجال العالم يقدم على الأسد وحده، وكان أسمر نحيفا، معتدل الخلق، كامل العقل، وكان ذا سياسة عظيمة. قال: والله ما سفكت دما حراما منذ وليت الخلافة. وقد حارب الزنج وله مواقف مشهودة، وفي دولته سكنت الفتنة وكان فتاه بدر على شرطته، وعبيد الله بن سليمان على وزارته ومحمد بن شاه على حرسه، وأسقط المكس، ونشر العدل، وقلل من الظلم، وكان يسمى السفاح الثاني، أحيا رميم الخلافة التي ضعفت من مقتل المتوكل. حارب القرامطة، وغيرهم من الفرق، وكل من خرج عليه .. تزوج قطر الندى أسماء بنت خمارويه بن أحمد بن طولون. ومات في يوم الجمعة تاسع عشر شهر ربيع الآخر وقيل مات ليلة الاثنين لسبع بقين من شهر ربيع الآخر سنة تسع وثمانين ومائتين وكانت خلافته أقل من عشر سنين وعاش ستا وأربعين سنة.
موقفه من المبتدعة:
- جاء في البداية والنهاية: وفيها -أي سنة تسع وسبعين ومائتين-
_________
(1) تاريخ بغداد (4/ 403 - 407) والمنتظم (13/ 7 - 8) والكامل لابن الأثير (7/ 444 - 452) والوافي بالوفيات (6/ 428 - 430) والبداية والنهاية (11/ 70 - 92) وشذرات الذهب (2/ 199 - 201) والسير (13/ 463 - 479).
(4/421)
نودي ببغداد أن لا يمكن أحد من القصاص والطرقية والمنجمين ومن أشبههم من الجلوس في المساجد ولا في الطرقات، وأن لا تباع كتب الكلام والفلسفة والجدل بين الناس. وذلك بهمة أبي العباس المعتضد سلطان الإسلام. (1)
" التعليق:
جزى الله خيرا هذا الخليفة الذي أعطى هذا الأمر السامي الذي قضى به على كتب البدع. وأما اليوم فقد حظيت هذه الكتب بالتعظيم والتقدير والرواج الكبير. إذ لا توجد مكتبة صغيرة ولا كبيرة، عامة أو خاصة إلا وهي مليئة بهذه الكتب إلا ما شاء الله، بل اتخذت منهجا يدرس للناشئة الغافلة. وأما القرآن وعلومه فخص بأصحاب القبور والتمائم والحروز. وأما الحديث وعلومه فلا ذكر له بين الناس. هذا هو الواقع السائد الآن في العالم الإسلامي إلا ما شاء الله.
موقفه من المشركين:
- جاء في البداية والنهاية: وقد أورد ابن الجوزي بإسناده أن المعتضد اجتاز في بعض أسفاره بقرية فيها مقثاة فوقف صاحبها صائحا مستصرخا بالخليفة، فاستدعى به فسأله عن أمره فقال: إن بعض الجيش أخذوا لي شيئا من القثاء وهم من غلمانك. فقال: أتعرفهم؟ فقال نعم. فعرضهم عليه فعرف منهم ثلاثة فأمر الخليفة بتقييدهم وحبسهم، فلما كان الصباح نظر الناس ثلاثة أنفس مصلوبين على جادة الطريق، فاستعظم الناس ذلك واستنكروه
_________
(1) البداية والنهاية (11/ 69).
(4/422)
وعابوا ذلك على الخليفة وقالوا: قتل ثلاثة بسبب قثاء أخذوه؟ فلما كان بعد قليل أمر الخواص -وهو مسامره- أن ينكر عليه ذلك ويتلطف في مخاطبته في ذلك والأمراء حضور، فدخل عليه ليلة وقد عزم على ذلك ففهم الخليفة ما في نفسه من كلام يريد أن يبديه، فقال له: إني أعرف أن في نفسك كلاما فما هو؟ فقال: يا أمير المؤمنين وأنا آمن؟ قال: نعم. قلت له: فإن الناس ينكرون عليك تسرعك في سفك الدماء. فقال: والله ما سفكت دما حراما منذ وليت الخلافة إلا بحقه. فقلت له: فعلام قتلت أحمد بن الطيب وقد كان خادمك ولم يظهر له خيانة؟ فقال: ويحك إنه دعاني إلى الإلحاد والكفر بالله فيما بيني وبينه، فلما دعاني إلى ذلك قلت له: يا هذا أنا ابن عم صاحب الشريعة، وأنا منتصب في منصبه فأكفر حتى أكون من غير قبيلته. فقتلته على الكفر والزندقة. فقلت له: فما بال الثلاثة الذين قتلتهم على القثاء؟ فقال: والله ما كان هؤلاء الذين أخذوا القثاء، وإنما كانوا لصوصا قد قتلوا وأخذوا المال فوجب قتلهم، فبعثت فجئت بهم من السجن فقتلتهم وأريت الناس أنهم الذين أخذوا القثاء، وأردت بذلك أن أرهب الجيش لئلا يفسدوا في الأرض ويتعدوا على الناس ويكفوا عن الأذى. ثم أمر بإخراج أولئك الذين أخذوا القثاء فأطلقهم بعدما استتابهم وخلع عليهم وردهم إلى أرزاقهم. (1)
- روى أبو العباس بن سريج، عن إسماعيل القاضي قال: دخلت مرة على المعتضد، فدفع إلي كتابا، فنظرت فيه، فإذا قد جمع له فيه الرخص من
_________
(1) البداية (11/ 92 - 93) والسير (13/ 464)، وأصل الخبر في المنتظم (12/ 307 - 308).
(4/423)
زلل العلماء، فقلت: مصنف هذا زنديق. فقال: ألم تصح هذه الأحاديث؟ قلت: بلى، ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة، ومن أباح المتعة لم يبح الغناء، وما من عالم إلا وله زلة، ومن أخذ بكل زلل العلماء ذهب دينه. فأمر بالكتاب فأحرق. (1)
الذهبي يحكي أخبار الفتن من عهد الصحابة إلى عهد المعتضد: وفي سنة ثمان وسبعين: كان أول شأن القرامطة.
ولا ريب أن أول وهن على الأمة قتل خليفتها عثمان صبرا، فهاجت الفتنة، وجرت وقعة الجمل بسببها، ثم وقعة صفين، وجرت سيول الدماء في ذلك. ثم خرجت الخوارج، وكفرت عثمان وعليا، وحاربوا، ودامت حروب الخوارج سنين عدة. ثم هاجت المسودة بخراسان، ومازالوا حتى قلعوا دولة بني أمية، وقامت الدولة الهاشمية بعد قتل أمم لا يحصيهم إلا الله. ثم اقتتل المنصور وعمه عبد الله. ثم خذل عبد الله، وقتل أبو مسلم صاحب الدعوة. ثم خرج ابنا حسن، وكادا أن يتملكا، فقتلا. ثم كان حرب كبير بين الأمين والمأمون، إلى أن قتل الأمين. وفي أثناء ذلك قام غير واحد يطلب الإمامة: فظهر بعد المئتين بابك الخرمي زنديق بأذربيجان، وكان يضرب بفرط شجاعته الأمثال، فأخذ عدة مدائن، وهزم الجيوش إلى أن أسر بحيلة، وقتل.
ولما قتل المتوكل غيلة، ثم قتل المعتز، ثم المستعين والمهتدي، وضعف شأن الخلافة توثب ابنا الصفار إلى أن أخذا خراسان، بعد أن كانا يعملان في
_________
(1) السير (13/ 465).
(4/424)
النحاس، وأقبلا لأخذ العراق وقلع المعتمد.
وتوثب طرقي داهية بالزنج على البصرة، وأباد العباد ومزق الجيوش، وحاربوه بضع عشرة سنة إلى أن قتل. وكان مارقا، بلغ جنده مئة ألف. فبقي يتشبه بهؤلاء كل من في رأسه رئاسة، ويتحيل على الأمة ليرديهم في دينهم ودنياهم، فتحرك بقرى الكوفة رجل أظهر التعبد والتزهد، وكان يسف الخوص ويؤثر، ويدعو إلى إمام أهل البيت، فتلفق له خلق وتألهوه إلى سنة ست وثمانين، فظهر بالبحرين أبو سعيد الجنابي، وكان قماحا، فصار معه عسكر كبير، ونهبوا وفعلوا القبائح، وتزندقوا، وذهب الأخوان يدعوان إلى المهدي بالمغرب، فثار معهما البربر، إلى أن ملك عبد الله الملقب بالمهدي غالب المغرب، وأظهر الرفض، وأبطن الزندقة، وقام بعده ابنه، ثم ابن ابنه، ثم تملك المعز وأولاده مصر والمغرب واليمن والشام دهرا طويلا فلا حول ولا قوة إلا بالله.
وفي سنة ثمانين: أخذ المعتضد محمد بن سهل من قواد الزنج فبلغه أنه يدعو إلى هاشمي، فقرره، فقال: لو كان تحت قدمي ما رفعتها عنه. فقتله.
وعاثت بنو شيبان، فسار المعتضد، فلحقهم بالسن، فقتل وغرق، ومزقهم، وغنم العسكر من مواشيهم ما لا يوصف، حتى أبيع الجمل بخمسة دراهم، وصان نساءهم وذراريهم، ودخل الموصل، فجاءته بنو شيبان، وذلوا فأخذ منهم رهائن، وأعطاهم نساءهم، ومات في السجن المفوض إلى الله، وقيل: كان المعتضد ينادمه في السر.
قيل: كان لتاجر على أمير مال، فمطله ثم جحده، فقال له صاحب له: قم معي، فأتى بي خياطا في مسجد. فقام معنا إلى الأمير، فلما رآه، هابه،
(4/425)
ووفاني المال، فقلت للخياط: خذ مني ما تريد، فغضب، فقلت له: فحدثني عن سبب خوفه منك، قال: خرجت ليلة، فإذا بتركي قد صاد امرأة مليحة، وهي تتمنع منه وتستغيث، فأنكرت عليه، فضربني، فلما صليت العشاء جمعت أصحابي، وجئت بابه، فخرج في غلمانه، وعرفني، فضربني وشجني، وحملت إلى بيتي، فلما تنصف الليل، قمت فأذنت في المنارة، لكي يظن أن الفجر طلع، فيخلي المرأة، لأنها قالت: زوجي حالف علي بالطلاق أنني لا أبيت عن بيتي، فما نزلت حتى أحاط بي بدر وأعوانه، فأدخلت على المعتضد، فقال: ما هذا الأذان؟ فحدثته بالقصة، فطلب التركي، وجهز المرأة إلى بيتها، وضرب التركي في جوالق حتى مات، ثم قال لي: أنكر المنكر، وما جرى عليك فأذن كما أذنت، فدعوت له، وشاع الخبر، فما خاطبت أحدا في خصمه إلا أطاعني وخاف.
وفيها: ولد بسلمية القائم محمد بن المهدي العبيدي، الذي تملك هو وأبوه المغرب ...
وفيها: سار المعتضد إلى الدينور ورجع. ثم قصد الموصل لحرب حمدان ابن حمدون، جد بني حمدان، وكانت الأعراب والأكراد قد تحالفوا وخرجوا، فالتقاهم المعتضد، فهزمهم، فكان من غرق أكثر. ثم قصد ماردين، فهرب منه حمدان، فحاصر ماردين، وتسلمها، ثم ظفر بحمدان، فسجنه، ثم حاصر قلعة للأكراد وأميرهم شداد، فظفر به، وهدمها. وهدم دار الندوة بمكة، وصيرها مسجدا.
وفي سنة اثنتين وثمانين: أبطل المعتضد وقيد النيران وشعار النيروز ...
(4/426)
وفيها: قتل خمارويه صاحب مصر والشام غلمانه، لأنه راودهم، ثم أخذوا، وصلبوا، وتملك ابنه جيش، فقتلوه بعد يسير، وملكوا أخاه هارون، وقرر على نفسه أن يحمل إلى المعتضد في العام ألف ألف دينار، وخمس مئة ألف دينار.
وفيها: قتل المعتضد عمه محمدا، لأنه بلغه أنه يكاتب خمارويه.
وفي سنة ثلاث وثمانين ومئتين: سار المعتضد إلى الموصل، لأجل هارون الشاري، وكان قد عاث وأفسد، وامتدت أيامه، فقال الحسين بن حمدان للمعتضد: إن جئتك به فلي ثلاث حوائج. قال: سمها. قال: تطلق أبي، والحاجتان: أذكرهما إذا أتيت به. قال: لك ذلك، قال: وأريد أن أنتقي ثلاث مئة بطل. قال: نعم. ثم خرج الحسين في طلب هارون، فضايقه في مخاضةٍ، والتقوا، فانهزم أصحاب هارون، واختفى هو، ثم دل عليه أعراب، فأسره الحسين وقدم به، وخلع المعتضد على الحسين، وطوقه وسوره، وعملت الزينة، وأركب هارون فيلا، وازدحم الخلق، حتى سقط كرسي جسر بغداد، وغرق خلق ووصلت تقادم الصفار منها مئتا حمل مال، وكتبت الكتب إلى الأمصار بتوريث ذوي الأرحام.
وفيها: غلب رافع بن هرثمة على نيسابور، وخطب بها لمحمد بن زيد العلوي، فأقبل الصفار، وحاصره، ثم التقوا، فهزمه الصفار، وساق خلفه إلى خوارزم، فأسر رافعا، وقتله، وبعث برأسه إلى المعتضد، وليس هو بولد لهرثمة ابن أعين، بل ابن زوجته.
من زلاته:
قال ابن جرير: وفي سنة أربع وثمانين ومائتين: عزم المعتضد على لعنة
(4/427)
معاوية على المنابر، فخوفه الوزير، فلم يلتفت، وحسم مادة اجتماع الشيعة وأهل البيت، ومنع القصاص من الكلام جملة، وتجمع الخلق يوم الجمعة لقراءة ما كتب في ذلك، وكان من إنشاء الوزير، فقال يوسف القاضي: راجع أمير المؤمنين. فقال: يا أمير المؤمنين تخاف الفتنة؟ فقال: إن تحركت العامة وضعت السيف فيهم. قال: فما تصنع بالعلوية الذين هم في كل قطر قد خرجوا عليك؟ فإذا سمع الناس هذا من مناقبهم كانوا إليهم أميل وأبسط ألسنة. فأعرض المعتضد عن ذلك. وعقد المعتضد لابنه علي المكتفي، فصلى بالناس يوم النحر.
وفي سنة ست: سار المعتضد بجيوشه، فنازل آمد، وقد عصى بها ابن الشيخ، فطلب الأمان، فآمنه وفي وسط العام جاء الحمل من الصفار، فمن ذلك أربعة آلاف ألف درهم.
وفيها: تحارب الصفار وابن أسد صاحب سمرقند، وجرت أمور ثم ظفر ابن أسد بالصفار أسيرا فرفق به، واحترمه، وجاءت رسل المعتضد تحث في إنفاذه، فنفذ، وأدخل بغداد أسيرا على جمل، وسجن بعد مملكة العجم عشرين سنة. ومبدؤه: كان هو وأخوه يعقوب صانعين في ضرب النحاس، وقيل: بل كان عمرو يكري الحمير، فلم يزل مكاريا حتى عظم شأن أخيه يعقوب، فترك الحمير، ولحق به، وكان الصفار يقول: لو شئت أن أعمل على نهر جيحون جسرا من ذهب لفعلت، وكان مطبخي يحمل على ست مئة جمل، وأركب في مئة ألف، ثم صيرني الدهر إلى القيد والذل. فيقال: إنه خنق عند وفاة المعتضد. وبنى المعتضد على البصرة سورا وحصنها.
(4/428)
وظهر بالبحرين رأس القرامطة أبو سعيد الجنابي، وكثرت جموعه، وانضاف إليه بقايا الزنج، وكان كيالا بالبصرة، فقيرا يرفوا الأعدال، وهم يستخفون به، ويسخرون منه، فآل أمره إلى ما آل، وهزم عساكر المعتضد مرات، وفعل العظائم، ثم ذبح في حمام قصره. فخلفه ابنه سليمان الذي أخذ الحجر الأسود، وقتل الحجيج حول الكعبة، وهو جد أبي علي الذي غلب على الشام، وهلك بالرملة في سنة خمس وستين وثلاث مئة.
وفي سنة سبع: استفحل شأن القرامطة، وأسرفوا في القتل والسبي، والتقى الجنابي وعباس الأمير، فأسره الجنابي، وأسر عامة عسكره، ثم قتل الجميع سوى عباس، فجاء إلى المعتضد وحده في أسوء حال.
ووقع الفناء بأذربيجان، حتى عدمت الأكفان جملة، فكفنوا في اللبود.
واعتل المعتضد في ربيع الآخر، ثم تماثل، وانتكس، فمات في الشهر، وقام المكتفي لثمان بقين من الشهر، وكان غائبا بالرقة، فنهض بالبيعة له الوزير القاسم بن عبيد الله.
وعن وصيف الخادم، قال: سمعت المعتضد يقول عند موته:
تمتع من الدنيا فإنك لا تبقى ... وخذ صفوها ما إن صفت ودع الرنقا
ولا تأمنن الدهر إني أمنته ... فلم يبق لي حالا ولم يرع لي حقا
قتلت صناديد الرجال فلم أدع ... عدوا ولم أمهل على ظنة خلقا
وأخليت دور الملك من كل بازل ... وشتتهم غربا ومزقتهم شرقا
فلما بلغت النجم عزا ورفعة ... ودانت رقاب الخلق أجمع لي رقا
رماني الردى سهما فأخمد جمرتي ... فها أنا ذا في حفرتي عاجلا ملقى
(4/429)
فأفسدت دنياي وديني سفاهة ... فمن ذا الذي مني بمصرعه أشقى
فيا ليت شعري بعد موتي ما أرى ... إلى رحمة لله أم ناره ألقى؟ (1)
" التعليق:
قال جامعه: هذا الخليفة كان سيفا مسلولا على الزنادقة بجميع أنواعهم، ففي عهده كانت وقائع الزنج والقرامطة الذين تصدى لهم، والشيعة على اختلاف ألوانهم والجهمية وغيرهم من المبتدعة.
- جاء في السير: السرخسي المسمى أحمد بن محمد، كان مؤدب المعتضد، ثم صار نديمه وصاحب سره ومشورته، وله رئاسة وجلالة كبيرة ...
ثم إن المعتضد انتخى لله، وقتل السرخسي لفلسفته وخبث معتقده، فقيل: إنه تنصل إليه وقال: قد بعت كتب الفلسفة والنجوم والكلام وما عندي سوى كتب الفقه والحديث. فلما خرج، قال المعتضد: والله إني لأعلم أنه زنديق فعل ما زعم رياء. (2)
" التعليق:
هكذا كان يفعل خلفاء بني العباس بالزنادقة الذين زندقتهم الفلسفة وعلومها. وأما بعض أهل هذا الزمان فأمثال هؤلاء الزنادقة هم أحبابهم وأصدقاؤهم، بل بنوا لهذا الإلحاد كليات، وأعطوا لمن تخرج منها شهادات عليا. برزتهم لنشر إلحادهم في كل مكان باسم أنهم دكاترة وأساتذة
_________
(1) السير (13/ 468 - 477).
(2) السير (13/ 449).
(4/430)
جامعيون، ونشروا الإلحاد في البلاد، وسخروا من الطيبين وطردوهم من المدارس والكليات وكل من يشم فيه رائحة الإسلام والتمسك بالسنة يطرد ويبعد سواء كان طالبا أو أستاذا والله المستعان.
موقفه من الخوارج:
- قال ابن كثير: خرج المعتضد من بغداد قاصدا بلاد الموصل لقتال هارون الشاري الخارجي فظفر به وهزم أصحابه وكتب بذلك إلى بغداد، فلما رجع الخليفة إلى بغداد أمر بصلب هارون الشاري وكان صفريا. فلما صلب قال: لا حكم إلا لله ولو كره المشركون. (1)
يحيى بن عمر الكِنَانِي (2) (289 هـ)
يحيى بن عمر بن يوسف بن عامر الإمام شيخ المالكية، أبو زكريا الكناني الأندلسي الفقيه. ولد بالأندلس سنة ثلاث عشرة ومائتين، وهو من أهل جيان. قال ابن الفرضي: ارتحل وسمع بإفريقية من سحنون وأبي زكريا الحفري، وعون بن يوسف صاحب الدراوردي. وسمع بمصر من يحيى بن بكير وحرملة، وبالمدينة من أبي مصعب وطائفة.
وكان حافظا للفروع، ثقة ضابطا لكتبه، وكانت الرحلة إليه في وقته،
_________
(1) البداية والنهاية (11/ 78).
(2) اللسان (6/ 270 - 272) وترتيب المدارك (4/ 357 - 364) والسير (13/ 462 - 463) والديباج المذهب ... (2/ 354) وتاريخ ابن الفرضي (2/ 181) والأعلام (8/ 160) ومعجم المؤلفين (13/ 217).
(4/431)
سكن سوسة في آخر عمره وبها مات. روى عنه سعيد بن عثمان الأعناقي وإبراهيم بن نصر ومحمد بن مسرور وطائفة. قال القاضي أبو الوليد: كان فقيها، حافظا للرأي، ثقة ضابطا لكتبه. قال ابن حارث: كان يحيى متقدما في الحفظ، وسكن القيروان، فشرفت بها منزلته عند العامة والخاصة ورحل الناس إليه لا يروون المدونة والموطأ إلا عنه. قال ابن اللباد: كان من أهل الصيام والقيام، مجاب الدعوة. وقال أبو العباس الأبياني: ما رأيت مثل يحيى بن عمر في علمه وزهده ودعائه وبكائه، فالوصف -والله- يقصر عن ذكر فضله. قال يحيى الكانشي: أنفق يحيى بن عمر في طلب العلم ستة آلاف دينار. من مؤلفاته: 'الرد على الشافعي' و'المنتخبة اختصار المستخرجة' و'الميزان' و'الرؤية' و'الرد على الشكوكية' و'الرد على المرجئة' وغيرها كثير. توفي رحمه الله تعالى في ذي الحجة سنة تسع وثمانين ومائتين، وعمره ست وسبعون سنة.
موقفه من الصوفية:
- جاء في معالم الإيمان: كان هناك مسجد في مكان قرب القيروان يسمى "مسجد السبت" لأن المتصوفة كانوا يجتمعون فيه في كل سبت، ويذكرون فيه الذكر البدعي، وينشدون الأشعار الصوفية ويخشعون بزعمهم. وكان هذا الإمام شديد الإنكار عليهم ويقول: يا قوم هذا القرآن يتلى والأحاديث النبوية ولا متعظ، ويسمع بيتا من شعر فيبكي، هذا عجب.
(4/432)
وتبعه على هذا الانكار العالم المشهور أبو عمران الفاسي القابسي. (1)
- وجاء في الحقيقة التاريخية: إلا أن يحيى بن عمر، اعتبر اجتماعهم للذكر والإنشاد بدعة، وأنكر عليهم الإنكار الشديد، وكان يرى هدم المسجد أنفع من وجوده مع البدعة، وقد ألف كتابا في بدعة مسجد السبت، فتصدى الصوفية لإذايته ومشاغبته في حلقات دروسه. (2)
أبو جعفر حَمْدِيس القطَّان (3) (289 هـ)
أحمد بن محمد أبو جعفر حمديس القطان. قرأ على سحنون بن سعيد، ورحل إلى مصر والمدينة فلقي أصحاب ابن القاسم، وأشهب، وابن وهب وغيرهم. وكان من أهل العلم المعروفين بإظهار السنة، والذين لا يخافون في الله لومة لائم، مع الورع والتقوى والصلاح. وقال ابن حارث: كان علما في الفضل، ومثلا في الخير، مع شدة في مذهب أهل السنة. وقال أبو عياش: كان حمديس ورعا، كاملا ثقة مأمونا. قال أبو بكر المالكي: كان فضله أكثر من أن يحمله هذا الكتاب. توفي سنة تسع وثمانين ومائتين.
موقفه من المبتدعة:
- جاء في المعالم: وكان لا يسلم على أحد من أهل الأهواء، كثير
_________
(1) معالم الإيمان (2/ 238).
(2) الحقيقة التاريخية (153).
(3) معالم الإيمان (2/ 201) ورياض النفوس (1/ 488 - 490) وترتيب المدارك (1/ 518 - 520).
(4/433)
التجنب للسلطان. (1)
- وقيل لحمديس: فلو أن إماما دعا إلى البدعة وأمر بها وبات بالدار؟ قال نجاهده. (2)
موقف السلف من الجنيد (289 هـ)
بيان صوفيته:
قدمنا أن علماء السلف كانوا ولله الحمد سدا منيعا في وجوه المبتدعة، وما تركوا لهم كبيرة ولا صغيرة إلا وكسروها وأحرقوها وهذا الموقف الذي سنذكره منها.
- جاء في تلبيس إبليس: قال السراج: وكم من مرة قد أخذ الجنيد مع علمه، وشهد عليه بالكفر والزندقة، وكذلك أكثرهم. (3)
- ومن سقطاته ما جاء في تلبيس إبليس عنه قال: ما أخذنا التصوف عن القيل والقال، لكن عن الجوع وترك الدنيا وقطع المألوفات والمستحسنات، لأن التصوف من صفاء المعاملة مع الله سبحانه وتعالى وأصله التفرق عن الدنيا. (4)
_________
(1) معالم الإيمان (2/ 202).
(2) معالم الإيمان (2/ 204).
(3) التلبيس (210).
(4) التلبيس (208).
(4/434)
" التعليق:
هذا ما نقل عنه وكم له من الأقوال لو أردنا أن نستقصي كلامه الباطل لطال بنا المقال. وبالمقابل تجد عنده كلاما من أروع ما يكون، من قرأه مجردا عن بدعهم، يحسبهم من علماء السلف، وكما قلت في سهل، فلا أدري إن كان تاب هؤلاء وكان هذا آخر كلامهم أو هو تناقض أو تغطية على بدعهم فالله أعلم.
- ومنه ما قال في ذم الكلام: أقل ما في الكلام سقوط هيبة الرب من القلب، والقلب إذا عري عن الهيبة من الله عز وجل عري من الإيمان. (1)
- ومنه في تلبيس إبليس: عنه قال: مذهبنا هذا مقيد بالأصول: الكتاب والسنة وقال أيضا علمنا منوط بالكتاب والسنة من لم يحفظ الكتاب ويكتب الحديث ولم يتفقه لا يقتدى به. (2)
" التعليق:
إذا كان هذا صحيحا فما الحاجة إلى الأوهام والوساوس؟.
موقف السلف من أبي حمزة الحلولي (289 هـ)
بيان زندقته:
- جاء في حلية الأولياء: عن أبي عبد الله الرملي قال: تكلم أبو حمزة في
_________
(1) ذم الكلام (271) وفي السير (14/ 68) والاستقامة (1/ 111).
(2) التلبيس (ص 208).
(4/435)
جامع طرسوس، فقبلوه، فبينا هو ذات يوم يتكلم إذ صاح غراب على سطح الجامع، فزعق أبو حمزة، وقال: لبيك لبيك، فنسبوه إلى الزندقة وقالوا: حلولي زنديق فشهدوا وأخرج وبيع فرسه بالمناداة على باب الجامع هذا فرس الزنديق. فذكر أبو عمرو البصري قال اتبعته والناس وراءه يخرجونه من باب الشام فرفع رأسه إلى السماء وقال:
لك من قلبي المكان المصون ... كل صعب علي فيك يهون (1)
أبو الآذان (2) (290 هـ)
الحافظ عمر بن إبراهيم بن سليمان البغدادي، أبو بكر المعروف بأبي الآذان، جزري الأصل. روى عن محمد بن المثنى الزَّمِن، ويحيى بن حكيم المقوم وإسماعيل بن مسعود الجحدري ومحمد بن علي بن خلف العطار. وروى عنه النسائي في سننه وابن قانع والطبراني ومظفر بن يحيى وعبد الله بن إسحاق الخراساني وعدة. قال أبو يعلى الخليلي: ثقة، مشهور بالحفظ. وأثنى عليه أبو بكر الإسماعيلي. وقال ابن حجر: ثقة حافظ. توفي رحمه الله سنة تسعين ومائتين وله ثلاث وستون سنة.
موقفه من المشركين:
- جاء في السير: قال البرقاني حدثنا أبو بكر الإسماعيلي قال: حكي أن
_________
(1) الحلية (10/ 321).
(2) تاريخ بغداد (11/ 215 - 216) وتهذيب الكمال (21/ 267) وسير أعلام النبلاء (14/ 81 - 82) وتاريخ الإسلام (حوادث 281 - 290/ص.231 - 232) وتهذيب التهذيب (7/ 424 - 425).
(4/436)
أبا الآذان طالت خصومة بينه وبين يهودي أو غيره، فقال له: أدخل يدك ويدي في النار، فمن كان محقا لم تحترق يده، فذكر أن يده لم تحترق، وأن يد اليهودي احترقت. (1)
عبد الله بن الإمام أحمد (2) (290 هـ)
الإمام الحافظ الناقد الحجة محدث بغداد عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل أبو عبد الرحمن ابن شيخ العصر إمام العلماء أبي عبد الله الذهلي الشيباني المروزي ثم البغدادي. ولد سنة ثلاث عشرة ومائتين. روى عن أبيه شيئا كثيرا من جملته 'المسند' كله و'الزهد' وعن يحيى بن عبدويه صاحب شعبة والهيثم بن خارجة ومحمد بن أبي بكر المقدمي وشيبان بن فروخ وطبقتهم ومنعه أبوه من السماع من علي بن الجعد، وأخذ عن ابن معين. حدث عنه النسائي والبغوي وأبو عوانة والمحاملي وقاسم بن أصبغ وأبو بكر الشافعي وخلق كثير. قال عباس الدوري: كنت عند أحمد بن حنبل فدخل ابنه عبد الله فقال لي أحمد: يا عباس إن أبا عبد الرحمن قد وعى علما كثيرا. قال ابن أبي حاتم: كتب إلي عبد الله بمسائل أبيه وبعلل الحديث. قال ابن المنادي: لم يكن في الدنيا أحد أروى عن أبيه من عبد الله بن أحمد، لأنه سمع منه المسند وهو
_________
(1) السير (14/ 82).
(2) الجرح والتعديل (5/ 7) وتاريخ بغداد (9/ 375 - 376) وتهذيب الكمال (14/ 285 - 292) والمنتظم (13/ 17) وتذكرة الحفاظ (2/ 665 - 666) والبداية والنهاية (11/ 103) وتهذيب التهذيب (5/ 141 - 143) وشذرات الذهب (2/ 203 - 204) والسير (13/ 516 - 526) طبقات الحنابلة (1/ 180 - 188).
(4/437)
ثلاثون ألفا والتفسير وهو مائة ألف وعشرون ألفا سمع منه ثمانين ألفا والباقي وِجَادَةً وسمع الناسخ والمنسوخ والتاريخ وحديث شعبة والمقدم والمؤخر في كتاب الله، وجواب القرآن والمناسك الكبير والصغير وغير ذلك من التصانيف وحديث الشيوخ. قال: وما زلنا نرى أكابر شيوخنا يشهدون له بمعرفة الرجال وعلل الحديث والأسماء والكنى والمواظبة على طلب الحديث في العراق وغيرها. قال الذهبي: ما رأينا أحدا أخبرنا عن وجود هذا التفسير ولا بعضه. قال ابن عدي: نبل عبد الله بن أحمد بأبيه وله في نفسه محل في العلم أحيى علم أبيه من مسنده. قال بدر البغدادي: عبد الله بن أحمد جهبذ ابن جهبذ. قال الخطيب: كان ثقة ثبتا فهما. مات رحمه الله سنة تسعين ومائتين يوم الأحد، لتسع ليال بقين من جمادى الآخرة.
موقفه من المبتدعة:
سبحان الله، نية الإمام أحمد الصادقة وإخلاصه لعقيدته السلفية، لم يقف الذكر الحسن والثناء المجمع عليه على شخصه المبجل، ولكن تعدى ذلك إلى الذرية الصالحة، فكان هذا الابن البار خير خلف لسلفه، فكان شوكة في حلق المبتدعة، فنفع الله به، وجعله من أعلام رواة السنة، ومسند أبيه أكبر شاهد على ذلك، رغم ما قاله بعض المحدَثين فيه. وأما أعداء العقيدة السلفية، فيفرحون بكل جرح قيل في أئمة السلف، فلا تسأل عما يقوله الشيخ النجدي الشعوبي الجركسي الكوثري، اقرأ مقالاته وتعليقاته إن استطعت لذلك صبرا، فقراءة كلام اليهود والنصارى أهون من قراءة كلامه. نسأل الله العافية.
ولهذا الإمام كتاب من أعظم المصادر السلفية في تتبع المبتدعة، وقد نفعنا الله به في هذا البحث المبارك، فأخذنا منه الشيء الكثير فيما ناسبنا، فرحمة الله عليه، ألا وهو كتاب: 'السنة'.
موقفه من الجهمية:
- قال الذهبي في سيره: ولعبد الله كتاب: 'الرد على الجهمية'. (1)
- وقال: وامتنع من الأخذ عن علي بن الجعد لوقفه في مسألة القرآن. (2)
قال محقق السير: وهذا من تشدداته التي ورثها من أبيه.
قلت: ليس هذا تشددا بل هذا هو الواجب إزاء هؤلاء المبتدعة ومن يصف الإمام أحمد بالتشدد فهو صاحب هوى نسأل الله السلامة والعافية.
_________
(1) السير (13/ 523).
(2) السير (13/ 517)
(4/438)
موقفه من القدرية:
أورد في كتابه 'السنة' فصلا ماتعا عن القدرية وما جاء فيهم من كلام الأئمة الكاشف لكثير من ضلالهم وانحرافهم عن أهل السنة. (1)
أبو العباس الأَبَّار (2) (290 هـ)
الحافظ المتقن أحمد بن علي بن مسلم، أبو العباس الأبار النخشبي، من علماء الأثر ببغداد. حدث عن مسدد وأمية بن بسطام وعلي بن الجعد
_________
(1) السنة له (ص 119 - 153).
(2) تاريخ بغداد (4/ 306 - 307) وطبقات الحنابلة (1/ 52) وتاريخ دمشق (5/ 72 - 75) وتذكرة الحفاظ ... (2/ 639 - 640) والسير (13/ 443 - 444) وتاريخ الإسلام (حوادث 281 - 290/ص.73 - 74).
(4/439)
وهشام بن عمار وهدبة، وخلق. وحدث عنه ابن صاعد وأبو بكر القطيعي وأبو بكر النجاد ودعلج وأبو سهل بن زياد وغيرهم. قال الخطيب البغدادي: كان ثقة حافظا متقنا، حسن المذهب. قال جعفر الخلدي: كان الأبار من أزهد الناس، استأذن أمه في الرحلة إلى قتيبة، فلم تأذن له، ثم ماتت، فخرج إلى خراسان، ثم وصل إلى بلخ، وقد مات قتيبة، فكانوا يعزونه على هذا، فقال: هذا ثمرة العلم، إني اخترت رضى الوالدة.
توفي رحمه الله يوم نصف شعبان سنة تسعين ومائتين.
موقفه من المبتدعة:
وقال أحمد بن جعفر بن سلم: سمعت الأبار يقول: كنت بالأهواز، فرأيت رجلا قد حف شاربه وأظنه قال: قد اشترى كتبا وتعين للفتيا، فذكر له أصحاب الحديث، فقال: ليسوا بشيء، وليس يسوون شيئا. فقلت: أنت لا تحسن تصلي. قال: أنا؟ قلت: نعم، أيش تحفظ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا افتتحت ورفعت يديك؟ فسكت، قلت: فما تحفظ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سجدت؟ فسكت، فقلت: ألم أقل إنك لا تحسن تصلي؟ فلا تذكر أصحاب الحديث. (1)
عباد بن بشار (290 هـ سنة وفاة محمد بن زكريا الغلابي)
موقفه من الرافضة:
قال الآجري في الشريعة أنشدنا أبو سعيد أحمد بن محمد الأعرابي مما
_________
(1) السير (13/ 444) والكفاية (4 - 5).
(4/440)
قرأناه عليه قال: أنشدنا محمد بن زكريا الغلابي، قال: أنشدنا عباد بن بشار:
حتى متى عبرات العين تنحدر ... والقلب من زفرات الشوق يستعر
والنفس طائرة والعين ساهرة ... كيف الرقاد لمن يعتاده السهر
يا أيها الناس إني ناصح لكم ... كونوا على حذر قد ينفع الحذر
إني أخاف عليكم أن يحل بكم ... من ربكم غير ما فوقها غير
ما للرافض أضحت بين أظهركم ... تسير آمنة ينزو بها البطر
تؤذي وتشتم أصحاب النبي وهم ... كانوا الذين بهم يستنزل المطر
مهاجرون لهم فضل بهجرتهم ... وآخرون هم آووا وهم نصروا
كيف القرار على من قد تنقصهم ... ظلما وليس لهم في الناس منتصر
إنا إلى الله من ذل أراده بكم ... ولا مرد لأمر ساقه القدر
حتى رأيت رجالا لا خلاق لهم ... من الروافض قد ضلوا وما شعروا
إني أحاذر أن ترضوا مقالتهم ... أولا فهل لكم عذر فتعذروا
رأى الروافض شتم المهتدين فما ... بعد الشتيمة أمر ليس يغتفر
لا تقبلوا أبدا عذرا لشاتمهم ... إن الشتيمة أمر ليس يغتفر
ليس الإله براض عنهم أبدا ... ولا الرسول ولا يرضى به البشر
الناقضون عرى الإسلام ليس لهم ... عند الحقائق إيراد ولا صدر
والمنكرون لأهل الفضل فضلهم ... والمفترون عليهم كلما ذكروا
قد كان عن ذا لهم شغل بأنفسهم ... لو أنهم نظروا فيما به أمروا
لكن لشقوتهم والحين يصرعهم ... قالوا ببدعتهم قولا به كفروا
قالوا وقلنا وخير القول أصدقه ... والحق أبلج والبهتان منشمر
(4/441)
وفي علي وما جاء الثقات به ... من قوله عبر لو أغنت العبر
قال الأمير علي فوق منبره ... والراسخون به في العلم قد حضروا
خير البرية من بعد النبي أبو ... بكر وأفضلهم من بعده عمر
والفضل بعد إلى الرحمن ... يجعله فيمن أحب فإن الله مقتدر
هذا مقال علي ليس ينكره ... إلا الخليع وإلا الماجن الأشر
فارضوا مقالته أولا فموعدكم ... نار توقد لا تبقي ولا تذر
وإن ذكرت لعثمان فضائله ... فلن يكون من الدنيا لها خطر
وما جهلت عليا في قرابته ... وفي منازل يعشو دونها البصر
إن المنازل أضحت بين أربعة ... هم الأئمة والأعلام والغرر
أهل الجنان كما قال الرسول لهم ... وعدا عليه فلا خلف ولا غدر
وفي الزبير حواري النبي إذا ... عدت مآثره زلفى ومفتخر
واذكر لطلحة ما قد كنت ذاكره ... حسن البلاء وعند الله مدكر
إن الروافض تبدي من عداوتها ... أمرا تقصر عنه الروم والخزر
ليست عداوتها فينا بضائرة ... لا بل لها وعليها الشين والضرر
لا يستطيع شفا نفس فيشفيها ... من الروافض إلا الحية الذكر
ما زال يضربها بالذل خالقها ... حتى تطاير عن أفحاصها الشعر
داو الروافض بالإذلال إن لها ... داء الجنون إذا هاجت بها المرر
كل الروافض حمر لا قلوب لها ... صم وعمي فلا سمع ولا بصر
ضلوا السبيل أضل الله سعيهم ... بئس العصابة إن قلوا أو إن كثروا
شين الحجيج فلا تقوى ولا ورع ... إن الروافض فيها الداء والدبر
(4/442)
لا يقبلون لذي نصح نصيحته ... فيها الحمير وفيها الإبل والبقر
والقوم في ظلم سود فلا طلعت ... مع الأنام لهم شمس ولا قمر
لا يأمنون وكل الناس قد أمنوا ... ولا أمان لهم ما أورق الشجر
لا بارك الله فيهم لا ولا بقيت ... منهم بحضرتنا أنثى ولا ذكر (1)
محمد بن حبيب البَزَّار (2) (291 هـ)
أبو عبد الله محمد بن حبيب البزار، أحد الفقهاء. روى عن أحمد بن حنبل وشجاع ابن مخلد، وعنه الحسن بن أبي العنبر وغيره. وقد أثنى عليه أبو بكر الخلال الحنبلي. توفي رحمه الله سنة إحدى وتسعين ومائتين.
موقفه من الرافضة:
قال ابن حبيب: ومن قال الحسنى في أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد برئ من النفاق. (3)
البُوشَنْجِي (4) (291 هـ)
أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن سعيد بن عبد الرحمن بن موسى العبدي، الفقيه المالكي، البوشنجي، شيخ أهل الحديث في عصره. ولد في سنة أربع
_________
(1) الشريعة (3/ 571 - 573/ 2092).
(2) تاريخ بغداد (2/ 278 - 279) وطبقات الحنابلة (1/ 293) وتاريخ الإسلام (حوادث 291 - 300/ص.259).
(3) الشريعة (3/ 23/1291).
(4) تهذيب الكمال (24/ 308 - 314) والسير (13/ 581 - 589) والجرح والتعديل (7/ 187) والمنتظم (6/ 48) وتذكرة الحفاظ (2/ 657 - 659) والوافي بالوفيات (1/ 342) وشذرات الذهب (2/ 205) والتقريب (2/ 50).
(4/443)
ومائتين. وارتحل شرقا وغربا، ولقي الكبار وجمع وصنف وسار ذكره وبعد صيته. روى عن إبراهيم بن حمزة الزبيري، وإبراهيم بن المنذر الحزامي، وأحمد ابن حنبل وغيرهم. وروى عنه محمد بن إسحاق الصاغاني، ومحمد بن إسماعيل البخاري، وهما أكبر منه، وأبو حامد بن الشرقي، وأبو بكر بن إسحاق الصبغي، وابن خزيمة وغيرهم. قال دعلج: حدثني فقيه من أصحاب داود بن علي أن أبا عبد الله دخل عليهم يوما، وجلس في أخريات الناس، ثم إنه تكلم مع داود فأعجب به، وقال: لعلك أبو عبد الله البوشنجي؟ قال: نعم، فقام إليه وأجلسه إلى جنبه، وقال: قد حضركم من يفيد ولا يستفيد. وقال ابن حجر: ثقة حافظ فقيه. توفي في غرة المحرم سنة إحدى وتسعين ومائتين. وصلى عليه ابن خزيمة.
موقفه من الجهمية:
- قال إسحاق بن أبي إسحاق بسمرقند: سمعت أبا عبد الله محمد بن إبراهيم البوشنجي حين سئل عن الإيمان فقال: الواجب على جميع أهل العلم والإسلام أن يلزموا القصد للاتباع، وأن يجعلوا الأصول التي نزل بها القرآن وأتت بها السنن من الرسول - صلى الله عليه وسلم - غايات العقول، ولا يجعلوا العقول غايات الأصول، فإن الله جل وعز ورسوله - صلى الله عليه وسلم - قد يفرق بين المشتبهين ويباين بين المجتمعين في المعقول تعبدا وبلوى ومحنة، ومتى ورد على المرء وارد من وجوه العلم لا يبلغه عقله أو تنفر منه نفسه، وينأى عنه فهمه وتبعد عنه معرفته، وقف عنده واعترف بالتقصير عن إدراك علمه وبالجسور عن كنه معرفته، ويعلم أن الله عز وجل ورسوله - صلى الله عليه وسلم - لو كشف عن علة ذلك الحادث، وأبان
(4/444)
وأوضح عن سببه وعن المراد من مخرجه لأدركته عقولنا، ولو كان أتى به الحكم من الله عز وجل والأمر بتعبده إيانا مكشوفا بيانه موضوحة علته، لم يكن للعباد بلوى ولا محنة، وإنما المحن الغلاظ والبلوى الشديدة الأمور والفروض التي لا تكشف عللها ليسلم العباد لها تسليما، ويقفوا عندها إيمانا، ولولا ما وصفناه كان الذي سبق إليه فكر العقول منا، أن واجبا في كل ما سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ربه عز وجل أن يجيبه وأن ينزل عليه فيه شفاءه ليزداد الناس به علما ولملكوته فهما. ولسنا نرى الأمر كذلك، فقد سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ربه عز وجل عن الروح، فما أجابه قال الله عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} (1) وعلى ذلك خالف ربنا بين ما أنزل من شرايعه وأعلام دينه ومعالم فروضه وعباداته في الأمم الخوالي، فأحل لطائفة ما حرمه على أمة، وحرم على أمة ما أطلقه لغيرها من أمته وحظر على آخرين ما أباحه لسواهم، وكذلك الأمر فيما أنزل من كتبه، وخالف بينهما في أحكامها كالتوراة والإنجيل والزبور والفرقان، وصحف من مضى من الرسل ليسلم الموفق منهم لأمره ونهيه، فينكفئ المخذول منهم على عقبيه نفارا من التفريق بين المجتمعين، ومن الجمع بين المفترقين، وعلموا أن السلامة فيما أنزل عليهم من الاتباع والتقليد لما أمروا به، والإعراض عن طلب التكييف فيما أحل لهم وعن الغلو والإيغال في التماس نهاياتها للوقوع على أقصى مداخلها،
_________
(1) الإسراء الآية (85) ..
(4/445)
إذ كان ذلك لا يبلغ أبدا فإن دون كل بيان بيانا، وفوق كل متعلق أغمض منه، وإذ كان الأمر كذلك فالواجب الوقوف عند المستبهم منه، ومن أجل ذلك أثنى الله عز وجل على الراسخين في العلم بأنهم إذا أفضى ببعضهم الأمر إلى ما جهلوه، آمنوا به ووكلوه إلى الله عز وجل، ومن أجل ذلك ذم الله عز وجل للغالين في طلب ما زوى عنهم علمه وطوى علمه وطوى عنهم خبره فقال: {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زيغٌ} إلى قوله: {وَمَا يذكر إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (1). ومن أجل بعض ما ذكرنا اشتدت الخلفاء المهديون على ذوي الجدل والكلام في الدين، وعلى ذوي المنازعات والخصومات في الإسلام والإيمان، ومتى نجم منهم ناجم في زمن أطفأوه وأخمدوا ذكره ولقوه عقوبته، فمنهم من سيره إلى طرف ومنهم من ألزمه قعر محبس إشفاقا على الدين من فتنته وحذرا على المسلمين من خدعات شبهته، كما فعله الإمام الموفق عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين سأله صبيغ عن الذاريات ذروا وأشباهه، فسَيَّره إلى الشام وزجر الناس عن مجالسته. وفعله علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعبد الله بن سبأ، فسيره إلى المداين.
ولقد أتى محمد بن سيرين رجل من أهل الكلام فقال، ائذن لي أحدثك بحديث، قال لا أفعل، قال فأتلو عليك آية من كتاب الله، قال ولا هذا، فقيل له في ذلك فقال ابن سيرين لم آمن أن يذكر لي ذكرا يقدح به قلبي، وقد بين الله ما بالعباد إليه حاجة في عاجلهم ومعادهم، وأوضح لهم سبيل النجاة والهلكة، وأمر ونهى
_________
(1) آل عمران الآية (7).
(4/446)
وأحل وحرم وفرض وسن، فما أمر العباد من أمر سلموا بائتماره والعمل عليه، ما نهوا عنه من شيء سلموا بتركه وكذبه، ومتى عتوا عن ظاهر ما أمروا به ونهوا عنه ليبلغوا القصوى من غاية علم أمره ونهيه، لم يؤمن عليه الحيرة ولا غلبة الشبهة على قلبه وفهمه، ومن أجل ذلك قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: وما أنت بمحدث قوما حديثا لا يبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة. ولقد سأل سائل ابن عباس رضي الله عنهما عن آية من كتاب الله فقال: ما يؤمنك أن أخبرك بها فتكفر، وقال أيوب السختياني لا تحدثوا الناس بما يجهلون فتضروهم، وما منع الله تعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - البيان عن بعض ما سأله إلا وقد علم أن ذلك المنع إعطاء، وأن المنع أجدى على الأمة وأسلم لهم في بدئهم وعاقبتهم، ولولا ذلك لكان من سلف من المشركين والأمم الكافرين برسلهم وأنبيائهم والمنكرين للآيات وصنوف العجائب والبينات معذورين، ولكانت الرسل في ترك إسعاف أممهم مذمومين، ولكان كل ما سألوه من آية دونها آية وفوقها أخرى حتى أفضى بعضهم إلى أن سألوا أن يروا ربهم جهرة، وسأل بعضهم رسولنا من الدليل على أمره تفجير الأنهار والينابيع فقالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا} (1)،
وما ختمت الآيات فلو كان الأمر في ذلك على عقول البشر، لقد كانوا يرون أن منعهم الدليل على صدق ما أتت به أنبياؤهم ورسلهم من غير نظر لهم، لأن زيادة البيان إلى البيان تسكين النفوس عن نظارها، وطمأنينة القلوب
_________
(1) الإسراء الآية (90) ..
(4/447)
وطيب طباع الإيمان، غير أن الله منعهم ما سألوا إذ فوق ما سألوا آيات لا يوقف على منشأها فلم يكن يجب أن لو كان ذلك كذلك إيمان على أحد، حتى يبلغ من غاية معرفة بأمور الله عز وجل، ما أحاط به علم الله. ولقد ذكر يونس بن عبد الأعلى عن الشافعي رحمه الله أنه قال: ما من ذنب يلقى الله به عبد بعد الشرك بالله أعظم من أن يلقاه بهذا الكلام قال، فقلت له فإن صاحبنا الليث بن سعد كان يقول: لو رأيت رجلا من أهل الكلام يمشي على الماء فلا تركن إليه، وذكر يونس عن الشافعي قال: مذهبي في أهل الكلام مذهب عمر في صبيغ، نقنع رؤوسهم بالسياط ويسيروا في البلاد. (1)
- جاء في ذم الكلام: عنه قال: وهذه الفرقة، فتنتهم أقرب إلى بعض قلوب العباد، فلم يؤمن أن يستعينوا بهذه الشبه، ويستغووا بها أمثالهم من المخذولين، من أجل ذلك وجب أن يتشدد على هذه الفرق الخسيسة في التحذير عنهم والنهي عن مجالستهم وعن مجاورتهم وعن الصلاة خلفهم، وعن مخالطتهم، تنكيلا كما فعلت الأئمة الهداة مثل عمر بن الخطاب وعلي ابن أبي طالب وهلم جرا، من نفي أمثالهم وحسم رأيهم عن الأمة، والأمر بتسييرهم عن البلاد وتقنيع رؤوسهم بالسياط، وهذه فرقة مستحقة لمثله. فأما ركون أو إصغاء إلى استفتائهم، وأخذ حديث عنهم، فهو عندي من عظائم أمور الدين. (2)
_________
(1) ذم الكلام (266 - 268).
(2) ذم الكلام (ص.268).
(4/448)
" التعليق:
انظر كلام خبير بأهل الضلال، يعرفهم ويعرف شبههم وأباطيلهم وأخطارهم على أمة الإسلام، اقرأ هذه الأحكام الصادرة من هذا الإمام وقارن بينها وبين ما يقوله دعاة اليوم، من أن الكلام في بيان أحوال المبتدعة يفرق الكلمة ويشتت الشمل. وكأن هؤلاء الأئمة لم تكن عندهم كلمة ولا شمل، أو كانوا مغفلين لا يعرفون شيئا عن جمع الكلمة أو تشتيتها. والله المستعان.
أبو العباس ثعلب أحمد بن يحيى (1) (291 هـ)
أحمد بن يحيى بن يزيد، أبو العباس الشيباني، العلامة، إمام الكوفيين في النحو، المشهور بثعلب. ولد سنة مئتين، وسمع من محمد بن زياد بن الأعرابي وسلمة بن عاصم والزبير بن بكار ومحمد بن سلام الجمحي. وعنه نفطويه وابن الأنباري والأخفش الصغير، ومحمد بن العباس اليزيدي وأبو عمرو الزاهد غلام ثعلب. قال الخطيب: وكان ثقة حجة، دينا صالحا، مشهورا بالحفظ وصدق اللهجة، والمعرفة بالغريب ورواية الشعر القديم، مقدما عند الشيوخ مذ هو حدث. وعن الرياشي -وسئل لما رجع من بغداد- فقال: ما رأيت أعلم من الغلام المنبز، يعني ثعلبا. توفي رحمه الله سنة إحدى وتسعين
_________
(1) طبقات النحويين للزبيدي (3/ 141) وتاريخ بغداد (5/ 204 - 212) طبقات الحنابلة (1/ 83 - 84) وسير أعلام النبلاء (14/ 5 - 7) وتاريخ الإسلام (حوادث 291 - 300/ص.81 - 84) غاية النهاية لابن الجزري ... (1/ 148 - 149).
(4/449)
ومائتين.
موقفه من الجهمية:
- قال اللالكائي في أصول الاعتقاد: وجدت بخط أبي الحسن الدارقطني رحمه الله عن إسحاق الهادي قال: سمعت أبا العباس ثعلب يقول: استوى أقبل عليه وإن لم يكن معوجا. {ثُمَّ استوى إلى السَّمَاءِ} (1): أقبل. {ثُمَّ استوى على الْعَرْشِ} (2): علا. واستوى وجهه: اتصل. واستوى القمر: امتلأ. واستوى زيد وعمرو: تشابها واستوى فعلهما وإن لم تتشابه شخوصهما. هذا الذي يعرف من كلام العرب. (3)
موقفه من القدرية:
- جاء في أصول الاعتقاد: قال أحمد بن يحيى بن ثعلب: القدرية من يزعم أنه يقدر. ونحن نقول: لا نقدر إلا بقدر الله وبعون الله وتوفيق الله وإن لم يفعل ذلك بنا لم نقدر فكيف يكون القدري من زعم أنه لا يقدر؟ هذا محال ضد. قال: ولا أعلم عربيا قدريا. فقيل له: يقع في قلوب العرب القدر؟ قال: معاذ الله ما في العرب إلا مثبت القدر خيره وشره أهل الجاهلية والإسلام ذلك في أشعارهم وكلامهم كثير بين ثم أنشد:
تجري المقادير على غرز الإبر ... ما تنفذ الإبرة إلا بقدر
_________
(1) البقرة الآية (29).
(2) الأعراف الآية (54).
(3) أصول الاعتقاد (3/ 443/668).
(4/450)
قال وأنشد لامرئ القيس:
إن الشقاء على الأشقين مكتوب ... .............................
ثم ذكر الشيخ أبو القاسم الحافظ شواهد ذلك فقال: وقال ذو الأصبع العدواني:
وليس المرء في الشيء من الإبرام والنقض ... إذا يقضي أمر إخاله يقضى ولا يقضى
وقال لبيد:
إن تقوى ربنا خير نفل ... وبإذن الله ريثي وعجل
من هداه سبل الخير اهتدى ... ناعم البال ومن شاء أضل
أحمد الله ولا ند له ... بيده الخير ما شاء فعل
وقال بعض رجاز الجاهلية:
هي المقادير فلمني أو فذر ... إن كنت أخطأت فما أخطا القدر (1)
إبراهيم الخواص الصوفي (2) (291 هـ)
إبراهيم بن أحمد بن إسماعيل الخواص أبو إسحاق. أحد شيوخ الصوفية له كتب مصنفة، صاحب أبا عبيد الله المغربي، وروى عنه أبو جعفر الخالدي وغيره. كان أحد المذكورين بالتوكل والسياحات. مات سنة إحدى وتسعين ومائتين.
موقفه من المبتدعة:
- قال إبراهيم الخواص: ليس العلم بكثرة الرواية، وإنما العالم من اتبع
_________
(1) أصول الاعتقاد (4/ 780/1309).
(2) تاريخ بغداد (6/ 7 - 10) والأعلام (1/ 28) ومعجم المؤلفين (1/ 4).
(4/451)
العلم، واستعمله، واقتدى بالسنن، وإن كان قليل العلم. (1)
- وسئل عن العافية فقال: العافية أربعة أشياء: دين بلا بدعة، وعمل بلا آفة، وقلب بلا شغل، ونفس بلا شهوة. وقال: الصبر: الثبات على أحكام القرآن والسنة. (2)
موقفه من الجهمية:
- جاء في ذم الكلام: عنه قال: ما كانت زندقة ولا كفر ولا بدعة ولا جرأة في الدين، إلا من قبل الكلام، والجدال والمراء والعجب، فكيف يجترئ الرجل على الجدال والمراء والله تعالى يقول: {مَا يجادل في آيات اللَّهِ إِلًّا الَّذِينَ كَفَرُوا} (3).اهـ (4)
" التعليق:
وكيف يجترأ على سلوك وأسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان لم يعرفها الشرع ولا فتحت اللغة لها قاموسا؟ وإنما هو التمحل في إلحاق اشتقاق لها، كابن الزنا، كل واحد يتبرأ منه ولا يلصقه به إلا العقيم الذي يريد أن يتستر به، على أنه ذو ولد، والواقع أنه عقيم. وكذلك اسم الصوفية، لا تجد له اشتقاقا ولا جامدا أي لا مشتق له ولا جامد. وإنما هي وسوسة الهند ورهبنة النصارى.
_________
(1) الاعتصام (1/ 129).
(2) الاعتصام (1/ 129).
(3) غافر الآية (4).
(4) ذم الكلام (ص.277).
(4/452)
موقف السلف من القاسم بن عبيد الله الوزير الزنديق (291 هـ)
بيان زندقته:
- قال النوفلي: كنت أبغضه لكفره، ولمكروه نالني منه. (1)
- قال ابن النجار: كان جوادا ممدحا، إلا أنه كان زنديقا. (2)
- جاء في السير: قال الصولي: حدثنا شادي المغني قال: كنت عند القاسم وهو يشرب، فقرأ عليه ابن فراس من عهد أردشير، فأعجبه، فقال له ابن فراس: هذا والله -وأومأ إلي- أحسن من بقرة هؤلاء وآل عمرانهم. وجعلا يتضاحكان. قال الصولي: وأخبرنا ابن عبدون: حدثني الوزير عباس ابن الحسن قال: كنت عند القاسم بن عبيد الله، فقرأ قارئ: {كُنْتُمْ خير أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ} (3) فقال ابن فراس: بنقصان ياء، فوثبت فزعا، فردني القاسم وغمزه، فسكت.
الصولي: أخبرنا علي بن العباس النوبختي قال: انصرف ابن الرومي الشاعر من عند القاسم بن عبيد الله، فقال لي: ما رأيت مثل حجة أوردها اليوم الوزير في قدم العالم، وذكر أبياتا.
قال الذهبي: هذه أمور مؤذنة بشقاوة هذا المعثر، نسأل الله خاتمة
_________
(1) السير (14/ 19).
(2) السير (14/ 19).
(3) آل عمران الآية (110).
(4/453)
خير. (1)
عمرو بن عثمان الصوفي (2) (291 هـ)
عمرو بن عثمان بن كرب بن غصص شيخ الصوفية أبو عبد الله المكي.
لقي أبا عبد الله النباجي وأبا سعيد الخراز. وروى الحديث عن محمد بن إسماعيل البخاري ويونس بن عبد الأعلى ومن في طبقتهما. وروى عنه محمد بن أحمد الأصبهاني وأبو الشيخ وجعفر الخلدي. قيل كان من أئمة الفقه، ولما ولي قضاء جدة هجره الجنيد، وكان ينكر عن الحلاج ويذمه.
ومن كلامه: اعلم أن العلم قائد، والخوف سائق، والنفس بين ذلك حرون جموح خداعة رواغة، فاحذرها وراعها بسياسة العلم، وتتبعها بتهديد الخوف يتم لك ما تريد. توفي سنة إحدى وتسعين ومائتين ببغداد.
موقفه من المشركين:
فضحه للحلاج الزنديق:
جاء في تلبيس إبليس: عن محمد بن يحيى الرازي قال: سمعت عمرو بن عثمان يلعن الحلاج ويقول: لو قدرت عليه لقتلته بيدي، فقلت: بأي شيء وجد عليه الشيخ؟ فقال: قرأت آية من كتاب الله عز وجل، فقال: يمكنني أن أقول أو أؤلف مثله وأتكلم به. (3)
_________
(1) السير (14/ 19 - 20).
(2) الحلية (10/ 291 - 296) وتاريخ بغداد (12/ 223 - 225) والمنتظم (6/ 93) والعقد الثمين (6/ 114) والشذرات (2/ 225) والسير (14/ 57 - 58).
(3) تلبيس إبليس (212) والسير (14/ 330).
(4/454)
موقفه من الجهمية:
- قال عمرو بن عثمان المكي في كتابه الذي سماه 'التعرف بأحوال العباد والمتعبدين' قال: (باب ما يجيء به الشيطان للتائبين) وذكر أنه يوقعهم في القنوط، ثم في الغرور وطول الأمل ثم في التوحيد. فقال: من أعظم ما يوسوس في "التوحيد" بالتشكيل أو في صفات الرب بالتمثيل والتشبيه، أو بالجحد لها والتعطيل وقال بعد ذكر حديث الوسوسة: واعلم رحمك الله أن كلما توهمه قلبك، أو سنح في مجاري فكرك، أو خطر في معارضات قلبك، من حسن أو بهاء، أو ضياء أو إشراق أو إجمال، أو سنح مسائل أو شخص متمثل: فالله تعالى بغير ذلك، بل هو تعالى أعظم وأجل، وأكبر ألا تسمع لقوله:} {ليس كمثله شيءٌ} (1) وقوله: {وَلَمْ يكن لَهُ كُفُوًا أحدٌ} (2) أي لا شبيه ولا نظير ولا مساوي ولا مثل، أو لم تعلم أنه لما تجلى للجبل تدكدك لعظم هيبته؟ وشامخ سلطانه؟ فكما لا يتجلى لشيء إلا اندك، كذلك لا يتوهمه أحد إلا هلك. فرد بما بين الله في كتابه من نفسه عن نفسه التشبيه والمثل، والنظير والكفؤ. فإن اعتصمت بها وامتنعت منه أتاك من قبل التعطيل لصفات الرب -تعالى وتقدس- في كتابه وسنة رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، فقال لك: إذا كان موصوفا بكذا أو وصفته أوجب له التشبيه فأكذبه، لأنه اللعين إنما يريد أن يستزلك ويغويك، ويدخلك في صفات الملحدين،
_________
(1) الشورى الآية (11).
(2) الإخلاص الآية (4).
(4/455)
الزائغين، الجاحدين لصفة الرب تعالى. واعلم -رحمك الله- أن الله تعالى واحد، لا كالآحاد، فرد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد -إلى أن قال- خلصت له الأسماء السنية فكانت واقعة في تقديم الأزل بصدق الحقائق، لم يستحدث تعالى صفة كان منها خليا، واسما كان منه بريا، تبارك وتعالى، فكان هاديا سيهدي، وخالقا سيخلق ورازقا سيرزق، وغافرا سيغفر، وفاعلا سيفعل، ولم يحدث له الاستواء إلا وقد كان في صفة أنه سيكون ذلك الفعل، فهو يسمى به في جملة فعله.
كذلك قال الله تعالى: {وَجَاءَ ربك وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} (1) بمعنى أنه سيجيء، فلم يستحدث الاسم بالمجيء، وتخلف الفعل لوقت المجيء، فهو جاء سيجيء، ويكون المجيء منه موجودا بصفة لا تلحقه الكيفية ولا التشبيه، لأن ذلك فعل الربوبية، فيستحسر العقل، وتنقطع النفس عند إرادة الدخول في تحصيل كيفية المعبود، فلا تذهب في أحد الجانبين، لا معطلا ولا مشبها، وارض لله بما رضي به لنفسه، وقف عند خبره لنفسه مسلما، مستسلما، مصدقا، بلا مباحثة التنفير ولا مناسبة التنقير. إلى أن قال: فهو تبارك وتعالى القائل: أنا الله لا الشجرة، الجائي قبل أن يكون جائيا، لا أمره، المتجلي لأوليائه في المعاد، فتبيض به وجوههم، وتفلج به على الجاحدين حجتهم، المستوي على عرشه بعظمة جلاله فوق كل مكان -تبارك وتعالى- الذي كلم موسى تكليما. وأراه من آياته، فسمع موسى كلام الله لأنه قربه نجيا. تقدس أن يكون كلامه مخلوقا
_________
(1) الفجر الآية (22).
(4/456)
أو محدثا أو مربوبا، الوارث بخلقه لخلقه، السميع لأصواتهم، الناظر بعينه إلى أجسامهم، يداه مبسوطتان، وهما غير نعمته، خلق آدم ونفخ فيه من روحه -وهو أمره- تعالى وتقدس أن يحل بجسم أو يمازج أو يلاصق به، تعالى عن ذلك علوا كبيرا، الشائي، له المشيئة، العالم، له العلم، الباسط يديه بالرحمة، النازل كل ليلة إلى سماء الدنيا ليتقرب إليه خلقه بالعبادة، وليرغبوا إليه بالوسيلة، القريب في قربه من حبل الوريد، البعيد في علوه من كل مكان بعيد، ولا يشبه بالناس. إلى أن قال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (1) القائل: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} (2) تعالى وتقدس أن يكون في الأرض كما هو في السماء جل عن ذلك علوا كبيرا. (3)
صالح بن محمد جَزَرَة (4) (293 هـ)
صالح بن محمد بن عمرو بن حبيب بن حسان بن المنذر بن أبي
_________
(1) فاطر الآية (10).
(2) الملك الآيتان (16و17) ..
(3) مجموع الفتاوى (5/ 62 - 65).
(4) تاريخ بغداد (9/ 322) وسير أعلام النبلاء (14/ 23 - 33) والوافي بالوفيات (16/ 269 - 270) وشذرات الذهب (2/ 216) وتاريخ الإسلام (حوادث 291 - 300/ 161 - 167).
(4/457)
الأشرس، الإمام الحافظ، أبو علي الأسدي البغدادي، الملقب بجزرة. ولد سنة خمس ومائتين ببغداد. سمع من سعيد بن سليمان وعلي بن الجعد وأحمد بن حنبل وأبي خيثمة وأبي نصر التمار ويحيى بن معين، وطبقتهم. وحدث عنه مسلم بن الحجاج خارج الصحيح، وأحمد بن سهل والهيثم بن كليب وأبو النضر محمد بن محمد الفقيه وآخرون. قال الدارقطني: كان ثقة حافظا عارفا. وقال الخطيب: وكان حافظا عارفا من أئمة الحديث، وممن يرجع إليه في علم الآثار ومعرفة نقلة الأخبار. وقال أبو سعيد الإدريسي: الحافظ صالح بن محمد جزرة ما أعلم في عصره بالعراق وخراسان في الحفظ مثله، دخل ما وراء النهر، فحدث مدة من حفظه، وما أعلم أخذ عليه مما حدث خطأ، ورأيت أبا أحمد بن عدي يضخم أمره ويعظمه. توفي رحمه الله سنة ثلاث وتسعين ومائتين، وله بضع وثمانون سنة.
موقفه من الرافضة:
- جاء في السير: قال بكر بن محمد الصيرفي: سمعت صالحا يقول: كان عبد الله بن عمر بن أبان يمتحن أصحاب الحديث، وكان غاليا في التشيع، فقال لي: من حفر بئر زمزم؟ قلت: معاوية، قال: فمن نقل ترابها؟ قلت: عمرو بن العاص، فصاح في وقام. (1)
- وفيها: قال علي بن محمد المروزي: حدثنا صالح بن محمد: سمعت عباد بن يعقوب -هو الرواجني الخبيث- يقول: الله أعدل من أن يدخل
_________
(1) السير (14/ 28).
(4/458)
طلحة والزبير الجنة. قلت: ويلك. ولم؟ قال: لأنهما قاتلا عليا بعد أن بايعاه. (1)
محمد بن نصر المروزي (2) (294 هـ)
الإمام الحافظ محمد بن نصر بن الحجاج، أبو عبد الله المروزي. ولد ببغداد سنة اثنتين ومائتين، ونشأ بنيسابور، ومسكنه سمرقند. سمع من يحيى بن يحيى وإسحاق بن راهويه وعلي بن حجر ومحمد بن عبد الله بن نمير وهدبة ومحمد بن مهران، وجماعة. وحدث عنه ولده إسماعيل بن محمد بن نصر ومحمد بن إسحاق السمرقندي وأبو العباس السراج وأبو عبد الله محمد بن الأخرم، وخلق كثير. قال الحاكم: هو الفقيه العابد العالم، إمام أهل الحديث في عصره بلا مدافعة. وقال الخطيب: كان من أعلم الناس باختلاف الصحابة ومن بعدهم. وقال ابن حزم: أعلم الناس من كان أجمعهم للسنن، وأضبطهم لها وأذكرهم لمعانيها ولأحوال الصحابة، ولا نعلم هذه الصفة أتم منها في محمد بن نصر المروزي. فلو قال قائل: ليس لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديث ولا لأصحابه إلا وهو عند محمد بن نصر، لما بعد عن الصدق. وقال الحافظ ابن حجر: ثقة حافظ، إمام جبل. توفي رحمه الله بسمرقند في المحرم سنة أربع وتسعين ومائتين.
موقفه من المبتدعة:
_________
(1) السير (14/ 29).
(2) تاريخ بغداد (3/ 315 - 318) وطبقات الشافعية (2/ 20 - 23) وسير أعلام النبلاء (14/ 33 - 40) وتهذيب التهذيب (9/ 489 - 490) وشذرات الذهب (2/ 216 - 217).
(4/459)
- قال رحمه الله معلقا على حديث أبي رقية تميم بن أوس الداري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الدين النصيحة، قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم" (1): وأما النصيحة لكتاب الله: فشدة حبه، وتعظيم قدره إذ هو كلام الخالق، وشدة الرغبة في فهمه، ثم شدة العناية في تدبره، والوقوف عند تلاوته لطلب معاني ما أحب مولاه أن يفهمه عنه، ويقوم له به بعد ما يفهمه، وكذلك الناصح من القلب، يتفهم وصية من ينصحه، وإن ورد عليه كتاب منه عُنِيَ بفهمه، ليقوم عليه بما كتب به فيه إليه، فكذلك الناصح لكتاب الله يعني يفهمه ليقوم لله بما أمر به كما يحب ويرضى، ثم ينشر ما فهم من العباد، ويديم دراسته بالمحبة له، والتخلق بأخلاقه، والتأدب بآدابه.
وأما النصيحة للرسول - صلى الله عليه وسلم - في حياته: فبذل المجهود في طاعته، ونصرته، ومعاونته، وبذل المال إذا أراده، والمسارعة إلى محبته.
وأما بعد وفاته فالعناية بطلب سنته، والبحث عن أخلاقه، وآدابه وتعظيم أمره، ولزوم القيام به، وشدة الغضب والإعراض عن من يدين بخلاف سنته، والغضب على من ضيعها لأثرة دنيا، وإن كان متدينا بها، وحب من كان منه بسبيل من قرابة أو صهر أو هجرة، أو نصرة أو صحبة ساعة من ليل أو نهار على الإسلام والتشبه به في زيه، ولباسه. (2)
- وقال رحمه الله في كتابه 'السنة' في معرض كلامه عن مسألة النسخ،
_________
(1) أخرجه: أحمد (4/ 102) ومسلم (1/ 55) وأبو داود (5/ 233 - 234/ 4944) والنسائي (7/ 176/4208) عن تميم الداري. والحديث ذكره البخاري تعليقا (1/ 182).
(2) تعظيم قدر الصلاة (2/ 693).
(4/460)
وذكر أقوال أهل العلم: فقالت هذه الطائفة: بين الله تبارك وتعالى أنه أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يعلم الناس الكتاب والحكمة، فالحكمة غير الكتاب، وهي: ما سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما لم يذكر في الكتاب، وكل فرض لا افتراق بينهما، لأن مجيئهما واحد، وكل أمر الله نبيه بتعليمه الخلق، فأوجب عليه الأخذ بالسنة والعمل بها، كما أوجب عليهم العمل بالكتاب فكان معنى كل واحد منهما معنى الآخر، وقد أوجب الله عز وجل طاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فجعلها مفترضة على خلقه كافتراض طاعته عليهم لا فرقان بينهما في الوجوب، فما أنكرتم أن ينسخ أحدهما بالآخر، لأنه إذا نسخ القرآن بالقرآن، فإنما نسخ ما أمر به بأمره، وكذلك إذا نسخ حكما في القرآن بالسنة، فإنما ينسخ ما أمر به في كتابه بأمره على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم -.
ومن فرق بين ذلك، فقد قصر علمه فإن كان إنما يحملهم على ذلك تعظيم القرآن أن ينسخ أحكامه بالسنة، فالقرآن عظيم أعظم من كل شيء، لأنه كلام الله، وليس ينسخ الله كلامه فيبطله، جل عن ذلك، وإنما ينسخ المأمور به بكلامه بمأمور به في سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، فالمأمور بهما متساويان، لأنهما حكمان، والقرآن أعظم من السنة، ولو جاز لمن عظم القرآن، وهو أهل أن يعظم، أن ينكر أن ينسخ الله حكما فيه بحكم في سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، لجاز له أن ينكر أن يفسر القرآن بالسنة، ويوجب أنه لا يجوز أن يترجم القرآن إلا بقرآن منزل مثله، فإن جاز هذا جاز هذا، ففي إقرارهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترجم القرآن وفسره بسنته، حجة عليهم أنهم ساووا بين القرآن والسنة في هذا المعنى، بل جعلوا السنة أعلى منه وأرفع في قياسهم، إذ كان القرآن لا يعلم بنفسه، وإنما يعلم بالسنة، لأن السنة لا تحتاج أن تفسر
(4/461)
بالقرآن، واحتاج العباد في القرآن إلى أن فسره لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بسنته، فقد أقروا بمثل ما أنكروا، لأنهم زعموا أنه لو كان القرآن تنسخه السنة لكان ليس بحجة، إذ كان غيره ينسخه، وإن الله عظم شأنه فقال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جميعًا ولا تَفَرَّقُوا} (1) وجعله شفاء لما في الصدور، فأنكروا إذ عظمه الله أن تنسخه سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، ثم أقروا أن عامة أحكام الله فيه وأخباره ومدحه لا تعرف إلا بالسنة.
قالوا: وأما قول من خالفنا: إنه لو جاز أن ينسخ القرآن بالسنة، لجاز أن ينسخ كل أحكامه، فلا يكون لله فيه حكم يلزم، فإنه يلزمه أعظم من ذلك إذا أقر أنه لم يعرف جمل فرائض الله إلا بتفسير السنة، فكان جائزا أن يجمل الله كل فرض فيه، فلا ينقص منه شيئا حتى يجعل الله النبي - صلى الله عليه وسلم - هو المفسر لكل فرض فيه، فلا يكون لله فيه حكم يعرف إلا بالسنة، فقد أقروا بمثل ما قاسوا على من خالفهم، وزادوا معنى هو أكثر، قالوا: لأنا قلنا: إنما ينسخ الله بسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - بعض أحكام القرآن، ولا تنسخ أخباره ولا مدحه، وأقروا أن كثيرا من أخبار الله ومدحه فسرها النبي - صلى الله عليه وسلم - بسنته، فهذا أكثر في المعنى مما قلنا. (2)
موقفه من المرجئة:
- حدثنا إسحاق بن منصور، ثنا أحمد بن حنبل، ثنا أبو سلمة الحراني، قال: قال مالك وشريك وأبو بكر بن عياش وعبد العزيز بن أبي سلمة وحماد
_________
(1) آل عمران الآية (103).
(2) السنة (109 - 110).
(4/462)
ابن سلمة وحماد بن زيد: الإيمان المعرفة والإقرار والعمل، إلا أن حماد بن زيد يفرق بين الإيمان والإسلام، يجعل الإيمان خاصا والإسلام عاما.
قال أبو عبد الله: قالوا: فلنا في هؤلاء أسوة وبهم قدوة، مع ما يثبت ذلك من النظر، وذلك أن الله جعل اسم المؤمن اسم ثناء وتزكية ومدحة أوجب عليه الجنة، فقال: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} (1) وقال: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} (2) وقال: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} الآية (3) وقال: {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} (4) وقال: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} (5) وقال: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} (6).
قال: ثم أوجب الله النار على الكبائر، فدل بذلك على أن اسم الإيمان
_________
(1) الأحزاب الآيتان (43و44).
(2) يونس الآية (2).
(3) الحديد الآية (12).
(4) التحريم الآية (8).
(5) البقرة الآية (257).
(6) التوبة الآية (72).
(4/463)
زائل عن من أتى كبيرة، قالوا: ولم نجد الله أوجب الجنة باسم الإسلام، فثبت أن اسم الإسلام له ثابت على حاله، واسم الإيمان زائل عنه.
فإن قيل لهم في قولهم هذا: ليس الإيمان ضد الكفر.
قالوا: الكفر ضد لأصل الإيمان، لأن للإيمان أصلا وفرعا، فلا يثبت الكفر حتى يزول أصل الإيمان الذي هو ضد الكفر.
فإن قيل لهم: فالذي زعمتم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أزال عنه اسم الإيمان، هل فيه من الإيمان شيء؟!.
قالوا: نعم، أصله ثابت، ولولا ذلك لكفر، ألم تسمع إلى ابن مسعود أنكر على الذي شهد أنه مؤمن، ثم قال: لكنا نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، يخبرك أنه قد آمن من جهة أنه قد صدق، وأنه لا يستحق اسم المؤمن إذ كان يعلم أنه مقصر، لأنه لا يستحق هذا الاسم عنده إلا من أدى ما وجب، وانتهى عما حرم عليه من الموجبات للنار التي هي الكبائر.
قالوا: فلما أبان الله أن هذا الاسم يستحقه من قد استحق الجنة، وأن الله قد أوجب الجنة عليه، وعلمنا أنا قد آمنا وصدقنا، لأنه لا يخرج من التكذيب إلا بالتصديق، ولسنا بشاكين ولا مكذبين، وعلمنا أنا له عاصون مستوجبون للعذاب، وهو ضد الثواب الذي حكم الله به للمؤمنين على اسم الإيمان، علمنا أنا قد آمنا، وأمسكنا عن الاسم الذي أثبت الله عليه الحكم بالجنة، وهو من الله اسم ثناء وتزكية، وقد نهانا الله أن نزكي أنفسنا، وأمرنا بالخوف على أنفسنا، وأوجب لنا العذاب بعصياننا، فعلمنا أنا لسنا بمستحقين بأن نتسمى مؤمنين، إذ أوجب الله على اسم الإيمان الثناء والتزكية
(4/464)
والرحمة والرأفة والمغفرة والجنة، وأوجب على الكبائر النار، وهذان حكمان يتضادان.
فإن قيل: فكيف أمسكتم عن اسم الإيمان أن تسموا به، وأنتم تزعمون أن أصل الإيمان في قلوبكم، وهو التصديق بأن الله حق، وما قاله صدق؟!.
قالوا: إن الله ورسوله وجماعة المسلمين سموا الأشياء بما غلب عليها من الأسماء، فسموا الزاني فاسقا، والقاذف فاسقا، وشارب الخمر فاسقا، ولم يسموا واحدا من هؤلاء متقيا، ولا ورعا، وقد أجمع المسلمون أن فيه أصل التقى والورع، وذلك أنه يتقي أن يكفر أو يشرك بالله شيئا، وكذلك يتقي الله أن يترك الغسل من الجنابة أو الصلاة، ويتقي أن يأتي أمه، فهو في جميع ذلك متق، وقد أجمع المسلمون من المخالفين والموافقين أنهم لا يسمونه متقيا، ولا ورعا، إذا كان يأتي بالفجور، فلما أجمعوا أن أصل التقى والورع ثابت فيه، وأنه قد يزيد فيه فروعا بعد الأصل كتورعه عن إتيان المحارم، ثم لا يسمونه متقيا ولا ورعا مع إتيانه بعض الكبائر، وسموه فاسقا وفاجرا مع علمهم أنه قد أتى بعض التقى والورع، فمنعهم من ذلك أن اسم التقى اسم ثناء وتزكية، وأن الله قد أوجب عليه المغفرة والجنة.
قالوا: فكذلك لا نسميه مؤمنا ونسميه فاسقا زانيا، وإن كان أصل في قلبه اسم الإيمان، لأن الإيمان اسم أثنى الله به على المؤمنين وزكاهم به، فأوجب عليه الجنة، فمن ثم قلنا: "مسلم" ولم نقل: "مؤمن".
قالوا: ولو كان أحد من المسلمين الموحدين يستحق أن لا يكون في قلبه إيمان، ولا إسلام من الموحدين، لكان أحق الناس بذلك أهل النار الذين
(4/465)
دخلوها، فلما وجدنا النبي - صلى الله عليه وسلم - يخبر أن الله يقول: "أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان" ثبت أن شر المسلمين في قلبه إيمان، ولما وجدنا الأمة يحكم عليهم بالأحكام التي ألزمها الله المسلمين، ولا يكفرونهم ولا يشهدون لهم بالجنة، ثبت أنهم مسلمون، إذ أجمعوا أن يمضوا عليهم أحكام المسلمين، وأنهم لا يستحقون أن يسموا مؤمنين، إذ كان الإسلام ثبتا للملة التي يخرج بها المسلم من جميع الملل، فتزول عنه أسماء الملل، إلا اسم الإسلام، وتثبت أحكام الإسلام عليه، وتزول عنه أحكام جميع الملل.
فإن قال لهم قائل: لم لم تقولوا: كافرون إن شاء الله، تريدون به كمال الكفر، كما قلتم: مؤمنين ان شاء الله، تريدون به كمال الإيمان؟!.
قالوا: لأن الكافر منكر للحق، والمؤمن أصلي الإقرار، والإنكار لا أول له ولا آخر، فينتظر به الحقائق.
والإيمان أصله التصديق، والإقرار ينتظر به حقائق الأداء لما أقر، والتحقيق لما صدق، ومثل ذلك كمثل رجلين عليهما حق لرجل، فسأل أحدهما حقه، فقال: ليس لك عندي حق، فأنكر وجحد، فلم تبق له منزلة يحقق بها ما قال إذ جحد وأنكر. وسأل الآخر حقه، فقال: نعم، لك علي كذا وكذا، فليس إقراره بالذي يصل إليه بذلك حقه دون أن يوفيه وهو منتظر له أن يحقق ما قال إلا بأداءه، ويصدق إقراره بالوفاء ولو أقر، ثم لم يؤد حقه كان كمن جحده في المعنى، إذا استويا في الترك للأداء، فتحقيق ما قال: أن يؤدي إليه حقه، فإن أدى جزءا منه حقق بعض ما قال، ووفى ببعض ما أقر به، وكلما أدى جزءا ازداد تحقيقا لما أقر به، وعلى المؤمن الأداء أبدا لما
(4/466)
أقر به حتى يموت، فمن ثم قلنا مؤمن إن شاء الله ولم يقل كافر إن شاء الله (1).
موقف السلف من زكرويه القرمطي (294 هـ)
بيان فضائحه وتسلطه:
- قال ابن كثير: ثم دخلت سنة أربع وتسعين ومائتين. في المحرم من هذه السنة اعترض زكرويه في أصحابه إلى الحجاج من أهل خراسان وهم قافلون من مكة فقتلهم عن آخرهم وأخذ أموالهم وسبى نساءهم فكان قيمة ما أخذه منهم ألفي ألف دينار، وعدة من قتل عشرين ألف إنسان، وكانت نساء القرامطة يطفن بين القتلى من الحجاج وفي أيديهن الآنية من الماء يزعمن أنهن يسقين الجريح العطشان، فمن كلمهن من الجرحى قتلنه وأجهزن عليه، لعنهن الله ولعن أزواجهن.
ذكر مقتل زكرويه لعنه الله:
لما بلغ الخليفة خبر الحجيج وما أوقع بهم الخبيث جهز إليه جيشا كثيفا فالتقوا معه فاقتتلوا قتالا شديدا جدا، قتل من القرامطة خلق كثير ولم يبق منهم إلا القليل، وذلك في أول ربيع الأول منها. وضرب رجل زكرويه بالسيف في رأسه فوصلت الضربة إلى دماغه، وأخذ أسيرا فمات بعد خمسة أيام، فشقوا بطنه وصبروه وحملوه في جماعة من رؤوس أصحابه إلى بغداد، واحتوى عسكر الخليفة على ما كان بأيدي القرامطة من الأموال والحواصل،
_________
(1) تعظيم قدر الصلاة (2/ 512 - 517).
(4/467)
وأمر الخليفة بقتل أصحاب القرمطي، وأن يطاف برأسه في سائر بلاد خراسان، لئلا يمتنع الناس عن الحج. وأطلق من كان بأيدي القرامطة من النساء والصبيان الذين أسروهم. (1)
المكتفي بالله (2) (295 هـ)
الخليفة، أبو محمد علي بن المعتضد بالله أبي العباس أحمد بن الموفق طلحة بن المتوكل العباسي. ولد سنة أربع وستين ومائتين، وكان يضرب المثل بحسنه في زمانه، وكان رجلا ربعة ليس بالطويل ولا بالقصير، معتدل الجسم، حسن الخلق، جميل الوجه، أسود الشعر، وافر اللحية عريضها. بويع بالخلافة عند موت والده سنة تسع وثمانين، فاستخلف ستة أعوام ونصفا. قال الصولي: سمعت المكتفي يقول في علته: والله ما آسى إلا على سبعمائة ألف دينار صرفتها من مال المسلمين في أبنية ما احتجت إليها، وكنت مستغنيا عنها، أخاف أن أسأل عنها، وإني أستغفر الله منها. مات المكتفي شابا في ذي القعدة سنة خمس وتسعين ومائتين.
موقفه من المشركين:
- قال ابن كثير: فيها -أي سنة إحدى وتسعين ومائتين-: جرت وقعة عظيمة بين القرامطة وجند الخليفة فهزموا القرامطة وأسروا رئيسهم الحسين
_________
(1) البداية والنهاية (11/ 107 - 108) والسير (13/ 484).
(2) تاريخ بغداد (11/ 316 - 318) والمنتظم (13/ 77) وسير أعلام النبلاء (13/ 479 - 485) وتاريخ الإسلام (حوادث 291 - 300/ص.204 - 205) وتاريخ الخلفاء للسيوطي (376).
(4/468)
ابن زكرويه، ذا الشامة، فلما أسر حمل إلى الخليفة في جماعة كثيرة من أصحابه من رؤوسهم، وأدخل بغداد على فيل مشهور، وأمر الخليفة بعمل دفة مرتفعة فأجلس عليها وجيء بأصحابه فجعل يضرب أعناقهم بين يديه وهو ينظر، وقد جعل في فمه خشبة معرتضة مشدودة إلى قفاه، ثم أنزل فضرب مائتي سوط ثم قطعت يداه ورجلاه، وكوي، ثم أحرق وحمل رأسه على خشبة وطيف به في أرجاء بغداد، وذلك في ربيع الأول منها. (1)
- جاء في السير: وسار يحيى بن زكرويه القرمطي، وحاصر دمشق، وبها طغج، فضعف عن القرامطة، فقتل يحيى في الحصار، وقام بعده أخوه الحسين، وسار المكتفي بجيوشه إلى الموصل، وتقدمه إلى حلب أبو الأغر، فبيتهم القرمطي، فقتل من المسلمين تسعة آلاف، ووصل المكتفي إلى الرقة، وعظم البلاء بالقرامطة، ثم أوقع بهم العسكر، وهربوا إلى البادية يعيثون وينهبون، وتبعهم الحسين بن حمدان وعدة أمراء يطردونهم، وكان يحيى المقتول يدعي أنه حسيني. رماه بربري بحربة، ثم قتل أخوه الحسين صاحب الشامة. (2)
- وقال ابن كثير في حوادث سنة ثلاث وتسعين ومائتين فيها التف على أخي الحسين القرمطي المعروف بذي الشامة الذي قتل في التي قبلها خلائق من القرامطة بطريق الفرات، فعاث بهم في الأرض فسادا، ثم قصد طبرية فامتنعوا منه فدخلها قهرا فقتل بها خلقا كثيرا من الرجال، وأخذ شيئا
_________
(1) البداية (11/ 104).
(2) السير (13/ 481 - 482).
(4/469)
كثيرا من الأموال، ثم كر راجعا إلى البادية، ودخلت فرقة أخرى منهم إلى هيت فقتلوا أهلها إلا القليل، وأخذوا منها أموالا جزيلة حملوها على ثلاثة آلاف بعير، فبعث إليهم المكتفي جيشا فقاتلوهم وأخذوا رئيسهم فضربت عنقه. ونبغ رجل من القرامطة يقال له الداعية باليمن، فحاصر صنعاء فدخلها قهرا وقتل خلقا من أهلها، ثم سار إلى بقية مدن اليمن فأكثر الفساد وقتل خلقا من العباد، ثم قاتله أهل صنعاء فظفروا به وهزموه، فأغار على بعض مدنها، وبعث الخليفة إليها مظفر بن حجاج نائبا، فسار إليها فلم يزل بها حتى مات. وفي يوم عيد الأضحى دخلت طائفة من القرامطة إلى الكوفة فنادوا: يا ثارات الحسين -يعنون المصلوب في التي قبلها ببغداد- وشعارهم: يا أحمد يا محمد -يعنون الذين قتلوا معه- فبادر الناس الدخول من المصلى إلى الكوفة فدخلوا خلفهم فرمتهم العامة بالحجارة فقتلوا منهم نحو العشرين رجلا، ورجع الباقون خاسئين. (1)
الحَكَم الخُزَاعِي (2) (295 هـ)
الحكم بن معبد بن أحمد الخزاعي، الحنفي، أبو عبد الله، فقيه محدث، من أهل أصبهان، صنف كتاب السنة. روى عن محمد بن حميد الرازي، ومحمد ابن المثنى، ونصر بن علي الجهضمي ومحمد بن يحيى بن أبي عمر العدني.
_________
(1) البداية والنهاية (11/ 106 - 107).
(2) تاريخ أصبهان (1/ 301 - 351) والجواهر المضية في طبقات الحنفية (2/ 143) وشذرات الذهب (2/ 218) ومعجم المؤلفين (4/ 71).
(4/470)
وروى عنه أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر المعروف بأبي الشيخ، وأبو نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد الحافظ. تفقه على مذهب الكوفيين، صاحب أدب وغريب، ثقة. توفي سنة خمس وتسعين ومائتين.
موقفه من المبتدعة:
- له من الآثار السلفية كتاب السنة ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في درء التعارض وغيره من كتبه. (1)
وهذا الإمام من أهل أصبهان، وأهل أصبهان كانت لهم مواقف مشرفة من المبتدعة.
محمد بن أحمد الترمذي (2) (295 هـ)
هو الإمام العلامة شيخ الشافعية بالعراق في وقته، أبو جعفر محمد بن أحمد بن نصر الترمذي. ولد سنة إحدى ومائتين. سكن بغداد وحدث بها عن يحيى بن بكير المصري وغيره، وكان من أهل العلم والزهد، وسمع أيضا يوسف بن عدي وإبراهيم ابن المنذر وعبيد الله القواريري. وحدث عنه أحمد ابن كامل، وأبو القاسم الطبراني، وأبو بكر بن خلاد وغيرهم. قال الدارقطني: ثقة مأمون ناسك. وكان قد اختلط في آخر عمره اختلاطا عظيما
_________
(1) مجموع الفتاوى (17/ 223) وسماه "الرد على الجهمية"، وشذرات الذهب (2/ 218) والجواهر المضية (2/ 533) وكشف الظنون (2/ 1426) ومعجم المؤلفين (4/ 71).
(2) طبقات الشافعية (1/ 288) وتاريخ بغداد (1/ 365 - 366) والمنتظم (13/ 77 - 78) ووفيات الأعيان (2/ 195 - 196) والوافي بالوفيات (2/ 70) واللسان (5/ 46) وشذرات الذهب (2/ 220 - 221) والسير (13/ 545 - 547).
(4/471)
ولم يكن للشافعية فقيه بالعراق أرأس منه، ولا أشد ورعا، وكان من التقلل على حالة عظيمة يعني في المطعم، فقرا وورعا وصبرا على الفقر، وكان لا يسأل أحدا شيئا. توفي لإحدى عشرة ليلة خلت من المحرم سنة خمس وتسعين ومائتين.
موقفه من الرافضة:
- جاء في طبقات الشافعية: له في المقالات كتاب سماه: 'كتاب اختلاف أهل الصلاة في الأصول' وقف عليه ابن الصلاح وانتقى منه فقال: ومن خطه نقلت أن أبا جعفر قال: ما تعرض في هذا الكتاب لما يختار هو وأنه روى في أوله حديث: تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة (1)، عن أبي بكر بن أبي شيبة، وأنه بالغ في الرد على من فضل الغنى على الفقر، وأنه نقل أن فرقة من الشيعة قالوا: أبو بكر وعمر أفضل الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، غير أن عليا أحب إلينا. قال أبو جعفر: فلحقوا بأهل البدع، حيث ابتدعوا خلاف من مضى. (2)
موقفه من الجهمية:
- قال والد أبي حفص بن شاهين: حضرت أبا جعفر، فسئل عن
_________
(1) أحمد (2/ 322) وأبو داود (5/ 4/4596) والترمذي (5/ 25/2640) وقال: "حديث حسن صحيح". وابن ماجه (2/ 1321/3991) وابن حبان (14/ 140/6247) و (15/ 125/6731) والحاكم (1/ 128) من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة به وقال: "صحيح على شرط مسلم" ووافقه الذهبي. وقال الشيخ الألباني في الصحيحة (1/ 403): "فيه نظر، فإن محمد بن عمرو فيه كلام، ولذلك لم يحتج به مسلم وإنما روى له متابعة، وهو حسن الحديث".
(2) طبقات الشافعية (1/ 288).
(4/472)
حديث النزول (1)، فقال: النزول معقول، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. (2)
عبد الله بن المعتز (3) (296 هـ)
الأمير الهاشمي العباسي عبد الله بن المعتز بن المتوكل بن المعتصم بن هارون الرشيد بن المهدي، أبو العباس البغدادي الأديب الشاعر. ولد سنة تسع وأربعين ومائتين، وتأدب بالمبرد وثعلب وغيرهما، وروى عنه مؤدبه ومحمد بن يحيى الصولي. قال ابن خلكان: كان أديبا بليغا شاعرا مطبوعا مقتدرا على الشعر قريب المأخذ سهل اللفظ جيد القريحة، حسن الإبداع للمعاني، مخالطا للعلماء والأدباء معدودا من جملتهم. وقال صلاح الدين الصفدي: وكان سني العقيدة منحرفا عن العلويين.
وفي سنة ست وتسعين خلع المقتدر بالله وبويع لعبد الله بن المعتز، فقال: على شرط أن لا يقتل بسببي رجل مسلم، وكان حول المقتدر خواصه، فلبسوا السلاح، فتفرق عن ابن المعتز جمعه، وخاف، فاختفى، ثم قبض عليه، وقتل سرا في ربيع الآخر سنة ست وتسعين ومائتين، ودفن في خرابة بإزاء داره رحمه الله. ومن شعره:
يا نفس صبرا لعل الخير عقباك مرت بنا سحرا طير، فقلت لها لكن هو الدهر فألقيه على حذر ... خانتك من بعد طول الأمن دنياك
_________
(1) انظر تخريجه في مواقف حماد بن سلمة سنة (167هـ).
(2) السير (13/ 547).
(3) تاريخ بغداد (10/ 95 - 101) والمنتظم (13/ 84 - 90) ووفيات الأعيان (3/ 76 - 80) والسير (14/ 42 - 44) والبداية والنهاية (11/ 115 - 117) والوافي بالوفيات (17/ 447 - 467).
(4/473)
طوباك يا ليتني إياك، طوباك
فرب مثلك تنزو بين أشراك
ومن كلامه: "العلماء غرباء لكثرة الجهال بينهم". "النصح بين الملإ تقريع". "لا تستبطئ الإجابة للدعاء وقد سددت طريقه بالذنوب".
موقفه من المبتدعة:
قال عبد الله بن المعتز: لا فرق بين بهيمة تقاد وإنسان يقلد. (1)
محمد بن داود (2) (297 هـ)
محمد بن داود بن علي الظاهري أبو بكر الفقيه البغدادي. حدث عن أبيه وعباس الدوري وأبي قلابة الرقاشي وأحمد بن أبي خيثمة وطبقتهم. وحدث عنه نفطويه والقاضي أبو عمر محمد بن يوسف وجماعة. كان عالما بارعا أديبا شاعرا فقيها ماهرا وله بصر تام بالحديث، وبأقوال الصحابة كان يجتهد ولا يقلد أحدا. توفي في شهر رمضان سنة سبع وتسعين ومائتين رحمه الله تعالى.
موقفه من الصوفية:
جاء في تلبيس إبليس: عن أبي القاسم يوسف بن يعقوب النعماني قال: سمعت والدي يقول: سمعت أبا بكر محمد بن داود الفقيه الأصبهاني يقول: إن
_________
(1) جامع بيان العلم وفضله (2/ 989).
(2) تاريخ بغداد (5/ 256 - 263) والسير (13/ 109 - 116) والوافي بالوفيات (3/ 58 - 61) والبداية والنهاية (11/ 117 - 118).
(4/474)
كان ما أنزل الله عزوجل على نبيه - صلى الله عليه وسلم - حقا، فما يقوله الحلاج باطل وكان شديدا عليه. (1)
محمد بن أبي شَيْبَة (2) (297 هـ)
محمد بن عثمان بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان، أبو جعفر مولى بني عبس من أهل الكوفة. سكن بغداد، وحدث بها عن أبيه وعميه أبي بكر والقاسم، وعن أحمد بن يونس اليربوعي، وعلي بن المديني، ويحيى بن معين، ونحوهم. وكان كثير الحديث واسع الرواية ذا معرفة وفهم، وجمع وصنف وله تاريخ كبير، ولم يرزق حظا، بل نالوا منه. روى عنه محمد بن محمد الباغندي، ويحيى بن محمد بن صاعد، وابن السماك، وأبو القاسم الطبراني، والإسماعيلي، وغيرهم. قال أبو الحسين بن المنادي: كنا نسمع الشيوخ يقولون: مات حديث الكوفة لموت محمد بن أبي شيبة ومطين وموسى بن إسحاق وعبيد بن غنام. وقال الذهبي: اتفق موت الأربعة في عام. مات ابن أبي شيبة في جمادى الأولى سنة سبع وتسعين ومائتين وقد قارب التسعين.
موقفه من الجهمية:
وهو غير أبي بكر صاحب المصنف وله كتاب 'العرش' وهو من خيرة الكتب التي في هذا الباب، وقد أخذ منه شيخ الإسلام الشيء الكثير، وشن
_________
(1) التلبيس (ص 213).
(2) البداية والنهاية (11/ 118 - 119) والسير (14/ 21 - 23) وتاريخ بغداد (3/ 42 - 47) وتذكرة الحفاظ (2/ 661 - 662) وميزان الاعتدال (3/ 642 - 643) واللسان (5/ 280 - 281) وشذرات الذهب (2/ 226) والمنتظم (13/ 102).
(4/475)
عليه حملة شعواء حامل راية الجهمية الشيخ النجدي الشعوبي الجركسي المسمى "زاهد الكوثري" وهو زاهد في السنة والسلف الصالح، في كثير من مقالاته وتعاليقه.
وقد حقق الكتاب رسالة علمية في الجامعة الإسلامية.
- قال في كتاب العرش: ذكروا أن الجهمية يقولون ليس بين الله عز وجل وبين خلقه حجاب وأنكروا العرش وأن يكون الله هو فوقه، وفوق السموات، وقالوا: إن الله في كل مكان، وإنه لا يتخلص من خلقه، ولا يتخلص الخلق منه إلا أن يفنيهم أجمع، فلا يبقى من خلقه شيء، وهو مع الآخر، والآخر من خلقه ممتزج به، فإذا أفنى خلقه تخلص منهم وتخلصوا منه تبارك وتعالى عما يقولون علوا كبيرا.
ومن قال بهذه المقالة فإلى التعطيل يرجع قولهم.
وقد علم العالمون أن الله قبل أن يخلق خلقه قد كان متخلصا من خلقه بائنا منهم، فكيف دخل فيهم؟ تبارك وتعالى أن يوصف بهذه الصفة. بل هو فوق العرش كما قال، محيط بالعرش، متخلص من خلقه، بائن منه. علمه في خلقه لا يخرجون من علمه، وقد أخبرنا عز وجل أن العرش كان قبل خلق السموات والأرض على الماء، وأخبرنا عز وجل أنه صار من الأرض إلى السماء ومن السماء إلى العرش فاستوى على العرش، قال عز وجل: {وكان عَرْشُهُ على الْمَاءِ} (1)، وقال: {قُلْ أئنكم لَتَكْفُرُونَ
_________
(1) هود الآية (7).
(4/476)
بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (1).
ثم قال جل وعز: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ} (2). وقال: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ} (3). ففسرت العلماء قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ} يعني: علمه.
وقال عز وجل: {الرحمن على العرش استوى} (4)، فالله تعالى استوى على العرش يرى كل شيء في السموات والأرضين، ويعلم ويسمع كل ذلك بعينه وهو فوق العرش، لا الحجب التي احتجب بها عن خلقه
_________
(1) فصلت الآيات (9 - 11).
(2) المجادلة الآية (7).
(3) الحديد الآية (4).
(4) طه الآية (5).
(4/477)
تحجبه من أن يرى ويسمع ما في الأرض السفلى، ولكنه خلق الحجب وخلق العرش كما خلق الخلق لما شاء كيف شاء ما يحمله إلا عظمته فقال: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} (1)، وقال جل وعز: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (2)، وقال عز وجل: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} (3)، وقال: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} (4).
وأجمع الخلق جميعا أنهم إذا دعوا الله جميعا رفعوا أيديهم إلى السماء، فلو كان الله عز وجل في الأرض السفلى ما كانوا يرفعون أيديهم إلى السماء وهو معهم على الأرض.
ثم توافرت الأخبار على أن الله تعالى خلق العرش فاستوى عليه بذاته ثم خلق الأرض والسماوات، فصار من الأرض إلى السماء، ومن السماء إلى العرش.
فهو فوق السماوات وفوق العرش بذاته متخلصا من خلقه بائنا منهم،
_________
(1) السجدة الآية (5).
(2) فاطر الآية (10).
(3) آل عمران الآية (55).
(4) النساء الآيتان (157و158).
(4/478)
علمه في خلقه لا يخرجون من علمه. (1)
محمد بن يحيى المروزي (2) (298 هـ)
محمد بن يحيى بن سليمان المروزي ثم البغدادي أبو بكر الشيخ المحدث. سمع عاصم بن علي وأبا عبيد القاسم بن سلام وعلي بن الجعد وغيرهم. وروى عنه النجاد وأبو بكر الشافعي والطبراني وآخرون. قال عنه ابن الجزري: مقرئ محدث مشهور روى القراءة عرضا عن محمد بن سعدان وغيره. وقال الدارقطني: صدوق. مات في شوال سنة ثمان وتسعين ومائتين.
موقفه من الجهمية:
قال الذهبي في السير في ترجمة مصعب بن عبد الله بن مصعب: وثقه الدارقطني. ومنهم من تكلم فيه لأجل وقفه في مسألة القرآن. قال أبو بكر المروزي: كان من الواقفة، فقلت له: قد كان وكيع وأبو بكر بن عياش، يقولان: القرآن غير مخلوق، قال: أخطأ وكيع وأبو بكر. قلت: فعندنا عن مالك أنه قال: غير مخلوق، قال: أنا لم أسمعه، قلت: يحكيه إسماعيل بن أبي أويس. قال الحسين بن قهم: كان مصعب إذا سئل عن القرآن، يقف ويعيب من لا يقف. (3)
_________
(1) كتاب العرش (276 - 292).
(2) السير (14/ 48 - 49) وتاريخ بغداد (3/ 422 - 423) وتهذيب الكمال (26/ 612 - 614) وتهذيب التهذيب (9/ 510) وغاية النهاية في طبقات القراء (2/ 276 - 277) وشذرات الذهب (2/ 231).
(3) السير (11/ 30).
(4/479)
أبو عثمان الحيري الصوفي (1) (298 هـ)
الشيخ المحدث أبو عثمان سعيد بن إسماعيل بن سعيد النيسابوري الحيري الصوفي. ولد سنة ثلاثين ومائتين بالري فسمع بها من محمد بن مقاتل الرازي وموسى بن نصر وبالعراق من حميد بن الربيع ومحمد بن إسماعيل الأحمسي وعدة. سمع من أبي جعفر بن حمدان صحيحه المخرج على مسلم بلفظه وكان إذا بلغ سنة لم يستعملها وقف عندها حتى يستعملها. حدث عنه أبو عمرو أحمد بن نصر وأبو عمرو بن مطر وإسماعيل بن نجيد وعدة.
قال أبو الحسين أحمد بن أبي عثمان توفي أبي لعشر بقين من ربيع الاخر سنة ثمان وتسعين ومائتين وصلى عليه الأمير أبو صالح.
موقفه من المبتدعة:
قال أبو عمرو بن حمدان: سمعته يقول: من أمر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة، ومن أمر الهوى على نفسه، نطق بالبدعة، قال تعالى: {وَإِنْ تطيعوه تهتدوا} (2). اهـ (3)
قال الذهبي عقبه: وقال تعالى: {ولا تَتَّبِعِ الهوى فيضلك عن
_________
(1) السير (14/ 62 - 66) ووفيات الأعيان (2/ 369 - 370) والحلية (10/ 244 - 246) والأنساب (2/ 298 - 299) وتاريخ بغداد (9/ 99 - 102).
(2) النور الآية (54).
(3) السير (14/ 63 - 64) ومجموع الفتاوى (11/ 210).
(4/480)
سبيل اللَّهِ} (1).
موقف السلف من ابن الراوندي الزنديق الكبير (298 هـ)
بيان زندقته:
-جاء في البداية والنهاية: أحد مشاهير الزنادقة، كان أبوه يهوديا فأظهر الإسلام، ويقال إنه حرف التوراة كما عادى ابنه القرآن بالقرآن، وألحد فيه، وصنف كتابا في الرد على القرآن سماه 'الدامغ'. وكتابا في الرد على الشريعة والاعتراض عليها سماه 'الزمردة'، وكتابا يقال له 'التاج' في معنى ذلك وله كتاب 'الفريد' وكتاب 'إمامة المفضول الفاضل' وقد انتصب للرد على كتبه هذه جماعة منهم: الشيخ أبو علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي، شيخ المعتزلة في زمانه وقد أجاد في ذلك وكذلك ولده أبو هاشم عبد السلام ابن أبي علي، قال الشيخ أبو علي: قرأت كتاب هذا الملحد الجاهل السفيه ابن الراوندي، فلم أجد فيه إلا السفه والكذب والافتراء قال: وقد وضع كتابا في قدم العالم ونفي الصانع وتصحيح مذهب الدهرية والرد على أهل التوحيد، ووضع كتابا في الرد على محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سبعة عشر موضعا، ونسبه إلى الكذب يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - وطعن على القرآن ووضع كتابا لليهود والنصارى وفضل دينهم على المسلمين والإسلام، يحتج لهم فيها على إبطال نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، إلى غير ذلك من الكتب التي تبين خروجه عن
_________
(1) ص الآية (26).
(4/481)
الإسلام. نقل ذلك ابن الجوزي عنه.
وقد أورد ابن الجوزي في منتظمه طرفا من كلامه وزندقته، وطعنه على الآيات والشريعة، ورد عليه في ذلك وهو أقل وأخس وأذل من أن يلتفت إليه وإلى جهله وكلامه وهذيانه وسفهه وتمويهه. وقد أسند إليه حكايات من المسخرة والاستهتار والكفر والكبائر، منها ما هو صحيح عنه ومنها ما هو مفتعل عليه ممن هو مثله، وعلى طريقه ومسلكه في الكفر والتستر في المسخرة يخرجونها في قوالب مسخرة وقلوبهم مشحونة بالكفر والزندقة، وهذا كثير موجود فيمن يدعي الإسلام وهو منافق، يتمسخرون بالرسول ودينه وكتابه، وهؤلاء ممن قال الله تعالى فيهم: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (1).
وقد كان أبو عيسى الوراق مصاحبا لابن الراوندي قبحهما الله، فلما علم الناس بأمرهما طلب السلطان أبا عيسى فأودع السجن حتى مات، وأما ابن الراوندي فهرب، فلجأ إلى ابن لاوي اليهودي، وصنف له في مدة مقامه عنده كتابه الذي سماه 'الدامغ للقرآن' فلم يلبث بعده إلا أياما يسيرة حتى مات لعنه الله. ويقال إنه أخذ وصلب. قال أبو الوفاء بن عقيل: ورأيت في كتاب محقق أنه عاش ستا وثلاثين سنة مع ما انتهى إليه من التوغل في
_________
(1) التوبة الآيتان (65و66).
(4/482)
المخازي في هذا العمر القصير لعنه الله وقبحه، ولا رحم عظامه. (1)
جاء في السير في ترجمته: الملحد، عدو الدين، أبو الحسين أحمد بن يحيى ابن إسحاق الريوندي، صاحب التصانيف في الحط على الملة، وكان يلازم الرافضة والملاحدة، فإذا عوتب قال: إنما أريد أن أعرف أقوالهم. ثم إنه كاشف وناظر، وأبرز الشبه والشكوك. (2)
قال ابن الجوزي: وقد كنت أسمع عنه بالعظائم حتى رأيت ما لم يخطر مثله على قلب أن يقوله عاقل، ووقعت على كتبه فمنها: كتاب 'نعت الحكمة'، وكتاب 'قضيب الذهب'، وكتاب 'الزمرد' وكتاب 'التاج'، وكتاب 'الدامغ'، وكتاب 'الفريد'، وكتاب 'إمامة المفضول'.
وقد نقض عليه هذه الكتب جماعة فأما كتاب نعت الحكمة، وكتاب قضيب الذهب، وكتاب التاج، وكتاب الزمرد والدامغ فنقضها عليه أبو علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي، وقد نقض عليه أيضا كتاب الزمرد أبو الحسين عبد الرحيم بن محمد الخياط، ونقض عليه أيضا كتاب إمامة المفضول. (3)
- قال ابن عقيل: عجبي كيف لم يقتل وقد صنف الدامغ يدمغ به القرآن، والزمردة يزري فيه على النبوات. (4)
- قال ابن الجوزي: وقد نظرت في كتاب الزمرد فرأيت فيه من
_________
(1) البداية والنهاية (11/ 120 - 121).
(2) السير (14/ 59).
(3) المنتظم (13/ 108 - 109).
(4) السير (14/ 60).
(4/483)
الهذيان البارد الذي لا يتعلق بشبهه، حتى أنه لعنه الله قال فيه: نجد في كلام أكثم بن صيفي أحسن من {إِنَّا أعطيناك الْكَوْثَرَ} (1) في نظائر لهذا. وفيه أن الأنبياء وقعوا بطلسمات. (2)
- قال أبو العباس ابن القاص الفقيه: كان ابن الراوندي لا يستقر على مذهب ولا نحلة، حتى صنف لليهود كتاب النصرة على المسلمين لدراهم أعطيها من يهود. فلما أخذ المال، رام نقضها، فأعطوه مئتي درهم حتى سكت. (3)
قال البلخي: لم يكن في نظراء ابن الراوندي مثله في المعقول، وكان أول أمره حسن السيرة، كثير الحياء، ثم انسلخ من ذلك لأسباب، وكان علمه فوق عقله. (4)
قال ابن الجوزي: وقد ذكر في كتاب 'الدامغ' من الكفر أشياء تقشعر منها الجلود، غير أني آثرت أن أذكر منها طرفا ليعرف مكان هذا الملحد من الكفر، ويستعاذ بالله سبحانه من الخذلان فمن ذلك أنه قال عن الخالق تعالى عن ذلك: من ليس عنده من الدواء إلا القتل فعل العدو الحنق الغضوب، فما حاجته إلى كتاب ورسول؟ وهذا قول جاهل بالله سبحانه لأنه لا يوصف بالحنق ولا بالحاجة وما عاقب حتى أنذر. وقال لعنه الله ووجدناه يزعم أنه
_________
(1) الكوثر الآية (1).
(2) المنتظم (13/ 110).
(3) السير (14/ 61).
(4) السير (14/ 61).
(4/484)
يعلم الغيب، فيقول: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ ورقةٍ إِلًّا يعلمها} (1) ثم يقول: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عليها إِلًّا لِنَعْلَمَ} (2). وهذا جهل منه بالتفسير ولغة العرب، وإنما المعنى ليظهر ما علمناه، ومثله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ} (3) أي نعلم ذلك واقعا. وقال بعض العلماء: حتى يعلم أنبياؤنا والمؤمنون به. وقال في قوله: {إِنَّ كيد الشيطان كَانَ ضعيفًا} (4) أي أضعف له، وقد أخرج آدم وأزل خلقا. وهذا تغفل منه، لأن كيد إبليس تسويل بلا حجة والحجج ترده، ولهذا كان ضعيفا، فلما مالت الطباع إليه آثر وفعل. وقال: من لم يقم بحساب ستة تكلم بها في الجملة فلما صار إلى التفاريق وجدناه قد غلط فيها باثنين وهو قوله: {خَلَقَ الأرض في يومين} (5) ثم قال: {وقدر فيها أَقْوَاتَهَا في أربعة أيامٍ} (6) ثم قال: {فقضاهن سبع سموات في يومين} (7)، فعدها هذا المغفل ثمانية ولو نظر في أقوال العلماء لعلم أن المعنى في تتمة أربعة أيام. وقال: في قوله: {إِنَّ لَكَ ألا تَجُوعَ ولا تعرى} (8) وقد جاع
_________
(1) الأنعام الآية (59).
(2) البقرة الآية (143).
(3) محمد الآية (31).
(4) النساء الآية (76).
(5) فصلت الآية (9).
(6) فصلت الآية (10).
(7) فصلت الآية (12).
(8) طه الآية (118) ..
(4/485)
وعري وهذا المغفل الملعون ما فهم أن الأمر مشروط بالوفاء بما عوهد عليه من قوله: {ولا تَقْرَبَا هذه الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} (1) وقال في قوله: {وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يفقهوه} (2) ثم قال: {وربك الغفور ذو الرحمة} (3) فأعظم الخطوب ذكره الرحمة مضموما إلى إهلاكهم. وهذا الأبله الملعون ما علم أنه لما وصف نفسه بالمعاقبة للمذنبين فانزعجت القلوب ضم إلى ذلك ذكر الرحمة بالحلم عن العصاة والإمهال والمسامحة في أكثر الكسب ... قال الملعون: ومن الكذب قوله: {ولقد خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صورناكم ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسجدوا لأدم} (4) وهذا كان قبل تصوير آدم. وهذا الأحمق الملعون لو طالع أقوال العلماء وفهم سعة اللغة علم أن المعنى خلقنا آدم وصورناه كقوله: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ} (5). وقال: من فاحش ظلمه قوله: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جلودهم بدلناهم جلودًا غيرها} (6) فعذب جلودا لم تعصه. وهذا الأحمق الملعون لا يفهم أن الجلد آلة للتعذيب، فهو كالحطب يحرق لانضاج غيره، ولا يقال أنه معذب، وقد قال العلماء:
_________
(1) البقرة الآية (35).
(2) الإسراء الآية (46).
(3) الكهف الآية (58).
(4) الأعراف الآية (11).
(5) الحاقة الآية (11).
(6) النساء الآية (56).
(4/486)
إن الجلود الثانية هي الأولى أعيدت كما يعاد الميت بعد البلى. قال: وقوله: {لا تَسْأَلُوا عَنْ أشياء إِنْ تبد لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (1) وإنما يكره السؤال رديء السلعة لئلا تقع عليه عين التاجر فيفتضح.
فانظروا إلى عامية هذا الأحمق الملعون وجهله، أتراه قال: لا تسألوا عن الدليل على صحة قولي؟ إنما كانوا يسألون فيقول قائلهم: من أبي؟ فقال: {لا تَسْأَلُوا عَنْ أشياء} يعني من هذا الجنس، فربما قيل للرجل أبوك فلان وهو غير أبيه الذي يعرف فيفتضح. قال: ولما وصف الجنة، قال: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} (2) وهو الحليب، ولا يكاد يشتهيه إلا الجياع، وذكر العسل ولا يطلب صرفا، والزنجبيل وليس من لذيذ الأشربة، والسندس يفرش ولا يلبس، وكذلك الاستبرق الغليظ، قال: ومن تخايل أنه في الجنة يلبس هذا الغليظ ويشرب الحليب والزنجبيل صار كعروس الأكراد والنبط. فانظروا إلى لعب هذا الملعون المستهزئ وجهله ومعلوم أن الخطاب إنما هو للعرب وهم يؤثرون ما وصف، كما قال: {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} (3)، ثم إنما وصف أصول الأشياء المتلذذ بها، فالقدرة قد تكون من اللبن أشياء كالمطبوخات وغيرها ومن العسل أشياء يتحلى بها، ثم قال عز وجل: {وفيها
_________
(1) المائدة الآية (101).
(2) محمد الآية (15).
(3) الواقعة الآيتان (28و29).
(4/487)
ما تشتهيه الأنفس وتلذ الْأَعْيُنُ} (1) وقال: "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" (2) فوصف ما يعرف ويشتهى وضمن ما لا يعرف؛ وقال: إنما أهلك ثمودا لأجل ناقة، وما قدر ناقة؟ وهذا جهل منه الملعون. فإنه إنما أهلكهم لعنادهم وكفرهم في مقابلة المعجزة، لا لإهلاك ناقة. قال: وقال: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} (3) ثم قال: {لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} (4). ولو فهم أن الإسراف الأول في الخطايا دون الشرك، والثاني في الشرك، وما يتعلق بكل آية يكشف معناها. قال: ووجدناه يفتخر بالفتنة التي ألقاها بينهم كقوله: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} (5) {ولقد فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} (6)، ثم أوجب للذين فتنوا المؤمنين عذاب الأبد. وهذا الجاهل الملعون لا يدري أن الفتنة كلمة يختلف معناها في القرآن، فالفتنة معناها: الابتلاء، كالآية الأولى، والفتنة الإحراق كقوله: {فَتَنُوا
_________
(1) الزخرف الآية (71).
(2) أحمد (2/ 313) والبخاري (8/ 661/4779) ومسلم (4/ 2174/2824) والترمذي (5/ 323/3197) وابن ماجه (2/ 1447/4328) من حديث أبي هريرة.
(3) الزمر الآية (53) ..
(4) غافر الآية (28).
(5) الأنعام الآية (53).
(6) العنكبوت الآية (3).
(4/488)
الْمُؤْمِنِينَ} (1). وقال: وقوله: {وَلَهُ أسلم مَنْ في السَّمَاوَاتِ والأرض} (2) خبر محال، لأنه ليس كل الناس مسلمين، وكذلك قوله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلًّا يسبح بحمده} (3) وقوله: {وَلِلَّهِ يسجد ما في السَّمَاوَاتِ وَمَا في الأرض} (4) ولو أن هذا الزنديق الملعون طالع التفسير وكلام العرب لما قال هذا، إنما يتكلم بعاميته وحمقه، وإنما المعنى وله أسلم استسلم والكل منقاد لما قضى به وكل ذليل لأمره، وهو معنى السجود؛ ثم قد تطلق العرب لفظ الكل وتريد البعض كقوله: {تدمر كُلَّ شَيْءٍ} (5)
وقد ذكر الملعون أشياء من هذا الجنس مزجها بسوء الأدب، والانبساط القبيح، والذكر للخالق سبحانه وتعالى بما لا يصلح أن يذكر به أحد العوام، وما سمعنا أن أحدا عاب الخالق وانبسط كانبساط هذا اللعين قبله ويلومه، لو جحد الخالق كان أصلح له من أن يثبت وجوده، ثم يخاصمه ويعيبه وليس له في شيء مما قاله شبهة، فضلا عن حجة فتذكر ويجاب عنها، وإنما هو خذلان فضحه الله تعالى به في الدنيا، والله تعالى يقابله يوم القيامة مقابلة تزيد على مقابلة إبليس، وإن خالف، لكنه
_________
(1) البروج الآية (10).
(2) آل عمران الآية (83).
(3) الإسراء الآية (44).
(4) النحل الآية (49).
(5) الأحقاف الآية (25) ..
(4/489)
احترم في الخطاب كقوله: {فبعزتك} (1) ولم يواجه بسوء أدب كما واجه هذا اللعين، جمع الله بينهما، وزاد هذا من العذاب. وقد حكينا عن الجبائي أن ابن الريوندي مرض ومات، ورأيت بخط ابن عقيل أنه صلبه بعض السلاطين والله أعلم. (2)
فائدة:
قال الحافظ ابن كثير: وقد ذكره ابن خلكان في الوفيات وقلس عليه ولم يجرحه بشيء، ولا كأن الكلب أكل له عجينا، على عادته في العلماء والشعراء، فالشعراء يطيل تراجمهم، والعلماء يذكر لهم ترجمة يسيرة، والزنادقة يترك ذكر زندقتهم. (3)
" التعليق:
وهذا الذي يبكي عليه الإمام ابن كثير وابن الجوزي وابن عقيل، وما فعله هذا السلطان الذي لم نحظ باسمه، وكان التقصير مني في التنقيب عليه، ولعل الله يوفق لذلك في فسحة من العمر. نحن الآن نعايشه وأصبح أهله أكثر من الذباب والحشرات المؤذية، وأكثرها من نوع الأفاعي الصحراوية المسمومة سما خاصا بطيئا فيها. ومعاملة أكثر أهل هذا الزمان -الذين يدعون أنهم حماة الإسلام- لهؤلاء الزنادقة من أحسن ما يكون، المساعدة المادية واللقاءات الشخصية المصحوبة بالابتسامة وتهليل سرائر الوجه، كأنه مذهبة
_________
(1) ص الآية (82).
(2) المنتظم (13/ 112 - 117).
(3) البداية والنهاية (11/ 121).
(4/490)
وإعطاؤهم كل ما يحتاجون إليه من رخص لفتح أي مشروع يريدونه لنشر زندقتهم وإلحادهم -جرائد مجلات مطبعات نوادي وكل ما يريدون- فليقارن العاقل اللبيب بين الأمس واليوم، يجد الفرق واضحا والله المستعان.
ابن كَيْسَان (1) (299 هـ)
هو أبو الحسن البغدادي محمد بن أحمد بن كيسان النحوي أحد حفاظه والمكثرين منه كان يحفظ طريقة البصريين والكوفيين معا، قال ابن مجاهد: كان ابن كيسان أنحى من الشيخين المبرد وثعلب، وهما من شيوخه له تصانيف في القراءات والغريب والنحو. وكان من جلة النحويين. توفي سنة تسع وتسعين ومائتين.
موقفه من الجهمية:
- قال أبو عمر: وسمعت ابن كيسان وسأله رجل، فقال له: ما تقول في القرآن؟ فقال له ابن كيسان: أقول: إن الله أمر وهو الخالق، وأقول: إن العبد مأمور وهو مخلوق، وأقول: إن القرآن أمره لا خالق ولا مخلوق. ثم قال ابن كيسان: هذا مذهب العلماء أهل الإسلام وهو مذهب أحمد بن حنبل وثعلب وأصحاب الحديث. (2)
_________
(1) طبقات النحويين واللغويين (153) والبداية والنهاية (11/ 125) وشذرات الذهب (2/ 232) والوافي بالوفيات (2/ 31 - 32) وتاريخ بغداد (1/ 335).
(2) الإبانة (2/ 14/292 - 293/ 462).
(4/491)
ابن البرذون (1) (299 هـ)
إبراهيم بن محمد بن البرذون الضبي أبو إسحاق الإمام المفتي. روى عن أبي عثمان ابن الحداد وعيسى بن مسكين ويحيى بن عمر وجماعة. قال القاضي عياض: كان يقول: إني أتكلم في تسعة عشر فنا من العلم، قال الخراط: كان ابن البرذون بارعا في العلم يذهب مذهب النظر لم يكن في شباب عصره أقوى على الجدل وإقامة الحجة منه. لما جرد للقتل قيل: أترجع عن مذهبك؟ قال: أعن الإسلام أرجع؟ ثم صلب من طرف الشيعة في سنة تسع وتسعين ومائتين.
موقفه من الرافضة:
- جاء في السير: وكان مناقضا للعراقيين، فدارت عليه دوائر في أيام عبيد الله، وضرب بالسياط، ثم سعوا به عند دخول الشيعي إلى القيروان، وكانت الشيعة تميل إلى العراقيين لموافقتهم لهم في مسألة التفضيل ورخصة مذهبهم، فرفعوا إلى أبي عبد الله الشيعي: أن ابن البرذون وأبا بكر بن هذيل يطعنان في دولتهم، ولا يفضلان عليا. فحبسهما، ثم أمر متولي القيروان أن يضرب ابن هذيل خمس مئة سوط، ويضرب عنق ابن البرذون، فغلط المتولي فقتل ابن هذيل، وضرب ابن البرذون، ثم قتله من الغد. وقيل لابن البرذون لما جرد للقتل: أترجع عن مذهبك؟ قال: أعن الإسلام أرجع؟ ثم صلبا في سنة تسع وتسعين ومئتين. وأمر الشيعي الخبيث أن لا يفتى بمذهب مالك، ولا
_________
(1) السير (14/ 215 - 217) ومعالم الإيمان (2/ 261 - 265) والديباج المذهب (1/ 266 - 267) وترتيب المدارك (5/ 117 - 121) ورياض النفوس (2/ 47 - 51).
(4/492)
يفتى إلا بمذهب أهل البيت، ويرون إسقاط طلاق البتة، فبقي من يتفقه لمالك إنما يتفقه خفية. (1)
موقفه من الجهمية:
- جاء في 'معالم الإيمان' للدباغ: وكان فقيها بارعا في العلم، يذهب مذهب النظر من رجال أبي عثمان سعيد بن الحداد، لم يكن في شباب عصره أقوى على الجدل والمناظرة وإقامة الحجة على المخالفين منه. قلت: ما ذكر هو لفظ المالكي، وكان يقول: نتكلم في تسعة عشر فنا من العلم، وكان شديد التحنك للعراقيين والمناظرة، فدارت عليه بذلك دوائر في دولتهم، ضربه مرة بالسياط محمد بن أسود الصديني إذ كان قاضيا وكان الصديني يصرح بخلق القرآن، ثم سعى عليه العراقيون عند دخول الشيعي القيروان لموافقتهم إياه في مسألة التفضيل ورخصة مذهبهم. (2)
" التعليق:
هذه البدعة المشئومة لم تترك مكانا إلا ودخلته، وأفسدت أهله، ووجدت من ينصرها ويتعاون مع سلالة اليهود في ضرب علماء المسلمين، فلذا المبتدعة على جميع أنواعهم يؤمنون بالتعاون مع أي إنسان أو فرقة ضالة أو ديانة خارج الإسلام ففي هذه المواقف عبرة لمن اعتبر.
_________
(1) السير (14/ 216).
(2) معالم الإيمان للدباغ (261 - 262).
(4/493)
أبو بكر بن هُذَيْل (1) (299 هـ)
الفقيه أبو بكر بن هذيل. سمع من عيسى بن مسكين ويحيى بن عمر وجبلة بن حمود وغيرهم. كان فقيها زاهدا صالحا متقشفا.
قال أبو الحسن القابسي: كان أبو بكر بن هذيل من المتورعين، وإنما كان عيشه من غزل امرأته، كانت تشتري الكتان، فتغزله، وتنسج منه أبدانا، فتبيعها، فما كان فيها من فضل تقوتا به، واشتريا برأس المال كتانا، فمن ذلك كان عيشهما.
قتل ابن أبي خنزير أبا بكر بن هذيل بأمر من أبي عبد الله الشيعي مع أبي إسحاق ابن البرذون، وذلك سنة تسع وتسعين ومائتين.
موقفه من الرافضة:
- جاء في معالم الإيمان: قال المالكي: قال أبو عبد الله محمد بن خراسان: لما وصل عبد الله إلى رقادة أرسل إلى القيروان من أتاه بابن البرذون وابن هذيل فلما وصلا إليه وجداه على سرير ملكه جالسا وعن يمينه أبو عبد الله الشيعي وعن يساره أبو العباس أخوه، فلما وقفا بين يديه قال لهما أبو عبد الله وأبو العباس: أشهد أن هذا رسول الله وأشار إلى عبيد الله، فقالا جميعا بلفظ واحد: والله الذي لا إله إلا هو لو جاءنا هذا والشمس عن يمينه والقمر عن يساره، يقولان إنه رسول الله ما قلنا إنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمر عبيد الله بذبحهما حينئذ جميعا وأمر بربطهما إلى أذناب البغال. (2)
_________
(1) رياض النفوس (2/ 49 - 51) ومعالم الإيمان (2/ 266 - 269) وترتيب المدارك (5/ 121 - 123).
(2) معالم الإيمان (2/ 263) والسير (14/ 216 - 217).
(4/494)
وفيها: قتل ابن أبي خنزير أبا بكر بن هذيل بأمر أبي عبد الله الشيعي مع أبي إسحاق ابن البرذون، وذلك أنه أشاع الحجة التي احتج بها ابن البرذون في الناس، من أن عليا كان يقيم الحدود بين يدي عمر رضي الله عنهما حتى فهم منه الشيعي أنه قصد نقص علي بذلك هو وابن البرذون، ومذهب أبي العباس الشيعي، مذهب الإمامية، تفضيل علي على سائر الصحابة ويرى أن من تنقصه أو أحدا من نسل فاطمة رضي الله عنها فإنه مباح الدم، فلأجل ذلك قتلهما معا وربطهما إلى أذناب البغال سنة تسع وتسعين كما تقدم. (1)
جبلة بن حمود بن عبد الرحمن (2) (299 هـ)
جبلة بن حمود بن عبد الرحمن الكوفي أبو يوسف. أسلم جده على يد عثمان بن عفان رضي الله.
سمع من سحنون وعون وأبي إسحاق البرقي وغيرهم من الإفريقيين والمصريين. وروى عن سحنون المدونة والموطأ والمختلطة. روى عنه أبو العرب وهبة الله بن أبي عقبة وعبد الله بن سعد. وكان من أهل الخير البين والعبادة الظاهرة والورع والزهد. وقال فيه سحنون: إن عاش هذا الشاب فسيكون له نبأ.
وتوفي سنة تسع وتسعين ومائتين وصلى عليه محمد بن محمد بن سحنون في مصلى العيد لكثرة من اجتمع من الناس، ومولده رحمه الله سنة
_________
(1) معالم الإيمان (2/ 268 - 269).
(2) شجرة النور الزكية (1/ 74) وترتيب المدارك (2/ 513 - 517) والديباج المذهب (1/ 323 - 324).
(4/495)
عشر ومائتين.
موقفه من الرافضة:
- جاء في معالم الايمان: كان رحمه الله لا تأخذه في الله تعالى لومة لائم، ولما دخل عبيد الله الشيعي إفرقية ونزل "رقادة" ترك جبلة سكن الرباط ونزل القيروان فكلم في ذلك فقال: كنا نحرس عدوا بيننا وبينه البحر والآن حل هذا العدو بساحتنا وهو أشد علينا من ذلك فكان إذا أصبح وصلى الصبح خرج إلى طرف القيروان من ناحية "رقادة" معه سيفه وترسه وفرسه وسهامه وجلس محاذيا لرقادة إلى غروب الشمس ثم يرجع إلى داره ويقول: احرس عورات المسلمين منهم فإن رأيت شيئا حركت المسلمين عليهم.
وكان ينكر على من يخرج من القيروان إلى سوسة ونحوها من الثغور ويقول: جهاد هؤلاء أفضل من جهاد الشرك. قال المالكي: ولم يكن في وقته رحمه الله أكثر اجتهادا منه في مجاهدة عبيد الله وشيعته فسلمه الله عز وجل منهم. قال: واتصل به أن بعض أهل القيروان خرجوا ليتلقوا عبيد الله الشيعي تقية من شره ومداراة له فقال جبلة: اللهم لا تسلم من خرج يسلم عليه، واغتم لذلك غما شديدا، فلما انتهوا إلى وادي أبي كريب جردوا وأخذت ثيابهم، فلما عرفوا جبلة بذلك قال: ما غمني فيهم إلا رجل واحد فيه خير لا دنيا له، والرجل هو حماس بن مروان القاضي.
ولما دخل عبيد الله القيروان وخطب أول جمعة وجبلة جالس عند المنبر، فلما سمع كفرهم قام قائما وكشف عن رأسه حتى رآه الناس، وخرج يمشي إلى آخر الجامع وهو يقول: قطعوها قطعهم الله، فما حضرها أحد من أهل
(4/496)
العلم بعد ذلك. (1)
" التعليق:
رحمك الله يا عالم القيروان، ما أطيب نفسك وأغزر علمك بهؤلاء الأخباث الذين عثوا في الأرض الفساد في وقتكم الذي كان يزخر بمثلك من العلماء، وأما الآن فلا علماء ولا عامة ولا غيرة على العقيدة والذين يمثلون اتجاه الإصلاح يغنون للشيعة ويطبلون ويرون إمامة طاغوتهم واجبة على المسلمين. ويعقدون التجمعات والندوات في ما سمي بالتقريب بين السنة والشيعة وهو أجدر بأن يسمى بالتخريب العقائدي لعقيدة السنة عموما والسلفية خصوصا، ومن كان له همة في تتبع الجرائد والمجلات يعلم ما قلته حق اليقين ومن يعش في بحار الغفلة والجهل فلا نكترث به والله المستعان.
إبراهيم بن الحارث العُبَادِي (2) (الطبقة الثانية عشرة)
الشيخ الإمام إبراهيم بن الحارث بن مصعب بن الوليد بن عبادة بن الصامت الأنصاري العبادي، أبو إسحاق البغدادي، نزيل طَرْسُوس.
روى عن إبراهيم بن نصر وأحمد الدورقي وعاصم بن علي الواسطي ويحيى بن معين ومصعب الزبيري بن الصباح، وغيرهم. وروى عنه أبو داود في كتاب المسائل وأبو بكر الأثرم وحرب بن إسماعيل الكرماني وأبو حاتم
_________
(1) معالم الإيمان (2/ 272 - 273).
(2) تاريخ بغداد (3/ 55 - 56) وتهذيب الكمال (2/ 66 - 67) وتهذيب التهذيب (1/ 113) وطبقات الحنابلة (1/ 94) والمقصد الأرشد (1/ 221 - 222) والتقريب (1/ 54).
(4/497)
الرازي وأبو بكر بن أبي داود.
قال أبو بكر الخلال: إبراهيم بن الحارث العبادي، رجل من كبار أصحاب أبي عبد الله أحمد بن حنبل، روى عنه أبو بكر الأثرم، وحرب بن إسماعيل، وجماعة من الشيوخ المتقدمين، وكان أبو عبد الله يعظمه ويرفع قدره، ويحتمله في أشياء لايحتمل فيها غيره، يبسطه في الكلام بحضرته، ويتوقف أبو عبد الله عن الجواب في الشيء، فيجيب بحضرة أبي عبد الله، فيعجب أبو عبد الله، ويقول: جزاك الله خيرا يا أبا إسحاق. قال ابن حجر: صدوق من الثانية عشرة.
" موقفه من القدرية:
روى الخلال بالسند إلى أبي بكر الأثرم قال: قيل لأبي عبد الله أصلي عليه يعني على القدري؟ فلم يجب، فقال العبادي وأبو عبد الله يسمع إذا كان صاحب بدعة فلا يسلم عليه، ولا يصلى خلفه، ولا عليه، فقال أبو عبد الله: عافاك الله يا أبا إسحاق وجزاك خيرا، كالمعجب بقوله. (1)
عبد الله بن محمّد صاحب الأندلس (2) (300 هـ)
عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الأمير أبو محمد صاحب الأندلس وابن ملوكها تملك بعد أخيه المنذر سنة خمس وسبعين، وامتدت دولته وكان من أمراء العدل مثابراً على الجهاد ملازماً للصلوات في الجامع، له مواقف
_________
(1) السنة للخلال (561 - 562).
(2) السير (14/ 155 - 156) والوافي بالوفيات (17/ 469 - 471) والنجوم الزاهرة (3/ 181) وشذرات الذهب (2/ 233).
(4/498)
مشهودة. وكان رحمه الله ذا فقه وأدب. مات في أول ربيع الآخر سنة ثلاثمائة.
موقفه من المشركين:
ونقل ابن حزم أن الأمير عبد الله استفتى بقي بن مخلد في الزنديق، فأفتى أنه لا يقتل حتى يستتاب، وذكر حديثاً في ذلك. (1)
موقفه من الخوارج:
جاء في السير: له مواقف مشهودة منها ملحمة "بلي" كان ابن حفصون قد حاصر حصن بلي ومعه ثلاثون ألفاً فسار عبد الله في أربعة عشر ألفاً فالتقوا فانهزم ابن حفصون واستحر بجمعه القتل فقل من نجا وكانوا على رأي الخوارج. (2)
ابن خَيْرُون (3) (301 هـ)
محمد بن خيرون المعافري الإمام أبو جعفر الأندلسي الفرضي، رحل إلى العراق، وأخذ عن محمد بن نصر، ثم عاد إلى القيروان. جاء في معالم الإيمان: وكان فقيهاً صالحاً عابداً من خيار المسلمين، وكان سبب قتله أنه سعى به القاضي محمد بن عمرو المروذي -قاضي الشيعة- إلى عبيد الله المهدي، فأمر الحسين بن أبي خنزير بقتله، فعذبه إلى أن مات رحمه الله سنة
_________
(1) السير (14/ 156).
(2) السير (14/ 156).
(3) السير (14/ 217) ومعالم الإيمان (2/ 288 - 292) ورياض النفوس (2/ 52 - 56).
(4/499)
إحدى وثلاثمائة.
موقفه من الرافضة:
حكى الشيخ أبو الحسن القابسي رحمه الله تعالى قال: أخبرني من أثق به أنه كان جالساً -عند ابن أبي خنزير- إذ دخل عليه شيخ ذو هيئة جميلة- وقد علاه اصفرار مع حسن سمت وخشوع، فلما رآه ابن أبي خنزير بكى، فقال له: ما الذي يبكيك؟ قال: السلطان -يعني عبيد الله- وجه إلي يأمرني بدوس هذا الشيخ حتى يموت -يعني ابن خيرون- ثم أمر به فأدخل إلى مجلس، وبطح على ظهره، وطلع السودان فوق سرير، فقفزوا عليه بأرجلهم حتى مات، وذلك من أجل جهاده على دين الله تعالى، وبغضه لبني عبيد. (1)
ابن الأخرم (2) (301 هـ)
الإمام الكبير، الحافظ الأثري، أبو جعفر، محمد بن العباس بن أيوب بن الأخرم الأصبهاني الفقيه. ارتحل، وأخذ عن أبي كريب، والمفضل بن غسان الغلابي، وعلي بن حرب وعمار بن خالد وعدة. وعنه أبو أحمد العسال، وأبو الشيخ وأحمد بن إبراهيم بن أفرجة، وغيرهم. كان من الحفاظ مقدما فيهم شديداً على أهل الزيغ والبدعة، كان ممن يتفقه في الحديث ويفتي به، قطع عن التحديث سنة ست وتسعين لاختلاطه. توفي سنة إحدى وثلاثمائة.
_________
(1) المعالم (2/ 289 - 290) وهو في السير (14/ 217).
(2) تذكرة الحفاظ (2/ 747 - 748) والوافي بالوفيات (3/ 190 - 191) وشذرات الذهب (2/ 234 - 235) والسير (14/ 144 - 145) وتاريخ أصبهان (2/ 194 - 195).
(4/500)
موقفه من الجهمية:
جاء في سير أعلام النبلاء: وله وصية أكثرها على قواعد السلف يقول فيها: من زعم أن لفظه بالقرآن مخلوق فهو كافر. (1)
محمد بن مَنْدَه (2) (301 هـ)
الإمام الحافظ محمد بن يحيى بن منده، أبو عبد الله العبدي الأصبهاني، جد صاحب التصانيف الحافظ أبي عبد الله محمد بن إسحاق. ولد في حدود العشرين ومائتين في حياة جدهم منده. سمع أبا كريب وعبد الله بن معاوية الجمحي وسفيان بن وكيع وموسى بن عبد الرحمن بن مهدي وغيرهم. وحدث عنه أبو أحمد العسال وأبو القاسم الطبراني وأبو الشيخ وخلق كثير. قال أبو الشيخ: هو أستاذ شيوخنا وإمامهم. وقال عنه ابن خلكان: كان أحد الحفاظ الثقات، وهم أهل بيت كبير، خرج منه جماعة من العلماء. وقال الذهبي: كان محمد بن يحيى من أوعية العلم. توفي رحمه الله في رجب سنة إحدى وثلاثمائة.
موقفه من الجهمية:
جاء في ذم الكلام بالسند إليه قال: ليتق امرؤ، وليعتبر بمن تقدم ممن كان القول باللفظ مذهبه ومقالته، كيف خرج من الدنيا مهجوراً مذموماً
_________
(1) السير (14/ 145).
(2) طبقات المحدثين بأصبهان (3/ 442) وطبقات الحنابلة (1/ 328) ووفيات الأعيان (4/ 289) وسير أعلام النبلاء (14/ 188 - 193) والوافي بالوفيات (5/ 189).
(4/501)
مطروداً من المجالس والبلدان، لاعتقاده القبيح وقوله الشنيع المخالف لدين الله مثل الكرابيسي والشراطي وابن كلاب وابن الأشعري وأمثالهم ممن كان الجدال والكلام طريقه في دين الله عز وجل. (1)
" التعليق:
هؤلاء الذين ذكرهم هذا الإمام هم عمدة العقيدة عند القوم وهم المصدر الأساسي، وإن كان فيهم من فيه سنة ووافق أهل السنة في إثبات الصفات على العموم كابن كلاب وخالف في إثبات الصفات الاختيارية، ونقل عنه أنه أول من أنكرها، وتبعه الأشعري بعد خروجه من الاعتزال، وهذا الأخير صرح بعض أهل العلم أنه رجع إلى مذهب السلف، وهذا فيه تسامح كما بين ذلك ابن تيمية في كثير من كتبه أن معرفته بالسنة معرفة إجمالية، ومعرفته بالكلام وأهله معرفة تفصيلية، فكلام الشيخ فيه أقعد وأضبط على خلاف ما نقل عن ابن كثير كما نقله المرتضى في شرح الإحياء.
وأما الكرابيسي فتقدم ما قاله الإمام أحمد فيه وفي كتبه وإن كان تاب كما روى ذلك الخطيب في 'شرف أصحاب الحديث' كما تقدم. والحاصل أن هذا الإمام لعله أخذ من الاثنين الجانب السلبي وهو الجانب الكلامي وما اعتبر ما لهم من الميل إلى السنة والله أعلم. وعلى كل حال فهذا موقف شريف يحتفظ به لهذا الإمام فجزاه الله أحسن الجزاء.
_________
(1) ذم الكلام (ص.282).
(4/502)
ابن الحداد المغربي (1) (302 هـ)
الإمام شيخ المالكية، أبو عثمان، سعيد بن محمد بن صبيح بن الحداد المغربي، صاحب سحنون، وهو أحد المجتهدين، وكان بحراً في الفروع ورأساً في لسان العرب بصيراً بالسنن. كان يذم التقليد، ويقول: هو من نقص العقول، أو دناءة الهمم وكان من رؤوس السنة. قال عنه المالكي: كان عالماً في الفقه والكلام والذب عن الدين والرد على فرق المخالفين للجماعة، من أذهن الناس وأعلمهم بما قاله الناس. وله مع شيخ المعتزلة الفراء مناظرات بالقيروان، رجع بها عدد من المبتدعة. مال إلى مذهب الشافعي من غير تقليد، وأخذ يسمي المدونة "المدودة" فهجره المالكية ثم أحبوه لما قام على أبي عبد الله الشيعي وناظره ونصر السنة. قال موسى بن عبد الرحمن القطان: لو سمعتم سعيد بن الحداد في تلك المحافل -يعني مناظرته للشيعي- وقد اجتمع له جهارة الصوت، وفخامة المنطق وفصاحة اللسان، وصواب المعاني، لتمنيتم أن لا يسكت. ومن كلامه: قال: من طالت صحبته للدنيا وللناس فقد ثقل ظهره، خاب السالون عن الله المتنعمون بالدنيا، من تحبب إلى العباد بالمعاصي بغضه الله إليهم. وقال: ما صد عن الله مثل طلب المحامد، وطلب الرفعة.
مات سنة اثنتين وثلاثمائة. وله ثلاث وثمانون سنة رحمه الله.
موقفه من المبتدعة:
- هذا الإمام الكبير كانت له مواقف مشرفة مع أكثر المبتدعة الذين
_________
(1) الوافي بالوفيات (15/ 179 - 180) والشذرات (2/ 238) والسير (14/ 205 - 214) ومعالم الإيمان (2/ 295 - 315) ورياض النفوس (2/ 57 - 115).
(4/503)
كانوا في عصره، واجههم مواجهة العالم الشجاع بالحجة القاطعة الدامغة، ولم يكن بالضعيف الخائر الخائف، بل كان لا يخاف في الله لومة لائم. وقد ذكر ترجمته ومواقفه غير واحد من المؤرخين والمترجمين، كالقاضي عياض في المدارك وابن خلكان في الوفيات وابن فرحون في الديباج والدباغ في معالم الإيمان والذهبي في كتبه عامة والسير خاصة، فمواقفه من المبتدعة والمقلدة -الذين عششت العنكبوت على عقولهم وفكروا برأي غيرهم- مشرفة نموذجية وإليك بعض ذلك:
- مع المقلدة:
قال الذهبي: وكان يذم التقليد ويقول: هو من نقص العقول أو دناءة الهمم، وقيل إنه صنف في الرد على المدونة. (1)
- كلمة عن الشيخ في محاربة البدع في معالم الإيمان:
قال: كان يرد على أهل البدع المخالفين للسنة، وله في ذلك مقامات مشهورة وآثار محمودة، ناب عن المسلمين فيها أحسن مناب حتى مثله أهل القيروان بأحمد بن حنبل أيام المحنة، وذلك أن بني عبيد لما ملكوا القيروان أظهروا تبديل مذهب أهل البلد وأجبروا الناس على مذهبهم بطريق المناظرة وإقامة الحجة، وقتلوا رجلين من أصحاب سحنون، فارتاع أهل البلد من ذلك ولجؤوا إلى أبي سعيد (2) وسألوه التقية فأبى من التقية وقال: قد أربيت على التسعين ومالي في العيش من حاجة، وقتيل الخوراج خير قتيل، ولا بد
_________
(1) السير (14/ 206).
(2) كذا في الأصل، ولعل الصواب "أبي عثمان".
(4/504)
لي من المناظرة والمناضلة عن الدين وأن أبلغ في ذلك عذراً. ففعل ذلك وصدق وكان هو المعتمد عليه في مناظرة الشيعي. (1)
موقفه من الرافضة:
- جاء في السير: قال أبو بكر بن اللباد: بينا سعيد بن الحداد جالس أتاه رسول عبيد الله، يعني المهدي، قال: فأتيته وأبو جعفر البغدادي واقف فتكلمت بما حضرني فقال: اجلس. فجلست فإذا بكتاب لطيف فقال لأبي جعفر: اعرض الكتاب على الشيخ فإذا حديث غدير خم (2) قلت: وهو صحيح وقد رويناه فقال عبيد الله: فما للناس لا يكونون عبيدنا؟ قلت أعز الله السيد لم يرد ولاية الرق، بل ولاية الدين قال: هل من شاهد؟ قلت: قال الله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} (3). فلما لم يكن لنبي لم يكن لغيره قال: انصرف لا ينالك الحر. فتبعني البغدادي فقال: اكتم هذا المجلس ...
وقيل: إنه سار لتلقي أبي عبد الله الشيعي فقال له: يا شيخ بم كنت تقضي؟ فقال إبراهيم بن يونس: بالكتاب والسنة. قال: فما السنة؟ قال: السنة السنة. قال ابن الحداد: فقلت للشيعي المجلس مشترك أم خاص؟ قال مشترك. فقلت: أصل السنة في كلام العرب المثال، قال الشاعر:
_________
(1) معالم الإيمان (2/ 298).
(2) أحمد (4/ 366 - 367) ومسلم (4/ 1873/2408 (36)) وأبو داود (5/ 255/4973) مختصراً، والترمذي (5/ 622/3788) وقال: "هذا حديث حسن غريب"، والنسائي في الكبرى (5/ 45/8148).
(3) آل عمران الآية (79).
(4/505)
تريك سنة وجه غير مقرفة ... ملساء ليس بها خال ولا ندب
أي صورة وجه ومثاله، والسنة محصورة في ثلاث: الائتمار بما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - والانتهاء عما نهى عنه والائتساء بما فعل. فقال الشيعي: فإن اختلف عليك النقل وجاءت السنة من طرق؟ قلت: أنظر إلى أصح الخبرين كشهود عدول اختلفوا في شهادة قال: فلو استووا في الثبات؟ قلت: يكون أحدهما ناسخاً للآخر قال: فمن أين قلتم بالقياس؟ قلت: من كتاب الله {يحكم به ذوا عدلٍ مِنْكُمْ} (1). فالصيد معلومة عينه، فالجزاء أمرنا أن نمثله بشيء من النعم ومثله في تثبيت القياس: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يستنبطونه} (2). والاستنباط غير منصوص ثم عطف على موسى القطان فقال: أين وجدتم حد الخمر في كتاب الله تقول: اضربوه بالأردية وبالأيدي ثم بالجريد؟ فقلت أنا: إنما حد قياساً على حد القاذف لأنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى فأوجب عليه ما يؤول إليه أمره. قال: أو لم يقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وأقضاكم علي فساق له موسى تمامه وهو: وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ وأرأفكم أبو بكر وأشدكم في دين الله عمر (3) قال: كيف يكون أشدهم وقد هرب بالراية يوم خيبر؟ قال موسى: ما سمعنا بهذا فقلت: إنما تحيز إلى فئة
_________
(1) المائدة الآية (95).
(2) النساء الآية (83).
(3) أخرجه بغير هذا اللفظ: أحمد (3/ 184) والترمذي (5/ 623/3791) وابن ماجه (1/ 55/154) والحاكم (3/ 422) وصححه ووافقه الذهبي. وابن حبان (الإحسان 16/ 74/7131).
(4/506)
فليس بفار.
وقال في {لا تحزن إن اللَّهَ مَعَنَا} (1): إنما نهاه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن حزنه لأنه كان مسخوطاً قلت: لم يكن قوله إلا تبشيراً بأنه آمن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى نفسه فقال: أين نظير ما قلت؟ قلت: قوله لموسى وهارون: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} (2). فلم يكن خوفهما من فرعون خوفاً بسخط الله.
ثم قال: يا أهل البلدة: إنكم تبغضون عليا قلت: على مبغضه لعنة الله. فقال: صلى الله عليه. قلت: نعم ورفعت صوتي: - صلى الله عليه وسلم - لأن الصلاة في خطاب العرب الرحمة والدعاء قال: ألم يقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى" (3) قلت: نعم إلا أنه قال: إلا أنه لا نبي بعدي. وهارون كان حجة في حياة موسى، وعلي لم يكن حجة في حياة النبي، وهارون فكان شريكاً أفكان علي شريكاً للنبي - صلى الله عليه وسلم - في النبوة؟ وإنما أراد التقريب والوزارة والولاية. قال: أو ليس هو أفضل؟ قلت: أليس الحق متفقاً عليه؟ قال: نعم. قلت: قد ملكت مدائن قبل مدينتنا وهي أعظم مدينة واستفاض عنك أنك لم تكره أحداً على مذهبك فاسلك بنا مسلك غيرنا، ونهضنا. قال ابن الحداد: ودخلت يوماً على أبي العباس فأجلسني معه في مكانه وهو يقول لرجل:
_________
(1) التوبة الآية (40).
(2) طه الآية (46).
(3) أخرجه: أحمد (1/ 185) والبخاري (7/ 89/3706) مختصراً، ومسلم (4/ 1870/2404) والترمذي (5/ 596/3724) مطوّلاً، وابن ماجه (1/ 45/121).
(4/507)
أليس المتعلم محتاجاً إلى المعلم أبداً؟ فعرفت أنه يريد الطعن على الصديق في سؤاله عن فرض الجدة فبدرت وقلت: المتعلم قد يكون أعلم من المعلم وأفقه وأفضل لقوله عليه السلام: رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه (1). ثم معلم الصغار القرآن يكبر أحدهم ثم يصير أعلم من المعلم قال: فاذكر من عام القرآن وخاصه شيئاً؟ قلت قال تعالى: {ولا تَنْكِحُوا المشركات} (2).
فاحتمل المراد بها العام فقال تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (3). فعلمنا أن مراده بالآية الأولى خاص أراد: ولا تنكحوا المشركات غير الكتابيات من قبلكم حتى يؤمن قال: ومنهن المحصنات؟ قلت: العفائف قال: بل المتزوجات قلت: الإحصان في اللغة: الإحراز فمن أحرز شيئا فقد أحصنه والعتق يحصن المملوك لأنه يحرزه عن أن يجري عليه ما على المماليك والتزويج يحصن الفرج لأنه أحرزه عن أن يكون مباحاً والعفاف إحصان للفرج. قال: ما عندي الإحصان إلا التزويج، قلت له: منزل القرآن يأبى ذلك قال: {ومريم ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} (4) أي: أعفته،
_________
(1) أخرجه: أحمد (5/ 183) وأبو داود (4/ 68 - 69/ 3660) والترمذي (5/ 33/2656) وقال: "حديث حسن" وابن ماجه (1/ 84/230) من حديث زيد بن ثابت. وأخرجه من حديث ابن مسعود: أحمد (1/ 437) والترمذي (5/ 33/2657) وقال: "حديث حسن صحيح"، وابن ماجه (1/ 85/232) وابن حبان (1/ 268/66 الإحسان)، ولفظه: "نضر الله امرءاً سمع منا حديثاً، فبلغه كما سمعه، فرب مبلغ أوعى من سامع".
(2) البقرة الآية (221).
(3) المائدة الآية (5).
(4) التحريم الآية (12).
(4/508)
وقال: {مُحْصَنَاتٍ غير مُسَافِحَاتٍ} (1). عفائف: قال فقد قال في الإماء: {فإذا أُحْصِنَّ} وهن عندك قد يكن عفائف. قلت: سماهن بمتقدم إحصانهن قبل زناهن قال تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أزواجكم} (2). وقد انقطعت العصمة بالموت يريد اللاتي كن أزواجكم قال: يا شيخ، أنت تلوذ قلت: لست ألوذ أنا المجيب لك وأنت الذي تلوذ بمسألة أخرى وصحت: ألا أحد يكتب ما أقول وتقول. قال: فوقى الله شره. وقال: كأنك تقول: أنا أعلم الناس. قلت: أما بديني فنعم. قال: فما تحتاج إلى زيادة فيه؟ قلت: لا قال: فأنت إذا أعلم من موسى: إذ يقول: {هَلْ أَتَّبِعُكَ على أَنْ تُعَلِّمَنِ} (3). قال: هذا طعن على نبوة موسى، موسى ما كان محتاجاً إليه في دينه كلا إنما كان العلم الذي عند الخضر دنياوياً: سفينة خرقها وغلاماً قتله وجداراً أقامه وذلك كله لا يزيد في دين موسى قال: فأنا أسألك.
قلت: أورد علي الإصدار بالحق بلا مثنوية قال: ما تفسير الله؟ قلت: ذو الإلهية قال: وما هي؟ قلت: الربوبية قال: وما الربوبية؟ قلت المالك الأشياء كلها قال: فقريش في جاهليتها كانت تعرف الله؟ قلت: لا قال: فقد أخبر الله تعالى عنهم أنهم قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ} (4). قلت: لما أشركوا معه غيره
_________
(1) النساء الآية (25).
(2) النساء الآية (12).
(3) الكهف الآية (66).
(4) الزمر الآية (3).
(4/509)
قالوا وإنما يعرف الله من قال: إنه لا شريك له. وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} (1). فلو كانوا يعبدونه ما قال لا أعبد ما تعبدون إلى أن قال: فقلت: المشركون عبدة الأصنام الذين بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم عليا ليقرأ عليهم سورة براءة قال: وما الأصنام قلت: الحجارة قال: والحجارة أتعبد؟ قلت: نعم والعزى كانت تعبد وهي شجرة والشعرى كانت تعبد وهي نجم قال: فالله يقول: {أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى} (2). فكيف تقول: إنها الحجارة؟ والحجارة لا تهتدي إذا هديت لأنها ليست من ذوات العقول قلت: أخبرنا الله أن الجلود تنطق وليست بذوات عقول قال: نسب إليها النطق مجازاً. قلت: منزل القرآن يأبى ذلك فقال: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ} (3). إلى أن قال: {قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} (4). وما الفرق بين جسمنا والحجارة؟ ولو لم يعقلنا لم نعقل وكذا الحجارة إذا شاء أن تعقل عقلت. (5)
- وجاء في المعالم: روى أبو محمد: عبد الله بن إسحاق بن التبان رحمه الله قال: لما اجتمع أبو عثمان: سعيد بن الحداد بأبي عبد الله الشيعي في مجلس
_________
(1) الكافرون الآيتان (1و2).
(2) يونس الآية (35).
(3) يس الآية (65).
(4) فصلت الآية (21).
(5) السير (14/ 206 - 214).
(4/510)
المناظرة -قال له أبو عبد الله: أنتم تفضلون على الخمسة أصحاب الكساء غيرهم- يعني بأصحاب الكساء محمداً - صلى الله عليه وسلم - تسليماً، والحسن، والحسين، وعلياً، وفاطمة، ويعني بغيرهم أبا بكر. فقال أبو عثمان: أيما أفضل؟ خمسة سادسهم جبريل؟ أو اثنان الله ثالثهما؟ فبهت الشيعي. (1)
موقفه من الجهمية:
قال الذهبي: وله مع شيخ المعتزلة الفراء مناظرات بالقيروان رجع بها عدد من المبتدعة. (2)
أبو زُرْعَة القاضي (3) (302 هـ)
الإمام الكبير القاضي أبو زرعة محمد بن عثمان بن إبراهيم بن زرعة. قل ما روى، أخذ عنه أبو علي الحصائري وغيره. وكان حسن المذهب عفيفاً متثبتاً، ولي قضاء الديار المصرية سنة أربع وثمانين ومائتين، ووليَ قضاء دمشق وقد كان قام مع الملك أحمد بن طولون وخلع من العهد أبا أحمد الموفق. قام عند المنبر بدمشق قبل الجمعة، وقال: أيها الناس أشهدكم أني قد خلعت أبا أحمق كما يخلع الخاتم من الأصبع فالعنوه. وكان له مال كثير وضياع كبار بالشام وكان يوفي عن الغرماء الضعفى. بقي على قضاء مصر ثمان سنين
_________
(1) معالم الإيمان (2/ 298).
(2) السير (14/ 206).
(3) السير (14/ 231 - 233) والوافي بالوفيات (4/ 82 - 83) والبداية والنهاية (11/ 131) والنجوم الزاهرة (3/ 183 - 184) وشذرات الذهب (2/ 239).
(4/511)
فصرف. توفي بدمشق سنة اثنتين وثلاثمائة.
موقفه من الخوارج:
جاء في السير: عن منصور الفقيه قال: كنت عند القاضي أبي زرعة، فذكر الخلفاء، فقلت: أيجوز أن يكون السفيه وكيلاً؟ قال: لا. قلت: فولياً لامرأة؟ قال: لا. قلت: فخليفة؟ قال: يا أبا الحسن. هذه من مسائل الخوارج. (1)
النَّسَائي (2) (303 هـ)
الإمام الحافظ، الثبت أحمد بن شعيب بن علي النسائي أبو عبد الرحمن، شيخ الإسلام ناقد الحديث، صاحب السنن. ولد بنسا سنة خمس عشرة ومائتين، وطلب العلم في صغره. روى عن إسحاق بن راهويه، وهشام بن عمار، وسويد بن نصر وخلق كثير. روى عنه أبو بشر الدولابي، وأبو جعفر الطحاوي، وأبو علي النيسابوري وعدة. قال الذهبي: كان شيخاً مهيباً. وكان أفقه مشايخ مصر في عصره. قال الدارقطني: كان ابن الحداد أبو بكر كثير الحديث، ولم يحدث عن غير النسائي، وقال: رضيت به حجة بيني وبين الله تعالى. قال ابن يونس: كان النسائي إماماً حافظاً ثبتاً. قال أبو عليّ
_________
(1) السير (14/ 233).
(2) السير (14/ 125 - 135) والبداية والنهاية (11/ 131 - 132) ووفيات الأعيان (1/ 77 - 78) وتاريخ الإسلام (حوادث 301 - 310/ص.105 - 109) والوافي بالوفيات (6/ 416 - 417) وتهذيب الكمال (1/ 328 - 340) وشذرات الذهب (2/ 239 - 241).
(4/512)
النيسابوريّ الحافظ: ثنا الإمام في الحديث بلا مدافعة أبو عبد الرحمن النسائيّ. وقال الدارقطني: أبو عبد الرحمن مقدّم على كلّ من يذكر بهذا العلم من أهل عصره. وقال: إنه خرج حاجّاً فامتحن بدمشق، وأدرك الشهادة، فقال: احملوني إلى مكة، فحمل وتوفي بها. وقال محمد بن المظفر: استشهد بدمشق من جهة الخوارج. وقال أبو سعيد يونس: توفي بفلسطين. قال الذهبي: هذا هو الصحيح. وذلك سنة ثلاث وثلاثمائة.
موقفه من الرافضة:
قال عنه محمد بن موسى الماموني: سمعت قوماً ينكرون على أبي عبد الرحمن كتاب الخصائص لعلي رضي الله عنه وتركه تصنيف فضائل الشيخين، فذكرت له ذلك فقال: دخلت دمشق والمنحرف عن علي بها كثير فصنفت كتاب الخصائص رجوت أن يهديهم الله، ثم إنه صنف بعد ذلك فضائل الصحابة. (1)
موقفه من الجهمية:
قال قاضي مصر أبو القاسم عبد الله بن محمد بن أبي العوام السعدي: حدثنا أحمد بن شعيب النسائي، أخبرنا إسحاق بن راهويه، حدثنا محمد بن أعين، قال: قلت لابن المبارك: إن فلاناً يقول: من زعم أن قوله تعالى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فاعبدني} (2) مخلوق، فهو كافر. فقال ابن المبارك:
_________
(1) التذكرة (2/ 699).
(2) طه الآية (14).
(4/513)
صدق، قال النسائي: بهذا أقول. (1)
موقفه من الخوارج:
- قال محمد بن المظفر الحافظ سمعت مشايخنا بمصر يصفون اجتهاد النسائي في العبادة بالليل والنهار وأنه خرج إلى الغزو مع أمير مصر فوصف من شهامته وإقامته السنن المأثورة في فداء المسلمين واحترازه عن مجالس السلطان الذي خرج معه والانبساط في المأكل وأنه لم يزل ذلك دأبه إلى أن استشهد بدمشق من جهة الخوارج. (2)
موقفه من المرجئة:
له تبويبات ضمن كتاب الإيمان وشرائعه من المجتبى، منها:
- ذكر شعب الإيمان (8/ 483).
- تفاضل أهل الإيمان (8/ 485).
- زيادة الإيمان (8/ 486).
- علامة الإيمان (8/ 488).
أبو نصر بن سلاَّم (3) (305 هـ)
محمد بن سلاّم أبو نصر البلخي الحنفي. كان فقيهاً مهيباً زاهداً معظماً. له فتاوى واختيارات في الأحكام. توفي رحمه الله سنة خمس
_________
(1) السير (14/ 127) والتذكرة (2/ 700).
(2) التذكرة (2/ 700).
(3) الفوائد البهية (168) والجواهر المضية (4/ 92 - 93).
(4/514)
وثلاثمائة.
موقفه من المشركين:
روى الخطيب بسنده إلى أبي نصر أحمد بن سهل قال: سمعت أبا نصر ابن سلام الفقيه يقول: ليس شيء أثقل على أهل الإلحاد، ولا أبغض إليهم من سماع الحديث وروايته بإسناده. (1)
موقف السلف من الجبائي المعتزلي (303 هـ)
بيان اعتزاله:
موقف أبي الحسن الأشعري منه:
قال الذهبي: وأخذ عنه فن الكلام أيضاً أبو الحسن الأشعري، ثم خالفه ونابذه وتسنن. (2)
أبو خَليفة الفضل بن الحُبَاب (3) (305 هـ)
الفضل بن الحُبَاب واسم الحباب عمرو بن محمد بن شعيب الجمحي أبو خليفة، الإمام العلامة المحدث الأديب الأخباري، ولد سنة ست
_________
(1) شرف أصحاب الحديث (73 - 74).
(2) السير (14/ 183).
(3) السير (14/ 7 - 11) والبداية والنهاية (11/ 137) وتذكرة الحفاظ (2/ 670 - 671) وميزان الاعتدال (3/ 350) وطبقات الحنابلة (1/ 249 - 251) والنجوم الزاهرة (3/ 193) وشذرات الذهب (2/ 245).
(4/515)
ومائتين. وعني بهذا الشأن وهو مراهق، فسمع في سنة عشرين ومائتين ولقي الأعلام وكتب علماً جماً. روى عن القعنبي ومسلم بن إبراهيم وسليمان بن حرب وخلق. وروى عنه أبو عوانة، وأبو حاتم بن حبان وأبو القاسم الطبراني وآخرون. وكان ثقة صادقاً مأموناً أديباً فصيحاً مفوهاً رحل إليه من الآفاق. توفي أبو خليفة سنة خمس وثلاثمائة بالبصرة.
موقفه من الجهمية:
- قال أبو نعيم عبد الملك بن الحسن الإسفراييني ابن أخت أبي عوانة سمعت أبي يقول لأبي علي النيسابوري الحافظ: دخلت أنا وأبو عوانة البصرة، فقيل: إن أبا خليفة قد هجر، ويدعى عليه أنه قال: القرآن مخلوق. فقال لي أبو عوانة: يا بني لابد أن ندخل عليه. قال: فقال له أبو عوانة: ما تقول في القرآن؟ فاحمر وجهه وسكت، ثم قال: القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال: مخلوق، فهو كافر، وأنا تائب إلى الله من كل ذنب إلا الكذب، فإني لم أكذب قط، أستغفر الله. قال: فقام أبو علي إلى أبي، فقبل رأسه. ثم قال أبي: قام أبو عوانة إلى أبي خليفة، فقبل كتفه. (1)
- وجاء في الطبقات عن علي بن أحمد بن جعفر قال: حضر رجل مجلس أبي خليفة الفضل ابن الحباب الجمحي، فذكر أبا عبد الله أحمد بن محمد ابن حنبل رضي الله عنه، فقال أبو خليفة: على أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رضوان الله. فهو إمامنا ومن يقتدى به، ونقول بقوله، الواعي للعلم
_________
(1) السير (14/ 10).
(4/516)
المتقن لروايته، الصادق في حكايته، القيم بدين الله عز وجل، المستن بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إمام المسلمين، والناصح لإخوانه من المؤمنين، فقال له الرجل: يا أبا خليفة، ما تقول في قوله: القرآن كلام الله غير مخلوق؟ فقال: صدق والله في مقالته. وقمع كل بدعي بمعرفته. قوله الصواب، ومذهبه السداد. هو المأمون على كل الأحوال، والمقتدى به في جميع الفعال. فقال له الرجل: يا أبا خليفة، فمن قال القرآن مخلوق؟ قال: ذاك الرجل ضال مبتدع ألعنه ديانة، وأهجره تقرباً إلى الله عز وجل، بذلك قام أبو عبد الله أحمد بن حنبل رضي الله عنه، مقاما لم يقمه أحد من المتقدمين، ولا من المتأخرين. فجزاه الله عن الإسلام وعن أهله أفضل الجزاء. (1)
قاسم بن زكريا المُطَرِّز (2) (305 هـ)
هو الإمام العلامة المقرئ المحدث الثقة، أبو بكر القاسم بن زكريا بن يحيى البغدادي، المعروف بالمُطَرِّز. حدث عن سويد بن سعيد، ومحمد بن الصباح الجرجرائي، وإسحاق بن موسى الأنصاري وطبقتهم. وحدث عنه أبو حفص الزيات وعبد العزيز بن جعفر الخرقي، ومحمد بن المظفر وعدد كثير. صنف المسند والأبواب، وتصدر للإقراء. توفي رحمه الله في صفر سنة خمس وثلاثمائة وهو في عشر التسعين. وكان ثقة مأموناً، أثنى عليه الدارقطني وغيره.
_________
(1) طبقات الحنابلة (1/ 250 - 251).
(2) تاريخ بغداد (12/ 441) وسير أعلام النبلاء (14/ 149 - 150) وتهذيب الكمال (23/ 352 - 353) وشذرات الذهب (2/ 246).
(4/517)
موقفه من الرافضة:
سمعت قاسم بن زكريا المطرز يقول: وردت الكوفة وكتبت عن شيوخها كلهم غير عباد بن يعقوب فلما فرغت ممن سواه دخلت عليه وكان يمتحن من يسمع منه فقال لي: من حفر البحر؟ فقلت: الله خلق البحر فقال: هو كذلك، ولكن من حفره؟ فقلت: يذكر الشيخ فقال: حفره علي بن أبي طالب رضي الله عنه ثم قال: من أجراه؟ فقلت: الله مجري الأنهار ومنبع العيون، فقال: هو كذلك ولكن من أجرى البحر؟ فقلت: يفيدني الشيخ فقال: أجراه الحسين بن علي، قال: وكان عباد مكفوفاً ورأيت في داره سيفاً معلقاً وحجفة، فقلت: أيها الشيخ لمن هذا السيف؟ فقال: هذا لي أعددته لأقاتل به مع المهدي، قال: فلما فرغت من سماع ما أردت أن أسمعه منه وعزمت على الخروج من البلد دخلت عليه فسألني كما كان يسألني وقال: من حفر البحر؟ فقلت: حفره معاوية وأجراه عمرو بن العاص ثم وليت من بين يديه وجعلت أعدو وجعل يصيح أدركوا الفاسق عدو الله فاقتلوه أو كما قال. (1)
ابن مُجَاشِع (2) (305 هـ)
هو عمران بن موسى بن مجاشع الجرجاني السختياني، أبو إسحاق، الإمام المحدث الحجة الحافظ. سمع من هدبة بن خالد، وشيبان بن فروخ،
_________
(1) الكفاية (131 - 132) والسير (11/ 538).
(2) سير أعلام النبلاء (14/ 136 - 137) وتاريخ جرجان للسهمي (322 - 323) والعبر (1/ 278) وتذكرة الحفاظ (2/ 762 - 763).
(4/518)
وإبراهيم ابن المنذر الحزامي، وابني أبي شيبة، وسويد بن سعيد وطبقتهم. وحدث عنه رفيقه إبراهيم بن يوسف الهسنجاني، والحافظ أبو علي النيسابوري، وأبو بكر الإسماعيلي، وخلق كثير. قال الحاكم: هو محدث ثبت مقبول، كثير التصنيف والرحلة. مات رحمه الله بجرجان في شهر رجب سنة خمس وثلاثمائة، وهو في عشر المائة.
موقفه من الجهمية:
سمعت يحيى بن محمد العنبري يقول: سمعت عمران بن موسى الجرجاني يقول: سمعت سويد بن سعيد يقول: سمعت مالكاً، وشريكاً، وحماد بن زيد، وابن عيينة، والفضيل بن عياض، ومسلم بن خالد، وابن إدريس، وجميع من حملت عنه العلم يقولون: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص. والقرآن كلام الله من صفة ذاته، غير مخلوق، من قال: إنه مخلوق، فهو كافر. قال عمران: بهذا أدين، وما رأيت محدثاً إلا وهو يقوله. (1)
عَبْدَان عبد الله بن أحمد بن موسى (2) (306 هـ)
عبدان عبد الله بن أحمد بن موسى، الحافظ الحجة أبو محمد الأهوازي الجواليقي. سمع محمد بن بكار، وأبا بكر بن أبي شيبة، وشيبان بن فروخ. حدث عنه ابن قانع، والطبراني، وأبو بكر الإسماعيلي. قال الحاكم: سمعت أبا
_________
(1) السير (14/ 136).
(2) السير (14/ 168 - 173) وتاريخ بغداد (9/ 378) والنجوم الزاهرة (3/ 195) وتذكرة الحفاظ (2/ 688) وشذرات الذهب (2/ 249).
(4/519)
علي الحافظ يقول: ما رأيت في المشايخ أحفظ من عبدان. وقال حمزة الكناني: سمعت عبدان يقول: دخلت البصرة ثمان عشرة مرة من أجل حديث أيوب السختياني، وجمعت ما يجمعه أصحاب الحديث -يعني من حديث الكبار-.
توفي سنة ست وثلاثمائة.
موقفه من المبتدعة:
أخرج الخطيب: عن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود كما بدأ". قيل: يا رسول الله ومن الغرباء؟ قال: "النزاع من القبائل" (1).
قال عبدان: هم أصحاب الحديث الأوائل. (2)
ابن سُرَيْج (3) (306 هـ)
الإمام، شيخ الإسلام، فقيه العراقين، أبو العباس أحمد بن عمر بن سريج البغدادي، القاضي الشافعي، صاحب المصنفات. تفقه على أبي القاسم
_________
(1) رواه أحمد وابنه (1/ 398) والترمذي (5/ 19/2629) وقال: "حديث حسن صحيح"، وابن ماجه (2/ 1320/3988) والبغوي في شرح السنة (1/ 118/64) وقال: "حديث صحيح" قال الشيخ الألباني عقبه: "هو كما قال، لولا أن أبا إسحاق وهو السبيعي عمرو بن عبد الله مدلس، وقد عنعنه في جميع الطرق عنه، مع كونه كان اختلط". انظر الصحيحة (3/ 269 - 270).
(2) شرف أصحاب الحديث (23 - 24).
(3) تاريخ بغداد (4/ 287 - 290) ووفيات الأعيان (1/ 66 - 67) وتذكرة الحفاظ (3/ 811 - 813) والوافي بالوفيات (7/ 260 - 261) والبداية والنهاية (11/ 129) وشذرات الذهب (2/ 247 - 248) والسير (14/ 201 - 204).
(4/520)
عثمان ابن بشار الأنماطي الشافعي صاحب المزني. سمع من الحسن بن محمد الزعفراني تلميذ الشافعي، ومن علي بن إشكاب وأحمد بن منصور الرمادي وأبي داود السجستاني وغيرهم. وحدث عنه أبو القاسم الطبراني، وأبو الوليد حسان بن محمد الفقيه وأبو أحمد بن الغطريف الجرجاني وغيرهم. قال أبو الوليد الفقيه: سمعت ابن سريج يقول: قل ما رأيت من المتفقهة من اشتغل بالكلام فأفلح، يفوته الفقه ولا يصل إلى معرفة الكلام. كان ابن سريج يلقب بالباز الأشهب، ولي قضاء شيراز وله من المصنفات أربعمائة مصنف. كان يناظر أبا بكر محمد بن داود الظاهري، وحكي أنه قال له أبو بكر يوماً: أبلعني ريقي. فقال له: أبلعتك دجلة، وقال له يوماً: أمهلني ساعة. قال: أمهلتك من الساعة إلى قيام الساعة. وقال له يوماً: أكلمك من الرجل فتجيبني من الرأس. فقال له: هكذا البقر إذا جفت أظلافها دهنت قرونها. توفي سنة ست وثلاث مائة، وله سبع وخمسون سنة وستة أشهر.
موقفه من الجهمية:
هذا الإمام وأمثاله من الأئمة الذين تشرفوا بنسبتهم إلى الدفاع عن العقيدة السلفية، كان ينبغي أن يكون الاقتداء بهم في هذا الطريق لا بالمتأخرين الذين بعدوا عن السنة، وأصبحت عقائدهم مبنية على طرق كلامية فلسفية وبهؤلاء اقتدى السبكي وابنه عبد الوهاب، حتى أعماهم هذا التقليد العفن وجعلهم يتوهمون ما هم عليه أنه عقيدة أهل الحديث والسلف. ولذا أبرز عبد الوهاب أسنانه في طبقاته وحاول أن يجعل كل سلفي خلفياً كما فعل في ترجمة الإمام الكرجي وغيره وحملاته على الإمام الذهبي في كثير
(4/521)
من المواضع. ونحن بصدد الحديث على هذا الإمام، فنذكر مواقفه:
- جاء في ذم الكلام: قيل لأبي العباس بن سريج: ما التوحيد؟ فقال: توحيد أهل العلم وجماعة المسلمين: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وتوحيد أهل الباطل: الخوض في الأعراض والأجسام وإنما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - بإنكار ذلك. (1)
" التعليق:
رحمك الله يا إمام الشافعية في وقته فهذا الذي تقوله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث لمحاربته هو التوحيد الذي يعترف به علماء اليوم ويَدْرُسُونَه ويُدَرِّسُونَه في مدارسهم والله المستعان.
- وجاء في اجتماع الجيوش: ذكر أبو القاسم سعد بن علي بن محمد الزنجاني في جوابات المسائل التي سئل عنها بمكة فقال: الحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً وعلى كل حال وصلى الله على محمد المصطفى وعلى الأخيار الطيبين من الأصحاب والآل، سألت أيدك الله تعالى بتوفيقه بيان ما صح لدي، وتأدى حقيقته إلى من سلك مذهب السلف وصالحي الخلف في الصفات الواردة في الكتاب المنزل والسنة المنقولة بالطرق الصحيحة برواية الثقات الأثبات عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بوجيز من القول واقتصار في الجواب.
فاستخرت الله سبحانه وتعالى وأجبت عنه بجواب بعض الأئمة الفقهاء
_________
(1) ذم الكلام (274).
(4/522)
وهو: أبو العباس أحمد بن عمر بن سريج رحمه الله تعالى. وقد سئل عن مثل هذا السؤال فقال:
أقول وبالله التوفيق: حرام على العقول أن تمثل الله سبحانه وتعالى وعلى الأوهام أن تحده وعلى الظنون أن تقع وعلى الضمائر أن تعمق وعلى النفوس أن تفكر وعلى الأفكار أن تحيط وعلى الألباب أن تصف إلا ما وصف به نفسه في كتابه أو على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -. وقد صح وتقرر واتضح عند جميع أهل الديانة والسنة والجماعة من السلف الماضين والصحابة والتابعين من الأئمة المهتدين الراشدين المشهورين، إلى زماننا هذا، أن جميع الآي الواردة عن الله تعالى في ذاته وصفاته، والأخبار الصادقة الصادرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الله وفي صفاته التي صححها أهل النقل، وقبلها النقاد الأثبات؛ يجب على المرء المسلم المؤمن الموفق الإيمان بكل واحد منه كما ورد، وتسليم أمره إلى الله سبحانه وتعالى كما أمر، وذلك مثل قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} (1)، وقوله تعالى: {وَجَاءَ ربك وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} (2)، وقوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} (3)، وقوله تعالى: {والأرض جميعًا
_________
(1) البقرة الآية (210).
(2) الفجر الآية (22).
(3) طه الآية (5).
(4/523)
قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (1)،ونظائرها مما نطق به القرآن كالفوقية والنفس واليدين والسمع والبصر والكلام والعين والنظر والإرادة والرضا والغضب والمحبة والكرامة والعناية والقرب والبعد والسخط والاستحياء، والدنوّ كقاب قوسين أو أدنى وصعود الكلام الطيب إليه، وعروج الملائكة والروح إليه، ونزول القرآن منه، وندائه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقوله للملائكة، وقبضه وبسطه وعلمه ووحدانيته وقدرته ومشيئته وصمدانيته وفردانيته وأوليته وآخريته وظاهريته وباطنيته وحياته وبقائه وأزليته وأبديته ونوره وتجليه والوجه، وخلق آدم عليه السلام بيده ونحو قوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} (2)، وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} (3)، وسماعه من غيره وسماع غيره منه وغير ذلك من صفاته المتعلقة به المذكورة في الكتاب المنزل على نبيه - صلى الله عليه وسلم - وجميع ما لفظ به المصطفى - صلى الله عليه وسلم - من صفاته، كغرسه جنته الفردوس بيده، وشجرة طوبى بيده، وخط التوراة بيده، والضحك والتعجب ووضعه القدم على النار فتقول قط قط، وذكر الأصابع والنزول كل ليلة إلى سماء الدنيا، وليلة الجمعة وليلة النصف من شعبان وليلة القدر، وغيرته وفرحه بتوبة العبد واحتجابه بالنور وبرداء الكبرياء، وأنه ليس
_________
(1) الزمر الآية (67) ..
(2) الملك الآية (16).
(3) الزخرف الآية (84) ..
(4/524)
بأعور، وأنه يعرض عما يكره ولا ينظر إليه، وأن كلتا يديه يمين، واختيار آدم قبضة اليمنى وحديث القبضة، وله كل يوم كذا وكذا نظرة في اللوح المحفوظ، وأنه يوم القيامة يحثو ثلاث حثيات من جهنم فيدخلهم الجنة، ولما خلق آدم عليه الصلاة والسلام مسح ظهره بيمينه، فقبض قبضة، فقال: هؤلاء للجنة ولا أبالي أصحاب اليمين وقبض قبضة أخرى وقال: هذه للنار ولا أبالي أصحاب الشمال، ثم ردهم في صلب آدم (1). وحديث القبضة التي يخرج بها من النار قوماً لم يعملوا خيراً قط، عادوا حمماً فيلقون في نهر من الجنة يقال له نهر الحياة (2) وحديث خلق آدم على صورته وقوله: "لا تقبحوا الوجه فإن الله خلق آدم على صورة الرحمن" (3)
وإثبات الكلام بالحرف والصوت وباللغات وبالكلمات وبالسورن وكلامه تعالى لجبريل والملائكة ولملك الأرحام والرحم ولملك الموت ولرضوان ولمالك ولآدم ولموسى ولمحمد - صلى الله عليه وسلم - وللشهداء وللمؤمنين عند الحساب، وفي الجنة ونزول القرآن إلى سماء الدنيا وكون القرآن في المصاحف وما أذن الله لشيء كأَذنه لنبي يتغنى بالقرآن
_________
(1) أخرجه: أحمد (4/ 186) من حديث عبد الرحمن بن قتادة، وصححه ابن حبان (2/ 50/338) والحاكم (1/ 31) ووافقه الذهبي، وذكره الهيثمي (7/ 186) وقال: "رواه أحمد ورجاله ثقات وفي الباب عن عدة من الصحابة كأنس وأبي موسى وحكيم بن حزام وأبي سعيد وابن عمر ومعاذ وغيرهم".
(2) جزء من حديث طويل أخرجه: أحمد (3/ 16 - 17و94 - 95) والبخاري (13/ 517 - 519/ 7439) ومسلم (1/ 167 - 171/ 183) والترمذي (4/ 615/2598) مختصراً، والنسائي (8/ 486 - 487/ 5025) وابن ماجه (1/ 23/60) من طرق عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(3) سيأتي تخريجه في مواقف البربهاري سنة (329هـ) ..
(4/525)
وقوله: لله أشد أذنا لقارئ القرآن من صاحب القينة إلى قينته (1) وأن الله سبحانه يحب العطاس ويكره التثاؤب (2). وفرغ الله من الرزق والأجل وحديث ذبح الموت ومباهاة الله تعالى وصعود الأقوال والأعمال والأرواح إليه، وحديث معراج الرسول - صلى الله عليه وسلم - ببدنه وبيان نفسه ونظره إلى الجنة والنار وبلوغه إلى العرش إلى أن لم يكن بينه وبين الله إلا حجاب العزة وعرض الأنبياء عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام وعرض أعمال الأمة عليه.
وغير هذا مما صح عنه - صلى الله عليه وسلم - من الأخبار المتشابهة الواردة في صفات الله سبحانه ما بلغنا وما لم يبلغنا مما صح عنه اعتقادنا فيه، وفي الآي المتشابهة في القرآن أن نقبلها ولا نردها ولا نتأوله بتأويل المخالفين، ولا نحملها على تشبيه المشبهين، ولا نزيد عليها ولا ننقص منها، ولا نفسرها ولا نكيفها، ولا نترجم عن صفاته بلغة غير العربية ولا نشير إليها بخواطر القلوب ولا بحركات الجوارح بل نطلق ما أطلقه الله عز وجل ونفسر ما فسره النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والتابعون والأئمة المرضيون من السلف المعروفين بالدين والأمانة، ونجمع على ما أجمعوا عليه ونمسك عن ما أمسكوا عنه ونسلم الخبر الظاهر والآية الظاهرة تنزيلها لا نقول بتأويل المعتزلة، والأشعرية والجهمية والملحدة والمجسمة والمشبهة والكرامية والمكيفة، بل نقبلها بلا تأويل ونؤمن بها بلا تمثيل ونقول: الإيمان بها واجب والقول بها سنة وابتغاء تأويلها بدعة. آخر كلام أبي العباس بن سريج الذي حكاه أبو القاسم سعد بن علي الزنجاني في أجوبته. (3)
" التعليق:
ماذا يقول أشاعرة الشافعية في هذه العقيدة، هل اخترعها ابن القيم وولد ألفاظها، وهي ثابتة حقاً كما ذكر ابن القيم مرجعه ومستنده. فهذه العقيدة المباركة جمعت الصفات الواردة في القرآن والسنة وما يداخلها من الصفات وقد أوضحها الشيخ وضوحاً لا مزيد عليه. بين ما يتوهم أن مذهب السلف هو التفويض بل بين أن مذهب السلف هو الإثبات وعلى هذا النهج نهج ابن تيمية وابن القيم فماذا يقول المخالفون هل هذا الإمام مسبق بهذا أو هو شيء اخترعه من عنده أو أن هذا تلقاه الخلف عن السلف إلى الصحابة ثم إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - والله المستعان.
- وقال أبو الوليد الفقيه: سمعت ابن سريج يقول: ما رأيت من
_________
(1) أخرجه: أحمد (6/ 19) والحاكم (1/ 570 - 571) وصححه وتعقبه الذهبي بقوله بل هو منقطع. أبو عبيد في فضائل القرآن (1/ 330) والبيهقي (10/ 230) والبخاري في التاريخ الكبير (7/ 124) وابن عساكر (61/ 321) من طريق إسماعيل بن عبد الله عن فضالة بن عبيد مرفوعاً.
وأخرجه: أحمد (6/ 20) وابن حبان (3/ 31/754) وابن ماجه (1/ 425/1340) وقال البوصيري: "إسناده صحيح"، وابن عساكر (61/ 321) والطبراني في الكبير (18/ 301/772) والبيهقي (10/ 230)، البخاري في التاريخ الكبير (7/ 124) كلهم من طريق الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن إسماعيل بن عبد الله عن ميسرة مولى فضالة عن فضالة ابن عبيد مرفوعاً بلفظ "الله أشد أذناً إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته" والحديث ضعفه الشيخ الألباني رحمه الله في ضعيف الترغيب (1/ 438).
(2) أخرجه: أحمد (2/ 265) والبخاري (10/ 740/6223) وأبو داود (5/ 287/5028) والترمذي (5/ 81/2747) والنسائي في الكبرى (6/ 62/10043) من طرق عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) اجتماع الجيوش (158 - 162).
(/)
المتفقهة من اشتغل بالكلام فأفلح، يفوته الفقه ولا يصل إلى معرفة الكلام. قال: وكنا نأتي مجلس ابن سريج سنة ثلاث وثلاث مائة فقام إليه شيخ من أهل العلم فقال: أبشر أيها القاضي فإن الله يبعث على كل مائة سنة من يجدد للأمة دينها، والله تعالى بعث على رأس المائة عمر بن عبد العزيز، وعلى رأس المائتين الشافعي، وبعثك على رأس الثلاث مائة ثم أنشأ يقول:
اثنان قد مضيا وبورك فيهما ... عمر الخليفة ثم خلف السودد
الشافعي الألمعي محمد ... إرث النبوة وابن عم محمد
أبشر أبا العباس إنك ثالث ... من بعدهم سقيا لنوبة أحمد
فصاح أبو العباس وبكى وقال: لقد نعى إلي نفسي. قال حسان: فمات القاضي أبو العباس في تلك السنة. كذا في النسخة سنة ثلاث وكأنها سنة ست تصحفت. وقد كان على رأس المائة الرابعة الإمام أبو حامد الإسفراييني ببغداد. (1)
أبو يحيى السَّاجي (2) (307 هـ)
الإمام الثبت، الحافظ، محدث البصرة وشيخها ومفتيها، أبو يحيى زكريا ابن يحيى بن عبد الرحمن بن بحر بن عدي. البصري الشافعي. سمع أبا الربيع الزهراني وعبيد الله بن معاذ العنبري وهدبة بن خالد القيسي وخلقا بالبصرة
_________
(1) التذكرة (3/ 812).
(2) الجرح والتعديل (3/ 601) وتذكرة الحفاظ (2/ 709 - 710) وميزان الاعتدال (2/ 79) واللسان (2/ 488 - 489) والبداية والنهاية (11/ 140) وتهذيب التهذيب (3/ 334) وشذرات الذهب (2/ 250 - 251) والسير (14/ 197 - 200).
(4/528)
ولم يرحل. وحدث عنه أبو أحمد بن عدي وأبو بكر الإسماعيلي وأبو القاسم الطبراني وخلق. قال الذهبي: وللساجي مصنف جليل في علل الحديث يدل على تبحره وحفظه، ولم تبلغنا أخباره كما في النفس، وقد هم بمن أدخل عليه، فقال الخليلي، سمعت عبد الرحمن بن أحمد الشيرازي الحافظ يقول: سألت ابن عدي عن إبراهيم بن محمد بن يحيى بن منده فقال: كنا بالبصرة عند زكريا الساجي فقرأ عليه إبراهيم حديثين عن أحمد بن عبد الرحمن بن وهب عن عمه عن مالك، فقلت: هما عن يونس، فأخذ الساجي كتابه فتأمل وقال لي: هو كما قلت، وقال لإبراهيم: ممن أخذت هذا؟ فأحال على بعض أهل البصرة، قال: علي بصاحب الشرطة حتى أسود وجه هذا، فكلموه حتى عفا عنه، ومزق الكتاب. مات بالبصرة سنة سبع وثلاث مائة وهو في عشر التسعين رحمه الله.
موقفه من الجهمية:
جاء في اجتماع الجيوش الإسلامية عنه قال: القول في السنة التي رأيت عليها أصحابنا أهل الحديث الذين لقيناهم أن الله تعالى على عرشه في سمائه يقرب من خلقه كيف شاء ثم ذكر بقية الاعتقاد، ذكره الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في طبقات الفقهاء وقال أخذ عن الربيع والمزني وله كتاب اختلاف الفقهاء وكتاب علل الحديث وهو شيخ أبي الحسن الأشعري في الفقه والحديث وذكر ما حكاه أبو نصر السجزي عن أهل الحديث قال: وأئمتنا كالثوري ومالك وابن عيينة وحماد بن زيد والفضيل وأحمد وإسحاق متفقون
(4/529)
على أن الله فوق العرش بذاته وأن علمه بكل مكان. (1)
عروس المُؤَذِّن (2) (307 هـ)
الرجل الصالح المتعبد عروس المؤذن. كان يؤذن بمسجد أبي عياش الفقيه، صاحب سحنون، وكان اسمه منيب. قال صاحب معالم الإيمان: وكان زاهداً يطحن بيده ويعيش من عمل الحلفاء. قتل -رحمه الله- سنة سبع وثلاثمائة.
موقفه من الرافضة:
جاء في معالم الإيمان: وسبب قتله أنه كان يؤذن في مسجد عباس الفقيه صاحب سحنون، فشهد عليه بعض المشارقة أنه لم يقل في آذانه "حي على خير العمل"، فقطع لسانه، وعلق بين عينيه، وطيف به القيروان ثم قتل بالمرضاخ. (3)
الحسن بن مفرج (4) (309 هـ)
هو الحسن بن مفرج أبو القاسم مولى مهرية بنت الأغلب بن إبراهيم. كان من العباد الزهاد، ينتحل التوكل، كثير الحج والأسفار والتغريب عن
_________
(1) اجتماع الجيوش (ص.226 - 227).
(2) رياض النفوس (2/ 152) ومعالم الإيمان (3/ 5).
(3) معالم الإيمان (3/ 5).
(4) معالم الإيمان في معرفة أهل القيروان (2/ 353 - 356).
(4/530)
الأوطان. خرج مع جماعة على عبيد الله المهدي، فأخذ وقتل مصلوباً سنة تسع وثلاثمائة.
موقفه من الرافضة:
جاء في معالم الإيمان: قال: مات أبو القاسم شهيداً قتله عبيد الله المهدي، وكان سبب قتله أنه رأى أموراً لا يحل المقام عليها لمسلم، فخرج مع جماعة على عبيد الله، فأخذ وقتل معه محمد بن عبد الله السدري، وصلبا جميعاً.
قال التجيبي: ولما سجن رأى كأنه أتى بقصعة من شهد، فحساها فأصبح يحكيه فقال له رجل: أي شيء هذه الشهادة أتتك؟ فما تضحى نهار ذلك اليوم حتى تقتل فكأنه جزع، فقيل له تكره القدوم إلى الله؟ فوثب كأنه حل من عقال يقول: لبيك لبيك، حتى ضربت عنقه وقال المالكي: قتلا بالرماح وصلبا برملة المهدية. (1)
موقف السلف من الحلاّج (309 هـ)
بيان زندقته:
هذا الخبيث هو وأمثاله من زنادقة الصوفية الذين يتسترون بأنهم أهل الولاية وهم الزنادقة ورثة الحلولية والباطنية الذين آلوا على أنفسهم أنهم لا يتركون للإسلام قائمة ولكن الله يحفظ دينه رغم مكائدهم ومن تتبع ما
_________
(1) معالم الإيمان (2/ 354).
(4/531)
كتبناه في هذا البحث المبارك ير صدق ذلك في هؤلاء الزنادقة وما فعله المسلمون بهم في كل زمان ومكان، ومهما تستروا يكشف الله أمرهم ويظهروا على حقيقتهم. وهكذا كل مغرض يكون منافقاً مدة ثم ينكشف. وهذا الزنديق قد ساق أخباره غير واحد ممن ألف في التاريخ والطبقات وخصوصاً الذين ألفوا في طبقات الصوفية كأبي عبد الرحمن السلمي والنقاش والشعراني وغيرهم وهم يختلفون فيه ما بين مثبت له وما بين رافض كل حسب مصلحته، وإلا أمثال هؤلاء لا يختلف فيهم اثنان ولا يتناطح فيهم عنزان. وإليك نماذج من زندقته وشعوذته وموقف العلماء والخليفة منه.
- جاء في السير: بالسند إلى منجم ماهر قال: بلغني خبر الحلاج فجئته كالمسترشد فخاطبني وخاطبته ثم قال: تشهّ الساعة ما شئت حتى أجيئك به. وكنا في بعض بلدان الجبل التي لا يكون فيها الأنهار فقلت: أريد سمكاً طرياً حياً، فقام فدخل البيت وأغلق بابه وأبطأ ساعة ثم جاءني وقد خاض وحلاً إلى ركبته ومعه سمكة تضطرب، وقال: دعوت الله فأمرني أن أقصد البطائح فجئت بهذه، قال: فعلمت أن هذا حيلة فقلت له: فدعني أدخل البيت فإن لم تنكشف لي حيلة آمنت بك: قال: شأنك، فدخلت البيت وغلقت على نفسي، فلم أجد طريقاً ولا حيلة ثم قلعت من التأزير، ودخلت إلى دار كبيرة فيها بستان عظيم فيه صنوف الأشجار والثمار والريحان، التي هو وقتها وما ليس وقتها مما قد غطي وعتق، واحتيل في بقائه، وإذا الخزائن مفتحة، فيها أنواع الأطعمة وغير ذلك، وإذا بِرْكة كبيرة، فخضتها فإذا رجلي قد سارت بالوحل كرجليه، فقلت: الآن إن خرجت ومعي سمكة قتلني، فصدت سمكة
(4/532)
فلما صرت إلى باب البيت أقبلت أقول: آمنت وصدقت ما ثم حيلة وليس إلا التصديق بك. قال: فخرج وخرجت وعدوت فرأى السمكة معي فعدا خلفي فلحقني فضربت بالسمكة في وجهه وقلت له: أتعبتني حتى مضيت إلى البحر فاستخرجت هذه، فاشتغل بما لحقه من السمكة فلما صرت في الطريق رميت بنفسي لما لحقني من الجزع والفزع فجاء إلي وضاحكني وقال: ادخل فقلت: هيهات. فقال: اسمع والله لئن شئت قتلتك على فراشك، ولكن إن سمعت بهذه الحكاية لأقتلنك. فما حكيتها حتى قتل. (1)
- وقال ابن كثير: روى الخطيب البغدادي أن الحلاّج بعث رجلاً من خاصة أصحابه وأمره أن يذهب بين يديه إلى بلد من بلاد الجبل، وأن يظهر لهم العبادة والصلاح والزهد، فإذا رآهم قد أقبلوا عليه وأحبوه واعتقدوه أظهر لهم أنه قد عمي، ثم يظهر لهم بعد أيام أنه قد تكسح، فإذا سعوا في مداواته، قال لهم: يا جماعة الخير، إنه لا ينفعني شيء مما تفعلون، ثم يظهر لهم بعد أيام أنه قد رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المنام وهو يقول له: إن شفاءك لا يكون إلا على يدي القطب، وإنه سيقدم عليك في اليوم الفلاني في الشهر الفلاني، وصفته كذا وكذا. وقال له الحلاج: إني سأقدم عليك في ذلك الوقت. فذهب ذلك الرجل إلى تلك البلاد فأقام بها يتعبد ويظهر الصلاح والتنسك ويقرأ القرآن. فأقام مدة على ذلك فاعتقدوه وأحبوه، ثم أظهر لهم أنه قد عمي فمكث حيناً على ذلك، ثم أظهر لهم أنه قد زمن، فسعوا بمداواته
_________
(1) السير (14/ 323 - 324).
(4/533)
بكل ممكن فلم ينتج فيه شيء، فقال لهم: يا جماعة الخير هذا الذي تفعلونه معي لا ينتج شيئاً وأنا قد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المنام وهو يقول لي: إنّ عافيتك وشفاءك إنما هو على يدي القطب، وإنه سيقدم عليك في اليوم الفلاني في الشهر الفلاني، وكانوا أولاً يقودونه إلى المسجد ثم صاروا يحملونه ويكرمونه [حتى] (1) كان في الوقت الذي ذكر لهم، واتفق هو والحلاج عليه، أقبل الحلاج حتى دخل البلد مختفياً وعليه ثياب صوف بيض، فدخل المسجد ولزم سارية يتعبد فيه لا يلتف إلى أحد، فعرفه الناس بالصفات التي وصف لهم ذلك العليل، فابتدروا إليه يسلمون عليه ويتمسحون به، ثم جاؤوا إلى ذلك الزّمِن المتعافى فأخبره بخبره، فقال: صفوه لي، فوصفوه له فقال: هذا الذي أخبرني عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المنام، وأن شفائي على يديه، اذهبوا بي إليه.
فحملوه حتى وضعوه بين يديه فكلمه فعرفه فقال: يا أبا عبد الله إني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المنام. ثم ذكر له رؤياه، فرفع الحلاج يديه فدعا له ثم تفل من ريقه في كفيه ثم مسح بهما على عينيه ففتحهما كأن لم يكن بهما داء قط فأبصر، ثم أخذ من ريقه فمسح على رجليه فقام من ساعته فمشى كأنه لم يكن به شيء والناس حضور، وأمراء تلك البلاد وكبراؤهم عنده، فضج الناس ضجة عظيمة وكبروا الله وسبحوه وعظموا الحلاج تعظيماً زائداً على ما أظهر لهم من الباطل والزور. ثم أقام عندهم مدة يكرمونه ويعظمونه ويودون لو طلب منهم ما عساه أن يطلب من أموالهم. فلما أراد الخروج
_________
(1) زيادة يقتضيها السياق.
(4/534)
عنهم أرادوا أن يجمعوا له مالاً كثيراً فقال: أما أنا فلا حاجة لي بالدنيا، وإنما وصلنا إلى ما وصلنا إليه بترك الدنيا، ولعل صاحبكم هذا أن يكون له إخوان وأصحاب من الأبدال الذين يجاهدون بثغر طرسوس، ويحجون ويتصدقون، محتاجين إلى ما يعينهم على ذلك. فقال ذلك الرجل المتزامن المتعافى: صدق الشيخ، قد رد الله علي بصري ومن الله علي بالعافية، لأجعلن بقية عمري في الجهاد في سبيل الله، والحج إلى بيت الله مع إخواننا الأبدال والصالحين الذين نعرفهم، ثم حثهم على إعطائه من المال ما طابت به أنفسهم. ثم إن الحلاج خرج عنهم ومكث ذلك الرجل بين أظهرهم مدة إلى أن جمعوا له مالاً كثيراً ألوفاً من الذهب والفضة، فلما اجتمع له ما أراد ودعهم وخرج عنهم فذهب إلى الحلاج فاقتسما ذلك المال. (1)
- وقال أيضاً: كان الحلاج متلوناً تارة يلبس المسوح، وتارة يلبس الدراعة، وتارة يلبس القباء، وهو مع كل قوم على مذهبهم: إن كانوا أهل سنة أو رافضة أو معتزلة أو صوفية أو فساقاً أو غيرهم، ولما أقام بالأهواز جعل ينفق من دراهم يخرجها يسميها دراهم القدرة، فسئل الشيخ أبو علي الجبائي عن ذلك فقال: إن هذا كله مما يناله البشر بالحيلة، ولكن أدخلوه بيتاً لا منفذ له ثم سلوه أن يخرج لكم جرزتين من شوك. فلما بلغ ذلك الحلاج تحول من الأهواز. (2)
- جاء في السير عن أحمد بن يوسف الأزرق: أن الحلاج لما قدم بغداد
_________
(1) البداية (11/ 145 - 146) والسير (14/ 319 - 320).
(2) البداية (11/ 147 - 148) والسير (14/ 320).
(4/535)
استغوى خلقاً من الناس والرؤساء، وكان طمعه في الرافضة أقوى لدخوله في طريقهم، فراسل أبا سهل بن نوبخت يستغويه، وكان أبو سهل فطناً، فقال لرسوله: هذه المعجزات التي يظهرها يمكن فيها الحيل، ولكني رجل غزل، ولا لذة لي أكبر من النساء، وأنا مبتلى بالصلع، فإن جعل لي شعراً ورد لحيتي سوداء، آمنت بما يدعوني إليه وقلت: إنه باب الإمام، وإن شاء قلت: إنه الإمام، وإن شاء قلت: إنه النبي، وإن شاء قلت: إنه الله. فأيس الحلاج منه وكف. (1)
- وجاء فيها أيضاً: عن أبي بكر بن سعدان قال: قال لي الحلاج: تؤمن بي حتى أبعث إليك بعصفور أطرح من ذرقها وزن حبة على كذا منا نحاساً فيصير ذهباً؟ فقلت له: بل أنت تؤمن بي حتى أبعث إليك بفيل يستلقي فتصير قوائمه في السماء، فإذا أردت أن تخفيه أخفيته في إحدى عينيك. قال: فبهت وسكت.
ويروى أن رجلاً قال للحلاج: أريد تفاحة، ولم يكن وقته، فأومأ بيده إلى الهواء، فأعطاهم تفاحة وقال: هذه من الجنة. فقيل له: فاكهة الجنة غير متغيرة، وهذه فيها دودة. فقال: لأنها خرجت من دار البقاء إلى دار الفناء، فحل بها جزء من البلاء. فانظر إلى ترامي هذا المسكين على الكرامات والخوارق، فنعوذ بالله من الخذلان، فعن عمر رضي الله عنه أنه كان يتعوذ من خشوع النفاق. (2)
_________
(1) السير (14/ 322 - 323).
(2) السير (14/ 324 - 325).
(4/536)
- وفيها أيضاً عن زيد القصري قال: كنت بالقدس، إذ دخل الحلاج، وكان يومئذ يشعل فيه قنديل قمامة بدهن البَلَسان، فقام الفقراء إليه يطلبون منه شيئاً، فدخل بهم إلى القمامة، فجلس بين الشمامسة، وكان عليه السواد، فظنوه منهم، فقال لهم: متى يشعل القنديل؟ قالوا: إلى أربع ساعات. فقال: كثير. فأومأ بأصبعه، فقال: الله. فخرجت نار من يده، فأشعلت القنديل، واشتعلت ألف قنديل حواليه، ثم ردت النار إلى أصبعه، فقالوا: من أنت؟ قال: أنا حنيفي، أقل الحنيفيين، تحبون أن أقيم أو أخرج؟ فقالوا: ما شئت. فقال: أعطوا هؤلاء شيئاً. فأخرجوا بدرة فيها عشرة آلاف درهم للفقراء. فهذه الحكاية وأمثالها ما صح منها فحكمه أنه مخدوم من الجن.
- قال التنوخي: وحدثني أحمد بن يوسف الأزرق قال: بلغني أن الحلاج كان لا يأكل شيئاً شهراً، فهالني هذا، وكان بين أبي الفرج وبين روحان الصوفي مودة، وكان محدثاً صالحاً، وكان القصري -غلام الحلاج- زوج أخته، فسألته عن ذلك فقال: أما ما كان الحلاج يفعله فلا أعلم كيف كان يتم له، ولكن صهري القصري قد أخذ نفسه، ودرجها، حتى صار يصبر عن الأكل خمسة عشر يوماً، أقل أو أكثر. وكان يتم له ذلك بحيلة تخفى علي، فلما حبس في جملة الحلاجية، كشفها لي، وقال لي: إن الرصد إذا وقع بالإنسان، وطال فلم تنكشف معه حيلة، ضعف عنه الرصد، ثم لا يزال يضعف كلما لم تنكشف حيلته، حتى يبطل أصلاً، فيتمكن حينئذ من فعل ما يريد، وقد رصدني هؤلاء منذ خمسة عشر يوماً، فما رأوني آكل شيئاً بتة، وهذا نهاية صبري، فخذ رطلاً من الزبيب ورطلا من اللوز، فدقهما،
(4/537)
واجعلهما مثل الكسب وابسطه كالورقة، واجعلها بين ورقتين كدفتر، وخذ الدفتر في يدك مكشوفاً مطوياً ليخفى، وأحضره لي خفية لآكل منه وأشرب الماء في المضمضة، فيكفيني ذلك خمسة عشر يوماً أخرى. فكنت أعمل ذلك له طول حبسه. (1)
نماذج من زندقته:
- قال السلمي: وحكي عنه أنه رؤي واقفاً في الموقف، والناس في الدعاء وهو يقول: أنزهك عما قرفك به عبادك، وأبرأ إليك مما وحدك به الموحدون.
قال الذهبي رحمه الله: هذا عين الزندقة، فإنه تبرأ مما وحد الله به الموحدون الذين هم الصحابة والتابعون وسائر الأمة، فهل وحدوه تعالى إلا بكلمة الإخلاص التي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قالها من قلبه فقد حرم ماله ودمه" (2) وهي شهادة أن لا اله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإذا برئ الصوفي منها فهو ملعون زنديق وهو صوفي الزي والظاهر متستر بالنسب إلى العارفين، وفي الباطن فهو من صوفية الفلاسفة أعداء الرسل كما كان جماعة في أيام النبي - صلى الله عليه وسلم - منتسبين (3) إلى صحبته وإلى ملته، وهم في الباطن من مردة المنافقين، قد لا يعرفهم نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يعلم بهم. قال الله تعالى: {ومن أهل
_________
(1) السير (14/ 333 - 335).
(2) تقدم تخريجه في مواقف أبي بكر الصديق رضي الله عنه سنة (13هـ).
(3) في الأصل منتسبون والصواب ما أثبتناه.
(4/538)
الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} (1) فإذا جاز على سيد البشر أن لا يعلم ببعض المنافقين وهم معه في المدينة سنوات، فبالأولى أن يخفى حال جماعة من المنافقين الفارغين عن دين الإسلام بعده عليه السلام على العلماء من أمته، فما ينبغي لك يا فقيه أن تبادر إلى تكفير المسلم إلا ببرهان قطعي، كما لا يسوغ لك أن تعتقد العرفان والولاية فيمن قد تبرهن زغله، وانهتك باطنه وزندقته، فلا هذا ولا هذا، بل العدل أن من رآه المسلمون صالحاً محسناً، فهو كذلك، لأنهم شهداء الله في أرضه، إذ الأمة لا تجتمع على ضلالة، وأن من رآه المسلمون فاجراً أو منافقاً أو مبطلاً، فهو كذلك، وأن من كان طائفة من الأمة تضلله، وطائفة من الأمة تثني عليه وتبجله، وطائفة ثالثة تقف فيه وتتورع من الحط عليه، فهو ممن ينبغي أن يعرض عنه، وأن يفوض أمره إلى الله، وأن يستغفر له في الجملة، لأن إسلامه أصلي بيقين، وضلاله مشكوك فيه، فبهذا تستريح ويصفو قلبك من الغل للمؤمنين.
ثم اعلم أن أهل القبلة كلهم، مؤمنهم وفاسقهم، وسنيهم ومبتدعهم -سوى الصحابة- لم يجمعوا على مسلم بأنه سعيد ناج، ولم يجمعوا على مسلم بأنه شقي هالك، فهذا الصديق فرد الأمة، قد علمت تفرقهم فيه، وكذلك عمر، وكذلك عثمان، وكذلك علي، وكذلك ابن الزبير، وكذلك الحجاج، وكذلك المأمون، وكذلك بشر المريسي، وكذلك أحمد بن حنبل،
_________
(1) التوبة الآية (101) ..
(4/539)
والشافعي، والبخاري، والنسائي، وهلم جراً من الأعيان في الخير والشر إلى يومك هذا، فما من إمام كامل في الخير إلا وثم أناس من جهلة المسلمين ومبتدعيهم يذمونه ويحطون عليه، وما من رأس في البدعة والتجهم والرفض إلا وله أناس ينتصرون له، ويذبون عنه، ويدينون بقوله بهوى وجهل، وإنما العبرة بقول جمهور الأمة الخالين من الهوى والجهل، المتصفين بالورع والعلم، فتدبر -يا عبد الله- نحلة الحلاج الذي هو من رؤوس القرامطة، ودعاة الزندقة، وأنصف وتورع واتق ذلك وحاسب نفسك، فإن تبرهن لك أن شمائل هذا المرء شمائل عدو للإسلام، محب للرئاسة، حريص على الظهور بباطل وبحق، فتبرأ من نحلته، وإن تبرهن لك والعياذ بالله، أنه كان -والحالة هذه- محقاً هادياً مهدياً، فجدد إسلامك واستغث بربك أن يوفقك للحق، وأن يثبت قلبك على دينه، فإنما الهدى نور يقذفه الله في قلب عبده المسلم، ولا قوة إلا بالله، وإن شككت ولم تعرف حقيقته، وتبرأت مما رمي به، أرحت نفسك، ولم يسألك الله عنه أصلاً. (1)
- ومن زندقته أيضاً قوله: الكفر والإيمان يفترقان من حيث الاسم، فأما من حيث الحقيقة، فلا فرق بينهما.
- عن جندب بن زاذان، تلميذ الحسين قال: كتب الحسين إلي: باسم الله المتجلي عن كل شيء لمن يشاء، والسلام عليك يا ولدي، ستر الله عنك ظاهر الشريعة، وكشف لك حقيقة الكفر، فإن ظاهر الشريعة كفر، وحقيقة
_________
(1) السير (14/ 342 - 345).
(4/540)
الكفر معرفة جلية، وإني أوصيك أن لا تغتر بالله، ولا تيأس منه ولا ترغب في محبته ولا ترضى أن تكون غير محب ولا تقل بإثباته، ولا تمل إلى نفيه، وإياك والتوحيد، والسلام. (1)
- وقال الذهبي: قال ابن باكويه: سمعت عيسى بن بزول القزويني يقول: إنه سأل ابن خفيف عن معنى هذه الأبيات:
سبحان من أظهر ناسوته ... سر سنا لاهوته الثاقب
ثم بدا في خلقه ظاهرا ... في صورة الآكل والشارب
حتى لقد عاينه خلقه ... كلحظة الحاجب بالحاجب
فقال ابن خفيف: على قائل ذا لعنة الله. قال: هذا شعر الحسين الحلاج. قال: إن كان هذا اعتقاده، فهو كافر فربما يكون مقولا عليه. (2)
- وقال أيضاً: ذكر ابن حوقل قال: ظهر من فارس الحلاج ينتحل النسك والتصوف، فما زال يترقى طبقاً عن طبق حتى آل به الحال إلى أن زعم: أنه من هذب في الطاعة جسمه، وشغل بالأعمال قلبه، وصبر عن اللذات، وامتنع من الشهوات يترق في درج المصافاة، حتى يصفو عن البشرية طبعه، فإذا صفا حل فيه روح الله الذي كان منه إلى عيسى، فيصير مطاعاً، يقول للشيء: كن، فيكون، فكان الحلاج يتعاطى ذلك ويدعو إلى نفسه حتى استمال جماعة من الأمراء والوزراء، وملوك الجزيرة والجبال والعامة، ويقال: إن يده لما قطعت كتب الدم على الأرض: الله الله.
_________
(1) السير (14/ 352 - 353).
(2) السير (14/ 325).
(4/541)
قلت -أي الذهبي-: ما صح هذا، ويمكن أن يكون هذا من فعله بحركة زنده. (1)
وقيل: إن الوزير حامداً وجد في كتبه: إذا صام الإنسان وواصل ثلاثة أيام وأفطر في رابع يوم على ورقات هندبا أغناه عن صوم رمضان، وإذا صلى في ليلة ركعتين من أول الليل إلى الغداة أغنته عن الصلاة بعد ذلك، وإذا تصدق بكذا وكذا أغناه عن الزكاة. (2)
- وفي السير والتلبيس: أن ابنة السمري أدخلت على حامد الوزير، فسألها عن الحلاج فقالت: حملني أبي إليه فقال: قد زوجتك من ابني سليمان، وهو مقيم بنيسابور، فمتى جرى شيء تنكرينه من جهته فصومي يومك واصعدي في آخر النهار إلى السطح، وقومي على الرماد واجعلي فطرك عليه وعلى ملح جريش واستقبليني بوجهك واذكري لي ما أنكرتيه منه فإني أسمع وأرى، قالت: وكنت ليلة نائمة في السطح فأحسست به قد غشيني فانتبهت مذعورة لما كان منه، فقال: إنما جئتك لأوقظك للصلاة، فلما نزلنا قالت ابنته: اسجدي له، فقلت: أو يسجد أحد لغير الله؟! فسمع كلامي، فقال: نعم إله في السماء وإله في الأرض. (3)
- وفي السير عن إبراهيم بن شيبان قال: سلم أستاذي أبو عبد الله المغربي على عمرو بن عثمان، فجاراه في مسألة، فجرى في عرض الكلام أن
_________
(1) السير (14/ 347).
(2) السير (14/ 347).
(3) السير (14/ 337 - 338) وتلبيس إبليس (213).
(4/542)
قال: هاهنا شاب على جبل أبي قبيس. فلما خرجنا من عند عمرو صعدنا إليه، وكان وقت الهاجرة، فدخلنا عليه، فإذا هو جالس في صحن الدار على صخرة في الشمس، والعرق يسيل منه على الصخرة، فلما نظر إليه المغربي رجع وأشار بيده: ارجع. فنزلنا المسجد، فقال لي أبو عبد الله: إن عشت ترى ما يلقى هذا، قد قعد بحمقه يتصبر مع الله. فسألنا عنه، فإذا هو الحلاج. (1)
وفي سنة إحدى وثلاث مئة أدخل الحلاج بغداد مشهوراً على جمل، قبض عليه بالسوس، وحمل إلى الرائشي، فبعث به إلى بغداد، فصلب حياً، ونودي عليه: هذا أحد دعاة القرامطة فاعرفوه. وقال الفقيه أبو علي بن البناء: كان الحلاج قد ادعى أنه إله، وأنه يقول بحلول اللاهوت في الناسوت، فأحضره الوزير علي بن عيسى فلم يجده -إذ سأله- يحسن القرآن والفقه ولا الحديث. فقال: تعلمك الفرض والطهور أجدى عليك من رسائل لا تدري ما تقول فيها. كم تكتب -ويلك- إلى الناس: تبارك ذو النور الشعشعاني؟ ما أحوجك إلى أدب وأمر به فصلب في الجانب الشرقي، ثم في الغربي، ووجد في كتبه: إني مغرق قوم نوح، ومهلك عاداً وثمود. (2)
- قال أبو علي التنوخي: أخبرني أبو الحسين بن عياش القاضي عمن أخبره: أنه كان بحضرة حامد بن العباس لما قبض على الحلاج، وقد جيء بكتب وجدت في داره من دعاته في الأطراف يقولون فيها: وقد بذرنا لك في كل أرض ما يزكو فيها، وأجاب قوم إلى أنك الباب -يعني الإمام-
_________
(1) السير (14/ 317).
(2) السير (14/ 327).
(4/543)
وآخرون يعنون أنك صاحب الزمان -يعنون الإمام الذي تنتظره الإمامية- وقوم إلى أنك صاحب الناموس الأكبر -يعنون النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقوم يعنون أنك هو هو -يعني الله عز وجل-. قال: فسئل الحلاج عن تفسير هذه الكتب، فأخذ يدفعه ويقول: هذه الكتب لا أعرفها، هذه مدسوسة علي، ولا أعلم ما فيها، ولا معنى هذا الكلام. وجاؤوا بدفاتر للحلاج فيها أن الإنسان إذا أراد الحج فإنه يكفيه أن يعمد إلى بيت ... وذكر القصة. (1)
- وقال أبو يعقوب الأقطع: زوجت ابنتي من الحسين بن منصور لما رأيت من حسن طريقته واجتهاده، فبان لي بعد مدة يسيرة أنه ساحر، محتال كافر.
- وقال أبو يعقوب النعماني: سمعت أبا بكر محمد بن داود الفقيه يقول: إن كان ما أنزل الله على نبيه حقاً، فما يقول الحلاج باطل. وكان شديداً عليه.
- السلمي: سمعت علي بن سعيد الواسطي بالكوفة يقول: ما تجرد أحد على الحلاج وحمل السلطان على قتله كما تجرد له ابن داود. وبلغني أنه لما أخرج إلى القتل تغير وجه حامد بن العباس، فقال له بعض الفقهاء: لا تشكن أيها الوزير، إن كان ما جاء به محمد حقاً، فما يقول هذا باطل.
- السلمي: سمعت جعفر بن أحمد يقول: سمعت أبا بكر بن أبي سعدان يقول: الحلاج مموه ممخرق.
_________
(1) السير (14/ 336).
(4/544)
- السلمي: سمعت أبا بكر بن غالب يقول: سمعت بعض أصحابنا يقول: لما أرادوا قتل الحلاج، أحضر لذلك الفقهاء، فسألوه: ما البرهان؟ قال: شواهد يلبسها الحق لأهل الإخلاص، يجذب في النفوس إليها جاذب القبول. فقالوا بأجمعهم: هذا كلام أهل الزندقة.
قال الذهبي: بل من وزن نفسه، وزمها بالكتاب والسنة، فهو صاحب برهان وحجة، فما أخيب سهم من فاته ذلك.
- قال ابن الجوزي فيما أنبأوني عنه: إن شيخه أبا بكر الأنصاري أنبأه قال: شهدت أنا وجماعة على أبي الوفاء بن عقيل قال: كنت قد اعتقدت في الحلاج ونصرته في جزء، وأنا تائب إلى الله منه، وقد قتل بإجماع فقهاء عصره، فأصابوا وأخطأ هو وحده. (1)
ومن شعره في الاتحاد:
يا نسيم الريح قولي للرشا ... لم يزدني الورد إلا عطشا
روحه روحي وروحي فله ... إن يشا شئت وإن شئت يشا (2)
- قال الذهبي: قرأت بخط العلامة تاج الدين الفزاري قال: رأيت في سنة سبع وستين وست مئة كتاباً فيه قصة الحلاج، منه: عن إبراهيم الحلواني قال: دخلت على الحسين بن منصور بين المغرب والعتمة، فوجدته يصلي، فجلست كأنه لم يحس بي، فسمعته يقرأ سورة البقرة، فلما ختمها، ركع وقام في الركوع طويلاً، ثم قام إلى الثانية، قرأ الفاتحة وآل عمران، فلما سلم
_________
(1) السير (14/ 330 - 331).
(2) السير (14/ 346).
(4/545)
تكلم بأشياء لم أسمعها، ثم أخذ في الدعاء، ورفع صوته كأنه مأخوذ من نفسه وقال: يا إله الآلهة ورب الأرباب ويا من لا تأخذه سنة رد إلي نفسي لئلا يفتتن بي عبادك، يا من هو أنا وأنا هو ولا فرق بين إنيتي وهويتك إلا الحدث والقدم. ثم رفع رأسه ونظر إلي وضحك في وجهي ضحكات، ثم قال لي: يا أبا إسحاق أما ترى إلى ربي ضرب قدمه في حدثي حتى استهلك حدثي في قدمه، فلم تبق لي صفة إلا صفة القدم، ونطقي من تلك الصفة فالخلق كلهم أحداث ينطقون عن حدث ثم إذا نطقت عن القدم ينكرون علي ويشهدون بكفري، وسيسعون إلى قتلي، وهم في ذلك معذورون، وبكل ما يفعلون مأجورون. (1)
- قال أبو الفرج بن الجوزي: جمعت كتابا سميته: 'القاطع بمحال المحاج بحال الحلاج'. وبلغ من أمره أنهم قالوا: إنه إله، وإنه يحيي الموتى. (2)
- قال ابن باكويه: سمعت ابن خفيف يسأل: ما تعتقد في الحلاج؟ قال: أعتقد أنه رجل من المسلمين فقط. فقيل له: قد كفره المشايخ وأكثر المسلمين. فقال: إن كان الذي رأيته منه في الحبس لم يكن توحيداً، فليس في الدنيا توحيد.
قال الذهبي: هذا غلط من ابن خفيف، فإن الحلاج عند قتله ما زال يوحد الله ويصيح: الله الله في دمي، فأنا على الإسلام. وتبرأ مما سوى الإسلام. والزنديق فيوحد الله علانية، ولكن الزندقة في سره. والمنافقون فقد
_________
(1) السير (14/ 351 - 352).
(2) السير (14/ 346 - 347).
(4/546)
كانوا يوحدون ويصومون ويصلون علانية، والنفاق في قلوبهم، والحلاج فما كان حماراً حتى يظهر الزندقة بإزاء ابن خفيف وأمثاله، بل كان يبوح بذلك لمن استوثق من رباطه، ويمكن أن يكون تزندق في وقت، ومرق وادعى الإلهية، وعمل السحر والمخاريق الباطلة مدة، ثم لما نزل به البلاء ورأى الموت الأحمر أسلم ورجع إلى الحق، والله أعلم بسره، ولكن مقالته نبرأ إلى الله منها، فإنها محض الكفر، نسأل الله العفو والعافية، فإنه يعتقد حلول البارئ -عز وجل- في بعض الأشراف، تعالى الله عن ذلك. (1)
- قال ابن زنجي: وحملت دفاتر من دور أصحاب الحلاج فأمرني حامد أن أقرأها والقاضي أبو عمر حاضر، والقاضي أبو الحسين بن الأشناني، فمن ذلك أن الإنسان إذا أراد الحج أفرد في داره بيتاً وطاف به أيام الموسم، ثم جمع ثلاثين يتيماً وكساهم قميصاً قميصاً وعمل لهم طعاماً طيباً، فأطعمهم وخدمهم وكساهم، وأعطى لكل واحد سبعة دراهم أو ثلاثة، فإذا فعل ذلك قام له ذلك مقام الحج. فلما قرأ ذلك الفصل التفت القاضي أبو عمر إلى الحلاج وقال له: من أين لك هذا؟ قال: من كتاب الإخلاص للحسن البصري. قال: كذبت يا حلال الدم، قد سمعنا كتاب الإخلاص وما فيه هذا. فلما قال أبو عمر كذبت يا حلال الدم، قال له حامد: اكتب بهذا، فتشاغل أبو عمر بخطاب الحلاج، فألح عليه حامد وقدم له الدواة فكتب بإحلال دمه، وكتب بعده من حضر المجلس، فقال: الحلاج: ظهري حمى
_________
(1) السير (14/ 351).
(4/547)
ودمي حرام، وما يحل لكم أن تتأولوا علي واعتقادي الإسلام ومذهبي السنة، فالله الله في دمي ولم يزل يردد هذا القول وهم يكتبون خطوطهم، ثم نهضوا ورد الحلاج إلى الحبس وكتب إلى المقتدر بخبر المجلس، فأبطأ الجواب يومين، فغلظ ذلك على حامد وندم وتخوف فكتب رقعة إلى المقتدر في ذلك ويقول: إن ما جرى في المجلس قد شاع ومتى لم تتبعه قتل هذا افتتن به الناس، ولم يختلف عليه اثنان فعاد الجواب من الغد من جهة مفلح: إذا كان القضاة قد أباحوا دمه فليحضر محمد بن عبد الصمد صاحب الشرطة، ويتقدم بتسليمه وضربه ألف سوط، فإن هلك وإلا ضربت عنقه.
فسر حامد وأحضر صاحب الشرطة، وأقرأه ذلك، وتقدم إليه بتسليم الحلاج، فامتنع وذكر أنه يتخوف أن ينتزع منه، فبعث معه غلمانه حتى يصيروه إلى مجلسه ووقع الاتفاق على أن يحضر بعد عشاء الآخرة، ومعه جماعة من أصحابه وقوم على بغال موكفة مع سياس فيحمل على واحد منها، ويدخل في غمار القوم، وقال حامد له: إن قال لك: أجري لك الفرات ذهباً فلا ترفع عنه الضرب.
فلما كان بعد العشاء، أتى محمد بن عبد الصمد إلى حامد ومعه الرجال والبغال، فتقدم إلى غلمانه بالركوب معه إلى داره، وأخرج له الحلاج فحكى الغلام: أنه لما فتح الباب عنه وأمره بالخروج قال: من عند الوزير؟ قال: محمد ابن عبد الصمد قال: ذهبنا والله. وأخرج فأركب بغلاً، واختلط بجملة الساسة وركب غلمان حامد حوله حتى أوصلوه، فبات عند ابن عبد الصمد ورجاله حول المجلس، فلما أصبح أخرج الحلاج إلى رحبة المجلس وأمر الجلاد
(4/548)
بضربه واجتمع خلائق فضرب تمام ألف سوط وما تأوه، بلى لما بلغ ستمائة سوط قال لابن عبد الصمد: ادع بي إليك فإن عندي نصيحة تعدل فتح قسطنطينية، فقال له محمد: قد قيل لي إنك ستقول أكبر من هذا وليس لي إلى رفع الضرب سبيل.
ثم قطعت يده، ثم رجله ثم حز رأسه، وأحرقت جثته، وحضرت في هذا الوقت راكباً والجثة تقلب على الجمر، ونصب الرأس يومين ببغداد ثم حمل إلى خراسان وطيف به. (1)
" التعليق:
فرحمة الله عليك يا حامد يا سيد الوزراء، لقد أدركت خطر زندقة الصوفية وفهمت ما هم عليه من الدجل والسحر والشعوذة، فقلت للمسؤول عن الشرطة: لو قال لك يقلب لك الفرات ذهباً لا تثق به، أو ما هذا معناه، ورحم الله قضاة أمير المؤمنين حيث لم يغتروا بترهات هذا الزنديق ودعواته الكاذبة ورحم الله أمير المؤمنين حيث لم يبال بشعبية هذا الزنديق الذي غرهم بترهاته ودعواته الكاذبة، وكم لنا في هذا الوقت من حلاج، ولكن لا مقتدر ولا حامد ولا أبا عمر ولا أبا الحسين بن الأشناني والله المستعان.
- قال السلمي: وسمعت أبا علي الهمذاني يقول: سألت إبراهيم بن شيبان عن الحلاج، فقال: من أحب أن ينظر إلى ثمرات الدعاوي الفاسدة
_________
(1) السير (14/ 339 - 341).
(4/549)
فلينظر إلى الحلاج وما صار إليه. (1)
- وقال أبو عمر بن حيويه: لما أخرج الحلاج ليقتل، مضيت وزاحمت حتى رأيته، فقال لأصحابه: لا يهولنكم، فإني عائد إليكم بعد ثلاثين يوماً. فهذه حكاية صحيحة توضح لك أن الحلاج ممخرق كذاب، حتى عند قتله. وقيل: إنه لما أخرج للقتل أنشد:
طلبت المستقر بكل أرض ... فلم أر لي بأرض مستقرا
أطعت مطامعي فاستعبدتني ... ولو أني قنعت لكنت حرا (2)
- وعن عثمان بن معاوية -قيم جامع الدينور- قال: بات الحسين بن منصور في هذا الجامع ومعه جماعة، فسأله واحد منهم فقال: يا شيخ ما تقول فيما قال فرعون؟ قال: كلمة حق. قال: فما تقول فيما قال موسى عليه السلام؟ قال: كلمة حق، لأنهما كلمتان جرتا في الأبد كما أجريتا في الأزل. (3)
- وقال أبو عبد الرحمن السلمي عن عمرو بن عثمان المكي: أنه قال: كنت أماشي الحلاج في بعض أزقة مكة وكنت أقرأ القرآن فسمع قراءتي فقال: يمكنني أن أقول مثل هذا، ففارقته. (4)
- وفي السير عنه قال: لو قدرت عليه لقتلته بيدي. (5)
_________
(1) السير (14/ 317).
(2) السير (14/ 346) والبداية والنهاية (11/ 152 - 153).
(3) السير (14/ 352).
(4) البداية (11/ 144 - 145).
(5) السير (14/ 330).
(4/550)
- قال النديم: قرأت بخط عبيد الله بن أحمد بن أبي طاهر: كان الحلاج مشعبذاً محتالاً، يتعاطى التصرف، ويدعي كل علم، وكان صفراً من ذلك، وكان يعرف في الكيمياء، وكان مقداماً جسوراً على السلاطين، مرتكباً للعظائم، يروم إقلاب الدول، ويدعي عند أصحابه الإلهية، ويقول بالحلول، ويظهر التشيع للملوك، ومذاهب الصوفية للعامة، وفي تضاعيف ذلك يدعي أن الإلهية حلت فيه، تعالى الله وتقدس عما يقول. (1)
- وكان يقول للواحد من أصحابه: أنت نوح ولآخر: أنت موسى. ولآخر: أنت محمد. وقال: من رست قدمه في مكان المناجاة، وكوشف بالمباشرة، ولوطف بالمجاورة، وتلذذ بالقرب، وتزين بالأنس، وترشح بمرأى الملكوت، وتوشح بمحاسن الجبروت، وترقى بعد أن توقى، وتحقق بعد أن تمزق، وتمزق بعد أن تزندق وتصرف بعد أن تعرف وخاطب وما راقب وتدلل بعد أن تذلل، ودخل وما استأذن، وقرب لما خرب، وكلم لما كرم، ما قتلوه وما صلبوه. (2)
- وجاء في السير: قال أبو بكر بن ممشاذ: حضر عندنا بالدينور رجل معه مخلاة، ففتشوها، فوجدوا فيها كتاباً للحلاج عنوانه: من الرحمن الرحيم إلى فلان بن فلان. فوجه إلى بغداد فأحضر وعرض عليه، فقال: هذا خطي وأنا كتبته. فقالوا: كنت تدعي النبوة صرت تدعي الربوبية؟ قال: لا، ولكن هذا عين الجمع عندنا، هل الكاتب إلا الله وأنا؟ فاليد فيه آلة. فقيل: هل
_________
(1) السير (14/ 318).
(2) السير (14/ 327).
(4/551)
معك أحد؟ قال: نعم، ابن عطاء، وأبو محمد الجريري، والشبلي. فأحضر الجريري وسئل، فقال: هذا كافر يقتل من يقول هذا. وسئل الشبلي، فقال: من يقول هذا يمنع. وسئل ابن عطاء، فوافق الحلاج، فكان سبب قتله.
قال الذهبي: أما أبو العباس بن عطاء فلم يقتل، وكلم الوزير بكلام غليظ لما سأله وقال: ما أنت وهذا، اشتغلت بظلم الناس. فعزره. وقال السلمي: حدثنا محمد بن عبد الله بن شاذان قال: كان الوزير حين أحضر الحلاج للقتل حامد بن العباس، فأمره أن يكتب اعتقاده، فكتب اعتقاده، فعرضه الوزير على الفقهاء ببغداد، فأنكروه، فقيل لحامد: إن ابن عطاء يصوب قوله. فأمر به. فعرض على ابن عطاء، فقال: هذا اعتقاد صحيح، ومن لم يعتقد هذا فهو بلا اعتقاد. فأحضر إلى الوزير، فجاء، وتصدر في المجلس، فغاظ الوزير ذلك، ثم أخرج ذلك الخط فقال: أتصوب هذا؟ قال: نعم، مالك ولهذا؟ عليك بما نصبت له من المصادرة والظلم، مالك وللكلام في هؤلاء السادة؟ فقال الوزير: فَكَّيْهِ. فضُرِب فكاه، فقال أبو العباس: اللهم إنك سلطت هذا علي عقوبة لدخولي عليه. فقال الوزير: خفه يا غلام. فنزع خفه. فقال: دماغَه. فما زال يضرب دماغَه حتى سال الدم من منخريه. ثم قال: الحبس. فقيل: أيها الوزير؟ يتشوش العامة. فحمل إلى منزله. (1)
ضلال أصحاب الحلاج وفساد عقيدتهم ومحاولتهم إغواء الناس بعده:
- وروى أبو إسحاق البرمكي، عن أبيه، عن جده قال: حضرت بين
_________
(1) السير (14/ 328 - 329).
(4/552)
يدي أبي الحسن بن بشار، وعنده أبو العباس الأصبهاني، فذاكره بقصة الحلاج، وأنه لما قتل كتب ابن عطاء إلى ابن الحلاج كتاباً يعزيه عن أبيه، وقال: رحم الله أباك، ونسخ روحه في أطيب الأجساد. فدل هذا على أنه يقول بالتناسخ، فوقع الكتاب في يد حامد، فأحضر أبا العباس بن عطاء وقال: هذا خطك؟ قال: نعم. قال: فإقرارك أعظم. قال: فشيخ يكذب؟ فأمر به، فصفع فقال أبو الحسن بن بشار: إني لأرجو أن يدخل الله حامد بن العباس الجنة بذلك الصفع. (1)
- قال أبو علي التنوخي: أخبرني أبو الحسن أحمد بن يوسف التنوخي قال: أخبرني جماعة أن أهل مقالة الحلاج يعتقدون أن اللاهوت الذي كان فيه حالٌّ في ابن له بِتُسْتر، وأن رجلاً فيها هاشم يقال له: أبو عمارة محمد بن عبد الله قد حلت فيه روح محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهو يخاطب فيهم بسيدنا. (2)
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وما يحكى عن الحلاج من ظهور كرامات له عند قتله، مثل كتابة دمه على الأرض: الله، الله، وإظهار الفرح بالقتل أو نحو ذلك: فكله كذب. فقد جمع المسلمون أخبار الحلاج في مواضع كثيرة، كما ذكر ثابت بن سنان في أخبار الخلفاء -وقد شهد مقتله- وكما ذكر إسماعيل بن علي الحطفي في تاريخ بغداد -وقد شهد قتله- وكما ذكر الحافظ أبو بكر الخطيب في تاريخه وكما ذكر القاضي أبو يعلى في المعتمد، وكما ذكر القاضي أبو بكر بن الطيب، وأبو محمد بن حزم
_________
(1) السير (14/ 329).
(2) السير (14/ 332).
(4/553)
وغيرهم، وكما ذكر أبو يوسف القزويني وأبو الفرج بن الجوزي؛ فيما جمعا من أخباره. وقد ذكر الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي في طبقات الصوفية: أن أكثر المشايخ أخرجوه عن الطريق، ولم يذكره أبو القاسم القشيري في رسالته من المشايخ؛ الذين عدهم من مشايخ الطريق. وما نعلم أحداً من أئمة المسلمين ذكر الحلاج بخير، لا من العلماء ولا من المشايخ؛ ولكن بعض الناس يقف فيه؛ لأنه لم يعرف أمره، وأبلغ من يحسن به الظن يقول: إنه وجب قتله في الظاهر فالقاتل مجاهد والمقتول شهيد، وهذا أيضا خطأ. وقول القائل: إنه قتل ظلماً قول باطل، فإن وجوب قتله على ما أظهره من الإلحاد أمر واجب باتفاق المسلمين؛ لكن لما كان يظهر الإسلام ويبطن الإلحاد إلى أصحابه: صار زنديقاً، فلما أخذ وحبس أظهر التوبة، والفقهاء متنازعون في قبول توبة الزنديق فأكثرهم لا يقبلها، وهو مذهب مالك وأهل المدينة، ومذهب أحمد في أشهر الروايتين عنه، وهو أحد القولين في مذهب أبي حنيفة، ووجه في مذهب الشافعي؛ والقول الآخر تقبل توبته. وقد اتفقوا على أنه إذا قتل مثل هذا لا يقال قتل ظلماً. (1)
_________
(1) الفتاوى (2/ 483 - 484).
(4/554)
محمد بن جرير الطبري (1) (310 هـ)
هو محمد بن جرير بن يزيد بن كثير، الإمام العلم المجتهد أبو جعفر الطبري، عالم العصر، كان ثقة صادقاً حافظاً، إماماً في التفسير والفقه والإجماع والاختلاف، علامة في التاريخ وأيام الناس، عارفاً بالقراءات وباللغة. له مصنفات بديعة، قل أن ترى العيون مثله. ولد سنة أربع وعشرين ومائتين، ورحل من آمل طبرستان لما ترعرع وحفظ القرآن. واستقر في أواخر أمره ببغداد. سمع إسماعيل بن موسى السدي، ومحمد بن حميد الرازي، وأحمد بن منيع وغيرهم. حدث عنه أبو القاسم الطبراني وأبو بكر الشافعي وأبو أحمد بن عدي وأحمد بن كامل القاضي وغيرهم. قال الذهبي: وكان ممن لا تأخذه في الله لومة لائم مع عظيم ما يلحقه من الأذى والشناعات، من جاهل وحاسد وملحد، فأما أهل الدين والعلم فغير منكرين علمه، وزهده في الدنيا، ورفضه لها، وقناعته -رحمه الله- بما كان يرد عليه من حصة من ضيعة خلفها له أبوه بطبرستان يسيرة.
توفي رحمه الله عشية الأحد ليومين بقيا من شوال سنة ثلاثمائة وعشرة.
قلت: هذا الإمام من الذين بارك الله لهم في عمرهم، فكتبوا من الكتب ما يعجز عن قراءته القارئ المجتهد، فضلاً عن كتابة مثل ما كتب هؤلاء، وقد ترك هذا الإمام تراثاً سلفياً شكره عليه الأولون والآخرون ومن أهم ذلك التراث:
_________
(1) تاريخ بغداد (2/ 162 - 169) ووفيات الأعيان (14/ 191 - 192) وتذكرة الحفاظ (2/ 710 - 716) وميزان الاعتدال (3/ 498 - 499) والوافي بالوفيات (2/ 284 - 286) واللسان (5/ 100 - 103) والسير (14/ 267 - 282).
(5/1)
- تفسيره الكبير المسمى 'جامع البيان عن تأويل آي القرآن' وقد أبدى فيه المؤلف عقيدة سلفية بنفس طويل بينت ذلك في كتابي 'المفسرون بين التأويل والإثبات في آيات الصفات' (1) وقد نفع الله به ولله الحمد والمنة.
- 'صريح السنة' وقد رواه أبو القاسم اللالكائي في 'أصول الاعتقاد' وقد نشر مع مجموعة الشيخ ابن حميد، وهو عبارة عن عقيدة الشيخ، وقد حقق رسالة علمية في الجامعة الإسلامية في مرحلة الإجازة وقد طبع التحقيق.
- 'تبصير أولي النهى ومعالم الهدى': توجد منه نسخة في دار الكتب المصرية في 39 ورقة، وهو في جامعة سعود رقم 330. وقد طبع الكتاب تحت عنوان: 'التبصير في معالم الدين'.
- وقد ألفت عن الإمام ابن جرير رسالة علمية في جامعة أم القرى في مرحلة الدكتوراه في قسم العقيدة.
موقفه من المبتدعة:
له رحمه الله مواقف جليلة في نصر السنة وقمع البدعة، منها ما جاء في السير: وقيل: إن المكتفي أراد أن يحبس وقفاً تجتمع عليه أقاويل العلماء، فأحضر له ابن جرير، فأملى عليهم كتاباً لذلك، فأخرجت له جائزة، فامتنع من قبولها، فقيل له: لابد من قضاء حاجة. قال: أسأل أمير المؤمنين أن يمنع السؤال يوم الجمعة، ففعل ذلك. (2)
_________
(1) (2/ 519 - 569).
(2) السير (14/ 270).
(5/2)
" التعليق:
لم يكن همه رحمه الله في نيل الجاه والمال من السلطان وإنما همه نصر السنة وإزالة البدعة.
موقفه من الرافضة:
- جاء في السير: عن محمد بن علي بن سهل قال: سمعت محمد بن جرير وهو يكلم ابن صالح الأعلم، وجرى ذكر علي رضي الله عنه، ثم قال محمد بن جرير: من قال: إن أبا بكر وعمر ليسا بإمامي هدى، إيش هو؟ قال: مبتدع. فقال ابن جرير إنكاراً عليه: مبتدع مبتدع. هذا يقتل. (1)
- قال الطبري: لم يكن في أهل الإسلام أحد له من المنزلة في الدين والهجرة والسابقة والعقل والعلم والمعرفة بالسياسة ما للستة الذين جعل عمر الأمر شورى بينهم، فإن قيل كان بعض هؤلاء الستة أفضل من بعض وكان رأي عمر أن الأحق بالخلافة أرضاهم ديناً، وأنه لا تصح ولاية المفضول مع وجود الفاضل، فالجواب أنه لو صرح بالأفضل منهم لكان قد نص على استخلافه، وهو قصد أن لا يتقلد العهدة في ذلك، فجعلها في ستة متقاربين في الفضل، لأنه يتحقق أنهم لا يجتمعون على تولية المفضول، ولا يألون المسلمين نصحا في النظر والشورى، وأن المفضول منهم لا يتقدم على الفاضل، ولا يتكلم في منزلة وغيره أحق بها منه، وعلم رضا الأمة بمن رضي به الستة. (2)
_________
(1) السير (14/ 275).
(2) الفتح (13/ 198).
(5/3)
موقفه من الجهمية:
- قال في صريح السنة: حدثنا أحمد بن كامل قال: سمعت أبا جعفر محمد بن جرير الطبري ما لا أحصي يقول: من قال القرآن مخلوق معتقداً له فهو كافر حلال الدم والمال ولا يرثه ورثته من المسلمين، يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه فقلت له: عمن لا يرثه ورثته من المسلمين؟ قال: عن يحيى القطان وعبد الرحمن بن مهدي. قيل للقاضي ابن كامل: فلمن يكون ماله؟ قال: فيئاً للمسلمين. (1)
- قال ابن جرير في كتاب 'التبصير في معالم الدين': القول فيما أدرك علمه من الصفات خبراً، وذلك نحو إخباره تعالى أنه سميع بصير، وأن له يدين بقوله: {بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} (2) وأن له وجهاً بقوله: {ويبقى وَجْهُ ربك} (3) وأنه يضحك بقوله في الحديث: "لقي الله وهو يضحك إليه" (4) و"أنه ينزل إلى سماء الدنيا" (5) لخبر رسوله بذلك، وقال عليه السلام: "ما من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن" (6) إلى أن قال: فإن هذه المعاني التي وصفت ونظائرها مما وصف الله نفسه ورسوله ما لا يثبت حقيقة علمه
_________
(1) أصول الاعتقاد (2/ 353 - 354/ 514) وانظر صريح السنة (18 - 20).
(2) المائدة الآية (64).
(3) الرحمن الآية (27).
(4) انظر تخريجه في مواقف الشافعي سنة (204هـ).
(5) انظر تخريجه في مواقف حماد بن سلمة سنة (167هـ).
(6) انظر تخريجه في مواقف الإمام الشافعي سنة (204هـ).
(5/4)
بالفكر والروية، لا نكفر بالجهل بها أحداً إلا بعد انتهائها إليه. (1)
موقفه من الخوارج:
قال في كتابه 'التبصير في معالم الدين': وأما الذين نقموا على أهل المعاصي معاصيهم، وشهدوا على المسلمين -بمعصية أتوها، وخطيئة فيما بينهم وبين ربهم تعالى ذكره ركبوها- بالكفر، واستحلوا دماءهم وأموالهم من الخوارج.
والذين تبرؤوا من بعض أنبياء الله ورسله، بزعمهم أنهم عصوا الله، فاستحقوا بذلك من الله -جل ثناؤه- العداوة.
والذين جحدوا من الفرائض ما جاءت به الحجة من أهل النقل بنقله عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ظاهراً مستفيضاً قاطعاً للعذر، كالذي أنكروا من وجوب صلاة الظهر والعصر، والذين جحدوا رجم الزاني المحصن الحر من أهل الإسلام، وأوجبوا على الحائض الصلاة في أيام حيضها، ونحو ذلك من الفرائض، فإنهم عندي بما دانوا به من ذلك مرقة من الإسلام، خرجوا على إمام المسلمين أو لم يخرجوا عليه. إذا دانوا بذلك بعد نقل الحجة لهم الجماعة التي لا يجوز في خبرها الخطأ، ولا السهو والكذب.
وعلى إمام المسلمين استتابتهم مما أظهروا أنهم يدينون به بعد أن يظهروا الديانة به والدعاء إليه، فمن تاب منهم خلى سبيله، ومن لم يتب من ذلك منهم قتله على الردة، لأن من دان بذلك فهو لدين الله -الذي أمر به عباده بما لا نعذر بالجهل به ناشئاً نشأ في أرض الإسلام- جاحد.
_________
(1) السير (14/ 279) وانظر التبصير في معالم الدين (132 - 139).
(5/5)
ومن جحد من فرائض الله -عز وجل- شيئاً بعد قيام الحجة عليه به فهو من ملة الإسلام خارج. (1)
وقال أيضاً: والذي نقول: معنى ذلك أنهم مؤمنون بالله ورسوله، ولا نقول هم مؤمنون بالإطلاق، لعلل سنذكرها بعد.
ونقول: هم مسلمون بالإطلاق، لأن الإسلام اسم للخضوع والإذعان، فكل مذعن لحكم الإسلام ممن وحد الله وصدق رسوله - صلى الله عليه وسلم - بما جاء به من عنده، فهو مسلم.
ونقول: هم مسلمون فسقة عصاة لله ولرسوله. ولا ننزلهم جنة ولا ناراً، ولكنا نقول كما قال الله تعالى ذكره: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (2).
فنقول: هم في مشيئة الله تعالى ذكره، إن شاء أن يعذبهم عذبهم وأدخلهم النار بذنوبهم، وإن شاء عفا عنهم بفضله ورحمته فأدخلهم الجنة، غير أنه إن أدخلهم النار فعاقبهم بها لم يخلدهم فيها، ولكنه يعاقبهم فيها بقدر إجرامهم، ثم يخرجهم بعد عقوبته إياهم بقدر ما استحقوا فيدخلهم الجنة، لأن الله جل ثناؤه وعد على الطاعة الثواب، وأوعد على المعصية العقاب، ووعد أن يمحو بالحسنة السيئة ما لم تكن السيئة شركاً.
فإذا كان ذلك كذلك فغير جائز أن يبطل بعقاب عبد على معصيته
_________
(1) التبصير في معالم الدين (160 - 162).
(2) النساء الآية (48).
(5/6)
إياه ثوابه على طاعته، لأن ذلك محو بالسيئة الحسنة لا بالحسنة السيئة، وذلك خلاف الوعد الذي وعد عباده، وغير الذي هو به موصوف من العدل والفضل والعفو عن الجرم.
والعدل: العقاب على الجرم، والثواب على الطاعة.
فأما المؤاخذة على الذنب وترك الثواب والجزاء على الطاعة، فلا عدل ولا فضل، وليس من صفته أن يكون خارجاً من إحدى هاتين الصفتين.
وبعد: فإن الأخبار المروية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متظاهرة بنقل من يمتنع في نقله الخطأ والسهو والكذب، ويوجب نقله العلم، أنه ذكر أن الله جل ثناؤه يخرج من النار قوما بعد ما امتحشوا وصاروا حمماً، بذنوب كانوا أصابوها في الدنيا ثم يدخلهم الجنة (1). وأنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي" (2). وأنه عليه السلام يشفع لأمته إلى ربه -عز وجل ذكره- فيقال: أخرج منها منهم من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان (3). في نظائر لما ذكرنا من الأخبار التي إن لم تثبت صحتها لم يصح عنه خبر - صلى الله عليه وسلم -. (4)
موقفه من المرجئة:
- جاء في كتابه التبصير في معالم الدين قال: والصواب من القول في ذلك
_________
(1) أحمد (3/ 56) والبخاري (1/ 98 - 99/ 22) ومسلم (1/ 172/184) من حديث يحيى بن عمارة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(2) تقدم في مواقف جابر بن عبد الله سنة (78هـ).
(3) أخرجه من حديث أنس: أحمد (3/ 116) والبخاري (13/ 519 - 520/ 7440) ومسلم (1/ 180 - 181/ 193) وابن ماجه (2/ 1442 - 1443/ 4312).
(4) التبصير في معالم الدين (183 - 186).
(5/7)
عندنا أن الإيمان اسم للتصديق كما قالته العرب، وجاء به كتاب الله -تعالى ذكره- خبراً عن إخوة يوسف من قيلهم لأبيهم يعقوب: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صادقين} (1). بمعنى: ما أنت بمصدق لنا على قيلنا.
غير أن المعنى الذي يستحق به اسم مؤمن بالإطلاق، هو الجامع لمعاني الإيمان، وذلك أداء جميع فرائض الله -تعالى ذكره- من معرفة وإقرار وعمل.
وذلك أن العارف المعتقد صحة ما عرف من توحيد الله -تعالى ذكره- وأسمائه وصفاته، مصدق لله في خبره عن وحدانيته وأسمائه وصفاته، فكذلك العارف بنبوة نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، المعتقد صحة ذلك، وصحة ما جاء به من فرائض الله.
وذلك أن معارف القلوب عندنا اكتساب العباد وأفعالهم، وكذلك الإقرار باللسان بعد ثبوته، وكذلك العمل بفرائض الله التي فرضها على عباده، تصديق من العامل بعمله ذلك لله -جل ثناؤه-، ورسوله - صلى الله عليه وسلم -.
كما إقراره بوجوب فرض ذلك عليه، تصديق منه لله ورسوله بإقراره أن ذلك له لازم فإذ كل هذه المعاني يستحق على كل واحد منهما على انفراده اسم إيمان.
وكان العبد مأموراً بالقيام بجميعها كما هو مأمور ببعضها، وإن كانت العقوبة على تضييع بعضها أغلظ، وفي تضييع بعضها أخف، كان بينا أنه غير جائز تسمية أحد مؤمنا ووصفه به مطلقا من غير وصل إلا لمن استكمل
_________
(1) يوسف الآية (17).
(5/8)
معاني التصديق الذي هو جماع أداء جميع فرائض الله.
كما أن العلم الذي يأتي مطلقاً هو العلم بما ينوب أمر الدين.
فلو أن قائلاً قال لرجل عرف منه نوعاً، وذلك كرجل كان عالماً بأحكام المواريث دون سائر علوم الدين، فذكره ذاكر عند من يعتقد أن اسم عالم لا يلزمه بالإطلاق في أمر الدين إلا من قلنا: إنه يلزمه، فقال: فلان عالم بالإطلاق ولم يصله، فيقال: فلان عالم بالفرائض أو بأحكام المواريث، كان قد أخطأ في العبارة وأساء في المقالة، لأنه وضع اسم العموم على خاص عند من لا يعلم مراده، وإن كان قائل ذلك أراد الخصوص.
وإن كان أراد العموم وهو يعلم أن هذا الاسم لا يستحق إلا من كان جامعا علم جميع ما ينوب أمر الدين فقد كذب.
وكذلك القائل لمن لم يكن جامعاً أداء جميع فرائض الله -عز ذكره- من معرفة وإقرار وعمل: هو مؤمن، إما كاذب، وإما مخطئ في العبارة، مسيء في المقالة، إذا لم يصل قيله: هو مؤمن بما هو به مؤمن، لأن وصفنا من وصفنا بهذه الصفة، وتسميتنا له هذه التسمية بالإطلاق إنما هو للمعاني الثلاثة التي قد ذكرناها.
فمن لم يكن جامعاً ذلك فإنما له ذلك الاسم بالخصوص، فغير جائز وصف من كان له من صفات الإيمان خاص، ومن أسمائه بعض بصيغة العموم، وتسميته باسم الكل، ولكن الواجب أن يصل الواصف إذا وصف بذلك أن يقول له -إذا عرف وأقر وفرط في العمل- هو مؤمن بالله ورسوله، فإذا أقر بعد المعرفة بلسانه وصدق وعمل ولم تظهر منه موبقة ولم تعرف منه
(5/9)
إلا المحافظة على أداء الفرائض. قيل: هو مؤمن إن شاء الله.
وإنما وصلنا تسميتنا إياه بذلك بقولنا إن شاء الله، لأنا لا ندري هل هو مؤمن ضيع شيئاً من فرائض الله عز ذكره أم لا، بل سكون قلوبنا إلى أنه لا يخلو من تضييع ذلك أقرب منها إلى اليقين، فإنه غير مضيع شيئاً منها ولا مفرط، فلذلك من وصفناه بالإيمان بالمشيئة إذ كان الاسم المطلق من أسماء الإيمان إنما هو الكمال، فمن لم يكن مكملاً جميع معانيه -والأغلب عندنا أنه لا يكملها أحد- لم يكن مستحقاً اسم ذلك بالإطلاق والعموم الذي هو اسم الكمال، لأن الناقص غير جائز تسميته بالكمال، ولا البعض باسم التام، ولا الجزء باسم الكل. (1)
- وقال أيضاً: والحق في ذلك عندنا أن يقال: الإيمان يزيد وينتقص، لما وصفنا قبل من أنه معرفة وقول وعمل. وأن جميع فرائض الله تعالى ذكره التي فرضها على عباده من المعاني التي لا يكون العبد مستحقاً اسم مؤمن بالإطلاق إلا بأدائها.
وإذا كان ذلك كذلك، وكان لا شك أن الناس متفاضلون في الأعمال، مقصر وآخر مقتصد مجتهد ومن هو أشد منه اجتهاداً، كان معلوماً أن المقصر أنقص إيماناً من المقتصد، وأن المقتصد أزيد منه إيماناً، وأن المجتهد أزيد إيماناً من المقتصد والمقصر، وأنهما أنقص منه إيماناً، إذ كان جميع فرائض الله كما قلنا قبل.
فكل عامل فمقصر عن الكمال، فلا أحد إلا وهو ناقص الإيمان غير
_________
(1) التبصرة (ص.190 - 193).
(5/10)
كامله، لأنه لو كمل لأحد منهم كمالا تجوز له الشهادة به، لجازت الشهادة له بالجنة، لأن من أدى جميع فرائض الله فلم يبق عليه منها شيء، واجتنب جميع معاصيه فلم يأت منها شيئاً ثم مات على ذلك، فلا شك أنه من أهل الجنة. ولذلك قال عبد الله بن مسعود في الذي قيل له: إنه قال: إني مؤمن ألا قال: إني من أهل الجنة.
لأن اسم الإيمان بالإطلاق إنما هو للكمال. ومن كان كاملاً كان من أهل الجنة، غير أن إيمان بعضهم أزيد من إيمان بعض، وإيمان بعض أنقص من إيمان بعض، فالزيادة فيه بزيادة العبد بالقيام باللازم له من ذلك. (1)
موقفه من القدرية:
- قال رحمه الله: فإن قال قائل: فهل من معاني المعرفة شيء سوى ما ذكرت؟ قيل: لا.
فإن قال: فهل يكون عارفاً به من زعم أنه يفعل العبد ما لا يريده ربه ولا يشاء؟ قيل: لا. وقد دللنا فيما وصفناه بالعزة التي لا تشبهها عزة على ذلك. وذلك أنه من لم يعلم أنه لا يكون في سلطان الله -عز ذكره- شيء إلا بمشيئته، ولا يوجد موجود إلا بإرادته، لم يعلمه عزيزاً. وذلك أن من أراد شيئاً فلم يكن وكان ما لم يرد، فإنما هو مقهور ذليل، ومن كان مقهوراً ذليلاً فغير جائز أن يكون موصوفاً بالربوبية.
فإن قال: فإن من يقول هذا القول يزعم أن إرادة الله ومشيئته: أمره ونهيه، وليس في خلاف العبد الأمر والنهي قهر له؟
_________
(1) التبصرة (ص.197 - 199).
(5/11)
قيل له: لو كان الأمر كما زعمت، لكان الله تعالى ذكره لم يعم عباده بأمره ونهيه، لأنه يقول: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} (1).
فإن تك المشيئة منه أمراً، فقد يجب أن يكون من لم يهتد لدين الإسلام لم يدخله الله عز وجل في أمره ونهيه الذي عم به خلقه، وفي عمومه بأمره ونهيه جميعهم، مع ترك أكثرهم قبوله الدليل الواضح على أن قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} (2) إنما معناه: لو شاء الله لجمعهم على دين الإسلام، وإذ كان ذلك كذلك كان بيناً فساد قول من قال: مشيئة الله -تعالى ذكره- أمره ونهيه!. (3)
- وقال رحمه الله: وقال آخرون -وهم جمهور أهل الإثبات وعامة العلماء والمتفقهة من المتقدمين والمتأخرين-: إن الله تعالى ذكره وفق أهل الإيمان للإيمان، وأهل الطاعة للطاعة، وخذل أهل الكفر والمعاصي، فكفروا بربهم، وعصوا أمره.
قالوا: فالطاعة والمعصية من العباد بسبب من الله -تعالى ذكره- وهو توفيقه للمؤمنين، وباختيار من العبد له.
قالوا: ولو كان القول كما قالت القدرية، الذين زعموا أن الله -تعالى ذكره- قد فوض إلى خلقه الأمر فهم يفعلون ما شاؤوا، ولبطلت حاجة
_________
(1) الأنعام الآية (35).
(2) الأنعام الآية (35).
(3) التبصير في معالم الدين (ص.130 - 131).
(5/12)
الخلق إلى الله -تعالى ذكره- في أمر دينه، وارتفعت الرغبة إليه في معونته إياهم على طاعته.
قالوا: وفي رغبة المؤمنين في كل وقت أن يعينهم على طاعته ويوفقهم ويسددهم، ما يدل على فساد ما قالوا. (1)
أبو بكر الخَلاَّل (2) (311 هـ)
هو أحمد بن محمد بن هارون بن يزيد البغدادي، أبو بكر المعروف بالخلال، الإمام العلامة الحافظ الفقيه شيخ الحنابلة وعالمهم، له التصانيف الدائرة والكتب السائرة، كالجامع في الفقه وكتاب العلل، وكتاب السنة والطبقات، وتفسير الغريب والأدب وأخلاق أحمد وغير ذلك، مما يدل على إمامته وسعة علمه. سمع من الحسن بن عرفة وسعدان بن نصر وأبي داود السجستاني وعبد الله بن أحمد بن حنبل، وصحب أبا بكر المروذي إلى أن مات. وسمع خلقاً غير هؤلاء.
رحل إلى أقاصي البلاد في جمع مسائل أحمد وسماعها ممن سمعها من أحمد. وكتب عن الكبار والصغار، حتى كتب عن تلامذته وجمع فأوعى. حدث عنه جماعة منهم: أبو بكر عبد العزيز، ومحمد بن المظفر، والحسن بن يوسف الصيرفي.
_________
(1) التبصير في معالم الدين (ص.170 - 171).
(2) طبقات الحنابلة (2/ 12 - 15) وتذكرة الحفاظ (3/ 785 - 786) والبداية والنهاية (11/ 148) وتاريخ بغداد (5/ 112 - 113) والمنتظم (13/ 220 - 221) والوافي بالوفيات (7/ 99 - 100) وشذرات الذهب (2/ 261) والسير (14/ 297 - 298).
(5/13)
توفي رحمه الله في شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة وثلاثمائة. وله سبع وسبعون سنة، ودفن إلى جنب قبر المروذي.
موقفه من المبتدعة:
له من الآثار السلفية:
'كتاب السنة': مطبوع ومتداول.
وفيه: قال أبو بكر الخلال: قرأت كتاب السنة بطرسوس مرات في المسجد الجامع وغيره سنين، فلما كان في سنة اثنتين وتسعين قرأته في مسجد الجامع وقرأت فيه ذكر المقام المحمود فبلغني أن قوما ممن طرد إلى طرسوس من أصحاب الترمذي المبتدع (1) أنكروه، وردوا فضيلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأظهروا رده، فشهد عليهم الثقات بذلك فهجرناهم وبينا أمرهم، وكتبت إلى شيوخنا ببغداد فكتبوا إلينا هذا الكتاب، فقرأته بطرسوس على أصحابنا مرات ونسخه الناس، وسر الله تبارك وتعالى أهل السنة وزادهم سروراً على ما عندهم من صحته وقبولهم وهذه نسخته:
بسم الله الرحمن الرحيم. سلام عليكم؛ فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو. وأما بعد: فإن كتابكم ورد علينا بشرح ما حدث ببلدكم، وكتبنا إليكم بما تقفون عليه وبالله نستعين وعليه نتوكل في جميع الأمور، وبعد: فنوصيكم وأنفسنا بتقوى الله عز وجل والإحسان، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وتقوى الله تبارك وتعالى بها يرزق العباد من حيث لا يحتسبون، وبها يوجب الله تعالى الجنة لأهلها، وبها تحل داره، وبها ينظر إلى
_________
(1) أي: الجهم بن صفوان.
(5/14)
وجهه، وبها تنال ولاية الله عز وجل، وهي غاية الكرامة، ومنزلة الشرف، ومنهاج الرشد، وجوامع الخير، ومنتهى الإيمان، فأسعدكم الله بطاعته سعادة من رضي عمله، وتولاكم بحفظه وحياطته، وشملكم بستره وعصمكم بتوفيقه، وأيدكم بما أيد به المتقين، وأوصلكم أفضل ميراث الصالحين، وجعلكم لأنعمه من الشاكرين، واستخلصكم بأشرف عبادة العابدين آمين رب العالمين، وصلى الله على محمد خاتم النبيين وإمام المتقين وعلى أصحاب محمد أجمعين. كتابنا أسعدكم الله، سعادة من رضي عمله، وشكر سعيه، سعادة لا شقاء بعدها جميع أهل السنة والجماعة، فالحمد لله الذي جعلكم أهلا لذلك، وأكرمكم بما يستوجب به ثوابه، ويؤمن من عقابه، والحمد لله في أول كلامنا وآخره كذلك روي عن أبي صالح قال: الحمد لله أول الكلام وآخره، ونبتدي بعد حمد الله تبارك وتعالى بالصلاة على محمد نبيه - صلى الله عليه وسلم -، رسوله وصفيه، كذلك روى جابر بن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تجعلوني كقدح الراكب، اجعلوني في أول الدعاء ووسط الدعاء وآخر الدعاء" (1)، فالحمد لله كما هو أهله ومستحقه، وصلى الله على محمد النبي وعلى آله وسلم كثيراً.
أما بعد: فإنه بلغنا ما حدث ببلدكم من نابغ نبغ بالزيغ وقيل الباطل، فأحدث عندكم بدعة اخترعها، وشرع في الدين ما لم يأذن به الله، ففرق جماعتكم بخبيث قوله وسوء لفظه، فلولا ما أمر الله عز وجل به رسوله - صلى الله عليه وسلم -
_________
(1) رواه البزار (4/ 45/3156) (كشف الأستار) وقال الهيثمي في المجمع (10/ 155): "رواه البزار وفيه موسى بن عبيدة وهو ضعيف".
(5/15)
من النصح لعامة المسلمين وخاصتهم، وحض عليه في ذلك لوسعنا السكوت ولكن الله عز وجل أخذ ميثاق العلماء ليبيّننّه للناس ولا يكتمونه، وذلك بما روي عن تميم الداري يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الدين النصيحة" قالوا: لمن؟ قال: "لله ولرسوله، ولكتابه ولأئمة المسلمين ولجماعتهم" (1)، فاعلموا وفقنا الله وإياكم للسداد والرشاد والصواب في المقال بصدق الضمير وصحة العزم بحسن النية، فإنا نرضى لكم من اتباع السنة والقول بها ما نرتضيه لأنفسنا {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (2)،فاتقى رجل ربه ونظر لنفسه فأحسن لها الاختيار إذ كانت أعز النفوس عليه، وأولاه منه بذلك بلزوم الاتباع لصالح سلفه من أهل العلم والدين والورع فاقتدى بفعالهم وجعلهم حجة بينه وبين الله عز وجل، وقلدهم من دينه ما تحملوا له من ذلك وحذر امرئ أن يبتدع ويخترع بالميل إلى الهوى والقول بالخطأ فيوبق نفسه، ويولغ دينه فيعمه في طغيانه، ويضل في عماية جهله، فبينا هو كذلك لا يستنصح مرشداً، ولا يطيع مسدداً، أذهبهم عليه أجله وهو كذلك، فنعوذ بالله من ذلك وقد قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا
_________
(1) تقدم تخريجه. انظر مواقف محمد بن نصر المروزي سنة (294هـ). والحديث قد ورد في جميع الروايات بلفظ: "وعامتهم" بدل "ولجماعتهم".
(2) هود الآية (88) ..
(5/16)
كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1)، والذي حمل هذا العدو لله المسلوب أن رد هذا الحديث وخالف الأئمة وأهل العلم وانسلخ من الدين اللجاج والكبر كي يقال: فلان، فنعوذ بالله من الكبر والنفاق والغلو في الدين، والذي حملنا، أكرمكم الله، على الكتاب إليكم ما حدث ببلدكم من رد حديث مجاهد رحمه الله ومخالفتهم من قد شهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
قوله - صلى الله عليه وسلم -: "خيركم قرني الذين بعثت فيهم ثم الذين يلونهم" (2)، فمال أولو الزيغ والنفاق إلى قول الملحدين وبدعة المضلين، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وما سبيل هؤلاء إلا النفي عن البلد الذي هم فيه، كما أن صاحبهم المبتدع منفي عن الجامع مطروداً منه ليس إلى دخوله سبيل وذلك بتوفيق الله ومنه، ومنع السلطان أيده الله إياه عن ذلك معمما أنه مسلوب عقله ملزوم بيته يصيح به الصبيان في كل وقت، وهذا قليل لأهل البدع والأهواء والضلال في جنب الله عز وجل، أعاذنا الله وإياكم من مضلات الفتن وسلمنا وإياكم من الأهواء المضلة بمنه وقدرته، وثبتنا وإياكم على السنة والجماعة، واتباع الشيخ أبي عبد الله رحمة الله عليه ورضوانه، فقد كان اضمحل ذكر هذا الترمذي واندرس، وإنما هذا ضرب من التعريض والخوض بالباطل فانتهوا حيث انتهى الله بكم، وأمسكوا عما لم تكلفوا النظر فيه،
_________
(1) غافر الآية (56).
(2) البخاري (5/ 324/2651) ومسلم (4/ 1964/2535) وأبو داود (5/ 44/4657) والترمذي (4/ 434/2222) من حديث عمران بن حصين.
(5/17)
وضعوا عن أنفسكم ما وضعه الله عنكم ولا تتخذوا آيات الله هزواً، فمن تكلم في شيء من هذا فإنما يتحكك بدينه ويتولع بنفسه ويتكلف ما لم يتعبده الله به.
وقد أدب الله عز وجل الخلق فأحسن تأديبهم وأرشدهم فأنعم إرشادهم فقال عز وجل: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (1) فاتقوا الله عباد الله واقبلوا وصيته وأمسكوا عن الكلام في هذا، فإن الخوض فيها بدعة وضلالة ما سبقكم بها سابق ولا نطق فيها قبلكم ناطق، فتظنون أنكم اهتديتم لما ضل عنه من كان قبلكم، هيهات هيهات، وليس ينبغي لأهل العلم والمعرفة بالله أن يكونوا كلما تكلم جاهل بجهله أن يجيبوه ويحاجوه ويناظروه، فيشركوه في مأثمة ويخوضوا معه في بحر خطاياه، ولو شاء عمر بن الخطاب أن يناظر صبيغاً ويجمع له أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يناظروه ويحاجوه ويبينوا عليه لفعل، ولكنه قمع جهله وأوجع ضربه ونفاه في جلده، وتركه يتغصص بريقه، وينقطع قلبه حسرة بين ظهراني الناس مطروداً منفياً مشرداً لا يُكلم ولا يُجالس، ولا يشفى بالحجة والنظر، بل تركه يختنق على حرته، ولم يبلعه ريقه، ومنع الناس من كلامه ومجالسته، فهكذا حكم كل مَن شرّع في دين الله بما لم يأذن به الله أن يخبر أنه على بدعة وضلالة فيحذر منه وينهى عن كلامه ومجالسته، فاسترشدوا العلم
_________
(1) الأنعام الآية (153).
(5/18)
واستحضوا العلماء واقبلوا نصحهم واعلموا أنه لن يزال الجاهل بخير ما وجد عالماً يقمع جهله ويرده إلى صواب القول والعمل إن مَنّ الله عليه بالقبول، فإذا تكلم الجاهل بجهله وعُدم الناس العالم أن يرد عليه بعلمه فقد تودع من الخلق، وربنا الرحمن المستعان على ما يصفون.
فالله الله، ثم الله الله يا إخوتاه من أهل السنة والجماعة والمحبة للسلامة والعافية في أنفسكم وأديانكم فإنما هي لحومكم ودماؤكم، لا تعرضون لما نهى الله عنه عز وجل من الجدل والخوض في آيات الله وأكد ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحذر منه وكذلك أئمة الهدى من بعده من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين ارتضاهم لصحبة نبيه - صلى الله عليه وسلم - واختاره لهم، وكذلك التابعون بإحسان في كل عصر وزمان ينهون عن الجدل والخصومات في الدين، ويحذرون من ذلك أشد التحذير حتى كان آخرهم في ذلك أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله عنه وأرضاه، فكان أشد أهل زمانه في ذلك قولاً وأوكده فيه رأياً وآخذ به على الخلق وأنصحه لهم، صبر في ذلك على البلاء من فتنته الضراء والسراء والشدة والرخاء والضرب الشديد بعد طول الحبس في ضنك الحديد، فبذل لله مهجة نفسه وجاد بالحياة لأهلها، وآثر الموت على أصعب العقوبات يرضى منه على بلوغ ما أوجب الله عز وجل على العلماء من القيام بأمره، ورحمة منه على الخلق وشفقا عليهم فأصبر لعظيم جهد بلاء الدنيا نفسه، واحتمل في ذات الله كل ما عجز الخلق أجمعون عن احتمال مثله أو بعضه أخذ بعنان الحق صابراً على وعر الطريق وخشونة المسلك، منفرداً بالوحدة عاضّاً على لجام الصواب، جواد لمحبوب العافية لأهلها، إذ
(5/19)
كانوا لا يصلون إليها إلا بفراق السنة؛ فحالف الوحشة وأنس بالوحدة فمضى على سنته على معانقة الحق غير معرج عنه، رضي بالحق صاحباً وقريناً ومؤنساً لا يثنيه عن ذلك خلاف من خالفه ولا عداوة من عاداه، لا تأخذه في الله لومة لائم، لا يزعجه هلع ولا يستميله طمع ولا يزيغه فزع حتى قمع باطل الخلق بما صبره عليه من الأخذ بعنان الحق، لا يستكثر لله الكثير ولا يرضى له من نفسه بالقليل، صابراً محتسباً غير مدبر معانقاً لعلم الهدى غير تارك له، حتى أورى زناد الحق فاستضاء به أهل السنة فاتبعوه، وكشف عورات
البدع وحذر من أهلها فلم يختلف عليه أحد من أهل العلم حتى رجعوا إلى قوله طوعاً وكرهاً، فدخلوا في الباب الذي خرجوا منه، وعادوا للحق الذي رغبوا عنه، واعترفوا له بفضل ما فضله الله به عليهم، فأقروا له بالإذعان وسمعوا له وأطاعوا إذ كان أتقاهم لله وأنظرهم لخلقه وأدلهم على سبل النجاة وأمنعهم لمواقع الهلكة، فبينا الخلق بضيائه مستترون، يحصي لهم الحق وينفي عنهم الباطل، كما ينفي الكير خبث الحديد، إذ أتاه أمر من الله عز وجل ما أتى من كان قبله من أولياء الله وأهل طاعته، واستأثر الله به ونقله إلى ما عنده فتحيرت من بعده الأدلاء، وتاه الجاهلون في سكرات الخطأ، فكان خلفه رحمة الله عليه من أقام نفسه من بعده ذلك المقام منتصباً لمذاهبه، ذابّاً عن أهل السنة متشدّداً على أهل البدع في حقائق الأمور، لا ينعرج عن مذاهبه ولا يدنسه طمع طامع، مؤنس بالوحشة منفرد بالوحدة، صابراً محتسباً مبيناً على أهل البدع، مشفقاً على أهل السنة، لا يفزعه ميل من مال إلى غيره، لم يدعه طمع إلى أحد، صبر على الخير والشر،
(5/20)
واثق بمواهب الله له من لزوم أصحابه إياه، قامع لأهل البدع محب لأهل الورع فرحمة الله على أبي بكر المروذي ومغفرته ورضوانه؛ فقد كان وفيّاً لصاحبه مشفقاً على أصحابه لم تر مثله العيون فجزاه الله من صاحب وأستاذ خيراً، فالزموا من الأمر ما توفى الله عز وجل أبا عبد الله رحمة الله عليه وأبا بكر المروذي، فإنه الدين الواضح وكل ما أحدث هؤلاء فبدعة وضلالة، فاعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم، وعليكم بلزوم السنة وترك البدع وأهلها، فقد كان أحدث هذا الترمذي المبتدع ببلدنا ما اتصل بنا أنه حدث ببلدكم، وهذا أمر قد كان اضمحل وأخمله الله وأخمل أهله وقائله، وليس بموجود في الناس، قد سلب عقله أخزاه الله وأخزى أشياعه، وقد كان الشيوخ سئلوا عنه في حياة أبي بكر رحمه الله ومحدثي بغداد والكوفة وغير ذلك فلم يكن منهم
أحد إلا أنكره، وكره من أمره ما كتبنا به إليكم لتقفوا عليه، فأما ما قال العباس بن محمد الدوري عند سؤالهم إياه عنه ورده حديث مجاهد: ذكر أن هذا الترمذي الذي رد حديث مجاهد ما رآه قط عند محدث ولا يعرفه بالطلب، وإن هذا الحديث لا ينكره إلا مبتدع جهمي، فنحن نسأل الله العافية من بدعته وضلالته فما أعظم ما جاء به هذا من الضلالة والبدع، عمد إلى حديث فيه فضيلة للنبي - صلى الله عليه وسلم - فأراد أن يزيله ويتكلم في من رواه، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من ناوأهم" (1)، ونحن نحذر عن هذا الرجل أن تستمعوا منه وممن قال بقوله أو تصدقوهم في شيء، فإن السنة عندنا إحياء ذكر هذا
_________
(1) تقدم تخريجه. انظر مواقف عبد الله بن المبارك سنة (181هـ).
(5/21)
الحديث وما أشبهه مما ترده الجهمية. (1)
موقفه من القدرية:
ذكر رحمه الله في كتابه 'السنة' أبواباً في القدر والرد على القدرية، معنوناً لذلك بقوله: "ذكر القدرية التي ترد على الله جل وعز" و"الرد على القدرية وقولهم: إن الله جبر العباد على المعاصي" و"الرد على القدرية في قولهم المشيئة والاستطاعة إلينا". (2)
محمد بن خُزَيْمَة (3) (311 هـ)
محمد بن إسحاق بن خزيمة بن المغيرة، الحافظ الحجة الفقيه، شيخ الإسلام، إمام الأئمة أبو بكر السلمي النيسابوري الشافعي. ولد سنة ثلاث وعشرين ومائتين بنيسابور، ونشأ بها، وطلب الحديث منذ حداثة سنه. سمع من إسحاق بن راهويه، ومحمد بن حميد ولم يحدث عنهما لكونه كتب عنهما في صغره وقبل فهمه وتبصره، وسمع من علي بن حجر وعتبة بن عبد الله المروزي، وأحمد بن إبراهيم الدورقي وغيرهم.
وحدث عنه البخاري ومسلم في غير الصحيحين، وأبو حاتم البستي وأحمد بن المبارك المستملي.
_________
(1) السنة للخلال (1/ 224 - 232).
(2) السنة له (3/ 526 - 562).
(3) الجرح والتعديل (7/ 196) وتذكرة الحفاظ (2/ 720 - 731) والوافي بالوفيات (2/ 196) والبداية والنهاية (11/ 149) وشذرات الذهب (2/ 262 - 263) والسير (14/ 365 - 382).
(5/22)
ومن شجاعته وجرأته: قال أبو بكر بن بالويه: سمعت ابن خزيمة يقول: كنت عند الأمير إسماعيل بن أحمد، فحدث عن أبيه بحديث وهم في إسناده، فرددته عليه، فلما خرجت من عنده قال أبو ذر القاضي: قد كنا نعرف أن هذا خطأ، منذ عشرين سنة، فلم يقدر واحد منا أن يرده عليه، فقلت له: لا يحل لي أن أسمع حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه خطأ أو تحريف فلا أرده. أبو بكر محمد بن جعفر قال: سمعت ابن خزيمة وسئل: من أين أوتيت العلم؟ فقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ماء زمزم لما شرب له" (1) وإني لما شربت سألت الله علما نافعا". قال أبو حاتم بن حبان التميمي: ما رأيت على وجه الأرض من يحفظ صناعة السنن ويحفظ ألفاظها الصحاح وزياداتها، حتى كأن السنن كلها بين عينيه إلا محمد بن إسحاق بن خزيمة فقط. قال الذهبي: ولابن خزيمة عظمة في النفوس، وجلالة في القلوب لعلمه ودينه، واتباعه السنة. وكتابه في التوحيد مجلد كبير. وقال الحاكم: فضائل إمام الأئمة ابن خزيمة عندي مجموعة في أوراق كثيرة، ومصنفاته تزيد على مائة وأربعين كتاباً سوى المسائل، والمسائل المصنفة أكثر من مائة جزء، قال: وله فقه حديث بريرة في ثلاثة أجزاء.
توفي رحمه الله سنة إحدى عشرة وثلاثمائة.
موقفه من المبتدعة:
- قال أبو زكرياء يحيى بن محمد العنبري: سمعت ابن خزيمة يقول: ليس
_________
(1) رواه أحمد (3/ 357) وابن ماجه (2/ 1018/3062) وحسنه المنذري في الترغيب والترهيب (2/ 210 - 211) من طريق أبي الزبير قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: ... فذكره.
(5/23)
لأحد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قول إذا صح الخبر. (1)
- عن محمد بن الحسين الآجري قال: سمعت الإمام محمد بن إسحاق ابن خزيمة رضي الله عنه يقول ما لا أحصي من مرة: أنا عبد لأخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (2)
موقفه من الرافضة:
- عن أبي أحمد الدارمي قال: سئل أبو بكر محمد بن إسحاق عن أحاديث لعباد بن يعقوب -أي الرواجيني- فامتنع منها ثم قال: قد كنت أخذت عنه بشريطة والآن فإني أرى أن لا أحدث عنه لغلوه. (3)
- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يشهرن أحدكم على أخيه السيف لعل الشيطان ينزع في يده فيقع في حفرة من حفر النار" (4) قال أبو هريرة: سمعته من سهل بن سعد الساعدي سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال أبو بكر -أي ابن خزيمة: فحرصه على العلم يبعثه على سماع خبر لم يسمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - منه، وإنما يتكلم في أبي هريرة لدفع أخباره من قد أعمى الله قلوبهم فلا يفهمون معاني الأخبار. إما معطل جهمي يسمع أخباره التي يرونها خلاف مذهبهم الذي هو كفر فيشتمون أبا هريرة ويرمونه بما الله تعالى قد نزهه عنه تمويها على الرعاء والسفل أن أخباره لا تثبت بها الحجة.
_________
(1) السير (14/ 373) والتذكرة (2/ 728) وإعلام الموقعين (2/ 283).
(2) الفقيه والمتفقه (1/ 290).
(3) الكفاية (132).
(4) أحمد (2/ 317) والبخاري (13/ 29/7072) ومسلم (4/ 2020/2617) عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: "لا يشر أحدكم على أخيه بالسلاح فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزغ في يديه فيقع في حفرة من النار".
(5/24)
وإما خارجي يرى السيف على أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا يرى طاعة خليفة ولا إمام إذا سمع أخبار أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خلاف مذهبهم الذي هو ضلال لم يجد حيلة في دفع أخباره بحجة وبرهان كان مفزعه الوقيعة في أبي هريرة. أو قدري اعتزل الإسلام وأهله وكفر أهل الإسلام الذين يتبعون الأقدار الماضية التي قدرها الله تعالى وقضاها قبل كسب العباد لها إذا نظر إلى أخبار أبي هريرة التي قد رواها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في إثبات القدر لم يجد بحجة يريد صحة مقالته التي هي كفر وشرك كانت حجته عند نفسه أن أخبار أبي هريرة لا يجوز الاحتجاج بها.
أو جاهل يتعاطى الفقه ويطلبه من غير مظانه إذا سمع أخبار أبي هريرة فيما يخالف مذهب من قد اجتبى مذهبه وأخباره تقليداً بلا حجة ولا برهان كلم في أبي هريرة ودفع أخباره التي تخالف مذهبه ويحتج بأخباره على مخالفته إذا كانت أخباره موافقة لمذهبه، وقد أنكر بعض هذه الفرق على أبي هريرة أخباراً لم يفهموا معناها أنا ذاكر بعضها بمشيئة الله عز وجل. (1)
موقفه من الجهمية:
هذا الإمام الكبير كان شوكة في حلوق الجهمية وفروعهم من الكلابية وغيرهم، ولهذا حملوا عليه في كتبهم وتعليقاتهم ومن أشهرهم الرازي من المتقدمين ومن المتأخرين حاملو راية الجهمية الكوثري وتلامذته ومحبوه، وقد قيل في تفسير الرازي: فيه كل شيء إلا التفسير، وقد تكلم عليه الحافظ في لسان الميزان بكلمات جامعة. واسمع ما يقوله في تفسيره الذي ملأه بمذهب
_________
(1) المستدرك (3/ 513).
(5/25)
الجهمية:
واعلم يعني: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1)، في أن محمد بن إسحاق بن خزيمة أورد استدلال أصحابنا بهذه الآية الكتاب الذي سماه بالتوحيد وهو في الحقيقة كتاب الشرك. (2)
آثار الشيخ السلفية:
- 'كتاب التوحيد': وهو من أعظم المصادر السلفية، وقد نقم عليه المبتدعة في الماضي والحاضر، وقد تقدم ما ذكره الرازي، وأما الكوثري الحاقد ومدرسته فلا تسأل عن كلامهم في هذا الكتاب فيوم طبع الكتاب لم يتمالكوا أنفسهم بل أرسلوا إلى الأزهر: كيف يسمح بطبع مثل هذه الكتب والله المستعان. وأما كتب الضلال والانحرافات والخرافات فهذه يرقصون لطبعها، وقد طبع الكتاب وأخذ رسالة علمية حققت نسخه وأحاديثه، ولله الحمد والمنّة.
- جاء في ذم الكلام: عنه قال: من لم يقل إن الله في السماء على العرش استوى، ضربت عنقه وألقيت جيفته على مزبلة بعيدة عن البلد حتى لا يتأذى بنتن ريحها أحد من المسلمين ولا من المعاهدين. (3)
- وفيه: سئل ابن خزيمة عن الكلام في الأسماء والصفات فقال: بدعة ابتدعوها ولم تكن أئمة المسلمين وأرباب المذاهب الأربعة وأئمة الدين مثل:
_________
(1) الشورى الآية (11).
(2) التفسير الكبير (ج: 27، ص.150).
(3) ذم الكلام (ص.272).
(5/26)
مالك وسفيان والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق ويحيى بن يحيى وابن المبارك ومحمد بن يحيى وأبي حنيفة ومحمد بن الحسن وأبي يوسف يتكلمون في ذلك، وينهون عن الخوض فيه ويدلون أصحابهم على الكتاب والسنة فإياك والخوض فيه والنظر في كتبهم بحال. (1)
- وقال أيضاً في كتاب 'مناقب أحمد بن حنبل' في باب الإشارة إلى طريقة في الأصول، لما ذكر كلامه في مسائل القرآن وترتيب البدع التي ظهرت فيه وأنهم قالوا أولا: هو مخلوق، وجرت المحنة المشهورة، ثم مسألة اللفظية بسبب حسين الكرابيسي، إلى أن قال: وجاءت طائفة فقالت: لا يتكلم بعد ما تكلم، فيكون كلامه حادثاً، قال: وهذه سحارة أخرى تقذي في الدين غير عين واحدة، فانتبه لها أبو بكر بن خزيمة، وكانت حينئذ بنيسابور دار الآثار تمد إليها الدانات، وتشد إليها الركائب، ويجلب منها العلم، وما ظنك بمجالس يحبس عنها الثقفي والصبغي مع ما جمعا من الحديث والفقه والصدق والورع واللسان، والبيت والقدر لا يستر لوث بالكلام واستمام لأهله، فابن خزيمة في بيت، ومحمد بن إسحاق في بيت، وأبو حامد العرشرقي في بيت، قال: فطار لتلك الفتنة ذلك الإمام أبو بكر فلم يزل يصيح بتشويهها، ويصنف في ردها كأنه منذر جيش، حتى دون في الدفاتر، وتمكن في السرائر، ولقن في الكتاتيب، ونقش في المحاريب، أن الله متكلم: إن شاء الله تكلم، وإن شاء سكت، فجزى الله ذلك الإمام وأولئك النفر الغر عن نصرة دينه وتوقير نبيه خيراً.
_________
(1) ذم الكلام (ص.274) والاستقامة (1/ 108).
(5/27)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: قلت: هذه القصة التي أشار إليها عن ابن خزيمة مشهورة، ذكرها غير واحد من المصنفين كالحاكم أبي عبد الله في 'تاريخ نيسابور' وغيره، ذكر أنه رفع إلى الإمام أنه قد نبغ طائفة من أصحابه يخالفونه وهو لا يدري، وأنهم على مذهب الكلابية، وأبو بكر الإمام شديد على الكلابية. قال: فحدثني أبو بكر أحمد بن يحيى المتكلم قال: اجتمعنا ليلة عند بعض أهل العلم، وجرى ذكر كلام الله: أقديم لم يزل، أو يثبت عند اختياره تعالى أن يتكلم به؟ فوقع بيننا في ذلك خوض. قال جماعة منا: إن كلام الباري قديم لم يزل، وقال جماعة: إن كلامه قديم، غير أنه لا يثبت إلا باختياره لكلامه. فبكرت أنا إلى أبي علي الثقفي، وأخبرته بما جرى، فقال: من أنكر أنه لم يزل فقد اعتقد أنه محدث، وانتشرت هذه المسألة في البلد، وذهب منصور الطوسي في جماعة معه إلى أبي بكر محمد بن إسحاق وأخبروه بذلك، حتى قال منصور: ألم أقل للشيخ إن هؤلاء يعتقدون مذهب الكلابية، وهذا مذهبهم، فجمع أبو بكر أصحابه، وقال: ألم أنهكم غير مرة عن الخوض في الكلام، ولم يزدهم على هذا في ذلك اليوم، وذكر أنه بعد ذلك خرج على أصحابه، وأنه صنف في الرد عليهم، وأنهم ناقضوه، ونسبوه إلى القول بقول جهم في أن القرآن محدث، وجعلهم هو كلابية. (1)
- قال الحاكم: سمعت أبا عبد الرحمن بن أحمد المقري يقول: سمعت أبا بكر محمد بن إسحاق يقول: الذي أقول به أن القرآن كلام الله ووحيه وتنزيله، غير مخلوق، ومن قال: إن القرآن أو شيئاً منه ومن وحيه وتنزيله
_________
(1) درء التعارض (2/ 76 - 79) والسير (14/ 378 - 379).
(5/28)
مخلوق، أو يقول: إن الله لا يتكلم بعد ما كان تكلم به في الأزل، أو يقول: إن أفعال الله مخلوقة، أو يقول: إن القرآن محدث، أو يقول: إن شيئاً من صفات الله -صفات الذات- أو اسماً من أسماء الله مخلوق، فهو عندي جهمي يستتاب، فإن تاب، وإلا ضربت عنقه، هذا مذهبي ومذهب من رأيت من أهل الأثر في الشرق والغرب من أهل العلم، ومن حكى عني خلاف هذا فهو كاذب باهت، ومن نظر في كتبي المصنفة ظهر له وبان أن الكلابية كذبة فيما يحكون عني مما هو خلاف أصلي وديانتي. (1)
- وذكر عن ابن خزيمة أنه قال: زعم بعض جهلة هؤلاء الذين نبغوا في سنتنا هذه أن الله لا يكرر الكلام، فهم لا يفهمون كتاب الله، فإن الله قد أخبر في نص الكتاب في مواضع أنه خلق آدم، وأنه أمر الملائكة بالسجود له، فكرر هذا الذكر في غير موضع، وكرر ذكر كلامه مع موسى مرة بعد أخرى، وكرر ذكر عيسى بن مريم في مواضع، وحمد نفسه في مواضع فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} (2) و {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} (3) {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} (4) وكرر زيادة على ثلاثين مرة {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} (5) ولم
_________
(1) درء التعارض (2/ 79) والتذكرة (2/ 726).
(2) الكهف الآية (1).
(3) الأنعام الآية (1).
(4) سبأ الآية (1).
(5) سورة الرحمن.
(5/29)
أتوهم أن مسلماً يتوهم أن الله لا يتكلم بشيء مرتين. (1)
- قال الحاكم: سمعت محمد بن صالح بن هانئ، سمعت ابن خزيمة يقول: من لم يقر بأن الله على عرشه قد استوى فوق سبع سماواته فهو كافر حلال الدم، وكان ماله فيئاً.
قلت -أي الذهبي-: من أقر بذلك تصديقاً لكتاب الله، ولأحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وآمن به مفوضاً معناه (2) إلى الله ورسوله، ولم يخض في التأويل ولا عمق، فهو المسلم المتبع، ومن أنكر ذلك، فلم يدر بثبوت ذلك في الكتاب والسنة فهو مقصر والله يعفو عنه، إذ لم يوجب الله على كل مسلم حفظ ما ورد في ذلك، ومن أنكر ذلك بعد العلم، وقفا غير سبيل السلف الصالح، وتمعقل على النص فأمره إلى الله، نعوذ بالله من الضلال والهوى. وكلام ابن خزيمة هذا -وإن كان حقاً- فهو فج، لا تحتمله نفوس كثيرة من متأخري العلماء. (3)
- قال أبو الوليد حسان بن محمد الفقيه: سمعت ابن خزيمة يقول: القرآن كلام الله تعالى، ومن قال: إنه مخلوق. فهو كافر، يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، ولا يدفن في مقابر المسلمين. (4)
- قال الحاكم: وحدثني عبد الله بن إسحاق الأنماطي المتكلم قال: لم يزل الطوسي بأبي بكر بن خزيمة حتى جرأه على أصحابه، وكان أبو بكر بن
_________
(1) درء التعارض (2/ 79 - 81) والسير (14/ 380) والتذكرة (2/ 726 - 727).
(2) والذي ينبغي أن يقال: يجب الإيمان باللفظ والمعنى، ويفوض الكيف.
(3) السير (14/ 373 - 374).
(4) السير (14/ 374) والتذكرة (2/ 728 - 729).
(5/30)
إسحاق وأبو بكر بن أبي عثمان يردان على أبي بكر ما يمليه، ويحضران مجلس أبي علي الثقفي، فيقرؤون ذلك على الملأ، حتى استحكمت الوحشة. سمعت أبا سعد عبد الرحمن بن أحمد المقرئ، سمعت ابن خزيمة يقول: القرآن كلام الله ووحيه وتنزيله غير مخلوق، ومن قال: شيء منه مخلوق، أو يقول: إن القرآن محدث، فهو جهمي، ومن نظر في كتبي، بان له أن الكلابية -لعنهم الله- كذبة فيما يحكون عني بما هو خلاف أصلي وديانتي، قد عرف أهل الشرق والغرب أنه لم يصنف أحد في التوحيد والقدر وأصول العلم مثل تصنيفي، وقد صح عندي أن هؤلاء -الثقفي والصبغي ويحيى بن منصور- كذبة، قد كذبوا علي في حياتي، فمحرم على كل مقتبسِ علمٍ أن يقبل منهم شيئاً يحكونه عني، وابن أبي عثمان أكذبهم عندي، وأقولهم علي ما لم أقله.
قلت -أي الذهبي-: ما هؤلاء بكذبة، بل أئمة أثبات، وإنما الشيخ تكلم على حسب ما نقل له عنهم. فقبح الله من ينقل البهتان، ومن يمشي بالنميمة. (1)
- قال الحاكم: سمعت أبا بكر أحمد بن إسحاق يقول: لما وقع من أمرنا ما وقع، وجد أبو عبد الرحمن ومنصور الطوسي الفرصة في تقرير مذهبهم، واغتنم أبو القاسم، وأبو بكر بن علي، والبردعي السعي في فساد الحال، انتصب أبو عمرو الحيري للتوسط فيما بين الجماعة، وقرر لأبي بكر ابن خزيمة اعترافنا له بالتقدم، وبين له غرض المخالفين في فساد الحال. إلى أن وافقه على أن نجتمع عنده، فدخلت أنا، وأبو علي، وأبو بكر بن أبي عثمان، فقال له أبو
_________
(1) السير (14/ 379 - 380) والاستقامة (1/ 109 - 110).
(5/31)
علي الثقفي: ما الذي أنكرت أيها الأستاذ من مذاهبنا حتى نرجع عنه؟ قال: ميلكم إلى مذهب الكلابية، فقد كان أحمد بن حنبل من أشد الناس على عبد الله بن سعيد بن كلاب، وعلى أصحابه مثل الحارث وغيره. حتى طال الخطاب بينه وبين أبي علي في هذا الباب، فقلت: قد جمعت أنا أصول مذاهبنا في طبق، فأخرجت إليه الطبق، فأخذه وما زال يتأمله وينظر فيه، ثم قال: لست أرى هاهنا شيئاً لا أقول به. فسألته أن يكتب عليه خطه أن ذلك مذهبه، فكتب آخر تلك الأحرف، فقلت لأبي عمرو الحيري: احتفظ أنت بهذا الخط حتى ينقطع الكلام، ولا يتهم واحد منا بالزيادة فيه. ثم تفرقنا، فما كان بأسرع من أن قصده أبو فلان وفلان وقالا: إن الأستاذ لم يتأمل ما كتب في ذلك الخط، وقد غدروا بك وغيروا صورة الحال.
فقبل منهم، فبعث إلى أبي عمرو الحيري لاسترجاع خطه منه، فامتنع عليه أبو عمرو، ولم يرده حتى مات ابن خزيمة، وقد أوصيت أن يدفن معي، فأحاجه بين يدي الله تعالى فيه وهو: القرآن كلام الله تعالى، وصفة من صفات ذاته، ليس شيء من كلامه مخلوق، ولا مفعول، ولا محدث، فمن زعم شيئاً منه مخلوق أو محدث، أو زعم أن الكلام من صفة الفعل، فهو جهمي ضال مبتدع، وأقول: لم يزل الله متكلماً، والكلام له صفة ذات، ومن زعم أن الله لم يتكلم إلا مرة، ولم يتكلم إلا ما تكلم به، ثم انقضى كلامه، كفر بالله وأنه ينزل تعالى إلى سماء الدنيا فيقول: "هل من داع فأجيبه" فمن زعم أن علمه تنزل أوامره، ضل، ويكلم
(5/32)
عباده بلا كيف {الرحمن على العرش استوى} (1) لا كما قالت الجهمية: إنه على الملك احتوى، ولا استولى. وإن الله يخاطب عباده عوداً وبدءاً، ويعيد عليهم قصصه وأمره ونهيه، ومن زعم غير ذلك، فهو ضال مبتدع. وساق سائر الاعتقاد. (2)
- وقال رحمه الله في مقدمته لكتابه التوحيد: كنت أسمع من بعض أحداث طلاب العلم والحديث ممن لعله كان يحضر مجالس أهل الزيغ والضلالة؛ من الجهمية المعطلة والقدرية المعتزلة ما تخوفت أن يميل بعضهم عن الحق والصواب من القول بالبهت والضلال في هذين الجنسين من العلم؛ بإثبات القول بالقضاء السابق والمقادير النافذة قبل حدوث كسب العباد، والإيمان بجميع صفات الرحمن الخالق جل وعلا مما وصف الله به نفسه في محكم تنزيله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وبما صح وثبت عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - بالأسانيد الثابتة الصحيحة بنقل أهل العدالة موصولاً إليه - صلى الله عليه وسلم -، فيعلم الناظر في كتابنا هذا ممن وفقه الله تعالى لإدراك الحق والصواب ومَنَّ عليه بالتوفيق لما يحب ويرضى صحة مذهب أهل الآثار في هذين الجنسين من العلم، وبطلان مذاهب أهل الأهواء والبدع الذين هم في ريبهم وضلالتهم يعمهون. وبالله ثقتي وإياه أسترشد، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وقد بدأت كتاب القدر فأمليته وهذا كتاب
_________
(1) طه الآية (5).
(2) السير (14/ 380 - 381) والتذكرة (2/ 726 - 728).
(5/33)
التوحيد. (1)
- وقال رحمه في كتابه التوحيد: أقول وبالله توفيقي وإياه أسترشد: قد بين الله عز وجل في محكم تنزيله الذي هو مثبت بين الدفتين أن له وجهاً وصفه بالجلال والإكرام والبقاء فقال جل وعلا: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (2)، ونفى ربنا جل وعلا عن وجهه الهلاك في قوله: {كل شَيْءٍ هَالِكٌ إِلًّا وَجْهَهُ} (3)، وزعم بعض جهلة الجهمية أن الله عز وجل إنما وصف في هذه الآية نفسه التي أضاف إليها الجلال بقوله: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (4) وزعمت أن الرب هو ذو الجلال والإكرام لا الوجه.
قال أبو بكر: أقول وبالله توفيقي هذه دعوى يدعيها جاهل بلغة العرب؛ لأن الله جل وعلا قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} فذكر الوجه مضموماً في هذا الموضع مرفوعاً، وذكر الرب بخفض الباء بإضافة الوجه، ولو كان قوله {ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} مردوداً إلى ذكر الرب في هذا الموضع لكانت القراءة ذي الجلال والإكرام مخفوضاً كما كان الباء
_________
(1) التوحيد (5).
(2) الرحمن الآية (27).
(3) القصص الآية (88).
(4) الرحمن الآية (78).
(5/34)
مخفوضاً في ذكر الرب جل وعلا، ألم تسمع قوله تبارك وتعالى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}؛ فلما كان الجلال والإكرام في هذه الآية صفة للرب خَفَضَ "ذِي" خَفْضَ الباءِ الذي ذُكر في قوله {ربك}؛ ولما كان الوجه في تلك الآية التي كانت صفة الوجه مرفوعة (1) فقال: {ذو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}.
فتفهموا يا ذوي الحجا هذا البيان الذي هو دلالة أن وجه الله صفة من صفات الله صفات الذات، لا أن وجه الله هو الله، أو أن وجهه غيره كما زعمت المعطلة الجهمية؛ لأن وجهه لو كان الله لقرئ ويبقى وجه ربك ذي الجلال والإكرام، فما لمن لا يفهم هذا القدر من العربية ووضع الكتب على علماء أهل الآثار القائلين بكتاب ربهم وسنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم -.
وزعمت الجهمية عليهم لعائن الله أن أهل السنة ومتبعي الآثار القائلين بكتاب ربهم وسنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم - المثبتين لله جل وعلا من صفاته ما وصف الله به نفسه في محكم تنزيله المثبت بين الدفتين وعلى لسان نبيه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بنقل العدل فوضوه إليه مشبهة، جهلاً منهم بكتاب ربنا وسنة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وقلة معرفتهم بلغة العرب الذين بلغتهم خوطبنا، وقد ذكرنا من الكتاب والسنة ذكر وجه ربنا بما فيه الغنية والكفاية، ونزيده شرحاً؛ فاسمعوا الآن أيها العقلاء ما يذكر من جنس اللغة السائرة بين العرب هل يقع اسم المشبهة على
_________
(1) كذا في الأصل.
(5/35)
أهل الآثار ومتبعي السنن؟ نحن نقول وعلماؤنا جميعاً في الأقطار إن لمعبودنا عز وجل وجها كما أعلمنا الله في محكم تنزيله؛ فذواه بالجلال والإكرام، وحكم له بالبقاء، ونفى عنه الهلاك. ونقول: إن لوجه ربنا عز وجل من النور والضياء والبهاء ما لو كشف حجابه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره، محجوب عن أبصار أهل الدنيا، لا يراه بشر ما دام في الدنيا الفانية، ونقول: إن وجه ربنا القديم لم يزل بالباقي الذي لا يزال؛ فنفى عنه الهلاك والفناء. ونقول: إن لبني آدم وجوها كتب الله عليها الهلاك، ونفى عنها الجلال والإكرام غير موصوفة بالنور والضياء والبهاء التي وصف الله بها وجهه، يدرك وجوه بني آدم أبصار أهل الدنيا، لا تحرق لأحد شعرة فما فوقها؛ لنفي السبحات عنها؛ التي بينها نبينا المصطفى - صلى الله عليه وسلم - لوجه خالقنا.
ونقول: إن وجوه بني آدم محدثة مخلوقة لم تكن، فكونها الله بعد أن لم تكن مخلوقة أوجدها بعد ما كانت عدماً، وأن جميع وجوه بني آدم فانية غير باقية تصير جميعاً ميتاً، ثم تصير رميماً، ثم ينشئها الله بعدما قد صارت رميماً، فتلقى من النشور والحشر والوقوف بين يدي خالقنا في القيامة، ومن المحاسبة بما قدمت يداه ونسيه في الدنيا ما لا يعلم صفته غير الخالق الباري، ثم إما تصير إلى الجنة منعمة فيها، أو إلى نار معذبة، فهل يخطر يا ذوي الحجا ببال عاقل مركب فيه العقل يفهم لغة العرب ويعرف خطابها ويعلم التشبيه أن هذا الوجه شبيه بذاك الوجه؟ وهل هاهنا أيها العقلاء تشبيه وجه ربنا جل ثناؤه الذي هو كما وصفنا وبينا صفته من الكتاب والسنة بتشبيه وجوه بني آدم التي ذكرناها ووصفناها غير اتفاق اسم الوجه وإيقاع اسم الوجه على
(5/36)
وجه بني آدم كما سمى الله وجهه وجهاً؟ ولو كان تشبيهاً من علمائنا لكان كل قائل إن لبني آدم وجها، وللخنازير والقردة والكلاب والسباع والحمير والبغال والحيات والعقارب وجوها قد شبه وجوه بني آدم بوجوه الخنازير والقردة والكلاب وغيرها مما ذكرت، ولست أحسب أن أعقل الجهمية المعطلة عند نفسه لو قال له أكرم الناس عليه: وجهك يشبه وجه الخنزير والقرد والدُّب والكلب والحمار والبغل ونحو هذا إلا غضب؛ وإلا خرج من سوء الأدب في الفحش من المنطق من الشتم للمشبه وجهه بوجه ما ذكرنا، ولعله بعد يقذفه ويقذف أبويه. ولست أحسب أن عاقلاً يسمع هذا القائل المشبه وجه ابن آدم بوجه ما ذكرنا إلا ويرميه بالكذب والزور والبهت، أو بالعته والخبل، أو يحكم عليه بزوال العقل ورفع القلم عنه؛ لتشبيه وجه ابن آدم بوجه ما ذكرنا.
فتفكروا يا ذوي الألباب أَوُجوهُ ما ذكرنا أقرب شبهاً بوجوه بني آدم أو وجه خالقنا بوجوه بني آدم؟ فإذا لم تطلق العرب تشبيه وجوه بني آدم بوجوه ما ذكرنا من السباع، واسم الوجه قد يقع على جميع وجوهها كما يقع اسم الوجه على وجوه بني آدم؛ فكيف يلزمنا أن يقال لنا: أنتم مشبهة، ووجوه بني آدم ووجوه ما ذكرنا من السباع والبهائم محدثة كلها مخلوقة قد قضى الله فناءها وهلاكها وقد كانت عدما؛ فكونها الله وخلقها وأحدثها وجميع ما ذكرنا من السباع والبهائم لوجوهها أبصار وخدود وجباه وأنوف وألسنة وأفواه وأسنان وشفاه، ولا يقول مركب فيه العقل لأحد من بني آدم وجهك شبيه بوجه خنزير، ولا عينك شبيهة بعين قرد، ولا فمك فم دب،
(5/37)
ولا شفتاك كشفتي كلب، ولا خدك خد ذئب، إلا على المشاتمة كما يرمي الرامي الإنسان بما ليس فيه؛ فإذ كان ما ذكرنا على ما وصفنا ثبت عند العقلاء وأهل التمييز أن من رمى أهل الآثار القائلين بكتاب ربهم وسنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم - بالتشبيه؛ فقد قال الباطل والكذب والزور والبهتان، وخالف الكتاب والسنة، وخرج من لسان العرب.
وزعمت المعطلة من الجهمية أن معنى الوجه الذي ذكر الله في الآي التي تلونا من كتاب الله وفي الأخبار التي رويناها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما تقول العرب: وجه الكلام ووجه الثوب ووجه الدار، فزعمت -لجهلها- أن معنى قوله: وجه الله كقول العرب وجه الكلام ووجه الدار ووجه الثوب، وزعمت أن الوجوه من صفات المخلوقين؛ وهذه فضيحة في الدعوى، ووقوع في أقبح ما زعموا أنهم يهربون منه؛ فيقال لهم: أفليس كلام بني آدم والثياب والدور مخلوقة؟ فمن زعم منكم أن معنى قوله وجه الله كقول العرب وجه الكلام ووجه الثوب ووجه الدار، أليس قد شبه على أصلكم وجه الله بوجه الموتان؟ لزعمكم -يا جهلة- أن من قال من أهل السنة والآثار القائلين بكتاب ربهم وسنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم -: لله وجه وعينان ونفس، وأن الله يبصر ويرى ويسمع؛ أنه مشبه عندكم خالقه بالمخلوقين، حاش لله أن يكون أحد من أهل السنة والأثر شبه خالقه بأحد من المخلوقين؛ فإن كان على ما زعمتم بجهلكم فأنتم قد شبهتم معبودكم بالموتان. نحن نثبت لخالقنا جل وعلا صفاته التي وصف الله عز وجل بها نفسه في محكم تنزيله أو على لسان نبيه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - مما ثبت بنقل العدل عن العدل موصولاً إليه، ونقول كلاماً مفهوماً موزوناً يفهمه كل
(5/38)
عاقل يقول: ليس إيقاع اسم الوجه للخالق البارئ بموجب عند ذوي الحجا والنهى أنه يشبه وجه الخالق بوجوه بني آدم. قد أعلمنا الله جل وعلا في الآي التي تلوناها قبل أن لله وجهاً ذواه بالجلال والإكرام ونفى الهلاك عنه. وخبرنا في محكم تنزيله أنه يسمع ويرى؛ فقال جل وعلا لكليمه موسى ولأخيه هارون صلوات الله عليهما: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أسمع وأرى} (1) وما لا يسمع ولا يبصر كالأصنام التي هي من الموتان، ألم تسمع مخاطبة خليل الله صلوات الله عليه أباه؟ {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} (2)، أو لا يعقل -يا ذوي الحجا- من فهم عن الله تبارك وتعالى هذا أن خليل الله صلوات الله عليه يوبخ أباه على عبادة ما لا يسمع ولا يبصر، ولو قال الخليل صلوات الله عليه لأبيه: أدعوك إلى ربي الذي لا يسمع ولا يبصر، لأشبه أن يقول: فما الفرق بين معبودك ومعبودي؟ والله قد أثبت لنفسه أنه يسمع ويرى.
والمعطلة من الجهمية تنكر كل صفة لله جل وعلا وصف بها نفسه في محكم تنزيله، أو على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - لجهلهم بالعلم، وقال عز وجل: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ
_________
(1) طه الآية (46) ..
(2) مريم الآية (42).
(5/39)
أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ} (1) الآية؛ فأعلم الله عز وجل أن من لا يسمع ولا يعقل كالأنعام؛ بل هم أضل سبيلاً، فمعبود الجهمية عليهم لعائن الله كالأنعام التي لا تسمع ولا تبصر، والله قد ثبت لنفسه أنه يسمع ويرى.
والمعطلة من الجهمية تنكر كل صفة لله وصف بها نفسه في محكم تنزيله أو على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - لجهلهم بالعلم وذلك أنهم وجدوا في القرآن أن الله قد أوقع أسماء من أسماء صفاته على بعض خلقه فتوهموا لجهلهم بالعلم أن من وصف الله بتلك الصفة التي وصف الله بها نفسه قد شبهه بخلقه؛ فاسمعوا -يا ذوي الحجا- ما أبين جهل هؤلاء المعطلة، أقول: وجدت الله وصف نفسه في غير موضع من كتابه فأعلم عباده المؤمنين أنه سميع بصير فقال: {وَهُوَ السميع البصير} (2) وذكر عز وجل الإنسان قال: {فَجَعَلْنَاهُ سميعًا بصيرًا} (3). وأعلمنا جل وعلا أنه يرى فقال: {وَقُلِ اعْمَلُوا فسيرى اللَّهُ عَمَلَكُمْ ورسوله} (4) وقال لموسى وهارون عليهما السلام: {قَالَ لا تخافا إِنَّنِي مَعَكُمَا أسمع وأرى} (5)، فأعلم عز وجل أنه يرى
_________
(1) الفرقان الآيتان (43و44).
(2) الشورى الآية (11).
(3) الإنسان الآية (2).
(4) التوبة الآية (105).
(5) طه الآية (46).
(5/40)
أعمال بني آدم وأن رسوله وهو بشر يرى أعمالهم أيضاً، وقال: {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ} (1) وبنو آدم يرون أيضاً الطير مسخرات في جو السماء، وقال عز وجل: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بأعيننا} (2) وقال: {تجري بأعيننا} (3) وقال: {واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا} (4) فثبت ربنا عز وجل لنفسه عيناً وثبت لبني آدم أعيناً فقال: {ترى أعينهم تفيض من الدَّمْعِ} (5)؛ فقد خبرنا ربنا أن له عيناً وأعلمنا أن لبني آدم أعيناً، وقال لإبليس عليه لعنة الله: {مَا مَنَعَكَ أَن تسجد لما خَلَقْتُ بيدي} (6) وقال: {بَلْ يداه مَبْسُوطَتَانِ ينفق كيف يشاء} (7) وقال: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (8) فثبت ربنا جل وعلا لنفسه يدين، وخبرنا أن لبني آدم يدين
_________
(1) النحل الآية (79).
(2) هود الآية (37).
(3) القمر الآية (14).
(4) الطور الآية (48).
(5) المائدة الآية (83).
(6) ص الآية (75) ..
(7) المائدة الآية (64).
(8) الزمر الآية (67).
(5/41)
فقال: {ذلك بما قدمت أيديكم} (1)، وقال: {ذلك بما قدمت يداك} (2) وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} (3) وقال: {الرحمن على العرش استوى} (4) وخبرنا أن ركبان الدواب يستوون على ظهورها. وقال في ذكر سفينة نوح: {واستوت على الجودي} (5)، أفيلزم -يا ذوي الحجا- عند هؤلاء الفسقة أن من ثبت لله ما ثبت الله في هذه الآي أن يكون مشبهاً خالقه بخلقه؟ حاش لله أن يكون هذا تشبيه كما ادعوا لجهلهم بالعلم، نحن نقول: إن الله سميع بصير كما أعلمنا خالقنا وبارئنا، ونقول من له سمع وبصر من بني آدم فهو سميع بصير، ولا نقول: إن هذا تشبيه المخلوق بالخالق، ونقول: إن لله عز وجل يدين يمينين لا شمال فيهما، قد أعلمنا الله تبارك وتعالى أن له يدين، وخبرنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - أنهما يمينان لا شمال فيهما، ونقول إن من كان من بني آدم سليم الجوارح والأعضاء فله يدان يمين وشمال، لا نقول: إن يد المخلوقين كيد الخالق عز ربنا عن أن تكون يده كيد خلقه. قد سمى الله عز وجل لنا نفسه عزيزاً وسمى بعض الملوك عزيزاً فقال: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ
_________
(1) آل عمران الآية (182).
(2) الحج الآية (10).
(3) الفتح الآية (10).
(4) طه الآية (5).
(5) هود الآية (44).
(5/42)
فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ} (1)،
وسمى إخوة يوسف أخاهم يوسف عزيزاً فقالوا: {يا أيها العزيز إِنَّ لَهُ أَبًا شيخًا كبيرًا} (2) وقالوا: {يا أيها العزيز مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضر} (3)، فليست عزة خالقنا العزة التي هي صفة من صفات ذاته؛ كعزة المخلوقين الذين أعزهم الله بها، ولو كان كل اسم سمى الله لنا به نفسه، وأوقع ذلك الاسم على بعض خلقه، كان ذلك تشبيه الخالق بالمخلوق على ما توهم هؤلاء الجهلة من الجهمية؛ لكان كل من قرأ القرآن وصدقه بقلبه أنه قرآن ووحي وتنزيل قد شبه خالقه بخلقه، وقد أعلمنا ربنا تبارك وتعالى أنه الملك، وسمى بعض عبيده ملكاً فقال: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائتوني بِهِ} (4) وأعلمنا جل جلاله أنه العظيم، وسمى بعض عبيده عظيماً فقال: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} (5) وسمى الله بعض خلقه عظيماً فقال: {وَهُوَ رب الْعَرْشِ العظيم} (6) فالله العظيم، وأوقع اسم العظيم على عرشه؛ والعرش مخلوق، وربنا الجبار المتكبر فقال: {السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ
_________
(1) يوسف الآية (30) ..
(2) يوسف الآية (78).
(3) يوسف الآية (88).
(4) يوسف الآية (50).
(5) الزخرف الآية (31).
(6) التوبة الآية (129).
(5/43)
المهيمن العزيز الجبار المتكبر} (1)، وسمى بعض الكفار متكبراً جباراً فقال: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} (2). وبارئنا جل وعز الحفيظ العليم، وخبرنا أن يوسف عليه السلام قال للملك: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} (3)، وقال: {وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عليم} (4) وقال: {بِغُلَامٍ حليم} (5) قال: الحليم والعليم اسمان لمعبودنا جل وعلا قد سمى الله بهما بعض بني آدم، ولو لزم -يا ذوي الحجا- أهل السنة والآثار إذ أثبتوا لمعبودهم يدين كما ثبتهما الله لنفسه، وثبتوا له نفساً عز ربنا وجل، والله سميع بصير يسمع ويرى؛ ما ادعى هؤلاء الجهلة عليهم أنهم مشبهة؛ للزم كل من سمى الله ملكاً أو عزيزاً أو عظيماً ورؤوفاً ورحيماً وجباراً ومتكبراً أنه قد شبه خالقه عز وجل بخلقه، حاش لله أن يكون من وصف الله جل وعلا بما وصف الله نفسه في كتابه، أو على لسان نبيه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - مشبهاً خالقه بخلقه.
فأما احتجاج الجهمية على أهل السنة والآثار في هذا النحو بقوله {ليس كمثل شيءٌ وهو السميع البصير} (6) فمن القائل: إن
_________
(1) الحشر الآية (23).
(2) غافر الآية (35).
(3) يوسف الآية (55).
(4) الذاريات الآية (28) ..
(5) الصافات الآية (101).
(6) الشورى الآية (11).
(5/44)
لخالقنا مثلاً أو إن له شبهاً؟ وهذا من التمويه على الرعاع والسفل يموهون بمثل هذا على الجهال يوهمونهم أن من وصف الله بما وصف به نفسه في محكم تنزيله أو على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم -، فقد شبه الخالق بالمخلوق، وكيف يكون خلقه مثله -يا ذوي الحجا-؟ يقول الله القديم لم يزل والخلق محدث مربوب، والله الرزاق والخلق مرزوقون، والله الدائم الباقي وخلقه هالك غير باقٍ، والله الغني عن جميع خلقه والخلق كلهم فقراء إلى خالقهم، وليس في تسميتنا بعض الخلق ببعض أسامي الله بموجب عند العقلاء الذين يعقلون عن الله خطابه أن يقال: إنكم شبهتم الله بخلقه؛ إذ أوقعتم بعض أسامي الله على بعض خلقه. وهل يمكن عند هؤلاء الجهال حل هذه الأسامي من المصاحف، أو محوها من صدور أهل القرآن، أو ترك تلاوتها في المحاريب والكتاتيب، وفي الجدور والبيوت؟ أليس قد أعلمنا منزل القرآن على نبيه - صلى الله عليه وسلم - أنه الملك، وسمى بعض عبيده ملكاً، وخبرنا أنه السلام وسمى تحية المؤمنين بينهم سلاماً في الدنيا وفي الجنة؛ فقال: {تحيتهم يوم يلقونه سلام} (1) ونبينا المصطفى - صلى الله عليه وسلم - قد كان يقول بعد فراغه من تسليم الصلاة: "اللهم أنت السلام ومنك السلام" (2)، وقال عز وجل: {ولا تَقُولُوا لِمَنْ ألقى إليكم السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} (3)؛ فثبت بخبر الله أن الله هو السلام كما في قوله: {السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ
_________
(1) الأحزاب الآية (44).
(2) أخرجه: أحمد (6/ 184) ومسلم (1/ 414/592) وأبو داود (2/ 176/1512) والترمذي (2/ 95 - 96/ 298 - 299) والنسائي (3/ 78/1337) وابن ماجه (1/ 298/924) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(3) النساء الآية (94) ..
(5/45)
المهيمن} (1)، وأوقع هذا الاسم على غير الخالق البارئ. وأعلمنا عز وجل أنه المؤمن، وسمى بعض عباده المؤمنين فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} (2) وقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ ورسوله} (3) الآية، وقال: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} (4) وقال: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (5)، وقد ذكرنا قبل أن الله خبر أنه سميع بصير، وقد أعلمنا أنه جعل الإنسان سميعاً بصيراً فقال: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} إلى قوله: {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} (6). والله الحكم العدل، وخبرنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - أن عيسى بن مريم ينزل قبل قيام الساعة "حكماً عدلاً، وإماماً مقسطاً" (7)، والمقسط أيضاً اسم من أسامي الله عز وجل في خبر أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أسامي الرب عز وجل
_________
(1) الحشر الآية (23).
(2) الأنفال الآية (2).
(3) النور الآية (62).
(4) الحجرات الآية (9).
(5) الأحزاب الآية (35).
(6) الإنسان الآيتان (1و2).
(7) أخرجه: أحمد (2/ 240) والبخاري (4/ 520/2222) ومسلم (1/ 135/155) والترمذي (4/ 439/2233) وابن ماجه (2/ 1363/4078) من حديث أبي هريرة.
(5/46)
منه: "والمقسط" (1)،
وقال في ذكر الشقاق بين الزوجين: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} (2)؛ فأوقع اسم الحكم على حكمي الشقاق، والله العدل، وأمر عباده بالعدل والإحسان، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد خبر "أن المقسطين في الدنيا على منابر من لؤلؤ، أو من نور يوم القيامة" (3)؛ فاسم المقسط قد أوقعه النبي - صلى الله عليه وسلم - على بعض أوليائه الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا، وفي خبر عياض بن حمار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أهل الجنة ثلاثة عفيف متصدق، وذو سلطان مقسط، ورجل رحيم
_________
(1) أخرجه: الترمذي (5/ 496/3507) وابن ماجه (2/ 1269/3861) من حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة، هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن ... " وسرد الأسماء في الحديث.
قال البوصيري في الزوائد: "لم يخرج أحد من الأئمة الستة عدد أسماء الله الحسنى من هذا الوجه ولا من غيره، غير ابن ماجه والترمذي، مع تقديم وتأخير، وطريق الترمذي أصح شيء في الباب، قال: وإسناد طريق ابن ماجه ضعيف، لضعف عبد الملك بن محمد".
وقال الترمذي: "هذا حديث غريب: حدثنا به غير واحد عن صفوان بن صالح ولا نعرفه إلا من حديث صفوان بن صالح، وهو ثقة عند أهل الحديث، وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا نعلم في كثير شيء من الروايات له إسناد صحيح ذكر الأسماء إلا في هذا الحديث.
وأخرجه أيضاً الحاكم (1/ 16) وقال: "هذا حديث قد خرجاه في الصحيحين بأسانيد صحيحة دون ذكر الأسامي فيه، والعلة فيه عندهما أن الوليد بن مسلم تفرد بسياقته بطوله، وذكر الأسامي فيه ولم يذكرها غيره، وليس هذا بعلة".
وتعقبه الحافظ ابن حجر في الفتح (11/ 258): "وليست العلة عند الشيخين تفرد الوليد فقط بل الاختلاف فيه والاضطراب وتدليسه واحتمال الإدراج، قال البيهقي: يحتمل أن يكون التعيين وقع من بعض الرواة في الطريقين معاً، ولهذا وقع الاختلاف الشديد بينهما، ولهذا الاحتمال ترك الشيخان تخريج التعيين ... والوليد بن مسلم أوثق من عبد الملك بن محمد الصنعاني، ورواية الوليد تشعر بأن التعيين مدرج ... ".
(2) النساء الآية (35).
(3) أخرجه: أحمد (2/ 159و160و203) ومسلم (3/ 1458/1827) والنسائي (8/ 612 - 613/ 5394) من حديث عبد الله بن عمرو.
(5/47)
رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم" (1)، حدثناه أبو موسى قال حدثنا محمد بن أبي عدي قال حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن مطرف عن عياض بن حمار المجاشعي قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول، قال أبو بكر: وإن المقسط اسم من أسامي ربنا جل وعلا، وبارئنا الحكيم أواه منيب، وأعلمنا أن نبينا المصطفى محمداً - صلى الله عليه وسلم - رؤوف رحيم؛ فقال في وصفه: {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (2) والله الشكور، وسمى بعض عباده الشكور، والله العلي وقال في مواضع من كتابه يذكر نفسه عز وجل: {إِنَّهُ عليٌّ حكيمٌ} (3)،وقد يسمى بهذا الاسم كثير من الآدميين لم نسمع عالماً ورعاً زاهداً فاضلاً فقيهاً ولا جاهلاً أنكر على أحد من الآدميين تسمية ابنه عليّاً، ولا كره أحد منهم هذا الاسم للآدميين، قد دعا النبي المصطفى - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب باسمه حين وجه إليه قال: "ادع لي عليّاً" (4). والله الكبير وجميع المسلمين يوقعون اسم الكبير على أشياء ذوات عدد من المخلوقين يوقعون اسم الكبير على الشيخ الكبير وعلى الرئيس وعلى كل عظيم وكبير
_________
(1) أخرجه: أحمد (4/ 162) ومسلم (4/ 2197 - 2198/ 2865) والنسائي في الكبرى (5/ 26/8070) من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه، ورواه أبو داود (5/ 203/4895) وابن ماجه (2/ 1399/4179) مختصراً دون ذكر موضع الشاهد.
(2) التوبة الآية (128).
(3) الشورى الآية (51) ..
(4) أخرجه: البخاري (6/ 137 - 138/ 2942) ومسلم (4/ 1872/2406) وأبو داود (4/ 69/3661) والنسائي في الكبرى (5/ 46/8149) من حديث سهل بن سعد.
(5/48)
من الحيوان وغيرها، ذكر الله قول إخوة يوسف للملك {إِنَّ لَهُ أَبًا شيخًا كبيرًا} (1)، وقالت الخثعمية للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن فريضة الله على عباده أدركت أبي شيخاً كبيراً" (2) فلم ينكر النبي - صلى الله عليه وسلم - عليها تسميتها أباها كبيراً ولا قال لها: إن الكبير اسم من أسامي الله، وفي قصة شعيب {وَأَبُونَا شيخٌ كبيرٌ} (3) وربنا عز وجل الكريم والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد أوقع اسم الكريم على جماعة من الأنبياء فقال: "إن الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق ابن إبراهيم" (4)، وقال عز وجل: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} (5) فسمى النبي - صلى الله عليه وسلم - كل واحد من هؤلاء الأنبياء كريماً والله الحكيم، وسمى كتابه حكيماً فقال: {الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} (6)، وأهل القبلة يسمون لقمان الحكيم إذ الله أعلم أنه آتاه الحكمة فقال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} (7)، وكذلك العلماء يقولون: قال الحكيم من الحكماء،
_________
(1) يوسف الآية (78).
(2) أخرجه: أحمد (1/ 219) والبخاري (3/ 482/1513) ومسلم (2/ 973/1334) وأبو داود (2/ 400 - 402/ 1809) والنسائي (5/ 124/2634) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وفي الباب عن الفضل بن عباس وعلي وبريدة وحصين بن عوف وأبي رزين وسودة.
(3) القصص الآية (23).
(4) أخرجه: أحمد (2/ 96) والبخاري (8/ 461/4688) من حديث ابن عمر. وفي الباب عن أبي هريرة.
(5) لقمان الآية (10) ..
(6) لقمان الآية (2).
(7) لقمان الآية (12).
(5/49)
ويقولون: فلان حكيم من الحكماء. والله جل وعلا الشهيد، وسمى الشهود الذين يشهدون على الحقوق شهوداً فقال: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} (1) وقال أيضاً: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} (2)، وسمى الله عز وجل ثم نبيه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وجميع أهل الصلاة المقتول في سبيل الله شهيداً. والله الحق فقال عز وجل: {فالحق وَالْحَقَّ أَقُولُ} (3) وقال: {فتعالى اللَّهُ الْمَلِكُ الحق} (4) وقال عز وجل: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} (5) وقال: {وَبِالْحَقِّ أنزلناه وَبِالْحَقِّ نزل} (6) وقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} (7) وقال: {وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ} (8) وقال:
_________
(1) البقرة الآية (282).
(2) النساء الآية (41).
(3) ص الآية (84).
(4) المؤمنون الآية (116).
(5) سبأ الآية (6).
(6) الإسراء الآية (105).
(7) محمد الآية (2).
(8) محمد الآية (3).
(5/50)
{وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} (1) وقال: {الْمُلْكُ يومئذٍ الحق لِلرَّحْمَنِ} (2) وقال: {ولا يأتونك بِمَثَلٍ إِلًّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ} (3) وقال: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} (4) وقال جل وعلا لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} (5)؛ فكل صواب وعدل في حكم وفعل ونطق؛ فاسم الحق واقع عليه، وإن كان اسم الحق اسماً من أسامي ربنا عز وجل لا يمنع أحد من أهل القبلة من العلماء من إيقاع اسم الحق على كل عدل وصواب. والله الوكيل كما قال عز وجل: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (6)، والعرب لا تمانع بينها من إيقاع اسم الوكيل على من يتوكل لبعض بني آدم، والنبي - صلى الله عليه وسلم - في خبر جابر قد قال له: "اذهب إلى وكيلي بخيبر" (7)، وفي أخبار فاطمة بنت قيس في مخاطبتها النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أعلمته أن زوجها طلقها قالت: "وأمر
_________
(1) الحج الآية (54) ..
(2) الفرقان الآية (26).
(3) الفرقان الآية (33).
(4) الصف الآية (9).
(5) النساء الآية (105).
(6) الأنعام الآية (102).
(7) أخرجه: أبو داود (4/ 47 - 48/ 3632) والدارقطني (4/ 154 - 155) والبيهقي (6/ 80) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما بلفظ: "إذا أتيت وكيلي بخيبر"، والحديث أعله ابن القطان بابن إسحاق وضعفه الشيخ الألباني رحمه الله تعالى في ضعيف أبي داود رقم (784).
(5/51)
وكيله أن يعطي شيئاً، وأنها استقلت ما أعطاها وكيل زوجها" (1)، والعجم أيضاً يوقعون اسم الوكيل على من يتوكل لبعض الآدميين كإيقاع العرب سواء.
وأعلم الله أنه مولى الذين آمنوا في قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} (2) وقال عز وجل: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} (3) فأوقع اسم الموالي على العصبة، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من كنت مولاه فعلي مولاه" (4)، وقد أمليت هذه الأخبار في فضائل علي ابن أبي طالب. وقال - صلى الله عليه وسلم - لزيد بن حارثة لما اشتجر جعفر وعلي بن أبي طالب وزيد بن حارثة في ابنة حمزة قال لزيد: "أنت أخونا ومولانا" (5) فأوقع اسم المولى أيضاً على مولى من أسفل كما يقع اسم المولى على المولى من أعلى؛ فكل معتق قد يقع عليه اسم مولى، ويقع على المعتق اسم مولى، وقال - صلى الله عليه وسلم - في خبر عائشة: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها
_________
(1) أخرجه: أحمد (6/ 412) ومسلم (2/ 1114/1480) وأبو داود (2/ 712 - 714/ 2284) والنسائي (6/ 383 - 385/ 3245) من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن عن فاطمة بنت قيس به.
(2) محمد الآية (11).
(3) النساء الآية (33).
(4) أخرجه: أحمد (1/ 118) والترمذي (5/ 591/3713) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي في الكبرى (5/ 134/8478) وصححه ابن حبان (15/ 375 - 376/ 6931).
(5) أخرجه: أحمد (4/ 291و298) والبخاري (7/ 635/4251) ومسلم (3/ 1409/1783) وأبو داود (2/ 415/1832) والترمذي (3/ 275/938) مختصراً، كلهم من طريق أبي إسحاق السبيعي عن البراء بن عازب رضي الله عنه.
(5/52)
فنكاحها باطل" (1)؛
فقد أوقع الله ثم رسوله ثم جميع العرب والعجم اسم المولى على بعض المخلوقين، والله جل وعلا الوليّ، وقد سمى الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - وليّاً فقال: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} (2) الآية، فسمى الله هؤلاء المؤمنين أيضاً الذين وصفهم في هذه الآية أولياء المؤمنين، وأعلمنا أيضاً ربنا عز وجل أن بعض المؤمنين أولياء بعض في قوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أولياء بَعْضٍ} (3) وقال عز وجل: {النَّبِيُّ أولى بالمؤمنين من أَنْفُسِهِمْ} (4). والله جل وعلا الحي، واسم الحي قد يقع أيضاً على كل ذي روح قبل قبض النفس وخروج الروح منه قبل الموت قال الله تبارك وتعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} (5) واسم الحي قد يقع أيضاً على الموتان قال الله تعالى: {وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} (6) وقال الله تعالى:
_________
(1) أخرجه: أحمد (6/ 47و165 - 166) وأبو داود (2/ 566/2083) والترمذي (3/ 407 - 408/ 1102) وقال: "هذا حديث حسن". والنسائي في الكبرى (3/ 285/5394) وابن ماجه (1/ 605/1879) وابن حبان (9/ 384/4074 الإحسان). من طرق عن عائشة رضي الله عنها ..
(2) المائدة الآية (55).
(3) التوبة الآية (71).
(4) الأحزاب الآية (6).
(5) الروم الآية (19).
(6) النحل الآية (65).
(5/53)
{وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} (1) وقال - صلى الله عليه وسلم -: "من أحيا أرضاً ميتة فهي له" (2).
والله الواحد وكل ما له عدد من الحيوان والموتان فاسم الواحد قد يقع على كل واحد من جنس منه إذا عد قيل واحد واثنان وثلاثة إلى أن ينتهي العدد إلى ما انتهى إليه وإذا كان واحد من ذلك الجنس قيل: هذا واحد، وكذلك يقال هذا الواحد صفته كذا وكذا، لا تمانع العرب في إيقاع اسم الواحد على ما بينت، وربنا جل وعلا الوالي، وكل من له ولاية من أمر المسلمين فاسم الوالي واقع عليه عند جميع أهل الصلاة من العرب. وخالقنا عز وجل التواب قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} (3) وقد سمى الله جميع من تاب من الذنوب توّاباً فقال: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (4)، ومعقول عند كل مؤمن أن هذا الاسم الذي هو اسم الله ليس هو على معنى ما سمى الله التائبين به؛ لأن الله إنما أخبر أنه يحب التوابين أي من الذنوب والخطايا، وجل ربنا وعز أن يكون اسم التواب له على المعنى الذي خبر أنه يحب التوابين من المؤمنين. ومعبودنا جل جلاله
_________
(1) الأنبياء الآية (30).
(2) أحمد (3/ 304) والترمذي (3/ 663 - 664/ 1379) وقال: "حسن صحيح". والنسائي في الكبرى (3/ 404/5757). وصححه ابن حبان (11/ 616/5205) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
وأخرجه من حديث سعيد بن زيد: أبو داود (3/ 454/3073) والترمذي (3/ 662 - 663/ 1378) وقال: "حسن غريب". والنسائي في الكبرى (3/ 405/5761). ومن حديث عائشة: أحمد (6/ 120) والبخاري (5/ 22/2335) بلفظ: "من أعمر أرضاً ليست لأحد فهو أحق".
(3) النساء الآية (16).
(4) البقرة الآية (222).
(5/54)
الغنيّ قال الله تعالى: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} (1) واسم الغني قد يقع على كل من قد أغناه الله تعالى بالمال وقال جل وعلا ذكره: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} (2) وقال: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ} (3)، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - عند بعثه معاذاً إلى اليمن: "أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم" (4)، وقال ضمام ابن ثعلبة للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "آلله أمرك أن تأخذ الصدقة من أغنيائنا فتردها على فقرائنا؟ قال: نعم" (5).
وربنا جل وعلا النور، وقد سمى الله بعض خلقه نوراً فقال: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} وقال: {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} (6) وقال: {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ
_________
(1) محمد الآية (38).
(2) النور الآية (33).
(3) التوبة الآية (93) ..
(4) أحمد (1/ 233) والبخاري (3/ 333/1395) ومسلم (1/ 50/19) وأبو داود (2/ 242 - 243/ 1584) والترمذي (3/ 21/625) وقال: "حديث ابن عباس حديث حسن صحيح" وأيضاً في: (4/ 323/2014) مختصراً وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي (5/ 5 - 6/ 2434) وابن ماجه (1/ 568/1783).
(5) أخرجه: أحمد (3/ 168) والبخاري (1/ 197/63) وأبو داود (1/ 326 - 327/ 486) مختصراً. والنسائي (4/ 428/2091) وابن ماجه (1/ 449/1402) من طريق شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن أنس به.
وأخرج نحوه أحمد (3/ 143) والبخاري (1/ 197) تعليقاً. ومسلم (1/ 41 - 42/ 12) والترمذي (3/ 14 - 15/ 619) والنسائي (4/ 427/2090) من طريق ثابت عن أنس به.
(6) النور الآية (35).
(5/55)
وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} (1) وقال: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} (2)، قال أبو بكر: قد كنت خبرت منذ دهر طويل أن بعض من كان يدعي العلم ممن كان لا يفهم هذا الباب يزعم أنه غير جائز أن يقرأ {اللهُ نَوَّرَ السمواتِ والأرضَ} (3) وكان يقرأ ((اللهُ نَوَّرَ السمواتِ والأرضَ)) فبعثت إليه بعض أصحابي، وقلت له: قل له: ما الذي تنكر أن يكون لله عز وجل اسم يسمي الله بذلك الاسم بعض خلقه؟ فقد وجدنا الله قد سمى بعض خلقه بأسماء هي له أسامي. وبعثت له بعض ما قد أمليته في هذا الفصل، وقلت للرسول: قل له: قد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإسناد الذي لا يدفعه عالم بالأخبار ما يثبت أن الله نُور السموات والأرض، قلت: في خبر طاوس عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو: "اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيم السموات والأرض ومن فيهن" الحديث بتمامه (4) قد أمليته في كتاب الدعوات وفي كتاب الصلاة أيضاً، فرجع الرسول فقال: لست أنكر أن يكون الله تعالى نوراً، كما قد بلغني بعد أنه رجع.
قال أبو بكر: وكل من فهم عن الله خطابه يعلم أن هذه الأسامي التي
_________
(1) التحريم الآية (8).
(2) الحديد الآية (12).
(3) النور الآية (35).
(4) أحمد (1/ 298و308) والبخاري (3/ 3/1120) ومسلم (1/ 532 - 533/ 769) والترمذي (5/ 449/3418) والنسائي (3/ 231 - 232/ 1618) وابن ماجه (1/ 430/1355) من حديث ابن عباس.
(5/56)
هي لله تعالى أسامي، بين الله ذلك في كتابه وعلى لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - مما قد أوقع تلك الأسامي على بعض المخلوقين ليس على معنى تشبيه المخلوق بالخالق؛ لأن الأسامي قد تتفق وتختلف المعاني؛ فالنور وإن كان اسماً لله فقد يقع اسم النور على بعض المخلوقين، فليس معنى النور الذي هو اسم الله في المعنى مثل النور الذي هو خلق لله، قال الله جل وعلا: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} (1)، واعلم أيضاً أن لأهل الجنة نوراً يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، وقد أوقع الله اسم النور على معان. وربنا جل وعلا الهادي وقد سمى بعض خلقه هادياً فقال عز وجل لنبيه: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} (2) فسمى نبيه - صلى الله عليه وسلم - هادياً وإن كان الهادي اسماً لله عز وجل، والله الوارث قال الله تعالى: {وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} (3) وقد سمى الله من يرث من الميت ماله وارثاً فقال عز وجل: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} (4).
فتفهّموا يا ذوي الحجا ما يثبت في هذا الفصل تعلموا وتستيقنوا أن لخالقنا عز وجل أسامي قد تقع تلك الأسامي على بعض خلقه في اللفظ لا على المعنى على ما قد ثبت في هذا الفصل من الكتاب والسنة ولغة العرب؛ فإن كان علماء الآثار الذين يصفون الله بما وصف به نفسه وعلى لسان نبيه
_________
(1) النور الآية (35).
(2) الرعد الآية (7).
(3) الأنبياء الآية (89).
(4) البقرة الآية (232).
(5/57)
- صلى الله عليه وسلم - مشبهة على ما يزعم الجهمية المعطلة؛ فكل أهل القبلة إذا قرؤوا كتاب الله فآمنوا به بإقرار باللسان وتصديق بالقلب، وسموا الله بهذه الأسامي التي سماهم الله بها هم مشبهة، فعود مقالتهم هذه توجب أن على أهل التوحيد الكفر بالقرآن وترك الإيمان به، وتكذيب القرآن بالقلوب، والإنكار بالألسن؛ فأقذر بهذا من مذهب! وأقبح بهذه الوجوه عندهم عليهم لعائن الله، وعلى من ينكر جميع ما وصف الله به نفسه في محكم تنزيله، والكفر بجميع ما ثبت عن نبينا المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بنقل أهل العدالة موصولاً إليه في صفات الخالق جل وعلا! (1)
موقفه من المرجئة:
جاء في كتاب الأباطيل: فخرج من ناحية سجستان بأصحابه -يعني: محمد بن كرّام-، وامتد إلى أرض نيسابور، فاستقبله أهلها بالرحب، وتمسحوا به!! وقبلوه أحسن قبول، وعظمت الفتنة على الخاصة، وأهل العلم به، وأعياهم أمره، فاجتمعوا إلى أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة، وكان شيخ الوقت غير مدافع، وإماماً في سائر العلوم الدينية، وكان الساماني ملك الشرق، يكتب إليه: "إمام الأئمة وحبر هذه الأمة" فحين استفحل أمر ابن كرام، وانتشر قوله في أعمال نيسابور، كاتب محمد بن إسحاق السلطان، وأن البلية قد عظمت على العامة بهذا الرجل، وأمره يزداد كل يوم انتشاراً، فكتب السلطان إلى نائبه بنيسابور: أن يمتثل جميع ما يأمره به الشيخ محمد بن إسحاق، ولا يخالفه في شيء يشير إليه، فجمع أهل العلم واستشارهم،
_________
(1) التوحيد (21 - 36).
(5/58)
فقالوا: ليس نجد رأياً أرشد من رأي الأمير إبراهيم بن الحصين في إخراجه من الناحية. فأمر الأمير بإخراجه، فخرج معه من أماثل نيسابور خلق كثير، قيل: ثمان مائة كنيسة من جلة الناس غير التبع، وامتد على حاله إلى بيت المقدس، وسكن هناك إلى أن مات. (1)
أبو إسحاق الزَّجَّاج (2) (311 هـ)
هو إبراهيم بن السري بن سهل، أبو إسحاق الزجاج، البغدادي نحوي زمانه. كان يخرط الزجاج، ثم مال إلى النحو، فلزم المبرد وأخذ عنه، وكان المبرد يقدم الزجاج على جميع أصحابه، ثم أدب القاسم بن عبيد الله الوزير، فكان سبب غناه، ثم كان من ندماء المعتضد. وروى عنه علي بن عبد الله بن المغيرة وغيره. قال الخطيب: كان من أهل الفضل والدين، حسن الاعتقاد، جميل المذهب وله مصنفات حسان في الأدب. توفي رحمه الله في جمادى الآخرة سنة إحدى عشرة وثلاثمائة. وكان آخر ما سمع منه قوله: اللهم احشرني على مذهب أحمد بن حنبل رضي الله عنه.
موقفه من الجهمية:
قال أبو إسحاق الزجاج: أجمع أهل السنة على الإيمان بالميزان وأن أعمال العباد توزن يوم القيامة، وأن الميزان له لسان وكفتان ويميل بالأعمال،
_________
(1) كتاب الأباطيل والمناكير للهمذاني (ص.139).
(2) تاريخ بغداد (6/ 89 - 83) وتاريخ الإسلام (حوادث 311 - 320/ص.407 - 408) والوافي بالوفيات (5/ 347 - 350) ووفيات الأعيان (1/ 49 - 50) والبداية والنهاية (11/ 159 - 160) وبغية الوعاة (1/ 411 - 413).
(5/59)
وأنكرت المعتزلة الميزان وقالوا: هو عبارة عن العدل، فخالفوا الكتاب والسنة لأن الله أخبر أنه يضع الموازين لوزن الأعمال ليرى العباد أعمالهم ممثلة ليكونوا على أنفسهم شاهدين. (1)
السَّرَّاج (2) (313 هـ)
محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن مهران الإمام الحافظ الثقة محدث خراسان، أبو العباس الثقفي مولاهم الخراساني، مولده سنة ثماني عشرة ومائتين وقيل غير ذلك. سمع من إسحاق بن سعيد ومحمد بن بكار بن الريان وخلق سواهم. وحدث عنه البخاري، ومسلم خارج الصحيحين، وأبو حاتم الرازي أحد شيوخه، وأبو بكر بن أبي الدنيا وخلق كثير. قال الخطيب: كان من الثقات الأثبات، عني بالحديث وصنف كتبا كثيرة، وهي معروفة. قال الصعلوكي: كنا نقول: السَّرَّاج كالسِّراج، وكان يقول: حدثنا أبو العباس الأوحد في فنه، الأكمل في وزنه. وقال ابن أبي حاتم: أبو العباس السراج صدوق ثقة. توفي رحمه الله تعالى في شهر ربيع الآخر سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة.
موقفه من الجهمية:
- جاء في السير: قال أبو عبد الله الحاكم: سمعت أبي يقول: لما ورد
_________
(1) الفتح (13/ 538).
(2) تاريخ بغداد (1/ 248 - 252) وتذكرة الحفاظ (2/ 731 - 735) والسير (14/ 388 - 398) والوافي بالوفيات (2/ 187 - 188) والبداية والنهاية (11/ 164).
(5/60)
الزعفراني، وأظهر خلق القرآن، سمعت السراج يقول: العنوا الزعفراني. فيضج الناس بلعنته. فنزح إلى بخارى. (1)
- وفيها: قال الحاكم: وسمعت أبا سعيد بن أبي بكر يقول: لما وقع من أمر الكلابية ما وقع بنيسابور، كان أبو العباس السراج، يمتحن أولاد الناس، فلا يحدث أولاد الكلابية، فأقامني في المجلس مرة فقال: قل: أنا أبرأ إلى الله تعالى من الكلابية. فقلت: إن قلت هذا لا يطعمني أبي الخبز، فضحك وقال: دعوا هذا. (2)
- عن أحمد بن محمد الخفاف، حدثنا أبو العباس السراج إملاء قال: من لم يقر بأن الله تعالى يعجب، ويضحك، وينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا، فيقول: "من يسألني فأعطيه" (3) فهو زنديق كافر، يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه، ولا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين.
أبو علي السِّنْجِي (4) (315 هـ)
الحافظ أبو علي الحسين بن محمد بن مصعب السنجي المروزي. حدث عن علي بن خشرم، ويحيى بن حكيم المقوم وأبي سعيد الأشج. حدث عنه أبو حاتم البستي في كتبه، وزاهر بن أحمد السرخسي، وأحمد بن عبد الله
_________
(1) السير (14/ 394) والتذكرة (2/ 733).
(2) السير (14/ 395) والتذكرة (2/ 733 - 734).
(3) انظر تخريجه في مواقف حماد بن سلمة سنة (167هـ).
(4) السير (14/ 413 - 415) والأنساب (3/ 318) وتذكرة الحفاظ (3/ 801) وتاريخ الإسلام (حوادث 311 - 320/ص.492).
(5/61)
النعيمي. قال عنه ابن ماكولا: ما كان بخراسان أحد أكثر حديثاً منه. توفي سنة خمس عشرة وثلاثمائة.
موقفه من المبتدعة:
جاء في السير: وكان لا يكاد يحدث أهل الرأي؛ لأنهم يسمعون الحديث، ويعدلون عنه إلى القياس. (1)
أبو بكر بن أبي داود (2) (316 هـ)
عبد الله بن أبي داود سليمان بن الأشعث، الإمام العلامة الحافظ شيخ بغداد، أبو بكر الحافظ ابن الحافظ السِّجِسْتَاني. ولد بسجستان سنة ثلاثين ومائتين، ونشأ بنيسابور وغيرها. سمع من محمد بن أسلم الطوسي وهو أول شيخ سمع منه. وروى عن أبيه وعمه وعيسى بن حماد زغبة، وأحمد بن صالح وخلق كثير بخراسان والحجاز والعراق ومصر والشام وأصبهان وفارس. وحدث عنه خلق كثير منهم: ابن حبان، وأبو أحمد الحاكم، وأبو الحسن الدارقطني وآخرون. كان أبو بكر من بحور العلم، بحيث إن بعضهم فضله على أبيه، صنف 'السنن' و'المصاحف' و'شريعة المقارئ' و'الناسخ والمنسوخ' و'البعث' وأشياء. كذبه أبوه، وعلق الذهبي قائلا: لعل قول أبيه فيه -إن صح- أراد الكذب في لهجته، لا في الحديث. فإنه حجة فيما ينقله، أو كان
_________
(1) السير (14/ 414).
(2) تاريخ بغداد (9/ 464 - 468) وطبقات الحنابلة (2/ 51 - 55) وسير أعلام النبلاء (13/ 221 - 237) ووفيات الأعيان (2/ 404 - 405) وميزان الاعتدال (2/ 433 - 436).
(5/62)
يكذب ويوري في كلامه، ومن زعم أنه لا يكذب أبدا فهو أرعن، نسأل الله السلامة من عثرة الشباب، ثم إنه شاخ وارعوى، ولزم الصدق والتقى. مات أبو بكر وهو ابن ست وثمانين سنة. وصلى عليه مطلب الهاشمي، ثم أبو عمر حمزة بن القاسم الهاشمي، ودفنوه يوم الأحد لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة من سنة ست عشرة وثلاثمائة في مقبرة باب البستان.
موقفه من المبتدعة:
قال أبو بكر بن أبي داود: أهل الرأي هم أهل البدع.
وهو القائل في قصيدته في السنة:
تمسك بحبل الله واتبع الهدى ... ولا تك بدعيّاً لعلك تفلح
وَدِنْ بكتاب الله والسنن التي ... أتت عن رسول الله تنجو وتربح
إلى أن قال:
ودع عنك آراء الرجال وقولهم ... فقول رسول الله أزكى وأشرح
ولا تك من قوم تلهوا بدينهم ... فتطعن في أهل الحديث وتقدح
إذا ما اعتقدت الدهر يا صاح هذه ... فأنت على خير تبيت وتصبح
تنبيه:
سنورد المنظومة كاملة -بإذن الله- ضمن مواقفه رحمه الله من الجهمية. وهي متضمنة الرد على جميع الفرق المنحرفة عن سبيل السلف الصالح فنجد فيها:
(5/63)
موقفه من الرافضة والجهمية والخوارج والمرجئة والقدرية:
قال الآجري في الشريعة:
وقد كان أبو بكر بن أبي داود رحمه الله أنشدنا قصيدة قالها في السنة وهذا موضعها وأنا أذكرها ليزداد بها أهل الحق بصيرة وقوة إن شاء الله: أملى علينا أبو بكر بن أبي داود في مسجد الرصافة في يوم الجمعة لخمس بقين من شعبان سنة تسع وثلاثمائة فقال تجاوز الله عنه:
تمسك بحبل الله واتبع الهدى ... ولا تك بدعياً لعلك تفلح
وَدِنْ بكتاب الله والسنن التي ... أتت عن رسول الله تنجو وتربح
وقل: غيرُ مخلوق كلام مليكنا ... بذلك دان الأتقياء وأفصحوا
ولا تغلُ في القرآن بالوقف قائلاً ... كما قال أتباع لجهم وأسجحوا
ولا تقل: القرآن خلقٌ قراءته ...
وقل يتجلى الله للخلق جهرة ... كما البدر لا يخفى وربك أوضح
وليس بمولود وليس بوالد ... وليس له شبه تعالى المسبَّح
وقد ينكر الجهمي هذا وعندنا ... بمصداق ما قلنا حديث مصرح
رواه جرير عن مقال محمد ... فقل مثل ما قد قال في ذاك تنجح
وقد ينكر الجهمي أيضاً يمينه ... وكلتا يديه بالفواضل تنضح
وقل: ينزل الجبار في كل ليلة ... بلا كيف جل الواحد المتمدح
إلى طبق الدنيا يمنّ بفضله ... فتفرج أبواب السماء وتفتح
يقول: ألا مستغفرٌ يلقَ غافراً ... ومستمنحٌ خيراً ورزقاً فيمنح
روى ذاك قوم لا يرد حديثهم ... ألا خاب قوم كذبوهم وقبحوا
(5/64)
وقل: إن خير الناس بعد محمد ... وزيراه قِدْماً ثم عثمان الأرجَحُ
ورابعهم خير البرية بعدهم ... علي حليف الخير بالخير مُنْجِحُ
وإنهم والرهط لا ريب فيهم ... على نُجُبِ الفردوس في الخلد
سعيد وسعد وابن عوف وطلحةٌ ... تسرح وعامرُ فهرٍ والزبير الممدح
وقل خيرَ قولٍ في الصحابة كلهم ... ولا تك طعاناً تعيب وتجرح
فقد نطق الوحي المبين بفضلهم ... وفي الفتح آيٌ في الصحابة تمدح
وبالقدر المقدور أيقن فإنه ... دعامة عقد الدين والدين أفيح
ولا تُنكِرَنْ جهلاً نكيراً ومنكراً ... ولا الحوض والميزان إنك تنصح
وقل: يخرج الله العظيم بفضله ... من النار أجساداً من الفحم تطرح
على النهر في الفردوس تحيا بمائه ... كحبة حمل السيل إذ جاء يطفح
وإن رسول الله للخلق شافعٌ ... وقل في عذاب القبر: حق موضَّحُ
ولا تُكْفِرَنْ أهل الصلاة وإن عصوا ... فكلهم يعصي وذو العرش يصفح
ولا تعتقد رأي الخوارج إنه ... مقال لمن يهواه يردي ويفضح
ولا تك مرجيّاً لعوباً بدينه ... ألا إنما المرجيّ بالدين يمزح
وقل: إنما الإيمان قول ونية ... وفعل على قول النبي مصرح
وينقص طوراً بالمعاصي وتارة ... بطاعته ينمى وفي الوزن يرجح
ودع عنك آراء الرجال وقولهم ... فقول رسول الله أزكى وأشرح
ولا تك من قوم تلهّوا بدينهم إذا ... فتطعن في أهل الحديث وتقدح
ما اعتقدت الدّهرَ، يا صاحِ، هذه .... فأنت على خير تبيت وتصبح
ثم قال لنا أبو بكر بن أبي داود: هذا قولي وقول أبي وقول أحمد بن
(5/65)
حنبل وقول من أدركنا من أهل العلم ومن لم ندرك ممن بلغنا عنه، فمن قال عليّ غير هذا فقد كذب. (1)
أبو الفضل الجَارُودي الهَرَوِيّ (2) (317 هـ)
الحافظ، الإمام محمد بن أبي الحسين أحمد بن محمد بن عمار الجارودي الهروي، سمع أحمد بن نجدة، والحسين بن إدريس، ومعاذ بن المثنى، ومحمد بن المظفر البغدادي، وآخرين. وسمع منه أبو علي الحافظ، وأبو الحسين الحجاجي، وعبد الله بن سعد، ومحمد بن أحمد بن حماد الكوفي، وغيرهم. إمام كبير عارف بعلل الحديث له جزء فيه بضعة وثلاثون حديثاً من الأحاديث التي بين عللها في صحيح مسلم. قتل شهيداً رحمه الله تعالى على يد القرامطة لعنهم الله وذلك سنة سبع عشرة وثلاثمائة.
موقفه من الرافضة:
قال الحاكم: سمعت بكير بن أحمد الحداد بمكة يقول: كأني أنظر إلى الحافظ أبي الفضل محمد بن الحسين وقد أخذته السيوف وهو متعلق بيديه جميعا بحلقتي الباب حتى سقط رأسه على عتبة الكعبة سنة ثلاث وعشرين. كذا أرخ، وإنما كان ذلك في سنة سبع عشرة وثلاث مائة، أرخه جماعة، قتلته القرامطة لعنهم الله وأخاه أحمد وقتلوا حول الحرم ألوفاً من الحجيج
_________
(1) الشريعة (3/ 591 - 593) والطبقات (2/ 53 - 54) والسير (13/ 233).
(2) تذكرة الحفاظ (3/ 834 - 835) والسير (14/ 538 - 540) والوافي بالوفيات (2/ 37).
(5/66)
واقتلعوا الحجر وأخذوه معهم. (1)
محمد بن محمد بن خالد المعروف بالطرزي (2) (317 هـ)
أبو القاسم محمد بن محمد بن خالد القيسي المعروف بالطرزي، القاضي الزاهد مولى بني معبد. سمع من محمد بن سحنون كثيراً. ولاّه عيسى بن مسكين على مظالم القيروان، وولاّه حماس بعده عشر سنين، ثم ولي قضاء صقلية. وكان شديد الضبط مغيراً للمنكر. قال ابن حارث الحافظ: صحبناه وقد هرم، وقرأنا عليه بعض كتاب ابن سحنون في خفية، وتوارى لما كنا فيه، يعني خوفاً من بني عبيد الرافضة. وكان كثيراً ما يتمثل بهذين البيتين:
إذا خان الأمير وكاتباه ... وقاضي الأرض داهن في القضاء
فويل للأمير وكاتبيه ... وقاضي الأرض من قاضي السماء
وكان قليل ذات اليد. امتحن على يد قاضي الشيعة، ضربه في الجامع على رأس الناس، وحبسه مع أهل الجرائم. مات رحمه الله ولم يكن له كفن!! وذلك سنة سبع عشرة وثلاثمائة في شهر رمضان.
موقفه من الرافضة:
جاء في المعالم: كانت له محنة؛ ضربه القاضي المروزي هو وابن بطريقة بالسياط عند الجامع، بغضاً منه في أهل السنة وعداوة لعلماء المسلمين!!
قلت -أي التنوخي-: وزاد غيره وضربه أيضاً هو وابن سلمون القطان
_________
(1) التذكرة (3/ 835).
(2) معالم الإيمان (3/ 9 - 11) وتاريخ الإسلام (حوادث 311 - 320/ص.552) وترتيب المدارك (5/ 103 - 105).
(5/67)
والخلافي المحتسب وقوماً مرابطين من أهل تونس وكان قتل المروزي بسببهم، وذلك أن عبيد الله إمام الشيعة لما أتى إلى القيروان من سجلماسة وجده قاضياً ووجد في سجنه من ذكر، وأظهر أن سببه القدح في الدولة فعزله وعذبه ثم قتله. (1)
محمد بن الفضل البلخي (2) (317 هـ)
أبو عبد الله محمد بن الفضل بن العباس البلخي نزيل سمرقند. قال أبو نعيم الحافظ: سمع الكثير من قتيبة بن سعيد. من مشايخه أبو بشر محمد بن مهدي وإسماعيل بن نجيد وإبراهيم بن محمد بن عمرويه. روى عنه أبو بكر محمد بن عبد الله الرازي وأبو بكر بن المقرئ.
من أقواله: ست خصال يعرف بها الجاهل: الغضب من غير شيء والكلام في غير نفع والعطية في غير موضعها وإفشاء السر والثقة بكل أحد ولا يعرف صديقه من عدوه. وقال: من ذاق حلاوة العلم لم يصبر عنه.
مات سنة سبع عشرة وثلاث مئة.
موقفه من المبتدعة:
- قال محمد بن الفضل البلخي: أعرفهم بالله أشدهم مجاهدة في أوامره، وأتبعهم لسنة نبيه. (3)
_________
(1) المعالم (3/ 10 - 11).
(2) السير (14/ 523 - 526) وشذرات الذهب (2/ 282 - 283) والوافي بالوفيات (4/ 322) والحلية (10/ 232 - 233).
(3) الاعتصام (1/ 129).
(5/68)
- وقال أيضا: ذهاب الإسلام من أربعة: لا يعملون بما يعلمون، ويعملون بما لا يعلمون، ولا يتعلمون ما لا يعلمون، ويمنعون الناس من التعلم. (1)
" التعليق:
قال الشاطبي عقبه: هذا ما قال، وهو وصف صوفيتنا اليوم، عياذاً بالله.
وقال الذهبي: هذه نعوت رؤوس العرب والترك، وخلق من جهلة العامة، فلو عملوا بيسير ما عرفوا، لأفلحوا، ولو وقفوا عن العمل بالبدع لوفقوا، ولو فتشوا عن دينهم وسألوا أهل الذكر -لا أهل الحيل والمكر- لسعدوا، بل يعرضون عن التعلم تيهاً وكسلاً، فواحدة من هذه الخلال مردية، فكيف بها إذا اجتمعت؟ فما ظنك إذا انضم إليها كبر وفجور، وإجرام، وتجهرم على الله؟ نسأل الله العافية. (2)
موقف السلف من ابن أبي العزاقر (319 هـ)
بيان زندقته:
- جاء في السير: الزنديق المعثر، أبو جعفر، محمد بن علي، الشلمغاني الرافضي قال بالتناسخ، وبحلول الإلهية فيه، وأن الله يحل في كل شيء بقدر ما يحتمله، وأنه خلق الشيء وضده، فحل في آدم وفي إبليسه، وكل منهما ضد
_________
(1) الاعتصام (1/ 128 - 129).
(2) السير (14/ 525).
(5/69)
للآخر. وقال: إن الضد أقرب إلى الشيء من شبهه، وإن الله يحل في جسد من يأتي بالكرامات ليدل على أنه هو، وإن الإلهية اجتمعت في نوح وإبليسه، وفي صالح وعاقر الناقة، وفي إبراهيم ونمرود، وعلي وإبليسه. وقال: من احتاج الناس إليه، فهو إله. وسمى موسى ومحمداً الخائنين، لأن هارون أرسل موسى، وعلياً أرسل محمداً، فخاناهما. وإن علياً أمهل محمداً ثلاث مئة سنة ثم تذهب شريعته. ومن رأيه ترك الصلاة والصوم، وإباحة كل فرج، وأنه لا بد للفاضل أن يَنِيكَ المفضول ليولج فيه النور، ومن امتنع مسخ في الدور الثاني فربط الجهلة وتخرق، وأضل طائفة، فأظهر أمره أبو القاسم الحسين بن روح -رأس الشيعة، الملقب بالباب- إلى صاحب الزمان، فطلب ابن أبي العزاقر، فاختفى، وتسحب إلى الموصل، فأقام هناك سنين، ورجع، فظهر عنه ادعاء الربوبية، واتبعه الوزير حسين بن الوزير القاسم بن عبيد الله بن وهب - وزير المقتدر فيما قيل، وابنا بسطام، وإبراهيم بن أبي عون، فطلبوا، فتغيبوا، فلما كان في شوال من سنة اثنتين وعشرين ظفر الوزير ابن مقلة بهذا، فسجنه، وكبس داره، فوجد فيها رقاعاً وكتباً مما يدعى عليه، وفيها خطابه بما لا يخاطب به بشر، فعرضت عليه، فأقر أنها خطوطهم، وتنصل مما يقال فيها، وتبرأ منهم، فمد ابن عبدوس يده، فصفعه. وأما ابن أبي عون فمد يده إليه، فارتعدت يده، ثم قبل لحيته ورأسه وقال: إلهي، ورازقي، وسيدي. فقال له الراضي بالله: قد زعمت أنك لا تدعي الإلهية، فما هذا؟ قال: وما علي من قول هذا؟ والله يعلم أنني ما قلت له: إنني إله قط. فقال ابن عبدوس: إنه لم يدع إلهية، إنما ادعى أنه الباب إلى الإمام المنتظر.
ثم إنهم أحضروا مرات
(5/70)
بمحضر الفقهاء والقضاة، ثم في آخر الأمر أفتى العلماء بإباحة دمه، فأحرق في ذي القعدة من السنة، وضرب ابن أبي عون بالسياط، ثم ضربت عنقه وأحرق. (1)
- وفيها أيضاً: وذكرنا في الحوادث: أن في هذا العام ظهر الشلمغاني. وشلمغان: قرية من قرى واسط. فشاع عنه ادعاء الربوبية، وأنه يحيى الموتى، فأحضره ابن مقلة عند الراضي، فسمع كلامه، وأنكر ما قيل عنه. وقال: لتنزلن العقوبة على الذي باهلني بعد ثلاث، وأكثره تسعة أيام، وإلا فدمي حلال. فضرب ثمانين سوطاً، ثم قتل وصلب. وقتل بسببه وزير المقتدر، الحسين، اتهم بالزندقة. وقتل أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن هلال بن أبي عون الأنباري الكاتب. وقد كان أبو علي الحسين -ويقال: الجمال- وزر للمقتدر في سنة تسع عشرة وثلاث مائة، ولقبوه عميد الدولة، وعزل بعد سبعة أشهر، وسجن، وعقد له مجلس في كائنة الشلمغاني، ونوظر، فظهرت رِقَاعُهُ يخاطب الشلمغاني فيها بالإلهية، وأنه يحييه ويميته، ويسأله أن يغفر له ذنوبه. فأخرجت تلك الرقاع، وشهد جماعة أنه خطه، فضربت عنقه، وطيف برأسه في ذي الحجة سنة اثنتين وعشرين وثلاث مئة، وعاش ثمانياً وسبعين سنة. (2)
_________
(1) السير (14/ 566 - 568).
(2) السير (14/ 568).
(5/71)
موقف السلف من ابن مسرة (319 هـ)
بيان زندقته:
- جاء في تاريخ ابن الفرضي: اتهم بالزندقة فخرج فاراً وتردد بالمشرق مدة فاشتغل بملاقاة أهل الجدل وأصحاب الكلام والمعتزلة، ثم انصرف إلى الأندلس فأظهر نسكاً وورعاً واغتر الناس بظاهره، فاختلفوا إليه وسمعوا منه، ثم ظهر الناس على سوء معتقده وقبح (1) مذهبه، فانقبض من كان له إدراك وعلم وتمادى في صحبته آخرون غلب عليهم الجهل فدانوا بنحلته، وكان يقول بالاستطاعة وإنفاذ الوعيد ويحرف التأويل في كثير من القرآن ... وقال عنه ابن حارث: الناس في ابن مسرة فرقتان: فرقة تبلغ به مبلغ الإمامة في العلم والزهد وفرقة تطعن عليه بالبدع لما ظهر من كلامه في الوعد والوعيد وبخروجه عن العلوم المعلومة بأرض الأندلس الجارية على مذهب التقليد والتسليم. (2)
" التعليق:
ما ذكره ابن الفرضي، يدل على محاربة الأندلس للباطنية الزنادقة الذين يعيثون في الأرض فساداً، وهكذا ينبغي أن يكون العلماء في كل زمان ومكان، وقول ابن الحارث: إن أهل الأندلس كانوا على مذهب التسليم والتقليد، فيقصد بذلك أنهم كانوا على مذهب السلف، وما طرأ من ذلك
_________
(1) في المطبوع: فتح، وهو تصحيف.
(2) تاريخ ابن الفرضي (2/ 41 - 42).
(5/72)
فهو دخيل، قصده نسف الإسلام من أصله.
المقتدر بالله (1) (320 هـ)
جعفر بن المعتضد بالله أحمد بن أبي أحمد طلحة بن المتوكل على الله الهاشمي العباسي البغدادي أبو الفضل أمير المؤمنين. مولده في ليلة الجمعة لثمان بقين من رمضان سنة اثنتين وثمانين ومائتين، بويع له بالخلافة بعد أخيه المكتفي سنة خمس وتسعين ومائتين وهو ابن ثلاث عشرة سنة وشهر وأيام. كان جيد العقل صحيح الرأي ولكنه كان مؤثراً للشهوات وكان سمحاً متلافاً للأموال، محق ما لا يعد ولا يحصى. وقتل لثلاث بقين من شوال سنة عشرين وثلاثمائة. وله ثمان وثلاثون سنة.
موقفه من الرافضة:
تقدم ما فعله المقتدر بالله بالزنديق الحلاج، والآن نحن مع موقف له مع الرافضة إخوان القرامطة:
جاء في البداية والنهاية: وفي صفر منها -أي سنة ثلاثة عشر وثلاثمائة- بلغ الخليفة أن جماعة من الرافضة يجتمعون في مسجد براثي، فينالون من الصحابة ولا يصلون الجمعة ويكاتبون القرامطة ويدعون إلى محمد بن إسماعيل، الذي ظهر بين الكوفة وبغداد ويدعون أنه المهدي ويتبرأون من المقتدر ومن تبعه، فأمر بالاحتياط عليهم واستفتى العلماء بالمسجد فأفتوا بأنه
_________
(1) تاريخ بغداد (7/ 213 - 219) والسير (15/ 43 - 56) والبداية والنهاية (11/ 181 - 182) والمنتظم (13/ 308 - 309).
(5/73)
مسجد ضرار، فضرب من قدر عليه منهم الضرب المبرح ونودي عليهم وأمر بهدم ذلك المسجد المذكور فهدم، هدمه مازوك وأمر الوزير الخاقاني فجعل مكانه مقبرة فدفن فيها جماعة من الموالي. (1)
" التعليق:
جزى الله خيراً خليفة المسلمين وأثابه على غيرته في عقيدته، وأثاب الفقهاء معه، وما أحسن ما عمله من جعل المسجد مقبرة فهكذا ينبغي الآن للمسلمين أن يهدموا جميع الأوثان التي تعبد من دون الله، ويوضع مكانها حمامات أو مقابر حتى تنسى نسياناً كليّاً، ويباد الشرك ومظاهره وتختفي، لا التشجيع والتشييد، وإقامة المواسم والذبائح عندها، ولا حول ولا قوة إلا بالله اللهم اهد أمراءنا وعلماءنا.
موقف السلف من الحكيم الترمذي الصوفي (320 هـ)
بيان تصوفه:
- موقف أهل ترمذ منه:
قال أبو عبد الرحمن السلمي: أخرجوا الحكيم من ترمذ، وشهدوا عليه بالكفر، وذلك بسبب تصنيفه كتاب: 'ختم الولاية'، وكتاب 'علل الشريعة'، وقالوا: إنه يقول: إن للأولياء خاتماً كالأنبياء لهم خاتم. وإنه يفضل الولاية
_________
(1) البداية والنهاية (11/ 163).
(5/74)
على النبوة، واحتج بحديث: "يغبطهم النبيون والشهداء" (1). فقدم بلخ، فقبلوه لموافقته لهم في المذهب. (2)
" التعليق:
ما كفر من أجله، وما أخرج من أجله الحكيم الترمذي فهو اليوم يعد من الولاية والصلاح، وكتابه الذي ألفه وملأه بالكفر والضلال هو مصدر كثير من الطرق الصوفية في دعواهم أن شيخهم هو خاتم الأولياء.
وقال السلمي: هجر لتصنيفه كتاب: 'ختم الولاية'، و'علل الشريعة'، وليس فيه ما يوجب ذلك، ولكن لبعد فهمهم عنه.
قال الذهبي: كذا تكلم في السلمي من أجل تأليفه كتاب: 'حقائق التفسير'، فيا ليته لم يؤلفه، فنعوذ بالله من الإشارات الحلاجية، والشطحات البسطامية، وتصوف الاتحادية، فواحزناه على غربة الإسلام والسنة، قال الله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (2). اهـ (4)
_________
(1) أخرجه: النسائي في الكبرى (6/ 362/11236) وصححه ابن حبان (2/ 332 - 333/ 573) من حديث أبي هريرة.
(2) السير (13/ 441).
(3) الأنعام الآية (153).
(4) السير (13/ 442).
(5/75)
أبو جعفر الطحاوي (1) (321 هـ)
الإمام العلامة الحافظ الكبير صاحب التصانيف البديعة. محدث الديار المصرية وفقيهها، أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة بن سلمة بن عبد الملك، الأزدي الحجري المصري الطحاوي الحنفي. مولده في سنة تسع وثلاثين ومائتين. سمع من عبد الغني بن رفاعة وهارون الأَيلي، ويونس بن عبد الأعلى، والربيع بن سليمان المرادي ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم وطبقتهم. وبرز في علم الحديث وفي الفقه وتفقه بالقاضي أحمد بن أبي عمران الحنفي وجمع وصنف. روى عنه أحمد بن القاسم الخشاب وأبو القاسم الطبراني وأبو بكر ابن المقرئ ومحمد بن المظفر الحافظ وخلق سواهم. قال ابن يونس: وكان ثقة ثبتاً فقيهاً لم يُخَلِّفْ مثله. صنف رحمه الله 'الآثار' و'معاني الآثار' و'اختلاف العلماء' و'الشروط' و'أحكام القرآن' و'العقيدة الطحاوية' وغيرها. صحب أولاً المزني الشافعي ثم تحول إلى ابن أبي عمران. توفي رحمه الله تعالى في مستهل ذي القعدة سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة.
موقفه من المبتدعة:
- جاء في لسان الميزان: قال ابن زولاق: وسمعت أبا الحسن علي بن أبي جعفر الطحاوي يقول: سمعت أبي يقول: وذكر فضل أبي عبيد بن جرثومة وفقهه فقال: كان يذاكرني بالمسائل فأجبته يوماً في مسألة فقال لي: ما هذا قول أبي حنيفة، فقلت له: أيها القاضي أو كل ما قاله أبو حنيفة أقول
_________
(1) وفيات الأعيان (6/ 71 - 72) وتاريخ الإسلام (حوادث 321 - 330/ص.77 - 79) وتذكرة الحفاظ (3/ 808 - 811) والسير (15/ 27 - 33) والبداية والنهاية (11/ 132) وشذرات الذهب (2/ 288).
(5/76)
به؟ فقال: ما ظننتك إلا مقلداً، فقلت له: وهل يقلد إلا عصبي؟! فقال لي: أو غبي. قال: فطارت هذه الكلمة بمصر حتى صارت مثلاً وحفظها الناس. (1)
آثاره في العقيدة السلفية:
'عقيدة الإمام الطحاوي': كان لهذه العقيدة الأثر الطيب في المشرق والمغرب، وتناقلها طلبة العلم، وحظيت بعناية فائقة، فشرحت، وحقق شرحها لابن أبي العز، وكان من خير ما حققت به تحقيق الشيخ ناصر الألباني والشيخ شاكر رحمهما الله، وقد اتخذتها الجامعة الإسلامية منهجاً في جميع الكليات، ونفع الله بها الكثير من الطلاب، وقررناها ضمن المنهج العلمي لدور القرآن الكريم ببلادنا المغرب.
ومما جاء فيها من الحث على السنة وذم البدعة:
- قوله: ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام، فمن رام علم ما حظر عنه علمه، ولم يقنع بالتسليم فهمه؛ حجبه مرامه عن خالص التوحيد، وصافي المعرفة، وصحيح الإيمان، فيتذبذب بين الكفر والإيمان، والتصديق والتكذيب، والإقرار والإنكار، موسوساً تائهاً شاكّاً، لا مؤمناً مصدقاً، ولا جاحداً مكذباً.
- وقوله: ونتبع السنة والجماعة، ونجتنب الشذوذ والخلاف والفرقة.
- وقوله: وعلماء السلف من السابقين ومن بعدهم من التابعين أهل الخير والأثر، وأهل الفقه والنظر، لا يذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل.
_________
(1) لسان الميزان (1/ 280).
(5/77)
- وقوله: ونرى الجماعة حقاً وصواباً، والفُرقة زيغاً وعذاباً.
تنبيه: قال رحمه الله: والإيمان هو الإقرار باللسان، والتصديق بالجنان. وهذا هو مذهب الحنفية والماتريدية كما نبه عليه شيخنا الألباني رحمه الله فلا بد من زيادة العمل بالأركان.
موقفه من الصوفية:
قال رحمه الله في عقيدته: ولا نفضل أحداً من الأولياء على أحد من الأنبياء عليهم السلام، ونقول: نبي واحد أفضل من جميع الأولياء. ونؤمن بما جاء من كراماتهم، وصح من رواياتهم. (1)
موقفه من الجهمية:
قال أبو جعفر الطحاوي في الاعتقاد الذي قال في أوله: ذكر بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب فقهاء الملة: أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، وأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، وأبي عبد الله محمد ابن الحسن الشيباني قال فيه: وأن القرآن كلام الله، منه بدأ بلا كيفية قولاً، وأنزله على رسوله وحياً، وصدقه المؤمنون على ذلك حقاً، وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة، ليس بمخلوق ككلام البرية، فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر، وقد ذمه الله وعابه وأوعده بسقر حيث قال: {سأصليه سقر} (2)
_________
(1) شرح الطحاوية (ص.492و494).
(2) المدثر الآية (26).
(5/78)
فلمّا أوعد الله بسقر لمن قال: {إِنْ هذا إلا قول البشر} (1) علمنا وأيقنا أنه قول خالق البشر ولا يشبه قول البشر. (2)
موقفه من الخوارج:
قال في بيان عقيدة أهل السنة: ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب، ما لم يستحله، ولا نقول لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله. ونرجو للمحسنين من المؤمنين أن يعفو عنهم ويدخلهم الجنة برحمته ولا نأمن عليهم، ولا نشهد لهم بالجنة، ونستغفر لمسيئهم ونخاف عليهم ولا نقنطهم. (3)
وقال أيضاً: وأهل الكبائر من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - في النار لا يخلدون، إذا ماتوا وهم موحدون، وإن لم يكونوا تائبين، بعد أن لقوا الله عارفين مؤمنين، وهم في مشيئته وحكمه. إن شاء غفر لهم وعفا عنهم بفضله، كما ذكر عز وجل في كتابه: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (4) وإن شاء عذبهم في النار بعدله، ثم يبعثهم إلى جنته، وذلك بأن الله تعالى تولى أهل معرفته، ولم يجعلهم في الدارين كأهل نكرته، الذين خابوا من هدايته، ولم ينالوا من ولايته. اللهم يا ولي الإسلام وأهله، ثبتنا على الإسلام حتى نلقاك به.
ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة وعلى من مات منهم.
_________
(1) المدثر الآية (25).
(2) العقيدة الطحاوية.
(3) العقيدة الطحاوية (40 - 41).
(4) النساء الآية (48).
(5/79)
ولا ننزل أحداً منهم جنة ولا ناراً، ولا نشهد عليهم بكفر ولا بشرك ولا بنفاق، ما لم يظهر منهم شيء من ذلك، ونذر سرائرهم إلى الله تعالى.
ولا نرى السيف على أحد من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - إلا من وجب عليه السيف.
ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا، وإن جاروا، ولا ندعو عليهم، ولا ننزع يداً من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة، ما لم يأمروا بمعصية، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة.
ونتبع السنة والجماعة ونجتنب الشذوذ والخلاف والفرقة.
ونحب أهل العدل والأمانة، ونبغض أهل الجور والخيانة. (1)
موقفه من القدرية:
- قال رحمه الله: والجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان أبداً ولا تبيدان، وأن الله تعالى خلق الجنة والنار قبل الخلق. وخلق لهما أهلاً، فمن شاء منهم إلى الجنة فضلاً منه. ومن شاء منهم إلى النار عدلاً منه، وكل يعمل لما قد فرغ له، وصائر إلى ما خلق له. والخير والشر مقدران على العباد.
والاستطاعة التي يجب بها الفعل، من نحو التوفيق الذي لا يجوز أن يوصف المخلوق به فهي مع الفعل. وأما الاستطاعة من جهة الصحة والوسع، والتمكن وسلامة الآلات، فهي قبل الفعل، وبها يتعلق الخطاب، وهو كما قال تعالى: {لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها} (2).
_________
(1) العقيدة الطحاوية (45 - 48).
(2) البقرة الآية (286).
(5/80)
وأفعال العباد خلق الله، وكسب من العباد.
ولم يكلفهم الله تعالى إلا ما يطيقون، ولا يطيقون إلا ما كلفهم وهو تفسير: "لا حول ولا قوة إلا بالله"، نقول لا حيلة لأحد، ولا حركة لأحد ولا تحول لأحد عن معصية الله إلا بمعونة الله، ولا قوة لأحد على إقامة طاعة الله والثبات عليها إلا بتوفيق الله.
وكل شيء يجري بمشيئة الله تعالى وعلمه وقضائه وقدره. غلبت مشيئته المشيئات كلها، وغلب قضاؤه الحيل كلها، يفعل ما يشاء، وهو غير ظالم أبداً تقدس عن كل سوء وحين وتنزه عن كل عيب وشين، {لا يسئل عما يفعل وهم يسألون} (1). اهـ (2)
- وقال رحمه الله: ونؤمن باللوح والقلم وبجميع ما فيه قد رقم، فلو اجتمع الخلق كلهم على شيء كتبه الله تعالى فيه أنه كائن، ليجعلوه غير كائن -لم يقدروا عليه، ولو اجتمعوا كلهم على شيء لم يكتبه الله تعالى فيه، ليجعلوه كائناً- لم يقدروا عليه، جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة وما أخطأ العبد لم يكن ليصيبه، وما أصابه لم يكن ليخطئه.
وعلى العبد أن يعلم أن الله قد سبق علمه في كل كائن من خلقه، فقدر ذلك تقديراً محكماً مبرماً، ليس فيه ناقض. ولا معقب، ولا مزيل ولا مغير، ولا ناقص ولا زائد من خلقه في سماواته وأرضه، وذلك من عقد
_________
(1) الأنبياء الآية (23).
(2) العقيدة الطحاوية (51 - 55).
(5/81)
الإيمان. وأصول المعرفة، والاعتراف بتوحيد الله تعالى وربوبيته، كما قال تعالى في كتابه، {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فقدره تقديرًا} (1)، وقال تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قدرًا مقدورًا} (2).
فويل لمن صار لله تعالى في القدر خصيماً، وأحضر للنظر فيه قلباً سقيماً، لقد التمس بوهمه في فحص الغيب سرّاً كتيماً، وعاد بما قال فيه أفّاكاً أثيماً. (3)
- وقال: فهذا ديننا واعتقادنا ظاهراً وباطناً، ونحن براء إلى الله من كل من خالف الذي ذكرناه وبيناه. ونسأل الله تعالى أن يثبتنا على الإيمان، ويختم لنا به، ويعصمنا من الأهواء المختلفة، والآراء المتفرقة، والمذاهب الردية، مثل المشبهة والمعتزلة والجهمية والجبرية والقدرية وغيرهم، من الذين خالفوا السنة والجماعة، وحالفوا الضلالة، ونحن منهم براء، وهم عندنا ضلال وأردياء وبالله العصمة والتوفيق. (4)
موقف السلف من المهدي الرافضي عبيد الله أبي محمد (322 هـ)
بيان رفضه:
- قال الذهبي في سيره: عبيد الله أبو محمد، أول من قام من الخلفاء
_________
(1) الفرقان الآية (2).
(2) الأحزاب الآية (38).
(3) العقيدة الطحاوية (34 - 36).
(4) العقيدة الطحاوية (61 - 62).
(5/82)
الخوارج العبيدية الباطنية الذين قلبوا الإسلام، وأعلنوا بالرفض، وأبطنوا مذهب الإسماعيلية، وبثوا الدعاة، يستغوون الجبلية والجهلة. وادعى هذا المدبر، أنه فاطمي من ذرية جعفر الصادق، فقال: أنا عبيد الله بن محمد بن عبد الله بن ميمون بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد. (1)
- وفيها: قال أبو الحسن القابسي، صاحب الملخص: إن الذين قتلهم عبيد الله، وبنوه أربعة آلاف في دار النحر في العذاب من عالم وعابد ليردهم عن الترضي عن الصحابة، فاختاروا الموت. فقال سهل الشاعر:
وأحل دار النحر في أغلاله ... من كان ذا تقوى وذا صلوات
ودفن سائرهم في المنستير، وهو بلسان الفرنج: المعبد الكبير، وكانت دولة هذا بضعاً وعشرين سنة. (2)
- وفي أيام المهدي، عاثت القرامطة بالبحرين، وأخذوا الحجيج، وقتلوا وسبوا، واستباحوا حرم الله، وقلعوا الحجر الأسود. وكان عبيد الله يكاتبهم، ويحرضهم، قاتله الله. (3)
- وفيها: وحكى الوزير القفطي في سيرة بني عبيد، قال: كان أبو عبد الله الشيعي أحد الدواهي، وذلك أنه جمع مشايخ كتامة ليشككهم في الإمام، فقال: إن الإمام كان بلسمية قد نزل عند يهودي عطار يعرف بعبيد، فقام به وكتم أمره، ثم مات عبيد عن ولدين فأسلما هما وأمهما على يد
_________
(1) السير (15/ 141 - 142).
(2) السير (15/ 145).
(3) السير (15/ 147).
(5/83)
الإمام، وتزوج بها، وبقي مختفياً. وبقي الأخوان في دكان العطر. فولدت للإمام ابنين، فعند اجتماعي به سألته أي الاثنين إمامي بعدك؟ فقال: من أتاك منهما فهو إمامك. فسيرت أخي لإحضارهما، فوجد أباهما قد مات هو وابنه الواحد. فأتى بهذا. وقد خفت أن يكون أحد ولدي عبيد. فقالوا: وما أنكرت منه؟ قال: إن الإمام يعلم الكائنات قبل وقوعها. وهذا قد دخل معه بولدين. ونص الأمر في الصغير بعده، ومات بعد عشرين يوماً، يعني: الولد. ولو كان إماماً لعلم بموته. قالوا: ثم ماذا؟ قال: والإمام لا يلبس الحرير والذهب. وهذا قد لبسهما. وليس له أن يطأ إلا ما تحقق أمره. وهذا قد وطئ نساء زيادة الله، يعني: متولي المغرب. قال: فشككت كتامة في أمره، وقالوا: فما ترى؟ قال: قبضه، ثم نسير من يكشف لنا عن أولاد الإمام على الحقيقة. فأجمعوا أمرهم. وخف كبير كتامة فواجه المهدي، وقال: قد شككنا فيك، فائت بآية. فأجابه بأجوبة، قبلها عقله. وقال: إنكم تيقنتم، واليقين لا يزول إلا بيقين لا بشك. وإن الطفل لم يمت، وإنه إمامك، وإنما الأئمة ينتقلون، وقد انتقل لإصلاح جهة أخرى. قال: آمنت، فما لبسك الحرير؟ قال: أنا نائب الشرع أحلل لنفسي ما أريد، وكل الأموال لي، وزيادة الله كان عاصياً. وأما عبد الله الشيعي وأخوه، فإنهما أخذا يخببان عليه فقتلهما. وخرج عليه خلق من كتامة، فظفر بحيلة وقتلهم. (1)
- وفيها: فهذا قول، ونرجع إلى قول آخر هو أشهر. فسير -أعني: والد المهدي- أبا عبد الله الشيعي، فأقام باليمن أعواماً، ثم حج، فصادف
_________
(1) السير (15/ 145 - 147).
(5/84)
طائفة من كتامة حجاجاً، فنفق عليهم، وأخذوه إلى المغرب، فأضلهم، وكان يقول: إن لظواهر الآيات والأحاديث بواطن، هي كاللب، والظاهر كالقشر، وقال: لكل آية ظهر وبطن!! فمن وقف على علم الباطن؛ فقد ارتقى عن رتبة التكاليف!!!
وكان أبو عبد الله ذا مكر ودهاء وحيل وربط، وله يد في العلم، فاشتهر بالقيروان، وبايعته البربر، وتألهوه لزهده، فبعث إليه متولي إفريقية يخوفه ويهدده، فما ألوى عليه، فلما هم بقبضه، استنهض الذين تبعوه وحارب فانتصر مرات واستفحل أمره. (1)
- وفيها: نقل القاضي عياض في ترجمة أبي محمد الكستراتي: أنه سئل عمن أكرهه بنو عبيد على الدخول في دعوتهم أو يقتل؟ فقال: يختار القتل ولا يعذر، ويجب الفرار، لأن المقام في موضع يطلب من أهله تعطيل الشرائع، لا يجوز.
- قال القاضي عياض: أجمع العلماء بالقيروان؛ أن حال بني عبيد حال المرتدين والزنادقة. (2)
أبو علي الروذباري الصوفي (322 هـ)
موقفه من الصوفية:
قيل: سئل أبو علي عمن يسمع الملاهي ويقول: هي حلال لي لأني قد
_________
(1) السير (15/ 148 - 149).
(2) السير (15/ 151).
(5/85)
وصلت إلى رتبة لا يؤثر فيه اختلاف الأحوال؟ فقال: نعم قد وصل، ولكن إلى سقر. (1)
أبو الحسن الأشعري (2) (324 هـ)
الإمام صاحب التصانيف الكثيرة في الرد على الملحدة وسائر أصناف المبتدعة، علي بن إسماعيل بن أبي بشر إسحاق بن سالم بن إسماعيل أبو الحسن الأشعري البصري وسكن بغداد، ينتهي نسبه إلى أبي موسى الأشعري، مولده سنة ستين ومائتين وقيل سنة سبعين. أخذ عن أبي خليفة الجمحي وزكريا الساجي وسهل بن نوح وكان يجلس في حلقات أبي إسحاق المروزي الفقيه. وممن أخذ عنه ابن مجاهد وزاهر بن أحمد وأبو الحسن الباهلي. وكان عجبا في الذكاء، وقوة الفهم، ولما برع في معرفة الاعتزال كرهه وتبرأ منه وصعد للناس يوم الجمعة فتاب إلى الله تعالى منه ثم رد على المعتزلة. قال ابن كثير: وذكروا للشيخ أبي الحسن رحمه الله ثلاثة أحوال: أولها حال الاعتزال التي رجع عنها لا محالة إليها والحال الثاني: إثبات الصفات العقلية السبعة وهي الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام وتأويل الجبرية كالوجه واليدين والقدم والساق ونحو ذلك. والحال
_________
(1) السير (14/ 536) والحلية (10/ 356).
(2) تاريخ بغداد (11/ 346 - 347) ووفيات الأعيان (3/ 284 - 286) وتاريخ الإسلام (حوادث 321 - 330/ص.154 - 158) والسير (15/ 85 - 90) والبداية والنهاية (11/ 199) وشذرات الذهب (2/ 303 - 305) طبقات الفقهاء الشافعية لابن كثير (1/ 208 - 214).
(5/86)
الثالثة: إثبات ذلك كله من غير تكييف ولا تشبيه جرياً على منوال السلف وهي طريقته في الإبانة التي صنفها آخِراً. قال بندار خادم الأشعري: كانت غلة أبي الحسن من ضيعة وقفها جدهم على عقبه فكانت نفقته في السنة سبعة عشرة درهماً. وله مؤلفات كثيرة أشهرها 'الإبانة' و'مقالات الإسلاميين' و'اللمع' وغيرها. توفي سنة أربع وعشرين وثلاثمائة.
موقفه من المشركين:
من تصانيفه في الرد على الملاحدة:
1 - الفصول في الرد على الملحدين وهو اثنا عشر كتاباً.
2 - كتاب جمل مقالات الملحدين.
3 - كتاب الفنون في الرد على الملحدين.
4 - كتاب في الرد على ابن الراوندي.
5 - كتاب القامع في الرد على الخالدي. (1)
موقفه من الرافضة:
قال ابن كثير: والمقصود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدم أبا بكر الصديق إماماً للصحابة كلهم في الصلاة التي هي أكبر أركان الإسلام العملية. قال الشيخ أبو الحسن الأشعري: وتقديمه له أمر معلوم بالضرورة من دين الإسلام. قال: وتقديمه له دليل على أنه أعلم الصحابة وأقرؤهم لما ثبت في الخبر المتفق على صحته بين العلماء. أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله،
_________
(1) السير (15/ 87 - 88).
(5/87)
فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأكبرهم سنّاً، فإن كانوا في السن سواء فأقدمهم مسلماً". (1)
قلت -أي ابن كثير-: وهذا من كلام الأشعري رحمه الله مما ينبغي أن يكتب بماء الذهب ثم قد اجتمعت هذه الصفات كلها في الصديق رضي الله عنه وأرضاه. (2)
موقفه من الجهمية:
لقد كتب الكثير من المتقدمين والمتأخرين عن أبي الحسن، ومن أشهرهم أبو القاسم بن عساكر في كتابه تبيين كذب المفتري فيما نسب لأبي الحسن الأشعري.
والذي تبين لي أن أبا الحسن رجع عن مذهب الاعتزال، ورد عليه، وهذا أمر مجمع عليه، واعتنق مذهب أهل السنة، ولكن مع بقايا من علم الكلام والتأثر بمذهب المعتزلة، والرجل لم يكن له علم بالحديث ولا أهله، وإن ذكروا في ترجمته أنه تلقى بعض علم الحديث، عن زكريا بن يحيى الساجي، فلعل ذلك كان قليلاً.
وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية أن أبا الحسن عنده علم بالسنة إجمالاً وعلم بالكلام علماً تفصيلياً، فإذا ذكر مذهب أهل الكلام ذكره على سبيل التفصيل، وإذا ذكر مذهب أهل الحديث ذكره على سبيل الإجمال.
_________
(1) مسلم (1/ 465/673) وأبو داود (1/ 390/582) والترمذي (1/ 458 - 459/ 235) والنسائي (2/ 410 - 411/ 779) وابن ماجه (1/ 313 - 314/ 980) وعلقه البخاري بصيغة الجزم (2/ 234) من حديث أبي مسعود الأنصاري البدري.
(2) البداية (5/ 207).
(5/88)
قال الإمام ابن القيم في اجتماع الجيوش: قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه: ولما رجع الأشعري من مذهب المعتزلة سلك طريق ابن كلاب ومال في أهل السنة والحديث وانتسب إلى الإمام أحمد كما قد ذكر ذلك في كتبه كلها كالإبانة والموجز والمقالات وغيرها وكان القدماء من أصحاب أحمد كأبي بكر بن عبد العزيز وأبي الحسين التميمي وأمثالهما يذكرونه في كتبهم على طريق الموافق للسنة في الجملة ويذكرون رده على المعتزلة وأبدى تناقضهم ثم ذكر ما بين الأشعري وقدماء أصحابه وبين الحنابلة من التآلف لاسيما بين القاضي أبي بكر بن الباقلاني وبين أبي الفضل ابن التميمي حتى كان ابن الباقلاني يكتب في أجوبته في المسائل كتبه محمد ابن الطيب الحنبلي ويكتب أيضاً الأشعري قال: وعلى العقيدة التي صنفها أبو الفضل التميمي اعتمد البيهقي في الكتاب الذي صنفه في مناقب أحمد: لما ذكر عقيدة أحمد قال: وأما ابن حامد وابن بطة وغيرهما فإنهم مخالفون لأصل قول ابن كلاب قال: والأشعري وأئمة أصحابه كابن الحسن الطبري وأبي عبد الله بن مجاهد والقاضي أبي بكر متفقون على إثبات الصفات الخبرية التي ذكرت في القرآن كالاستواء والوجه واليدين وإبطال تأويلها ... (1)
ويقول شيخ الإسلام في معرض الكلام على الأشعري ومحبيه ورافضيه: لكن كانت خبرته بالكلام خبرة مفصلة، وخبرته بالسنة خبرة مجملة، فلذلك وافق المعتزلة في بعض أصولهم التي التزموا لأجلها خلاف السنة، واعتقد أنه يمكن الجمع بين تلك الأصول، وبين الانتصار للسنة كما فعل في مسألة
_________
(1) اجتماع الجيوش (ص.259).
(5/89)
الرؤية والكلام، والصفات الخبرية وغير ذلك.
والمخالفون له من أهل السنة والحديث ومن المعتزلة والفلاسفة يقولون: إنه متناقض وأن ما وافق فيه المعتزلة يناقض ما وافق فيه أهل السنة، كما أن المعتزلة يتناقضون فيما نصروا فيه دين الإسلام، فإنهم بنوا كثيراً من الحجج على أصول تناقض كثيراً من دين الإسلام. بل جمهور المخالفين للأشعري من المثبتة والنفاة يقولون: إنما قاله في مسألة الرؤية والكلام: معلوم الفساد بضرورة العقل. (1)
وأما في مسألة الإيمان والقدر فقد صرح شيخ الإسلام ابن تيمية في غير ما موضع، أن أبا الحسن سلك مسلك المرجئة في مسألة الإيمان، وإن كان حكى عنه قولاً له أنه سلك مسلك السلف لكن الذي أكثر الشيخ من ترديده عن أبي الحسن هو الأول وقد تبناه أشهر أتباعه كالجويني وغيره.
وأما مسألة القدر فسلك مسلك الجبرية وهذا لم يحك الشيخ فيه خلافاً. وهذا هو الموجود في كتب الأشاعرة ومسألة الكسب من أشهر ما روي عن الأشعري. قال شيخ الإسلام: وأبو الحسن سلك في مسألة الأسماء، والأحكام والقدر مسلك الجهم بن صفوان مسلك المجبرة ومسلك غلاة المرجئة. (2)
وقال في معرض الحديث على توبته من الاعتزال: ومال في مسائل
_________
(1) مجموع الفتاوى (ج 12/ ص.204 - 205).
(2) مجموع الفتاوى (16/ 96).
(5/90)
العدل والأسماء والأحكام إلى مذهب جهم ونحوه. (1)
وقال في معرض الكلام على الإيمان: وقال أبو عبد الله الصالحي، إن الإيمان مجرد تصديق القلب ومعرفته، لكن له لوازم فإذا ذهبت دل ذلك على عدم تصديق القلب. وإن كل قول أو عمل ظاهر دل الشرع على أنه كفر كان ذلك لأنه دليل على عدم تصديق القلب ومعرفته، وليس الكفر إلا تلك الخصلة الواحدة وليس الإيمان إلا مجرد التصديق الذي في القلب والمعرفة، وهذا أشهر قولي أبي الحسن الأشعري، وعليه أصحابه، كالقاضي أبي بكر وأبي المعالي وأمثالهما، ولهذا عدهم أهل المقالات من المرجئة، والقول الآخر عنه كقول السلف وأهل الحديث: إن الإيمان قول وعمل وهو اختيار طائفة من أصحابه ومع هذا فهو وجمهور أصحابه على قول أهل الحديث في الاستثناء في الإيمان. (2)
وأما كتاب الإبانة: فهو في الجملة يعتبر من الكتب التي وافقت العقيدة السلفية وبينتها لكن فيه بعض الإجمال وفيه طرق في الإثبات لم تنقل عن السلف فليتنبه عند قراءته، وهذا الكتاب هو عمدة من جعل أبا الحسن، من الذين تراجعوا تراجعاً كاملاً إلى مذهب السلف، وإن كان البعض لا يرى أن أبا الحسن كتب ذلك عن اقتناع كما فعل البربهاري لما دخل عليه أبو الحسن فذكر له أنه ألف الإبانة ورد على المعتزلة فقال له: لا نعرف إلا ما قاله أبو عبد الله أحمد بن حنبل.
_________
(1) مجموع الفتاوى (13/ 99).
(2) مجموع الفتاوى (7/ 509).
(5/91)
وأما غلاة الأشعرية فينكرون الكتاب، ويقولون إنما وضع على أبي الحسن وليس له، لكن أثبته من له خبرة بالتراجم والتواريخ ومذهب الأشعري، كابن عساكر والذهبي وشيخ الإسلام وابن القيم وغيرهم ممن لا يحصى كثرة، ويقول بعضهم إنما ألفه خوفاً من الحنابلة وهذا القول يردده الشيخ النجدي في كثير من كتبه ومقالاته: محمد زاهد الكوثري. وبقية كتب الأشعري، وإن كان فيها بعض الدفاع عن العقيدة عموماً، كالموجز والمقالات واللمع في الرد على أهل البدع، وغير ذلك، فليست خاصة بالعقيدة السلفية، فيستفاد منها ما يوافق الدفاع عن العقيدة السلفية ويترك ما لا يوافق ذلك، وهذا القدر فيه كفاية وإلا فالبحث عن الأشعري والأشعرية يحتاج إلى بسط أكثر.
جاء في مجموع الفتاوى: وقال أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري المتكلم صاحب الطريقة المنسوبة إليه في الكلام في كتابه الذي صنفه في 'اختلاف المصلين ومقالات الإسلاميين' وذكر فرق الروافض والخوارج، والمرجئة والمعتزلة وغيرهم. ثم قال 'مقالة أهل السنة وأصحاب الحديث' جملة. قول أصحاب الحديث وأهل السنة: الإقرار بالله وملائكته، وكتبه ورسله، وبما جاء عن الله تعالى، وما رواه الثقات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لا يردون شيئاً من ذلك وأن الله واحد أحد، فرد صمد، لا إله غيره لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن الجنة حق وأن النار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأن الله على عرشه كما
(5/92)
قال: {الرحمن على العرش استوى} (1) وأن له يدين بلا كيف كما قال: {خَلَقْتُ بيدي} (2) وكما قال: {بَلْ يداه مَبْسُوطَتَانِ} (3) وأن له عينين بلا كيف كما قال: {تجري بأعيننا} (4) وأن له وجهاً كما قال: {ويبقى وجه ربك ذو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (27) (5). وأن أسماء الله تعالى لا يقال: إنها غير الله كما قالت المعتزلة والخوارج. وأقروا أن لله علماً كما قال: {أنزله بِعِلْمِهِ} (6) وكما قال: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى ولا تضع إِلًّا بِعِلْمِهِ} (7) وأثبتوا له السمع والبصر، ولم ينفوا ذلك عن الله كما نفته المعتزلة وأثبتوا لله القوة كما قال: {أَوَلَمْ يروا أن اللَّهَ الذي خَلَقَهُمْ هُوَ أشد مِنْهُمْ قُوَّةً} (8) وذكر مذهبهم في القدر.
إلى أن قال: ويقولون: إن القرآن كلام الله غير مخلوق والكلام في اللفظ والوقف، ومن قال باللفظ وبالوقف فهو مبتدع عندهم، لا يقال اللفظ بالقرآن مخلوق ولا يقال غير مخلوق،
_________
(1) طه الآية (5).
(2) ص الآية (75).
(3) المائدة الآية (64).
(4) القمر الآية (14).
(5) الرحمن الآية (27).
(6) النساء الآية (166).
(7) فاطر الآية (11).
(8) فصلت الآية (15).
(5/93)
ويقرون أن الله يرى بالأبصار يوم القيامة كما يرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون ولا يراه الكافرون، لأنهم عن الله محجوبون، قال عز وجل: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ ربهم يومئذٍ لَمَحْجُوبُونَ} (15) (1) وذكر قولهم في الإسلام والإيمان والحوض والشفاعة وأشياء إلى أن قال: ويقرون بأن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص ولا يقولون مخلوق، ولا يشهدون على أحد من أهل الكبائر بالنار، إلى أن قال: وينكرون الجدال والمراء في الدين والخصومة والمناظرة فيما يتناظر فيه أهل الجدل، ويتنازعون فيه من دينهم، ويسلمون الروايات الصحيحة كما جاءت به الآثار الصحيحة التي جاءت بها الثقات عدل عن عدل حتى ينتهي ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لا يقولون كيف ولا لم؟ لأن ذلك بدعة عندهم إلى أن قال: ويقرون أن الله يجيء يوم القيامة كما قال تعالى: {وَجَاءَ ربك وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} (2) وأن الله يقرب من خلقه كيف شاء، كما قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إليه مِنْ حَبْلِ الوريد} (3) إلى أن قال: ويرون مجانبة كل داع إلى بدعة، والتشاغل بقراءة القرآن وكتابة الآثار والنظر في الآثار، والنظر في الفقه، مع الاستكانة والتواضع، وحسن الخلق مع بذل المعروف، وكف الأذى، وترك الغيبة والنميمة والشكاية وتفقد المآكل والمشارب. وقال: فهذه جملة ما يأمرون به ويستسلمون إليه ويرونه، وبكل ما ذكرنا من
_________
(1) المطففين الآية (15).
(2) الفجر الآية (22).
(3) ق الآية (16).
(5/94)
قولهم نقول وإليه نذهب، وما توفيقنا إلا بالله وهو المستعان.
وقال الأشعري أيضاً في 'اختلاف أهل القبلة في العرش' فقال: قال أهل السنة وأصحاب الحديث: إن الله ليس بجسم، ولا يشبه الأشياء، وأنه استوى على العرش، كما قال: {الرحمن على العرش استوى} (1) ولا نتقدم بين يدي الله في القول، بل نقول استوى بلا كيف، وأن له وجهاً كما قال: {ويبقى وجه ربك ذو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (2)، وأن له يدين كما قال: {خَلَقْتُ بيدي} (3)، وأن له عينين كما قال: {تجري بأعيننا} (4) وأنه يجيء يوم القيامة هو وملائكته كما قال: {وَجَاءَ ربك وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} (5)، وأنه ينزل إلى سماء الدنيا كما جاء في الحديث (6)، ولم يقولوا شيئاً إلا ما وجدوه في الكتاب، أو جاءت به الرواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقالت المعتزلة: إن الله استوى على العرش بمعنى استولى وذكر مقالات أخرى.
وقال أيضاً أبو الحسن الأشعري في كتابه الذي سماه 'الإبانة في أصول الديانة' وقد ذكر أصحابه أنه آخر كتاب صنفه، وعليه يعتمدون في الذب عنه عند من يطعن عليه فقال: فصل في إبانة قول أهل الحق والسنة: فإن قال
_________
(1) طه الآية (5).
(2) الرحمن الآية (27).
(3) ص الآية (75).
(4) القمر الآية (14).
(5) الفجر الآية (22).
(6) انظر تخريجه في مواقف حماد بن سلمة سنة (167هـ).
(5/95)
قائل قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية، والجهمية، والحرورية، والرافضة، والمرجئة، فعرفونا قولكم الذي به تقولون وديانتكم التي بها تدينون. قيل له: قولنا الذي نقول به، وديانتنا التي ندين بها التمسك بكلام ربنا وسنة نبينا، وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن حنبل -نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته- قائلون، ولما خالف قوله مخالفون، لأنه الإمام الفاضل، والرئيس الكامل، الذي أبان الله به الحق، ودفع به الضلال، وأوضح به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين، وشك الشاكين، فرحمة الله عليه من إمام مقدم، وجليل معظم، وكبير مفهم. وجملة قولنا أنا نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله، وبما جاءوا به من عند الله، وبما رواه الثقات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لا نرد من ذلك شيئاً، وأن الله واحد لا إله إلا هو، فرد صمد لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، وأن "محمداً عبده ورسوله" أرسله بالهدى ودين الحق "ليظهره على الدين كله" وأن الجنة حق، والنار حق، وأن الساعة آتية، وأن الله يبعث من في القبور. وأن الله مستوٍ على عرشه كما قال: {الرحمن على العرش استوى} (1) وأن له وجهاً كما قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (2) وأن له يدين بلا كيف كما قال: {خَلَقْتُ بيدي} (3) وكما قال: {بَلْ يداه مَبْسُوطَتَانِ
_________
(1) طه الآية (5).
(2) الرحمن الآية (27).
(3) ص الآية (75).
(5/96)
ينفق كيف يشاء} (1) وأن له عينين بلا كيف كما قال: {تجري بأعيننا} (2) وأن من زعم أن أسماء الله غيره كان ضالاًّ، وذكر نحواً مما ذكر في الفرق إلى أن قال: ونقول إن الإسلام أوسع من الإيمان، وليس كل إسلام إيماناً، وندين بأن الله يقلب القلوب بين أصبعين من أصابع الله عز وجل (3)، وأنه عز وجل يضع السموات على أصبع، والأرضين على أصبع (4)، كما جاءت الرواية الصحيحة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. إلى أن قال: "وأن الإيمان" قول وعمل، يزيد وينقص، ونسلم الروايات الصحيحة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، التي رواها الثقات عدلا عن عدل، حتى ينتهي إلى رسول الله -إلى أن قال: ونصدق بجميع الروايات التي أثبتها أهل النقل من النزول إلى سماء الدنيا وأن الرب عز وجل يقول: "هل من سائل؟ هل من مستغفر؟ " (5) وسائر ما نقلوه وأثبتوه خلافاً لما قال أهل الزيغ والتضليل: ونعول فيما اختلفنا فيه إلى كتاب ربنا، وسنة نبينا، وإجماع المسلمين وما كان في معناه، ولا نبتدع في دين الله ما لم يأذن لنا به، ولا نقول على الله ما لا نعلم. ونقول إن الله يجيء يوم القيامة كما قال: {وَجَاءَ ربك وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} (6) وأن الله يقرب من عباده كيف شاء كما قال: {وَنَحْنُ
_________
(1) المائدة الآية (64) ..
(2) القمر الآية (14).
(3) انظر تخريجه في مواقف سفيان بن عيينة سنة (198هـ).
(4) انظر تخريجه في مواقف وكيع بن الجراح سنة (196هـ).
(5) انظر تخريجه في مواقف حماد بن سلمة سنة (167هـ).
(6) الفجر الآية (22).
(5/97)
أَقْرَبُ إليه مِنْ حَبْلِ الوريد} (1) وكما قال: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} (2). إلى أن قال: وسنحتج لما ذكرناه من قولنا وما بقي مما لم نذكره باباً باباً.
ثم تكلم على أن الله يرى واستدل على ذلك ثم تكلم على أن القرآن غير مخلوق واستدل على ذلك ثم تكلم على من وقف في القرآن وقال لا أقول إنه مخلوق، ولا غير مخلوق، ورد عليه، ثم قال:
باب ذكر الاستواء على العرش
فقال: إن قال قائل: ما تقولون في الاستواء؟ قيل له: نقول إن الله مستوٍ على عرشه كما قال: {الرحمن على العرش استوى} (3) وقال تعالى: {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} (4) وقال تعالى: {بَلْ رفعه الله إليه} (5) وقال تعالى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} (6) وقال تعالى حكاية من فرعون: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ
_________
(1) ق الآية (16).
(2) النجم الآيتان (8و9).
(3) طه الآية (5).
(4) فاطر الآية (10).
(5) النساء الآية (158).
(6) السجدة الآية (5).
(5/98)
مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} (1) كذب موسى في قوله إن الله فوق السموات، وقال تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} (2) فالسموات فوقها العرش، فلما كان العرش فوق السموات قال: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} لأنه مستوٍ على العرش الذي هو فوق السموات، وكل ما علا فهو سماء فالعرش أعلى السموات وليس إذا قال {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} يعني جميع السموات وإنما أراد العرش الذي هو أعلى السموات، ألا ترى أن الله عز وجل ذكر السموات فقال تعالى: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} (3) ولم يرد أن القمر يملؤهن وأنه فيهن جميعاً.
ورأينا المسلمين جميعاً يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء لأن الله على عرشه الذي هو فوق السموات، فلولا أن الله على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش، كما لا يحطونها إذا دعوا إلى الأرض. ثم قال: وقد قال القائلون من المعتزلة، والجهمية، والحرورية أن معنى قوله: {الرحمن على العرش استوى} (4) أنه استولى وقهر وملك، وأن الله عز وجل في كل مكان،
_________
(1) غافر الآية (36).
(2) الملك الآية (16).
(3) نوح الآية (16).
(4) طه الآية (5).
(5/99)
وجحدوا أن يكون الله على عرشه كما قال أهل الحق وذهبوا في الاستواء إلى القدرة، فلو كان كما ذكروه كان لا فرق بين العرش والأرض السابعة، لأن الله قادر على كل شيء، والأرض فالله قادر عليها وعلى الحشوش وعلى كل ما في العالم، فلو كان الله مستوياً على العرش بمعنى الاستيلاء -وهو عز وجل مستولٍ على الأشياء كلها- لكان مستوياً على العرش وعلى الأرض، وعلى السماء وعلى الحشوش والأقذار، لأنه قادر على الأشياء مستولٍ عليها، وإذا كان قادراً على الأشياء كلها ولم يجز عند أحد من المسلمين أن يقول: إن الله مستوٍ على الحشوش والأخلية لم يجز أن يكون الاستواء على العرش الاستيلاء الذي هو عام في الأشياء كلها، ووجب أن يكون معنى الاستواء يختص العرش، دون الأشياء كلها. وذكر دلالات من القرآن والحديث، والإجماع والعقل.
ثم قال: (باب الكلام في الوجه والعينين والبصر واليدين).
وذكر الآيات في ذلك ورد على المتأولين لها بكلام طويل لا يتسع هذا الموضع لحكايته: مثل قوله: فإن سئلنا أتقولون لله يدان؟ قيل نقول ذلك، وقد دل عليه قوله تعالى: {يد الله فوق أيديهم} (1) وقوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بيدي} (2).
وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن الله مسح ظهر آدم بيده فاستخرج
_________
(1) الفتح الآية (10).
(2) ص الآية (75).
(5/100)
منه ذريته" (1)،
"وخلق جنة عدن بيده، وكتب التوراة بيده" (2). وقد جاء في الخبر المذكور عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أن الله خلق آدم بيده، وخلق جنة عدن بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس شجرة طوبى بيده" (3). وليس يجوز في لسان
_________
(1) أخرجه: أحمد (1/ 44 - 45) وأبو داود (5/ 79 - 80/ 4703) والترمذي (5/ 248 - 249/ 3075)، ابن حبان (14/ 37 - 38/ 6166) والحاكم (1/ 27) و (2/ 544 - 545) من طريق عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب عن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} الآية، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عنها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله خلق آدم، ثم مسح على ظهره بيمينه، فاستخرج عنه ذرية ... " الحديث. دون زيادة: "وخلق عدن بيده ... ". وقال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين" ووافقه الذهبي في موضع، وقال في موضع آخر: "فيه إرسال". وقال الترمذي: "حديث حسن، ومسلم بن يسار لم يسمع من عمر، وقد ذكر بعضهم في هذا الإسناد بين مسلم بن يسار وعمر رجلاً مجهولاً".
قلت: ويؤيد كلام الترمذي إخراج أبي داود للحديث نفسه (4704) من طريق عمر بن جعثم القرشي قال: حدثني زيد بن أبي أنيسة، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن، عن مسلم بن يسار، عن نعيم بن ربيعة، قال: كنت عند عمر بن الخطاب بهذا الحديث. وأخرجه أيضاً بهذه الزيادة ابن عبد البر في التمهيد (فتح البر 2/ 288) وقال: "زيادة من زاد في هذا الحديث نعيم بن ربيعة ليست حجة: لأن الذي لم يذكره أحفظ، وإنما تقبل الزيادة من الحافظ المتقن". وجملة القول في هذا الحديث، أنه حديث ليس إسناده بالقائم، لأن مسلم بن يسار ونعيم بن ربيعة جميعاً غير معروفين بحمل العلم.
(2) انظر الحديث الذي بعده.
(3) أخرجه مرسلاً: أبو الشيخ في العظمة (5/ 1555/1017)، والبيهقي في الأسماء والصفات (2/ 125/692) عن عبد الله بن الحارث قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله عز وجل خلق ثلاثة أشياء بيده، خلق آدم بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس الفردوس بيده، ... " الحديث. وأخرجه موصولاً: الحاكم (2/ 392) ومن طريقه البيهقي في الأسماء والصفات (2/ 124/691) من طريق علي بن عاصم أنا حميد الطويل عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خلق الله تعالى جنة عدن وغرس أشجارها بيده فقال لها: تكلمي، فقالت: قد أفلح المؤمنون". قال الحاكم: "صحيح الإسناد" ورد عليه الذهبي فقال: "بل ضعيف".
قلت: في إسناده علي بن عاصم قال عنه الحافظ في التقريب: "صدوق يخطئ ويصر ورمي بالتشيع".
وأخرجه أيضاً موقوفاً عن ابن عمر: الدارمي في الرد على المريسي (1/ 261) وأبو الشيخ في العظمة (5/ 1555/1018) والحاكم (2/ 319) والبيهقي في الأسماء والصفات (2/ 126/693) واللالكائي (3/ 477/730) لكن بلفظ: "خلق الله تبارك وتعالى أربعة أشياء بيده: العرش، وجنات عدن، وآدم، والقلم". وقال الحاكم: "صحيح الإسناد" ووافقه الذهبي. وجود إسناده الشيخ الألباني (انظر مختصر العلو (105)).
(5/101)
العرب ولا في عادة أهل الخطاب أن يقول القائل عملت كذا بيدي ويريد بها النعمة، وإذا كان الله إنما خاطب العرب بلغتها، وما يجري مفهوماً في كلامها، ومعقولاً في خطابها، وكان لا يجوز في خطاب أهل البيان أن يقول القائل: فعلت كذا بيدي ويعني بها النعمة: بطل أن يكون معنى قوله تعالى {بيدي} النعمة. (1)
- وجاء في السير: بلغنا أن أبا الحسن تاب وصعد منبر البصرة، وقال: إني كنت أقول: بخلق القرآن، وأن الله لا يرى بالأبصار، وأن الشر فعلي ليس بقدر، وإني تائب معتقد الرد على المعتزلة. (2)
- وقال أبو الحسن الأشعري في كتاب الإبانة:
باب الرد على الجهمية في نفيهم علم الله وقدرته
قال الله عز وجل: {أنزله بِعِلْمِهِ} (3) وقال سبحانه: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى ولا تضع إِلًّا بِعِلْمِهِ} (4) وذكر العلم في خمسة مواضع من كتابه، وقال سبحانه: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} (5) وقال سبحانه: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} (6) وذكر
_________
(1) مجموع الفتاوى (5/ 90 - 98).
(2) السير (15/ 89).
(3) النساء الآية (166).
(4) فاطر الآية (11).
(5) هود الآية (14).
(6) البقرة الآية (255).
(5/102)
القوة فقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} (1) وقال تعالى: {ذو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (2) وقال تعالى: {وَالسَّمَاءَ بنيناها بأييد} (3) وزعمت الجهمية: أن الله عز وجل لا علم له ولا قدرة ولا حياة ولا سمع ولا بصر، وأرادوا أن ينفوا أن الله عالم قادر حي سميع بصير، فمنعهم ذلك خوف السيف من إظهارهم نفي ذلك، فأتوا بمعناه لأنهم إذا قالوا: لا علم لله ولا قدرة له، فقد قالوا: إنه ليس بعالم ولا قادر، ووجب ذلك عليهم. وهذا إنما أخذوه عن أهل الزندقة والتعطيل، لأن الزنادقة قد قال كثير منهم: إن الله تعالى ليس بعالم ولا قادر ولا حي ولا سميع ولا بصير، فلم تقدر المعتزلة أن تفصح بذلك فأتت بمعناه وقالت: إن الله عالم قادر حي سميع بصير من طريق التسمية، من غير أن يثبتوا له حقيقة العلم والقدرة والسمع والبصر.
فصل
وقد قال رئيس من رؤسائهم -وهو أبو الهذيل العلاف- إن علم الله هو الله، فجعل الله عز وجل علماً.
وألزم، فقيل له: إذا قلت: إن علم الله هو الله فقل: يا علم الله اغفر لي وارحمني، فأبى ذلك، فلزمه المناقضة.
_________
(1) فصلت الآية (15).
(2) الذاريات الآية (58).
(3) الذاريات الآية (47).
(5/103)
واعلموا رحمكم الله أن من قال: عالم ولا علم كان مناقضاً، كما أن من قال علم ولا عالم كان مناقضاً، وكذلك القول في القدرة، والقادر، والحياة، والحي، والسمع، والبصر، والسميع، والبصير.
جواب:
ويقال لهم: خبرونا عمن زعم أن الله متكلم قائل آمر ناهٍ لا قول له ولا كلام، ولا أمر له ولا نهي، أليس هو مناقضاً خارجاً عن جملة المسلمين؟
فلا بد من نعم، فيقال لهم: فكذلك من قال: إن الله عالم ولا علم له كان ذلك مناقضاً خارجاً عن جملة المسلمين.
وقد أجمع المسلمون قبل حدوث الجهمية والمعتزلة والحرورية على أن لله علما لم يزل، وقد قالوا: علم الله لم يزل، وعلم الله سابق في الأشياء ولا يمنعون أن يقولوا في كل حادثة تحدث، ونازلة تنزل: كل هذا سابق في علم الله، فمن جحد أن لله علماً، فقد خالف المسلمين، وخرج عن اتفاقهم.
جواب:
ويقال لهم: إذا كان الله مريداً أفله إرادة؟
فإن قالوا: لا، قيل لهم: فإذا أثبتم مريداً لا إرادة له، فأثبتوا قائلاً لا قول له، وإن أثبتوا الإرادة قيل لهم: فإذا كان المريد لا يكون مريداً إلا بإرادة فما أنكرتم أن لا يكون العالم عالماً إلا بعلم؟ وأن يكون لله علم كما أثبتم له إرادة.
مسألة:
وقد فرقوا بين العلم والكلام، فقالوا: إن الله عز وجل علم موسى وفرعون، وكلم موسى ولم يكلم فرعون، فكذلك يقال: علم موسى الحكمة وفصل
(5/104)
الخطاب، وآتاه النبوة، ولم يعلم ذلك فرعون، فإن كان لله كلام لأنه كلم موسى ولم يكلم فرعون، فكذلك لله علم، لأنه علم موسى، ولم يعلم فرعون.
ثم يقال لهم: إذا وجب أن لله كلاماً به كلم موسى دون فرعون إذ كلم موسى دونه، فما أنكرتم إذا علمهما جميعاً؟ أن يكون له علم به علمهما جميعاً.
ثم يقال: قد كلم الله الأشياء بأن قال لها: كوني، وقد أثبتم لله قولاً، فكذلك إن علم الأشياء كلها، فله علم.
جواب:
ثم يقال لهم: إذا أوجبتم أن لله كلاماً وليس له علم، لأن الكلام أخص من العلم والعلم أعم منه، فقولوا: إن لله قدرة، لأن العلم أعم عندكم من القدرة، لأن من مذاهب القدرية أنهم لا يقولون إن الله يقدر أن يخلق الكفر، فقد أثبتوا القدرة أخص من العلم، فينبغي لهم أن يقولوا على اعتلالهم إن لله قدرة.
جواب:
ثم قال: أليس الله عالماً، والوصف له بأنه عالم أعم من الوصف له بأنه متكلم مكلم؟ ثم لم يجب لأن الكلام أخص من أن يكون الله متكلماً غير عالم، فلم لا قلتم إن الكلام -وإن كان أخص من العلم- لا ينفي أن يكون لله علم، كما لم ينف بخصوص الكلام أن يكون الله عالماً.
جواب:
ويقال لهم: من أين علمتم أن الله عالم؟ فإن قالوا: بقوله عز وجل: {إِنَّهُ
(5/105)
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (12) (1)، قيل لهم: ولذلك فقولوا: إن لله علماً بقوله: {أنزله بِعِلْمِهِ} (2) وبقوله: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى ولا تضع إِلًّا بِعِلْمِهِ} (3) وكذلك قولوا: إن له قوة لقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} (4) وإن قالوا: قلنا: إن الله عالم لأنه صنع العالم على ما فيه من آثار الحكمة واتساق التدبير.
قيل لهم: فلم لا قلتم: إن لله علماً بما ظهر في العالم من حكمه وآثار تدبيره؟ لأن الصنائع الحكمية لا تظهر إلا من ذي علم، كما لا تظهر إلا من عالم، وكذلك لا تظهر إلا من ذي قوة، كما لا تظهر إلا من قادر.
جواب:
ويقال لهم: إذا نفيتم علم الله فلم لا نفيتم أسماءه؟
فإن قالوا: كيف ننفي أسماءه وقد ذكرها في كتابه؟
قيل لهم: فلا تنفوا العلم والقوة، لأنه تبارك وتعالى ذكر ذلك في كتابه العزيز.
جواب آخر:
ويقال لهم: قد علم الله عز وجل نبيه - صلى الله عليه وسلم - الشرائع والأحكام، والحلال
_________
(1) الشورى الآية (12).
(2) النساء الآية (166).
(3) فاطر الآية (11).
(4) فصلت الآية (15).
(5/106)
والحرام، ولا يجوز أن يعلمه ما لا يعلمه، فكذلك لا يجوز أن يعلم الله نبيه ما لا علم لله به، تعالى الله عن قول الجهمية علوّاً كبيراً.
جواب:
ويقال لهم: أليس إذا لعن الله الكافرين فلعنه لهم معنى، ولعن النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم معنى؟
فإن قالوا: نعم.
فيقال لهم: فما أنكرتم من أن الله تعالى إذا علم نبيه - صلى الله عليه وسلم - شيئاً فكان للنبي - صلى الله عليه وسلم - علم ولله سبحانه علم، وإذا كنا متى أثبتناه غاضباً على الكافرين فلا بد من إثبات غضب، وكذلك إذا أثبتناه راضياً عن المؤمنين فلا بد من إثبات رضىً، وكذلك إذا أثبتناه حيّاً سميعاً بصيراً فلا بد من إثبات حياة وسمع وبصر.
جواب:
ويقال لهم: وجدنا اسم عالم اشتق من علم، واسم قادر اشتق من قدرة، وكذلك اسم حي اشتق من حياة، واسم سميع اشتق من سمع، واسم بصير اشتق من بصر، ولا تخلو أسماء الله عز وجل من أن تكون مشتقة، إما لإفادة معنى، أو على طريق التلقيب، فلا يجوز أن يسمى الله عز وجل على طريق التلقيب باسم ليس فيه إفادة معنىً، وليس مشتقاً من صفة.
فإذا قلنا: إن الله عز وجل عالم قادر فليس ذلك تلقيباً، كقولنا: زيد وعمرو، وعلى هذا إجماع المسلمين.
وإذا لم يكن ذلك تلقيباً وكان مشتقاً من علم، فقد وجب إثبات
(5/107)
العلم، وإن كان ذلك لإفادة معنى فلا يختلف ما هو كذا لإفادة معنى وجب. ووجب إذا كان معنى العالم منا أن له علماً أن يكون: كل عالم فهو ذو علم، كما إذا كان قولي: موجود مفيداً معنى الإثبات، كان الباري تعالى واجباً إثباته، لأنه سبحانه وتعالى موجود.
جواب:
ويقال للمعتزلة والجهمية والحرورية: أتقولون إن لله علماً بالأشياء سابقاً فيها، ولوضع كل حامل، وحمل كل أنثى، وبإنزال كل ما أنزل؟
فإن قالوا: نعم، فقد أثبتوا العلم، ووافقوا.
وإن قالوا: لا، قيل لهم: هذا جحد منكم لقول الله عز وجل: {أنزله بعلمه} (1) ولقوله: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى ولا تضع إِلًّا بِعِلْمِهِ} (2) ولقوله: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} (3) وإذا كان قول الله عز وجل: {بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (29) (4) {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا} (5) يوجب أنه عليم يعلم الأشياء كذلك، فما أنكرتم أن تكون هذه الآيات توجب أن لله علماً بالأشياء سبحانه وبحمده.
_________
(1) النساء الآية (166).
(2) فاطر الآية (11).
(3) هود الآية (14).
(4) البقرة الآية (29).
(5) الأنعام الآية (59).
(5/108)
جواب:
ويقال لهم: أتقولون إن لله عز وجل علماً بالتفرقة بين أوليائه وأعدائه وهل هو مريد لذلك؟ وهل له إرادة للإيمان إذا أراد الإيمان؟
فإن قالوا: نعم، فقد وافقوا.
وإن قالوا: إذا أراد الإيمان فله إرادة.
قيل لهم: وكذلك إذا فرق بين أوليائه وأعدائه فلا بد من أن يكون له علم بذلك، وكيف يجوز أن يكون للخلق علم بذلك، وليس للخالق عز وجل علم بذلك؟ هذا يوجب أن للخلق مزية في العلم وفضيلة على الخالق، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
جواب:
ويقال لهم: إذا كان من له علم من الخلق أولى بالمنزلة الرفيعة ممن لا علم له، فإذا زعمتم أن الله عز وجل لا علم له لزمكم أن الخلق أعلى مرتبة من الخالق، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.
جواب:
ويقال لهم: إذا كان من لا علم له من الخلق يلحقه الجهل والنقصان، فما أنكرتم من أنه لا بد من إثبات علم الله؟ وإلا ألحقتم به النقصان جل وعز عن قولكم وعلا، ألا ترون أن من لا يعلم من الخلق يلحقه الجهل والنقصان، ومن قال ذلك في الله عز وجل وصف الله سبحانه بما لا يليق به، فكذلك إذا كان من قيل له من الخلق لا علم له لحقه الجهل والنقصان، وجب أن لا ينفي ذلك عن الله عز وجل لأنه لا يلحقه جهل ولا نقصان.
(5/109)
جواب:
ويقال لهم: هل يجوز أن ينسق الصنائع الحكمية من ليس بعالم؟
فإن قالوا: ذلك محال ولا يجوز في وجود الصنائع التي تجري على ترتيب ونظام إلا من عالم قادر حي.
قيل لهم: وكذلك لا يجوز وجود الصنائع الحكمية التي تجري على ترتيب ونظام إلا من ذي علم وقدرة وحياة، فإن جاز ظهورها لا من ذي علم فما أنكرتم من جواز ظهورها لا من عالم قادر حي؟
وكل مسألة سألناهم عنها في العلم فهي داخلة عليهم في القدرة والحياة والسمع والبصر.
مسألة:
وزعمت المعتزلة أن قول الله عز وجل: {سميع بصير} (1) معناه عليم، قيل لهم: فإذا قال عز وجل: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أسمع وأرى} (2) وقال: {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها} (3) فهل معنى ذلك عندكم علم.
فإن قالوا: نعم.
قيل لهم: فقد وجب عليكم أن تقولوا معنى قوله {أسمع وأرى}:
_________
(1) الحج الآية (61).
(2) طه الآية (46).
(3) المجادلة الآية (1).
(5/110)
أعلم. وأعلم إذ كان معنى ذلك العلم.
فصل
ونفت المعتزلة صفات رب العالمين، وزعمت أن معنى سميع بصير، أي بمعنى عليم، كما زعمت النصارى أن سمع الله هو بصره وهو رؤيته، وهو كلامه، وهو علمه، وهو ابنه، عز الله وجل تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
فيقال للمعتزلة: إذا زعمتم أن معنى سميع وبصير معنى عالم، فهلا زعمتم أن معنى قادر معنى عالم، فإذا زعمتم أن معنى سميع وبصير معنى قادر، فهلا زعمتم أن معنى قادر معنى عالم، وإذا زعمتم أن معنى حي معنى قادر، فلم لا زعمتم أن معنى قادر معنى عالم؟
فإن قالوا: هذا يوجب أن يكون كل معلوم مقدوراً.
قيل لهم: ولو كان معنى سميع بصير معنى عالم لكان كل معلوم مسموعاً، وإذا لم يجز ذلك بطل قولكم. (1)
وكذلك قال في كتاب المقالات: الحمد لله الذي بصرنا خطأ المخطئين، وعمى العمين، وحيرة المتحيرين، الذين نفوا صفات رب العالمين، وقالوا إن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه، لا صفات له، وأنه لا علم له، ولا قدرة ولا حياة له ولا سمع له ولا بصر له. ولا عزة له ولا جلال له ولا عظمة ولا كبرياء له وكذلك قالوا في سائر صفات الله تعالى التي وصف بها نفسه قال: وهذا قول أخذوه عن إخوانهم من المتفلسفة، الذين يزعمون أن للعالم صانعاً لم يزل ليس بعالم ولا قادر ولا حي ولا سميع ولا بصير ولا
_________
(1) الإبانة لأبي الحسن الأشعري (ص.113 - 121).
(5/111)
قدير، وعبروا عنه بأن قالوا نقول: غير لم يزل ولم يزيدوا على ذلك، غير أن هؤلاء الذين وصفنا قولهم من المعتزلة في الصفات، لم يستطيعوا أن يظهروا من ذلك ما كانت الفلاسفة تظهره، فأظهروا معناه، فنفوا أن يكون للبارئ علم وقدرة وحياة وسمع وبصر ولولا الخوف لأظهروا ما كانت الفلاسفة تظهر من ذلك ولأفصحوا به، غير أن خوف السيف يمنعهم من إظهار ذلك، قال: وقد أفصح بذلك رجل يعرف بابن الأباري، كان ينتحل قولهم فزعم أن الباري عالم قادر سميع بصير في المجاز لا في الحقيقة، وهذا القول الذي هو قول الغالية النفاة للأسماء حقيقة، هو قول القرامطة الباطنية، ومن سبقهم من إخوانهم الصابئية الفلاسفة. (1)
له من الآثار:
1 - ذكر في كتابه 'العمدة في الرؤية' مجموعة مصنفات ألفها منها:
2 - 'الفصول في الرد على الملحدين' وهو اثنا عشر كتاباً.
3 - كتاب 'الصفات' قال: وهو كبير، تكلمنا فيه على أصناف المعتزلة والجهمية.
4 - كتاب 'الرؤية بالأبصار'.
5 - 'الرد على المجسمة'.
6 - كتاب 'اللمع في الرد على أهل البدع'.
7 - كتاب 'النقض على الجبائي'.
8 - كتاب 'النقض على البلخي'.
_________
(1) الفتاوى الكبرى (5/ 49 - 50).
(5/112)
9 - كتاب 'جمل مقالات الملحدين'.
10 - قال رحمه الله: وكتاباً في الصفات هو أكبر كتبنا، نقضنا فيه ما كنا ألفناه قديماً فيها على تصحيح مذهب المعتزلة لم يؤلف لهم كتاب مثله، ثم أبان الله لنا الحق فرجعنا.
11 - كتاب في 'الرد على ابن الراوندي'.
12 - كتاب 'القامع في الرد على الخالدي'.
13 - كتاب 'الفنون في الرد على الملحدين'.
14 - 'الإبانة عن أصول الديانة'.
15 - 'مقالات الإسلاميين'. (1)
موقفه من المرجئة:
قد قدمنا في مطلع مواقف الشيخ من الجهمية ملخص ما قيل في عقيدته رحمه الله، ومنها ما يتعلق بمسألة الإيمان؛ وقد ذكرنا أن شيخ الإسلام ابن تيمية صرح في غير ما موضع أن أبا الحسن سلك مسلك المرجئة في مسألة الإيمان، وإن كان حكى عنه قولاً له؛ أنه سلك مسلك السلف لكن الذي أكثر الشيخ من ترديده عن أبي الحسن هو الأول، وقد تبناه أشهر أتباعه كالجويني وغيره.
ومن أقواله الموافقة لمذهب السلف في مسألة الإيمان ما جاء في كتابه 'الإبانة':
_________
(1) انظر السير (15/ 87) بتصرف.
(5/113)
الباب الثاني: في إبانة قول أهل الحق والسنة:
فإن قال لنا قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة، فعرفونا قولكم الذي به تقولون، وديانتكم التي بها تدينون. قيل له: قولنا الذي نقول به، وديانتنا التي ندين بها: التمسك بكتاب ربنا عز وجل، وبسنة نبينا - صلى الله عليه وسلم -، وما روي عن السادة الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون. وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد ابن محمد بن حنبل نضر الله وجهه، ورفع درجته وأجزل مثوبته، قائلون، ولمن خالف قوله مجانبون.
إلى أن قال رحمه الله: وأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، ونسلم الروايات الصحيحة في ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي رواها الثقات عدل عن عدل حتى تنتهي الرواية إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (1)
وجاء في كتابه 'رسالة إلى أهل الثغر' قوله: وأجمعوا -أي السلف- على أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وليس نقصانه عندنا شك فيما أمرنا بالتصديق به، ولا جهل به، لأن ذلك كفر، وإنما هو نقصان في مرتبة العلم وزيادة البيان كما يختلف وزن طاعتنا وطاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن كنا جميعاً مؤدين للواجب علينا. (2)
وقوله أيضاً: وأجمعوا على ذم سائر أهل البدع والتبري منهم، وهم الروافض والخوارج والمرجئة والقدرية وترك الاختلاط بهم لما روي عن النبي
_________
(1) الإبانة (43 - 49).
(2) (ص.272).
(5/114)
- صلى الله عليه وسلم - في ذلك وما أمر به من الإعراض عنهم في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} (1).اهـ (2)
موقفه من القدرية:
قال رحمه الله -وهو يرد على المعتزلة-: وأثبتوا، وأيقنوا أن العباد يخلقون الشر، نظيراً لقول المجوس الذين أثبتوا خالقين: أحدهما يخلق الخير، والآخر يخلق الشر. وزعمت القدرية أن الله عز وجل يخلق الخير، وأن الشيطان يخلق الشر.
وزعموا أن الله عز وجل يشاء ما لا يكون، ويكون ما لا يشاء، خلافاً لما أجمع عليه المسلمون من أن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ورداً لقول الله عز وجل: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (3) فأخبر تعالى أنا لا نشاء شيئاً إلا وقد شاء الله أن نشاءه، ولقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقتتلوا} (4) ولقوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هداها} (5) ولقوله تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يريد} (6) ولقوله تعالى مخبراً عن نبيه شعيب - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
_________
(1) الأنعام الآية (68).
(2) المصدر نفسه (ص.307 - 309).
(3) الإنسان الآية (30).
(4) البقرة الآية (253).
(5) السجدة الآية (13).
(6) البروج الآية (16).
(5/115)
{وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} (1) ولهذا سماهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "مجوس هذه الأمة" (2) لأنهم دانوا بديانة المجوس وضاهوا أقاويلهم. وزعموا أن للخير والشر خالقين، كما زعمت المجوس ذلك، وأنه يكون من الشرور ما لا يشاء الله كما قالت المجوس.
وزعموا أنهم يملكون الضر والنفع لأنفسهم دون الله عز وجل، ردّاً لقول الله عز وجل لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} (3) وإعراضاً عن القرآن، وعما أجمع عليه أهل الإسلام ... (4)
وقال: وأنه لا يكون في الأرض شيء من خير وشر إلا ما شاء الله، وأن الأشياء تكون بمشيئة الله عز وجل وأن أحداً لا يستطيع أن يفعل شيئاً قبل أن يفعله الله.
ولا نستغني عن الله، ولا نقدر على الخروج من علم الله عز وجل.
وأنه لا خالق إلا الله، وأن أعمال العباد مخلوقة لله مقدورة له كما قال سبحانه: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (5).
وأن العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئاً وهم يخلقون، كما قال: {هَلْ
_________
(1) الأعراف الآية (89).
(2) سيأتي تخريجه في مواقف محمد بن الحسين الآجري سنة (360هـ).
(3) الأعراف الآية (188).
(4) الإبانة عن أصول الديانة (ص.39 - 40).
(5) الصافات الآية (96).
(5/116)
مِنْ خَالِقٍ غير اللَّهِ} (1) وكما قال: {لا يخلقون شيئًا وهم يخلقون} (2) وكما قال سبحانه: {أفمن يخلق كمن لا يخلق} (3) وكما قال: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} (4) وهذا في كتاب الله كثير. (5)
وقال: وأن الخير والشر بقضاء الله وقدره. وأنا نؤمن بقضاء الله وقدره، خيره وشره، حلوه ومره، ونعلم أن ما أصابنا لم يكن ليخطئنا، وما أخطأنا لم يكن ليصيبنا، وأن لا نملك لأنفسنا نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله كما قال عز وجل: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} (6).اهـ (7)
وتناول رحمه الله الرد على القدرية في بابين بأكملهما هما الحادي عشر والثاني عشر. (8)
وقال: وأجمعوا على أن على جميع الخلق الرضا بأحكام الله التي أمرهم أن يرضوا بها، والتسليم في جميع ذلك لأمره، والصبر على قضائه، والانتهاء إلى طاعته فيما دعاهم إلى فعله أو تركه.
_________
(1) فاطر الآية (3).
(2) النحل الآية (20).
(3) النحل الآية (17).
(4) الطور الآية (35).
(5) الإبانة عن أصول الديانة (ص.45 - 46).
(6) الأعراف الآية (188).
(7) الإبانة عن أصول الديانة (ص.47).
(8) الإبانة عن أصول الديانة (ص.132 إلى 161).
(5/117)
وأجمعوا على أنه عادل في جميع أفعاله وأحكامه ساءنا ذلك، أم سرنا، نفعنا، أو ضرنا.
وأجمعوا على أنه تعالى قد قدر جميع أفعال الخلق وآجالهم وأرزاقهم قبل خلقه لهم، وأثبت في اللوح المحفوظ جميع ما هو كائن منهم إلى يوم يبعثون، وقد دل على ذلك بقوله: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} (1).
وأخبر أنه عز وجل يقرع الجاحدين لذلك في جهنم بقوله: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (2).
وأجمعوا على أنه تعالى قسم خلقه فرقتين، فرقة خلقهم للجنة وكتبهم بأسمائهم وأسماء آبائهم، وفرقة خلقهم للسعير ذكرهم بأسمائهم وأسماء آبائهم ممتثلين في ذلك لقوله عز وجل: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} (3).
ولقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ
_________
(1) القمر الآيتان (52و53).
(2) القمر الآيتان (48و49).
(3) الأعراف الآية (179).
(5/118)
عَنْهَا مُبْعَدُونَ} (1) وقد بين ذلك ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث القبضتين (2).
وحديث الصادق المصدوق عن عبد الله بن مسعود (3)، وما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر بن الخطاب -رضوان الله عليه- حين قال يا رسول الله: أرأيت ما نحن فيه أمر قد فرغ منه، أم أمر مستأنف؟ فقال عليه السلام: "بل أمر قد فرغ منه"، قال عمر: ففيم العمل يا رسول الله؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له" (4) وغير ذلك مما جاء في الكتاب والسنة.
وأجمعوا على أن الخلق لا يقدرون على الخروج مما سبق في علم الله فيهم، وإرادته لهم، وعلى أن طاعته تعالى واجبة عليهم فيما أمرهم به، وإن كان السابق من علمه فيهم وإرادته لهم أنهم لا يطيعونه، وأن ترك معصيته لازم لجميعهم، وإن كان السابق في علمه وإرادته أنهم يعصونه، وأنه تعالى يطالبهم بالأمر والنهي، ويحمدهم على الطاعة فيما أمروا به، ويذمهم على المعصية فيما نهوا عنه، وأن جميع ذلك عدل منه تعالى عليهم كما أنه تعالى عادل على من خلقه منهم مع علمه أنه يكفر إذا أمره، وأعطاه القدرة التي يعلم أنها تصيره إلى معصيته، وأنه عدل في تبقيته المؤمنين إلى الوقت الذي يعلم أنهم يكفرون فيه ويرتدون عما كانوا عليه من إيمانهم، وتعذيبهم لهم على الجرم المنقطع بالعذاب الدائم، لأنه عز وجل ملك لجميع ذلك فيهم غير
_________
(1) الأنبياء الآية (101).
(2) تقدم تخريجه في مواقف أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة (23هـ).
(3) تقدم تخريجه في مواقف السلف من عمرو بن عبيد سنة (144هـ).
(4) سيأتي تخريجه في مواقف عبد الرحمن بن ناصر السعدي سنة (1376هـ).
(5/119)
محتاج في فعله إلى تمليك غيره له ذلك، حتى يكون جائرا فيه قبل تملكه، بل هو تعالى في فعل جميع ذلك عادل له، وله مالك يفعل ما يشاء، كما قال عز وجل: {فعال لما يريد} (1).اهـ (2)
أبو مُزَاحِم الخَاقَانِي (3) (325 هـ)
الإمام المقرئ المحدث، أبو مزاحم موسى بن عبيد الله بن يحيى الخاقاني البغدادي. سمع عباساً الدوري، وأبا قلابة الرقاشي، وأبا بكر المروذي. وروى عنه أبو بكر الآجري، وابن أبي هاشم، وأبو عمر بن حيويه. قال عنه الخطيب البغدادي والسمعاني: كان ثقة ديناً من أهل السنة. وقال أبو عمر بن حيويه: كان نقش خاتم أبي مزاحم: "دن بالسنن، موسى تعن". وقال عنه ابن الجزري: إمام محدث مقرئ ثقة سني. وقال: هو أول من صنف في التجويد فيما أعلم، وقصيدته الرائية مشهورة، وشرحها الحافظ أبو عمر. مات في ذي الحجة سنة خمس وعشرين وثلاثمائة.
موقفه من المبتدعة:
عن محمد بن العباس الخزاز قال: أنشدنا أبو مزاحم الخاقاني لنفسه:
_________
(1) البروج الآية (16).
(2) رسالة إلى أهر ثغر (ص.138 - 143).
(3) السير (15/ 94) وتاريخ بغداد (13/ 59) والأنساب للسمعاني (2/ 310) وغاية النهاية (2/ 320) ومعرفة القراء الكبار (1/ 274 - 275) وشذرات الذهب (2/ 307).
(5/120)
أهل الكلام وأهل الرأي قد عدموا ... علم الحديث الذي ينجو به الرجل
لو أنهم عرفوا الآثار ما انحرفوا ... عنها إلى غيرها، لكنهم جهلوا (1)
عبد الرحمن بن أبي حاتم (2) (327 هـ)
العلامة الحافظ الإمام ابن الإمام، صاحب التصانيف، شيخ الإسلام، الناقد أبو محمد عبد الرحمن بن الحافظ الكبير أبي حاتم محمد بن إدريس بن المنذر التميمي الحنظلي الرازي. ولد سنة أربعين ومائتين وارتحل به أبوه، فأدرك الأسانيد العالية. سمع أبا سعيد الأشج، والحسن بن عرفة، وأحمد بن سنان القطان، ويونس بن عبد الأعلى وأبا زرعة، وأخذ علم أبيه، وسمع خلائق بالأقاليم. روى عنه يوسف المَيَانَجي وأبو الشيخ بن حيان وأبو أحمد الحاكم، وعلي بن محمد القصار وآخرون. قال أبو يعلى الخليلي: أخذ علم أبيه وأبي زرعة، وكان بحراً في العلوم ومعرفة الرجال، صنف في الفقه، واختلاف الصحابة والتابعين. قال علي بن أحمد الفرضي: ما رأيت أحداً ممن عرف عبد الرحمن ذكر عنه جهالة قط. وكان أبوه يتعجب من عبادته. قال رحمه الله: لا يستطاع العلم براحة الجسد. صنف الكثير منها: 'الجرح والتعديل' و'الرد على الجهمية' و'التفسير' و'العلل' و'المسند' وغيرها. مات رحمه الله في المحرم سنة سبع وعشرين وثلاثمائة بالري، وله بضع وثمانون سنة.
_________
(1) شرف أصحاب الحديث (ص.79).
(2) طبقات الحنابلة (2/ 55) وتذكرة الحفاظ (3/ 829 - 832) والبداية والنهاية (11/ 203) والسير (13/ 263 - 269) وطبقات الشافعية للسبكي (3/ 324 - 328) وشذرات الذهب (2/ 308 - 309).
(5/121)
موقفه من المبتدعة:
عن عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي قال: علامة أهل البدع الوقيعة في أهل الأثر، وعلامة الزنادقة تسميتهم أهل السنة حشوية. (1)
موقفه من الجهمية:
له من الآثار السلفية:
1 - الرد على الجهمية: وقد نقل أبو القاسم اللالكائي في 'أصول الاعتقاد' جملة وافرة منه وكذلك الإمام ابن القيم في 'اجتماع الجيوش'، كما مر معنا في كثير من المواقف. وذكره ابن أبي يعلى في 'طبقات الحنابلة' (2) وشيخ الإسلام في 'درء التعارض'. (3)
2 - كتاب السنة: ذكره في طبقات الحنابلة. (4)
3 - التفسير: وهو من أهم التفاسير السلفية وقد اعتمده الإمام ابن كثير في تفسيره، ولو جمع ما فيه لكان مجلداً كبيراً. ذكره شيخ الإسلام في الدرء ضمن التفاسير السلفية (5)، وقد وجد مخطوطاً من "سورة البقرة" إلى "سورة يوسف" وقد أخذ رسائل علمية في جامعة أم القرى.
وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سألت أبي وأبا زرعة عن مذاهب أهل السنة -يعني في أصول الدين- وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار
_________
(1) ذم الكلام (275).
(2) (2/ 55).
(3) (6/ 261).
(4) (2/ 55).
(5) (2/ 21).
(5/122)
فقالوا: أدركنا العلماء في جميع الأمصار: حجازاً، وعراقاً، ومصراً، وشاماً، ويمناً، فكان من مذاهبهم أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، والقرآن كلام الله غير مخلوق بجميع جهاته، إلى أن قال: وأن الله على عرشه، بائن من خلقه، كما وصف نفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله، بلا كيف، أحاط بكل شيء علماً. (1)
الإِصْطَخْرِي (2) (328 هـ)
الإمام القدوة العلامة شيخ الإسلام، أبو سعيد الحسن بن أحمد بن يزيد، الإصطخري الشافعي فقيه العراق ورفيق ابن سريج. سمع سعدان بن نصر، وحفص بن عمرو الربالي، وأحمد بن منصور الرمادي، وعبّاساً الدوري، وحنبل بن إسحاق وعدة. وعنه محمد بن المظفر والدارقطني وابن شاهين وآخرون. وتفقه به أئمة.
قال الخطيب: ولي قضاء قمر وولي حسبة بغداد، فأحرق مكان الملاهي، وكان ورعاً زاهداً، متقلّلاً من الدنيا، له تصانيف مفيدة منها: كتاب 'أدب القضاء' ليس لأحد مثله. قال المروزي: لما دخلت بغداد لم يكن بها من يستحق أن ندرس عليه إلا ابن سريج وأبو سعيد الإصطخري. مات رحمه الله في جمادى الآخرة سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة، وله نيف وثمانون سنة.
_________
(1) درء التعارض (6/ 257).
(2) تاريخ بغداد (7/ 268 - 270) ووفيات الأعيان (2/ 74 - 75) والسير (15/ 250 - 252) والبداية والنهاية (11/ 205) وتاريخ الإسلام (حوادث 321 - 330/ص.226 - 227) وشذرات الذهب (2/ 312).
(5/123)
موقفه من المشركين:
- جاء في السير: واستفتاه القاهر في الصابئين، فأفتاه بقتلهم لأنهم يعبدون الكواكب، فعزم الخليفة على ذلك، فجمعوا مالاً جزيلاً، وقدموه، ففتر عنهم. (1)
- وأخرج الهروي: عن أبي الحسين الطبسي قال: سمعت أبا سعيد الاصطخري يقول، وجاءه رجل فقال له أيجوز الاستنجاء بالعظم قال: لا، قال لم؟ قال لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "هو زاد إخوانكم من الجن" (2)، قال: فقال له الإنس أفضل أم الجن؟ قال: بل الإنس، قال: فلم يجوز الاستنجاء بالماء وهو زاد الإنس، قال: فعدا عليه وأخذ بحلقه وهو يقول: يا زنديق تعارض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعل يخنقه، فلولا أني أدركته لقتله. (3)
المرتعش الصوفي (328 هـ)
موقفه من الصوفية:
من جيد كلامه: قيل له: فلان يمشي على الماء، قال: عندي أن من مكنه الله من مخالفة هواه فهو أعظم من المشي على الماء. (4)
_________
(1) السير (15/ 252).
(2) أحمد (1/ 436) ومسلم (1/ 332/450) والترمذي (1/ 29/18) عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تستنجوا بالروث ولا بالعظام فإنه زاد إخوانكم من الجن". وأخرجه أبو داود (1/ 67/85) مختصراً.
(3) ذم الكلام (273 - 274).
(4) السير (15/ 231).
(5/124)
الراضي أحمد بن المقتدر (1) (329 هـ)
الخليفة محمد وقيل أحمد أبو إسحاق الراضي بالله بن المقتدر بالله جعفر ابن المعتضد بالله أحمد بن أبي أحمد بن المتوكل. ولد سنة سبع وتسعين ومائتين وأمه أمة رومية، وكان قصيراً أسمر نحيفاً، في وجهه طول، استخلف بعد عمه القاهر عندما سملوا القاهر سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة. قال الخطيب: له فضائل منها أنه آخر خليفة له شعر مدون وآخر خليفة انفرد بتدبير الجيوش وآخر خليفة خطب الجمعة وآخر خليفة جالس الندماء، وكانت جوائزه وأموره على ترتيب المتقدمين منهم، وكان سمحاً جواداً أديباً فصيحاً محباً للعلماء، ومن شعره:
كل صفو إلى كدر ... كل أمن إلى حذر
ومصير الشباب للمو ... ت فيه أو الكبر
در در المشيب من ... واعظ ينذر البشر
أيها الآمِلُ الذي ... تاه في لجة الغرر
توفي في ربيع الأول سنة تسع وعشرين وثلاثمائة. وله اثنتان وثلاثون سنة سوى أشهر، وبويع المتقي لله إبراهيم أخوه.
موقفه من المشركين:
- قال ابن كثير: وفيها -أي سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة- ظهر ببغداد رجل يعرف بأبي جعفر محمد بن علي الشلمغاني، ويقال له ابن
_________
(1) تاريخ بغداد (2/ 142 - 145) والسير (15/ 103 - 104) والبداية والنهاية (11/ 190 - 209) والوافي بالوفيات (2/ 297 - 300) وشذرات الذهب (2/ 324) وتاريخ الإسلام (حوادث 321 - 330/ص.267 - 269).
(5/125)
العرافة، فذكروا عنه أنه يدعي ما كان يدعيه الحلاج من الإلهية، وكانوا قد قبضوا عليه في دولة المقتدر عند حامد بن العباس، واتهم بأنه يقول بالتناسخ فأنكر ذلك. ولما كانت هذه المرة أحضره الراضي وادعى عليه بما كان ذكر عنه فأنكر ثم أقر بأشياء، فأفتى قوم أن دمه حلال إلا أن يتوب من هذه المقالة، فأبى أن يتوب، فضرب ثمانين سوطاً، ثم ضربت عنقه وألحق بالحلاج، وقتل معه صاحبه ابن أبي عون لعنه الله. وكان هذا اللعين من جملة من اتبعه وصدقه فيما يزعمه من الكفر. (1)
- جاء في معجم الأدباء: رسالة في ترجمة ابن أبي عون وهي رسالة طويلة ذكرها ياقوت بين فيها عقيدة هذا الزنديق وشيخه ابن الشلمغاني وأصحابه، وسأقتصر على بعض المقتطفات منها لطول الرسالة ومن شاء الاطلاع عليها كلها فليرجع إلى المصدر الذي ذكرته. قال ياقوت: وقرأت "بمرو" رسالة كتبت من بغداد عن أمير المؤمنين الراضي رضي الله عنه إلى أبي الحسين نصر بن أحمد الساماني والي خراسان، بقتل العزاقري لخصت ما يتعلق بابن أبي عون قال فيها بعد أن ذكر أول من أبدع مذهباً في الإسلام من الرافضة وأهل الأهواء وآخر من اضطر المقتدر بالله رحمه الله فانتقم منهم ...
ولما ورث أمير المؤمنين ميراث أوليائه، وأحله الله محل خلفائه اقتدى بسنتهم ... وجعل الغرض الذي يرجو الإصابة بتيممه والمثوبة بتعمده أن يتتبع هذه الطبقة من الكفار ويطهر الأرض من بقيتهم الفجار فبحث عن أخبارهم
_________
(1) البداية (11/ 191).
(5/126)
وأمر بتقصص آثارهم وأن ينهى إليه ما يصح من أمورهم، ويحصل له ما يظهر عليه من جمهورهم فلم يعد أن أحضر أبو علي محمد وزير أمير المؤمنين رجلاً يقال له: محمد بن علي الشلمغاني ويعرف بابن أبي العزاقر، فأعلم أمير المؤمنين أنه من غمار الناس وصغارهم ووجوه الكفار وكبارهم، وأنه قد استزل خلقاً من المسلمين وأشرك طوائف من العَمِهين وأن الطلب قد كان لحقه في الأيام الخالية فلم يدرك، وأودعت المحابس قوماً ممن ضل وأشرك فلما رفع حكمه عنه وأذن في استنقاذ العباد منه واطلع من أبي علي على صفاء نية ونقاء طوية في ابتغاء الأجر وطلابه رضا الله عز وجل واكتسابه والامتعاض من أن ينازع في الإلهية أو يضاهي في الربوبية آنسه بناحيته فاسترسل، وحثه بالمصير إلى حضرته، فتعجل، ففحص أمير المؤمنين عنه، ووكل إليه همه ففتش أمره تفتيش الحائط للمملكة المحامي عن الحوزة القائم بما فوضه الله إليه من رعاية الأمة ووقف أمير المؤمنين على أنه لم يزل يدخل على العقول من كل مدخل ويتوصل إلى ما فيها من كل متوصل، ويعتزى إلى الملة وهو لا يعتقدها وينتمي إلى الخلة وهو عارٍ منها ويدعي العلوم الإلهية وهو عم عنها، ويحقق استخراج الحكم الغامضة وهو جاهل بها ...
واستظهر أمير المؤمنين بأن تقدم إلى أبي علي بمواقفة هذا اللعين على تمويهاته وقبائح تلبيساته ليكون إقامة أمير المؤمنين حد الله عليه بعد الإمعان في الاستبصار وانكشاف الشبهة فيه عن القلوب والأبصار فتجرد أبو علي في ذلك وتشمر وبلغ منه وما قصر وانثال عليه كل من أطلع على الحقيقة وتعرف جلية الصورة فوقف أبو علي على أن العزاقري يدعي أنه لحق الحق وأنه إله الآلهة الأول القديم الظاهر
(5/127)
الباطن الخالق الرازق التام الموصى إليه، بكل معنى ويدعى بالمسيح كما كانت بنو إسرائيل تسمي الله عز وجل المسيح ويقول: إن الله جل وعلا يحل في كل شيء على قدر ما يحتمل وأنه خلق الضد ليدل به على مضدوده، فمن ذلك أنه حل في آدم عليه السلام لما خلقه وفي إبليس وكلاهما لصاحبه يدل عليه لمضادته إياه في معناه وأن الدليل على الحق أفضل من الحق إلى أن قال: ومن احتاج إليه الناس فهو إلاههم ولهذا يستوجب كل كفي أن يسمى الله وأن كل واحد من أشياعه لعنه الله يقول: إنه رب لمن هو دون درجته وأن الرجل منهم يقول: إني رب فلان وفلان رب فلان حتى الانتهاء إلى ابن أبي العزاقر لعنه الله، فيقول أنا رب الأرباب وإله الآلهة لا ربوبية لرب بعدي .. وأنهم يسمون موسى ومحمدا صلى الله عليهما الخائنين لأنهم يدعون أن هارون أرسل موسى عليهما السلام وأن عليّاً رضي الله عنه أرسل محمداً - صلى الله عليه وسلم - فخاناهما ويزعمون أن عليّاً أمهل النبي - صلى الله عليه وسلم - عدة أيام أصحاب الكهف سنين، فإذا انقضت هذه المدة وهي خمسون وثلاثمائة سنة تنقلب الشريعة ... ووجدت رقعة لابن أبي عون هذا بخطه إلى بعض نظرائه يخاطبه فيها كما يخاطب الإنسان ربه تبارك وتعالى ويقول في بعض فصولها: لك الحمد وكل شيء وما شئت كان، ربي، ...
واستفتى أبو علي القضاة والفقهاء في أمر ابن أبي العزاقر وصاحبه هذا الكافر، وسائر من على مذهبه، ممن وجدت له كتب ومخاطبة ومن لم يوجد له ذلك فأفتى من استفتي منهم بقتلهم وأباحوا دماءهم وكتبوا بذلك خطوطهم فأمر أمير المؤمنين بإحضار ابن أبي العزاقر اللعين وابن أبي عون
(5/128)
صاحبه وضريبه وتابعه وأن يجلدا ليراهما من سمع بهما، ويتعظ بما نزل من العذاب بساحتهما، ويتبين من دان بربوبية ابن أبي العزاقر عجزه عن حراسة نفسه وأنه لو كان قادراً لدفع عن مهجته ولو كان خالقا دفع وكشف الضر عن جسده ولو كان ربا لقبض الأيدي عن نكايته، وجدد أمير المؤمنين الاستظهار والحزم والروية، فيما يمضيه عن العزم، وأحضر عمر بن محمد القاضي بمدينة السلام والعدول بها والفقهاء من أهل مجلسه، وسألهم عما عندهم مما انكشف من أمر ابن أبي العزاقر وأمور أهل دعوته وغيه وضلالته فأقامت الكافة على رأيها في قتله وتطهير الأرض من رجسه ورجس مثله. وزال الشك في ذلك عن أمير المؤمنين بالفتيا وإجماع القاضي والفقهاء وبما وضح من إزلال هذا الضلال المسلمين وإفساد الدين وذلك أعظم وأثقل وزرا من الإفساد في الأرض والسعي فيها بغير الحق، وقد استحق من جرى هذا المجرى القتل فأوعز أمير المؤمنين بصلبه. وصلب ابن أبي عون، بحيث يراهما المنكر والعارف ويلحظهما المجتاز والواقف، فصلبا في أحد جانبي مدينة السلام، ونودي عليهما بما حاولاه من إبطال الشريعة ورأياه من إفساد الديانة، ثم تقدم أمير المؤمنين بقتلهما، ونصب رؤوسهما، وإحراق أجسامهما، ففعل ذلك بمشهد من الخاصة والعامة والنظارة والمارة. (1)
_________
(1) معجم الأدباء (1/ 238 - 253).
(5/129)
الحسن بن علي البَرْبَهَارِيّ (1) (329 هـ)
أبو محمد الحسن بن علي بن خلف البربهاري، شيخ الحنابلة، وشيخ الطائفة في وقته ومتقدمها في الإنكار على أهل البدع، والمباينة لهم باليد واللسان، وكان له صيت عند السلطان، وقدم عند الأصحاب، وكان أحد الأئمة العارفين، والحفاظ للأصول المأمونين، والثقات المتقنين، وكان قوّالاً بالحق، داعية إلى الأثر، لا يخاف في الله لومة لائم. من شيوخه: أحمد بن محمد ابن الحجاج أبو بكر المرُّوذي، وسهل بن عبد الله التستري. ومن تلامذته: أبو عبد الله بن بطة العكبري، وأحمد بن كامل بن شجرة. وصنف البربهاري مصنفات منها: كتاب 'شرح السنة' الذي ذكر فيه عقيدته ومواقفه من البدع والأهواء. توفي رحمه الله في الاستتار في رجب سنة تسع وعشرين وثلاثمائة.
موقفه من المبتدعة:
- لم يكن أبو محمد البربهاري ذا علم ومعرفة فقط، ولكن الداعية والمربي على العقيدة السلفية، كان رحمه الله تهابه الملوك والحكام لما له من المكانة في نفوس الناس، واسمع ما نقله ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة:
وكانت للبربهاري مجاهدات ومقامات في الدين كثيرة. وكان المخالفون يغيظون قلب السلطان عليه. ففي سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة في خلافة القاهر ووزيره ابن مقلة، تقدم بالقبض على البربهاري. فاستتر، وقبض على
_________
(1) طبقات الحنابلة (2/ 18 - 45) والبداية والنهاية (11/ 101) والوافي بالوفيات (12/ 146 - 147) وشذرات الذهب (2/ 319) والسير (15/ 90 - 93).
(5/130)
جماعة من كبار أصحابه وحملوا إلى البصرة وعاقب الله تعالى ابن مقلة على فعله ذلك، بأن أسخط عليه القاهر، وهرب ابن مقلة وعزله القاهر عن وزارته، وطرح في داره النار فقبض على القاهر بالله يوم الأربعاء لست من شهر جمادى الآخرة، سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة، وحبس وخلع، وسملت عيناه في هذا اليوم حتى سالتا جميعاً فعمي ثم تفضل الله تعالى وأعاد البربهاري إلى حشمته وزادت حتى إنه لما توفي أبو عبد الله بن عرفة، المعروف بنفطويه، وحضر جنازته أماثل أبناء الدنيا والدين كان المقدم على جماعتهم في الإمامة البربهاري. وذلك في صفر سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة. وفي هذه السنة ازدادت حشمة البربهاري وعلت كلمته وظهر أصحابه وانتشروا في الإنكار على المبتدعة، فبلغنا أن البربهاري اجتاز بالجانب الغربي، فعطس فشمته أصحابه فارتفعت ضجتهم حتى سمعها الخليفة وهو في روشنه فسأل عن الحال؟ فأخبر بها فاستهولها، ولم تزل المبتدعة ينقلون قلب الراضي على البربهاري، فتقدم الراضي إلى بدر الحرسي صاحب الشرطة بالركوب والنداء ببغداد: أن لا يجتمع من أصحاب البربهاري نفسان فاستتر وكان ينزل بالجانب الغربي بباب محول، فانتقل إلى الجانب الشرقي مستتراً، فتوفي في الاستتار في رجب سنة تسع وعشرين وثلاثمائة.
- حدثني محمد بن الحسن المقري قال: حكى لي جدي وجدتي قالا: كان أبو محمد البربهاري قد اختبأ عند أخت توزون بالجانب الشرقي في درب الحمام في شارع درب السلسلة فبقي نحواً من شهر، فلحقه قيام الدم فقالت أخت توزون لخادمها لما مات البربهاري عندها مستتراً: انظر من
(5/131)
يغسله فجاء بالغاسل فغسله وغلق الباب حتى لا يعلم أحد ووقف يصلي عليه وحده. فطالعت صاحبة المنزل فرأت الدار ملأى رجالاً عليهم ثياب بيض وخضر، فلما سلم، لم تر أحداً فاستدعت الخادم وقالت: يا حجام أهلكتني مع أخي فقال: يا ستي، رأيت رأيت؟ فقالت: نعم فقال: هذه مفاتيح الباب وهو مغلق فقالت: ادفنوه في بيتي فإذا مت فادفنوني عنده في بيت القبة فدفنوه في دارها فماتت بعده بزمان فدفنت في ذلك المكان ومضى الزمان عليها وصارت تربة وهو بقرب دار المملكة بالمخرم. (1)
- كلمته القيمة في أصحاب البدع:
قال رحمه الله: مثل أصحاب البدع مثل العقارب يدفنون رؤوسهم وأبدانهم في التراب، ويخرجون أذنابهم، فإذا تمكنوا لدغوا، وكذلك أهل البدع، هم مختفون بين الناس، فإذا تمكنوا بلغوا ما يريدون. (2)
- آثاره السلفية:
'شرح السنة' وهي عقيدة شرح فيها الإمام العقيدة السلفية، وحذر من اتباع الأهواء والآراء المخالفة للسنة.
- من كلامه رحمه الله تعالى:
قال: الحمد لله الذي هدانا للإسلام، ومن علينا به، وأخرجنا في خير أمة، فنسأله التوفيق لما يحب ويرضى، والحفظ مما يكره ويسخط.
اعلموا أن الإسلام هو السنة، والسنة هي الإسلام، ولا يقوم أحدهما إلا
_________
(1) طبقات الحنابلة (2/ 44 - 45).
(2) طبقات الحنابلة (2/ 44).
(5/132)
بالآخر.
فمن السنة لزوم الجماعة، فمن رغب غير الجماعة وفارقها، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، وكان ضالاًّ مضلاًّ.
والأساس الذي تبنى عليه الجماعة وهم: أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، ورحمهم أجمعين، وهم أهل السنة والجماعة، فمن لم يأخذ عنهم، فقد ضل وابتدع، وكل بدعة ضلالة، والضلالة وأهلها في النار.
وقال عمر بن الخطاب رحمه الله: لا عذر لأحد في ضلالة ركبها حسبها هدى، ولا في هدى تركه حسبه ضلالة، فقد بينت الأمور وثبتت الحجة، وانقطع العذر.
وذلك أن السنة والجماعة قد أحكما أمر الدين كله، وتبين للناس، فعلى الناس الاتباع.
واعلم رحمك الله، أن الدين إنما جاء من قبل الله تبارك وتعالى، لم يوضع على عقول الرجال وآرائهم، وعلمه عند الله وعند رسوله فلا تتبع شيئاً بهواك، فتمرق من الدين فتخرج من الإسلام، فإنه لا حجة لك فقد بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمته السنة، وأوضحها لأصحابه، وهم الجماعة، وهم السواد الأعظم، والسواد الأعظم: الحق وأهله، فمن خالف أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شيء من أمر الدين فقد كفر.
واعلم أن الناس لم يبتدعوا بدعة قط حتى تركوا من السنة مثلها، فاحذر المحدثات من الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، والضلالة وأهلها في النار.
(5/133)
واحذر صغار المحدثات من الأمور، فإن صغير البدع يعود حتى يصير كبيراً، وكذلك كل بدعة أحدثت في هذه الأمة، كان أولها صغيراً يشبه الحق فاغتر بذلك من دخل فيها، ثم لم يستطع الخروج منها، فعظمت وصارت دينا يدان بها، فخالف الصراط المستقيم، فخرج من الإسلام.
فانظر رحمك الله كل من سمعت كلامه من أهل زمانك خاصة فلا تعجلن، ولا تدخلن في شيء منه حتى تسأل وتنظر: هل تكلم به أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو أحد من العلماء؟ فإن وجدت فيه أثراً عنهم فتمسك به، ولا تجاوزه لشيء، ولا تختار عليه شيئاً، فتسقط في النار.
واعلم أن الخروج من الطريق على وجهين: أما أحدهما: فرجل قد زل عن الطريق وهو لا يريد إلا الخير، فلا يقتدى بزلته، فإنه هالك.
وآخر عاند الحق وخالف من كان قبله من المتقين، فهو ضال مضل، شيطان مريد في هذه الأمة، حقيق على من يعرفه أن يحذر الناس منه ويبين للناس قصته، لئلا يقع أحد في بدعته، فيهلك.
واعلم رحمك الله أنه لا يتم إسلام عبد، حتى يكون متبعاً مصدقاً مسلماً فمن زعم أنه قد بقي شيء من أمر الإسلام لم يكفوناه أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، فقد كذبهم، وكفى به فرقة وطعنا عليهم، وهو مبتدع ضال مضل، محدث في الإسلام ما ليس فيه.
واعلم رحمك الله: أنه ليس في السنة قياس، ولا يضرب لها الأمثال، ولا تتبع فيها الأهواء، وإنما هو التصديق بآثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلا كيف، ولا شرح، لا يقال لم؟ وكيف؟
(5/134)
والكلام والخصومة والجدال والمراء محدث، يقدح الشك في القلب وإن أصاب صاحبه الحق والسنة. (1)
- وقال: وإذا سمعت الرجل يطعن على الآثار ولا يقبلها أو ينكر شيئاً من أخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاتهمه على الإسلام، فإنه رجل رديء القول والمذهب، وإنما طعن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، لأنه إنما عرفنا الله، وعرفنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعرفنا القرآن، وعرفنا الخير والشر، والدنيا والآخرة بالآثار.
وأن القرآن إلى السنة أحوج من السنة إلى القرآن. (2)
- وقال: واعلم رحمك الله أنه ما كانت زندقة قط، ولا كفر، ولا شك، ولا بدعة، ولا ضلالة، ولا حيرة في الدين، إلا من الكلام، وأهل الكلام، والجدل، والمراء، والخصومة.
والعجب كيف يجترئ الرجل على المراء والخصومة والجدال والله تعالى يقول: {مَا يجادل في أيات اللَّهِ إِلًّا الَّذِينَ كَفَرُوا} (3)، فعليك بالتسليم، والرضى بالآثار وأهل الآثار، والكف، والسكوت. (4)
- وقال: واعلم أنه لم تجيء بدعة قط إلا من الهمج الرعاع أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، فمن كان هكذا، فلا دين له، قال الله تبارك
_________
(1) شرح السنة للبربهاري (ص.67 - 71).
(2) شرح السنة للبربهاري (ص.89).
(3) غافر الآية (4).
(4) شرح السنة للبربهاري (ص.94 - 95).
(5/135)
وتعالى: {فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} (1)، وقال: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} (2)، وهم علماء السوء أصحاب الطمع والبدع.
واعلم أنه لا يزال الناس في عصابة من أهل الحق والسنة، يهديهم الله، ويهدي بهم غيرهم، ويحيي بهم السنن، فهم الذين وصفهم الله تعالى مع قلتهم عند الاختلاف فقال: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} (3) فاستثناهم، فقال: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (4)، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تزال عصابة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون" (5).اهـ (6)
- وقال: وعليك بالآثار وأهل الآثار، وإياهم فاسأل، ومعهم فاجلس
_________
(1) الجاثية الآية (17).
(2) البقرة الآية (213).
(3) البقرة الآية (213).
(4) البقرة الآية (213).
(5) تقدم تخريجه. انظر مواقف عبد الله بن المبارك سنة (181هـ).
(6) شرح السنة للبربهاري (ص.103 - 104).
(5/136)
ومنهم فاقتبس. (1)
- وقال: وإذا رأيت الرجل يحب أبا هريرة، وأنس بن مالك، وأسيد بن حضير، فاعلم أنه صاحب سنة إن شاء الله، وإذا رأيت الرجل يحب أيوب، وابن عون، ويونس بن عبيد، وعبد الله بن إدريس الأودي، والشعبي، ومالك ابن مغول، ويزيد بن زريع، ومعاذ بن معاذ ووهب بن جرير، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، ومالك بن أنس، والأوزاعي، وزائدة بن قدامة، فاعلم أنه صاحب سنة، وإذا رأيت الرجل يحب أحمد بن حنبل، والحجاج بن المنهال، وأحمد بن نصر، وذكرهم بخير، وقال بقولهم، فاعلم أنه صاحب سنة. (2)
- وقال: وإذا ظهر لك من إنسان شيء من البدع، فاحذره، فإن الذي أخفى عنك أكثر مما أظهر.
وإذا رأيت الرجل من أهل السنة رديء الطريق والمذهب، فاسقاً فاجراً، صاحب معاصي ضالاً وهو على السنة، فاصحبه، واجلس معه، فإنه ليس يضرك معصيته، وإذا رأيت الرجل مجتهداً في العبادة متقشفاً محترقاً بالعبادة صاحب هوىً، فلا تجالسه، ولا تقعد معه، ولا تسمع كلامه، ولا تمش معه في طريق، فإني لا آمن أن تستحلي طريقته، فتهلك معه.
ورأى يونس بن عبيد ابنه وقد خرج من عند صاحب هوى، فقال: يا بني من أين جئت؟ قال: من عند فلان، قال: يا بني لأن أراك خرجت من بيت خنثى، أحب إلي من أن أراك تخرج من بيت فلان وفلان، ولأن تلقى
_________
(1) شرح السنة للبربهاري (ص.111).
(2) شرح السنة للبربهاري (ص.119 - 121).
(5/137)
الله يا بني زانياً فاسقاً سارقاً خائناً، أحب إلي من أن تلقاه بقول فلان وفلان.
ألا ترى أن يونس بن عبيد قد علم أن الخنثى لا يضل ابنه عن دينه، وأن صاحب البدعة يضله حتى يكفر؟
واحذر ثم احذر أهل زمانك خاصة، وانظر من تجالس، وممن تسمع ومن تصحب، فإن الخلق كأنهم في ردة، إلا من عصمه الله منهم.
وانظر إذا سمعت الرجل يذكر ابن أبي دؤاد، وبشراً المريسي وثمامة أو أبا الهذيل، أو هشام الفوطي، أو واحداً من أتباعهم، وأشياعهم، فاحذره فإنه صاحب بدعة، فإن هؤلاء كانوا على الردة، واترك هذا الرجل الذي ذكرهم بخير، ومن ذكر منهم. (1)
- وقال: فالله الله في نفسك، وعليك بالأثر وأصحاب الأثر والتقليد، فإن الدين إنما هو بالتقليد، يعني: للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين، ومن قبلنا لم يدعونا في لبس، فقلدهم واسترح ولا تجاوز الأثر وأهل الأثر. (2)
موقفه من الجهمية:
قال رحمه الله في شرح السنة له: واعلم رحمك الله: أن الكلام في الرب تعالى محدث، وهو بدعة وضلالة، ولا يتكلم في الرب، إلا بما وصف به نفسه عز وجل في القرآن، وما بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه، فهو جل ثناؤه واحد: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (3).
_________
(1) شرح السنة للبربهاري (ص.123 - 126).
(2) شرح السنة للبربهاري (ص.128).
(3) الشورى الآية (11).
(5/138)
ربنا أول بلا متى، وآخر بلا منتهى، يعلم السر وأخفى، وعلى عرشه استوى، وعلمه بكل مكان، لا يخلو من علمه مكان.
ولا يقول في صفات الرب: كيف؟ ولم؟ إلا شاك في الله تبارك وتعالى.
والقرآن كلام الله وتنزيله ونوره، ليس بمخلوق، لأن القرآن من الله، وما كان من الله، فليس بمخلوق، وهكذا قال مالك بن أنس وأحمد بن حنبل والفقهاء قبلهما وبعدهما، والمراء فيه كفر.
والإيمان بالرؤية يوم القيامة، يرون الله عز وجل بأبصار رؤوسهم وهو يحاسبهم بلا حجاب ولا ترجمان.
والإيمان بالميزان يوم القيامة، يوزن فيه الخير والشر، له كفتان ولسان.
والإيمان بعذاب القبر، ومنكر ونكير.
والإيمان بحوض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكل نبي حوض (1)، إلا صالح النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن حوضه ضرع ناقته (2).
والإيمان بشفاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للمذنبين الخاطئين في يوم القيامة، وعلى
_________
(1) أخرجه: البخاري في التاريخ الكبير (1/ 44/82) والترمذي (4/ 542 - 543/ 2443) وابن أبي عاصم (2/ 341 - 342/ 734) والطبراني في الكبير (7/ 212/6881) من طريق قتادة عن الحسن عن سمرة مرفوعاً. قال الترمذي: "هذا حديث غريب وقد روى الأشعث بن عبد الملك هذا الحديث عن الحسن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً ولم يذكر فيه عن سمرة وهو أصح".
وللحديث شواهد أوردها الشيخ الألباني في الصحيحة (4/ 118 - 120) لعل الحديث يرتقي بها إلى درجة الحسن والله أعلم.
(2) أخرجه: العقيلي في الضعفاء (3/ 64 - 65)، وعنه ابن الجوزي في الموضوعات (2/ 417 - 418) من طريق عبد الكريم بن كيسان عن سويد بن عمير. قال العقيلي: عبد الكريم بن كيسان مجهول بالنقل حديثه غير محفوظ. وقال ابن الجوزي: "هذا حديث موضوع لا أصل له". وقال الذهبي في الميزان (2/ 645): "عبد الكريم بن كيسان من المجاهيل وحديثه منكر". ثم ذكر الحديث وقال عقبه: "قلت هو موضوع، والله أعلم".
(5/139)
الصراط، ويخرجهم من جوف جهنم، وما من نبي إلا له شفاعة، وكذلك الصديقون والشهداء، والصالحون، ولله بعد ذلك تفضل كثير، فيمن يشاء، والخروج من النار بعدما احترقوا وصاروا فحماً.
والإيمان بالصراط على جهنم، يأخذ الصراط من شاء الله، ويجوز من شاء الله، ويسقط في جهنم من شاء الله، ولهم أنوار على قدر إيمانهم.
والإيمان بالأنبياء والملائكة.
والإيمان بأن الجنة حق، والنار حق، مخلوقتان، الجنة في السماء السابعة، وسقفها العرش، والنار تحت أرض السابعة السفلى، وهما مخلوقتان، قد علم الله تعالى عدد أهل الجنة ومن يدخلها، وعدد أهل النار ومن يدخلها، لا تفنيان أبداً، هما مع بقاء الله تبارك وتعالى أبد الآبدين، في دهر الداهرين.
وآدم عليه السلام كان في الجنة الباقية المخلوقة، فأخرج منها بعدما عصى الله عز وجل.
والإيمان بالمسيح الدجال.
والإيمان بنزول عيسى بن مريم عليه السلام، ينزل فيقتل الدجال ويتزوج ويصلي خلف القائم من آل محمد - صلى الله عليه وسلم -، ويموت ويدفنه المسلمون. (1)
وقال: وكل ما سمعت من الآثار مما لم يبلغه عقلك، نحو قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن عز وجل" (2).
_________
(1) شرح السنة (ص.71 - 75).
(2) انظر تخريجه في مواقف سفيان بن عيينة سنة (198هـ).
(5/140)
وقوله: "إن الله تبارك وتعالى ينزل إلى سماء الدنيا" (1)، و"ينزل يوم عرفة" (2). و"ينزل يوم القيامة" (3). و"جهنم لا يزال يطرح فيها، حتى يضع عليها قدمه جل ثناؤه" (4)، وقول الله تعالى للعبد: "إن مشيت إلي، هرولت إليك" (5)، وقوله: "إن الله تبارك وتعالى ينزل يوم عرفة" وقوله: "خلق الله آدم على صورته" (6)، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "رأيت ربي في أحسن صورة" (7). وأشباه هذه الأحاديث فعليك بالتسليم والتصديق والتفويض، لا تفسر شيئاً من هذه بهواك، فإن الإيمان بهذا واجب، فمن فسر شيئاً من هذا بهواه، أو رده، فهو جهمي.
ومن زعم أنه يرى ربه في دار الدنيا، فهو كافر بالله عز وجل.
والفكرة في الله تبارك وتعالى بدعة، لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تفكروا في
_________
(1) انظر تخريجه في مواقف حماد بن سلمة سنة (167هـ).
(2) انظر تخريجه في مواقف ابن قتيبة سنة (276هـ).
(3) سيأتي تخريجه في مواقف إبراهيم بن أحمد بن شاقلا سنة (369هـ).
(4) انظر تخريجه في مواقف عبد العزيز الماجشون سنة (164هـ).
(5) أحمد (2/ 251و413) والبخاري (13/ 473 - 474/ 7405) ومسلم (4/ 2061/2675) والترمذي (5/ 542/3603) والنسائي في الكبرى (4/ 412/7730) وابن ماجه (2/ 1255/1256/ 3822) من حديث أبي هريرة.
(6) أحمد (2/ 315) والبخاري (11/ 3/6227) ومسلم (4/ 2183/2841) من حديث عبد الرزاق عن معمر عن همام ابن منبه عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(7) أخرجه بهذا اللفظ ابن أبي عاصم في السنة (1/ 204/469) عن ابن عباس مرفوعاً.
وأخرجه مطولاً: أحمد (1/ 368) والترمذي (5/ 342 - 343/ 3233و3234) من حديث ابن عباس وقال: "حديث حسن غريب".
والحديث ورد عن جماعة من الصحابة كثوبان وأبي أمامة، وجابر بن سمرة وغيرهم، انظر السنة لابن أبي عاصم (1/ 465،466،467،468،470و471) وفي بعض هذه الروايات التصريح بأن الرؤية كانت في المنام.
(5/141)
الخلق، ولا تفكروا في الله" (1)، فإن الفكرة في الرب، تقدح الشك في القلب. (2)
وقال: واعلم رحمك الله أن أهل العلم لم يزالوا يردون قول الجهمية، حتى كان في خلافة بني فلان تكلم الرويبضة في أمر العامة، وطعنوا على آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخذوا بالقياس والرأي، وكفروا من خالفهم، فدخل في قولهم الجاهل والمغفل، والذي لا علم له، حتى كفروا من حيث لا يعلمون، فهلكت الأمة من وجوه، وكفرت من وجوه، وتزندقت من وجوه، وضلت من وجوه، وتفرقت وابتدعت من وجوه، إلا من ثبت على قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمره وأمر أصحابه، ولم يخطئ أحداً منهم، ولم يجاوز أمرهم، ووسعه ما وسعهم، ولم يرغب عن طريقتهم ومذهبهم، وعلم أنهم كانوا على الإسلام الصحيح والإيمان الصحيح، فقلدهم دينه واستراح، وعلم أن الدين إنما هو بالتقليد، والتقليد لأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -.
واعلم أن من قال: لفظي بالقرآن مخلوق، فهو مبتدع، ومن سكت فلم يقل مخلوق ولا غير مخلوق، فهو جهمي، هكذا قال أحمد بن حنبل.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فإياكم ومحدثات الأمور، فإنها ضلالة، وعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، وعضوا عليها بالنواجذ" (3).
واعلم أنه إنما جاء هلاك الجهمية: أنهم فكروا في الرب عز وجل
_________
(1) انظر تخريجه في مواقف مقاتل بن سليمان سنة (150هـ).
(2) شرح السنة (ص.81 - 84).
(3) أخرجه: أحمد (4/ 126) وأبو داود (5/ 13/4607) والترمذي (5/ 43/2676) وقال: "حسن صحيح". وابن ماجه (1/ 16/43) والحاكم (1/ 95 - 96) وقال: "صحيح ليس له علة" ووافقه الذهبي.
(5/142)
فأدخلوا: لم؟ وكيف؟ وتركوا الأثر، ووضعوا القياس، وقاسوا الدين على رأيهم، فجاءوا بالكفر عياناً، لا يخفى أنه كفر، وكفروا الخلق، واضطرهم الأمر حتى قالوا بالتعطيل.
وقال بعض العلماء -منهم أحمد بن حنبل رضي الله عنه-: الجهمي كافر، ليس من أهل القبلة، حلال الدم، لا يرث، ولا يورث، لأنه قال: لا جمعة ولا جماعة، ولا عيدين، ولا صدقة، وقالوا: من لم يقل القرآن مخلوق، فهو كافر، واستحلوا السيف على أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وخالفوا من كان قبلهم وامتحنوا الناس بشيء لم يتكلم فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أحد من أصحابه، وأرادوا تعطيل المساجد والجوامع، وأوهنوا الإسلام، وعطلوا الجهاد وعملوا في الفرقة، وخالفوا الآثار، وتكلموا بالمنسوخ، واحتجوا بالمتشابه، فشككوا الناس في آرائهم وأديانهم، واختصموا في ربهم، وقالوا: ليس عذاب قبر، ولا حوض، ولا شفاعة، والجنة والنار لم تخلقا، وأنكروا كثيراً مما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاستحل من استحل تكفيرهم ودماءهم من هذا الوجه، لأنه من رد آية من كتاب الله، فقد رد الكتاب كله، ومن رد أثراً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد رد الأثر كله، وهو كافر بالله العظيم، فدامت لهم المدة، ووجدوا من السلطان معونة على ذلك، ووضعوا السيف، والسوط دون ذلك، فدرس علم السنة والجماعة وأوهنوهما، وصارتا مكتومين لإظهار البدع والكلام فيها ولكثرتهم، واتخذوا المجالس وأظهروا رأيهم، ووضعوا فيه الكتب، وأطمعوا الناس، وطلبوا لهم الرئاسة، فكانت فتنة عظيمة، لم ينج منها، إلا من عصم الله، فأدنى ما كان يصيب الرجل من مجالستهم، أن يشك في دينه، أو
(5/143)
يتابعهم، أو يرى رأيهم على الحق، ولا يدري أنه على الحق أو على الباطل، فصار شاكاً، فهلك الخلق حتى كان أيام جعفر الذي يقال له: المتوكل - فأطفأ الله به البدع، وأظهر به الحق،
وأظهر به أهل السنة، وطالت ألسنتهم، مع قلتهم وكثرة أهل البدع إلى يومنا هذا. (1)
- وقال: وإذا أردت الاستقامة على الحق وطريق أهل السنة قبلك، فاحذر الكلام، وأصحاب الكلام والجدال والمراء والقياس والمناظرة في الدين، فإن استماعك منهم -وإن لم تقبل منهم-، يقدح الشك في القلب، وكفى به قبولاً، فتهلك، وما كانت زندقة قط، ولا بدعة، ولا هوى، ولا ضلالة، إلا من الكلام والجدال والمراء والقياس وهي أبواب البدعة والشكوك والزندقة. (2)
- جاء في طبقات الحنابلة: قرأت على علي القرشي عن الحسن الأهوازي قال: سمعت أبا عبد الله الحمراني يقول لما دخل الأشعري إلى بغداد جاء إلى البربهاري فجعل يقول: رددت على الجبائي وعلى أبي هاشم ونقضت عليهم وعلى اليهود والنصارى والمجوس وقلت لهم وقالوا وأكثر الكلام في ذلك. فلما سكت قال البربهاري: ما أدري مما قلت قليلاً ولا كثيراً، ولا نعرف إلا ما قاله أبو عبد الله أحمد بن حنبل قال: فخرج من عندي وصنف كتاب الإبانة فلم يقبله منه ولم يظهر ببغداد إلى أن خرج منها. (3)
_________
(1) شرح السنة (ص.99 - 103).
(2) شرح السنة (ص.127 - 128).
(3) طبقات الحنابلة (2/ 18).
(5/144)
موقفه من الخوارج:
قال البربهاري في شرح السنة: ومن خرج على إمام من أئمة المسلمين؛ فهو خارجي، وقد شق عصا المسلمين، وخالف الآثار وميتته ميتة جاهلية. ولا يحل قتال السلطان والخروج عليهم وإن جاروا، وذلك قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر الغفاري: "اصبر وإن كان عبداً حبشياً" (1)، وقوله للأنصار: "اصبروا حتى تلقوني على الحوض" (2). وليس في السنة قتال السلطان فإن فيه فساد الدين والدنيا. ويحل قتال الخوارج إذا عرضوا للمسلمين في أنفسهم وأموالهم وأهاليهم. وليس له إذا فارقوه أن يطلبهم، ولا يُجهِز على جريحهم، ولا يَأخذ فيئهم، ولا يقتل أسيرهم، ولا يتبع مُدبرهم. (3)
موقفه من المرجئة:
قال في شرح السنة له: والإيمان بأن الإيمان قول وعمل، وعمل وقول، ونية وإصابة، يزيد وينقص، يزيد ما شاء الله، وينقص حتى لا يبقى منه شيء. (4)
وقال: ولا نشهد لأحد بحقيقة الإيمان، حتى يأتي بجميع شرائع
_________
(1) أحمد (3/ 171) ومسلم (3/ 1467/1837) وابن ماجه (2/ 955/2862).
(2) أحمد (3/ 57،171) والبخاري (7/ 147/3792) ومسلم (3/ 14/74/ 1845) من حديث أسيد بن خضير.
(3) شرح السنة (ص.78).
(4) شرح السنة (ص.75).
(5/145)
الإسلام، فإن قصر في شيء من ذلك، كان ناقص الإيمان حتى يتوب، واعلم أن إيمانه إلى الله تعالى، تام الإيمان أو ناقص الإيمان، إلا ما أظهر لك من تضييع شرائع الإسلام. (1)
وقال: ومن قال: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص فقد خرج من الإرجاء كله أوله وآخره. (2)
موقفه من القدرية:
قال رحمه الله: والرضى بقضاء الله، والصبر على حكم الله، والإيمان بما قال الله عز وجل، والإيمان بأقدار الله كلها خيرها وشرها، وحلوها ومرها، قد علم الله ما العباد عاملون، وإلى ما هم صائرون، لا يخرجون من علم الله، ولا يكون في الأرضين ولا في السماوات إلا ما علم الله عز وجل، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولا خالق مع الله عز وجل. (3)
وقال: والكلام والجدال والخصومة في القدر خاصة منهي عنه عند جميع الفرق، لأن القدر سر الله، ونهى الرب تبارك وتعالى الأنبياء عن الكلام في القدر، ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخصومة في القدر، وكرهه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعون، وكرهه العلماء وأهل الورع، ونهوا عن الجدال في القدر، فعليك بالتسليم والإقرار والإيمان، واعتقاد ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جملة الأشياء، وتسكت عما سوى ذلك. (4)
_________
(1) شرح السنة (ص.80).
(2) شرح السنة (ص.132).
(3) شرح السنة (ص.86).
(4) شرح السنة (ص.90).
(5/146)
ابن رجاء العُكْبُرِيّ (1) (329 هـ)
عمر بن محمد بن رجاء أبو حفص العكبري. حدث عن عبد الله بن الإمام أحمد وقيس بن إبراهيم وموسى بن حمدون العكبري وغيرهم. روى عنه جماعة منهم أبو عبد الله بن بطة وقال: إذا رأيت العكبري يحب أبا حفص ابن رجاء فاعلم أنه صاحب سنة. قال أبو بكر الخطيب: كان صالحاً ديناً صدوقاً. وقال الذهبي: كان عبداً صالحاً ديناً، ثقة، كبير القدر، من أئمة الحنابلة. توفي سنة تسع وعشرين وثلاثمائة.
موقفه من الرافضة:
- جاء في طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى قال: وقرأت في بعض كتب أصحابنا: أن ابن رجاء كان إذا مات بعكبرى رجل من الرافضة، فبلغه أن بزازاً باع له كفناً، أو غاسلاً غسله، أو حاملاً حمله: هجره على ذلك. (2)
- وفيها قال محمد بن عبد الله الخياط: كان أبو حفص بن رجاء لا يكلم من يكلم رافضيّاً إلى عشرة. (3)
" التعليق:
ونحن، الروافض يدخلون بيوتنا ونكرمهم ونعظمهم وندين لهم بالولاء، والله ما أدرك حقيقة هؤلاء اليهود إلا السلف، وأما نحن فالعيش أحب إلينا من كل شيء.
_________
(1) تاريخ بغداد (11/ 239) وطبقات الحنابلة (2/ 56 - 57) وتاريخ الإسلام (حوادث 321 - 330/ص.266).
(2) طبقات الحنابلة (2/ 57).
(3) طبقات الحنابلة (2/ 56).
(5/147)
أبو بكر الصَّيْرَفِي (1) (330 هـ)
الشيخ الفقيه محمد بن عبد الله، أبو بكر الصيرفي البغدادي. تفقه على ابن سريج، وسمع الحديث من أحمد بن منصور الرمادي، وسمع منه علي بن محمد الحلبي. ويقال: كان الصيرفي أعلم بالأصول بعد الشافعي.
له مصنفات في أصول المذهب وفروعه. قال السبكي: الإمام الجليل الأصولي، أحد أصحاب الوجوه المسفرة عن فضله والمقالات الدالة على جلالة قدره. وقال الخطيب: وكان فهماً عالماً.
توفي رحمه الله في رجب سنة ثلاثين وثلاثمائة.
موقفه من المبتدعة:
قال ابن عدي: سمعت محمد بن عبد الله الصيرفي الشافعي يقول لتلامذته: اعتبروا بالكرابيسي، وبأبي ثور، فالحسين في علمه وحفظه لا يعشره أبو ثور، فتكلم فيه أحمد بن حنبل في باب مسألة اللفظ، فسقط، وأثنى على أبي ثور، فارتفع للزومه للسنة. (2)
_________
(1) تاريخ بغداد (5/ 449 - 450) ووفيات الأعيان (4/ 199) والكامل لابن الأثير (8/ 392) وطبقات الشافعية للسبكي (2/ 169 - 170) وتاريخ الإسلام (حوادث 321 - 330/ص.290 - 291) وطبقات الفقهاء الشافعيين لابن كثير (1/ 264).
(2) السير (12/ 82) وتاريخ بغداد (8/ 66 - 67).
(5/148)
الحسين المَحَامِلِي (1) (330 هـ)
القاضي، الإمام، العلامة، الحافظ، الثقة، شيخ بغداد ومحدثها أبو عبد الله الحسين بن إسماعيل بن محمد الضبي البغدادي المحاملي. ولد في أول سنة خمس وثلاثين ومائتين، وأول سماعه في سنة أربع وأربعين. سمع أبا حذافة أحمد بن إسماعيل السهمي صاحب مالك والبخاري وأحمد بن المقدام العجلي ويعقوب الدورقي، والزبير بن بكار، وطبقتهم ومن بعدهم فأكثر وصنف وجمع وصار أسند أهل العراق مع التصدر للإفادة والفتيا ستين سنة. وروى عنه دعلج بن أحمد، والدارقطني وابن جميع وأبو محمد بن البيع وعدة. قال الداوودي: كان يحضر مجلس المحاملي عشرة آلاف رجل. وقال الخطيب: كان فاضلاً ديناً شهد عند القضاة وله عشرون سنة وولي قضاء الكوفة ستين سنة. عقد بالكوفة سنة سبعين ومائتين في داره مجلساً للفقه فلم يزل أهل العلم والنظر يختلفون إليه. أملى المحاملي مجلساً كعادته في ثاني عشر ربيع الآخر من سنة ثلاثين وثلاثمائة ثم مرض ومات بعد أحد عشر يوماً رحمه الله تعالى.
موقفه من الرافضة:
جاء في البداية والنهاية: أنه قد تناظر هو وبعض الشيعة بحضرة بعض الأكابر فجعل الشيعي يذكر مواقف علي يوم بدر وأحد والخندق وخيبر وحنين وشجاعته. ثم قال للمحاملي: أتعرفها؟ قال: نعم، ولكن أتعرف أنت
_________
(1) تاريخ بغداد (8/ 19 - 23) وتذكرة الحفاظ (3/ 824 - 826) والسير (15/ 258 - 263) والوافي بالوفيات (12/ 341 - 342) والبداية والنهاية (11/ 216) وتاريخ الإسلام (حوادث 321 - 330/ص.281 - 283) وشذرات الذهب (2/ 326).
(5/149)
أين كان الصديق يوم بدر؟ كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العريش بمنزلة الرئيس الذي يحامي عنه، وعلي رضي الله عنه في المبارزة، ولو فرض أنه انهزم أو قتل لم يخزل الجيش بسببه. فأفحم الشيعي. وقال المحاملي وقد قدمه الذين رووا لنا الصلاة والزكاة والوضوء بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقدموه عليه حيث لا مال له ولا عبيد ولا عشيرة وقد كان أبو بكر يمنع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويجاحف عنه، وإنما قدموه لعلمهم أنه خيرهم فأفحمه أيضاً. (1)
إسحاق بن محمد النهرجوري الصوفي (2) (330 هـ)
رأس الصوفية في زمانه، من كبار مشايخهم وعلمائهم، صحب سهل ابن عبد الله التستري والجنيد وعمرو بن عثمان. ومع ذلك فقد وقف هذا الموقف الطيب ضد أهل الحلول والاتحاد.
موقفه من المشركين:
قال شيخ الإسلام: قال الشيخ أبو يعقوب النهرجوري: هذه الأرواح من أمر الله مخلوقة. خلقها الله من الملكوت، كما خلق آدم من التراب، وكل عبد نسب روحه إلى ذات الله أخرجه ذلك إلى التعطيل، والذين نسبوا الأرواح إلى ذات الله هم أهل الحلول الخارجون إلى الإباحة، وقالوا إذا صفت أرواحنا من أكدار نفوسنا فقد اتصلنا، وصرنا أحراراً، ووضعت عنا العبودية، وأبيح لنا كل شيء من اللذات من النساء، والأموال وغير ذلك.
_________
(1) البداية (11/ 217).
(2) السير (15/ 232) وشذرات الذهب (2/ 325 - 326) والبداية والنهاية (11/ 216) والوافي بالوفيات (8/ 423 - 424).
(5/150)
وهم زنادقة هذه الأمة. (1)
عبد الله بن منازل (2) (331 هـ)
عبد الله بن محمد بن منازل أبو محمود النيسابوري. صحب حمدوناً القصار، وحدث بالمسند الصحيح عن أحمد بن سلمة النيسابوري. توفي سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة.
موقفه من المبتدعة:
قال أبو محمود عبد الله بن منازل: لم يضيع أحد فريضة من الفرائض؛ إلا ابتلاه الله بتضييع السنن، ولم يبتل بتضييع السنن أحد؛ إلا يوشك أن يبتلى بالبدع. (3)
موقف السلف من القرمطي عدوّ الله أبي طاهر سليمان الزنديق (332 هـ)
بيان زندقته وإلحاده:
- جاء في السير: عدو الله ملك البحرين، أبو طاهر سليمان بن حسن القرمطي الجنابي، الأعرابي الزنديق، الذي سار إلى مكة في سبع مئة فارس. فاستباح الحجيج كلهم في الحرم، واقتلع الحجر الأسود، وردم زمزم
_________
(1) الفتاوى (4/ 221).
(2) شذرات الذهب (2/ 330) العبر (1/ 318).
(3) الاعتصام (1/ 130).
(5/151)
بالقتلى، وصعد على عتبة الكعبة، يصيح:
أنا بالله وبالله أنا ... يخلق الخلق وأفنيهم أنا
فقتل في سكك مكة وما حولها زهاء ثلاثين ألفاً، وسبى الذرية، وأقام بالحرم ستة أيام. بذل السيف في سابع ذي الحجة، ولم يعرف أحد تلك السنة، فلله الأمر. وقتل أمير مكة ابن محارب، وعرى البيت، وأخذ بابه، ورجع إلى بلاد هجر. وقيل: دخل قرمطي سكران على فرس، فصفر له، فبال عند البيت، وضرب الحجر بدبوس هشمه ثم اقتلعه. وأقاموا بمكة أحد عشر يوماً. وبقي الحجر الأسود عندهم نيفاً وعشرين سنة. ويقال: هلك تحته إلى هجر أربعون جملاً، فلما أعيد كان على قعود ضعيف، فسمن. وكان بجكم التركي دفع لهم فيه خمسين ألف دينار، فأبوا، وقالوا: أخذناه بأمر، وما نرده إلا بأمر. وقيل: إن الذي اقتلعه صاح: يا حمير، أنتم قلتم {وَمَنْ دخله كَانَ آَمِنًا} (1) فأين الأمن؟ قال رجل: فاستسلمت، وقلت: إن الله أراد: ومن دخله فأمنوه، فلوى فرسه وما كلمني. وقد وهم السمناني، فقال في 'تاريخه' إن الذي نزع الحجر أبو سعيد الجنابي القرمطي، وإنما هو ابنه أبو طاهر. واتفق أن ابن أبي الساج الأمير نزل بأبي سعيد الجنابي فأكرمه، فلما سار لحربه، بعث يقول: لك علي حق، وأنت في خمس مئة وأنا في ثلاثين ألفاً. فانصرف، فقال للرسول: كم مع صاحبك؟ قال: ثلاثون ألف راكب، قال: ولا ثلاثة، ثم دعا بعبد أسود، فقال له: خرق بطنك بهذه
_________
(1) آل عمران الآية (97).
(5/152)
السكين، فبدد مصارينه. وقال لآخر: اغرق في النهر، ففعل، وقال لآخر: اصعد على هذا الحائط، وانزل على مخك، فهلك. فقال للرسول: إن كان معه مثل هؤلاء، وإلا فما معه أحد. (1)
- قال ابن كثير: وقد سأل بعضهم ههنا سؤالاً. فقال: وقد أحل الله سبحانه بأصحاب الفيل -وكانوا نصارى- ما ذكره في كتابه، ولم يفعلوا بمكة شيئاً مما فعله هؤلاء، ومعلوم أن القرامطة شر من اليهود والنصارى والمجوس، بل ومن عبدة الأصنام، وأنهم فعلوا بمكة ما لم يفعله أحد، فهلا عوجلوا بالعذاب والعقوبة، كما عوجل أصحاب الفيل؟ وقد أجيب عن ذلك بأن أصحاب الفيل إنما عوقبوا إظهاراً لشرف البيت، ولما يراد به من التشريف العظيم بإرسال النبي الكريم، من البلد الذي فيه البيت الحرام، فلما أرادوا إهانة هذه البقعة التي يراد تشريفها وإرسال الرسول منها أهلكهم سريعاً عاجلاً، ولم يكن شرائع مقررة تدل على فضله، فلو دخلوه وأخربوه لأنكرت القلوب فضله. وأما هؤلاء القرامطة فإنما فعلوا ما فعلوا بعد تقرير الشرائع وتمهيد القواعد، والعلم بالضرورة من دين الله بشرف مكة والكعبة، وكل مؤمن يعلم أن هؤلاء قد ألحدوا في الحرم إلحاداً بالغاً عظيماً، وأنهم من أعظم الملحدين الكافرين، بما تبين من كتاب الله وسنة رسوله، فلهذا لم يحتج الحال إلى معاجلتهم بالعقوبة، بل أخرهم الرب تعالى ليوم تشخص فيه الأبصار، والله سبحانه يمهل ويملي ويستدرج ثم يأخذ أخذ عزيز مقتدر، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
_________
(1) السير (15/ 320 - 322).
(5/153)
"إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته" (1)
ثم قرأ قوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} (2) وقال: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} (3). وقال: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} (4). وقال: {مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} (5). اهـ (6)
- وقال الذهبي: قال المراغي: حدثنا أبو عبد الله بن محرم، وكان رسول المقتدر إلى القرمطي، قال: سألته بعد مناظرات عن استحلاله بما فعل بمكة، فأحضر الحجر في الديباج، فلما أبرز كبرت، وأريتهم من تعظيمه والتبرك به على حالة كبيرة، وافتتنت القرامطة بأبي طاهر، وكان أبوه قد أطلعه وحده
_________
(1) أخرجه: البخاري (8/ 451/4686) ومسلم (4/ 1997 - 1998/ 2583) والترمذي (5/ 269/3110) والنسائي في الكبرى (6/ 365/11245) وابن ماجه (2/ 1332/4018) كلهم من حديث أبي موسى وفيه: "ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102]
(2) إبراهيم الآية (42).
(3) آل عمران الآيتان (196و197).
(4) لقمان الآية (24).
(5) يونس الآية (70).
(6) البداية والنهاية (11/ 173 - 174).
(5/154)
على كنوز دفنها. فلما تملك، كان يقول: هنا كنز فيحفرون، فإذا هم بالمال. فيفتتنون به وقال مرة: أريد أن أحفر هنا عيناً، قالوا: لا تنبع، فخالفهم، فنبع الماء، فازداد ضلالهم به، وقالوا: هو إله، وقال قوم: هو المسيح، وقيل: نبي. وقد هزم جيوش بغداد غير مرة، وعتا وتمرد.
قال محمد بن رزام الكوفي: حكى لي ابن حمدان الطبيب، قال: أقمت بالقطيف أعالج مريضاً، فقال لي رجل: إن الله ظهر، فخرجت، فإذا الناس يهرعون إلى دار أبي طاهر، فإذا هو ابن عشرين سنة، شاب مليح عليه عمامة صفراء، وثوب أصفر على فرس أشهب، وإخوته حوله، فصاح: من عرفني عرفني، ومن لم يعرفني، فأنا أبو طاهر سليمان بن أبي سعيد الحسن الجنابي. اعلموا أنا كنا وإياكم حميراً، وقد من الله علينا بهذا وأشار إلى غلام أمرد، فقال: هذا ربنا وإلهنا، وكلنا عباده. فأخذ الناس التراب، فوضعوه على رؤوسهم، ثم قال أبو طاهر: إن الدين قد ظهر وهو دين أبينا آدم، وجميع ما أوصلت إليكم الدعاة باطل من ذكر موسى وعيسى ومحمد، هؤلاء دجالون. وهذا الغلام هو أبو الفضل المجوسي. شرع لهم اللواط، ووطء الأخت، وأمر بقتل من امتنع. فأدخلت عليه وبين يديه عدة رؤوس، فسجدت له، وأبو طاهر والكبراء حوله قيام. فقال لأبي طاهر: الملوك لم تزل تعد الرؤوس في خزائنها. فسلوه كيف بقاؤها؟ فسئلت، فقلت: إلهنا أعلم، ولكني أقول: فجملة الإنسان إذا مات يحتاج كذا وكذا صبراً وكافوراً. والرأس جزء فيعطى بحسابه. فقال: ما أحسن ما قال. ثم قال الطبيب: ما زلت أسمعهم تلك الأيام يلعنون إبراهيم وموسى ومحمداً وعلياً. ورأيت مصحفاً مسح بغائط.
(5/155)
وقال أبو الفضل يوماً لكاتبه: اكتب إلى الخليفة، فصل لهم على محمد وكِلْ مِنْ جِراب النورة، قال: والله ما تنبسط يدي لذلك، فافتض أبو الفضل أختاً لأبي طاهر الجنابي، وذبح ولدها في حجرها، ثم قتل زوجها، وهم بقتل أبي طاهر، فاتفق أبو طاهر مع كاتبه ابن سنبر، وآخر عليه فقالا: يا إلهنا، إن والدة أبي طاهر قد ماتت فاحضر لتحشو جوفها ناراً، قال: وكان سنه له، فأتى، فقال: ألا تجيبها؟ قال: لا. فإنها ماتت كافرة فعاوده فارتاب وقال: لا تعجلا علي دعاني أخدم دوابكما إلى أن يأتي أبي، قال ابن سنبر: ويلك هتكتنا، ونحن نرتب هذه الدعوة من ستين سنة. فلو رآك أبوك لقتلك اقتله يا أبا طاهر، قال: أخاف أن يمسخني، فضرب أخو أبي طاهر عنقه، ثم جمع ابن سنبر الناس، وقال: إن هذا الغلام ورد بكذب سرقه من معدن حق، وإنا وجدنا فوقه من ينكحه، وقد كنا نسمع أنه لا بدّ للمؤمنين من فتنة يظهر بعدها حق، فأطفئوا بيوت النيران، وارجعوا عن نكاح الأم، ودعوا اللواط، وعظموا الأنبياء، فضجوا، وقالوا: كل وقت تقولون لنا قولاً. فأنفق أبو طاهر الذهب حتى سكنوا. (1)
وقال أيضاً: ثم جرت لأبي طاهر مع المسلمين حروب أوهنته. وقتل جنده، وطلب الأمان على أن يرد الحجر، وأن يأخذ عن كل حاج ديناراً ويخفرهم.
قال الذهبي: ثم هلك بالجدري -لا رحمه الله- في رمضان سنة اثنتين
_________
(1) السير (15/ 323 - 324).
(5/156)
وثلاث مئة (1) بهجر كهلاً. وقام بعده أبو القاسم سعيد. (2)
أبو العَرَب (3) (333 هـ)
هو محمد بن أحمد بن تميم بن تمام أبو العرب، المغربي الإفريقي المالكي. كان جده من أمراء إفريقية. وسمع من أصحاب سحنون، وكان حافظاً لمذهب مالك مفتيا، غلب عليه الحديث والرجال. وله تصانيف منها: 'طبقات أهل إفريقية' وكتاب 'المحن' وكتاب 'فضائل مالك' و'فضائل سحنون' و'عباد إفريقية' وكتاب 'التاريخ' في أحد عشر جزءاً. وكان أحد من عقد الخروج على بني عبيد في ثورة أبي يزيد عليهم، هو وأبو سليمان ربيع القطان، وأبو الفضل الممسي، وأبو إسحاق السبائي، وغيرهم.
قال أبو عبد الله الخراط: كان رجلاً صالحاً ثقة، عالماً بالسنن والرجال، من أبصر أهل وقته بها، كثير الكتب، حسن التقييد، كريم النفس والخلق، كتب بخطه كثيراً في الحديث والفقه، يقال: إنه كتب بيده ثلاثة آلاف كتاب وخمسمائة، وشيوخه نيف وعشرون ومائة شيخ.
توفي رحمه الله لثمان بقين من ذي القعدة، سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة.
_________
(1) والصواب في وفاته ما أثبتناه وهو (332هـ).
(2) السير (15/ 325).
(3) ترتيب المدارك (2/ 40 - 41) والسير (15/ 394) وتذكرة الحفاظ (3/ 99) والوافي بالوفيات (2/ 39) رياض النفوس (2/ 306 - 312) والديباج المذهب (2/ 198 - 199) وشجرة النور الزكية (1/ 83 - 84).
(5/157)
موقفه من الرافضة:
مر معنا ما فعله بنو عبيد بالعلماء خاصة والمسلمين عامة، من قتل وتعذيب وصلب وتبديل لدين الله، وإحلال المجوسية الشيعية محل السنة الطاهرة، عليهم ما يستحقون من ربهم، وما نزال نتابع مسيرة علمائنا الأخيار الذين شرفوا تاريخنا بمواقفهم ومنهم المؤرخ الكبير أبو العرب محمد بن أحمد ابن تميم وربيع القطان وأبو الفضل عباس المهدي.
جاء في السير: وكان أحد من عقد الخروج على بني عبيد في ثورة أبي يزيد عليهم ولما حاصروا المهدية سمع الناس على أبي العرب هناك كتابي: الإمامة لمحمد بن سحنون فقال أبو العرب: كتبت بيدي ثلاثة آلاف وخمس مائة كتاب فوالله لقراءة هذين الكتابين هنا أفضل عندي من جميع ما كتبت. (1)
المَمْسِي (2) (333 هـ)
العباس بن عيسى الممسي أبو الفضل الإمام المفتي المالكي العابد. أخذ عن موسى القطان القيرواني وغيره. وكان مناظراً صاحب حجة. أخذ عنه أبو محمد بن أبي زيد ومحمد بن حارث وأبو بكر الزويلي وأبو الأزهر بن معتب وغيرهم. حج سنة سبع عشرة ورد على الطحاوي في مسألة النبيذ ثم
_________
(1) السير (15/ 395).
(2) السير (15/ 372 - 373) وترتيب المدارك (2/ 26 - 33) والديباج المذهب (2/ 129 - 131) ومعالم الإيمان (3/ 27 - 30) وشجرة النور الزكية (1/ 83) ورياض النفوس (2/ 292 - 305).
(5/158)
رجع إلى الغرب، وأقبل على شأنه. قال ابن مخلوف: الفقيه الورع الزاهد الإمام الثقة العابد العالم العامل، صاحب الفضائل الجمة مع فصاحة لسان ونزاهة وعدالة وعلو همة. استشهد ومعه خمس وثمانون رجلاً كلهم فاضل خير في حرب بني عبيد -لعنهم الله-. توفي سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة.
موقفه من الرافضة:
- قال الدباغ في معالم الإيمان: وكان أبو الفضل ممن خرج لقتال بني عبيد مع أهل القيروان لما كان يعتقد من كفرهم.
قلت -أي التنوخي-: قال أبو بكر المالكي رأى أن الخروج مع أبي يزيد الخارجي، وقطع دولة بني عبيد فرضاً، لأن الخوارج من أهل القبلة لا يزول عنهم الإسلام، ويرثون ويورثون، وبنو عبيد ليسوا كذلك، لأنهم مجوس زال عنهم اسم المسلمين، فلا يتوارثون معهم ولا ينتسبون إليهم. (1)
- جاء في السير: فلما قام أبو يزيد مخلد بن كنداد الأعرج، رأس الخوارج على بني عبيد، خرج هذا الممسي معه في عدد من علماء القيروان لفرط ما عمهم من البلاء، فإن العبيدي كشف أمره وأظهر ما يبطنه حتى نصبوا حسن الضرير السباب في الطرق بأسجاع لقنوه يقول: العنوا الغار وما حوى والكساء وما وعى وغير ذلك، فمن أنكر ضربت عنقه وذلك في أول دولة الثالث إسماعيل، فخرج مخلد الزناتي المذكور صاحب الحمارة، وكان زاهداً فتحرك لقيامه كل أحد، ففتح البلاد وأخذ مدينة القيروان، لكن عملت الخوارج كل قبيح حتى أتى العلماء أبا يزيد يعيبون عليه، فقال: نهبكم
_________
(1) المعالم (3/ 29) ورياض النفوس (2/ 297 - 298).
(5/159)
حلال لنا، فلاطفوه حتى أمرهم بالكف وتحصن العبيدي بالمهدية. وقيل: إن أبا يزيد لما أيقن بالظهور غلبت عليه نفسه الخارجية وقال لأمرائه: إذا لقيتم العبيدية فانهزموا عن القيروانيين حتى ينال منهم عدوهم. ففعلوا ذلك فاستشهد خلق وذلك سنة نيف وثلاثين وثلاثمائة، فالخوارج أعداء المسلمين وأما العبيدية الباطنية فأعداء الله ورسوله. (1)
" التعليق:
يمر المسلم بهذه الوقائع وهو يبكي على ما وصل إليه المسلمون من ضعف الحال، حتى بدؤوا يتعاونون مع أعداء عقيدتهم، ورغم هذا التعاون فإن العدو خائن، فما فعله الخوارج بهؤلاء الأخيار ينبغي أن يكون عبرة لمن
جاء بعدهم، فلا ثقة في مبتدع مهما كان نوع بدعته، وأما سلالة اليهود والمجوس فلا تسأل عن عداوتهم.
الخِرَقِي (2) (334 هـ)
عمر بن الحسين بن عبد الله الخرقي أبو القاسم العلامة شيخ الحنابلة صاحب المختصر المشهور في المذهب. كان من كبار العلماء تفقه بوالده الحسين صاحب المروذي. قال القاضي أبو يعلى: كانت لأبي القاسم مصنفات كثيرة لم تظهر لأنه خرج من بغداد لما ظهر بها سب الصحابة
_________
(1) السير (15/ 373).
(2) السير (15/ 363 - 364) وتاريخ بغداد (11/ 234 - 235) وطبقات الحنابلة (2/ 75 - 118) والعبر (1/ 323) ووفيات الأعيان (3/ 441) والبداية والنهاية (11/ 228) وشذرات الذهب (2/ 336 - 337).
(5/160)
فأودع كتبه في دار فاحترقت الدار. وقدم دمشق وبها توفي سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة.
موقفه من الرافضة:
جاء في طبقات الحنابلة: أنه خرج عن مدينة السلام لما ظهر سب الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. (1)
ربيع القطان أبو سليمان الصوفي (2) (334 هـ)
موقفه من الرافضة:
قال أبو بكر المالكي: وعوتب ربيع في خروجه مع أبي يزيد إلى حرب بني عبيد فقال: وكيف لا أفعل وقد سمعت الكفر بأذني؟ فمن ذلك أني حضرت أشهاداً وكان فيه جمع كثير أهل سنة ومشارقة وكان بالقرب مني أبو قضاعة الداعي، فأتى رجل مشرقي من أهل الشرق ومن أعظم المشارقة فقام إليه رجل مشرقي وقال: إلى هاهنا يا سيدي إلى جانب رسول الله -يعني أبا قضاعة الداعي ويشير بيده إليه- فما أنكر أحد شيئاً من ذلك فكيف ينبغي أن أترك القيام عليهم؟ ووجد بخطه قال: لما كان في رجب سنة إحدى وثلاثين قام الصبي المكوكب يقذف الصحابة ويطعن على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلقت عظام رؤوس أكباش وحمير وغيرها على أبواب الحوانيت والدروب عليها قراطيس معلقة فيها أسماء يعنون بها رؤوس الصحابة رضوان الله عليهم فلما
_________
(1) طبقات الحنابلة (2/ 75).
(2) العقيدة السلفية (2/ 985).
(5/161)
رأى ربيع ذلك لم يسعه التأخر عن الخروج عليهم، -وكذلك كان جميع الشيوخ يتأولون ... ولما اجتمعوا للخروج عليهم قال ربيع القطان: أنا أول من يشرع في هذا الأمر ويخرج فيه ويندب المسلمين ويحضهم عليه.
وتسارع جميع الفقهاء والعباد لذلك فلما كان بالغد خرج ربيع وجماعة الفقهاء ووجوه التجار إلى المصلى بالسلاح الشاك والعدة العجيبة التي لم ير مثلها وضاق بهم الفضاء وتواعد الناس أن ينظروا في الزاد وآلة السفر إلى يوم السبت -وذلك يوم الإثنين- وركب بعض الشيوخ من الموضع إلى الجامع بالسلاح وشقوا السماط بالقيروان وزادوا في استنهاض الناس فلما كان يوم الجمعة اجتمعوا في الجامع وركبوا بالسلاح الكامل وعملوا البنود والطبول وأتوا بالبنود فركزوها قبالة المسجد المعروف بالحدادين وكانت سبعة بنود: الأول أصفر لربيع القطان مكتوب عليه البسملة ومعها لا إله إلا الله محمد رسول الله، وفي الثاني -وهو لربيع أصفر أيضاً- نصر من الله وفتح قريب على يد أبي يزيد اللهم انصره على من سب نبيك، وفي الثالث -وهو أصفر أيضا لأبي العرب- بعد البسملة {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} (1) وفي الرابع -وهو بند أحمر لأبي الفضل عباس الممسي- لا إله إلا الله محمد رسول الله، وفي الخامس -وهو بند أخضر لمروان العابد- بعد البسملة {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ
_________
(1) التوبة الآية (12).
(5/162)
وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} (1)، وفي السادس -وهو بند أبيض- بعد البسملة لا إله إلا الله محمد رسول الله أبو بكر الصديق عمر الفاروق، وفي السابع -وهو لإبراهيم بن العمشاء وكان أكبر البنود لونه أبيض- لا إله إلا الله محمد رسول الله {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} (2) فلما اجتمع الناس وحضرت صلاة الجمعة طلع الإمام على المنبر -وهو أحمد بن محمد بن أبي الوليد، وكان أبو الفضل الممسي هو الذي أشار به- وخطب خطبة أبلغ فيها، وحرض الناس على الجهاد، وأعلمهم بما لهم فيه من الثواب، وتلا هذه الآية: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} (3) الآية وقال: يا أيها الناس جاهدوا من كفر بالله وزعم أنه رب من دون الله وغير أحكام الله عز وجل وسب نبيه وأصحاب نبيه وأزواج نبيه، فبكى الناس بكاءً شديداً وقال في خطبته: اللهم إن هذا القرمطي الكافر الصنعاني المعروف بابن عبيد الله المدعي الربوبية من دون الله جاحداً لنعمتك كافراً بربوبيتك طاعناً على أنبيائك، ورسلك مكذباً محمداً نبيّك وخيرتك من خلقك سابّاً لأصحاب نبيك
_________
(1) التوبة الآية (14).
(2) التوبة الآية (40) ..
(3) النساء الآية (95).
(5/163)
وأزواج نبيك أمّهات المؤمنين سافكاً لدماء أمته منتهكاً لمحارم أهل ملته افتراءً عليك واغتراراً بحلمك اللهم فالعنه لعناً وبيلاً واخزه خزياً طويلاً واغضب عليه بكرة وأصيلاً وأصله جهنم وساءت مصيراً بعد أن تجعله في دنياه عبرة للسائلين وأحاديث الغابرين وأهلك اللهم متبعه وشتت كلمته وفرق جماعته واكسر شوكته واشف صدور قوم مؤمنين منه ونزل، فجمع الجمعة ركعتين وسلم وقال: إن الخروج غداً يوم السبت إن شاء الله، وركب ربيع القطان فرسه وعليه آلة الحرب وفي عنقه المصحف وحوله جمع من الناس من أهل القيروان متأهبون معتدون لجهاد أعداء الله عليهم آلة الحرب، فنظر إليهم ربيع القطان فسر بهم وقال: الحمد لله الذي أحياني حتى أدركت عصابة من المؤمنين اجتمعوا لجهاد أعدائك وأعداء نبيك. (1)
موقف السلف من القائم بأمر الله (الزنديق) (334 هـ)
بيان زندقته:
جاء في السير: ذكر القاضي عبد الجبار المتكلم، أن القائم أظهر سب الأنبياء وكان مناديه يصيح: العنوا الغار وما حوى. وأباد عدة من العلماء. وكان يراسل قرامطة البحرين، ويأمرهم بإحراق المساجد والمصاحف. فتجمعت الإباضية والبربر على مخلد، وأقبل، وكان ناسكاً قصير الدلق،
_________
(1) رياض النفوس (2/ 338 - 344) والمعالم (3/ 31 - 33).
(5/164)
يركب حماراً، لكنهم خوارج، وقام معه خلق من السنة والصلحاء، وكاد أن يتملك العالم، وركزت بنودهم عند جامع القيروان فيها: لا إله إلا الله، لا حكم إلا لله. وبندان أصفران فيهما: نصر من الله وفتح قريب. وبند لمخلد فيه: اللهم انصر وليك على من سب نبيك. وخطبهم أحمد بن أبي الوليد، فحض على الجهاد، ثم ساروا، ونازلوا المهدية. ولما التقوا وأيقن مخلد بالنصر، تحركت نفسه الخارجية، وقال لأصحابه: انكشفوا عن أهل القيروان، حتى ينال منهم عدوهم، ففعلوا ذلك، فاستشهد خمسة وثمانون نفساً من العلماء والزهاد. (1)
وفيها: وقد أجمع علماء المغرب على محاربة آل عبيد لما شهروه من الكفر الصراح الذي لا حيلة فيه. وقد رأيت في ذلك تواريخ عدة، يصدق بعضها بعضاً. (2)
وفيها: وعوتب بعض العلماء في الخروج مع أبي يزيد الخارجي، فقال: وكيف لا أخرج وقد سمعت الكفر بأذني؟ حضرت عقداً فيه جمع من سنة ومشارقة، وفيهم أبو قضاعة الداعي، فجاء رئيس، فقال كبير منهم: إلى هنا يا سيدي ارتفع إلى جانب رسول الله يعني: أبا قضاعة، فما نطق أحد. (3)
وفيها: وخرج أبو إسحاق الفقيه مع أبي يزيد، وقال: هم أهل القبلة، وأولئك ليسوا أهل قبلة. وهم بنو عدو الله، فإن ظفرنا بهم، لم ندخل تحت
_________
(1) السير (15/ 152 - 153).
(2) السير (15/ 154).
(3) السير (15/ 154).
(5/165)
طاعة أبي يزيد، لأنه خارجي. (1)
وفيها: قال السبائي: إي والله نجد في قتل المبدل للدين. (2)
- وفيها: ووجد بخط فقيه. قال: في رجب سنة 331هـ قام المكوكب يقذف الصحابة، ويطعن على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلقت رؤوس حمير وكباش على الحوانيت، كتب عليها أنها رؤوس صحابة. (3)
وفيها: وكان القائم يسمى أيضاً نزاراً، ولما أخذ أكثر بلاد مصر في سنة سبع وثلاثمائة انتدب لحربه جيش المقتدر، عليهم مؤنس، فالتقى الجمعان. فكانت وقعة مشهورة، ثم تقهقر القائم إلى المغرب، ووقع في جيشه الغلاء والوباء وفي خيلهم وتبعه أياماً جيش المقتدر. (4)
وفيها: قال أبو ميسرة الضرير: أدخلني الله في شفاعة أسود رمى هؤلاء القوم بحجر. (5)
وفيها: وتسارع الفقهاء والعباد في أهبة كاملة بالطبول والبنود. وخطبهم في الجمعة أحمد بن أبي الوليد، وحرضهم. وقال: جاهدوا من كفر بالله وزعم أنه رب من دون الله، وغير أحكام الله، وسب نبيه وأصحاب نبيه. فبكى الناس بكاءً شديداً. وقال: اللهم إن هذا القرمطي الكافر المعروف بابن عبيد الله، المدعي الربوبية، جاحد لنعمتك، كافر بربوبيتك، طاعن على
_________
(1) السير (15/ 155).
(2) السير (15/ 155).
(3) السير (15/ 154).
(4) السير (15/ 154).
(5) السير (15/ 155).
(5/166)
رسلك، مكذب بمحمد نبيك، سافك للدماء. فالعنه لعناً وبيلاً، واخزه خزياً طويلاً، واغضب عليه بكرة وأصيلاً. ثم نزل فصلى بهم الجمعة. (1)
وفيها: وركب ربيع القطان فرسه ملبساً، وفي عنقه المصحف، وحوله جمع كبير، وهو يتلو آيات جهاد الكفرة. فاستشهد ربيع في خلق من الناس يوم المصاف في صفر سنة أربع وثلاثين. وكان غرض هؤلاء المجوس بني عبيد أخذه حياً ليعذبوه. قال أبو الحسن القابسي: استشهد معه فضلاء، وأئمة وعباد. (2)
وفيها: قال بعض الشعراء في بني عبيد:
الماكر الغادر الغاوي لشيعته ... شر الزنادق من صحب وتباع
العابدين إذاً عجلاً يخاطبهم ... بسحر هاروت من كفر وإبداع
لو قيل للروم أنتم مثلهم لبكوا ... أو لليهود لسدوا صمخ أسماع (3)
ابن القَاصّ (4) (335 هـ)
أحمد بن أبي أحمد الطبري أبو العباس الإمام الفقيه شيخ الشافعية ابن القاص تلميذ أبي العباس بن سريج. حدث عن أبي خليفة الجمحي وغيره. له 'شرح حديث أبي عمير' قال ابن خلكان: كان إمام وقته في طبرستان، وكان
_________
(1) السير (15/ 155)، وهو في معالم الإيمان (3/ 39 - 40) بلفظ تام.
(2) السير (15/ 155 - 156).
(3) السير (15/ 156).
(4) السير (15/ 371 - 372) والبداية والنهاية (11/ 232) ووفيات الأعيان (1/ 68 - 69) والوافي بالوفيات (6/ 227) والنجوم الزاهرة (3/ 294) وشذرات الذهب (2/ 339).
(5/167)
يعظ الناس. تولى قضاء طرسوس. وكان أبوه يقص على الناس الأخبار والآثار، توفي سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة.
موقفه من الجهمية:
قال أبو العباس أحمد بن أبي أحمد الطبري المعروف بابن القاص: لا خلاف بين أهل الفقه في قبول خبر الآحاد، إذا عدلت نقلته وسلم من النسخ حكمه، وإن كانوا متنازعين في شرط ذلك، وإنما دفع خبر الآحاد بعض أهل الكلام لعجزه -والله أعلم- عن علم السنن، زعم أنه لا يقبل منها إلا ما تواترت به أخبار من لا يجوز عليه الغلط والنسيان، وهذا عندنا منه ذريعة إلى إبطال سنن المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، لوجهين: أحدهما: أن ما شرط من ذلك صفة الأمة المعصومة، والأمة إذا تطابقت على شيء وجب القول به وإن لم يأت خبر. والثاني: أنه لو طولب بسنة يتحاكم إليها المتنازعان تواترت عليها أخبار نقلتها وسلمت من خوف النسيان طرقها لم يجد إليها سبيلاً، وكانت شبهته في ذلك أنه وجد أخبار السنن آخرها عمن لا يجوز عليه الغلط والنسيان، وهو النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك يجب أن يكون أولها وأوسطها عن قوم لا يجوز عليهم الغلط والنسيان. قال أبو العباس: فكان ما اعتذر به ثانيا أفسد من جرمه أولا وأقبح، وذلك أن آخر هذه الأخبار عمن صحت نبوته وصدقت المعجزات قوله، فيلزمه على قود اعتلاله أن لا يقبل من الأخبار، إلا ما روت الأنبياء عن الأنبياء، وقد نطق الكتاب بتصديق ما اجتبيناه من تصديق خبر الآحاد، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا
(5/168)
نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (1) واسم الطائفة عند العرب قد يقع على دون العدد المعصوم من الزلل، وقد يلزم الواحد فأكثر قال الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} (2) وقال: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (3) فصح أن هذا الاسم، واقع على العدد القليل. وفيما تلونا وجهان من الحجة: أحدهما: أن أمر الله إياهم بذلك، دليل على أن على المنذرين قبوله، كما قال الله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (4)، {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} (5) فكان ذلك دليلاً على قبول قولهما. والوجه الثاني: قوله: {لَعَلَّهُمْ يحذرون}، فلولا قيام الحجة عليهم ما استوجبوا الحذر ومعنى قوله: {لَعَلَّهُمْ يحذرون}،إيجاباً للحذر به -والله أعلم- نظير قوله: {بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} (6)،
_________
(1) التوبة الآية (122).
(2) الحجرات الآية (9) ..
(3) النور الآية (2).
(4) الطلاق الآية (2).
(5) البقرة الآية (282).
(6) السجدة الآية (3).
(5/169)
إيجاباً للاهتداء عليهم بذلك. وقال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (1) فوجب على العباد أن يعقلوا عن القرآن خطابه حجة لله عليهم. وحجة أخرى: قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (2) الآية، فكان في أمر الله بالتثبت في خبر الفاسق دلالة واضحة من فحوى الكلام على إمضاء خبر العدل، والفرق بينه وبين خبر الفاسق، فلو كانا سيين في التوقف عنهما لأمر بالتثبت في خبرهما، حتى يبلغ حد التواتر الذي يجب عند المخالفين القول به على مذهبهم، كما رتب في الشهادات، وفصل بينهما بأن جعل الشهادات منوطة بأعدادها، وأطلق الأخبار إطلاقاً، وقوله: {أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} دليل على أن إنفاذنا لقبوله في خبر العدل أصابه بعلم لا بجهل له ولئلا نصبح على ما فعلنا نادمين. والله أعلم. (3)
محمد بن أبي المنظور (4) (337 هـ)
محمد بن عبد الله بن حسن الأنصاري بن أبي المنظور أبو عبد الله القاضي، أصله من الأندلس رحل إلى المشرق فسمع من القاضي إسماعيل بن
_________
(1) الزخرف الآية (3).
(2) الحجرات الآية (6) ..
(3) الفقيه والمتفقه (1/ 281 - 283).
(4) معالم الإيمان (3/ 44 - 47) وترتيب المدارك (2/ 43 - 44) ورياض النفوس (2/ 357 - 361).
(5/170)
إسحاق، ومن علي بن عبد العزيز عن أبي عبيد ومن عبد الله بن محمد بن عبد الله وغيرهم. سمع منه: أحمد بن عبد الرحمن القصري وأبو محمد بن التبان وجعفر بن نظيف وغيرهم. وكان عالماً ثقة فاضلاً صالحاً لا تأخذه في الله لومة لائم. وله جلالة وسمت وخشوع وتقى، وقبول عند الناس، وعدالة ظاهرة، وأجبره إسماعيل المنصور على القضاء فاشترط عليه أن لا يأخذ لهم صلة ولا يركب لهم دابة ولا يقبل شهادة من طاف بهم أو قاربهم ولا يركب إليهم مهنيا ولا معزيا فأجابه إلى هذا إسماعيل وقبل شرطه. وكان رحمه الله قد سار بالعدل في أقضيته وإيثار الحق، لا تأخذه في الله -عز وجل- لومة لائم. توفي وهو قاضي القيروان يوم السبت لعشر بقين من المحرم سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة، وقد نيف على التسعين.
موقفه من المشركين:
- جاء في السير أن محمد بن أبي المنظور الأنصاري وَلِيَ قضاء القيروان في دولة المنصور صاحب المغرب العبيدي الباطني.
وكان من كبار أصحاب الحديث، قد لقي إسماعيل القاضي، والحارث ابن أبي أسامة، فقال: بشرط أن لا آخذ رزقاً ولا أركب دابة، فولاه ليتألف الرعية، فأحضر إليه يهودي قد سب (1)، فبطحه، وضربه إلى أن مات تحت الضرب، خاف أن يحكم بقتله فتحل عليه الدولة. (2)
_________
(1) أي النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
(2) السير (15/ 157 - 158).
(5/171)
النَّحَّاس (1) (338 هـ)
أحمد بن محمد بن إسماعيل أبو جعفر العلامة إمام العربية المصري النحوي صاحب التصانيف، ارتحل إلى بغداد وأخذ عن الزجاج وكان ينظر في زمانه بابن الأنباري وبنفطويه للمصريين. روى عن محمد بن جعفر بن أعين وبكر بن سهل الدمياطي والحسن بن غليب والحافظ النسائي وغيرهم. وروى عنه أبو بكر محمد بن علي الأدفوي تواليفه. من كتبه: 'إعراب القرآن'، 'كتاب المعاني'، 'الكافي'، وكان من أذكياء العالم. وكان لا يتكبر أن يسأل الفقهاء وأهل النظر عما أشكل عليه في تأليفاته. توفي في ذي الحجة سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة.
موقفه من الجهمية:
قال النحاس: أجمع النحويون على أن الفعل إذا أكد بالمصدر لم يكن مجازاً فإذا قال: {تَكْلِيمًا} وجب أن يكون كلاماً على الحقيقة التي تعقل. (2)
موقف السلف من الفارابي الزنديق (339 هـ)
بيان زندقته:
الزنديق الكبير، الذي هو عند جهلة المثقفين المفكر والفيلسوف!!
_________
(1) السير (15/ 401 - 402) وطبقات النحويين واللغويين (220 - 221) ووفيات الأعيان (1/ 99 - 100) والوافي بالوفيات (7/ 362 - 364) والبداية والنهاية (11/ 236) وشذرات الذهب (2/ 346).
(2) الفتح (13/ 479).
(5/172)
والفأر أشرف منه وأفضل، هذا الخبيث مع الزنديق الباطني المسمى بابن سينا عظمهما كثير من الملحدين في هذا الوقت، ولخبث هذين الشيطانين قرر الملاحدة تدريس كتبهما وأفكارهما في المدارس والكليات باسم الفكر الإسلامي، حتى في بعض البلاد الإسلامية، حتى يخرج الطالب من الثانوي وهو يحمل شهادة زندقة وإلحاد وتحلل خلقي كامل، إلاّ من عصمه الله، والله المستعان.
قال ابن كثير عن الفارابي: التركي الفيلسوف، وكان من أعلم الناس بالموسيقى، بحيث كان يتوسل به، وبصناعته إلى الناس في الحاضرين من المستمعين، إن شاء حرك ما يبكي أو يضحك أو ينوم وكان حاذقاً في الفلسفة، ومن كتبه تفقه ابن سينا وكان يقول بالمعاد الروحاني لا الجثماني، ويخصص بالمعاد الأرواح العالمة لا الجاهلة، وله مذاهب في ذلك يخالف المسلمين والفلاسفة من سلفه الأقدمين، فعليه إن كان مات على ذلك لعنة رب العالمين. مات بدمشق فيما قاله ابن الأثير في كامله، ولم أر الحافظ ابن عساكر ذكره في تاريخه لنتنه وقباحته. فالله أعلم. (1)
قال الذهبي في السير: له تصانيف مشهورة من ابتغى الهدى منها ضل وحار، منها تخرج ابن سينا نسأل الله التوفيق. (2)
_________
(1) البداية والنهاية (11/ 238).
(2) السير (15/ 417).
(5/173)
القاهر بالله (339 هـ)
موقفه من الرافضة:
جاء في السير: ولم يكن القاهر متمكناً من الأمور، وحكم عليه علي ابن بليق الرافضي الذي عزم على سب معاوية -رضي الله عنه- على المنابر. فارتجت العراق، وقبض على شيخ الحنابلة البربهاري، ثم قوي القاهر ونهب دور مخالفيه، وطين على ولد أخيه المكتفي بين حيطين، وضرب ابن بليق وسجنه، ثم أمر بذبحه وبذبح أبيه، وذبح بعدهما مؤنساً الكبير ويمناً وابن زيرك، وبذل للجند العطاء، وعظم شأنه، ونادى بتحريم الغناء والخمر وكسر الملاهي!! وهو مع ذلك يشرب المطبوخ والسلاف، ويسكر ويسمع القينات!!! (1)
أبو إسحاق المَرْوَزِي (2) (340 هـ)
أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد المروزي، الإمام الكبير شيخ الشافعية، وفقيه بغداد، صاحب أبي العباس بن سريج، وأكبر تلامذته، اشتغل ببغداد دهراً، وصنف التصانيف، وتخرج به أئمة كأبي زيد المروزي والقاضي أبي حامد مفتي البصرة وعدة. شرح المذهب ولخصه وانتهت إليه رئاسته، ثم ارتحل إلى مصر في أواخر عمره، فأدركه أجله بها فتوفي لتسع خلون من رجب سنة
_________
(1) السير (15/ 99).
(2) السير (15/ 429 - 430) وتاريخ بغداد (6/ 11) ووفيات الأعيان (1/ 26 - 27) والعبر (1/ 329) وشذرات الذهب (2/ 355 - 356).
(5/174)
أربعين وثلاثمائة.
موقفه من الجهمية:
صنف المروزي كتاباً في السنة، وقرأه بجامع مصر، وحضره آلاف، فجرت فتنة، فطلبه كافور فاختفى، ثم أدخل إلى كافور، فقال: أما أرسلت إليك أن لا تشهر هذا الكتاب فلا تظهره!؟ وكان فيه ذكر الاستواء، فأنكرته المعتزلة. (1)
الحُبُلِّي (2) (341 هـ)
محمد بن إسحاق أبو عبد الله الحبلي الإمام الشهيد قاضي برقة. جاء في المعالم: كان رحمه الله فقيهاً صالحاً فاضلاً عالماً نظاراً حسن الأخلاق سمحاً.
أبى الإفطار بالحساب على مذهب العبيديين، فعلق في الشمس إلى أن مات، ثم صلبوه على خشبة، وذلك سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة.
موقفه من الرافضة:
جاء في السير: الإمام الشهيد قاضي مدينة برقة محمد بن الحبلي أتاه أمير برقة فقال: غداً العيد، قال: حتى نرى الهلال ولا أفطر الناس وأتقلد إثمهم فقال: بهذا جاء كتاب المنصور، وكان هذا من رأي العبيدية، يفطرون بالحساب، ولا يعتبرون رؤية، فلم ير هلال، فأصبح الأمير بالطبول والبنود وأهبة العيد، فقال القاضي: لا أخرج ولا أصلي، فأمر الأمير رجلاً خطب
_________
(1) السير (15/ 429).
(2) السير (15/ 374) ومعالم الإيمان (3/ 49) ورياض النفوس (2/ 404 - 405).
(5/175)
وكتب بما جرى إلى المنصور فطلب القاضي إليه فأحضر فقال له: تَنَصَّل وأعفو عنك؟ فامتنع، فأمر، فعلق في الشمس إلى أن مات وكان يستغيث العطش، فلم يسق ثم صلبوه على خشبة فلعنة الله على الظالمين. (1)
أحمد بن إسحاق الصِّبْغِي (2) (342 هـ)
هو الإمام العلامة المفتي المحدث، أبو بكر أحمد بن إسحاق بن أيوب بن يزيد النيسابوري الشافعي المعروف "بالصبغي" بكسر الصاد المهملة وسكون الباء ثم غين معجمة في آخرها ياء نسبة إلى الصبغ والصباغ، وهو ما يصبغ به من الألوان. وقد تصحف إلى "الضُّبعي" في كل من 'العبر' للذهبي، و'الطبقات' للسبكي، و'تاريخ الخلفاء' للسيوطي وغيرها. ولد سنة ثمان وخمسين ومائتين. وسمع الفضل بن محمد الشعراني، والحارث بن أبي أسامة، وإسماعيل القاضي، وعلي بن عبد العزيز البغوي. حدث عنه حمزة بن محمد الزيدي، وأبو بكر الإسماعيلي، وأبو عبد الله الحاكم وخلق كثير. جمع وصنف، وبرع في الفقه، وتميز في علم الحديث. وكان يخلف ابن خزيمة في الفتوى بضع عشرة سنة. قال السمعاني: أحد العلماء المشهورين بالفضل والعلم الواسع. وقال الحاكم: ومن تصانيفه: كتاب 'الأسماء والصفات' وكتاب 'الإيمان' وكتاب 'القدر' وكتاب 'الخلفاء الأربعة' وكتاب 'الرؤية'
_________
(1) السير (15/ 374) ورياض النفوس (2/ 404 - 405) ومعالم الإيمان (3/ 49).
(2) طبقات السبكي (2/ 81) والأنساب (8/ 33 - 34) والوافي بالوفيات (6/ 239) وشذرات الذهب (2/ 361) والسير (15/ 483 - 489).
(5/176)
وكتاب 'الأحكام' وكتاب 'الإمامة'. توفي رحمه الله في شعبان سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة.
موقفه من المبتدعة:
جاء في ذم الكلام: عن محمد بن عبد الله الحافظ قال: سمعت أحمد بن إسحاق بن أيوب الفقيه الصبغي يناظر رجلاً فقال: حدثنا فلان، قال له الرجل: دعنا من حدثنا إلى متى حدثنا؟ فقال له الشيخ: قم يا كافر، فلا يحل لك أن تدخل داري بعد. ثم التفت إلينا فقال: ما قلت لأحد قط لا تدخل داري غير هذا. (1)
- وفي السير: قال الحاكم: وقد سمعته يخاطب كهلا من أهل (2) فقال: حدثونا عن سليمان بن حرب فقال له: دعنا من حدثنا إلى متى حدثنا وأخبرنا؟ فقال: يا هذا لست أشم من كلامك رائحة الإيمان، ولا يحل لك أن تدخل هذه الدار ثم هجره حتى مات. (3)
" التعليق:
هذه غيرة الأئمة رحمهم الله على سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا كان أهل الضلال بلغت بهم الوقاحة وقلة الحياء إلى قولهم: "دعنا من حدثنا وأخبرنا"، ودين الأمة كله قائم على سلسلة حدثنا وأخبرنا فلا دين إلا بها ولا عقيدة إلا على طريقها ولا عبادة تصح إلا منها، فكتب السنة كلها والقرآن بكل
_________
(1) ذم الكلام (77).
(2) كذا في السير، وفي تاريخ الإسلام (حوادث 341 - 350، ص.257) وطبقات الشافعية (2/ 81): يخاطب فقيهاً.
(3) السير (15/ 485).
(5/177)
رواياته لا طريق له إلا حدثنا وأخبرنا، فإنكار حدثنا وأخبرنا إنكار لدين الله، فلهذا أغلظ له هذا الإمام القول ووصفه بوصف الكفر. وإطلاق الكفر على الإنسان فيه تفصيل، فمن جحد أو كذب أو رد أو كره أو ذم أو سب أو شتم وكل ما فيه قدح للإسلام أو النبوة أو الرسالة أو القرآن أو السنة مع العلم وإقامة الحجة فكفر مخرج عن الملة.
موقفه من الجهمية:
- جاء في الفتح: ومن طريق أبي بكر الصبغي قال: مذهب أهل السنة في قوله {الرحمن على العرش استوى} (1) قال بلا كيف والآثار فيه عن السلف كثيرة، وهذه طريقة الشافعي وأحمد بن حنبل. (2)
- وفيه: وقد أملى أبو بكر الصبغي الفقيه أحد الأئمة من تلامذته ابن خزيمة اعتقاده وفيه لم يزل الله متكلماً ولا مثل لكلامه لأنه نفى المثل عن صفاته كما نفى المثل عن ذاته، ونفى النفاد عن كلامه كما نفى الهلاك عن نفسه، فقال: {لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي} (3) وقال: {كل شَيْءٍ هَالِكٌ إِلًّا وَجْهَهُ} (4) فاستصوب ذلك ابن خزيمة ورضي به. (5)
- قال البيهقي: ما جاء في قول الله عز وجل: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ في
_________
(1) طه الآية (5).
(2) الفتح (13/ 407).
(3) الكهف الآية (109).
(4) القصص الآية (88).
(5) الفتح (13/ 492).
(5/178)
السَّمَاءِ} (1) قال أبو عبد الله الحافظ قال الشيخ أبو بكر أحمد بن إسحاق بن أيوب الفقيه قد تضع العرب (في) بموضع (على) قال الله عز وجل: {فسيحوا في الأرض} (2) وقال: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ في جذوع النخل} (3) ومعناه: على الأرض وعلى النخل، فكذلك قوله {في السَّمَاءِ} أي: على العرش فوق السماء، كما صحت الأخبار عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قلت: يريد ما مضى من الروايات. (4)
موقفه من القدرية:
له كتاب 'القدر' وهو رد على القدرية. (5)
أبو محمد عبد الرحمن بن حَمْدَان (6) (342 هـ)
الإمام أبو محمد عبد الرحمن بن حمدان بن المرزبان الهمذاني الجلاب، أحد أركان السنة بهمذان. سمع أبا حاتم الرازي، وإبراهيم بن نصر وأبا بكر ابن أبي الدنيا، وهلال بن العلاء وطبقتهم. وعنه صالح بن أحمد وعبد الرحمن
_________
(1) الملك الآية (16).
(2) التوبة الآية (2).
(3) طه الآية (71).
(4) الأسماء والصفات للبيهقي (2/ 324).
(5) السير (15/ 485).
(6) الإرشاد للخليلي (2/ 658) وسير أعلام النبلاء (15/ 477) وتاريخ الإسلام (حوادث 341 - 350/ص.264) وشذرات الذهب (2/ 362).
(5/179)
الأنماطي، وابن منده والحاكم والقاضي عبد الجبار بن أحمد، وآخرون. قال شيرويه الديلمي: كان صدوقاً قدوة، له أتباع. توفي رحمه الله سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة.
موقفه من الجهمية:
عن عبد الرحمن بن حمدان قال: كان معي رفيق بطرسوس وهو أبو علي ابن خالويه، وكان معي في البيت، وكان قد أقبل على كتب الصوري والأنطاكي وأصحاب الكلام في الرقة، وكنت أنهاه فلا ينتهي، حتى كان ذات يوم جاءني فقال: أنا تائب. فقلت: أحدث شيء؟ قال: نعم، رأيت في هذه الليلة كأني دخلت البيت الذي نحن فيه، فوجدت رائحة مسك، فجعلت أتتبع الرائحة حتى وجدته يفوح من المحبرة! فقلت: إن الخير في الحديث. (1)
بكر بن محمد القُشَيْرِي البصري (2) (344 هـ)
العلامة أبو الفضل، بكر بن محمد بن العلاء القشيري البصري المالكي. ولي القضاء بناحية العراق، وصنف في المذهب كتباً جليلة. وسمع من أبي مسلم الكجي، وحكى عن سهل التستري. وروى عنه الحسن بن رشيق وعبد الله بن محمد بن أسد الأندلسي. قال الفرغاني: كان بكر من كبار الفقهاء المالكيين بمصر، وتقلد أعمالاً للقضاء، وكان راوية للحديث، وأوله
_________
(1) أصول الاعتقاد (1/ 166 - 167/ 307).
(2) ترتيب المدارك (2/ 11 - 12) والسير (15/ 537 - 538) وتاريخ الإسلام (حوادث 341 - 350/ص.296) والوافي بالوفيات (10/ 217) والديباج المذهب (1/ 313) وحسن المحاضرة (1/ 450).
(5/180)
من البصرة، ثم خرج من العراق لأمر اضطره، فنزل مصر قبل الثلاثين والثلاثمائة، وأدرك فيها رياسة عظيمة وكان قد ولي القضاء ببعض نواحي العراق. توفي رحمه الله سنة أربع وأربعين وثلاثمائة وقد جاوز الثمانين، ودفن بالمقطم.
موقفه من القدرية:
له مؤلف في الرد على القدرية. ذكره الذهبي في السير (1) والصفدي في الوافي بالوفيات. (2)
محمد بن عبد الواحد أبو عمر (3) (345 هـ)
الإمام محمد بن عبد الواحد بن أبي هاشم البغدادي أبو عمر الزاهد غلام ثعلب اللغوي المشهور. سمع أحمد بن سعيد الجمال، وأحمد بن عبيد الله النرسي والحارث بن أبي أسامة وإبراهيم بن الهيثم البلدي، ولازم ثعلباً فأكثر عنه. وحدث عنه ابن منده، وأبو عبد الله الحاكم، وأبو علي بن شاذان وأبو الحسن بن رزقويه، وجماعة. قال أبو علي التنوخي: من الرواة الذين لم ير قط أحفظ منهم أبو عمر غلام ثعلب، أملى من حفظه ثلاثين ألف ورقة فيما بلغني، حتى اتهموه لسعة حفظه. وقال عبد الواحد بن علي بن برهان: لم
_________
(1) السير (15/ 538).
(2) السير (10/ 217).
(3) تاريخ بغداد (2/ 356 - 359) وطبقات الحنابلة (2/ 67 - 69) والمنتظم (14/ 103 - 106) وسير أعلام النبلاء (15/ 508 - 513) والعبر (1/ 336) ولسان الميزان (5/ 268 - 269).
(5/181)
يتكلم في اللغة أحد أحسن من كلام أبي عمر الزاهد. وقال الذهبي: كان ثقة، آية في الحفظ والذكاء. وقال ابن كثير: كان كثير العلم والزهد، حافظاً مطيقاً يملي من حفظه شيئاً كثيراً، ضابطاً لما يحفظه. أثنى عليه اليشكري في قصيدته منها:
فلو أنني أقسمت ما كنت كاذباً ... بأن لم ير الراؤون حبراً يعادله
إذا قلت شارفنا أواخر علمه ... تفجر حتى قلت هذا أوائله
توفي رحمه الله سنة خمس وأربعين وثلاثمائة.
موقفه من الرافضة:
جاء في التذكرة أنه كان له جزء قد جمع فيه فضائل معاوية، وكان لا يترك واحداً منهم يقرأ عليه شيئاً حتى يبتدئ بقراءة ذلك الجزء. (1)
محمد بن يعقوب بن الأَصَمّ (2) (346 هـ)
الإمام، المحدث، محمد بن يعقوب بن يوسف بن معقل بن سنان، أبو العباس الأموي النيسابوري الأصم، ولد المحدث أبي الفضل الوراق. ولد سنة سبع وأربعين ومائتين. سمع من أحمد بن الأزهر والربيع بن سليمان وبحر بن نصر ومحمد بن إسحاق الصغاني، ويحيى بن جعفر وعباس الدوري، وغيرهم. وحدث عنه أبو عبد الله الحاكم وأبو عبد الله بن منده، وأبو عبد الرحمن
_________
(1) التذكرة (3/ 874) وطبقات الحنابلة (2/ 68).
(2) الأنساب (1/ 178) وتاريخ دمشق (56/ 287 - 296) وسير أعلام النبلاء (15/ 452 - 460) وتاريخ الإسلام (حوادث 341 - 350/ص.362 - 369) وشذرات الذهب (2/ 373 - 374).
(5/182)
السلمي، والحافظ أبو علي النيسابوري والإمام أبو بكر الإسماعيلي، وآخرون. وقال الحاكم: كان أبو العباس محدث عصره بلا مدافعة، فإنه حدث في الإسلام ستاً وسبعين سنة، ولم يختلف في صدقه وصحة سماعاته، وضبط أبيه يعقوب الوراق لها، وكان مع ذلك يرجع إلى حسن المذهب والدين، يصلي خمس صلوات في الجماعة، وبلغني أنه أذن سبعين سنة في مسجده، وكان حسن الخلق، سخي النفس، لا يبخل بكل ما يقدر عليه. وقال أيضاً: ما رأينا الرحلة في بلد من بلاد الإسلام أكثر منها إليه يعني أبا العباس الأصم، فقد رأيت جماعة من أهل الأندلس والقيروان وبلاد المغرب على بابه. توفي رحمه الله سنة ست وأربعين وثلاثمائة.
موقفه من الخوارج:
عن أبي العباس محمد بن يعقوب بن الأصم قال: طاف خارجيان بالبيت فقال أحدهما لصاحبه: لا يدخل الجنة من هذا الخلق غيري وغيرك، فقال له صاحبه: جنة عرضها كعرض السماء والأرض بنيت لي ولك؟! فقال: نعم. فقال: هي لك. وترك رأيه. (1)
عبد المؤمن بن خَلَف النَّسَفِي (2) (346 هـ)
هو عبد المؤمن بن خلف بن طفيل، الإمام الحافظ القدوة، أبو يعلى
_________
(1) أصول الاعتقاد (7/ 1307/2317).
(2) تذكرة الحفاظ (3/ 866 - 868) والشذرات (2/ 373) والسير (15/ 480 - 483) والنجوم الزاهرة (3/ 318) وتاريخ الإسلام (حوادث 341 - 350/ص.354 - 355).
(5/183)
التميمي النسفي. سمع من جده الطفيل بن زيد، وأبي حاتم الرازي، وإسحاق ابن إبراهيم الدبري. وحدث عنه عبد الملك بن مروان الميداني، وأحمد بن عمار ابن عصمة، ويعقوب بن إسحاق وغيرهم. قال الذهبي: وكان أثرياً سُنياً، ظاهري المذهب، شديداً على أهل القياس، يتبع كثيراً أحمد بن حنبل وإسحاق ابن راهويه. توفي في جمادى الآخرة سنة ست وأربعين وثلاثمائة بنسف.
موقفه من الجهمية:
جاء في تذكرة الحفاظ: وبلغنا ولما دخل أبو القاسم الكعبي شيخ المعتزلة نسف أكرموه إلا عبد المؤمن الحافظ فلم يأت إليه قال الكعبي: نحن نأتيه فلما دخل لم يقم الحافظ ولا التفت من محرابه، فكسر الكعبي خجله بأن قال: بالله عليك أيها الشيخ لا تقم. (1)
ابن الحَجَّام عبد الله بن أبي هاشم (2) (346 هـ)
الفقيه أبو محمد عبد الله بن أبي هاشم مسرور التجيبي، المعروف بابن الحجام المالكي المغربي. ولد سنة ثلاث وستين ومائتين. سمع عيسى بن مسكين وابن أبي سليمان وأبي عياش وحمديس القطان وغيرهم، وسمع منه أبو محمد بن أبي زيد والقابسي ومحمد بن إدريس وأبو عبد الله الصدفي وغيرهم.
_________
(1) تذكرة الحفاظ (3/ 867) والسير (15/ 481).
(2) رياض النفوس (2/ 422 - 424) ومعالم الإيمان (3/ 57 - 59) وترتيب المدارك (5/ 330 - 333) وتاريخ الإسلام (حوادث 341 - 350/ص.35 - 353) وشجرة النور الزكية (1/ 85) والديباج المذهب (1/ 423 - 424).
(5/184)
قال أبو عبد الله الخراط: كان أبو محمد ورعاً مسمتاً خاشعاً، رقيق القلب، غزير الدمعة، مهيباً في نفسه، لا يكاد ينطق أحد في مجلسه بغير الصواب، يشبه في أموره كلها يحيى بن عمر وحمديساً القطان، حسن التقييد، صحيح الكتب، وكانت كتبه كلها بخطه، وكان كثير التصنيف في أنواع العلوم، كثير الكتب. قال القابسي: ترك أبو محمد هذا سبعة قناطير كلها بخطه إلا كتابين، فكان لا يحتمل أن يراهما، لأجل أنهما ليسا بخطه. وكان سبب موته أنه اصطلى، فنعس، فالتهبت النار ثيابه واحترق، وذلك سنة ست وأربعين وثلاثمائة، رحمه الله تعالى.
موقفه من المبتدعة:
جاء في معالم الإيمان: كان عالماً صالحاً ورعاً ذا سمت وخشية غزير الدمعة فاضلاً مجانباً لأهل الهوى والبدع لا يرد السلام عليهم مُهاباً في نفسه لا يكاد أحد ينطق في مجلسه بغير الصواب امتحن في شبيبته على يد محمد بن عمر المرودي ثلاث سنين وأراد قتله فنجاه الله منه وذلك لصرامته في الحق. (1)
أبو محمد بن عبد البصري المالكي (347 هـ)
موقفه من الجهمية:
قال أبو محمد في كتابه هذا الذي صنفه في أصول السنة والتوحيد، قال: وكان إجماع السلف والخلف، وأئمة الدين وفقهاء المسلمين، من شرق
_________
(1) معالم الإيمان (3/ 57).
(5/185)
وغرب، وسهل وجبل، وسائر أقاليم الإسلام، من مغرب ومصر وشام وعراق وحجاز ويمن وبحر وخراسان مجتمعين على أن عقيدة السنة أربع عشرة خصلة: سبعة متعلقة بالشهادة، وهي مما يدان بها في الدنيا، وسبعة متعلقة بالغيب وهي مما يؤمن بها من أحكام الآخرة. فالتي في دار الدنيا: القول مع الاعتقاد بأن الإيمان: قول وعمل ونية، والإيمان بالقدر خيره وشره، وأن القرآن غير مخلوق، وتخيير الأربعة على الترتيب، وإثبات الإمامة، وترك الخروج على أحد منهم، والصلاة على من مات من أهل القبلة، وترك المراء والجدل. والمتعلقة بالآخرة: الإيمان بأحكام البرزخ، والآيات التي بين يدي الساعة، والبعث بعد الموت، ورؤية الله تعالى، والإيمان بالحوض والشفاعة والصراط والميزان، وخلود الدارين، فمن خالف شيئاً من هذا فقد خالف اعتقاد السنة والجماعة، وهذا مما لا شبهة فيه بين أصحاب الحديث والفقهاء والعلماء من سائر الأقاليم. (1)
أحمد النَّجَّاد (2) (348 هـ)
هو الإمام المحدث الحافظ الفقيه المفتي، أبو بكر أحمد بن سلمان بن الحسن، البغدادي الحنبلي النجاد، شيخ العراق. سمع أبا داود السجستاني، وإسماعيل القاضي ومحمد بن إسماعيل الترمذي وخلقاً كثيراً. وحدث عنه أبو
_________
(1) درء التعارض (8/ 503).
(2) تاريخ بغداد (4/ 189 - 192) وتذكرة الحفاظ (3/ 868 - 869) وميزان الاعتدال (1/ 101) والوافي بالوفيات (6/ 400) والبداية والنهاية (11/ 249) واللسان (1/ 180) وشذرات الذهب (2/ 376) والسير (15/ 502 - 505).
(5/186)
بكر القطيعي والدارقطني وابن منده وعدد كثير. وصنف ديواناً كبيراً في السنن. قال أبو بكر الخطيب: كان النجاد صدوقاً عارفاً، صنف السنن، وكان له بجامع المنصور حلقة قبل الجمعة للفتوى، وحلقة بعد الجمعة للإملاء. مات في ذي الحجة سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة.
موقفه من الجهمية:
له من الآثار السلفية:
'الرد على من يقول: القرآن مخلوق'؛ وقد حقق رسالة علمية في المرحلة الجامعية للأخ الفاضل رضي الله الهندي وقد طبع الكتاب.
أبو أحمد العَسَّال (1) (349 هـ)
هو محمد بن أحمد بن إبراهيم بن سليمان، القاضي أبو أحمد الأصبهاني الحافظ، المعروف بالعسال. سمع من والده وهو من قدماء شيوخه، وسمع من محمد بن أيوب الرازي وأبي مسلم الكجي، ومحمد بن عثمان بن أبي شيبة، وأمثالهم. وحدث عنه أولاده، وأبو أحمد بن عبد الله بن عدي وأبو عبد الله بن منده، وأبو بكر بن مردويه، وأبو سعيد النقاش وغيرهم. قال ابن مردويه: كان أبو أحمد العسال المعدل يتولى القضاء خليفة لعبد الرحمن بن أحمد الطبري، هو أحد الأئمة في الحديث، فهماً، وإتقاناً وأمانة. وقال أبو نعيم: أبو أحمد من كبار الناس في المعرفة والإتقان والحفظ، صنف الشيوخ،
_________
(1) تاريخ بغداد (1/ 270) والأنساب (8/ 447) وتذكرة الحفاظ (3/ 886 - 889) والبداية والنهاية (11/ 252) والوافي بالوفيات (2/ 41) وشذرات الذهب (2/ 380 - 381) والسير (16/ 6 - 15).
(5/187)
والتفسير، وعامة المسند، ولي القضاء بأصبهان، مقبول القول. صنف: تفسير القرآن، والتاريخ وتاريخ النساء، وكتاب السنة وكتاب الأمثال وكتاب الرؤية وكتاب الرقائق وأشياء كثيرة. توفي في شهر رمضان من سنة تسع وأربعين وثلاثمائة.
موقفه من الجهمية:
له من الآثار السلفية:
1 - المعرفة: قال فيه الذهبي في العرش (ص.57): من أجل ما صنف في صفات الرب عز وجل، إذا نظر فيه البصير بهذا الشأن علم منزلة مصنفه وجلالته.
2 - السنة: ذكرها الذهبي في السير. (1)
3 - الرؤية. (2)
أحمد بن كامل القاضي (3) (350 هـ)
الإمام أحمد بن كامل بن خلف بن شجرة، أبو بكر البغدادي القاضي، أحد أصحاب محمد بن جرير الطبري. حدث عن محمد بن سعد العوفي وأبي قلابة الرقاشي، والحسن بن سلام، ومحمد بن مسلمة الواسطي، وطبقتهم.
_________
(1) السير (16/ 11).
(2) السير (16/ 11).
(3) تاريخ بغداد (4/ 357) وميزان الاعتدال (1/ 120) وسير أعلام النبلاء (15/ 544 - 546) والوافي بالوفيات (7/ 298) ولسان الميزان (1/ 249).
(5/188)
وحدث عنه الدارقطني، وابن رزقويه، وأبو الحسن الحمامي، وأبو العلاء محمد ابن الحسن الوراق. قال الخطيب: كان من العلماء بالأحكام، وعلوم القرآن، والنحو والشعر، وأيام الناس، وتواريخ أصحاب الحديث، وله مصنفات في أكثر ذلك. وقال ابن رزقويه: لم تر عيناي مثله. وقال الذهبي: كان من بحور العلم. توفي رحمه الله سنة خمسين وثلاثمائة، وله تسعون سنة.
موقفه من الجهمية:
وأخبرنا عبيد الله قال أخبرنا أحمد بن كامل قال حدثني أبو عبد الله الوراق جواز قال: كنت أورق على داود الأصبهاني فكنت عنده يوماً في دهليز مع جماعة من الغرباء فسئل عن القرآن؟ فقال: القرآن الذي قال الله: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (1) وقال: {في كِتَابٍ مَكْنُونٍ} (2) غير مخلوق. وأما ما بين أظهرنا يمسه الجنب والحائض فهو مخلوق. قال القاضي أحمد بن كامل: وهذا مذهب الناشئ وهو كفر بالله العظيم. صح الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه: "نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو" (3) فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما كتب في الصحف والمصاحف قرآناً. فالقرآن على أي وجه تلي وقرئ فهو واحد وهو غير مخلوق. (4)
_________
(1) الواقعة الآية (79).
(2) الواقعة الآية (78).
(3) أحمد (2/ 7) والبخاري (6/ 164/2990) ومسلم (3/ 1490/1869) وأبو داود (3/ 82/2610) وابن ماجه (2/ 961/2879) من حديث ابن عمر.
(4) أصول الاعتقاد (2/ 398/613) وتاريخ بغداد (8/ 374 - 375).
(5/189)
أبو بكر الفارسي (1) (350 هـ)
أبو بكر أحمد بن الحسين بن سهل الفارسي. أحد أئمة الشافعية أصحاب الوجوه والمصنفات الزاهرة الأنيقة. وهو أول من درس مذهب الشافعي ببلخ. إمام جليل، تفقه على أبي العباس بن سريج. قال النووي: من أئمة أصحابنا وكبارهم ومتقدميهم وأعلامهم. صنف كتاب: 'العيون على مسائل الربيع'، و'الانتقاد على المزني' و'الخلاف' و'الإجماع'. مات في حدود سنة خمسين وثلاثمائة.
موقفه من المشركين:
قال ابن تيمية: وقد حكى أبو بكر الفارسي من أصحاب الشافعي إجماع المسلمين على أن حد من سب النبي - صلى الله عليه وسلم - القتل، كما أن حد من سب غيره الجلد. (2)
موقف السلف من ابن سالم الصوفي (350 هـ)
بيان ضلاله:
جاء في السير: وله أصحاب يسمون السالمية، هجرهم الناس لألفاظ هجنة أطلقوها وذكروها. (3)
_________
(1) تهذيب الأسماء واللغات (القسم الأول/2/ 195) وطبقات الفقهاء الشافعيين لابن كثير (1/ 243) وطبقات الشافعية للسبكي (1/ 286) والوافي بالوفيات (6/ 335) وتاريخ الإسلام (حوادث 341 - 350/ص.456).
(2) الصارم (9).
(3) السير (16/ 273).
(5/190)
الوزير أبو محمد المُهَلَّبِي (1) (352 هـ)
أبو محمد الحسن بن محمد الأزدي، من ولد المهلب بن أبي صفرة، الوزير المهلبي، استوزره معز الدولة أبو الحسين أحمد بن بويه، مكث وزيراً له ثلاث عشرة سنة وثلاثة أشهر. وكان كريماً فاضلاً، ذا عقل ومروءة، من رجال الدهر حزماً وعزماً، وكان مع ذلك أديباً وشاعراً، كامل السؤدد، مقرباً للعلماء، قال هلال بن المحسن: كان المهلبي نهاية في سعة الصدر، وبعد الهمة، وكمال المروءة، والإقبال على أهل الأدب، وله نظم مليح، وكان يملأ العيون منظره، والمسامع منطقه، والصدور هيبته، وتقبل النفوس تفصيله وجملته. توفي من علة اشتدت به وهو عائد إلى بغداد، في شعبان سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة.
موقفه من المشركين:
جاء في البداية والنهاية: رفع إلى الوزير أبي محمد المهلبي رجل من أصحاب أبي جعفر بن أبي العزاقر (2) الذي كان قتل على الزندقة كما قتل الحلاج. فكان هذا الرجل يدعي ما كان يدعيه ابن أبي العز وقد اتبعه جماعة من الجهلة من أهل بغداد وصدقوه في دعواه الربوبية وأن أرواح الأنبياء والصديقين تنتقل إليهم ووجد في منزله كتب تدل على ذلك، فلما تحقق أنه هالك ادعى أنه شيعي ليحضر عند معز الدولة بن بويه وقد كان معز الدولة
_________
(1) السير (16/ 197 - 198) والبداية والنهاية (11/ 257) والكامل في التاريخ (8/ 546 - 547) والمنتظم (14/ 142 - 143) والعبر (1/ 346) وشذرات الذهب (3/ 9 - 10).
(2) في الأصل: أبي جعفر بن أبي العز. وانظر الكامل (8/ 495).
(5/191)
ابن بويه يحب الرافضة قبحه الله، فلما اشتهر عنه ذلك لم يتمكن الوزير منه خوفاً على نفسه من معز الدولة وأن تقوم عليه الشيعة، إنا لله وإنا إليه راجعون. ولكنه احتاط على شيء من أموالهم فكان يسميها أموال الزنادقة. (1)
موقف السلف من ابن أبي دارم الرافضي (352 هـ)
بيان رفضه:
- جاء في السير: كان موصوفاً بالحفظ والمعرفة إلا أنه يترفض، قد ألف في الحط على بعض الصحابة، وهو مع ذلك ليس بثقة في النقل. (2)
- وفيها: قال محمد بن حماد الحافظ، كان مستقيم الأمر عامة دهره، ثم في آخر أيامه كان أكثر ما يقرأ عليه المثالب، حضرته ورجل يقرأ عليه أن عمر رفس فاطمة حتى أسقطت محسناً. وفي خبر آخر قوله تعالى: {وَجَاءَ فرعون}: عمر، {وَمَنْ قبله}: أبو بكر، {وَالْمُؤْتَفِكَاتُ}: عائشة، وحفصة. فوافقته، وتركت حديثه.
قلت -أي الذهبي-: شيخ ضال معثر. (3)
_________
(1) البداية والنهاية (11/ 238 - 239).
(2) السير (15/ 577).
(3) السير (15/ 578).
(5/192)
موقف السلف من ابن الداعي الشيعي (353 هـ)
بيان تشيعه:
- جاء في السير: برع في الرأي على الإمام أبي الحسن الكرخي، وأخذ علم الكلام عن حسين بن علي البصري، وأفتى ودرس، وولي نقابة الطالبيين في دولة بني بويه، فعدل وحمد، وكان معز الدولة يبالغ في تعظيمه، وتقبيل يده، لعبادته وهيبته، وكان فيه تشيع بلا غلوّ. (1)
- وفيها: قال أبو علي التنوخي: حدثنا أبو الحسن بن الأزرق، قال: كنت بحضرة الإمام أبي عبد الله بن الداعي، فسأله أبو الحسن المعتزلي عما يقوله في طلحة والزبير؟ فقال: أعتقد أنهما من أهل الجنة، قال: ما الحجة؟ قال: قد رويت توبتهما، والذي هو عمدتي أن الله بشرهما بالجنة، قال: فما تنكر على من زعم أنه عليه السلام قال: إنهما من أهل الجنة ومقالته: فلو ماتا لكانا في الجنة، فلما أحدثا زال ذلك، قال: هذا لا يلزم، وذلك أن نقل المسلمين أن بشارة النبي - صلى الله عليه وسلم - سبقت لهما، فوجب أن تكون موافاتهما القيامة على عمل يوجب لهما الجنة، وإلا لم يكن ذلك بشارة، فدعا له المعتزلي واستحسن ذلك، ثم قال: ومحال أن يعتقد هذا فيهما، ولا يعتقد مثله في أبي بكر وعمر، إذ البشارة للعشرة. (2)
- ثم قال أبو علي التنوخي: رأيت في مجلس أبي عبد الله وقد جاءه
_________
(1) السير (16/ 115).
(2) السير (16/ 115).
(5/193)
رجل بفتوى فيمن حلف فطلق امرأته ثلاثاً معاً، فقال له: تريد أن أفتيك بما عندي وعند أهل البيت أو بما يحكيه غيرنا عن أهل البيت؟ فقال: أريد الجميع، قال: أما عندي وعندهم فقد بانت، ولا تحل لك حتى تنكح زوجاً غيرك. (1)
- ثم قال التنوخي: ولم يزل أبو عبد الله ببغداد، وبايعه جماعة على الإمامة، فلم يقدر على الخروج، فلما كان في سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة سار معز الدولة إلى الموصل لحرب ابن حمدان، فوجد أبو عبد الله فرصة، فركب يوماً إلى عز الدولة، فخوطب في مجلسه بسبب خلاف بين شريفين خطاباً ظاهراً استقصاء لفعله، فتألم وخرج مغضباً، ثم أصلح أمره، ورتب قوماً بخيل خارج بغداد، وأظهر أنه عليل، وحجب عنه الناس، ثم تسحب خفية بابنه الكبير وعليه جبة صوف، وفي صدره مصحف وسيف، فلحق بهوسم من بلاد الديلم، فأطاعته الديلم، وكان أعجمي اللسان، وأمه منهم وتلقب بالمهدي، وكانت أعلامه من حرير أبيض، فيها: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأذنابها خضر، فأقام العدل وتقشف، وقنع بالقوت، وقيل: إنه قال لقواده: أنا على ما ترون، فمتى غيرت أو ادخرت درهماً، فأنتم في حل من بيعتي، وكان يعظ ويعلمهم، ويحث على الجهاد، ويكتب إلى الأطراف ليبايعوه، وكاتب ركن الدولة، ومعز الدولة في ذلك، فأجابه ركن الدولة بالإمامة، واعتذر من ترك نصرته، ولم يتلقب بإمرة المؤمنين، بل بالإمام المهدي.
_________
(1) السير (16/ 115 - 116).
(5/194)
قال الذهبي: كان يمتنع من الترحم على معاوية رضي الله عنه، ولا يشتم الصحابة. (1)
مَسْلَمَة بن القاسم (2) (353 هـ)
مسلمة بن القاسم بن إبراهيم، أبو القاسم الأندلسي القرطبي. سمع محمد بن عمر بن لبابة، وأحمد بن موسى التمار، وأبا جعفر الطحاوي، وأبا بكر بن زياد وصالح بن الحافظ أحمد بن عبد الله العجلي وغيرهم. قال ابن الفرضي: انصرف إلى الأندلس وقد جمع حديثاً كثيراً، وكف بصره بعد قدومه من المشرق وسمع الناس منه كثيراً، وسمعت من ينسبه إلى الكذب. وقال ابن حزم: كان أحد المكثرين من الرواية والحديث. قال ابن الفرضي: قال لي محمد بن يحيى بن مفرج: لم يكن كذاباً. وكان ضعيف العقل، وحفظ عليه كلام سوء في التشبيه. وقال الحافظ ابن حجر متعقباً: هذا رجل كبير القدر ما نسبه إلى التشبيه إلا من عاداه، وله تصانيف في الفن وكانت له رحلة لقي فيها الأكابر.
توفي رحمه الله تعالى سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة، وهو ابن ستين سنة.
موقفه من الجهمية:
قال رحمه الله: كلام الله عز وجل منزل مفروق ليس بخالق ولا مخلوق،
_________
(1) السير (16/ 116).
(2) تاريخ علماء الأندلس (2/ 128 - 130) وميزان الاعتدال (4/ 112) وسير أعلام النبلاء (16/ 110) ولسان الميزان (6/ 35 - 36) وتاريخ الإسلام (حوادث 351 - 380/ص: 98).
(5/195)
لا تدخل فيه ألفاظنا وإن تلاوتنا له غير مخلوقة لأن التلاوة هي القرآن بعينه، فمن زعم أن التلاوة مخلوقة فقد زعم القرآن مخلوق، ومن زعم أن القرآن مخلوق، فقد زعم أن علم الله مخلوق، ومن زعم أن علم الله مخلوق فهو كافر. (1)
موقف السلف من المتنبي (354 هـ)
بيان ادعائه:
قال ابن كثير: وقد كان المتنبي جعفي النسب صليبة منهم، وقد ادعى حين كان مع بني كلب بأرض السماوة قريباً من حمص أنه علوي، ثم ادعى أنه نبي يوحى إليه، فاتبعه جماعة من جهلتهم وسفلتهم، وزعم أنه أنزل عليه قرآن فمن ذلك قوله: "والنجم السيار، والفلك الدوار، والليل والنهار، إن الكافر لفي خسار، امض على سنتك واقف أثر من كان قبلك من المرسلين، فإن الله قامع بك من ألحد في دينه، وضل عن سبيله" وهذا من خذلانه وكثرة هذيانه وفشاره، ولو لزم قافية مدحه النافق بالنفاق، والهجاء بالكذب والشقاق، لكان أشعر الشعراء، وأفصح الفصحاء. ولكن أراد بجهله وقلة عقله أن يقول ما يشبه كلام رب العالمين الذي لو اجتمعت الجن والإنس والخلائق أجمعون على أن يأتوا بسورة مثل سورة من أقصر سوره لما
_________
(1) رياض الجنة بتخريج أصول السنة لابن أبي زمنين (86 - 87).
(5/196)
استطاعوا. ولما اشتهر خبره بأرض السماوة وأنه قد التف عليه جماعة من أهل الغباوة، خرج إليه نائب حمص من جهة بني الأخشيد وهو الأمير لؤلؤ بيض الله وجهه، فقاتله وشرد شمله، وأسر مذموماً مدحوراً، وسجن دهراً طويلاً، فمرض في السجن وأشرف على التلف، فاستحضره واستتابه وكتب عليه كتاباً اعترف فيه ببطلان ما ادعاه من النبوة، وأنه قد تاب من ذلك ورجع إلى دين الإسلام، فأطلق الأمير سراحه فكان بعد ذلك إذا ذكر له هذا يجحده إن أمكنه وإلا اعتذر منه واستحيى، وقد اشتهر بلفظة تدل على كذبه فيما كان ادعاه من الإفك والبهتان، وهي لفظة المتنبي، الدالة على الكذب ولله الحمد والمنة. (1)
منذر بن سعيد البَلُّوطي (2) (355 هـ)
منذر بن سعيد بن عبد الله بن عبد الرحمن، أبو الحكم البلوطي الكُزْنِي، قاضي القضاة بقرطبة. سمع من عبيد الله بن يحيى الليثي وأبي المنذر وابن النحاس. وكان يميل إلى رأي داود الظاهري ويحتج له، وولي القضاء في الثغور الشرقية، ثم قضاء الجماعة بقرطبة. قال ابن بشكوال: منذر بن سعيد خطيب بليغ مصقع، لم يكن بالأندلس أخطب منه، مع العلم البارع والمعرفة الكاملة واليقين في العلوم والدين والورع وكثرة الصيام والتهجد والصدع
_________
(1) البداية (11/ 273 - 274).
(2) طبقات النحويين واللغويين (295 - 296) وتاريخ علماء الأندلس (2/ 144 - 145) وسير أعلام النبلاء (16/ 173 - 178) ونفح الطيب (1/ 372 - 376) وشذرات الذهب (3/ 17).
(5/197)
بالحق، كان لا تأخذه في الله لومة لائم. وقال الزبيدي: كان ذا علم بالقرآن، حافظاً لما قالت العلماء في تفسيره وأحكامه ووجوهه في حلاله وحرامه كثير التلاوة له، حاضر الشاهد بآياته. وجاء في النفح: وله كتب مؤلفة في القرآن والسنة والورع، والرد على أهل الأهواء والبدع.
ومن جميل أفعاله: أنه خطب يوماً فأعجبته نفسه، فقال: حتى متى أعظ ولا أتعظ، وأزجر ولا أزدجر، أدل على الطريق المستدلين، وأبقى مع الحائرين، كلا إن هذا لهو البلاء المبين. توفي رحمه الله سنة خمس وخمسين وثلاثمائة، وله اثنتان وثمانون سنة.
موقفه من القدرية:
جاء في السير: وقال ابن عبد البر: حدثت أن رجلاً وجد القاضي منذر ابن سعيد في بعض الأسحار على دكان المسجد، فعرفه، فجلس إليه، وقال: يا سيدي إنك لتغرر بخروجك، وأنت أعظم الحكام، وفي الناس المحكوم عليه والرقيق الدين، فقال: يا أخي وأنى لي بمثل هذه المنزلة؟ وأنى لي بالشهادة، ما أخرج تعرضاً للتغرر، بل أخرج متوكلاً على الله إذ أنا في ذمته. فأعلم أن قدره لا محيد عنه، ولا وزر دونه. (1)
_________
(1) سير أعلام النبلاء (16/ 175 - 176).
(5/198)
ابن شَعْبَان (1) (355 هـ)
اسمه محمد بن القاسم بن شعبان، أبو إسحاق العماري، المصري، من ولد عمار بن ياسر، يعرف بابن القرطي نسبة إلى بيع القرط. روى عنه محمد ابن أحمد الخلاص وخلف بن القاسم، وعبد الرحمن بن يحيى العطار. قال الذهبي: كان صاحب سنة واتباع وباع مديد في الفقه مع بصر بالأخبار وأيام الناس مع الورع والتقوى وسعة الرواية. قال ابن حجر: وكان سلفي المذهب. توفي سنة خمس وخمسين وثلاثمائة.
موقفه من الجهمية:
كما قدمنا غير ما مرة، أن دعاة العقيدة السلفية كانوا ينتهزون جميع الفرص لنشر هذه العقيدة المباركة، فكان هذا الإمام منهم، قال الذهبي في السير: وكان صاحب سنة واتباع وباع مديد في الفقه، مع بصر بالأخبار وأيام الناس، مع الورع والتقوى وسعة الرواية. رأيت له تأليفاً في تسمية الرواة عن مالك، أوله: الحمد لله الحميد، ذي الرشد والتسديد، والحمد لله أحق ما بدي، وأولى من شكر الواحد الصمد، جل عن المثل فلا شبه له ولا عدل، عال على عرشه، فهو دان بعلمه، وذكر باقي الخطبة، ولم يكن له عمل طائل في الرواية. (2)
_________
(1) الأنساب (4/ 474) والسير (16/ 78 - 79) وترتيب المدارك (2/ 13 - 14) وميزان الاعتدال (4/ 14) واللسان (5/ 348 - 349).
(2) السير (16/ 79).
(5/199)
موقف السلف من ابن الجعابي (355 هـ)
بيان رفضه:
- جاء في السير: قال أبو عبد الرحمن السلمي: سألت الدارقطني عن ابن الجعابي، فقال: خلط، وذكر مذهبه في التشيع، وكذا نقل أبو عبد الله الحاكم، عن الدارقطني قال: وحدثني ثقة أنه خلى ابن الجعابي نائماً وكتب على رجله، قال: فكنت أراه ثلاثة أيام لم يمسه الماء. (1)
- وفيها: وقال محمد بن عبيد الله المسبحي: كان ابن الجعابي المحدث قد صحب قوماً من المتكلمين، فسقط عند كثير من أصحاب الحديث. وصل إلى مصر، ودخل إلى الإخشيد، ثم مضى إلى دمشق، فوقفوا على مذهبه، فشردوه، فخرج هارباً. (2)
أبو نصر القاضي (3) (356 هـ)
يوسف بن عمر بن أبي عمر محمد المالكي ثم الداوودي البغدادي. ولد سنة خمس وثلاثمائة. ولي بعد أبيه وكان من أجود القضاة، ورعاً حاذقاً بالأحكام، متفنناً بارع الأدب. وقال طلحة بن محمد بن جعفر: ما زال أبو نصر منذ نشأ فتىً نبيلاً نظيفاً جميلاً عفيفاً، متوسطاً في علمه بالفقه حاذقاً
_________
(1) السير (16/ 90).
(2) السير (16/ 91 - 92).
(3) تاريخ بغداد (14/ 322 - 324) وترتيب المدارك (2/ 6 - 7) والسير (16/ 77 - 78) والمنتظم (14/ 187 - 188).
(5/200)
بصناعة القضاء، بارعاً في الأدب والكتابة حسن الفصاحة واسع العلم باللغة والشعر، تام الهيئة. توفي سنة ست وخمسين وثلاثمائة.
موقفه من المبتدعة:
جاء في السير: وهو القائل في رسالة: ولسنا نجعل من تصديره في كتبه ومسائله: يقول ابن المسيب والزهري وربيعة كمن تصديره في كتبه: يقول الله ورسوله والإجماع .. هيهات! (1)
محمد بن أحمد بن حَمْدان (2) (356 هـ)
محمد بن أحمد بن حمدان الحافظ أبو العباس الحيري النيسابوري الخوارزمي. ولد سنة ثلاث وسبعين ومائتين. سمع محمد بن أيوب الرازي، ومحمد بن إبراهيم البوشنجي، ومحمد بن عمرو قشمرد. روى عنه أبو بكر البرقاني، وأحمد بن محمد بن عيسى، ومحمد بن إبراهيم بن قطن.
وكان حافظاً للقرآن، عارفاً بالحديث والتاريخ والرجال والفقه، كافاً عن الفتوى. وكان مؤتمناً عند الأمراء والكبراء، وكان ورعاً في معاملاته، كبير القدر، جعل ناظراً للجامع فعمره. توفي سنة ست وخمسين وثلاثمائة.
موقفه من المبتدعة:
جاء في السير: وكان إذا صحّ عنده حديث عمل به ولم يلتفت إلى مذهب. (3)
_________
(1) السير (16/ 77).
(2) السير (16/ 193 - 196) وشذرات الذهب (3/ 38).
(3) السير (16/ 195).
(5/201)
معز الدولة (1) (356 هـ)
السلطان، أبو الحسين أحمد بن أبي شجاع بويه، الديلمي الفارسي. دخل بغداد سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة فتملكها، ثم دانت له العراق وكانت مدة ملكه العراق اثنتين وعشرين سنة. توفي سنة ست وخمسين وثلاثمائة.
موقفه من الرافضة:
- جاء في السير أنه كان يتشيع، فقيل: تاب في مرضه، وترضى عن الصحابة، وتصدق، وأعتق، وأراق الخمور، وندم على ما ظلم، ورد المواريث إلى ذوي الأرحام. (2)
- قال ابن كثير: أظهر الرفض، فلما أحس بالموت أظهر التوبة وأناب إلى الله عز وجل، ورد كثيراً من المظالم، وتصدق بكثير من ماله، وأعتق طائفة كثيرة من مماليكه، وأراق الخمور، وندم على ما ظلم. وقد اجتمع ببعض العلماء فكلمه في السنة وأخبره أن عليّاً زوج ابنته أم كلثوم من عمر ابن الخطاب فقال: "والله ما سمعت بهذا قط"، ورجع إلى السنة ومتابعتها. (3)
حامد بن محمد الرَّفَّاء (4) (356 هـ)
الشيخ الإمام أبو عليّ، حامد بن محمد بن عبد الله بن محمد بن معاذ
_________
(1) السير (16/ 189) ووفيات الأعيان (1/ 174) والبداية والنهاية (11/ 279).
(2) السير (16/ 190).
(3) البداية والنهاية (11/ 279) بتصرف يسير.
(4) تاريخ بغداد (8/ 172 - 174) والمنتظم (14/ 184) وسير أعلام النبلاء (16/ 16 - 17) وتاريخ الإسلام (حوادث 351 - 380/ص.140 - 141) وشذرات الذهب (3/ 19).
(5/202)
الهروي الرفاء. سمع من الفضل بن عبد الله اليشكري وعثمان بن سعيد الدارمي وإبراهيم الحربي وعلي بن عبد العزيز البغوي وخلق كثير. وحدث عنه الحاكم وأبو علي بن شاذان وسعيد بن عثمان بن عمار وأبو عثمان سعيد بن العباس القرشي وآخرون. وثقه الخطيب وابن الجوزي وغيرهما، وقال الحافظ أبو بشر الهروي: ثقة صالح. قال الذهبي: واشتهر اسمه، وانتشر حديثه، وكان ذا معرفة وفهم وسعة علم، وغيره أحفظ منه وأحذق بالفن. وانتهى إليه علو الإسناد بهراة. توفي رحمه الله بهراة في شهر رمضان سنة ست وخمسين وثلاثمائة.
موقفه من المبتدعة:
قال يحيى بن عمار: كان حامد بن محمد الرفاء يحرج على أهل الرأي أن يرووا عنه، ولا يأذن لهم في داره ليسمعوا منه، فأتاه إنسان من رؤساء بلخ، فألحوا عليه، فأذن له، فلما أذن له، دخل عليه لم يرفع به رأساً، وقال: من أين أنت؟ قال: من بلخ، قال: دار المرجئة! ثم قال لي الرفاء خذ من رد الحميدي، فقرأت له عليه منه شيئاً كثيراً. (1)
إبراهيم السبائي (2) (356 هـ)
أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد السبائي. مولده سنة سبعين ومئتين. صحب أبا جعفر أحمد بن نصر، وأبا البشر مطر بن يسار، وأبا جعفر
_________
(1) ذم الكلام (4/ 401 - 402/ 1290) تحقيق الأنصاري.
(2) ترتيب المدارك (2/ 66) والديباج المذهب (1/ 262) وشجرة النور الزكية (1/ 94).
(5/203)
القصري، وغيرهم من أهل العلم. وأخذ عنهم علماً كثيراً. وكان العلماء يتذاكرون بحضرته وبمجلسه، كأبي محمد بن أبي زيد وهو الملقي عليهم، وأبي القاسم بن شبلون، والقابسي، وغيرهم. فإذا تنازعوا فصل ما بينهم، فيرجعون إليه، ويستشيرونه في جميع أمورهم. قال المالكي: كان رجلاً صالحاً فاضلاً مشهوراً بالعبادة والاجتهاد كثير الورع وقافاً عن الشبهات ... مجافياً لأهل البدع، شديد الغلظة عليهم، قليل المداراة لهم. وقال ابن سعدون: ... كان مما شغل به نفسه، ذكر فضل الصحابة والثناء عليهم، لانتشار أمر المشارقة، فما كان أحد يذكر الصحابة إلا في داره. توفي الشيخ أبو إسحاق رحمه الله تعالى لثمان بقين من رجب سنة ست وخمسين وثلاثمائة.
موقفه من المبتدعة:
جاء في معالم الإيمان: كان مبايناً لأهل البدع شديد الغلظة عليهم قليل المداراة لهم. (1)
موقفه من الرافضة:
- جاء في المعالم: وكان رحمه الله تعالى شديد العداوة لبني عبيد مجاهراً لهم بالسب والتكفير وسكناه بخارج باب الريح ليس بينه وبين الفحص إلا نصف طوبة وقصب ويبلغ بني عبيد عنه ذلك فلا يقدرون له على شيء وكان ممن خرج عليهم بالوادي المالح وعصمه الله منهم. (2)
- وفيه: وذكره معد يوماً فقال: أعد لنا السلاح وتربص بنا الدوائر
_________
(1) معالم الإيمان (3/ 63).
(2) المعالم (3/ 71).
(5/204)
وكفرنا وشتمنا، وعلم الناس الجرأة علينا، حتى تناكر الكبير والصغير. (1)
حمزة بن محمد بن علي (2) (357 هـ)
أبو القاسم حمزة بن محمد بن علي الكِنَانِي الإمام الحافظ، محدث الديار المصرية. ولد سنة خمس وسبعين ومائتين. سمع عمران بن موسى الطيب، ومحمد بن سعيد السراج، وأبا عبد الرحمن النسائي. وحدث عنه الدارقطني، وابن منده، وتمام بن محمد الرازي. وقد أثنى عليه غير واحد من أهل العلم. قال الذهبي: وكان متقناً مجوداً، ذا تأله وتعبد. وقال أبو عبد الله الحاكم: حمزة المصري هو على تقدمه في معرفة الحديث؛ أحد من يذكر بالزهد والورع والعبادة. وقال الصوري: كان حمزة حافظاً ثبتاً. توفي سنة سبع وخمسين وثلاثمائة.
موقفه من الرافضة:
روى الذهبي في السير بسنده إلى علي بن عمر الحراني، سمعت حمزة بن محمد الحافظ وجاءه غريب فقال: إن عسكر أبي تميم -يعني المغاربة- قد وصلوا إلى الإسكندرية، فقال: اللهم لا تحيني حتى تريني الرايات الصفر. فمات حمزة، ودخل عسكرهم بعد موته بثلاثة أيام.
قال الذهبي: هؤلاء عسكر المعز العبيدي الإسماعيلية، تملكوا مصر في هذا الوقت، وبنوا في الحال مدينة القاهرة المعزية، فأماتوا السنة، وأظهروا
_________
(1) المعالم (3/ 73).
(2) السير (16/ 179 - 181) والنجوم الزاهرة (4/ 20) وشذرات الذهب (3/ 23).
(5/205)
الرفض، ودامت دولتهم أزيد من مائتي عام، حتى أبادهم السلطان صلاح الدين، ونسبهم إلى علي رضي الله عنه غير صحيح. (1)
محارب المُحَارِبِي (2) (359 هـ)
محارب بن محمد بن محارب أبو العلاء القاضي الشافعي المحاربي السدوسي من ولد محارب بن دثار من أهل بغداد. حدث عن جعفر بن محمد ابن الحسن الفريابي وعلي بن إسحاق بن زاطيا وأحمد بن الحسن بن عبد الجبار. روى عنه عبد الله بن محمد بن إسحاق بن أبي سعد الجواربي. وكان ثقة عالماً. له مصنف في الرد على المخالفين من القدرية والجهمية والرافضة. توفي سنة تسع وخمسين وثلاثمائة.
موقفه من المبتدعة:
له كتاب: 'الرد على المخالفين من القدرية والجهمية والرافضة'. (3)
محمد بن أحمد الفارسي (4) (359 هـ)
محمد بن أحمد بن محمد الفارسي يكنى أبا عبد الله ويعرف بابن الخراز. سمع من أحمد بن زياد وأحمد بن محمد القصري وعلي بن عبد الله بن أبي
_________
(1) السير (16/ 180 - 181).
(2) الأنساب (5/ 207) والبداية والنهاية (11/ 286) والمنتظم (14/ 204).
(3) الأنساب (5/ 207).
(4) تاريخ ابن الفرضي (2/ 114).
(5/206)
مطر. روى عنه إسماعيل بن إسحاق وعبيد الله بن الوليد وسليمان بن عبد الرحمن. كان خيراً فاضلاً متمسكاً بالسنة شديد الإنكار على أهل البدع صلباً وامتحن في ذلك.
توفي سنة تسع وخمسين وثلاثمائة.
موقفه من المبتدعة:
جاء في تاريخ ابن الفرضي: وكان خيراً فاضلاً متمسكاً بالسنة شديد الإنكار على أهل البدع صلباً، وامتحن في ذلك. (1)
أبو بكر الآجُرِّي (2) (360 هـ)
أبو بكر الآجري محمد بن الحسين بن عبد الله البغدادي الآجري الإمام المحدث القدوة شيخ الحرم الشريف. مصنف كتاب 'الشريعة' سمع أبا مسلم الكجي وجعفر بن محمد الفريابي ومحمد بن صالح العكبري وغيرهم. حدث عنه عبد الرحمن بن عمر بن النحاس. والمقرئ أبو الحسن الحمامي وأبو نعيم الحافظ. وكان صدوقاً خيراً عابداً صاحب سنة واتباع. قال الخطيب: كان ديناً ثقة. وقال السيوطي: كان عالماً عاملاً، صاحب سنة، ديناً، ثقة. وثناء الأئمة عليه أكثر. توفي سنة ستين وثلاثمائة.
_________
(1) تاريخ ابن الفرضي (2/ 112).
(2) تاريخ بغداد (2/ 243) والأنساب (1/ 59) والسير (16/ 133 - 136) والمنتظم (14/ 208) ووفيات الأعيان (4/ 292 - 293) والوافي بالوفيات (2/ 373 - 374) وتذكرة الحفاظ (3/ 936) والبداية والنهاية (11/ 288) وطبقات الحفاظ (379) وشذرات الذهب (3/ 35).
(5/207)
موقفه من المبتدعة:
آثار الشيخ السلفية:
1 - كتاب الشريعة: وهو من أعظم المصادر السلفية التي غاظت المبتدعة، فذكروه في كتبهم بأوصاف قبيحة كلها كذب وتدليس وغش، والبادي بذلك الجويني، وتبعه الأشاعرة بعده، كما فعل ذلك القرطبي في الأسنى، وقد رددت عليه وبينت بطلان تأويلاته لصفات الله عز وجل في كتابي: 'المفسرون بين التأويل والإثبات في آيات الصفات'. (1)
هذا، وقد لقي كتاب 'الشريعة' عناية فائقة؛ فحقق تحقيقات عدة ولله الحمد والمنة.
وهو كتاب عظيم فيه علوم نافعة اغتاظ به منافقو الجهمية وأذنابهم.
2 - التصديق بالنظر إلى الله تعالى في الآخرة، وقد حقق رسالة علمية بالجامعة الإسلامية.
- قال محمد بن الحسين رحمه الله: باب ذكر الأمر بلزوم الجماعة والنهي عن الفرقة، بل الاتباع وترك الابتداع: إن الله عز وجل بمنه وفضله أخبرنا في كتابه عمن تقدم من أهل الكتابين اليهود والنصارى، أنهم إنما هلكوا لما افترقوا في دينهم وأعلمنا مولانا الكريم، أن الذي حملهم على الفرقة عن الجماعة، والميل إلى الباطل، الذي نهوا عنه إنما هو البغي والحسد بعد أن علموا ما لم يعلم غيرهم، فحملهم شدة البغي والحسد إلى أن صاروا فرقاً فهلكوا، فحذرنا مولانا الكريم أن نكون مثلهم فنهلك كما هلكوا بل أمرنا
_________
(1) (4/ 1574 - 1796).
(5/208)
عز وجل بلزوم الجماعة، ونهانا عن الفرقة، وكذلك حذرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - من الفرقة وأمرنا بالجماعة، وكذلك حذرنا أئمتنا ممن سلف من علماء المسلمين، كلهم يأمرون بلزوم الجماعة، وينهون عن الفرقة.
فإن قال قائل: فاذكر لنا ذلك لنحذر ما تقوله. والله الموفق لنا إلى سبيل الرشاد.
قيل له: سأذكر من ذلك ما حضرني ذكره مبلغ علمي، الذي علمني الله عز وجل، نصيحة لإخواني من أهل القرآن، وأهل الحديث، وأهل الفقه، وغيرهم من سائر المسلمين. والله الموفق لما قصدت له، والمعين عليه، إن شاء الله.
قال الله تعالى في سورة البقرة: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (1) وقال عز وجل: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ
_________
(1) البقرة الآية (213).
(5/209)
وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} (1) وقال تعالى في سورة آل عمران: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (2) وقال تعالى في سورة الأنعام: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (3) وقال تعالى في سورة يونس: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (4) وقال تعالى في سورة حم عسق: {مَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ
_________
(1) البقرة الآية (253).
(2) آل عمران الآية (19).
(3) الأنعام الآية (159).
(4) يونس الآية (93) ..
(5/210)
مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} (1) وقال تعالى في سورة (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب) قوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (2).
قال محمد بن الحسين رحمه الله: فأعلمنا مولانا الكريم أنهم أوتوا علماً، فبغى بعضهم على بعض، وحسد بعضهم بعضاً، حتى أخرجهم ذلك إلى أن تفرقوا فهلكوا.
فإن قال قائل: فأين المواضع من القرآن التي فيها نهانا الله تعالى أن نكون مثلهم، حتى نحذر ما حذرنا مولانا الكريم من الفرقة، بل نلزم الجماعة؟
قيل له: قال الله تعالى في سورة آل عمران: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ
_________
(1) الشورى الآية (14).
(2) البينة الآيتان (4و5).
(5/211)
النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (1) وقال تعالى في سورة الأنعام: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (2) وقال تعالى في سورة الروم: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (3) وقال تعالى في سورة حم عسق: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ
_________
(1) آل عمران الآيات (102 - 105).
(2) الأنعام الآية (153).
(3) الروم الآيات (30 - 32).
(5/212)
أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} (1).
قال محمد بن الحسين رحمه الله: فهل يكون من البيان أشفى من هذا عند من عقل عن الله تعالى، وتدبر ما به حذره مولاه الكريم من الفرقة؟
ثم اعلموا رحمنا الله تعالى وإياكم: أن الله تعالى قد أعلمنا وإياكم في كتابه، أنه لا بد من أن يكون الاختلاف بين خلقه، ليضل من يشاء، ويهدي من يشاء، جعل الله عز وجل ذلك موعظة يتذكر بها المؤمنون، فيحذرون الفرقة، ويلزمون الجماعة، ويدعون المراء والخصومات في الدين، ويتبعون ولا يبتدعون. فإن قال قائل: أين هذا من كتاب الله تعالى؟ قيل له: قال الله تعالى في سورة هود: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} (2) ثم إن الله تعالى أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يتبع ما أنزله إليه، ولا يتبع أهواء من تقدم من الأمم فيما اختلفوا فيه. ففعل - صلى الله عليه وسلم -، وحذر أمته الاختلاف والإعجاب، واتباع الهوى.
قال الله تعالى في سورة حم الجاثية:
_________
(1) الشورى الآية (13).
(2) هود الآيات (118 - 120).
(5/213)
{وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (1).اهـ (2)
- وقال محمد بن الحسين: علامة من أراد الله به خيراً: سلوك هذا الطريق: كتاب الله، وسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسنن أصحابه رضي الله عنهم ومن تبعهم بإحسان، وما كان عليه أئمة المسلمين في كل بلد إلى آخر ما كان من العلماء، مثل الأوزاعي، وسفيان الثوري، ومالك بن أنس، والشافعي، وأحمد بن حنبل، والقاسم بن سلام، ومن كان على مثل طريقتهم، ومجانبة كل مذهب يذمه هؤلاء العلماء. (3)
_________
(1) الجاثية الآيات (16 - 20).
(2) الشريعة (1/ 113 - 116).
(3) الشريعة (1/ 124).
(5/214)
- وقال رحمه الله:
باب ذكر افتراق الأمم في دينهم وعلى كم تفترق هذه الأمة:
أخبرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أمة موسى عليه السلام: "أنهم اختلفوا على إحدى وسبعين ملة، كلها في النار إلا واحدة". وأخبرنا عن أمة عيسى عليه السلام: "أنهم اختلفوا عليه على اثنتين وسبعين ملة، إحدى وسبعون منها في النار وواحدة في الجنة". قال - صلى الله عليه وسلم -: "وتعلو أمتي الفريقين جميعاً، تزيد عليهم فرقة واحدة، ثنتان وسبعون منها في النار وواحدة في الجنة".
ثم إنه سئل - صلى الله عليه وسلم -: من الناجية؟ فقال في حديث: "ما أنا عليه وأصحابي" (1).
وفي حديث قال: "السواد الأعظم" (2).
وفي حديث قال: "واحدة في الجنة، وهي الجماعة" (3).
قلت أنا: ومعانيها واحدة إن شاء الله تعالى. (4)
_________
(1) أخرجه الترمذي (5/ 26/2641) والحاكم (1/ 128 - 129) من طريق عبد الرحمن بن زياد عن عبد الله بن يزيد عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً، وفيه عبد الرحمن بن زياد الإفريقي، قال فيه الحافظ: "ضعيف في حفظه، ولكن للحديث شواهد كشاهد أبي هريرة ومعاوية وغيرهما".
(2) أخرجه: ابن أبي عاصم في السنة (1/ 34/68)، الطبراني في الكبير (8/ 268/8035) وفي الأوسط (8/ 98/7198) والبيهقي (8/ 188) كلهم عن أبي أمامة رضي الله عنه. وذكر الهيثمي في المجمع (7/ 258) وقال: "رواه الطبراني في الأوسط والكبير بنحوه وفيه أبو غالب وثقه ابن معين وغيره، وبقية رجال الأوسط ثقات، وكذلك أحد إسنادي الكبير".
(3) رواه أحمد (4/ 102) وأبو داود (5/ 5 - 6/ 4597) والحاكم (1/ 128) من طريق الأزهر بن عبد الله عن أبي عامر عبد الله بن لحي عن معاوية بن أبي سفيان مرفوعاً. وحسن إسناده الحافظ في تخريج الكشاف، وفي الباب عن أنس ابن مالك وعوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنهما.
(4) الشريعة (1/ 125).
(5/215)
- وقال رحمه الله: رحم الله عبداً حذر هذه الفرق، وجانب البدع ولم يبتدع، ولزم الأثر فطلب الطريق المستقيم، واستعان بمولاه الكريم. (1)
وقال: ينبغي لأهل العلم والعقل إذا سمعوا قائلا يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شيء قد ثبت عند العلماء، فعارض إنسان جاهل، فقال: لا أقبل إلا ما كان في كتاب الله تعالى، قيل له: أنت رجل سوء، وأنت ممن يحذرناك النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحذر منك العلماء.
وقيل له: يا جاهل، إن الله أنزل فرائضه جملة، وأمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يبين للناس ما أنزل إليهم، قال الله عز وجل: {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (2) فأقام الله تعالى نبيه عليه السلام مقام البيان عنه، وأمر الخلق بطاعته، ونهاهم عن معصيته، وأمرهم بالانتهاء عما نهاهم عنه، فقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (3)، ثم حذرهم أن يخالفوا أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (4) وقال عز وجل: {فلا
_________
(1) الشريعة (1/ 132).
(2) النحل الآية (44).
(3) الحشر الآية (7).
(4) النور الآية (63).
(5/216)
وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1) ثم فرض على الخلق طاعته - صلى الله عليه وسلم - في نيف وثلاثين موضعاً من كتابه تعالى.
وقيل لهذا المعارض لسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا جاهل، قال الله تعالى: {وأقيموا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزكاة} (2) أين تجد في كتاب الله تعالى أن الفجر ركعتان، وأن الظهر أربع، والعصر أربع، والمغرب ثلاث، وأن العشاء الآخرة أربع؟ أين تجد أحكام الصلاة ومواقيتها، وما يصلحها وما يبطلها إلا من سنن النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ ومثله الزكاة، أين تجد في كتاب الله تعالى من مائتي درهم خمسة دراهم، ومن عشرين ديناراً نصف دينار، ومن أربعين شاة شاة، ومن خمس من الإبل شاة، ومن جميع أحكام الزكاة، أين تجد هذا في كتاب الله تعالى؟
وكذلك جميع فرائض الله، التي فرضها الله في كتابه، لا يعلم الحكم فيها، إلا بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
هذا قول علماء المسلمين، من قال غير هذا خرج عن ملة الإسلام، ودخل في ملة الملحدين، نعوذ بالله من الضلالة بعد الهدى. (3)
- وقال رحمه الله: من كان له علم وعقل، فميز جميع ما تقدم ذكرى
_________
(1) النساء الآية (65).
(2) البقرة الآية (43).
(3) الشريعة (1/ 176 - 177).
(5/217)
له من أول الكتاب إلى هذا الموضع علم أنه محتاج إلى العمل به، فإن أراد الله به خيراً لزم سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم ومن تبعهم بإحسان من أئمة المسلمين في كل عصر، وتعلم العلم لنفسه، لينتفي عنه الجهل، وكان مراده أن يتعلمه لله تعالى ولم يكن مراده أن يتعلمه للمراء والجدال والخصومات، ولا للدنيا، ومن كان هذا مراده، سلم إن شاء الله تعالى من الأهواء والبدع والضلالة، واتبع ما كان عليه من تقدم من أئمة المسلمين الذين لا يستوحش من ذكرهم، وسأل الله تعالى أن يوفقه لذلك.
فإن قال قائل: فإن كان رجل قد علمه الله تعالى علماً، فجاءه رجل يسأله عن مسألة في الدين، ينازعه فيها ويخاصمه، ترى له أن يناظره، حتى تثبت عليه الحجة، ويرد عليه قوله؟
قيل له: هذا الذي نهينا عنه، وهو الذي حذرناه من تقدم من أئمة المسلمين.
فإن قال قائل: فماذا نصنع؟
قيل له: إن كان الذي يسألك مسألته، مسألة مسترشد إلى طريق الحق لا مناظرة، فأرشده بألطف ما يكون من البيان بالعلم من الكتاب والسنة، وقول الصحابة، وقول أئمة المسلمين، رضي الله عنهم، وإن كان يريد مناظرتك، ومجادلتك، فهذا الذي كره لك العلماء، فلا تناظره، واحذره على دينك، كما قال من تقدم من أئمة المسلمين إن كنت لهم متبعاً.
فإن قال: فندعهم يتكلمون بالباطل، ونسكت عنهم؟
قيل له: سكوتك عنهم وهجرتك لما تكلموا به أشد عليهم من
(5/218)
مناظرتك لهم كذا قال من تقدم من السلف الصالح من علماء المسلمين. (1)
- وقال: ألم تسمع، رحمك الله، إلى ما تقدم ذكرنا له من قول أبي قلابة: لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم، فإني لا آمن أن يغمسوكم في الضلالة، أو يلبسوا عليكم في الدين بعض ما لبس عليهم.
أو لم تسمع إلى قول الحسن وقد سأله رجل عن مسألة فقال: ألا تناظرني في الدين؟ فقال له الحسن: أما أنا فقد أبصرت ديني، فإن كنت أنت أضللت دينك فالتمسه.
أو لم تسمع إلى قول عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه عرضاً للخصومات أكثر التنقل.
قال محمد بن الحسين رحمه الله: فمن اقتدى بهؤلاء الأئمة سلم له دينه إن شاء الله تعالى.
فإن قال قائل: فإن اضطرني في الأمر وقتا من الأوقات إلى مناظرتهم، وإثبات الحجة عليهم ألا أناظرهم؟
قيل له: الاضطرار إنما يكون مع إمام له مذهب سوء، فيمتحن الناس، ويدعوهم إلى مذهبه، كفعل من مضى في وقت أحمد بن حنبل: ثلاثة خلفاء امتحنوا الناس، ودعوهم إلى مذهبهم السوء، فلم يجد العلماء بدّاً من الذب عن الدين، وأرادوا بذلك معرفة العامة الحق من الباطل، فناظروهم ضرورة لا اختياراً، فأثبت الله تعالى الحق مع أحمد بن حنبل، ومن كان على طريقته، وأذل الله تعالى المعتزلة وفضحهم، وعرفت العامة أن الحق ما كان عليه أحمد
_________
(1) الشريعة (1/ 195 - 196).
(5/219)
ومن تابعه إلى يوم القيامة.
أرجو أن يعيذ الله الكريم أهل العلم من أهل السنة والجماعة من محنة تكون أبداً. (1)
- وقال: فإن قال قائل: هذا الذي ذكرته وبينته قد عرفناه، فإذا لم تكن مناظرتنا في شيء من الأهواء التي ينكرها أهل الحق، ونهينا عن الجدال والمراء والخصومة فيها، فإن كانت مسألة من الفقه في الأحكام مثل الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج والنكاح والطلاق، وما أشبه ذلك من الأحكام، هل لنا مباح أن نناظر فيه ونجادل، أم هو محظور علينا، عرفنا ما يلزم فيه؟ كيف السلامة؟
قيل له: هذا الذي ذكرته ما أقل من يسلم من المناظرة فيه، حتى لا يلحقه فيه فتنة ولا مأثم، ولا يظفر فيه الشيطان فإن قال: كيف؟ ..
قيل له: هذا، قد كثر في الناس جدّاً في أهل العلم والفقه في كل بلد يناظر الرجل الرجل يريد مغالبته، ويعلو صوته، والاستظهار عليه بالاحتجاج، فيحمر لذلك وجهه، وتنتفخ أوداجه، ويعلو صوته وكل واحد منهما يحب أن يخطئ صاحبه، وهذا المراد من كل واحد منهما خطأ عظيم، لا يحمد عواقبه ولا يحمده العلماء من العقلاء لأن مرادك أن يخطئ مناظرك: خطأ منك، ومعصية عظيمة، ومراده أن تخطئ: خطأ منه، ومعصية، فمتى يسلم الجميع؟
فإن قال قائل: فإنما نناظر لتخرج لنا الفائدة؟
_________
(1) الشريعة (1/ 196 - 197).
(5/220)
قيل له: هذا كلام ظاهر، وفي الباطن غيره.
وقيل له: إذا أردت وجه السلامة في المناظرة لطلب الفائدة، كما ذكرت، فإذا كنت أنت حجازياً، والذي يناظرك عراقياً، وبينكما مسألة، تقول أنت: حلال. ويقول هو: بل حرام. فإن كنتما تريدان السلامة، وطلب الفائدة، فقل له: رحمك الله، هذه المسألة قد اختلف فيها من تقدم من الشيوخ، فتعال حتى نتناظر فيها مناصحة لا مغالبة فإن يكن الحق فيها معك، اتبعتك، وتركت قولي، وإن يكن الحق معي، اتبعتني، وتركت قولك، لا أريد أن تخطئ ولا أغالبك، ولا تريد أن أخطئ، ولا تغالبني.
فإن جرى الأمر على هذا فهو حسن جميل، وما أعز هذا في الناس.
فإذا قال كل واحد منهما: لا نطيق هذا، وصدقا عن أنفسهما.
قيل لكل واحد منهما: قد عرفت قولك وقول صاحبك وأصحابك واحتجاجهم، وأنت فلا ترجع عن قولك، وترى أن خصمك على الخطأ وقال خصمك كذلك، فما بكما إلى المجادلة والمراء والخصومة حاجة إذا كان كل واحد منكما ليس يريد الرجوع عن مذهبه، وإنما مراد كل واحد منكما أن يخطئ صاحبه، فأنتما آثمان بهذا المراد، أعاذ الله العلماء العقلاء عن مثل هذا المراد.
فإذا لم تجر المناظرة على المناصحة، فالسكوت أسلم، قد عرفت ما عندك وما عنده، وعرف ما عنده وما عندك. والسلام.
ثم لا نأمن أن يقول لك في مناظرته: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتقول له: هذا حديث ضعيف، أو تقول: لم يقله النبي - صلى الله عليه وسلم - كل ذلك، لترد قوله، وهذا
(5/221)
عظيم، وكذلك يقول لك أيضاً، فكل واحد منكما يرد حجة صاحبه بالمخارقة والمغالبة.
وهذا موجود في كثير ممن رأينا يناظر ويجادل ونتجادل، حتى ربما خرق بعضهم على بعض. هذا الذي خافه النبي - صلى الله عليه وسلم - على أمته، وكرهه العلماء ممن تقدم والله أعلم. (1)
- وقال رحمه الله: ينبغي لكل من تمسك بما رسمناه في كتابنا هذا -وهو كتاب الشريعة- أن يهجر جميع أهل الأهواء من الخوارج والقدرية والمرجئة والجهمية، وكل من ينسب إلى المعتزلة، وجميع الروافض، وجميع النواصب، وكل من نسبه أئمة المسلمين أنه مبتدع بدعة ضلالة، وصح عنه ذلك، فلا ينبغي أن يكلم ولا يسلم عليه، ولا يجالس ولا يصلى خلفه، ولا يزوج ولا يتزوج إليه من عرفه، ولا يشاركه ولا يعامله ولا يناظره ولا يجادله، بل يذله بالهوان له، وإذا لقيته في طريق أخذت في غيرها إن أمكنك
وهذا الذي ذكرته لك فقول من تقدم من أئمة المسلمين، وموافق لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأما الحجة في هجرتهم بالسنة فقصة هجره الثلاثة الذين تخلفوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الخروج معه في غزاته بغير عذر، كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، رحمهم الله تعالى، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -
_________
(1) الشريعة (1/ 201 - 202).
(5/222)
بهجرتهم، وأن لا يكلموا، وطردهم حتى نزلت توبتهم من الله عز وجل (1)، وهكذا قصة حاطب بن أبي بلتعة لما كتب إلى قريش يحذرهم خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بهجرته وطرده، فلما أنزل الله توبته فعاتبه الله تعالى على فعله فتاب عليه (2)، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أفضل العمل الحب في الله والبغض في الله" (3). وضرب عمر بن الخطاب رضي الله عنه لصبيغ، وبعث إلى أهل البصرة أن لا يجالسوه، قال: فلو جاء إلى حلقة ما هي قاموا وتركوه. (4)
- وقال رحمه الله: ينبغي لإمام المسلمين ولأمرائه في كل بلد إذا صح عنده مذهب رجل من أهل الأهواء ممن قد أظهره أن يعاقبه العقوبة الشديدة، فمن استحق منهم أن يقتله قتله، ومن استحق أن يضربه ويحبسه وينكل به فعل به ذلك، ومن استحق أن ينفيه نفاه، وحذر منه الناس.
فإن قال قائل: وما الحجة فيما قلت؟
قيل: ما لا تدفعه العلماء ممن نفعه الله عز وجل بالعلم، وذلك أن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه جلد صبيغاً التميمي، وكتب إلى عماله: أن
_________
(1) رواه: أحمد (3/ 456 - 459) والبخاري (8/ 142 - 145/ 4418) ومسلم (4/ 2120 - 2128/ 2769) هكذا مطولا. وأخرج بعضا منه: أبو داود (5/ 7 - 8/ 4600) والترمذي (5/ 263 - 264/ 3102) والنسائي (2/ 386/730).
(2) لم أقف عليه بهذا اللفظ. وقصة حاطب في الصحيحين: البخاري (8/ 817/4890) ومسلم (4/ 1941 - 1942/ 2494) وغيرهما دون الأمر بهجره.
(3) أخرجه: أحمد (5/ 146) وأبو داود (5/ 6 - 7/ 4599). وفيه يزيد بن عطاء ويزيد بن أبي زياد، وهما ضعيفان. وفيه أيضاً الرجل المبهم. لكن للحديث شواهد يرتقي بها إلى درجة الحسن. قال الشيخ الألباني رحمه الله في الصحيحة (1728) بعد أن ذكر بعض الشواهد للحديث: "فالحديث بمجموع طرقه يرتقي إلى درجة الحسن على الأقل. والله أعلم".
(4) الشريعة (3/ 574 - 575).
(5/223)
يقيموه حتى ينادي على نفسه، وحرمه عطاءه، وأمر بهجرته، فلم يزل وضيعاً في الناس.
وهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه قتل بالكوفة في صحراء أحد عشر جماعة ادعوا أنه إلههم، خد لهم في الأرض أخدوداً، وحرقهم بالنار، وقال:
لما سمعت القول قولاً منكرا ... أججت ناري ودعوت قنبرا
وهذا عمر بن عبد العزيز كتب إلى عدي بن أرطأة في شأن القدرية: تستتيبهم فإن تابوا وإلا فاضرب أعناقهم.
وقد ضرب هشام بن عبد الملك عنق غيلان وصلبه بعد أن قطع يده، ولم يزل الأمراء بعدهم في كل زمان يسيرون في أهل الأهواء إذا صح عندهم ذلك عاقبوه على حسب ما يرون، لا ينكره العلماء. (1)
موقفه من المشركين:
- قال محمد بن الحسين: من تصفح أمر هذه الأمة من عالم عاقل، علم أن أكثرهم -العام منهم- يجري أمورهم على سنن أهل الكتابين، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (2)، وعلى سنن كسرى وقيصر، وعلى سنن أهل الجاهلية، وذلك مثل السلطنة وأحكامهم وأحكام العمال والأمراء وغيرهم، وأمر المصائب والأفراح والمساكن واللباس والحلية، والأكل والشرب والولائم، والمراكب
_________
(1) الشريعة (3/ 585).
(2) أحمد (3/ 84) والبخاري (6/ 613/3456) ومسلم (4/ 2054/2669) عن أبي سعيد. وفي الباب عن أبي هريرة وغيره.
(5/224)
والخدم والمجالس والمجالسة، والبيع والشراء، والمكاسب من جهات كثيرة، وأشباه لما ذكرت يطول شرحها، تجري بينهم على خلاف السنة والكتاب، وإنما تجري بينهم على سنن من قبلنا، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -. والله المستعان.
قال الشيخ حامد الفقي -رحمه الله تعالى رحمة واسعة-: إذا كان هذا في زمان أبي بكر الآجري المتوفى سنة 360 من الهجرة فكيف به لو رأى الناس اليوم، وما تتابعوا فيه من تقليد اليهود والنصارى والوثنيين وكل ملحد زنديق في فسوقهم وتمردهم على الله وكتبه ورسله وسننه وآياته، وما جر عليهم ذلك التقليد الأعمى من الانحلال والذلة والصغار، وذهاب ريحهم. وضياع كل ما خلفه لهم آباؤهم من أسباب القوة والسلطان. ولو أن الناس عقلوا عن ربهم وآمنوا بآياته ونعمه ورحمته وحكمته، وآمنوا بما أكرمهم به ربهم وما أعطاهم من هذا الكتاب الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وما حفظ لهم من هدى مختاره ومصطفاه إمام المهتدين عبد الله ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - لو أنهم عقلوا وآمنوا بهذا لانتفعوا بهدى الله، ولنفخ الله فيهم من روح العزة والقوة، ولمكن الله لهم دينهم الذي ارتضى لهم، ولبدلهم من بعد خوفهم أمناً، كما أعطى المسلمين الأولين، ولكن أكثر الناس لا يعقلون، فهم في تقليدهم الأعمى يتخبطون، وفي ضلالهم يعمهون، يجرون في كل شئون حياتهم ذيولاً للفرنجة أعدائهم. فلا ينالون منهم إلا كل ظلم وبغي واستعباد. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. (1)
- وقال الآجري رحمه الله: فإني أحذر إخواني المؤمنين مذهب الحلولية؛
_________
(1) الشريعة (1/ 135 - 136).
(5/225)
الذين لعب بهم الشيطان فخرجوا بسوء مذهبهم عن طريق أهل العلم، إلى مذاهب قبيحة، لا يكون إلا في كل مفتون هالك. زعموا أن الله عز وجل حال في كل شيء، حتى أخرجهم سوء مذهبهم إلى أن تكلموا في الله عز وجل بما ينكره العلماء العقلاء، لا يوافق قولهم كتاب ولا سنة. ولا قول الصحابة. ولا قول أئمة المسلمين، وإني لأستوحش أن أذكر قبيح أفعالهم تنزيهاً مني لجلال الله عز وجل وعظمته، كما قال ابن المبارك رحمه الله: إنا لنستطيع أن نحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية. ثم إنهم إذا أنكر عليهم سوء مذهبهم قالوا: لنا حجة من كتاب الله عز وجل. فإذا قيل لهم: ما الحجة؟ قالوا: قال الله عز وجل: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} (1) وبقوله عز وجل: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} إلى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (2) فلبسوا على السامع منهم بما تأولوا، وفسروا القرآن على ما تهوى نفوسهم. فضلوا وأضلوا، فمن سمعهم ممن جهل العلم ظن أن القول كما قالوه، وليس هو كما تأولوه عند أهل العلم.
والذي يذهب إليه أهل العلم: أن الله عز وجل سبحانه على عرشه فوق سماواته، وعلمه محيط بكل شيء،
_________
(1) المجادلة الآية (7).
(2) الحديد الآيتان (3و4).
(5/226)
قد أحاط علمه بجميع ما خلق في السماوات العلا، وبجميع ما في سبع أرضين وما بينهما وما تحت الثرى، يعلم السر وأخفى، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ويعلم الخطرة والهمة، ويعلم ما توسوس به النفوس، يسمع ويرى، لا يعزب عن الله عز وجل مثقال ذرة في السماوات والأرضين وما بينهن، إلا وقد أحاط علمه به، فهو على عرشه سبحانه العلي الأعلى ترفع إليه أعمال العباد، وهو أعلم بها من الملائكة الذين يرفعونها بالليل والنهار. فإن قال قائل: فإيش معنى قوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} الآية ... التي بها يحتجون؟ قيل له: علمه عز وجل، والله على عرشه وعلمه محيط بهم، وبكل شيء من خلقه، كذا فسره أهل العلم. والآية يدل أولها وآخرها على أنه العلم. فإن قال قائل: كيف؟ قيل: قال الله عز وجل: {ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (1).اهـ (2)
- وقال محمد بن الحسين رحمه الله: ومما يحتج به الحلولية، مما يلبسون به على من لا علم معه يقول الله عز وجل: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} (3) وقد فسر أهل العلم هذه الآية: هو الأول: قبل كل شيء؛ من
_________
(1) المجادلة الآية (7).
(2) الشريعة (2/ 64 - 66).
(3) الحديد الآية (3).
(5/227)
حياة وموت، والآخر: بعد كل شيء؛ بعد الخلق، وهو الظاهر: فوق كل شيء -يعني ما في السموات- وهو الباطن: دون كل شيء يعلم ما تحت الأرضين، ودل على هذا آخر الآية {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (1). (2)
- وقال محمد بن الحسين رحمه الله: ومما يلبسون به على من لا علم معه احتجوا بقوله عز وجل: {وَهُوَ اللَّهُ في السَّمَاوَاتِ وفي الأرض} (3) وبقوله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} (4) وهذا كله إنما يطلبون به الفتنة، كما قال الله تعالى: {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} (5). وعند أهل العلم من أهل الحق: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} (6) فهو كما قال أهل العلم: مما جاءت به السنن: أن الله عز وجل على عرشه. وعلمه محيط بجميع خلقه، يعلم ما يسرون وما يعلنون، يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون. وقوله عز وجلّ: {وَهُوَ الَّذِي فِي
_________
(1) الحديد الآية (3).
(2) الشريعة (2/ 81).
(3) الأنعام الآية (3).
(4) الزخرف الآية (84).
(5) آل عمران الآية (7).
(6) الأنعام الآية (3).
(5/228)
السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} (1) فمعناه: أنه جل ذكره إله من في السموات، وإله من في الأرض، إله يعبد في السموات، وإله يعبد في الأرض، هكذا فسره العلماء. (2)
موقفه من الرافضة:
- قال الآجري في كتابه الشريعة: فمن صفة من أراد الله عز وجل به خيراً، وسلم له دينه، ونفعه الله الكريم بالعلم، المحبة لجميع الصحابة، ولأهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولأزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والإقتداء بهم، ولا يخرج بفعل ولا بقول عن مذاهبهم، ولا يرغب عن طريقتهم، وإذا اختلفوا في باب من العلم، فقال بعضهم: حلال. وقال الآخر: حرام. نظر أي القولين أشبه بكتاب الله عز وجل وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسأل العلماء عن ذلك إذا قصر علمه، فأخذ به، ولم يخرج عن قول بعضهم، وسأل الله عز وجل السلامة، وترحم على الجميع. (3)
- قال محمد بن الحسين: فقد أثبت من بيان خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي -رضي الله عنهم- ما إذا نظر فيها المؤمن سره، وزاده محبة للجميع، وإذا نظر فيها رافضي خبيث أو ناصبي ذليل مهين، أسخن الله الكريم بذلك أعينهما في الدنيا والآخرة، لأنهما خالفا الكتاب والسنة وما كان عليه الصحابة -رضي الله عنهم- واتبعا غير سبيل المؤمنين.
_________
(1) الزخرف الآية (84).
(2) الشريعة (2/ 82).
(3) الشريعة (2/ 424).
(5/229)
قال الله عز وجل: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (1).
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ" (2)، فهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي -رضي الله عنهم- ومن اتبعهم بإحسان. (3)
- قال محمد بن الحسين -رحمه الله-: من علامة من أراد الله -عز وجل- به خيراً من المؤمنين وصحة إيمانهم محبتهم لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي -رضي الله عنهم-. (4)
- وقال -رحمه الله- بعد أن ساق آثاراً في اتباع علي بن أبي طالب في خلافته لسنن أبي بكر وعمر رضي الله عن الجميع: هذا رد على الرافضة الذين خطئ بهم عن طريق الحق، وأسخن الله تعالى أعينهم، ونسبوا علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى ما قد برأه الله عز وجل مما ينحلونه إليه في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما لو علم علي رضي الله عنه أن الحق في غير ما حكم به أبو بكر لرده، ولم يأخذه في الله لومة لائم، ولكن علم أن الحق هو
_________
(1) النساء الآية (115).
(2) أحمد (4/ 126) وأبو داود (5/ 13 - 15/ 4607) والترمذي (5/ 43/2676) وقال: "حسن صحيح". وابن ماجه (1/ 16/43) والحاكم (1/ 95 - 96) وقال: "صحيح ليس له علة" ووافقه الذهبي.
(3) الشريعة (3/ 20).
(4) الشريعة (3/ 21).
(5/230)
الذي فعله أبو بكر فأجراه على ما فعل أبو بكر رضي الله عنهما، وكذا فعل عمر في أهل نجران، وكذا لما سن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قيام شهر رمضان، وجمع الناس عليه، أحيا بذلك سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلاها الصحابة في جميع البلدان، وصلاها علي بن أبي طالب رضي الله عنه فلما أفضت الخلافة إليه صلاها وأمر بالصلاة، وترحم على عمر رضي الله عنه فقال: نور الله قبرك يا بن الخطاب، كما نورت مساجدنا، وقال: أنا أشرت على عمر بذلك ...
وهذا رد على الرافضة الذين لا يرون صلاتها، خلافاً على عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، وعلى جميع المسلمين. (1)
- وقال رحمه الله تعالى: ومن أصح الدلائل وأوضح الحجج على كل رافضي مخالف لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه أن عليا كرم الله وجهه لم يزل يقرأ بما في مصحف عثمان رضي الله عنه ولم يغير منه حرفاً واحداً، ولا قدم حرفاً على حرف، ولا أخر ولا زاد فيه ولا نقص، ولا قال: إن عثمان فعل في هذا المصحف شيئاً لي أن أفعل غيره. ما يحفظ عنه شيء من هذا، رضي الله عنه، وهكذا ولده رضي الله عنه لم يزالوا يقرءون بما في مصحف عثمان، رضي الله عنه، حتى فارقوا الدنيا، وهكذا أصحاب علي رضي الله عنه لم يزالوا يقرئون المسلمين بما في مصحف عثمان رضي الله عنه، لا يجوز لقائل أن يقول غير هذا. من قال غير هذا فقد كذب، وأتى بخلاف ما عليه أهل الإسلام.
_________
(1) الشريعة (3/ 27).
(5/231)
قال محمد بن الحسين -رحمه الله-: مرادنا من هذا، أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لم يزل متبعاً لما سنه أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم متبعاً لهم يكره ما كرهوا ويحب ما أحبوا، حتى قبضه الله عز وجل شهيداً الذي لا يحبه إلا مؤمن تقي ولا يبغضه إلا منافق شقي. (1)
- وقال رحمه الله: فإن قال قائل: قد ذكرت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ذكر فتنة تكون من بعده، ثم قال في عثمان: "فاتبعوا هذا وأصحابه فإنهم يومئذ على هدي" (2). فأخبرنا عن أصحابه من هم؟
قيل له: أصحابه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المشهود لهم بالجنة، المذكور نعتهم في التوراة والإنجيل، الذي من أحبهم سعد، ومن أبغضهم شقي.
فإن قال: فاذكرهم.
قيل له: علي بن أبي طالب، وطلحة، والزبير، وسعد، وسعيد رضي الله عنهم وسائر الصحابة في وقتهم رضي الله عنهم، كلهم كانوا على هدي كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكلهم أنكر قتله، وكلهم استعظم ما جرى على عثمان رضي الله عنه، وشهدوا على قتلته أنهم في النار.
فإن قال قائل: فمن الذي قتله؟
قيل له: طوائف أشقاهم الله عز وجل بقتله حسداً منهم له وبغياً،
_________
(1) الشريعة (3/ 31).
(2) أحمد (4/ 109) وذكره الهيثمي (9/ 89) وقال: "رواه أحمد والطبراني ورجالهما رجال الصحيح". وفي الباب حديث مرة بن كعب أخرجه: الترمذي (5/ 586/3704) وقال: "حسن صحيح". وفي الباب عن كعب بن عجرة عند ابن ماجه (1/ 41/111) قال في الزوائد: "إسناده منقطع". قال أبو حاتم: "محمد بن سيرين لم يسمع كعب بن عجرة. وباقي رجاله ثقات". وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه.
(5/232)
وأرادوا الفتنة وأن يوقعوا الضغائن بين أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، لما سبق عليهم من الشقوة في الدنيا، ومالهم في الآخرة أعظم.
فإن قال: فمن أين اجتمعوا على قتله؟
قيل له: أول ذلك وبدء شأنه أن بعض اليهود يقال له: ابن السوداء، ويعرف بعبد الله بن سبأ لعنة الله عليه زعم أنه أسلم، فأقام بالمدينة فحمله الحسد للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولصحابته، وللإسلام، فانغمس في المسلمين، كما انغمس ملك اليهود؛ بولس بن شاوذ، في النصارى حتى أضلهم، وفرقهم فرقاً، وصاروا أحزاباً، فلما تمكن فيهم البلاء والكفر تركهم، وقصته تطول، ثم عاد إلى التهود بعد ذلك، فهكذا عبد الله بن سبأ؛ أظهر الإسلام، وأظهر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصار له أصحاب في الأمصار، ثم أظهر الطعن على الأمراء، ثم أظهر الطعن على عثمان رضي الله عنه، ثم طعن على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ثم أظهر أنه يتولى علياً رضي الله عنه، وقد أعاذ الله الكريم علي بن أبي طالب وولده وذريته رضي الله عنهم من مذهب ابن سبأ وأصحابه السبئية، فلما تمكنت الفتنة والضلال في ابن سبأ وأصحابه، صار إلى الكوفة، فصار له بها أصحاب، ثم ورد إلى البصرة فصار له بها أصحاب ثم ورد إلى مصر، فصار له بها أصحاب، كلهم أهل ضلالة، ثم تواعدوا الوقت، وتكاتبوا ليجتمعوا في موضع، ثم يصيروا كلهم إلى المدينة، ليفتنوا المدينة وأهلها ففعلوا، ثم ساروا إلى المدينة، فقتلوا عثمان رضي الله عنه، ومع ذلك فأهل المدينة لا يعلمون حتى وردوا عليهم.
فإن قال: فلم لم يقاتل عنه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟
(5/233)
قيل له: إن عثمان رضي الله عنه وصحابته لم يعلموا حتى فاجأهم الأمر، ولم يكن بالمدينة جيش قد أعد لحرب، فلما فجأهم ذلك اجتهدوا رضي الله عنهم في نصرته والذب عنه، فما أطاقوا ذلك وقد عرضوا أنفسهم على نصرته ولو تلفت أنفسهم، فأبى عليهم وقال: أنتم في حل من بيعتي، وفي حرج من نصرتي، وإني لأرجو أن ألقى الله عز وجل سالماً مظلوماً، وقد خاطب علي بن أبي طالب وطلحة والزبير رضي الله عنهم وكثير من الصحابة لهؤلاء القوم بمخاطبة شديدة، وغلظوا لهم في القول، فلما أحسوا أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أنكروا عليهم؛ أظهرت كل فرقة منهم أنهم يتولون الصحابة، فلزمت فرقة منهم باب علي بن أبي طالب رضي الله عنه وزعمت أنها تتولاه، وقد برأه الله عز وجل منهم، فمنعوه الخروج ولزمت فرقة منهم باب طلحة وزعموا أنهم يتولونه وقد برأه الله عز وجل منهم، ولزمت فرقة منهم باب الزبير وزعموا أنهم يتولونه وقد برأه الله عز وجل منهم، وإنما أرادوا أن يشغلوا الصحابة عن الانتصار لعثمان رضي الله عنه، ولبسوا على أهل المدينة أمرهم للمقدور الذي قدره عز وجل أن عثمان يقتل مظلوماً، فورد على الصحابة أمر لا طاقة لهم به، ومع ذلك فقد عرضوا أنفسهم على عثمان رضي الله عنه ليأذن لهم بنصرته مع قلة عددهم، فأبى عليهم، ولو أذن لهم؛ لقاتلوا.
حدثنا العباس بن أحمد الختلي المعروف بابن أبي شحمة، قال: حدثنا دهثم بن الفضل أبو سعيد الرملي، قال: ثنا المؤمل بن إسماعيل، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب وهشام، عن محمد بن سيرين، قال: لقد كان في
(5/234)
الدار جماعة من المهاجرين والأنصار وأبنائهم منهم: عبد الله بن عمر والحسن والحسين وعبد الله بن الزبير ومحمد بن طلحة، الرجل منهم خير من كذا وكذا. يقولون: يا أمير المؤمنين، خل بيننا وبين هؤلاء القوم، فقال: أعزم على كل رجل منكم وإن لي عليه حقا أن لا يهريق في دماً، وأحرج على كل رجل منكم لما كفاني اليوم نفسه.
فإن قال قائل: فقد علموا أنه مظلوم، وقد أشرف على القتل، فكان ينبغي لهم أن يقاتلوا عنه، وإن كان قد منعهم.
قيل له: ما أحسنت القول؛ لأنك تكلمت بغير تمييز.
فإن قال: ولم؟ قيل: لأن القوم كانوا أصحاب طاعة وفقهم الله تعالى للصواب من القول والعمل، فقد فعلوا ما يجب عليهم من الإنكار بقلوبهم وألسنتهم، وعرضوا أنفسهم لنصرته على حسب طاقتهم، فلما منعهم عثمان رضي الله عنه من نصرته، علموا أن الواجب عليهم السمع والطاعة له، وأنهم إن خالفوه لم يسعهم ذلك، وكان الحق عندهم، فيما رآه عثمان رضي الله عنه وعنهم.
فإن قال قائل: فلم منعهم عثمان من نصرته وهو مظلوم، وقد علم أن قتالهم عنه نهي عن منكر، وإقامة حق يقيمونه؟
قيل له: وهذا أيضاً غفلة منك.
فإن قال: وكيف؟ قيل له: منعه إياهم عن نصرته يحتمل وجوهاً، كلها محمودة.
أحدها: علمه بأنه مقتول مظلوم لا شك فيه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أعلمه
(5/235)
أنك تقتل مظلوماً، فاصبر. فقال: أصبر، فلما أحاطوا به علم أنه مقتول؛ وأن الذي قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - له حق كما قال لا بد من أن يكون، ثم علم أنه قد وعده من نفسه الصبر، فصبر كما وعد، وكان عنده أن من طلب الانتصار لنفسه والذب عنها فليس هذا بصابر، إذ وعد من نفسه الصبر فهذا وجه.
ووجه آخر: وهو أنه قد علم أن في الصحابة رضي الله عنهم قلة عدد، وأن الذين يريدون قتله كثير عددهم، فلو أذن لهم بالحرب لم يأمن أن يتلف من صحابة نبيه بسببه، فوقاهم بنفسه إشفاقاً منه عليهم، لأنه راع والراعي واجب عليه أن يحوط رعيته بكل ما أمكنه، ومع ذلك فقد علم أنه مقتول فصانهم بنفسه، وهذا وجه.
ووجه آخر: وهو أنه لما علم أنها فتنة، وأن الفتنة إذا سل فيها السيف لم يؤمن أن يقتل فيها من لا يستحق؛ فلم يختر لأصحابه أن يسلوا في الفتنة السيف، وهذا أيضا إشفاق منه عليهم، فتنة تعم؛ وتذهب فيها الأموال، وتهتك فيها الحريم، فصانهم عن جميع هذا.
ووجه آخر: يحتمل أن يصبر عن الانتصار لتكون الصحابة رضي الله عنهم شهوداً على من ظلمه وخالف أمره وسفك دمه بغير حق، لأن المؤمنين شهداء الله عز وجل في أرضه، ومع ذلك فلم يحب أن يهراق بسببه دم مسلم، ولا يخلف النبي - صلى الله عليه وسلم - في أمته بإهراقه دم مسلم، وكذا قال رضي الله عنه، فكان عثمان رضي الله عنه بهذا الفعل موفقاً معذوراً رشيداً، وكان الصحابة رضي الله عنهم في عذر، وشقي قاتله. (1)
_________
(1) الشريعة (3/ 165 - 168).
(5/236)
- وقال رحمه الله: كفى به شقوة لمن سب عثمان أو أحداً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوله: "من سب أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" (1) وقوله - صلى الله عليه وسلم - في أصحابه: "لا تتخذوهم غرضاً بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد أذى الله، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه" (2). ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم، ولا نصيفه". (3)
وقال رحمه الله: قلت: والذي يسب عثمان رضي الله عنه لا يضر عثمان، وإنما يضر نفسه. عثمان - رضي الله عنه - قد شهد له النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه يقتل شهيداً مظلوماً، وبشره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجنة رضي الله عنه في غير حديث، رواه علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، ورواه عنه سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل - رضي الله عنه -، ورواه عبد الرحمن بن عوف، وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم: أن عثمان - رضي الله عنه -
_________
(1) الطبراني (12/ 142/12709) من حديث ابن عباس. قال الهيثمي في المجمع (10/ 21): "فيه عبد الله بن خراش وهو ضعيف". الخطيب في التاريخ (14/ 241) من حديث أنس. وزاد "لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً". فيه علي ابن يزيد الصدائي. قال في التقريب: "فيه لين". وفيه أيضاً أبو شيبة الجوهري، وهو ضعيف كما في التقريب. ابن أبي عاصم (2/ 483/1001) عن عطاء مرسلاً دون قوله: "والملائكة ... " ورمز له السيوطي في الجامع بالحسن (انظر فيض القدير 6/ 146). وقال الشيخ الألباني رحمه الله -بعد أن ذكر طرق وشواهد الحديث-: "وبالجملة فالحديث بمجموع طرقه حسن عندي على أقل الدرجات، والله أعلم" (الصحيحة: 2340).
(2) أحمد (5/ 54و55) والترمذي (5/ 653/3862) وقال: "هذا حديث غريب". وصححه ابن حبان (16/ 244/7256). قال المناوي في فيض القدير (2/ 98): "فيه عبد الرحمن بن زياد، قال الذهبي: لا يعرف. وفي الميزان: في الحديث اضطراب".
(3) أحمد (3/ 11) والبخاري (7/ 24/3673) ومسلم (4/ 1967 - 1968/ 2541) وأبو داود (5/ 45/4658) والترمذي (5/ 653/3861) عن أبي سعيد الخذري.
(5/237)
من أهل الجنة؛ على رغم أنف كل منافق ذليل مهين في الدنيا والآخرة. (1)
- وقال رحمه الله: على من قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما لعنة الله، ولعنة اللاعنين، وعلى من أعان على قتله، وعلى من سب علي بن أبي طالب، وسب الحسن والحسين، أو آذى فاطمة في ولدها، أو آذى أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعليه لعنة الله وغضبه، لا أقام الله الكريم له وزناً، ولا نالته شفاعة محمد - صلى الله عليه وسلم -. (2)
- وقال رحمه الله: والخلفاء الراشدون فهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، فمن كان لهم محباً راضياً بخلافتهم، متبعا لهم، فهو متبع لكتاب الله عز وجل، ولسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ومن أحب أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الطيبين، وتولاهم وتعلق بأخلاقهم، وتأدب بأدبهم، فهو على المحجة الواضحة، والطريق المستقيم والأمر الرشيد، ويرجى له النجاة ...
فإن قال قائل: فما تقول فيمن يزعم أنه محب لأبي بكر وعمر وعثمان، متخلف عن محبة علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم، وعن محبة الحسن والحسين رضي الله عنهما، غير راض بخلافة علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه؟ هل تنفعه محبة أبي بكر وعمر وعثمان، رضي الله عنهم؟
قيل له: معاذ الله، هذه صفة منافق، ليست بصفة مؤمن؛ قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: "لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا
_________
(1) الشريعة (3/ 183 - 184).
(2) الشريعة (3/ 327).
(5/238)
منافق" (1). وقال عليه السلام: "من آذى عليا فقد آذاني" (2). وشهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي رضي الله عنه بالخلافة وشهد له بالجنة، وبأنه شهيد، وأن علياً رضي الله عنه، محب لله عز وجل ولرسوله، وأن الله عز وجل ورسوله - صلى الله عليه وسلم - محبان لعلي رضي الله عنه، وجميع ما شهد له به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الفضائل التي تقدم ذكرنا لها. وما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - من محبته للحسن والحسين، رضي الله عنهما، مما تقدم ذكرنا له. فمن لم يحب هؤلاء ويتولهم فعليه لعنة الله في الدنيا والآخرة، وقد بريء منه أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم.
وكذا من زعم أنه يتولى علِيَّ بن أبي طالب، رضي الله عنه، ويحب أهل بيته، ويزعم أنه لا يرضى بخلافة أبي بكر وعمر ولا عثمان، ولا يحبهم ويبرأ منهم، ويطعن عليهم، فنشهد بالله يقيناً أن علي بن أبي طالب والحسن والحسين، رضي الله عنهم، برآء منه لا تنفعه محبتهم حتى يحب أبا بكر وعمر وعثمان، رضي الله عنهم، كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه فيما وصفهم به، وذكر فضلهم، وتبرأ ممن لم يحبهم.
فرضي الله عنه، وعن ذريته الطيبة، هذا طريق العقلاء من المسلمين،
_________
(1) أحمد (1/ 84) ومسلم (1/ 86/78) والترمذي (5/ 601/3736) والنسائي (8/ 490/5033) وابن ماجه (1/ 42/114) من حديث علي رضي الله عنه.
(2) أخرجه من حديث: عمرو بن شاس رضي الله عنه: أحمد (3/ 483) والحاكم (3/ 122) وصححه ووافقه الذهبي. ابن حبان: [الإحسان (15/ 365/6923)]، البزار (كشف الأستار 3/ 200/2561). وذكره الهيثمي (9/ 129) وقال: "رواه أحمد والطبراني والبزار أخصر منه ورجاله ثقات". ومن حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: أبو يعلى (2/ 109/770)، البزار (3/ 200/2562) وذكره الهيثمي (9/ 129) وقال: "رواه أبو يعلى والبزار باختصار ورجال أبي يعلى رجال الصحيح غير محمود بن خراش وقنان وهما ثقتان". وفي الباب عن جابر، قال الشيخ الألباني: "وبالجملة فالحديث صحيح بمجموع هذه الطرق" [الصحيحة (5/ 373 - 374/ 2295)].
(5/239)
ونعوذ بالله ممن يقذف أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالطعن على أبي بكر وعمر وعثمان، رضي الله عنهم، لقد افترى على أهل البيت وقذفهم بما قد صانهم الله عز وجل عنه.
وهل عرفت أكثر فضائل أبي بكر وعمر وعثمان؛ إلا مما رواه علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين؟ (1)
- وقال رحمه الله: أما بعد؛ فإن سائلاً سأل عن مذهب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم وكيف كانت منزلتهم عنده؟ وهل كان متبعا لهم في خلافته بعدهم؟ وهل حفظ عنه شيء من فضائلهم؟ وهل غير في خلافته شيئاً من سيرتهم؟ فأحب السائل أن يعلم من ذلك ما يزيده محبة لجميعهم رضي الله عنهم وعن جميع الصحابة -رضي الله عنهم، وعن جميع أزواجه أمهات المؤمنين، وعن جميع أهل البيت- فأجيب السائل إلى الجواب عنه مختصراً إن شاء الله، والله الموفق للصواب من القول والعمل.
اعلموا رحمنا الله وإياكم أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- لا يحفظ عنه الصحابة ومن تبعهم من التابعين ومن بعدهم من أئمة المسلمين إلا محبة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم في حياتهم وفي خلافتهم وبعد وفاتهم. فأما في خلافتهم فسامع لهم مطيع يحبهم ويحبونه، ويعظم قدرهم ويعظمون قدره، صادق في محبته لهم، مخلص في الطاعة لهم، يجاهد من يجاهدون، ويحب ما يحبون، ويكره ما يكرهون، يستشيرونه في
_________
(1) الشريعة (3/ 352 - 353).
(5/240)
النوازل؛ فيشير مشورة ناصح مشفق محب، فكثير من سيرتهم بمشورته جرت، فقبض أبو بكر رضي الله عنه فحزن لفقده حزناً شديداً، وقتل عمر رضي الله عنه فبكى عليه بكاءً طويلاً، وقتل عثمان رضي الله عنه ظلماً؛ فبرأه الله عز وجل من دمه، وكان قتله عنده ظلماً مبيناً.
ثم ولي الخلافة بعدهم، فعمل بسنتهم، وسار سيرتهم، واتبع آثارهم، وسلك طريقهم، وروى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضائلهم، وخطب الناس في غير وقت؛ فذكر شرفهم، وذم من خالفهم، وتبرأ من عدوهم، وأمر باتباع سنتهم وسيرتهم، فرضي الله عنه وعنهم
وقال رحمه الله: فلن يحبهم إلا مؤمن تقي، قد وفقه الله عز وجل للحق ولن يتخلف عن محبتهم، أو عن محبة واحد منهم إلا شقي قد خطي به عن طريق الحق؛ ومذهبنا فيهم أنا نقول في الخلافة والتفضيل: أبو بكر؛ ثم عمر؛ ثم عثمان؛ ثم علي رضي الله عنهم.
ويقال: رحمكم الله أنه لا يجتمع حب أبي بكر وعمر وعثمان وعلي إلا في قلوب أتقياء هذه الأمة. (1)
- وقال رحمه الله: لقد خاب وخسر من أصبح وأمسى وفي قلبه بغض لعائشة رضي الله عنها أو لأحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو لأحد من أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرضي الله عنهم أجمعين ونفعنا بحبهم. (2)
- وقال رحمه الله: من جاء إلى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يطعن في
_________
(1) الشريعة (3/ 412 - 413).
(2) الشريعة (3/ 495).
(5/241)
بعضهم، ويهوى بعضهم، ويذم بعضاً ويمدح بعضاً، فهذا رجل طالب فتنة، وفي الفتنة وقع؛ لأنه واجب عليه محبة الجميع والاستغفار للجميع رضي الله عنهم ونفعنا بحبهم، ونحن نزيدك في البيان ليسلم قلبك للجميع وتدع البحث والتنقير عما شجر بينهم. (1)
- وقال رحمه الله: لقد خاب وخسر من سب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه خالف الله ورسوله، ولحقته اللعنة من الله عز وجل ومن رسوله ومن الملائكة ومن جميع المؤمنين، ولا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً، لا فريضة ولا تطوعاً، وهو ذليل في الدنيا، وضيع القدر، كثر الله بهم القبور، وأخلى منهم الدور. (2)
باب ما جاء في الرافضة وسوء مذهبهم
- وقال رحمه الله: أول ما نبتدئ به من ذكرنا في هذا الباب أنا نجل علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وفاطمة رضي الله عنها، والحسن والحسين رضي الله عنهما، وعقيل بن أبي طالب رضي الله عنه، وأولادهم، وأولاد جعفر الطيار رضي الله عنهم، وذريتهم الطيبة المباركة، عن مذاهب الرافضة الذين قد خُطيء بهم عن طريق الرشاد.
أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلى قدراً وأصوب رأياً وأعرف بالله عز وجل وبرسوله - صلى الله عليه وسلم - مما تنحلهم الرافضة إليه، من سبهم لأبي بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وعائشة رضي الله عنهم.
_________
(1) الشريعة (3/ 539 - 540).
(2) الشريعة (3/ 550).
(5/242)
قد صان الله الكريم علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومن ذكرنا من ذريته الطيبة المباركة عما ينحلونهم إليه بالدلائل والبراهين التي تقدمت من ذكرهم رضي الله عنهم من أبي بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وعائشة وسائر الصحابة إلا بكل جميل، بل هم كلهم عندنا إخوان على سرر متقابلين في الجنة قد نزع الله الكريم من قلوبهم الغل كما قال الله عز وجل: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} (1) رضي الله عنهم.
وقد تقدم ذكرنا لمذهب علي بن أبي طالب رضي الله عنه في أبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم، وما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من فضائلهم وما ذكر من مناقب أبي بكر وعمر رضي الله عنه عند وفاته، وما ذكر من مناقب عمر رضي الله عنه عند وفاته، وما ذكر من عظم مصيبته بما جرى على عثمان رضي الله عنه من قتله وتبرأ إلى الله عز وجل من قتله، وكذا ولده وذريته الطيبة، ينكرون على الرافضة سوء مذاهبهم ويتبرؤون منهم ويأمرون بمحبة أبي بكر وعمر وعثمان وسائر الصحابة رضي الله عنهم؛ لأن الرافضة لا يشهدون جمعة ولا جماعة، ويطعنون على السلف، ولا نكاحهم نكاح المسلمين، ولا طلاقهم طلاق المسلمين، وهم أصناف كثيرة.
منهم من يقول: إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه إله.
_________
(1) الحجر الآية (47).
(5/243)
ومنهم من يقول: بل علي كان أحق بالنبوة من محمد، وأن جبريل غلط بالوحي.
ومنهم من يقول: هو نبي بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ومنهم من يشتم أبا بكر وعمر ويكفرون جميع الصحابة ويقولون: هم في النار إلا ستة.
ومنهم من يرى السيف على المسلمين فإن لم يقدروا خنقوهم حتى يقتلوهم.
وقد أجل الله الكريم أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن مذاهبهم القذرة التي لا تشبه المسلمين.
وفيهم من يقول بالرجعة، نعوذ بالله ممن ينحل هذا إلى من قد أجلهم الله الكريم وصانهم عنها رضي الله عن أهل البيت وجزاهم عن جميع المسلمين خيراً. (1)
موقفه من الصوفية:
جاء في الاعتصام: قال الشاطبي بعد ما ذكر حديث: "وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب ... " الحديث (2)، فقال الإمام الآجري العالم السني أبو بكر رضي الله عنه: ميزوا هذا الكلام، فإنه لم يقل صرخنا من موعظة، ولا زعقنا ولا طرقنا على
_________
(1) الشريعة (3/ 553 - 555).
(2) أحمد (4/ 126) وأبو داود (5/ 13/4607) والترمذي (5/ 43/2676) وقال: "حسن صحيح". وابن ماجه (1/ 16/43) والحاكم (1/ 95 - 96) وقال: "صحيح ليس له علة" ووافقه الذهبي.
(5/244)
رؤوسنا ولا ضربنا على صدورنا، ولا زفنا ولا رقصنا كما يفعل كثير من الجهال؛ يصرخون عند المواعظ ويزعقون ويتغاشون. قال: وهذا كله من الشيطان يلعب بهم، وهذا كله بدعة وضلالة، ويقال لمن فعل هذا: اعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أصدق الناس موعظة وأنصح الناس لأمته وأرق الناس قلباً وخير الناس من جاء بعده، لا يشك في ذلك عاقل، ما صرخوا عند موعظته ولا زعقوا ولا رقصوا ولا زفنوا، ولو كان هذا صحيحاً لكانوا أحق الناس به أن يفعلوه بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكنه بدعة وباطل ومنكر فاعلم ذلك. انتهى كلامه. (1)
موقفه من الجهمية:
- جاء في الشريعة:
باب: ذكر الإيمان بأن القرآن كلام الله تعالى وأن كلامه ليس بمخلوق ومن زعم أن القرآن مخلوق فقد كفر.
قال محمد بن الحسين: اعلموا رحمنا الله وإياكم: أن قول المسلمين الذين لم تزغ قلوبهم عن الحق، ووفقوا للرشاد قديماً وحديثاً: أن القرآن كلام الله تعالى ليس بمخلوق، لأن القرآن من علم الله وعلم الله لا يكون مخلوقاً، تعالى الله عن ذلك. دلّ على ذلك القرآن والسنة، وقول الصحابة -رضي الله عنهم- وقول أئمة المسلمين، لا ينكر هذا إلا جهمي خبيث، والجهمي فعند العلماء كافر، قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ
_________
(1) الاعتصام (1/ 356).
(5/245)
فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} (1) وقال تعالى: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} (2) وقال تعالى لنبيه -عليه السلام-: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ} (3) وهو القرآن، وقال لموسى -عليه السلام-: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} (4) قال محمد بن الحسين: ومثل هذا في القرآن كثير. وقال تعالى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} (5) وقال تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} (6). قال محمد بن الحسين -رحمه الله-: لم يزل الله عالماً متكلماً سميعاً بصيراً بصفاته قبل خلق الأشياء، من قال غير هذا كفر.
وسنذكر من السنن والآثار وقول العلماء الذين لا يستوحش من
_________
(1) التوبة الآية (6).
(2) البقرة الآية (75).
(3) الأعراف الآية (158).
(4) الأعراف الآية (144).
(5) آل عمران الآية (61).
(6) البقرة الآية (145).
(5/246)
ذكرهم ما إذا سمعها من له علم وعقل، زاده علماً وفهماً، وإذا سمعها من في قلبه زيغ، فإن أراد الله هدايته إلى طريق الحق رجع عن مذهبه، وإن لم يرجع فالبلاء عليه أعظم. (1)
- وفيها:
باب: ذكر النهي عن مذاهب الواقفة:
قال محمد بن الحسين: وأما الذين قالوا: القرآن كلام الله، ووقفوا فيه وقالوا: لا نقول غير مخلوق، فهؤلاء عند كثير من العلماء ممن رد على من قال بخلق القرآن، قالوا: هؤلاء الواقفة مثل من قال: القرآن مخلوق وأشر، لأنهم شكوا في دينهم ونعوذ بالله ممن يشك في كلام الرب أنه غير مخلوق. (2)
- وفيها:
باب: ذكر اللفظية ومن زعم أن هذا القرآن حكاية للقرآن
الذي في اللوح المحفوظ كذبوا.
قال محمد بن الحسين: احذروا رحمكم الله هؤلاء الذين يقولون: إن لفظه بالقرآن مخلوق، وهذا عند أحمد بن حنبل، ومن كان على طريقته: منكر عظيم، وقائل هذا مبتدع، خبيث ولا يكلم، ولا يجالس، ويحذر منه الناس، لا يعرف العلماء غير ما تقدم ذكرنا له، وهو: أن القرآن كلام الله غير مخلوق ومن قال: مخلوق، فقد كفر. ومن قال: القرآن كلام الله ووقف فهو جهمي ومن قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي أيضاً، كذا قال أحمد
_________
(1) الشريعة (1/ 214 - 215).
(2) الشريعة (1/ 232).
(5/247)
بن حنبل، وغلظ فيه القول جداً، وكذا من قال: إن هذا القرآن الذي يقرؤه الناس، وهو في المصاحف: حكاية لما في اللوح المحفوظ، فهذا قول منكر، ينكره العلماء. يقال لقائل هذه المقالة: القرآن يكذبك، ويرد قولك، والسنة تكذبك وترد قولك. قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} (1) فأخبر الله تعالى: أنه إنما يسمع الناس كلام الله، ولم يقل: حكاية كلام الله. وقال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (204) (2) فأخبر أن السامع إنما يسمع القرآن، ولم يقل: حكاية القرآن. وقال تعالى: {إِنَّ هذا الْقُرْآَنَ يهدي لِلَّتِي هي أَقْوَمُ} (3). وقال تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ
_________
(1) التوبة الآية (6).
(2) الأعراف الآية (204).
(3) الإسراء الآية (9).
(5/248)
فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ} (1) ولم يقل يستمعون حكاية القرآن، ولا قالت الجن: إنا سمعنا حكاية القرآن، كما قال: من ابتدع بدعة ضلالة، وأتى بخلاف الكتاب والسنة وبخلاف قول المؤمنين. وقال تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تيسر مِنَ الْقُرْآَنِ} (2) قال محمد بن الحسين: وهذا في القرآن كثير لمن تدبره. وقال النبي: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" (3) وقال: "إن الرجل الذي ليس في جوفه من القرآن شيء، كالبيت الخرب" (4) وقال: "مثل القرآن مثل الإبل المعقلة، إن تعاهدها صاحبها أمسكها، وإن تركها ذهبت" (5)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو" (6) وقال في حديث آخر: "لا تسافروا بالمصاحف إلى العدو، فإني أخاف أن ينالوها" (7) وقال: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله -عز
_________
(1) الأحقاف الآية (29) ..
(2) الجن الآية (1).
(3) المزمل الآية (20).
(4) أحمد (1/ 58) والبخاري (9/ 91/5027) وأبو داود (2/ 147/1452) والترمذي (5/ 159/2907) وابن ماجه (1/ 76 - 77/ 211) والنسائي في الكبرى (5/ 19/8036) من حديث عثمان بن عفان.
(5) أخرجه: أحمد (1/ 223) والترمذي (5/ 162/2913) والحاكم (1/ 554) من طريق جرير بن عبد الحميد عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس فذكره. وقال الترمذي: "حسن صحيح" وقال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه" وتعقبه الذهبي بقوله: "قلت: قابوس لين".
(6) أخرجه: أحمد (2/ 64و112) والبخاري (9/ 97/5031) ومسلم (1/ 543/789) والنسائي (2/ 492/941) وابن ماجه (2/ 1243/3783) من حديث ابن عمر.
(7) انظر تخريجه في مواقف أحمد بن كامل القاضي سنة (350هـ).
(8) أخرجه أحمد (2/ 76) وابن أبي داود في المصاحف (206) وعلقه البخاري (6/ 164) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما ..
(5/249)
وجل- القرآن، فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار" (1).اهـ (2)
- وفيها: قال محمد بن الحسين: فينبغي للمسلمين أن يتقوا الله تعالى، ويتعلموا القرآن، ويتعلموا أحكامه، فيحلوا حلاله ويحرموا حرامه، ويعملوا بمحكمه، ويؤمنوا بمتشابهه، ولا يماروا فيه، ويعلموا أنه كلام الله تعالى غير مخلوق. فإن عارضهم إنسان جهمي فقال: مخلوق، أو قال: القرآن كلام الله ووقف، أو قال: لفظي بالقرآن مخلوق، أو قال: هذا القرآن حكاية لما في اللوح المحفوظ. فحكمه أن يهجر ولا يكلم، ولا يصلى خلفه، ويحذر منه. وعليكم بعد ذلك بالسنن عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسنن أصحابه رضي الله تعالى عنهم، وقول التابعين، وقول أئمة المسلمين مع ترك المراء والخصومة والجدال في الدين. فمن كان على هذا الطريق رجوت له من الله تعالى كل خير. (3)
- وفيها: قال محمد بن الحسين رحمه الله: اعلموا وفقنا الله وإياكم للرشاد من القول والعمل أن أهل الحق يصفون الله عز وجل بما وصف به نفسه عز وجل، وبما وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وبما وصفه به الصحابة رضي الله عنهم. وهذا مذهب العلماء ممن اتبع ولم يبتدع، ولا يقال فيه: كيف؟ بل التسليم له، والإيمان به: أن الله عز وجل يضحك، وكذا روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعن صحابته ولا ينكر هذا إلا من لا يحمد حاله عند أهل الحق. (4)
_________
(1) أخرجه: أحمد (2/ 36و88) والبخاري (13/ 614/7529) ومسلم (1/ 558/815) والترمذي (4/ 291/1936) والنسائي في الكبرى (5/ 27/8072) وابن ماجه (2/ 1408/4209) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
(2) الشريعة (1/ 235 - 237).
(3) الشريعة (1/ 239).
(4) الشريعة (2/ 52).
(5/250)
- وفيها: فإن اعترض جاهل ممن لا علم معه، أو بعض هؤلاء الجهمية الذين لم يوفقوا للرشاد، ولعب بهم الشيطان وحرموا التوفيق فقال: المؤمنون يرون الله يوم القيامة؟ قيل له: نعم، والحمد لله تعالى على ذلك. فإن قال الجهمي: أنا لا أؤمن بهذا. قيل له: كفرت بالله العظيم. فإن قال: وما الحجة. قيل: لأنك رددت القرآن والسنة، وقول الصحابة رضي الله عنهم، وقول علماء المسلمين، واتبعت غير سبيل المؤمنين، وكنت ممن قال الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (1) فأما نص القرآن فقول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (23) (2) وقال تعالى وقد أخبرنا عن الكفار أنهم محجوبون عن رؤيته فقال تعالى ذكره: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} (3) فدل بهذه الآية: أن المؤمنين ينظرون إلى الله، وأنهم غير محجوبين عن رؤيته، كرامة منه لهم. وقال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وزيادة} (4) فروي أن "الزيادة" هي النظر
_________
(1) النساء الآية (115).
(2) القيامة الآيتان (22و23).
(3) المطففين الآيات (15 - 17).
(4) يونس الآية (26).
(5/251)
إلى الله تعالى (1). وقال تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} (2) واعلم رحمك الله أن عند أهل العلم باللغة أن اللقي هاهنا لا يكون إلا معاينة، يراهم الله تعالى ويرونه، ويسلم عليهم، ويكلمهم ويكلمونه. قال محمد بن الحسين: وقد قال الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (3) وكان مما بينه لأمته في هذه الآيات: أنه أعلمهم في غير حديث: "إنكم ترون ربكم تعالى" (4) روى عنه جماعة من صحابته رضي الله عنهم، وقبلها العلماء عنهم أحسن القبول، كما قبلوا عنهم علم الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد، وعلم الحلال والحرام، كذا قبلوا منهم الأخبار: أن المؤمنين يرون الله تعالى، لا يشكون في ذلك، ثم قالوا: من رد هذه الأخبار فقد كفر. (5)
- وفيها: فإن اعترض بعض من قد استحوذ عليهم الشيطان، فهم في غيهم يترددون ممن يزعم أن الله عز وجل لا يرى في القيامة، واحتج بقول الله عز وجل: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ
_________
(1) أخرجه: أحمد (4/ 332) ومسلم (1/ 163/181 [298]) والترمذي (4/ 593/2552) وابن ماجه (1/ 67/187) والنسائي في الكبرى (4/ 420/7766) عن صهيب بن سنان رضي الله عنه.
(2) الأحزاب الآيتان (43و44).
(3) النحل الآية (44).
(4) انظر تخريجه في مواقف عبد العزيز الماجشون سنة (164هـ).
(5) الشريعة (2/ 6 - 7).
(5/252)
الْخَبِيرُ} (1) فجحد النظر إلى الله عز وجل بتأويله الخاطئ لهذه الآية. قيل له: يا جاهل، إن الذي أنزل عز وجل عليه القرآن، وجعله الحجة على خلقه، وأمره بالبيان لما أنزل عليه من وحيه، هو أعلم بتأويلها منك يا جهمي، هو الذي قال لنا: "إنكم سترون ربكم عز وجل كما ترون هذا القمر". فقبلنا عنه ما بشرنا به من كرامة ربنا عز وجل على حسب ما تقدم ذكرنا له من الأخبار الصحاح عند أهل الحق من العلم، ثم فسر لنا الصحابة رضي الله عنهم بعده، ومن بعدهم من التابعين {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (23) (2) فسروه على النظر إلى وجه الله عز وجل، وكانوا بتفسير القرآن وبتفسير ما احتججت به من قوله عز وجل: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} (3) أعرف منك، وأهدى منك سبيلاً، والنبي - صلى الله عليه وسلم - فسر لنا قول الله عز وجل: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وزيادة} (4) وكانت الزيادة: النظر إلى وجه الله تعالى، وكذا عند صحابته رضي الله عنهم، فاستغنى أهل الحق بهذا، مع تواتر الأخبار الصحاح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنظر إلى وجه الله عز وجل، وقبلها أهل العلم أحسن قبول. وكانوا بتأويل الآية التي عارضت بها
_________
(1) الأنعام الآية (103).
(2) القيامة الآيتان (22و23).
(3) الأنعام الآية (103).
(4) يونس الآية (26).
(5/253)
أهل الحق أعلم منك يا جهمي. فإن قال قائل: فما تأويل قوله عز وجل {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} (1)؟
قيل له: معناها عند أهل العلم: أي لا تحيط به الأبصار، ولا تحويه عز وجل، وهم يرونه من غير إدراك ولا يشكون في رؤيته، كما يقول الرجل: رأيت السماء وهو صادق، ولم يحط بصره بكل السماء، ولم يدركها، وكما يقول الرجل: رأيت البحر، وهو صادق. ولم يدرك بصره كل البحر، ولم يحط ببصره، هكذا فسره العلماء، إن كنت تعقل. (2)
- وفيها: فإنه من ادعى أنه مسلم ثم زعم أن الله عز وجل لم يكلم موسى فقد كفر، يستتاب فإن تاب وإلا قتل. فإن قال قائل: لم؟ قيل: لأنه رد القرآن وجحده، ورد السنة، وخالف جميع علماء المسلمين، وزاغ عن الحق، وكان ممن قال الله عز وجل: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (3) وأما الحجة عليهم من القرآن: فإن الله جل وعز قال في سورة النساء: {وكلم الله موسى تكليمًا} (4) وقال عز
_________
(1) الأنعام الآية (103) ..
(2) الشريعة (2/ 49 - 50).
(3) النساء الآية (115).
(4) النساء الآية (164).
(5/254)
وجل في سورة الأعراف: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} (1) وقال عز وجل: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} (2) الآية. وقال عز وجل في سورة طه: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (3) إلى آخر الآيات. وقال عز وجل في سورة النمل: {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (4)
وقال عز وجل في سورة القصص: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (5) وقال عز وجل في سورة والنازعات: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ
_________
(1) الأعراف الآية (143).
(2) الأعراف الآية (144).
(3) طه الآيات (11 - 14).
(4) النمل الآيتان (8و9) ..
(5) القصص الآية (30).
(5/255)
الْمُقَدَّسِ طُوًى} (1) قال محمد بن الحسين رحمه الله: فمن زعم أن الله عز وجل لم يكلم موسى فقد رد نص القرآن، وكفر بالله العظيم. فإن قال منهم قائل: إن الله تعالى خلق كلاماً في الشجرة، فكلم به موسى قيل: هذا هو الكفر، لأنه يزعم أن الكلام مخلوق، تعالى الله عز وجل عن ذلك ويزعم أن مخلوقاً يدعي الربوبية، وهذا من أقبح القول وأسمجه. وقيل له: يا ملحد، هل يجوز لغير الله أن يقول: إنني أنا الله؟ نعوذ بالله أن يكون قائل هذا مسلما، هذا كافر يستتاب، فإن تاب ورجع عن مذهبه السوء وإلا قتله الإمام، فإن لم يقتله الإمام ولم يستتبه وعلم منه أن هذا مذهبه هجر ولم يكلم، ولم يسلم عليه. ولم يصل خلفه، ولم تقبل شهادته. ولم يزوجه المسلم كريمته. (2)
- قال محمد بن الحسين رحمه الله وهو يتحدث عن نزول الرب سبحانه: الإيمان بهذا واجب، ولا يسع المسلم العاقل أن يقول: كيف ينزل؟ ولا يرد هذا إلا المعتزلة. وأما أهل الحق فيقولون: الإيمان به واجب بلا كيف، لأن الأخبار قد صحت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن الله عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة (3). والذين نقلوا إلينا هذه الأخبار هم الذين نقلوا إلينا الأحكام من الحلال والحرام، وعلم الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد، فكما قبل العلماء عنهم ذلك قبلوا منهم هذه السنن، وقالوا: من ردها ضال
_________
(1) النازعات الآيتان (15و16).
(2) الشريعة (2/ 84 - 85).
(3) انظر تخريجه في مواقف حماد بن سلمة سنة (167هـ).
(5/256)
خبيث، يحذرونه ويحذرون منه. (1)
- وفيها: قال محمد بن الحسين: يقال للجهمي الذي ينكر أن الله خلق آدم بيده: كفرت بالقرآن، ورددت السنة، وخالفت الأمة. فأما القرآن: فإن الله عز وجل لما أمر الملائكة أن يسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس. قال الله عز وجل: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} (2) وقال -عز وجل- في سورة الحجر: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} (3). فحسد إبليس آدم؛ لأن الله عز وجل خلقه بيده، ولم يخلق إبليس بيده. ولما التقى موسى عليه السلام مع آدم عليه السلام فاحتجا، فكان من حجة موسى لآدم؛ أنه قال: أنت أبونا آدم خلقك الله تعالى بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك. فاحتج موسى على آدم بالكرامة التي خص الله -عز وجل- بها آدم، مما لم يخص غيره بها: من أن الله عز وجل خلقه بيده، وأمر ملائكته فسجدوا له، فمن أنكر هذا فقد كفر.
_________
(1) الشريعة (2/ 93).
(2) ص الآية (75).
(3) الحجر الآيات (28 - 31).
(5/257)
ثم احتج آدم على موسى، فقال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه، وخط لك التوراة بيده، وذكر الحديث (1).اهـ (2)
- وفيها: قال محمد بن الحسين: اعلموا رحمكم الله، أن المنكر للشفاعة يزعم أن من دخل النار فليس بخارج منها، وهذا مذهب المعتزلة يكذبون بها، وبأشياء سنذكرها إن شاء الله تعالى، مما لها أصل في كتاب الله عز وجل، وسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسنن الصحابة رضي الله عنهم، ومن تبعهم بإحسان، وقول فقهاء المسلمين. فالمعتزلة يخالفون هذا كله، لا يلتفتون إلى سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا إلى سنن أصحابه رضي الله عنهم. وإنما يعارضون بمتشابه القرآن، وبما أراهم العقل عندهم، وليس هذا طريق المسلمين، وإنما هذا طريق من قد زاغ عن طريق الحق، وقد لعب به الشيطان. وقد حذرنا الله عز وجل ممن هذه صفته، وحذرناهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحذرناهم أئمة المسلمين قديماً وحديثاً. (3)
- وفيها: قال محمد بن الحسين رحمه الله تعالى: إن المكذب بالشفاعة أخطأ في تأويله خطأ فاحشاً، خرج به عن الكتاب والسنة، وذلك أنه عمد إلى آيات من القرآن نزلت في أهل الكفر، أخبر الله عز وجل: أنهم إذا دخلوا النار أنهم غير خارجين منها، فجعلها المكذب بالشفاعة في الموحدين، ولم يلتفت إلى أخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في إثبات الشفاعة؛ أنها إنما هي لأهل
_________
(1) انظر تخريجه في مواقف محمد بن خفيف سنة (371هـ).
(2) الشريعة (2/ 127 - 128).
(3) الشريعة (2/ 140).
(5/258)
الكبائر، والقرآن يدل على هذا، فخرج بقوله السوء عن جملة ما عليه أهل الإيمان، واتبع غير سبيلهم قال الله عز وجل: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (1) قال محمد بن الحسين رحمه الله: فكل من رد سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنن أصحابه فهو ممن شاقق الرسول وعصاه، وعصى الله تعالى بتركه قبول السنن، ولو عقل هذا الملحد وأنصف من نفسه، علم أن أحكام الله عز وجل وجميع ما تعبد به خلقه إنما تؤخذ من الكتاب والسنة، وقد أمر الله عز وجل نبيه عليه السلام أن يبين لخلقه ما أنزله عليه مما تعبدهم به، فقال جل ذكره: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (2) وقد بين - صلى الله عليه وسلم - لأمته جميع ما فرض الله عز وجل عليهم من جميع الأحكام ويبين لهم أمر الدنيا وأمر الآخرة وجميع ما ينبغي أن يؤمنوا به ولم يدعهم جهلة لا يعلمون حتى أعلمهم أمر الموت والقبر وما يلقى المؤمن، وما يلقى الكافر، وأمر المحشر والوقوف وأمر الجنة والنار حالاً بعد حال يعرفه أهل الحق وسنذكر كل باب في موضعه إن شاء الله تعالى. (3)
_________
(1) النساء الآية (115).
(2) النحل الآية (44).
(3) الشريعة (2/ 143 - 144).
(5/259)
موقفه من الخوارج:
- قال محمد بن الحسين: لم يختلف العلماء قديماً وحديثاً أن الخوارج قوم سوء، عصاة لله تعالى ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -، وإن صلوا وصاموا، واجتهدوا في العبادة، فليس ذلك بنافع لهم، نعم ويظهرون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وليس ذلك بنافع لهم؛ لأنهم قوم يتأولون القرآن على ما يهوون، ويموهون على المسلمين، وقد حذرنا الله تعالى منهم، وحذرنا النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحذرناهم الخلفاء الراشدون بعده، وحذرناهم الصحابة رضي الله عنهم ومن تبعهم بإحسان. والخوارج هم الشراة الأنجاس الأرجاس، ومن كان على مذهبهم من سائر الخوارج، يتوارثون هذا المذهب قديما وحديثا، ويخرجون على الأئمة والأمراء ويستحلون قتل المسلمين. فأول قرن طلع منهم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هو رجل طعن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو يقسم الغنائم، فقال: اعدل يا محمد، فما أراك تعدل، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "ويلك، فمن يعدل إذا لم أكن أعدل؟ " فأراد عمر رضي الله عنه قتله، فمنعه النبي - صلى الله عليه وسلم - من قتله وأخبر: "أن هذا وأصحابا له يحقر أحدكم صلاته مع صلاته وصيامه مع صيامه، يمرقون من الدين" (1). وأمر في غير حديث بقتالهم، وبين فضل من قتلهم أو قتلوه. ثم إنهم بعد ذلك خرجوا من بلدان شتى، واجتمعوا وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى قدموا المدينة، فقتلوا عثمان بن عفان رضي الله عنه. وقد اجتهد أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ممن كان بالمدينة في أن لا يقتل
_________
(1) أحمد (3/ 65) والبخاري (6/ 766/3610) ومسلم (2/ 744 - 745/ 1064 (148)) والنسائي في الكبرى (5/ 159/8560) وابن ماجه (1/ 60/169) مختصراً. من حديث أبي سعيد الخدري.
(5/260)
عثمان، فما أطاقوا على ذلك رضي الله عنهم، ثم خرجوا بعد ذلك على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ولم يرضوا لحكمه.
وأظهروا قولهم وقالوا: لا حكم إلا لله، فقال علي رضي الله عنه: كلمة حق أرادوا بها الباطل. فقاتلهم علي رضي الله عنه فأكرمه الله تعالى بقتلهم، وأخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بفضل من قتلهم أو قتلوه، وقاتل معه الصحابة فصار سيف علي رضي الله عنه في الخوارج سيف حق إلى أن تقوم الساعة. (1)
- وقال محمد بن الحسين: فلا ينبغي لمن رأى اجتهاد خارجي قد خرج على إمام عدلاً كان الإمام أو جائراً، فخرج وجمع جماعة وسل سيفه، واستحل قتال المسلمين، فلا ينبغي له أن يغتر بقراءته للقرآن، ولا بطول قيامه في الصلاة، ولا بدوام صيامه، ولا بحسن ألفاظه في العلم إذا كان مذهبه مذهب الخوارج. وقد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما قلته أخبار لا يدفعها كثير من علماء المسلمين، بل لعله لا يختلف في العلم بها جميع أئمة المسلمين. (2)
- وقال محمد بن الحسين: قد ذكرت من التحذير من مذاهب الخوارج ما فيه بلاغ لمن عصمه الله تعالى عن مذهب الخوارج، ولم ير رأيهم، وصبر على جور الأئمة، وحيف الأمراء، ولم يخرج عليهم بسيفه، وسأل الله تعالى كشف الظلم عنه، وعن المسلمين، ودعا للولاة بالصلاح، وحج معهم، وجاهد معهم كل عدو للمسلمين، وصلى معهم الجمعة والعيدين، فإن أمروه
_________
(1) الشريعة (1/ 136 - 138).
(2) الشريعة (1/ 145).
(5/261)
بطاعة فأمكنه أطاعهم، وإن لم يمكنه اعتذر إليهم، وإن أمروه بمعصية لم يطعهم، وإذا دارت الفتن بينهم لزم بيته، وكف لسانه ويده، ولم يهو ما هم فيه، ولم يعن على فتنة، فمن كان هذا وصفه كان على الصراط المستقيم إن شاء الله. (1)
موقفه من المرجئة:
- جاء في الشريعة: لا يصح الدين إلا بالتصديق بالقلب، والإقرار باللسان، والعمل بالجوارح، مثل الصلاة، والزكاة والصيام، والحج، والجهاد، وما أشبه ذلك. (2)
- وفيها: قال محمد بن الحسين: اعلموا رحمنا الله وإياكم: أن الذي عليه علماء المسلمين: أن الإيمان واجب على جميع الخلق، وهو تصديق بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالجوارح. ثم اعلموا: أنه لا تجزيء المعرفة بالقلب والتصديق، إلا أن يكون معه الإيمان باللسان نطقاً، ولا تجزيء معرفة بالقلب، ونطق باللسان، حتى يكون عمل بالجوارح، فإذا كملت فيه هذه الثلاث الخصال: كان مؤمناً. دل على ذلك القرآن والسنة، وقول علماء المسلمين. فأما ما لزم القلب من فرض الإيمان فقول الله تعالى في سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} (3). وقال تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ
_________
(1) الشريعة (1/ 157).
(2) الشريعة (1/ 251).
(3) المائدة الآية (41).
(5/262)
مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (1) وقال تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} (2) الآية. فهذا مما يدلك على أن على القلب الإيمان، وهو التصديق والمعرفة، ولا ينفع القول إذ لم يكن القلب مصدقاً بما ينطق به اللسان مع العمل، فاعلموا ذلك.
وأما فرض الإيمان باللسان: فقوله تعالى في سورة البقرة: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} (3) الآية. وقال تعالى في سورة آل عمران: {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} (4) الآية. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله وأني رسول الله ... " (5) وذكر الحديث. فهذا الإيمان باللسان نطقاً فرضاً
_________
(1) النحل الآية (106).
(2) الحجرات الآية (14).
(3) البقرة الآيتان (136و137).
(4) آل عمران الآية (84).
(5) تقدم تخريجه في مواقف الحكم بن عتيبة سنة (115هـ).
(5/263)
واجباً. وأما الإيمان بما فرض على الجوارح تصديقاً بما آمن به القلب، ونطق به اللسان: فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} إلى قوله تعالى: {تُفْلِحُونَ (77)} (1) وقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ} في غير موضع من القرآن، ومثله فرض الصيام على جميع البدن، ومثله فرض الجهاد بالبدن، وبجميع الجوارح. فالأعمال رحمكم الله بالجوارح: تصديق عن الإيمان بالقلب واللسان، فمن لم يصدق الإيمان بعمله وبجوارحه: مثل الطهارة، والصلاة، والزكاة، والصيام والحج والجهاد، وأشباه لهذه، ورضي من نفسه بالمعرفة والقول لم يكن مؤمناً، ولم ينفعه المعرفة والقول، وكان تركه للعمل تكذيباً منه لإيمانه، وكان العمل بما ذكرناه تصديقاً منه لإيمانه، وبالله التوفيق. وقد قال الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)} (2). فقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته شرائع الإيمان: أنها على هذا النعت في أحاديث كثيرة، وقد قال تعالى في كتابه، وبين في غير موضع: أن الإيمان لا يكون إلا بعمل، وبينه النبي - صلى الله عليه وسلم - خلاف ما قالت المرجئة، الذين لعب بهم الشيطان.
قال الله تعالى في سورة البقرة: {* لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى
_________
(1) آل عمران الآية (84).
(2) تقدم تخريجه في مواقف الحكم بن عتيبة سنة (115هـ).
(5/264)
الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ والسائلين وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} إلى قوله تعالى: {المتقون} (1).اهـ (2)
- وقال محمد بن الحسين: اعلموا رحمنا الله وإياكم يا أهل القرآن، ويا أهل العلم، ويا أهل السنن والآثار، ويا معشر من فقههم الله تعالى في الدين، بعلم الحلال والحرام أنكم إن تدبرتم القرآن، كما أمركم الله تعالى علمتم أن الله تعالى أوجب على المؤمنين بعد إيمانهم به وبرسوله: العمل، وأنه تعالى لم يثن على المؤمنين بأنه قد رضي عنهم، وأنهم قد رضوا عنه، وأثابهم على ذلك الدخول إلى الجنة، والنجاة من النار، إلا بالإيمان والعمل الصالح. وقرن مع الإيمان العمل الصالح، لم يدخلهم الجنة بالإيمان وحده، حتى ضم إليه العمل الصالح، الذي قد وفقهم له، فصار الإيمان لا يتم لأحد حتى يكون مصدقاً بقلبه، وناطقا بلسانه، وعاملاً بجوارحه لا يخفى على من تدبر القرآن وتصفحه، وجده كما ذكرت.
واعلموا رحمنا الله تعالى وإياكم أني قد تصفحت القرآن فوجدت فيه ما ذكرته في ستة وخمسين موضعا من كتاب الله عز وجل: أن الله تبارك وتعالى لم يدخل المؤمنين الجنة بالإيمان وحده، بل أدخلهم الجنة برحمته إياهم،
_________
(1) البقرة الآية (177).
(2) الشريعة (1/ 274 - 276).
(5/265)
وبما وفقهم له من الإيمان به، والعمل الصالح، وهذا رد على من قال: "الإيمان: المعرفة" ورد على من قال: "المعرفة والقول، وإن لم يعمل" نعوذ بالله من قائل هذا. فإن قال: فاذكر هذا الذي بينته من كتاب الله عز وجل، ليستغني غيرك عن التصفح للقرآن. قيل له: نعم، والله تعالى الموفق لذلك، والمعين عليه. قال الله تبارك وتعالى في سورة البقرة: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)} (1) وقال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)} (2) وقال تبارك وتعالى في سورة آل عمران: {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57)} (3)
وقال عز وجل في سورة النساء: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا
_________
(1) البقرة الآية (25).
(2) البقرة الآية (277).
(3) آل عمران الآيتان (56و57) ..
(5/266)
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)} (1) وقال سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)} (2) وقال جل وعلا: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} (3) الآية. وقال تبارك وتعالى في سورة المائدة: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10)} (4) وقال عز وجل في سورة الأنعام: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آَمَنَ
_________
(1) النساء الآية (57).
(2) النساء الآية (122).
(3) النساء الآيتان (172و173).
(4) المائدة الآيتان (9و10).
(5/267)
وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48)} (1)
وقال عز وجل في سورة الأعراف: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)} (2) وقال عز وجل في سورة براءة: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الفائزون (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)} (3) وقال عز وجل في سورة براءة أيضاً: {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ
_________
(1) الأنعام الآية (48) ..
(2) الأعراف الآيتان (42و43).
(3) براءة الآيات (20 - 22).
(5/268)
وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88)} (1).
قال محمد بن الحسين -رحمه الله تعالى-: اعتبروا رحمكم الله بما تسمعون، لم يعطهم مولاهم الكريم هذا الخير كله بالإيمان وحده، حتى ذكر عز وجل هجرتهم وجهادهم بأموالهم وأنفسهم. وقد علمتم أن الله عز وجل ذكر قوماً آمنوا بمكة، ولم يهاجروا مع رسوله - صلى الله عليه وسلم - ماذا قال فيهم؟ وهو قوله: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} (2) ثم ذكر قوماً آمنوا بمكة وأمكنتهم الهجرة إليه، فلم يهاجروا، فقال فيهم قولاً، هو أعظم من هذا. وهو قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97)} (3) ثم عذر جل ذكره من لم يستطع الهجرة ولا النهوض بعد إيمانه، فقال عز وجل: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ
_________
(1) براءة الآية (88).
(2) الأنفال الآية (72).
(3) النساء الآية (97).
(5/269)
سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} (1) الآية.
قال محمد بن الحسين -رحمه الله تعالى-: كل هذا يدل على أن الإيمان تصديق بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالجوارح. ولا يجوز غير هذا (2)، رداً على المرجئة، الذين لعب بهم الشيطان. ميزوا هذا تفقهوا، إن شاء الله.
وقال عز وجل في سورة يونس: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ} (3) وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9)} (4) وقال تعالى: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)} (5) وقال تعالى في سورة الرعد: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ
_________
(1) النساء الآيتان (98و99).
(2) قال محقق الكتاب في (ت) -يعني النسخة التركية-: ولا يجوز غير هذا.
(3) يونس الآية (4).
(4) يونس الآية (9).
(5) يونس الآيتان (63و64).
(5/270)
وَحُسْنُ مَآَبٍ (29)} (1) وقال تعالى في سورة إبراهيم: {وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23)} (2) وقال تعالى في سورة سبحان: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9)} (3)
وقال تعالى في سورة الكهف: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3)} (4) وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرائك نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)} (5) وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ
_________
(1) الرعد الآيتان (28و29).
(2) إبراهيم الآية (23).
(3) الإسراء الآية (9) ..
(4) الكهف الآيات (1 - 3).
(5) الكهف الآيتان (30و31).
(5/271)
آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108)} (1).
وقال تعالى في سورة مريم: {* فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60)} (2) وقال في سورة مريم أيضاً: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)} (3) وقال تعالى في سورة طه: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)} (4) وقال تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)} (5) وقال تعالى في سورة الحج: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
_________
(1) الكهف الآيتان (107و108).
(2) مريم الآيتان (59و60).
(3) مريم الآية (96).
(4) طه الآيتان (75و76).
(5) طه الآية (82).
(5/272)
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14)} (1) وقال عز وجل: {إِن اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23)} (2) وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50)} (3) وقال تعالى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56)} (4)
وقال تعالى في سورة العنكبوت: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7)} (5) وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ
_________
(1) الحج الآية (14).
(2) الحج الآية (23).
(3) الحج الآيتان (49و50).
(4) الحج الآية (56) ..
(5) العنكبوت الآية (7).
(5/273)
يَتَوَكَّلُونَ (59)} (1) وقال تعالى في سورة الروم: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15)} (2) وقال تعالى في سورة لقمان: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)} (3) وقال تعالى في سورة السجدة: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19)} (4) وقال تعالى في سورة سبأ: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)} (5) وقال تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ
_________
(1) العنكبوت الآيتان (58و59).
(2) الروم الآيتان (14و15).
(3) لقمان الآيتان (8و9).
(4) السجدة الآيتان (18و19).
(5) سبأ الآية (4).
(5/274)
آَمِنُونَ (37)} (1)
وقال تعالى في سورة فاطر: {الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7)} (2) وقال تعالى في سورة الزمر: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} إلى قوله: {أَجْرُ الْعَامِلِينَ} (3) وقال تعالى في سورة حم عسق: {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22)} (4) وقال تعالى: {ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (5) وقال تعالى في سورة الزخرف: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آَمَنُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70)} إلى قوله: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ
_________
(1) سبأ الآية (37) ..
(2) فاطر الآية (7).
(3) الزمر الآيتان (73و74).
(4) الشورى الآية (22).
(5) الشورى الآية (23).
(5/275)
الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72)} (1) وقال تعالى في سورة الجاثية: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} إلى قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30)} (2)
وقال تعالى في سورة الأحقاف: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14)} (3) وقال تعالى في سورة محمد - صلى الله عليه وسلم -: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآَمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2)} (4) وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} إلى قوله: {مَثْوًى لَهُمْ (12)} (5) وقال في سورة التغابن: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي
_________
(1) الزخرف الآيات (67 - 72).
(2) الجاثية الآيات (28 - 30) ..
(3) الأحقاف الآيتان (13و14).
(4) محمد الآيتان (1و2).
(5) محمد الآية (12).
(5/276)
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)} (1) وقال في سورة الطلاق: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} (2) وقال تعالى في سورة (إذا السماء انشقت): {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7)} إلى قوله: {إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)} (3) وقال تعالى في سورة البروج: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11)} (4)
وقال تعالى في سورة التين والزيتون: {إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6)} (5) وقال تعالى في سورة البينة: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} إلى قوله: {إِن الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7)} (6) وقال عز وجل في سورة العصر: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ
_________
(1) التغابن الآية (9).
(2) الطلاق الآية (11).
(3) الانشقاق الآية (25).
(4) البروج الآية (11) ..
(5) التين الآية (6).
(6) البينة الآيات (1 - 7).
(5/277)
الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} قال محمد بن الحسين: ميزوا رحمكم الله قول مولاكم الكريم: هل ذكر الإيمان في موضع واحد من القرآن، إلا وقد قرن إليه العمل الصالح؟ وقال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (1) فأخبر تعالى، بأن الكلم الطيب حقيقته أن يرفع إلى الله تعالى بالعمل، إن لم يكن عمل بطل الكلام من قائله، ورد عليه. ولا كلام طيب أجل من التوحيد ولا عمل من أعمال الصالحات أجل من أداء الفرائض. (2)
- وقال محمد بن الحسين: من قال: الإيمان قول دون العمل، يقال له: رددت القرآن والسنة، وما عليه جميع العلماء، وخرجت من قول المسلمين، وكفرت بالله العظيم. فإن قال: بم ذا؟ قيل له: إن الله عز وجل، أمر المؤمنين بعد أن صدقوا في إيمانهم: أمرهم بالصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد، وفرائض كثيرة، يطول ذكرها، مع شدة خوفهم على التفريط فيها النار والعقوبة الشديدة. فمن زعم أن الله تعالى فرض على المؤمنين ما ذكرنا، ولم يرد منهم العمل، ورضي منهم بالقول، فقد خالف الله عز وجل ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، فإن الله عز وجل لما تكامل أمر الإسلام بالأعمال قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ
_________
(1) فاطر الآية (10).
(2) الشريعة (1/ 277 - 284).
(5/278)
لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1) وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «بني الإسلام على خمس» (2) وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من ترك الصلاة فقد كفر» (3).
قال محمد بن الحسين رحمه الله تعالى: ومن قال: الإيمان: المعرفة، دون القول والعمل، فقد أتى بأعظم من مقالة من قال: الإيمان: قول. ولزمه أن يكون إبليس على قوله مؤمناً. لأن إبليس قد عرف ربه قال: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} (4) وقال: {رَبِّ فَأَنْظِرْنِي} (5) ويلزم أن تكون اليهود لمعرفتهم بالله وبرسوله أن يكونوا مؤمنين، قال الله عز وجل: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} (6) فقد أخبر عز وجل: أنهم يعرفون الله تعالى ورسوله.
ويقال لهم: إيش الفرق بين الإسلام وبين الكفر؟ وقد علمنا أن أهل الكفر قد عرفوا بعقولهم أن الله خلق السموات والأرض وما بينهما، ولا ينجيهم في ظلمات البر والبحر إلا الله عز وجل، وإذا أصابتهم الشدائد لا
_________
(1) المائدة الآية (3).
(2) تقدم تخريجه في مواقف البخاري سنة (256هـ).
(3) أحمد (5/ 346 و355) والترمذي (5/ 21/2621) والنسائي (1/ 250/462) وابن ماجه (1/ 342/1079) من طريق الحسين بن واقد عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر». وقال الترمذي: "حسن صحيح غريب".
(4) الحجر الآية (39).
(5) الحجر الآية (36).
(6) البقرة الآية (146).
(5/279)
يدعون إلا الله، فعلى قولهم إن الإيمان المعرفة كل هؤلاء مثل من قال: الإيمان: المعرفة. على قائل هذه المقالة الوحشية لعنة الله. بل نقول والحمد لله قولاً يوافق الكتاب والسنة، وعلماء المسلمين الذين لا يستوحش من ذكرهم، وقد تقدم ذكرنا لهم: إن الإيمان معرفة بالقلب تصديقاً يقيناً، وقول باللسان، وعمل بالجوارح، لا يكون مؤمناً إلا بهذه الثلاثة، لا يجزي بعضها عن بعض، والحمد لله على ذلك. (1)
- وقال رحمه الله تعالى: من قال هذا -أي أن إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل عليهما السلام-، فلقد أعظم الفرية على الله عز وجل، وأتى بضد الحق، وبما ينكره جميع العلماء، لأن قائل هذه المقالة يزعم: أن من قال: لا إله إلا الله لم تضره الكبائر أن يعملها، ولا الفواحش أن يرتكبها، وأن عنده: أن البار التقي الذي لا يباشر من ذلك شيئاً، والفاجر يكونان سواء، هذا منكر. قال الله عز وجل: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)} (2) وقال عز وجل: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)} (3) فقل لقائل هذه المقالة النكرة: يا ضال يا مضل، إن الله عز وجل لم يسوِّ بين
_________
(1) الشريعة (1/ 310 - 312).
(2) الجاثية الآية (21).
(3) ص الآية (28).
(5/280)
الطائفتين من المؤمنين في أعمال الصالحات، حتى فضّل بعضهم على بعض درجات. قال الله عز وجل: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)} (1) فوعدهم الله عز وجل كلهم بالحسنى، بعد أن فضل بعضهم على بعض. وقال عز وجل: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً} ثم قال: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} (2)
وكيف يجوز لهذا الملحد في الدين أن يسوي بين إيمانه وإيمان جبريل، وميكائيل، ويزعم أنه مؤمن حقّاً؟ (3)
موقفه من القدرية:
- قال رحمه الله: فإن سائلاً سأل عن مذهبنا في القدر؟ فالجواب في ذلك قبل أن نخبره بمذهبنا: أنا ننصح للسائل، ونعلمه أنه لا يحسن بالمسلمين التنقير والبحث عن القدر، لأن القدر سر من سر الله عز وجل، بل الإيمان بما جرت به المقادير من خير أو شر: واجب على العباد أن يؤمنوا به، ثم لا يأمن
_________
(1) الحديد الآية (10).
(2) النساء الآية (95) ..
(3) الشريعة (1/ 313).
(5/281)
العبد أن يبحث عن القدر فيكذب بمقادير الله الجارية على العباد، فيضل عن طريق الحق، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما هلكت أمة قط إلا بالشرك بالله عز وجل، وما أشركت أمة حتى يكون بدو أمرها وشركها التكذيب بالقدر» (1) قال محمد بن الحسين رحمه الله: ولولا أن الصحابة رضي الله عنهم لما بلغهم عن قوم ضلال شردوا عن طريق الحق، وكذبوا بالقدر، فردوا عليهم قولهم، وسبوهم وكفروهم، وكذلك التابعون لهم بإحسان سبوا من تكلم بالقدر وكذب به ولعنوهم ونهوا عن مجالستهم، وكذلك أئمة المسلمين ينهون عن مجالسة القدرية وعن مناظرتهم. وبينوا للمسلمين قبيح مذاهبهم. فلولا أن هؤلاء ردوا على القدرية لم يسع من بعدهم الكلام على القدر، بل الإيمان بالقدر: خيره وشره، واجب قضاء وقدر، وما قدر يكن، وما لم يقدر لم يكن، فإذا عمل العبد بطاعة الله عز وجل، علم أنها بتوفيق الله له فيشكره على ذاك. وإن عمل بمعصيته ندم على ذلك، وعلم أنها بمقدور جرى عليه، فذم نفسه واستغفر الله عز وجل. هذا مذهب المسلمين.
وليس لأحد على الله عز وجل حجة، بل لله الحجة على خلقه. قال الله عز وجل: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)} (2) ثم اعلموا رحمنا الله وإياكم: أن مذهبنا في القدر أن القدر أن نقول: إن الله عز
_________
(1) أخرجه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: ابن أبي عاصم (1/ 141/322) والآجري في الشريعة (1/ 380/425) وابن بطة (2/ 107/1524)، اللالكائي (4/ 690/1113 و1114). قال الشيخ الألباني رحمه الله في رياض الجنة: "إسناده ضعيف، رجاله ثقات غير يحيى بن القاسم وأبيه فإنهما لا يعرفان، وإن وثقهما ابن حبان. وعمر بن يزيد النصري مختلف فيه".
(2) الأنعام الآية (149).
(5/282)
وجل خلق الجنة وخلق النار، ولكل واحدة منهما أهلاً، وأقسم بعزته أنه يملأ جهنم من الجنة والناس أجمعين، ثم خلق آدم عليه السلام، واستخرج من ظهره كل ذرية هو خالقها إلى يوم القيامة. ثم جعلهم فريقين: فريقاً في الجنة وفريقاً في السعير. وخلق إبليس، وأمره بالسجود لآدم عليه السلام، وقد علم أنه لا يسجد للمقدور، الذي قد جرى عليه من الشقوة التي قد سبقت في العلم من الله عز وجل، لا معارض لله الكريم في حكمه، يفعل في خلقه ما يريد، عدلاً من ربنا قضاؤه وقدره، وخلق آدم وحواء عليهما السلام، للأرض خلقهما، أسكنهما الجنة، وأمرهما أن يأكلا منها رغداً ما شاءا، ونهاهما عن شجرة واحدة أن لا يقرباها، وقد جرى مقدوره أنهما سيعصيانه بأكلهما من الشجرة. فهو تبارك وتعالى في الظاهر ينهاهما، وفي الباطن من علمه: قد قدر عليهما أنهما يأكلان منها: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)} (1) لم يكن لهما بد من أكلهما، سبباً للمعصية، وسبباً لخروجهما من الجنة، إذ كانا للأرض خلقا، وأنه سيغفر لهما بعد المعصية، كل ذلك سابق في علمه، لا يجوز أن يكون شيء يحدث في جميع خلقه، إلا وقد جرى مقدوره به، وأحاط به علماً قبل كونه أنه سيكون.
خلق الخلق كما شاء لما شاء، فجعلهم شقياً وسعيداً قبل أن يخرجهم إلى الدنيا، وهم في بطون أمهاتهم، وكتب آجالهم، وكتب أرزاقهم، وكتب أعمالهم، ثم أخرجهم إلى الدنيا، وكل إنسان يسعى فيما كتب له وعليه، ثم بعث رسله،
_________
(1) الأنبياء الآية (23).
(5/283)
وأنزل عليهم وحيه، وأمرهم بالبلاغ لخلقه، فبلغوا رسالات ربهم، ونصحوا قومهم، فمن جرى في مقدور الله عز وجل أن يؤمن آمن، ومن جرى في مقدوره أن يكفر كفر؛ قال الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2)} (1) أحب من أراد من عباده، فشرح صدره للإيمان والإسلام، ومقت آخرين، فختم على قلوبهم، وعلى سمعهم وعلى أبصارهم فلن يهتدوا إذاً أبداً، يضل من يشاء ويهدي من يشاء: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)} (2)
الخلق كلهم له، يفعل في خلقه ما يريد، غير ظالم لهم، جل ذكره أن ينسب ربنا إلى الظلم من يأخذ ما ليس له بملك، وأما ربنا تعالى فله ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما، وما تحت الثرى، وله الدنيا والآخرة، جل ذكره، وتقدست أسماؤه، أحب الطاعة من عباده وأمر بها، فجرت ممن أطاعه بتوفيقه لهم، ونهى عن المعاصي، وأراد كونها من غير محبة منه لها، ولا للأمر بها، تعالى عز وجل عن أن يأمر بالفحشاء، أو يحبها وجل ربنا وعز من أن يجري في ملكه ما لم يرد أن يجري، أو شيء لم يحط به علمه قبل كونه، قد علم ما الخلق عاملون قبل أن يخلقهم، وبعد أن يخلقهم، قبل أن يعملوا قضاءً وقدراً، قد جرى القلم بأمره تعالى في اللوح المحفوظ بما يكون، من بر أو فجور، يثني على من عمل بطاعته من عبيده، ويضيف العمل إلى العباد، ويعدهم عليه الجزاء العظيم،
_________
(1) التغابن الآية (2).
(2) الأنبياء الآية (23) ..
(5/284)
ولولا توفيقه لهم ما عملوا بما استوجبوا به منه الجزاء {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)} (1) وكذا ذم قوماً عملوا بمعصيته، وتوعدهم على العمل بها وأضاف العمل إليهم بما عملوا، وذلك بمقدور جرى عليهم، يضل من يشاء، ويهدي من يشاء. (2)
وقال رحمه الله: ثم نذكر ما قالته الأنبياء عليهم السلام خلاف ما قالته القدرية، قال نوح عليه السلام لقومه، لما قالوا: {يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)} (3) وقال شعيب لقومه: قال الله تعالى: {* قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى
_________
(1) الجمعة الآية (4).
(2) الشريعة (1/ 318 - 320).
(3) هود الآيات (32 - 34).
(5/285)
اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا} (1) الآية. وقال شعيب أيضاً لقومه: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)} (2). وقال تعالى في قصة يوسف عليه السلام: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)} (3)،
وقال يوسف عليه السلام: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33)} (4) قال الله عز وجل: {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)} (5).
وقال إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35)} (6) وقال موسى عليه السلام لما دعا على قومه
_________
(1) الأعراف الآيتان (88و89).
(2) هود الآية (88).
(3) يوسف الآية (24) ..
(4) يوسف الآية (33).
(5) يوسف الآية (34).
(6) إبراهيم الآية (35).
(5/286)
فقال: {رَبَّنَا إِنَّكَ آَتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا} (1). وقال تعالى فيما أخبر عن أهل النار: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21)} (2). قال محمد بن الحسين: فقد أقر أهل النار: أن الهداية من الله لا من أنفسهم. قال محمد بن الحسين: اعتبروا رحمكم الله قول الأنبياء عليهم السلام، وقول أهل النار، كل ذلك حجة على القدرية. واعلموا رحمكم الله: أن الله عز وجل بعث رسله، وأمرهم بالبلاغ، حجة على من أرسلوا إليهم، فلم يجبهم إلى الإيمان إلا من سبقت له من الله تعالى الهداية. ومن لم يسبق له من الله الهداية، وفي مقدوره أنه شقي من أهل النار، لم يجبهم، وثبت على كفره، وقد أخبركم الله تعالى يا مسلمون بذلك. نعم، وقد حرص نبينا - صلى الله عليه وسلم -، والأنبياء من قبله، على هداية أممهم، فما يقع حرصهم، إذا كان في مقدور الله أنهم لا يؤمنون.
_________
(1) يونس الآيتان (88و89).
(2) إبراهيم الآية (21).
(5/287)
فإن قال قائل: بين لنا هذا الفصل من كتاب الله تعالى، فإنا نحتاج إلى معرفته. قيل له: قال الله تعالى في سورة النحل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)} (1) ثم قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37)} (2). ثم قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -، وقد أحب هداية بعض من يحبه، فأنزل الله تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)} (3) وقال لنبيه - صلى الله عليه وسلم - أيضاً: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)} (4). وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ
_________
(1) النحل الآية (36).
(2) النحل الآية (37).
(3) القصص الآية (56).
(4) الأعراف الآية (188).
(5/288)
يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)} (1).
قال محمد بن الحسين رحمه الله: كل هذا بين لكم الرب تعالى به أن الأنبياء إنما بعثوا مبشرين ومنذرين، وحجة على الخلق، فمن شاء الله تعالى له الإيمان آمن، ومن لم يشأ له الإيمان لم يؤمن، قد فرغ الله تعالى من كل شيء، قد كتب الطاعة لقوم، وكتب المعصية على قوم، ويرحم أقواماً بعد معصيتهم إياه، ويتوب عليهم، وقوم لا يرحمهم، ولا يتوب عليهم {لَا يُسئل عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)} (2).اهـ (3)
- وقال رحمه الله: هكذا القدري يقال له: قال الله كذا، وقال: كذا وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: كذا، وقال: كذا، وقالت الأنبياء: كذا، وقالت صحابة نبينا: كذا، وقالت أئمة المسلمين: كذا، فلا يسمع ولا يعقل إلا ما هو عليه من مذهبه الخبيث، أعاذنا الله وإياكم من سوء مذهبهم، ورزقنا وإياكم التمسك بالحق، وثبت قلوبنا على شريعة الحق، إنه ذو فضل عظيم، وأعاذنا من زيغ القلوب، فإن المؤمنين قد علموا أن قلوبهم بيد الله، يزيغها إذا شاء عن الحق، ويهديها إذا شاء إلى الحق، من لم يؤمن بهذا كفر. قال الله تعالى فيما أرشد أنبياءه إليه والمؤمنين من الدعاء، أرشدهم في كتابه أن يقولوا: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)} (4).اهـ (5)
_________
(1) إبراهيم الآية (4).
(2) الأنبياء الآية (23).
(3) الشريعة (1/ 335 - 337).
(4) آل عمران الآية (8).
(5) الشريعة (1/ 334).
(5/289)
- وقال رحمه الله: لقد شقي من خالف هذه الطريقة، وهم القدرية. فإن قال قائل: هم عندك أشقياء؟ قلت: نعم فإن قال قائل: بم ذا؟ قلت: كذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسماهم مجوس هذه الأمة، وقال: «إن مرضوا، فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم» (1).
اهـ (2)
- وقال رحمه الله: هذه حجتنا على القدرية: كتاب الله تعالى، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وسنة أصحابه والتابعين لهم بإحسان، وقول أئمة المسلمين، مع تركنا للجدال والمراء والبحث عن القدر، فإنا قد نهينا عنه، وأمرنا بترك مجالسة القدرية، وأن لا نناظرهم، ولا نفاتحهم على سبيل الجدل، بل يهجرون ويهانون ويذلون، ولا يصلى خلف واحد منهم، ولا تقبل شهادتهم ولا يزوج، وإن مرض لم يعد وإن مات لم يحضر جنازته، ولم تجب دعوته في وليمة إن كانت له، فإن جاء مسترشداً أرشد على معنى النصيحة له، فإن رجع فالحمد لله، وإن عاد إلى باب الجدل والمراء لم نلتفت عليه، وطرد وحذر منه، ولم يكلم ولم يسلم عليه. (3)
- وقال: يقال للقدري: يا من لعب به الشيطان، يا من ينكر أن الله
_________
(1) أخرجه من حديث ابن عمر: أبو داود (5/ 66 - 67/ 4691) والحاكم (1/ 85) كلاهما من طريق عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عن ابن عمر به. وأبو حازم لم يسمع من ابن عمر.
وقد تابع عبد العزيز بن أبي حازم زكريا بن منظور، قال: حدثنا أبو حازم عن نافع عن ابن عمر به، أخرجه الآجري في الشريعة (1/ 378/220). وتابع أبا حازم عمر بن عبد الله مولى غفرة كما عند أحمد (2/ 125).
وللحديث شواهد من حديث أنس وحذيفة وجابر يرتقي بها الحديث إلى الحسن، انظر تخريج السنة لابن أبي عاصم (1/ 144 - 145/ 328 - 329).
(2) الشريعة (1/ 338 - 339).
(3) الشريعة (1/ 445 - 446).
(5/290)
تعالى خلق الشر، أليس إبليس أصل كل شر؟ أليس الله خلقه؟ أليس الله تعالى خلق الشياطين وأرسلهم على من أراد ليضلوهم عن طريق الرشد؟ فأي حجة لك يا قدري؟ يا من قد حرم التوفيق، أليس الله تعالى قال: {* وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} إلى قوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25)} (1)؟ وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)} (2) وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83)} (3)؟.اهـ (4)
- وقال: فإن اعترض بعض هؤلاء القدرية بتأويله الخطأ، فقال: قال الله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} (5) فيزعم أن السيئة من نفسه، دون أن يكون الله تعالى قضاها وقدرها عليه. قيل له: يا جاهل، إن الذي أنزلت عليه هذه الآية هو أعلم بتأويلها منك، وهو الذي بين لنا جميع ما تقدم ذكرنا له من إثبات القدر، وكذلك
_________
(1) فصلت الآية (25).
(2) الزخرف الآيتان (36و37).
(3) مريم الآية (83).
(4) الشريعة (1/ 462).
(5) النساء الآية (79).
(5/291)
الصحابة الذين شاهدوا التنزيل، رضي الله عنهم، هم الذين بينوا لنا ولك إثبات المقادير بكل ما هو كائن من خير وشر. وقيل: لو عقلت تأويلها لم تعارض بها، ولعلمت أن الحجة عليك لا لك، فإن قال: كيف؟ قيل له: قوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} أليس الله تعالى أصابه بها: خيراً كان أو شراً؟ فاعقل يا جاهل. أليس قال الله تعالى: {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ} (1) وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100)} (2) وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22)} (3) وهذا في القرآن كثير.
ألا ترى أن الله تعالى يخبرنا أن كل مصيبة تكون بالعباد من خير أو شر فالله يصيبهم بها، وقد كتب مصابهم في علم قد سبق، وجرى به القلم على حسب ما تقدم ذكرنا له. فاعقلوه يا مسلمون فإن القدري محروم من التوفيق.
وقد روي: أن هذه الآية التي يحتج بها القدري في قراءة عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب: ((ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من
_________
(1) يوسف الآية (56).
(2) الأعراف الآية (100).
(3) الحديد الآية (22).
(5/292)
سيئة فمن نفسك وأنا كتبتها عليك)) (1).اهـ (2)
- وقال رحمه الله: اعلموا رحمنا الله وإياكم أن الله تعالى ذكره أمر العباد باتباع صراطه المستقيم، وأن لا يعوجوا عنه يميناً ولا شمالاً، فقال تعالى ذكره: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} (3)، ثم قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28)} (4) ففي الظاهر: أنه جل ذكره أمرهم بالاستقامة واتباع سبيله وجعل في الظاهر إليهم المشيئة، ثم أعلمهم بعد ذلك: أنكم لن تشاؤوا إلا أن أشاء أنا لكم ما فيه هدايتكم، وأن مشيئتكم تبع لمشيئتي، فقال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)} (5). فأعلمهم أن مشيئتهم تبع لمشيئته عز وجل.
وقال عز وجل: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)} (6) وقال عز وجل: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ
_________
(1) عزاها السيوطي في الدر (2/ 331) إلى ابن المنذر وابن الأنباري في المصاحف عن مجاهد قال: هي قراءة أبيّ بن كعب وعبد الله بن مسعود ... وذكرها القرطبي في تفسيره (5/ 286) وقال: "فهذه قراءة على التفسير وقد أثبتها بعض أهل الزيغ من القرآن، والحديث بذلك عن ابن مسعود وأبي منقطع لأن مجاهداً لم ير عبد الله ولا أبيّاً".
(2) الشريعة (1/ 464 - 465).
(3) الأنعام الآية (153).
(4) التكوير الآية (28).
(5) التكوير الآية (29).
(6) البقرة الآية (142).
(5/293)
اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ} إلى قوله: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)} (1).اهـ (2)
محمد القَصَّاب (3) (360 هـ)
محمد بن عليّ بن محمد القصاب الإمام الحافظ المجاهد أبو أحمد الكرجي. وعرف بالقصاب لكثرة ما قتل من الكفار في مغازيه. حدث عن أبيه أحد أصحاب علي بن حرب، وعن محمد بن العباس، ومحمد بن إبراهيم الطيالسي. وحدث عنه ابناه علي وأبو الفرج عمار، وأبو المنصور مظفر بن محمد بن حسين. وله مصنفات منها: 'ثواب الأعمال' و'السنة' وغيرهما. ومن ثناء العلماء عليه قول بعضهم:
وفي الكرج الغراء أوحد عصره ... أبو أحمد القصاب غير مغالب
تصانيفه تبدي فنون علومه ... فلست ترى علماً له غير شارب
موقفه من الجهمية:
جاء في السير: وهو القائل في كتاب السنة: كل صفة وصف الله بها
_________
(1) البقرة الآية (213).
(2) الشريعة (1/ 466 - 467).
(3) السير (16/ 213 - 214) والوافي بالوفيات (4/ 114) وتذكرة الحفاظ (3/ 939).
(5/294)
نفسه أو وصفه بها رسوله - صلى الله عليه وسلم - فليست صفة مجاز ولو كانت صفة مجاز لتحتم تأويلها ولقيل معنى البصر كذا ومعنى السمع كذا وفسرت بغير السابق إلى الأفهام. فلما كان مذهب السلف إقرارها بلا تأويل، علم أنها غير محملة على المجاز وإنما هي حق بين.
التعليق:
فهذا العالم الكبير يفسر لنا مذهب السلف في الإثبات ويبطل مزاعم المؤولة والمفوضة الجهلة.
وله كتاب السنة، ذكره الذهبي في السير. (1)
أبو القاسم الطَّبَرَانِي (2) (360 هـ)
أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب اللخمي الشامي الطبراني. الإمام الحافظ الثقة الرحال الجوال محدث الإسلام علم المعمرين. ولد بمدينة عكا سنة ستين ومائتين. قال الذهبي: فأول ارتحاله كان في سنة خمس وسبعين فبقي في الارتحال ولقي الرجال ستة عشر عاماً وكتب عمن أقبل وأدبر وبرع في هذا الشأن وجمع وصنف وعمر دهراً طويلاً وازدحم عليه المحدثون ورحلوا إليه من الأقطار. روى عن أبي زرعة الدمشقي وعلي بن عبد العزيز البغوي وعبد الله بن أحمد بن حنبل وغيرهم. روى عنه ابن منده وأبو بكر بن
_________
(1) (16/ 213).
(2) السير (16/ 119 - 130) ولسان الميزان (3/ 73 - 75) وميزان الاعتدال (2/ 195) وتذكرة الحفاظ (3/ 912 - 917) ووفيات الأعيان (2/ 407) وطبقات الحنابلة (2/ 49 - 51) والبداية والنهاية (11/ 287 - 288).
(5/295)
مردويه وأبو نعيم الأصبهاني. قال ابن الجوزي: كان سليمان من الحفاظ والأشداء في دين الله تعالى وله الحفظ القوي والتصانيف الحسان. وقال أبو بكر محمد بن أبي علي المعدل: الطبراني أشهر من أن يدل على فضله وعلمه، كان واسع العلم كثير التصانيف. توفي سنة ستين وثلاثمائة.
موقفه من المبتدعة:
قال ابن الجوزي في المنتظم: كان سليمان من الحفاظ والأشداء في دين الله تعالى. (1)
له من الآثار السلفية كتاب السنة ذكره غير واحد ممن ترجم له.
موقفه من الرافضة:
قال ابن منده: ووجدت عن أحمد بن جعفر الفقيه أخبرنا أبو عمر بن عبد الوهاب السلمي، قال: سمعت الطبراني يقول: لما قدم أبو علي بن رستم ابن فارس، دخلت عليه، فدخل عليه بعض الكتاب، فصب على رجله خمس مائة درهم، فلما خرج الكاتب أعطانيها، فلما دخلت بنته أم عدنان، صبت على رجله، خمس مائة، فقمت، فقال: إلى أين؟ قلت: قمت لئلا يقول: جلست لهذا، فقال: ارفع هذه أيضاً، فلما كان آخر أمره، تكلم في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ببعض الشيء، فخرجت ولم أعد إليه بعد. (2)
_________
(1) المنتظم (14/ 206).
(2) السير (16/ 124).
(5/296)
أبو بكر عبد العزيز غُلاَم الخَلاَّل (1) (363 هـ)
عبد العزيز بن جعفر بن أحمد، أبو بكر المعروف بغلام الخلال. ولد سنة خمس وثمانين ومائتين. سمع من محمد بن عثمان بن أبي شيبة، وموسى بن هارون، والحسين بن عبد الله الخرقي. وحدث عنه أحمد بن الجنيد، وبشرى ابن عبد الله، وتفقه به ابن بطة، وأبو حفص العكبرى.
وكان أحد أهل الفهم، موثوقاً به في العلم، متسع الرواية، مشهوراً بالديانة، موصوفاً بالأمانة مذكوراً بالعبادة، وله مصنفات في العلوم المختلفات. وذكر أبو يعلى أنه كان معظماً في النفوس، متقدماً عند الدولة، بارعاً في مذهب الإمام أحمد.
توفي سنة ثلاث وستين وثلاثمائة.
موقفه من المبتدعة:
هذا الإمام رحمه الله تعالى هاجر من داره لما ظهر سب السلف إلى غيرها، وهذا يدل على قوة دينه وصحة عقيدته، رحمه الله. (2)
موقفه من الرافضة:
قال أبو بكر عبد العزيز في 'المقنع': فأما الرافضي فإن كان يسب فقد كفر فلا يزوج. (3)
_________
(1) السير (16/ 143 - 145) وتاريخ بغداد (10/ 309) وطبقات الحنابلة (2/ 119).
(2) انظر طبقات الحنابلة (2/ 126).
(3) الصارم المسلول (573).
(5/297)
محمد بن أحمد النَّابُلْسِي (1) (363 هـ)
أبو بكر محمد بن أحمد بن سهل الرملي ويعرف بابن النابلسي، الإمام القدوة. حدث عن سعيد بن هاشم الطبراني ومحمد بن الحسن بن قتيبة ومحمد ابن أحمد بن شيبان الرملي. روى عنه تمام الرازي، وعبد الوهاب الميداني وعلي بن عمر الحلبي. كان عابداً صالحاً زاهداً قوّالاً بالحق، سلخه صاحب مصر المعز. توفي رحمه الله سنة ثلاث وستين وثلاثمائة.
موقفه من الرافضة:
جاء في السير: قال أبو ذر الحافظ: سجنه بنو عبيد وصلبوه على السنة سمعت الدارقطني يذكره ويبكي ويقول: كان يقول وهو يسلخ: {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)} (2).اهـ (3)
قال أبو الفرج بن الجوزي: أقام جوهر القائد لأبي تميم صاحب مصر أبا بكر النابلسي وكان ينزل الأكواخ فقال له: بلغنا أنك قلت: إذا كان مع الرجل عشرة أسهم، وجب أن يرمي في الروم سهماً وفينا تسعة قال: ما قلت هذا بل قلت: إذا كان معه عشرة أسهم وجب أن يرميكم بتسعة وأن يرمي العاشر فيكم أيضاً، فإنكم غيرتم الملة، وقتلتم الصالحين، وادعيتم نور
_________
(1) الوافي بالوفيات (2/ 44 - 45) والسير (16/ 148 - 150) وشذرات الذهب (3/ 46) والأنساب (5/ 441).
(2) الإسراء الآية (58).
(3) السير (16/ 148).
(5/298)
الإلهية، فشهره ثم ضربه ثم أمر يهودياً فسلخه. (1)
التعليق:
ما أحسن هذه المواقف وما أفقه أصحابها، وأعلمهم بخبث الروافض ومكائدهم للإسلام والمسلمين، لا كدعاة التقارب بين السنة والشيعة بل المباركين للروافض في كل صغيرة وكبيرة بل دعاة لهم. يشيدون بضلالهم ويدافعون عنهم في جرائدهم ومجلاتهم وحواراتهم، ويناظرون عليهم ويدافعون، على أنه من لو قرأ ما كتبناه في هذه المسيرة لتبينت له مواقف علماء المسلمين ضد هؤلاء اليهود عليهم لعائن الله.
موقف السلف من النعمان الباطني العبيدي (363 هـ)
بيان زندقته:
قال الذهبي في سيره: العلامة المارق، قاضي الدولة العبيدية، أبو حنيفة، النعمان بن محمد بن منصور المغربي.
كان مالكياً، فارتد إلى مذهب الباطنية، وصنف له أس الدعوة، ونبذ الدين وراء ظهره، وألف في المناقب والمثالب، ورد على أئمة الدين، وانسلخ من الإسلام، فسحقاً له وبعداً. ونافق الدولة لا بل وافقهم. وكان ملازماً للمعز أبي تميم منشئ القاهرة. وله يد طولى في فنون العلوم والفقه
_________
(1) السير (16/ 148 - 149).
(5/299)
والاختلاف، ونفس طويل في البحث، فكان علمه وبالاً عليه. (1)
موقف السلف من المعز العبيدي المهدوي (365 هـ)
بيان رفضه:
- جاء في السير: وضربت السكة على الدينار بمصر) وهي: لا إله إلا الله محمد رسول الله، علي خير الوصيين (والوجه الآخر اسم المعز والتاريخ. وأعلن الأذان بحي على خير العمل، ونودي: من مات عن بنت وأخ أو أخت فالمال كله للبنت. فهذا رأي هؤلاء. (2)
- وفيها: قيل: إن المنجمين أخبروا المعز أن عليك قطعاً، فأشاروا أن يتخذ سرباً يتوارى فيه سنة ففعل. فلما طالت الغيبة ظن جنده المغاربة أنه رفع، فكان الفارس منهم إذا رأى غمامة، ترجل، ويقول: السلام عليك يا أمير المؤمنين، ثم إنه خرج بعد سنة فخرج فما عاش بعدها إلا يسيراً. (3)
- وفيها: قال الذهبي: ظهر هذا الوقت الرفض، وأبدى صفحته، وشمخ بأنفه في مصر والشام والحجاز والغرب بالدولة العبيدية، وبالعراق والجزيرة والعجم ببني بويه، وكان الخليفة المطيع ضعيف الدست والرتبة مع بني بويه. ثم ضعف بدنه، وأصابه فالج وخرس فعزلوه، وأقاموا ابنه الطائع لله. وله
_________
(1) السير (16/ 150).
(2) السير (15/ 160).
(3) السير (15/ 163).
(5/300)
السكة والخطبة، وقليل من الأمور، فكانت مملكة هذا المعز أعظم وأمكن. وكذلك دولة صاحب الأندلس المستنصر بالله المرواني، كانت موطدة مستقلة كوالده الناصر لدين الله الذي ولي خمسين عاماً. وأعلن الأذان بالشام ومصر بحي على خير العمل. فلله الأمر كله. (1)
- وفيها: وقد جرى على دمشق وغيرها من عساكر المغاربة كل قبيح من القتل والنهب. وفعلوا ما لا يفعله الفرنج. ولولا خوف الإطالة لسقت ما يبكي الأعين. (2)
موقف السلف من النصرآبادي (367 هـ)
بيان زندقته:
جاء في السير: كم من مرة قد ضرب وأهين، وكم حبس فقيل له: إنك تقول: الروح غير مخلوقة، فقال: لا أقول ذا، ولا أقول إنها مخلوقة بل أقول: الروح من أمر ربي، فجهدوا به، فقال: ما أقول إلا ما قال الله. (3)
التعليق:
ما ضرب وأهين إلا من أجل ضلاله وترهاته التي دنس بها علمه وإسلامه، ومن ترهاته الثناء على الذين أجمع أهل العلم على زندقتهم.
_________
(1) السير (15/ 164).
(2) السير (15/ 167).
(3) السير (16/ 264).
(5/301)
- وجاء في السير: وقال الحاكم: وسمعته يقول وعوتب في الروح، فقال: إن كان بعد الصديقين موحد فهو الحلاج. (1)
- ومن ترهاته: قال السلمي: وقيل له: إنك ذهبت إلى الناووس وطفت به وقلت: هذا طوافي فتنقصت بهذا الكعبة قال: لا، ولكنهما مخلوقان، لكن بها فضل ليس هنا، وهذا كمن يكرم كلباً، لأنه خلق الله، فعوتب في ذلك سنين. (2)
التعليق:
ألا يستحق من يقول هذا الضرب والإهانة بل القتل؟ وهل في الزندقة أعظم من هذا؟! مَنْ مِنَ المسلمين يجيز الطواف بغير بيت الله؟! فهذا القائل لا يشك من له علم بعقيدة التوحيد أنه كافر والله المستعان.
بيان تصوفه:
جاء في السير: عن أبي الأسعد بن القشيري قال: ألبسني الخرقة جدي أبو القاسم القشيري ولبسها من الأستاذ أبي علي الدقاق عن أبي القاسم النصرآباذي عن أبي بكر الشبلي عن الجنيد عن سري السقطي عن معروف الكرخي رحمهم الله تعالى.
قال الذهبي: وما بعد معروف فمنقطع، زعموا أنه أخذ عن داود الطائي وصحب حبيباً العجمي وصحب الحسن البصري وصحب علياً رضي
_________
(1) السير (16/ 265).
(2) السير (16/ 264).
(5/302)
الله عنه وصحب النبي - صلى الله عليه وسلم -. (1)
جاء في المقاصد الحسنة: حديث لبس الخرقة الصوفية وكون الحسن البصري لبسها من علي قال ابن دحية وابن الصلاح: إنه باطل، وكذا قال شيخنا -وهو الحافظ ابن حجر- إنه ليس في شيء من طرقها ما يثبت، ولم يرد في خبر صحيح ولا حسن ولا ضعيف، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ألبس الخرقة على الصورة المتعارفة بين الصوفية لأحد من أصحابه، ولا أمر أحداً من أصحابه بفعل ذلك، وكل ما يروى في ذلك صريحاً فباطل، قال: ثم إن من الكذب المفترى قول من قال: إن علياً ألبس الخرقة الحسن البصري، فإن أئمة الحديث لم يثبتوا للحسن من علي سماعاً فضلاً عن أن يلبسه الخرقة ولم يتفرد شيخنا بهذا بل سبقه إليه جماعة حتى من لبسها وألبسها، كالدمياطي والذهبي والهكاري وأبي حيان والعلائي ومغلطاي والعراقي وابن الملقن والأبناسي والبرهان الحلبي وابن ناصر الدين وتكلم عليها في جزء مفرد ... اهـ. (2)
أبو سعيد السِّيرَافي (3) (368 هـ)
الحسن بن عبد الله بن المرزبان أبو سعيد السيرافي. حدث عن أبي بكر ابن دريد، وابن زياد النيسابوري، ومحمد بن أبي الأزهر. حدث عنه الحسين
_________
(1) السير (16/ 266 - 267).
(2) المقاصد الحسنة (ص 331).
(3) السير (16/ 247 - 249) والأنساب (3/ 357) وتاريخ بغداد (7/ 341) والجواهر المضيئة (2/ 66) والوافي بالوفيات (2/ 74) وشذرات الذهب (65 - 66).
(5/303)
ابن محمد بن جعفر الجامع، ومحمد بن عبد الواحد، وعلي بن أيوب القمي.
سكن بغداد وكان من أعيان الحنفية، رأساً في نحو البصريين، وقرأ القرآن على ابن مجاهد. قال عنه الذهبي: وكان ديناً متورعاً، لا يأكل إلا من كسب يده. وكان وافر الجلالة، كثير التلامذة وكان إماماً في العربية.
توفي سنة ثمان وستين وثلاثمائة.
موقفه من المشركين:
قال ابن تيمية: وهذا -أي تعلم اللغة لا تعلم علم المنطق- مما احتج به أبو سعيد السيرافي في مناظرته المشهورة "لمتى" الفيلسوف، لما أخذ "متى" يمدح المنطق ويزعم احتياج العقلاء إليه. ورد عليه أبو سعيد بعدم الحاجة إليه، وأن الحاجة إنما تدعو إلى تعلم العربية، لأن المعاني فطرية عقلية لا تحتاج إلى اصطلاح خاص، بخلاف اللغة المتقدمة التي يحتاج إليها في معرفة ما يجب معرفته من المعاني، فإنه لا بد فيها من التعلم، ولهذا كان تعلم العربية التي يتوقف فهم القرآن والحديث عليها فرضاً على الكفاية بخلاف المنطق. (1)
أبو الشَّيخ (2) (369 هـ)
أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر المعروف بأبي الشيخ، الإمام الحافظ الصادق محدث أصبهان. ولد سنة أربع وسبعين ومائتين. سمع من أبي بكر
_________
(1) الفتاوى (9/ 171) وقد ذكرت المناظرة مختصرة في صون المنطق للسيوطي (190 - 200).
(2) السير (16/ 276 - 280) وتذكرة الحفاظ (3/ 945 - 947) والشذرات (3/ 69) وغاية النهاية (1/ 447) وتاريخ الإسلام (حوادث 351 - 380/ص.418 - 420).
(5/304)
أحمد بن عمرو البزار وأبي يعلى الموصلي وجعفر الفريابي وغيرهم. وروى عنه ابن منده وابن مردويه وأبو نعيم الحافظ.
كان أبو الشيخ من العلماء العاملين، حافظاً عارفاً بالرجال، كثير الحديث، صاحب سنة واتباع. قال أبو بكر الخطيب: كان أبو الشيخ حافظاً ثبتاً متقناً. وقال أبو القاسم السوذرجاني: هو أحد عباد الله الصالحين، ثقة مأمون. يروى عنه أنه قال: ما عملت فيه حديثاً إلا بعد أن استعملته (يعني كتابه ثواب الأعمال).
توفي سنة تسع وستين وثلاثمائة.
موقفه من المبتدعة:
له من الآثار السلفية:
1 - السنة: قال الشيخ رضا في مقدمة دراسته على كتاب العظمة: وهو في حكم المفقود، ويبدو مما ذكره السمعاني أن له كتابين باسم السنة أحدهما: السنة الكبيرة والثاني: السنة الصغيرة المعروفة بالواضحة.
وقد ذكره شيخ الإسلام في غير ما موضع من كتبه، ونقل منه جملة. (1)
2 - العظمة: وهو كتاب في المخلوقات وعجائبها، ذكر منها العرش والاستواء. ونقل منه ابن القيم في اجتماع الجيوش. وقد حقق وطبع والحمد لله.
3 - التفسير: ذكره شيخ الإسلام من ضمن التفاسير السلفية. (2)
_________
(1) الفتاوى الكبرى (5/ 99) والتحبير للسمعاني (1/ 161 - 190 - 351).
(2) انظر درء التعارض (2/ 22).
(5/305)
إبراهيم بن أحمد بن شَاقْلاَ (1) (369 هـ)
أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن عمر، البغدادي البزاز المعروف بابن شاقلا. سمع من دعلج السجزي وأبي بكر الشافعي وابن مالك. وروى عنه أبو حفص العكبري وأحمد بن عثمان الكبشي وعبد العزيز غلام الزجاج وكان رأساً في الأصول والفروع.
قال الخطيب: قال لي أبو يعلى محمد بن الحسين بن الفراء: كان رجلاً جليل القدر حسن الهيئة كثير الرواية حسن الكلام في الفقه، غير أنه لم يطل له العمر.
توفي سنة تسع وستين وثلاثمائة، وله أربع وخمسون سنة.
موقفه من الجهمية:
مناظرته القيمة ودفاعه عن العقيدة السلفية:
جاء في طبقات الحنابلة: قرأت بخط الوالد السعيد قال: نقلت من خط أبي بكر بن شاقلا قال: أخبرنا أبو إسحاق بن شاقلا -قراءة عليه- قال: قلت لأبي سليمان الدمشقي: بلغنا أنك حكيت فضيلة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في ليلة المعراج، وقوله في الخبر «وضع يده بين كتفي فوجدت بردها» فذكر الحديث (2).
_________
(1) تاريخ بغداد (6/ 17) وشذرات الذهب (3/ 68) والسير (16/ 292) وطبقات الحنابلة (2/ 128) والوافي بالوفيات (5/ 310) وتاريخ الإسلام (حوادث 351 - 380/ص.412 - 413).
(2) أخرجه: أحمد (5/ 243) والترمذي (5/ 343 - 344/ 3235) والحاكم (1/ 521) عن معاذ بن جبل رضي الله عنه. وفيه: «فرأيته وضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثديي ... » وليس فيه ذكر ليلة المعراج. وقال الترمذي: "هذا حسن صحيح". سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث، فقال: "هذا حديث حسن صحيح". وقد ورد ذكر «فوضع يده بين كتفي، فوجدت بردها بين ثديي» في حديث ابن عباس وتقدم تخريجه.
(5/306)
فقال لي: هذا إيمان ونية، لأنه أريد مني روايته. وله عندي معنى غير الظاهر قال: وأنا لا أقول مسه.
فقلت له: وكذا تقول في آدم لما خلقه بيده؟
قال: كذا أقول. إن الله عز وجل لا يمس الأشياء.
فقلت له: سويت بين آدم وسواه فأسقطت فضيلته، وقد قال تعالى: {يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (1). قلت له: هذا رويته لأنه أريد منك -على رغمك- وله عندك معنى غير ظاهره، وإلا سلمت الأحاديث التي جاءت في الصفات، ويكون لها معاني غير ظاهرها أو ترد جميعها؟
فقال لي: مثل أي شيء؟
فقلت له: مثل الأصابع والساق، والرجل، والسمع والبصر، وجميع الصفات التي جاءت في الأخبار الصحاح حتى إذا سلمتها كلمناك على ما ادعيته من معانيها التي هي غير ظاهرها.
فقال لي منكرا لقولي: من يقول رجل؟
فقلت: أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (2).
فقال: من عن أبي هريرة؟
فقلت: همام. فقال: من عن همام؟
_________
(1) ص الآية (75).
(2) أخرجه: أحمد (2/ 314) والبخاري (8/ 765/4850) ومسلم (4/ 2186 - 2187/ 2846) [36]) كلهم من طريق عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة.
(5/307)
فقلت: معمر. فقال: من عن معمر؟
فقلت: عبد الرزاق. فقال لي: من عن عبد الرزاق؟
فقلت له: أحمد بن حنبل. فقال لي؟ عبد الرزاق كان رافضياً.
فقلت له: من ذكر هذا عن عبد الرزاق؟ فقال لي: يحيى بن معين.
فقلت له: هذا تخرص على يحيى، إنما قال يحيى: كان يتشيع، ولم يقل رافضياً. فقال لي: الأعرج عن أبي هريرة بخلاف ما قاله همام.
قلت له: كيف؟ قال: لأن الأعرج قال: «يضع قدمه».
فقلت له: ليس هذا ضد ما رواه همام. وإنما قال هذا «قدم» (1) وقال هذا «رجل» وكلاهما واحد. ويحتمل أن يكون أبو هريرة سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - مرتين. وحدث به أبو هريرة مرتين فسمع الأعرج منه في إحدى المرتين ذكر «القدم» وسمع منه همام ذكر «الرجل» فقال لي: همام غلط.
فقلت له: هذا قول من لا يدري.
ثم قال لي: والأصابع في حديث ابن مسعود تقول به؟
فقلت له: حديث ابن مسعود صحيح من جهة النقل. ورواه الناس ورواه الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله. فقال لي: هذا قاله اليهودي.
فقلت له: لم ينكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوله، قد ضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت نواجذه تصديقاً لقوله. فأنكر أن يكون هذا اللفظ مروياً من أخبار ابن مسعود.
فقلت له: بلى، هذا رواه منصور والأعمش جميعاً عن إبراهيم عن أبي عبيدة «أن يهودياً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا محمد، إن الله عز وجل يمسك
_________
(1) أخرجه البخاري (13/ 533/7449) ومسلم (4/ 2186/2846 (35)).
(5/308)
السماوات على إصبع والأرضين على إصبع، والجبال على إصبع، والخلائق على إصبع، والشجر على إصبع -وروي: والثرى على إصبع- ثم يقول: أنا الملك. فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، تصديقاً لما قال الحبر» (1) هكذا رواه الثوري والفضيل بن عياض. فقال لي: قد نزل القرآن بالتكذيب لا بالتصديق. فقال الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} (2).
فقلت له: قد نزل القرآن بالتصديق لا بالتكذيب بدلالة قوله تعالى في سياق الآية: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (3) ثم نزه نفسه عز وجل عما يشرك به من كذب بصفاته فقال: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)} (4) وقوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} لا يمنع من إثبات الأصابع صفة له، كما ثبتت صفاته التي لا أختلف أنا وأنت فيها ومع هذا: فما قدروا الله حق قدره كذلك أيضاً نثبت الأصابع صفة لذاته تبارك وتعالى {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} فلما رأى ما لزمه قال: هذا ظن من ابن مسعود أخطأ فيه.
فقلت له: هذا قول من يروم هدم الإسلام والطعن على الشرع، لأن
_________
(1) انظر تخريجه في مواقف وكيع بن الجراح سنة (196هـ).
(2) الزمر الآية (67).
(3) الزمر الآية (67).
(4) الزمر الآية (67).
(5/309)
من زعم أن ابن مسعود ظن ولم يستيقن، فحكى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - على ظنه فقد جعل إلى هدم الإسلام مقالته هذه، بأن يتجاهل أهل الزيغ فيتهجم على كل خبر جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يوافق مذهبهم فيسقطونه، بأن يقولوا: هذا ظن من الصحابة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ لا فرق بين ابن مسعود وسائر الصحابة رضي الله عنهم. وهذا ضد ما أجمع عليه المسلمون، وقد أكذب القرآن مقالة هذا القائل في الآية التي شهد فيها لابن مسعود بالصدق في جملة الصحابة.
ثم قلت له: والأصابع قد رواها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضاً أصحابه منهم أنس ابن مالك في حديث الأعمش عن أبي سفيان عن أنس رضي الله عنه قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقول: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك قال قلنا: يا رسول الله آمنا بك وبما جئت به. فهل تخاف علينا؟ قال: نعم إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله عز وجل يقلبها» (1). ثم قال لي: تروي حديث أبي هريرة «خلق آدم على صورته» (2) ويومئ إلى أنه مخلوق على صورة آدم.
فقلت له: قال أحمد بن حنبل: من قال إن آدم خلقه الله عز وجل على صورة آدم فهو جهمي وأي صورة كانت لآدم قبل خلقه؟ فقال لي: قد جاء الحديث عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله خلق آدم على صورة آدم».
فقلت له: هذا كذب على النبي - صلى الله عليه وسلم -. فقال لي: بلى، قد جاء في الحديث «طوله ستون ذراعاً» على أنه آدم.
_________
(1) انظر تخريجه في مواقف بشر بن الحارث سنة (227هـ).
(2) انظر تخريجه في مواقف البربهاري سنة (329هـ).
(5/310)
فقلت له: قد رد هذا، وليس هو الذي ادعيت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأنك قلت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله خلق آدم على صورة آدم» ثم استدللت بقوله: «ستون ذراعاً» على أنه آدم وهذا خبر جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجهين:
فأبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «إن الله خلق آدم على صورته». وروى جرير عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن عطاء عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تقبحوا الوجوه، فإن الله خلق آدم على صورة الرحمن» (1)
قال أبو إسحاق: وهذا الحديث يذكر عن إسحاق بن راهويه: أنه صحيح مرفوع، وأما أحمد بن حنبل فذكر أن الثوري
_________
(1) أخرجه: ابن أبي عاصم (1/ 228 - 229/ 517) وابن خزيمة في التوحيد (1/ 85/47) والطبراني في الكبير (12/ 430/13580) والآجري في الشريعة (2/ 107/770) والحاكم (2/ 319) وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، اللالكائي (3/ 470/716) والبيهقي في الأسماء والصفات (2/ 64/640) كلهم من طرق عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن عطاء عن ابن عمر به.
وفي الحديث ثلاث علل ذكرها ابن خزيمة رحمه الله تعالى:
- إحداهن: أن الثوري قد خالف الأعمش في إسناده فأرسل الثوري ولم يقل عن ابن عمر.
- والثانية: أن الأعمش مدلس، لم يذكر أنه سمع من حبيب بن أبي ثابت.
- والثالثة: أن حبيب بن أبي ثابت أيضاً مدلس، لم يعلم أنه سمع من عطاء، سمعت إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد يقول: ثنا أبو بكر بن عياش عن الأعمش قال: قال حبيب بن أبي ثابت: لو حدثني رجل عنك بحديث لم أبال أن أرويه عنك، يريد لم أبال أن أدلسه.
وزاد الشيخ الألباني رحمه الله علة رابعة فقال في الضعيفة (3/ 317): "قلت: والعلة الرابعة: هي جرير بن عبد الحميد فإنه وإن كان ثقة كما تقدم فقد ذكر الذهبي في ترجمته من الميزان أن البيهقي ذكر في سننه في ثلاثين حديثا لجرير ابن عبد الحميد قال: "قد نسب في آخر عمره إلى سوء الحفظ" قلت: وإن مما يؤكد ذلك أنه رواه مرة عند ابن أبي عاصم (رقم 518) بلفظ "على صورته" لم يذكر "الرحمن" وهذا الصحيح المحفوظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من الطرق الصحيحة عن أبي هريرة، والمشار إليها آنفاً. وإذا عرفت هذا فلا فائدة كبرى من قول الهيثمي في المجمع (8/ 106): "رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير إسحاق بن إسماعيل الطالقاني وهو ثقة، وفيه ضعف". وكذلك من قول الحافظ في الفتح (5/ 139): "أخرجه ابن أبي عاصم في "السنة" والطبراني من حديث ابن عمر بإسناد رجاله ثقات. اهـ
(5/311)
أوقفه على ابن عمر. فكلاهما الحجة فيه على من خالفه فإن كان رفعه صحيحاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد سقط العذر، وإن كان ابن عمر القائل له فقد اندحض بقول ابن عمر تأويل من حمل قوله «على صورته». قال أبو إسحاق: وهذا لم يجر بيني وبينه وإنما بينته لأصحابي ليفهموه.
ثم قلت له: قوله «خلق آدم على صورته» لا يتأول لآدم على صورة آدم لما قاله أحمد: وأي صورة كانت لآدم قبل خلقه؟ فقد فسد تأويلك من هذا الوجه. وفسد أيضاً بقول ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله خلق آدم على صور الرحمن تبارك وتعالى».
وأما الاستدلال بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «طوله ستون ذراعاً» فإن كانت هذه اللفظة محفوظة فكان قوله «خلق آدم على صورته» فتم الكلام. ثم قال: «طوله ستون ذراعاً» إخباراً عن آدم بذلك، على حديث الثوري عن أبي الزناد عن موسى بن أبي عثمان عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن الله عز وجل خلق آدم على صورته» ذكرت بدلالة حديث ابن عمر رضي الله عنهما وما ذكرته عن أحمد، فقال لي جواباً عن حديث أنس: «إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبها» إنما هما نعمتان.
فقلت له: هذا الخبر يقول: إن الإصبعين نعمتان؟ واليدين صفة للذات. ولم يتقدمك بهذا أحد إلا عبد الله بن كلاب القطان، الذي انتحلت مذهبه ولا عبرة في التسليم للأصابع والتأويل لها على ما ذكرت أن القلوب بين نعمتين من نعم الله عز وجل. ثم قال لي: وهذا مثل روايتكم عن ابن مسعود في قوله عز وجل يوم يكشف عن ساق أن الله عز وجل يكشف عن ساقه يوم القيامة؟
(5/312)
فقلت له: هذا رواه ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. فأنكره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: هذا من كلام ابن مسعود. وقد روي عن ابن عباس أنه قال: «الشدة». (1)
فقلت له: إنما نذكر ما جاء عن الصحابة إذا لم نجد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لي: تحفظه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؟
قلت: نعم، هذا رواه المنهال بن عمرو عن أبي عبيدة بن عبد الله عن مسروق بن الأجدع حدثنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يجمع الله الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم، وينزل الله عز وجل في ظلل من الغمام -وذكر الحديث بطوله- وقال فيه: فيأتيهم الله تبارك وتعالى فيقول لهم: ما لكم لا تنطلقون كما انطلق الناس؟ فيقولون: لنا إله. فيقول: هل تعرفونه إن رأيتموه؟ فيقولون: نعم، بيننا وبينه علامة، إن رأيناها عرفناه قال: فيقول: ما هي؟ فيقولون: يكشف عن ساقه. قال: فعند ذلك يكشف عن ساقه قال: فيخر من كان بظهره طبق ويبقى قوم ظهورهم كأنها صياصي البقر، يريدون السجود فلا يستطيعون. وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون». في حديث فيه طول (2)،
وقد روي
_________
(1) رواه ابن جرير (29/ 38) والحاكم (2/ 499 - 500) وقال: "صحيح الإسناد" ووافقه الذهبي ومن طريقه البيهقي في الأسماء والصفات (2/ 183 - 185) عن ابن عباس.
(2) أخرجه: عبد الله بن أحمد في السنة (ص.206 - 209) والطبراني في الكبير (9/ 357 - 361/ 9763) والبيهقي في البعث والنشور (314 - 316/ 657) والحاكم (4/ 589 - 592) وقال: "رواة هذا الحديث عن آخرهم ثقات غير أنهما لم يخرجا أبا خالد الدالاني في الصحيحين لما ذكر من انحرافه عن السنة في ذكر الصحابة، فأما الأئمة المتقدمون فكلهم شهدوا لأبي خالد بالصدق والإتقان، والحديث صحيح ولم يخرجاه، وأبو خالد الدالاني ممن يجمع حديثه في أئمة أهل الكوفة". وتعقبه الذهبي بقوله: "ما أنكره حديثا على جودة إسناده، وأبو خالد شيعي منحرف".
ثم إن الذهبي رحمه الله قد صححه كما في الأربعين في صفات رب العالمين (ص.121) بقوله: "وهو حديث صحيح".
وأورده الهيثمي في المجمع (10/ 340 - 343) وقال رواه كله الطبراني من طرق، ورجال أحدها رجال الصحيح، غير أبي خالد الدالاني وهو ثقة". وقال الحافظ في المطالب (4/ 365 - 367): "هذا إسناد صحيح متصل رجاله ثقات".
(5/313)
أيضاً من طريق أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
فقال: أبو هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري؟ فقلت له: هذا في صحيح البخاري فليس من شرطه أبو هارون العبدي لضعفه عنده، وعند أئمة أهل العلم ولم يحضرني إسناده في وقت كلامي له. وأخرجته من صحيح البخاري كما ذكرته -وساقه بسنده- إلى أبي سعيد الخدري قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يكشف ربنا تبارك وتعالى عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة ويبقى من كان يسجد له في الدنيا رياء وسمعة فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً» (1) ثم قال لي: وتقول بحديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «رأيت ربي» (2)؟ فقلت له: رواه حماد بن سلمة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. فقال لي: حماد بن سلمة ضعيف فقلت: من ضعفه؟ فقال لي: يحيى القطان. وقلت له: هذا تخرص على يحيى، لم يقل يحيى هذا، وإلا فمن حدثك؟ فلم يقل من حدثه. وقال لي: أيما أثبت عندك؟ حماد بن سلمة أو سماك؟ قلت: حماد بن سلمة أثبت وسماك مضطرب الحديث. فنازعني في هذا. والذي أجبته به بأن حماد بن سلمة ثقة وسماك مضطرب الحديث هو جواب أحمد فيهما، ولم أدر ما أراد بسماك؟ وخرجنا من ذلك ولم أسأله.
ثم قلت له: هذه الأحاديث تلقاها العلماء بالقبول. فليس لأحد أن يمنعها ولا يتأولها ولا يسقطها. لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لو كان لها معنى عنده غير ظاهرها لبينه. ولكان الصحابة -حين سمعوا ذلك من الرسول - صلى الله عليه وسلم - سألوه عن معنى غير
_________
(1) أخرجه: أحمد (3/ 16 - 17) والبخاري (13/ 517 - 519/ 7439) ومسلم (1/ 167 - 171/ 183).
(2) انظر تخريجه في مواقف البربهاري سنة (329هـ).
(5/314)
ظاهرها. فلما سكتوا وجب علينا أن نسكت حيث سكتوا ونقبل طوعاً ما قبلوا.
فقال لي: أنتم المشبهة. فقلت: حاشا لله، المشبه الذي يقول: وجه كوجهي ويد كيدي. فأما نحن فنقول: له وجه كما أثبت لنفسه وجهاً. وله يد كما أثبت لنفسه يداً. وليس كمثله شيء وهو السميع البصير. ومن قال هذا فقد سلم ثم قلت له: أنت مذهبك أن كلام الله عز وجل ليس بأمر ولا نهي ولا متشابه ولا ناسخ ولا منسوخ ولا كلامه مسمع. لأن عندك الله عز وجل لا يتكلم بصوت، وأن موسى لم يسمع كلام الله عز وجل بسمعه. وإنما خلق الله عز وجل في موسى فهماً فهم به. فلما رأى ما عليه في هذا من الشناعة قال: فلعلي أخالف ابن كلاب القطان في هذه المسألة من سائر مذهبه.
ثم قلت له: ومن خالف الأخبار التي نقلها العدل عن العدل موصولة بلا قطع في سندها ولا جرح في ناقليها، وتجرأ على ردها، فقد تهجم على رد الإسلام لأن الإسلام وأحكامه منقولة إلينا بمثل ما ذكرت.
فقال لي: الأخبار لا توجب عندي علما. فقلت له: يلزمك على قود مقالتك: أنك لو سمعت أبا بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعداً وسعيداً وعبد الرحمن بن عوف وأبا عبيدة بن الجراح يقولون: سمعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول كذا وكذا أنك لا تعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال من ذلك شيئاً، لقولهم سمعنا فلم ينكر من ذلك شيئاً غير الشناعة.
ثم قال لي: أخبار الآحاد في الصفات اغسلها، وهي عندي والتراب سواء، ولا أقول منها إلا بما قام في العقل تصديقه. قلت له: فلم أتعبت نفسك في كتبها وسعيت إلى الشيوخ فيها، وأنصبت نفسك وأتعبتها،
(5/315)
وأسهرت ليلك بما لا تدين الله عز وجل به، ولا تزداد به علماً؟ فأجابني بأن قال: كتبته حتى أتمم به الأبواب إذا أردت تخريجها. فقلت له: تخرج للمسلمين ما لا تدين به؟ فقال نعم لأعرفه فقلت له: تُعنِّي المسلمين على قود مقالتك والحق في غير ما ذكرت؟ ثم قلت له خرقت الإجماع لأن الأمة بأسرها، اتفقت على نقلها، ولم يكن نقل ذلك عبثاً ولا لعباً، ولو كان نقلهم لها كترك نقلهم لها لكانوا عابثين وحاشا لله من ذلك. ومن كانت هذه مقالته فقد دخل تحت الوعيد في قوله عز وجل: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)} (1).
ولما كانت أخبار الآحاد في الصفات لا توجب عملاً دلّ على أنها موجبة للعلم، فسقط بهذا ما ادعاه من لم ينتفع بعلمه، وتهجم على إسقاط كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - بنقل العدل عن العدل موصولاً إليه، برأيه وظنه.
ثم ذكرت حساب الكفار فقال لي: قد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الكافر ليحاسب حتى يقول: أرحني ولو إلى النار» (2)
فهلا قلت به؟ فقلت له: ليس
_________
(1) النساء الآية (115).
(2) أخرجه: أبو يعلى (8/ 398/4982) وعنه ابن حبان (16/ 330/7335) والطبراني (10/ 99 - 100/ 10083) من طريق شريك عن أبي الأحوص عن عبد الله مرفوعاً. وفي إسناده شريك وهو سيئ الحفظ وهو متأخر السماع من أبي إسحاق السبيعي، وهذا الأخير اختلط بآخره. وتابعه إبراهيم بن المهاجر البجلي عن أبي الأحوص به. رواه الطبراني في الكبير (10/ 107/10112) وفي الأوسط (5/ 292/4576). وإبراهيم بن المهاجر قال فيه ابن حجر: "صدوق لين الحفظ".
والحديث ذكره الهيثمي في المجمع (10/ 336) وقال: "رجال الكبير رجال الصحيح وفي رجال الأوسط محمد بن إسحاق وهو ثقة لكنه مدلس".
(5/316)
يحل ما روي صحيحاً أو سقيماً أن نقول به. وإنما تعبدنا بالصحيح دون السقيم. والصحيح معلوم عند أهل النقل بعدالة ناقليه، متصلاً إلى المخبر عنه، والسقيم معلوم بجرح ناقليه وهذا الخبر الذي رويته ورواه إبراهيم بن مهاجر ابن مسمار - يعني: وهو متروك الحديث ضعيف عند أهل العلم، وليس مثل هذا مما تقوم به حجة.
فقال لي: فأي شيء معك في أنهم لا يحاسبون؟ فقلت له: إن شئت من كتاب الله وإن شئت من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن شئت من قول صحابته رضي الله عنهم. فقال لي منكراً لقولي في الصحابة من قال هذا؟ فقلت: نعم. قرأت على أبي عيسى إلى أن ذكر الحديث: «من حوسب دخل الجنة».
يقول الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9)} (1) ويقول للآخرين يعني الكفار: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39)} (2) {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41)} (3).
فقال لي: قد سمعت هذا الحديث من أبي علي الصواف، فساق سنده إلى عائشة بمثل معناه يعني «من حوسب دخل الجنة» فقال لي: هو المسلم المجرم. فقلت له: جمعت بين ما فرق الله عز وجل، لأن الله عز وجل يقول:
_________
(1) الانشقاق الآيات (7 - 9).
(2) الرحمن الآية (39).
(3) الرحمن الآية (41).
(5/317)
{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)} (1).
قال أبو إسحاق: وكان عندنا أن أبا سليمان يقول: إن الكافر والمؤمن يحاسبان. فعلى قوله: إن المؤمن لا يحاسب وإن الكافر يحاسب. وهذه عصبية للكافر، خرج بها عن جملة أهل العلم. قلت له: أنت تتكلم على المسلمين فتحشو أسماعهم بكلام الكلبي الكذاب فيما يخبر عن مراد الله تعالى عن الأمم الخالية، التي لم يشاهدها، ولا يكون عندك هذيان. ثم تجيء إلى مثل حديث إبراهيم النخعي عن علقمة عن عبد الله -حديث الخبر- فتقول هذا هذيان. وهذا قول من تقلده خرج عندي من الدين وسلك غير طريق المسلمين.
وهذا ما جرى بيننا إلا ما أخللت به فلم أتيقن حفظه، والله سبحانه الموفق لإدراك الصواب. (2)
التعليق:
من قرأ هذه المناظرة المباركة علم قوة السلفيين، وحفظهم لميراث الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام، وعلم خبث المبتدعة وضعفهم العلمي وتلاعبهم بدين الله على حسب أهوائهم. وعلم ما علق به المبتدع المسمى عبد الله بن الصديق على كتاب التمهيد لابن عبد البر الجزء السابع على حديث أبي هريرة رضي الله عنه في النزول «ينزل ربنا ... » الحديث (3) الذي نجسه بتعاليقه الباردة الممقوتة، ينقل أقوال المبتدعة في أحاديث الصفات،
_________
(1) القلم الآيتان (35و36).
(2) طبقات الحنابلة (2/ 128 - 138).
(3) انظر تخريجه في مواقف حماد بن سلمة سنة (167هـ).
(5/318)
ويجتر ما قاله المبتدعة قبله. وهذه المناظرة تكفي في الرد عليه وعلى أمثاله ممن يريدون إحياء مذهب ابن صفوان الترمذي بين المسلمين، والله المستعان. ويكفي المسلمين شره وشر أمثاله من المبتدعة.
بشر بن أحمد الإِسْفَرَاييني (1) (370 هـ)
بشر بن أحمد بن بشر بن محمود الإسفراييني أبو سهل الإمام المحدث الثقة الجوال مسند وقته وأحد الموصوفين بالشهامة والشجاعة. سمع إبراهيم ابن علي الذهلي ومحمد بن محمد بن رجاء وأحمد بن سهل وغيرهم. وعمر وأملى مدة حدث عنه الحاكم والعلاء بن محمد ومحمد بن حميم الفقيه وغيرهم.
توفي في شوال سنة سبعين وثلاثمائة. وقد عاش نيفاً وتسعين سنة.
موقفه من الجهمية:
جاء في ذم الكلام: عن الأشعث قال: قال رجل لبشر بن أحمد الإسفرايني: إنما أتعلم الكلام لأعرف به الدين. فغضب. وسمعته قال: أو كان السلف من علمائنا كفاراً. (2)
_________
(1) السير (16/ 228 - 229) وتاريخ الإسلام (حوادث 351 - 380/ص.436) والنجوم الزاهرة (4/ 139) والعبر (1/ 371) وشذرات الذهب (3/ 71).
(2) ذم الكلام (276).
(5/319)
موقف السلف من أبي بكر الرازي المعتزلي (370 هـ)
بيان اعتزاله:
جاء في السير: وقيل كان ميله إلى الاعتزال في مصنفاته: وقيل كان يميل إلى الاعتزال، وفي تواليفه ما يدل على ذلك في رؤية الله وغيرها، نسأل الله السلامة. (1)
الإسماعيلي (2) (371 هـ)
أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن العباس أبو بكر، الإمام الحافظ الحجة الفقيه، شيخ الإسلام الإسماعيلي، ولد سنة سبع وسبعين ومائتين. وكتب الحديث بخطه وهو صبي مميز. روى عن إبراهيم بن زهير الحلواني، وحمزة بن محمد الكاتب، ويوسف بن يعقوب القاضي، وعدة. حدث عنه الحاكم، وأبو بكر البرقاني، وحمزة السهمي، وخلق سواهم. وصنف تصانيف تشهد له بالإمامة في الفقه والحديث، فهو الحبر الإمام الجامع. قال الحاكم: كان الإسماعيلي واحد عصره، وشيخ المحدثين والفقهاء، وأجلهم في الرئاسة والمروءة والسخاء، ولا خلاف بين العلماء من الفريقين وعقلائهم في أبي بكر. وكان مقدما في جميع المجالس. كان إذا حضر مجلساً لا يقرأ غيره لجودة قراءته.
_________
(1) السير (16/ 341).
(2) السير (16/ 292 - 296) والمنتظم (14/ 281 - 282) والعبر (1/ 373) والوافي بالوفيات (6/ 213) والبداية والنهاية (11/ 317 - 318) وشذرات الذهب (3/ 75).
(5/320)
مات في غرة رجب سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة.
موقفه من المبتدعة:
جاء في كتاب اعتقاد أئمة الحديث (1): ويرون مجانبة البدعة والآثام، والفخر، والتكبر، والعجب، والخيانة، والدغل، والسعاية، ويرون كف الأذى وترك الغيبة إلا لمن أظهر بدعة وهوى يدعو إليها، فالقول فيه ليس بغيبة عندهم.
موقفه من الجهمية:
له من الآثار السلفية:
'اعتقاد أئمة الحديث': ذكر الذهبي أوله في السير: أخبرنا إسماعيل بن عبد الرحمن بن الفراء أخبرنا الشيخ موفق الدين عبد الله، أخبرنا مسعود بن عبد الواحد، أخبرنا صاعد بن سيار، أخبرنا علي بن محمد الجرجاني، أخبرنا حمزة بن يوسف أخبرنا أبو بكر الإسماعيلي قال: اعلموا -رحمكم الله- أن مذاهب أهل الحديث: الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله وقبول ما نطق به كتاب الله وما صحت به الرواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا معدل عن ذلك. ويعتقدون بأن الله مدعو بأسمائه الحسنى وموصوف بصفاته التي وصف بها نفسه ووصفه بها نبيه. خلق آدم بيده ويداه مبسوطتان بلا اعتقاد كيف. واستوى على العرش بلا كيف. وذكر سائر الاعتقاد. (2)
_________
(1) (ص.78).
(2) السير (16/ 295) انظر كتاب الاعتقاد (ص.49) فما بعدها.
(5/321)
موقفه من المرجئة:
- قال في اعتقاد أئمة الحديث: ويقولون إن الإيمان قول وعمل ومعرفة يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، من كثرت طاعته أزيد إيمان ممن هو دونه في الطاعة. (1)
- وقال أيضاً: وقال كثير من أهل السنة والجماعة: إن الإيمان قول وعمل، والإسلام فعل ما فرض على الإنسان أن يفعله إذا ذكر كل اسم على حدته مضموماً إلى الآخر فقيل: المؤمنون والمسلمون جميعاً مفردين أريد بأحدهما معنى لم يرد بالآخر وإن ذكر أحد الاسمين شمل الكل وعمّهم.
وكثير منهم قالوا: الإسلام والإيمان واحد.
قال الله عز وجل: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} (2).
فلو أن الإيمان غيرُه لم يُقبل، وقال: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36)} (3)، ومنهم من ذهب إلى أن الإسلام مختصّ بالاستسلام لله والخضوع له والانقياد لحكمه فيما هو مؤمن به، كما قال: {* قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} (4)، وقال:
_________
(1) اعتقاد أئمة الحديث (ص.63 - 64).
(2) آل عمران الآية (85).
(3) الذاريات الآيتان (35و36).
(4) الحجرات الآية (14).
(5/322)
{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} (1). وهذا أيضاً دليل لمن قال هما واحد. (2)
موقفه من القدرية:
قال رحمه الله -وهو يقرر عقيدة أهل الحديث-: ويقولون ما يقوله المسلمون بأسرهم: (وما شاء الله كان وما لا يشاء لا يكون)، كما قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (3).
ويقولون لا سبيل لأحد أن يخرج عن علم الله ولا أن يغلب فعله وإرادته مشيئة الله ولا أن يبدل علم الله فإنه العالم لا يجهل ولا يسهو والقادر لا يغلب. (4)
وقال: ويقولون إنه لا خالق على الحقيقة إلا الله عز وجل، وأن أكساب العباد كلها مخلوقة لله، وأن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء، لا حجة لمن أضله الله عز وجل، ولا عذر كما قاله الله عز وجل: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (5) وقال: {كَمَا بَدَأَكُمْ
_________
(1) الحجرات الآية (17).
(2) اعتقاد أئمة الحديث (ص.67 - 68). وأورده ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/ 106).
(3) التكوير الآية (29).
(4) اعتقاد أئمة الحديث (ص.57).
(5) الأنعام الآية (149).
(5/323)
تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} (1)، وقال: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} (2) وقال: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} (3)، ومعنى: {نبرأها} أي نخلقها وبلا خلاف في اللغة، وقال مخبراً عن أهل الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} (4) وقال: {أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} (5)، وقال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} (6).
ويقولون إن الخير والشر والحلو والمر، بقضاء من الله عز وجل، أمضاه وقدره لا يملكون لأنفسهم ضرّاً ولا نفعاً إلا ما شاء الله، وإنهم فقراء إلى الله عز وجل لا غنى لهم عنه في كل وقت. (7)
_________
(1) الأعراف الآيتان (29و30).
(2) الأعراف الآية (179).
(3) الحديد الآية (22).
(4) الأعراف الآية (43).
(5) الرعد الآية (31).
(6) هود الآيتان (118و119).
(7) اعتقاد أئمة الحديث (ص.60 - 62).
(5/324)
يونس بن سليمان السقاء (1) (371 هـ)
يونس بن سليمان السقاء القيرواني. كان لسان أهل السنة في الرد على المخالفين من أهل البدع، فصيح اللسان حلو المناظرة. توفي سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة.
موقفه من المبتدعة:
جاء في معالم الإيمان: كان لسان أهل السنة في الرد على المخالفين من أهل البدع، فصيح اللسان حلو المناظرة. (2)
عبد الله بن إسحاق بن التَبَّان (3) (371 هـ)
عبد الله بن إسحاق بن التبان، أبو محمد القيرواني المالكي. ولد سنة إحدى عشرة وثلاثمائة. كان من العلماء الراسخين والفقهاء المبرزين، ضربت إليه أكباد الإبل من الأمصار لعلمه بالذب عن مذهب أهل السنة. وكان من أشد الناس عداوة لبني عبيد. وله مناظرات معهم ومع غيرهم من المبتدعة، ذكر بعضها صاحب معالم الإيمان في معرفة أهل القيروان. توفي سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة.
_________
(1) معالم الإيمان (3/ 98).
(2) معالم الإيمان (3/ 98).
(3) معالم الإيمان (3/ 88) والسير (16/ 319) وشجرة النور الزكية (1/ 95) والوافي بالوفيات (17/ 66) وشذرات الذهب (3/ 76).
(5/325)
موقفه من المبتدعة:
ذكر أبو محمد بالمنستير (1) كراهة مالك بن أنس الاجتماع على قراءة القرآن وأن ذلك بدعة، فقال له رجل: كيف تقول إن قراءة القرآن بدعة؟ فقال: لم أقل هذا، فخرج الرجل وصاح: إن ابن التبان قال إن قراءة القرآن بدعة، فزحف الناس من كل جهة منكرين هذا وأتوا حجرته، فبين لهم فمنهم من فهم ومنهم من لم يفهم، ثم حول أبو محمد وجهه للذي شنع عليه وقال له: أفجعت قلبي أفجع الله قلبك أفجعك الله بنفسك وولدك ومالك، فأجيبت دعوة الشيخ فيه.
قال أبو زيد الدباغ: وفي دعائه بأن يفجعه في نفسه وولده نظر لأنه -أي الابن- لم يظلمه وإنما يدعى على الظالم وحده. (2)
أبو عبد الله بن خفيف الشيرازي الصوفي (371 هـ)
بيان تصوفه:
ساير الصوفية في مجاهداتهم ورياضاتهم غير الشرعية وضيق على نفسه بشدة الجوع والعطش، وهذا غلو وإفراط في التعبد ما أنزل الله به من سلطان ومع ذلك فقد رد على المتصوفة لعزوفهم عن العلم والتعلم.
جاء في السير: قال ابن باكويه: نظر أبو عبد الله بن خفيف يوماً إلى ابن مكتوم وجماعة يكتبون شيئاً، فقال: ما هذا؟ قالوا: نكتب كذا وكذا،
_________
(1) المنستير: اسم موضع بإفريقية (تونس حاليا).
(2) معالم الإيمان (3/ 95).
(5/326)
قال: اشتغلوا بتعلم شيء، ولا يغرنكم كلام الصوفية، فإني كنت أخبئ محبرتي في جيب مرقعي، والورق في حجزة سراويلي، وأذهب في الخفية إلى أهل العلم، فإذا علموا به خاصموني، وقالوا: لا يفلح، ثم احتاجوا إلي. (1)
موقفه من المبتدعة والرافضة والجهمية والخوارج والمرجئة والقدرية:
معتقده:
قال الإمام أبو عبد الله محمد بن خفيف في كتابه الذي سماه 'اعتقاد التوحيد بإثبات الأسماء والصفات' قال في آخر خطبته: فاتفقت أقوال المهاجرين والأنصار في توحيد الله عز وجل، ومعرفة أسمائه وصفاته وقضائه، قولاً واحداً وشرعاً ظاهراً، وهم الذين نقلوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك حتى قال: «عليكم بسنتي» (2) وذكر الحديث. وحديث «لعن الله من أحدث حدثاً» (3) قال: فكانت كلمة الصحابة على الاتفاق من غير اختلاف -وهم الذين أمرنا بالأخذ عنهم إذ لم يختلفوا بحمد الله تعالى في أحكام التوحيد وأصول الدين من الأسماء والصفات كما اختلفوا في الفروع، ولو كان منهم في ذلك اختلاف منهم لنقل إلينا، كما نقل سائر الاختلاف- فاستقر صحة
_________
(1) السير (16/ 346).
(2) أخرجه: أحمد (4/ 126) وأبو داود (5/ 13/4607) والترمذي (5/ 43/2676) وقال: "حسن صحيح". وابن ماجه (1/ 16/43) والحاكم (1/ 95 - 96) وقال: "صحيح ليس له علة" ووافقه الذهبي.
(3) أخرجه: أحمد (1/ 119) مختصراً، والبخاري (13/ 341 - 342/ 7300) ومسلم (2/ 1147/1370) وأبو داود (2/ 529 - 530/ 2034) والترمذي (4/ 381 - 382/ 2127) والنسائي (8/ 387 - 388/ 4748) وابن ماجه (2/ 887/2658) مختصراً.
(5/327)
ذلك عند خاصتهم وعامتهم، حتى أدوا ذلك إلى التابعين لهم بإحسان، فاستقر صحة ذلك عند العلماء المعروفين، حتى نقلوا ذلك قرناً بعد قرن، لأن الاختلاف كان عندهم في الأصل كفر، ولله المنة.
ثم إني قائل -وبالله أقول- إنه لما اختلفوا في أحكام التوحيد وذكر الأسماء والصفات على خلاف منهج المتقدمين، من الصحابة والتابعين، فخاضوا في ذلك من لم يعرفوا بعلم الآثار، ولم يعقلوا قولهم بذكر الأخبار، وصار معولهم على أحكام هوى حسن النفس المستخرجة من سوء الظن به، على مخالفة السنة والتعلق منهم بآيات لم يسعدهم فيها ما وافق النفوس، فتأولوا على ما وافق هواهم وصححوا بذلك مذهبهم احتجت إلى الكشف عن صفة المتقدمين، ومأخذ المؤمنين، ومنهاج الأولين، خوفاً من الوقوع في جملة أقاويلهم التي حذر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمته ومنع المستجيبين له حتى حذرهم. ثم ذكر أبو عبد الله خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم يتنازعون في القدر وغضبه (1)، وحديث «لا ألفين أحدكم» (2) وحديث «ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة» (3) فإن الناجية ما كان عليه هو وأصحابه، ثم قال: فلزم الأمة قاطبة معرفة ما كان عليه الصحابة، ولم يكن الوصول إليه إلا من جهة
_________
(1) أخرجه: أحمد (2/ 195 - 196) وابن ماجه (1/ 33/85) قال البوصيري في الزوائد (1/ 53): "هذا إسناد صحيح رجاله ثقات من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص".
(2) أخرجه: أحمد (6/ 8) وأبو داود (5/ 12/4605) والترمذي (5/ 36/2663) وقال: "حديث حسن صحيح". وابن ماجه (1/ 6 - 7/ 13) عن أبي رافع.
(3) أخرجه الترمذي (5/ 26/2641) والحاكم (1/ 128 - 129) من طريق عبد الرحمن بن زياد عن عبد الله بن يزيد عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً. وفيه عبد الرحمن بن زياد الإفريقي، قال فيه الحافظ: ضعيف في حفظه، ولكن للحديث شواهد، كشاهد أبي هريرة ومعاوية وغيرهما.
(5/328)
التابعين لهم بإحسان، المعروفين بنقل الأخبار ممن لا يقبل المذاهب المحدثة، فيتصل ذلك قرناً بعد قرن ممن عرفوا بالعدالة والأمانة الحافظين على الأمة ما لهم وما عليهم من إثبات السنة.
إلى أن قال: فأول ما نبتدئ له ما أوردنا هذه المسألة من أجلها ذكر أسماء الله عز وجل في كتابه، وما بين - صلى الله عليه وسلم - من صفاته في سنته، وما وصف به عز وجل مما سنذكر قول القائلين بذلك، مما لا يجوز لنا في ذلك أن نرده إلى أحكام عقولنا بطلب الكيفية بذلك، ومما قد أمرنا بالاستسلام له -إلى أن قال-: ثم إن الله تعرف إلينا بعد إثبات الوحدانية والإقرار بالألوهية: أن ذكر تعالى في كتابه بعد التحقيق، بما بدأ من أسمائه وصفاته، وأكد عليه السلام بقوله فقبلوا منه كقبولهم لأوائل التوحيد من ظاهر قوله لا إله إلا الله. إلى أن قال بإثبات نفسه بالتفصيل من المجمل. فقال لموسى عليه السلام: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)} (1) وقال: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} (2) ولصحة ذلك واستقرار ما جاء به المسيح عليه السلام فقال: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} (3)، وقال عز وجل: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} (4) وأكد عليه السلام صحة إثبات ذلك في سنته فقال:
_________
(1) طه الآية (41).
(2) آل عمران الآية (28).
(3) المائدة الآية (116).
(4) الأنعام الآية (54).
(5/329)
يقول الله عز وجل: «من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي» (1) وقال: «كتب كتاباً بيده على نفسه: إن رحمتي غلبت غضبي» (2) وقال: «سبحان الله رضى نفسه» (3)
وقال في محاجة آدم لموسى: «أنت الذي اصطفاك الله واصطنعك لنفسه» (4) فقد صرح بظاهر قوله: أنه أثبت لنفسه نفساً، وأثبت له الرسول ذلك، فعلى من صدق الله ورسوله اعتقاد ما أخبر به عن نفسه، ويكون ذلك مبنياً على ظاهر قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (5) ثم قال: فعلى المؤمنين خاصتهم وعامتهم قبول كل ما ورد عنه عليه السلام، بنقل العدل عن العدل، حتى يتصل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن مما قضى الله علينا في كتابه، ووصف به نفسه، ووردت السنة بصحة ذلك أن قال: {* اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (6) ثم قال عقيب ذلك: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} وبذلك دعاه - صلى الله عليه وسلم -: «أنت نور السموات والأرض» (7) ثم ذكر حديث أبي موسى:
_________
(1) انظر تخريجه في مواقف البربهاري سنة (329هـ).
(2) أخرجه: أحمد (2/ 242) والبخاري (6/ 352/3194) ومسلم (4/ 2107/2751) والترمذي (5/ 513/3543) وابن ماجه (2/ 1435/4295) من حديث أبي هريرة.
(3) أخرجه: أحمد (1/ 258) ومسلم (4/ 2090/2726) وأبو داود (2/ 171/1503) والترمذي (5/ 519 - 520/ 3555) والنسائي (3/ 86 - 87/ 1351) وابن ماجه (2/ 1251 - 1252/ 3808) من حديث جويرية ..
(4) أخرجه: أحمد (2/ 287و314) والبخاري (11/ 618/6614) ومسلم (4/ 2042 - 2043/ 2652) وأبو داود (5/ 76 - 78/ 4701) والترمذي (4/ 386 - 387/ 2134) والنسائي في الكبرى (6/ 284 - 285/ 10985 - 10986) وابن ماجه (1/ 31 - 32/ 80).
(5) الشورى الآية (11).
(6) النور الآية (35).
(7) انظر تخريجه في مواقف ابن خزيمة سنة (311هـ).
(5/330)
«حجابه النور -أو النار- لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» (1) وقال: سبحات وجهه جلاله ونوره، نقله عن الخليل وأبي عبيد، وقال: قال عبد الله بن مسعود: نور السموات نور وجهه. ثم قال: ومما ورد به النص أنه حي وذكر قوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (2) والحديث: «يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث» (3)
قال: ومما تعرف الله إلى عباده؛ أن وصف نفسه أن له وجهاً موصوفاً بالجلال والإكرام، فأثبت لنفسه وجهاً -وذكر الآيات. ثم ذكر حديث أبي موسى المتقدم، فقال: في الحديث من أوصاف الله عز وجل لا ينام، موافق لظاهر الكتاب: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} (4) وأن له وجهاً موصوفاً بالأنوار، وأن له بصراً كما علمنا في كتابه
_________
(1) أخرجه: أحمد (4/ 405) ومسلم (1/ 161 - 162/ 179) وابن ماجه (1/ 70 - 71/ 195و196).
(2) البقرة الآية (255).
(3) أخرجه: الترمذي (5/ 504/3524) وابن السني في عمل اليوم والليلة (337) من طريق أبي بدر شجاع بن الوليد حدثنا الرحيل بن معاوية -أخو زهير بن معاوية- عن الرقاشي عن أنس بن مالك. قال الترمذي: "هذا حديث غريب" .. والرقاشي هو يزيد بن أبان، ضعيف كما قال في التقريب.
والحديث أخرجه أيضاً: الطبراني في الأوسط (4/ 343/3589) وفي الصغير (436) وفيه زيادة، عن سلمة بن حرب ابن زياد الكلابي قال: حدثني أبو مدرك حدثني أنس بن مالك.
وأورده الهيثمي في المجمع (10/ 180 - 181) وقال: "وقد ذكر الذهبي سلمة في الميزان فقال: مجهول كشيخه أبي مدرك، وقد وثق ابن حبان سلمة وذكر له هذا الحديث في ترجمته، وفي الميزان أبو مدرك قال الدارقطني متروك، فلا أدري هو أبو مدرك هذا أو غيره، وبقية رجاله ثقات".
وله شاهد أخرجه الحاكم (1/ 509) من طريق القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن ابن مسعود. وقال: "حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه". وتعقبه الذهبي بقوله: عبد الرحمن لم يسمع من أبيه وعبد الرحمن ومن بعده ليسوا بحجة. والحديث بهذا الشاهد حسن، كما بين ذلك الشيخ الألباني في تعليقه على الكلم الطيب (رقم: 118).
(4) البقرة الآية (255).
(5/331)
أنه سميع بصير. ثم ذكر الأحاديث في إثبات الوجه، وفي إثبات السمع والبصر، والآيات الدالة على ذلك. ثم قال: ثم إن الله تعالى تعرف إلى عباده المؤمنين، أن قال: له يدان قد بسطهما بالرحمة، وذكر الأحاديث في ذلك، ثم ذكر شعر أمية بن أبي الصلت. ثم ذكر حديث: «يلقى في النار وتقول: هل من مزيد؟ حتى يضع فيها رجله» وهي رواية البخاري وفي رواية أخرى يضع عليها قدمه (1). ثم رواه مسلم البطين عن ابن عباس: أن الكرسي موضع القدمين وأن العرش لا يقدر قدره إلا الله (2)،
وذكر قول مسلم البطين نفسه، وقول السدي، وقول وهب بن منبه، وأبي مالك وبعضهم يقول: موضع قدميه، وبعضهم يقول واضع رجليه عليه. ثم قال: فهذه الروايات قد رويت عن هؤلاء من صدر هذه الأمة موافقة لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - متداولة في الأقوال، ومحفوظة في الصدر، ولا ينكر خلف عن السلف، ولا ينكر عليهم أحد من نظرائهم، نقلتها الخاصة والعامة
_________
(1) انظر تخريجه في مواقف عبد العزيز الماجشون سنة (164هـ).
(2) أخرجه موقوفاً على ابن عباس: عبد الله بن أحمد في السنة (1/ 304/590) وابن أبي شيبة في العرش (79/ 61) وابن خزيمة في التوحيد (1/ 248 - 249/ 154و156) وأبو الشيخ في العظمة (2/ 582و584/ 216و217) والطبراني (12/ 39/12404) والبيهقي في الأسماء والصفات (2/ 196/758) والحاكم في المستدرك (2/ 282) وصححه ووافقه الذهبي. وذكره الهيثمي في المجمع (6/ 323) وقال: "رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح". وأخرجه ابن جرير في التفسير (5/ 398/5792) (تحقيق شاكر) موقوفاً على مسلم البطين.
وقد روي هذا الأثر مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، أخرجه الخطيب في التاريخ (9/ 251) وابن الجوزي في العلل المتناهية (1/ 22) من طريق شجاع بن مخلد الفلاس حدثنا أبو عاصم عن سفيان عن عمار الدهني عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعاً. وقال -أي ابن الجوزي-: "هذا الحديث وهم شجاع بن مخلد في رفعه، فقد رواه أبو مسلم الكجي وأحمد بن منصور الرمادي كلاهما عن أبي عاصم فلم يرفعاه، ورواه عبد الرحمن بن مهدي ووكيع كلاهما عن سفيان فلم يرفعاه. بل وقفاه على ابن عباس وهو الصحيح".
وانظر كتابنا المفسرون بين التأويل والإثبات (4/ 1690).
(5/332)