ـ[موسوعة مواقف السلف في العقيدة والمنهج والتربية]ـ
(أكثر من 9000 موقف لأكثر من 1000 عالم على مدى 15 قرنًا)
المؤلف: أبو سهل محمد بن عبد الرحمن المغراوي
الناشر: المكتبة الإسلامية للنشر والتوزيع، القاهرة - مصر، النبلاء للكتاب، مراكش - المغرب
الطبعة: الأولى
عدد الأجزاء: 10
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو ضمن خدمة التراجم](/)
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)} (1).
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)} (2).
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} (3).
وبعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة في النار.
__________
(1) آل عمران الآية (102).
(2) النساء الآية (1).
(3) الأحزاب الآيتان (70 و71).(مقدمة/1)
أما بعد: فإني لما تخرجت بالإجازة من كلية الشريعة بالمدينة النبوية سنة (ألف وثلاثمائة وخمسة وتسعين)، ودخلت إلى حقل الدعوة إلى الله، وأسست جمعية الدعوة إلى القرآن والسنة مع بعض الإخوة الفضلاء، رأيت هجمة شرسة من قبل أعداء الإسلام؛ كما هو الواقع الآن على الدعوة السلفية والتحذير منها، وأنها دعوة خطيرة على المجتمع.
والحق أن السلفية دعوة مباركة تهتم بتصحيح المعتقد، ونبذ الخرافات والشركيات، وتقويم العبادات على وفق السنة النبوية، وتصحيح السلوك وتهذيب الأخلاق وتزكيتها، وتربي الشباب على العناية بحفظ كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ علماً وعملاً، وفهماً وتطبيقاً، ودعوة وتأصيلاً، ولا ترى الحجية في غير كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، أو ما نتج عنهما من إجماع أو قياس صحيح، أو فهم سلفي منضبط، فمهما كان القائل فلا بد أن يُطلب منه الدليل من الكتاب أو السنة.
وقد أسست لذلك مدارس "دور القرآن" في كل أرجاء البلاد لنشر هذا المنهاج المبارك، وكان -ولله الحمد- الإقبال عليها من كل الشرائح الاجتماعية؛ الذكور والإناث، والصغار والكبار، والشباب والشابات، وها هم أهل المغرب الغيورون على الكتاب والسنة؛ يرفعون أكف الضراعة إلى الله أن يردّ عليهم مدارسهم، -أي: دور القرآن- التي خدمت البلاد والعباد بكلّ أنواع(مقدمة/2)
الخدمات، فهذبت الشباب والشابات، وصرفتهم عن اللهو والعبث والفتن، والوقوع في حمأة الشرك والبدع والخرافات والإلحاد والرذائل والتكفير وفي كل ما يضرّ البلاد والعباد، وجعلتهم -ولله الحمد- مصابيح مضيئة بنور القرآن والسنة، في المساجد ودور القرآن وفي المؤسسات التعليمية بكل مراحلها الابتدائية والإعدادية، والثانوية والجامعية، وفي المناسبات من أعراس وعقائق وجنائز، وفي كل التجمعات التي تجتمع على الخير وعلى القرآن والسنة، وفي كل موقف يخدم الأهداف الصالحة لهذه البلاد الغالية من أمن وأمان، ويحاربون كل ما يؤدي إلى القلاقل والاضطراب؛ فإن هذا لا خير فيه للأمة بأجمعها، وكل من يقلق أمن هذه البلاد وغيرها من بلاد الإسلام؛ فلا يريد بالأمة خيراً. اللهم اهد ضالّ هذه الأمة.
هذا: وفي عام ثلاث وأربعمائة وألف، قدمت أطروحة لنيل الدكتوراه بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبويّة في قسم العقيدة. تحت عنوان: "العقيدة السلفية في مسيرتها التاريخية وقدرتها على مواجهة التحديات". وقد منّ الله تعالى بفضله وكرمه بنيلها وحيازتها بدرجة مشرِّفة جداً، وظلت حبيسة الرفوف مدة، وقد أعدت النظر فيها وزدت عليها أضعاف أضعافها من المباحث المنيفة، والفصول الشيقة، حتى غدا بعض فصولها مباحث مستقلة، وكتباً مفردة.(مقدمة/3)
وقد ارتأيت اليوم أن تكون دراسة موضوع "العقيدة السلفية في مسيرتها التاريخية وقدرتها على مواجهة التحديات"؛ مقسمة إلى أقسام عديدة، مبرزة لمعالمها، وشاملة لمباحثها على النحو التالي:
* القسم الأول: إتحاف الأخيار بفضائل عقيدة السلف الأبرار.
* القسم الثاني: الاعتصام بالكتاب والسنة وفهم السلف عند ظهور الأهواء والبدع والفتن والاختلاف.
* القسم الثالث: الصحيح في تفصيل الاعتقاد من هدي خير العباد.
* القسم الرابع: أهل الأهواء والبدع والفتن والاختلاف.
* القسم الخامس: مغني العقلاء في بيان المواقف العقدية في دعوة الأنبياء.
* القسم السادس: المواقف العقدية والأساليب الدعوية في مواجهة تحديات الجاهلية من خلال صحيح سيرة خير البرية - صلى الله عليه وسلم -.
* القسم السابع: موسوعة مواقف السلف الصالح في العقيدة والمنهج والتربية. وهو القسم الذي نخرجه للقراء في هذه الطبعة بإذن الله وتوفيقه.
* القسم الثامن: المصادر العلمية للعقيدة السلفية.(مقدمة/4)
الأسباب البواعث على التأليف
إن المرء يظل أسير معتقداته وقناعاته الشخصية -إن كان صادقاً-؛ تتفتق بحسبها أفكاره وتنبعث على وِفقها أقواله وأفعاله، وإراداته، لا يحيد عنها ولا يزيغ، كان حبنا لسنة سيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم - ولنهج السلف الصالحين الذي غمر قلوبنا، وملأ أفئدتنا، باعثاً قوياً، وحافزاً مؤثراً في خط الصفحات وكتب هذه المجلدات، فنرجو الله أن نكون كذلك وأن يثبتنا، وأن لا يزيغ قلوبنا.
هذا الحب للنبي - صلى الله عليه وسلم - تمخضت عنه أسباب دفعت لتأليف هذا الكتاب نجمل بعضها فيما يلي:
السبب الأول: النصح لله ورسوله والمسلمين:
فرض الله تعالى على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - النصح له عز وجل، ولكتابه، ورسوله، وللمسلمين عامتهم وخاصتهم، حيث حصر الناصح الأمين - صلى الله عليه وسلم - الدين في التناصح على سبيل التنبيه على عظمة النصيحة، فقال: "الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة، ثلاثاً. قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله عز وجل، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم" (1).
__________
(1) أخرجه: أحمد (4/ 102) ومسلم (1/ 74/55) وأبو داود (5/ 233/4944) والنسائي (7/ 176 - 177/ 4208 و4209) من حديث أبي رقية تميم الداري.(مقدمة/5)
وقد يسر الله كتابة هذه الأسفار نصرة منا لله سبحانه، ولرسوله، ونصحاً لأنفسنا ولإخواننا ولعموم المسلمين الذين أوجب الله علينا النصح لهم، وإرشادهم لما فيه صلاحهم في الحال والمآل؛ وذلك بربطهم بمعتقد سلفهم الصالح رضوان الله عليهم؛ ولأن الخلف البارّ الذي يحرص على طلب الحق وتصفية المعتقد والمنهاج والمواقف، لا يجوز له بحال أن تنفك صلته عن السلف الصالح، في معرفة سيرهم ومناقبهم ومواقفهم العقدية والمنهجية، وهم قدوته في كل خير، وعلى نهجهم يسير، وبمواقفهم يقتدي، وهم -ولله الحمد- عدد كبير بلغ في هذا السجل المبارك أزيد من ألف إمام على مدى عصور الإسلام، ابتداء بعصر الصحابة والتابعين والتابعين لهم بإحسان، -لا كما يقوله بعض الجهال: إن السلفية بدأت بابن تيمية ثم ابن عبد الوهاب-، وتكون هذه الدراسة سجلاً مباركاً بيد كل سلفي يحتج به على كل مبطل ينكر هذا المنهاج ويتنكب عنه، ويطعن فيه، والطعن في هذا المنهج طعن في خيرة خلق الله، وهذا أمر عظيم وموبقة من الموبقات.(مقدمة/6)
السبب الثاني: طعن الملاحدة وأعداء الإسلام في السلفية:
منذ قرابة ربع قرن تقريباً، حوالي سنة 1395 هـ الموافق لسنة 1975 م. -على ما يغلب على ظني-. عقد الملاحدة أعداء الإسلام ندوة كبيرة في بعض البلاد الإسلامية بخصوص الطعن في السلفية، وشارك فيها كبار القوم، وحضرها جمهور غفير من الناس، وشوهوا وافتروا كيف ما حلا لهم، ولم يقفوا عند عقد الندوة فقط، بل نشروها في جرائد لهم، يتكلمون بكلام لا يصدر إلا من عدو خبيث، يبينون للحضور والقراء خطورة العقيدة السلفية إن حصل انتشارها في مجتمعاتهم. وحينها انهالت علي الأسئلة للتعرف على السلفية، فمن الأسئلة: هل هناك كتاب يمكن أن نتعرف فيه على السلفيين ومواقفهم، فذكرت بأنني لا أعرف إلا كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه العلامة ابن القيم، وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله جميعاً. وبقيت تلك الأسئلة تراودني طيلة تلك المدة حتى كتب الله الرجوع إلى الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، والالتحاق بالدراسات العليا بها، ثم مرحلة الدكتوراه التي اغتنمتها فرصة لإخراجها من حيز التفكير إلى ساحة التطبيق العملي.
فكان هذا من أكبر الدوافع وأعظم المحفزات في تسجيل بحث نيل الدكتوراه في هذا الموضوع.(مقدمة/7)
السبب الثالث: تقريب مواقف السلف للأمة:
لقد ظلت آثار السلف ومواقفهم العقدية في طيات كثير من المصنفات مطمورة، وبين أسطر أخرى مغمورة، لا يعرف الطلاب لها من سبيل، ولا يدلهم عليها دليل، إلا ما تيسر من كتاب "سير أعلام النبلاء" للإمام الذهبي رحمه الله، الذي ضم في تراجم أعلامه بعضها، وهو أحد المراجع التي استخلصنا فوائدها وفرائدها، وزدنا عليه عشرات من أمثاله التي استقرئت بكاملها، من مؤلفات العقائد، وأضعاف أضعافها مما انتقي من غيرها، كما سيأتي جرد أسماء بعض منها في محله إن شاء الله تعالى.
فتيسير الوقوف على مواقف السلف النيرة، وأقوالهم الزاهرة، وتراجمهم العطرة في كتاب مفرد، غاية في حد ذاتها.
هذا الكنز الثمين من الآثار السلفية الذي نقدمه اليوم للأمة لا يعلم قيمته ونفاسته إلا من أجهد نفسه للظفر بدرة من درره؛ وقطف ثمرة من ثمراته، وسل الغائص في بحر الكتب لاستخلاصها، والمسير طرفه بين الأسطر لالتقاط دررها، تعلم مدى الجهد والعناء الذي اختزل في ما بين يديك! ولا أدل على ذلك من أنا أمضينا زمناً طويلاً في استخراجها ونظم عقدها. والله الموفق، لا رب سواه.(مقدمة/8)
السبب الرابع: التعريف بالسلف وإبراز مواقفهم:
هذه الموسوعة العظيمة الممهَّدة بين يدي الناظر فيها تيسر له التعرف على أئمة السلف والوقوف على تراجمهم، ومواقفهم العقدية في اتساق مرتب، واختصار مهذب؛ إذ معرفتها أنفع للمسلم في دينه ودنياه من معرفة أقوال غيرهم. كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
"ولهذا كان معرفة أقوالهم في العلم والدين وأعمالهم خيراً وأنفع من معرفة أقوال المتأخرين وأعمالهم في جميع علوم الدين وأعماله؛ كالتفسير وأصول الدين وفروعه والزهد والعبادة والأخلاق والجهاد وغير ذلك؛ فإنهم أفضل ممن بعدهم كما دل عليه الكتاب والسنة.
فالاقتداء بهم خير من الاقتداء بمن بعدهم، ومعرفة إجماعهم ونزاعهم في العلم والدين خير وأنفع من معرفة ما يذكر من إجماع غيرهم ونزاعهم؛ وذلك أن إجماعهم لا يكون إلا معصوماً، وإذا تنازعوا فالحق لا يخرج عنهم، فيمكن طلب الحق في بعض أقاويلهم، ولا يحكم بخطأ قول من أقوالهم حتى يعرف دلالة الكتاب والسنة على خلافه، قال تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ(مقدمة/9)
إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)}. (1)
السبب الخامس: شد أزر السلفين وتثبيت قلوبهم:
قد يشعر المؤمن عموماً والسلفي خصوصاً بغربته في هذا الزمان وهو بين أهله، وبوحدته وهو بين أترابه، ليست غربة اتخذها اختياراً، ولا وحدة اصطفاها لنفسه استئثاراً، وإنما سيق لها اضطراراً، سنة اقتضتها حكمة رب عليم حكيم؛ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء" (2).
قال الشاطبي: "وهذه سنة الله في الخلق، أن أهل الحق في جنب أهل الباطل قليل، لقوله تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)} (3)، وقوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)} (4)، ولينجز الله ما وعد به نبيه - صلى الله عليه وسلم - من عود وصف الغربة إليه؛ فإن الغربة لا تكون إلا مع فقد الأهل أو قلتهم، وذلك حين يصير المعروف منكراً والمنكر معروفاً، وتصير
__________
(1) مجموع الفتاوى (13/ 23 - 30).
(2) مسلم (1/ 130/145) وابن ماجه (2/ 1319 - 1320/ 3986)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) يوسف الآية (103).
(4) سبأ الآية (13).(مقدمة/10)
السنة بدعة والبدعة سنة، فيقام على أهل السنة بالتثريب والتعنيف كما كان أولاً يقام على أهل البدعة، طمعاً من المبتدع أن تجتمع كلمة الضلال، ويأبى الله أن تجتمع حتى تقوم الساعة، فلا تجتمع الفرق كلها -على كثرتها- على مخالفة السنة عادة وسمعاً؛ بل لا بد أن تثبت جماعة أهل السنة حتى يأتي أمر الله، غير أنهم -لكثرة ما تناوشهم الفرق الضالة وتناصبهم العداوة والبغضاء، استدعاء إلى موافقتهم- لا يزالون في جهاد ونزاع، ومدافعة وقراع، آناء الليل والنهار، وبذلك يضاعف الله لهم الأجر الجزيل، ويثيبهم الثواب العظيم". (1)
فطوبى لهم في غربتهم، وطوبى لهم في استئناسهم بكلام ربهم، ومصاحبة أنفاس نبيهم - صلى الله عليه وسلم - القولية والفعلية، وطوبى لمن جال بقلبه وفكره في كسر طوق هذه الغربة في رياض السنة النضرة، ومواقف السلف العطرة، ونأى بنفسه عن ورود حياض البدع الكدرة، ومستنقعاتها القذرة، وسقى نفسه من معين الكتاب والسنة ماء عذباً زلالاً، صافياً نقياً، لم تكدره الدلاء، ولم تخالطه الآراء.
وارتوى مما ارتوى منه أبو بكر وعمر ومن بعدهم من الخلفاء الراشدين، وبقية العشرة المبشرين، وسائر الصحابة المرضيين، ومن اقتفى أثرهم من الأئمة والمُحَدِّثِين، والعلماء المعتبرين، خلفاً عن سلف.
هذا المشرب الموحد الذي ورده سائر الأعلام على امتداد تاريخ هذه
__________
(1) الاعتصام (1/ 30 - 31).(مقدمة/11)
الأمة المجيدة، طيلة أربعة عشر قرناً خلت، ولم يتخلف عنه أحد منهم، ولم يحد بصرهم عنه، رغم عواصف البدع الرعناء، وتيارات الإلحاد الهوجاء، ومحن من أشربها من القادة والسلاطين والغوغاء، فقاموا في وجهها محتسبين، وثبتوا في نزالها صابرين صامدين، جماعات ووحداناً؛ منهم الوحيد في زمانه، ومنهم المتقوي بإخوانه، فأضحو للأمة أعلاماً بها يهتدى، ونماذج تحتذى، ومصابيح تنير الطريق لسالك دربهم، فيحذو حذوهم. {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (1).
السبب السادس: إبراز معالم المنهج السلفي:
لقد أُثر عن السلف كثير من الأقوال الموضحة للمنهج السلفي، والمجلية لمعالمه، وهي منثورة في كتب عديدة كأصول السنة لللالكائي والاعتصام للشاطبي، وكتب شيخي الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله، وغيرها من الكتب، وقد أودعنا ما وقفنا عليه منها في موسوعتنا هذه، إبرازاً لهذا المنهج العظيم، وتقريراً له بين عموم المسلمين، وأنه الحق الذي كان عليه السلف، وآب إليه من تاب من الخلف. وأكبر معالم هذا النهج القويم التي نازعنا فيها الخلفيون:
__________
(1) الأنعام الآية (90).(مقدمة/12)
أ- وجوب الاعتصام بالكتاب والسنة وفهم السلف:
إن أساس الدعوة السلفية الذي بنيت عليه، ومحورها الذي تدور في فلكه، والذي لا يجوز الخروج عنه أو القول بخلافه، والخارج عنه لا يعد سلفياً، هو: وجوب الرجوع إلى الكتاب والسنة والتحاكم إليهما في كل المناحي العلمية والعملية، بفهم السلف رضوان الله عليهم أجمعين، امتثالاً لأمر ربنا جل وعلا في وجوب لزوم كتابه وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، واتباع سبيل خِيرة هذه الأمة الذين أنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بين أظهرهم قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)} (1).
ولا يتم عقد الإيمان إلا بتمام التسليم لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ والرضا بحكمه، وعدم الخروج عنه، كما قال تعالى في كتابه: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} (2).
والآيات والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وقد أفردناها في قسم خاص
__________
(1) النساء الآية: (115).
(2) النساء الآية (65).(مقدمة/13)
من هذه السلسة المباركة، سميته بـ: "الاعتصام بالكتاب والسنن وفهم السلف عند حدوث الأهواء والفتن والاختلاف" في ثلاث مجلدات لطيفة؛ أحدها في الآيات الدالة على الاعتصام بالكتاب والسنة مع توجيهها، والثاني في الأحاديث الواردة في الباب، والثالث في فهم السلف، وهو جرد وسرد لأقوالهم في الباب نفسه.
وفي موسوعتنا هذه قد أوردنا من أقوال السلف في تقرير هذا الأمر ضمن مواقفهم من المبتدعة ما يسر الناظر فيه، ويثلج صدر أحباب سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمتسننين بها.
ب- الرد على المخالف:
قد يستهجن بعض العوام وأشباه العلماء، وكثير من المثقفين والأدباء، والحزبيين، رد السلفيين على المخالفين من المبتدعة والمضلين والمميعين لأحكام الدين، حيث جندوا أنفسهم لكشف باطلهم وإبطال دعوتهم، فثارت ثائرة القوم بالإنكار والتنديد، والتبديع والتقريع، وأن هذا المسلك خلاف ما عليه السلف الذين يدعي السلفيون الانتساب إليهم!!
وما علم القوم أن الرد على المخالف لسنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - هو محض النصح لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - كما سبق، وهو منهج السلف الأخيار لم يفارقوه برهة، ولم يتخلف أحد منهم عن القول به طوال تاريخ الإسلام.(مقدمة/14)
وما أوردناه في هذا السفر من أقوال هذا الجم الغفير من الأعلام الذين يقارب عددهم المئتين والألف علَم، برهان ساطع في وجوب النصح للمسلمين، وتحذيرهم من المتقولين على الله بغير علم، الذين هم أعظم جرماً وأقبح جرأة في قيلهم وفعلهم، فالرد عليهم واجب، والتحذير منهم لازم.
قال ابن القيم رحمه الله: "وأما القول على الله بلا علم: فهو أشد هذه المحرمات تحريماً، وأعظمها إثماً؛ ولهذا ذكر في المرتبة الرابعة من المحرمات التي اتفقت عليها الشرائع والأديان، ولا تباح بحال؛ بل لا تكون إلا محرمة، وليست كالميتة والدم ولحم الخنزير الذي يباح في حال دون حال.
فإن المحرمات نوعان: محرم لذاته لا يباح بحال. ومحرم تحريماً عارضاً في وقت دون وقت. قال الله تعالى في المحرم لذاته: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} (1)، ثم انتقل منه إلى ما هو أعظم منه فقال: {وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ}، ثم انتقل منه إلى ما هو أعظم منه فقال: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)}.
فهذا أعظم المحرمات عند الله وأشدها إثماً؛ فإنه يتضمن الكذب على الله ونسبته إلى ما لا يليق به، وتغيير دينه وتبديله، ونفي ما أثبته، وإثبات ما نفاه،
__________
(1) الأعراف الآية (33).(مقدمة/15)
وتحقيق ما أبطله، وإبطال ما حققه، وعداوة من والاه، وموالاة من عاداه، وحب ما أبغضه، وبغض ما أحبه، ووصفه بما لا يليق به في ذاته وصفاته وأقواله وأفعاله.
فليس في أجناس المحرمات أعظم عند الله منه ولا أشد إثماً. وهو أصل الشرك والكفر، وعليه أسست البدع والضلالات؛ فكل بدعة مضلة في الدين أساسها القول على الله بلا علم.
ولهذا اشتد نكير السلف والأئمة لها، وصاحوا بأهلها من أقطار الأرض، وحذروا فتنتهم أشد التحذير، وبالغوا في ذلك ما لم يبالغوا مثله في إنكار الفواحش والظلم والعدوان؛ إذ مضرة البدع وهدمها للدين ومنافاتها له أشد". (1)
ج- تحقيق الولاء والبراء:
إن كثيراً مما ألف في القديم والحديث من الكتب باسم: الفرق الإسلامية، أو الفكر الإسلامي، متضمن لكثير من الأخطاء العقدية والمنهجية التي ينسبها أصحابها لمعتقد أهل السنة وهم برآء منها، وكثير من القراء لا يعلم أن معظم ما كُتب فيها ما هو إلا أخطاء وانحرافات وبدع، حذر منها علماء السنة بحق وهم السلف، ودفعوها بقولهم وفعلهم ومواقفهم، طيلة العصور التاريخية.
فالإسلام هو الكتاب والسنة وفهم سلفي انبثق منهما، وما سوى ذلك
__________
(1) مدارج السالكين (1/ 372).(مقدمة/16)
فلا يجوز أن ينسب إلى الإسلام لا من قريب ولا من بعيد، وإنما هي أخطاء وانحرافات عقدية ومنهجية يتحمل أصحابها تبعاتها في الدنيا وفي الآخرة؛ {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)} (1). فنرجو الله تعالى أن يثيب محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم.
لذلك كان ولاء السلف للسنة وعلى السنة، والبراء من البدعة ودعاتها والقائمين عليها، لمناهضتهم السنة ومفارقتها وقيامهم بخلافها، ومخالفتهم نهجها، واختلافهم عليها.
"فعلى المرء المسلم إذا رأى رجلاً يتعاطى شيئاً من الأهواء والبدع معتقداً، أو يتهاون بشيء من السنن أن يهجره، ويتبرأ منه، ويتركه حياً وميتاً، فلا يسلم عليه إذا لقيه، ولا يجيبه إذا ابتدأ إلى أن يترك بدعته، ويراجع الحق. والنهي عن الهجران فوق الثلاث فيما يقع بين الرجلين من التقصير في حقوق الصحبة والعشرة دون ما كان ذلك في حق الدين؛ فإن هجرة أهل الأهواء والبدع دائمة إلى أن يتوبوا". قاله البغوي رحمه الله. (2)
وقال أيضاً: "إن هجران أهل البدع على التأبيد، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) النحل الآية (25).
(2) شرح السنة (1/ 224).(مقدمة/17)
خاف على كعب وأصحابه النفاق حين تخلفوا عن الخروج معه، فأمر بهجرانهم إلى أن أنزل الله توبتهم، وعرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - براءتهم، وقد مضت الصحابة والتابعون وأتباعهم، وعلماء السنة على هذا مجمعين متفقين على معاداة أهل البدعة، ومهاجرتهم.
قال ابن عمر رضي الله عنهما لمن سأله عن القوم الخائضين في القدر: "أخبرهم أني بريء منهم، وأنهم مني برآء". (1)
وقال أبو قلابة: لا تجالسوا أصحاب الأهواء، أو قال: أصحاب الخصومات، فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم، ويلبسوا عليكم بعض ما تعرفون.
وقال رجل من أهل البدع لأيوب السختياني: يا أبا بكر! أسألك عن كلمة. فولى وهو يقول بيده: ولا نصف كلمة.
وقال سفيان الثوري: من سمع بدعة، فلا يحكها لجلسائه، لا يلقيها في قلوبهم (2).
قال الشيخ: "ثم هم مع هجرانهم كفوا عن إطلاق اسم الكفر على أحد من أهل القبلة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعلهم كلهم من أمته. وروي عن جماعة من السلف تكفير من قال بخلق القرآن، روي ذلك عن مالك، وابن عيينة، وابن
__________
(1) رواه مسلم (1/ 8/36).
(2) علق الإمام الذهبي رحمه الله على قول الإمام سفيان الثوري - كما في السير (7/ 261): قلت: أكثر أئمة السلف على هذا التحذير؛ يرون أن القلوب ضعيفة، والشبه خطافة.(مقدمة/18)
المبارك، والليث بن سعد، ووكيع بن الجراح، وغيرهم". (1)
السبب السابع: كشف عوار أهل البدع وبيان بطلان مذاهبهم:
هذا الجمع الذي نمهد له بهذه المقدمة قد ضم بين طياته مئات الأعلام الذين زاد عددهم عن الألف، وقرابة عشرة آلاف قول أو فعل مأثور عنهم في ذم الفرق المخالفة للسنة كلها.
بهذه المواقف الحميدة يتجلى بالدليل والبرهان الذي لا يبقى معه لمرتاب سبيل ارتياب، ولا لشاك متعلق تردد وحيرة، حيث اتفقت كلمة هذا الجمع الغفير من الأعلام، في شتى الأعصار، ومختلف الأمصار، وفيهم من الصحابة والتابعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين؛ مَنْ يعدل الواحد منهم أمة من الأمم، لا يعدل بعلمه وورعه تشكك شاك، وحيرة مرتاب غارق في وحل الجهل، مطمور في غيابات النسيان.
وما هذه الموسوعة إلا جرد وإبراز لهذا الإجماع السلفي في كشف عوار أهل البدع، وبيان بطلان مذاهبهم، فالحمد لله.
__________
(1) شرح السنة (1/ 226 - 228).(مقدمة/19)
السبب الثامن: إبراز أن السلف هم المجددون حقا:
هذه المنحة الربانية التي خص الله تعالى بها أفراداً من هذه الأمة بأن جعلهم مجددين لأمر دينه في بريته، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها". (1)
وقد ادعى هذه الرتبة لنفسه كثير من المتعالمين، وناصرو البدعة وحاملو ألوية التعصب، ولم يدع هذه الرتبة أحد من العلماء الأجلاء، ولا فقيه من الفقهاء لنفسه؛ إذ لم تكن هذه الرتبة مطمحهم ولا غاية سعيهم، وإنما كان قصدهم الدعوة إلى الله وإلى سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -.
جاء في عون المعبود: "إن المراد من التجديد إحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسنة والأمر بمقتضاهما وإماتة ما ظهر من البدع والمحدثات، قال في مجالس الأبرار: والمراد من تجديد الدين للأمة إحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسنة والأمر بمقتضاهما، وقال فيه: ولا يعلم ذلك المجدد إلا بغلبة الظن ممن عاصره من العلماء بقرائن أحواله والانتفاع بعلمه، إذ المجدد للدين لا بد أن يكون عالماً بالعلوم الدينية الظاهرة والباطنة ناصراً للسنة، قامعاً للبدعة،
__________
(1) أخرجه: أبو داود (4/ 280/4291) واللفظ له، والحاكم (4/ 522). قال الشيخ الألباني: "وسكت عنه الحاكم والذهبي، أما المناوي فنقل عنه أنه صححه، فلعله سقط ذلك من النسخة المطبوعة من المستدرك، والسند صحيح رجاله ثقات رجال مسلم" (السلسلة الصحيحة 2/ 148).(مقدمة/20)
وأن يعم علمه أهل زمانه، وإنما كان التجديد على رأس كل مائة سنة لانخرام العلماء فيه غالباً، واندراس السنن وظهور البدع، فيحتاج حينئذ إلى تجديد الدين، فيأتي الله تعالى من الخلق بعوض من السلف إما واحداً أو متعدداً انتهى. وقال القاري في المرقاة: أي يبين السنة من البدعة ويكثر العلم ويعز أهله ويقمع البدعة ويكسر أهلها. انتهى.
فظهر أن المجدد لا يكون إلا من كان عالماً بالعلوم الدينية، ومع ذلك من كان عزمه وهمته آناء الليل والنهار إحياء السنن ونشرها، ونصر صاحبها، وإماتة البدع ومحدثات الأمور ومحوها، وكسر أهلها باللسان أو تصنيف الكتب والتدريس أو غير ذلك، ومن لا يكون كذلك لا يكون مجدداً البتة وإن كان عالماً بالعلوم مشهوراً بين الناس، مرجعاً لهم.
فالعجب كل العجب من صاحب جامع الأصول أنه عد أبا جعفر الإمامي الشيعي والمرتضى أخا الرضا الإمامي الشيعي من المجددين ... ولا شبهة في أن عدهما من المجددين خطأ فاحش وغلط بين؛ لأن علماء الشيعة وإن وصلوا إلى مرتبة الاجتهاد وبلغوا أقصى المراتب من أنواع العلوم واشتهروا غاية الاشتهار، لكنهم لا يستأهلون المجددية. كيف وهم يخربون الدين فكيف يجددون؟ ويميتون السنن فكيف يحيونها؟ ويروجون البدع فكيف يمحونها؟ وليسوا إلا من الغالين المبطلين الجاهلين، وجل صناعتهم التحريف والانتحال(مقدمة/21)
والتأويل، لا تجديد الدين ولا إحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسنة.
هداهم الله تعالى إلى سواء السبيل". اهـ (1)
قلت: صدق رحمه الله؛ فإن التجديد المعتبر هو إحياء ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - من الحق والهدى، وما ربى عليه أصحابه رضي الله عنهم أجمعين. وأما غير ذلك مما هو مخالف له فلا يعتبر تجديداً، بل هو إحداث في الدين، وتشويه لجماليته. فكم قوض أهل الكلام من جهمية ومعتزلة وأشاعرة من القواعد والأصول باسم التجديد؟! وهكذا لو تتبعت كل فرقة من الفرق لوجدت عندها الكثير من ذلك. فأحق الناس بالتجديد هم من كان أتبع للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وأحفظ لسنته، وأشد تعظيماً لها، وهم السلف الصالح رضوان الله عليهم، ومن سار على منهجهم إلى يوم الدين.
السبب التاسع: إبطال دعوى التقريب بين الملل والنحل:
هذه الدعوى التي قام سوقها، واستوت على ساقها، في رواق منظمات أممية في التقريب بين الحضارات والأديان، وأخرى جهوية في التأليف بين الفرق والمذاهب الإسلامية، قد عقدت لأجلها ندوات ومؤتمرات، وأسست لها مجامع ومؤسسات تعنى بها وتروج لأفكارها ومبادئها، واتخذها المتزلفون
__________
(1) عون المعبود (11/ 391 - 392).(مقدمة/22)
مطية للارتزاق، ووسيلة للوظائف السامية والمناصب العالية، بذلوا من أجل الدرهم دينهم، واستبدلوا بالدنيا أخراهم.
بهذه الموسوعة الميسَّرة للقارئين، بما ضمته من مواقف السلف الأخيار في البراءة من الشرك وأهله، والمبتدعة على اختلاف نحلهم ومشاربهم، وتنوع فرقهم، توضح بجلاء بطلان هذه الدعوى الزائفة الرامية إلى الانسلاخ من الدين، واعتبار القيم الإنسانية فوق كل شيء، حتى الشرائع بزعمهم، المقصود بهذه الدعوى أولاً وآخراً شريعتنا المحمدية التي نسخت الشرائع قبلها، وعفَّت آثارها، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)} (1).
ثم إن ترويج الخلاف والاختلاف واعتباره أصلاً في الدين، وأن كل الفرق -الإسلامية زعموا- على اختلافها، وتضارب أفكارها، وتقاطع مساراتها، مجسَّم واحد لجسم واحد؛ وأنها كلها في تنوع متكامل، يجب أن تخضع لقول من قال "لنتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضها بعضاً فيما اختلفنا فيه".
هذا القول المحدث المبتور، لم يؤثر عن واحد من الأعلام الذين أوردنا أقوالهم في وجوب الالتزام بالسنة وموالاة القائمين بها، واجتناب الشرك والمشركين، والمبتدعة والمبتدعين.
__________
(1) آل عمران الآية (85).(مقدمة/23)
وقد كشفنا أصول هذه الفرق كلها، والرد عليها، ومواقف السلف منها، وبينا خطرها على الأمة، بما لا يدع مجالاً للارتياب في أمرها، في كتابنا "أهل الأهواء والبدع والفتن والاختلاف"، الذي نعمل على إعداده للطبع وإتحاف القراء الكرام به قريباً إن شاء الله تعالى، يسر الله ذلك آمين.(مقدمة/24)
منهج الكتاب
شرطنا في الأعلام:
هذه الموسوعة العظيمة الممهَّدة تُيَسِّرُ للناظر فيها التعرف على أئمة السلف والوقوف على تراجمهم ومواقفهم العقدية، خلا من تلبس ببدعة وعرف بها ودعا الناس إليها، وكانت له مواقف محمودة موافقة للحق أوردناها له، دون التعريف به، وهم بالمقارنة مع أعلام السنة في هذه الموسوعة نزر يسير وأقل من القليل.
ويهمنا من ذكره موقفه السلفي، من باب: (الحكمة ضالة المؤمن يأخذها حيث وجدها)، وقد رأيت المحدثين يروون أحياناً عن بعض المبتدعة فيما لا يخدم بدعهم، رغم تضييقهم الشرط في الرواية، وتبعهم الأئمة كشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم والذهبي رحمهم الله جميعاً.
وأما أعلام السلف وهم أصل الكتاب ومعظم مادته، فنذكر اسمه ونسبه وسنة وفاته، وشيئاً من جميل أقواله، وبليغ حكمه إن تيسر. ثم نتبعه ما وقفنا عليه من مواقفه القولية أو العملية؛ المبطلة للبدع الردية، إلا إن كانت موفورة ومتعددة اصطفينا له أوضحها وأصرحها مما يمتع القارئ لها ويثلج صدره.
وقد حاولنا في جمعنا هذا إيراد أكبر عدد من الأعلام الذين مضوا إلى الله تعالى، وتيسر الوقوف على مواقفهم، غير أننا لا ندعي الإحاطة بالكل، ولا بما أثر عن كل واحد منهم.(مقدمة/25)
هذا الجمع الذي وسع الكثير من الأعلام الذين زاد عددهم عن الألف، قد ضم بين دفتيه زبدة الكثير من كتب التراجم، والعقائد، والشروح الحديثية والفقهية، والمؤلفات الخاصة لكل إمام على حدة، كما هو مفصل في جرد تقريب المصادر المعتمدة، والذي سنذكره في بابه إن شاء الله تعالى.
منهجنا في إيراد المواقف:
إن مما يجدر التعريف به وتقريبه للقارئ الكريم المنهج الذي اتبعناه في انتقاء المواقف وإيرادها في الكتاب؛ إذ قد يلحظ الكل أنا قد أوردنا مواقف لأعلام من فرق ونحل لم تكن في زمانهم وإنما حدثت بعدهم بقرون. كما يلحظ أن المواقف متباينة بين تحذير صريح، وتوجيه وبيان للمعتقد الصحيح.
وبالجملة فالمواقف الواردة في كتابنا هذا هي على النحو التالي:
1) الرد الصريح على فرقة من الفرق بعينها، وإبطال دعوتها.
2) الرد على أحد أفراد هذه الفرق.
3) تقرير اعتقاد السلف في مسألة خالفت فيها فرقة من الفرق.
بهذا الاعتبار أوردنا أقوال كثير من الصحابة والتابعين وغيرهم من فرق لم تحدث في زمانهم؛ واعتبرناها مواقف منهم حيث استدل بها جلة العلماء في الرد على تلك الفرق أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وغيرهم رحمهم الله جميعاً.(مقدمة/26)
ومن أمثلة ذلك ما جاء في السنة لعبد الله: عن ابن أبي مليكة قال: كان عكرمة بن أبي جهل يأخذ المصحف فيضعه على وجهه ويقول: "كلام ربي كلام ربي". (1) فاعتبرنا إثباته أن القرآن كلام الله رداً على الجهمية.
ومثله ما رواه ابن بطة بسنده إلى نيار بن مكرم الأسلمي -وكانت له صحبة-، قال: لما نزلت {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2)} (2)، قالت قريش لأبي بكر رحمه الله: يا ابن أبي قحافة، لعل هذا من كلام صاحبك؟ قال: لا، ولكنه كلام الله عز وجل. (3)
واعتبرنا رداً على المرجئة وموقفاً منهم ما رواه الإمام أحمد واللالكائي عن قيس بن أبي حازم قال: سمعت أبا بكر الصديق يقول: إياكم والكذب؛ فإن الكذب مجانب الإيمان. (4)
وكذا اعتبرنا قول حنظلة الأسدي "نافق حنظلة" وقول أبي بكر له: "فوالله إنا لنلقى مثل هذا" رداً على الصوفية، حيث اعتبره أبو العباس القرطبي في المفهم (5) رداً على غلاة الصوفية الذين يزعمون دوام مثل تلك الحال، ولا
__________
(1) السنة لعبد الله (ص 26).
(2) الروم الآيتان (1 و2).
(3) الإبانة (1/ 12/1/ 271 - 273/ 41).
(4) أصول الاعتقاد (6/ 1091/1872 - 1873) وهو في المسند للإمام أحمد (1/ 5).
(5) (7/ 67).(مقدمة/27)
يُعرجون بسببها على أهل ولا مال.
والأمثلة في هذا كثيرة خصوصاً في شطر من المجلد الأول، فليتنبه القارئ الكريم لهذا.
ترتيب المواقف:
وقد صنفنا هذه المواقف بحسب الفرق التي وجه سهم النقد إليها، -حسب الشرط الذي قدمناه- نظرنا لخطرها وضررها على الإسلام والمسلمين.
وهذه الفرق على التوالي هي: المبتدعة، ثم المشركون، ثم الرافضة، ثم الصوفية، ثم الجهمية، ثم القدرية، ثم الخوارج، ثم المرجئة.
وقد أفردت كتاباً ضخماً في أربع مجلدات، والموسوم بـ "أهل الأهواء والبدع والفتن والاختلاف". عرفت فيه بهذه الفرق وكشفت فساد مذاهبها، وألحقت بهم المقلدة مع بيان حالهم. وتفصيلُ ذلك كله سيجده القراء الكرام في هذا الكتاب قريباً إن شاء الله تعالى.
وموسوعتنا هذه التي زادت مواقف السلف فيها بمنِّ الله وكرمه على التسعة آلآف موقف، بدأت فيها بـ:
موقف السلف من المبتدعة:
والنكتة في ذلك أن سائر الفرق واقعة في البدعة لا محالة، وذلك أن البدع التي حدثت في الأمة منها ما يناقض التوحيد ويثلم الاعتقاد؛ وهي الأعمال(مقدمة/28)
الشركية، ومنها ما يؤثر في الأفعال والأحكام والسلوك.
لذلك حسن البدء بها؛ لأنها تشمل كل النحل ولا تستثنى منها واحدة؛ إذ كل الفرق مخالفة في مناهجها ومذاهبها لكتاب الله تعالى وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -.
وقد أوردنا في مواقف السلف من المبتدعة كل ما وقفنا عليه من أقوالهم وأفعالهم في ذم البدع عموماً، والحث على التمسك بالسنة وبفهم سلف الأمة خصوصاً.
ثم ثنينا بـ "موقف السلف من المشركين":
وقد أوردت فيه مواقف السلف الصالح من المشركين والزنادقة، طيلة تاريخ هذه الأمة المجيدة، وذلك بإبراز مواقف العلماء من الشرك والأعمال الشركية التي وقع فيها رجال من هذه الأمة، من الطواف بالأضرحة وسؤال المقبور، والاستعانة بهم دون الله تعالى، والتمسح بالأحجار والأشجار، والكهانة والسحر، وغيرها من الأعمال الشركية التي رُفعت أعلامها، وقامت مواسمها في بقاع عديدة من بلاد الإسلام.
وقد قام هؤلاء السلف الكرام مقام نبيهم عليه الصلاة والسلام -وهم ورثته بحق- في تقرير التوحيد ونبذ الشرك، وطمس معالمه، وبذلوا في تحقيق ذلك كل غال ونفيس، واسترخصوا المهج والأموال والأولاد جهاداً في سبيل الله.
وفي مقدم هذه الكتيبة المباركة الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، ومن(مقدمة/29)
جاء بعدهم من الأئمة والعلماء الأعلام، ومن سلك سبيلهم من الخلفاء والولاة والقضاة والملوك والحكام، في نماذج ساطعة في أفق هذه الأمة التي ستظل رايتها خفاقة بنصرة الله ودينه، والاستمساك بهدي رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
ثم أتبعتها بـ: "مواقف السلف من الرافضة":
هذه النحلة الدخيلة على الإسلام، اليهودية المنشأ، والفارسية المشرب، التي تبنت نشر الشرك والزندقة منذ تأسيسها، وطيلة تاريخها المشؤوم؛ هي التي شيدت المشاهد والأضرحة، وكانت أول من أحيا هذه الوثنية التي قضى عليها الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الجزيرة العربية، ثم صحابته في خارجها وكل الفاتحين من السلف الصالح رضوان الله عليهم.
ولذلك تسلطوا على الصحابة بذمهم وسبهم وتكفيرهم، بدعوى أن الصحابة حرفوا كتاب الله، وأنكروا ولاية علي رضي الله عنه. فتدثروا بولاية أهل البيت والنصرة لهم زعماً، في دعوى باهتة سيجد القارئ الكريم تفصيلها إن شاء الله في كتابنا: "أهل الأهواء والبدع والفتن والاختلاف".
ثم أتبعتها بـ: "مواقف السلف من الصوفية":
وذلك أن الصوفية هي امتداد طبيعي للرافضة في معظم أصولهم وطقوسهم، لا يخرجون عنها ولا يحيدون، وإنما يفارقونهم في المسميات فقط،(مقدمة/30)
كما بينت ذلك بالبرهان القاطع والدليل الواضح، في كتابنا: "الأسباب الحقيقية لحرق إحياء علوم الدين". وكذلك كتابنا: "أهل الأهواء والبدع والفتن والاختلاف".
فلذلك أتبعت مواقف السلف من الرافضة مواقفهم من الصوفية للصلة الوثيقة بين الفرقتين، والتداخل بين النحلتين.
ثم أتبعتها بـ: "مواقف السلف من الجهمية"
والمراد بالجهمية ها هنا جنس المتكلمين على اختلاف مشاربهم وتعدد فرقهم، معتزلة كانوا أو جهمية أو أفراخهما من الأشاعرة، والماتريدية، والكلابية، وغيرهم من الآرائيين الخائضين في ذات الله تعالى وأسمائه وصفاته بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.
وقد سلط هؤلاء معول التحريف والتعطيل والتأويل على النصوص وانتهكوا حرماتها، والحال كما قال العلامة ابن القيم رحمه الله: "فلو رأيتها وهم يلوكونها بأفواههم، وقد حلت بها المثلات، وتلاعبت بها أمواج التأويلات، وتقاذفت بها رياح الآراء، واحتوشتها رماح الأهواء، ونادى عليها أهل التأويل في سوق من يزيد، فبذل كل واحد في ثمنها من التأويلات ما يريد، فلو شاهدتها بينهم وقد تخطفتها أيدي الاحتمالات، ثم قيدت بعدما كانت مطلقة بأنواع الإشكالات، وعزلت عن سلطنة اليقين وجعلت تحت(مقدمة/31)
حكم تأويل الجاهلين، هذا وطالما نصبت لها حبائل الإلحاد، وبقيت عرضة للمطاعن والإفساد، وقعد النفاة على صراطها المستقيم بالدفع في صدورها والأعجاز، وقالوا: لا طريق لك علينا؛ وإن كان لا بد فعلى سبيل المجاز، فنحن أهل المعقولات وأصحاب البراهين، وأنت أدلة لفظية وظواهر سمعية لا تفيد العلم ولا اليقين، فسندك آحاد وهو عرضة للطعن في الناقلين، وإن صح وتواتر ففهم مراد المتكلم منه موقوف على انتفاء عشرة أشياء لا سبيل إلى العلم بانتفائها عند الناظرين والباحثين.
فلا إله إلا الله والله أكبر، كم هدمت بهذه المعاول من معاقل الإيمان، وثلمت بها حصون حقائق السنة والقرآن، وكم أطلقت في نصوص الوحي من لسان كل جاهل أخرق، ومنافق أرعن، وطرقت لأعداء الدين الطريق، وفتحت الباب لكل مبتدع وزنديق.
ومن نظر في التأويلات المخالفة لحقائق النصوص؛ رأى من ذلك ما يُضْحِك عجباً، ويُبْكِي حزناً، ويثير حمية للنصوص وغضباً". اهـ (1)
هؤلاء القوم هم الذين أفسدوا على الناس أهم مطلوب لهم في معرفة خالقهم، والتعرف على بارئهم بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، وأوقعوهم في متاهة الاحتمال والجدال، والمقاييس الفاسدة.
__________
(1) الصواعق (1/ 296 - 299).(مقدمة/32)
لهذا أوردنا في الموقف منهم أفراداً وجماعات أقوال أئمة السلف المبطلة لمذاهبهم، والمفندة لآرائهم، وما فيه تقريع لهم، وتقرير لمذهب السلف في هذا الباب. والله الموفق.
ثم أتبعتها بـ: "مواقف السلف من الخوارج"
هذه النابتة المارقة التي خرجت على الأمة بالسيف، فكفرت وقتلت ونهبت، وفعلت بالمسلمين ما يعجز القلم عن تسطيره، واللسان عن اللفظ به.
وقد حذر منها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كثير من أحاديثه التي استقصينا صحيحها في الحديث عنهم وكشف حالهم وبيان بطلان مذهبهم في كتابنا: "أهل الأهواء والبدع والفتن والاختلاف".
وقد أوردنا ضمن المواقف من الخوارج نقولاً عن كثير من السلف، وفي مقدمهم الصحابة رضي الله عنهم، والتابعين وبقية العلماء المعتبرين، الذين قاموا في وجوههم، وقاوموهم وجاهدوهم بالسيف واللسان، وأبطلوا مذهبهم بالحجة والبرهان، نصحاً للمسلمين، وتذكرة للغافلين وتنبيهاً لهم عن الانغماس في مسلك هؤلاء المارقين.
ثم أتبعتها بـ: "مواقف السلف من المرجئة"
والمرجئة عكس الخوارج ونقيضهم في كل شيء، أولئك كفروا الناس(مقدمة/33)
بالكبائر، وهؤلاء جرؤوهم على الموبقات بله الصغائر، وأقعدوهم عن الفرائض والواجبات، ولم يبق لنصوص الوعيد عندهم حرمة، ولا للأحكام مكرمة.
وقد أبطل السلف مذهبهم، وقاموا على أهله بالنكير، وصاحوا على دعاته بالتحذير والتنفير والتشهير، حمية لدين الله من التضييع والتمييع الذي انتحلوه وأشربوه، وبثوه بين المسلمين.
ثم ختمت بـ: "مواقف السلف من القدرية"
هذه الفرقة المتقدمة الظهور التي أفسدت على الأمة عقيدتها، فأحيت مذاهب الباطل من الأعذار الإبليسية اللعينة، وعقائد المجوس والمشركين، المذمومة في كتاب الله تعالى وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -. وخطرهم على الأمة عظيم حيث منعت طائفة منهم تدخل قدرة الله ومشيئته في أفعال العباد، وأخرى جردت العبد من إرادته ومشيئته وجعلته مجبراً على أفعاله.
لهذا قام العلماء بالرد عليهم ودحض شبههم، والتحذير والتبرأ منهم، وكان صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أول من صدع بذلك وأعلنه، ثم تواردت أقوال السلف ممن بعدهم في ذمهم، وإبطال معتقدهم.
تنبيه: ومما ينبغي أن نلفت له نظر القارئ اللبيب الذي يعرف واقعه؛ أن هذه الفرق كلها موجودة علماً وعملاً، لها أتباع استهواهم مذهبها، وسلبهم(مقدمة/34)
منهجها، وآخرون غُرِّرَ بهم فركبوا فلكها، وخاضوا بحرها، ورفعوا جهلاً أشرعتها.
فكم من المعالم الشركية المنتشرة اليوم بين المسلمين، والمنظمات التنصيرية والتهويدية الساعية بينهم؟! وكم من الصحفيين العلمانين والكتاب المتجهمين، والمنابر الصوفية، والمؤسسات الرافضية، والجماعات التكفيرية الخارجية العاملة في ساحتهم؟!
أما القدر فقد زلت فيه أقدام فئام من البشر، وأما الإرجاء فكاد أن يعم البلاد والعباد، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فهذه الفرق كلها لا تزال شاخصة في الوجود، وأفكارها ومبادئها ماثلة في كتب التفسير وشروح الحديث والعقيدة، وفي كتب الفرق، حتى في الصحف والجرائد، ودعاتها على الشاشات والقنوات، وفي المدارس والكليات، والمنتديات والندوات.
ومما يدل على ذلك: تصدي العلماء السلفيين خلال هذا القرن والذي سبقه لهذه الفرق كلها، وردهم على دعاتها بأعيانهم وأسمائهم. وكما قيل:
وليس يصح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل
* وقد قسمت الكتاب -في هذه الطبعة- إلى عشرة مجلدات؛ حرصت على تناسبها بأن صدرت كل واحد منها بإمام عرف بمواقفه وجهاده ودعوته للسنة(مقدمة/35)
والكتاب، حتى يكون قائداً وقدوة لمن جاء بعده، وقدوة الجميع إمام المتقين وسيد المرسلين محمد - صلى الله عليه وسلم -.
فالمجلد الأول: مستهل بحمزة بن عبد المطلب المتوفى سنة (3 هـ).
والثاني بـ: عمر بن عبد العزيز المتوفى سنة (101 هـ).
والثالث بـ: مالك بن أنس المتوفى سنة (179 هـ).
والرابع بـ: أحمد بن حنبل المتوفى سنة (241 هـ).
والخامس بـ: محمد بن جرير الطبري المتوفى سنة (310 هـ).
والسادس بـ: محمد بن إسحاق بن مَنْدَه المتوفى سنة (395 هـ).
والسابع بـ: أبي محمد الحسين بن مسعود البَغَوِي توفي سنة (516 هـ).
والثامن بـ: شيخ الإسلام ابن تيمية المتوفى سنة (728 هـ).
والتاسع بـ: محمد بن عبد الوهاب المتوفى سنة (1206 هـ).
والعاشر بـ: محمد الأمين الشنقيطي المتوفى سنة (1393 هـ).
وقد لاحظت في اختيار هؤلاء الأعلام نصرة الدين بالقول والعمل.
فأما حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه فأول من انتصر لابن أخيه محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -، لما أساء له الخبيث أبو جهل، فضرب حمزة رضي الله عنه بقوسه فشجه بها شجة منكرة، فلما أسلم حمزة عرفت قريش أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد عز وامتنع، وأن حمزة سيمنعه. فكفوا عن بعض ما كانوا يتناولون منه. وقد كتب الله(مقدمة/36)
له الشهادة في أحد، ونال شرف "سيد الشهداء" (1) بشهادة النبي - صلى الله عليه وسلم - له بذلك.
وأما عمر بن عبد العزيز رحمه الله فهو الإمام الحبر الذي جمع بين العلم والعمل، والولاية العامة، ورغم قصر مدة ولايته رضي الله عنه فقد سار في الأمة بسير جده لأمه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد كان هذا الإمام السيف البتار على كل مبتدع يرفع رأسه في زمانه، ومن حسناته العظيمة أمره محمد بن شهاب الزهري بجمع السنة النبوية حفظاً لها من الضياع والتضييع.
وأما الإمام مالك إمام دار الهجرة رحمه الله، فمن أوائل من وضع لبنة التأليف لإحياء السنة النبوية، وكتابه الموطأ هو أقدم وثيقة بين يدي المسلمين في جمع السنة.
ومن تتبع سيرة هذا الإمام ومواقفه العقدية -التي أثبتها في مؤلف خاص وفي هذه الموسوعة- يجده بحق من أعظم ناصري التوحيد والسنة، ومن المجددين المعتبرين في هذه الأمة، وفهمه الذي يظهر في كل النصوص التي يعلق عليها في كتابه الثمين الموطأ زيادة على فتاواه وأجوبته العظيمة في الكتاب المسمى بالمدونة.
وأما الإمام أحمد رحمه الله فهو إمام أهل السنة في زمانه، إذا ذكر إمام
__________
(1) أخرجه الحاكم (2/ 119 - 120) و (3/ 195) والطبراني في الأوسط (1/ 501 - 502/ 922) والخطيب في تاريخه (6/ 377) من طرق عن جابر رضي الله عنه. وقد صححه الشيخ الألباني رحمه الله في الصحيحة (374).(مقدمة/37)
السنة فلا ينصرف هذا الوصف في عصره وبعده إلا له، كان أمة لوحده، ناهض التجهم ورجالاته، ولاقى بسبب ذلك محناً شديدة، ثبت فيها وثبت الناس بثباته على اعتقاد أهل السنة والجماعة الذي سعت الجهمية لمحوه، فجدد للأمة أمر دينها، فجازاه الله عن الإسلام والمسلمين خيراً، ورحمه الله وإخوانه السلفيين الذين ساروا على منواله.
وأما الإمام محمد بن جرير الطبري رحمه الله، فهو إمام المفسرين بلا منازع، وكل قائل في كتاب الله من بعده عالة عليه، جمع فيه الفنون كلها، الحديث والفقه والقراءات واللغة والمعرفة بالتاريخ. ودفاعه عن عقيدة السلف ونصرته لها، أمر لا نظير له ولا مثيل.
وأما الإمام محمد بن منده رحمه الله فدفاعه عن السنة بأقواله وأفعاله أمر بارز لا خفاء فيه، وكتابه الإيمان معلمة في بابه، وكذا كتاب التوحيد فهو أكبر من ذلك وأجل، ذكر فيه من آي الكتاب والأحاديث المسندة -وعامتها في الصحيحين أو أحدهما-، الدالة على صحيح المعتقد في الربوبية الدالة على أفعاله سبحانه، وفي الأسماء والصفات.
وأما الإمام البغوي رحمه الله فهو المفسر والمحدث، وكتابه شرح السنة مفخرة كبرى من مفاخر أهل السنة، نشر به السنة، وذب فيه عن المعتقد أحسن ذب، وكتابه التفسير فيه مميزات كثيرة يمتاز بها وإن كان له فيهما هنات في(مقدمة/38)
التأويل، وقد بينتها في كتابي "المفسرون بين التأويل والإثبات في آيات الصفات"، مع حمله للواء السنة ودفاعه عنها.
وأما الإمام ابن تيمية رحمه الله فشيخ الإسلام الذي لا ينصرف هذا الإطلاق إلا إليه، الإمام المجدد المدرسة التي ارتوى منها كبار المحدثين والأئمة في زمانه ومن بعده.
فما من كتاب من كتبه إلا وهو في إحياء السنة والذب عن السلفية، ولو اجتمعت الآن المراكز العلمية لم تستطع أن تنتج مثل منهاج السنة، فكيف ببقية إرثه العظيم الذي أتحف الأمة به؟! وكل أعلام الأمة من بعده عالة عليه، وامتداد لمدرسته رحمه الله.
وأما محمد بن عبد الوهاب شيخ الإسلام المجدد للسنة باعتقادها الصحيح السليم بحق، بعد حقبة مظلمة اندرست فيها معالم السنة وطغت فيها البدعة والمبتدعة، وسيأتي الحديث عنها قريباً.
وهو مدرسة قائمة على نشر السنة وصحيح المعتقد، ودعوته اليوم بحمد الله تعالى وسعت العالم بأسره، فرحمة الله على هذا الإمام وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيراً.
وأما الشيخ محمد الأمين الشنقيطي فعلامة المغرب الإسلامي، وإمام المفسرين الذي أهدى للأمة "أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن" هذا(مقدمة/39)
التفسير غير المسبوق إليه، زينه بالمباحث العقدية النافعة، ونفذ من خلاله سالا سيفه البتار على كل مبتدع وضال، فرحمه الله رحمة واسعة.
هذا؛ وكل إمام من هؤلاء الأئمة ذكرت معهم أمثالهم ومن على منوالهم في هذه الموسوعة المباركة ويتفاوتون في ذلك بحسب ما منّ الله به عليهم، والله نسأل أن يرحمنا وإياهم، وأن يختم لنا بالحسنى. آمين.
* ورتبت ذلك على سنة الوفاة؛ لأنها أضبط في الترتيب، ومن لم أقف له على سنة وفاة أثبته ضمن طبقته إن كان من المتقدمين، أو ألحقته بمن عاش في عصره أو قريب منه.
وقد اجتهدت قدر الإمكان في الوقوف على الأعلام في كل الأقطار والأمصار، وأعلم علم اليقين أنه قد فاتني العدد الكثير؛ لأن الإحاطة بكل السلفيين أمر مستحيل في حقي وفي حق غيري؛ فإن هذا ليس إلا لللطيف الخبير، الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم.
وحسبي أنني قد ذكرت أنموذجاً لمن شاء أن يقتدي أو يأتسي، وكل واحد من هؤلاء الأعلام يحتاج إلى بسط كبير، وذلك يؤدي إلى مجلدات كثيرة(مقدمة/40)
ضخمة، ولكن هذا من باب قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} (1). وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اتقوا النار ولو بشق تمرة" (2).
تخريج الأحاديث:
وما كان من حديث خرجته ولم أَعْدُ عن الكتب السبعة إن كان فيها، إلا إن كان في أحد الكتب التي اعتنى أصحابها بالتصحيح كابن حبان وابن خزيمة والحاكم، تبعاً للحافظ ابن حجر في البلوغ؛ إذ أكتفي بهؤلاء حين الإشارة لصحته أو حسنه. أما إن كان ضعيفاً أو معلولاً فأشير لعلته مكتفياً بها عن التصريح بذلك، والله الموفق لا رب سواه.
وكثير من الأحاديث قد تكرر ذكرها ضمن مواقف عدة، فأكتفي بتخريجها في أول موطن ذكرت فيه غالباً، وأحيل القارئ في المواطن الأخرى على ترجمة العلم الذي خرجت الحديث في مواقفه.
وقد خرجت بعض الآثار التي تيسر الوقوف على أسانيدها، وكثير منها لم أتعرض لتحقيقها نظراً لكثرتها؛ إذ القصد هو الاستئناس بها؛ ولأن كثيراً من العلماء استدلوا بها وساقوها مساق الاستئناس، ولم يتعرضوا لها بردّ، وهي
__________
(1) البقرة الآية (265).
(2) أخرجه أحمد (4/ 256) والبخاري (11/ 488/6540) ومسلم (2/ 703 - 704/ 1016) والترمذي (4/ 528/2415) وابن ماجه (1/ 66/185).(مقدمة/41)
متشابهة في معانيها لا تكاد تجد الفرق الكبير في مدلولاتها، وقد يكون في بعضها ضعف، وذلك أني لم أشترط الصحة في كل ما أثبت، ولم أدع ذلك.(مقدمة/42)
ثبت المصادر المعتمدة
والمادة العلمية المثبوتة في الكتاب هي مستاقة من كتب التراجم والتواريخ والسير المعتمدة عند أهل العلم، وكتب التفسير المسندة، وكتب الحديث وشروحه، وكتب العقيدة السلفية المسندة وغير المسندة.
الكتب المستقرأة بكاملها
- اتباع السنن واجتناب البدع للسيوطي.
- اجتماع الجيوش لابن القيم.
- أصول السنة لابن أبي زمنين.
- إعلام الموقعين لابن القيم.
- اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية.
- الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية (لابن بطة).
- الاستقامة لابن تيمية.
- الاعتصام للشاطبي.
- الباعث على إنكار البدع والحوادث لأبي شامة.
- البداية والنهاية لابن كثير.
- البدع والحوادث للطرطوشي.
- البدر الطالع للشوكاني.(مقدمة/43)
- التنبيه والرد على أهل الأهواء لأبي الحسين الملطي.
- التنكيل للمعلمي.
- الحجة في بيان المحجة للأصبهاني.
- الخطط للمقريزي.
- الرد الوافر لابن ناصر الدين.
- السلفية وأعلامها في موريتانيا للطيب بن عمر بن الحسين.
- السنة لابن أبي عاصم.
- السنة لعبد الله بن أحمد.
- السنة للخلال.
- الشريعة للآجري.
- الفقيه والمتفقه للبغدادي.
- الكفاية للخطيب.
- المدخل لابن الحاج.
- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك لابن الجوزي.
- إيثار الحق على الخلق لابن الوزير.
- تاريخ الجبرتي.
- تاريخ الدعوة الإسلامية في الهند.(مقدمة/44)
- تذكرة الحفاظ للذهبي.
- تلبيس إبليس لابن الجوزي.
- تمييز المحظوظين عن المحرومين للمعصومي.
- جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر.
- خلق أفعال العباد للبخاري.
- درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية.
- ذم الكلام للهروي.
- ذم الهوى لابن الجوزي.
- رياض الجنة في تراجم من لقيت أو كاتبني من الجلة لعبد الحفيظ الفاسي.
- سبيل الرشاد لتقي الدين الهلالي.
- سل النصال للنضال لعبد القادر بن سودة.
- سير أعلام النبلاء للذهبي.
- شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (اللالكائي)
- شرح السنة للبربهاري.
- صون المنطق للسيوطي.
- طبقات الحنابلة مع ذيلها.
- عقيدة السلف وأصحاب الحديث لأبي عثمان الصابوني.(مقدمة/45)
- علماء نجد خلال ثمانية قرون لعبد الرحمن البسام.
- علماء نجد خلال ستة قرون لعبد الرحمن البسام.
- مؤلفات محمد بن عبد الوهاب.
- ما جاء في البدع لابن وضاح.
- مختصر العلو للذهبي.
- معالم الإيمان للدباغ.
- مقدمة سنن الدارمي.
- مقدمة شرح السنة للبغوي.
- مقدمة صحيح مسلم.
- منهاج السنة لابن تيمية.
- ميزان الاعتدال الذهبي.
الكتب التي استعين بها
- الأعلام للزركلي.
- الإفصاح لابن أبي هبيرة.
- الحلية لأبي نعيم.
- الدرر الكامنة لابن حجر.
- الصارم المسلول لابن تيمية.(مقدمة/46)
- العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين للفاسي.
- الفتاوى الكبرى لابن تيمية.
- الفكر السامي للحجوي الثعالبي.
- الكامل لابن الأثير.
- المعيار المعرب للونشريسي.
- الموافقات للشاطبي.
- تاريخ بغداد للخطيب البغدادي.
- ترتيب المدارك للقاضي عياض.
- دائرة المعارف الإسلامية.
- روضة ابن غنام.
- رياض النفوس لأبي بكر المالكي.
- فتح الباري لابن حجر.
- مجموع الفتاوى لابن تيمية (تتبعنا منها إحدى وعشرين مجلداً).
- مختصر الصواعق لابن القيم.
- معجم المؤلفين لعمر رضا كحالة.
- نفح الطيب للمقري التلمساني.
- نقض المنطق لابن تيمية.(مقدمة/47)
كتب خاصة
وأما كثير من الأعلام فقد اعتمدنا على ما سطرت أيديهم في كتبهم المطبوعة وهي أكثر مما ذكرناه في الصنفين المتقدمين بكثير جداً، فجردها بهذا المقام يطول به الكتاب ويخرج المقدمة عن مقصدها، فيستغنى بإيرادها في محلها عن تكرراها ها هنا. والله من وراء القصد.
كتب تراجم الأعلام
- " أبجد العلوم" لصديق حسن خان.
- "إتحاف الإخوان الراغبين بتراجم ثلة من علماء المغرب المعاصرين" لمحمد بن الفاطمي بن الحاج السلمي
- "إتحاف النبلاء بسير العلماء" لراشد بن عثمان الزهراني.
- "إتحاف ذوي العلم والرسوخ بتراجم من أخذت عنه من الشيوخ" لمحمد بن الفاطمي بن الحاج السلمي.
- "إتمام الأعلام" لنزار أباظه ومحمد رياض المالح.
- "الإرشاد في معرفة علماء الحديث" لأبي يعلى الخليلي.
- "الاستقصا لأخبار المغرب الأقصى" لأحمد بن خالد الناصري.
- "الاستيعاب في معرفة الأصحاب" لابن عبد البر.
- "أسد الغابة في معرفة الصحابة" لابن الأثير.(مقدمة/48)
- "الإصابة في معرفة الصحابة" لابن حجر العسقلاني.
- "الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام" للعباس بن إبراهيم السملالي.
- "أعيان العصر وأعوان النصر" للصفدي.
- "إنباء الغمر بأبناء العمر في التاريخ" لابن حجر العسقلاني.
- "الانتقاء من فضائل الأئمة الفقهاء"
- "الأنساب" للسمعاني.
- "البداية والنهاية" لابن كثير.
- "البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن التاسع" للشوكاني.
- "التاج المكلل" لصديق حسن خان.
- تاريخ ابن معين.
- "تاريخ الإسلام" للذهبي.
- "التاريخ الإسلامي" لمحمود شاكر.
- "تاريخ الملوك والأمم" للطبري.
- "التاريخ الكبير" للبخاري.
- "تاريخ المخلاف" السليماني.
- تاريخ المملكة العربية السعودية.(مقدمة/49)
- "تاريخ بغداد" أو "مدينة السلام" للخطيب البغدادي.
- تاريخ خليفة بن خياط.
- "تاريخ دمشق" لابن عساكر.
- "تاريخ علماء الأندلس" لابن الفرضي.
- "تتمة الأعلام" لمحمد خير رمضان يوسف.
- "تذكرة الحفاظ" للذهبي.
- "ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك" للقاضي عياض.
- "تهذيب الأسماء واللغات" للنووي.
- "تهذيب التهذيب" لابن حجر العسقلاني.
- "تهذيب الكمال" للمزي.
- "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم الرازي.
- "الجواهر المضيئة".
- "حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة" للسيوطي.
- "حلية الأولياء" لأبي نعيم الأصبهاني.
- "الدر المنضد في ذكر أصحاب الإمام أحمد" للعليمي.
- "الدرر السنية في الأجوبة النجدية".
- "الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة" لابن حجر العسقلاني.(مقدمة/50)
- "الديباج المذهب في أعيان علماء المذهب" لابن فرحون المالكي.
- "ذيل الدرر الكامنة" لابن حجر العسقلاني.
- "ذيل تذكرة الحفاظ" لأبي المحاسن الحسيني الدمشقي.
- "ذيل طبقات الحنابلة" لابن رجب.
- روضة ابن غنام "تاريخ نجد المسمى: روضة الأفكار والأفهام لمرتاد حال الإمام في تعداد غزوات ذوي الإسلام" لحسين بن غنام.
- "رياض النفوس في طبقات علماء القيروان وإفريقية" لأبي بكر عبد الله بن محمد المالكي.
- "السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة" لمحمد بن عبد الله النجدي.
- "سل النصال للنضال" لعبد السلام بن عبد القادر بن سودة.
- "السلفية وأعلامها في موريتانيا" للشيخ الطيب بن عمر بن الحسين.
- "السلوك في معرفة دول الملوك" للمقريزي.
- "سير أعلام النبلاء" للذهبي.
- "شجرة النور الزكية في طبقات المالكية" لمحمد مخلوف.
- "شذرات الذهب في أخبار من ذهب" لابن عماد الحنبلي.
- "الضوء اللامع لأهل القرن التاسع" للسخاوي.
- "الطبقات الكبرى" لابن سعد.(مقدمة/51)
- "طبقات الحفاظ" للسيوطي.
- "طبقات الشافعية الكبرى" للسبكي.
- "طبقات الفقهاء الشافعيين" لابن كثير.
- "طبقات النحويين واللغويين".
- طبقات خليفة ابن خياط.
- "العبر في خبر من غبر" للذهبي.
- "عجائب الآثار" (تاريخ الجبرتي).
- "العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين" لتقي الدين الفاسي.
- "علماء نجد خلال ستة قرون" لعبد الرحمن البسام. (1)
- "علماء نجد خلال ثمانية قرون" لعبد الرحمن البسام.
- "غاية النهاية في طبقات القراء" لابن الجزري.
- "الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي" للحجوي الثعالبي.
- "فهرس الفهارس" لعبد الحي الكتاني.
- "الفهرست" لابن النديم.
- "فوات الوفيات" لمحمد شاكر الكتبي.
- "الكامل في التاريخ" لابن الأثير.
__________
(1) نميزه عن الذي بعده بـ: "علماء نجد".(مقدمة/52)
- "كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون" لحاجي خليفة.
- "كوكبة من أئمة الهدى" للقريوتي.
- "لسان الميزان" لابن حجر العسقلاني.
- "المستدرك على معجم المؤلفين" لعمر رضا كحالة.
- "مشاهير علماء الأمصار وأعلام فقهاء الأقطار" لابن حبان البستي.
- "معالم الإيمان" للدباغ.
- "المعجب في تلخيص أخبار المغرب" لعبد الواحد المراكشي.
- "معجم الشيوخ أو رياض الجنة" لعبد الحفيظ الفاسي.
- "معجم المؤلفين" لعمر رضا كحالة.
- معجم شيوخ الذهبي.
- "معرفة القراء الكبار" للذهبي.
- "المعرفة والتاريخ" للفسوي.
- "المقصد الأرشد في ذكر أصحاب الإمام أحمد" لابن مفلح.
- "المنتظم في تاريخ الملوك والأمم" لابن الجوزي.
- "ميزان الاعتدال" للذهبي.
- "النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة" ليوسف بن تغري بردي.
- "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب" للمقري.(مقدمة/53)
- "نيل الوطر في تراجم رجال اليمن في القرن الثالث عشر" لمحمد اليمني المعروف بزباره.
- "هدية العارفين في أسماء المؤلفين وآثار المصنفين" لإسماعيل باشا البغدادي.
- "الوافي بالوفيات" للصفدي.
- "وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان" لابن خلكان.
كتب مفردة في تراجم خاصة
- " ابن عثيمين الإمام الزاهد" للدكتور ناصر بن مسفر الزهراني.
- "الرد الوافر على من زعم بأن من سمى ابن تيمية شيخ الإسلام كافر". لابن ناصر الدين الدمشقي.
- "المقتصد من حياة الشيخ أبي يوسف عبد الرحمن عبد الصمد" لإبراهيم الساجر.
- "إمام العصر سماحة الشيخ الإمام العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز" للدكتور الزهراني.
- "ترجمة أبي عبد الرحمن مقبل بن هادي الوادعي" بقلمه.
- "ترجمة الشيخ عبد الله البسام" بقلم ابنه خالد البسام.
- "حياة الألباني وآثاره وثناء العلماء عليه" للشيباني.
- "صفوت الشواذفي في ركب العلماء" لأحمد سليمان.
- "مختصر ترجمة فضيلة الشيخ محمد أمان الجامي" لمصطفى بن عبد القادر الفلاني.(مقدمة/54)
- "نزهة الأنفس في سيرة الشيخ عبد السلام بن برجس" لأبي قرة فريد المرادي.
مجلات
- مجلة التوحيد المصرية.
- مجلة الجندي المسلم التي تصدر عن وزارة الدفاع السعودية.
- مجلة الفرقان المغربية.
- مجلة الفرقان الكويتية.
- مجلة المجاهد. باكستان.(مقدمة/55)
ثمرات هذه الدراسة:
1 - تصدي أهل كل عصر للبدع التي فيه:
مصداقاً لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك" (1).
قال ابن القيم رحمه الله: "الحمد لله الذي أقام في أزمنة الفترات من يكون ببيان سنن المرسلين كفيلاً، واختص هذه الأمة بأنه لا تزال فيها طائفة على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمره ولو اجتمع الثقلان على حربهم قبيلاً، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، ويحيون بكتابه الموتى، فهم أحسن الناس هدياً وأقومهم قيلاً.
فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، ومن ضال جاهل لا يعلم طريق رشده قد هدوه، ومن مبتدع في دين الله بشهب الحق قد رموه، جهاداً في الله، وابتغاء
__________
(1) أخرجه: أحمد (5/ 278 - 279) ومسلم (3/ 1523/1920 [170]) واللفظ له، وأبو داود (4/ 450 - 452/ 4252) والترمذي (4/ 437/2229)، وابن ماجه (1/ 5 - 6/ 10) وفي: (2/ 1304/3952).
كلهم من طرق عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن ثوبان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فذكره.
قال الترمذي: "وهذا حديث حسن صحيح سمعت محمد بن إسماعيل يقول: سمعت علي بن المديني يقول: وذكر هذا الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق فقال علي: هم أهل الحديث".(مقدمة/56)
مرضاته، وبياناً لحججه على العالمين وبيناته، وطلباً للزلفى لديه ونيل رضوانه وجناته، فحاربوا في الله من خرج عن دينه القويم، وصراطه المستقيم، الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا أعنة الفتنة، وخالفوا الكتاب، واختلفوا في الكتاب، واتفقوا على مفارقة الكتاب، ونبذوه وراء ظهورهم، وارتضوا غيره عنه بديلاً". (1)
2 - التأريخ للبدع وزمن ظهورها:
وذلك أن السلف رضوان الله عليهم قاموا في وجه البدع حين ظهورها، فحذروا منها ومن دعاتها، والمنتسبين إليها.
فحين تتوالى أقوال أهل العلم في حقبة زمنية في بدعة ما، يدل دلالة قاطعة على أن ظهور هذه البدعة وذيوع أمرها وانتشارها كان فيها، بهذا الاعتبار والاستقراء لمواقف السلف من البدع يمكن التأريخ لظهور كل بدعة على حدة، وزمن انتعاشها:
فالخوارج والرافضة ظهرتا بعد قضية التحاكم، فكان للأولى صولة بعد ظهورهم إلى أواخر القرن الأول وأوقات متقطعات في الثاني.
وأما الرافضة فاستمر أمرهم إلى أن تفرقت كلمتهم فصاروا زيدية ورافضة، إلى أن علت رايتهم وقويت شوكتهم مع القرامطة والعبيديين
__________
(1) مفتاح دار السعادة (1/ 103 - 104).(مقدمة/57)
وأذيالهم. من القرن الثالث إلى الخامس. ثم خمد وهجها إلى أن نفخ الخميني في رمادها وأضرم نارها واشتد لهيبها أوائل هذا القرن، ولا تزال تلفح وجوه أهل السنة بأرض فارس والعراق.
وأما القدرية: فأول موقف مأثور عن السلف في رد بدعتهم هو موقف عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما المسطور في حديث جبريل في صحيح مسلم. وقد بردت نارهم مع أواسط القرن الثاني.
وأما المرجئة فأرخ ظهورهم بفتنة ابن الأشعث أواخر القرن الأول، واستقرار أمرها بالكوفة أدى لانحصارها في الأحناف غالباً.
وأما الجهمية وأهل الكلام فلم يمكّن لهم إلا أواخر القرن الثاني الذي استطار أمرهم ومكن لهم.
وأما الصوفية فأُثر ذمهم في القرن الثالث الهجري وامتد أمرهم إلى اليوم حيث تظافرت أقوال الأئمة في الرد عليهم وكشف مخالفاتهم.
3 - وحدة مواقف السلف من الفرق المخالفة عبر التاريخ:
إن الناظر المتمعن والقارئ المتفهم فيما ذكرناه في هذه المسيرة المباركة الطيبة من أئمة وأعلام على اختلاف أزمنتهم، وتنوع أقطارهم، وتباين مذاهبهم الفقهية، يجد أن كلمتهم واحدة، ومواقفهم متطابقة من هذه الفرق(مقدمة/58)
المخالفة للسنة، وكأن القوم اجتمعوا في صعيد واحد، وأصدروا بياناً واحداً، على لسان رجل واحد، يقررون فيه وجوب الأخذ بالكتاب والسنة، ومتابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الأحكام والعقائد، تأسياً بالصحب الكرام الذي حازوا رضا الرب سبحانه بكمال التسليم لله تعالى ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -.
قال أبو المظفر السمعاني: "ومما يدل على أن أهل الحديث هم على الحق أنك لو طالعت جميع كتبهم المصنفة من أولهم إلى آخرهم، قديمهم وحديثهم مع اختلاف بلدانهم وزمانهم وتباعد ما بينهم في الديار، وسكون كل واحد منهم قطراً من الأقطار؛ وجدتهم في بيان الاعتقاد على وتيرة واحدة ونمط واحد، يجرون فيه على طريقة لا يحيدون عنها ولا يميلون فيها، قولهم في ذلك واحد وفعلهم واحد لا ترى بينهم اختلافاً ولا تفرقاً في شيء ما وإن قل، بل لو جمعت جميع ما جرى على ألسنتهم ونقلوه عن سلفهم، وجدته كأنه جاء من قلب واحد، وجرى على لسان واحد، وهل على الحق دليل أبين من هذا؟ قال الله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} (1)، وقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ
__________
(1) النساء الآية (82).(مقدمة/59)
فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} (1).
وأما إذا نظرت إلى أهل الأهواء والبدع رأيتهم متفرقين مختلفين وشيعاً وأحزاباً، لا تكاد تجد اثنين منهم على طريقة واحدة في الاعتقاد، يبدع بعضهم بعضاً، بل يترقون إلى التكفير، يكفر الابن أباه، والرجل أخاه، والجار جاره.
تراهم أبداً في تنازع وتباغض واختلاف، تنقضي أعمارهم ولما تتفق كلماتهم، {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14)} (2).
أو ما سمعت أن المعتزلة مع اجتماعهم في هذا اللقب يكفر البغداديون منهم البصريين، والبصريون منهم البغداديين، ويكفر أصحاب أبي علي الجبائي ابنه أبا هاشم، وأصحاب أبي هاشم يكفرون أباه أبا علي.
وكذلك سائر رؤوسهم وأرباب المقالات منهم، إذا تدبرت أقوالهم رأيتهم متفرقين يكفر بعضهم بعضاً، ويتبرأ بعضهم من بعض. وكذلك الخوارج والروافض فيما بينهم وسائر المبتدعة بمثابتهم، وهل على الباطل دليل أظهر من هذا؟ قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ} (3).
__________
(1) آل عمران الآية (103).
(2) الحشر الآية (14).
(3) الأنعام الآية (159).(مقدمة/60)
وكان السبب في اتفاق أهل الحديث؛ أنهم أخذوا الدين من الكتاب والسنة وطريق النقل، فأورثهم الاتفاق والائتلاف.
وأهل البدعة أخذوا الدين من المعقولات والآراء، فأورثهم الافتراق والاختلاف؛ فإن النقل والرواية من الثقات والمتقنين قلما يختلف، وإن اختلف في لفظ أو كلمة فذلك اختلاف لا يضر الدين ولا يقدح فيه.
وأما دلائل العقل فقلما تتفق؛ بل عقل كل واحد يري صاحبه غير ما يرى الآخر، وهذا بين والحمد لله .. ". (1)
4 - تميز الأئمة الأعلام بشمولية مواقفهم من كل الفرق:
إن المتأمل فيما أوردناه في موسوعتنا هذه من المأثور عن الأئمة الأعلام المشهورين بين المسلمين عامهم وخاصهم، يجد أن مواقفهم قد تنوعت، والأقوال المأثورة عنهم تعددت، في تقرير العقيدة السلفية وإبطال العقائد الخلفية، على اختلاف مشاربها وتنوع مضاربها، وتميزت مواقفهم بالشمولية من الفرق كلها إلا النادر القليل منهم، لم تسلم فرقة من نقدهم نصحاً للمسلمين، وانتصاراً لسنة سيد المرسلين.
__________
(1) الحجة في بيان المحجة (2/ 222 - 233)، وقد أورده ابن القيم في الصواعق (المختصر ص. 570 - 576)، وأورد معظمه السيوطي في صون المنطق (165 - 170).(مقدمة/61)
5 - إن القرون: التاسع والعاشر والحادي عشر؛ كانت حقبة مظلمة في التاريخ الإسلامي:
لقد كتب غير واحد عن تاريخ العقيدة على طريق الإجمال؛ منهم العلامة ابن القيم رحمه الله والإمام الذهبي في تاريخه وسيره، وكذلك المقريزي في خططه، والذي يظهر بالاستقراء والتتبع أن القرون الأولى بداية من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن بعدهم كانت سلسلة متصلة بعلماء الحديث والسنة الذين حملوا صحيح المعتقد من جيل إلى جيل. وإن كان قد وقعت عقبات في التاريخ كان لها الأثر السيئ على المسيرة العقدية الصحيحة، كما حدث في عهد المأمون وإخوانه الذين تبنوا الفكر الجهمي، وكذلك ما قام به ورثة المجوس الرافضة من محاولات متعددة آخرها إسقاط الخلافة العباسية التي كانت مؤامرة من أعداء الله المجوس، وكذلك محاولاتهم في المغرب وفي مصر كما ذكر الدباغ في معالم الإيمان، والمقريزي في خططه، وغيرهم ممن كتب في التاريخ، فكل هؤلاء الزنادقة كان لهم دور كبير في صد الناس عن السنة وأهلها، وقتل العلماء وسجنهم وتعذيبهم، وتهديدهم بأنواع التهديدات.
ولما جاء شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في أواخر القرن السابع وأوائل الثامن؛ أحيى الله به ما اندرس من السنة، ومثل التجديد بحق، فجدد الله به القرآن والسنن، وكان له تلامذة بررة فحول حملوا علمه ودعوته، كالحافظ ابن القيم والحافظ الذهبي والحافظ ابن كثير، والإمام المزي صاحب تهذيب(مقدمة/62)
الكمال، وغيرهم من تلامذته وزملائه.
ولكن بعد انقراض تلامذة شيخ الإسلام وزملائه في القرن الثامن؛ ظهرت ثغرة كبيرة؛ فضعف حال المسلمين وتغلب عليهم أعداؤهم في المشرق والمغرب، وما بقيت رقعة في العالم الإسلامي إلا وملئت بالطوائف والزوايا، وظهر التصوف وأمسى منقبة عندهم، وبرجاله أشاد السخاوي وانتشى في "الضوء اللامع".
كما حمل لواء علم الكلام باسم الأشعرية والماتريدية، أو نصرة الاعتزال ومنهاج جهم في بعض البلاد كاليمن وبعض بلاد فارس وبعض البلاد التي تنتسب إلى العرب، وإن ظهرت مدرسة الحافظ العراقي التي امتدت وظهر منها الحافظ ابن حجر وبعض الحفاظ الكبار، فإن همها كان هو العناية بصناعة الحديث دون التصدي للدفاع عن المعتقد الصحيح؛ بل وقع كثير من هؤلاء في التأويل والتصوف.
فهذه المدة إلى زمن الشيخ محمد بن عبد الوهاب كانت حقبة مظلمة ولم يعرف فيها من العلماء الأجلاء الدآبين عن المعتقد الصحيح إلا النزر اليسير الذين ذكرناهم، ممن بلغنا خبره أو كتابه.(مقدمة/63)
6 - انتعاش الدعوة السلفية مع الشيخ محمد بن عبد الوهاب:
وأما بعد هذه الحقبة المظلمة فأشرقت أنوار شمس السنة في ديار نجد المباركة، فبدأت بالشيخ الإمام المصلح المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه، ويسر الله له دولة الخير دولة آل سعود، التي نصر الله بها السنة وامتد خيرها فيما بعد إلى كل أرجاء المعمورة، فتنورت اليمن على قربها، وبعض علماء العراق الذين ظهر تأثرهم بالشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب، ووصل ذلك إلى السند والهند فظهر في كل مكان علماء اقتنعوا بدعوة الشيخ الإمام.
وتأسست جمعية أنصار السنة المحمدية بمصر برئاسة الشيخ حامد الفقي رحمه الله، وكانت من آثار هذه الدعوة المباركة، وكان لهذه الجمعية من الخير ما لا يحصيه إلا الله.
وتأسست جمعية أنصار السنة بالسودان وكان لها من الأثر الطيب ما يعرفه كل من تتبع تلك الدعوة المباركة.
وزار ابن ملك المغرب سليمان العلوي تلك البلاد، فنقل منها تلك الدعوة إلى بلاد المغرب.
وتأسست جمعية العلماء بالجزائر وكان لها أثر كبير في إحياء التوحيد والتحذير من الشرك.
أما اليوم فعلماء السنة والتوحيد كثر بحمد الله تعالى أينما ذهبت وحيثما(مقدمة/64)
يممت، وآثارهم وأياديهم البيضاء في نصرة الحق ظاهرة جلية، ولله الحمد والمنة.
7 - إبراز مواقف أعلام المذاهب المعروفة في إبطال البدع:
لقد ساخت أقدام كثير من أتباع المذاهب الأربعة في وحل البدع العلمية والعملية، وتلطخت أيديهم وقلوبهم بدرنها، وأضحوا حماة لحياضها، ودعاة لمواردها باسم المذهب وثوابته، وهم أبعد الناس عن إمامهم الذي ينتسبون إليه؛ وأعلام مذهبهم الذي يستمسكون به.
برهان صدقِ قولنا ما سطرناه في كتابنا هذا عن الأئمة الأربعة وغيرهم، من أقوالهم وأفعالهم ومؤلفاتهم وتصريحاتهم الواضحة البليغة في نبذ البدع كلها، علميها وعمليها، وكذا الشأن في أتباعهم من أعلام مذاهبهم، وقد بلغ تعداد أعيان المالكية الرادين للبدع العملية دون العلمية في موسوعتنا هذه زهاء سبعين علماً، وأمثالهم في بقية المذاهب الأربعة كثير، وإن كنا لم نتقصد إحصاءهم وتعدادهم. فما بال خلفهم اليوم رافعين ألوية البدعة، شاهرين سيوفهم في صدر السنة وأتباعها؟!!
فالحق الذي لا مرية فيه أن أولى الناس بهؤلاء الأئمة هم السلفيون الذين يعتصمون بقولهم في وجوب اتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والخضوع لقوله، وأنه حق، وأن كل قول منهم خالف الثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهم عنه راجعون، وبما(مقدمة/65)
صح عنه قائلون، وأن كل واحد يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي - صلى الله عليه وسلم -.
فأين أدعياء اتباع الأئمة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رحمهم الله حيث يلزمون الناس ويوجبون عليهم الاقتداء بهم، ويمنعون الخروج عن مذاهبهم، ثم هم سوغوا لأنفسهم الخروج عن هؤلاء الأئمة في المعتقد والسلوك، فاعتنقوا خلاف معتقد أئمتهم الذي هو معتقد السلف الأخيار، وتفرقت سبلهم، وتنوعت مشاربهم بين جهمي جلد، أو ماتريدي وأشعري متردد، متذبذب بين اعتقاد السلف والاعتزال لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، واصطفوا لأنفسهم -دون أئمتهم- سلوك الجنيد وحلول ابن عربي. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
8 - رد زعم القائل أن السلفية بالمغرب حادثة مع الشيخ تقي الدين الهلالي:
هذه الدعوى المغرضة في عرضها، توغر صدر السلطان نحو الدعوة السلفية ودعاتها وأبنائها، بهذا البلد الحبيب؛ لأن الحقائق التاريخية، والآثار الخطية التي دونت بمداد العز والشرف مواقف لملوك وعلماء سلفيين ببلدنا الكريم، وأقوالهم وكتبهم تشهد ببطلان وزيف هذا الزعم المدعى، والكذب البراق المفترى.
لقد ظل أهل المغرب على اعتقاد السلف منذ دخولهم في الإسلام إلى أن(مقدمة/66)
حُرِّف اعتقادهم تحت وطأة التهديد والقتل من ابن تومرت الذي فرض الأشعرية بلبوس الرفض في ادعاء المهدوية، وقد نص على هذا غير واحد من المؤرخين وعلماء المغرب المعتبرين:
قال الشيخ عبد الحفيظ الفاسي: "ذكر أهل التاريخ أن أهل المغرب كانوا في الأصول والمعتقدات بعد أن طهرهم الله تعالى من نزغة الخارجية أولاً والرافضية ثانياً على مذهب أهل السنة، مقلدين للصحابة ومن اقتفى أثرهم من السلف الصالح وأهل القرون الثلاثة الفاضلة، في الإيمان بالمتشابه وعدم التعرض له بالتأويل، مع اعتقاد التنزيه، كما جرى عليه الإمام ابن أبي زيد القيرواني في عقيدته، واستمر الحال على ذلك إلى أن ظهر محمد بن تومرت الملقب نفسه بالإمام المعصوم أو مهدي الموحدين، وذلك في صدر المائة السادسة، فرحل إلى المشرق، وأخذ عن علمائه مذهب المتأخرين من أصحاب الإمام أبي الحسن الأشعري من الجزم بعقيدة السلف مع تأويل المتشابه من كلام الله تعالى وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وتخريجه على ما عرف في كلام العرب من فنون مجازاتها وضروب بلاغتها، ومزج ذلك بما كان ينتحله من عقائد الخوارج والشيعة والفلاسفة، حسبما يُعلم ذلك أولاً بمعرفة كتب الإمام أبي الحسن الأشعري كالإبانة في أصول الديانة وغيرها التي ينصر فيها مذهب السلف، وبمعرفة كتب الجهابذة من أتباعه الذين اقتدوا به في ذلك كإمام الحرمين، وثانياً(مقدمة/67)
بإمعان النظر في أقوال وأفعال وأحوال ابن تومرت وخلفائه من بعده، ثم عاد ابن تومرت إلى المغرب بهذه العقيدة المختلطة المدلسة الفاسدة، وألف فيها التآليف العديدة هو وأتباعه، ودعا الناس إلى سلوكها، وجزم بتضليل من خالفها، بل وتكفيره. وسمى أصحابه بالموحدين تعريضاً بأن من خالف عقيدته ليس بموحد؛ بل مجسم مشرك، وجعل ذلك ذريعة إلى الانتزاء على مُلك المغرب حسبما هو معلوم، فقاتل على عقيدته، واستباح هو وخلفاؤه لأجلها دماء مئات الآلاف من الناس وأموالهم حتى تمكنت من عقول الناس بالسيف، ونبذوا ما كان عليه سلفهم الأول، وأقبلوا كافة على تعاطي هذا المذهب، وقام العلماء بتقريره وتحريره درساً وتأليفاً، والناس على دين ملوكهم". (1)
وقال الشيخ عبد الرحمن النتيفي المغربي عن فتنة العبيدين وبدعتهم: "ثم انجلت ظلمتها واستضاء المسلمون بنور السنة ومذهب السلف، حتى ظهر فيهم في أوائل القرن السادس محمد بن تومرت المهدي، تلميذ أبي حامد الغزالي، فملأ أرضهم بمعارضة العقل للوحي، واشتهر مذهب شيخه الغزالي في هذه البقاع، وسمى من خالفه من علماء المغرب وملوكهم وجمهورهم مجسمة، وقاتلهم على ذلك، وسمى أتباعه الموحدين، وفي ذلك يقول الحفيد ابن رشد: ولما ظهر أبو حامد طم الوادي على القرى، ثم لم يزل أهل المغرب في
__________
(1) الآيات البينات (ص. 24 - 25).(مقدمة/68)
دولة الموحدين وبني مرين بعدهم وغيرهم آخذين بمذهبه. وآخذ بمذهب السلف وهم القليل، حتى كانت دولة سيدي محمد بن عبد الله العلوي، فعانق مذهب السلف هو وخواصه، وأظهره للجمهور، وهكذا ابنه أبو الربيع المولى سليمان كما تقدم.
وأما أهل المشرق فبعث الله عليهم في خلال هذه الدعوة عبادًا له أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار، وهم التتار، ثم تيمور، ثم نيضت نابغة أيضاً تدعوا إلى معارضة النقل بالعقل، فقيض الله لهم شيخ الإسلام الحراني وأصحابه، فكانوا يناضلون بسيف الحجة عن مذهب أهل السنة، ثم اختلط الأمر بعد ذلك ومرج، فمن آخذ بمذهب هؤلاء، ومن آخذ بمذهب هؤلاء.
وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله" (1)." اهـ (2)
وهذا الذي قرره الشيخ النتيفي رحمه الله وغيره من العلماء ثابت موثق بمصادره والقائلين به خلافاً للدعوى العرية التي نحن بصدد إبطالها. ونقدم للقراء الكرام مثالاً واحداً من ملوك المغرب وهو السلطان محمد بن عبد الله العلوي المتوفى (1204 هـ) وكان مالكي المذهب، حنبلي الاعتقاد، مقتفياً نهج
__________
(1) أخرجه: أحمد (4/ 244) والبخاري (13/ 542/7459) ومسلم (3/ 1523/1921) من حديث المغيرة بن شعبة. وفي الباب عن غيره من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
(2) نظر الأكياس (96 - 70) مخطوط يعمل على تحقيقة بعض طلبتنا.(مقدمة/69)
السلف أصحاب الحديث:
جاء في الفكر السامي: "إنه أول من أدخل المسانيد الأربعة للمغرب من الحرم الشريف يعني ما عدا الموطأ، وافتتحه -أي كتاب "الفتوحات الإلهية في أحاديث خير البرية"- بعقيدة رسالة ابن أبي زيد ... وقد كان سلفي العقيدة على مذهب الحنابلة كما صرح بذلك في تآليفه ... ومن مآثره أنه كان يحض على قراءة كتب المتقدمين وينهى عن المختصرات، ويرى الرجوع للكتاب والسنة؛ ولو عملوا برأيه لارتقى علم الدين إلى أوج الكمال. (1)
وفي الاستقصا: "وكان السلطان سيدي محمد بن عبد الله رحمه الله ينهى عن قراءة كتب التوحيد المؤسسة على القواعد الكلامية المحررة على مذهب الأشعرية رضي الله عنهم، وكان يحض الناس على مذهب السلف من الاكتفاء بالاعتقاد المأخوذ من ظاهر الكتاب والسنة بلا تأويل، وكان يقول عن نفسه حسبما صرح به في آخر كتابه الموضوع في الأحاديث المخرجة من الأئمة الأربعة: إنه مالكي مذهباً حنبلي اعتقاداً، يعني أنه لا يرى الخوض في علم الكلام على طريقة المتأخرين، وله في ذلك أخبار". (2)
- وفيه: "ومن عجيب سيرته رحمه الله أنه كان يرى اشتغال طلبة العلم
__________
(1) (2/ 293 - 294).
(2) (8/ 68).(مقدمة/70)
بقراءة المختصرات في فن الفقه وغيره وإعراضهم عن الأمهات المبسوطة الواضحة تضييع للأعمار في غير طائل، وكان ينهى عن ذلك غاية. ولا يترك من يقرأ مختصر خليل ومختصر ابن عرفة وأمثالهما. ويبالغ في التشنيع على من اشتغل بشيء من ذلك، حتى كاد الناس يتركون قراءة مختصر خليل، وإنما كان يحض على كتاب الرسالة والتهذيب وأمثالهما، حتى وضع في ذلك كتاباً مبسوطاً أعانه عليه أبو عبد الله الغربي وأبو عبد الله المير وغيرهما من أهل مجلسه.
ولما أفضى الأمر إلى السلطان العادل المولى سليمان رحمه الله صار يحض الناس على التمسك بالمختصر، ويبذل على حفظه وتعاطيه الأموال الطائلة، والكل مأجور على نيته وقصده. (1)
قال صاحب الاستقصا: "إنا نقول: الرأي ما رأى السلطان سيدي محمد رحمه الله، وقد نص جماعة من أكابر الأعلام النقاد مثل الإمام الحافظ أبي بكر ابن العربي، والشيخ النظار أبي إسحاق الشاطبي، والعلامة الواعية أبي زيد عبد الرحمن بن خلدون وغيرهم، أن سبب نضوب ماء العلم في الإسلام ونقصان ملكة أهله فيه إكباب الناس على تعاطي المختصرات الصعبة الفهم، وإعراضهم عن كتب الأقدمين المبسوطة المعاني، الواضحة الأدلة، التي تحصل لمطالعها الملكة في أقرب
__________
(1) (8/ 67).(مقدمة/71)
مدة، ولعمري لا يعلم هذا يقيناً إلا من جربه وذاقه. اهـ (1)
وجاء في "النبوغ المغربي" لعبد الله كنون: "أصدر مرسوماً ملكياً سنة ثلاث ومائتين وألف للهجرة في إصلاح المنهج التعليمي بالمغرب، وألزم العلماء والوعاظ به، وتوعد بالعقوبة كل من خالفه، ومما قال فيه: "ومن أراد علم الكلام فعقيدة ابن أبي زيد رضي الله عنه كافية شافية يستغني بها جميع المسلمين". ثم قال: "ومن أراد أن يخوض في علم الكلام والمنطق وعلوم الفلاسفة وكتب غلاة الصوفية وكتب القصص؛ فليتعاط ذلك في داره مع أصحابه الذين لا يدرون بأنهم لا يدرون، ومن تعاطى ما ذكرنا في المساجد ونالته عقوبة فلا يلومن إلا نفسه، وهؤلاء الطلبة الذين يتعاطون العلوم التي نهينا عن قراءتها، ما مرادهم بتعاطيها إلا الظهور والرياء والسمعة، وأن يُضلوا طلبة البادية؛ فإنهم يأتون من بلدهم بنية خالصة في التفقه في الدين وحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فحين يسمعونهم يدرسون هذه العلوم التي نهينا عنها؛ يظنون أنهم يحصلون على فائدة بها، فيتركون مجالس التفقه في الدين واستماع حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإصلاح ألسنتهم بالعربية، فيكون ذلك سبباً في ضلالهم". (2)
فمن أعلام السلفية بالمغرب قبل الشيخ تقي الدين الهلالي أو من عاصره:
__________
(1) الاستقصا (8/ 67).
(2) ص (277).(مقدمة/72)
- السلطان سليمان بن محمد بن عبد الله العلوي، أبو الربيع (1238 هـ).
- عبد الله بن إدريس بن محمد بن أحمد السنوسي، أبو سالم (1350 هـ).
- عبد السلام السرغيني (1354 هـ).
- السلطان عبد الحفيظ بن الحسن العلوي أبو المواهب (1356 هـ).
- أبو شعيب الدكّاليّ (1356 هـ) وكان وزيراً للعدل.
- عبد الحفيظ بن محمد الطاهر بن عبد الكبير الفاسي الفهري (1383 هـ).
- ابن المؤقت محمد بن محمد بن عبد الله المؤقت المراكشي (1368 هـ).
- محمد بن العربي العلوي (1384 هـ) وكان وزيراً للعدل أيضاً.
- عبد الرحمن بن محمد بن إبراهيم النتيفي (1385 هـ).
- محمد بن اليمني الناصري (1391 هـ).
- محمد الجزولي (1393 هـ).
- صهيب بن محمد الزمزمي بن الصديق الغماري (بعد 1397 هـ).
- محمد بن محمد بن العربي كنوني المذكوري (1398 هـ) وكان رحمه الله عضواً بارزاً في الأمانة العامّة لرابطة علماء المغرب.
- أحمد الخريصي (بعد 1403 هـ).
- عبد الله كنون رئيس رابطة علماء المغرب وأمينها العام. (1409 هـ).
- أحمد بن محمد بن عمر ابن تاويت التطواني (1414 هـ).(مقدمة/73)
وهؤلاء ممن تيسر الوقوف على مواقفهم التي ضمناها موسوعتنا هذه وعامتها في المجلدين التاسع والعاشر.
وختاماً: هذا ما تيسر بسطه في هذه المقدمة للتعريف بهذه الموسوعة المباركة، التي سنعمل إن شاء الله تعالى على وضع تتمات وزوائد ومستدركات عليه، إن كتب الله في العمر فسحة.
والله أسأل أن ينفع بها، وأن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه، وأن يجزي أبوي وأم سهل رفيقة العمر -والتي كانت خير سند لنا في المسيرة الدعوية والعلمية- وأبناءنا وتلامذتنا خيراً؛ فإن لهم اليد البيضاء في هذا البحث وفي غيره من الأعمال الدعوية والعلمية ونشر الكتاب والسنة، جعلهم الله خير خلف لخير سلف، وجعل منهم العلماء والدعاة والمجاهدين في الله حق جهاده، ومن نسلهم ودعوتهم إنه سميع مجيب.
كما لا ننسى الشكر والدعاء لكل من له يد خير في التوجيه والنصح للجمعية التي نقوم عليها، وخدمتها بعلمه أو عمله، أو ماله أو قلمه. فنسأله سبحانه أن يجزل لهم المثوبة ويعظم لهم الأجر.
وكتب محمد بن عبد الرحمن المغراوي
مراكش(مقدمة/74)
حمزة بن عبد المطلب (1) (3 هـ)
حمزة بن عبد المطلب بن هاشم، عم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخوه من الرضاعة، وكان يقال له أسد الله، وأسد رسوله، يكنى أبا عمارة، وأبا يعلى أيضا لابنيه عمارة ويعلى. الإمام البطل الضرغام البدري الشهيد. قال ابن إسحاق: لما أسلم حمزة، علمت قريش أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد امتنع، وأن حمزة سيمنعه، فكفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه. وأخرج الحاكم وصححه عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب" (2) كان أسن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأربع سنين. قتله وحشي يوم أحد بطلب من هند بنت عتبة انتقاما لأبيها ومثلت به.
موقفه من المشركين:
عن ابن إسحاق قال: فحدثني رجل من أسلم، وكان واعية، أن أبا جهل اعترض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند الصفا، فآذاه وشتمه ونال منه ما يكره من العيب لدينه والتضعيف له. فلم يكلمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ومولاة لعبد الله بن جدعان التيمي في مسكن لها فوق الصفا تسمع ذلك، ثم انصرف عنه، فعمد إلى ناد لقريش عند الكعبة فجلس معهم. ولم يلبث حمزة بن عبد المطلب أن
_________
(1) الإصابة (2/ 121 - 123) والاستيعاب (1/ 369 - 375) وطبقات ابن سعد (3/ 8 - 19) والعقد الثمين (4/ 227 - 228) ومجمع الزوائد (9/ 269 - 271) وشذرات الذهب (1/ 10 - 11) وسير أعلام النبلاء (1/ 171 - 174) والمستدرك للحاكم (3/ 192 - 196).
(2) أخرجه الحاكم (2/ 119 - 120) و (3/ 195) والطبراني في الأوسط (1/ 501 - 502/ 922) والخطيب في تاريخه (6/ 377) من طرق عن جابر رضي الله عنه. وفي الباب عن علي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهم. وقد صححه الشيخ الألباني رحمه الله في الصحيحة (374).(1/1)
أقبل متوشحا قوسه، راجعا من قنص له. كان صاحب قنص يرميه، ويخرج له، فكان إذا رجع من قنصه لم يرجع إلى أهله حتى يطوف بالكعبة. وكان إذا فعل ذلك لا يمر على ناد من قريش إلا وقف وسلم وتحدث معهم. وكان أعز قريش وأشدها شكيمة. وكان يومئذ مشركا على دين قومه. فلما مر بالمولاة، وقد قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجع إلى بيته، فقالت له: يا أبا عمارة، لو رأيت ما لقي ابن أخيك من أبي الحكم آنفا قبيل، وجده هاهنا فآذاه وشتمه وبلغ منه ما يكره، ثم انصرف عنه، ولم يكلمه محمد. فاحتمل حمزة الغضب لما أراد الله عز وجل به من كرامته. فخرج سريعا لا يقف على أحد، كما كان يصنع، يريد الطواف بالبيت. معدا لأبي جهل أن يقع به. فلما دخل المسجد، نظر إليه جالسا في القوم. فأقبل نحوه حتى إذا قام على رأسه، رفع القوس وضربه بها ضربة شجه بها شجة منكرة. وقامت رجال من قريش من بني مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل منه. فقالوا: ما نراك يا حمزة إلا قد صبأت. قال حمزة: وما يمنعني منه، وقد استبان لي منه ذلك، وأنا أشهد أنه رسول الله، وأن الذي يقول حق. فوالله لا أنزع، فامنعوني إن كنتم صادقين. فقال أبو جهل: دعوا أبا عمارة، فإني والله لقد سببت ابن أخيه سبا قبيحا. وتم حمزة على إسلامه وعلى ما تابع عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قوله. فلما أسلم حمزة عرفت قريش أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد عز وامتنع، وأن حمزة سيمنعه. فكفوا عن بعض ما كانوا يتناولون منه.
فقال في ذلك شعرا حين ضرب أبا جهل وأسلم:
ذق يا أبا جهل ما عسيت ... من أمرك الظالم إذ مشيت(1/2)
عن أمرك الظالم إذ عنيت ... لو كنت ترجو الله ما شقيت
ستسعط الرغم بما أتيت ولا ... تؤذي رسول الله إذ نهيت
تركت الحق إذ دعيت ... ولا هويت بعد ما هويت
حتى تذوق الخوى قد لقيت ... فقد شفيت النفس وأشفيت (1)
" التعليق:
هذا أحد مواقف حمزة رضي الله عنه، وكانت كلها في نصرة عقيدة التوحيد الخالصة، فهو أسد الله يوم بدر، قتل طاغوتا من أكبر طواغيت الشرك: شيبة بن ربيعة، وشارك في قتل عتبة بن ربيعة، وقتل طعيمة بن عدي، وأبلى البلاء الحسن يوم أحد، واستشهد في تلك المعركة الخالدة، وسماه النبي - صلى الله عليه وسلم -: "سيد الشهداء" (2): فرضي الله عنه وأرضاه.
سعد بن معاذ (3) (5 هـ)
سعد بن معاذ بن النعمان بن امرئ القيس، أبو عمرو الأنصاري الأوسي الأشهلي البدري. أسلم على يد مصعب بن عمير. قال ابن إسحاق: لما أسلم وقف على قومه، فقال: يا بني عبد الأشهل كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا فضلا، وأيمننا نقيبة. قال: فإن كلامكم علي حرام،
_________
(1) سيرة ابن إسحاق (ص.151 - 152).
(2) تقدم تخريجه.
(3) السير (1/ 279 - 297) والاستيعاب (2/ 602 - 605) وتهذيب الكمال (10/ 300 - 304) وأسد الغابة (2/ 461 - 464) والإصابة (4/ 171 - 172) وشذرات الذهب (1/ 11).(1/3)
رجالكم ونساؤكم حتى تؤمنوا بالله ورسوله. قال: فوالله ما بقي في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا وأسلموا. قال ابن إسحاق: آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين سعد وأبي عبيدة بن الجراح. وقال ابن إسحاق: حدثني أبو ليلى عبد الله بن سهل أن عائشة كانت في حصن بني حارثة يوم الخندق وأم سعد معها، فعبر سعد عليه درع مقلصة، قد خرجت منه ذراعه كلها وفي يده حربة يرفل بها ويقول:
لبث قليلا يشهد الهيجا حمل ... لا بأس بالموت إذا حان الأجل
فقالت أم سعد: الحق يا بني، قد والله أخرت. فقالت عائشة: يا أم سعد لوددت أن درع سعد كانت أسبغ مما هي، فرمي سعد بسهم قطع منه الأكحل، رماه ابن العرقة، فلما أصابه قال: خذها مني وأنا ابن العرقة، فقال: عرق الله وجهك في النار. اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها، فإنه لا قوم أحب إلي من أن أجاهدهم فيك من قوم آذوا نبيك وكذبوه وأخرجوه، اللهم إن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم، فاجعلها لي شهادة ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة.
ثم أبلغه أمنيته بأن أمكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين منهم، فنزلت بنو قريظة على حكم سعد فوافق حكم الله تعالى فيهم. (1)
رمي رضي الله عنه يوم الخندق بسهم فعاش بعد ذلك شهرا ثم انتقض جرحه فمات منه، وذلك سنة خمس للهجرة.
_________
(1) سيأتي الحديث وتخريجه.(1/4)
عن جابر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ" (1). وعن أنس قال: لما حملت جنازة سعد ابن معاذ، قال المنافقون: ما أخف جنازته، وذلك لحكمه في بني قريظة، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إن الملائكة كانت تحمله" (2).
موقفه من المشركين:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "لما نزلت بنو قريظة على حكم سعد [هو ابن معاذ] بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان قريبا منه- فجاء على حمار، فلما دنا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قوموا إلى سيدكم، فجاء فجلس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له: إن هؤلاء نزلوا على حكمك. قال: فإني أحكم أن تقتل المقاتلة، وأن تسبى الذرية. قال: لقد حكمت فيهم بحكم الملك". (3)
موقف السلف من مسيلمة الكذاب (12 هـ)
قال شيخ الإسلام في المنهاج: وقرآنه الذي قرأه قد حفظ الناس منه سورا إلى اليوم، مثل قوله: يا ضفدع بنت ضفدعين، نقي كم تنقين، لا الماء تكدرين، ولا الشارب تمنعين، رأسك في الماء وذنبك في الطين. ومثل قوله:
_________
(1) أحمد (3/ 316) والبخاري (7/ 155/3803) ومسلم (4/ 1915/2466 [124]) وابن ماجة (1/ 56/158).
(2) الترمذي (5/ 647/3849) وصححه الحاكم (3/ 207) ووافقه الذهبي.
(3) أحمد (3/ 22) والبخاري (6/ 202 - 203/ 3043) ومسلم (3/ 1388 - 1389/ 1768) وأبو داود (5/ 390/5215) والنسائي في الكبرى (5/ 62/8222).(1/5)
الفيل، وما أدراك ما الفيل، له زلوم طويل، إن ذلك من خلق ربنا لقليل. ومثل قوله: إنا أعطيناك الجماهر، فصل لربك وهاجر، ولا تطع كل ساحر وكافر. ومثل قوله: والطاحنات طحنا، والعاجنات عجنا، والخابزات خبزا، إهالة وسمنا، إن الأرض بيننا وبين قريش نصفين، ولكن قريشا قوم لا يعدلون. (1)
وقال أيضا: وكان مسيلمة قد كتب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته: "من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله. أما بعد فإني قد أشركت في الأمر معك" فكتب إليه النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب ... " (2) ولما جاء رسوله إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: أتشهد أن مسيلمة رسول الله؟ قال: نعم. قال: لولا أن الرسل لا تقتل لضربت عنقك. ثم بعد هذا أظهر أحد الرسولين الردة بالكوفة، فقتله ابن مسعود، وذكره بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا. وكان مسيلمة قد قدم في وفد بني حنيفة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأظهر الإسلام، ثم لما رجع إلى بلده قال لقومه: "إن محمدا قد أشركني في الأمر معه" واستشهد برجلين: أحدهما الرجال (3) بن عنفوة، فشهد له بذلك. ويروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لثلاثة أحدهم أبو هريرة، والثاني الرجال هذا: "إن أحدكم ضرسه في النار أعظم من كذا وكذا" (4) فاستشهد الثالث في سبيل الله، وبقي أبو هريرة
_________
(1) المنهاج (8/ 321 - 322).
(2) ذكره ابن إسحاق بدون سند وعنه ابن هشام في السيرة (4/ 600 - 601).
(3) ويروى أيضا بالحاء المهملة، والأكثر على ضبطه بالجيم.
(4) ذكره سيف بن عمر في الفتوح نقلا عن الاستيعاب (3/ 1258) والإصابة (5/ 358) عن مخلد بن قيس العجلي عن أحمد بن فرات بن حيان قال: خرج فرات والرجال ... الحديث. وهذا إسناد واه لا يصح. وذكره السهيلي في الروض الأنف (4/ 225) بدون إسناد، وعنه ابن كثير في السيرة (4/ 97).(1/6)
خائفا، حتى شهد هذا لمسيلمة بالنبوة، واتبعه، فعلم أنه هو كان المراد بخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -. وكان مؤذن مسيلمة يقول: أشهد أن محمدا ومسيلمة رسولا الله. (1)
ذكر مقتله لعنه الله:
جاء في الكامل لابن الأثير: فلما مات النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبعث أبو بكر السرايا إلى المرتدين، أرسل عكرمة بن أبي جهل في عسكر إلى مسيلمة وأتبعه شرحبيل بن حسنة، فعجل عكرمة ليذهب بصوتها، فواقعهم فنكبوه، وأقام شرحبيل بالطريق حين أدركه الخبر، وكتب عكرمة إلى أبي بكر بالخبر. فكتب إليه أبو بكر: لا أرينك ولا تراني، لا ترجعن فتوهن الناس، امض إلى حذيفة وعرفجة فقاتل أهل عمان ومهرة، ثم تسير أنت وجندك تستبرون الناس حتى تلقى مهاجر بن أبي أمية باليمن وحضرموت. فكتب إلى شرحبيل بالمقام إلى أن يأتي خالد، فإذا فرغوا من مسيلمة تلحق بعمرو بن العاص تعينه على قضاعة.
فلما رجع خالد من البطاح إلى أبي بكر واعتذر إليه قبل عذره ورضي عنه ووجهه إلى مسيلمة وأوعب معه المهاجرين والأنصار وعلى الأنصار ثابت بن قيس بن شماس، وعلى المهاجرين أبو حذيفة وزيد بن الخطاب، وأقام خالد بالبطاح ينتظر وصول البعث إليه. فلما وصلوا إليه سار إلى اليمامة وبنو حنيفة يومئذ كثيرون كانت عدتهم أربعين ألف مقاتل، وعجل شرحبيل بن حسنة، وبادر خالدا بقتال مسيلمة، فنكب، فلامه خالد، وأمد أبو بكر خالدا بسليط ليكون ردءا له لئلا يؤتى من خلفه. وكان أبو بكر
_________
(1) المنهاج (8/ 322 - 323).(1/7)
يقول: لا أستعمل أهل بدر، أدعهم حتى يلقوا الله بصالح أعمالهم، فإن الله يدفع بهم وبالصالحين أكثر مما ينتصر بهم. وكان عمر يرى استعمالهم على الجند وغيره.
وكان مع مسيلمة نهار الرجال بن عنفوة، وكان قد هاجر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقرأ القرآن، وفقه في الدين، وبعثه معلما لأهل اليمامة وليشغب على مسيلمة، فكان أعظم فتنة على بني حنيفة من مسيلمة، شهد أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن مسيلمة قد أشرك معه، فصدقوه واستجابوا له، وكان مسيلمة ينتهي إلى أمره، وكان يؤذن له عبد الله بن النواحة، والذي يقيم له حجير بن عمير، فكان حجير يقول: أشهد أن مسيلمة يزعم أنه رسول الله، فقال له مسيلمة: أفصح حجير، فليس في المجمجمة خير. وهو أول من قالها. (1)
عن عروة قال: سار بنا خالد إلى اليمامة إلى مسيلمة، وخرج مسيلمة بمجموعة فنزلوا بعقرباء فحل بها خالد عليهم، وهي طرف اليمامة، وجعلوا الأموال خلفها كلها وريف اليمامة وراء ظهورهم.
وقال شرحبيل بن مسيلمة: يا بني حينفة اليوم يوم الغيرة، اليوم إن هزمتم ستردف النساء سبيات وينكحن غير حظيات، فقاتلوا عن أحسابكم، فاقتتلوا بعقرباء قتالا شديدا، فجال المسلمون جولة، ودخل ناس من بني حنيفة فسطاط خالد وفيه مجاعة أسير، وأم تميم امرأة خالد، فأرادوا أن يقتلوها فقال مجاعة: أنا لها جار، ودفع عنها، وقال ثابت بن قيس حين رأى المسلمين مدبرين: أف لكم ولما تعملون، وكر المسلمون فهزم الله العدو،
_________
(1) الكامل في التاريخ (2/ 360 - 361).(1/8)
ودخل نفر من المسلمين فسطاط خالد فأرادوا قتل مجاعة، فقالت أم تميم: والله لا يقتل وأجارته. وانهزم أعداء الله حتى إذا كانوا عند حديقة الموت اقتتلوا عندها، أشد القتال. وقال محكم بن الطفيل: يا بني حنيفة ادخلوا الحديقة فإني سأمنع أدباركم، فقاتل دونهم ساعة وقتل، وقال مسيلمة: يا قوم قاتلوا عن أحسابكم، فاقتتلوا قتالا شديدا، حتى قتل مسيلمة. (1)
استشهد في هذه الوقعة عدة من سادات الصحابة رضوان الله عليهم منهم أبو حذيفة بن ربيعة ومولاه سالم وزيد بن الخطاب وعبد الله بن سهيل وعباد بن بشر وثابت بن قيس بن شماس وأبو دجانة وعبد الله بن أبي وغيرهم كثير، أوصلهم خليفة بن خياط إلى ثمانية وخمسين رجلا. (2)
عكرمة بن أبي جهل (3) (13 هـ)
عِكْرِمَة بن أبي جهل عمروبن هشام بن المغيرة، أبو عثمان القرشي المخزومي المكي أسلم عام الفتح، وحسن إسلامه وخرج إلى المدينة، ثم إلى قتال أهل الردة ووجهه أبو بكر الصديق إلى جيش نعمان، فظهر عليهم، ثم إلى اليمن ثم رجع. وذكر الطبري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعمله على صدقات هوازن عام وفاته. قال الشافعي: كان محمود البلاء في الإسلام، رضي الله عنه. قال ابن أبي مليكة: كان عكرمة إذا اجتهد في اليمين قال: لا والذي نجاني يوم
_________
(1) تاريخ الإسلام (عهد الخلفاء الراشدين ص.38 - 39).
(2) تاريخ خليفة (ص.115) وانظر الكامل في التاريخ (2/ 366 - 367) وتاريخ الإسلام (عهد الخلفاء الراشدين ص.53 - 73).
(3) السير (1/ 323 - 324) والإصابة (4/ 538 - 539) وأسد الغابة (4/ 67 - 70) والاستيعاب (3/ 1082 - 1085).(1/9)
بدر. ذكر الطبري أنه قتل يوم أجنادين، وقال الواقدي: لا اختلاف بين أصحابنا في ذلك. وقيل قتل يوم اليرموك في خلافة عمر.
موقفه من الجهمية:
جاء في السنة لعبد الله: عن ابن أبي مليكة قال كان عكرمة بن أبي جهل يأخذ المصحف فيضعه على وجهه ويقول كلام ربي كلام ربي. (1)
أمير المؤمنين أبو بكر الصِّدِّيق (2) (13 هـ)
عبد الله بن عثمان بن عامر القرشي التيمي، أبو بكر الصِّدِّيق بن أبي قُحَافَة، خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أمه أم الخير، سلمى بنت صخر. ولد بعد الفيل بسنتين وستة أشهر. كان أول من آمن من الرجال، لقب بعتيق. أنفق أمواله على النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي سبيل الله، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما نفعني مال ما نفعني مال أبي بكر" (3). وقال عمرو بن العاص: يا رسول الله أي الرجال أحب إليك؟ قال: "أبو بكر" (4). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر
_________
(1) السنة لعبد الله (ص.26).
(2) الإصابة (4/ 169 - 175) وكتاب المعرفة والتاريخ (1/ 238 - 241) و (1/ 446 - 455) والوافي بالوفيات (17/ 305) وتذكرة الحفاظ (1/ 2 - 5) وتاريخ الطبري (3/ 387 - 434) وطبقات ابن سعد (3/ 169 - 213) والكامل (2/ 418 - 420) وفيات الأعيان (3/ 64 - 71) والاستيعاب (3/ 963 - 978) وشذرات الذهب (1/ 24 - 26).
(3) أحمد (2/ 253 و366) والترمذي (5/ 568 - 569/ 3661) وقال: "هذا حديث حسن غريب". ابن ماجة (1/ 36/94) والنسائي في الكبرى (5/ 37/8110).
(4) أحمد (4/ 203) والبخاري (8/ 93/4358) ومسلم (4/ 1856/2384) والترمذي (5/ 663/3885).(1/10)
خليلا" (1). وهو المشار إليه في قوله تعالى: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} (2).
أول خليفة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. أم المسلمين في مرض موت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. شهد له النبي - صلى الله عليه وسلم - على التعيين بالجنة. صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة قبل البعثة وسبق إلى الإيمان به واستمر معه طول إقامته بمكة، ورافقه في الهجرة، وفي الغار وفي المشاهد كلها، وكانت الراية معه يوم تبوك. قال ابن حجر في الإصابة: ومناقب أبي بكر رضي الله عنه، كثيرة جدا، ومن أعظم مناقبه قول الله تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (3). كانت خلافته رضي الله عنه سنتين. قاتل أهل الردة الذين منعوا الزكاة. وقال: "والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة" (4). توفي رضي الله عنه في ذي القعدة سنة ثلاث عشرة للهجرة.
موقفه من المبتدعة:
- روى الدارمي عن قيس بن أبي حازم قال: دخل أبو بكر على امرأة
_________
(1) أحمد (1/ 389 و433) ومسلم (4/ 1856/2383) والترمذي (5/ 566/3655) وابن ماجة (1/ 36/93) وفي الباب عن أبي سعيد وأبي هريرة وابن الزبير وابن عباس رضي الله عنهم.
(2) التوبة الآية (40).
(3) التوبة الآية (40).
(4) أحمد (1/ 19) والبخاري (13/ 311/7284 - 7285) ومسلم (1/ 51 - 52/ 20) وأبو داود (2/ 198/1556) والترمذي (5/ 5 - 6/ 2607) والنسائي (5/ 16/2442).(1/11)
من أخمس، يقال لها: زينب: قال: فرآها لا تتكلم، فقال: مالها لا تتكلم، قالوا: نوت حجة مصمتة فقال لها: تكلمي فإن هذا لا يحل، هذا من عمل الجاهلية، قال: فتكلمت فقالت: من أنت؟ قال: أنا امرؤ من المهاجرين، قالت: من أي المهاجرين؟ قال: من قريش. قالت: فمن أي قريش أنت؟ قال: إنك لسؤول، أنا أبو بكر، قالت: ما بقاؤنا على هذا الأمر الصالح الذي جاء الله به بعد الجاهلية، فقال: بقاؤكم عليه ما استقامت بكم أئمتكم، قالت: وأيما الأئمة؟ قال: أما كان لقومك رؤساء وأشراف يأمرونهم فيطيعونهم؟ قالت: بلى، قال: فهم مثل أولئك على الناس. (1)
- عن ابن أبي مليكة قال: سئل أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن آية من كتاب الله؟ فقال: أية أرض تقلني أو أية سماء تظلني، أو أين أذهب، وكيف أصنع؟ إذا أنا قلت في آية من كتاب الله بغير ما أراد الله بها. (2)
- جاء في الإبانة عنه قال: لست تاركا شيئا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعمل به إلا عملت به وإني لأخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ. (3)
" التعليق:
قال ابن بطة عقبه: هذا يا إخواني الصديق الأكبر يتخوف على نفسه الزيغ إن هو خالف شيئا من أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم -، فماذا عسى أن يكون من زمان أضحى أهله يستهزئون بنبيهم وبأوامره، ويتباهون بمخالفته، ويسخرون
_________
(1) سنن الدارمي (1/ 71).
(2) رواه سعيد بن منصور في سننه (1/ 168/39) ومن طريقه البيهقي في المدخل (2/ 260/792).
(3) الإبانة (1/ 1/245 - 246/ 77).(1/12)
بسنته، نسأل الله عصمة من الزلل ونجاة من سوء العمل.
- قال شيخ الإسلام: كان صديق الأمة وأفضلها بعد نبيها يقول: أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم. (1)
موقفه من المشركين:
اختار الله محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - لرسالته، واختار أبا بكر لصحبته، لم تعرف البشرية بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل أبي بكر، ومواقفه في نصرة عقيدة التوحيد الخالصة تكفي أن تكون نموذجا لكل سلفي مخلص لعقيدته، كان شوكة في حلق كل مشرك منذ أسلم إلى أن توفي، ضحى بالمال والولد والنفس، جمع بين اللين والقوة، وبين العلم والشجاعة.
أجمع الصحابة كلهم على حبه والاعتراف بفضله، وبعدهم التابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين، إلا من أصيب بداء الرفض الذي لا دواء له إلا السيف، فرضي الله عنك يا خليفة رسول الله.
أول خطيب بكلمة التوحيد الخالصة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كان هذا الموقف من أعظم المواقف للصديق رضي الله عنه، حيث واجه جبال الشرك بمعاول عقيدة التوحيد الخالصة، وحاولت هذه الجبال أن تتردى عليه، وإن كان أصابه بعض شرره، ولكنه صبر واستيقن أن ما عليه هو الحق، وأن يوما ستتلاشى خيوط العنكبوت، التي ربما ظهرت لضعفاء الإيمان مظهر القوة وهي لا شيء، وهكذا يكون الأمر في كل زمان، فإنه مهما ظهر رؤوس الشرك والبدع، ومهما علا شأنهم وقويت شوكتهم، فإنهم كما قال الله
_________
(1) مجموع الفتاوى (20/ 210) وقد ذكرها ابن كثير في البداية والنهاية (6/ 305 - 306) وصحح إسنادها.(1/13)
تعالى: مَثَلُ {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}. (1)
نص الموقف:
عن القاسم بن محمد بن أبي بكر عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرج أبو بكر يريد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان له صديقا في الجاهلية: فلقيه فقال: يا أبا القاسم فقدت من مجالس قومك واتهموك بالعيب لآبائها وأمهاتها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني رسول الله أدعوك إلى الله. (2) الخ.
وبالسند نفسه عن عائشة قالت: لما اجتمع أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وكانوا ثمانية وثلاثين رجلا ألح أبو بكر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الظهور، فقال: يا أبا بكر إنا قليل، فلم يزل أبو بكر يلح حتى ظهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتفرق المسلمون في نواحي المسجد كل رجل في عشيرته، وقام أبو بكر في الناس خطيبا، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس، فكان أول خطيب دعا إلى الله وإلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وثار المشركون على أبي بكر وعلى المسلمين، فضربوا في نواحي المسجد ضربا شديدا، ووطئ أبو بكر وضرب ضربا شديدا، ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة، فجعل يضربه بنعلين مخصوفتين، ويحرفهما لوجهه، ونزا على بطن أبي بكر حتى ما يعرف وجهه من أنفه، وجاء بنو تيم يتعادون فأجلت المشركين
_________
(1) العنكبوت الآية (41).
(2) البداية والنهاية (3/ 29).(1/14)
عن أبي بكر وحملت بنو تيم أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه منزله، ولا يشكون في موته. ثم رجعت بنو تيم فدخلوا المسجد وقالوا: والله لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة بن ربيعة، فرجعوا إلى أبي بكر، فجعل أبو قحافة وبنو تيم يكلمون أبا بكر حتى أجاب، فتكلم آخر النهار، فقال: ما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فمسوا منه بألسنتهم، وعذلوه، ثم قاموا وقالوا لأمه أم الخير، انظري أن تطعميه شيئا أو تسقيه إياه، فلما خلت به ألحت عليه وجعل يقول: ما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقالت: والله مالي علم بصاحبك، فقال: اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه. فخرجت حتى جاءت أم جميل، فقالت: إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله، فقالت: ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد الله، وإن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك. قالت: نعم فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعا دنفا، فدنت أم جميل وأعلنت بالصياح، وقالت: والله إن قوما نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر، وإني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم.
قال: فما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالت: هذه أمك تسمع. قال: فلا شيء عليك منها، قالت: سالم صالح. قال: أين هو، قالت: في دار ابن الأرقم، قال: فان لله علي أن لا أذوق طعاما ولا أشرب شرابا أو آتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمهلتا حتى إذا هدأت الرجل وسكن الناس، خرجتا به يتكئ عليهما حتى أدخلتاه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: فأكب عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقبله. وأكب عليه المسلمون. ورق له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رقة شديدة، فقال أبو بكر: بأبي وأمي يا رسول الله، ليس بي بأس إلا ما نال الفاسق من وجهي، وهذه أمي برة بولدها، وأنت مبارك، فادعها إلى الله وادع الله لها عسى الله أن يستنقذها(1/15)
بك من النار، قال: فدعا لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ودعاها إلى الله، فأسلمت، وأقاموا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الدار شهرا، وهم تسعة وثلاثون رجلا وقد كان حمزة بن عبد المطلب أسلم يوم ضرب أبو بكر .. الخ. (1)
كان هذا الموقف من أشرف مواقف الصديق رضي الله عنه، حفظ الله به الإسلام والأمة الإسلامية، وحقق الله به وعده في حفظ دينه، ومهما قلنا ووصفنا، فإن القلم يعجز عن التعبير عن مدح الصديق وما قدمه للإسلام والمسلمين. فجزاه الله عن عقيدة التوحيد الخالصة خيرا.
انتقل الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى، وظهر كل من كان في قلبه مرض، أبدى النفاق عنقه صريحا، ومن كانوا يطمعون في الرئاسة وحب الظهور، قلبوها إلى دعوى النبوة، وارتد من ارتد من الأعراب الذين جبلوا على الفساد في الأرض، واجتمعت المصائب على الصديق، ولكن الصديق لم يكن ذلك الرجل الضعيف، الذي يتأثر بالكلمة أو الكلمتين، ولكنه الرجل الموفق الذي صمد لها وجعل عقيدة التوحيد الخالصة ترفرف فوق أبراج المشركين، الذين ولوا وأدبروا خاسئين. واسمع ما يذكره الحافظ ابن كثير في بدايته في هذا المقام:
قد تقدم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما توفي، ارتدت أحياء كثيرة من الأعراب، ونجم النفاق بالمدينة، وانحاز إلى مسيلمة الكذاب بنو حنيفة وخلق كثير باليمامة، والتفت على طليحة الأسدي بنو أسد وطيء وبشر كثير أيضا، وادعى النبوة أيضا، كما ادعاها مسيلمة الكذاب، وعظم الخطب واشتدت
_________
(1) رواه أبو الحسن خيثمة الأطرابلسي كما في البداية والنهاية (3/ 29 - 30).(1/16)
الحال، ونفذ الصديق جيش أسامة، فقل الجند عند الصديق، فطمعت كثير من الأعراب في المدينة، وراموا أن يهجموا عليها فجعل الصديق على أنقاب المدينة حراسا يبيتون بالجيوش حولها، فمن أمراء الحرس: علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن مسعود، وجعلت وفود العرب تقدم المدينة يقرون بالصلاة ويمتنعون من أداء الزكاة، ومنهم من امتنع من دفعها إلى الصديق، وذكر أن منهم من احتج بقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} (1) قالوا: فلسنا ندفع زكاتنا إلا إلى من صلاته سكن لنا. (2)
- عن أبي هريرة قال: لما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واستخلف أبو بكر بعده، وكفر من كفر من العرب، قال عمر لأبي بكر، كيف تقاتل الناس، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله" فقال: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لقاتلتهم على منعه. فقال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق. (3)
_________
(1) التوبة الآية (103).
(2) البداية والنهاية (6/ 315).
(3) البخاري (13/ 311/7284و7285) ومسلم (1/ 51 - 52/ 20) وأبو داود (2/ 198/1556) والترمذي (5/ 5 - 6/ 2607) والنسائي (7/ 88/3980).(1/17)
- جاء في المنهاج: والصديق قاتلهم -أي المشركين- حتى قال له ابنه عبد الرحمن: قد رأيتك يوم بدر فصدفت عنك. فقال: لكني لو رأيتك لقتلتك. (1)
- جاء في الشريعة: عن عروة قال: سعى رجال من المشركين إلى أبي بكر رضي الله عنه فقالوا له: هذا صاحبك يزعم أنه قد أسري به الليلة إلى بيت المقدس، ثم رجع من ليلته، فقال أبو بكر رضي الله عنه: أو قال ذاك؟ قالوا: نعم. قال أبو بكر رضي الله عنه: فأنا أشهد إن كان قال ذاك لقد صدق. قالوا: تصدقه أنه قد جاء الشام في ليلة واحدة ورجع قبل أن يصبح؟ فقال أبو بكر رضي الله عنه: نعم أنا أصدقه بأبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء غدوة وعشية. فلذلك سمي أبو بكر رضي الله عنه: الصديق. (2)
- وعن عائشة رضي الله عنها زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طرفي النهار: بكرة وعشية. فلما ابتلي المسلمون، خرج أبو بكر مهاجرا نحو أرض الحبشة حتى بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة -وهو سيد القارة- فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي، قال ابن الدغنة: فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. فأنا لك جار، ارجع واعبد ربك ببلدك. فرجع، وارتحل معه ابن
_________
(1) المنهاج (8/ 540).
(2) الشريعة (2/ 312/1089).(1/18)
الدغنة، فطاف ابن الدغنة عشية في أشراف قريش فقال لهم: إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج، أتخرجون رجلا يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق؟ فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة، وقالوا لابن الدغنة: مر أبا بكر فليعبد ربه في داره، فليصل فيها وليقرأ ما شاء، ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن به، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا. فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر، فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربه في داره ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ في غير داره. ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فينقذف عليه نساء المشركين وأبناؤهم وهم يعجبون منه وينظرون إليه.
وكان أبو بكر رجلا بكاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين، فأرسلوا إلى ابن الدغنة، فقدم عليهم، فقالوا: إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره، فقد جاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره فأعلن بالصلاة والقراءة فيه، وإنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فانهه، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن بذلك فسله أن يرد إليك ذمتك، فإنا قد كرهنا أن نخفرك، ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان. قالت عائشة: فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر فقال: قد علمت الذي عاقدت لك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك وإما أن ترجع إلي ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له. فقال أبو بكر: فإني أرد إليك جوارك، وأرضى بجوار الله عز وجل. والنبي - صلى الله عليه وسلم - يومئذ بمكة. (1)
_________
(1) أحمد (6/ 198) والبخاري (1/ 741 - 742/ 476).(1/19)
- جاء في مجموع الفتاوى: وذلك أن مذهب هؤلاء الملاحدة فيما يقولونه من الكلام، وينظمونه من الشعر بين حديث مفترى، وشعر مفتعل. واليهما أشار أبو بكر الصديق رضى الله عنه لما قال له عمر بن الخطاب في بعض ما يخاطبه به: يا خليفة رسول الله تألف الناس. فأخذ بلحيته وقال: يا ابن الخطاب، أجبارا في الجاهلية خوارا في الإسلام؟ علام أتألفهم؟ أعلى حديث مفترى؟ أم شعر مفتعل؟ يقول: إني لست أدعوهم إلى حديث مفترى كقرآن مسيلمة، ولا شعر مفتعل كشعر طليحة الأسدي. (1)
- عن أبي برزة، قال: كنت عند أبي بكر رضي الله عنه فتغيظ على رجل فاشتد عليه، فقلت: تأذن لي يا خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أضرب عنقه؟ قال: فأذهبت كلمتي غضبه، فقام فدخل فأرسل إلي فقال: ما الذي قلت آنفا؟ قلت: ائذن لي أضرب عنقه، قال: أكنت فاعلا لو أمرتك؟ قلت: نعم، قال: لا والله، ما كانت لبشر بعد محمد - صلى الله عليه وسلم -. (2)
- ذكر سيف بن عمر التميمي في كتاب 'الردة والفتوح' عن شيوخه، قال: ورفع إلى المهاجر -يعني المهاجر بن أبي أمية، وكان أميرا على اليمامة ونواحيها- امرأتان مغنيتان غنت إحداهما بشتم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقطع يدها، ونزع ثنيتيها، وغنت الأخرى بهجاء المسلمين، فقطع يدها، ونزع ثنيتيها، فكتب إليه أبو بكر: بلغني الذي سرت به في المرأة التي تغنت وزمزمت بشتم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلولا ما قد سبقتني لأمرتك بقتلها، لأن حد الأنبياء ليس يشبه الحدود،
_________
(1) الفتاوى (2/ 136).
(2) أحمد (1/ 10) وأبو داود (4/ 530 - 531/ 4363) والنسائي (7/ 124 - 126/ 4082 - 4088).(1/20)
فمن تعاطى ذلك من مسلم فهو مرتد أو معاهد فهو محارب غادر. (1)
موقفه من الصوفية:
عن حنظلة الأسيدي -قال: وكان من كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لقيني أبو بكر فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قال: قلت نافق حنظلة. قال سبحان الله ما تقول قال قلت نكون عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكرنا بالنار والجنة، حتى كأنا رأي عين فإذا خرجنا من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيرا. قال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قلت: نافق حنظلة يا رسول الله. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وما ذاك؟ قلت: يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ثلاث مرات. (2)
قال القرطبي في المفهم (3): وقول أبي بكر رضي الله عنه: 'والله إنا لنلقى مثل هذا' رد على غلاة الصوفية الذين يزعمون دوام مثل تلك الحال، ولا يُعرجون بسببها على أهل ولا مال، ووجه الرد أن أبا بكر رضي الله عنه أفضل الناس كلهم بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى يوم القيامة، ومع ذلك فلم يدَّع
_________
(1) الصارم المسلول (ص.208).
(2) أخرجه أحمد (4/ 178و346) ومسلم (4/ 2106/2750) والترمذي (4/ 574 - 757/ 2514) وابن ماجة (2/ 1416/4239).
(3) (7/ 67).(1/21)
خروجا عن جبلة البشرية، ولا تعاطى من دوام الذكر وعدم الفترة ما هو خاصة الملائكة. وقد ادعى قوم منهم دوام الأحوال، وهو بما ذكرناه شبه المحال ...
موقفه من الجهمية:
- جاء في الفتاوى: قال أبو بكر الصديق -لما قرأ قرآن مسيلمة الكذاب- إن هذا الكلام لم يخرج من إل -يعني رب. (1)
- ولابن بطة بسنده إلى نيار بن مكرم الأسلمي -وكانت له صحبة-، قال: لما نزلت {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2)} (2)، قالت قريش لأبي بكر رحمه الله: يا ابن أبي قحافة، لعل هذا من كلام صاحبك؟
قال: لا، ولكنه كلام الله عز وجل. (3)
موقفه من المرجئة:
عن قيس بن أبي حازم قال: سمعت أبا بكر الصديق يقول: إياكم والكذب فإن الكذب مجانب الإيمان. (4)
_________
(1) الفتاوى (3/ 175) والمنهاج (8/ 322).
(2) الروم الآيتان (1و2).
(3) الإبانة (1/ 12/271 - 273/ 41).
(4) أصول الاعتقاد (6/ 1091/1872 - 1873) وهو في المسند للإمام أحمد (1/ 5).(1/22)
ابن أم مكتوم (1) (15 هـ)
عمرو بن قيس بن زائدة بن الأصم بن رواحة القرشي العامري، ابن أم مكتوم الصحابي الجليل، وقيل اسمه عبد الله، والأول عليه أكثر أهل الحديث.
أسلم قديما بمكة، وكان من المهاجرين الأولين، وكان ضريرا مؤذنا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وروى عنه عبد الله بن شداد بن الهاد وعبد الرحمن بن أبي ليلى وأبو رزين الأسدي وآخرون. استخلفه النبي - صلى الله عليه وسلم - على المدينة في غزوة بدر، وهو المذكور في سورة (عبس وتولى)، وأخرج البخاري عن البراء رضي لله عنه قال: لما نزلت: (لا يستوي القاعدون من المؤمنين) دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زيدا فكتبها، فجاء ابن أم مكتوم فشكا ضرارته فأنزل الله {غير أولي الضرر} (2).اهـ (3)
قال الزبير بن بكار: خرج إلى القادسية، فشهد القتال، واستشهد هناك، وكان معه اللواء حينئذ، وقيل بل رجع إلى المدينة بعد القادسية، فمات بها، ذكره البغوي، وقال الواقدي: بل شهدها، ورجع إلى المدينة، فمات بها، ولم يسمع له بذكر، بعد عمر بن الخطاب. قال ابن حجر: مات في آخر خلافة عمر. وأرخ له ابن العماد الحنبلي والذهبي في سنة خمس عشرة.
_________
(1) طبقات ابن سعد (4/ 205 - 212) وحلية الأولياء (2/ 4) والبداية والنهاية (7/ 50) وسير أعلام النبلاء (1/ 360 - 365) والإصابة (4/ 600 - 602) والاستيعاب (3/ 1198 - 1199) وتاريخ الإسلام (عهد الخلفاء الراشدين/152 - 153) والتقريب (1/ 734).
(2) النساء الآية (95).
(3) أحمد (4/ 284) والبخاري (8/ 329/4593) ومسلم (3/ 1508/1898).(1/23)
موقفه من المشركين:
عن عبد الله بن معقل قال: نزل ابن أم مكتوم على يهودية بالمدينة كانت ترفقه، وتؤذيه في النبي - صلى الله عليه وسلم - فتناولها فضربها، فقتلها، فرفع ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال هو: أما والله إن كانت لترفقني، ولكن آذتني في الله ورسوله. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أبعدها الله، قد أبطلت دمها". (1)
أبو عبيدة بن الجراح (2) (18 هـ)
عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال، أبو عبيدة القرشي الفهري المكي. أحد السابقين الأولين وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - أمين هذه الأمة. شهد بدرا وما بعدها، وهو أحد الرجلين اللذين عينهما أبو بكر للخلافة يوم السقيفة، وهو الذي انتزع الحلقتين من وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسقطت ثنيتا أبي عبيدة. روى عنه جابر بن عبد الله والعرباض بن سارية وأبو أمامة وسمرة بن جندب وجماعة. قال ابن إسحاق: آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين سعد بن معاذ وأبي عبيدة بن الجراح، وقيل محمد بن مسلمة.
فعن حذيفة رضي الله عنه قال: جاء أهل نجران إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا:
_________
(1) ابن سعد في الطبقات (4/ 210) من طريق قبيصة بن عقبة قال حدثنا يونس بن أبي إسحاق عن أبي إسحاق عن عبد الله بن معقل مرفوعا. ورواه أبو داود (4/ 528/4361) والنسائي (7/ 123 - 124/ 4081) من حديث ابن عباس.
(2) طبقات ابن سعد (3/ 409 - 415) وطبقات خليفة (ص.27 - 28) وتاريخ دمشق (25/ 435 - 491) والاستيعاب (2/ 792 - 795) وتهذيب الكمال (14/ 52 - 57) والسير (1/ 5 - 23) وتاريخ الإسلام (عهد الخلفاء الراشدين ص.171 - 174) والإصابة (5/ 285 - 289).(1/24)
ابعث لنا رجلا أمينا، فقال: "لأبعثن إليكم رجلا أمينا حق أمين، فاستشرف له الناس، فبعث أبا عبيدة بن الجراح". (1)
وعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "نعم الرجل أبو عبيدة بن الجراح". (2)
وقد استعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - غير مرة.
قال الزبير بن بكار: شهد بدرا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونزع الحلقتين اللتين دخلتا في وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - من المغفر يوم أحد، فانتزعت ثنيتاه، فحسنتا فاه، فقيل: ما رئي هتم قط أحسن من هتم أبي عبيدة، وقام يوما من مجلس النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قفاه وكان يقال: داهيتا قريش: أبو بكر وأبو عبيدة بن الجراح. ودعا أبو بكر الصديق يوم توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سقيفة بني ساعدة إلى البيعة لعمر بن الخطاب أو أبي عبيدة بن الجراح، وقال: قد رضيت لكم أحدهما وولاه عمر بن الخطاب الشام، وفتح الله عليه اليرموك والجابية، وسرع مدينة الشام والرمادة.
عن أبي مليكة قال: سمعت عائشة وسئلت: من كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستخلفا أو استخلفه؟ قالت: أبو بكر فقيل لها: ثم من بعد أبي بكر؟ فقالت: عمر، ثم قيل لها: من بعد عمر؟ قالت: أبو عبيدة بن الجراح، ثم انتهت إلى
_________
(1) أحمد (5/ 401) والبخاري (8/ 117 - 118/ 4381) ومسلم (4/ 1882/2420) والترمذي (5/ 625 - 626/ 3796) وابن ماجة (1/ 48/135).
(2) أحمد (2/ 419) والبخاري في الأدب المفرد (337) والترمذي (5/ 625/3795) وقال: "هذا حديث حسن". والحاكم (3/ 233) وقال: "صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي.(1/25)
هذا. (1)
قال محمد بن سعد وخليفة بن خياط: مات أبو عبيدة بن الجراح في طاعون عمواس بأرض الأردن وفلسطين سنة ثماني عشرة. زاد ابن سعد: وهو ابن ثمان وخمسين سنة.
موقفه من المشركين:
- وقد شهد أبو عبيدة بدرا، فقتل يومئذ أباه، وأبلى يوم أحد بلاء حسنا. (2)
- فتح الله عليه اليرموك والجابية، وسرع مدينة الشام والرمادة. (3)
معاذ بن جبل (4) (18 هـ)
معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس، أبو عبد الرحمن الأنصاري الخزرجي البدري، الإمام المقدم في علم الحلال والحرام وفيه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
_________
(1) أحمد مختصرا (6/ 63) ومسلم (4/ 1856/2385). ورواه الترمذي (5/ 566 - 567/ 3675 عن عبد الله بن شقيق قال: قلت لعائشة: أي أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أحب إلى رسول الله؟ فذكرته. وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح".
(2) السير (1/ 8).
(3) انظر الترجمة.
(4) الإصابة (6/ 136 - 138) وحلية الأولياء (1/ 228 - 244) ومجمع الزوائد (9/ 311) وطبقات ابن سعد (3/ 583 - 590) وتذكرة الحفاظ (1/ 19 - 22) والمعرفة والتاريخ (1/ 314) وشذرات الذهب (1/ 29 - 30) والبداية والنهاية (7/ 94 - 95) وتقريب التهذيب (2/ 255) وسير أعلام النبلاء (1/ 443 - 461) والاستيعاب (3/ 1402 - 1407).(1/26)
" ... وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ" (1) شهد العقبة شابا أمرد وشهد المشاهد كلها. وكان ممن جمع القرآن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:_"خذوا القرآن من أربعة: من ابن مسعود، وأبيّ، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة" (2). وعن محمد بن سهل بن أبي حثمة عن أبيه قال: كان الذين يفتون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة من المهاجرين عمر وعثمان، وعلي وثلاثة من الأنصار: أبي بن كعب ومعاذ وزيد. وكان من أفضل شباب الأنصار حلما وحياء وسخاء. ومناقبه كثيرة. عن نيار الأسلمي: أن عمر كان يستشير هؤلاء فذكر منهم معاذا. وصح عن عمر قوله: من أراد الفقه، فليأت معاذ بن جبل. وكانت وفاته بالطاعون في الشام سنة ثماني عشرة رضي الله عنه.
موقفه من المبتدعة:
- جاء في أصول الاعتقاد: كان معاذ يقول في كل مجلس يجلسه: الله حكم قسط تبارك اسمه، هلك المرتابون، إن من ورائكم فتنا يكثر فيها المال، ويفتح فيها القرآن حتى يأخذه الرجل والمرأة والحر والعبد والصغير والكبير، فيوشك الرجل أن يقرأ القرآن فيقول: قد قرأت القرآن، فما للناس لا يتبعوني وقد قرأت القرآن، ثم ما هم بمتبعي حتى أبتدع لهم غيره، فإياكم وما ابتدع فإن ما ابتدع ضلالة. واتقوا زيغة الحكيم فإن الشيطان يلقي على في الحكيم
_________
(1) أحمد (3/ 184) والترمذي (5/ 623/3790) وقال: "هذا حديث حسن غريب". وابن ماجة (1/ 55/154) والحاكم (3/ 422) وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. وابن حبان (16/ 74/7131 الإحسان).
(2) أحمد (2/ 189و195) والبخاري (7/ 160/3808) ومسلم (4/ 1913/2464) والترمذي (5/ 632/3810) وقال: "هذا حديث حسن صحيح".(1/27)
الضلالة ويلقي المنافق كلمة الحق قال: قلنا: وما يدرينا يرحمك الله أن المنافق يلقي كلمة الحق، وأن الشيطان يلقي على في الحكيم كلمة الضلالة. قال: اجتنبوا من كلام الحكيم كل متشابه الذي إذا سمعته قلت ما هذا؟ ولا ينأ بك ذلك عنه، فإنه لعله أن يراجع ويلقي الحق إذا سمعه، فإن على الحق نورا. (1)
- قال معاذ بن جبل: إياكم والبدع والتبدع والتنطع، وعليكم بالأمر العتيق. (2)
- وعنه قال: يد الله فوق الجماعة، فمن شذ لم يبال الله بشذوذه. (3)
" التعليق:
كان معاذ بن جبل من أغزر الصحابة علما بالحلال والحرام، وأما علمه بعقيدة التوحيد الخالصة فأمر مجمع عليه بينه وبين إخوانه من الصحابة رضوان الله عليهم. ولذا كان يعلم خطر البدع والمبتدعة، فكان يحذر منهم في كل مجلس، فهؤلاء هم أحياء القلوب، وأما أهل زماننا فأموات غير أحياء، وما يشعرون أيان يبعثون. قبلوا البدعة ورضوا بها، وتسهالوا مع المبتدعة واتخذوهم أحبابا وإخوانا، وآووهم في بيوتهم وأحاطوهم بكل رعاية والله المستعان.
- وجاء في السير عن أم سلمة أن أبا عبيدة لما أصيب، استخلف معاذ
_________
(1) أصول الاعتقاد (1/ 99 - 100/ 116) وأبو داود (5/ 17 - 18/ 4611) والإبانة (1/ 2/307 - 308/ 143) وما جاء في البدع (ص.63 - 64) وجامع بيان العلم وفضله (2/ 981). وانظر الحوادث والبدع (ص.37 - 38) والباعث (ص.62) والاعتصام (1/ 110 - 111) وإعلام الموقعين (1/ 104 - 105) و (2/ 193) والجزء الأول منه في السير (8/ 143).
(2) رواه ابن وضاح في البدع (ص.65) والهروي في ذم الكلام (ص.136).
(3) الإبانة (1/ 2/288 - 289/ 119).(1/28)
ابن جبل -يعني في طاعون عمواس- اشتد الوجع، فصرخ الناس إلى معاذ: ادع الله أن يرفع عنا هذا الرجز، قال: إنه ليس برجز ولكن دعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم، وشهادة يخص الله بها من يشاء منكم، أيها الناس، أربع خلال من استطاع أن لا تدركه، قالوا: ما هي؟ قال: يأتي زمان يظهر فيه الباطل، ويأتي زمان يقول الرجل: والله ما أدري ما أنا، لا يعيش على بصيرة، ولا يموت على بصيرة. (1)
- وجاء في الإبانة عن عاصم بن حميد، قال: سمعت معاذا يقول: إنكم لن تروا من الدنيا إلا بلاء وفتنة، ولن يزداد الأمر إلا شدة، ولن تروا من الأئمة إلا غلظة، ولن تروا أمرا يهولكم ويشتد عليكم إلا حقره بعد ما هو أشد منه. قال أبو عبد الله أحمد بن حنبل: اللهم رضنا مرتين. (2)
موقفه من المشركين:
عن أبي موسى أن رجلا أسلم ثم تهود، فأتاه معاذ بن جبل -وهو عند أبي موسى- فقال: ما لهذا؟ قال: أسلم ثم تهود، قال لا أجلس حتى أقتله، قضاء الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. (3)
موقفه من الجهمية:
عن ميمون أبي حمزة قال: كنت جالسا عند أبي وائل فدخل علينا رجل يقال له: أبو عفيف. فقال له شقيق بن سلمة: يا أبا عفيف ألا تحدثنا عن
_________
(1) السير (1/ 457).
(2) الإبانة (1/ 1/181 - 182/ 16).
(3) البخاري (7157) ومسلم (1733).(1/29)
معاذ بن جبل؟ قال: بلى سمعته يقول: يحبس الناس يوم القيامة في صعيد واحد فينادي: أين المتقون؟ فيقومون في كنف من الرحمن لا يحتجب الله منهم ولا يستتر. قلت: من المتقون؟ قال: قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان وأخلصوا لله العبادة فيمرون إلى الجنة. (1)
موقفه من المرجئة:
- عن الأسود بن هلال قال: قال معاذ: اجلس بنا نؤمن ساعة، فيجلسان يتذاكران الله ويحمدانه. (2)
- عن سفيان عن عبد الملك بن عمير قال: قال لمعاذ: ما ملاك أمرنا الذي نقوم به؟ قال: الإخلاص، وهي الفطرة والصلاة وهي الملة والسمع والطاعة وهي العصمة وسيكون بعدك اختلاف. (3)
أبيّ بن كعب (4) (19 هـ)
أُبَيّ بن كَعْب بن قَيْس الأنصاري الخزرجي البدري أبو المنذر ويكنى أيضا أبا الطفيل سيد القراء. شهد بدرا والمشاهد. وجمع القرآن في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -
_________
(1) أصول الاعتقاد (3/ 552 - 553/ 864).
(2) الإبانة (2/ 7/847/ 1135) وابن أبي شيبة في الإيمان (105،107) وفي المصنف (11/ 26) وأبو عبيد في الإيمان (ص.20) وأصول الاعتقاد (5/ 1014/1706و1707) والسنة لعبد الله (ص.115) والسنة للخلال (4/ 39/1121).
(3) الإبانة (2/ 7/898/ 1252).
(4) الإصابة (1/ 27 - 28) وطبقات ابن سعد (3/ 498 - 502) والحلية (1/ 250 - 256) والتذكرة (1/ 16 - 17) ومجمع الزوائد (9/ 311 - 312) والبداية (7/ 98) والسير (1/ 389 - 402) وتقريب التهذيب (1/ 48) والوافي بالوفيات (6/ 190 - 191) والاستيعاب (1/ 65 - 70) ومعرفة القراء الكبار (1/ 28).(1/30)
وعرض على النبي - صلى الله عليه وسلم - وحفظ عنه علما مباركا وكان رأسا في العلم والعمل. وفي الصحيحين: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي بن كعب: "إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن، وفي لفظ أمرني أن أقرئك القرآن. قال: آلله سماني لك؟ قال: نعم، قال: وذكرت عند رب العالمين؟ قال: نعم. فذرفت عيناه" (1). وقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ليهنك العلم أبا المنذر". (2)
كان من أصحاب العقبة الثانية، وكان عمر يسميه سيد المسلمين. أخرج الأئمة أحاديثه في صحاحهم، وعده مسروق في الستة من أصحاب الفتيا.
وفي تاريخ موته اختلاف، قال الهيثم بن عدي: مات سنة تسع عشرة، وقيل اثنتين وعشرين، وقيل سنة ثلاثين، والله أعلم.
موقفه من المبتدعة:
- جاء في الإبانة: قال أبيّ: (هلك أهل العقدة ورب الكعبة هلكوا وأهلكوا كثيرا، والله ما عليهم آسى ولكن آسى على ما يهلكون من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -). يعني: بالعقد الذين يعتقدون على الآراء والأهواء والمفارقين للجماعة. (3)
- وفيها: عن مسروق قال: سألت أبي بن كعب عن شيء، فقال:
_________
(1) أحمد (3/ 185و284) والبخاري (7/ 160/3809) ومسلم (1/ 550/799) والترمذي (5/ 624/3792) وقال: "هذا حديث حسن صحيح".
(2) أحمد (5/ 141 - 142) ومسلم (1/ 556/810) وأبو داود (2/ 151/1460).
(3) الإبانة (1/ 2/340/ 207).(1/31)
أكان هذا؟ قلت: لا، قال: فأجمنا حتى يكون فإذا كان اجتهدنا رأينا. (1)
- وفي أصول الاعتقاد عن أبي بن كعب قال: عليكم بالسبيل والسنة، فإنه ما على الأرض عبد على السبيل والسنة. وذكر الرحمن ففاضت عيناه من خشية الله عز وجل فيعذبه. وما على الأرض عبد على السبيل والسنة وذكره -يعني الرحمن في نفسه- فاقشعر جلده من خشية الله إلا كان مثله كمثل شجرة قد يبس ورقها فهي كذلك إذ أصابتها ريح شديدة فتحات عنها ورقها إلا حط عنه خطاياه كما تحات عن تلك الشجرة ورقها. وإن اقتصادا في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة. فانظروا أن يكون عملكم إن كان اجتهادا أو اقتصادا أن يكون ذلك على منهاج الأنبياء وسنتهم. (2)
موقفه من القدرية:
عن ابن الديلمي قال: وقع في نفسي شيء من هذا القدر، فأتيت أبي ابن كعب فقلت: أبا المنذر، وقع في نفسي شيء من هذا القدر، خشيت أن يكون فيه هلاك ديني وأمري، حدثني عن ذلك بشيء، لعل الله ينفعني به. فقال: لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه، لعذبهم وهو غير ظالم، ولو رحمهم كانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم، ولو كان لك جبل أحد أو مثل جبل أحد ذهبا أنفقته في سبيل الله، ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم
_________
(1) الإبانة (1/ 2/408/ 315) وانظر السير (1/ 398).
(2) أصول الاعتقاد (1/ 59 - 60/ 10) والإبانة (1/ 2/359 - 360/ 250) والتلبيس (ص.16) وحلية الأولياء (1/ 252 - 253) وشرح السنة (1/ 208) الجزء الأخير منه. والاعتصام (1/ 110) ومجموع الفتاوى (10/ 77).(1/32)
أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأنك وإن مت على غير هذا دخلت النار، ولا عليك أن تأتي عبد الله بن مسعود فتسأله، فأتيت عبد الله فسألته فقال مثل ذلك، كان أبو سنان يقتص الحديث، قال ولا عليك أن تأتي أخي حذيفة بن اليمان، فتسأله. فأتيت حذيفة فسألته فقال مثل ذلك، وقال: ايت زيد بن ثابت فسله. فأتيت زيد ابن ثابت، فسألته. فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم، ولو كان لك قبل أحد أو مثل أحد ذهبا، أنفقته في سبيل الله ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأنك إن مت على غير هذا دخلت النار". (1)
" التعليق:
هذا هو فقه العقيدة الصحيح الذي امتاز به الصحابة الكرام، لم ينقصهم العلم والفهم في عقيدة التوحيد الخالصة، كما يدعي المبتدعة أن الصحابة لم يخوضوا في أمر العقيدة، ولا كان لهم علم بها، فلا أدري ما هو العلم إن لم يكن هذا هو العلم، فرضي الله عنهم وأرضاهم، أوتوا الحظ الأوفر من العلم والفهم والعمل.
_________
(1) أحمد (5/ 182 - 183) وأبو داود (5/ 75/4699) وابن ماجة في المقدمة (1/ 29 - 30/ 77) وابن حبان (2/ 505 - 506/ 727) وعبد الله بن أحمد في السنة (121 - 122) واللفظ له.(1/33)
بلال بن رباح (1) (20 هـ)
بِلال بن رَبَاح الحبشي: المؤذن. مولى أبي بكر الصديق رضي الله عنه اشتراه من المشركين لما كانوا يعذبونه على التوحيد، فأعتقه، فلزم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأذن له وشهد معه جميع المشاهد وآخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين أبي عبيدة بن الجراح. كان من السابقين الأولين الذين عذبوا في الله، شهد له النبي - صلى الله عليه وسلم - على التعيين بالجنة. وفي كنية بلال ثلاثة أقوال: أبو عبد الكريم وأبو عبد الله، وأبو عمرو وكان تِرْب أبي بكر رضي الله عنه. ومناقبه كثيرة مشهورة. مات في الشام زمن عمر رضي الله عنه سنة عشرين.
موقفه من المشركين:
- عن عبد الله بن مسعود قال: كان أول من أظهر إسلامه سبعة: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمار وأمه سمية وصهيب وبلال والمقداد، فأما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمنعه الله بعمه أبي طالب، وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون وألبسوهم أدراع الحديد، وصهروهم في الشمس، فما منهم من أحد إلا وقد واتاهم على ما أرادوا إلا بلالا فإنه هانت عليه نفسه في الله وهان على قومه فأخذوه فأعطوه الولدان، فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة وهو يقول: أحد أحد. (2)
قال ابن إسحاق: ثم إنهم عدوا على من أسلم واتبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من
_________
(1) الإصابة (1/ 326 - 327) والحلية (1/ 147 - 151) والبداية (5/ 333 و334) وشذرات الذهب (1/ 31 - 32) ومجمع الزوائد (9/ 299 و300) والوافي (10/ 276) والعقد الثمين (3/ 378 - 380) والاستيعاب (1/ 178 - 182).
(2) سنن ابن ماجه (1/ 150). قال البوصيري في الزوائد: "إسناده ثقات".(1/34)
أصحابه. فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين، فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش وبرمضاء مكة، إذا اشتد الحر من استضعفوه منهم يفتنونهم عن دينهم، فمنهم من يفتن من شدة البلاء الذي يصيبهم، ومنهم من يصلب لهم ويعصمه الله منهم. فكان بلال مولى أبي بكر لبعض بني جمح، مولد من مولديهم وهو بلال بن رباح، واسم أمه حمامة، وكان صادق الإسلام، طاهر القلب. وكان أمية بن خلف يخرجه إذا حميت الظهيرة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول له: لا والله لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وتعبد اللات والعزى، فيقول وهو في ذلك: أحد أحد. (1)
" التعليق:
كانت هذه المواقف الخالدة لبلال من أفضل المواقف التي تحدث بها الكبير والصغير والصبي والمرأة، وعرفته الأجيال قبلنا وستعرفه الأجيال من بعدنا إن شاء الله، وستبقى هذه المواقف أنموذجا يقتدي به كل سلفي يدعو إلى عقيدة التوحيد الخالصة، لا إلى الذين يريدون المداهنة مع المشركين والمبتدعين، ويتهمون الذين يجهرون بعقيدة التوحيد أنهم متشددون، فهذه مواقف صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعهم الرسول مع المشركين؟!
_________
(1) البداية والنهاية (3/ 55) والإصابة (1/ 327).(1/35)
أم المؤمنين زينب بنت جحش (1) (20 هـ)
زينب بنت جَحْش بن رياب الأسدية أم المؤمنين، زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - وابنة عمته، أمها: أميمة بنت عبد المطلب بن هاشم من المهاجرات الأول. كانت عند زيد، مولى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم تزوجها - صلى الله عليه وسلم - سنة ثلاث وقيل سنة خمس، وهي التي يقول الله فيها: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} (37) (2) فزوجها الله تعالى بنبيه بنص كتابه، بلا ولي ولا شاهد.
فكانت تفخر بذلك على أمهات المؤمنين. وكانت من سيدات النساء دينا وورعا وجودا ومعروفا رضي الله عنها وحديثها في الكتب الستة. توفيت سنة عشرين.
موقفها من الجهمية:
وفي الصحيح عن أنس بن مالك قال: كانت زينب تفخر على أزواج
_________
(1) السير (2/ 211 - 218) والإصابة (7/ 667 - 670) وأسد الغابة (7/ 126 - 128) والاستيعاب (4/ 1849 - 1852).
(2) الأحزاب الآية (37).(1/36)
النبي - صلى الله عليه وسلم - تقول: زوجكن أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سماوات. (1)
خالد بن الوليد (2) (21 هـ)
سيف الله وفارس الإسلام وليث المشاهد، السيد الإمام الأمير الكبير قائد المجاهدين: أبو سليمان القرشي المخزومي المكي وابن أخت أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث. هاجر مسلما في صفر سنة ثمان ثم سار غازيا فشهد غزوة مؤتة واستشهد أمراء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الثلاثة: زيد وجعفر وابن رواحة وبقي الجيش بلا أمير فتأمر عليهم فكان النصر، وسماه النبي - صلى الله عليه وسلم -: سيف الله فقال: "إن خالدا سيف سله الله على المشركين". وشهد الفتح وحنينا وتأمر في أيام النبي - صلى الله عليه وسلم - واحتبس أدراعه ولأمته في سبيل الله، وحارب أهل الردة ومسيلمة، وغزا العراق واستظهر، ثم اخترق البرية السماوية بحيث إنه قطع المفازة من حد العراق إلى أول الشام في خمس ليال في عسكر معه، وشهد حروب الشام ولم يبق في جسده قيد شبر إلا وعليه طابع الشهداء، ومناقبه غزيرة. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وروى عنه ابن عباس وجابر والمقدام بن معدي كرب وقيس بن أبي حازم وعلقمة بن قيس وآخرون.
عن عمرو بن العاص قال: ما عدل بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبخالد أحدا في حربه منذ أسلمنا. بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى تحطيم وثن العزى فأتاها فقال:
_________
(1) أخرجه أحمد (3/ 226) والبخاري (13/ 497/7420) والترمذي (5/ 331/3213) والنسائي (6/ 388/3252) وفي الكبرى (6/ 433/11411) من طرق عن أنس رضي الله عنه.
(2) الإصابة (2/ 251 - 256) وشذرات الذهب (1/ 32) والسير (1/ 366) وتهذيب الكمال (8/ 187) والاستيعاب (2/ 427 - 431) وطبقات ابن سعد (4/ 252).(1/37)
يا عُزّ كفرانك لا سبحانك ... إني رأيت الله قد أهانك
قال فيه عمر: لو أدركت خالد بن الوليد ثم وليته فقدمت على ربي لقلت سمعت عبدك وخليلك يقول: خالد سيف من سيوف الله سله الله على المشركين. ولما حضرته الوفاة قال: لقد شهدت مائة زحف أو زهاءها، وما في جسدي موضع شبر إلا وفيه ضربة أوطعنة أورمية، ثم ها أنا ذا أموت على فراشي كما يموت العير فلا نامت أعين الجبناء. توفي رضي الله عنه سنة إحدى وعشرين.
موقفه من المبتدعة:
قال الحافظ: وجاء تفسير أيام الهرج فيما أخرجه أحمد والطبراني بسند حسن من حديث خالد بن الوليد (أن رجلا قال له: يا أبا سليمان اتق الله، فإن الفتن ظهرت، فقال: أما وابن الخطاب حي فلا، إنما تكون بعده، فينظر الرجل فيفكر هل يجد مكانا لم ينزل به مثل ما نزل بمكانه الذي هو به من الفتنة والشر فلا يجد، فتلك الأيام التي ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين يدي الساعة أيام الهرج). (1)
موقفه من المشركين:
- جاء في الصارم المسلول: قتل خالد بن الوليد رجلا شتم النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يستتبه. (2)
_________
(1) أحمد (4/ 90) والطبراني (4/ 116/3841). قال الهيثمي في المجمع (7/ 307 - 308): "رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط ورجاله ثقات وفي بعضهم ضعف". وحسن إسناده الحافظ في الفتح (13/ 18).
(2) الصارم (ص.10).(1/38)
- فشهد غزوة مؤتة واستشهد أمراء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الثلاثة: زيد وجعفر وابن رواحة وبقي الجيش بلا أمير فتأمر عليهم فكان النصر، وسماه النبي - صلى الله عليه وسلم -: سيف الله فقال: "إن خالدا سيف سله الله على المشركين". (1)
- وفي البخاري: عن قيس سمعت خالدا يقول: "لقد رأيتني يوم مؤتة اندق في يدي تسعة أسياف فصبرت في يدي صفيحة يمانية". (2)
أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (3) (23 هـ)
عمر بن الخطاب بن نُفَيْل القُرَشي العدويّ، أبو حفص أمير المؤمنين، ثاني الخلفاء الراشدين وأحد المبشرين بالجنة، قفل باب الفتنة. ومناقبه أشهر من أن تذكر وأكثر من أن تحصر، وفي الأحاديث الصحاح من موافقته التنزيل له وتزكية النبي - صلى الله عليه وسلم - له في وجهه وعز الإسلام بإسلامه نماذج من ذلك.
قال عكرمة: لم يزل الإسلام في اختفاء حتى أسلم عمر. وقال ابن مسعود رضي الله عنه "ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر". (4)
_________
(1) ابن عساكر (16/ 240 - 241) والشاشي في مسنده (2/ 93/617) وللحديث طرق وشواهد ذكرها الشيخ الألباني رحمه الله في الصحيحة برقم (1237).
(2) البخاري (7/ 656/4265).
(3) الإصابة (4/ 588 - 591) والحلية (1/ 38 - 55) وشذرات الذهب (1/ 33) والطبقات (3/ 365 - 376) وتاريخ الطبري (4/ 190 - 227) والعقد الثمين (6/ 291 - 305) والتذكرة (1/ 5 - 8) وتاريخ خليفة (152 - 156) والمعرفة والتاريخ (1/ 455 - 468) والاستيعاب (3/ 1144 - 1159).
(4) البخاري (7/ 51/3684).(1/39)
شهد بدرا وبيعة الرضوان وكل مشهد شهده رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنه راض، وولي الخلافة بعد أبي بكر، فسار بأحسن سيرة، وفتح الله له الفتوح، واتسعت دائرة الإسلام في خلافته.
وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "قد كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فعمر" (1). وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "كان إسلام عمر فتحا، وكانت هجرته نصرا، وكانت إمارته رحمة، لقد رأيتنا وما نستطيع أن نصلي بالبيت حتى أسلم عمر، فلما أسلم عمر قاتلهم حتى تركونا نصلي". وهو أول من جمع القرآن في الصحف. وهو أول من سن قيام شهر رمضان وجمع الناس على ذلك وكتب به إلى البلدان، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها ... ". (2) وقال: "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر". (3)
قتل يوم الأربعاء من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، وهو ابن ثلاث وستين سنة، وكانت مدة خلافته عشر سنين وخمسة أشهر، ودفن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وصلى عليه صهيب بن سنان.
_________
(1) أحمد (6/ 55) ومسلم (4/ 1864/2398) والترمذي (5/ 581/3693) وقال: "هذا حديث صحيح".
(2) أحمد (4/ 126 - 127) وأبو داود (5/ 13 - 14/ 4607) والترمذي (5/ 43 - 44/ 2676) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". ابن ماجة (1/ 16 - 17/ 43 - 44) والحاكم (1/ 95 - 97) وقال: "هذا حديث صحيح ليس له علة" ووافقه الذهبي.
(3) أحمد (5/ 382و385و402) والترمذي (5/ 569/3662) وحسنه. وابن ماجة (1/ 37/97) والحاكم (3/ 75) وصححه ووافقه الذهبي.(1/40)
موقفه من المبتدعة:
- روى ابن عبد البر في جامع بيان العلم بسنده إلى عبيد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب قال: اتقوا الرأي في دينكم. قال سحنون: يعني البدع. (1)
- وروى الهروي في ذم الكلام بسنده إلى سعيد بن المسيب قال: قام عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الناس فقال: أيها الناس ألا إن أصحاب الرأي أعداء السنة أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، وتفلتت منهم أن يعوها، واستحيوا إذا سألهم الناس أن يقولوا لا ندري، فعاندوا السنن برأيهم، فضلوا وأضلوا كثيرا، والذي نفس عمر بيده ما قبض الله نبيه ولا رفع الوحي عنهم حتى أغناهم عن الرأي، ولو كان الدين يؤخذ بالرأي، لكان أسفل الخف أحق بالمسح من ظاهره، فإياك وإياهم ثم إياك وإياهم. (2)
- وعن ابن عمر، عن عمر أنه قال: يا أيها الناس اتهموا الرأي على الدين، فلقد رأيتني أرد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برأيي اجتهادا، ووالله ما آلو عن الحق، وذلك يوم أبي جندل والكفار بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأهل مكة فقال: اكتبوا بسم الله الرحمن الرحيم. فقالوا: إنا قد صدقناك كما تقول، ولكن تكتب: باسمك اللهم. قال: فرضي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبيت عليهم حتى قال: يا عمر تراني قد رضيت وتأبى؟ قال: فرضيت. (3)
- وعن سعيد بن المسيب أنه سمعه يقول: لما صدر عمر بن الخطاب
_________
(1) جامع بيان العلم وفضله (2/ 1041 - 1042) وبنحوه ذكره الشاطبي في الاعتصام (1/ 134).
(2) ذم الكلام (2/ 200 - طبعة الأنصاري) والخطيب في الفقيه والمتفقه (1/ 454).
(3) رواه الطبراني (1/ 72/82) واللالكائي في أصول الاعتقاد (1/ 141 - 142/ 208) والهروي في ذم الكلام (ص.86) والبيهقي في المدخل (1/ 198 - 199/ 217).(1/41)
من منى أناخ بالأبطح، ثم كوم كومة بطحاء، ثم طرح عليها رداءه واستلقى، ثم مد يديه إلى السماء فقال: اللهم كبرت سني، وضعفت قوتي، وانتشرت رعيتي، فاقبضني غير مضيع ولا مفرط. ثم قدم المدينة فخطب الناس فقال: أيها الناس قد سنت لكم السنن، وفرضت لكم الفرائض، وتركتم على الواضحة إلا أن تضلوا بالناس يمينا وشمالا، وضرب بإحدى يديه على الأخرى. ثم قال: إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم، أن يقول قائل لا نجد حدين في كتاب الله، فقد رجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجمنا، والذي نفسي بيده لولا أن يقول الناس زاد عمر بن الخطاب في كتاب الله تعالى لكتبتها: (الشيخ والشيخة فارجموهما ألبتة) فإنا قد قرأناها.
قال مالك: قال يحيى بن سعيد: قال سعيد بن المسيب: فما انسلخ ذو الحجة حتى قتل عمر رحمه الله. قال يحيى: سمعت مالكا يقول: قوله: (الشيخ والشيخة) يعني الثيب والثيبة فارجموهما ألبتة. (1)
- وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن ابن عباس قال: قال عمر بن الخطاب وهو جالس على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله قد بعث محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان مما أنزل عليه آية الرجم قرأناها ووعيناها وعقلناها فرجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، وإن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا
_________
(1) الموطأ (2/ 824/10).(1/42)
قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف. (1)
- وعن زياد بن حدير قال: قال لي عمر: هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قال: قلت: لا، قال: يهدمه زلة العالم وجدال المنافق بالكتاب وحكم الأئمة المضلين. (2)
" التعليق:
لقد نطق الحق على لسان عمر، فما أضاع الإسلام عموما والعقيدة السلفية خصوصا إلا علماء سوء، الذين آثروا الدنيا على الآخرة، وجدال المنافقين الذين ربما أوتوا شيئا من علم القرآن والسنة، فحرفوا النصوص لتأييد بدعهم، حتى إنني رأيت لعالم معاصر (3) مؤلفا يستدل فيه لبناء القباب على القبور بدفن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجرة عائشة، فقل لي بربك أليس هذا هو جدال المنافقين، تواترت النصوص بتحريم البناء على القبور، ويأتي منافق في آخر الزمان ويجمع من متشابه النصوص ما يدافع به عن الشرك ومظاهره؟!!
- وروى ابن عبد البر عن ابن شهاب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال وهو على المنبر: يا أيها الناس، إن الرأي إنما كان من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مصيبا، لأن الله عز وجل يريه، وإنما هو منا الظن والتكلف. (4)
_________
(1) البخاري (12/ 165/6829) ومسلم (3/ 1317/1691) واللفظ له.
(2) رواه ابن المبارك في الزهد (ص.520) والدارمي في السنن (1/ 71) وأبو نعيم في الحلية (4/ 196) وابن بطة في الإبانة (2/ 3/528/ 643) وابن عبد البر في الجامع (2/ 979).
(3) هو أحمد بن الصديق الغماري في كتابه 'إحياء المقبور'.
(4) جامع بيان العلم وفضله (2/ 1041).(1/43)
" التعليق:
هكذا كان أمير المؤمنين يحذر من الرأي الباطل، المتكلف الخارج عن الكتاب والسنة، الذي منشؤه الآراء، وقائده الأهواء، وغايته الظنون، وصاحبه مغبون، وهو مسلك كل مفتون، نسأل الله العفو والعافية.
- وروى البخاري عن أنس بن مالك أنه سمع عمر الغد، حين بايع المسلمون أبا بكر، واستوى على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، تشهد قبل أبى بكر، فقال: أما بعد، فاختار الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - الذي عنده على الذي عندكم، وهذا الكتاب الذي هدى الله به رسولكم فخذوا به تهتدوا، ولما هدى الله به رسوله. (1)
" التعليق:
هذه الحكم من هذا الإمام تجعل طالب الحق يفرح بها، لأنها منشودته ومطلوبه، فمن لم يطلب الهدى فيما هدى الله به نبيه وصحابته الكرام، فلا هداه الله. وقد صدق الله إذ قال: إِنَّ {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]
- وعن عمرو بن الأشجع أن عمر بن الخطاب قال: إنه سيأتي ناس يجادلونكم بشبهات القرآن، فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم
_________
(1) البخاري (13/ 305/7269).
(2) الإسراء الآية (9).(1/44)
بكتاب الله. (1)
- وعن سليمان بن يسار أن رجلا يقال له صبيغ قدم المدينة، فجعل يسأل عن متشابه القرآن. فأرسل إليه عمر وقد أعد له عراجين النخل. فقال: من أنت؟ قال: أنا عبد الله صبيغ، فأخذ عمر عرجونا من تلك العراجين فضربه، وقال: أنا عبد الله عمر، فجعل له ضربا حتى دمي رأسه، فقال: يا أمير المؤمنين حسبك، قد ذهب الذي كنت أجد في رأسي. (2)
- وعن السائب بن يزيد، قال: أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقيل: يا أمير المؤمنين إنا لقينا رجلا سأل عن تأويل القرآن، فقال عمر: اللهم مكني منه، فبينا عمر ذات يوم جالس يغدي الناس إذ جاءه عليه ثياب فتغدى حتى إذا فرغ قال: يا أمير المؤمنين {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا} (2) (3) فقال عمر: أنت هو؟ فقام إليه وحسر عن ذراعيه فلم يزل يجلده حتى سقطت عمامته، فقال: والذي نفس عمر بيده لو وجدتك محلوقا لضربت رأسك، ألبسوه ثيابه واحملوه على قتب ثم أخرجوه حتى تقدموا به بلادكم، ثم ليقم خطيبا ثم ليقل إن صبيغا طلب العلم فأخطأه فلم يزل وضيعا في قومه حتى هلك وكان سيدهم. قال أبو حاتم: ولم يقل
_________
(1) سنن الدارمي (1/ 49) وذم الكلام (ص.68) وجامع بيان العلم وفضله (2/ 1010) وأصول الاعتقاد (1/ 139/202) والإبانة (2/ 4/610/ 790) والشريعة (1/ 175/99) والفقيه والمتفقه (1/ 559 - 560).
(2) الدارمي (1/ 54) والإبانة (2/ 4/609 - 610/ 789) واللالكائي (4/ 702 - 703/ 1138) والآجري في الشريعة (1/ 210/160) وذم الكلام (ص.181). وبنحوه في ما جاء في البدع لابن وضاح (ص.121).
(3) الذاريات الآيتان (1و2).(1/45)
أبو حفص في حديثه ثم أخرجوه حتى تقدموا به بلادكم. (1)
" التعليق:
قال ابن بطة: وعسى الضعيف القلب القليل العلم من الناس إذا سمع هذا الخبر وما فيه من صنيع عمر رضي الله عنه أن يتداخله من ذلك ما لا يعرف وجه المخرج عنه، فيكثر هذا من فعل الإمام الهادي العاقل رحمة الله عليه فيقول: كان جزاء من سأل عن معاني آيات من كتاب الله عز وجل أحب أن يعلم تأويلها أن يوجع ضربا وينفى ويهجر ويشهر؟ وليس الأمر كما يظن من لا علم عنده، ولكن الوجه فيه غير ما ذهب إليه الذاهب؛ وذلك أن الناس كانوا يهاجرون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته ويفدون إلى خلفائه من بعد وفاته رحمة الله عليهم ليتفقهوا في دينهم ويزدادوا بصيرة في إيمانهم ويتعلموا علم الفرائض التي فرضها الله عليهم. فلما بلغ عمر رحمه الله قدوم هذا الرجل المدينة وعرف أنه سأل عن متشابه القرآن وعن غير ما يلزمه طلبه مما لا يضره جهله ولا يعود عليه نفعه وإنما كان الواجب عليه حين وفد على إمامه أن يشتغل بعلم الفرائض والواجبات والتفقه في الدين من الحلال والحرام. فلما بلغ عمر رحمه الله أن مسائله غير هذا علم من قبل أن يلقاه أنه رجل بطال القلب خالي الهمة عما افترضه الله عليه مصروف العناية إلى ما لا ينفعه، فلم يأمن عليه أن يشتغل بمتشابه القرآن والتنقير عما لا يهتدي عقله إلى فهمه فيزيغ قلبه فيهلك. فأراد عمر رحمه الله أن يكسره عن ذلك ويذله
_________
(1) الإبانة (1/ 2/414 - 415/ 330) والشريعة (1/ 210/160). وعزاه الحافظ في الإصابة (5/ 169) إلى ابن الأنباري وصحح سنده. وزيادة: طلب العلم من الشريعة.(1/46)
ويشغله عن المعاودة إلى مثل ذلك. (1)
- عن خالد بن عرفطة قال: كنت عند عمر بن الخطاب، إذ أتى برجل من عبد القيس مسكنه بالسوس. فقال له عمر: أنت فلان بن فلان العبدي؟ قال: نعم. قال: وأنت النازل بالسوس؟ قال: نعم. فضربه بقناة معه، فقال له: ما ذنبي؟ قال فقرأ عليه الر {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} (2) فقرأها عليه ثلاث مرات وضربه ثلاث ضربات، ثم قال له عمر: أنت الذي انتسخت كتاب دانيال؟ قال: نعم. قال: اذهب فامحه بالحميم والصوف الأبيض، ولا تقرأه ولا تقرئه أحدا من الناس. (3)
- وروى مالك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ضرب المنكدر على صلاة بعد العصر. ورواه غيره: فقيل له: أعلى الصلاة؟ فقال: على خلاف السنة. (4)
- وجاء في كتاب البدع لابن وضاح: عن الشعبي أن عمر بن الخطاب كان يضرب الرجبيين الذين يصومون رجب كله. (5)
- وروى ابن أبي شيبة أيضا: عن أبي عثمان النهدي قال: كتب عامل
_________
(1) الإبانة (1/ 2/415 - 416).
(2) يوسف الآيات (1 - 3).
(3) رواه ابن أبي حاتم في التفسير (7/ 2100/11324) وذكره ابن تيمية في مجموع الفتاوى (17/ 41 - 42).
(4) مالك في الموطأ 1/ 221/50) وعبد الرزاق في المصنف (2/ 429/3464).
(5) ما جاء في البدع (ص.93).(1/47)
لعمر بن الخطاب إليه أن ههنا قوما يجتمعون فيدعون للمسلمين وللأمير. فكتب إليه عمر: أقبل وأقبل بهم معك. فأقبل. وقال عمر للبواب: أعد سوطا. فلما دخلوا على عمر أقبل على أميرهم ضربا بالسوط. فقال: يا أمير المؤمنين [إنا] لسنا أولئك الذين تعني، أولئك قوم يأتون من قبل المشرق. (1)
- وروى ابن بطة بسنده إلى الأوزاعي أنه بلغه أن عمر بن الخطاب قال: أيها الناس إنه لا عذر لأحد بعد السنة في ضلالة ركبها حسبها هدى ولا في هدى تركه حسبه ضلالة فقد بينت الأمور وثبتت الحجة وانقطع العذر. (2)
- وفي الإبانة أيضا عن طاوس قال: قال عمر بن الخطاب: لا تسألوا عن أمر لم يكن، فإن الأمر إذا كان أعان الله عليه وإذا تكلفتم ما لم تبلوا به وكلتم إليه. (3)
- وفي سنن الدارمي: جاء رجل يوما إلى ابن عمر فسأله عن شيء لا أدري ما هو، فقال له ابن عمر: لا تسأل عما لم يكن فإني سمعت عمر بن الخطاب يلعن من سأل عما لم يكن. (4)
- وروى ابن بطة بسنده إلى الحسين قال: قدم الأحنف بن قيس على عمر فسرح الوفد واحتبس الأحنف حولا ثم قال له: تدري لم حبستك؟ إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حذرنا كل منافق عليم ولست منهم إن شاء الله فالحق بأهلك. (5)
- وفيهما عن ابن عمر قال: رأيت عمر قبل الحجر وقال: والله إني لأعلم
_________
(1) ابن أبي شيبة في مصنفه (5/ 290/29191) ومن طريقه ابن وضاح في البدع (ص.54).
(2) الإبانة (1/ 2/320 - 321/ 162) والفقيه والمتفقه (1/ 383).
(3) الإبانة (1/ 2/408 - 409/ 317).
(4) الدارمي (1/ 50).
(5) الإبانة (2/ 3/527/ 640).(1/48)
أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبلك ما قبلتك. (1)
- عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول، فيم الرملان والكشف عن المناكب، وقد أطأ الله الإسلام، ونفى الكفر وأهله، مع ذلك لا ندع شيئا كنا نفعله على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (2)
- عن سعيد بن المسيب قال: كان عمر بن الخطاب يقول: الدية للعاقلة ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئا، حتى قال له الضحاك بن سفيان: كتب إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن أورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها، فرجع عمر (3) -زاد الحميدي- عن قوله. (4)
- وروى الخطيب عن ابن المسيب قال: قضى عمر بن الخطاب في الأصابع بقضاء ثم أخبر بكتاب كتبه النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن حزم: "في كل أصبع مما هنالك عشر من الإبل" فأخذ به، وترك أمره الأول. (5)
_________
(1) سيأتي تخريجه قريبا.
(2) أبو داود (2/ 446 - 447/ 1887) وابن ماجة (2/ 984/2952).
(3) أحمد (3/ 452) وأبو داود (3/ 339 - 340/ 2927) والترمذي (4/ 371/2110) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". ابن ماجه 2/ 833/2642) والنسائي في الكبرى (4/ 78 - 79/ 6363 - 6366).
(4) الفقيه والمتفقه (1/ 364).
(5) الفقيه والمتفقه (1/ 364 - 365) وعبد الرزاق في المصنف (9/ 385/17706) والبيهقي (8/ 93) بنحوه. أما حديث كتاب عمرو بن حزم فقد رواه النسائي (8/ 428 - 429/ 4868) وصححه ابن حبان (14/ 501/6559) والحاكم (1/ 395) وقال الحافظ في التلخيص (4/ 18): "قد صحح الحديث بالكتاب المذكور جماعة من الأئمة لا من حيث الإسناد، بل من حيث الشهرة فقال الشافعي في رسالته: لم يقبلوا هذا الحديث حتى ثبت عندهم أنه كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال ابن عبد البر: هذا كتاب مشهور عند أهل السير، معروف ما فيه عند أهل العلم معرفة يستغنى بشهرتها عن الإسناد، لأنه أشبه التواتر في مجيئه لتلقي الناس له بالقبول والمعرفة". وانظر تمام تخريجه في فتح البر (11/ 523).(1/49)
- وروى عن هشام بن يحيى المخزومي: أن رجلا من ثقيف أتى عمر ابن الخطاب فسأله عن امرأة حاضت وقد كانت زارت البيت يوم النحر: ألها أن تنفر قبل أن تطهر؟ فقال عمر: لا، فقال له الثقفي: فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفتاني في مثل هذه المرأة بغير ما أفتيت، قال: فقام إليه عمر يضربه بالدرة، ويقول: لم تستفتني في شيء قد أفتى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (1)
- وروى عن بلال بن يحيى: أن عمر، قال: قد علمت متى صلاح الناس، ومتى فسادهم: إذا جاء الفقه من قبل الصغير استعصى عليه الكبير، وإذا جاء الفقه من قبل الكبير تابعه الصغير فاهتديا. (2)
- جاء في ذم الكلام: قال عمر بن الخطاب: لأن أسمع في ناحية المسجد بنار تشتعل أحب إلي من أن أسمع فيه ببدعة ليس لها مغير. (3)
- وأخرج البخاري عن شقيق قال: سمعت حذيفة يقول: بينا نحن جلوس عند عمر إذ قال: أيكم يحفظ قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الفتنة؟ قال: فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره يكفرها الصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال: ليس عن هذا أسألك، ولكن التي تموج كموج البحر. فقال: ليس عليك منها بأس يا أمير المؤمنين، إن بينك وبينها بابا مغلقا. قال عمر: أيكسر الباب أم يفتح؟ قال: لا بل يكسر. قال عمر: إذن لا يغلق أبدا. قلت: أجل. قلنا لحذيفة: أكان عمر يعلم الباب؟ قال: نعم،
_________
(1) الفقيه والمتفقه (1/ 507).
(2) الفقيه والمتفقه (2/ 158) وجامع بيان العلم وفضله (1/ 615) وذكره الشاطبي في الاعتصام (2/ 682).
(3) ذم الكلام (ص.85).(1/50)
كما يعلم أن دون غد ليلة، وذلك أنى حدثته حديثا ليس بالأغاليط. فهبنا أن نسأله من الباب، فأمرنا مسروقا فسأله، فقال: من الباب؟ قال: عمر. (1)
- وفيه عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قدم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر فنزل على ابن أخيه الحر ابن قيس بن حصن -وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجلس عمر ومشاورته كهولا كانوا أو شبانا- فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي هل لك وجه عند هذا الأمير فتستأذن لي عليه؟ قال: سأستأذن لك عليه، قال ابن عباس فاستأذن لعيينة، فلما دخل قال: يا ابن الخطاب، والله ما تعطينا الجزل، وما تحكم بيننا بالعدل. فغضب عمر حتى هم بأن يقع به، فقال الحر: يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (2) وإن هذا من الجاهلين. فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافا عند كتاب الله. (3)
- وفيه: عن أنس قال: كنا عند عمر فقال: نهينا عن التكلف. (4)
_________
(1) أحمد (5/ 401 - 402) والبخاري (13/ 60/7096) ومسلم (4/ 2218/144) والترمذي (4/ 454 - 455/ 2258) وقال: "هذا حديث صحيح". والنسائي في الكبرى (1/ 144 - 145/ 327) وابن ماجه (2/ 1305 - 1306/ 3955).
(2) الأعراف الآية (199).
(3) البخاري (13/ 311 - 312/ 7286).
(4) البخاري (13/ 329/7293).(1/51)
- وجاء في الفتح أن رجلا سأل عمر بن الخطاب عن قوله: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} (1) ما الأب؟ فقال عمر: نهينا عن التعمق والتكلف. (2)
- قال الشاطبي: فحق ما حكي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث قال: إنما هذا القرآن كلام، فضعوه مواضعه، ولا تتبعوا به أهواءكم، (3) أي: فضعوه على مواضع الكلام، ولا تخرجوه عن ذلك، فإنه خروج عن طريقه المستقيم إلى اتباع الهوى. (4)
- وروى ابن عبد البر بسنده إلى عمر قال: إنما أخاف عليكم رجلين: رجل تأول القرآن على غير تأويله، ورجل ينافس الملك على أخيه. (5)
- جاء في أعلام الموقعين: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: العلم ثلاثة: كتاب ناطق، وسنة ماضية، ولا أدري، وقال لأبي الشعثاء: لا تفتين إلا بكتاب ناطق، أو سنة ماضية. (6)
- وفيه قال عمر رضي الله عنه: لا تختلفوا، فإنكم إن اختلفتم كان من بعدكم أشد اختلافا. (7)
_________
(1) عبس الآية (31).
(2) الفتح (13/ 336).
(3) رواه الدارمي نحوه (2/ 317) وعبد الله بن أحمد في السنة (ص.27) والبيهقي في الاعتقاد (ص.205 برقم 59 - 60) وفي الأسماء والصفات (1/ 591 - 592/ 521 - 523) والآجري في الشريعة (1/ 215/167).
(4) الاعتصام (1/ 303 - 304).
(5) جامع بيان العلم وفضله (2/ 1202) وذكره الشاطبي في الاعتصام (1/ 304).
(6) إعلام الموقعين (1/ 253).
(7) إعلام الموقعين (1/ 259).(1/52)
- وفيه عن السائب بن يزيد ابن أخت نمر أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: إن حديثكم شر الحديث، إن كلامكم شر الكلام، فإنكم قد حدثتم الناس حتى قيل قال فلان وقال فلان، ويترك كتاب الله، من كان منكم قائما فليقم بكتاب الله، وإلا فليجلس. (1)
- وقال شيخ الإسلام: كتب عمر إلى شريح: اقض بما في كتاب الله، فإن لم تجد فبما في سنة رسول الله، فإن لم تجد فبما به قضى الصالحون قبلك. وفي رواية: فبما أجمع عليه الناس. (2)
- وقال: ورفع إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه نائحة، فأمر بضربها، فقيل: يا أمير المؤمنين إنه قد بدا شعرها. فقال: إنه لا حرمة لها، إنها تنهى عن الصبر، وقد أمر الله به، وتأمر بالجزع، وقد نهى الله عنه، وتفتن الحي، وتؤذي الميت، وتبيع عبرتها، وتبكي بشجو غيرها، إنها لا تبكي على ميتكم، إنما تبكي على أخذ دراهمكم. (3)
- وأخرج ابن وضاح عن عمر أنه كان يقول: أصدق القيل قيل الله، وإن أحسن الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وإن شر الأمور محدثاتها، ألا وإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. (4)
- وأخرج عن يحيى بن أبي كثير قال: قال عمر بن الخطاب: إذا اختلف الناس في أهوائهم وعجب كل ذي رأي برأيه أيها الناس عليكم
_________
(1) إعلام الموقعين (2/ 194).
(2) مجموع الفتاوى (19/ 200 - 201).
(3) المنهاج (4/ 552).
(4) ما جاء في البدع (ص.62) وجامع بيان العلم وفضله (1/ 615/1054).(1/53)
أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم. (1)
موقفه من المشركين:
- قال ابن مسعود رضي الله عنه: "كان إسلام عمر فتحا، وكانت هجرته نصرا، وكانت إمارته رحمة، لقد رأيتنا وما نستطيع أن نصلي بالبيت حتى أسلم عمر، فلما أسلم عمر قاتلهم حتى تركونا نصلي".
- جاء في شعب الإيمان: عن أبي موسى في كاتب له نصراني عجب عمر بن الخطاب رضي الله عنه من كتابه فقال: إنه نصراني قال أبو موسى: فانتهرني وضرب فخذي وقال أخرجه وقرأ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} (2) وقال: {لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}. (3)
قال أبو موسى: والله ما توليته إنما كان يكتب. قال: أما وجدت في أهل الإسلام من يكتب لك. لا تدنهم إذ أقصاهم الله ولا تأمنهم إذ خونهم الله ولا تعزهم بعد إذ أذلهم الله. (4)
- ذكر ابن جرير أنهم وجدوا قبر دانيال بالسوس، وأن أبا موسى لما
_________
(1) ما جاء في البدع (ص.160).
(2) الممتحنة الآية (1).
(3) المائدة الآية (51).
(4) شعب الإيمان (7/ 43).(1/54)
قدم بها بعد مضي أبي سبرة إلى جندي سابور، كتب إلى عمر في أمره، فكتب إليه أن يدفنه وأن يغيب عن الناس موضع قبره ففعل. (1)
- وقال ابن وضاح: سمعت عيسى بن يونس مفتي أهل طرسوس يقول: أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقطعها لأن الناس كانوا يذهبون فيصلون تحتها، فخاف عليهم الفتنة. (2)
- قال المعرور بن سويد: صليت مع عمر بن الخطاب في طريق مكة صلاة الصبح، فقرأ فيها أَلَمْ {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} (3) و {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} (4) ثم رأى الناس يذهبون مذاهب، فقال: أين يذهب هؤلاء؟ فقيل: يا أمير المؤمنين، مسجد صلى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهم يصلون فيه، فقال: إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا، كانوا يتبعون آثار أنبيائهم ويتخذونها كنائس وبيعا، فمن أدركته الصلاة في هذه المساجد فليصل ومن لا فليمض ولا يتعمدها. (5)
- وقال: وكان عمر رضي الله عنه لا يصلي على من لم يصل عليه حذيفة، لأنه كان في غزوة تبوك قد عرف المنافقين، الذين عزموا على الفتك برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (6)
_________
(1) البداية والنهاية (7/ 91) والمنهاج (1/ 480 - 481).
(2) ما جاء في البدع (ص.91) والاقتضاء (2/ 744 - 745).
(3) الفيل الآية (1).
(4) قريش الآية (1).
(5) ما جاء في البدع (ص.90 - 91) والحوادث والبدع (ص.159 - 160) والاقتضاء (2/ 744) والمنهاج (1/ 481).
(6) المنهاج (5/ 237).(1/55)
- وقال عمر رضي الله عنه: لا تعلموا رطانة الأعاجم، ولا تدخلوا عليهم في كنائسهم يوم عيدهم، فإن السخطة تنزل عليهم. (1)
" التعليق:
كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حريصا على أن يكون المسلمون أصحاب عقيدة خالصة من شوائب الشرك والبدع، فلذا كان يقطع كل السبل التي قد يتذرع بها كل مشرك ومبتدع، فرضي الله عنه وأرضاه، لقد حمى جانب عقيدة التوحيد الخالصة.
- وعن عمر رضي الله عنه: أنه جاء إلى الحجر الأسود فقبله فقال: إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبلك ما قبلتك. (2)
- وجاء في الموطأ عن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد القاري، عن أبيه، أنه قال: قدم على عمر بن الخطاب رجل من قبل أبي موسى الأشعري. فسأله عن الناس. فأخبره. ثم قال له عمر: هل كان فيكم من مغربة خبر؟ فقال: نعم. رجل كفر بعد إسلامه. قال: فما فعلتم به؟ قال: قربناه، فضربنا عنقه. فقال عمر: أفلا حبستموه ثلاثا. وأطعمتموه كل يوم رغيفا. واستتبتموه لعله يتوب ويراجع أمر الله؟ ثم قال عمر: اللهم إني لم أحضر. ولم آمر. ولم أرض. إذ بلغني. (3)
_________
(1) رواه عبد الرزاق (1609) والبيهقي في الكبرى (9/ 234).
(2) أحمد (1/ 34) والبخاري (3/ 589/1597) ومسلم (2/ 925/1270) وأبو داود (2/ 438 - 439/ 1873) والترمذي (3/ 214 - 215/ 860) والنسائي (5/ 227/2937) وابن ماجه (2/ 981/2943).
(3) الموطأ (2/ 737).(1/56)
قتل العلج المجوسي لعمر بن الخطاب:
عن عمرو بن ميمون قال: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل أن يصاب بأيام بالمدينة وقف على حذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف قال: كيف فعلتما أتخافان أن تكونا قد حملتما الأرض ما لا تطيق؟ قالا: حملناها أمرا هي له مطيقة ما فيها كبير فضل قال: انظرا أن تكونا حملتما الأرض ما لا تطيق، قالا: لا فقال عمر: لئن سلمني الله لأدعن أرامل أهل العراق لا يحتجن إلى رجل بعدي أبدا قال: فما أتت عليه إلا رابعة حتى أصيب. قال: إني لقائم ما بيني وبينه إلا عبد الله بن عباس غداة أصيب، وكان إذا مر بين الصفين قال: استووا حتى إذا لم ير فيهم خللا تقدم فكبر، وربما قرأ سورة يوسف أو النحل أو نحو ذلك في الركعة الأولى حتى يجتمع الناس، فما هو إلا أن كبر فسمعته يقول: قتلني أو أكلني الكلب حين طعنه، فطار العلج بسكين ذات طرفين لا يمر على أحد يمينا ولا شمالا إلا طعنه، حتى طعن ثلاثة عشر رجلا مات منهم سبعة. فلما رأى ذلك رجل من المسلمين طرح عليه برنسا فلما ظن العلج أنه مأخوذ نحر نفسه.
وتناول عمر يد عبد الرحمن بن عوف فقدمه، فمن يلي عمر فقد رأى الذي أرى، وأما نواحي المسجد فإنهم لا يدرون غير أنهم قد فقدوا صوت عمر، وهم يقولون: سبحان الله، فصلى بهم عبد الرحمن بن عوف صلاة خفيفة، فلما انصرفوا قال: يا ابن عباس انظر من قتلني؟ فجال ساعة ثم جاء فقال: غلام المغيرة. قال: الصنع؟ قال: نعم. قال: قاتله الله لقد أمرت به معروفا، الحمد لله الذي لم يجعل ميتتي بيد رجل يدعي الإسلام. قد كنت(1/57)
أنت وأبوك تحبان أن تكثر العلوج بالمدينة، وكان العباس أكثرهم رقيقا -فقال: إن شئت فعلت أي إن شئت قتلنا قال: كذبت بعد ما تكلموا بلسانكم وصلوا قبلتكم وحجوا حجكم- فاحتمل إلى بيته فانطلقنا معه وكأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ، فقائل يقول: لا بأس. وقائل يقول: أخاف عليه. فأتي بنبيذ فشربه فخرج من جوفه، ثم أتي بلبن فشربه فخرج من جرحه، فعلموا أنه ميت فدخلنا عليه وجاء الناس فجعلوا يثنون عليه وجاء رجل شاب فقال: أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك من صحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقدم في الإسلام ما قد علمت ثم وليت فعدلت ثم شهادة. قال: وددت أن ذلك كفاف لا علي ولا لي، فلما أدبر إذا إزاره يمس الأرض قال: ردوا علي الغلام. قال: ابن أخي ارفع ثوبك فإنه أبقى لثوبك وأتقى لربك، يا عبد الله ابن عمر انظر ما علي من الدين، فحسبوه فوجدوه ستة وثمانين ألفا أو نحوه. قال: إن وفى له مال آل عمر فأده من أموالهم وإلا فسل في بني عدي بن كعب، فإن لم تف أموالهم فسل في قريش ولا تعدهم إلى غيرهم، فأدعني هذا المال، انطلق إلى عائشة أم المؤمنين فقل: يقرأ عليك عمر السلام ولا تقل أمير المؤمنين، فإني لست اليوم للمؤمنين أميرا، وقل يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه. فسلم واستأذن ثم دخل عليها فوجدها قاعدة تبكي. فقال: يقرأ عليك عمر بن الخطاب السلام ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه. فقالت: كنت أريده لنفسي ولأوثرن به اليوم على نفسي.
فلما أقبل قيل: هذا عبد الله بن عمر قد جاء. قال: ارفعوني. فأسنده رجل إليه، فقال: ما لديك؟ قال: الذي تحب يا أمير المؤمنين، أذنت. قال: الحمد لله، ما كان من(1/58)
شيء أهم إلي من ذلك، فإذا أنا قضيت فاحملوني ثم سلم فقل يستأذن عمر ابن الخطاب، فإن أذنت لي فأدخلوني، وإن ردتني ردوني إلى مقابر المسلمين. وجاءت أم المؤمنين حفصة والنساء تسير معها، فلما رأيناها قمنا فولجت عليه فبكت عنده ساعة، واستأذن الرجال فولجت داخلا لهم فسمعنا بكاءها من الداخل، فقالوا: أوص يا أمير المؤمنين، استخلف. قال: ما أجد أحدا أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر أو الرهط الذين توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راض، فسمى عليا وعثمان والزبير وطلحة وسعدا وعبد الرحمن. وقال: يشهدكم عبد الله ابن عمر وليس له من الأمر شيء كهيئة التعزية له فإن أصابت الإمرة سعدا فهو ذاك، وإلا فليستعن به أيكم ما أمر فإني لم أعزله عن عجز ولا خيانة. وقال: أوصي الخليفة من بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم ويحفظ لهم حرمتهم، وأوصيه بالأنصار خيرا الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم أن يقبل من محسنهم وأن يعفى عن مسيئهم، وأوصيه بأهل الأمصار خيرا، فإنهم ردء الإسلام وجباة المال وغيظ العدو، وأن لا يؤخذ منهم إلا فضلهم عن رضاهم وأوصيه بالأعراب خيرا، فإنهم أصل العرب ومادة الإسلام، أن يؤخذ من حواشي أموالهم وترد على فقرائهم وأوصيه بذمة الله وذمة رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يوفي لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم ولا يكلفوا إلا طاقتهم. فلما قبض خرجنا به فانطلقنا نمشي فسلم عبد الله بن عمر. قال: يستأذن عمر بن الخطاب. قالت: أدخلوه فأدخل فوضع هنالك مع صاحبيه فلما فرغ من دفنه اجتمع هؤلاء الرهط فقال عبد الرحمن: اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم. فقال الزبير: قد جعلت أمري إلى(1/59)
علي. فقال طلحة: قد جعلت أمري إلى عثمان. وقال سعد: قد جعلت أمري إلى عبد الرحمن بن عوف.
فقال عبد الرحمن: أيكما تبرأ من هذا الأمر فنجعله إليه، والله عليه والإسلام لينظرن أفضلهم في نفسه. فأسكت الشيخان فقال عبد الرحمن: أفتجعلونه إلي والله علي أن لا آلُو عن أفضلكم. قالا: نعم فأخذ بيد أحدهما فقال: لك قرابة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والقدم في الإسلام ما قد علمت، فالله عليك لئن أمرتك لتعدلن، ولئن أمرت عثمان لتسمعن ولتطيعن. ثم خلا بالآخر فقال مثل ذلك. فلما أخذ الميثاق قال: ارفع يدك يا عثمان فبايعه، وبايع له علي وولج أهل الدار فبايعوه. (1)
- وجاء في أصول الاعتقاد: عن ابن أبي مليكة قال: قالت عائشة لما حضر أبي دعاني فقال: يا بنية إني قد كنت أعطيتك خيبر ولم تكوني حزتيها وإني أحب أن ترديها علي. قالت: فقلت: قد غفر الله لك يا أبت والله لو كانت خيبر ذهبا جمعا لرددتها عليك قال: فهي على كتاب الله يا بنية إني كنت أتجر قريش وأكثرهم مالا فلما شغلتني الإمارة رأيت إن أصبت من المال ... ثم قال: العباءة القطوانية والخلاب والعبد فإذا قضيت فأسرعي به إلى ابن الخطاب. يا بنية ثيابي هذه فكفنيني بها. قالت: فبكيت فقلت: يا أبت نحن أيسر من ذلك، فقال: غفر الله لك، وهل ذلك إلا للمهل، قالت: فلما مات بعثت بذلك إلى ابن الخطاب فقال: يرحم الله أباك لقد أحب أن لا يترك لقائل مقالا. (2)
_________
(1) البخاري (7/ 74 - 76/ 3700).
(2) أصول الاعتقاد (7/ 1370/2449).(1/60)
- وفيها: عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: قال عمر بن الخطاب: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر فمن قال غير هذا فهو مفتر وعليه ما على المفتري. (1)
- وفيها: عن وائل عن البهي قال: وقع بين عبيد الله بن عمر وبين المقداد كلام فشتم عبد الله المقداد فقال عمر علي بالحداد أقطع لسانه لا يجترئ أحد بعده فيشتم أحدا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (2)
- وفيها: عن أبي وائل: أن رجلا حرج على أم سلمة قوله فأمر عمر أن يجلد مائتي جلدة. (3)
موقفه من الجهمية:
- عن يوسف بن مهران قال: خطبنا ابن عباس بالبصرة فقال: قام فينا عمر بن الخطاب أمير المؤمنين رضي الله عنه فقال: أيها الناس، إنه سيكون في هذه الأمة أقوام يكذبون بالرجم، ويكذبون بالدجال، ويكذبون بالحوض، ويكذبون بالشفاعة، ويكذبون بعذاب القبر، ويكذبون بقوم يخرجون من النار بعد ما امتحشوا. (4)
- عن الأحنف بن قيس قال: كنت عند عمر بن الخطاب فرأيت امرأة عنده وهي تقول: يا أمير المؤمنين اذكر إذ كنت في أصلاب المشركين وأرحام المشركات حتى مَنَّ الله عليك بمحمد - صلى الله عليه وسلم -. فقلت لها: لقد أكثرت
_________
(1) أصول الاعتقاد (7/ 1369 - 1370/ 2448).
(2) أصول الاعتقاد (7/ 1338/2376).
(3) أصول الاعتقاد (7/ 1340/2382).
(4) الشريعة (2/ 136/811) وأصول السنة لابن زمنين (ص.190) وبنحوه في أصول الاعتقاد (6/ 1181/2084).(1/61)
على أمير المؤمنين. فقال عمر: دعها. ما تعرفها؟ هذه التي سمع الله منها فأنا أحق أن أسمع منها. (1)
- قال عمر بن الخطاب: إن هذا القرآن كلام الله فضعوه على مواضعه. (2)
موقفه من الخوارج:
- عن المعتمر عن أبيه قال: حدثنا أبو عثمان أن رجلا كان من بني يربوع يقال له صبيغ سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن الذاريات والنازعات والمرسلات أو عن إحداهن، فقال له عمر: ضع عن رأسك فوضع عن رأسه فإذا له وفيرة فقال: لو وجدتك محلوقا لضربت الذي فيه عيناك، قال: ثم كتب إلى أهل البصرة أن لا تجالسوه، أو قال: كتب إلينا أن لا تجالسوه، قال: فلو جلس إلينا ونحن مائة لتفرقنا عنه.
- وعن السائب بن يزيد قال: أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقيل: يا أمير المؤمنين إنا لقينا رجلا سأل عن تأويل القرآن، فقال عمر: اللهم مكني منه، فبينا عمر ذات يوم جالس يغدي الناس إذ جاءه عليه ثياب فتغدى حتى إذا فرغ قال: يا أمير المؤمنين {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا} وِقْرًا فقال عمر: أنت هو، فقام إليه وحسر عن ذراعيه فلم يزل يجلده حتى سقطت عمامته، فقال: والذي نفس عمر بيده لو وجدتك محلوقا لضربت رأسك، ألبسوه ثيابه واحملوه على قتب ثم أخرجوه حتى تقدموا به بلادكم ثم ليقم
_________
(1) أصول الاعتقاد (3/ 455 - 456/ 690).
(2) السنة لعبد الله (23 - 24 و27) والإبانة (1/ 12/249 - 250/ 22 - 23) والشريعة (1/ 215/167).(1/62)
خطيبا ثم ليقل إن صبيغا طلب العلم فأخطأه فلم يزل وضيعا في قومه حتى هلك وكان سيدهم. قال أبو حاتم: ولم يقل أبو حفص في حديثه ثم أخرجوه حتى تقدموا به بلادكم. (1)
" التعليق:
قال الحافظ ابن حجر (2): قال أبو أحمد العسكري: اتهمه عمر برأي الخوارج. (3)
قال ابن بطة (4): فإن قلت: فإنه قال: لو وجدتك محلوقا لضربت الذي فيه عيناك. فمن حلق رأسه يجب عليه ضرب العنق؟ فإني أقول لك: من مثل هذا أتى الزائغون، وبمثل هذا بلي المنقرون الذين قصرت هممهم وضاقت أعطانهم عن فهم أفعال الأئمة المهديين والخلفاء الراشدين، فلم يحسوا بموضع العجز من أنفسهم فنسبوا النقص والتقصير إلى سلفهم. وذلك أن عمر رضي الله عنه قد كان سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يخرج قوم أحداث الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من خير قول الناس يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية من لقيهم فليقتلهم فإن في قتلهم أجرا عند الله". (5)
_________
(1) أخرجه ابن بطة في الإبانة (1/ 414 - 415/ 329 - 330) والآجري في الشريعة (1/ 210 - 211/ 160 - 161) والدارمي (1/ 54 و55 - 56) واللالكائي (4/ 701 - 703/ 1136 - 1138) وابن عساكر في تاريخ دمشق (23/ 410 - 412) وعزاه الحافظ في الإصابة (5/ 169) لابن الأنباري وصحح سنده.
(2) الإصابة (5/ 169).
(3) أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (23/ 409).
(4) الإبانة (1/ 2/416 - 417).
(5) البخاري (12/ 350/6930) ومسلم (2/ 746 - 747/ 1066) من حديث علي رضي الله عنه.(1/63)
وفي حديث آخر: "طوبى لمن قتلهم وطوبى لمن قتلوه، قيل: يا رسول الله ما علامتهم؟ قال: سيماهم التحليق". (1) فلما سمع عمر رضي الله عنه مسائله فيما لا يعنيه كشف رأسه لينظر هل يرى العلامة التي قالها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والصفة التي وصفها، فلما لم يجدها أحسن أدبه لئلا يتغالى به في المسائل إلى ما يضيق صدره عن فهمه فيصير من أهل العلامة الذين أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتلهم فحقن دمه وحفظ دينه بأدبه رحمة الله عليه ورضوانه، ولقد نفع الله صبيغا بما كتب له عمر في نفيه، فلما خرجت الحرورية قالوا لصبيغ إنه قد خرج قوم يقولون كذا وكذا فقال: هيهات نفعني الله بموعظة الرجل الصالح وكان عمر ضربه حتى سالت الدماء على وجهه أو رجليه أو على عقبيه ولقد صار صبيغ لمن بعده مثلا وتردعة لمن نقر وألحف في السؤال.
موقفه من المرجئة:
- عن الهزيل بن شرحبيل قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح بهم. (2)
- عن زر بن حبيش قال: كان عمر بن الخطاب يقول لأصحابه: هلموا نزدد إيمانا فيذكرون الله عز وجل. (3)
_________
(1) أخرجه أحمد (3/ 197) وأبو داود (4/ 123 - 124/ 4766) وابن ماجة (1/ 62/175) والحاكم (2/ 147) وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي. وجوّد إسناده الحافظ في الفتح (12/ 354). من حديث أنس رضي الله عنه.
(2) الإبانة (2/ 7/856 - 857/ 1161) والسنة لعبد الله (ص.115) والسنة للخلال (4/ 44/1134).
(3) أصول الاعتقاد (5/ 1012/1700) والإبانة (2/ 7/846 - 847/ 1134) والشريعة (1/ 262/241) وابن أبي شيبة في الإيمان (ح108)، وهو في المصنف (6/ 164 - 165/ 30366) والخلال في السنة (4/ 39 - 40/ 1122).(1/64)
موقفه من القدرية:
- عن عبد الله بن الحارث بن نوفل، قال: "خطبنا عمر رضي الله عنه بالجابية، والجاثليق ماثل بين يديه، والترجمان يترجم فقال عمر: من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، فقال الجاثليق: إن الله لا يضل أحدا، فقال عمر، ما يقول؟ فقال الترجمان: لا شيء، ثم عاد في خطبته. فلما بلغ: من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، فقال الجاثليق: إن الله لا يضل أحدا، فقال عمر: ما يقول؟ فأخبره، فقال: كذبت يا عدو الله، ولولا عهدك لضربت عنقك، بل الله خلقك، والله أضلك، ثم الله يميتك، ثم يدخلك النار، إن شاء الله. ثم قال: "إن الله تعالى لما خلق آدم نثر ذريته، فكتب أهل الجنة وما هم عاملون، وأهل النار وما هم عاملون، ثم قال: هؤلاء لهذه، وهؤلاء لهذه". (1)
وقد كان الناس تذاكروا القدر، فافترق الناس، وما يذكره أحد". (2)
" التعليق:
انظر رحمك الله مَوقفَ رجل -أمرنا بالاقتداء به- وَقَفَهُ من المبتدعة، هل فيه شيء من المداهنة أوالمسالمة، ما هو إلا ضرب العنق وفرض الحجة والبرهان، لا زبالة الرأي ووساوس الشيطان.
_________
(1) أخرجه البزار (3/ 20/2141) والطبراني في الصغير (1/ 150/354) وقال الهيثمي في المجمع (7/ 786): "ورجال البزار رجال الصحيح". من حديث ابن عمر وفي الباب عن غيره أخرجها من طرق الشيخ الألباني رحمه الله في الصحيحة بالأرقام: (46و47و48و49و50).
(2) الشريعة (1/ 398 - 399/ 455) والسنة لعبد الله (142) واللالكائي (4/ 729 - 730/ 1197) والإبانة (2/ 9/129 - 130/ 1560).(1/65)
- وجاء في الإبانة: عن عمرو بن ميمون قال: رأيت عمر رضي الله عنه يوم أصيب وعليه ثوب أصفر فخر وهو يقول: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} (1). اهـ (2)
- وفيها عن زيد بن أسلم مولى عمر بن الخطاب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: القدر قدرة الله عز وجل، فمن كذب بالقدر؛ فقد جحد قدرة الله عز وجل. (3)
- وفيها عن هشام بن عروة عن أبيه؛ أن رجلا قال لعمر بن الخطاب: أعطاك من لا يمن ولا يحرم. قال: كذبت، بل الله يمن عليك بالإيمان، ويحرم الكافر الجنة. (4)
- وفيها عن ثابت أن رجلا أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين. أعطني؛ فوالله لئن أعطيتني لا أحمدك، ولئن منعتني لا أذمك، قال: لم؟ قال: لأن الله عز وجل هو الذي يعطي وهو الذي يمنع، قال: أدخلوه بيت المال ليحضره فليأخذ ما شاء ... (5)
- وفيها أيضا عن عمرو بن ميمون أن عمر سمع غلاما وهو يقول: اللهم إنك تحول بين المرء وقلبه؛ فحل بيني وبين الخطايا؛ فلا أعمل بشيء
_________
(1) الأحزاب الآية (38).
(2) الإبانة (2/ 9/87/ 1497).
(3) الإبانة (2/ 9/131/ 1562).
(4) الإبانة (2/ 9/131/ 1563).
(5) الإبانة (2/ 9/131/ 1564).(1/66)
منها، فقال عمر: رحمك الله ودعا له بخير. (1)
- وعن عبد الله بن عباس أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد -أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه- فأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشام. قال ابن عباس: فقال عمر: ادع لي المهاجرين الأولين فدعاهم فاستشارهم، وأخبرهم أن الوباء قد وقع في الشام فاختلفوا. فقال بعضهم: قد خرجنا لأمر ولا نرى أن نرجع عنه. وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء. فقال: ارتفعوا عني. ثم قال: ادعوا لي الأنصار فدعوتهم فاستشارهم فسلكوا سبيل المهاجرين واختلفوا كاختلافهم. فقال: ارتفعوا عني. ثم قال: ادع لي من كان هاهنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح فدعوتهم فلم يختلف منهم عليه رجلان فقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء. فنادى عمر في الناس: إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه. فقال أبو عبيدة بن الجراح: أفرارا من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة: نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله. أرأيت لو كان لك إبل هبطت واديا له عدوتان (إحداهما) خصيبة والأخرى جدبة أليس إن رعيت الخصيبة رعيتها بقدر الله؟ وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف وكان متغيبا في بعض حاجته فقال: إن عندي في هذا علما: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه" قال: فحمد الله عمر ثم
_________
(1) الإبانة (2/ 9/132/ 1566).(1/67)
انصرف. (1)
- وعن أبي عثمان النهدي قال: سمعت عمر بن الخطاب -وهو يطوف بالبيت- يقول: اللهم إن كنت كتبتني في السعادة فأثبتني فيها، وإن كنت كتبتني على الشقوة فامحني منها وأثبتني في السعادة فإنك تمحو ما تشاء وتثبت، وعندك أم الكتاب. (2)
- وعن ابن أبزى قال: أتي عمر فقيل له: إن ناسا يتكلمون في القدر فقام خطيبا فقال يا أيها الناس إنما هلك من كان قبلكم في القدر والذي نفس عمر بيده لا أسمع برجلين تكلما فيه إلا ضربت أعناقهما. قال: فأحجم الناس فما تكلم فيه أحد حتى ظهرت نابغة الشام. (3)
- وأخرج أبو نعيم في الحلية في ترجمة الزهري من طريق ابن أخي الزهري عن عمه قال: كان عمر بن الخطاب يأمر برواية قصيدة لبيد بن ربيعة التي يقول فيها:
إن تقوى ربنا خير نفل ... وبإذن الله ريثي وعجل
أحمد الله فلا ند له ... بيديه الخير ما شاء فعل
من هداه سبل الخير اهتدى ... ناعم البال ومن شاء أضل (4)
_________
(1) أحمد (1/ 194) مختصرا والبخاري (10/ 220/5729) ومسلم (4/ 1740 - 1741/ 2219) وأبو داود (3/ 478/3103).
(2) أصول الاعتقاد (4/ 735/1207) والإبانة (2/ 9/131 - 132/ 1565) ومجموع الفتاوى (8/ 540).
(3) أصول الاعتقاد (4/ 735 - 736/ 1208) والإبانة (2/ 11/309 - 310/ 1986).
(4) الحلية (3/ 369 - 370).(1/68)
- وجاء في المنهاج: ويذكر أن رجلا سرق فقال لعمر: سرقت بقضاء الله وقدره. فقال له: وأنا أقطع يدك بقضاء الله وقدره.
" التعليق:
قال ابن تيمية رحمه الله: وهكذا يقال لمن تعدى حدود الله، وأعان العباد على عقوبته الشرعية، كما يعين المسلمين على جهاد الكفار: إن الجميع واقع بقضاء الله وقدره، لكن ما أمر به يحبه ويرضاه، ويريده شرعا ودينا، كما شاء خلقا وكونا، بخلاف ما نهى عنه. (1)
أبو ذر الغِفَاري جُنْدُب بن جُنَادَة (2) (32 هـ)
أبو ذر الغفاري الزاهد المشهور، الصادق اللهجة مختلف في اسمه واسم أبيه، والمشهور أنه جندب بن جنادة بن سكن. كان من السابقين إلى الإسلام، وقصة إسلامه في الصحيحين (3). وكان أبو ذر من كبار الصحابة وفضلائهم، قيل كان خامس خمسة في الإسلام، ثم إنه رد إلى بلاد قومه فأقام بها بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - له بذلك. فلما أن هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - هاجر إليه أبو ذر رضي الله عنه، ولازمه وجاهد معه. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أظلت الخضراء ولا
_________
(1) المنهاج (3/ 234).
(2) الإصابة (7/ 125 - 130) وطبقات ابن سعد (4/ 219 - 237) والحلية (1/ 156 - 170) والبداية والنهاية (7/ 164و165) والسير (2/ 46 - 78) ومجمع الزوائد (9/ 327 - 332) وتاريخ الطبري (4/ 283 - 286) والاستيعاب (1/ 252 - 256) والوافي (11/ 193) والتذكرة (1/ 17 - 18) وشذرات الذهب (1/ 39).
(3) سيأتي ضمن مواقفه من المشركين إن شاء الله.(1/69)
أقلت الغبراء أصدق من أبي ذر" (1) وكان رضي الله عنه يفتي في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان. فاتته بدر. وكان رأسا في الزهد، والصدق، والعلم والعمل، قوالا بالحق لا تأخذه في الله لومة لائم، توفي سنة اثنتين وثلاثين.
موقفه من المبتدعة:
عن عبد الله بن الصامت أن أبا ذر قال له: يوشك يا ابن أخي إن عشت إلى قريب أن يمر بالجنازة في السوق فيرفع الرجل رأسه فيقول: يا ليتني على أعوادها. قال: قلت تدري ما بهم؟ قال: على ما كان. قلت: إن ذلك بين يدي أمر عظيم؟ قال: أجل عظيم عظيم عظيم. (2)
" التعليق:
يعضد قول أبي ذر ويصدقه ما روى البخاري في كتاب الفتن من صحيحه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول: يا ليتني مكانه". (3)
قال الحافظ في الفتح: قال ابن بطال: تغبيط أهل القبور وتمني الموت عند ظهور الفتن إنما هو خوف ذهاب الدين بغلبة الباطل وأهله وظهور المعاصي والمنكر انتهى. (4) وليس هذا عاما في حق كل أحد وإنما هو خاص
_________
(1) الترمذي (5/ 628 - 629/ 3802) وقال: "هذا حديث حسن غريب". الحاكم (3/ 342) وصححه الحاكم على شرط مسلم ووافقه الذهبي. ابن حبان (16/ 76/7132 الإحسان) وفي الباب عن عبد الله بن عمرو وأبي الدرداء وأبي هريرة رضي الله عنهم.
(2) الحاكم (4/ 447) وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.
(3) أحمد (2/ 236) والبخاري (13/ 93/7115) ومسلم (4/ 2231/157 [53]) وابن ماجه (2/ 1340/4037).
(4) انظر شرح ابن بطال (10/ 58).(1/70)
بأهل الخير، وأما غيرهم فقد يكون لما يقع لأحدهم من المصيبة في نفسه أو أهله أو دنياه وإن لم يكن في ذلك شيء يتعلق بدينه، ويؤيده ما أخرجه في رواية أبي حازم عن أبي هريرة عند مسلم: "لا تذهب الدنيا حتى يمر الرجل على القبر فيتمرغ عليه ويقول: يا ليتني مكان صاحب هذا القبر، وليس به الدين إلا البلاء" (1). وذكر الرجل فيه للغالب وإلا فالمرأة يتصور فيها ذلك، والسبب في ذلك ما ذكر في رواية أبي حازم أنه يقع البلاء والشدة حتى يكون الموت الذي هو أعظم المصائب أهون على المرء فيتمنى أهون المصيبتين في اعتقاده وبهذا جزم القرطبي، وذكره عياض احتمالا، وأغرب بعض شراح المصابيح فقال: المراد بالدين هنا العبادة، والمعنى أنه يتمرغ على القبر ويتمنى الموت في حالة ليس المتمرغ فيها من عادته وإنما الحامل عليه البلاء. وتعقبه الطيبي بأن حمل الدين على حقيقته أولى، أي ليس التمني والتمرغ لأمر أصابه من جهة الدين بل من جهة الدنيا.
وقال ابن عبد البر: ظن بعضهم أن هذا الحديث معارض للنهي عن تمني الموت، وليس كذلك، وإنما في هذا أن القدر سيكون لشدة تنزل بالناس من فساد الحال في الدين أو ضعفه أو خوف ذهابه لا لضرر ينزل في الجسم، كذا قال، وكأنه يريد أن النهي عن تمني الموت هو حيث يتعلق بضرر الجسم، وأما إذا كان لضرر يتعلق بالدين فلا. وقد ذكره عياض احتمالا أيضا. وقال غيره: ليس بين هذا الخبر وحديث النهي عن تمني الموت معارضة، لأن النهي صريح وهذا إنما فيه إخبار عن شدة ستحصل ينشأ عنها هذا التمني، وليس فيه تعرض لحكمه، وإنما سيق للإخبار
_________
(1) مسلم (4/ 2231/157 [54]).(1/71)
عما سيقع. قلت: ويمكن أخذ الحكم من الإشارة في قوله: وليس به الدين إنما هو البلاء فإنه سيق مساق الذم والإنكار، وفيه إيماء إلى أنه لو فعل ذلك بسبب الدين لكان محمودا، ويؤيده ثبوت تمني الموت عند فساد أمر الدين عن جماعة من السلف. قال النووي: لا كراهة في ذلك بل فعله خلائق من السلف منهم عمر بن الخطاب وعيسى الغفاري وعمر بن عبد العزيز وغيرهم. ثم قال القرطبي: كأن في الحديث إشارة إلى أن الفتن والمشقة البالغة ستقع حتى يخف أمر الدين ويقل الاعتناء بأمره ولا يبقى لأحد اعتناء إلا بأمر دنياه ومعاشه نفسه وما يتعلق به، ومن ثم عظم قدر العبادة أيام الفتنة كما أخرج مسلم من حديث معقل بن يسار رفعه "العبادة في الهرج كهجرة إلي" (1) ويؤخذ من قوله: حتى يمر الرجل بقبر الرجل أن التمني المذكور إنما يحصل عند رؤية القبر، وليس ذلك مرادا بل فيه إشارة إلى قوة هذا التمني لأن الذي يتمنى الموت بسبب الشدة التي تحصل عنده قد يذهب ذلك التمني أو يخف عند مشاهدة القبر والمقبور فيتذكر هول المقام فيضعف تمنيه، فإذا تمادى على ذلك دل على تأكد أمر تلك الشدة عنده حيث لم يصرفه ما شاهده من وحشة القبر وتذكر ما فيه من الأهوال عن استمراره على تمني الموت.
وقد أخرج الحاكم من طريق أبي سلمة قال: عدت أبا هريرة فقلت: اللهم اشف أبا هريرة، فقال: "اللهم لا ترجعها، إن استطعت يا أبا سلمة فمت، والذي نفسي بيده ليأتين على العلماء زمان الموت أحب إلى أحدهم من الذهب
_________
(1) أحمد (5/ 25) ومسلم (4/ 2268/2948) والترمذي (4/ 424/2201) وابن ماجه (2/ 1319/3985).(1/72)
الأحمر. وليأتين أحدهم قبر أخيه فيقول: ليتني مكانه". (1) اهـ (2)
موقفه من المشركين:
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما بلغ أبا ذر مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء، واسمع من قوله ثم ائتني، فانطلق الأخ حتى قدمه وسمع من قوله: ثم رجع إلى أبي ذر فقال له: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وكلاما ما هو بالشعر، فقال ما شفيتني مما أردت، فتزود وحمل شنة له فيها ماء حتى قدم مكة، فأتى المسجد، فالتمس النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يعرفه، وكره أن يسأل عنه حتى أدركه بعض الليل، فرآه علي، فعرف أنه غريب، فلما رآه تبعه فلم يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء حتى أصبح، ثم احتمل قربته وزاده إلى المسجد، وظل ذلك اليوم ولا يراه النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أمسى، فعاد إلى مضجعه فمر به علي فقال: أما نال للرجل أن يعلم منزله، فأقامه فذهب به معه لا يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء، حتى إذا كان يوم الثالث، فعاد علي على مثل ذلك، فأقام معه، ثم قال: ألا تحدثني ما الذي أقدمك، قال: إن أعطيتني عهدا وميثاقا لترشدنني فعلت، ففعل، فأخبره قال: فإنه حق وهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا أصبحت فاتبعني، فإني إن رأيت شيئا أخاف عليك قمت كأني أريق الماء، فإن مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلي، ففعل فانطلق يقفوه حتى دخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - ودخل معه، فسمع من قوله وأسلم مكانه. فقال له
_________
(1) الحاكم (4/ 518) وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي من طريق أبي سلمة عن عبد الرحمن.
(2) الفتح (13/ 93 - 94).(1/73)
النبي - صلى الله عليه وسلم -: ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري، قال والذي نفسي بيده لأصرخن بها بين ظهرانيهم، فخرج حتى أتى المسجد، فنادى بأعلى صوته: أشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ثم قام القوم فضربوه حتى أضجعوه، وأتى العباس، فأكب عليه، قال: ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار، وأن طريق تجاركم إلى الشام، فأنقذه منهم، ثم عاد من الغد لمثلها فضربوه وثاروا إليه فأكب العباس عليه. (1)
" التعليق:
الابتلاء سنة من سنن الله في عباده الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، ولا سيما في الأمور العقائدية، قل أن تجد صاحب دعوة إلى العقيدة الخالصة من الشرك ولا يناله الأذى في سبيل ذلك، فأبو ذر ابتلي فصبر، وكان هو وإخوانه من الصحابة خير مثال لمن يأتي بعدهم.
موقفه من الرافضة:
عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى قال: قلت لأبي ذر: لو أتيت برجل يسب أبا بكر عليه السلام ما كنت صانعا قال: اضرب عنقه قلت: فعمر قال: أضرب عنقه. (2)
_________
(1) البخاري (7/ 219 - 220/ 3861) ومسلم (4/ 1923 - 1925/ 2474 [133]).
(2) أصول الاعتقاد (7/ 1339/2378).(1/74)
موقفه من الخوارج:
- جاء في السير: عن عبد الله بن الصامت، قال: قال أبو ذر لعثمان: يا أمير المؤمنين، افتح الباب، لا تحسبني من قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية. (1)
- وعن يزيد أخبرنا العوام بن حوشب: حدثني رجل عن شيخين من بني ثعلبة قالا: نزلنا الربذة، فمر بنا شيخ أشعث أبيض الرأس واللحية، فقالوا: هذا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فاستأذناه بأن نغسل رأسه. فأذن لنا، واستأنس بنا. فبينما نحن كذلك إذ أتاه نفر من أهل العراق -حسبته قال: من أهل الكوفة- فقالوا: يا أبا ذر، فعل بك هذا الرجل وفعل، فهل أنت ناصب لك راية فنكملك برجال ما شئت؟ فقال: يا أهل الإسلام، لا تعرضوا علي ذاكم ولا تذلوا السلطان، فإنه من أذل السلطان، فلا توبة له، والله لو صلبني على أطول خشبة أو حبل، لسمعت وصبرت ورأيت أن ذلك خير لي. (2)
عبد الله بن مسعود (3) (32 هـ)
عبد الله بن مسعود بن غَافِل، أبو عبد الرحمن الهُذَلِي، المكي المهاجري
_________
(1) سير أعلام النبلاء (2/ 71 - 72).
(2) المصدر نفسه.
(3) الإصابة (4/ 233 - 236) والاستيعاب (3/ 987 - 994) والحلية (1/ 124 - 139) والبداية (7/ 162 - 163) وطبقات ابن سعد (3/ 150 - 161) وتاريخ بغداد (1/ 147 - 150) والتذكرة (1/ 13 - 16) ومجمع الزوائد (9/ 286 - 291) والسير (1/ 461 - 500) والعقد الثمين (5/ 283 - 284) وشذرات الذهب (1/ 38 - 39) والوافي بالوفيات (17/ 604 - 606).(1/75)
البدري، حليف بني زهرة، الإمام الحبر، فقيه الأمة، كان من السابقين الأولين ومن النجباء العالمين، شهد بدرا وهاجر الهجرتين، قال رضي الله عنه: لقد رأيتني سادس ستة وما على ظهر الأرض مسلم غيرنا. وأخرج البخاري والنسائي من حديث أبي موسى قال: "قدمت أنا وأخي من اليمن فمكثنا حيناً وما نحسب ابن مسعود وأمه إلا من أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - لكثرة دخولهم وخروجهم عليه" (1). وفي البخاري عن أبي وائل قال: كنت مع حذيفة، فجاء ابن مسعود فقال حذيفة: "إن أشبه الناس هديا ودلا وقضاء وخطبة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حين يخرج من بيته، إلى أن يرجع لا أدري ما يصنع في أهله لعبد الله بن مسعود، ولقد علم المحفوظون من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - أن عبد الله من أقربهم عند الله وسيلة يوم القيامة" (2). وعنه قال: "والذي لا إله غيره لقد قرأت من في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بضعا وسبعين سورة، ولو أعلم أحدا أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لأتيته" (3). وفي المسند بسند حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أحب أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرأ قراءة ابن أم عبد" (4)
وعن علي قال: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابن مسعود، فصعد شجرة يأتيه منها
_________
(1) البخاري (7/ 129/3763) ومسلم (4/ 1911/2460) والترمذي (5/ 631/3806) وقال: "هذا حديث حسن صحيح غريب". والنسائي في الكبرى (5/ 72/8263).
(2) رواه الحاكم (3/ 315) وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي بنحو هذا اللفظ. ورواه أحمد (5/ 395و402) والبخاري (7/ 129/3762) و (10/ 624/6097) والترمذي (5/ 631 - 632/ 3807) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". وهو عند بعضهم باختصار.
(3) البخاري (9/ 56/5000) ومسلم (4/ 1912/2462).
(4) أحمد (1/ 445) وابن ماجة (1/ 49/138) وابن حبان (15/ 542 - 543/ 7066 - 7067 الإحسان) وفي الباب عن عمر بن الخطاب ..(1/76)
بشيء، فنظر أصحابه إلى ساق عبد الله، فضحكوا من حموشة ساقيه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما تضحكون؟ لرجْل عبد الله أثقل في الميزان يوم القيامة من أحد" (1). وفي صحيح البخاري ومسلم عن عبد الله قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اقرأ علي القرآن، قلت يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: إني أشتهي أن أسمعه من غيري، فقرأت عليه سورة النساء حتى بلغت: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} (2) فغمزني برجله، فإذا عيناه تذرفان". (3) وسئل علي رضي الله عنه عن ابن مسعود فقال: علم الكتاب والسنة ثم انتهى وكفى به.
توفي رضي الله عنه سنة اثنتين وثلاثين، وقيل غير ذلك.
موقفه من المبتدعة:
- جاء في البدع لابن وضاح عن ابن مسعود قال: من أحب أن يكرم دينه فليعتزل مخالطة السلطان ومجالسة أصحاب الأهواء، فإن مجالستهم ألصق من الجرب. (4)
- جاء في ذم الكلام عن عبد الرحمن بن يزيد عن أبيه: سمعت ابن مسعود يقول: يا أيها الناس إن الله بعث محمدا بالحق، وأنزل عليه الفرقان
_________
(1) أحمد (1/ 114) والطبراني (9/ 97/8516) وأبو يعلى (1/ 409 - 410/ 539) وذكره الهيثمي في المجمع (9/ 288 - 289) وقال: "رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني ورجالهم رجال الصحيح غير أم موسى وهي ثقة". وفي الباب عن ابن مسعود.
(2) النساء الآية (41).
(3) أحمد (1/ 380و433) والبخاري (8/ 317/4582) ومسلم (1/ 551/800) وأبو داود (4/ 74/3668) والترمذي (5/ 223/3025).
(4) ما جاء في البدع (ص.110) والدارمي (1/ 90).(1/77)
وفرض عليه الفرائض وأمره أن يعلم أمته، فبلغهم رسالته ونصح لأمته، وعلمهم ما لم يكونوا يعلمون، وبين لهم ما يجهلون، فاتبعوه ولا تبتدعوا، فقد كفيتم، كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة. (1)
- وعنه قال: اقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة. (2)
- وجاء في أصول الاعتقاد عن أبي قلابة عن ابن مسعود قال: عليكم بالعلم قبل أن يقبض وقبضه أن يذهب أهله أو قال أصحابه، وقال: عليكم بالعلم فإن أحدكم لا يدري متى يفتقر إليه، أو يفتقر إلى ما عنده، وإنكم ستجدون أقواما يزعمون أنهم يدعونكم إلى كتاب الله، وقد نبذوه وراء ظهورهم، فعليكم بالعلم، وإياكم والتبدع وإياكم والتنطع وإياكم والتعمق وعليكم بالعتيق. (3)
- وفيه: عن ابن مسعود إنا نقتدي ولا نبتدي ونتبع ولا نبتدع ولن نضل ما تمسكنا بالأثر. (4)
_________
(1) ذم الكلام (ص.79) وطرفه الأخير في الإبانة (1/ 2/327 - 328/ 175) وأصول الاعتقاد (1/ 96/104) وانظر الاعتصام (1/ 107) والبدع والنهي عنها (ص.42) وطبقات الحنابلة (1/ 69).
(2) الدارمي (1/ 72) والحاكم (1/ 103) والطبراني في الكبير (10/ 257/10488) والبيهقي في الكبرى (3/ 19) وقال: "هذا موقوف". ومحمد بن نصر في السنة (رقم 89 ص 30) وأصول الاعتقاد (1/ 61 - 62/ 13 و14) والإبانة (1/ 2/320/ 161) وذم الكلام (117) وجامع بيان العلم وفضله (2/ 1179) والفقيه والمتفقه (1/ 383) والمطالب العالية (3/ 90/2963) وانظر الباعث (ص.66) وتذكر الحفاظ (1/ 16) ومجموع الفتاوى (4/ 109) والتلبيس (15 - 16).
(3) أصول الاعتقاد (1/ 97/108) وذم الكلام (ص.185) والإبانة (1/ 2/323 - 324/ 168) مختصرا. والدارمي (1/ 54) وجامع بيان العلم وفضله (2/ 1202) والفقيه والمتفقه (1/ 167) وانظر الاعتصام (1/ 107 - 108) والبدع والنهي عنها (ص.64) والباعث (ص.66 - 67) وتذكرة الحفاظ (1/ 16).
(4) أصول الاعتقاد (1/ 96 - 97/ 105) والفقيه والمتفقه (1/ 382).(1/78)
- وفيه أيضا: عن عاتكة بنت جزء قالت: أتينا عبد الله بن مسعود فسألناه عن الدجال، قال لنا: لغير الدجال أخوف عليكم من الدجال، أمور تكون من كبرائكم، فأيما مرية أو رجيل أدرك ذلك الزمان فالسمت الأول السمت الأول فأما اليوم على السنة. (1)
- وفي ذم الكلام عنه قال: يا أيها الناس إنكم ستحدثون ويحدث لكم فإذا رأيتم محدثا فعليكم بالأمر الأول. (2)
- وفي الإبانة عنه قال: أكثر الناس خطايا يوم القيامة أكثرهم خوضا في الباطل. (3)
- وأخرج اللالكائي عن عبد الله بن مسعود قال: إياكم وما يحدث الناس من البدع، فإن الدين لا يذهب من القلوب بمرة، ولكن الشيطان يحدث له بدعا حتى يخرج الإيمان من قلبه، ويوشك أن يدع الناس ما ألزمهم الله من فرضه في الصلاة والصيام والحلال والحرام، ويتكلمون في ربهم عز وجل فمن أدرك ذلك الزمان فليهرب، قيل: يا أبا عبد الرحمن فإلى أين؟ قال: إلى لا أين. قال يهرب بقلبه ودينه لا يجالس أحدا من أهل البدع. (4)
- وعنه أيضا قال: كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يربو فيها الصغير ويهرم فيها الكبير، إذا ترك منها شيء، قيل: تركت السنة، قيل متى ذلك يا أبا
_________
(1) أصول الاعتقاد (1/ 97/107) وبنحوه في الدارمي (1/ 71).
(2) ذم الكلام (ص.136) والإبانة (1/ 2/329/ 180) والدارمي (1/ 61) والفقيه والمتفقه (1/ 457) وانظر طبقات الحنابلة (1/ 69) والباعث (ص.67) والاستقامة (1/ 5).
(3) الإبانة (2/ 3/499/ 554).
(4) أصول الاعتقاد (1/ 136 - 137/ 196) والحجة في بيان المحجة (1/ 312).(1/79)
عبد الرحمن؟ قال: ذلك إذا ذهب علماؤكم وكثرت جهالكم وكثرت قراؤكم، وقلت فقهاؤكم والتمست الدنيا بعمل الآخرة، وتفقه لغير الدين. (1)
- وروى الدارمي بسنده إلى بلاز بن عصمة قال: سمعت عبد الله بن مسعود يقول وكان إذا كان عشية ليلة الجمعة قام فقال: إن أصدق القول قول الله، وإن أحسن الهدي هدي محمد، والشقي من شقي في بطن أمه، وإن شر الروايا روايا الكذب وشر الأمور محدثاتها وكل ما هو آت قريب. (2)
- وفي الإبانة: عن ثابت بن قطبة قال: كان عبد الله بن مسعود يذكر كل عشية خميس، فيحمد الله ويثنى عليه ويقول: إن أحسن الحديث كلام الله، وأحسن الهدي هدي محمد، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وشر الرواية رواية الكذب. وسمعته يقول: يا أيها الناس عليكم بالطاعة والجماعة، فإنها حبل الله الذي أمر به، وإن ما تكرهون في الجماعة خير لكم مما تحبون في الفرقة. وإن الله عز وجل لم يخلق في هذه الدنيا شيئا إلا وقد جعل له نهاية ينتهي إليه، ثم يزيد وينقص إلى يوم القيامة. وإن هذا الإسلام اليوم مقبل ويوشك أن يبلغ نهايته ثم يدبر وينقص إلى يوم القيامة، وآية ذلك أن تفشوا الفاقة وتقطع الأرحام حتى لا يخشى الغني إلا الفقر ولا يجد الفقير من يعطف عليه، وحتى إن الرجل ليشكو إلى أخيه وابن عمه وجاره غني لا يعود عليه بشيء، وحتى إن السائل ليطوف بين الجمعتين لا يوضع في يده شيء وذكر
_________
(1) أصول الاعتقاد (1/ 103/123) وجامع بيان العلم وفضله (1/ 654) والدارمي (1/ 64). وانظر الاعتصام (1/ 108) والبدع والنهي عنها (ص.78).
(2) الدارمي (1/ 69) وما جاء في البدع (ص.62 - 63و63) وجامع بيان العلم وفضله (2/ 1162) وذكره الشاطبي في الاعتصام (1/ 93).(1/80)
الحديث. (1)
- وأخرج اللالكائي عن عبد الله قال: يجيء قوم يتركون من السنة مثل هذا -يعني مفصل الأصبع- فإن تركتموهم جاءوا بالطامة الكبرى، وإنه لم يكن أهل كتاب قط إلا كان أول ما يتركون السنة وإن آخر ما يتركون الصلاة، ولولا أنهم يستحيون لتركوا الصلاة. (2)
" التعليق على النصوص:
1 - هذا ما عليه أصحاب البدع، تجد الجل منهم يرتكب أعظم الكبائر الصريحة في القرآن والسنة، وتجده يعيش بالربا الصريح، وتجده ديوثا في أهله وبناته لا يهمه من اختلط بهن، وأين ذهبن، وأين يأتين، ومع ذلك تجده بزعمه يتقرب بالبدع المنكرة، مثل المولد وغيره من البدع باسم التقرب إلى الله، ومحبة النبي - صلى الله عليه وسلم -، انظر رحمك الله إلى هذه البلايا ما أعجبها وما أكثر تناقضها، ولكن المبتدعة كالأنعام بل هم أضل.
2 - قد وقع ما توقعه أبو عبد الرحمن من وقوع فتنة الشرك والبدعة، فليست هناك فتنة أعظم من البدعة والشرك، فرضي الله عنهم ما أغزر علمهم وما أبعد نظرهم.
3 - بدرت في وقتنا هذا بوادر سوء من أناس تكلمت بها ألسنتهم، وخطتها أقلامهم وتوقحوا على نشرها في كتبهم ومجلاتهم، ألا وهي: قولهم في تصنيف بعض السنن: هذا من الجزئيات، وهذا من القشور، وهذا من
_________
(1) الإبانة (1/ 2/327/ 173) وطرف منه في الشريعة (1/ 123 - 124/ 17) وأصول الاعتقاد (1/ 121/159).
(2) أصول الاعتقاد (1/ 102 - 103/ 122) والحاكم (4/ 519) والإبانة (1/ 2/331 - 332/ 186).(1/81)
الأمور التافهة التي لا ينبغي أن يضيع الوقت في الدعوة إليها، ولا يدري هؤلاء الجهلة لوازم أقوالهم، فيمثلون دائما بالأكل باليمين وإعفاء اللحية ومع ذلك تجدهم متساهلين في البدع، متصادقين مع المبتدعة، وأحيانا يكونون منهم، فليرد هؤلاء على ابن مسعود، وليعتبروا أنفسهم أحسن منه عقلا وعلما، ولا أستبعد أن يؤدي ببعضهم الغرور إلى التجرء على ذلك.
- روى الدارمي بسنده إلى عمر بن يحي قال: سمعت أبي يحدث عن أبيه قال كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود قبل صلاة الغداة فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد، فجاءنا أبو موسى الأشعري، فقال: أخرج إليكم أبو عبد الرحمن بعد؟ قلنا: لا، فجلس معنا حتى خرج فلما خرج قمنا إليه جميعا. فقال له أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن، إني رأيت في المسجد آنفا أمرا أنكرته، ولم أر والحمد لله إلا خيرا، قال: فما هو؟ فقال: إن عشت فستراه، قال: رأيت في المسجد قوما حلقا جلوسا، ينتظرون الصلاة، في كل حلقة رجل، وفي أيديهم حصى، فيقول: كبروا مائة؟ فيكبرون مائة. فيقول: هللوا مائة؟ فيهللون مائة، ويقول: سبحوا مائة؟ فيسبحون مائة. قال: فماذا قلت لهم؟ قال: ما قلت لهم شيئا. انتظار رأيك أو انتظار أمرك، قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم، وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم. ثم مضى ومضينا معه، حتى أتى حلقة من تلك الحلق، فوقف عليهم فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن حصى نعد به التكبير والتهليل والتسبيح. قال: فعدوا سيئاتكم، فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء. ويحكم يا(1/82)
أمة محمد، ما أسرع هلكتكم، هؤلاء صحابة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - متوافرون، وهذه ثيابه لم تبل، وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده، إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد أو مفتتحو باب ضلالة، قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن، ما أردنا إلا الخير، قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه. إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حدثنا أن قوما يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم (1)، وايم الله ما أدري لعل أكثرهم منكم، ثم تولى عنهم، فقال عمرو ابن سلمة: رأينا عامة أولئك الحلق يطاعنونا يوم النهروان مع الخوارج. (2)
" التعليق:
هذا الموقف من أعظم الحجج على المبتدعة الذين يحاولون مغالطة الناس بتقسيم البدعة إلى حسنة وغير حسنة، فإن هذا الأمر الذي أنكره أبو موسى أول ما رآه، وابن مسعود بعد ما شاهده بالنسبة للبدع التي في زماننا أمر يسير، فلا أدري ماذا يكون موقفه لو شاهد الطامات الكبرى التي عليها مبتدعة أهل وقتنا والله المستعان.
فصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سدوا المنافذ على المبتدعة في كل زمان، وحذروهم كل التحذير، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
انظر رحمك الله معي هذه القصة وتأملها ولا تغتر بمن طعن فيها، هذا أبو موسى يفزع مما رأى ويركض ليخبر أبا عبد الرحمن بالحادث الذي
_________
(1) أحمد (1/ 404) والترمذي (4/ 417 - 418/ 2188) وقال: "حديث حسن صحيح". وابن ماجه (1/ 59/168).
(2) الدارمي (1/ 68 - 69) ورواه الطبراني (9/ 136/8636) مختصرا، وبنحوه عند ابن وضاح في البدع (ص.40). وانظر مجمع الزوائد (1/ 181) والباعث على إنكار البدع والحوادث (ص.63 - 65) والاعتصام (1/ 175) والاقتضاء (2/ 633).(1/83)
شاهده، ويفزع أبو عبد الرحمن مما سمعه من أبي موسى فيعطيه الحكم مسبقا قبل أن يشاهد ما أفزع أبا موسى، ويأتي ويقف على الحلقة ويسألهم عن مقصود فعلهم هذا، فيخبرونه فيجيبهم الجواب المقنع، ويبين لهم استعجالهم بالبدعة، مع وجود من يقتدى به بين أظهرهم من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما تزال غضة طرية لم تبل ولم تتغير ولا تزال ولله الحمد كذلك إلى قرننا هذا غضة طرية محفوظة بحفظ الله لها، والله المستعان.
- روى ابن وضاح عن أسد عن جرير بن حازم عن الصلت بن بهرام قال: مر ابن مسعود بامرأة معها تسبيح تسبح به، فقطعه وألقاه ثم مر برجل يسبح بحصى، فضربه برجله ثم قال: لقد سبقتم ركبتم بدعة ظلما، ولقد غلبتم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - علما!! (1)
وفي أصول الاعتقاد: عن عبد الله بن مسعود قال: ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلا، إن آمن آمن وإن كفر كفر، فإن كنتم لابد مقتدين، فبالميت فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة. (2)
" التعليق:
ورد عن ابن مسعود أقوال وأفعال تدل على بغضه للتقليد الأعمى الذي يرمي صاحبه في الهاوية. وما هلك المسلمون وأصابهم ما أصابهم إلا بهذا الداء العضال. فبعد الناس عن قال الله قال رسوله، وأصبحت الحجة
_________
(1) ابن وضاح (ص.46).
(2) أصول الاعتقاد (1/ 105/130) والطبراني (9/ 166/8764) وأورده الهيثمي في المجمع (1/ 180) وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2/ 988) وروى الخطيب في الفقيه والمتفقه (2/ 131 - 132) الطرف الأول منه وفي (1/ 438) بنحوه. والاعتصام (2/ 876) وإعلام الموقعين (2/ 195).(1/84)
عندهم في أقوال المتأخرين الذين متنوا لهم متونا، ونظموا لهم مسائل، فتجد أحدهم يحفظ من هذا الشيء الكثير، ولكن لا يعرف ما في صحيح البخاري ومسلم والموطأ، أو على الأقل: بلوغ المرام أو عمدة الأحكام. ولهذا إذا نزل بأحدهم نازلة فزع إلى ما عنده من النثر أو النظم وجعله حجة في دينه، وإذا قلت: المسألة على خلاف الحديث، يثور عليك ويفزع إلى حجة باطلة، وهي قوله: من بقي من الناس يفهم القرآن والحديث؟ مع أنه إذا أخذ مختصرا من هذه المختصرات، احتاج في تعلمه إلى سنين حتى يفهم المتن بواسطة الشرح الصغير والمتوسط والكبير، وحاشية فلان وفلان، وقد يمضي طول عمره ما يعرف دليلا من الكتاب والسنة، فلذا تجد من هذه الأنواع من أفنى عمره في المتون والحواشي، وتجده يوم المشاهد والقبور بنذره وهداياه، طالبا القوت منهم والنفع ودفع الضر، وبالتالي سلط الله على المسلمين عدوهم، فاستباح بيضتهم وحرمتهم، وجعلهم يمشون وراءه في كل صغيرة وكبيرة إلا من جعله الله من الطائفة المنصورة. فرضي الله عن ابن مسعود الذي حذر هذه الأمة من الوقوع في هذه الورطة.
- وجاء في صيانة الإنسان عن ابن مسعود قال: أنتم في زمان: خيركم المسارع في الأمور. وسيأتي زمان بعدكم: خيرهم فيه المتثبت المتوقف لكثرة الشبهات. (1)
" التعليق:
رضي الله عن هذا الإمام وسائر إخوانه من سلفنا الصالح الذين ما
_________
(1) صيانة الإنسان (ص.308 - 309).(1/85)
تركوا باب شر إلا وسدوه في وجوه المبتدعة على اختلاف أنواعهم، فكم ألقى الملاحدة من شبه سخيفة على ضعاف المسلمين لتشكيكهم في ربهم ونبليهم ودينهم. وكم ألقى المبتدعة من الشبه التي لا حصر لها لصرف وجوه الناس إليهم، وقد افتتن بها خلق كثير من ضعاف المعرفة الذين أعرضوا عن مثل هذه النصائح الغالية، إذ لو طلبوا الحكم الشرعي بدليله في النازلة التي تحيق بهم، والشبه التي تعرض لهم، لما انطلت عليهم هذه الأفكار الكاسدة في سوق المعرفة، ولا كان لها رواج بينهم ولا حول ولا قوة إلا بالله.
- وعن مسروق عن ابن مسعود قال: ليس عام إلا والذي بعده شر منه، لا أقول عام أمطر من عام ولا عام أخصب من عام ولا أمير خير من أمير، ولكن ذهاب علمائكم وخياركم، ثم يحدث أقوام يقيسون الأمور بآرائهم فيهدم الإسلام ويثلم. (1)
- وفي الفتح: عن زيد بن وهب قال: سمعت عبد الله بن مسعود يقول: لا يأتي عليكم يوم إلا وهو شر من اليوم الذي كان قبله حتى تقوم الساعة، لست أعني رخاء من العيش يصيبه ولا مالا يفيده ولكن لا يأتي عليكم يوم إلا وهو أقل علما من اليوم الذي مضى قبله، فإذا ذهب العلماء استوى الناس فلا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر فعند ذلك يهلكون.
- وعن مسروق عنه قال: لا يأتي عليكم زمان إلا وهو أشر مما كان
_________
(1) الدارمي (1/ 65) والطبراني في الكبير (9/ 109/8551) ابن وضاح (ص.76) وابن عبد البر في الجامع (2/ 1043) والهروي في ذم الكلام (ص.89) والخطيب في الفقيه والمتفقه (1/ 456 - 457).(1/86)
قبله؛ أما إني لا أعني أميرا خيرا من أمير، ولا عاما خيرا من عام، ولكن علماؤكم وفقهاؤكم يذهبون ثم لا تجدون منهم خلفا، ويجيء قوم يفتون برأيهم -وفي لفظ عنه من هذا الوجه- وما ذاك بكثرة الأمطار وقلتها ولكن بذهاب العلماء، ثم يحدث قوم يفتون في الأمور برأيهم فيثلمون الإسلام ويهدمونه. (1)
- روى الدارمي بسنده إلى ابن مسعود وحذيفة أنهما كانا جالسين، فجاء رجل فسألهما عن شيء، فقال ابن مسعود لحذيفة: لأي شيء ترى يسألوني عن هذا؟ قال: يعلمونه ثم يتركونه، فأقبل إليه ابن مسعود فقال: ما سألتمونا عن شيء من كتاب الله تعالى نعلمه أخبرناكم به، أو سنة من نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أخبرناكم به ولا طاقة لنا بما أحدثتم. (2)
- وجاء في صيانة الإنسان: قال عمرو بن ميمون الأودي، صحبت معاذا باليمن، فما فارقته حتى واريته في التراب بالشام، ثم صحبت بعده أفقه الناس عبد الله بن مسعود فسمعته يقول: عليكم بالجماعة، فإن يد الله على الجماعة، ثم سمعته يقول: سيلي عليكم ولاة يؤخرون الصلاة عن مواقيتها فصلوا الصلاة لميقاتها، فهي الفريضة، وصلوا معهم فإنها لكم نافلة، (3) قال: قلت: يا أصحاب محمد ما أدري ما تحدثونا، قال وما ذاك؟ قلت: تأمرني بالجماعة وتحضني عليها ثم تقول: صل الصلاة وحدك وهي الفريضة وصل
_________
(1) الفتح (13/ 21).
(2) الدارمي (1/ 46) وذكره ابن القيم في إعلام الموقعين (1/ 252 مختصرا).
(3) أحمد (1/ 379) ومسلم (1/ 378 - 379/ 534 [26]) موقوفا. وأبو داود (1/ 300/432) والنسائي (2/ 410/778) وابن ماجه (1/ 398/1255).(1/87)
مع الجماعة وهي النافلة؟ قال: يا عمرو بن ميمون، قد كنت أظنك من أفقه أهل هذه القرية تدري ما الجماعة؟ قلت: لا، قال: إن جمهور الناس الذين فارقوا الجماعة، الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك. قال نعيم بن حماد: يعني إذا فسدت الجماعة فعليك ما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد وإن كنت وحدك، فإنك أنت الجماعة حينئذ. (1)
" التعليق:
لم يكن ابن مسعود يزن الأمور بكثرة العدد وقلته، ولكن يلتزم بالحق ولو كان واحدا. فذكر الجماعة والحض عليها ليس معناه ما عليه السواد الأعظم الذين هم أتباع كل ناعق من مبتدعة وأصحاب عقائد فاسدة، ولكن خلاصة البشر الذين التزموا بالسنة في أقوالهم وأفعالهم، وانتهجوا نهج السلف الصالح، ورضوا مسلكهم ورفضوا كل ما لم يكونوا عليه، وجعلوا السلف الذين في مقدمتهم الصحابة هم الميزان في معرفة الحق والخلق.
- وفي فتح البر عن رجل من عبس، أن ابن مسعود رآى رجلا يضحك في جنازة، فقال: تضحك وأنت في جنازة؟ والله لا أكلمك أبدا. (2)
- وأخرج ابن بطة في الإبانة عن جعفر بن برقان، قال: حدثني بعض أصحابنا أن رجلا من حمير كان يتعلم القرآن عند ابن مسعود، فقال له نفر
_________
(1) الباعث على إنكار البدع والحوادث (ص.91 - 92) وتاريخ دمشق (46/ 408 - 409) وذكره صاحب صيانة الإنسان (ص.309 - 310).
(2) فتح البر (1/ 179).(1/88)
من قريش: لو أنك لم تعلم القرآن حتى تعرف، فذكر ذلك الحميري لابن مسعود، فقال: بلى فتعلمه فإنك اليوم في قوم كثير فقهاؤهم قليل خطباؤهم، كثير معطوهم قليل سؤالهم، يحفظون العهود ولا يضيعون الحدود، والعمل فيه قائد للهوى، ويوشك أن يأتي عليكم زمان قليل فقهاؤه كثير خطباؤه كثير سؤاله قليل معطوه، يحفظون الحروف ويضيعون الحدود، والهوى فيه قائد للعمل. قال الحميري: وليأتين علينا زمان يكون فيه الهوى قائدا للعمل؟ قال ابن مسعود: نعم، قال: فمتى ذلك الزمان؟ قال: إذا أميتت الصلاة وشيد البنيان وظهرت الأيمان واستخف بالأمانة وقبلت الرشا فالنجاة النجاة، قال: فأفعل ماذا؟ قال: تكف لسانك وتكون حلسا من أحلاس بيتك، قال: فإن لم أترك؟ قال: تسأل دينك ومالك فأحرز دينك وابذل مالك، قال: فإن لم أترك، قال: تسأل دينك ودمك فأحرز دينك وابذل دمك، قال: قتلتني يا ابن مسعود، قال: هو القتل أو النار، قال: فمن خير الناس في ذلك الزمان؟ قال: غني مستخفي، قال: فمن شر الناس في ذلك الزمان؟ قال: الراكب الموضع المستقع. (1)
- وجاء في أصول الاعتقاد عن الأسود بن هلال قال: قال عبد الله: إن أحسن الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وإن أحسن الكلام كلام الله، وإنكم ستحدثون ويحدث لكم، فكل محدث ضلالة وكل ضلالة في النار، وأتى بصحيفة فيها حديث قال: فأمر بها فمحيت ثم غسلت ثم أحرقت ثم قال: بهذا هلك أهل
_________
(1) الإبانة (2/ 4/590 - 591/ 750) وابن الضريس في فضائل القرآن (ص.27) والفريابي في فضائل القرآن (ص.202 - 203) ومالك في الموطأ مختصرا (1/ 173/88) والحوادث والبدع (ص.98).(1/89)
الكتاب قبلكم، نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، أنشدت الله رجلا يعلمها عند أحد إلا أعلمني به، والله لو أني أعلم أنها بدير هند لتبلغت إليها. (1)
- وجاء في ذم الكلام عن مرة الهمداني أن أبا قرة الكندي أتى ابن مسعود بكتاب فقال: إني قرأت هذا بالشام فأعجبني فإذا هو كتاب من كتب أهل الكتاب، فقال عبد الله: إنما هلك من كان قبلكم باتباعهم الكتب وتركهم كتاب الله. فدعا بطست وماء فوضعه فيه وأماثه (2) بيده حتى رأيت سواد المداد. (3)
- وفي السير: عن أبي وائل أن ابن مسعود رأى رجلا قد أسبل، فقال: ارفع إزارك، فقال: وأنت يا ابن مسعود فارفع إزارك، قال: إن بساقي حموشة وأنا أؤم الناس. فبلغ ذلك عمر، فجعل يضرب الرجل، ويقول: أترد على ابن مسعود؟ (4)
- وفيها: عن زيد بن وهب قال: لما بعث عثمان إلى ابن مسعود يأمره بالمجيء إلى المدينة، اجتمع إليه الناس، فقالوا: أقم فلا تخرج، ونحن نمنعك أن يصل إليك شيء تكرهه. فقال: إن له علي طاعة، وإنها ستكون أمور وفتن لا أحب أن أكون أول من فتحها. فرد الناس وخرج إليه. (5)
_________
(1) أصول الاعتقاد (1/ 86/85).
(2) أماثه: مسحه.
(3) ذم الكلام (ص.35).
(4) سير إعلام النبلاء (1/ 491 - 492) والإصابة (6/ 217).
(5) السير (1/ 489).(1/90)
- وجاء في الإبانة: قال عبد الله: يأتي على الناس زمان يمتلئ فيه جوف كل امرئ شرا حتى يجري الشر، ولا يجد مفصلا ولا يجد جوفا يلج فيه. (1)
قال ابن بطة عقبه: لا جعلنا الله وإياكم من أهل الشر ولا جعل لأهل الشر علينا سبيلا.
- وفيها: عن عمرو بن مرة قال: قال عبد الله: إنها ستكون أمور مشتبهة فعليكم بالتؤدة فإن الرجل يكون تابعا في الخير خير من أن يكون رأسا في الضلالة. (2)
- وفيها: عن أبي وائل قال: قال عبد الله: ذهب صفو الدنيا فلم يبق إلا الكدر، فالموت اليوم تحفة لكل مسلم، فقال الرجل الذي حدثه أبو وائل: سمعت عبد الله يقول: ما شبهت الدنيا إلا بالتعب يسري صفوه ويبقى كدره ولن يزالوا بخير ما إذا حز في نفس الرجل وجد من هو أعلم فمشى إليه فسقاه وايم الله ليوشكن أن تلتمس ذلك فلا تجده. (3)
- وفيها: عن أبي الأحوص قال: قال عبد الله: ليوطنن المرء نفسه على أنه إن كفر من في الأرض جميعا لم يكفر ولا يكونن أحدكم إمعة، قيل: وما الإمعة؟ قال: الذي يقول أنا مع الناس، إنه لا إسوة في الشر. (4)
- وفيها: عن علقمة بن قيس قال: قال عبد الله: لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله، قال: فبلغ
_________
(1) الإبانة (2/ 4/575/ 723).
(2) الإبانة (1/ 2/328/ 177) وما جاء في البدع (ص.169).
(3) الإبانة (1/ 1/187 - 188/ 23).
(4) الإبانة (1/ 1/193 - 194/ 29).(1/91)
ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب -كانت تقرأ القرآن- فأتته فقالت: ما حديث بلغني عنك أراك لعنت الواشمات والمستوشمات والمتنمصات للحسن المغيرات خلق الله، فقال عبد الله: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1) وهو في كتاب الله، فقالت المرأة: لقد قرأت ما بين اللوحين -المصحف- فما وجدته، قال: أما قرأت: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (2). زاد ابن عبد البر في الجامع: قالت: بلى. قال فإنه قد نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت: إني لأظن أهلك يفعلون بعض ذلك. قال: فاذهبي فانظري قال: فدخلت فلم تر شيئا قال: فقال عبد الله: لو كانت كذلك لم نجامعها. (3)
- وفيها: عن عبد الله بن عون، عن محمد، قال: كانوا لا يختلفون، عن ابن مسعود في خمس: إن أحسن الحديث كتاب الله، وخير السنة سنة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها، وإن أكيس الكيس التقى، وإن أحمق الحمق الفجور. (4)
- وفيها: عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقول في خطبته: إن أصدق الحديث كلام الله، وأوثق العرى كلمة التقوى، وخير الملل ملة إبراهيم،
_________
(1) أحمد (1/ 454) والبخاري (8/ 812/4886) ومسلم (3/ 1678/2125) وأبو داود (4/ 397 - 398/ 4169) والترمذي (5/ 96 - 97/ 2782) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". النسائي (8/ 523 - 524/ 5114) وابن ماجه (1/ 640/1989).
(2) الحشر الآية (7).
(3) الإبانة (1/ 1/236 - 237/ 68) وجامع بيان العلم (2/ 1182) والكفاية (ص.12).
(4) الإبانة (1/ 2/324 - 325/ 170) وشطره الأول في البخاري (الفتح 13/ 249/7277).(1/92)
وأحسن القصص هذا القرآن، وأحسن السنن سنة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأشرف الحديث ذكر الله، وخير الأمور عزائمها، وشر الأمور محدثاتها، وأحسن الهدي هدي الأنبياء، وأشرف القتل موت الشهداء، وأغر الضلالة الضلالة بعد الهدى، وخير العلم ما نفع، وخير الهدى ما اتبع، وشر العمى عمى القلب. وذكر الخطبة بطولها. (1)
- وفيها: عن عطاء بن السائب، عن بعض أصحابه، عن عبد الله، قال: الزموا الجماعة فإن الله لم يكن ليجمع أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - على ضلالة، الزموا الجماعة حتى يستريح بر أو يستراح من فاجر. (2)
- وفيها: عن عطاء بن السائب، عن أبي البختري والشعبي، قالا: قال عبد الله: عليكم بالطريق فلئن لزمتموه لقد سبقتم سبقا بعيدا، ولئن خالفتموه يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا. (3)
- وفيها: سئل عبد الله، عن مسألة فيها لبس، فقال عبد الله: أيها الناس إن الله قد أنزل أمره وبيناته فمن أتى الأمر من قبل وجهه فقد بين له، ومن خالف فوالله ما نطيق خلافكم. (4)
- وفيها: عن الحارث بن قيس، قال: قال لي عبد الله: يا حارث، تريد أن تسكن وسط الجنة؟ عليك بهذا السواد الأعظم. (5)
_________
(1) الإبانة (1/ 2/326 - 327/ 172).
(2) الإبانة (1/ 2/331/ 184).
(3) الإبانة (1/ 2/332/ 187).
(4) الإبانة (1/ 2/332/ 188).
(5) الإبانة (1/ 2/333/ 191).(1/93)
- وفيها: عن مسروق، عن عبد الله، قال: إنكم في زمان العمل فيه خير من الرأي، وسيأتي زمان الرأي فيه خير من العمل يعني بالسنة. (1)
- وفيها: وقال ابن مسعود: من أفتى الناس في كل ما يستفتونه فهو مجنون. (2)
- وقال أيضا: إذا أراد الله بعبد خيرا سدده وجعل سؤاله عما يعنيه وعلمه فيما ينفعه. (3)
- وعن قتادة قال: قال ابن مسعود: عمل قليل في سنة، خير من عمل كثير في بدعة. (4)
- وعن أبي إسحاق، قال: قال عبد الله بن مسعود: اعتبروا الناس بأخدانهم، فإن المرء لا يخادن إلا من يعجبه. (5)
- وفيها عن ثابت أن ابن مسعود، قال: لو أن الناس جمعوا في صعيد واحد كلهم مؤمن وفيهم كافران تألف أحدهما إلى صاحبه، ولو أن الناس جمعوا إلى صعيد واحد كلهم كافر وفيهم مؤمنان تألف أحدهما إلى صاحبه. (6)
وفيها أيضا عن عبد الله بن مسعود قال: الأرواح جنود مجندة تلتقي تتشاءم كما تتشاءم الخيل، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف.
_________
(1) الإبانة (1/ 2/333 - 334/ 193).
(2) الإبانة (1/ 2/418/ 336) وذم الكلام (ص.88).
(3) الإبانة (1/ 2/419/ 337).
(4) الإبانة (1/ 2/357/ 245).
(5) الإبانة (2/ 3/439/ 376).
(6) الإبانة (2/ 3/455/ 427).(1/94)
ولو أن مؤمنا دخل مسجدا فيه مئة ليس فيهم إلا مؤمن واحد لجاء حتى يجلس إليه، ولو أن منافقا دخل مسجدا فيه مئة ليس فيهم إلا منافق واحد لجاء حتى يجلس إليه. (1)
قال ابن بطة عقبه: وكذا قالت شعراء الجاهلية .. قال طرفة:
تعارف أرواح الرجال إذا التقوا ... فمنهم عدو يتقى وخليل
- وفيها: عن هبيرة عن عبد الله قال: إنما يماشي الرجل ويصاحب من يحبه ومن هو مثله. (2)
- وجاء في أصول الاعتقاد عن سعيد بن وهب قال: قال عبد الله: لا يزال الناس بخير ما أتاهم العلم من قبل كبرائهم فإذا أتاهم العلم من قبل أصاغرهم هلكوا. (3)
- ونقل الخطيب عن عبد الرحمن بن يزيد قال: كثر الناس على عبد الله بن مسعود يسألونه، فقال: يا أيها الناس إنه قد أتى علينا زمان لسنا نقضي ولسنا هناك، وإنه قد قدر أن بلغنا من الأمر ما ترون، فمن ابتلي منكم بقضاء، فليقض بما في كتاب الله، فإن لم يكن في كتاب الله، فليقض بما قضى به النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن لم يكن في كتاب الله ولا في قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فليقض بما قضى به الصالحون، فإن لم يكن في كتاب الله، ولا في قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا فيما قضى به الصالحون فليجتهد رأيه، ولا يقولن أحدكم إني
_________
(1) الإبانة (2/ 3/455 - 456/ 428).
(2) الإبانة (2/ 3/476/ 499).
(3) أصول الاعتقاد (1/ 94/101) وجامع بيان العلم وفضله (1/ 616/1057) والمدخل للبيهقي (1/ 246/275).(1/95)
أخاف وإني أرى، فإن الحلال بين والحرام بين وشبهات بين ذلك، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك. (1)
- وجاء في الشريعة عن أبي وائل، قال: قال عبد الله: إن هذا الصراط محتضر يحضره الشياطين ينادون: يا عبد الله هلم هذا الصراط ليصدوا عن سبيل الله، فاعتصموا بحبل الله فإن حبل الله هو كتاب الله. (2)
وجاء في إعلام الموقعين (3): وقال: ما علمك الله في كتابه فاحمد الله، وما استأثر به عليك من علم فكله إلى عالمه، ولا تتكلف، فإن الله عز وجل يقول لنبيه: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ}. (4)
- وجاء في مجموع الفتاوى عن ابن مسعود قال: من سئل عن شيء فليفت بما في كتاب الله، فإن لم يكن فبما في سنة رسول الله، فإن لم يكن فبما اجتمع عليه الناس.
- وقال شيخ الإسلام: وكذلك روى نحوه عن ابن عباس وغيره، ولذلك قال العلماء: الكتاب والسنة والإجماع، وذلك أنه أوجب طاعتهم إذا لم يكن نزاع ولم يأمر بالرد إلى الله والرسول إلا إذا كان نزاع. (5)
- وقال: وكان ابن مسعود -وهو أعلم من كان بالعراق من الصحابة إذ ذاك- يفتي بالفتيا، ثم يأتي المدينة فيسأل علماء أهل المدينة، فيردونه عن
_________
(1) الفقيه والمتفقه (1/ 493).
(2) الشريعة (1/ 123/16) والإبانة (1/ 2/298 - 299/ 135).
(3) (1/ 57).
(4) ص الآية (86).
(5) الفتاوى (20/ 498 - 499).(1/96)
قوله فيرجع إليهم، كما جرى في مسألة أمهات النساء، لما ظن ابن مسعود أن الشرط فيها وفي الربيبة، وأنه إذا طلق امرأته قبل الدخول حلت أمها كما تحل ابنتها، فلما جاء إلى المدينة وسأل عن ذلك أخبره علماء الصحابة أن الشرط في الربيبة دون الأمهات. فرجع إلى قولهم، وأمر الرجل بفراق امرأته بعد ما حملت. (1)
- وروى ابن وضاح في كتاب البدع: عن عبد الله بن المبارك ويوسف ابن أسباط قالا: قال عبد الله بن مسعود: إن لله عند كل بدعة كيد بها الإسلام وليا من أوليائه يذب عنها وينطق بعلامتها، فاغتنموا حضور تلك المواطن وتوكلوا على الله. قال ابن المبارك وكفى بالله وكيلا. (2)
- وفيه: عن حارثة بن مضرب: إن الناس نودي فيهم بعد نومة أنه من صلى في المسجد الأعظم دخل الجنة. فانطلق النساء والرجال حتى امتلأ المسجد قياما يصلون: قال أبو إسحاق: إن أمي وجدتي فيهم. فأتي ابن مسعود فقيل له: أدرك الناس. قال: ما لهم؟ قيل: نودي فيهم بعد نومة أنه من صلى في المسجد الأعظم دخل الجنة. فخرج ابن مسعود يشير بثوبه: ويلكم. اخرجوا لا تعذبوا، إنما هي نفخة من الشيطان، إنه لم ينزل كتاب بعد نبيكم ولا ينزل بعد نبيكم. فخرجوا وجلسنا إلى عبد الله فقال: إن الشيطان إذا أراد أن يوقع الكذب انطلق فتمثل رجلا ثم يلقى آخر فقال له: أما بلغك الخبر؟ فيقول الرجل: وما ذاك؟ فيقول: كان من الأمر كذا وكذا،
_________
(1) الفتاوى (20/ 312).
(2) ما جاء في البدع (ص.33).(1/97)
فانطلق فحدث أصحابك. قال: فينطلق الآخر فيقول: لقد لقيت رجلا إني لأتوهمه أعرف وجهه، زعم أنه كان من الأمر كذا وكذا، وما هو إلا الشيطان. (1)
- وفيه: عن مسلم بن أبي عمران الأشعري أن عبد الله بن عمر أتى عبد الله بن مسعود وهو قائم يقص على أصحابه فقال: يا أبا عبد الرحمن، ما الصراط المستقيم؟ قال: تركنا محمد - صلى الله عليه وسلم - في أدناه وطرفه في الجنة، وعن يمينه جواد وعن يساره جواد وعليها رجال يدعون من مر بهم: هلم لك، هلم لك، فمن أخذ منهم في تلك الطرق انتهت به إلى النار، ومن استقام على الطريق الأعظم انتهى به إلى الجنة. ثم تلا ابن مسعود هذه الآية وَأَنَّ {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} (2) الآية كلها. (3)
- وفيه أيضا: عن الحسن: أن رجلا أتى أبا موسى الأشعري وعنده ابن مسعود فقال: أرأيت رجلا خرج بسيفه غضبا لله تعالى فقاتل حتى قتل، أين هو؟ فقال أبو موسى: في الجنة. فقال ابن مسعود: أيها المفتي، سل صاحبك على سنة ضرب أم على بدعة؟ قال الحسن: فإذا بالقوم قد ضربوا بأسيافهم على البدع. (4)
- وأخرج ابن وضاح بسنده إلى علقمة عن عبد الله قال: إذا التمست
_________
(1) ما جاء في البدع (ص.39 - 40).
(2) الأنعام الآية (153).
(3) ما جاء في البدع (ص.74 - 75).
(4) ما جاء في البدع (ص.79 - 80).(1/98)
الدنيا بعمل الآخرة وتفقه لغير الدين ظهرت البدع. (1)
- وأخرج أيضا عن عبد الله قال: أتدرون كيف ينقص الإسلام؟ قالوا: نعم كما ينقص صبيغ الثوب، وكما ينقص سمن الدابة، قال عبد الله: ذلك منه. (2)
- وعنه قال: يأتي على الناس زمان تكون السنة فيه بدعة والبدعة سنة، والمعروف منكرا والمنكر معروفا، وذلك إذا اتبعوا واقتدوا بالملوك والسلاطين في دنياهم. (3)
- وفيه أيضا: وقال: ما أشبه علماء زمانكم إلا كرجل رعى غنمه الحمض، حتى إذا أريحت بطونها وانتفخت أحقاؤها اعتام أفضلها في نفسه، فإذا هي لا تنقي، وما بقي من الدنيا إلا كالشيء شرب صفوه وبقي كدره. (4)
" الغريب:
الحمض: قال في اللسان: الحمض من النبات: كل نبت مالح أو حامض يقوم على سوق ولا أصل له.
وقال اللحياني: كل ملح أو حامض من الشجر كانت ورقته حية إذا غمزتها انفقأت بماء .. ومن الأعراب من يسمي كل نبت فيه ملوحة حمضا. (5)
أريحت: بمعنى انتفخت واتسعت.
_________
(1) ما جاء في البدع (ص.88).
(2) ما جاء في البدع (ص.143 - 144).
(3) ما جاء في البدع (ص.171).
(4) ما جاء في البدع (ص.172).
(5) اللسان (7/ 138).(1/99)
أحقاؤها: جمع، مفرده حقو وهو الخصر ومشد الإزار. (1)
اعتام: قال في النهاية: قال الأزهري: أرباب النعم في البادية يريحون الإبل ثم ينيخونها في مراحها حتى يعتموا: أي يدخلوا في عتمة الليل وهي ظلمته. (2) وقال في اللسان: وأصل العتم في كلام العرب المكث والاحتباس. قال ابن سيده: والعتمة: بقية اللبن يفيق بها النعم في تلك الساعة. (3)
وفيه: وأهل البادية يريحون نعمهم بُعَيد المغرب وينيخونها في مراحها ساعة يستفيقونها فإذا أفاقت وذلك بعد مر قطعة من الليل أثاروها وحلبوها وتلك الساعة تسمى عتمة. (4)
لا تنقي: من النِّقي وهو المخ: أي لا مخ لها لضعفها وهزالها. (5) انتهى.
- وفي مقدمة ابن ماجه عن عبد الله بن مسعود قال: إذا حدثتكم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فظنوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي هو أهناه وأهداه وأتقاه. (6)
- وأخرج عبد الله بن أحمد عن عبد الله بن مسعود قال: من كان يحب أن يعلم أنه يحب الله فليعرض نفسه على القرآن، فإن أحب القرآن فهو يحب الله، فإنما القرآن كلام الله. (7)
_________
(1) انظر الصحاح (6/ 253).
(2) النهاية (3/ 180).
(3) اللسان (12/ 382).
(4) اللسان (12/ 382).
(5) انظر اللسان (15/ 340).
(6) مقدمة ابن ماجه (ص.19).
(7) السنة لعبد الله (ص.28).(1/100)
- وجاء في ذم الكلام: عن عبد الرحمن بن عابس عن عبد الله قال: لا تختلفوا في القرآن ولا تنازعوا فيه فإنه لا يختلف لكثرة الرد، ألا ترون أن شرائع الإسلام فيه واحدة حدودها وفرائضها وأمر الله فيها؟ فلو كان شيء من الحرفين يأمر بشيء نهى عنه الآخر كان ذلك اختلافا ولكنه جامع ذلك كله. (1)
وقال عبد الله: إن للقرآن منارا كمنار الطرق فما عرفتم فتمسكوا به وما أشكل عليكم فردوه إلى عالمه. (2)
- وعن الشعبي قال: قال ابن مسعود: إياكم وأرأيت أرأيت، فإنما أهلك من كان قبلكم أرأيت، ولا تقيسوا شيئا بشيء فتزل قدم بعد ثبوتها، وإذا سئل أحدكم عما لا يدري فليقل: لا أعلم، فإنه ثلث العلم. (3)
- وجاء في ذم الكلام: عن معاوية بن سلمة البصري عن ابن مسعود قال: لا تمكن صاحب هوى من أذنيك فيقذف فيهما داء لا شفاء له. قال: وقال مصعب بن سعد: إما يمرض قلبك لتتابعه، وإما أن يؤذيك قبل أن تفارقه. (4)
- وجاء في السير عن ابن مسعود قال: جاهدوا المنافقين بأيديكم، فإن لم تستطيعوا فبألسنتكم، فإن لم تستطيعوا إلا أن تكفهروا في وجوههم،
_________
(1) ذم الكلام (ص.61) والبيهقي في الشعب (2/ 420 - 421/ 2270).
(2) ذم الكلام (ص.64) وابن أبي شيبة (10/ 489) والبيهقي في الشعب (2/ 418/2264).
(3) الطبراني في الكبير (9/ 109/8550) وذم الكلام (ص.88) وهو في إعلام الموقعين (1/ 57).
(4) ذم الكلام (4/ 24 - 25 طبعة الأنصاري).(1/101)
فافعلوا. (1)
موقفه من المشركين:
- عن امرأة عبد الله بن مسعود قالت: جاء عبد الله ذات يوم وعندي عجوز ترقيني من الحمرة، فأدخلتها تحت السرير، قالت: فدخل فجلس إلى جنبي، فرأى في عنقي خيطا، فقال: ما هذا الخيط؟ قلت: خيط رقي لي فيه رقية، فأخذه وقطعه ثم قال: إن آل عبد الله لأغنياء عن الشرك، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن في الرقى والتمائم والتولة شركا" قالت: فقلت له: لم تقول هذا وقد كانت عيني تقذف وكنت أختلف إلى فلان اليهودي يرقيها، فكان إذا رقاها سكنت، قال: إنما ذاك من عمل الشيطان، كان ينخسها بيده فإذا رقيتها كف عنها، إنما كان يكفيك أن تقولي كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أذهب البأس رب الناس اشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما". (2)
" التعليق:
فرضي الله عن هذا الصحابي الجليل، لقد أجاب في هذا الموقف عن شبه يضعها دعاة الشرك، والقبورية، يقولون: إذا كان هؤلاء المقبورون لا ينفعون ولا يضرون فما بال هؤلاء الذين يحملون إلى المقبورين مرضى ويرجعون أصحاء؟ فالجواب في فعل عبد الله مع أهله رضي الله عن الجميع.
_________
(1) السير (1/ 497).
(2) أحمد (1/ 381) وأبو داود (4/ 212 - 213/ 3883) وابن ماجه (2/ 1166 - 1167/ 3530) وصححه ابن حبان (13/ 456/6090) والحاكم (4/ 417 - 418) على شرط الشيخين.(1/102)
- وعنه رضي الله عنه أنه قال: لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا. (1)
" التعليق:
حاشا ابن مسعود رضي الله عنه أن يكون محبا للكذب مطلقا، بله أن يكون يمينا غموسا، وإنما مراده رضي الله عنه أن يبين خطر الشرك، وأن جرمه أعظم من جرم الكذب، مع أن كليهما ذنب عظيم لا ينبغي الاستهانة به، فليتنبه!!
موقفه من الرافضة:
- عن قتادة قال: قال ابن مسعود: من كان منكم متأسيا فليتأس بأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، فانهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، وأقومها هديا، وأحسنها حالا، قوما اختارهم الله لصحبة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم، فانهم كانوا على الهدى المستقيم. (2)
- عن أبي وائل عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد خير قلوب العباد، فبعثه برسالته. ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد،
_________
(1) رواه عبد الرزاق (15929) والطبراني في الكبير (8902).
(2) أخرجه ابن عبد البر في الجامع (2/ 947) والهروي في ذم الكلام (188) وانظر شرح السنة للبغوي (1/ 214) والاعتصام للشاطبي (2/ 852) ومنهاج السنة (2/ 76 - 77) و (6/ 81). ومجموع الفتاوى (3/ 126) وإعلام الموقعين (4/ 139).(1/103)
فاختارهم لصحبة نبيه ونصرة دينه. فما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحا فهو عند الله قبيح. (1)
- وأخرج أبو عبيد ويعقوب بن شيبة عن ابن مسعود قال: لا يزال الناس مشتملين بخير ما أتاهم العلم من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - وأكابرهم، فإذا أتاهم العلم من قبل أصاغرهم وتفرقت أهواؤهم هلكوا.
قال أبو عبيدة: معناها أن كلما جاء عن الصحابة وكبار التابعين لهم بإحسان، هو العلم الموروث، وما أحدثه من جاء بعدهم هو المذموم. (2)
- جاء في الشريعة: عن القاسم بن عبد الرحمن عن عبد الله بن مسعود -رحمه الله- قال: كان إسلام عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عزا، وكانت هجرته نصرا، وكانت خلافته رحمة، والله ما استطعنا أن نصلي ظاهرين حتى أسلم عمر، وإني لأحسب أن بين عيني عمر ملكا يسدده؛ فإذا ذكر الصالحون فحي هلا بعمر. (3)
- وعن أبي وائل قال: قدم علينا عبد الله بن مسعود؛ فنعى إلينا عمر
_________
(1) الطيالسي في المسند (246) والطبراني في الكبير (9/ 112 - 113/ 8583) وأبو نعيم في الحلية (1/ 375 - 376) والخطيب في الفقيه والمتفقه (1/ 422) والبغوي في شرح السنة (1/ 214 - 215)، وأخرجه: الإمام أحمد في المسند 1/ 379. والطبراني في الكبير (9/ 112/8582) عن عاصم عن زر بن حبيش عن عبد الله به. وقال أحمد شاكر في تعليقه على المسند: "اسناده صحيح" وهو في مجمع الزوائد (1/ 177 - 178)، وقال الهيثمي: "رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير ورجاله موثقون".
(2) رواه الطبراني في الكبير (9/ 120/8589) وعبد الرزاق في المصنف (11/ 246/20446). وابن عبد البر في الجامع (1/ 607) وانظر فتح الباري (13/ 291) وطبقات الحنابلة (1/ 69) مختصرا. والاعتصام (2/ 682) والحوادث والبدع (ص.79).
(3) الشريعة (2/ 457/1267).(1/104)
-رضي الله عنه- فلم أر يوما أكثر باكيا حزينا منه، ثم قال عبد الله: والذي نفسي بيده، لو أني أعلم أن عمر كان يحب كلبا لأحببته، وإنا أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - أجمعنا فبايعنا عثمان، فلم نألوا عن خيرنا وأفضلنا، ذا فوق. (1)
- وفي أصول الاعتقاد: عن مسلم أبي سعيد مولى عثمان بن عفان عن ابن مسعود: أنه مر على رجلين في المسجد قد اختلفا في آية من القرآن قال أحدهما: أقرأنيها عمر وقال آخر: أقرأنيها أبي فقال ابن مسعود: اقرأ كما أقرأكها عمر ثم هملت عيناه حتى بل الحصى وهو قائم. ثم قال: إن عمر كان حائطا كنيفا يدخلون المسلمون ولا يخرجون منه، فمات عمر فانثلم الحائط فهم يخرجون ولا يدخلون، ولو أن كلبا أحبه عمر لأحببته، وما أحببت أحدا حبي لأبي بكر وعمر وأبي عبيدة بن الجراح بعد نبيي - صلى الله عليه وسلم - حبي لهؤلاء الثلاثة. (2)
- أخرج ابن وضاح بسنده إلى زيد بن وهب عن ابن مسعود قال: كان عمر بن الخطاب حائطا حصينا على الإسلام يدخل الناس فيه ولا يخرجون منه، فانثلم الحائط والناس خرجوا منه ولا يدخلون فيه (3).
- وجاء في المنهاج: قال ابن مسعود لما مات عمر: إني لأحسب هذا قد ذهب بتسعة أعشار العلم، وشارك الناس في العشر الباقي. (4)
- وفيه: قال ابن مسعود: كان عمر إذا فتح لنا بابا دخلناه فوجدناه سهلا. أتي في زوج وأبوين وامرأة وأبوين، فقال: للأم ثلث الباقي. ثم إن
_________
(1) الشريعة (3/ 11/1274).
(2) أصول الاعتقاد (7/ 1416/2544).
(3) ما جاء في البدع (ص.156).
(4) المنهاج (7/ 524).(1/105)
عثمان وعليا وابن مسعود وزيدا اتبعوه. (1)
- وفي أصول الاعتقاد: عن النزال بن سبرة عن عبد الله بن مسعود قال: لما أمر عثمان قال عبد الله بن مسعود: لقد أمرنا خير من بقي ولم نأل. (2)
- وفيه: عن شقيق عن عبد الله قال: حب أبي بكر وعمر ومعرفة فضلهما من السنة. (3)
موقفه من الجهمية:
- عن أبي كنف قال: قال عبد الله: من حلف بالقرآن فعليه بكل آياته يمين، قال: فذكرت ذلك لإبراهيم قال: فقال عبد الله: من حلف بالقرآن فعليه بكل آية يمين، ومن كفر بحرف منه فقد كفر به أجمع. (4)
- قال عبد الله بن مسعود: القرآن كلام الله فمن رد منه شيئا فإنما يرد على الله. (5)
- وأخرج عبد الله بن أحمد بسنده إلى عبد الله بن مسعود قال: من كان يحب أن يعلم أنه يحب الله فليعرض نفسه على القرآن، فإن أحب القرآن فهو يحب الله فإنما القرآن كلام الله. (6)
- وعنه قال: قال إن أحسن الكلام كلام الله. (7)
_________
(1) المنهاج (7/ 525).
(2) أصول الاعتقاد (7/ 1423 - 1424/ 2555) ونحوه في المنهاج (8/ 227).
(3) أصول الاعتقاد (7/ 1310 - 1311/ 2319) وجامع بيان العلم (2/ 1178).
(4) أصول الاعتقاد (2/ 258/379) والفتاوى الكبرى (5/ 56).
(5) السنة لعبد الله (ص.27).
(6) السنة لعبد الله (ص.28).
(7) السنة لعبد الله (ص.27).(1/106)
- وعن عبد الله بن عكيم قال: سمعت ابن مسعود رضي الله عنه وبدأ باليمين قبل الكلام: ما منكم من أحد إلا سيخلو به ربه كما يخلو بالقمر ليلة البدر فيقول: ابن آدم ما غرك بي ابن آدم ما أجبت المرسلين ماذا عملت فيما علمت. (1)
- وعنه قال: القرآن كلام الله؛ فلا تخلطوا به ما ليس منه. (2)
- جاء في أصول الاعتقاد عن مسروق قال: سألنا عبد الله -ولولا عبد الله لم نجد أحدا يخبرنا- فقال: إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات صلصلة كصلصلة السلسلة على الصفوان قال: فيرون أنه من أهل السماء، فيفزعون فإذا سكن قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق وهو العلي الكبير. (3)
- وفيه عن أبي عبيدة: عن عبد الله قال: ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء. (4)
- وفيه عن عاصم عن زر: عن عبد الله قال: ما بين سماء القصوى وبين الكرسي خمسمائة سنة، وما بين الكرسي والماء خمس مائة سنة، والعرش فوق الماء والله فوق العرش لا يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم. (5)
- عن عبد الله بن مسعود قال: تسارعوا إلى الجمعة فإن الله يبرز لأهل الجنة في كل جمعة في كثيب من كافور أبيض فيكونون منه في القرب على
_________
(1) السنة لعبد الله (ص.60) وأصول الاعتقاد (3/ 550/860).
(2) الإبانة (1/ 12/252 - 253/ 25).
(3) أصول الاعتقاد (2/ 369/549) والسنة لعبد الله (ص.71).
(4) أصول الاعتقاد (3/ 438/657).
(5) أصول الاعتقاد (3/ 438 - 439/ 659).(1/107)
قدر تسارعهم إلى الجمعة في الدنيا، فيحدث الله لهم من الكرامة شيئا لم يكونوا رأوه قبل ذلك. ثم يرجعون إلى أزواجهم فتحدثهم بما قد أحدث لهم. (1)
- وعنه قال: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى} (2) قال: {ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة} (3) قال: أما الحسنى فالجنة وأما الزيادة فالنظر إلى وجه الله وأما القتر: فالسواد. (4)
- وفي الشريعة عنه قال: يضحك الله عز وجل إلى رجلين: رجل قام في جوف الليل وأهله نيام، فتطهر، ثم قام يصلي، فيضحك الله عز وجل إليه، ورجل لقي العدو، فانهزم أصحابه، وثبت حتى رزقه الله الشهادة. (5)
- عن عبد الله قال: إن الله عز وجل اتخذ إبراهيم خليلا، وإن صاحبكم خليل الله، وإن محمدا سيد ولد آدم يوم القيامة وأكرم الخلائق على الله عز وجل، وقرأ: عَسَى {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} (6). اهـ (7)
- عن أبي الأحوص: عن عبد الله قال: إن الله يفتح أبواب السماء في ثلث الليل الباقي ثم يهبط إلى سماء الدنيا فيبسط يده فيقول: ألا عبد يسألني
_________
(1) السنة لعبد الله (ص.61).
(2) يونس الآية (26).
(3) يونس الآية (26).
(4) أصول الاعتقاد (3/ 509/787 - 788).
(5) الشريعة (2/ 54/680).
(6) الإسراء الآية (79).
(7) الشريعة (2/ 363/1153).(1/108)
فأعطيه فما يزال كذلك حتى يصدع الفجر. (1)
موقفه من الخوارج:
سبق أن ذكرنا له رضي الله عنه موقفا طيبا من المبتدعة، وأحببت أن أورده هنا أيضا لصلته الوثيقة بما نحن بصدده:
قال الدارمي: أخبرنا الحكم بن المبارك أنا عمرو بن يحي قال: سمعت أبي يحدث عن أبيه قال كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود قبل صلاة الغداة فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد، فجاءنا أبو موسى الأشعري، فقال: أخرج إليكم أبو عبد الرحمن بعد؟ قلنا: لا، فجلس معنا حتى خرج فلما خرج قمنا إليه جميعا. فقال له أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن، إني رأيت في المسجد آنفا أمرا أنكرته، ولم أر والحمد لله إلا خيرا، قال: فما هو؟ فقال: إن عشت فستراه، قال: رأيت في المسجد قوما حلقا جلوسا، ينتظرون الصلاة، في كل حلقة رجل، وفي أيديهم حصى، فيقول: كبروا مائة؟ فيكبرون مائة. فيقول: هللوا مائة؟ فيهللون مائة، ويقول: سبحوا مائة؟ فيسبحون مائة. قال: فماذا قلت لهم؟ قال: ما قلت لهم شيئا. انتظار رأيك أو انتظار أمرك، قال: أفلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم، وضمنت لهم أن لا يضيع من حسناتهم. ثم مضى ومضينا معه، حتى أتى حلقة من تلك الحلق، فوقف عليهم فقال: ما هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن حصى نعد به التكبير والتهليل والتسبيح. قال: فعدوا سيئاتكم، فأنا ضامن أن لا يضيع من حسناتكم شيء. ويحكم يا أمة محمد، ما أسرع هلكتكم، هؤلاء صحابة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - متوافرون،
_________
(1) أصول الاعتقاد (3/ 498/765).(1/109)
وهذه ثيابه لم تبل، وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده، إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد أو مفتتحوا باب ضلالة، قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن، ما أردنا إلا الخير، قال: وكم من مريد للخير لن يصيبه. إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حدثنا أن قوما يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم (1)، وأيم الله ما أدري لعل أكثرهم منكم، ثم تولى عنهم، فقال عمرو بن سلمة: رأينا عامة أولئك الحلق يطاعنونا يوم النهروان مع الخوارج. (2)
موقفه من المرجئة:
- أخرج ابن بطة بسنده إلى المسعودي، عن القاسم بن عبد الرحمن والحسن بن سعد، قال: قيل لعبد الله بن مسعود إن الله عز وجل ليكثر ذكر الصلاة في القرآن: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} (3) {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} (4) فقال عبد الله: ذلك على مواقيتها، قالوا: يا أبا عبد الرحمن، ما كنا نرى ذلك إلا على تركها، فقال عبد الله: تركها الكفر. (5)
_________
(1) أحمد (1/ 404) والترمذي (4/ 417 - 418/ 2188) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". وابن ماجه (1/ 59/168).
(2) أخرجه الدارمي (1/ 68 - 69) وابن أبي شيبة (7/ 553/37890) وعبد الرزاق (3/ 221 - 222/ 5408 - 5410) وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد (ص.358) والطبراني في الكبير (6/ 125 - 128/ 8628 - 8633 و8636 - 8639) وابن وضاح (ص.40) من طرق يقوي بعضها بعضا.
(3) المعارج الآية (23).
(4) المؤمنون الآية (9).
(5) الإبانة (2/ 678 - 679/ 886).(1/110)
- وله بسنده عن عبد الكريم الجزيري، عن علي بن أبي طالب وعبد الله ابن مسعود، قالا: لا ينفع قول إلا بعمل ولا عمل إلا بقول ولا قول وعمل إلا بنية ولا نية إلا بموافقة السنة. (1)
- وله أيضا بسنده إلى مهانة، قال: قال عبد الله: ما رأيت ناقص الدين والرأي أغلب للرجال ذوي الأمر على أمورهم من النساء. قالوا: يا أبا عبد الرحمن: وما نقصان دينها؟ قال: تدع الصلاة في أيام حيضها. قالوا: فما نقصان رأيها؟ قال: لا تجوز شهادة امرأتين إلا بشهادة رجل. (2)
- وله بسنده إلى شعبة، قال: أخبرني قيس بن مسلم، قال: سمعت طارق ابن شهاب يحدث عن عبد الله، قال: إن الرجل ليخرج من بيته ومعه دينه فيلقى الرجل له إليه الحاجة فيقول: إنك لذيت وذيت، يثني عليه وعسى أن لا يحلى بحاجته بشيء فيرجع. وقد أسخط الله وما معه من دينه شيء، قال شعبة: لما حدثني قيس بهذا الحديث فرحت به، وكان قيس يرى رأي المرجئة.
" التعليق:
قال ابن بطة: ففي بعض هذه الأخبار والسنن والآثار وما قد ذكرته في هذا الباب ما أقنع العقلاء وشفاهم، وأعلمهم أن الإيمان يزيد وينقص، وأن الأعمال الزاكية والأخلاق الفاضلة تزيد فيه وتنميه وتعليه، وأن الأفعال الخبيثة والأخلاق الدنية والفواحش تمحقه وتفنيه وتسلب الإيمان من فاعلها
_________
(1) الإبانة (2/ 802 - 803/ 1089) والشريعة (1/ 287/280).
(2) الإبانة (2/ 849 - 850/ 1141).(1/111)
وتعريه. وهب الله لنا ولكم صوابا بتوفيقه وتسديدا لمرضاته، وعصمة من الضلال إنه رحيم ودود. (1)
- جاء في صحيح البخاري عن ابن مسعود قال: اليقين الإيمان كله. (2)
- عن يحيى بن أبي كثير قال: قال ابن مسعود: يقولون ما فينا كافر ولا منافق جذ (3) الله أقدامهم. (4)
- عن عبد الله بن عكيم قال: سمعت ابن مسعود يقول في دعائه: اللهم زدنا إيمانا ويقينا وفقها. (5)
- عن أبي وائل: أن حائكا من المرجئة بلغه قول عبد الله في الإيمان فقال: زلة من عالم. (6)
" التعليق:
قال الشيخ أحمد الغامدي معلقا عليه: "لعل المؤلف -رحمه الله- أراد بإيراد هذه الرواية أن يبين مدى ما يصل إليه صاحب البدعة. فهذا حائك وهو: الذي يخيط الثياب يسمى حائكا. قد بلغ به الانحراف إلى اتهام الصحابي الجليل بأنه قد زل بقوله في الشهادة بالإيمان وهو النهي عنها فجعل
_________
(1) الإبانة (2/ 861/1174).
(2) قال الحافظ في الفتح (1/ 66): "وصله الطبراني (9/ 104/8544) بسند صحيح، وبقيته "والصبر نصف الإيمان". وأخرجه أبو نعيم في الحلية (5/ 34) والبيهقي في الزهد من حديثه مرفوعا، ولا يثبت رفعه". اهـ
(3) الجذ: القطع. انظر النهاية (1/ 250).
(4) الإبانة (2/ 901/1261).
(5) الإبانة (2/ 846/1132) وأصول الاعتقاد (5/ 1013/1704) والشريعة (1/ 262/242) والسنة للخلال (4/ 39/1120) وفي الإيمان للإمام أحمد كما ذكر الحافظ في الفتح (1/ 66) وصحح إسناده.
(6) أصول الاعتقاد (5/ 1050/1783) والسنة لعبد الله (ص.83) والسنة للخلال (4/ 45/1137).(1/112)
هذا الحائك قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه زلة مخالفة للصواب وهو في اعتقاده ما عليه المرجئة من النهي عن الاستثناء في الإيمان". (1)
موقفه من القدرية:
- روى ابن بطة في الإبانة عن عبد الله بن ربيعة قال: كنا جلوسا عند عبد الله بن مسعود، فذكر القوم رجلا فذكروا من خلقه؛ فقال عبد الله: أرأيتم لو قطعتم رأسه؛ أكنتم تستطيعون أن تعيدوه؟ قالوا: لا، قال: فيده؟ قالوا: لا، قال: فرجله؟ قالوا: لا، قال: فإنكم لا تستطيعون أن تغيروا خلقه حتى تغيروا خلقه، إن النطفة لتستقر في الرحم أربعين ليلة، ثم تنحدر دما، ثم تكون علقة، ثم تكون مضغة، ثم يبعث الله إليه ملكا؛ فيكتب رزقه، وخلقه، وخلقه، وشقيا أو سعيدا. (2)
- وفيها أيضا عن عبد الله بن مسعود أنه قال: إن المرأة إذا حملت؛ تصعدت النطفة تحت كل شعرة وبشرة أربعين يوما، ثم تستقر في الرحم علقة أربعين يوما، ثم مضغة أربعين يوما، ثم يبعث إليها الملك؛ فيقول: أي رب. أذكر أم أنثى؟ أشقي أم سعيد؟ فيأمر الله عز وجل بما شاء ويكتب الملك، ثم يكتب رزقه وأجله وعمله وأين يموت، وأنتم تعلقون التمائم على أبنائكم من العين. قال عاصم: كان أصحابنا يقولون: إن الله عز وجل يمحو بالدعاء ما يشاء من القدر. (3)
_________
(1) شرح أصول الاعتقاد (5/ 1050).
(2) الإبانة (2/ 9/37 - 38/ 1425) وقد روى رضي الله عنه في ذلك حديثا مرفوعا: أخرجه البخاري (6/ 373/3208) ومسلم (4/ 2036/2643) وغيرهما.
(3) الإبانة (2/ 9/35/ 1419).(1/113)
- وفيها أيضا: عن خيثمة بن عبد الرحمن قال: قال عبد الله: عجب للنساء اللاتي يعلقن التمائم تخوف السقط، والذي لا إله غيره؛ لو بطحت ثم وطئت عرضا وطولا ما أسقطت حتى يكون الله عز وجل هو الذي يقدر ذلك لها، إن النطفة إذا وقعت في الرحم التي يكون منها الولد؛ طارت تحت كل شعرة وظفر؛ فتمكث أربعين ليلة ثم تنحدر؛ فتكون مثل ذلك دما، ثم تكون مثل ذلك علقة، ثم تكون مثل ذلك مضغة. (1)
- وفيها أيضا: عن قتادة عن ابن مسعود؛ قال: ثلاث من كن فيه يجد بهن حلاوة الإيمان: ترك المراء في الحق، والكذبِ في المزاحة، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه. (2)
- وفيها أيضا: قال ابن مسعود: كل ما هو آت قريب؛ إلا أن البعيد ما ليس بآت، لا يعجل الله لعجلة أحد ولا يخف لأمر الناس ما شاء الله لا ما شاء الناس، يريد الله أمرا ويريد الناس أمرا؛ ما شاء الله كان ولوكره الناس، لا مقرب لما باعد الله، ولا مبعد لما قرب الله، ولا يكون شيء إلا بإذن الله، أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. (3)
- عن معن قال: قال عبد الله -يعني ابن مسعود-: ما كان كفر بعد نبوة إلا كان معها التكذيب بالقدر. (4)
_________
(1) الإبانة (2/ 9/38/ 1426).
(2) الإبانة (2/ 9/57/ 1456).
(3) الإبانة (2/ 9/86 - 87/ 1495).
(4) الشريعة (1/ 403/464) والإبانة (2/ 9/120/ 1544).(1/114)
- وفي الإبانة عن أبي عبيدة قال: قال عبد الله: والذي لا إله غيره؛ لا يذوق عبد طعم الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه. (1)
- وفيها أيضا: عن عبد الله بن مسعود قال: أربع قد فرغ منهم: الخلق، والخُلق، والرزق، والأجل. (2)
وفيها أيضا: عن عون بن عبد الله عن أبيه أنه قيل لعبد الله بن مسعود: الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من وعظ بغيره، فما هو يا أبا عبد الرحمن؟ قال: فقال: ألم تر أن الله عز وجل أهلك قوما فجعل منهم القردة والخنازير، وأهلك قوما بالريح؛ فجعل النكال بأولئك وجعل الموعظة لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم -. (3)
- وفيها: عن عامر بن عبدة؛ قال: قال عبد الله: إذا قدر الله عز وجل لنفس أن تموت بأرض؛ هيئت له إليها الحاجة. (4)
- وفيها: قال عبد الله بن مسعود: المتقون سادة، الفقهاء قادة، ومجالستهم زيادة، ولا يسبق بطيئا رزقه، ولا يأتيه ما لم يقدر له. (5)
- وفي أصول الاعتقاد: عن عبد الله قال: لأن أعض على جمرة وأقبض عليها حتى تبرد في يدي أحب إلي من أن أقول لشيء قضاه الله: ليته لم
_________
(1) الإبانة (2/ 9/150/ 1593).
(2) الإبانة (2/ 9/150/ 1594).
(3) الإبانة (2/ 9/171 - 172/ 1660).
(4) الإبانة (2/ 11/271/ 1887).
(5) الإبانة (2/ 11/294/ 1949).(1/115)
يكن. (1)
- وفيه أيضا: عن الحارث قال: سمعت ابن مسعود يقول: -وهو يدخل إصبعه في فيه- لا والله لا يطعم رجل طعم الإيمان حتى يؤمن بالقدر ويقر ويعلم أنه ميت وأنه مبعوث من بعد الموت. (2)
- وفيه أيضا: عن عبد الله في قوله: {النجدين} (3) قال: الخير والشر. (4)
- ونقل شيخ الإسلام في المنهاج في قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} (5). قال ابن مسعود رضي الله عنه: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم. (6)
أبو الدرداء (7) (32 هـ)
عُوَيْمِر بن زيد بن قيس، قاضي دمشق الإمام القدوة صاحب رسول
_________
(1) أصول الاعتقاد (4/ 739/1217) والإبانة (2/ 9/57 - 58/ 1457).
(2) أصول الاعتقاد (4/ 739/1218) والإبانة (2/ 9/57/ 1455) والشريعة (1/ 403/463).
(3) البلد الآية (10).
(4) أصول الاعتقاد (3/ 601/956).
(5) التغابن الآية (11).
(6) المنهاج (3/ 26).
(7) الإصابة (4/ 747 - 748) والاستيعاب (4/ 1646 - 1648) وطبقات ابن سعد (7/ 91 - 93) ومجمع الزوائد (9/ 367) والمستدرك (3/ 336 - 337) وتهذيب التهذيب (8/ 175 - 177) والجرح والتعديل (7/ 26 - 28) والتذكرة (1/ 24 - 25) والسير (2/ 335 - 353) ومعرفة القراء الكبار (1/ 7).(1/116)
الله - صلى الله عليه وسلم - أبو الدَّرْدَاء، حكيم هذه الأمة، وسيد القراء بدمشق. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عدة أحاديث. آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين سلمان الفارسي.
قال الذهبي: وهو معدود فيمن تلا على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يبلغنا أبدا أنه قرأ على غيره، وهو معدود فيمن جمع القرآن في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. أسلم أبو الدرداء يوم بدر ثم شهد أحدا. وقال رضي الله عنه لو أنسيت آية لم أجد أحدا يذكرنيها إلا رجلا ببرك الغماد، رحلت إليه. وهو الذي سن حلق القراءة. وأثر عنه قوله: لن تكون عالما حتى تكون متعلما، ولا تكون متعلما حتى تكون بما علمت عاملا. إن أخوف ما أخاف إذا وقفت للحساب أن يقال لي: ما عملت فيما علمت. وقال: ويل للذي لا يعلم مرة، وويل للذي يعلم ولا يعمل سبع مرات. وروي عنه أنه قال: لولا ثلاث ما أحببت البقاء: ساعة ظمأ الهواجر، والسجود في الليل، ومجالسة أقوام ينتقون جيد الكلام كما ينتقى أطايب الثمر. وروى صفوان، عن ابن جبير عن أبيه: قال: لما فتحت قبرس مر بالسبي على أبي الدرداء، فبكى، فقلت له: تبكي في مثل هذا اليوم الذي أعز الله فيه الإسلام وأهله؟ قال: يا جبير، بينا هذه الأمة قاهرة ظاهرة إذ عصوا الله، فلقوا ما ترى. ما أهون العباد على الله إذا هم عصوه.
وعنه قال: من أكثر ذكر الموت قل فرحه، وقل حسده. وقالت أم الدرداء: لما احتضر أبو الدرداء، جعل يقول: من يعمل لمثل يومي هذا؟ من يعمل لمثل مضجعي هذا؟
مات أبو الدرداء رضي الله عنه عام اثنتين وثلاثين للهجرة.(1/117)
موقفه من المبتدعة:
- أخرج ابن بطة بسنده إلى حميد عن الحسن قال: قال أبو الدرداء: كن عالما أو متعلما أو مستمعا أو محبا، ولا تكن الخامسة فتهلك، قال: فقلت للحسن: من الخامسة قال: المبتدع. (1)
- وعنه قال: اقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة، إنك إن تتبع خير من أن تبتدع، ولن تخطئ الطريق ما اتبعت الأثر. (2)
- وروى البخاري عن سالم قال: سمعت أم الدرداء تقول: دخل علي أبو الدرداء وهو مغضب، فقلت: ما أغضبك؟ فقال: والله ما أعرف من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - شيئا إلا أنهم يصلون جميعا. (3)
- وفي إغاثة اللهفان: قال الحسن سأل رجل أبا الدرداء، فقال رحمك الله لو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرنا هل كان ينكر شيئا مما نحن عليه؟ فغضب واشتد غضبه وقال: هل كان يعرف شيئا مما أنتم عليه؟ (4)
- ونقل الشاطبي عن أبي الدرداء: أنه قال: لو خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليكم، ما عرف شيئا مما كان عليه هو وأصحابه إلا الصلاة. قال الأوزاعي: فكيف لو كان اليوم؟ قال عيسى بن يونس: فكيف لو أدرك الأوزاعي هذا الزمان؟ (5)
_________
(1) الإبانة (1/ 2/341/ 210) والبيهقي في المدخل (1/ 344 - 345/ 381) وابن عبد البر في الجامع (1/ 141 - 142).
(2) اللالكائي (1/ 99/115) والسنة للمروزي (ص.100) واللفظ له، وأخرج الشطر الأخير منه ابن بطة في الإبانة (1/ 2/353/ 232).
(3) البخاري (2/ 174/650).
(4) إغاثة اللهفان (1/ 206).
(5) ابن وضاح في البدع (ص.129) وذكره الشاطبي في الاعتصام (1/ 33).(1/118)
" التعليق:
قلت: فكيف لو أدرك عيسى بن يونس زماننا هذا الذي منعت فيه الفرائض وكثرت فيه البدع وجهر فيه بالمعاصي ولا مغير ولا منكر إلا من شاء الله وقليل ما هم والله المستعان.
- وروى ابن بطة عن الأعمش، عن سالم يعني ابن أبي الجعد، قال: قال أبو الدرداء: لو أن رجلا كان يعلم الإسلام وأهمه ثم تفقده اليوم ما عرف منه شيئا. (1)
- عن عطاء بن يسار، أن رجلا باع كسرة من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها، فقال له أبو الدرداء: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن مثل هذا إلا مثلا بمثل. فقال الرجل: ما أرى بمثل هذا بأسا. فقال أبو الدرداء: من يعذرني من فلان أحدثه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويخبرني عن رأيه لا أساكنك بأرض أنت بها. ثم قدم أبو الدرداء على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فذكر ذلك له فكتب عمر بن الخطاب إلى الرجل أن لا تبيع ذلك إلا مثلا بمثل وزنا بوزن. (2)
_________
(1) الإبانة (1/ 1/183 - 184/ 18) وابن وضاح (ص.142).
(2) أخرجه مالك (2/ 634) ومن طريقه بهذا التمام: الشافعي في الرسالة (ص.446) والبيهقي (5/ 280) والبغوي في شرح السنة (8/ 64/2060). واختصره: أحمد (6/ 448) والنسائي (7/ 321/4586). قال ابن عبد البر رحمه الله في الاستذكار (19/ 213): "لا أعلم هذه القصة روي أنها عرضت لمعاوية مع أبي الدرداء إلا من حديث زيد بن أسلم، عن عطاء ابن يسار، لم يروه من وجه آخر فيما علمت، وليست محفوظة معروفة إلا لمعاوية مع عبادة بن الصامت". وقال في التمهيد: "ظاهر هذا الحديث الانقطاع لأن عطاء لا أحفظ له سماعا من أبي الدرداء، وما أظنه سمع منه شيئا ... ومولد عطاء بن يسار سنة إحدى وعشرين وقيل سنة عشرين ... ولم يشهد هذه القصة لأنها كانت في زمن عمر، وتوفي عمر سنة ثلاث وعشرين، أو أربع وعشرين من الهجرة". انظر فتح البر (12/ 40).(1/119)
" التعليق:
قال ابن بطة رحمه الله: فاعتبروا يا أولي الأبصار، فشتان بين هؤلاء العقلاء السادة الأبرار الأخيار الذين ملئت قلوبهم بالغيرة على إيمانهم والشح على أديانهم، وبين زمان أصبحنا فيه وناس نحن منهم وبين ظهرانيهم، هذا عبد الله بن مغفل صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسيد من ساداتهم يقطع رحمه ويهجر حميمه حين عارضه في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحلف أيضا على قطيعته وهجرانه وهو يعلم ما في صلة الأقربين وقطيعة الأهلين، وعبادة بن الصامت وأبو الدرداء سماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حكيم هذه الأمة، وأبو سعيد الخدري يظعنون عن أوطانهم وينتقلون عن بلدانهم ويظهرون الهجرة لإخوانهم لأجل من عارض حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتوقف عن استماع سنته، فيا ليت شعري كيف حالنا عند الله عز وجل ونحن نلقى أهل الزيغ في صباحنا والمساء يستهزئون بآيات الله ويعاندون سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حائدين عنها، وملحدين فيها سلمنا الله وإياكم من الزيغ والزلل.
- وفي المجموع: قال أبو الدرداء: لا تهلك أمة حتى يتبعوا أهواءهم ويتركوا ما جاءتهم به أنبياؤهم من البينات والهدى. (1)
موقفه من الرافضة:
عن أبي الدرداء قال: ما رأيت أحدا أشبه صلاة بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إمامكم هذا. يعني معاوية.
_________
(1) مجموع الفتاوى (15/ 63).(1/120)
قال ابن تيمية عقبه: فهذه شهادة الصحابة بفقهه ودينه، والشاهد بالفقه ابن عباس (1)، وبحسن الصلاة أبو الدرداء، وهما هما. والآثار الموافقة لهذا كثيرة. هذا ومعاوية ليس من السابقين الأولين، بل قد قيل: إنه من مسلمة الفتح. وقيل: أسلم قبل ذلك. وكان يعترف بأنه ليس من فضلاء الصحابة. وهذه سيرته مع عموم ولايته، فإنه كان في ولايته من خراسان إلى بلاد إفريقية بالمغرب، ومن قبرص إلى اليمن. ومعلوم بإجماع المسلمين أنه ليس قريبا من عثمان وعلي، فضلا عن أبي بكر وعمر. فكيف يشبه غير الصحابة بهم؟ وهل توجد سيرة أحد من الملوك مثل سيرة معاوية رضي الله عنه؟ (2)
موقفه من الجهمية:
- روى الآجري في الشريعة: عن يعلى بن عطاء قال: جاء رجل إلى أبي الدرداء فقال له: إنك معلم، وإنك على جناح فراق الدنيا، فعلمني خيرا ينفعني الله به، فقال أبو الدرداء: إما لا، فاعقل، كيف أنت إذا لم يكن لك من الأرض إلا موضع أربعة أذرع في ذراعين، جاء بك أهلك الذين كانوا يكرهون فراقك، وإخوانك الذين كانوا يتحزبون بأمرك فتلوك في ذلك المتل، ثم سدوا عليك من اللبن، وأكثروا عليك من التراب، وخلوا بينك وبين متلك ذلك، فجاءك ملكان أزرقان جعدان، يقال لهما: منكر ونكير، فقالا: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فإن قلت ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد -والله- هديت ونجوت، وإن قلت: لا أدري، فقد -والله- هويت
_________
(1) شهادة ابن عباس لمعاوية بالفقه ستأتي معنا بإذن الله في مواقف ابن عباس رضي الله عنهما.
(2) المنهاج (6/ 235 - 236).(1/121)
ورديت. (1)
موقفه من المرجئة:
- جاء في الإبانة: عن الحارث بن معاوية، قال: إني لجالس في حلقة وفيها أبو الدرداء وهو يومئذ يحذرنا الدجال فقلت: والله لغير الدجال أخوف على نفسي من الدجال، قال: وما الذي أخوف في نفسك من الدجال: قلت: إني أخاف أن يسلب مني إيماني ولا أدري، قال: لله أمك يا ابن الكندية أترى في الناس مائة يتخوفون مثل ما تتخوف؟ لله أمك يا ابن الكندية أترى في الناس خمسين يتخوفون مثل الذي تتخوف؟ لله أمك يا ابن الكندية أترى في الناس عشرة يتخوفون مثل ما تتخوف؟ لله أمك يا ابن الكندية أترى في الناس ثلاثة يتخوفون مثل ما تتخوف؟ والله ما أمن رجل قط أن يسلب إيمانه إلا سلبه وما سلبه فوجد فقده. (2)
- وفي السنة لعبد الله: عن أبي الدرداء قال ما الإيمان إلا كقميص أحدكم يخلعه ويلبسه أخرى، والله ما أمن عبد على إيمانه إلا سلبه فوجد فقده. (3)
- وفيها أيضا: عن أبي الدرداء قال: الإيمان يزداد وينقص. (4)
- وفي الإبانة: عن أم الدرداء، قالت: كان أبو الدرداء كثيرا ما يقول: إذا هلك الرجل على الحال الصالحة هنيئا له ليت أني بدله، فقلت: يا أبا
_________
(1) الشريعة (2/ 188/915).
(2) الإبانة (2/ 6/758 - 759/ 1060).
(3) السنة لعبد الله (ص.97 - 98) وأصول الاعتقاد (6/ 1096/1871).
(4) السنة لعبد الله (ص.84) والإبانة (2/ 843 - 844/ 1126).(1/122)
الدرداء كثيرا مما تقول تعني هذا، فقال: وما علمت يا حمقاء أن الرجل يصبح مؤمنا ويمسي كافرا؟ قالت: وكيف ذلك: قال: سلب إيمانه ولا يشعر لأنا لهذا بالموت أغبط مني بالبقاء في الصوم والصلاة. (1)
- وفيها: عن حريز بن عثمان، قال: حدثنا أشياخنا، أو قال بعض أشياخنا: أن أبا الدرداء قال: من فقه العبد أن يعلم أمزداد هو أو منتقص؟ وإن من فقه العبد أن يعلم نزغات الشيطان أنى تأتيه (2).
- وجاء في كتاب الإيمان لابن أبي شيبة: عن معاوية بن قرة قال: كان أبو الدرداء يقول: "اللهم إني أسألك إيمانا دائما، وعلما نافعا، وهديا قيما" قال معاوية: فنرى أن من الإيمان إيمانا ليس بدائم، ومن العلم علما لا ينفع، ومن الهدي هديا ليس بقيم. (3)
موقفه من القدرية:
- روى ابن بطة في الإبانة عن داود بن أبي هند قال: قيل لأبي الدرداء: ما بال الشيخ الكبير يكون في مثل حاله أعبد من الشاب؛ يصوم، ويصلي، والشاب مثل نيته لا يطيق أن يبلغ عمله؟ قال: ما تدرون ما هذا؟ قالوا: وما هو؟ قال: إنه يعمل كل إنسان على قدر منزلته في الجنة. (4)
- وجاء في أصول الاعتقاد: عن أبي الدرداء قال: ذروة الإيمان أربع:
_________
(1) الإبانة (2/ 759/1061).
(2) الإبانة (2/ 7/849/ 1140) وأصول الاعتقاد (5/ 1016/1710).
(3) كتاب الإيمان لابن أبي شيبة (رقم:106) والمصنف له (6/ 164/30364).
(4) الإبانة (2/ 9/171/ 1656).(1/123)
الصبر للحكم، والرضا بالقدر، والإخلاص للتوكل، والاستسلام للرب. (1)
عبد الرحمن بن عوف (2) (32 هـ)
عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف بن عبد بن الحارث بن زهرة أبو محمد. كان يسمى في الجاهلية عبد عمرو وقيل عبد الكعبة فسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد الرحمن. ولد بعد الفيل بعشر سنين. أحد العشرة وأحد الستة أهل الشورى الذين مات النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راض، وأحد السابقين البدريين، القرشي الزهري، وهو أحد الثمانية الذين بادروا إلى الإسلام قبل أن يدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - دار الأرقم. كان من المهاجرين الأولين، جمع الهجرتين جميعا، هاجر إلى أرض الحبشة، ثم قدم قبل الهجرة، وهاجر إلى المدينة وآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين سعد بن الربيع، وشهد بدرا والمشاهد كلها. بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى دومة الجندل إلى كلب ففتح الله عليه وتزوج تماضر بنت الأصبغ -ملكهم-. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن عمر. وروى عنه أبناؤه: إبراهيم وحميد، وعمر ومصعب وأبو سلمة وكذلك أنس وجابر وجبير بن مطعم وابن عباس وابن عمر وعدة. قال الزهري: تصدق عبد الرحمن بن عوف على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشطر ماله أربعة آلاف، ثم تصدق بأربعين ألف دينار، ثم حمل على خمس
_________
(1) أصول الاعتقاد (4/ 748 - 749/ 1238).
(2) تاريخ خليفة (166) والتاريخ الكبير (5/ 240) والجرح والتعديل (5/ 277) والاستيعاب (2/ 844 - 850) وتاريخ ابن عساكر (35/ 235 - 308) وأسد الغابة (3/ 475 - 480) وتهذيب الكمال (17/ 324 - 329) وتهذيب التهذيب (6/ 244 - 246) وطبقات ابن سعد (3/ 124 - 137) والسير (1/ 68 - 92) وشذرات الذهب (1/ 38) والإصابة (4/ 346 - 350).(1/124)
مائة فرس في سبيل الله، ثم حمل على خمس مائة راحلة في سبيل الله، وكان عامة ماله من التجارة. توفي رضي الله عنه سنة اثنتين وثلاثين وهو ابن اثنتين وسبعين سنة بالمدينة ودفن بالبقيع وصلى عليه عثمان.
موقفه من المبتدعة:
وجاء في الإبانة عن عروبة السدوسية قالت: لقيت عبد الرحمن -تعني ابن عوف- فقلت: ما أعظم الإسلام؟ فقال: إقام الصلاة وإيتاء الزكاة واسألي إن بقيت، فسيأتي زمان تذهب العرب ويجيء ناس من الإسحاقية فيجيئون بأقذار من الدين فإذا رأيتيهم فتمسكي بالقرآن والسنة. (1)
موقفه من الرافضة:
قال أفلح بن سعيد بن كعب: قال عبد الرحمن بن عوف: والله ما بايعت لعثمان حتى سألت صبيان الكتاب فقالوا عثمان خير من علي. (2)
المِقْدَاد بن الأسود الكندي (3) (33 هـ)
المِقْدَاد بن عمرو بن ثعلبة صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأحد السابقين الأولين، شهد بدرا والمشاهد. وثبت أنه كان يوم بدر فارسا. حدث عنه علي، وابن مسعود، وابن عباس، وجبير بن نفير، وابن أبي ليلى وغيرهم. قال أبو عمر
_________
(1) الإبانة (1/ 2/340 - 341/ 208).
(2) أصول الاعتقاد (7/ 1423/2552).
(3) طبقات ابن سعد (3/ 161) والاستيعاب (4/ 1480) وأسد الغابة (4/ 409) وسير أعلام النبلاء (1/ 385) وتهذيب الكمال (28/ 452) والإصابة (6/ 202 - 204) وشذرات الذهب (1/ 39).(1/125)
ابن عبد البر: وكان من الفضلاء والنجباء الكبار الخيار من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. وشهد المقداد فتح مصر ومات في أرضه بالجرف، فحمل إلى المدينة ودفن بها، وصلى عليه عثمان بن عفان. توفي رضي الله عنه سنة ثلاث وثلاثين.
موقفه من المبتدعة:
روى ابن بطة (1) عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن المقداد بن الأسود الكندي، قال: جاءنا المقداد لحاجة فقلنا: اجلس عافاك الله حتى نطلب لك حاجتك، قال: فجلس، فقال: العجب من قوم مررت بهم آنفا يتمنون الفتنة يزعمون ليبلينهم الله فيها ما أبلى رسوله وأصحابه، والله لقد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن -ثلاث مرات- ولمن ابتلي فصبر فواها" (2) لايم الله لا أشهد على واحد أنه من أهل الجنة حتى أعلم بما يموت عليه. لحديث سمعته عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لقلب ابن آدم أسرع انقلابا من القدر إذا استجمعت غليا". (3)
موقفه من المشركين:
عن ابن مسعود قال: لقد شهدت من المقداد مشهدا لأن أكون صاحبه
_________
(1) الإبانة (2/ 4/586 - 587/ 744).
(2) رواه أبو داود (4/ 460/4263) وصححه الشيخ الألباني في الصحيحة (رقم975) على شرط مسلم. واها: قال أبو سليمان الخطابي: واها كلمة معناها التلهف.
(3) أحمد (6/ 4) وابن أبي عاصم (1/ 102/226) والطبراني (20/ 253/599) و (20/ 255 - 256/ 603) والقضاعي في مسند الشهاب (2/ 266 - 267/ 1331 - 1332) والحاكم (2/ 289) وقال: "هذا حديث على شرط البخاري" ووافقه الذهبي وذكره الهيثمي في المجمع (7/ 211) وقال: "رواه الطبراني بأسانيد، ورجال أحدها ثقات".(1/126)
أحب إلي مما طلعت عليه الشمس؛ وذلك أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يذكر المشركين، فقال: يا رسول الله إنا والله لا نقول لك كما قال أصحاب موسى لموسى، {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} ولكننا نقاتل من بين يديك ومن خلفك وعن يمينك وعن شمالك. قال: فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشرق وجهه لذلك وسره وأعجبه. (1)
كعب الأحبار (2) (34 هـ)
كعب بن مَاتِع الحِمْيَرِي اليماني العلامة الحبر، كان يهوديا فأسلم بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقدم المدينة من اليمن في أيام عمر رضي الله عنه، فجالس أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، فكان يحدثهم عن الكتب الإسرائيلية، ويحفظ العجائب، ويأخذ السنن عن الصحابة، وكان حسن الإسلام، متين الديانة، من نبلاء العلماء، حدث عن عمر، وصهيب، وغير واحد، وحدث عنه أبو هريرة ومعاوية، وابن عباس. روى عنه خالد بن معدان أنه قال: لأن أبكي من خشية الله أحب إلي من أن أتصدق بوزني ذهبا. توفي بحمص في أواخر خلافة عثمان رضي الله عنه سنة أربع وثلاثين، وقيل غير ذلك.
موقفه من الخوارج:
جاء في الشريعة: عن عبد الله بن رباح الأنصاري عن كعب الأحبار
_________
(1) الاستيعاب (4/ 1481 - 1482) وتهذيب الكمال (28/ 455) والحلية (1/ 172 - 173).
(2) السير (3/ 489 - 494) والإصابة (5/ 647 - 651) وتهذيب الكمال (24/ 189 - 193) وتاريخ الإسلام (عهد الخلفاء الراشدين ص.397 - 398) وشذرات الذهب (1/ 40).(1/127)
قال: للشهيد نوران. ولمن قتله الخوارج عشرة أنوار له. ولجهنم سبعة أبواب: باب منها للحرورية، ولقد خرجوا على داود نبي الله في زمانه.
قال محمد بن الحسين الآجري عقبه: هذه صفة الحرورية، وهم الشراة الخوارج، الذين قال الله تعالى: {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} (1) الآية. وقد حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته من هذه صفته. (2)
موقفه من المرجئة:
عن كعب قال: من أقام الصلاة وآتى الزكاة وسمع وأطاع فقد توسط الإيمان، ومن أحب في الله وأبغض في الله وأعطى لله ومنع فقد استكمل الإيمان. (3)
موقفه من القدرية:
جاء في أصول الاعتقاد: عن يونس بن سيف أن عطية بن قيس أخبره: أن رهطا عادوا كعب الأحبار فقالوا له: كيف تجدك يا أبا إسحاق؟ قال: بخير، عبد أخذ بذنبه فإن قبضه إليه ربه إن شاء عذبه وإن شاء رحمه، وإن عاقبه ينشيه نظيفا جديدا لا ذنب له. (4)
_________
(1) آل عمران الآية (7).
(2) الشريعة (1/ 142 - 143/ 43).
(3) الإبانة (2/ 659/849) وأصول الاعتقاد (5/ 1022/1725) وابن أبي شيبة في الإيمان (128) وهو في المصنف (6/ 171/30437) والسنة للخلال (1/ 599/1062).
(4) أصول الاعتقاد (4/ 757/1259).(1/128)
عُبَادَة بن الصَّامِت (1) (34 هـ)
عبادة بن الصامت بن قيس الخزرجي، الأنصاري أبو الوليد شهد بدرا وكان أحد النقباء بالعقبة، وآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين أبي مرثد الغنوي. وشهد المشاهد كلها بعد بدر. وشهد فتح مصر، وهو أول من ولي قضاء فلسطين. وكان ممن جمع القرآن في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -. وكان قويا في دين الله أمارا بالمعروف نهاء عن المنكر. مات رضي الله عنه بالشام من أرض فلسطين سنة أربع وثلاثين.
موقفه من المبتدعة:
- جاء في تفسير ابن كثير: وقال قتادة في هذه الآية: {أَنْ يقولوا سمعنا وَأَطَعْنَا} (2): ذكر لنا أن عبادة بن الصامت -وكان عقبيا بدريا، أحد نقباء الأنصار-: أنه لما حضره الموت قال لابن أخيه جنادة بن أبي أمية: ألا أنبئك بماذا عليك وماذا لك؟ قال: بلى. قال: فإن عليك السمع والطاعة، في عسرك ويسرك، ومنشطك ومكرهك، وأثرة عليك، وعليك أن تقيم لسانك بالعدل، وأن لا تنازع الأمر أهله، إلا أن يأمروك بمعصية الله بواحا، فما أمرت به من شيء يخالف كتاب الله، فاتبع كتاب الله. (3)
_________
(1) الإصابة (3/ 624 - 626) والاستيعاب (2/ 807 - 809) ومجمع الزوائد (9/ 320) وشذرات الذهب (1/ 40) والوافي (16/ 618 - 619) والجرح والتعديل (6/ 95) والسير (2/ 5 - 11) وتهذيب التهذيب (5/ 111 - 112) والطبقات لابن سعد (3/ 546) والمستدرك (3/ 354 - 357).
(2) النور الآية (51).
(3) ابن كثير في التفسير (6/ 81).(1/129)
- وروى ابن ماجه أن عبادة بن الصامت الأنصاري النقيب صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزا مع معاوية أرض الروم، فنظر إلى الناس وهم يتبايعون كسر الذهب بالدنانير وكسر الفضة بالدراهم فقال: يا أيها الناس إنكم تأكلون الربا، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا تبتاعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، لا زيادة بينهما ولا نظرة". فقال له معاوية: يا أبا الوليد لا أرى الربا في هذا إلا ما كان من نظرة، فقال عبادة: أحدثك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتحدثني عن رأيك، لإن أخرجني الله لا أساكنك بأرض لك علي فيها إمرة. فلما قفل لحق بالمدينة فقال له عمر بن الخطاب: ما أقدمك يا أبا الوليد؟ فقص عليه القصة، وما قال من مساكنته، فقال ارجع يا أبا الوليد إلى أرضك، فقبح الله أرضا لست فيها وأمثالك. وكتب إلى معاوية: لا إمرة لك عليه، واحمل الناس على ما قال فإنه هو الأمر. (1)
- وروى مسلم عن أبي قلابة قال: كنت بالشام في حلقة فيها مسلم ابن يسار، فجاء أبو الأشعث، قال: قالوا: أبو الأشعث، أبو الأشعث. فجلس فقلت له: حدث أخانا حديث عبادة بن الصامت، قال: نعم. غزونا غزاة. وعلى الناس معاوية، فغنمنا غنائم كثيرة، فكان فيما غنمنا آنية من فضة. فأمر معاوية رجلا أن يبيعها في أعطيات الناس. فتسارع الناس في ذلك. فبلغ عبادة بن الصامت فقام فقال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح
_________
(1) النسائي (7/ 317 - 318/ 4576) وابن ماجه (1/ 8 - 9/ 18).(1/130)
بالملح إلا سواء بسواء، عينا بعين، فمن زاد أو ازداد فقد أربى (1)، فرد الناس ما أخذوا، فبلغ ذلك معاوية فقام خطيبا فقال: ألا ما بال رجال يتحدثون عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحاديث، قد كنا نشهده ونصحبه فلم نسمعها منه. فقام عبادة بن الصامت فأعاد القصة، ثم قال: لنحدثن بما سمعنا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن كره معاوية (أو قال: وإن رغم)، ما أبالي أن لا أصحبه في جنده ليلة سوداء. (2)
موقفه من المشركين:
ذكر الواقدي عن رجاله قالوا: استأخر إسلام كعب بن عجرة. وكان له صنم يكرمه ويمسحه، فكان يدعى إلى الإسلام، فيأبى. وكان عبادة بن الصامت له خليلا، فرصده يوما، فلما خرج، دخل عبادة ومعه قدوم، فكسره، فلما أتى كعب، قال: من فعل هذا؟ قالوا: عبادة، فخرج مغضبا، ثم فكر في نفسه، وأتى عبادة، فأسلم. (3)
موقفه من الخوارج:
عن جنادة قال: قال لي عبادة بن الصامت: عليك بالسمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأثرة عليك ولا تنازع الأمر أهله إلا أن يأمروك بمعصية الله بواحا يعني خالصا. (4)
_________
(1) أحمد (5/ 320) ومسلم (3/ 1210 - 1211/ 1587) وأبو داود (3/ 643/3349) والترمذي (3/ 541/1240) والنسائي (7/ 316 - 317/ 4574) وابن ماجه (2/ 757 - 758/ 2254).
(2) مسلم (3/ 1210/1587).
(3) السير (3/ 53).
(4) أصول الاعتقاد (7/ 1301/2302).(1/131)
موقفه من القدرية:
جاء في أصول الاعتقاد (1): عن عطاء بن أبي رباح قال: سألت ابن عبادة ابن الصامت كيف كانت وصية أبيك حين حضره الموت؟ قال: جعل يقول: يا بني اتق الله واعلم أنك لن تتقي الله ولن تبلغ العلم حتى تعبد الله وحده وتؤمن بالقدر خيره وشره. قلت: يا أبتي كيف لي أن أؤمن بالقدر خيره وشره؟ قال: تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك فإن مت على غير هذا دخلت النار. سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب فقال ما أكتب. فجرى تلك الساعة بما كان وما هو كائن إلى الأبد". (2)
معاذ بن عمرو بن الجموح (3) (مات في خلافة عثمان)
مُعَاذ بن عمرو بن الجَمُوح بن كعب الأنصاري المدني شهد بدرا والعقبة، وهو أحد من قتل أبا جهل. مات في زمن عثمان، قاله البخاري وغيره.
_________
(1) أصول الاعتقاد (4/ 679 - 680/ 1097).
(2) أحمد (5/ 317) من طريق ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن الوليد بن عبادة بن الصامت عن أبيه ... فذكره. قال الشيخ الألباني رحمه الله في ظلال الجنة (1/ 48): "وإسناده لا بأس به في الشواهد رجاله ثقات غير ابن لهيعة وهو سيء الحفظ لكنه يتقوى بما قبله وما بعده يعني من كتاب السنة لابن أبي عاصم". وأخرجه أبو داود (5/ 76/4700) من طريق إبراهيم بن أبي عبلة عن أبي حفصة قال: قال عبادة بن الصامت لابنه .. فذكره. والترمذي (4/ 398/2155) وقال: "وهذا حديث غريب من هذا الوجه". وفيه قصة طويلة. وأخرجه (5/ 394 - 395/ 3319) وقال: "هذا حديث حسن غريب".
(3) السير (1/ 249 - 252) والإصابة (6/ 142 - 143) وأسد الغابة (5/ 194 - 195) والاستيعاب (3/ 1410 - 1411) والكامل لابن الأثير (2/ 126 - 127) والتاريخ الكبير (7/ 360/1556).(1/132)
موقفه من المشركين:
عن عبد الرحمن بن عوف قال: بينا أنا واقف في الصف يوم بدر، فنظرت عن يميني وشمالي، فإذا أنا بغلامين من الأنصار حديثة أسنانهما تمنيت أن أكون بين أضلع منهما، فغمزني أحدهما فقال: يا عم هل تعرف أبا جهل؟ قلت: نعم، ما حاجتك إليه يا ابن أخي؟ قال: أخبرت أنه يسب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا. فتعجبت لذلك، فغمزني الآخر فقال لي مثلها، فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس فقلت: ألا إن هذا صاحبكما الذي سألتماني، فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه. ثم انصرفا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبراه. فقال: أيكما قتله؟ قال كل واحد منهما: أنا قتلته. فقال: هل مسحتما سيفيكما؟ قالا: لا. فنظر في السيفين فقال كلاكما قتله، سلبه لمعاذ ابن عمرو بن الجموح. وكانا معاذ بن عفراء ومعاذ ابن عمرو بن الجموح. (1)
عبد الله بن حُذَافَة (2) (توفي في خلافة عثمان)
عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي، أبو حُذَافة القرشي السَّهْمي، من السابقين الأولين.
قيل شهد بدرا، وكانت فيه دعابة، وهو رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى
_________
(1) أحمد (1/ 192 - 193) والبخاري (6/ 303/3141) ومسلم (3/ 1372/1752).
(2) طبقات ابن سعد (4/ 189) والاستيعاب (3/ 888 - 891) وأسد الغابة (3/ 213 - 214) وتهذيب الكمال (14/ 411 - 413) وسير أعلام النبلاء (2/ 11 - 16) والإصابة (4/ 57 - 59).(1/133)
كسرى يدعوه إلى الإسلام، وهو القائل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قال: "من أحب أن يسأل عن شيء فليسأل عنه، فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به، ما دمت في مقامي هذا"، من أبي يا رسول الله؟ قال: أبوك حذافة ... الحديث (1). وهو الذي بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع ينادي في أيام التشريق أنها أيام أكل وشرب، وهو الذي أسرته الروم في زمن عمر بن الخطاب، فنجاه الله سبحانه وتعالى منهم.
روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وروى عنه سليمان بن يسار وأبو وائل ومسعود بن الحكم الزرقي وأبو سلمة بن عبد الرحمن. ومناقبه كثيرة رضي الله عنه. قال أبو نعيم: توفي بمصر في خلافة عثمان، ودفن بها.
موقفه من المشركين:
- جاء في السير: عن أبي رافع، قال: وجه عمر جيشا إلى الروم، فأسروا عبد الله بن حذافة، فذهبوا به إلى ملكهم، فقالوا: إن هذا من أصحاب محمد. فقال: هل لك أن تتنصر وأعطيك نصف ملكي؟ قال: لو أعطيتني جميع ما تملك، وجميع ما تملك، وجميع ملك العرب، ما رجعت عن دين محمد طرفة عين. قال: إذا أقتلك. قال: أنت وذاك. فأمر به، فصلب، وقال للرماة: ارموه قريبا من بدنه، وهو يعرض عليه، ويأبى، فأنزله. ودعا بقدر، فصب فيها ماء حتى احترقت، ودعا بأسيرين من المسلمين، فأمر بأحدهما، فألقي فيها، وهو يعرض عليه النصرانية، وهو يأبى. ثم بكى. فقيل للملك: إنه بكى. فظن أنه قد جزع، فقال: ردوه. ما أبكاك؟ قال: قلت:
_________
(1) أحمد (3/ 162) والبخاري (13/ 329/7294) ومسلم (4/ 1832/2359) (136).(1/134)
هي نفس واحدة تلقى الساعة فتذهب، فكنت أشتهي أن يكون بعدد شعري أنفس تلقى في النار في الله.
فقال له الطاغية: هل لك أن تقبل رأسي وأخلي عنك؟
فقال له عبد الله: وعن جميع الأسارى؟ قال: نعم. فقبل رأسه.
وقدم بالأسارى على عمر، فأخبره خبره. فقال عمر: حق على كل مسلم أن يقبل رأس ابن حذافة، وأنا أبدأ. فقبل رأسه. (1)
- وفيها أيضا عن الوليد بن مسلم: حدثنا أبو عمرو، ومالك بن أنس: أن أهل قيسارية أسروا ابن حذافة، فأمر به ملكهم، فجرب بأشياء صبر عليها. ثم جعلوا له في بيت معه الخمر ولحم الخنزير ثلاثا لا يأكل، فاطلعوا عليه، فقالوا للملك: قد انثنى عنقه، فإن أخرجته وإلا مات. فأخرجه، وقال: ما منعك أن تأكل وتشرب؟ قال: أما إن الضرورة كانت قد أحلتها لي، ولكن كرهت أن أشمتك بالإسلام. قال: فقبل رأسي، وأخلي لك مائة أسير. قال: أما هذا، فنعم. فقبل رأسه، فخلى له مائة، وخلى سبيله.
وقد روى ابن عائذ قصة ابن حذافة فقال: حدثنا الوليد بن محمد: أن ابن حذافة أسر. فذكر القصة مطولة، وفيها: أطلق له ثلاث مائة أسير، وأجازه بثلاثين ألف دينار، وثلاثين وصيفة، وثلاثين وصيفا. (2)
_________
(1) السير (2/ 14).
(2) السير (2/ 15).(1/135)
عُمَيْر بن حبيب بن خُماشَة (1) (ممن بايع تحت الشجرة)
عمير بن حبيب بن خماشة بضم المعجمة وتخفيف الميم -وقيل بن حُبَاشَة- بن جويبر بن عبيد بن عنان بن عامر بن خطمة الأنصاري. قال البخاري: بايع تحت الشجرة.
وهو جد أبي جعفر الخطمي، ولم يوجد له رواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجه ثابت. روى أبو جعفر أن جده عمير بن حبيب -وكان ممن بايع تحت الشجرة- قال: أي بني، إياكم ومجالسة السفهاء، فإن مجالستهم داء، وإنه من يحلم عن السفيه ليس ينظر بحلمه، ومن لا يفر بقليل ما يأتي به السفيه يفر بالكثير، ومن يصبر على ما يكره يدرك ما يحب، وإذا أراد أحدكم أن يأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر، فليوطن نفسه قبل ذلك على الأذى، ليوقن بالثواب، فإنه من يوقن بالثواب من الله تعالى لا يجد مس الأذى.
موقفه من المرجئة:
- قال ابن القيم: أقدم من روي عنه زيادة الإيمان ونقصانه من الصحابة عمير بن حبيب الخطمي. (2)
- عن عمير بن حبيب بن خماشة أنه قال: إن الإيمان يزيد وينقص قيل له وما زيادته وما نقصانه؟ قال: إذا ذكرنا الله وخشيناه فذلك زيادته وإذا
_________
(1) التاريخ الكبير (6/ 531) والثقات لابن حبان (3/ 299) والاستيعاب (3/ 1213) وأسد الغابة (4/ 277) والإصابة (4/ 714 - 715).
(2) مختصر سنن أبي داود (7/ 56).(1/136)
غفلنا ونسينا وضيعنا فذلك نقصانه. (1)
أمير المؤمنين عثمان بن عفان (2) (35 هـ)
أمير المؤمنين عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي، أبو عمرو، ويقال أبو عبد الله، ذو النورين الأموي. أمه أروى بنت كريز بن ربيعة، وأمها أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
أسلم قديما وهاجر الهجرتين، وتزوج ابنتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، رقية ثم أم كلثوم.
روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر، وروى عنه ابنه أبان بن عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وأنس بن مالك وغيرهم.
عن ابن عمر، قال: كنا نقول على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم نسكت" (3). فقيل: هذا في التفضيل، وقيل: في الخلافة.
_________
(1) السنة لعبد الله (84) وأصول الاعتقاد (5/ 1020/1721) والإبانة (2/ 7/45/ 1131) والشريعة (1/ 261/240) والسنة للخلال (4/ 47/1141) وابن أبي شيبة في المصنف (6/ 160/30327) وفي الإيمان له (14).
(2) طبقات ابن سعد (3/ 53 - 84) والاستيعاب (3/ 1037 - 1053) والكامل لابن الأثير (1/ 46) و (2/ 59) وأسد الغابة (3/ 578 - 587) وتاريخ دمشق (الجزء 39) وتهذيب الكمال (19/ 445 - 460) وتهذيب التهذيب (7/ 139 - 142).
(3) أحمد (2/ 14) وابن أبي عاصم (2/ 568/1195) وأبو يعلى (10/ 161/5784) والطبراني (12/ 345/13301) وابن حبان (16/ 237/7251) عن سهيل عن أبيه عن ابن عمر رضي الله عنهما. وأخرجه البخاري (7/ 66/3698) وأبو داود (5/ 25 - 26/ 4627) الترمذي (5/ 588/3707) من طرق عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما.(1/137)
قال الشعبي: لم يجمع القرآن أحد من الخلفاء من الصحابة غير عثمان. وقال ابن سيرين: كان أعلمهم بالمناسك عثمان، وبعده ابن عمر. وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت: كان رسول - صلى الله عليه وسلم - مضطجعا في بيته كاشفا عن فخذيه أو ساقيه، فاستأذن أبو بكر، ثم عمر، وهو على تلك الحال فتحدثا، ثم استأذن عثمان، فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسوى ثيابه، فدخل فتحدث، فلما خرج، قلت: يا رسول الله دخل أبو بكر، فلم تجلس له، ثم دخل عمر، فلم تهش له، ثم دخل عثمان، فجلست وسويت ثيابك، قال: "ألا أستحيي من رجل تستحيي منه الملائكة". (1)
وفيه أيضا عن أبي موسى الأشعري قال: "بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حائط من حائط المدينة، وهو متكئ يركز بعود معه بين الماء والطين، إذا استفتح رجل، فقال: افتح وبشره بالجنة، قال: فإذا أبو بكر، فتحت له وبشرته بالجنة، قال: ثم استفتح رجل آخر، فقال: افتح له وبشره بالجنة، قال: فذهبت فإذا هو عمر، ففتحت له وبشرته بالجنة، ثم استفتح رجل آخر، قال: فجلس النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: افتح وبشره بالجنة على بلوى تكون، قال: فذهبت فإذا هو عثمان بن عفان، قال: ففتحت وبشرته بالجنة، قال: وقلت الذي قال، فقال: اللهم صبرا، أوالله المستعان". (2)
_________
(1) أحمد (6/ 155) ومسلم (4/ 1866/2401).
(2) أحمد (4/ 406) والبخاري (7/ 53/3693) ومسلم (4/ 1867/2403) والترمذي (5/ 589/3710) وقال: "هذا حديث حسن صحيح".(1/138)
بويع له بالخلافة سنة أربع وعشرين بعد دفن عمر بن الخطاب بثلاثة أيام باجتماع الناس عليه، وقتل بالمدينة يوم الجمعة لثماني عشرة أو سبع عشرة خلت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين من الهجرة.
موقفه من الرافضة:
- أخرج اللالكائي في أصول الاعتقاد بسنده إلى زيد بن أسلم عن أبيه قال: كتب عثمان بن عفان عهد الخليفة من بعد أبي بكر فأمره أن لا يسمي أحدا وترك اسم الرجل فأغمي على أبي بكر إغماءة فأخذ عثمان العهد فكتب فيه اسم عمر قال فأفاق أبو بكر فقال: أرنا العهد فإذا فيه اسم عمر فقال: من كتب هذا؟ فقال عثمان: أنا. فقال: رحمك الله وجزاك خيرا، فوالله لو كتبت نفسك لكنت لذلك أهلا. (1)
- وله بسنده إلى سليمان بن يسار: أن جهجاه الغفاري أخذ عصا عثمان التي يتخصر بها فكسرها على ركبته فوقعت في ركبته الآكلة (2).اهـ (3)
موقفه من الجهمية:
قال عثمان بن عفان: ما أحب أن يأتي علي يوم وليلة لا أنظر في كلام الله يعني القراءة في المصحف. (4)
_________
(1) أصول الاعتقاد (7/ 1403/2521).
(2) الآكلة بالمد والقصر: الحِكَّة.
(3) أصول الاعتقاد (9/ 131/70).
(4) السنة لعبد الله (ص.27 - 28).(1/139)
طلحة بن عبد الله (1) (36 هـ)
طلحة بن عبد الله بن عثمان القرشي التيمي أبو محمد. أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الثمانية الذين سبقوا إلى الإسلام، وأحد الخمسة الذين أسلموا على يد أبي بكر، وأحد الستة أصحاب الشورى، وأبلى يوم أحد بلاء حسنا. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. روى عنه بنوه يحيى وموسى وعيسى بن طلحة والسائب بن يزيد ومالك بن أوس بن الحدثان وقيس بن أبي حازم وغيرهم. أوذي في الله، ثم هاجر، فاتفق أنه غاب عن وقعة بدر في تجارة له بالشام وتألم لغيبته، فضرب له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسهمه.
عن الحسن البصري أن طلحة بن عبد الله باع أرضا له بسبع مائة ألف فبات أرقاً من مخافة ذلك حتى أصبح ففرقه.
وعن طلحة بن يحيى، حدثتني جدتي سعدى بنت عوف المرية، قالت: دخلت على طلحة يوما وهو خاثر، فقلت: مالك؟ لعلك رابك من أهلك شيء؟ قال: لا والله، ونعم حليلة المسلم أنت، ولكن مال عندي قد غمني فقلت ما يغمك؟ عليك بقومك، قال: يا غلام. ادع لي قومي فقسمه فيهم، فسألت الخازن كم أعطى؟ قال: أربعمائة ألف. استشهد رضي الله عنه يوم الجمل سنة ست وثلاثين.
_________
(1) طبقات ابن سعد (3/ 214 - 225) والاستيعاب (2/ 764 - 770) والإصابة (3/ 529 - 533) ومجمع الزوائد (9/ 147 - 150) والحلية (1/ 87 - 89) والعقد الثمين (5/ 68 - 69) والمستدرك (3/ 368 - 374) وتهذيب التهذيب (5/ 20 - 22) والبداية والنهاية (7/ 246 - 248) والسير (1/ 23 - 40) وتهذيب الكمال (13/ 412 - 424).(1/140)
موقفه من المشركين:
عن جابر بن عبد الله قال: لما كان يوم أحد وولى الناس كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ناحية في اثني عشر رجلا من الأنصار وفيهم طلحة بن عبد الله فأدركهم المشركون، فالتفت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال من للقوم؟ فقال طلحة: أنا، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كما أنت، فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله، فقال أنت، فقاتل حتى قتل ثم التفت فإذا المشركون، فقال: من للقوم؟ فقال طلحة: أنا، قال: كما أنت، فقال رجل من الأنصار: أنا، قال: أنت فقاتل حتى قتل، ثم لم يزل يقول ذلك ويخرج إليهم رجل من الأنصار فيقاتل قتال من قبله حتى يقتل حتى بقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وطلحة بن عبد الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من للقوم؟ فقال طلحة: أنا، فقاتل طلحة قتال الأحد عشر حتى ضربت يده فقطعت أصابعه فقال: حس، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو قلت بسم الله لرفعتك الملائكة والناس ينظرون ثم رد الله المشركين". (1)
موقفه من القدرية:
جاء في الإبانة (2): عن معمر عن من سمع الحسن يقول لما رمي طلحة بن عبد الله يوم الجمل؛ جعل يمسح الدم عن صدره وهو يقول: {وَكَانَ {أَمْرُ اللَّهِ
_________
(1) النسائي (6/ 337/3149) وعنه ابن السني في عمل اليوم والليلة (669). قال الذهبي في السير (1/ 27): "رواته ثقات". وأخرجه البيهقي في الدلائل (3/ 236) باختلاف يسير. ومن طريقه ابن عساكر (25/ 72 - 73)، قال الحافظ في الفتح (7/ 457): "إسناده جيد". وأخرجه مختصرا أبو نعيم في معرفة الصحابة (1/ 327). وانظر الصحيحة رقم (2171و2796).
(2) الإبانة (2/ 9/88/ 1498).(1/141)
قدرًا مقدورًا} (1).
حُذَيْفة بن اليَمَان (2) (36 هـ)
حذيفة بن اليمان حِسْل بن جابر (واليمان لقب أبيه) يكنى أبا عبد الله، أسلم هو وأبو هـ وأرادا شهود بدر فصدهما المشركون، وشهدا أحدا فاستشهد اليمان بها، قتله بعض المسلمين وهو يحسبه من المشركين. وشهد حذيفة الخندق وما بعدها. كان من كبار أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو الذي بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق ينظر إلى قريش فجاء بخبر رحيلهم. وكان عمر بن الخطاب يسأله عن المنافقين، وهو معروف في الصحابة بصاحب سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وكان عمر رضي الله عنه ينظر إليه عند موت من مات منهم، فإن لم يشهد جنازته حذيفة لم يشهدها عمر. وكان حذيفة يقول خيرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الهجرة والنصرة فاخترت النصرة.
سئل حذيفة أي الفتن أشد؟ قال: أن يعرض عليك الخير والشر فلا تدري أيهما تركب.
وقال: لا تقوم الساعة حتى يسود كل قبيلة منافقوها.
آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين حذيفة وعمار. وقد ناشده عمر: أأنا من
_________
(1) الأحزاب الآية (38).
(2) الإصابة (2/ 44 - 45) والاستيعاب (1/ 334 - 335) والحلية (1/ 270 - 383) والوافي (11/ 327 - 328) وطبقات ابن سعد (6/ 15) و (7/ 317) والسير (2/ 361 - 369) ومجمع الزوائد (9/ 325 - 326) وشذرات الذهب (1/ 44) وتهذيب التهذيب (2/ 219 - 220) والمستدرك (3/ 379 - 381) والجرح والتعديل (3/ 256).(1/142)
المنافقين؟ فقال: لا، ولا أزكي أحدا بعدك.
وقال حذيفة رضي الله عنه كان الناس يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخير، وكنت أسأله عن الشر، مخافة أن يدركني.
قال أبو نعيم: حدثنا سعد بن أوس، عن بلال بن يحيى، قال: بلغني أن حذيفة كان يقول: ما أدرك هذا الأمر أحد من الصحابة إلا قد اشترى بعض دينه ببعض. قالوا: وأنت؟ قال: وأنا والله، إني لأدخل على أحدهم -وليس أحد إلا فيه محاسن ومساوئ- فأذكر من محاسنه، وأعرض عما سوى ذلك، وربما دعاني إلى الغذاء، فأقول: إني صائم، ولست بصائم. مات رضي الله عنه بالمدائن سنة ست وثلاثين.
موقفه من المبتدعة:
- جاء في الإبانة عن قتادة قال: قال حذيفة بن اليمان: اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم، اتبعوا آثارنا فقد سبقتم سبقا بعيدا وإن أخطأتم فقد ضللتم ضلالا بعيدا. (1)
- وروى البخاري عن حذيفة رضي الله عنه قال: يا معشر القراء، استقيموا فقد سبقتم سبقا بعيدا فإن أخذتم يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا. (2)
- وفي الباعث: عن حذيفة قال: كل عبادة لا يتعبدها أصحاب رسول
_________
(1) الإبانة (1/ 2/335 - 336/ 197).
(2) البخاري (13/ 311/7282) وجامع بيان العلم وفضله (2/ 947) وأصول الاعتقاد (1/ 101/119) والإبانة (1/ 2/335/ 196) وابن وضاح (ص.41).(1/143)
الله - صلى الله عليه وسلم - فلا تعبدوها فإن الأول لم يدع للآخر مقالا، فاتقوا الله يا معشر القراء وخذوا طريق من كان قبلكم. (1)
" التعليق:
يخاطب حذيفة القراء والعلماء ويأمرهم بالتزام المنهج السلفي، الذي كان عليه صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال الحافظ عند الحديث الذي أخرجه البخاري: قوله: (سبقا بعيدا) أي: ظاهرا ووصفه بالبعد لأنه غاية شأو السابقين، والمراد أنه خاطب بذلك من أدرك أوائل الإسلام فإذا تمسك بالكتاب والسنة سبق إلى كل خير، لأن من جاء بعده إن عمل بعمله لم يصل إلى ما وصل إليه من سبقه إلى الإسلام، وإلا فهو أبعد منه حسا وحكما. وقوله: (فإن أخذتم يمينا وشمالا) أي خالفتم الأمر المذكور. وكلام حذيفة منتزع من قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (2) والذي له حكم الرفع من حديث حذيفة هذا الإشارة إلى فضل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين مضوا على الاستقامة. (3) اهـ
- وجاء في ذم الكلام: أن حذيفة رضي الله عنه لما حضرته الوفاة، دخل عليه أبو مسعود فقال له: اعهد إلينا فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحدثك بأحاديث قال: أو ما أتاك الحق اليقين؟ قال: اعلم أن من أعمى الضلالة أن
_________
(1) الباعث (70 - 71)، وعزاه إلى أبي داود ولم أجده فيه. وانظر صيانة الإنسان (ص.321) والاعتصام (2/ 630).
(2) الأنعام الآية (153).
(3) فتح الباري (13/ 257).(1/144)
تعرف ما كنت تنكر، وأن تنكر ما كنت تعرف، وإياك والتلون في دين الله فإن دين الله واحد. (1)
" التعليق:
رضي الله عن هذا الصحابي الجليل حيث أشار إلى أظهر صفات المبتدعة، وهي التلون والتقلب، وأما السلفي فتجده ثابتا في عقيدته، ثابتا في اتباعه للرسول - صلى الله عليه وسلم -، ملتزما بذلك، يقف مع الدليل ويتحرك معه ولا يحيد عنه قيد أنملة.
- وفي الإبانة: عن سعد بن حذيفة عن أبيه، قال: من فارق الجماعة شبرا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه. (2)
- وروى البخاري عن أبي وائل عن حذيفة بن اليمان قال: إن المنافقين اليوم شر منهم على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، كانوا يومئذ يسرون واليوم يجهرون. (3)
" التعليق:
قال ابن بطال: إنما كانوا شرا ممن قبلهم لأن الماضين كانوا يسرون قولهم فلا يتعدى شرهم إلى غيرهم، وأما الآخرون فصاروا يجهرون بالخروج على الأئمة ويوقعون الشر بين الفرق فيتعدى ضررهم لغيرهم. (4)
_________
(1) ذم الكلام (ص.159) والإبانة (2/ 3/504 - 505/ 572) وأصول الاعتقاد (1/ 101/120) وجامع بيان العلم وفضله (2/ 933).
(2) الإبانة (1/ 2/290/ 122) والسنة للخلال (1/ 87).
(3) البخاري (13/ 86/7113). وانظر: ذم الكلام (ص.43) وحلية الأولياء (1/ 280) وطبقات الحنابلة (1/ 55).
(4) الفتح (13/ 74).(1/145)
- وأخرج ابن أبي شيبة عن حذيفة قال: لا تضرك الفتنة ما عرفت دينك، إنما الفتنة إذا اشتبه عليك الحق والباطل فلم تدر أيهما تتبع فتلك الفتنة. (1)
- وعنه أيضا: أخوف ما أخاف على الناس اثنتان: أن يؤثروا ما يرون على ما يعلمون، وأن يضلوا وهم لا يشعرون. قال سفيان: وهو صاحب البدعة. (2)
- وعنه أيضا: أنه أخذ حجرين، فوضع أحدهما على الآخر، ثم قال لأصحابه: هل ترون ما بين هذين الحجرين من النور؟ قالوا: يا أبا عبد الله، ما نرى بينهما من النور إلا قليلا. قال: والذي نفسي بيده، لتظهرن البدع حتى لا يرى من الحق إلا قدر ما بين هذين الحجرين من النور، والله، لتفشون البدع حتى إذا ترك منها شيء، قالوا: تركت السنة. (3)
- وعنه أنه قال: أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخر ما تفقدون الصلاة، ولتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، وليصلين نساؤكم وهن حيض، ولتسلكن طريق من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، وحذو النعل بالنعل، لا تخطئون طريقهم، ولا تخطئ بكم، وحتى تبقى فرقتان من فرق كثيرة، تقول إحداهما: ما بال الصلوات الخمس، لقد ضل من كان قبلنا، إنما قال الله:
_________
(1) ابن أبي شيبة (15/ 70).
(2) ابن وضاح في البدع (ص.81) وأبو نعيم في الحلية (1/ 278).
(3) ابن وضاح في البدع (ص.124).(1/146)
{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} (1)، لا تصلون إلا ثلاثا، وتقول الأخرى: إنا مؤمنون بالله كإيمان الملائكة، ما فينا كافر ولا منافق، حق على الله أن يحشرهما مع الدجال. (2)
- عن قتادة أن حذيفة قال: لتركبن سنن بني إسرائيل حذو القذة بالقذة وحذو الشبر بالشبر حتى لو فعل رجل من بني إسرائيل كذا وكذا فعله رجل من هذه الأمة. فقال له رجل: قد كان في بني إسرائيل قردة وخنازير، قال: وهذه الأمة سيكون فيها قردة وخنازير. (3)
- عن أبي عبد الله الفلسطيني قال: حدثني عبد العزيز أخو حذيفة عن حذيفة بن اليمان، قال: أول ما تفقدون من دينكم الخشوع وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة وليصلين النساء وهن حيض ولينقضن الإسلام عروة عروة ولتركبن طريق من كان قبلكم حذو النعل بالنعل وحذو القذة بالقذة لا تخطئون طريقهم ولا يخطأ بكم. (4)
موقفه من المشركين:
- عن عزرة قال: دخل حذيفة على مريض فرأى في عضده سيرا، فقطعه أو انتزعه، ثم قال: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} (5).
_________
(1) هود الآية (114).
(2) الحاكم (4/ 469) وصححه ووافقه الذهبي. وابن وضاح في البدع (125 - 126) وابن بطة في الإبانة (1/ 1/174 - 175/ 8).
(3) الإبانة (2/ 4/571/ 715).
(4) الإبانة (2/ 4/571/ 716).
(5) تفسير ابن أبي حاتم (7/ 2208) والإبانة (2/ 6/743/ 1030).(1/147)
- قال حذيفة: لا تقوم الساعة حتى تنصب فيها الأوثان وتعبد. يعني في المحاريب. (1)
- وروى أبو بكر الخلال، بإسناده عن محمد بن سيرين، أن حذيفة بن اليمان أتى بيتا، فرأى فيه حارستان: فيه أباريق الصفر والرصاص، فلم يدخله. وقال من تشبه بقوم فهو منهم. وفي لفظ آخر: فرأى شيئا من زي العجم فخرج وقال: من تشبه بقوم فهو منهم. (2)
موقفه من الجهمية:
- جاء في السنة لعبد الله: عن حذيفة {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} (3) قال: النظر إلى وجه الله. (4)
- عن ربعي أنه سمع حذيفة بن اليمان سمع رجلا يقول: اللهم اجعلني ممن تصيبه شفاعة محمد، فقال: إن الله عز وجل يغني المؤمنين عن شفاعة محمد ولكن الشفاعة للمذنبين من المؤمنين والمسلمين. (5)
موقفه من الخوارج:
عن حذيفة قال: إني لأعلم أهل دينين أهل ذينك الدينين في النار، قوم يقولون: إنما الإيمان كلام، وقوم يقولون: ما بال الصلوات الخمس وإنما هما
_________
(1) ما جاء في البدع (176).
(2) الاقتضاء (1/ 318).
(3) يونس الآية (26).
(4) السنة لعبد الله (60) وأصول الاعتقاد (3/ 507 - 508/ 784) والشريعة (2/ 14/632).
(5) الشريعة (2/ 150/837) وأصول الاعتقاد (6/ 1181 - 1182/ 2085).(1/148)
صلاتان. (1)
موقفه من المرجئة:
- عن حذيفة قال: أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخر ما تفقدون الصلاة، ولتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، وليصلين نساؤكم وهن حيض، ولتسلكن طريق من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، وحذو النعل بالنعل، لا تخطئون طريقهم، ولا تخطئ بكم، وحتى تبقى فرقتان من فرق كثيرة، تقول إحداهما: ما بال الصلوات الخمس، لقد ضل من كان قبلنا، إنما قال الله: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} (2)، لا تصلون إلا ثلاثا، وتقول الأخرى: إنا مؤمنون بالله كإيمان الملائكة، ما فينا كافر ولا منافق، حق على الله أن يحشرهما مع الدجال. (3)
جاء في الإبانة: عن قيس بن السكن، عن حذيفة، قال: يأتي على الناس زمان لو رميت بسهم يوم الجمعة لم يصب إلا كافرا أو منافقا. (4)
وفيها: عن أبي يحيى قال: سئل حذيفة ما النفاق؟ قال: الذي يصف الإسلام ولا يعمل به. (5)
_________
(1) السنة لعبد الله (ص.89) والإبانة (2/ 7/887/ 1229) والشريعة (1/ 308/333) والإيمان لابن أبي شيبة (65) والإيمان لأبي عبيد (ص.33).
(2) هود الآية (114).
(3) الحاكم (4/ 469) وصححه ووافقه الذهبي. وابن وضاح في البدع (125 - 126) وابن بطة في الإبانة (1/ 1/174 - 175/ 8).
(4) الإبانة (1/ 1/175/ 9).
(5) الإبانة (2/ 5/691/ 914).(1/149)
جندب الأزدي (1) (36 هـ)
جُنْدُب بن كعب بن عبد الله أبو عبد الله الأزدي الغامدي، قدم دمشق، ويقال له: جندب الخير، وهو الذي قتل المشعوذ الساحر. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن علي وسلمان رضي الله عنهما. روى عنه حارثة بن وهب الخزاعي الصحابي والحسن البصري وأبو عثمان النهدي، وأبو السابغة النهدي، وتميم بن الحارث وغيرهم، توفي سنة ست وثلاثين.
موقفه من المشركين:
عن أبي عثمان النهدي أن ساحرا كان يلعب عند الوليد بن عقبة الأمير فكان يأخذ سيفه فيذبح نفسه ولا يضره، فقام جندب إلى السيف فأخذه فضرب عنقه ثم قرأ: {أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} (2). (3)
الزُّبَيْر بن العَوَّام (4) (36 هـ)
الزبير بن العوام بن خُوَيْلِد، أبو عبد الله حواري رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وابن عمته صفية بنت عبد المطلب، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة
_________
(1) الإصابة (1/ 511 - 513) والاستيعاب (1/ 258 - 260) وتقريب التهذيب (1/ 135) والسير (3/ 175 - 177) وتهذيب الكمال (5/ 141 - 148).
(2) الأنبياء الآية (3).
(3) أخرجه الدارقطني (3/ 114) وأورده الذهبي في السير (3/ 175).
(4) الاستيعاب (2/ 510 - 516) والإصابة (2/ 553 - 557) وطبقات ابن سعد (3/ 100 - 113) والبداية والنهاية (7/ 260 - 261) والحلية (1/ 89 - 92) والمستدرك (3/ 359 - 368) والوافي (14/ 180 - 184) والسير (1/ 41 - 67) والعقد الثمين (4/ 429 - 440) ومجمع الزوائد (9/ 150 - 153) وتهذيب التهذيب (3/ 318 - 319).(1/150)
أهل الشورى، وأول من سل سيفه في سبيل الله. أسلم وهو حدث وهاجر وهو ابن ثمان عشرة سنة. شهد بدرا والمشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وروى عنه الأحنف بن قيس، وابناه عبد الله وعروة وعبد الله بن عامر وقيس بن أبي حازم.
قال الزبير: ما تخلفت عن غزوة غزاها المسلمون إلا أن أقبل فألقى ناسا يعقبون. قال الثوري: هؤلاء الثلاثة نجدة الصحابة: حمزة وعلي والزبير.
عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان على حراء فتحرك، فقال: "اسكن حراء، فما عليك إلا نبي أو صديق، أو شهيد" (1) وكان عليه أبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير، رواه مسلم. وعن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} (2) قالت لعروة: يا ابن أختي كان أبواك منهم: الزبير وأبو بكر. لما أصاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أصاب يوم أحد وانصرف عنه المشركون خاف أن يرجعوا قال: "من يذهب إثرهم؟ " فانتدب منهم سبعون رجلا، كان فيهم أبو بكر والزبير. أخرجاه (3).
_________
(1) أحمد (2/ 419) ومسلم (4/ 2880/2417) والترمذي (5/ 582/3696) وقال: "هذا حديث صحيح". والنسائي في الكبرى (5/ 59/8207).
(2) آل عمران الآية (172).
(3) البخاري (7/ 475/4077) ومسلم (4/ 1880 - 1881/ 2418 - (51 - 52)) مختصرا. وابن ماجه (1/ 46/124) مختصرا.(1/151)
عن أبي رجاء العطاردي، قال: شهدت الزبير يوما، وأتاه رجل فقال: ما شأنكم أصحاب رسول الله؟ أراكم أخف الناس صلاة، قال: نبادر الوسواس. قال جويرة بن أسماء: باع الزبير دارا له بست مائة ألف، فقيل له: يا أبا عبد الله غبنت، قال: كلا، هي في سبيل الله. قتل رضي الله عنه سنة ست وثلاثين بعد منصرفه من وقعة الجمل، قتله ابن جرموز.
موقفه من المبتدعة:
عن عبد الله بن الزبير قال: لقيني ناس من أهل العراق، فخاصموني في القرآن، فوالله ما استطعت بعض الرد عليهم وهبت المراجعة في القرآن، فشكوت ذلك إلى أبي الزبير. فقال الزبير: إن القرآن قد قرأه كل قوم فتأولوه على أهوائهم وأخطئوا مواضعه، فإن رجعوا إليك فخاصمهم بسنن أبي بكر وعمر رحمهما الله، فإنهم لا يجحدون أنهما أعلم بالقرآن منهم، فلما رجعوا فخاصمتهم بسنن أبي بكر وعمر فوالله ما قاموا معي ولا قعدوا. (1)
" التعليق:
لا شك أن دراسة التراث السلفي تراث الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما يورث الهداية إلى سبيل الرشاد، وترك ذلك والاعتناء بما قاله الخلف، يورث كل حيرة وضلالة، فرضي الله عن هذا الصحابي الجليل الذي أرشدنا لهذا الموروث العظيم.
_________
(1) الإبانة (2/ 4/620/ 811) والفقيه والمتفقه (1/ 560 - 561) بنحوه مختصرا.(1/152)
موقفه من المشركين:
أخرج أبو نعيم في الحلية بسنده إلى أبي الأسود: قال أسلم الزبير بن العوام وهو ابن ثماني سنين وهاجر وهو ابن ثمان عشرة سنة، كان عم الزبير يعلق الزبير في حصير ويدخن عليه بالنار ويقول ارجع إلى الكفر فيقول الزبير لا أكفر أبدا. (1)
موقفه من الجهمية:
أخرج اللالكائي في أصول الاعتقاد: عن الزبير بن العوام أنه سئل بوجه الله فقال: أعطه فإنه بوجه الله سأل لا بوجه الخلق. (2)
سَلْمَان الفارسي (3) (36 هـ)
سلمان ابن الإسلام، ويقال له: سلمان الخير، أبو عبد الله الفارسي. سابق الفرس إلى الإسلام، صحب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وخدمه وحدث عنه. كان لبيبا حازما، من عقلاء الرجال وعبادهم ونبلائهم. كان قد سمع بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سيبعث فخرج في طلب ذلك فأسر، وبيع بالمدينة فاشتغل بالرق، حتى كان أول مشاهده الخندق، وشهد بقية المشاهد. روى عنه ابن عباس، وأنس بن مالك، وأبو الطفيل، وشرحبيل ابن السمط، وعبد الرحمن بن يزيد النخعي.
_________
(1) الحلية (1/ 89).
(2) أصول الاعتقاد (3/ 458/692).
(3) الاستيعاب (2/ 634 - 638) والإصابة (3/ 141 - 142) والسير (1/ 505 - 558) والجرح والتعديل (4/ 296 - 297) وتاريخ بغداد (1/ 163 - 171) وأسد الغابة (2/ 510 - 515).(1/153)
قال كعب الأحبار: سلمان حشي علما وحكمة. قال ابن عبد البر: كان خيّرا فاضلا حبرا عالما زاهدا متقشفا. توفي سنة ست وثلاثين.
موقفه من المبتدعة:
- جاء في الإبانة عن عبد الله بن ربيعة عن سلمان أنه قال: لا يزال الناس بخير ما بقي الأول حتى يعلم الآخر، فإذا هلك الأول قبل أن يعلم الآخر هلك الناس. (1)
- وروى الدارمي عن أبي صادق قال: قال سلمان: لو وضع رجل رأسه على الحجر الأسود فصام النهار وقام الليل لبعثه الله يوم القيامة مع هواه. (2)
موقفه من المرجئة:
- عن عبد الله بن) هبيره (النصري قال: كتب أبو الدرداء إلى سلمان: أن هلم إلى الأرض المقدسة. وكان أبو الدرداء يلي القضاء بالشام، فكتب إليه سلمان: الأرض لا تقدس أحدا إنما يقدس المرء عمله. (3)
- عن طارق بن شهاب الأحمسي عن سلمان قال: إن مثل الصلوات الخمس كمثل سهام الغنيمة، فمن يضرب فيها بخمسة خير ممن يضرب فيها بأربعة، ومن يضرب فيها بأربعة خير ممن يضرب فيها بثلاثة، ومن يضرب فيها بثلاثة خير ممن يضرب فيها بسهمين، ومن يضرب فيها بسهمين خير
_________
(1) الإبانة (1/ 1/204/ 42).
(2) سنن الدارمي (1/ 92).
(3) أصول الاعتقاد (5/ 1019/1718).(1/154)
ممن يضرب فيها بسهم، وما جعل الله من له سهم في الإسلام كمن لا سهم له. (1)
موقفه من القدرية:
- جاء في الإبانة: عن أبي الحجاج (رجل من الأزد)؛ قال: سألت سلمان: كيف الإيمان بالقدر يا أبا عبد الله؟ قال: أن يعلم الرجل من قبل نفسه أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه؛ فذاك الإيمان بالقدر. (2)
- عن أبي نعامة السعدي قال: كنا عند أبي عثمان فحمدنا الله ودعونا، فقلت: لأنا بأول هذا الأمر أشد فرحا مني بآخره. فقال: ثبتك الله. كنا عند سلمان فحمدنا الله ودعوناه وذكرناه، فقلت لأنا بأول هذا الأمر أشد فرحا مني بآخره. فقال سلمان: ثبتك الله. إن الله لما خلق آدم مسح ظهره فأخرج منه ما هو ذاري إلى يوم القيامة، فكتب الآجال والأرزاق والأعمال والشقوة والسعادة. فمن علم السعادة فعل الخير ومجالس الخير. ومن علم الشقاوة فعل الشر ومجالس الشر. (3)
_________
(1) مصنف ابن أبي شيبة (6/ 165/30367).
(2) الإبانة (2/ 9/170/ 1653) وأصول الاعتقاد (4/ 749/1240) والشريعة (1/ 406/472).
(3) أصول الاعتقاد (4/ 749 - 750/ 1241) والإبانة (2/ 9/169 - 170/ 1652) والشريعة (1/ 405/469).(1/155)
عمَّار بن يَاسِر (1) (37 هـ)
عمار بن ياسر بن عامر الإمام الكبير، أبو اليقظان، العنسي المكي مولى بني مخزوم، أحد السابقين الأولين والأعيان البدريين، أمه هي سمية مولاة بني مخزوم من كبار الصحابيات أيضا.
قال أبو عمر رحمه الله: كان عمار وأمه سمية ممن عذب في الله، ثم أعطاهم عمار ما أرادوا بلسانه، واطمأن بالإيمان قلبه، فنزلت فيه: {إِلًّا َمنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان} (2) وهذا مما اجتمع أهل التفسير عليه.
وكان عمار ممن هاجر إلى الحبشة وممن صلى القبلتين، شهد بدرا والمشاهد كلها، وشهد اليمامة فأبلى فيها ويومئذ قطعت أذنه.
له عدة أحاديث، روى عنه علي وابن عباس وأبو موسى الأشعري وأبو أمامة الباهلي وغيرهم.
وأخرج الحاكم عن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بعمار وأهله وهم يعذبون فقال: "صبرا آل عمار وآل ياسر فإن موعدكم الجنة". (3)
وأخرج الإمام أحمد والحاكم عن خالد بن الوليد قال: كان بيني وبين
_________
(1) طبقات ابن سعد (3/ 246 - 264) والإصابة (4/ 575 - 576) والاستيعاب (3/ 1135 - 1141) والبداية والنهاية (7/ 311 - 312) والحلية (1/ 139 - 143) والسير (1/ 406 - 428) وتاريخ بغداد (1/ 150 - 153) ومجمع الزوائد (9/ 291 - 298) والعقد الثمين (6/ 279 - 280) وشذرات الذهب (1/ 45) والوافي (2/ 376 - 378).
(2) النحل الآية (106).
(3) الحاكم (3/ 388 - 389) وقال: "صحيح على شرط مسلم" ووافقه الذهبي. والطبراني في الأوسط (2/ 304 - 305/ 1531) وذكره الهيثمي في المجمع (9/ 296) وقال: "رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح، غير إبراهيم بن عبد العزيز المقوم وهو ثقة".(1/156)
عمار كلام، فأغلظت له، فشكاني إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "من عادى عمارا عاداه الله، ومن أبغض عمارا أبغضه الله فخرجت، فما شيء أحب إلي من رضى عمار، فلقيته فرضي" (1).
توفي رضي الله عنه سنة سبع وثلاثين.
موقفه من المبتدعة:
- جاء في السير: قال الشعبي: سئل عمار عن مسألة فقال: هل كان هذا بعد؟ قالوا: لا. قال: فدعونا حتى يكون، فإذا كان تجشمناه لكم. (2)
- وروى ابن وضاح عن عمار بن ياسر قال: يأتي على الناس زمان خير دينهم دين الأعراب. قال: ومم ذاك؟ قال: تحدث أهواء وبدع يحضون عنها. (3)
موقفه من المشركين:
- قال الذهبي في السير: قيل: لم يسلم أبوا أحد من السابقين المهاجرين سوى عمار وأبي بكر. (4)
- وعن عثمان بن عفان قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لأبي عمار
_________
(1) أحمد (4/ 89 - 90) والطبراني (4/ 113 - 114/ 3835) والحاكم (3/ 390 - 391) وقال: "صحيح الإسناد على شرط الشيخين" ووافقه الذهبي. ابن حبان (15/ 556 - 557/ 7081 الإحسان). وذكره الهيثمي في المجمع (9/ 296) وقال: "رواه أحمد والطبراني ورجاله رجال الصحيح".
(2) سير إعلام النبلاء (1/ 423).
(3) ابن وضاح (ص.171).
(4) السير (1/ 410).(1/157)
وأم عمار: اصبروا آل ياسر موعدكم الجنة. (1)
- وعن ابن عون عن محمد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لقي عمارا وهو يبكي، فجعل يمسح عن عينيه وهو يقول: أخذك الكفار فغطوك في الماء فقلت كذا وكذا فإن عادوا فقل ذاك لهم. (2)
- وعن عمر بن الحكم قال: كان عمار بن ياسر يعذب حتى لا يدري ما يقول، وكان صهيب يعذب حتى لا يدري ما يقول ... وقوم من المسلمين وفيهم نزلت هذه الآية: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا} (3).اهـ (4)
- وعن أبي رزين، عن عبد الله بن مسعود، عنه، قال: إن أبا جهل طعن بحربة في فخذ سمية أم عمار حتى بلغت فرجها فماتت، فقال عمار: يا رسول الله، بلغ منا -أو بلغ منها- العذاب كل مبلغ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، صبرا أبا اليقظان، اللهم لا تعذب أحدا من آل ياسر بالنار. (5)
_________
(1) رواه الطبراني (24/ 303/769) من حديث عثمان بن عفان. وذكره الهيثمي في المجمع (9/ 293) وقال: "ورجاله ثقات وله شاهد رواه الطبراني في الأوسط (2/ 304 - 305/ 1531) من طريق إبراهيم بن عبد العزيز المقوم، قال حدثنا مسلم بن إبراهيم قال حدثنا هشام الدستوائي، عن أبي الزبير عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بعمار ابن ياسر وبأهله وهم يعذبون في الله عز وجل، فقال: أبشروا آل ياسر موعدكم الجنة. وقال: لم يرو هذا الحديث عن أبي الزبير إلا هشام، ولا عن هشام إلا مسلم تفرد به إبراهيم بن عبد العزيز. وذكره الهيثمي في المجمع (9/ 293) وقال: "رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح غير إبراهيم بن عبد العزيز المقوم وهو ثقة".
(2) طبقات ابن سعد (3/ 249).
(3) النحل الآية (110).
(4) طبقات ابن سعد (3/ 248).
(5) أخرجه ابن عبد البر في الاستيعاب (4/ 1864).(1/158)
" التعليق:
لقد شرف الله هذه الأسرة المباركة بهذه المواقف العظيمة، فكانت في الثبات على عقيدة التوحيد الخالص، وإيثار الآخرة على الدنيا، واسترخاص المهج في سبيل ذلك.
موقفه من الرافضة:
- عن عمرو بن غالب أن رجلا نال من عائشة رضي الله عنها عند عمار بن ياسر فقال: اغرب مقبوحا منبوحا أتؤذي حبيبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (1)
- عن ابن أبي الهذيل قال: قال عمار بن ياسر: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر. (2)
- وعنه أيضا، عن عمار بن ياسر قال: من فضل على أبي بكر وعمر أحدا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أزرى على اثني عشر ألفا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (3)
موقفه من المرجئة:
عن صلة بن زفر، عن عمار قال: ثلاث من كن فيه فقد استكمل الإيمان، إنصاف من نفسه، والإنفاق من الإقتار، وبذل السلام للعالم. (4)
_________
(1) الشريعة (3/ 475/1945). وهو عند الترمذي (5/ 664/3888) قال الذهبي في السير (2/ 179): "صححه في بعض النسخ، وفي بعض النسخ: هذا حديث حسن".
(2) أصول الاعتقاد (7/ 1407 - 1408/ 2533).
(3) أصول الاعتقاد (8/ 1449/2610).
(4) أصول الاعتقاد (5/ 1016 - 1017/ 1713) والإيمان لابن أبي شيبة (131) وهو في المصنف (6/ 172/30440) وهو عند البخاري معلقا في كتاب الإيمان باب: إفشاء السلام من الإسلام (1/ 111 الفتح).(1/159)
خبَّاب بن الأَرَتّ (1) (37 هـ)
خباب بن الأرت بن جَنْدَلة، كان فاضلا من السابقين الأولين، من أوائل من أظهر إسلامه وعذب لأجل ذلك عذابا شديدا، شهد بدرا وما بعدها من المشاهد مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، يكنى أبا يحيى، وقيل يكنى أبا عبد الله وقيل أبا محمد. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. روى عنه مسروق بن الأجدع وأبو أمامة صدي ابن عجلان، وعلقمة بن قيس النخعي وابنه عبد الله بن خباب وأبو وائل شقيق بن سلمة وغيرهم.
قال مجاهد: أول من أظهر إسلامه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأبو بكر، وخباب، وبلال، وصهيب، وعمار.
وعن الشعبي قال: سأل عمر خبابا عما لقي من المشركين، فقال: يا أمير المؤمنين، انظر إلى ظهري، فنظر، فقال ما رأيت كاليوم. قال خباب: لقد أوقدت لي نار وسحبت عليها فما أطفأها إلا ودك ظهري. وعن أبي ليلى الكندي قال: قال عمر لخباب: "ادن، فما أحد أحق بهذا المجلس منك إلا عمار، قال: فجعل يريه بظهره شيئا يعني من آثار تعذيب قريش له" رواه ابن ماجه (2).
توفي رضي الله عنه بالكوفة سنة سبع وثلاثين وصلى عليه علي رضي الله عنه.
_________
(1) البداية (7/ 310) والإصابة (2/ 258 - 259) والاستيعاب (2/ 437 - 439) والطبقات لابن سعد (3/ 164 - 167) ومجمع الزوائد (9/ 298 - 299) والسير (2/ 323 - 324) والحلية (1/ 143 - 147) وتهذيب التهذيب (3/ 133 - 134) وشذرات الذهب (1/ 47) والعقد الثمين (4/ 300) والجرح والتعديل (3/ 395) وتهذيب الكمال (8/ 219 - 220).
(2) ابن ماجه (1/ 54/153) قال البوصيري في الزوائد: "هذا إسناد صحيح".(1/160)
موقفه من المبتدعة:
- روى ابن وضاح عن عبد الله بن خباب قال: بينما نحن في المسجد ونحن جلوس مع قوم نقرأ السجدة ونبكي فأرسل إلي أبي، فوجدته قد احتجز معه هراوة له فأقبل علي فقلت: يا أبت مالي مالي؟ قال: ألم أرك جالسا مع العمالقة ثم قال: هذا قرن خارج الآن. (1)
- وعن صالح أبي الخليل قال: مر خباب بابنه وهو مع أناس يجادلون في القرآن فانقلب غضبان فأعد له سوطا أو خطاما أو نسعة، فلما انقلب الفتى وثب عليه من غير أن يأتيه فضربه ضربا عنيفا، فلما رأى الجد من أبيه قال: قد علمت أنك إنما تريد نفسي فعلى ماذا؟ فما رد عليه شيئا فجعل يضربه فقال: يا أبت، قد أرى أنك تريد نفسي، فمه؟ قال: ألم أرك مع قوم يجادلون في القرآن؟ قال: يا أبت إني لا أعود. فكان إذا مر بهم يدعونه، قال: فيقول: لا، إلا أن تقبلوا مني ما قبل أبي من نبي الله. قال: فيقولون له: إنه قد كان بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - أمور أو أحداث. (2)
موقفه من المشركين:
- روى البخاري من حديث خباب قال: شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: "قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها فيجاء بالميشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما
_________
(1) ابن وضاح (ص.52).
(2) ابن وضاح (ص.52 - 53).(1/161)
دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون". (1)
- وعن مسروق قال: سمعت خبابا قال: جئت العاص بن وائل السهمي أتقاضاه حقا لي عنده، قال: لا أعطيك حتى تكفر بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: لا حتى تموت ثم تبعث قال: وإني لميت ثم مبعوث؟. قلت: نعم قال: إن لي هناك مالا وولدا فأقضيك فنزلت هذه الآية: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} (2). (3)
موقفه من الجهمية:
جاء في أصول الاعتقاد: عن فروة بن نوفل قال: أخذ خباب بن الأرت بيدي فقال: يا هناه تقرب إلى الله بما استطعت فإنك لست بمقترب إلى الله بشيء أحب إليه من كلامه. (4)
_________
(1) أحمد (5/ 109 و110 - 111) والبخاري (6/ 768/3612) وأبو داود (3/ 108/2649) والنسائي (8/ 592/5335) مختصرا.
(2) مريم الآية (77).
(3) البخاري (8/ 548/4732).
(4) أصول الاعتقاد (2/ 375/558) والإبانة (1/ 12/244 - 245/ 19) والشريعة (1/ 216/169) والفتاوى (3/ 175) والسنة لعبد الله (24).(1/162)
عبد الله بن خَبَّاب بن الأَرَتّ (1) (37 هـ)
ذكره الطبراني وغيره في الصحابة، وقال عبد الرحمن بن خراش: أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم -. وروى ابن منده عن زكريا بن العلاء: أول مولود ولد في الإسلام عبد الله بن الزبير، وعبد الله بن خباب، وقال أحمد بن عبد الله العجلي: عبد الله ابن خباب من كبار التابعين. وروى عن أبيه، وأبي بن كعب وحدث عنه سماك بن حرب، وعبد الله بن الحارث. قتله الخوارج وهو متوجه إلى الكوفة هو وامرأته وولده. وذلك سنة سبع وثلاثين.
موقفه من المبتدعة:
روى ابن وضاح عن صالح أبي الخليل قال: مر خباب بابنه وهو مع أناس يجادلون في القرآن فانقلب غضبان فأعد له سوطا أو خطاما أو نسعة، فلما انقلب الفتى وثب عليه من غير أن يأتيه فضربه ضربا عنيفا، فلما رأى الجد من أبيه قال: قد علمت أنك إنما تريد نفسي فعلى ماذا؟ فما رد عليه شيئا فجعل يضربه فقال: يا أبت، قد أرى أنك تريد نفسي، فمه؟ قال: ألم أرك مع قوم يجادلون في القرآن؟ قال: يا أبت إني لا أعود. فكان إذا مر بهم يدعونه، قال: فيقول: لا، إلا أن تقبلوا مني ما قبل أبي من نبي الله. قال: فيقولون له: إنه قد كان بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - أمور أو أحداث. (2)
موقفه من الخوارج:
عن حميد بن هلال عن رجل من عبد القيس -كان مع الخوارج ثم
_________
(1) الإصابة (4/ 73) والاستيعاب (3/ 894) وأسد الغابة (3/ 322 - 324) وتهذيب الكمال (14/ 446).
(2) ابن وضاح (ص.52 - 53).(1/163)
فارقهم- قال: دخلوا قرية فخرج عبد الله بن خباب ذعرا، يجر رداءه، فقالوا: لم ترع؟ لم ترع؟ مرتين، فقال: والله لقد رعتموني قالوا: أنت عبد الله بن خباب صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم، قالوا: فهل سمعت من أبيك حديثا يحدث به عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، تحدثناه؟ قال: سمعته يقول عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنه ذكر فتنة، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي. قال: فإن أدركتها فكن عبد الله المقتول، قال أيوب: ولا أعلمه إلا قال: ولا تكن عبد الله القاتل، قالوا: أنت سمعت هذا من أبيك، يحدث به عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم، فقدموه على ضفة النهر، فضربوا عنقه، فسال دمه كأنه شراك ما اخدفر -يعني ما اختلط بالماء الدم- وبقروا أم ولده عما في بطنها. (1)
سهل بن حُنَيْف (2) (38 هـ)
سهل بن حنيف بن واهب بن العكيم، أبو عبد الله وأبو ثابت الأنصاري الأوسي العوفي شهد بدرا والمشاهد كلها، ثبت يوم أحد وبايع على الموت، وجعل ينضح بالنبل فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "نبلوا سهلا فإنه سهل" (3). وكان عمر يقول: سهل غير حزن. آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين علي. استخلفه
_________
(1) أخرجه أحمد في مسنده (5/ 110) والطبراني في الكبير (4/ 59 - 61/ 3629 - 3631) والآجري في الشريعة (1/ 165/80) واللفظ له. وأبو يعلى (13/ 176 - 177/ 7215).
(2) الاستيعاب (2/ 662 - 663) والإصابة (3/ 198) والسير (2/ 325) وشذرات الذهب (1/ 48) وتهذيب الكمال (12/ 171).
(3) ابن سعد (3/ 471) والحاكم (3/ 409).(1/164)
علي على البصرة بعد الجمل. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وزيد بن ثابت. وعنه ابناه: أبو أمامة وعبد الله وغيرهم. وحديثه في الكتب الستة. مات بالكوفة سنة ثمان وثلاثين وصلى عليه علي فكبر عليه ستا وروي خمسا. فالتفت وقال: إنه بدري.
موقفه من المبتدعة:
روى البخاري عن أبي وائل قال: قال سهل بن حنيف: يا أيها الناس اتهموا رأيكم على دينكم، لقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرددته وما وضعنا سيوفنا على عواتقنا إلى أمر يفظعنا إلا أسهلن بنا إلى أمر نعرفه غير هذا الأمر. قال: وقال أبو وائل: شهدت صفين وبئست صفون. (1)
مُعَاذ بن عَفْرَاء (2) (مات في خلافة علي بن أبي طالب)
معاذ بن الحارث بن رفاعة بن سَوَاد الأنصاريّ النجاري، المعروف بابن عفراء، وهي أمه. يروى أن معاذ بن الحارث، ورافع بن مالك الزرقي أول من أسلم من الأنصار بمكة، وشهد العقبتين جميعا، وآخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين معمر بن الحارث الجمحي، أحد البدريين، وشارك في قتل أبي جهل، وشهد المشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. له رواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في
_________
(1) البخاري (13/ 349 - 350/ 7308) ومسلم (3/ 1412/1785 [95]).
(2) الإصابة (6/ 140) وتهذيب الكمال (28/ 115 - 117) وطبقات ابن سعد (3/ 491 - 492) والاستيعاب (3/ 1408 - 1410) والسير (2/ 358).(1/165)
السنن. توفي في خلافة علي رضي الله عنه.
موقفه من المشركين:
عن عبد الرحمن بن عوف قال: بينا أنا واقف في الصف يوم بدر، فنظرت عن يميني وشمالي، فإذا أنا بغلامين من الأنصار حديثة أسنانهما تمنيت أن أكون بين أضلع منهما، فغمزني أحدهما فقال: يا عم هل تعرف أبا جهل؟ قلت: نعم، ما حاجتك إليه يا ابن أخي؟ قال: أخبرت أنه يسب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا. فتعجبت لذلك، فغمزني الآخر فقال لي مثلها، فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس فقلت: ألا إن هذا صاحبكما الذي سألتماني، فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه. ثم انصرفا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبراه. فقال: أيكما قتله؟ قال كل واحد منهما: أنا قتلته. فقال: هل مسحتما سيفيكما؟ قالا: لا. فنظر في السيفين فقال كلاكما قتله، سلبه لمعاذ ابن عمرو بن الجموح. وكانا معاذ بن عفراء ومعاذ ابن عمرو بن الجموح. (1)
شُرَحْبِيل بن السِّمْط (2) (40 هـ)
شرحبِيل بن السِّمط بن الأسود، أبو يزيد، ويقال: أبو السِّمط. وفد على النبي - صلى الله عليه وسلم - فأسلم، وشهد القادسية. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وسلمان وعبادة
_________
(1) أحمد (1/ 192 - 193) والبخاري (6/ 303/3141) ومسلم (3/ 1372/1752).
(2) الإصابة (3/ 329 - 331) وأسد الغابة (2/ 2411) والاستيعاب (2/ 699 - 700) وتهذيب الكمال (12/ 418 - 421) والجرح والتعديل (4/ 1484).(1/166)
وعمر بن الخطاب. روى عنه بكر بن سوادة الجذامي، وجبير بن نفير الحضرمي، ومكحول الشامي. مات سنة أربعين.
موقفه من المبتدعة:
نقل الهروي في ذم الكلام عن أبي إدريس الخولاني قال: كنا في بعض المغازي وعلينا شرحبيل بن السمط، فأصابنا ذات ليلة خوف فحضرت صلاة الصبح فأمرنا أن نصلي على دوابنا إيماء برؤوسنا ففعلنا إلا الأشتر (1)، إنه نزل من بيننا فصلى، فمر به شرحبيل، فقال: مخالف خالف الله بك. (2)
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (3) (40 هـ)
علي بن أبي طالب بن عبد المطلب أمير المؤمنين أبو الحسن الهاشمي ويكنى أيضا أبا تراب، أحد السابقين الأولين، ربي في حجر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يفارقه، شهد بدرا وما بعدها إلا غزوة تبوك. فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - بسبب تأخيره له بالمدينة: "ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى" (4) وكان اللواء بيده في أكثر المشاهد. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيرا. وروى عنه ولداه الحسن
_________
(1) هو مالك بن الحارث النخعي الكوفي مخضرم، شهد اليرموك وغيرها، توفي سنة (37هـ).
(2) ذم الكلام (2/ 385 طبعة الأنصاري).
(3) الإصابة (4/ 564 - 570) والاستيعاب (3/ 1089 - 1133) والطبقات لابن سعد (3/ 19 - 40) والمعرفة والتاريخ (1/ 274 - 275) والحلية (1/ 61 - 87) والكامل لابن الأثير (3/ 387 - 402) وتذكرة الحفاظ (1/ 10 - 13) والفكر السامي (1/ 179 - 181) وشذرات الذهب (1/ 49 - 51).
(4) أحمد (1/ 182 - 183) والبخاري (8/ 141/4416) ومسلم (4/ 1870/2404) والترمذي (5/ 596/3724) وقال: "هذا حديث حسن صحيح غريب". والنسائي (5/ 44/8141) وابن ماجه (1/ 42 - 43/ 115).(1/167)
والحسين وابن مسعود وأبو موسى وابن عباس وأبو سعيد وطارق بن شهاب وغيرهم. قال ابن مسعود: كنا نتحدث أن أقضى أهل المدينة علي. وقال ابن عباس: إذا حدثنا ثقة بفتيا عن علي لم نتجاوزها. وعن جسرة قالت: ذكر عن عائشة صوم عاشوراء، فقالت: من يأمركم بصومه؟ قالوا: علي، قالت: أما إنه أعلم من بقي بالسنة. وقال مسروق: انتهى علم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عمر وعلي وعبد الله. وقال أحمد: ما ورد لأحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الفضائل ما ورد لعلي رضي الله عنه.
قال الحسن بن صالح بن حي: تذاكروا الزهاد عند عمر بن عبد العزيز رحمه الله، فقال: أزهد الناس في الدنيا علي بن أبي طالب. وقال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -:_"من كنت مولاه فعلي مولاه". (1) وقال - صلى الله عليه وسلم -: يوم خيبر: "لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه، فأعطاها عليا رضي الله عنه" رواه الشيخان (2). أجمع المسلمون على أنه قتل شهيدا، وما على وجه الأرض بدري أفضل منه، ضربه ابن ملجم المرادي صبيحة سابع عشرة من رمضان سنة أربعين من الهجرة بالكوفة.
_________
(1) أحمد (4/ 368) والترمذي (5/ 591/3713) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي في الكبرى (5/ 134/8478) الحاكم (3/ 109 - 110) وقال: "صحيح على شرط الشيخين" أورده الذهبي بقوله: لم يخرجا لمحمد، وقد وهاه السعدي. كلهم من طريق أبي الطفيل عن زيد بن أرقم، وفي الباب عن سعد بن أبي وقاص وبريدة ابن الحصيب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس وغيرهم، وقد استوفى البحث فيه الشيخ الألباني رحمه الله في الصحيحة (1750).
(2) أحمد (5/ 333) والبخاري (6/ 137 - 138/ 2942) ومسلم (4/ 1872/2406) وأبو داود (4/ 69/3661) مختصرا. والنسائي في الكبرى (5/ 46/8149).(1/168)
موقفه من المبتدعة:
- جاء في أصول الاعتقاد: قال علي رضي الله عنه: سيأتي قوم يجادلونكم، فخذوهم بالسنن فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله. (1)
- وعن مروان بن الحكم قال: شهدت عثمان وعليا رضي الله عنهما، وعثمان ينهى عن المتعة وأن يجمع بينهما، فلما رأى علي، أهلَّ بهما: لبيك بعمرة وحجة، قال: ما كنت لأدع سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - لقول أحد. (2)
- وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن الزبير قال: والله إنا لمع عثمان بن عفان بالجحفة، ومعه رهط من أهل الشام، فيهم حبيب بن مسلمة الفهري إذ قال عثمان -وذكر له التمتع بالعمرة إلى الحج- إن أتم للحج والعمرة أن لا يكونا في أشهر الحج، فلو أخرتم هذه العمرة حتى تزوروا هذا البيت زورتين كان أفضل، فإن الله تعالى قد وسع في الخير، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه في بطن الوادي يعلف بعيرا له، قال: فبلغه الذي قال عثمان، فأقبل حتى وقف على عثمان رضي الله عنه فقال: أعمدت إلى سنة سنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورخصة رخص الله تعالى بها للعباد في كتابه تضيق عليهم فيها وتنهى عنها، وقد كانت لذي الحاجة ولنائي الدار؟ ثم أهل بحجة وعمرة معا، فأقبل عثمان على الناس رضي الله عنه فقال: وهل نهيت عنها أني لم أنه عنها؟ إنما كان رأيا أشرت به، فمن شاء أخذ به ومن شاء تركه. (3)
_________
(1) أصول الاعتقاد (1/ 139/203).
(2) أحمد (1/ 92) بنحوه. والبخاري (3/ 538/1563) واللفظ له. والنسائي (5/ 162/2722). وأخرجه مسلم (2/ 897/1223 [159]) عن سعيد ابن المسيب.
(3) أحمد (1/ 92).(1/169)
" التعليق:
قال الذهبي: وفيه أن مذهب الإمام علي كان يرى مخالفة ولي الأمر لأجل متابعة السنة، وهذا حسن لمن قوي، ولم يؤذه إمامه، فإن آذاه، فله ترك السنة، وليس له ترك الفرض، إلا أن يخاف السيف. (1)
وقال الحافظ في الفتح: وفيه جواز الاستنباط من النص لأن عثمان لم يخف عليه أن التمتع والقران جائزان، وإنما نهى عنهما ليعمل بالأفضل كما وقع لعمر، لكن خشي علي أن يحمل غيره النهي على التحريم فأشاع جواز ذلك، وكل منهما مجتهد مأجور. (2)
أقول: الله أكبر ما أعظم هذا الموقف، علي بن أبي طالب يخالف أمير المؤمنين عثمان لنص ثبت عنده عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فما بال المبتدعة الذين ثبتت عندهم نصوص متعددة يقولون حسبنا قول فلان وفلان!!
- وفي أصول الاعتقاد عن فاطمة بنت الحسين عن علي قال: إياكم والخصومة فإنها تمحق الدين. (3)
- وأخرج ابن بطة عن الحارث بن سويد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لا يزال الناس ينقصون حتى لا يبقى أحد يقول الله الله. قال أبو أسامة: معناه يستعلن به. (4)
_________
(1) السير (21/ 409 - 410).
(2) الفتح (3/ 542).
(3) أصول الاعتقاد (1/ 143/211).
(4) الإبانة (1/ 1/179/ 13).(1/170)
- وعن زاذان قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لا تقوم الساعة حتى تكون هذه الأمة على بضع وسبعين ملة كلها في الهاوية وواحدة في الجنة. (1)
- وفيها عن علي رضي الله عنه قال: من فارق الجماعة شبرا فقد نزع ربقة الإسلام من عنقه. (2)
- وفيها: عن رفيع أبي كثير، قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه يوما: سلوني عما شئتم، فقال ابن الكوا: ما السواد الذي في القمر؟ قال: فإن تلك لله، ألا سألت عما ينفعك في دينك وآخرتك ذاك محو الليل. وفيه زيادة من طريق أخرى قال أخبرنا عن قوله: {فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا} (3)؟ قال: ثكلتك أمك سل تفقها ولا تسل تعنتا سل عما يعنيك ودع ما لا يعنيك. وذكر الحديث. (4)
" التعليق:
قال ابن بطة عقبه: وهكذا كان العلماء والعقلاء إذا سئلوا عما لا ينفع السائل علمه ولا يضره جهله، وربما كان الجواب أيضا مما لا يضبطه السائل ولا يبلغه فهمه منعوه الجواب وربما زجروه وعنفوه.
_________
(1) الإبانة (1/ 1/375/ 274).
(2) الإبانة (1/ 2/289/ 120).
(3) الذاريات الآية (2).
(4) الإبانة (1/ 2/418/ 334) والشريعة (1/ 212/163).(1/171)
- وفيها أيضا: عن الشعبي قال: قال علي بن أبي طالب لرجل رآه يصحب رجلا كرهه له:
ولا تصحب أخا الجهل ... وإياك وإياه
فكم من جاهل أردى ... حليما حين آخاه
يقاس المرء بالمرء ... إذا ما هو ماشاه
وللشيء على الشيء ... مقاييس وأشباه
وللروح على الروح ... دليل حين يلقاه
وذو الحزم إذا أبصر ... ما يخشى توقاه
وذو الغفلة مغرور ... وريب الدهر يدهاه
ومن يعرف صروف الدهر ... لا يبطره نعماه
وفي رواية:
إذا أنت لم تسقم وصاحبت مسقما ... وكنت له خدنا فأنت سقيم (1)
- وروى الخطيب عن عبد الله بن لهيعة قال: كتب ابن عباس إلى علي يستحثه فكتب إليه علي مجيبا: إنه ينبغي لك أن يكون أول عملك بما أنت فيه، البصر بهداية الطريق، ولا تستوحش لقلة أهلها، فإن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا، ولم يك من المشركين، لم يستوحش مع الله في طريق الهداية إذ قل أهلها، ولم يأنس بغير الله. (2)
- وعن أبي عامر إياس بن عامر عن علي بن أبي طالب قال: إنك إن
_________
(1) الإبانة (2/ 3/465 - 466/ 461).
(2) الفقيه والمتفقه (2/ 405).(1/172)
بقيت فسترى القرآن على ثلاثة أصناف: صنف لله، وصنف للدنيا، وصنف للجدال. (1)
- عن إبراهيم التيمي حدثني أبي قال: خطبنا علي رضي الله عنه على منبر من آجر وعليه سيف فيه صحيفة معلقة فقال: والله ما عندنا من كتاب يقرأ إلا كتاب الله وما في هذه الصحيفة، فنشرها، فإذا فيها أسنان الإبل، وإذا فيها: المدينة حرم من عير إلى كذا، فمن أحدث فيها حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا. وإذا فيه: ذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا. وإذا فيها: من والى قوما بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا. (2)
- وفي سنن أبي داود عن علي بن أبي طالب قال: لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمسح على ظاهر خفيه. (3)
- وعن الأصبغ بن نباتة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: ما
_________
(1) الهروي في ذم الكلام (ص.66) والدارمي في سننه (2/ 434).
(2) أحمد (1/ 119) مختصرا، والبخاري (13/ 341 - 342/ 7300) ومسلم (2/ 1147/1370) وأبو داود (2/ 529 - 530/ 2034) والترمذي (4/ 381 - 382/ 2127) والنسائي (8/ 387 - 388/ 4748) وابن ماجه (2/ 887/2658) مختصرا.
(3) أبو داود (1/ 114 - 115/ 162 - 164). قال الحافظ في التلخيص (1/ 160): "وإسناده صحيح".(1/173)
كان رجل على رأي من البدعة فتركه، إلا إلى ما هو شر منه. (1)
- وعن أبي البختري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: إياكم والاستنان بالرجال، فإن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة، ثم ينقلب لعلم الله فيه، فيعمل بعمل أهل النار، فيموت وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار، فينقلب لعلم الله فيه، فيعمل بعمل أهل الجنة، فيموت وهو من أهل الجنة، فإن كنتم لابد فاعلين، فبالأموات لا بالأحياء. (2)
" التعليق:
قال الشاطبي: فهو إشارة إلى الأخذ بالاحتياط في الدين، وأن الإنسان لا ينبغي له أن يعتمد على عمل أحد ألبتة، حتى يتثبت فيه ويسأل عن حكمه، إذ لعل المعتمد على عمله يعمل على خلاف السنة، ولذلك قيل: لا تنظر إلى عمل العالم، ولكن سله يصدقك، وقالوا: ضعف الروية أن يكون رأى فلانا يعمل فيعمل مثله، ولعله فعله ساهيا. (3)
- وعن كميل بن زياد: أن عليا رضي الله عنه، قال: يا كميل، إن هذه القلوب أوعية، فخيرها أوعاها للخير، والناس ثلاثة: فعالم رباني: ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق ... إلى أن قال فيه: أف لحامل حق لا بصيرة له، ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة، لا يدري أين الحق،
_________
(1) ابن وضاح في البدع (ص.117) وأورده الشاطبي في الاعتصام (1/ 162 - 163).
(2) ابن بطة في الإبانة (2/ 9/136/ 1572) وابن عبد البر في الجامع (2/ 987) واللفظ له.
(3) الاعتصام (2/ 689).(1/174)
إن قال أخطأ، وإن أخطأ لم يدر، مشغوف بما لا يدري حقيقته، فهو فتنة لمن فتن به، وإن من الخير كله من عَرَّفه الله دينه، وكفى بالمرء جهلا أن لا يعرف دينه. (1)
- وروى البخاري في صحيحه عن عبيدة عن علي رضي الله عنه قال: اقضوا كما كنتم تقضون، فإني أكره الاختلاف، حتى يكون الناس جماعة أو أموت كما مات أصحابي. (2)
- وقال رضي الله عنه: وابردها على كبدي، ثلاث مرات، قالوا: يا أمير المؤمنين وما ذاك؟ قال: أن يسأل الرجل عما لا يعلم فيقول: الله أعلم. (3)
- وعنه رضي الله عنه قال: خمس إذا سافر فيهن رجل إلى اليمن كن فيه عوضا من سفره: لا يخشى عبد إلا ربه، ولا يخاف إلا ذنبه، ولا يستحي من لا يعلم أن يتعلم، ولا يستحي من يعلم إذا سئل عما لا يعلم أن يقول: الله أعلم، والصبر من الدين بمنزلة الرأس من الجسد. (4)
- وروى ابن وضاح عن أوفى بن دلهم العدوي قال: بلغني عن علي أنه قال: تعلموا العلم تعرفوا به، واعملوا به تكونوا من أهله، فإنه سيأتي من
_________
(1) أبو نعيم في الحلية (1/ 79 - 80) والخطيب في الفقيه والمتفقه (1/ 182 - 183) وابن عبد البر في الجامع (2/ 984) وذكره الشاطبي في الاعتصام (2/ 875 - 876).
(2) البخاري (7/ 89/3707).
(3) الدارمي (1/ 63) والبيهقي في المدخل (2/ 261 - 262/ 794) وابن عبد البر في الجامع (2/ 836) والخطيب في الفقيه والمتفقه (2/ 362/1104).
(4) الحلية لأبي نعيم (1/ 75 - 76) والمدخل للبيهقي (2/ 262/795) وجامع بيان العلم وفضله (1/ 383).(1/175)
بعدكم زمان ينكر الحق فيه تسعة أعشارهم لا ينجو فيه إلا كل مؤمن نُوَمَة -قال وكيع: يعني مغفلا- أولئك أئمة الهدى ومصابيح العلم ليسوا بالعجل المذاييع البذر. قال: قيل لعلي ابن أبي طالب: ما النومة؟ قال: الرجل يسكت في الفتنة فلا يبدو منه شيء. (1)
- وجاء في المنهاج لشيخ الإسلام ابن تيمية: قال علي رضي الله عنه في مفاوضة جرت بينه وبين عثمان رضي الله عنه: خيرنا أتبعنا لهذا الدين وعثمان يوافقه على ذلك، وسائر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. (2)
- وفي مقدمة ابن ماجه: عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي بن أبي طالب قال: إذا حدثتكم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثا فظنوا به الذي هو أهناه وأهداه وأتقاه. (3)
موقفه من المشركين:
- قال ابن إسحاق: ثم إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه جاء بعد ذلك بيوم وهما يصليان (4)، فقال علي: يا محمد، ما هذا؟ قال: دين الله الذي اصطفى لنفسه وبعث به رسله، فأدعوك إلى الله وحده لا شريك له وإلى عبادته وأن تكفر باللات والعزى، فقال علي: هذا أمر لم أسمع به قبل اليوم، فلست بقاض أمرا حتى أحدث به أبا طالب، فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يفشي
_________
(1) ما جاء في البدع (ص.130 - 131).
(2) المنهاج (5/ 233).
(3) مقدمة ابن ماجه (ص.20) والإبانة (1/ 1/267 - 268/ 103) والدارمي (1/ 145 - 146).
(4) يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - وزوجه خديجة رضي الله عنها.(1/176)
عليه سره قبل أن يستعلن أمره، فقال له: يا علي إذا لم تسلم فاكتم، فمكث علي تلك الليلة، ثم إن الله أوقع في قلب علي الإسلام، فأصبح غاديا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى جاءه فقال: ماذا عرضت علي يا محمد؟ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وتكفر باللات والعزى، وتبرأ من الأنداد، ففعل علي وأسلم. ومكث يأتيه على خوف من أبي طالب، وكتم علي إسلامه ولم يظهره. (1)
- وعن أبي وائل عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ أن لا تدع تمثالا إلا طمسته. ولا قبرا مشرفا إلا سويته. (2)
- روى البخاري بسنده إلى عكرمة قال: أتي علي رضي الله عنه بزنادقة فأحرقهم، فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم لنهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تعذبوا بعذاب الله. ولقتلتهم، لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من بدل دينه فاقتلوه. (3)
قال الحافظ في رواية هذا الحديث: (أتي علي) هو ابن أبي طالب تقدم في باب: "لا يعذب بعذاب الله" من كتاب الجهاد من طريق سفيان بن عيينة عن أيوب بهذا السند أن عليا حرق قوما، وذكرت هناك أن الحميدي رواه
_________
(1) البداية والنهاية (3/ 24). وذكره ابن إسحاق في سيرته (ص.118) بدون سند.
(2) أحمد (1/ 96) ومسلم (2/ 666/969) وأبو داود (3/ 548/3218) والترمذي (3/ 366/1049) والنسائي (4/ 393/2030).
(3) أحمد (1/ 217) والبخاري (6/ 184/3017) وأبو داود (4/ 520/4351) والترمذي (4/ 48/1458) والنسائي (7/ 120/4071) وابن ماجه (2/ 848/2535).(1/177)
عن سفيان بلفظ: "حرق المرتدين" ومن وجه آخر عند ابن أبي شيبة: "كان أناس يعبدون الأصنام في السر"، وعند الطبراني في الأوسط من طريق سويد ابن غفلة: "أن عليا بلغه أن قوما ارتدوا عن الإسلام، فبعث إليهم فأطعمهم ثم دعاهم إلى الإسلام، فأبوا فحفر حفيرة ثم أتى بهم، فضرب أعناقهم ورماهم فيها، ثم ألقى عليهم الحطب فأحرقهم، ثم قال: صدق الله ورسوله"، وزعم أبو المظفر الإسفراييني في الملل والنحل أن الذين أحرقهم علي طائفة من الروافض ادعوا فيه الإلهية، وهم السبائية وكان كبيرهم عبد الله بن سبأ يهوديا، ثم أظهر الإسلام، وابتدع هذه المقالة. وهذا يمكن أن يكون أصله ما رويناه في الجزء الثالث من حديث أبي طاهر المخلص من طريق عبد الله بن شريك العامري عن أبيه قال: قيل لعلي: إن هنا قوما على باب المسجد يدعون أنك ربهم، فدعاهم فقال لهم: ويلكم ما تقولون؟ قالوا: أنت ربنا وخالقنا ورازقنا، فقال: ويلكم إنما أنا عبد مثلكم، آكل الطعام كما تأكلون وأشرب كما تشربون، إن أطعت الله أثابني إن شاء وإن عصيته خشيت أن يعذبني، فاتقوا الله وارجعوا، فأبوا. فلما كان الغد غدوا عليه، فجاء قنبر فقال: قد والله رجعوا يقولون ذلك الكلام فقال: أدخلهم فقالوا كذلك. فلما كان الثالث، قال: لئن قلتم ذلك لأقتلنكم بأخبث قتلة، فأبوا إلا ذلك، فقال: يا قنبر، ائتني بفعلة معهم مرورهم فخدَّ لهم أخدودا بين باب المسجد والقصر، وقال: احفروا فأبعدوا في الأرض، وجاء بالحطب فطرحه بالنار في الأخدود، وقال: إني طارحكم فيها أو ترجعوا، فأبوا أن يرجعوا، فقذف بهم فيها حتى إذا احترقوا قال:(1/178)
إني إذا رأيت أمرا منكرا ... أوقدت ناري ودعوت قنبرا
وهذا سند حسن. (1)
- عن عثمان الشحام، سمعه من الحسن، قال: كان أبو الحسن -يعني علي بن أبي طالب رضي الله عنه- يقول: إن كثيرا من هذه التمائم والرقى شرك بالله عز وجل فاجتنبوها. (2)
- وفي الإبانة: عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه سمع رجلا يتكلم في الله بشيء لا ينبغي، فأمر بضرب عنقه؛ فضربت عنقه. (3)
موقفه من الرافضة:
أخرج الخطيب في الكفاية بسنده إلى زيد بن وهب أن سويد بن غفلة الجعفي دخل على علي بن أبي طالب رضي الله عنه في إمارته فقال: يا أمير المؤمنين إني مررت بنفر يذكرون أبا بكر وعمر بغير الذي هما له أهل من الإسلام، لأنهم يرون أنك تضمر لهما على مثل ذلك، وإنهم لم يجترئوا على ذلك إلا وهم يرون أن ذلك موافق لك -وذكر حديث خطبة علي وكلامه في أبي بكر وعمر رضي الله عنهم وقوله في آخره ألا ولن يبلغني عن أحد يفضلني عليهما إلا جلدته حد المفتري. (4)
- عن إبراهيم النخعي عن علقمة قال: وضرب بيده على منبر الكوفة
_________
(1) فتح الباري (12/ 270).
(2) الإبانة (2/ 6/744/ 1032).
(3) الإبانة (2/ 12/42 - 43/ 235).
(4) الكفاية (376).(1/179)
فقال: خطبنا علي على هذا المنبر فذكر ما شاء أن يذكر ثم قال: ألا إنه بلغني أن ناسا يفضلوني على أبي بكر وعمر ولو كنت تقدمت في ذلك لعاقبت ولكن أكره العقوبة قبل التقدم من أتيت به من بعد مقامي قد قال شيئا من ذلك فهو مفتر، عليه ما على المفتري، ثم قال: إن خير الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر وعمر أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما. (1)
- وجاء في الشريعة: عن عبد خير قال: رأيت عليا -رضي الله عنه- صلى العصر فصف له أهل نجران صفين، فلما صلى أومأ رجل منهم فأخرج كتابا فناوله إياه، فلما قرأه دمعت عيناه، ثم رفع رأسه إليهم، فقال: يا أهل نجران، أو يا أصحابي، هذا والله خطي بيدي وإملاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالوا: يا أمير المؤمنين أعطنا ما فيه، قال: ودنوت منه، فقلت: إن كان رادا على عمر -رضي الله عنه- يوما ما فاليوم يرد عليه، فقال: لست براد على عمر اليوم شيئا صنعه، إن عمر كان رجلا رشيد الأمر، وإن عمر أخذ منكم خيرا مما أعطاكم، ولم يجر عمر -رضي الله عنه- ما أخذ منكم لنفسه، إنما جره لجماعة المسلمين. (2)
- وفيها عنه أيضا عن علي رضي الله عنه قال: سمعته يقول: رحم الله أبا بكر، هو أول من جمع القرآن بين اللوحين. (3)
_________
(1) أصول الاعتقاد (8/ 1479/2678) وفي الشريعة (3/ 422 - 423/ 1873) وفي السنة لعبد الله (242).
(2) الشريعة (3/ 25 - 26/ 1294).
(3) الشريعة (3/ 29 - 30/ 1303).(1/180)
- وفيها عن سويد بن غفلة الجعفي قال: سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: أيها الناس؛ الله الله، وإياكم والغلو في عثمان رضي الله عنه وقولكم: خراق المصاحف، فوالله ما خرقها إلا عن ملاء منا أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - جمعنا فقال: ما تقولون في هذه القراءة التي قد اختلف فيها الناس، يلقى الرجل الرجل فيقول: قراءتي خير من قراءتك، وقراءتي أفضل من قراءتك، وهذا شبيه بالكفر. فقلنا: ما الرأي يا أمير المؤمنين؟ قال: أرى أن أجمع الناس على مصحف واحد، فإنكم إن اختلفتم اليوم كان من بعدكم أشد اختلافا. فقلنا: فنعم ما رأيت. فأرسل إلى زيد بن ثابت وسعيد بن العاص، فقال: يكتب أحدكما ويمل الآخر، فإذا اختلفتما في شيء فارفعاه إلي، فكتب أحدهما وأملى الآخر فما اختلفا في شيء من كتاب الله عز وجل إلا في حرف في سورة البقرة، فقال: أحدهما التابوت. وقال الآخر: التابوه، فرفعاه إلى عثمان رضي الله عنه فقال: التابوت. قال: وقال علي رضي الله عنه: لو وليت مثل الذي ولي لصنعت مثل الذي صنع. قال: فقال القوم لسويد بن غفلة: الله الذي لا إله إلا هو لسمعت هذه من علي رضي الله عنه؟ قال: الله الذي لا إله إلا هو لسمعت هذا من علي رضي الله عنه. (1)
- وفيها عن محمد بن حاطب قال: ذكروا عثمان رضي الله عنه عند الحسن بن علي رضي الله عنه فقال الحسن: هذا أمير المؤمنين علي رضي الله عنه يأتيكم الآن فاسألوه عنه، فجاء علي رضي الله عنه فسألوه عن عثمان
_________
(1) الشريعة (3/ 30/1304).(1/181)
رضي الله عنه فتلا هذه الآية (1): {ليس على الذين آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ} كلما مر بحرف من الآية قال: كان عثمان من الذين آمنوا، كان عثمان من الذين اتقوا ثم قرأ إلى قوله عز وجل: {وَاللَّهُ يحب الْمُحْسِنِينَ}. (2)
- وفيها عن أبي عبد الرحمن قال: دخل علي رضي الله عنه على عمر رضي الله عنه وقد سجي بثوبه فقال: ما أحد أحب إلي أن ألقى الله -عز وجل- بصحيفته من هذا المسجي بينكم، ثم قال: رحمك الله ابن الخطاب إن كنت بذات الله لعليما، وإن كان الله عز وجل في صدرك لعظيما، وإن كنت لتخشى الله -عز وجل- في الناس، ولا تخشى الناس في الله -عز وجل- كنت جوادا بالحق، بخيلا بالباطل، خميصا من الدنيا، بطينا من الآخرة، لم تكن عيابا ولا مداحا. (3)
- وعن عبد الله بن أبي مليكة عن ابن عباس قال: كنت في ناس نترحم على عمر حين وضع على سريره فجاء رجل من خلفي فوضع يده على منكبي فترحم عليه وقال: ما من أحد أحب أن ألقى الله بمثل عمله أحب إلي منه وإن كنت لأظن ليجعلنك الله مع صاحبيك فإني كنت كثيرا أسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: كنت أنا وأبو بكر وعمر وفعلت أنا وأبو بكر وعمر فظننت
_________
(1) سورة المائدة الآية (93).
(2) الشريعة (3/ 158 - 159/ 1505) وهو في أصول الاعتقاد (7/ 1433 - 1434/ 2574) مختصرا.
(3) الشريعة (3/ 423/1874).(1/182)
أن يجعلك الله معهما فإذا هو علي بن أبي طالب. (1)
- وفيها: قال علي رضي الله عنه: يهلك فيّ رجلان: محب مطر يقرظني بما ليس في، ومبغض مفتر يحمله شنآني على أن يبهتني. (2)
- وعنه قال: خير هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وآله وسلم أبو بكر وعمر. (3)
- وفي أصول الاعتقاد: عن إبراهيم: بلغ علي بن أبي طالب أن عبد الله ابن الأسود ينتقص أبا بكر وعمر فهم بقتله فقيل له تقتل رجلا يدعو إلى حبكم أهل البيت فقال: لا يساكني في دار أبدا. (4)
- وعن النزال بن سبرة قال: وافقنا من علي ذات يوم طيب نفس ومزاح فقلنا له: يا أمير المؤمنين حدثنا عن أصحابك خاصة قال: كل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابي قالوا: حدثنا عن أبي بكر الصديق قال: ذاك امرؤ أسماه الله صديقا على لسان جبريل ولسان محمد كان خليفة رسول الله على الصلاة رضيه لديننا ورضيناه لدنيانا. (5)
- وعن مسروق بن الضحاك مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: سمعت أبا جعفر محمد بن علي بن حسين يذكر عن أبيه قال: قال فتى من بني هاشم لعلي بن أبي طالب حين انصرف: سمعتك تخطب يا أمير المؤمنين في الجمعة
_________
(1) البخاري (3677) ومسلم (2389).
(2) الشريعة (3/ 569/2086) وأصول الاعتقاد (8/ 1480/2680) وهو في السنة لعبد الله (234) مختصرا.
(3) السنة للخلال (1/ 289).
(4) أصول الاعتقاد (7/ 1339 - 1340/ 2380).
(5) أصول الاعتقاد (7/ 1372 - 1373/ 2455) وفي الشريعة (2/ 442 - 443/ 1252).(1/183)
تقول: اللهم أصلحنا بما أصلحت به الخلفاء الراشدين فمن هم؟ قال: فاغرورقت عيناه يعني ثم انهملت على لحيته ثم قال: أبو بكر وعمر. إمامي الهدى وشيخي الإسلام والمقتدى بهما بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من اتبعهما هدي إلى صراط مستقيم ومن اقتدى بهما رشد، ومن تمسك بهما فهو من حزب الله وحزب الله هم المفلحون. (1)
- وعن سعيد بن عمرو بن سفيان عن أبيه: أن عليا خطب فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يعهد إلينا في الإمارة عهدا ولكنه رأي رأيناه فاستخلف أبو بكر رحمة الله عليه فقام واستقام حتى ضرب الدين بجرانه، ثم استخلف عمر رحمه الله فقام واستقام حتى ضرب الدين بجرانه، ثم إن قوما طلبوا الدنيا يعفو الله عن من يشاء ويعذب من يشاء. (2)
- وعن الحكم قال: سمعت أبا جحيفة وكان سيد الناس استعمله علي رضي الله عنه على الكوفة زمن الجمل فقال: سمعت عليا يقول: ألا أخبركم بخير هذه الأمة بعد نبيها؟ أبو بكر، ألا أخبركم بخيرها بعد أبي بكر؟ عمر، ألا أخبركم بخيرها بعد عمر؟ ثم سكت. (3)
- وعن ميمون بن مهران عن عبد الله بن عمر: أن عليا أتى عثمان وهو محصور فأرسل إليه أني قد جئت لأنصرك فأرسل إليه بالسلام وقال: لا حاجة لي فأخذ علي عمامته من رأسه فألقاها في الدار التي فيها عثمان وهو
_________
(1) أصول الاعتقاد (7/ 1396/2501).
(2) أصول الاعتقاد (7/ 1406/2527).
(3) أصول الاعتقاد (7/ 1406/2528).(1/184)
يقول ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب. (1)
- وعن أبي حصين أن عليا قال: لو أعلم أن بني أمية يذهب ما في نفسها لحلفت خمسين يمينا مرددة بين الركن والمقام أني لم أقتل عثمان ولم أماليء على قتله. (2)
- وعن منصور عن إبراهيم قال: جاء بشر بن جرموز إلى علي بن أبي طالب فجافاه وقال: هكذا يصنع بأهل البلاء فقال علي: بفيك الحجر: إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير ممن قال الله عز وجل: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ}. اهـ (4)
- وعن عبد الرحمن بن الشريد عن علي أنه قال: إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان من الذين قال الله عز وجل: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ}. (5)
- وعن قتادة عن مطرف بن عبد الله بن الشخير قال: لقيت علي بن أبي طالب بالبصرة يوم الجمل بالجزيرة فقال لي: ما الذي بطأك عنا؟ أحب عثمان بطأ بك عنا؟ قال: ثم حرك دابته وحركت دابتي أعتذر إليه قال: قال لي إن تحبه فقد كان خيرنا وأوصلنا للرحم. (6)
_________
(1) أصول الاعتقاد (8/ 1439/2582).
(2) أصول الاعتقاد (8/ 1440/2584).
(3) الحجر الآية (47).
(4) أصول الاعتقاد (8/ 1489 - 1490/ 2706).
(5) أصول الاعتقاد (7/ 1433/2573).
(6) أصول الاعتقاد (7/ 1434/2575).(1/185)
- وعن محمد بن الحنفية قال: قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: أبو بكر. قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر. وخشيت أن يقول عثمان، قلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين. (1)
- وعنه رضي الله عنه قال: لو سيرني عثمان إلى ضرار لسمعت وأطعت. (2)
- وعن أبي الجلاس قال: سمعت علي بن أبي طالب يقول لعبد الله السباي: والله ما أفضى إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا ولقد سمعته يقول إن بين يدي الساعة ثلاثين كذابا، وإنك لأحدهم. (3)
موقفه من الجهمية:
قال ابن تيمية في الفتاوى الكبرى: روى عبد الرحمن بن أبي حاتم بسنده إلى علي، قال: حدثنا محمد بن حجاج الحضرمي المضري حدثنا يعلى ابن عبد العزيز حدثنا عتبة بن السكن الفزاري حدثنا الفرج بن يزيد الكلاعي قال: قالوا لعلي يوم صفين: حكمت كافرا أو منافقا، قال: ما حكمت مخلوقا، ما حكمت إلا القرآن. (4)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهذا السياق يبطل تأويل من يفسر كلام
_________
(1) البخاري (3671).
(2) السنة للخلال (1/ 325).
(3) أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (كتاب الكنى في ترجمة أبي الجلاس (ص.21) وعبد الله بن أحمد بن حنبل في السنة (ص.231) وأبو يعلى في مسنده (1/ 349 - 350/ 449) وابن أبي عاصم في السنة (982) والهروي في ذم الكلام (159). وأورده الهيثمي في المجمع (7/ 333) وقال: "رواه أبو يعلى ورجاله ثقات".
(4) الفتاوى الكبرى (5/ 55 - 56) وتلبيس إبليس (ص.109) والمنهاج (2/ 251 - 252).(1/186)
السلف بأن المخلوق هو المفتري المكذوب. والقرآن غير مفترى ولا مكذوب، فانهم لما قالوا: (حكمت مخلوقا) إنما أرادوا مربوبا مصنوعا خلقه الله، لم يريدوا مكذوبا، فقوله: (ما حكمت مخلوقا) نفي لما ادعوه. وقوله: (ما حكمت إلا القرآن) نفي لهذا الخلق عنه.
- جاء في أصول الاعتقاد: عن الحارث بن سويد قال: قال علي: يذهب الناس حتى لا يبقى أحد يقول لا إله إلا الله، فإذا فعلوا ذلك ضرب يعسوب الدين ذنبه فيجتمعون إليه من أطراف الأرض كما يجتمع قرع الخريف، ثم قال علي: إني لأعرف أميرهم ومناخ ركابهم يقولون: القرآن مخلوق وليس بخالق ولا مخلوق ولكنه كلام الله منه بدأ وإليه يعود. (1)
- وفيه عن عمارة بن عبد يقول: سمعت عليا يقول: من تمام النعمة دخول الجنة والنظر إلى وجه الله تبارك وتعالى في جنته. (2)
موقفه من الخوارج:
عن عبيدة عن علي. قال: ذكر الخوارج فقال: فيهم رجل مُخْدَج اليد، أو مُودَن اليد، أو مَثْدُون اليد (3)، لولا أن تَبْطَرُوا لحدثتكم بما وعد الله الذين يقتلونهم، على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم -. قال قلت: آنت سمعته من محمد - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: إي، ورب الكعبة إي ورب الكعبة، إي ورب الكعبة. (4)
_________
(1) أصول الاعتقاد (2/ 255 - 256/ 374).
(2) أصول الاعتقاد (3/ 550/859).
(3) مخدج اليد ومودن اليد: أن ناقص اليد، ومثدون اليد: أي صغير اليد مجتمعها.
(4) أحمد (1/ 83) ومسلم (2/ 747/1066 (155)) وأبو داود (5/ 120 - 121/ 4763) وابن ماجه (1/ 59/167).(1/187)
" التعليق:
قال ابن هبيرة: فيه من الفقه توفر الثواب في قتل الخوارج، وأنه بلغ إلى أن خاف علي رضي الله عنه أن يبطر أصحابه إذا أخبرهم بثوابهم في قتلهم، وإنما ذكر هذه لئلا يرى أحد في وقت ظهور مثلهم أن قتال المشركين أولى من قتالهم، بل قتالهم على هذا الكلام أولى من قتال المشركين لأن في ذلك حفظ رأس مال الإسلام، وقتال المشركين هو طلب ربح في الإسلام. (1)
- عن سلمة بن كهيل قال: أخبرني زيد بن وهب الجهني، أنه كان في الجيش الذين كانوا مع علي رضي الله عنه الذين ساروا إلى الخوارج، فقال علي رضي الله عنه: أيها الناس، إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: يخرج قوم من أمتي يقرؤون القرآن ليست قراءتكم إلى قراءتهم شيئا، ولا صلاتكم إلى صلاتهم شيئا، ولا صيامكم إلى صيامهم شيئا يقرؤون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم، لا تجاوز صلاتهم تراقيهم، ويمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لو يعلم الجيش يصيبونهم ما قضي لهم على لسان نبيهم - صلى الله عليه وسلم - لنكلوا عن العمل، وآية ذلك أن فيهم رجلا له عضد وليست له ذراع، على عضده مثل حلمة الثدي، عليه شعرات بيض أفتذهبون إلى معاوية وأهل الشام وتتركون هؤلاء يخلفونكم في ذراريكم وأموالكم؟ والله إني لأرجو أن يكونوا هؤلاء القوم، فإنهم قد سفكوا الدم الحرام، وأغاروا في سرح الناس، فسيروا على اسم الله، قال سلمة بن كهيل: فنزلني زيد بن وهب منزلا، حتى مر بنا
_________
(1) الإفصاح (1/ 280/149).(1/188)
على قنطرة، قال: فلما التقينا وعلى الخوارج عبد الله بن وهب الراسبي فقال لهم: ألقوا الرماح وسلوا السيوف من جفونها، فإني أخاف أن يناشدوكم كما ناشدوكم يوم حروراء، قال: فوحشوا برماحهم، واستلوا السيوف، وشجرهم الناس برماحهم، قال: وقتلوا بعضهم على بعض، قال: وما أصيب من الناس يومئذ إلا رجلان، فقال علي رضي الله عنه: التمسوا فيهم المخدج، فلم يجدوا، قال: فقام علي رضي الله عنه بنفسه، حتى أتى ناسا قد قتل بعضهم على بعض، فقال: أخرجوهم، فوجدوه مما يلي الأرض، فكبر، وقال: صدق الله، وبلغ رسوله، فقام إليه عبيدة السلماني فقال: يا أمير المؤمنين،) و (الله الذي لا إله إلا هو لقد سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: إي والله الذي لا إله إلا هو، حتى استحلفه ثلاثا (1)،
وهو يحلف. (2)
- جاء في البداية والنهاية: لما بعث علي أبا موسى ومن معه من الجيش إلى دومة الجندل اشتد أمر الخوارج وبالغوا في النكير على علي وصرحوا بكفره، فجاء إليه رجلان منهم، وهما زرعة بن البرج الطائي، وحرقوص بن زهير السعدي فقالا: لا حكم إلا لله، فقال علي: لا حكم إلا لله، فقال له حرقوص: تب من خطيئتك واذهب بنا إلى عدونا حتى نقاتلهم حتى نلقى ربنا. فقال علي: فقد أردتكم على ذلك فأبيتم، وقد كتبنا بيننا وبين القوم
_________
(1) قال النووي في شرحه على مسلم (7/ 152): "إنما استحلفه ليسمع الحاضرين ويؤكد ذلك عندهم ويظهر لهم المعجزة التي أخبر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويظهر لهم أن عليا وأصحابه أولى الطائفتين بالحق، وأنهم محقون في قتالهم".
(2) مسلم (2/ 748 - 749/ 1066 (156)) وأبو داود (5/ 125/4768).(1/189)
عهودا وقد قال الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} الآية (1) فقال له حرقوص: ذلك ذنب ينبغي أن تتوب منه، فقال علي: ما هو بذنب ولكنه عجز من الرأي، وقد تقدمت إليكم فيما كان منه، ونهيتكم عنه، فقال له زرعة بن البرج: أما والله يا علي لئن لم تدع تحكيم الرجال في كتاب الله لأقاتلنك أطلب بذلك رحمة الله ورضوانه، فقال علي: تبا لك ما أشقاك كأني بك قتيلا تسفي عليك الريح، فقال: وددت أن قد كان ذلك، فقال له علي: إنك لو كنت محقا كان في الموت تعزية عن الدنيا، ولكن الشيطان قد استهواكم. فخرجا من عنده يحكمان وفشا فيهم ذلك، وجاهروا به الناس، وتعرضوا لعلي في خطبه وأسمعوه السب والشتم والتعريض بآيات من القرآن، وذلك أن عليا قام خطيبا في بعض الجمع فذكر أمر الخوارج فذمه وعابه. فقام جماعة منهم كل يقول لا حكم إلا لله، وقام رجل منهم وهو واضع إصبعه في أذنيه يقول: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (65) (2) فجعل علي يقلب يديه هكذا وهكذا وهو على المنبر ويقول: حكم الله ننتظر فيكم.
ثم قال: إن لكم علينا أن لا نمنعكم مساجدنا ما لم تخرجوا علينا، ولا نمنعكم نصيبكم من هذا الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تقاتلونا. وقال أبو مخنف عن عبد الملك عن أبي حرة؛ أن عليا لما بعث أبا موسى لإنفاذ
_________
(1) النحل الآية (91).
(2) الزمر الآية (65).(1/190)
الحكومة اجتمع الخوارج في منزل عبد الله بن وهب الراسبي فخطبهم خطبة بليغة زهدهم في هذه الدنيا ورغبهم في الآخرة والجنة، وحثهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم قال: فاخرجوا بنا إخواننا من هذه القرية الظالم أهلها، إلى جانب هذا السواد إلى بعض كور الجبال، أو بعض هذه المدائن، منكرين لهذه الأحكام الجائرة. ثم قام حرقوص بن زهير فقال بعد حمد الله والثناء عليه: إن المتاع بهذه الدنيا قليل، وإن الفراق لها وشيك، فلا يدعونكم زينتها أو بهجتها إلى المقام بها، ولا تلتفت بكم عن طلب الحق وإنكار الظلم {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ محسنون} (1) فقال سنان بن حمزة الأسدي: يا قوم إن الرأي ما رأيتم، وإن الحق ما ذكرتم، فولوا أمركم رجلا منكم، فإنه لا بد لكم من عماد وسناد، ومن راية تحفون بها وترجعون إليها، فبعثوا إلى زيد بن حصن الطائي -وكان من رؤوسهم- فعرضوا عليه الإمارة فأبى، ثم عرضوها على حرقوص بن زهير فأبى وعرضوها على حمزة بن سنان فأبى، وعرضوها على شريح بن أبي أوفى العبسي فأبى وعرضوها على عبد الله بن وهب الراسبي فقبلها وقال: أما والله لا أقبلها رغبة في الدنيا ولا أدعها فرقا من الموت. واجتمعوا أيضا في بيت زيد بن حصن الطائي السنبسي فخطبهم وحثهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتلا عليهم آيات من القرآن منها قوله تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى
_________
(1) النحل الآية (128).(1/191)
فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (1)
الآية، وقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (2) وكذا التي بعدها وبعدها الظالمون الفاسقون ثم قال: فأشهد على أهل دعوتنا من أهل قبلتنا أنهم قد اتبعوا الهوى، ونبذوا حكم الكتاب، وجاروا في القول والأعمال، وأن جهادهم حق على المؤمنين، فبكى رجل منهم يقال له عبد الله بن سخبرة السلمي، ثم حرض أولئك على الخروج على الناس، وقال في كلامه: اضربوا وجوههم وجباههم بالسيوف حتى يطاع الرحمن الرحيم، فإن أنتم ظفرتم وأطيع الله كما أردتم أثابكم ثواب المطيعين له العاملين بأمره وإن قتلتم فأي شيء أفضل من المصير إلى رضوان الله وجنته.
" التعليق:
قال الحافظ ابن كثير: وهذا الضرب من الناس من أغرب أشكال بني آدم، فسبحان من نوع خلقه كما أراد، وسبق في قدره العظيم. وما أحسن ما قال بعض السلف في الخوارج: إنهم المذكورون في قوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ
_________
(1) ص الآية (26) ..
(2) المائدة الآية (44).(1/192)
وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} (1) والمقصود أن هؤلاء الجهلة الضلال، والأشقياء في الأقوال والأفعال، اجتمع رأيهم على الخروج من بين أظهر المسلمين، وتواطئوا على المسير إلى المدائن ليملكوها على الناس ويتحصنوا بها ويبعثوا إلى إخوانهم وأضرابهم -ممن هو على رأيهم ومذهبهم، من أهل البصرة وغيرها- فيوافوهم إليها. ويكون اجتماعهم عليها.
فقال لهم زيد بن حصن الطائي: إن المدائن لا تقدرون عليها، فإن بها جيشا لا تطيقونه وسيمنعوها منكم، ولكن واعدوا إخوانكم إلى جسر نهر جوخى، ولا تخرجوا من الكوفة جماعات، ولكن اخرجوا وحدانا لئلا يفطن بكم، فكتبوا كتابا عاما إلى من هو على مذهبهم ومسلكهم من أهل البصرة وغيرها وبعثوا به إليهم ليوافوهم إلى النهر ليكونوا يدا واحدة على الناس، ثم خرجوا يتسللون وحدانا لئلا يعلم أحد بهم فيمنعوهم من الخروج فخرجوا من بين الآباء والأمهات والأخوال والخالات وفارقوا سائر القرابات، يعتقدون بجهلهم وقلة علمهم وعقلهم أن هذا الأمر يرضي رب الأرض والسماوات، ولم يعلموا أنه من أكبر الكبائر الموبقات، والعظائم والخطيئات، وأنه مما زينه لهم إبليس الشيطان الرجيم المطرود عن السماوات الذي نصب العداوة لأبينا آدم ثم لذريته ما دامت أرواحهم في أجسادهم مترددات، والله المسئول أن يعصمنا منه بحوله وقوته إنه مجيب الدعوات، وقد تدارك جماعة من الناس بعض أولادهم وإخوانهم فردوهم
_________
(1) الكهف الآيات (103 - 105).(1/193)
وأنبوهم ووبخوهم فمنهم من استمر على الاستقامة، ومنهم من فر بعد ذلك فلحق بالخوارج فخسر إلى يوم القيامة، وذهب الباقون إلى ذلك الموضع ووافى إليهم من كانوا كتبوا إليه من أهل البصرة وغيرها، واجتمع الجميع بالنهروان وصارت لهم شوكة ومنعة، وهم جند مستقلون وفيهم شجاعة وعندهم أنهم متقربون بذلك؟ فهم لا يصطلى لهم بنار، ولا يطمع في أن يؤخذ منهم بثأر، وبالله المستعان.
قال الحافظ ابن كثير: وقال أبو مخنف عن أبي روق عن الشعبي أن عليا لما خرجت الخوارج إلى النهروان وهرب أبو موسى إلى مكة، ورد ابن عباس إلى البصرة، قام في الناس بالكوفة خطيبا فقال: الحمد لله وإن أتى الدهر بالخطب الفادح، والحدثان الجليل الكادح، وأشهد أن لا إله غيره وأن محمدا رسول الله، أما بعد فإن المعصية تشين وتسوء وتورث الحسرة، وتعقب الندم، وقد كنت أمرتكم في هذين الرجلين وفي هذه الحكومة بأمري، ونحلتكم رأيي، فأبيتم إلا ما أردتم، فكنت أنا وأنتم كما قال أخو هوازن:
بذلت لهم نصحي بمنعرج اللوى ... فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد
ثم تكلم فيما فعله الحكمان فرد عليهما ما حكما به وأنبهما، وقال ما فيه حط عليهما، ثم ندب الناس إلى الخروج إلى الجهاد في أهل الشام، وعين لهم يوم الاثنين يخرجون فيه، وندب إلى ابن عباس والي البصرة يستنفر له الناس إلى الخروج إلى أهل الشام، وكتب إلى الخوارج يعلمهم أن الذي حكم به الحكمان مردود عليهما، وأنه قد عزم على الذهاب إلى الشام، فهلموا حتى نجتمع على قتالهم. فكتبوا إليه: أما بعد فإنك لم تغضب لربك، وإنما غضبت(1/194)
لنفسك وإن شهدت على نفسك بالكفر واستقبلت التوبة نظرنا فيما بيننا وبينك، وإلا فقد نابذناك على سواء {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} (1)، فلما قرأ علي كتابهم يئس منهم وعزم على الذهاب إلى أهل الشام ليناجزهم، وخرج من الكوفة إلى النخيلة في عسكر كثيف -خمسة وستين ألفا- وبعث إليه ابن عباس بثلاثة آلاف ومائتي فارس من أهل البصرة مع جارية بن قدامة ألف وخمسمائة، ومع أبي الأسود الدؤلي ألف وسبعمائة، فكمل جيش علي في ثمانية وستين ألف فارس ومائتي فارس، وقام علي أمير المؤمنين خطيبا فحثهم على الجهاد والصبر عند لقاء العدو، وهو عازم على الشام، فبينما هو كذلك إذ بلغه أن الخوارج قد عاثوا في الأرض فسادا وسفكوا الدماء وقطعوا السبل واستحلوا المحارم، وكان من جملة من قتلوه عبد الله بن خباب صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أسروه وامرأته معه وهي حامل فقالوا: من أنت؟ قال: أنا عبد الله بن خباب صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنكم قد روعتموني فقالوا: لا بأس عليك، حدثنا ما سمعت من أبيك فقال: سمعت أبي يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي" (2)
فاقتادوه بيده فبينما هو يسير معهم إذ لقي بعضهم خنزيرا لبعض أهل الذمة فضربه بعضهم فشق جلده فقال له آخر: لم فعلت هذا وهو لذمي؟ فذهب إلى ذلك الذمي فاستحله وأرضاه وبينا هو معهم إذ سقطت تمرة من نخلة فأخذها أحدهم فألقاها في فمه، فقال له آخر:
_________
(1) الأنفال الآية (58).
(2) تقدم تخريجه في مواقف عبد الله بن خباب سنة (37هـ) ..(1/195)
بغير إذن ولا ثمن؟ فألقاها ذاك من فمه، ومع هذا قدموا عبد الله بن خباب فذبحوه، وجاءوا إلى امرأته فقالت: إني امرأة حبلى، ألا تتقون الله، فذبحوها وبقروا بطنها عن ولدها، فلما بلغ الناس هذا من صنيعهم خافوا إن هم ذهبوا إلى الشام واشتغلوا بقتال أهله أن يخلفهم هؤلاء في ذراريهم وديارهم بهذا الصنع، فخافوا غائلتهم، وأشاروا على علي بأن يبدأ بهؤلاء، ثم إذا فرغ منهم ذهب إلى أهل الشام بعد ذلك والناس آمنون من شر هؤلاء فاجتمع الرأي على هذا وفيه خيرة عظيمة لهم ولأهل الشام أيضا، فأرسل علي إلى الخوارج رسولا من جهته وهو الحرب بن مرة العبدي، فقال: اخبر لي خبرهم، واعلم لي أمرهم واكتب إلي به على الجلية، فلما قدم عليهم قتلوه ولم ينظروه، فلما بلغ ذلك عليا عزم على الذهاب إليهم أولا قبل أهل الشام.
مسير أمير المؤمنين علي إلى الخوارج:
لما عزم علي ومن معه من الجيش على البداءة بالخوارج، نادى مناديه في الناس بالرحيل فعبر الجسر فصلى ركعتين عنده ثم سلك علي دير عبد الرحمن ثم دير أبي موسى ثم على شاطئ الفرات، فلقيه هنالك منجم فأشار عليه بوقت من النهار يسير فيه ولا يسير في غيره، فإنه يخشى عليه فخالفه علي فسار على خلاف ما قال فأظفره الله، وقال علي: إنما أردت أن أبين للناس خطأه وخشيت أن يقول جاهل: إنما ظفر لكونه وافقه. وسلك علي ناحية الأنبار وبعث بين يديه قيس بن سعد، وأمره أن يأتي المدائن وأن يتلقاه بنائبها سعد بن مسعود، وهو أخو عبد الله بن مسعود الثقفي -في جيش المدائن فاجتمع الناس هنالك على علي، وبعث إلى الخوارج: أن ادفعوا(1/196)
إلينا قتلة إخواننا منكم حتى أقتلهم ثم أنا تارككم وذاهب إلى العرب- يعني أهل الشام- ثم لعل الله أن يقبل بقلوبكم ويردكم إلى خير مما أنتم عليه. فبعثوا إلى علي يقولون: كلنا قتل إخوانكم ونحن مستحلون دماءهم ودماءكم، فتقدم إليهم قيس بن سعد بن عبادة فوعظهم فيما ارتكبوه من الأمر العظيم، والخطب الجسيم، فلم ينفع وكذلك أبو أيوب الأنصاري أنبهم ووبخهم فلم ينجح، وتقدم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إليهم فوعظهم وخوفهم وحذرهم وأنذرهم وتوعدهم وقال: إنكم أنكرتم علي أمرا أنتم دعوتموني إليه فنهيتكم عنه فلم تقبلوا وها أنا وأنتم فارجعوا إلى ما خرجتم منه ولا ترتكبوا محارم الله فإنكم قد سولت لكم أنفسكم أمرا تقتلون عليه المسلمين، والله لو قتلتم عليه دجاجة لكان عظيما عند الله، فكيف بدماء المسلمين؟ فلم يكن لهم جواب إلا أن تنادوا فيما بينهم أن لا تخاطبوهم ولا تكلموهم وتهيئوا للقاء الرب عز وجل، الرواح الرواح إلى الجنة. وتقدموا فاصطفوا للقتال وتأهبوا للنزال فجعلوا على ميمنتهم زيد بن حصن الطائي السنبسي، وعلى الميسرة شريح بن أوفى، وعلى خيالتهم حمزة بن سنان، وعلى الرجالة حرقوص بن زهير السعدي. ووقفوا مقاتلين لعلي وأصحابه.
وجعل علي على ميمنته حجر بن عدي، وعلى الميسرة شبيث بن ربعي ومعقل بن قيس الرياحي، وعلى الخيل أبا أيوب الأنصاري، وعلى الرجالة أبا قتادة الأنصاري، وعلى أهل المدينة -وكانوا في سبعمائة- قيس بن سعد بن عبادة، وأمر علي أبا أيوب الأنصاري أن يرفع راية أمان للخوارج ويقول لهم: من جاء إلى هذه الراية فهو آمن، ومن انصرف إلى الكوفة والمدائن فهو(1/197)
آمن، إنه لا حاجة لنا فيكم إلا فيمن قتل إخواننا، فانصرف منهم طوائف كثيرون -وكانوا في أربعة آلاف- فلم يبق منهم إلا ألف أو أقل مع عبد الله ابن وهب الراسبي، فزحفوا إلى علي فقدم علي بين يديه الخيل وقدم منهم الرماة وصف الرجالة وراء الخيالة، وقال لأصحابه: كفوا عنهم حتى يبدؤوكم، وأقبلت الخوارج يقولون: لا حكم إلا لله، الرواح الرواح إلى الجنة، فحملوا على الخيالة الذين قدمهم علي، ففرقوهم حتى أخذت طائفة من الخيالة إلى الميمنة، وأخرى إلى الميسرة، فاستقبلهم الرماة بالنبل، فرموا وجوههم، وعطفت عليهم الخيالة من الميمنة والميسرة ونهض إليهم الرجال بالرماح والسيوف فأناموا الخوارج فصاروا صرعى تحت سنابك الخيول، وقتل أمراؤهم عبد الله ابن وهب، وحرقوص بن زهير، وشريح بن أوفى، وعبد الله بن سخبرة السلمي، قبحهم الله. قال أبو أيوب: وطعنت رجلا من الخوارج بالرمح فأنفذته من ظهره وقلت له: أبشر يا عدو الله بالنار، فقال: ستعلم أينا أولى بها صليا، قالوا: ولم يقتل من أصحاب علي إلا سبعة نفر وجعل علي يمشي بين القتلى منهم ويقول: بؤسا لكم فقد ضركم من غركم، فقالوا: يا أمير المؤمنين ومن غرهم؟ قال: الشيطان وأنفس بالسوء أمارة، غرتهم بالأماني وزينت لهم المعاصي، ونبأتهم أنهم ظاهرون ثم أمر بالجرحى من بينهم فإذا هم أربعمائة، فسلمهم إلى قبائلهم ليداووهم، وقسم ما وجد من سلاح ومتاع لهم.
وقال الهيثم بن عدي في كتاب الخوارج: وحدثنا محمد بن قيس الأسدي ومنصور بن دينار عن عبد الملك بن ميسرة عن النزال بن سبرة أن(1/198)
عليا لم يخمس ما أصاب من الخوارج يوم النهروان ولكن رده إلى أهله كله حتى كان آخر ذلك مرجل أتى به فرده.
وقال أبو مخنف: حدثني عبد الملك بن أبي حرة أن عليا خرج في طلب ذي الثدية ومعه سليمان بن ثمامة الحنفي أبو حرة والريان بن صبرة بن هوذة فوجده الرياني في حفرة على جانب النهر في أربعين أو خمسين قتيلا، قال: فلما استخرج نظر إلى عضده فإذا لحم مجتمع على منكبه كثدي المرأة له حلمة عليها شعرات سود، فإذا مدت امتدت حتى تحاذي يده الأخرى ثم تنزل فتعود إلى منكبه كثدي المرأة، فلما رآه علي قال: أما والله وما كذبت لولا أن تتكلوا على العمل لأخبرتكم بما قضى الله في قتالهم عارفا للحق.
وقال الهيثم بن عدي في كتابه في الخوارج: وحدثني محمد بن ربيعة الأخنسي عن نافع بن مسلمة الأخنسي قال كان ذو الثدية رجلا من عرنة من بجيلة، وكان أسود شديد السواد، له ريح منتنة، معروف في العسكر، وكان يرافقنا قبل ذلك وينازلنا وننازله.
وحدثني أبو إسماعيل الحنفي عن الريان بن صبرة الحنفي. قال: شهدنا النهروان مع علي، فلما وجد المخدج سجد سجدة طويلة.
وحدثني سفيان الثوري عن محمد بن قيس الهمداني عن رجل من قومه يكنى أبا موسى أن عليا لما وجد المخدج سجد سجدة طويلة.
وحدثني يونس بن أبي إسحاق حدثني إسماعيل عن حبة العرني، قال: لما أقبل أهل النهروان جعل الناس يقولون: الحمد لله يا أمير المؤمنين الذي قطع دابرهم. فقال علي: كلا والله إنهم لفي أصلاب الرجال وأرحام النساء، فإذا(1/199)
خرجوا من بين الشرايين فقل ما يلقون أحدا إلا ألبوا أن يظهروا عليه، قال: وكان عبد الله بن وهب الراسبي قد قحلت مواضع السجود منه من شدة اجتهاده وكثرة السجود، وكان يقال له: ذو البينات. وروى الهيثم عن بعض الخوارج أنه قال: ما كان عبد الله بن وهب من بغضه عليا يسميه إلا الجاحد.
وقال الهيثم بن عدي: ثنا إسماعيل عن خالد عن علقمة بن عامر قال: سئل علي عن أهل النهروان أمشركون هم؟ فقال: من الشرك فروا، قيل أفمنافقون؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا: فقيل فما هم يا أمير المؤمنين؟ قال: إخواننا بغوا علينا فقاتلناهم ببغيهم علينا.
فهذا ما أورده ابن جرير وغيره في هذا المقام. (1)
- وجاء في الشريعة عن جندب قال: لما كان يوم قتل علي رضي الله عنه الخوارج نظرت إلى وجوههم وإلى شمائلهم، فشككت في قتالهم، فتنحيت عن العسكر غير بعيد، فنزلت عن دابتي، وركزت رمحي، ووضعت درعي تحتي، وعلقت برنسي مستترا به من الشمس، وأنا معتزل من العسكر ناحية، إذ طلع أمير المؤمنين -رضي الله عنه على بغلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت في نفسي: ما لي وله؟ أنا أفر منه، وهو يجيء إلي، فقال لي: يا جندب؛ مالك في هذا المكان، تنحيت عن العسكر؟ فقلت: يا أمير المؤمنين؛ أصابني وعك، فشق علي الغبار، فلم أستطع الوقوف؛ قال فقال: أما بلغك ما للعبد في غبار العسكر من الأجر؟ ثم ثنى رحله، فنزل، فأخذت برأس دابته، وقعد فقعدت، فأخذت البرنس بيدي فسترته من الشمس، فقال: فوالله إني لقاعد إذ جاء
_________
(1) البداية (7/ 295 - 300)، وانظر تاريخ ابن جرير (3/ 113 وما بعدها).(1/200)
فارس يركض، فقال: يا أمير المؤمنين، إن القوم قد قطعوا الجسر ذاهبين؛ قال: فالتفت إلي، فقال: إن مصارعهم دون النهر. قال وإن الرجل الذي أخبره عنده واقف، إذ جاء رجل آخر، فقال: يا أمير المؤمنين، قد والله عبروا، فما بقي منهم أحد؛ قال: ويحك، إن مصارعهم دون النهر. قال: فجاء فارس آخر يركض. فقال: يا أمير المؤمنين، والذي بعث نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالحق لقد رجعوا، ثم جاء الناس، فقالوا: قد رجعوا، حتى إنهم ليتساقطون في الماء زحاما على العبور؛ قال: ثم إن رجلا جاء، فقال: يا أمير المؤمنين إن القوم قد صفوا الصفوف، ورموا فينا، وقد جرحوا فلانا، فقال علي رضي الله عنه: هذا حين طاب القتال. قال: فوثب فقعد على بغلته، فقمت إلى سلاحي فلبسته، ثم شددته علي، ثم قعدت على فرسي، وأخذت رمحي، ثم خرجت، فلا والله يا عبد الله بن شريك، ما صليت العصر. قال أبو جعفر لوين: أو قال: الظهر -حتى قتلت بيدي سبعين. (1)
- وجاء في السنة لعبد الله عن زر بن حبيش أنه سمع عليا يقول: أنا فقأت عين الفتنة، ولولا أنا ما قوتل أهل النهر ولا أهل الجمل، ولولا أني أخشى أن تتركوا العمل لأخبرتكم بالذي قضى الله على لسان نبيكم لمن قاتلهم مبصرا لضلالتهم عارفا للهدى الذي نحن فيه. (2)
- وعن أبي الطفيل قال: سأل ابن الكواء عليا رضي الله عنه عن
_________
(1) الشريعة (1/ 151 - 152/ 58).
(2) السنة لعبد الله (273).(1/201)
{الأخسرين أَعْمَالًا} قال: منهم أهل حروراء. (1)
موقفه من المرجئة:
- جاء في السنة لعبد الله: عن علي قال: الإرجاء بدعة والشهادة (2) بدعة والبراءة (3) بدعة. (4)
- وفيها أيضا: عن محمد بن علي عن أبيه أنه كان يقول: ما الليل بالليل، ولا النهار بالنهار بأشبه من القدرية بالنصرانية، ومن المرجئة باليهودية. (5)
- عن أبي صادق عن علي قال: إن الإسلام ثلاث أثافي: الإيمان والصلاة والجماعة، فلا تقبل صلاة إلا بإيمان، ومن آمن صلى ومن صلى جامع، ومن فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه. (6)
- وفي الإبانة: عن عبد الله بن عمرو بن هند الجملي، قال: كان علي ابن أبي طالب رضي الله عنه يقول: إن الإيمان يبدو لمظة بيضاء في القلب كلما زاد الإيمان زاد البياض، فإذا استكمل الإيمان ابيض القلب، وإن النفاق يبدو لمظة سوداء في القلب كلما زاد النفاق زاد ذلك السواد فإذا استكمل
_________
(1) عبد الرزاق في التفسير (2/ 413) وعبد الله بن أحمد في السنة (278) وابن جرير (16/ 34) والشاشي في المسند (2/ 96/620) وابن عبد البر في الجامع (1/ 464/726).
(2) يعني بالشهادة قول المرء أنا مؤمن تزكية لنفسه.
(3) يعني بها ما يفعله الخوارج من البراءة ممن خالفهم.
(4) السنة (ص.86) وأصول الاعتقاد (5/ 1047 - 1048/ 1778).
(5) الإبانة (2/ 9/138 - 139/ 1578).
(6) الإيمان لابن أبي شيبة (117) وهو في المصنف (6/ 170/30427).(1/202)
النفاق اسود القلب كله، وايم الله لو شققتم عن قلب مؤمن لوجدتموه أبيض، ولو شققتم عن قلب منافق لوجدتموه أسود. (1)
- وفيها أيضا: عن عبد الكريم الجزيري، عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود، قالا: لا ينفع قول إلا بعمل، ولا عمل إلا بقول، ولا قول وعمل إلا بنية، ولا نية إلا بموافقة السنة. (2)
- وفي أصول الاعتقاد: عن ميمون بن مهران: عن علي قال: الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد. من لا صبر له، لا إيمان له. (3)
موقفه من القدرية:
- جاء في أصول الاعتقاد: قيل لعلي بن أبي طالب: إن ها هنا رجلا يتكلم في المشيئة قال: فقال له: يا عبد الله خلقك الله عز وجل لما شاء أولما شئت؟ قال: بل لما شاء. قال: فيمرضك إذا شاء أو إذا شئت؟ قال: بل إذا شاء، قال: فيشفيك إذا شاء أو إذا شئت؟ قال: إذا شاء. قال: فيميتك إذا شاء أو إذا شئت؟ قال: إذا شاء. قال: فيدخلك حيث شاء أو شئت؟ قال: حيث شاء. قال: والله لو قلت غير هذا لضربت الذي فيه عيناك بالسيف، قال: ثم تلا: {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ}.اهـ (5)
_________
(1) الإبانة (2/ 841 - 842/ 1122) وأصول الاعتقاد (5/ 1012/1701) والمصنف لابن أبى شيبة (6/ 160/30329) والإيمان له (8) والإيمان لأبي عبيد (ص.18).
(2) الإبانة (2/ 6/802 - 803/ 1089) والشريعة (1/ 287/280).
(3) أصول الاعتقاد (4/ 924/1569).
(4) المدثر الآية (56).
(5) أصول الاعتقاد (4/ 782 - 783/ 1310).(1/203)
- وفيه أيضا: عن أبي عبد الرحمن رفع الحديث إلى علي أنه سأله فقال: يا أبا الحسن ما تقول في القدر؟ فقال: طريق مظلم فلا تسلكه. فقال: يا أبا الحسن ما تقول في القدر؟ فقال: بحر عظيم فلا تلجه. فقال: يا أبا الحسن ما تقول في القدر؟ فقال: سر الله فلا تكلفه. (1)
- وفي الإبانة: عن علي رضي الله عنه: لا يجد عبد طعم الإيمان حتى يؤمن بالقدر (ووضع يده على فيه). (2)
- وفيها أيضا: عن يعلى بن مرة أن أصحاب علي قالوا: إن هذا الرجل في حرب وإلى جنب عدو، وإنا لا نأمن أن يغتال، فلو حرسه منا كل ليلة عشرة، قال: وكان علي إذا صلى العشاء لزق بالقبلة؛ فصلى ما شاء الله أن يصلي، ثم انصرف إلى أهله؛ فصلى ذات ليلة؛ ثم انصرف فأتى عليهم؛ فقال: ما يجلسكم هذه الساعة؟ قالوا: جلسنا نتحدث، قال: لتخبرونني. فأخبروه، فقال: من أهل السماء تحرسوني أو من أهل الأرض؟ قالوا: نحن أهون على الله من أن نحرسك من أهل السماء، لا بل نحن نحرسك من أهل الأرض، قال: فلا تفعلوا، إنه إذا قضي أمر من السماء، عمله أهل الأرض، وإن علي من الله جنة حصينة إلى يومي هذا، ثم تذهب، وإنه لا يجد عبد طعم الإيمان حتى يستيقن غير ظان أنه ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه. (3)
_________
(1) أصول الاعتقاد (4/ 695 - 696/ 1123) والشريعة (1/ 400 - 401/ 460) والإبانة (2/ 9/140 - 141/ 1583).
(2) الإبانة (2/ 9/135/ 1569).
(3) الإبانة (2/ 9/135 - 136/ 1570).(1/204)
- وفيها: عن أنيس بن جابر عن علي؛ قال: ما آدمي إلا معه ملك يقيه ما لم يقدر عليه، فإن جاء القدر؛ خلاه وإياه. (1)
- وفيها أيضا: عن أبي البحتري أن عليا كان يقول: إياكم والاستنان بالرجال؛ فإن كنتم مستنين لا محالة فعليكم بالأموات؛ لأن الرجل قد يعمل الزمن من عمره بالعمل الذي لو مات عليه دخل الجنة، فإن كان قبل موته تحول فعمل بعمل أهل النار فمات؛ فدخل النار، وأن الرجل ليعمل الزمن من عمره بعمل أهل النار، فإذا كان قبل موته بعام فعمل بعمل أهل الجنة فمات؛ فدخل الجنة. (2)
- وفيها أيضا: عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان يقول في أهل القدر: هم طرف من النصرانية. (3)
- وفيها أيضا: عن محمد بن علي عن أبيه أنه كان يقول: ما الليل بالليل، ولا النهار بالنهار بأشبه من القدرية بالنصرانية، ومن المرجئة باليهودية. (4)
- وفيها: عن إسحاق بن الحارث من بني هاشم وذكر عنده القدرية؛ فقال الهاشمي: أعظك بما وعظ به علي بن أبي طالب رضي الله عنه صاحبا له؛ فقال: إنه قد بلغني أنك تقول بقول أهل القدر، قال: إنما أقول: إني أقدر على أن أصلي وأصوم وأحج وأعتمر، قال علي: أرأيت الذي تقدر عليه؛
_________
(1) الإبانة (2/ 9/136/ 1571).
(2) الإبانة (2/ 9/136/ 1572).
(3) الإبانة (2/ 9/138/ 1577).
(4) الإبانة (2/ 9/138 - 139/ 1578).(1/205)
أشيء تملكه مع الله أم شيء تملكه من دونه؟ قال: فارتج الرجل فقال علي رضي الله عنه: ما لك لا تتكلم؟ أما لئن زعمت أن ذلك شيء تملكه مع الله عز وجل؛ فقد جعلت مع الله مالكا وشريكا، ولئن كان شيئا تملكه من دون الله؛ لقد جعلت من دون الله مالكا، قال الرجل: قد كان هذا من رأيي وأنا أتوب إلى الله عز وجل منه توبة نصوحا لا أرجع إليه أبدا. (1)
- وفيها: قال شيخ لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه عند منصرفه من الشام، أخبرنا يا أمير المؤمنين عن مسيرنا إلى الشام؛ أبقضاء من الله وقدر أم غيرهما؟ قال علي رحمه الله: والذي خلق الحبة وبرأ النسمة؛ ما علوتم تلة ولا هبطتم واديا إلا بقضاء من الله وقدره، قال الشيخ: عند الله أحتسب عنائي وإليه أشكو خيبة رجائي، ما أجد لي من الأجر شيئا؟ قال: بلى؛ قد أعظم الله لكم الأجر على مسيركم وأنتم سائرون، وعلى مقامكم وأنتم مقيمون، وما وضعتم قدما، ولا رفعتم أخرى؛ إلا وقد كتب الله لكم أجرا عظيما. قال الشيخ: كيف يا أمير المؤمنين والقضاء والقدر ساقانا وعنهما وردنا وصدرنا؟ فقال علي رضي الله عنه: أيها الشيخ! لعلك ظننته قضاء جبرا وقدرا قسرا، لو كان ذلك كذلك؛ لبطل الأمر والنهي، والوعد والوعيد، وبطل الثواب والعقاب، ولم يكن المحسن أولى بمثوبة الإحسان من المسيء، ولا المسيء أولى بعقوبة الإساءة من المحسن. قال الشيخ: فما القضاء والقدر؟ قال علي: العلم السابق في اللوح المحفوظ والرق المنثور بكل ما كان وبما هو كائن، وبتوفيق الله ومعونته لمن اجتباه بولايته وطاعته وبخذلان الله وتخليته لمن
_________
(1) الإبانة (2/ 9/140/ 1582) وابن عبد البر في الجامع (2/ 987).(1/206)
أراد له وأحب شقاه بمعصيته ومخالفته، فلا تحسبن غير ذلك؛ فتوافق مقالة الشيطان وعبدة الأوثان وقدرية هذه الأمة ومجوسها، ثم إن الله عز وجل أمر تحذيرا ونهى تخبيرا ولم يطع غالبا ولم يعص مغلوبا، ولم يك في الخلق شيء حدث في علمه، فمن أحسن؛ فبتوفيق الله ورحمته، ومن أساء؛ فبخذلان الله وإساءته هلك، لا الذي أحسن استغنى عن توفيق الله، ولا الذي أساء عليه ولا استبد بشيء يخرج به عن قدرته، ثم لم يرسل الرسل باطلا، ولم ير الآيات والعزائم عبثا، {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ}. اهـ (2)
- وجاء في أصول الاعتقاد: عن أبي علقمة -أو غيره- أن علي بن أبي طالب قال: إن القدر لا يرد القضاء، ولكن الدعاء يرد القضاء. قال الله لقوم يونس: {لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} (3).اهـ (4)
- وفيه أيضا: عن علي بن أبي طالب قال: ذكر عنده القدر يوما فأدخل أصبعيه -السبابة والوسطى- في فيه فرقم بهما في باطن يده فقال:
_________
(1) ص الآية (27).
(2) الإبانة (2/ 9/141 - 142/ 1584).
(3) يونس الآية (98).
(4) أصول الاعتقاد (4/ 737/1212).(1/207)
أشهد أن هاتين الرقمتين كانتا في أم الكتاب. (1)
- وفيه أيضا: عن علي قال: إن أحدكم لن يخلص الإيمان إلى قلبه حتى يستيقن يقينا غير ظن أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه ويقر بالقدر كله. (2)
مُجَالِد بن مَسْعُود (3) (40 هـ)
مجالد بن مسعود السُّلَمِي، أخو مُجَاشِع بن مسعود، يكنى أبا معبد. قال البخاري وابن حبان له صحبة، كان إسلامه بعد أخيه مجاشع بعد الفتح. روى عنه أبو عثمان النهدي. وفد على النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أخيه سنة تسع. قال ابن حبان: قتل يوم الجمل سنة ست وثلاثين. قال ابن حجر: هذا فيه نظر، فإن الميت في هذا أخوه مجاشع وأما هذا فذكر أبو القاسم البغوي ما يدل على أنه بقي إلى حدود الأربعين.
موقفه من المبتدعة:
ذكر ابن وضاح عن عبد الرحمن بن بكرة قال: كنت جالسا عند الأسود بن سريع، وكان مجلسه في مؤخر المسجد الجامع، فافتتح سورة بني
_________
(1) أصول الاعتقاد (4/ 737 - 738/ 1213) والشريعة (1/ 400/459) والإبانة (2/ 9/139 - 140/ 1581) والسنة لعبد الله (147).
(2) أصول الاعتقاد (4/ 738/1214).
(3) الاستيعاب (4/ 1459) والإصابة (5/ 770) والتاريخ الكبير (8/ 8) وتهذيب الكمال (27/ 227) وتهذيب التهذيب (10/ 37).(1/208)
إسرائيل حتى بلغ {وكبره تكبيرًا} (1) فرفع أصواتهم الذين كانوا حوله جلوسا. فجاء مجالد بن مسعود يتوكأ على عصا فلما رآه القوم قالوا: مرحبا مرحبا، اجلس. قال: ما كنت لأجلس إليكم وإن كان مجلسكم حسنا، ولكنكم صنعتم قبيل شيئا أنكره المسلمون، فإياكم وما أنكر المسلمون. (2)
أبو مسعود البدري (3) (40 هـ)
واسمه عقبة بن عمرو بن ثعلبة الأنصاري، قيل لم يشهد بدرا وجزم البخاري بأنه شهدها لأحاديث صحيحة في بعضها التصريح بذلك. وكان ممن شهد العقبة وهو شاب. واتفقوا على أنه شهد أحدا وما بعدها. وهو معدود في علماء الصحابة. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وروى عنه أوس بن ضمعج وابنه بشير وثعلبة بن زهدم وحكيم بن أفلح وربعي بن حراش وغيرهم. توفي سنة أربعين أو بعدها.
موقفه من المبتدعة:
- جاء في أصول الاعتقاد عن المسيب بن رافع قال: سمعت أبا مسعود حين خرج فنزل في طريق القادسية فقلنا: اعهد إلينا فإن الناس قد وقعوا في الفتنة فلا ندري أنلقاك بعد اليوم أم لا؟ فقال: اتقوا الله واصبروا حتى يستريح
_________
(1) الإسراء الآية (111).
(2) ابن وضاح (ص.50 - 51).
(3) الاستيعاب (3/ 1074 - 1075) والإصابة (4/ 524) وشذرات الذهب (1/ 48) وتهذيب الكمال (20/ 215) والسير (2/ 493) وطبقات ابن سعد (6/ 16).(1/209)
بر أو يستراح من فاجر وعليكم بالجماعة فإن الله لا يجمع أمته على الضلالة. (1)
- وفي ذم الكلام عن نعيم بن أبي هند قال: خرج أبو مسعود الأنصاري يريد الحج فشيعناه فقلنا له: أوصنا يا أبا مسعود، فقال: اتهموا الرأي، فلقد رأيتني تدعوني نفسي إلى أن أخرج بسيفي فأضرب به فأدخل النار. (2)
موقفه من الخوارج:
عن أبي وائل عن أبي مسعود البدري قال: خرج معه أصحابه يشيعونه حتى بلغ القادسية، فلما ذهبوا يفارقونه قالوا: رحمك الله إنك قد رأيت خيرا وشهدت خيرا، حدثنا بحديث عسى أن ينفعنا الله به. قال: أجل! رأيت خيرا وشهدت خيرا، وقد خشيت أن أكون أخرت لهذا الزمان لشر يراد بي، فاتقوا الله وعليكم بالجماعة، فإن الله لن يجمع أمة محمد على ضلالة، واصبروا حتى يستريح بر أو يستراح من فاجر. (3)
حنظلة الكاتب (4) (مات بعد علي)
حنظلة بن الربيع بن صيفي الأسيدي المعروف بحنظلة الكاتب له صحبة. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعنه الحسن البصري وقيس بن زهير والهيثم بن
_________
(1) أصول الاعتقاد (1/ 122/162) والإبانة (1/ 2/313 - 314/ 149).
(2) ذم الكلام (ص.188).
(3) أصول الاعتقاد (1/ 122 - 123/ 163).
(4) تهذيب الكمال (7/ 438 - 443) وطبقات ابن سعد (6/ 55) والاستيعاب (1/ 379 - 380) والأنساب (1/ 159).(1/210)
حنش وأبو عثمان النهدي وغيرهم. شهد مع خالد بن الوليد حروبه بالعراق وغيرها، وجهه خالد بالأخماس إلى أبي بكر الصديق.
خرج حنظلة وجرير بن عبد الله وعدي بن حاتم من الكوفة فنزلوا قرقيسيا وقالوا: لا نقيم ببلد يشتم فيه عثمان. بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الطائف عينا. روى له مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة. مات بعد علي بن أبي طالب رضي الله عنهما.
موقفه من الرافضة:
عن مغيرة قال: خرج عدي، وجرير البجلي وحنظلة الكاتب من الكوفة، فنزلوا قرقيسياء، وقالوا: لا نقيم ببلد يشتم فيه عثمان. (1)
موقفه من المرجئة:
عن أبي عثمان النهدي، عن حنظلة الأسيدي قال: (وكان من كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) قال: لقيني أبو بكر فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قال: قلت: نافق حنظلة. قال: سبحان الله! ما تقول: قال: قلت: نكون عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكرنا بالنار والجنة، حتى كأنا رأي عين. فإذا خرجنا من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات. فنسينا كثيرا. قال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا. فانطلقت أنا وأبو بكر، حتى دخلنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قلت: نافق حنظلة، يا رسول الله! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وما ذاك؟ قلت: يا رسول الله! نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة، حتى كأنا رأي عين. فإذا
_________
(1) أصول الاعتقاد (7/ 1340/2381).(1/211)
خرجنا من عندك، عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات. نسينا كثيرا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذكر، لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم؛ ولكن يا حنظلة! ساعة وساعة. ثلاث مرات. (1)
" التعليق:
قال أبو بكر بن العربي: إن القلب لا يثبت على حال، وإن العبد ليؤمن وتتواتر عنده الآيات حتى يتمكن من قلبه ويواظب العمل الصالح حتى تتمرن عليه جوارحه، ويواصل الذكرى حتى تطمئن نفسه ثم تعروه حالة أو تطرأ عليه غفلة، فإذا به زل عن هذه المرتبة، فلا يزال يعود إلى ذكراه وعمله الصالح حتى يرجع إلى ما كان عليه ... (2)
عُبَادة بن قُرْص الليثي (3) (41 هـ)
عُبَادَة بن قُرْص اللَّيْثِي، وقيل: ابن قُرْط والأول أصح، وهو عبادة بن قرص بن عروة بن بجير الكناني الليثي. روى عنه أبو قتادة العدوي، وحميد بن هلال عداده في أهل البصرة، قال ابن حبان: له صحبة.
قال رحمه الله تعالى: إنكم لتأتون أمورا هي أدق في أعينكم من الشعر،
_________
(1) أحمد (4/ 178 و346) ومسلم (4/ 2106/2750) والترمذي (4/ 574 - 575/ 2514) وابن ماجه (2/ 1416/4239).
(2) عارضة الأحوذي (9/ 316 - 317).
(3) طبقات ابن سعد (7/ 82) والحلية (2/ 16) والاستيعاب (2/ 809) وأسد الغابة (3/ 160 - 161) والوافي بالوفيات (16/ 620) والإصابة (3/ 627 - 628).(1/212)
كنا نعدها على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الموبقات. فلما كان بالأهواز سمع أذانا فقصده ليصلي جماعة فأخذه الخوارج فقتلوه.
قال أبو عبيدة والمدائني: سنة إحدى وأربعين.
موقفه من الخوارج:
عن حميد بن هلال عن عبادة بن قرص الليثي أنه قال للخوارج حين أخذوه بالأهواز: ارضوا مني بما رضي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أسلمت قالوا: وما رضي به منك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: أتيته فشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قال: فقبل ذلك مني قال: فأبوا فقتلوه. (1)
لبيد بن ربيعة العامري (2) (41 هـ)
لبيد بن ربيعة بن عامر الكلابي ثم الجعفري الصحابي. كان شاعرا من فحول الشعراء، وفد على النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة وفد قومه بنو جعفر فأسلم وحسن إسلامه، فعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل" (3). قال أبو عمر بن عبد البر: وهو شعر حسن وفي هذه القصيدة ما يدل على أنه قالها في الإسلام، والله أعلم وذلك قوله:
_________
(1) أصول الاعتقاد (7/ 1306/2314).
(2) الاستيعاب (3/ 1335 - 1338) والإصابة (5/ 675 - 680) والجرح والتعديل (7/ 181) وتهذيب الأسماء واللغات (القسم الأول/2/ 70 - 71).
(3) أحمد (2/ 393) والبخاري (7/ 188/3841) ومسلم (4/ 1768/2256) والترمذي (5/ 128/2849) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". وابن ماجه (2/ 1236/3757).(1/213)
كل امرئ يوما سيعلم سعيه ... إذا كشفت عند الإله المحاصل
وقد قال أكثر أهل الأخبار: إن لبيدا لم يقل شعرا منذ أسلم، وقال بعضهم: لم يقل في الإسلام إلا قوله:
الحمد لله إذ لم يأتني أجلي ... حتى اكتسيت من الإسلام سربالا
وقد قيل: إن هذا البيت لقردة بن نفاثة السلولي، وهو أصح عندي. وقال غيره: بل البيت الذي قاله في الإسلام قوله:
ما عاتب الكريم كنفسه ... والمرء يصلحه القرين الصالح
مات سنة إحدى وأربعين.
موقفه من المبتدعة:
جاء في الإبانة عن المدائني قال: قيل للبيد بعدما أسلم: ما لك لا تقول الشعر؟ فقال: إن في البقرة وآل عمران شغلا عن الشعر إلا أني قد قلت بيتا واحدا:
ما عاتب الكريم كنفسه ... والمرء يصلحه الجليس الصالح (1)
محمد بن مسلمة (2) (43 هـ)
محمد بن مَسْلَمة بن سلمة بن خالد، أبو عبد الله وأبو عبد الرحمن الأنصاري الأوسيّ، من نجباء الصحابة، شهد بدرا والمشاهد، وهو أحد الذين
_________
(1) الإبانة (2/ 3/478/ 505).
(2) السير (2/ 369 - 373) وطبقات ابن سعد (3/ 443 - 445) والإصابة (6/ 33 - 35) والمعرفة والتاريخ (1/ 307) وتهذيب الكمال (26/ 456 - 459).(1/214)
قتلوا كعب بن الأشرف. واستخلفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض غزواته، واستعمله عمر بن الخطاب على صدقات جهينة، وكان عمر إذا شكي إليه عامل، أرسل محمدا يكشف الحال. وكان رضي الله عنه ممن اعتزل الفتنة، واتخذ سيفا من خشب، وقال: بذلك أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. روى عنه المسور ابن مخرمة، وسهل بن أبي حثمة، وقبيصة بن ذؤيب. توفي سنة ثلاث وأربعين.
موقفه من المشركين:
قال مروان بن الحكم وهو على المدينة وعنده ابن يامين النضيري: كيف كان قتل ابن الأشرف؟ قال ابن يامين: كان غدرا، ومحمد بن مسلمة جالس شيخ كبير، فقال: يا مروان أيغدر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندك؟ والله ما قتلناه إلا بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والله لا يؤويني وإياك سقف بيت إلا المسجد، وأما أنت يا ابن يامين فلله علي إن أفلت وقدرت عليك وفي يدي سيف إلا ضربت به رأسك، فكان ابن يامين لا ينزل من بني قريظة حتى يبعث له رسولا ينظر محمد بن مسلمة، فإن كان في بعض ضياعه نزل فقضى حاجته ثم صدر، وإلا لم ينزل، فبينا محمد في جنازة وابن يامين بالبقيع فرأى محمد نعشا عليه جرائد وطبة لامرأة جاء فحله فقام إليه الناس، فقالوا: يا أبا عبد الرحمن ما تصنع؟ نحن نكفيك، فقام إليه فلم يزل يضربه بها جريدة جريدة حتى كسر ذلك الجريد على وجهه ورأسه حتى لم يترك به مصحا، ثم أرسله ولا طباخ به، ثم قال: والله لو قدرت على السيف لضربتك به. (1)
_________
(1) الصارم المسلول (2/ 184).(1/215)
عمرو بن العاص (1) (43 هـ)
عمرو بن العاص بن وائل أبو عبد الله ويقال أبو محمد، السهمي، داهية قريش، ورجل العالم ومن يضرب به المثل في الفطنة والدهاء والحزم. أسلم قبل الفتح سنة ثمان وهاجر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. فعن إبراهيم النخعي قال: عقد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لواء لعمرو على أبي بكر وعمر وسراة أصحابه. قال الثوري: أراه قال: في غزوة ذات السلاسل. وروي عنه أنه قال: فوالله إني لأشد الناس حياء من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما ملأت عيني منه ولا راجعته. وقال: بعث إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "خذ عليك ثيابك وسلاحك، ثم ائتني، فأتيته وهو يتوضأ فصعد فيَّ البصر، وصوبه فقال: إني أريد أن أبعثك على جيش فيسلمك الله ويغنمك، وأرغب لك رغبة صالحة من المال" قلت: يا رسول الله. ما أسلمت من أجل المال، ولكني أسلمت رغبة في الإسلام، ولأن أكون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: يا عمرو، نعما بالمال الصالح للرجل الصالح" (2). وقال رضي الله عنه: ليس العاقل من يعرف الخير من الشر، ولكن هو الذي يعرف خير الشرين. وكان يقول رضي الله عنه حين وفاته: اللهم لا بريء فأعتذر ولا عزيز فأنتصر، وإن لا تدركني منك رحمة، أكن من الهالكين. توفي رضي الله عنه عام ثلاث وأربعين.
_________
(1) طبقات ابن سعد (4/ 254 - 261) و (7/ 493 - 494) والإصابة (4/ 650 - 654) والاستيعاب (3/ 1184 - 1191) والبداية (8/ 25 - 27) والعقد الثمين (6/ 398 - 406) وتهذيب التهذيب (8/ 56 - 57) ومستدرك الحاكم (3/ 452 - 455) والمعرفة والتاريخ (1/ 323) والكامل لابن الأثير (3/ 274 - 276) والسير (3/ 54 - 77) وشذرات الذهب (1/ 53).
(2) أحمد (4/ 197) والبخاري في الأدب المفرد (299) والطبراني في الأوسط (4/ 130/3213) وأبو يعلى (13/ 320 - 322/ 7336) والقضاعي في مسند الشهاب (2/ 259/1315) ابن حبان (8/ 7/3211) الحاكم (2/ 2) وقال: "صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي". وذكره الهيثمي في المجمع (9/ 355 - 356) وقال: "رواه أحمد وقال: ورجال أحمد وأبي يعلى رجال الصحيح".(1/216)
موقفه من المشركين:
- قال الذهبي في السير: عن محمد بن عمرو عن أبيه عن جده قال: قال عمرو بن العاص: خرج جيش من المسلمين أنا أميرهم، حتى نزلنا الإسكندرية، فقال عظيم منهم: أخرجوا إلي رجلا أكلمه ويكلمني، فقلت: لا يخرج إليه غيري. فخرجت معي ترجماني ومعه ترجمان حتى وضع لنا منبران. فقال: ما أنتم؟ قلت: نحن العرب ومن أهل الشوك والقرظ، ونحن أهل بيت الله كنا أضيق الناس أرضا وشره عيشا. نأكل الميتة والدم ويغير بعضنا على بعض. كنا بشر عيش عاش به الناس حتى خرج فينا رجل ليس بأعظمنا يومئذ شرفا، ولا أكثرنا مالا، قال: أنا رسول الله إليكم يأمرنا بما لا نعرف وينهانا عما كنا عليه. فشنفنا له وكذبناه ورددنا عليه حتى خرج إليه قوم من غيرنا فقالوا: نحن نصدقك ونقاتل من قاتلك. فخرج إليهم وخرجنا إليه وقاتلناه، فظهر علينا وقاتل من يليه من العرب، فظهر عليهم. فلو تعلم ما ورائي من العرب ما أنتم فيه من العيش لم يبق أحد إلا جاءكم. فضحك ثم قال: إن رسولكم قد صدق، وقد جاءتنا رسل بمثل ذلك وكنا عليه حتى ظهرت فينا ملوك، فعملوا فينا بأهوائهم وتركوا أمر الأنبياء، فإن أنتم أخذتم بأمر نبيكم لم يقاتلكم أحد إلا غلبتموه، وإذا فعلتم مثل الذي فعلنا فتركتم أمر نبيكم لم تكونوا أكثر عددا منا ولا أشد منا قوة. (1)
_________
(1) السير (3/ 70 - 71).(1/217)
" التعليق:
صدق هذا العظيم، القوة في اتباع كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، بهما تقوى الأمة وتعلو مكانتها، وبالتفريط فيهما تندحر وتتولى. وقد كان كذلك، والله المستعان.
- عن سعيد بن نشيط، أن قرة بن هبيرة قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأسلم ... الحديث، وفيه: فبعث عمرا على البحرين، فتوفي وهو ثم. قال عمرو: فأقبلت حتى مررت على مسيلمة، فأعطاني الأمان، ثم قال: إن محمدا أرسل في جسيم الأمور، وأرسلت في المحقرات. قلت: أعرض علي ما تقول: فقال: يا ضفدع نقي فإنك نعم ما تنقين، لا زادا تنقرين، ولا ماء تكدرين، ثم قال: يا وبر يا وبر، ويدان وصدر، وبيان خلقه حفر. ثم أتي بأناس يختصمون في نخلات قطعها بعضهم لبعض. فتسجى قطيفة، ثم كشف رأسه، ثم قال: والليل الأدهم، والذئب الأسحم، ما جاء ابن أبي مسلم من مجرم، ثم تسجى الثانية، فقال: والليل الدامس، والذئب الهامس، ما حرمته رطبا إلا كحرمته يابس، قوموا فلا أرى عليكم فيما صنعتم بأسا. قال عمرو: أما والله إنك كاذب، وإنك لتعلم إنك لمن الكاذبين، فتوعدني. (1)
موقفه من القدرية:
قال عمرو بن العاص: انتهى عجبي إلى ثلاث: المرء يفر من القدر وهو لاقيه، ويرى في عين أخيه القذى فيعيبها، ويكون في عينه مثل الجذع فلا
_________
(1) السير (3/ 69).(1/218)
يعيبها، ويكون في دابته الصعر ويقومها جهده ويكون في نفسه الصعر فلا يقومها. (1)
عبد الله بن سَلاَم (2) (43 هـ)
عبد الله بن سلام بن الحارث، أبو يوسف الإسرائيلي الأنصاري، من ذرية يوسف النبي عليه السلام، أسلم وصحب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وشهد له بالجنة.
قيل: كان اسمه الحصين، فسماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وروى عنه أبو هريرة وأنس بن مالك وعبد الله بن حنظلة بن الغسيل وابناه يوسف ومحمد وأبو بردة بن أبي موسى وقيس بن عباد وآخرون.
وفي صحيح البخاري عن سعد بن أبي وقاص قال: ما سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول لأحد يمشي على الأرض: "إنه من أهل الجنة، إلا لعبد الله بن سلام". (3)
وفيه أيضا عن محمد بن سيرين قال: قال قيس بن عباد: كنت في حلقة فيها سعد بن مالك وابن عمر، فمر عبد الله بن سلام، فقالوا: هذا رجل من أهل الجنة، فقلت له: إنهم قالوا كذا وكذا، قال: سبحان الله، ما كان ينبغي لهم أن يقولوا ما ليس لهم به علم، إنما رأيت كأنما عمود وضع في روضة خضراء فنصب فيها وفي رأسها عروة وفي أسفلها منصف، فقيل: ارقه، فرقيت حتى أخذت بالعروة، فقصصتها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله
_________
(1) أصول الاعتقاد (4/ 746 - 747/ 1235).
(2) طبقات ابن سعد (2/ 352 - 353) والاستيعاب (3/ 921 - 923) وتاريخ دمشق (29/ 97 - 136) وتهذيب الكمال (15/ 74 - 75) وسير أعلام النبلاء (2/ 413 - 426) والإصابة (4/ 118 - 120).
(3) أحمد (1/ 169) والبخاري (7/ 162/3812) ومسلم (4/ 1930/2483).(1/219)
- صلى الله عليه وسلم -: "يموت عبد الله وهو آخذ بالعروة الوثقى". (1)
ومناقبه كثيرة رضي الله عنه، توفي سنة ثلاث وأربعين.
موقفه من المشركين:
عن أنس قال: سمع عبد الله بن سلام بقدوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في أرض يخترف، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: فما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام أهل الجنة؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال: أخبرني بهن جبريل آنفا. قال: جبريل؟ قال: نعم. قال: ذاك عدو اليهود من الملائكة. فقرأ هذه الآية: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ} (2)، أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام أهل الجنة فزيادة كبد حوت، وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة نزعت. قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله. يا رسول الله، إن اليهود قوم بهت، وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم يبهتوني. فجاءت اليهود، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أي رجل عبد الله فيكم؟ قالوا: خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا. قال: أرأيتم إن أسلم عبد الله ابن سلام؟ فقالوا: أعاذه الله من ذلك. فخرج عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله. فقالوا: شرنا وابن شرنا، وانتقصوه. قال: فهذا الذي كنت أخاف يا رسول الله. (3)
_________
(1) البخاري (12/ 491/7010) ومسلم (4/ 1931/2484 - (149)).
(2) البقرة الآية (97).
(3) أحمد (3/ 108) والبخاري (8/ 209/4480).(1/220)
معقل بن قيس (1) (43 هـ)
معقل بن قيس الرياحي، من أهل الكوفة من بني رياح بن يربوع بن حنظلة بن مالك. أوفده عمار بن ياسر إلى عمر يفتح تستر، وبعثه علي إلى بني ناجية حين ارتدوا فقاتلهم، ووجهه علي لمحاربة يزيد بن شجرة الرهاوي. قال ابن عياش: كان صاحب شرطة علي معقل بن قيس. وذكره يعقوب بن سفيان في أمراء علي يوم الجمل.
وقال علي بن مجاهد: كان أول من خرج بعد أهل النخيلة المستورد بن علفة اليربوعي، فسار إليه معقل بن قيس الرياحي، فلقيه بشط دجلة فاختلفا ضربتين، فقتل كل واحد منهما صاحبه. ذكر أبو جعفر الطبري أن ذلك كان في سنة ثلاث وأربعين، وأرخه أبو عبيدة سنة تسع وثلاثين في خلافة علي.
قال ابن عساكر: ولا شك أن ذلك كان في أيام معاوية وإمارة المغيرة ابن شعبة على الكوفة.
موقفه من الخوارج:
- قال حين أنذر المغيرة بن شعبة رؤساء الناس في أمر الخوارج: فقام إليه معقل بن قيس الرياحي فقال: أيها الأمير هل سمي لك أحد من هؤلاء القوم؟ فإن كانوا سموا لك فأعلمنا من هم؟ فإن كانوا منا كفيناكهم، وإن كانوا من غيرنا أمرت أهل الطاعة من أهل مصرنا فأتتك كل قبيلة بسفهائها
_________
(1) تاريخ خليفة (198 - 200) وتاريخ الطبري (3/حوادث سنة 43هـ) وتاريخ دمشق (59/ 367 - 368) والإصابة (10/ 39).(1/221)
فقال: ما سمي لي أحد منهم. ولكن قد قيل لي إن جماعة يريدون أن يخرجوا بالمصر، فقال له معقل: أصلحك الله! فإني أسير في قومي وأكفيك ما هم فيه، فليكفك كل امرئ من الرؤساء قومه ... (1)
- وفيه أيضا: فقام معقل بن قيس فقال: إنك لا تبعث إليهم أحدا ممن ترى حولك من أشراف المصر إلا وجدته سامعا مطيعا ولهم مفارقا ولهلاكهم محبا، ولا أرى أصلحك الله أن تبعث إليهم أحدا من الناس أعدى لهم ولا أشد عليهم مني، فابعثي إليهم فإني أكفيكهم بإذن الله. فقال: اخرج على اسم الله فجهز معه ثلاثة آلاف رجل. (2)
- عن سالم بن ربيعة قال: إني جالس عند المغيرة بن شعبة حين أتاه معقل بن قيس يسلم عليه ويودعه، فقال له المغيرة: يا معقل بن قيس، إني قد بعثت معك فرسان أهل البصرة، أمرت بهم فانتخبوا انتخابا، فسر إلى هذه العصابة المارقة، الذين فارقوا جماعتنا وشهدوا عليها بالكفر، فادعهم إلى التوبة، وإلى الدخول في الجماعة، فإن فعلوا فاقبل منهم، واكفف عنهم، وإن هم لم يفعلوا فناجزهم واستعن بالله عليهم. فقال معقل بن قيس: سندعوهم ونعذر، وايم الله ما أرى أن يقبلوا، ولئن لم يقبلوا الحق لا نقبل منهم الباطل، هل بلغك -أصلحك الله- أين منزل القوم؟ (3) ثم سار في آثرهم وناجزهم وطردهم من كل مصر حلوا به، إلى أن انتهى إلى منازلة رأسهم
_________
(1) تاريخ الطبري (3/ 180).
(2) تاريخ الطبري (3/ 182).
(3) تاريخ الطبري (3/ 182 - 183).(1/222)
المسورة بن علفة فقتل أحدهما الآخر، وأبيد هؤلاء المارقون عن آخرهم. (1)
- قال الحافظ ابن كثير: وقد كانت في هذه السنة -أعنى سنة ثلاث وأربعين- وقعة عظيمة بين الخوارج وجند الكوفة، وذلك أنهم صمموا- كما قدمنا- على الخروج على الناس في هذا الحين، فاجتمعوا في قريب من ثلاثمائة عليهم المستورد بن علقمة، فجهز عليهم المغيرة بن شعبة جندا عليهم معقل ابن قيس في ثلاثة آلاف، فصار إليهم وقدم بين يديه أبا الرواع في طليعة هي ثلاثمائة على عدة الخوارج، فلقيهم أبو الرواع بمكان يقال له المذار. فاقتتلوا معهم فهزمهم الخوارج، ثم كروا عليهم فهزمتهم الخوارج، ولكن لم يقتل أحد منهم، فلزموا مكانهم في مقاتلتهم ينتظرون قدوم أمير الجيش معقل بن قيس عليهم، فما قدم عليهم إلا في آخر نهار غربت فيه الشمس، فنزل وصلى بأصحابه، ثم شرع في مدح أبى الرواع، فقال له: أيها الأمير إن لهم شدات منكرة، فكن أنت ردأ الناس ومر الفرسان فليقاتلوا بين يديك.
فقال معقل بن قيس: نعم ما رأيت، فما كان إلا ريثما قال له ذلك حتى حملت الخوارج على معقل وأصحابه، فانجفل عنه عامة أصحابه، فترجل عند ذلك معقل بن قيس وقال: يا معشر المسلمين الأرض الأرض، فترجل معه جماعة من الفرسان والشجعان قريب من مائتي فارس، منهم أبو الرواع الشاكري، فحمل عليهم المستورد بن علقمة بأصحابه فاستقبلوهم بالرماح والسيوف، ولحق بقية الجيش بعض الفرسان فذمرهم وعيرهم وأنبهم على الفرار، فرجع الناس إلى معقل وهو يقاتل الخوارج بمن معه من الأنصار قتالا شديدا، والناس
_________
(1) انظر تفصيل ذلك من تاريخ الطبري (3/ 182 - 193).(1/223)
يتراجعون في أثناء الليل، فصفهم معقل بن قيس ميمنة وميسرة ورتبهم، وقال: لا تبرحوا على مصافكم حتى نصبح فنحمل عليهم فما أصبحوا حتى هزمت الخوارج فرجعوا من حيث أتوا، فسار معقل في طلبهم وقدم بين يديه أبا الرواع في ستمائة فالتقوا بهم عند طلوع الشمس، فثار إليهم الخوارج فتبارزوا ساعة، ثم حملوا حملة رجل واحد فصبر لهم أبو الرواع بمن معه وجعل يذمرهم ويعيرهم ويؤنبهم على الفرار ويحثهم على الصبر فصبروا وصدقوا فى الثبات حتى ردوا الخوارج إلى أماكنهم، فلما رأت الخوارج ذلك خافوا من هجوم معقل عليهم، فما يكون دون قتلهم شيء فهربوا بين أيديهم حتى قطعوا دجلة في أرض نهزشير، وتبعهم أبو الرواع ولحقه معقل بن قيس، ووصلت الخوارج إلى المدينة العتيقة فركب إليهم شريك بن عبيد نائب المدائن ولحقهم أبو الرواع بمن معه من المقدمة. (1)
أبو موسى الأشعري (2) (44 هـ)
هو عبد الله بن قيس بن سُلَيم، صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. أبو موسى الأشعري التميميّ، الفقيه المقرئ، وهو معدود فيمن قرأ على النبي - صلى الله عليه وسلم -. أقرأَ أهل البصرة وفقّههم في الدين، حدث عنه بريدة بن الحصيب، وأبو أمامة الباهلي، وأبو سعيد الخدري. وقد استعمله النبي ومعاذا على زبيد، وعدن،
_________
(1) البداية والنهاية (8/ 26).
(2) السير (2/ 380 - 402) والإصابة (4/ 211 - 214) والاستيعاب (3/ 979 - 981) وأسد الغابة (3/ 364 - 366) طبقات ابن سعد (2/ 344 - 345) والجرح والتعديل (5/ 138).(1/224)
وولي إمرة الكوفة لعمر، وإمرة البصرة، وقدم ليالي فتح خيبر، وغزا، وجاهد مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحمل عنه علما كثيرا.
عن أبي موسى أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: "يا أبا موسى لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود" (1). قال مسروق: كان القضاء في الصحابة في ستة: وذكر منهم أبا موسى. توفي رحمه الله سنة أربع وأربعين على الصحيح.
موقفه من المبتدعة:
روى ابن بطة في الإبانة بسنده إلى أبي موسى قال: لأن أجاور يهوديا ونصرانيا وقردة وخنازير أحب إلي من أن يجاورني صاحب هوى يمرض قلبي. (2)
موقفه من الرافضة:
عن أبي موسى قال: لو كان قتل عثمان هدى لاجتلبت به الأمة لبنا ولكنه كان ضلالا فاجتلبت به الأمة دما. (3)
موقفه من الجهمية:
- جاء في السنة لعبد الله عن أبي موسى -وكان يعلمهم من سنتهم- قال فبينا يحدثهم إذ شخصت أبصارهم قال ما أشخص أبصاركم عني؟ قالوا القمر قال فكيف إذا رأيتم الله جهرة؟ (4)
_________
(1) البخاري (9/ 113/5048) ومسلم (1/ 546/793) والترمذي (5/ 650/3855).
(2) الإبانة (2/ 3/468/ 469).
(3) أصول الاعتقاد (8/ 1440/2585).
(4) السنة لعبد الله (173) وأصول الاعتقاد (3/ 551 - 552/ 862).(1/225)
- عن أبي تميمة الهجيمي قال: سمعت أبا موسى الأشعري في قول الله عز وجل: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وزيادة} (1) قال: النظر إلى وجه ربهم. (2)
موقفه من القدرية:
جاء في الإبانة عن معمر قال: بلغني أن عمرو بن العاصي قال لأبي موسى: وددت أني وجدت من أخاصم إليه ربي؛ فقال أبو موسى: أنا، فقال عمرو: فقدر علي شيئا ويعذبني عليه؟ فقال أبو موسى: نعم، قال: لم؟ قال: لأنه لا يظلمك، قال: صدقت. (3)
أم حبيبة أم المؤمنين (4) (44 هـ)
هي رَمْلَة بنت أبي سفيان صَخْر بن حَرب، بن أُمية، بن عبد شَمس، الأموية زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، تكنى أم حبيية، وقيل اسمها هند، ورملة أصح.
وقد تزوجها أولا عبد الله بن جحش بن رباب الأسدي، فولدت منه حبيبة بأرض الحبشة في الهجرة، ثم توفي عبد الله متنصرا مرتدا، فكاتب النبي - صلى الله عليه وسلم - النجاشي، فزوجها به، وأصدق عنه أربعة آلاف درهم، وبعث بها إلى
_________
(1) يونس الآية (26).
(2) أصول الاعتقاد (3/ 508/786).
(3) الإبانة (2/ 9/172/ 1662).
(4) طبقات ابن سعد (8/ 96 - 100) وأسد الغابة (7/ 303 - 304) وتهذيب الكمال (35/ 175 - 176) وسير أعلام النبلاء (2/ 218 - 223) والوافي بالوفيات (14/ 145 - 146) وتاريخ الإسلام (حوادث 41 - 60/ص.132 - 134) والإصابة (7/ 651 - 654).(1/226)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع شرحبيل بن حسنة، وذلك سنة سبع، وعمرها يومئذ بضع وثلاثون سنة. روت عدة أحاديث، وروى عنها أخواها: الخليفة معاوية، وعنبسة وابن أخيها عبد الله بن عتبة بن أبي سفيان، وعروة بن الزبير وأبو صالح السمان وصفية بنت شيبة وجماعة.
وأخرج ابن سعد عن عائشة قالت: دعتني أم حبيبة عند موتها، فقالت: قد كان يكون بيننا ما يكون بين الضرائر، فغفر الله لي ولك ما كان من ذلك، فقلت: غفر الله لك ذلك كله وحللك من ذلك، فقالت: سررتني سرك الله، وأرسلت إلى أم سلمة، فقالت لها مثل ذلك. توفيت رضي الله عنها سنة أربع وأربعين، وقيل سنة اثنتين.
موقفها من المشركين:
عن الزهري قال: لما قدم أبو سفيان بن حرب المدينة جاء إلى رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، وهو يريد غزو مكة فكلمه أن يزيد في هدنة الحديبية فلم يقبل عليه رسول الله، فقام فدخل على ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش النبي - صلى الله عليه وسلم -، طوته دونه فقال: يا بنية أرغبت بهذا الفراش عني أم بي عنه؟ فقالت: بل هو فراش رسول الله وأنت امرؤ نجس مشرك. فقال: يا بنية لقد أصابك بعدي شر. (1)
_________
(1) طبقات ابن سعد (8/ 99 - 100).(1/227)
سلمة بن سلامة بن وَقْش (1) (45 هـ)
سَلَمَة بن سَلاَمَة بن وَقْش بن زُغْبَة بن زَعُورَاء بن عبد الأَشْهل الأنصاري الأشهلي يكنى أبا عوف. شهد العقبتين: في قول الجميع، ثم شهد بدرا وأحدا والمشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، استعمله عمر على اليمامة. روى عنه محمود بن لبيد وجبيرة والد زيد بن جبيرة. آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين أبي سبرة بن أبي رهم العامري. وقيل: بينه وبين الزبير بن العوام. توفي سنة خمس وأربعين بالمدينة وهو ابن سبعين سنة.
موقفه من المشركين:
عن محمود بن لبيد، عن سلمة بن سلامة بن وقش؛ قال: كان بين أبياتنا رجل يهودي، فخرج علينا ذات غداة ضحى. حتى جلس إلى بني عبد الأشهل في ناديهم، وأنا يومئذ غلام شاب، علي بردة لي، مضطجع بفناء أهلي، فأقبل اليهودي. فذكر البعث والقيامة، والجنة والنار، وكان القوم أصحاب وثن لا يرون حياة تكون بعد الموت، فقالوا: ويحك يا فلان، أترى هذا كائنا: أن الله عز وجل يبعث العباد بعد موتهم، إذا صاروا ترابا وعظاما؟ وأن غير هذه الدار يجزون فيها بحسن أعمالهم، ثم يصيرون إلى جنة ونار؟؛ قال: نعم، والذي نفسي بيده. وايم الله لوددت أن حظي من تلك النار أن أنجو منها: أن يسجر لي تنور في داركم. ثم أجعل فيه. ثم يطبق علي، قالوا له: وما علامة ذلك؟ قال: نبي يبعث الآن. قد أظلكم زمانه. ويخرج من هذه
_________
(1) طبقات ابن سعد (3/ 439 - 440) والاستيعاب (2/ 641) وأسد الغابة (2/ 523 - 524) والسير (2/ 355 - 356) والإصابة (3/ 148 - 149).(1/228)
البلاد. وأشار إلى مكة، قالوا: ومتى يكون ذلك الزمان؟ قال: إن يستنفد هذا الغلام عمره يدركه، قال سلمة: فما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - وإن اليهودي لحي بين أظهرنا، فآمنا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصدقناه، وكفر به اليهودي وكذبه، فكنا نقول له: ويلك يا فلان أين ما كنت تقول؟ فيقول: إنه ليس به، بغيا وحسدا. (1)
زيد بن ثابت (2) (45 هـ)
زيد بن ثابت بن الضحاك، أبو سعيد وأبو خارجة الأنصاري الخزرجي النجاري المدني الصحابي، كاتب الوحي للنبي - صلى الله عليه وسلم -. حدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان. وروى عنه أبو هريرة وابن عمر وابن عباس وأنس ابن مالك وسهل بن سعد وأبو أمامة بن سهل وخلق كثير.
عن مسروق قال: كان أصحاب الفتوى من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عمر وعلي وابن مسعود وزيد وأبيّ وأبو موسى.
وعن سليمان بن يسار قال: ما كان عمر وعثمان يقدمان على زيد أحدا في الفرائض والفتوى والقراءة والقضاء.
وعن مسروق قال: قدمت المدينة فوجدت زيد بن ثابت من الراسخين في العلم.
_________
(1) الشريعة (2/ 268 - 269/ 1036).
(2) طبقات ابن سعد (2/ 358) وتاريخ دمشق (19/ 295 - 341) والاستيعاب (2/ 537 - 540) وتهذيب الكمال (10/ 24 - 32) وتهذيب التهذيب (3/ 399) وسير أعلام النبلاء (2/ 426 - 441) وشذرات الذهب (1/ 54 و62).(1/229)
وعن الشعبي قال: أمسك ابن عباس بركاب زيد بن ثابت، فقال: أتمسك فيَّ وأنت ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: إنا هكذا نصنع بالعلماء.
وعن سعيد بن المسيب قال: شهدت جنازة زيد بن ثابت، فلما دلي في قبره، قال ابن عباس: من سره أن يعلم كيف ذهاب العلم فهكذا ذهاب العلم، والله لقد دفن اليوم علم كثير.
توفي رضي الله عنه سنة خمس وأربعين وهو ابن ست وخمسين، وقيل غير ذلك.
موقفه من المبتدعة:
- جاء في السير عن شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري: بلغنا أن زيد بن ثابت كان يقول إذا سئل عن الأمر: أكان هذا؟ فإن قالوا: نعم. حدث فيه بالذي يعلم. وإن قالوا: لم يكن. قال: فذروه حتى يكون.
- وفيها: كان زيد بن ثابت إذا سأله رجل عن شيء، قال: آلله كان هذا؟ فإن قال: نعم، تكلم فيه، وإلا لم يتكلم. (1)
هَرِم بن حَيَّان (2) (46 هـ)
هَرِم بن حَيَّان العَبْدي الربعيّ، ويقال الأزديّ، البصريّ، أحد العابدين. روى عن عمر. وروى عنه الحسن البصري وغيره. قال ابن سعد: كان ثقة
_________
(1) سير أعلام النبلاء (2/ 438).
(2) طبقات ابن سعد (7/ 131) والحلية (2/ 119) والاستيعاب (4/ 1537) تاريخ الإسلام (حوادث61 - 80/ص.533) وسير أعلام النبلاء (4/ 48) والإصابة (6/ 533 - 534) والمنتظم (5/ 218 - 219) والنجوم الزاهرة (1/ 132).(1/230)
وله فضل وعبادة، وكان عاملا لعمر. وقال الحسن البصري: خرج هرم وعبد الله بن عامر بن كريز، فبينما رواحلهما ترعى إذ قال هرم: أيسرك أنك كنت هذه الشجرة؟ قال: لا والله، لقد رزقني الله الإسلام، وإني لأرجو من ربي، فقال هرم: لكني والله لوددت أني كنت هذه الشجرة، فأكلتني هذه الناقة، ثم بعرتني، فاتخذت جلة، ولم أكابد الحساب، ويحك يا ابن عامر إني أخاف الداهية الكبرى. قال الحسن: كان والله أفقههما وأعلمهما بالله. أرخ لوفاته ابن الجوزي وابن تغري بردي سنة ست وأربعين.
موقفه من الجهمية:
جاء في أصول الاعتقاد: قال هرم بن حيان: صاحب الكلام على إحدى المنزلتين إن قصر فيه خصم وإن أعرق (1) فيه أثم. (2)
الحسن بن علي بن أبي طالب (3) (49 هـ)
الحسن بن علي بن أبي طالب، الإمام السيد، ريحانة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسبطه، وسيد شباب أهل الجنة، أبو محمد القرشي الهاشمي المدني الشهيد. ولد سنة ثلاث للهجرة. قال أسامة: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأخذني والحسن، ويقول:
_________
(1) كذا في الأصل، ولعل الصواب: "أغرق".
(2) أصول الاعتقاد (1/ 146/222).
(3) الجرح والتعديل (3/ 19) والإصابة (2/ 68 - 74) والاستيعاب (1/ 383 - 392) والحلية (2/ 35) وتاريخ بغداد (1/ 137 - 138) وتاريخ الطبري (5/ 158 - 160) والكامل لابن الأثير (3/ 460) والوافي (12/ 107 - 110) والبداية والنهاية (8/ 14 - 19) والعقد الثمين (4/ 156 - 158) والسير (3/ 245 - 287).(1/231)
"اللهم إني أحبهما فأحبهما" (1).
قال الذهبي: وقد كان هذا الإمام سيدا، وسيما، جميلا، عاقلا، ورزينا، جوادا ممدحا، خيرا، دينا، ورعا، محتشما، كبير الشأن وكان منكاحا مطلاقا، تزوج نحوا من سبعين امرأة، وقلما كان يفارقه أربع ضرائر. وفيه قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن ابني هذا سيد يصلح به الله فئتين من المسلمين" (2). وقيل للحسن بن علي: إن أبا ذر يقول: الفقر أحب إلي من الغنى، والسقم أحب إلي من الصحة، فقال: رحم الله أبا ذر، أما أنا فأقول: من اتكل على حسن اختيار الله له، لم يتمن شيئا، وهذا حد الوقوف على الرضى بما تصرف به القضاء. ولما احتضر الحسن رضي الله عنه قال: اللهم إني أحتسب نفسي عندك، فإنها أعز الأنفس علي.
مات سنة تسع وأربعين رضي الله عنه وأرضاه.
موقفه من المبتدعة:
نقل الذهبي في السير عن الحرمازي: خطب الحسن بن علي بالكوفة، فقال: إن الحلم زينة، والوقار مروءة، والعجلة سفه، والسفه ضعف، ومجالسة أهل الدنائة شين، ومخالطة الفساق ريبة. (3)
_________
(1) أحمد (5/ 210) والبخاري (7/ 110/3735) والنسائي في الكبرى (5/ 50/8171).
(2) أحمد (5/ 37 - 38) والبخاري (5/ 384/2704) مطولا، وأبو داود (5/ 48 - 49/ 4662) والترمذي (5/ 616/3773) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي (3/ 118 - 119/ 1409) كلهم من طرق عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر والحسن بن علي إلى جنبه وهو يقبل على الناس مرة فذكره.
(3) سير أعلام النبلاء (3/ 263).(1/232)
موقفه من الرافضة:
جاء في السير: عن عمرو بن الأصم، قلت للحسن: إن الشيعة تزعم أن عليا مبعوث قبل يوم القيامة، قال: كذبوا والله، ما هؤلاء بالشيعة، لوعلمنا أنه مبعوث ما زوجنا نساءه، ولا اقتسمنا ماله. (1)
موقفه من القدرية:
قال الحسن بن علي: قضي القضاء وجف القلم وأمور بقضاء في كتاب قد خلا. (2)
كعب بن مالك (3) (50 هـ)
هو كعب بن مالك بن أبي كعب، عمرو بن القَيْن الأنصاري الخزرجي العقبي الأحدي. شاعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه وأحد الثلاثة الذين خلفوا فتاب الله عليهم، شهد العقبة وله عدة أحاديث تبلغ الثلاثين. روى عنه: عبد الله وعبد الله وعبد الرحمن ومحمد ومعبد بنوه، وجابر وابن عباس وأبو أمامة وآخرون. كانت كنيته: أبا بشير آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بينه وبين الزبير. قال
_________
(1) سير أعلام النبلاء (3/ 263) وهو في الشريعة (3/ 560/2070).
(2) أصول الاعتقاد (4/ 746/1234) والإبانة (2/ 10/230/ 1830) والشريعة (1/ 465 - 466/ 610) والسنة لعبد الله (132).
(3) التاريخ الكبير (7/ 219 - 220) والجرح والتعديل (7/ 160) وتاريخ خليفة (202) وطبقاته (103) والاستيعاب (3/ 1323 - 1326) وتاريخ دمشق (50/ 176 وما بعدها) وأسد الغابة (4/ 461 - 462) وتهذيب الكمال (24/ 193 - 196) وتهذيب التهذيب (8/ 440 - 441) والإصابة (5/ 610 - 612) وشذرات الذهب (1/ 56) والسير (2/ 523).(1/233)
كعب: يا رسول الله: قد أنزل في الشعراء ما أنزل، قال: "إن المجاهد مجاهد بسيفه ولسانه، والذي نفسي بيده لكأنما ترمونهم به نضح النبل" (1).
نزلت فيه وفي صاحبيه مرارة بن الربيع وهلال بن أمية، آية التوبة {لقد تاب الله علي النبي ... } الآيات. توفي رضي الله عنه سنة خمسين.
موقفه من المشركين:
قال ابن سيرين: أما كعب، فكان يذكر الحرب، يقول: فعلنا ونفعل، ويتهددهم. وأما حسان، فكان يذكر عيوبهم وأيامهم. وأما ابن رواحة، فكان يعيرهم بالكفر. وقد أسلمت دوس فرقا من بيت قاله كعب:
نخيرها ولو نطقت لقالت ... قواطعهن دوسا أو ثقيفا (2)
موقفه من الرافضة:
عن الشعبي قال: لما قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه رثاه كعب بن مالك الأنصاري رحمه الله فقال (3):
عجبت لقوم أسلموا بعد عزهم ... إمامهم للمنكرات وللغدر
فلو أنهم سيموا من الضيم خطة ... لجاد لهم عثمان بالأيد والنصر
فما كان في دين الإله بخائن ... ولا كان في الأقسام بالضيق الصدر
_________
(1) أحمد (3/ 460) (6/ 387) الطبراني في الكبير (19/ 75 - 76/ 151 - 152 - 153) وفي الأوسط (1/ 386/673) دون قوله: والذي نفسي بيده ... وذكره الهيثمي في المجمع (2/ 126) وقال: "رواه أحمد بأسانيد، ورجال أحدها رجال الصحيح، وروى الطبراني في الأوسط والكبير نحوه".
(2) السير (2/ 525).
(3) الشريعة (3/ 153/1494).(1/234)
ولا كان نكاثا بعهد محمد ... ولا تاركا للحق في النهي والأمر
فإن أبكه أعذر لفقدي عدله ... ومالي عنه من عزاء ولا صبر
وهل لامرئ يبكي لعظم مصيبة ... أصيب بها بعد ابن عفان من عذر
فلم أر يوما كان أعظم فتنة ... وأهتك منه للمحارم والستر
غداة أصيب المسلمون بخيرهم ... ومولاهم في إله العسر واليسر
المغيرة بن شعبة (1) (50 هـ)
المُغيرَة بن شُعْبَة بن أبي عامر بن مسعود، أبو عيسى وقيل أبو عبد الله، الثقفي صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. أسلم عام الخندق، وأول مشاهده الحديبية.
روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وروى عنه أبو أمامة الباهلي، والمسور بن مخرمة وقرة المزني وأولاده عروة وحمزة وعقار.
كان موصوفا بالدهاء، قال الشعبي: القضاة أربعة: عمر وعلي وابن مسعود وأبو موسى الأشعري، والدهاة أربعة: معاوية وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وزياد، فأما معاوية فللأناة، وأما عمرو فللمعضلات، وأما المغيرة فللمبادهة، وأما زياد فللصغير والكبير.
وكان رضي الله عنه نكّاحا للنساء، أحصن ثمانين امرأة. ولاه عمر بن الخطاب البصرة، ولم يزل عليها حتى قتل عمر، فأقره عثمان عليها، ثم عزله،
_________
(1) طبقات ابن سعد (4/ 284) وتاريخ بغداد (1/ 191) والاستيعاب (4/ 1445 - 1447) وتاريخ دمشق (60/ 13 - 62) وأسد الغابة (5/ 238 - 240) وسير أعلام النبلاء (3/ 21) وتهذيب الكمال (28/ 369 - 376).(1/235)
وشهد اليمامة وفتوح الشام، وذهبت عينه باليرموك، وشهد القادسية وشهد فتح نهاوند، وكان على ميسرة النعمان بن مقرن، وشهد فتح همدان وغيرها. اعتزل الفتنة بعد مقتل عثمان، فلما قتل علي، وصالح معاوية الحسن ودخل الكوفة، ولاه عليها.
توفي رضي الله عنه بالكوفة سنة خمسين.
موقفه من المشركين:
جاء في السير: عن حجاج الصواف حدثني إياس بن معاوية عن أبيه قال: لما كان يوم القادسية، ذهب المغيرة بن شعبة في عشرة إلى صاحب فارس، فقال: إنا قوم مجوس، وإنا نكره قتلكم لأنكم تنجسون علينا أرضنا. فقال: إنا كنا نعبد الحجارة حتى بعث الله إلينا رسولا، فاتبعناه، ولم نجيء لطعام، بل أمرنا بقتال عدونا، فجئنا لنقتل مقاتلتكم، ونسبي ذراريكم. وأما ما ذكرت من الطعام فما نجد ما نشبع منه، فجئنا فوجدنا في أرضكم طعاما كثيرا وماء، فلا نبرح حتى يكون لنا ولكم. فقال العلج: صدق. قال: وأنت تفقأ عينك غدا، ففقئت عينه بسهم. (1)
موقفه من الخوارج:
- قال خليفة بن خياط في تاريخه: وفي ولاية المغيرة بن شعبة على الكوفة خرج شبيب بن بجرة الأشجعي، فوجه إليه المغيرة كثير بن شهاب الحارثي فقتله بأذربيجان. قال أبو عبيدة: خرج شبيب بن بجرة -وكان ممن
_________
(1) السير (3/ 32).(1/236)
شهد النهروان بالكوفة- على المغيرة بن شعبة عند دار الرزق فقتل. (1)
- قال الطبري: إن قبيصة بن الدمون أتى المغيرة بن شعبة -وكان على شرطته- فقال إن شمر بن جعونة الكلابي جاءني فخبرني أن الخوارج قد اجتمعوا في منزل حيان بن ظبيان السلمي، وقد اتعدوا أن يخرجوا إليك في غرة شعبان. فقال المغيرة بن شعبة لقبيصة بن الدمون -وهو حليف لثقيف وزعموا أن أصله كان من حضرموت من الصدف- سر بالشرطة حتى تحيط بدار حيان بن ظبيان فأتني به؟ وهم إلا أنه أمير تلك الخوارج. فسار قبيصة في الشرطة وفي كثير من الناس فلم يشعر حيان بن ظبيان إلا والرجال معه في داره نصف النهار، وإذا معه معاذ بن جوين ونحو من عشرين رجلا من أصحابهما، وثارت امرأته أم ولد له فأخذت سيوفا كانت لهم فألقتها تحت الفراش، وفزع بعض القوم إلى سيوفهم فلم يجدوها فاستسلموا، فانطلق بهم إلى المغيرة بن شعبة. فقال لهم المغيرة: ما حملكم على ما أردتم من شق عصا المسلمين؟ فقالوا: ما أردنا من ذلك شيئا. قال: بلى قد بلغني ذلك عنكم ثم قد صدق ذلك عندي جماعتكم، قالوا له: أما اجتماعنا في هذا المنزل فإن حيان بن ظبيان أقرأنا القرآن، فنحن نجتمع عنده في منزله فنقرأ القرآن عليه. فقال: اذهبوا بهم إلى السجن، فلم يزالوا فيه نحوا من سنة وسمع إخوانهم بأخذهم فحذروا. (2)
- وقال: فبلغ الخبر المغيرة بن شعبة أن الخوارج خارجة عليه في أيامه
_________
(1) التاريخ (ص.209).
(2) تاريخ الطبري (3/ 178 - 179).(1/237)
تلك، وأنهم قد اجتمعوا على رجل منهم. فقام المغيرة بن شعبة في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فقد علمتم أيها الناس أني لم أزل أحب لجماعتكم العافية، وأكف عنكم الأذى، وأني والله لقد خشيت أن يكون ذلك أدب سوء لسفهائكم، فأما الحلماء الأتقياء فلا، وايم الله لقد خشيت ألا أجد بدا من أن يعصب الحليم التقي بذنب السفيه الجاهل، فكفوا أيها الناس سفهاءكم قبل أن يشمل البلاء عوامكم. وقد ذكر لي أن رجالا منكم يريدون أن يظهروا في المصر بالشقاق والخلاف، وايم الله لا يخرجون في حي من أحياء العرب في هذا المصر إلا أبدتهم وجعلتهم نكالا لمن بعدهم، فنظر قوم لأنفسهم قبل الندم، فقد قمت هذا المقام إرادة الحجة والإعذار.
فقام إليه معقل بن قيس الرياحي فقال: أيها الأمير هل سمي لك أحد من هؤلاء القوم؟ فإن كانوا سموا لك فأعلمنا من هم؟ فإن كانوا منا كفيناكم، وإن كانوا من غيرنا أمرت أهل الطاعة من أهل مصرنا فأتتك كل قبيلة بسفهائها فقال: ما سمي لي أحد منهم. ولكن قد قيل لي إن جماعة يريدون أن يخرجوا بالمصر، فقال له معقل: أصلحك الله! فإني أسير في قومي وأكفيك ما هم فيه، فليكفك كل امرئ من الرؤساء قومه. فنزل المغيرة بن شعبة وبعث إلى رؤساء الناس فدعاهم، ثم قال لهم: إنه قد كان من الأمر ما قد علمتم، وقد قلت ما قد سمعتم، فليكفني كل امرئ من الرؤساء قومه، وإلا فو الذي لا إله غيره لأتحولن عما كنتم تعرفون إلى ما تنكرون، وعما تحبون إلى ما تكرهون، فلا يلم لائم إلا نفسه وقد أعذر من أنذر. فخرجت الرؤساء إلى عشائرهم، فناشدوهم الله والإسلام إلا دلوهم على من يرون أنه(1/238)
يريد أن يهيج فتنة، أو يفارق جماعة ... (1)
إلى أن قال: ثم إن المغيرة بن شعبة أخبر خبرهم، فدعا رؤساء الناس. فقال: إن هؤلاء الأشقياء قد أخرجهم الحين وسوء الرأي، فمن ترون أبعث إليهم؟ قال: فقام إليه عدي بن حاتم، فقال كلنا لهم عدو، ولرأيهم مسفه، وبطاعتك مستمسك، فأينا شئت سار إليهم:
فقام معقل بن قيس، فقال: إنك لا تبعث إليهم أحدا ممن ترى حولك من أشراف المصر إلا وجدته سامعا مطيعا، ولهم مفارقا ولهلاكهم محبا، ولا أرى أصلحك الله أن تبعث إليهم أحدا من الناس أعدى لهم ولا أشد عليهم مني فابعثني إليهم فإني أكفيكهم بإذن الله، فقال: اخرج على اسم الله؛ فجهز معه ثلاثة آلاف رجل. (2)
- عن سالم بن ربيعة قال: إني جالس عند المغيرة بن شعبة حين أتاه معقل بن قيس يسلم عليه ويودعه، فقال له المغيرة: يا معقل بن قيس، إني قد بعثت معك فرسان أهل البصرة، أمرت بهم فانتخبوا انتخابا، فسر إلى هذه العصابة المارقة، الذين فارقوا جماعتنا وشهدوا عليها بالكفر، فادعهم إلى التوبة، وإلى الدخول في الجماعة، فإن فعلوا فاقبل منهم، واكفف عنهم، وإن هم لم يفعلوا فناجزهم واستعن بالله عليهم. فقال معقل بن قيس: سندعوهم ونعذر، وايم الله ما أرى أن يقبلوا، ولئن لم يقبلوا الحق لا نقبل منهم الباطل،
_________
(1) تاريخ الطبري (3/ 180).
(2) تاريخ الطبري (3/ 182).(1/239)
هل بلغك -أصلحك الله- أين منزل القوم؟ (1)
وقال ابن كثير: وقد كانت في هذه السنة -أعنى سنة ثلاث وأربعين- وقعة عظيمة بين الخوارج وجند الكوفة، وذلك أنهم صمموا -كما قدمنا- على الخروج على الناس في هذا الحين، فاجتمعوا في قريب من ثلاثمائة عليهم المستورد بن علقمة، فجهز عليهم المغيرة بن شعبة جندا عليهم معقل بن قيس في ثلاثة آلاف، فصار إليهم وقدم بين يديه أبا الرواع في طليعة هي ثلاثمائة على عدة الخوارج، فلقيهم أبو الرواع بمكان يقال له المذار. فاقتتلوا معهم فهزمهم الخوارج، ثم كروا عليهم فهزمتهم الخوارج، ولكن لم يقتل أحد منهم، فلزموا مكانهم في مقاتلتهم ينتظرون قدوم أمير الجيش معقل بن قيس عليهم، فما قدم عليهم إلا في آخر نهار غربت فيه الشمس، فنزل وصلى بأصحابه، ثم شرع في مدح أبى الرواع، فقال له: أيها الأمير إن لهم شدات منكرة، فكن أنت ردأ الناس ومر الفرسان فليقاتلوا بين يديك.
فقال معقل ابن قيس: نعم ما رأيت، فما كان إلا ريثما قال له ذلك حتى حملت الخوارج على معقل وأصحابه، فانجفل عنه عامة أصحابه، فترجل عند ذلك معقل بن قيس وقال: يا معشر المسلمين الأرض الأرض، فترجل معه جماعة من الفرسان والشجعان قريب من مائتي فارس، منهم أبو الرواع الشاكري، فحمل عليهم المستورد بن علقمة بأصحابه فاستقبلوهم بالرماح والسيوف، ولحق بقية الجيش بعض الفرسان فذمرهم وعيرهم وأنبهم على الفرار، فرجع الناس إلى معقل وهو يقاتل الخوارج بمن معه من الأنصار قتالا شديدا، والناس
_________
(1) تاريخ الطبري (3/ 182 - 183).(1/240)
يتراجعون في أثناء الليل، فصفهم معقل بن قيس ميمنة وميسرة ورتبهم، وقال: لا تبرحوا على مصافكم حتى نصبح فنحمل عليهم فما أصبحوا حتى هزمت الخوارج فرجعوا من حيث أتوا، فسار معقل فى طلبهم وقدم بين يديه أبا الرواع في ستمائة فالتقوا بهم عند طلوع الشمس، فثار إليهم الخوارج فتبارزوا ساعة، ثم حملوا حملة رجل واحد فصبر لهم أبو الرواع بمن معه وجعل يذمرهم ويعيرهم ويؤنبهم على الفرار ويحثهم على الصبر فصبروا وصدقوا في الثبات حتى ردوا الخوارج إلى أماكنهم، فلما رأت الخوارج ذلك خافوا من هجوم معقل عليهم، فما يكون دون قتلهم شيء فهربوا بين أيديهم حتى قطعوا دجلة في أرض نهزشير، وتبعهم أبو الرواع ولحقه معقل بن قيس، ووصلت الخوارج إلى المدينة العتيقة فركب إليهم شريك بن عبيد نائب المدائن ولحقهم أبو الرواع بمن معه من المقدمة. (1)
جرير بن عبد الله (2) (51 هـ)
هو جرير بن عبد الله بن جابر بن مالك بن نصر بن ثعلبة بن حُشَم بن عوف. الأمير النبيل أبو عمرو -وقيل أبو عبد الله- البجلي القسري وقسر من قحطان، من أعيان الصحابة. بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - على النصح لكل مسلم، كان بديع الحسن كامل الجمال. حدث عنه أنس وقيس بن أبي حازم وأبو وائل
_________
(1) البداية والنهاية (8/ 26).
(2) الاستيعاب (1/ 236 - 240) وأسد الغابة (1/ 529 - 531) وطبقات ابن سعد (6/ 22) وتهذيب الكمال (4/ 533 - 540) وتهذيب التهذيب (2/ 73 - 75) وتاريخ خليفة (218) والإصابة (1/ 475 - 476) والسير (2/ 530 - 537) وشذرات الذهب (1/ 57 - 58).(1/241)
والشعبي وأولاده الأربعة: المنذر، وعبد الله وإبراهيم ولم يدركه، وأيوب، وجماعة. روى الإمام أحمد عن جرير: لما دنوت من المدينة، أنخت راحلتي وحللت عيبتي ولبست حلتي، ثم دخلت المسجد فإذا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب، فرماني الناس بالحدق فقلت لجليسي: يا عبد الله هل ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أمري شيئا؟ قال: نعم، ذكرك بأحسن الذكر، بينما هو يخطب إذ عرض له في خطبته، فقال: "إنه سيدخل عليكم من هذا الفج من خير ذي يمن ألا وإن على وجهه مسحة ملك". قال: فحمدت الله. (1) وقال أيضا: ما رآني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا تبسم في وجهي. جاء مع قومه فأسلموا.
وقال عمر: جرير يوسف هذه الأمة. عن الشعبي: كان على ميمنة سعد بن أبي وقاص يوم القادسية جرير. قال محمد بن عمر: لم يزل جرير معتزلا لعلي ومعاوية بالجزيرة ونواحيها حتى توفي بالشراة في ولاية الضحاك ابن عيسى على الكوفة سنة إحدى وخمسين. ومسنده نحو من مائة حديث.
موقفه من المشركين:
عن جرير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "ألا تريحني من ذي الخلصة -بيت خثعم- وكان يسمى: الكعبة اليمانية- قال: فخربناه أو حرقناه حتى تركناه كالجمل الأجرب وبعث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يبشره فبرك على خيل أحمس ورجالها خمس مرات ... قال: وقلت يا رسول الله إني رجل لا أثبت على الخيل فوضع
_________
(1) أحمد (4/ 364) والنسائي في الكبرى (5/ 82/8304) والطبراني (2/ 352 - 353/ 2483) والحاكم (1/ 285) وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين"، ووافقه الذهبي وذكره الهيثمي في المجمع (9/ 375) وقال: "رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط باختصار عنهما، وأسانيد الكبير رجاله رجال الصحيح".(1/242)
يده على وجهي -أو على صدري- وقال اللهم اجعله هاديا مهديا". (1)
موقفه من الرافضة:
عن مغيرة قال: تحول جرير بن عبد الله وحنظلة وعدي بن حاتم من الكوفة إلى قرقيسيا وقالوا لا نقيم ببلد يشتم فيه عثمان. (2)
سعيد بن زيد (3) (51 هـ)
سعيد بن زيد بن عمرو بن نُفَيْل بن عبد العُزَّى العدويّ، يكنى أبا الأعور وقيل: أبا ثور والأول أكثر. روى عنه ابن عمر وأبو الطفيل، وعمرو ابن حريث وغيرهم. أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، أسلم قبل دخول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دار الأرقم، وهاجر وشهد أحدا والمشاهد بعدها، ولم يكن بالمدينة زمان بدر فلذلك لم يشهدها. فكان بالحق قوالا، ولماله بذالا ولهواه قامعا وقتالا، ولم يكن ممن يخاف في الله لومة لائم. وكان مجاب الدعوة، اعتزل الفتنة والشرور المؤدية إلى الضيعة والغرور، عازما على السبقة والعبور، المفضي إلى الرفعة والحبور. كان للولايات قاليا وفي مراتب الدنيا وانيا، وفي العبودية غانيا وعن مساعدة نفسه فانيا. له أحاديث يسيرة. مات بالعقيق سنة إحدى وخمسين وهو ابن بضع وسبعين سنة، فغسله سعد بن أبي وقاص وكفنه وخرج معه، وقبر بالمدينة.
_________
(1) أحمد (4/ 360) والبخاري (6/ 190/3020) ومسلم (4/ 1925 - 1926/ 2476) وأبو داود (3/ 215/2772) والنسائي في الكبرى (5/ 82/8303).
(2) أصول الاعتقاد (7/ 1340/2381) والسير (3/ 165).
(3) طبقات ابن سعد (3/ 379 - 385) والإصابة (3/ 103 - 105) والحلية (1/ 95 - 97) والاستيعاب (2/ 614 - 620) وأسد الغابة (2/ 476 - 478) وتهذيب الكمال (10/ 446 - 454) والسير (1/ 124 - 140).(1/243)
موقفه من الرافضة:
روى الآجري في الشريعة بسنده إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال: جاءت أروى ابنة أوس إلى أبي محمد بن عمرو فقالت: يا أبا عبد الملك: إن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل قد بنى ضفيرة وقال ابن سفيان: ضفيرة في حقي، فأته فكلمه، فلينزع عن حقي، فوالله لئن لم يفعل لأصيحن به في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال لها: لا تؤذي صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما كان ليظلمك، ولا يأخذ لك حقا، فخرجت فجاءت عمارة بن عمرو وعبد الله بن مسلمة فقالت لهما: ائتيا سعيد بن زيد، فإنه ظلمني وبنى ضفيرة في حقي، فوالله لئن لم ينزع لأصيحن به في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فخرجا حتى أتياه في أرضه بالعقيق، فقال لهما: ما أتى بكما؟ فقالا: جاءتنا أروى ابنة أوس فزعمت أنك بنيت ضفيرة في حقها، وحلفت بالله لئن لم تنزع لتصيحن بك في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، زاد ابن بكير: فأحببنا أن نأتيك فنخبرك، ونذكر لك ذلك، فقال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من أخذ شبرا من الأرض بغير حقه طوقه الله عزوجل يوم القيامة من سبع أرضين (1) لتأتي فلتأخذ ما كان لها من حق، اللهم إن كانت كذبت علي فلا تمتها حتى تعمي بصرها، وتجعل منيتها فيها، فرجعوا فأخبروها بذلك، فجاءت حتى هدمت الضفيرة، وبنت بنيانا فلم تمكث إلا قليلا حتى عميت، وكانت تقوم من الليل ومعها جارية لها تقودها لتوقظ العمال، فقامت ليلة وتركت الجارية
_________
(1) أحمد (1/ 188) والبخاري (6/ 360/3198) ومسلم (3/ 1230/1610) والترمذي (4/ 20 - 21/ 1418).(1/244)
لم توقظها، فخرجت تمشي حتى سقطت في البئر، فأصبحت ميتة. (1)
موقفه من الخوارج والرافضة:
- عن عبد الرحمن بن الأخنس أنه كان في المسجد فذكر رجل عليا رضي الله عنه، فقام سعيد بن زيد فقال: أشهد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أني سمعته وهو يقول: عشرة في الجنة: النبي في الجنة، وأبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير بن العوام في الجنة، وسعد بن مالك في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة ولو شئت لسميت العاشر، قال: فقالوا: من هو؟ فسكت، فقالوا: من هو؟ فقال: هو سعيد بن زيد. (2)
- وعن رياح بن الحارث، قال: كنت قاعدا عند فلان في مسجد الكوفة وعنده أهل الكوفة، فجاء سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، فرحب به وحياه وأقعده عند رجله على السرير فجاءه رجل من أهل الكوفة يقال له قيس بن علقمة فاستقبله فسب وسب، فقال سعيد: من يسب هذا الرجل؟ فقال: يسب عليا، قال: ألا أرى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسبون عندك ثم لا تنكر ولا تغير، أنا سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول وإني لغني أن أقول عليه ما لم يقل فيسألني عنه غدا إذا لقيته: أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وساق
_________
(1) الشريعة (3/ 402 - 403/ 1843) وأصول الاعتقاد (7/ 1328/2362) والحديث أصله في الصحيحين البخاري (3198) ومسلم (1610).
(2) أحمد (1/ 188) وأبو داود (5/ 39/4649) والترمذي (5/ 610/3757) وحسنه. والنسائي في الكبرى (5/ 60/8210) وابن حبان (15/ 454/6993).(1/245)
معناه، ثم قال: لمشهد رجل منهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغبر فيه وجهه خير من عمل أحدكم عمره ولو عمر عمر نوح. (1)
أبو بَكْرَة الثَّقَفِي (2) (52 هـ)
نُفَيْع بن الحارث وقيل بن مَسْرُوح بن كَلَدَة بن عمرو الثقفي صحابي جليل كبير القدر تدلى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ببكرة من حصن الطائف، فلذا كني أبا بكرة. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وروى عنه أولاده: عبد الله، وعبد الرحمن، وعبد العزيز، وغيرهم. كان من فضلاء الصحابة وصالحيهم كثير العبادة، وكان ممن اعتزل يوم الجمل، ولم يقاتل مع واحد من الفريقين. مات في خلافة معاوية بن أبي سفيان بالبصرة، سنة اثنتين وخمسين وقيل سنة إحدى وخمسين وصلى عليه أبو برزة الأسلمي الصحابي وكان قد آخى بينهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
موقفه من المبتدعة:
روى الإمام أحمد عن عيينة بن عبد الرحمن بن يونس قال: حدثني أبي قال: شهدت جنازة عبد الرحمن بن سمرة وخرج زياد يمشي بين يدي السرير، فجعل رجال من أهل عبد الرحمن ومواليهم يستقبلون السرير ويمشون على أعقابهم
_________
(1) أحمد (1/ 187) وأبو داود (5/ 39 - 40/ 4650) والنسائي في الكبرى (5/ 56/8193) دون ذكر القصة. ابن ماجه في المقدمة (1/ 48/133) مختصرا.
(2) طبقات ابن سعد (7/ 15 - 16) والاستيعاب (4/ 1614 - 1615) وأسد الغابة (5/ 334 - 335 و6/ 35 - 36) وتهذيب الكمال (30/ 5 - 9) والسير (3/ 5 - 10) والبداية والنهاية (8/ 59) والإصابة (6/ 467 - 468) وشذرات الذهب (1/ 58).(1/246)
ويقولون: رويدا رويدا بارك الله فيكم، فكانوا يدبون دبيبا حتى إذا كنا ببعض طريق المربد لحقنا أبو بكرة على بغلة، فلما رأى الذي يصنعون حمل عليهم ببغلته وأهوى إليهم بالسوط وقال: خلوا فوالذي أكرم وجه أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم -، لقد رأيتنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنا لنكاد نرمل بها رملا، فانبسط القوم. (1)
موقفه من الخوارج:
- عن زياد بن كسيب العدوي قال: كنت مع أبي بكرة تحت منبر ابن عامر وهو يخطب وعليه ثياب رقاق فقال أبو بلال: انظروا إلى أميرنا يلبس ثياب الفساق. فقال أبو بكرة: اسكت سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من أهان سلطان الله في الأرض أهانه الله. (2)
أورده الذهبي في سيره وقال عقبه: أبو بلال هذا هو مرداس ابن أدية، خارجي ومن جهله عد ثياب الرجال الرقاق لباس الفساق. (3)
عمران بن حصين (4) (52 هـ)
عِمْرَان بن حُصَيْن بن عبيد بن خَلَف أبو نُجَيد الخزاعي. القدوة الإمام
_________
(1) أحمد (5/ 38) وأبو داود (3182) والنسائي (1911) واللفظ له.
(2) أحمد (5/ 42 و48 - 49) بدون ذكر القصة. الترمذي (4/ 435/2224) واللفظ له. وقال: "حديث حسن غريب".
(3) السير (14/ 508).
(4) الإصابة (4/ 705 - 706) وشذرات الذهب (1/ 58) وطبقات ابن سعد (4/ 287 - 291) والمستدرك (3/ 470 - 472) ومجمع الزوائد (9/ 381 - 382) والجرح والتعديل (6/ 296) وتهذيب التهذيب (8/ 125 - 126) والاستيعاب (3/ 1208) والسير (2/ 508 - 512).(1/247)
صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسلم عام خيبر. وغزا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزوات، بعثه عمر بن الخطاب إلى البصرة ليفقه أهلها، وكان من فضلاء الصحابة. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن معقل ابن يسار. وروى عنه بشير بن كعب العدوي، والحسن البصري وحفص الليثي وعبد الله بن بريدة ومطرف بن عبد الله بن الشخير وغيرهم. كان الحسن يحلف ويقول: ما قدم عليهم البصرة خير لهم من عمران بن الحصين. وقال محمد بن سيرين: ما قدم البصرة أحد يفضل على عمران بن حصين. وقال معاوية بن قرة: كان عمران بن الحصين من أشد أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اجتهادا في العبادة. وعن رافع بن سحبان أن رجلا أتى عمران بن حصين وهو في المسجد فقال: رجل طلق امرأته وهو في مجلس ثلاثا فقال: إثم لزمه وحرمت عليه امرأته فانطلق فذكر ذلك لأبي موسى يريد عيبه، فقال أبو موسى: أكثر الله فينا مثل أبي نجيد. قال عمران: "وقد كان يسلم علي (يعني من طرف الملائكة) حتى اكتويت، فَتُرِكْتُ، ثم تَرَكْتُ الكيّ فعاد" (1). توفي سنة اثنتين وخمسين رضي الله عنه.
موقفه من المبتدعة:
- روى البخاري عن أبي السوار العدوي قال: سمعت عمران بن حصين قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: الحياء لا يأتي إلا بخير. فقال بشير بن كعب: مكتوب في الحكمة: إن من الحياء وقارا وإن من الحياء سكينة. فقال له عمران: أحدثك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتحدثني عن صحيفتك؟ (2)
_________
(1) أحمد (4/ 427) مسلم (2/ 899/1226 (167)).
(2) أحمد (4/ 426و427) والبخاري (10/ 638/6117) ومسلم (1/ 64/37) وأبو داود (5/ 147 - 148/ 4796).(1/248)
- وجاء في الإبانة: عن حبيب بن أبي نضلة المالكي، قال: لما بني هذا المسجد مسجد الجامع، قال: وعمران بن حصين جالس فذكروا عنده الشفاعة (1)، فقال رجل من القوم: يا أبا نجيد إنكم لتحدثوننا أحاديث ما نجد لها أصلا في القرآن، قال: فغضب عمران بن حصين، وقال للرجل: قرأت القرآن؟ قال: نعم. قال: فهل وجدت فيه صلاة المغرب ثلاثا وصلاة العشاء أربعا والغداة ركعتين والأولى أربعا والعصر أربعا؟ قال: فممن أخذتم هذا الشأن ألستم عنا أخذتموه وأخذناه عن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وعنا أخذتموه، أو عن من أخذتم في كل أربعين درهما درهم، وفي كذا وكذا شاة كذا وكذا، ومن كذا وكذا بعيرا كذا وكذا، أوجدتم هذا في القرآن؟ قال: لا. قال: فعمن أخذتم هذا ألستم عنا أخذتموه؟ وأخذناه عن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وأخذتموه عنا؟ قال: فهل وجدتم في القرآن وليطوفوا بالبيت العتيق، وجدتم طوفوا سبعا واركعوا خلف المقام ركعتين، هل وجدتم هذا في القرآن؟ عمن أخذتموه ألستم أخذتموه عنا وأخذناه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخذتموه عنا؟ قالوا: بلى. قال: فوجدتم في القرآن لا جلب ولا جنب ولا شغار في الإسلام، أوجدتم هذا في القرآن؟ قالوا: لا. قال عمران: فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا جلب ولا جنب ولا شغار في الإسلام (2). قال: أو ما سمعتم الله تعالى قال لأقوام في كتابه: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ
_________
(1) في الإبانة: "الساعة" والتصحيح من دلائل النبوة للبيهقي (1/ 25). والسياق يؤكده.
(2) أحمد (4/ 439) وأبو داود (3/ 67 - 68/ 2581) والترمذي (3/ 431/1123). وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي (6/ 420 - 421/ 3335) وصححه ابن حبان الإحسان (8/ 61 - 62/ 3267).(1/249)
نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ}. حتى بلغ {شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} (48) (1).
قال حبيب: أنا سمعت عمران يقول: الشفاعة نافعة دون من يسبحون. (2)
- وروى الخطيب في الفقيه والمتفقه عن الحسن أن رجلا قال لعمران ابن حصين: يا أبا نجيد إنكم لتحدثونا بأحاديث، الله تعالى أعلم بها، حدثونا بالقرآن. قال: القرآن والله نعم، أرأيت لو رفعنا إليه، وقد وجدت في القرآن {أقيموا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزكاة} ثم لم نر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كيف سن لنا كيف نركع، كيف كنا نسجد، كيف كنا نعطي زكاة أموالنا. قال: فأفحم الرجل. (3)
- عن الحسن أن عمران بن حصين أوصى لأمهات أولاده بوصايا، وقال: من صرخت علي، فلا وصية لها. (4)
موقفه من المشركين:
- عن الحسن عن عمران بن حصين أنه رأى في يد رجل حلقة من صفر، فقال: ما هذه؟ قال: من الواهنة، قال: أما إنها لن تزيدك إلا وهنا ولو مت وأنت ترى أنها نافعتك لمت على غير الفطرة. (5)
_________
(1) المدثر الآيات (42 - 48).
(2) الإبانة (1/ 1/233 - 235/ 66) والشريعة (1/ 179/104).
(3) الفقيه والمتفقه (1/ 237 - 238).
(4) السير (2/ 511).
(5) الإبانة (2/ 7/860/ 1172).(1/250)
موقفه من الخوارج:
عن عمران بن الحصين قال: أتى نافع بن الأزرق وأصحابه فقالوا: هلكت يا عمران قال: ما هلكت قالوا: بلى، قال: ما الذي أهلكني؟ قالوا: قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} (1). قال: قد قاتلناهم حتى نفيناهم، فكان الدين كله لله. إن شئتم حدثتكم حديثا سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا: وأنت سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم. شهدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد بعث جيشا من المسلمين إلى المشركين. فلما لقوهم قاتلوهم قتالا شديدا. فمنحوهم أكتافهم. فحمل رجل من لحمتي على رجل من المشركين بالرمح. فلما غشيه قال: أشهد أن لا إله إلا الله إني مسلم، فطعنه فقتله. فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله هلكت. قال: وما الذي صنعت مرة أو مرتين، فأخبره بالذي صنع فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فهلا شققت عن بطنه فعلمت ما في قلبه؟! قال: يا رسول الله لو شققت بطنه لكنت أعلم ما في قلبه. قال: فلا أنت قبلت ما تكلم به، ولا أنت تعلم ما في قلبه. قال: فسكت عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يلبث إلا يسيرا حتى مات. فدفناه فأصبح على ظهر الأرض. فقالوا: لعل عدوا نبشه. فدفناه. ثم أمرنا غلماننا يحرسونه. فأصبح على ظهر الأرض. فقلنا: لعل الغلمان نعسوا. فدفناه. ثم حرسناه بأنفسنا فأصبح على ظهر الأرض. فألقيناه في
_________
(1) الأنفال الآية (39).(1/251)
بعض تلك الشعاب. (1)
موقفه من القدرية:
- عن أبي الأسود الدؤلي قال: سألت عمران بن حصين عن باب القدر، فقال لو أن الله عذب أهل السماوات والأرض لعذبهم وهو غير ظالم لهم ولو أنه رحم أهل السماوات والأرض لكانت رحمته أوسع من ذلك، ولو أن رجلا له مثل أحد ذهبا ينفقه في سبيل الله لا يؤمن بالقدر خيره وشره ما تقبل منه. (2)
- وعنه قال: قال لي عمران بن الحصين: أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه، أشيء قضي عليهم ومضى عليهم من قدر ما سبق؟ أو في ما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم، وثبتت الحجة عليهم؟ فقلت: بل شيء قضي عليهم، ومضى عليهم. قال فقال: أفلا يكون ظلما؟ قال: ففزعت من ذلك فزعا شديدا. وقلت: كل شيء خلق الله وملك يده. فلا يسأل عما يفعل وهم يسألون. فقال لي: يرحمك الله، إني لم أرد بما سألتك إلا لأحزر عقلك. إن رجلين من مزينة أتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقالا: يا رسول الله، أرأيت ما يعمل الناس اليوم، ويكدحون فيه، أشيء قضي عليهم ومضى فيهم من قدر قد
_________
(1) ابن ماجه (2/ 1296 - 1297/ 3930 - 3931) والطبراني (18/ 226/562) والطحاوي في مشكله (8/ 277/3234) من طريق عاصم الأحول عن سميط عن عمران به. وحسنه البوصيري في الزوائد، لكن أخرجه أحمد (4/ 438 - 439) والطبراني (18/ 243609) عن المعتمر بن سليمان عن أبيه حدثني سميط عن أبي العلاء قال حدثني رجل من الحي أن عمران بن حصين حدثه ثم ذكر الحديث .. قال الهيثمي في المجمع (1/ 27): "في إسناده رجل مجهول".
(2) أصول الاعتقاد (4/ 749/1239) والإبانة (2/ 9/50 - 51/ 1445) والشريعة (1/ 401 - 402/ 461).(1/252)
سبق، أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم، وثبتت الحجة عليهم؟ فقال: "لا. بل شيء قضي عليهم ومضى فيهم. وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} (1) ". (2)
فَضَالة بن عبيد (3) (53 هـ)
فَضَالة بن عُبَيْد بن نَافِذ أبو محمد الأنصاري الأوسي. القاضي الفقيه، صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من أهل بيعة الرضوان قال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} (4) شهد المشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان أصغر من شهد بيعة الرضوان. قال الذهبي: إن ثبت شهوده أحدا، فما كان يوم الشجرة صغيرا. وعن ابن محيريز قال: سمعت فضالة بن عبيد، فقلت له: أوصني قال: خصال ينفعك الله بهن، إن استطعت أن تعرف ولا تعرف فافعل، وإن استطعت أن تسمع ولا تكلم، فافعل، وإن استطعت أن تجلس ولا يجلس إليك، فافعل. وعنه قال: ثلاث من الفواقر: إمام إن أحسنت لم يشكر وإن أسأت لم يغفر، وجار إن رأى حسنة دفنها، وإن رأى سيئة أفشاها، وزوجة إن حضرت آذتك، وإن غبت خانتك في
_________
(1) الشمس الآيتان (7و8).
(2) أحمد (4/ 438) ومسلم (4/ 2041 - 2042/ 2650).
(3) البداية والنهاية (8/ 78) والإصابة (2/ 62 - 64) والاستيعاب (3/ 1262 - 1263) وتهذيب التهذيب (8/ 267 - 268) والسير (3/ 113 - 117) والمستدرك (3/ 473) والحلية (2/ 17).
(4) الفتح الآية (18).(1/253)
نفسها وفي مالك. مات رضي الله عنه عام ثلاث وخمسين للهجرة.
موقفه من المشركين:
عن ثمامة بن شفي قال: كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم برودس فتوفي صاحب لنا فأمر فضالة بن عبيد بقبره فسوي، ثم قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر بتسويتها. (1)
موقفه من المرجئة:
وجاء في السير: عن فضالة، قال: لأن أعلم أن الله تقبل مني مثقال حبة، أحب إلي من الدنيا وما فيها، لأنه تعالى يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (2). (3)
حسان بن ثابت (4) (54 هـ)
حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو الوليد، ويقال: أبو الحسام المدني، شاعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. حدث عنه ابنه عبد الرحمن والبراء بن عازب، وسعيد بن المسيب وأبو سلمة وآخرون. وحديثه قليل. كان قديم الإسلام ولم يشهد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - مشهدا وكان يجبن. قال ابن سعد:
_________
(1) أحمد (6/ 18) ومسلم (2/ 666/968) واللفظ له. وأبو داود (3/ 549/3219) والنسائي (4/ 393/2029).
(2) المائدة الآية (27).
(3) السير (3/ 116).
(4) الاستيعاب (1/ 341 - 351) وأسد الغابة (2/ 6 - 9) وتهذيب الكمال (6/ 16 - 25) والسير (2/ 512 - 523) والإصابة (2/ 62 - 64) وتهذيب التهذيب (2/ 247 - 248) والوافي بالوفيات (11/ 350 - 358).(1/254)
عاش ستين سنة في الجاهلية وستين في الإسلام. قال أبو عبيدة: فضل حسان ابن ثابت على الشعراء بثلاث: كان شاعر الأنصار في الجاهلية، وشاعر النبي - صلى الله عليه وسلم - في أيام النبوة، وشاعر اليمن كلها في الإسلام. وقد أعطاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيرين أخت مارية أمة قبطية فولدت له عبد الرحمن بن حسان وذلك لذبه بلسانه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هجاء المشركين له. توفي حسان رحمه الله سنة أربع وخمسين وهو ابن مائة وعشرين سنة، وكذلك عاش أبوه ثابت، وجده المنذر، وأبو جده حرام ولا يعرف في العرب أربعة تناسلوا من صلب واحد عاش كل منهم مائة وعشرين سنة غيرهم.
موقفه من المشركين:
جاء في السير: قالت عائشة: والله إني لأرجو أن يدخله الله الجنة بكلمات قالهن لأبي سفيان بن الحارث:
هجوت محمدا فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء
فإن أبي ووالده وعرضي ... لعرض محمد منكم وقاء
أتهجوه ولست له بكفء ... فشركما لخيركما الفداء (1)
موقفه من الرافضة:
- جاء في أصول الاعتقاد: عن الزهري قال: قال رسول الله لحسان: هل قلت في أبي بكر؟ قال: نعم، قال: قل: وأنا أسمع فقال:
وثاني اثنين في الغار وقد ... طاف العدو بهم إذ صعدوا الجبلا
_________
(1) السير (2/ 515).(1/255)
وكان حب رسول الله قد علموا ... من البرية لم يعدل به رجلا
قال: فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت نواجذه وقال صدقت يا حسان. (1)
- وفيه: عن الشعبي أن حسان قال في النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي أبي بكر وعمر:
ثلاثة برزوا بفضلهم ... نضرهم ربهم إذا نشروا
فليس من مؤمن له بصر ... ينكر تفضيلهم إذا ذكروا
عاشوا بلا فرقة ثلاثتهم ... واجتمعوا في الممات إذ قبروا (2)
- وفيه (3): عن أسماء بنت أبي بكر قالت: مر الزبير بن العوام بمجلس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحسان ينشدهم شعره وهم غير نشاط لما يسمعون منه فجلس معهم الزبير ثم قال: مالي أراكم غير آذنين لما تسمعون من شعر ابن الفريعة؟ فلقد كان يعرض به لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيحسن استماعه ويحرك عنده ثوبه ولا يشغل عنه بشيء. فقال حسان:
أقام على عهد النبي وهديه ... حواريه والقول بالفعل يعدل
أقام على منهاجه وطريقه ... يوالي ولي الحق والحق أعدل
_________
(1) أصول الاعتقاد (7/ 1356/2428) وابن سعد في الطبقات (3/ 174) عن الزهري مرسلا والحاكم (3/ 64) من حديث حبيب بن أبي حبيب. وفي إسناده عمرو بن زياد. قال الذهبي في التلخيص: "عمرو يضع الحديث". ابن عدي في الكامل (2/ 161) من حديث أنس. وقال: "وهذا الحديث منكر عن الزهري عن أنس، ما يوصله إلا محمد ابن الوليد عن شبابة، ومحمد بن الوليد ضعيف يسرق الحديث، وقد ذكرته عن محمد بن عبيد وهو صدوق مرسلا، وهذا الحديث موصوله ومرسله منكر، والبلاء فيه من أبي العطوف".
(2) أصول الاعتقاد (7/ 1408/2535).
(3) أصول الاعتقاد (8/ 1490 - 1491/ 2708) والحاكم في المستدرك (3/ 362 - 363).(1/256)
هو الفارس المشهور والبطل الذي ... يصول إذا ما كان يوم محجل
إذا كشفت عن ساقها الحرب حشها ... بأبيض سباق إلى الموت يرفل
وإن امرؤ كانت صفية أمه ... ومن أسد في بيتها لمرفل
له من رسول الله قربى قريبة ... ومن نصرة الإسلام مجد مؤثل
وكم كربة ذب الزبير بسيفه ... عن المصطفى والله يعطي ويجزل
ثناؤك خير من فعال معاشر ... وفعلك يا ابن الهاشمية أفضل
- جاء في سير أعلام النبلاء (1): قال ابن إسحاق: وقال حسان في عائشة:
رأيتك -وليغفر لك الله- حرة ... من المحصنات غير ذات غوائل
حصان رزان ما تزن بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
وإن الذي قد قيل ليس بلائق ... بك الدهر بل قيل امرئ متماحل
فإن كنت أهجوكم كما بلغوكم ... فلا رفعت سوطي إليَّ أناملي
وكيف وودي ما حييت ونصرتي ... لآل رسول الله زين المحافل
وإن لهم عزا يرى الناس دونه ... قصارا وطال العز كل التطاول
عقيلة حي من لؤي بن غالب ... كرام المساعي مجدهم غير زائل
مهذبة قد طيب الله خيمها ... وطهرها من كل سوء وباطل
- وفي الشريعة (2): عن الشعبي قال: سئل ابن عباس رضي الله عنهما من أول من أسلم؟ فقال: أبو بكر رضي الله عنه، أما سمعت قول حسان بن
_________
(1) (2/ 163).
(2) (3/ 33/1306).(1/257)
ثابت رضي الله عنه:
إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة ... فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا
خير البرية أتقاها وأفضلها ... إلا النبي وأولاها بما حملا
والثاني التالي المحمود شيمته ... وأول الناس منهم صدق الرسلا
موقفه من الجهمية:
قال ابن تيمية في المنهاج: ومن هذا قول حسان بن ثابت رضي الله عنه:
تعالى علوا فوق العرش إلهنا ... وكان مكان الله أعلى وأعظما
مع علم حسان وغيره من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الله غني عن كل ما سواه، وما سواه من عرش وغيره محتاج إليه، وهو لا يحتاج إلى شيء، وقد أثبت له مكانا. (1)
الأَرْقَم بن أبي الأرقم (2) (55 هـ)
الأرقم بن أبي الأرقم عبد مناف بن أسد بن عبد الله بن عمر، أبو عبد الله المخزومي صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم -. من السابقين الأولين كان أحد من شهد بدرا، وكان من عقلاء قريش، وهو صاحب حلف الفضول. وقد استخفى النبي - صلى الله عليه وسلم - في داره وهي عند الصفا وكانت تدعى دار الإسلام لإسلام كثير
_________
(1) المنهاج (2/ 356).
(2) طبقات ابن سعد (3/ 242 - 244) والإصابة (1/ 43 - 45) والسير (2/ 479 - 480) والجرح والتعديل (2/ 309 - 310) والمستدرك (3/ 502 - 504) وشذرات الذهب (1/ 61) والعقد الثمين (3/ 280 - 282).(1/258)
من الناس بها، ولاجتماع الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه بها. وعن الأرقم أنه تجهز يريد بيت المقدس، فلما فرغ من جهازه، جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يودعه، فقال: ما يخرجك؟ حاجة أو تجارة؟ قال: لا والله يا نبي الله، ولكن أردت الصلاة في بيت المقدس. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الصلاة في مسجدي خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام" (1) فجلس الأرقم ولم يخرج. توفي بالمدينة سنة خمس وخمسين وصلى عليه سعد بن أبي وقاص بوصيته إليه.
موقفه من المشركين:
عن يحيى بن عمران بن عثمان بن الأرقم قال: سمعت جدي عثمان بن الأرقم يقول: أنا ابن سبعة في الإسلام أسلم أبي سابع سبعة وكانت داره بمكة على الصفا وهي الدار التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكون فيها في أول الإسلام، وفيها دعا الناس إلى الإسلام، وأسلم فيها قوم كثير، وقال ليلة الاثنين فيها: "اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك عمر بن الخطاب أو عمرو بن هشام" (2)، فجاء عمر بن الخطاب من الغد بكرة فأسلم في دار الأرقم وخرجوا منها فكبروا وطافوا البيت ظاهرين، ودعيت دار الأرقم دار الإسلام. (3)
_________
(1) الطبراني (1/ 306 - 307/ 907) بلفظ: صلاة هاهنا خير من ألف صلاة ثم الحاكم (3/ 504) وصححه ووافقه الذهبي. وذكره الهيثمي في المجمع (4/ 8) وقال: "رواه أحمد والطبراني في الكبير ... ورجال أحمد فيهم يحيى بن عمران جهله أبو حاتم".
(2) أحمد (2/ 95) والترمذي (5/ 576/3681) وقال: "هذا حديث حسن صحيح غريب". وابن حبان (15/ 305/6881) وفي الباب عن ابن عباس وعمر وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم.
(3) أخرجه الحاكم (3/ 502).(1/259)
سعد بن أبي وقاص (1) (55 هـ)
سعد بن مالك بن أُهَيْب ويقال وُهَيْب بن عبد مناف بن زُهْرَة بن كِلاَب القرشي الزهري أبو إسحاق بن أبي وقاص، أحد السابقين الأولين وأحد العشرة وآخرهم موتا. قال سعيد بن المسيب: سمعت سعدا يقول: مكثت سبع ليال، وإني لثلث الإسلام. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيرا، روى عنه بنوه: إبراهيم وعامر ومصعب، ومن الصحابة: عائشة وابن عباس وابن عمر وآخرون. كان أحد الفرسان ومقدم الجيوش في فتح العراق، وأول من رمى بسهم في سبيل الله، وأحد الستة أهل الشورى، وكان مجاب الدعوة مشهورا بذلك، ولما قتل عثمان اعتزل الفتنة ولزم بيته. توفي رحمه الله ورضي عنه سنة خمس وخمسين على الأصح.
موقفه من المبتدعة:
جاء في تلبيس إبليس: عن عبد الله بن أبي سلمة، أن سعد بن مالك سمع رجلا يقول: لبيك ذا المعارج فقال: ما كنا نقول هذا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (2)
_________
(1) طبقات ابن سعد (3/ 137 - 138) وحلية الأولياء (1/ 92 - 95) والاستيعاب (2/ 606 - 610) وتاريخ بغداد (1/ 144 - 146) والسير (1/ 92 - 124) والإصابة (3/ 73 - 77) وتهذيب التهذيب (3/ 483 - 484) وتاريخ الإسلام (حوادث 41 - 60/ص.212 - 221).
(2) التلبيس (ص.25). قال الشيخ الألباني رحمه الله: "والتزام تلبيته - صلى الله عليه وسلم - أفضل وإن كانت الزيادة عليها جائزة لإقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - الناس الذين كانوا يزيدون على تلبيته قولهم: لبيك ذا المعارج لبيك ذا الفواضل" [مناسك الحج والعمرة (ص.16)].(1/260)
موقفه من المشركين:
- قال ابن كثير: قال ابن إسحاق: ثم أمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - بعد ثلاث سنين من البعثة بأن يصدع بما أمر، وأن يصبر على أذى المشركين. قال: وكان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلوا ذهبوا في الشعاب واستخفوا بصلاتهم من قومهم فبينا سعد بن أبي وقاص في نفر يصلون بشعاب مكة إذ ظهر عليهم بعض المشركين فناكروهم وعابوا عليهم ما يصنعون، حتى قاتلوهم، فضرب سعد رجلا من المشركين بلحى جمل فشجه، فكان أول دم أهريق في الإسلام.
وروى الأموي في مغازيه من طريق الوقاصي عن الزهري عن عامر ابن سعد عن أبيه فذكر القصة بطولها وفيه أن المشجوج هو عبد الله بن خطل لعنه الله. (1)
- وعن سعد قال: نزلت هذه الآية فيَّ: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} (2). قال كنت برا بأمي فلما أسلمت قالت: يا سعد ما هذا الدين الذي قد أحدثت؟ لتدعن دينك هذا أَو لا آكل ولا أشرب حتى أموت فتعيربي فيقال: يا قاتل أمه، قلت: لا تفعلي يا أمه، إني لا أدع ديني هذا لشيء. فمكثت يوما لا تأكل ولا تشرب وليلة وأصبحت وقد جهدت. فلما رأيت ذلك قلت: يا أمه تعلمين
_________
(1) البداية والنهاية (3/ 36) والإصابة (3/ 74).
(2) لقمان الآية (15).(1/261)
والله لو كان لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني، إن شئت فكلي أو لا تأكلي. فلما رأت ذلك أكلت. (1)
- وعن عامر بن سعد، عن أبيه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع له أبويه يوم أحد. قال: كان رجل من المشركين قد أحرق المسلمين. فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - ارم، فداك أبي وأمي قال: فنزعت له بسهم ليس فيه نصل. فأصبت جنبه فسقط. فانكشفت عورته. فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. حتى نظرت إلى نواجذه. (2)
موقفه من الرافضة:
- جاء في سير أعلام النبلاء: عن مصعب بن سعد أن رجلا نال من علي فنهاه سعد، فلم ينته، فدعا عليه. فما برح حتى جاء بعير ناد فخبطه حتى مات. (3)
- وعن عامر بن سعد قال: أقبل سعد من أرض له فإذا الناس عكوف على رجل فاطلع فإذا هو يسب طلحة والزبير وعليا، فنهاه فكأنما زاده إغراء، فقال: ويلك ما تريد إلى أن تسب أقواما هم خير منك لتنتهين أو لأدعون عليك. فقال: هيه فكأنما تخوفني نبيا من الأنبياء، فانطلق فدخل دارا فتوضأ ودخل المسجد ثم قال: اللهم إن كان هذا قد سب أقواما قد سبق لهم منك خير أسخطك سبه إياهم فأرني اليوم به آية تكون آية للمؤمنين. قال: وتخرج بختية من دار بني فلان نادة لا يردها شيء حتى تنتهي إليه ويتفرق الناس عنه
_________
(1) السير (1/ 109 - 110). وهو في صحيح مسلم (1748).
(2) أحمد (1/ 174) والبخاري (7/ 104/3725) ومسلم (4/ 1876/2412) والترمذي (5/ 120/2830) والنسائي في الكبرى (5/ 61/8216) وابن ماجه (1/ 47/130).
(3) السير (1/ 115 - 116).(1/262)
فتجعله بين قوائمها فتطؤه حتى طفئ قال: فأنا رأيته يتبعه الناس ويقولون: استجاب الله لك أبا إسحاق استجاب الله لك أبا إسحاق. (1)
- عن جابر بن سمرة قال شكا أهل الكوفة سعدا إلى عمر رضي الله عنه، فعزله، واستعمل عليهم عمارا، فشكوا حتى ذكروا أنه لا يحسن يصلي. فأرسل إليه فقال: يا أبا إسحاق إن هؤلاء يزعمون أنك لا تحسن تصلي. قال أبو إسحاق: أما أنا والله فإني كنت أصلي بهم صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أخرم عنها، أصلي صلاة العشاء فأركد في الأوليين وأخف في الأخريين. قال: ذاك الظن بك يا أبا إسحاق. فأرسل معه رجلا -أو رجالا- إلى الكوفة فسأل عنه أهل الكوفة، ولم يدع مسجدا إلا سأل عنه، ويثنون عليه معروفا، حتى دخل مسجدا لبني عبس، فقام رجل منهم يقال له أسامة ابن قتادة يكنى أبا سعدة قال: أما إذ نشدتنا فإن سعدا كان لا يسير بالسرية، ولا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية. قال سعد: أما والله لأدعون بثلاث: اللهم إن كان عبدك هذا كاذبا قام رياء وسمعة فأطل عمره، وأطل فقره، وعرضه بالفتن قال: وكان بعد إذا سئل يقول: شيخ كبير مفتون، أصابتني دعوة سعد. قال عبد الملك: فأنا رأيته بعد قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، وإنه ليتعرض للجواري في الطريق يغمزهن. (2)
موقفه من الصوفية:
قال سعد بن أبي وقاص وغيره من السلف في قوله تعالى: {قُلْ هَلْ
_________
(1) أصول الاعتقاد (7/ 1327 - 1328/ 2361).
(2) البخاري (2/ 300 - 301/ 755) ومسلم (1/ 334 - 335/ 453).(1/263)
نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} (1) نزلت في أصحاب الصوامع والديارات. (2)
موقفه من الخوارج:
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وممن فسق من السلف الخوارج ونحوهم سعد بن أبي وقاص فاعتبرهم داخلين تحت قوله تعالى: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (3).اهـ (4)
- عن مصعب قال: سألت أبي {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} أَعْمَالًا هم الحرورية؟ قال: لا، هم اليهود والنصارى، أما اليهود فكذبوا محمدا - صلى الله عليه وسلم -، وأما النصارى كفروا بالجنة وقالوا: لا طعام فيها ولا شراب، والحرورية {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ}، وكان سعد يسميهم الفاسقين. (5)
_________
(1) الكهف الآية (104).
(2) الفتاوى (10/ 449).
(3) البقرة الآيتان (26 - 27).
(4) ذكره ابن تيمية في المنهاج (5/ 250 بتصرف). وهو في مصنف ابن أبي شيبة (7/ 560 - 561/ 37925).
(5) البخاري (8/ 543/4728).(1/264)
- عن مصعب بن سعد عن سعد في قوله {يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} (1) قال قلت له أهم الخوارج؟ قال: لا ولكنهم أصحاب الصوامع والخوارج الذين زاغوا فأزاغ الله قلوبهم. (2)
موقفه من القدرية:
جاء في الإبانة: عن كثير بن مرة عن ابن الديلمي يعني عبد الله الديلمي أنه لقي سعد بن أبي وقاص فقال له: إني شككت في بعض أمر القدر؛ فحدثني لعل الله يجعل لي عندك فرجا؟ قال: نعم يا ابن أخي، إن الله عز وجل لو عذب أهل السماوات وأهل الأرض؛ عذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم، كانت رحمته إياهم خيرا لهم من أعمالهم، ولو أن لامرئ مثل أحد ذهبا ينفقه في سبيل الله حتى ينفذه ولم يؤمن بالقدر خيره وشره، ما تقبل منه؛ ولا عليك أن تأتي عبد الله بن مسعود. فذهب ابن الديلمي إلى عبد الله ابن مسعود، فقال له مثل مقالته لسعد، فقال له مثل ما قال له سعد، وقال ابن مسعود: ولا عليك أن تلقى أبي بن كعب. فذهب ابن الديلمي إلى أبي ابن كعب، فقال له مثل مقالته لابن مسعود، فقال له أبي مثل مقالة صاحبيه، فقال له أبي: ولا عليك أن تلقى زيد بن ثابت. فذهب ابن الديلمي إلى زيد ابن ثابت فقال له: إني شككت في بعض القدر؛ فحدث لعل الله أن يجعل لي عندك فرجا، قال زيد: نعم يا ابن أخي، إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن
_________
(1) الكهف الآية (104).
(2) أخرجه عبد الله في السنة (281) وابن جرير (16/ 33) والحاكم (2/ 370) وقال: "صحيح على شرط الشيخين" ووافقه الذهبي.(1/265)
الله عز وجل لو عذب أهل السماء وأهل الأرض عذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم، كانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم، ولو أن لامرئ مثل أحد ذهبا ينفقه في سبيل الله حتى ينفذه ولا يؤمن بالقدر خيره وشره؛ دخل النار". (1)
عبد الله بن مُغَفَّل (2) (57 هـ)
عبد الله بن مغفل بن عبد غَنْم المزني، أبو سعيد وأبو زياد، كان من أصحاب الشجرة سكن المدينة ثم تحول إلى البصرة، كان يقول: إني لآخذ بغصن من أغصان الشجرة أظل به النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم يبايعونه فقالوا: نبايعك على الموت؟ قال: "لا ولكن لا تفروا" (3). وكان أحد العشرة الذين بعثهم عمر بن الخطاب يفقهون الناس. كان أول من دخل من باب مدينة تُستر يوم فتحها. وهو أحد البكائين في غزوة تبوك. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعثمان وعبد الله بن سلام وروى عنه ثابت البناني والحسن البصري ومطرف وسعيد ابن جبير وغيرهم. مات سنة سبع وخمسين وصلى عليه أبو برزة الأسلمي لوصيته.
_________
(1) الإبانة (2/ 9/144 - 145/ 1588) والشريعة (1/ 402 - 403/ 462) والمرفوع تقدم تخريجه في مواقف أبي بن كعب (سنة 19هـ).
(2) طبقات ابن سعد (7/ 13 - 14) والاستيعاب (3/ 996 - 997) والإصابة (4/ 242 - 243) وتهذيب الكمال (16/ 173) وشذرات الذهب (1/ 65) وتهذيب التهذيب (6/ 39) والسير (2/ 483 - 485).
(3) أحمد (5/ 54) وفي سنده أبو جعفر الرازي ضعيف سيء الحفظ. لكن صح عن معقل بن يسار أنه قال: لم نبايعه على الموت، ولكن بايعناه على أن لا نفر. ورواه مسلم (3/ 1485/1858) وعن جابر عند مسلم (3/ 1483/1856) مثله.(1/266)
موقفه من المبتدعة:
روى مسلم عن ابن بريدة قال: رأى عبد الله بن المغفل رجلا من أصحابه يخذف. فقال له: لا تخذف. فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يكره -أو قال- ينهى عن الخذف، فإنه لا يصطاد به الصيد، ولا ينكأ به العدو. ولكنه يكسر السن ويفقأ العين (1). ثم رآه بعد ذلك يخذف. فقال له: أخبرك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يكره، أو ينهى عن الخذف، ثم أراك تخذف، لا أكلمك كلمة، كذا وكذا. (2)
موقفه من الرافضة:
جاء في سير أعلام النبلاء: روى السري بن يحيى، عن الحسن قال: قدم علينا عبد الله، أمره معاوية -غلاما سفيها سفك الدماء سفكا شديدا- فدخل عليه عبد الله بن مغفل فقال: انته عما أراك تصنع فإن شر الرعاء الحطمة. قال: ما أنت وذاك؟ إنما أنت من حثالة أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -. قال: وهل كان فيهم حثالة لا أم لك. قال: فمرض ابن مغفل، فجاءه الأمير عبد الله عائدا فقال: أتعهد إلينا شيئا؟ قال: لا تصل علي، ولا تقم على قبري. (3)
_________
(1) أحمد (5/ 56) والبخاري (10/ 732/6220) ومسلم (3/ 1547/1954) وأبو داود (5/ 420 - 421/ 5270) والنسائي (8/ 417/4830) وابن ماجه (1/ 8/17).
(2) مسلم (1954) وابن ماجه (17) والدارمي (1/ 117) والفقيه والمتفقه (1/ 390،390 - 391) والإبانة (1/ 1/259/ 96).
(3) السير (3/ 545).(1/267)
موقفه من المرجئة:
عن الشيباني قال: لقيت عبد الله بن مغفل فقلت له: إن أناسا من أهل الصلاح يعيبون علي أن أقول: أنا مؤمن، فقال عبد الله: لقد خبت وخسرت إن لم تكن مؤمنا. (1)
أم المؤمنين عائشة (2) (57 هـ)
عائشة أم المؤمنين، الصديقة بنت الصديق، العتيقة بنت العتيق، حبيبة الحبيب، وأليفة القريب، بنت خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبي بكر عبد الله بن أبي قحافة عثمان بن عامر، القرشية التيمية، المكية، النبوية زوجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، أفقه نساء الأمة على الإطلاق. روت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الكثير الطيب، وروت أيضا عن أبيها وعن عمر وفاطمة، وسعد. روى عنها عمر، وابنه عبد الله، وأبو هريرة، وأبو موسى، وابن عباس، وسعيد بن المسيب ومسروق.
عن أبي موسى مرفوعا: "كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام" (3). وعن الزهري، حدثني أبو سلمة أن عائشة قالت:
_________
(1) مصنف ابن أبي شيبة (6/ 166/30380).
(2) طبقات ابن سعد (8/ 58 - 81) والمستدرك (4/ 3/14) والحلية (2/ 43 - 50) والبداية والنهاية (8/ 91 - 94) ومجمع الزوائد (9/ 225 - 244) وتهذيب التهذيب (12/ 433 - 436) والسير (2/ 135 - 201) وشذرات الذهب (1/ 61 - 63) والاستيعاب (4/ 1881 - 1885) والإصابة (8/ 16 - 21) والوافي (16/ 596 - 599).
(3) أحمد (4/ 394) والبخاري (6/ 551/3411) ومسلم (4/ 1886/2431) والترمذي (4/ 242/1834) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي (7/ 78/3957) وابن ماجه (2/ 1091/3280).(1/268)
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا عائش، هذا جبريل وهو يقرأ عليك السلام، قالت وعليه السلام ورحمة الله" (1). وعن عمرو بن العاص أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعمله على جيش ذات السلاسل، قال: "فأتيته، فقلت: يا رسول الله، أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة. قال: من الرجال؟ قال أبوها" (2). وعن مسروق أنه كان إذا حدث عن عائشة رحمها الله قال: حدثتني المبرأة الصديقة ابنة الصديق حبيبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (3)
وعن هشام عن أبيه: قال: لقد صحبت عائشة، فما رأيت أحدا قط كان أعلم بآية أنزلت ولا بفريضة، ولا بسنة، ولا بشعر، ولا أروى له، ولا بيوم من أيام العرب، ولا بنسب ولا بكذا، ولا بقضاء، ولا بطب منها، فقلت لها يا خالة: الطب من أين علمته؟ فقالت: كنت أمرض فينعت لي الشيء، ويمرض المريض فينعت له، وأسمع الناس ينعت بعضهم لبعض فأحفظه.
وقال عطاء بن أبي رباح: كانت عائشة أفقه الناس، وأحسن الناس رأيا في العامة. وقال الزهري: لو جمع علم عائشة إلى جميع النساء، لكان علم عائشة أفضل.
_________
(1) أحمد (6/ 55) والبخاري (7/ 133/3768) ومسلم (4/ 1896/2447 (91)) وأبو داود (5/ 399/5232) والترمذي (5/ 53 - 54/ 2693) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". ورواه أيضا برقم (3881) و (3882) وابن ماجه (2/ 1218/3696).
(2) أحمد (4/ 203) والبخاري (7/ 22/3662) ومسلم (4/ 1856/2384) والترمذي (5/ 663/3885و3886) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي في الكبرى (5/ 39/8117).
(3) الشريعة (3/ 476/1946).(1/269)
وعن عروة عن عائشة أنها تصدقت بسبعين ألفا، وأنها لترقع جانب درعها رضي الله عنها.
وعن ابن المنكدر عن أم ذرة قالت: بعث ابن الزبير إلى عائشة بمال في غرارتين، يكون مائة ألف، فدعت بطبق، فجعلت تقسم في الناس، فلما أمست قالت: هاتي يا جارية فطوري، فقالت أم ذرة يا أم المؤمنين، أما استطعت أن تشتري لنا لحما بدرهم؟ قالت: لا تعنفيني لو أذكرتيني لفعلت.
توفيت رضي الله عنها سنة سبع وخمسين.
موقفها من الرافضة:
- جاء في السير عن موسى بن طلحة قال: ما رأيت أخطب من عائشة ولا أعرب، لقد رأيتها يوم الجمل، وثار إليها الناس، فقالوا: يا أم المؤمنين، حدثينا عن عثمان وقتله. فاستجلست الناس، ثم حمدت الله، وأثنت عليه، ثم قالت: أما بعد ... فإنكم نقمتم على عثمان خصالا ثلاثا: إمرة الفتى، وضربة السوط، وموقع الغمامة المحماة، فلما أعتبنا منهن، مصتموه موص الثوب بالصابون، عدوتم به الفقر الثلاث: حرمة الشهر الحرام، وحرمة البلد الحرام، وحرمة الخلافة، والله لعثمان كان أتقاكم للرب، وأوصلكم للرحم، وأحصنكم فرجا. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. (1)
- وجاء في أصول الاعتقاد: عن محمد بن القاسم مولى هاشم قال: بلغ عائشة أن أناسا يتناولون أبا بكر فبعثت إلى أزفلة منهم فلما حضروا سدلت أستارها ثم دنت فحمدت الله وأثنت عليه وصلت على نبيها - صلى الله عليه وسلم - وعذلت
_________
(1) السير (13/ 584 - 585).(1/270)
وقرعت وقالت: أبي وما أبيه أبي والله لا تعطوه الأيدي ذاك طود منيف وفرع مديد، هيهات كذبت الظنون، أنجح إذ كذبتم، وسبق إذ ونيتم سبق الجواد إذا استولى على الأمد، فتى قريش ناشيا وكهفها كهلا، يفك عانيها ويريش مملقها ويرأب شعثها حتى حلته قلوبها. ثم استشرى في دينه فما برحت شكيمته في ذات الله حتى اتخذ بفنائه مسجدا يحيى فيه ما أماته المبطلون، فكان رحمة الله عليه غزير الدمعة، وقيذ الجوارح شجي النشيج، فانقصفت إليه نسوان مكة وولدانها يسخرون منه ويستهزؤون به {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}، فأكبرت ذلك رجالات قريش فحنت له قسيها وفوقت له سهامها، وامتثلوه غرضا فما فلوا له سيفا ولا وضعوا له قناة، ومر على سيسبائه حتى إذا ضرب الدين بجرانه، وألقى بركته، وأرسيت أوتاده، ودخل الناس فيه أفواجا ومن كل فرقة أشتاتا وأرسالا، اختار الله لنبيه ما عنده، فلما قبض الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - نصب الشيطان رواقه ومد طنبه ونصب حبائله، وأجلب عليهم بخيله ورجله، فظن رجال أن قد تحققت أطماعهم ولات حين يرجون، وأنى والصديق بين أظهرهم، فقام حسرا مشمرا، فجمع حاشيته فرد بشيز الإسلام على غربه، ولم شعثه بطيه ...
وأقام اوده بثقافه، فابذعر النفاق بوطأته، وانتاش الدين فنعشه، فلما راح الحق على أهله وقرر الرؤوس على كواهلها، وحقن الدماء في أهبها، أتته منيته فسد ثلمته بنظيره في الرحمة، وشقيقه في السيرة والمعدلة، ذاك ابن
_________
(1) البقرة الآية (15).(1/271)
الخطاب لله أم حفلت له ودرت عليه أو حدت به ففنخ الكفرة وذيحها، وشرد الشرك شذر مذر، وبعج الأرض وبخعها، فقاءت أكلها ولفظت خبيئها، ترأمه ويصدف عنها وتصدى له ويأباها، ثم وزع فيها فيئها وودعها كما صحبها، فأروني ماذا يرثون، وأي يومي أبي تنقمون يوم مقامه إذ عدل فيكم أو يوم ظعنه وقد نظر لكم. وأستغفر الله لي ولكم. (1)
- وعن أبي عبد الرحمن الأزدي قال: لما انقضى الجمل قامت عائشة فتكلمت فقالت: أيها الناس إن لي عليكم حرمة الأمومة وحق الموعظة، لا يهمني إلا من عصى ربه، قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين سحري ونحري وأنا إحدى نسائه في الجنة، له ادخرني ربي وخصني من كل بضاعة (والصواب بضع) ميز بي مؤمنكم من منافقكم، وفي رخص لكم في صعيد ... وأبي رابع أربعة من المسلمين وأول مسمى صديقا، قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنه راض مطوقه ... ثم اضطرب حبل الدين فأخذ بطرفيه وربق لكم اثناه، فوقذ النفاق وأغاض نبع الردة وأطفأ ما خبأت يهود وأنتم حينئذ جحظ تنتظرون الغدوة وتستمعون الصيحة، فرأب الثأي وأودم العطلة، وامتاح من المهواة واجتهد دفن الزواء، فقبض والله واطيا على هامة النفاق مذكيا نار الحرب للمشركين، يقظان في نصرة الإسلام صفوحا عن الجاهلين. (2)
- وعن عبد الله بن شقيق العقيلي قال: قلت لعائشة أي أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أحب إليه؟ قالت: أبو بكر قلت: فمن بعد؟ قالت: عمر
_________
(1) أصول الاعتقاد (7/ 1381 - 1383/ 2472) وانظر منهاج السنة (6/ 143 - 147).
(2) أصول الاعتقاد (7/ 1383/2473).(1/272)
قلت: فمن بعده؟ قالت: أبو عبيدة بن الجراح قلت: فمن الرابع؟ فسكتت. (1)
- وفيه: عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: ما رأيت أحدا ألزم للأمر الأول من عبد الله بن عمر. (2)
- وعن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: أمروا بالاستغفار لأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فسبوهم. (3)
- وعن فاطمة بنت عبد الرحمن اليشكرية عن أمها قالت: دخلت على عائشة أرسلتني عمتي فقلت: يا أم المؤمنين ما ترين في الناس أكثروا في عثمان وشتموه ولعنوه؟ فقالت: لعن الله من لعنه، لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسندا ظهره إلى صدري وجبريل يوحي إليه وعثمان عن يمينه وهو يقول: اكتب عثمان، فما نزل تلك المنزلة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا كريم على الله وعلى نبيه - صلى الله عليه وسلم -. (4)
- وفيه: عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة: أنها ذكرت عند رجل فسبها فقيل: أتسب أمك؟ قال: ما هي أمي! فبلغها فقالت: صدق أنا أم المؤمنين وأما الكافرون فلست لهم بأم. (5)
- وفيه: عن سعيد بن يحيى بن عيسى عن أبيه عن عائشة أنها قالت: لا
_________
(1) أخرجه أحمد (6/ 218) وابن ماجة (1/ 38/102) واللالكائي في أصول الاعتقاد (7/ 1393/2494).
(2) أصول الاعتقاد (7/ 1418/2547).
(3) مسلم (4/ 2317/3022). وهو في أصول الاعتقاد (7/ 1323/2349) والشريعة (3/ 544/2042).
(4) أصول الاعتقاد (7/ 1427/2564).
(5) أصول الاعتقاد (8/ 1523/2768) والشريعة (3/ 494/1968).(1/273)
ينتقصني أحد في الدنيا إلا تبرأت منه في الآخرة. (1)
- عن القاسم بن محمد أن معاوية بن أبي سفيان رحمه الله، حين قدم المدينة يريد الحج دخل على عائشة رحمها الله فكلمها خاليين لم يشهد كلامهما إلا ذكوان أبو عمرو ومولى عائشة، رحمها الله، فكلمها معاوية فلما قضى كلامه تشهدت عائشة، رحمها الله، ثم ذكرت ما بعث الله به نبيه - صلى الله عليه وسلم - من الهدى ودين الحق والذي سن الخلفاء بعده، وحضت معاوية على اتباع أمرهم، فقالت في ذلك فلم تترك، فلما قضت مقالتها، قال لها معاوية: أنت والله العالمة بالله وبأمر رسوله الناصحة المشفقة البليغة الموعظة حضضت على الخير وأمرت به ولم تأمرينا إلا بالذي هو خير لنا وأنت أهل أن تطاعي. فتكلمت هي ومعاوية كلاما كثيرا، فلما قام معاوية اتكأ على ذكوان ثم قال: والله ما سمعت خطيبا قط ليس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبلغ من عائشة رضي الله عنها. (2)
موقفها من الصوفية:
عن هشام بن حسان قال: قيل لعائشة رضي الله عنها: إن قوما إذا سمعوا القرآن يغشى عليهم، فقالت: إن القرآن أكرم من أن تنزف عنه عقول الرجال ولكنه كما قال الله تعالى: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (3). (4)
_________
(1) أصول لاعتقاد (8/ 1523/2769).
(2) الشريعة (3/ 483/1960).
(3) الزمر الآية (23).
(4) أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن (2/ 16/374).(1/274)
موقفها من الجهمية:
- روى البخاري في صحيحه: عن عائشة رضي الله عنها قالت: والله ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحياً يتلى ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله عز وجل في بأمر يتلى. (1)
- وعنها قالت: الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت خولة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تشكو زوجها، فكان يخفى علي كلامها، فأنزل الله عز وجل {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} (2) الآية. (3)
موقفها من الخوارج:
- جاء في الفتح: وإنما وقع هذا -يعني قول عائشة رضي الله عنها: إذا أعجبك حسن عمل امرئ ... - في قصة ذكرها البخاري في كتاب خلق أفعال العباد (4) من رواية عقيل عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت ... -وذكرت الذي كان من شأن عثمان-: وددت أني كنت نسيا منسيا فوالله ما أحببت أن ينتهك من عثمان أمر قط إلا انتهك مني مثله حتى والله لو أحببت قتله لقتلت، يا عبد الله بن عدي لا يغرنك أحد بعد الذين تعلم، فوالله
_________
(1) أخرجه أحمد (6/ 194 - 197) والبخاري (8/ 578 - 581/ 4750) ومسلم (4/ 2129 - 2137/ 2770) وأبو داود (5/ 103 - 104/ 4735) والترمذي (5/ 310 - 313/ 3180) دون ذكر موضع الشاهد، والنسائي في الكبرى (5/ 295 - 300/ 8931).
(2) المجادلة الآية (1).
(3) أخرجه أحمد (6/ 46) والنسائي (6/ 480/3460) وابن ماجه (1/ 666/2063) وعلقه البخاري (13/ 460).
(4) (ص51ح143)، وأخرجه أيضا عبد الرزاق (11/ 447/20967).(1/275)
ما احتقرت أعمال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى نجم النفر الذين طعنوا في عثمان فقالوا قولا لا يحسن مثله، وقرءوا قراءة لا يحسن مثلها، وصلوا صلاة لا يصلى مثلها، فلما تدبرت الصنيع إذا هم والله ما يقاربون أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا أعجبك حسن قول امرئ فقل: {اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} (1) ولا يستخفنك أحد. وأخرجه ابن أبي حاتم من رواية يونس بن يزيد عن الزهري أخبرني عروة أن عائشة كانت تقول: احتقرت أعمال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين نجم القراء الذين طعنوا على عثمان. فذكر نحوه وفيه: فوالله ما يقاربون عمل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا أعجبك حسن عمل امرئ منهم فقل اعملوا الخ والمراد بالقراء المذكورين الذين قاموا على عثمان وأنكروا عليه أشياء اعتذر عن فعلها، ثم كانوا مع علي ثم خرجوا بعد ذلك على علي. (2)
- وجاء في الشريعة: عن يزيد بن أبي زياد؛ قال: سألت سعيد بن جبير، عن أصحاب النهر؟ فقال: حدثني مسروق؛ قال: سألتني عائشة رضي الله عنها فقالت: هل أبصرت أنت الرجل الذي يذكرون ذا الثدية؟ قال: قلت: لم أره، ولكن قد شهد عندي من قد رآه، قالت: فإذا قدمت الأرض فاكتب إلي بشهادة نفر قد رأوه أمناء. فجئت والناس أشياع؛ قال: فكلمت من كل سبع عشرة ممن قد رآه؛ قال: فقلت: كل هؤلاء عدل رضى،
_________
(1) التوبة الآية (105).
(2) الفتح (13/ 617).(1/276)
فقالت: قاتل الله فلانا، فإنه كتب إلي: أنه أصابه بمصر. (1)
- وعن عاصم بن كليب عن أبيه قال كنت جالسا عند علي إذ جاء رجل عليه ثياب السفر فاستأذن على علي وهو يكلم الناس فشغل عنه فأقبلنا فسألناه من أين قدمت؟ ما خبرك؟ قال خرجت معتمرا فلقيت عائشة فقالت: ما هؤلاء الذين خرجوا من بلادكم يسمون حرورا؟ قال: قلت خرجوا من أرضنا إلى مكان يسمى حروراء به يدعون. قالت: طوبى لمن قتلهم أما والله لو شاء ابن أبي طالب لخبرهم خبرهم. قال فأهل علي وكبر ثم أهل وكبر ثم أهل وكبر فقال: إني دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعنده عائشة فقال لي: كيف أنت وقوم كذا وكذا، قال عبد الله بن إدريس وصف صفتهم، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: قوم يخرجون من قبل المشرق يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فيهم رجل مخدج اليد كأن يده ثدي حبشية، أنشدكم الله هل أخبرتكم أنه فيهم فأتيتموني فأخبرتموني أنه ليس فيهم فحلفت بالله لكم إنه فيهم، فأتيتموني تسحبونه كما نعت لكم. قالوا: اللهم نعم، قال: فأهل علي وكبر. (2)
- وقال الإمام مسلم: وحدثنا عبد بن حميد، أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن عاصم عن معاذة قالت: سألت عائشة فقلت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت: أحرورية أنت؟ قلت: لست
_________
(1) الشريعة (1/ 152/59) والبيهقي في الدلائل (6/ 434).
(2) السنة لعبد الله (269 - 270) وأخرجه البزار في مسنده (2/ 362/1855 كشف الأستار) وأبو يعلى في مسنده (1/ 363 - 364/ 472)، وقال الهيثمي في المجمع (6/ 238 - 239): "رواه أبو يعلى، ورجاله ثقات، ورواه البزار بنحوه".(1/277)
بحرورية، ولكني أسأل. قالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة. (1)
موقفها من المرجئة:
جاء عن عبد الرحمن بن عصمة قال: كنت عند عائشة فأتاها رسول معاوية بهدية فقال: أرسل بها إليك أمير المؤمنين. فقالت: أنتم المؤمنون إن شاء الله وهو أميركم. وقد قبلت هديته. (2)
موقفها من القدرية:
- جاء في أصول الاعتقاد عن عائشة: إن العبد ليعمل الزمان بعمل أهل الجنة وإنه عند الله لمكتوب من أهل النار. (3)
- وروى الآجري عن مسروق قال: دخلت أنا وأبو عطية على عائشة رضي الله عنها. فقلنا لها: يا أم المؤمنين، إن أبا عبد الرحمن يعني ابن مسعود يقول: من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، فأينا يحب الموت؟ فقالت: يرحم الله ابن أم عبد، حدث أول الحديث وأمسك عن آخره، ثم أنشأت تحدث. فقالت: إذا أراد الله بعبد خيرا بعث إليه ملكا قبل موته بعام يسدده ويوفقه، حتى يموت على خير أحايينه، فيقول الناس: مات فلان على خير أحايينه، فإذا حضر ورأى ما أعد له، جعل
_________
(1) مسلم (335) وبنحوه عند البخاري (321).
(2) السنة لعبد الله (101) والإيمان لابن أبي شيبة (25) والمصنف له (6/ 165/30375) مختصرا و (6/ 189 - 190/ 30572) مطولا، وأصول الاعتقاد (5/ 1021/1723).
(3) أصول الاعتقاد (4/ 751/1243).(1/278)
يتهوع نفسه من الحرص على أن يخرج؛ هناك: أحب لقاء الله وأحب الله لقاءه، وإذا أراد الله بعبد غير ذلك، قيض له شيطانا قبل موته بعام يغويه ويصده حتى يموت على شر أحايينه؛ فيقول الناس: مات فلان على شر أحايينه، فإذا حضر ورأى ما أعد له حتى يبتلع نفسه، كراهية أن تخرج، هناك: كره لقاء الله، وكره الله لقاءه. (1)
أبو هريرة (2) (58 هـ)
الإمام الفقيه، المجتهد الحافظ، صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو هريرة بن عامر الدوسي اليماني، سيد الحفاظ، الأثبات. اختلف في اسمه على أقوال
_________
(1) عبد الرزاق (3/ 587/6749) والأجري في الشريعة (1/ 462 - 463/ 605 - 606) كلاهما عن مسروق قال: دخلت أنا وأبو عطية على عائشة رضي الله عنها فقلنا لها: يا أم المؤمنين إن أبا عبد الرحمن يعني ابن مسعود يقول: فذكره. والحديث قد ورد من طرق أخرى صحيحة منها:
حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أخرجه: أحمد (5/ 316،321) والبخاري (11/ 434/6507) ومسلم (4/ 2065/2683) والترمذي (3/ 379/1066) وقال: "حديث عبادة بن الصامت حسن صحيح". والنسائي (4/ 308/1835).
حديث أبي هريرة رضي الله عنه أخرجه: أحمد (2/ 313،346،420) والبخاري (13/ 570/7504) ومسلم (4/ 2066/2685) والنسائي (4/ 307/1833 - 1834).
حديث عائشة رضي الله عنها أخرجه: أحمد (6/ 44،55،207،236) والبخاري تعليقا (11/ 434/6507) ومسلم (4/ 2065 - 2066/ 2684) والترمذي (3/ 379 - 380/ 1067) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي (4/ 308/1837) وابن ماجه (2/ 1425/4264).
حديث أبي موسى رضي الله عنه أخرجه: البخاري (11/ 434/6508 ومسلم (4/ 2067/2686).
(2) الإصابة (7/ 425 - 445) والاستيعاب (4/ 1768 - 1772) وطبقات ابن سعد (2/ 362 - 364) والسير (2/ 578 - 632) والمستدرك (3/ 506) والحلية (1/ 376 - 385) والبداية والنهاية (8/ 103 - 115) ومجمع الزوائد (9/ 361 - 362) وشذرات الذهب (1/ 63 - 64) والمعرفة والتاريخ (1/ 476 - 491).(1/279)
جمة، أرجحها: عبد الرحمن بن صخر والمشهور عنه أنه كني بأولاد هرة برية، قال وجدتها فأخذتها في كمي فكنيت بذلك. حمل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - علما كثيرا طيبا مباركا فيه، ولم يلحق في كثرته، وحمل عن أُبَيّ وأبي بكر وعمر وأسامة وعائشة وغيرهم. وحدث عنه خلق كثير من الصحابة والتابعين. صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعة أعوام. وقد جاع أبو هريرة واحتاج، ولزم المسجد، وقال رضي الله عنه: لقد رأيتني أصرع بين القبر والمنبر من الجوع، حتى يقولوا مجنون. وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث يحدثه: "إنه لن يبسط أحد ثوبه حتى أقضي مقالتي هذه ثم يجمع إليه ثوبه إلا وعى ما أقول، فبسطت نمرة علي، حتى إذا قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقالته جمعتها إلى صدري، فما نسيت من مقالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك من شيء" (1). قال الذهبي: وأبو هريرة إليه المنتهى في حفظ ما سمعه من الرسول عليه السلام وأدائه بحروفه. وقد ولي أبو هريرة البحرين لعمر. توفي رضي الله عنه سنة ثمان وخمسين للهجرة.
موقفه من المبتدعة:
- جاء في الإبانة: عن نافع بن سرجس عن أبي هريرة قال: يا أيها الناس أظلتكم فتن كأنها قطع الليل المظلم أنجى الناس منها -أو قال فيها- صاحب شياه يأكل من غنمه أو رجل من وراء الدرب آخذ بعنان فرسه
_________
(1) أحمد (2/ 240) والبخاري (4/ 361/2047) ومسلم (4/ 1939/2492) والترمذي (5/ 642/3834) بنحوه وقال: "هذا حديث حسن غريب".(1/280)
يأكل من سيفه. (1)
- وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: توضئوا مما مست النار، ولو من ثور من أقط. فقال له ابن عباس: يا أبا هريرة: إنا لنتوضأ بالحميم وقد أغلي على النار، وإنا لندهن بالدهن وقد طبخ على النار، فقال أبو هريرة: يا ابن أخي: إذا سمعت بالحديث يحدث به عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا تضرب له الأمثال. (2)
- وعن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا استيقظ أحدكم من منامه فليفرغ على يديه من إنائه ثلاث مرات، فإنه لا يدري أين باتت يده (3). قال قين الأشجعي: فما يصنع بالمهراس، يا أبا هريرة؟ قال أبو هريرة: أعوذ بالله من شرك يا قين. (4)
" الغريب:
المهراس: هو حجر منقور مستطيل، عظيم كالحوض، يتوضأ منه الناس. (5)
_________
(1) الإبانة (2/ 4/594 - 595/ 759).
(2) أحمد (2/ 427) و (1/ 366) من مسند ابن عباس. والترمذي (1/ 114 - 115/ 79) والنسائي (1/ 114/174) وابن ماجه (1/ 163/485) وأخرجه بدون ذكر القصة. ومسلم (1/ 272 - 273/ 352) وأبو داود (1/ 134/194). والحديث قد نسخ.
(3) أحمد (2/ 241) والبخاري (1/ 349/162) ومسلم (1/ 233/278) وأبو داود (1/ 76/103) والترمذي (1/ 36/24) والنسائي (1/ 107/161) وابن ماجه (1/ 138 - 139/ 393).
(4) أحمد في المسند (2/ 382) والهروي في ذم الكلام (2/ 238 - 239 طبعة الأنصاري) والبيهقي في السنن الكبرى (1/ 47) إلا أن في المسند والسنن الكبرى 'قيس الأشجعي' بدل 'قين الأشجعي' والصحيح ما هو مثبت. انظر الإصابة (5/ 567) وأسد الغابة (4/ 431).
(5) اللسان (6/ 248).(1/281)
- وروى الدارمي بسنده إلى أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: بينما رجل يتبختر في بردين خسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة، فقال له فتى -قد سماه وهو في حلة- يا أبا هريرة أهكذا كان يمشي ذلك الفتى الذي خسف به؟ ثم ضرب بيده فعثر عثرة كاد يتكسر منها فقال أبو هريرة للمنخرين وللفم: إنا كفيناك المستهزئين. (1)
موقفه من المشركين:
روى الإمام مسلم: عن أبي هريرة قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يزالون يسألونك يا أبا هريرة، حتى يقولوا: هذا الله. فمن خلق الله؟ قال، فبينا أنا في المسجد إذ جاءني ناس من الأعراب. فقالوا: يا أبا هريرة، هذا الله. فمن خلق الله؟ قال، فأخذ حصى بكفه فرماهم. ثم قال: قوموا، قوموا، صدق خليلي. (2)
موقفه من الجهمية:
- جاء في أصول الاعتقاد: عن سالم أبي النضر أن أبا هريرة كان يذكر: أنكم لن تروا ربكم حتى تذوقوا الموت. (3)
- وفيه: عن سعيد بن المسيب قال: رأيت أبا هريرة صلى على منفوس
_________
(1) رواه الدارمي (1/ 116) وفيه عبد الله بن صالح كاتب الليث صدوق كثير الخطأ. وأحمد (2/ 413) بقصة مشابهة، قال الشيخ أحمد شاكر 1/ 109): "إسناده صحيح". والمرفوع منه رواه أحمد (2/ 315،492) والبخاري (10/ 316/5789) ومسلم (3/ 1653 - 1654/ 2088).
(2) مسلم (1/ 121/135) وأبو داود (5/ 91 - 92/ 4721) وأحمد (2/ 387) وفي سند أحمد عمر بن أبي سلمة وهو ضعيف وبقية رجاله ثقات. والمرفوع منه أخرجه البخاري 6/ 413/3276) من حديث أبي هريرة بلفظ آخر.
(3) أصول الاعتقاد (3/ 553/865).(1/282)
لم يعمل خطيئة قط فقال: اللهم أعذه من عذاب القبر. (1)
موقفه من الخوارج:
جاء في المصنف لابن أبي شيبة عن عمير بن إسحاق قال: ذكروا الخوارج عند أبي هريرة قال: أولئك شرار الخلق. (2)
موقفه من المرجئة:
- عن عبد الله بن ربيعة الحضرمي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يقول: (الإيمان يزداد وينقص). (3)
- وجاء في أصول الاعتقاد: عن أبي هريرة أنه قال: إذا أتى الرجل امرأة حراما فارقه الإيمان هكذا -ووضع إحدى يديه على الأخرى- ووصفها سويد بيديه ثم فرق بينهما قليلا ثم قال: يفارقه الإيمان هكذا فإذا رجع راجعه الإيمان، ورد إحداهما على الأخرى. (4)
- وعنه رضي الله عنه قال: الإيمان نزه فمن زنا فارقه الإيمان، فإن لام نفسه ورجع راجعه الإيمان. (5)
موقفه من القدرية:
- وفي السنة لعبد الله عن موسى بن وردان عن أبي هريرة رضي الله عنه
_________
(1) أصول الاعتقاد (6/ 1210/2141) وعبد الرزاق (3/ 533/6110) والبيهقي (4/ 9 - 10).
(2) مصنف ابن أبي شيبة (7/ 553/37885).
(3) السنة (84) والإبانة (2/ 844/1127 - 1130) وأصول الاعتقاد (5/ 1016/1711) والشريعة (1/ 260/237).
(4) أصول الاعتقاد (6/ 1090/1869) والسنة لعبد الله (ص.98).
(5) أصول الاعتقاد (6/ 1090/1870) والشريعة (1/ 267/253) والسنة لعبد الله (101) والإيمان لابن أبي شيبة (16) وهو في المصنف (6/ 165/30368) والسنة للخلال (4/ 100/1259).(1/283)
قال: سيكون ناس يصدقون بقدر ويكذبون بقدر. قال موسى: فيلعنهم أبو هريرة عند قوله هذا. (1)
- وروى عبد الله بن الإمام أحمد بالسند إلى عمار مولى بني هاشم قال: سألت أبا هريرة عن القدر. فقال: أكتفي منه بآخر سورة الفتح. (2)
سمرة بن جندب (3) (58 هـ)
سَمُرَة بن جُنْدُب بن هلال الفَزَارِي، من علماء الصحابة، نزيل البصرة، كان الحسن وابن سيرين وفضلاء أهل البصرة يثنون عليه ويجيبون عنه، وقال ابن سيرين: في رسالة سمرة إلى بنيه علم كثير. وكان زياد يستخلفه على البصرة ستة أشهر وعلى الكوفة ستة أشهر وكان شديدا على الخوارج ويقول: شر قتلى تحت أديم السماء.
وعن محمد بن سيرين قال: كان سمرة -فيما علمت- عظيم الأمانة صدوق الحديث يحب الإسلام وأهله. وكان من الحفاظ المكثرين. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن عبيدة ابن الجراح، وروى عنه الأسقع وثعلبة بن عباد والحسن البصري وغيرهم.
توفي رضي الله عنه سنة ثمان وخمسين.
_________
(1) السنة (140).
(2) السنة لعبد الله (142).
(3) الاستيعاب (2/ 653 - 655) والإصابة (3/ 178 - 179) وتهذيب الكمال (12/ 130) وتهذيب التهذيب (4/ 213) والسير (3/ 183 - 186).(1/284)
موقفه من المبتدعة:
جاء في البدع لابن وضاح: عن سمرة بن جندب قال: لا تقوم الساعة حتى تروا أمورا عظاما لم تكونوا ترونها ولا تحدثون بها أنفسكم. (1)
موقفه من الخوارج:
جاء في السير: وكان شديدا على الخوارج، قتل منهم جماعة. (2)
- قال وهب: حدثني أبي: أن زيادا اشتد في أمر الحرورية بعد قريب وزحاف (3)، فقتلهم وأمر سمرة بذلك، وكان يستخلفه على البصرة إذا خرج إلى الكوفة فقتل سمرة منهم بشرا كثيرا. (4) اهـ
- وعن محمد بن سليم قال: سألت: أنس بن سرين: هل كان سمرة قتل أحدا؟ قال: وهل يحصى من قتل سمرة بن جندب استخلفه زياد على البصرة، وأتى الكوفة، فجاء وقد قتل ثمانية آلاف من الناس، فقال له: هل تخاف أن تكون قد قتلت أحدا بريئا؟ قال: لو قتلت إليهم مثلهم ما خشيت أو كما قال. (5)
_________
(1) ما جاء في البدع (ص.176).
(2) السير (3/ 186).
(3) قال سعيد بن يزيد: كان قريب وزحاف أول من خرج بعد أهل النهراوان من الحرورية. تاريخ خليفة (ص.221).
(4) تاريخ الطبري (3/ 209) وتاريخ خليفة (ص222).
(5) تاريخ الطبري (3/ 208).(1/285)
عقبة بن عامر الجهني (1) (58 هـ)
عُقْبَة بن عامر بن عَبْس بن عدي بن عمروبن رفاعة الجُهَنِي يكنى أبا حماد، وقيل: أبا عمرو ويقال: أبو الأسد المصري صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم -. روى عنه من الصحابة ابن عباس وجابر بن عبد الله وأبو أمامة الباهلي وغيرهم. ومن التابعين: أبو الخير، وعلي بن رباح وأبو قبيل، وسعيد ابن المسيب وغيرهم. كان عالما مقرئا فصيحا فقيها فرضيا شاعرا كبير الشأن. وهو كان البريد إلى عمر بفتح دمشق. وله دار بخط باب توما. وشهد صفين مع معاوية وأمره بعد ذلك على مصر ثم عزله بعد ثلاث سنين وأغزاه البحر. وكان من أصحاب الصفة، وكان من الرماة المذكورين مات سنة ثمان وخمسين رضي الله عنه.
موقفه من الخوارج:
عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس قال: ... وذكرت الخوارج عند ابن عامر، فذكر من اجتهادهم، فقال: ليسوا بأشد اجتهادا من اليهود والنصارى ثم هم يقتلون. (2)
موقفه من المرجئة:
عن عقبة بن عامر قال: إن الرجل ليتفضل بالإيمان كما يتفضل ثوب المرأة. (3)
_________
(1) طبقات ابن سعد (4/ 343 - 344) والاستيعاب (3/ 1073 - 1074) وأسد الغابة (4/ 51 - 52) وتهذيب الكمال (20/ 202 - 205) والسير (2/ 467 - 469) والإصابة (4/ 520 - 521).
(2) المصنف لعبد الرزاق (10/ 120/18581).
(3) السنة لعبد الله (93) وأصول الاعتقاد (5/ 1018/1716).(1/286)
عمرو بن أمية (1) (قبل 60 هـ)
عمْرو بن أُمَيَّة بن خُوَيْلِد، أبو أُمَيَّة الضَّمْرِي، صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وروى عنه ابناه جعفر وعبد الله وابن أخيه الزبرقان بن عبد الله وأبو قلابة الجرمي وآخرون. شهد بدرا وأحدا مع المشركين، ثم أسلم حين انصرف المشركون عن أحد.
وكان رضي الله عنه رجلا شجاعا له إقدام، وأول مشهد شهده مسلما بئر معونة، فأسرته بنو عامر، فقال له عامر بن الطفيل: إنه قد كان على أمي نسمة فأنت حر عنها، وجز ناصيته. بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرية وحده إلى قريش، وأرسله إلى النجاشي يدعوه إلى الإسلام، فأسلم، ويأمره أن يزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب، فزوجه إياها، وأصدق عنه أربعمائة دينار، ويرسل من عنده من المسلمين، ففعل.
توفي رضي الله عنه آخر أيام معاوية، قبل الستين.
موقفه من المشركين:
جاء في السير: عن جعفر بن عمرو بن أمية، قال: بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - عمرو ابن أمية إلى النجاشي، فوجد لهم بابا صغيرا يدخلون منه مُكَفِّرين (2) فدخل منه القهقرى، فشق عليهم، وهموا به، فقال له النجاشي: ما منعك؟ قال: إنا لا نصنع هذا بنبينا، قال: صدق، دعوه، فقيل للنجاشي: إنه يزعم أن عيسى
_________
(1) طبقات ابن سعد (4/ 248) والاستيعاب (3/ 1162 - 1163) وتاريخ دمشق (45/ 418 - 430) وأسد الغابة (4/ 181 - 182) وتهذيب الكمال (21/ 545 - 547) وسير أعلام النبلاء (3/ 179 - 181).
(2) أي منحنين.(1/287)
عبد. قال: ما تقولون في عيسى؟ قال: كلمة الله وروحه، قال: ما استطاع عيسى أن يعدو ذلك. (1)
معاوية بن أبي سفيان (2) (60 هـ)
يكنى أبا عبد الرحمن معاوية بن أبي سفيان واسم أبيه صخر بن حرب، وأمه هند بنت عتبة، وهو من مسلمة الفتح هو وأبوه وأخوه وأمه، فهو خال المؤمنين وكاتب وحي رب العالمين. جاء عنه أنه قال: أسلمت يوم عمرة القضاء ولكني كتمت إسلامي من أبي إلى يوم الفتح. ولاه عمر على الشام بعد موت أخيه يزيد. وقال عمر إذ دخل الشام ورأى معاوية: هذا كسرى العرب. وعن ابن عمر قال: ما رأيت أحدا بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسود من معاوية فقيل له: فأبو بكر وعمر وعثمان وعلي؟ فقال: كانوا والله خيرا من معاوية وكان معاوية أسود منهم. بويع له بالخلافة سنة إحدى وأربعين فسمي عام الجماعة. قال محمد بن إسحاق: كان معاوية أميرا عشرين سنة وخليفة عشرين سنة. قال فيه ابن عباس: ليس أحد منا أعلم من معاوية، وفي لفظ قيل له إن معاوية أوتر بركعة فقال: إنه فقيه. وسئل الإمام أحمد أيما أفضل معاوية أو عمر بن عبد العزيز؟ فقال: لغبار لحق بأنف جواد معاوية بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خير من عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأماتنا على
_________
(1) السير (3/ 180 - 181).
(2) الاستيعاب (3/ 1416 - 1422) والإصابة (6/ 151 - 155) والسير (3/ 119) وتهذيب الكمال (28/ 176) وشذرات الذهب (1/ 65) والبداية والنهاية (8/ 21).(1/288)
محبته. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان وأخته أم حبيبة وغيرهم، وروى عنه ثابت بن سعد وابن عباس وجرير البجلي وغيرهم. مات في رجب سنة ستين رضي الله عنه.
موقفه من المبتدعة:
- جاء في ذم الكلام: عن محمد بن جبير بن مطعم أن معاوية قام فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: أما بعد: فإنه بلغني أن رجالا منكم يتحدثون بأحاديث ليست في كتاب الله ولا تعرف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولئك جهالكم. (1)
" التعليق:
لا شك أن المبتدعة يعتمدون في كتبهم على الموضوعات والمكذوبات، ومن شك في ذلك فلينظر كتبهم يجدها مليئة بذلك. هذا إن اعتمدوا على النص ولم يحرفوا معناه. وأما إن اعتمدوا أصولا أخرى وضعوها لتقعيد بدعتهم فذاك أمر آخر.
- وروى ابن بطة (2) بسنده إلى الأوزاعي عن عبادة بن نسي قال: تذاكروا عند معاوية المسائل فرد بعضهم على بعض فقال: ألم تسمعوا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الأغلوطات. (3)
_________
(1) ذم الكلام (ص.184) والإحكام لابن حزم (8/ 31) وذكره ابن القيم في إعلام الموقعين (1/ 253).
(2) الإبانة (1/ 2/401/ 301).
(3) أخرجه أحمد (5/ 435) وأبو داود (4/ 65/3656). كلهم من طريق الأوزاعي عن عبد الله بن سعد، عن الصنابحي عن معاوية مرفوعا. وفيه عبد الله بن سعد، قال الذهبي في الميزان: "مجهول". وقال الشيخ الألباني: "سنده ضعيف".(1/289)
- وقال ابن تيمية في المنهاج: طاف ابن عباس ومعاوية، فجعل معاوية يستلم الأركان الأربعة، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يستلم إلا الركنين اليمانيين فقال معاوية: ليس من البيت شيء مهجورا، فقال ابن عباس رضي الله عنه: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، فقال معاوية: صدقت، ورجع إلى قوله. (1)
- وروى البخاري عن حميد بن عبد الرحمن أنه: سمع معاوية بن أبي سفيان -عام حج- على المنبر، فتناول قصة من شعر-كانت في يد حرسي- فقال: يا أهل المدينة، أين علماؤكم؟ سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن مثل هذه ويقول: إنما هلكت بنو إسرائيل حين اتخذها نساؤهم. (2)
موقفه من المشركين:
عن عمران بن حدير، عن أبي مجلز أن معاوية قال: إن تسوية القبور من السنة، وقد رفعت اليهود والنصارى، فلا تشبهوا بهم. (3)
موقفه من الجهمية:
روى اللالكائي في أصول الاعتقاد بسنده إلى حسان بن عطية قال: قال معاوية: قصيرة من طويلة، من أتاكم يزعم أنه ربكم فاعلموا أنكم لن
_________
(1) المنهاج (2/ 448) والقصة رواها: أحمد (1/ 217) والبخاري (3/ 603 - 604/ 1608) والترمذي (3/ 213/858).
(2) أحمد (4/ 95،97 - 98) والبخاري (6/ 634 - 635/ 3468) ومسلم (3/ 1679/2127) وأبو داود (4/ 396/4167) والترمذي (5/ 96/2781) والنسائي (8/ 570/5260).
(3) الاقتضاء (1/ 342).(1/290)
تروا ربكم عز وجل حتى تموتوا. (1)
موقفه من الخوارج:
قال ابن جرير في أحداث سنة إحدى وأربعين هجرية: وفيها خرجت الخوارج التي اعتزلت أيام علي رضي الله عنه بشهرزور على معاوية. ذكر خبرهم: حدثت عن زياد عن عوانة قال قدم معاوية قبل أن يبرح الحسن من الكوفة حتى نزل النخيلة، فقالت الحرورية -الخمسمائة التي كانت اعتزلت بشهرزور مع فروة بن نوفل الأشجعي- قد جاء الآن ما لا شك فيه فسيروا إلى معاوية فجاهدوه، فأقبلوا وعليهم فروة بن نوفل حتى دخلوا الكوفة، فأرسل إليهم معاوية خيلا من خيل أهل الشام، فكشفوا أهل الشام، فقال معاوية لأهل الكوفة: لا أمان لكم والله عندي حتى تكفوا بوائقكم. فخرج أهل الكوفة إلى الخوارج فقاتلوهم، فقالت لهم الخوارج: ويلكم ما تبغون منا، أليس معاوية عدونا وعدوكم دعونا حتى نقاتله، وإن أصبناه كنا قد كفيناكم عدوكم، وإن أصابنا كنتم قد كفيتمونا. قالوا: لا والله حتى نقاتلكم؛ فقالوا: رحم الله إخواننا من أهل النهر هم كانوا أعلم بكم يا أهل الكوفة، وأخذت أشجع صاحبهم فروة بن نوفل وكان سيد القوم واستعملوا عليهم عبد الله بن أبي الحر رجلا من طيء فقاتلوهم فقتلوا. (2)
موقفه من القدرية:
جاء في أصول الاعتقاد حدثنا إسماعيل عن قيس قال: مرض معاوية
_________
(1) أصول الاعتقاد (3/ 552/863).
(2) تاريخ الطبري (3/ 169) والبداية والنهاية (8/ 23).(1/291)
مرضا عيد فيه، فجعل يقلب ذراعيه -كأنها عسيب نخل- وهو يقول: هل الدنيا إلا ما ذقنا وجربنا والله لوددت أني لا أغبر فيكم فوق ثلاث حتى ألحق الله. قالوا: إلى مغفرة الله ورحمته. قال: إلى ما شاء الله من قضاء ... (1)
عائذ بن عمرو (2) (61 هـ)
عائذ بن عمرو بن هلال بن عبيد بن يزيد المُزَنِي أبو هُبَيْرَة البصري. روى عنه الحسن ومعاوية بن قرة وسوادة بن عاصم وغيرهم. كان ممن بايع بيعة الرضوان تحت الشجرة وكان من صالحي الصحابة سكن البصرة وابتنى بها دارا. توفي في إمارة عبد الله بن زياد أيام يزيد بن معاوية، قال ابن حجر: أرخه ابن قانع سنة إحدى وستين، وأوصى أن يصلي عليه أبو برزة الأسلمي لئلا يصلي عليه ابن زياد.
موقفه من الخوارج:
جاء في السنة لعبد الله عن أبي إياس معاوية بن قرة قال: خرج حروري محكم فخرج إليه ناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مزينة بأسيافهم منهم عائذ بن عمرو. (3)
_________
(1) أصول الاعتقاد (8/ 1534/2791).
(2) طبقات ابن سعد (7/ 31) والاستيعاب (2/ 799) وأسد الغابة (3/ 146) وتهذيب الكمال (14/ 98 - 100) والوافي بالوفيات (16/ 595) وتهذيب التهذيب (5/ 89) والإصابة (3/ 609 - 610).
(3) السنة لعبد الله (ص.280).(1/292)
الحسين بن علي (1) (61 هـ)
سبط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وريحانته من الدنيا ومحبوبه، أبو عبد الله الحسين ابن أمير المؤمنين أبي الحسن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي القرشي الهاشمي. حدث عن جده وأبويه وصهره عمر وطائفة. حدث عنه ولداه علي وفاطمة وعبيد بن حنين، وهمام الفرزدق وعكرمة والشعبي وطلحة العقيلي، وابن أخيه زيد بن الحسن وحفيده محمد ابن علي الباقر، ولم يدركه، وبنته سكينة وآخرون. قال الزبير: مولده في خامس شعبان سنة أربع من الهجرة. قال جعفر الصادق بين الحسن والحسين في الحمل طهر واحد.
عن علي قال: الحسين أشبه برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من صدره إلى قدميه. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه وفي الحسن: "هما ريحانتاي من الدنيا" (2) وقال أيضا: "الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة" (3) وغيرها من الأحاديث. وكان
_________
(1) التاريخ الكبير (2/ 381) والجرح والتعديل (3/ 55) والاستيعاب (1/ 392 - 399) وتاريخ بغداد (1/ 141) والكامل في التاريخ (4/ 61) والسير (3/ 280 - 321) والبداية والنهاية (5/ 152 وما بعدها) والإصابة (2/ 76 - 81) وأسد الغابة (2/ 24 - 30) وتهذيب الكمال (6/ 396 - 449) وتهذيب التهذيب (2/ 345) وشذرات الذهب (1/ 66).
(2) أحمد (2/ 85 و93) والبخاري (7/ 119/3753) والترمذي (5/ 615/3770) وقال: "هذا حديث صحيح". والنسائي في الكبرى (5/ 150/8530).
(3) أحمد (3/ 3) والترمذي (5/ 614/3768) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي في الكبرى (5/ 150/8528) وابن حبان (15/ 411 - 412/ 6959 الإحسان) الحاكم (3/ 166 - 167) وقال: "هذا حديث قد صح من أوجه كثيرة، وأنا أتعجب أنهما لم يخرجاه". وتعقبه الذهبي بقوله: "الحكم فيه لين". وزاد النسائي وابن حبان والحاكم: "إلا ابني الخالة عيسى بن مريم، ويحيى بن زكريا". وفي الباب عن حذيفة بن اليمان وعلي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب رضي الله عنهم وغيرهم من الصحابة.(1/293)
رضي الله عنه فاضلا دينا كثير الصيام والصلاة والحج. قال مصعب الزبيري: حج الحسين خمسا وعشرين حجة ماشيا. قتل رضي الله عنه يوم الجمعة لعشر خلت من المحرم يوم عاشوراء سنة إحدى وستين بموضع يقال له كربلاء من أرض العراق بناحية الكوفة، قتله سنان بن أنس النخعي ويقال له أيضا: سنان بن أبي سنان النخعي، الجوشي. وأهل الكوفة يقولون: قاتله هو عمر بن سعد ابن أبي وقاص أمير الجيش الذي قاتل الحسين رضي الله عنه.
موقفه من المبتدعة:
جاء في أصول الاعتقاد: عن سفيان بن حسين عن الحسين {مَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا} (1) قال: على السنة. (2)
موقفه من الرافضة:
عن أسلم قال: حدثني من كان في الصف في يوم الحسين رضي الله عنه فقال: ابتدر رجل فقال: أيكم الحسين؟ قال: كان أولنا له إجابة- فقال: أنا الحسين فما تريد يا عبد الله؟ قال: أبشر يا عدو الله بالنار قال: فقال: ويحك أنا؟ قال: نعم. قال: ولم؟ ورب رحيم وشفاعة نبي مطاع. اللهم إن كان عبدك كاذبا فجره إلى النار واجعله اليوم آية لأصحابه.
قال: فما هو إلا أن ثنى عنان فرسه فوثب به فألقاه في حيزته وبقيت رجلاه في الركاب فجعل يضربه حتى قطعه. قال: فلقد رأيت مذاكيره
_________
(1) الجاثية الآية (18).
(2) أصول الاعتقاد (1/ 76 - 77/ 66).(1/294)
تسحب في الأرض. فقال: فوالله ما عجبنا لسرعة إجابة دعائه ولكن لوقوفنا حتى قتل كأن قلوبنا زبر الحديد. (1)
أم المؤمنين هند بنت أبي أمية أم سلمة (2) (61 هـ)
هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم أم سلمة القرشية المخزومية أم المؤمنين زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، تزوجها في جمادى الآخرة سنة أربع، وقيل سنة ثلاث. روت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أبي سلمة، وفاطمة الزهراء. وروى عنها سعيد بن المسيب وشقيق بن سلمة ومجاهد ونافع مولى ابن عمر وغيرهم. كانت ممن أسلم قديما هي وزوجها وهاجرا إلى الحبشة، وقيل إنها أول ظعينة دخلت المدينة ويقال: إن ليلى امرأة عامر بن ربيعة شركتها في هذه الأولية. كانت أم سلمة موصوفة بالجمال البارع والعقل البالغ، والرأي الصائب، وإشارتها على النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية تدل على وفور عقلها وصواب رأيها. كان أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يتحاكمن إليها لعلمهن ببراءتها من الغيرة وذلك بفضل دعائه - صلى الله عليه وسلم -.
كانت آخر أمهات المؤمنين موتا وذلك آخر سنة إحدى وستين بعدما جاءها نعي الحسين بن علي رضي الله عنه.
_________
(1) أصول الاعتقاد (9/ 147 - 148/ 90).
(2) الطبقات لابن سعد (8/ 86 - 96) والاستيعاب (4/ 1920 - 1921؛ 1939 - 1940) وأسد الغابة (7/ 329 - 331) وتهذيب الكمال (35/ 317 - 320) والسير (2/ 201 - 210) والبداية والنهاية (8/ 217) والإصابة (8/ 221 - 225) وشذرات الذهب (1/ 69 - 70).(1/295)
موقفها من الجهمية:
جاء في أصول الاعتقاد: عن أم سلمة في قوله: {الرحمن على العرش استوى} (1).
قالت: الكيف غير معقول والاستواء غير مجهول والإقرار به إيمان والجحود به كفر. (2)
علقمة بن قيس (3) (62 هـ)
عَلْقَمَة بن قيس بن عبد الله بن مالك بن علقمة بن سَلاَمَان بن كهل أبو شِبْل النخعي الكوفي الفقيه عم الأسود بن يزيد وأخيه عبد الرحمن وخال فقيه العراق إبراهيم النخعي. ولد في أيام الرسالة المحمدية، وعداده في المخضرمين. سمع من عمر وعثمان وابن مسعود النخعي وأبو الضحى مسلم ابن صبيح وغيرهم. هاجر في طلب العلم والجهاد، وجود القرآن على ابن مسعود ولازمه حتى رأس في العلم والعمل. قال الذهبي: كان فقيها إماما بارعا طيب الصوت بالقرآن ثبتا فيما ينقل، صاحب خير وورع. كان يشبه ابن مسعود في هديه ودله وسمته وفضله كان أعرج. كان طلبته يسألونه ويتفقهون به
_________
(1) طه الآية (5).
(2) أصول الاعتقاد (3/ 440 - 441/ 663).
(3) طبقات ابن سعد (6/ 86 - 92) والحلية (2/ 98 - 102) وتاريخ بغداد (12/ 296 - 300) وتهذيب الكمال (20/ 300 - 308) وتذكرة الحفاظ (1/ 48 - 49) والسير (4/ 53 - 61) والبداية والنهاية (8/ 219) والإصابة (5/ 136 - 137) وشذرات الذهب (1/ 70).(1/296)
والصحابة متوافرون. توفي رحمه الله سنة اثنتين وستين.
موقفه من الخوارج:
عن علقمة قال: تكلم عنده رجل من الخوارج بكلام كرهه فقال علقمة وَالَّذِينَ {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} (1) فقال له الخارجي: أو منهم أنت؟ قال: أرجو. (2)
موقفه من المرجئة:
- عن إبراهيم عن علقمة أنه كان يقول لأصحابه: (امشوا بنا نزدد إيمانا). (3)
- قال رجل لعلقمة أمؤمن أنت؟ قال أرجو إن شاء الله. (4)
موقفه من القدرية:
عن أبي ظبيان قال: كنا عند علقمة، فقرئ عنده هذه الآية {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} (5). فسئل عن ذلك فقال: هو الرجل تصيبه المصيبة،
_________
(1) الأحزاب الآية (58).
(2) السنة لعبد الله (88) والسنة للخلال (4/ 132) والإبانة (2/ 7/869 - 870/ 1183) والشريعة (1/ 305/325).
(3) ابن أبي شيبة في كتاب الإيمان (104) والمصنف (6/ 164/30362) وأصول الاعتقاد (5/ 1023/1730).
(4) السنة لعبد الله (96) وابن أبي شيبة في المصنف (6/ 161/30334 و30374) وفي الإيمان (24) وأبو عبيد في الإيمان (15) وابن بطة في الإبانة (2/ 883/1218) والشريعة (1/ 301/315).
(5) التغابن الآية (11).(1/297)
فيعلم أنها من عند الله فيسلم ذلك ويرضى. (1)
الربيع بن خثيم (2) (62 هـ)
الرَّبيع بن خُثَيْم بن عائذ، الإمام، القدوة العابد، أبو يزيد الثَّوريّ الكوفيّ أحد الأعلام. أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - وأرسل عنه. وروى عن عبد الله بن مسعود وأبي أيوب الأنصاري وعمرو بن ميمون وهو قليل الرواية. قال له عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يا أبا يزيد، لو رآك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأحبك، وما رأيتك إلا ذكرت المخبتين. وكان يقول إذا جاءه الرجل: يا عبد الله اتق الله فيما علمت وما استؤثر به عليك فكله إلى عالمه، لأنا في العمد أخوف عليكم مني في الخطأ. وما خيركم اليوم بخير ولكنه خير من آخر شر منهم وما تتبعون الحق حق اتباعه، وما تفرون من الشر حق فراره، ولا كل ما أنزل الله على محمد - صلى الله عليه وسلم - أدركتم ولا كل ما تقرؤون تدرون ما هو، ثم يقول: السرائر السرائر اللاتي يخفين من الناس وهن لله بواد التمسوا دواءهن، وما دواؤهن إلا أن تتوب ثم لا تعود. عن الشعبي: كان الربيع أورع أصحاب عبد الله.
توفي بعد مقتل الحسين رضي الله عنه، وذلك سنة اثنتين وستين وقيل التي قبلها.
_________
(1) ابن جرير (28/ 123).
(2) سير أعلام النبلاء (4/ 258 - 262) وتذكرة الحفاظ (1/ 57) والمعرفة والتاريخ (2/ 563) وتهذيب الكمال (9/ 70 - 76) وتهذيب التهذيب (3/ 242 - 243) والمنتظم (6/ 8 - 9) والبداية والنهاية (8/ 219).(1/298)
موقفه من المبتدعة:
- جاء في ذم الكلام: عن ربيع بن خثيم قال: ليتق أحدكم تكذيب الله إياه أن يقول: قال الله كذا وكذا فيقول: كذبت، لم أقله، أو يقول: لم يقل الله كذا وكذا، فيقول: كذبت، قد قلته. (1)
- وعنه قال: اتق الله فيما علمت وما استؤثر به فكله إلى عالمه. (2)
أبو مسلم الخَوْلاَني (3) (62 هـ)
اسمه على الأصح: عبد الله بن ثوب وقيل: ابن ثواب وقيل غير ذلك. أبو مسلم الخولاني الزاهد المشهور سيد التابعين أسلم في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقدم المدينة في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وهو معدود في كبار التابعين. سمع عمر ومعاذا وأبا عبيدة والكبار. وسمع منه أبو إدريس الخولاني وأبو العالية الرياحي وجبير بن نفير وطائفة. كان فاضلا ناسكا عابدا فقيها، ريحانة الشام، وثقه ابن معين وغيره. له مناقب وكرامات وفضائل، يقال إن الأسود العنسي ألقاه في النار فنجا منها والله أعلم. كان يقال: هو حكيم هذه الأمة توفي رحمه الله سنة اثنتين وستين للهجرة.
_________
(1) ذم الكلام (2/ 230/297 طبعة الأنصاري) ورواه بنحوه ابن عبد البر في الجامع (2/ 1075).
(2) ذم الكلام (3/ 55/558) وورواه مطولا ابن سعد في الطبقات (6/ 184 - 185) وأبو نعيم في الحلية (2/ 108) والفسوي في المعرفة والتاريخ (2/ 564 - 565).
(3) طبقات ابن سعد (7/ 448) والحلية (2/ 122 - 131) والاستيعاب (4/ 1707 - 1709) وتهذيب الكمال (34/ 290 - 293) وتذكرة الحفاظ (1/ 49) والسير (4/ 7 - 14) وفوات الوفيات (2/ 169) والبداية والنهاية (8/ 149) وتهذيب التهذيب (12/ 235 - 236).(1/299)
موقفه من المشركين:
جاء في السير: عن شرحبيل: أن الأسود تنبأ باليمن، فبعث إلى أبي مسلم، فأتاه بنار عظيمة، ثم إنه ألقى أبا مسلم فيها، فلم تضره، فقيل للأسود: إن لم تنف هذا عنك أفسد عليك من اتبعك. فأمره بالرحيل فقدم المدينة، فأناخ راحلته، ودخل المسجد يصلي، فبصر به عمر رضي الله عنه، فقام إليه، فقال: ممن الرجل؟ قال: من اليمن. قال: ما فعل الذي حرقه الكذاب بالنار؟ قال: ذاك عبد الله بن ثوب، قال: نشدتك بالله، أنت هو؟ قال: اللهم نعم. فاعتنقه عمر وبكى، ثم ذهب به حتى أجلسه فيما بينه وبين الصديق. فقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني في أمة محمد من صنع به كما صنع بإبراهيم الخليل. (1)
موقفه من الرافضة:
روى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري، قال: كنت عند الوليد بن عبد الملك، فكان يتناول عائشة رضي الله عنها. فقلت: يا أمير المؤمنين، ألا أحدثك عن رجل من أهل الشام، كان قد أوتي حكمة؟ قال: من هو؟ قلت: أبو مسلم الخولاني، سمع أهل الشام ينالون من عائشة فقال: ألا أخبركم بمثلي ومثل أمكم هذه؟ كمثل عينين في رأس، تؤذيان صاحبهما، ولا يستطيع أن يعاقبهما إلا بالذي هو خير لهما فسكت. فقال الزهري: أخبرنيه أبو إدريس الخولاني عن أبي مسلم. (2)
_________
(1) السير (4/ 8 - 9).
(2) أخرجه ابن عساكر (27/ 204) وهو في سير أعلام النبلاء (4/ 9).(1/300)
موقفه من الخوارج:
- جاء في السنة للخلال أن أبا مسلم الخولاني قال: إنه مؤمر عليك مثلك، فإن اهتدى فاحمد الله، وإن عمل بغير ذلك فادع له بالهدى ولا تخالفه فتضل. (1)
- جاء في البداية والنهاية: وأما كلام أئمة التابعين في هذا الفصل فكثير جدا يطول ذكرنا له، فمن ذلك قول أبي مسلم الخولاني حين رأى الوفد الذين قدموا من قتله -أي عثمان-: إنكم مثلهم أو أعظم جرما، أما مررتم ببلاد ثمود؟ قالوا: نعم قال: فأشهد أنكم مثلهم، لخليفة الله أكرم عليه من ناقته. (2)
موقفه من القدرية:
جاء في الإبانة: عن أبي مسلم الخولاني قال: إن آخر ما جف به القلم خلق آدم، وأن الله عز وجل لما خلقه نشر ذريته في يده وكتب أهل الجنة وأعمالهم، وكتب أهل النار وأعمالهم، ثم قال: هذه لهذه ولا أبالي، وهذه لهذه ولا أبالي. (3)
_________
(1) السنة للخلال (1/ 86).
(2) البداية والنهاية (7/ 204 - 205).
(3) الإبانة (2/ 10/220/ 1794).(1/301)
مسروق بن الأجدع (1) (62 هـ)
مَسْروق بن الأَجْدَع بن مالك، أبو عائشة الوَادِعيّ، الهمدانيّ الكوفيّ، الإمام القدوة، العلم. حدث عن أبي بن كعب وعمر، ومعاذ بن جبل وخباب، وعائشة وابن مسعود وغيرهم. وعنه الشعبي، وإبراهيم النخعي، ويحيى بن وثاب وغيرهم. وعداده في كبار التابعين وفي المخضرمين الذين أسلموا في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
عن إبراهيم قال: كان أصحاب عبد الله الذين يقرئون الناس ويعلمونهم السنة: علقمة، والأسود، وعبيدة، ومسروقا، والحارث بن قيس، وعمرو بن شرحبيل.
كان أحد أصحاب عبد الله صلى خلف أبي بكر ولقي عمر وعليا. وعنه قال: كفى بالمرء علما أن يخشى الله تعالى، وكفى بالمرء جهلا أن يعجب بعمله. وقال: من سره أن يعلم علم الأولين والآخرين، وعلم الدنيا والآخرة، فليقرأ سورة الواقعة.
قال الذهبي: هذا قاله مسروق على المبالغة، لعظم ما في السورة من جمل أمور الدارين ومعنى قوله: فليقرأ الواقعة، أي يقرأها بتدبر وتفكر وحضور ولا يكن كمثل الحمار يحمل أسفارا. توفي رضي الله عنه سنة اثنتين وستين للهجرة.
_________
(1) الإصابة (6/ 291 - 293) وطبقات ابن سعد (6/ 76 - 84) والحلية (2/ 85 - 98) وتاريخ بغداد (13/ 232 - 235) وتذكرة الحفاظ (1/ 49 - 50) وتهذيب التهذيب (10/ 109 - 111) وشذرات الذهب (1/ 71) والمعرفة والتاريخ (2/ 560) والسير (4/ 63 - 69).(1/302)
موقفه من المبتدعة:
- جاء في سنن الدارمي: قال مسروق: إني أخاف أو أخشى أن أقيس فتزل قدمي. (1)
- وجاء في السير: عن الشعبي، قال مسروق: لأن أفتي يوما بعدل وحق، أحب إلي من أن أغزو سنة. (2)
- وفي جامع بيان العلم وفضله: عن مسروق قال: من يرغب برأيه عن أمر الله عز وجل يضل. (3)
- وعنه قال: ما أحد من أصحاب الأهواء إلا في القرآن ما يرد عليهم ولكنا لا نهتدي له. (4)
موقفه من الرافضة:
- عن مسروق أنه كان إذا حدث عن عائشة رحمها الله؛ قال: حدثتني المبرأة الصديقة ابنة الصديق حبيبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (5)
- وعنه أيضا قال: حب أبي بكر وعمر ومعرفة فضلهما من السنة. (6)
_________
(1) الدارمي (1/ 65) والفقيه والمتفقه (1/ 458 - 459) وذكره ابن القيم في إعلام الموقعين (1/ 257).
(2) سير أعلام النبلاء (4/ 66).
(3) جامع بيان العلم (2/ 1051) وانظر الاعتصام (2/ 848).
(4) الهروي في ذم الكلام (2/ 114) وأبو خيثمة في العلم (ص.50).
(5) الشريعة (3/ 476/1946).
(6) أصول الاعتقاد (7/ 1312/2322) وجامع بيان العلم (2/ 1177).(1/303)
سعد بن مالك أبو سعيد الخدري (1) (63 هـ)
هو الإمام المجاهد، مفتي المدينة، سعد بن مالك بن سنان، حدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعن عمر وعلي وابن عباس وجابر وزيد بن ثابت. وعنه من الصحابة عائشة وابن عمر وجابر بن سمرة وآخرون، ومن التابعين سعيد بن المسيب وأبو عثمان النهدي وعلقمة والأحنف. أول مشاهده الخندق، وغزا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اثنتي عشرة غزوة، وكان ممن حفظ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سننا كثيرة وعلما جما، وكان من نجباء الصحابة وعلمائهم وفضلائهم.
فعن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه قال: "عرضت يوم أحد على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا ابن ثلاث عشرة، فجعل أبي يأخذ بيدي ويقول: يا رسول الله إنه عبل العظام، وجعل نبي الله يصعد فيّ النظر، ويصوبه، ثم قال: رده، فردني" (2). وروى حنظلة بن أبي سفيان عن أشياخه أنه لم يكن أحد من أحداث أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلم من أبي سعيد الخدري. توفي سنة ثلاث وستين للهجرة.
موقفه من المبتدعة:
- جاء في ذم الكلام: قرأ أبو سعيد: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ
_________
(1) الإصابة (3/ 78 - 80) والاستيعاب (2/ 602) وتاريخ بغداد (1/ 180 - 181) وتذكرة الحفاظ (1/ 44) والوافي بالوفيات (15/ 148) والبداية والنهاية (9/ 43) والسير (3/ 168 - 172) وشذرات الذهب (1/ 81) وتهذيب الكمال (10/ 294 - 299).
(2) ابن عساكر في التاريخ (20/ 386) الحاكم (3/ 563).(1/304)
اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} (1) فقال: هذا نبيكم وخيار أمتكم لو أطاعهم في كثير من الأمر لعنتوا فكيف بكم اليوم؟ (2)
" التعليق:
انظر رحمك الله إلى هذه العبارة من هذا الصحابي الجليل ما أحسنها وما أصدقها على زمننا هذا، لو يطيع الإنسان الآن علماء السوء الذين باعوا أخراهم بدنياهم وحملوا في أعناقهم كل شر، ولو يطيع الإنسان أمراء السوء الذين ركبوا كل مطية تحمى كراسيهم سواء كانت بطريق مشروع أو غير مشروع، سخروا علماءهم للوقوف أمام أي إصلاح سواء كان في عقائدهم التي اختلط بها الباطل أو في أخلاقهم التي انحطت عن درجة القردة والخنازير إلا من شاء الله. وهكذا لو يطيع الإنسان عامة الناس وما هم عليه من التصورات المنحرفة. فالخير كل الخير في طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وما كان عليه صحابته الكرام ومن تبعهم بإحسان.
- روى البخاري في صحيحه: من حديث أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى فأول شيء يبدأ به الصلاة ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس والناس جلوس على صفوفهم، فيعظهم ويوصيهم ويأمرهم، فإن كان يريد أن يقطع بعثا قطعه أو يأمر بشيء أمر به ثم ينصرف، قال أبو سعيد: فلم يزل الناس على ذلك حتى خرجت مع مروان وهو أمير المدينة في أضحى أو فطر فلما أتينا المصلى، إذا منبر بناه كثير بن
_________
(1) الحجرات الآية (7).
(2) ذم الكلام (2/ 219/285).(1/305)
الصلت، فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي فجبذت بثوبه، فجبذني فارتفع فخطب قبل الصلاة فقلت له: غيرتم والله. فقال: أبا سعيد قد ذهب ما تعلم. فقلت: ما أعلم والله خير مما لا أعلم. فقال: إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة فجعلتها قبل الصلاة. (1)
- وجاء في ذم الكلام: قال سليمان بن يسار: بينا أنا عند ابن عباس إذ دخل علينا أبو سعيد الخدري، فدخل رجل من الصيارفة، فقال: يا أبا عباس ما ترى صرف الذهب وزنا بوزن والورق بالورق زيادة؟ فقال ابن عباس: ليس بذلك بأس إذا كان يدا بيد. فقال أبو سعيد: ليس كذلك، نهى عن هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال ابن عباس: نحن أعلم بهذا منك، إنما كان الربا لنا. فقال أبو سعيد: أحدثك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتحدثني عن نفسك، لا يجمعني وإياك سقف بيت أبدا. (2)
- جاء في الإبانة عن الأعرج قال: سمعت أبا سعيد الخدري، يقول لرجل: أتسمعني أحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: لا تبيعوا الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم إلا مثلا بمثل ولا تبيعوا منها عاجلا بآجل (3) ثم أنت تفتي بما تفتي والله لا يؤويني وإياك ما عشت إلا المسجد. (4)
_________
(1) أحمد (3/ 36،54) والبخاري (2/ 570/956) ومسلم (2/ 605/889) والنسائي (3/ 208/1575) وابن ماجه (1/ 409/1288) بنحوه.
(2) ذم الكلام (2/ 224 - 225/ 292).
(3) أحمد (5/ 200،209) والبخاري (4/ 478/2177) ومسلم (3/ 1208 - 1209/ 1584) والترمذي (3/ 542 - 543/ 1241) والنسائي (7/ 320 - 321/ 4584) وأخرجه ابن ماجه (2/ 758 - 759/ 2257) بمعناه.
(4) الإبانة (1/ 1/258/ 95).(1/306)
" التعليق:
هذا أبو سعيد يقول لهذا الرجل: "لا يؤويني وإياك ما عشت إلا المسجد" لتركه النص وقوله بالرأي، فكيف بنا نحن الآن تضرب نصوص القرآن ونصوص الحديث النبوي والإجماعات المقطوع بها ويطعن في عقائدنا السلفية وتنشر الكتب والمجلات والمقالات والجرائد اليومية والمنشورات العامة والخاصة، ومع هذا كله لا تجد أحدا يحرك ساكنا، وإن تحرك تألب عليه الجميع ووجهت له كل التهم السياسية لأنها هي الرابحة عند المتهمين.
هذا من جهة ومن جهة أخرى، تجدنا مع كل هؤلاء مضاحكين متفكهين كأنه لم يقع شيء. والله المستعان. وأما ابن عباس فقد رجع من فوره إلى حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما سيأتي ضمن مواقفه رضي الله عنه. (1)
موقفه من الخوارج:
- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقسم قسما إذ أتاه ذو الخويصرة وهو رجل من بني تميم فقال: يا رسول الله اعدل. فقال: ويلك، ومن يعدل إذا لم أعدل، قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل. فقال عمر: يا رسول الله، ائذن لي فيه فأضرب عنقه، فقال: دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية: ينظر إلى نصله لا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى رصافه فما
_________
(1) انظر مواقفه من المبتدعة.(1/307)
يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى نضيه -وهو قدحه- فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شيء، قد سبق الفرث والدم، آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة، أو مثل البضعة تدردر، يخرجون على حين فرقة من الناس. قال أبو سعيد: فأشهد أني سمعت هذا الحديث من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن علي بن أبي طالب قاتلهم وأنا معه، فأمر بذلك الرجل فالتمس فأتي به، حتى نظرت إليه على نعت النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي نعته. (1)
- وعن عاصم بن شميخ قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول ويداه هكذا -يعني ترتعشان- من الكبر: لقتال الخوارج أحب إلي من قتال عدتهم من أهل الشرك. (2)
موقفه من المرجئة:
عن الأوزاعي قال: كان أبو سعيد الخدري يقول: الشهادة بدعة والبراءة بدعة والإرجاء بدعة. (3)
موقفه من القدرية:
جاء في الإبانة: عن أبي بكر الكلبي قال: رأيت شيخا يزحف عند قصر أوس؛ قال: سمعت أبا سعيد الخدري رحمه الله يقول: لو أن رجلا صام النهار وقام الليل ثم كذب بشيء من القدر؛ لأكبه الله في جهنم رأسه أسفله. (4)
_________
(1) أخرجه البخاري (6/ 766/3610) ومسلم (2/ 744/1064 (148)).
(2) المسند (3/ 33) والمصنف لابن أبي شيبة (7/ 553/37886) والسنة لعبد الله (278).
(3) السنة لعبد الله (ص.86) والإبانة (2/ 904 - 905/ 1269) بنحوه، والسنة للخلال (4/ 87/1228)، وقد مر تفسير المراد بالشهادة والبراءة في مواقف علي رضي الله عنه.
(4) الإبانة (2/ 9/168/ 1648).(1/308)
عبد الله بن عمرو بن العاص (1) (65 هـ)
عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل الإمام الحبر العابد، صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وابن صاحبه، أبو محمد وقيل أبو عبد الرحمن، القرشي السهمي أسلم قبل أبيه. وكان اسمه العاص فغيره النبي - صلى الله عليه وسلم - بعبد الله. له مناقب وفضائل ومقام راسخ في العلم والعمل، حمل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - علما جما، يبلغ ما أسند سبع مائة حديث. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "لم يكن أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكثر حديثا مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب" (2). روى عن أبيه وأبي بكر وعمر ومعاذ وعبد الرحمن بن عوف وأبي الدرداء وطائفة. وروى عنه ابنه محمد ومواليه: أبو قابوس وإسماعيل وسالم، وحفيده شعيب، وأنس بن مالك وأبو أمامة وخلق كثير. كان صواما قواما حتى رخص له النبي أن يقرأ القرآن في ثلاث ليال، وأن يصوم يوما ويفطر يوما.
ومن أقواله: إن من أشراط الساعة أن توضع الأخيار وترفع الأشرار، ويسود كل قوم منافقوهم. (3)
ورث عبد الله من أبيه قناطير مقنطرة من الذهب المصري فكان من ملوك الصحابة. اختلف في وفاته ورجح الشيخ أحمد شاكر رحمه الله أنه
_________
(1) السير (3/ 79 - 94) والاستيعاب (3/ 956) الإصابة (4/ 192 - 194) وطبقات ابن سعد (4/ 261 - 268) والحلية (1/ 283 - 292) والوافي (17/ 380 - 382) وشذرات الذهب (1/ 73).
(2) أحمد (2/ 248 - 249) والبخاري (1/ 275/113) والترمذي (5/ 39/2668) وأيضا (5/ 644/3841) وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، والنسائي في الكبرى (3/ 434/5853).
(3) ما جاء في البدع (ص.159).(1/309)
مات بمصر سنة خمس وستين.
موقفه من المبتدعة:
- جاء في أصول الاعتقاد: قال عبد الله بن عمرو: ما ابتدعت بدعة إلا ازدادت مضيا، ولا تركت سنة إلا ازدادت هويا. (1)
- وروى ابن وضاح عن سعد بن مسعود قال: قال عبد الله بن عمرو ابن العاص: لو أن رجلين من أوائل هذه الأمة خليا بمصحفهما في بعض هذه الأودية لأتيا الناس اليوم ولا يعرفان شيئا مما كانا عليه. (2)
- وله أيضا عن عمرو بن شعيب عن أبيه قال: قال عبد الله بن عمرو ابن العاص: يوشك أن تظهر شياطين يجالسونكم في مجالسكم ويفقهونكم في دينكم ويحدثونكم، وإنهم لشياطين. (3)
موقفه من المشركين:
عن عبد الله بن عمرو أنه قال: من بنى بأرض المشركين، وصنع نيروزهم، ومهرجانهم، وتشبه بهم حتى يموت حشر معهم يوم القيامة. (4)
موقفه من الخوارج:
جاء في السنة لابن أبي عاصم عن عقبة بن وساج قال: كان صاحب لي يحدثني عن شأن الخوارج وطعنهم على أمرائهم، فحججت فلقيت عبد الله
_________
(1) أصول الاعتقاد (1/ 104/128) والإبانة (1/ 2/351/ 227).
(2) ما جاء في البدع (ص.143) والزهد لابن المبارك (1/ 61/184).
(3) ما جاء في البدع (ص.168).
(4) الاقتضاء (1/ 237) وهو عند البيهقي في الكبرى (9/ 234).(1/310)
ابن عمرو فقلت له: أنت من بقية أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد جعل الله عندك علما، وأناس بهذا العراق يطعنون على أمرائهم، ويشهدون عليهم بالضلالة. فقال لي: أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقليد من ذهب وفضة، فجعل يقسمها بين أصحابه، فقام رجل من أهل البادية فقال: يا محمد والله لئن أمرك الله أن تعدل فما أراك أن تعدل. فقال: ويحك من يعدل عليه بعدي. فلما ولّى قال: ردوه رويدا فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن في أمتي أخا لهذا يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، كلما خرجوا فاقتلوهم ثلاثا. (1)
موقفه من القدرية:
- جاء في الإبانة عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: من كان يزعم أن مع الله قاضيا أو رازقا أو يملك لنفسه ضرا أو نفعا؛ فأخرس الله لسانه وجعل صلواته هباء، وقطع به الأسباب، وأكبه على وجهه في النار. وقال: إن الله عز وجل خلق الخلق وأخذ منهم الميثاق وكان عرشه على الماء. (2)
- وفيها: عن معن بن عبد الرحمن بن سعوة عن أبيه عن جده أنه لقي عبد الله بن عمرو؛ قال: قلت: ما تقول في الناس؟ قال: يعملون لما خلقوا له، قال: وكيف ذاك؟ قال: لا يستطيعون إلا ذاك، كتب عليهم رقع رقع، إن
_________
(1) الحاكم (2/ 145) والسنة لابن أبي عاصم (2/ 455/934) والمسند للبزار (2/ 359 - 360/ 1850 كشف الأستار)، وذكره الهيثمي في المجمع (6/ 228) وقال: "رواه البزار ورجاله رجال الصحيح". وقال الحافظ ابن حجر في مختصر زوائد البزار (2/ 54 - 55/ 1408): "رجاله من أهل الصحيح".
(2) الإبانة (2/ 9/166/ 1642).(1/311)
خيرا؛ فخير، وإن شرا؛ فشر. (1)
- وفيها: عن عبد الله بن عمرو قال: إن أول ما يكفأ الدين كما يُكفأ الإناء، قول الناس في القدر. (2)
- وجاء في أصول الاعتقاد: عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: إذا مكثت النطفة في رحم المرأة أربعين ليلة جاءها ملك فاختلجها ثم عرج بها إلى الرحمن تبارك وتعالى. فيقول: أخلقها يا أحسن الخالقين. فيقضي الله فيها ما يشاء من أمره ثم تدفع إلى الملك فيسال الملك عن ذلك فيقول: يا رب اسقط أم تمام؟ فيبين له. فيقول: أناقص الأجل أم تام الأجل؟ فيبين له ويقول: يا رب أواحد أو توأم؟ فيبين له فيقول: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيبين له. ثم يقول: أشقي أم سعيد؟ فيبين له. ثم يقول: يا رب اقطع رزقه فيقطع له رزقه مع خلقه فيهبط بها جميعا. فوالذي نفسي بيده لا ينال من الدنيا إلا ما قسم له فإذا أكل رزقه قبض. (3)
أبو بَرْزَةَ الأَسْلَمِي (4) (65 هـ)
صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم - نَضْلَة بن عُبَيْد، أسلم قديما وشهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ست أو سبع غزوات، منها خيبر وفتح مكة. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عدة
_________
(1) الإبانة (2/ 9/167/ 1644).
(2) الإبانة (2/ 9/167/ 1645).
(3) أصول الاعتقاد (4/ 747 - 748/ 1236).
(4) الإصابة (6/ 433 - 435) والاستيعاب (4/ 1610) وتاريخ بغداد (1/ 182 - 183) والسير (3/ 40 - 43) والحلية (2/ 32 - 33) وطبقات ابن سعد (4/ 298 - 299 و7/ 9 - 366) وتهذيب التهذيب (10/ 446 - 447).(1/312)
أحاديث، وروى عنه ابنه المغيرة، وأبو عثمان النهدي، وعبد الله بن بريدة وآخرون. قال أبو نعيم: هو الذي قتل عبد العزى بن خطل تحت أستار الكعبة بإذن النبي - صلى الله عليه وسلم -. سكن المدينة، وشهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتح مكة، ثم تحول إلى البصرة فنزلها، وحضر مع علي بن أبي طالب قتال الخوارج بالنهروان، وغزا بعد ذلك خراسان فمات بها. عن ثابت البناني أن أبا برزة كان يلبس الصوف، فقيل له: إن أخاك عائذ بن عمرو يلبس الخز، قال: ويحك. ومن مثل عائذ؟ فانصرف الرجل، فأخبر عائذا، فقال: ومن مثل أبي برزة؟ قال الذهبي عقبه: هكذا كان العلماء يوقرون أقرانهم. توفي سنة خمس وستين على الصحيح.
موقفه من المبتدعة:
- قال البخاري: حدثنا عبد الله بن صباح حدثنا معتمر قال: سمعت عوفا أن أبا المنهال حدثه أنه سمع أبا برزة قال: إن الله يغنيكم أو نعشكم بالإسلام وبمحمد صلى عليه وسلم. (1)
- وفيه: قال أبو برزة: إنكم يا معشر العرب كنتم على الحال الذي علمتم من الذلة والقلة والضلالة، وإن الله أنقذكم بالإسلام وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - حتى بلغ بكم ما ترون، وهذه الدنيا التي أفسدت بينكم. (2)
موقفه من المشركين:
قال أبو نعيم: هو الذي قتل عبد العزى بن خطل تحت أستار الكعبة
_________
(1) البخاري (13/ 305/7271).
(2) البخاري (13/ 85 - 86/ 7112).(1/313)
بإذن النبي - صلى الله عليه وسلم -. (1)
موقفه من الجهمية:
روى أبو داود في سننه: عن عبد السلام بن أبي حازم أبي طالوت، قال: شهدت أبا برزة دخل على عبد الله بن زياد فحدثني فلان، سماه مسلم، وكان في السماط: فلما رآه عبد الله قال: إن مُحَمَّدِيَّكم هذا الدحداح، ففهمها الشيخ، فقال: ما كنت أحسب أني أبقى في قوم يعيروني بصحبة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فقال له عبد الله، إن صحبة محمد - صلى الله عليه وسلم - لك زين غير شين، ثم قال: إنما بعثت إليك لأسألك عن الحوض، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر فيه شيئا؟ فقال له أبو برزة: نعم لا مرة ولا ثنتين ولا ثلاثا ولا أربعا ولا خمسا، فمن كذب به فلا سقاه الله منه، ثم خرج مغضبا. (2)
موقفه من الخوارج:
- عن الأزرق بن قيس قال: كنا على شاطئ نهر بالأهواز فجاء أبو برزة يقود فرسا، فدخل في صلاة العصر، فقال رجل انظروا إلى هذا الشيخ، وكان انفلت فرسه فاتبعها في القبلة حتى أدركها، فأخذ بالمقود، ثم صلى، قال: فسمع أبو برزة قول الرجل، فجاء فقال: ما عنفني أحد منذ فارقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير هذا، إني شيخ كبير، ومنزلي متراخ، ولو أقبلت على صلاتي، وتركت فرسي، ثم ذهبت أطلبها، لم آت أهلي إلا في جنح الليل، لقد صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأيت من يسْره، فأقبلنا نعتذر مما قال الرجل.
_________
(1) السير (3/ 41).
(2) أخرجه أحمد (4/ 419) أبو داود (5/ 111 - 112/ 4749).(1/314)
قال الذهبي: وكذا رواه شعبة عن الأزرق قال: كنت مع أبي برزة بالأهواز، فقام يصلي العصر، وعنان فرسه بيده، فجعلت ترجع، وجعل أبو برزة ينكص معها. قال: ورجل من الخوارج يشتمه، فلما فرغ قال: إني غزوت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ستا أو سبعا وشهدت تيسيره. (1)
- جاء في السنة لعبد الله بن أحمد: عن الأزرق بن قيس قال: كنا بالأهواز نقاتل الخوارج وفينا أبو برزة الأسلمي، فجاء إلى نهر فتوضأ ثم قام يصلي. (2)
زيد بن أرقم (3) (66 هـ)
زيد بن أرقم بن زيد الأنصاري الخزرجي، نزيل الكوفة، من مشاهير الصحابة. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عدة أحاديث. وروى عنه عطاء بن أبي رباح وطاوس وعبد الرحمن بن أبي ليلى وآخرون. كان ممن استصغر يوم أحد. قال أبو المنهال: سألت البراء عن الصرف، فقال: سل زيد ابن أرقم، فإنه خير مني وأعلم. وعن موسى بن عقبة قال حدثني عبد الله بن الفضل أنه سمع أنس بن مالك يقول: "حزنت على من أصيب بالحرة، فكتب إلي زيد بن أرقم -وبلغه شدة حزني- يذكر أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: اللهم اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار، وشك ابن الفضل في أبناء أبناء الأنصار، فسأل
_________
(1) السير (3/ 41 - 42) وابن عساكر (62/ 94 - 95).
(2) (ص.281 رقم 1459).
(3) الإصابة (2/ 589 - 590) والاستيعاب (2/ 535 - 536) والسير (3/ 165 - 168) وطبقات ابن سعد (6/ 18) والمستدرك (3/ 532 - 533) والوافي (15/ 22) وشذرات الذهب (1/ 74) وتهذيب التهذيب (3/ 394 - 395).(1/315)
أنسا بعض من كان عنده فقال: هو الذي يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هذا الذي أوفى الله له بأُذنه" (1) توفي سنة ست وستين.
موقفه من المبتدعة:
- جاء في ذم الكلام: قال رضي الله عنه: من تمسك بالسنة وثبت نجا، ومن أفرط مرق، ومن خالف هلك. (2)
موقفه من المشركين:
روى البخاري في صحيحه عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: كنت مع عمي، فسمعت عبد الله بن أُبَي بن سلول يقول: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا. وقال أيضا: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فذكرت ذلك لعمي، فذكر عمي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عبد الله بن أبي وأصحابه، فحلفوا ما قالوا، فصدقهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكذبني، فأصابني هم لم يصبني مثله، فجلست في بيتي، فأنزل الله عز وجل: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ -إلى قوله- هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -إلى قوله- لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} (3) فأرسل إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقرأها علي، ثم قال: إن الله قد صدقك. (4)
_________
(1) البخاري (8/ 839/4906).
(2) ذم الكلام (2/ 406 - 407/ 496).
(3) المنافقون الآيات (1 - 8).
(4) البخاري (8/ 833/4901) ومسلم (4/ 2140/2772).(1/316)
موقف السلف من المختار الكذاب (66 هـ)
بيان زندقته:
لقد فصل الحافظ ابن كثير أخباره وحيله وتقلباته الكاذبة. وأوردته هنا لخطره هو وأمثاله ممن دنسوا العقيدة السلفية بدجلهم وكذبهم، ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين.
قال الحافظ ابن كثير: ثم زالت دولة المختار كأن لم تكن، وكذلك سائر الدول، وفرح المسلمون بزوالها. وذلك لأن الرجل لم يكن في نفسه صادقا بل كان كاذبا يزعم أن الوحي يأتيه على يد جبريل، قال الإمام أحمد: حدثنا ابن نمير حدثنا عيسى القاري أبو عمير بن السدي عن رفاعة الفتياني قال: دخلت على المختار فألقى لي وسادة وقال: لولا أن أخي جبريل قام عن هذه لألقيتها لك. قال: فأردت أن أضرب عنقه قال: فذكرت حديثا حدثنيه أخي عمرو بن الحمق قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيما مؤمن أمن مؤمنا على دمه فقتله فأنا من القاتل بريء (1). ثم ذكر الحافظ روايات الحديث ثم قال: وقد قيل لابن عمر: إن المختار يزعم أن الوحي يأتيه فقال صدق، قال تعالى: {وَإِنَّ الشياطين
_________
(1) أحمد (5/ 223و224) وابن ماجه (2/ 896/2688) وابن حبان (13/ 320/5982) من طريق رفاعة بن شداد عن عمرو بن الحمق به. وقال البوصيري في الزوائد: "إسناده صحيح ورجاله ثقات لأن رفاعة بن شداد، أخرج له النسائي في سننه ووثقه". وذكره ابن حبان في الثقات. وباقي رجال الإسناد على شرط مسلم. وأخرجه الحاكم (4/ 353) من طريق أخرى وصححه ووافقه الذهبي.(1/317)
ليوحون إلى أوليآئهم} (1) وروى ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: قدمت على المختار فأكرمني وأنزلني عنده، وكان يتعاهد مبيتي بالليل قال: فقال لي: اخرج فحدث الناس؟ قال: فخرجت فجاء رجل فقال: ما تقول في الوحي؟ فقلت: الوحي وحيان، قال الله تعالى: {بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ} (2) وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} (3) قال فهموا أن يأخذوني فقلت: مالكم وذاك، إني مفتيكم وضيفكم.
فتركوني وإنما أراد عكرمة أن يعرض بالمختار وكذبه في ادعائه أن الوحي ينزل عليه.
وروى الطبراني من طريق أنيسة بنت زيد بن الأرقم أن أباها دخل على المختار ابن أبي عبيد فقال له: يا أبا عامر، لو شفت رأى جبريل وميكائيل، فقال له زيد: خسرت وتعست، أنت أهون على الله من ذلك، كذاب مفتر على الله ورسوله.
وقال ابن كثير بعد كلام: وكان يظهر التشيع ويبطن الكهانة وأسر إلى أخصائه أنه يوحى إليه ... ولا شك أنه كان ضالا مضلا أراح الله المسلمين منه بعد ما انتقم به من قوم آخرين من الظالمين كما قال تعالى: {وكذلك
_________
(1) الأنعام الآية (121).
(2) يوسف الآية (3).
(3) الأنعام الآية (112).(1/318)
نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (1). اهـ (2)
عدي بن حاتم (3) (68 هـ)
عدي بن حاتم بن عبد الله، الأمير الشريف أبو وهب وأبو طريف صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفد على النبي - صلى الله عليه وسلم - في شعبان سنة سبع، فأسلم وكان نصرانيا وحسن إسلامه، ثم رجع إلى بلاد قومه. روى عنه الشعبي وسعيد بن جبير وخيثمة بن عبد الرحمن وغيرهم.
قال الخطيب: فلما قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وارتدت العرب ثبت عدي وقومه على الإسلام، وجاء بصدقاتهم إلى أبي بكر الصديق وحضر فتح المدائن، وشهد مع علي الجمل وصفين والنهروان.
جاء -رضي الله عنه- إلى عمر فقال: أما تعرفني؟ قال: أعرفك، أقمت إذ كفروا، ووفيت إذ غدروا، وأقبلت إذ أدبروا.
وقال سعيد بن عبد الرحمن: فقئت عين عدي بصفين. وقال غير واحد: يوم الجمل. قال المزي: وهو الصحيح.
وقال ابن عيينة: حدثت عن الشعبي عن عدي قال: ما دخل وقت صلاة حتى أشتاق إليها. وعنه: ما أقيمت الصلاة منذ أسلمت إلا وأنا على وضوء.
_________
(1) الأنعام الآية (129).
(2) البداية والنهاية (8/ 294 - 295).
(3) الاستيعاب (3/ 1057) والسير (3/ 162 - 165) وتاريخ بغداد (1/ 189) وتهذيب الكمال (19/ 524 - 531) وطبقات ابن سعد (6/ 22) والإصابة (6/ 401 - 402).(1/319)
قال ابن سعد وغيره: مات عدي رضي الله عنه سنة ثمان وستين، وهو ابن مائة وعشرين سنة.
موقفه من المبتدعة:
جاء في الإبانة: عن محمد بن سيرين، قال: قال عدي بن حاتم: إنكم لن تزالوا بخير ما لم تعرفوا ما كنتم تنكرون، وتنكروا ما كنتم تعرفون، وما دام عالمكم يتكلم بينكم غير خائف. (1)
موقفه من الرافضة:
عن مغيرة قال: خرج عدي، وجرير البجلي وحنظلة الكاتب من الكوفة، فنزلوا قرقيسياء، وقالوا: لا نقيم ببلد يشتم فيه عثمان. (2)
موقفه من الخوارج:
- قاتل هو وابنه مع علي رضي الله عنه يوم النهراوان.
جاء في تاريخ الطبري (3): طلب عدي بن حاتم ابنه طرفة فوجده، فدفنه، ثم قال: الحمد لله الذي ابتلاني بيومك على حاجتي إليك اهـ.
- وفيه أيضا: أنه قال لما حثهم المغيرة بن شعبة رضي الله عنه على قتال الخوارج: فقام إليه عدي بن حاتم فقال: كلنا لهم عدو، ولرأيهم مسفه، وبطاعتك مستمسك، فأينا شئت سار إليهم. (4)
_________
(1) الإبانة (1/ 1/190 - 191/ 26).
(2) أصول الاعتقاد (7/ 1340/2381)
(3) (3/ 123).
(4) (3/ 182).(1/320)
- وقال ابن عبد البر: روينا عن خليفة الطائي قال: لما رجعنا من النهراوان، لقينا العزار الطائي قبل أن ينتهي إلى المدائن، فقال لعدي بن حاتم: يا أبا طريف أغانم سالم، أم ظالم آثم؟ قال: بل غانم سالم -إن شاء الله- قال: فالحكم والأمر إذا إليك؟ فقال الأسود بن يزيد والأسود بن قيس المراديان: ما أخرج هذا الكلام منك إلا شر. وإنا لنعرفك برأي القوم، فأتيا به عليا فقالا: إن هذا يرى رأي الخوارج، وقد قال كذا وكذا قال: فما أصنع به؟ قال: تقتله، قال: لا أقتل من لا يخرج علي، قال: فتحبسه، قال: ولا أحبس من ليست له جناية، خليا سبيل الرجل. (1)
ابن عباس (2) (68 هـ)
حبر الأمة، وفقيه العصر، وترجمان القرآن، وإمام التفسير، أبو العباس عبد الله ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العباس بن عبد المطلب. قال الواقدي: لا خلاف أنه ولد في الشعب، وبنو هاشم محصورون فولد قبل خروجهم منه بيسير، وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين. وحدث عنه بجملة صالحة وعن عمر وعلي ومعاذ، ووالده، وابن عوف وغيرهم. وعنه ابنه علي وعكرمة ومقسم، وأنس بن مالك، وأبو الطفيل وأبو أمامة بن سهل وغيرهم كثير. له مفردات ليست لغيره من الصحابة لاتساع علمه وكثرة فهمه وكمال عقله وسعة
_________
(1) فتح البر (1/ 468 - 469).
(2) الإصابة (6/ 130) والاستيعاب (3/ 933 - 939) وطبقات ابن سعد (2/ 365 - 372) والمستدرك (3/ 355 - 546) ووفيات الأعيان (3/ 62 - 64) والحلية (1/ 314 - 329)) والتذكرة (1/ 40 - 41) والبداية والنهاية (8/ 298 - 310) وشذرات الذهب (1/ 75 - 76) والسير (3/ 331 - 359) والعقد الثمين (5/ 190 - 193).(1/321)
فضله ونبل أصله رضي الله عنه وأرضاه. دعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "اللهم علمه الكتاب" (1). وفي رواية أحمد والحاكم: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل". (2) عن ابن عباس قال: لما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قلت لرجل من الأنصار هلم نسأل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنهم اليوم كثير، فقال: واعجباً لك يا ابن عباس، أترى الناس يحتاجون إليك، وفي الناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من ترى؟ فترك ذلك. وأقبلت على المسألة، فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل، فآتيه وهو قائل، فأتوسد ردائي على بابه، فتسفي الريح علي التراب فيخرج فيراني فيقول: يا ابن عم رسول الله، ألا أرسلت إلي فآتيك؟ فأقول: أنا أحق أن آتيك، فأسألك، قال: فبقي الرجل حتى رآني وقد اجتمع الناس علي، فقال: هذا الفتى أعقل مني.
وعنه قال: "كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فكأن بعضهم وجد في نفسه فقال: لم تدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال عمر: إنه من حيث علمتم، فدعا ذات يوم فأدخله معهم فما رأيت أنه دعاني يومئذ إلا ليريهم، قال: ما تقولون في قول الله تعالى: {إذا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} (3) فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم فلم يقل شيئا، فقال لي: أكذاك تقول يا ابن عباس؟ فقلت: لا، قال: فما
_________
(1) البخاري (1/ 224/75) الترمذي (5/ 638/3824) بلفظ: "اللهم علمه الحكمة ... " وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي في الكبرى (5/ 52/8179) بلفظ: "اللهم علمه الحكمة ... " وابن ماجه (1/ 58/166) بلفظ: "اللهم علمه الحكمة وتأويل الكتاب".
(2) أحمد (1/ 328) والحاكم (3/ 534) وصححه ووافقه الذهبي.
(3) النصر الآية (1).(1/322)
تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلمه له، قال: {إذا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} (1) وذلك علامة أجلك {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} (2)، فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تقول". (3) وقال ابن مسعود: نعم ترجمان القرآن ابن عباس. وقال أيضا: لو أدرك ابن عباس أسناننا ما عاشره منا رجل. وقال طاووس: ما رأيت أحدا أشد تعظيما لحرمات الله من ابن عباس. وقال سعد بن أبي وقاص: ما رأيت أحدا أحضر فهما، ولا ألب لبا، ولا أكثر علما، ولا أوسع حلما من ابن عباس، لقد رأيت عمر يدعوه للمعضلات فيقول: قد جاءت معضلة، ثم لا يجاوز قوله: وإن حوله لأهل بدر. وقال القاسم بن محمد: ما رأيت في مجلس ابن عباس باطلا قط.
توفي سنة ثمان وستين للهجرة رضي الله عنه.
موقفه من المبتدعة:
- جاء في أصول الاعتقاد: عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: النظر إلى الرجل من أهل السنة -يدعو إلى السنة، وينهى عن البدعة- عبادة. (4)
_________
(1) النصر الآية (1).
(2) النصر الآية (3).
(3) البخاري (8/ 24/4294) والترمذي (5/ 419 - 420/ 3362) وقال: "هذا حديث حسن صحيح".
(4) أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 60 - 61/ 11) والإبانة (1/ 2/343/ 214) وانظر تلبيس إبليس (ص.16).(1/323)
- وعنه رضي الله عنه في قوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} (1) قال: تبيض وجوه أهل السنة والائتلاف وتسود وجوه أهل البدعة والتفرق. (2)
- وعنه رضي الله عنه: ما كان في القرآن من حلال أو حرام فهو كذلك، وما سكت عنه فهو مما عفي عنه. (3)
- وروى الدارمي عن هشام بن جحير قال: كان طاووس يصلي ركعتين بعد العصر، فقال له ابن العباس: اتركها. قال: إنما نهي عنها أن تتخذ سلما. قال ابن عباس: فإنه قد نهي عن صلاة بعد العصر فلا أدري أتعذب عليها أم تؤجر لأن الله يقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (4) قال سفيان: تتخذ سلما يقول: يصلي بعد العصر إلى الليل. (5)
" التعليق:
فماذا يقول المبتدعة في هذا النص: هل ابن عباس لا يعرف البدعة
_________
(1) آل عمران الآية (106).
(2) أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 79/74) وتاريخ بغداد (7/ 379) وانظر درء تعارض العقل والنقل (1/ 48) والمنهاج (3/ 467) ومجموع الفتاوى (3/ 278) واجتماع الجيوش الإسلامية (ص.29) وإعلام الموقعين (1/ 259) والاعتصام (1/ 75).
(3) الاعتصام (2/ 660) وأصله عند أبي داود (4/ 157/3800) والحاكم (4/ 115) وصححه ووافقه الذهبي.
(4) الأحزاب الآية (36).
(5) الدارمي (1/ 115) وجامع بيان العلم وفضله (2/ 1183) والفقيه والمتفقه (1/ 380 - 381) والباعث (215 - 216).(1/324)
الحسنة والسيئة؟ وهل ابن عباس لا يعرف المتروكات التي لم ينص على فعلها أو تركها؟ ولكن تلبيسات المبتدعة لا تنتهي.
- جاء في الإبانة: قال ابن عباس: إياكم والرأي فإن الله عز وجل رد الرأي على الملائكة وذلك أن الله تعالى قال للملائكة: {إني جَاعِلٌ في الأرض خليفةً} فقالت الملائكة: {أَتَجْعَلُ فيها من يفسد فيها} إلى آخر الآية فقال: {إني أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} (1) وقال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أنزل اللَّهُ} (2) ولم يقل احكم بينهم بما رأيت. (3)
- وفي ذم الكلام: قال ابن عباس في قوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا} (4) قال: هم أصحاب الخصومات والمراء في دين الله. (5)
- وجاء في الشريعة: عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دينهم وَكَانُوا شيعًا} (6) وقوله: {ولا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا
_________
(1) البقرة الآية (30).
(2) المائدة الآية (49).
(3) الإبانة (2/ 4/621/ 812) وذم الكلام (2/ 212/275).
(4) الأنعام الآية (68).
(5) ذم الكلام (4/ 14 - 15/ 725).
(6) الأنعام الآية (159).(1/325)
وَاخْتَلَفُوا} (1) وقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} (2) وقوله: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ} (3) وقوله: {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (4) وقوله: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (5) الآية. قال ابن عباس: أمر الله المؤمنين بالجماعة، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم أنه إنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله تعالى. (6)
- روى الدارمي عن عثمان بن حاضر الأزدي قال: دخلت على ابن عباس فقلت أوصني. فقال: نعم، عليك بتقوى الله والاستقامة، اتبع ولا تبتدع. (7)
- وجاء في أصول الاعتقاد: عن عكرمة عن ابن عباس قال: والله ما أظن على ظهر الأرض اليوم أحدا أحب إلى الشيطان هلاكا مني. فقيل وكيف؟ فقال: والله إنه ليحدث البدعة في مشرق أو مغرب، فيحملها الرجل
_________
(1) آل عمران الآية (105).
(2) آل عمران الآية (7).
(3) النساء الآية (140).
(4) الأنعام الآية (153).
(5) الشورى الآية (13).
(6) الشريعة (1/ 116/4) والإبانة (1/ 2/275 - 276/ 105) وأصول الاعتقاد (1/ 143/212).
(7) الدارمي (1/ 53) وذم الكلام (2/ 65 - 66/ 263) والإبانة (1/ 2/318 - 319/ 157) وابن وضاح (ص.65) والفقيه والمتفقه (1/ 436) بنحوه وشرح السنة للبغوي (1/ 214).(1/326)
إلي فإذا انتهت إلي قمعتها بالسنة فترد عليه. (1)
- وفيه: عن عكرمة عن ابن عباس قال: ما يأتي على الناس عام إلا أحدثوا فيه بدعة وأماتوا سنة حتى تحيى البدع وتموت السنن، وسمعته يقول: حتى تظهر البدع. (2)
" التعليق:
وقد وقع ما أخبر به ابن عباس، فقد غطت البدع الأرض، وصارت السنة نادرة الوجود وأصبح دعاتها من الغرباء.
- وفيه: عن طاوس عن ابن عباس: أن معاوية قال له: أنت على ملة علي؟ قال: لا ولا على ملة عثمان، ولكني على ملة النبي - صلى الله عليه وسلم -. (3)
- وفيه: عن ابن طاوس عن أبيه قال: قال رجل لابن عباس: الحمد لله الذي جعل هوانا على هواكم. فقال: كل هوى ضلالة. (4)
- وفيه: عن التميمي عن ابن عباس في قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ ِشرعةً وَمِنْهَاجًا} (5) قال: سبيل وسنة. (6)
_________
(1) أصول الاعتقاد (1/ 61/12).
(2) أصول الاعتقاد (1/ 103/125) وابن وضاح (87) والطبراني في الكبير (10/ 319/10610) وقال الهيثمي في المجمع (1/ 188): "ورجاله موثقون". والإبانة (1/ 1/177 - 178/ 11). انظر الاعتصام (1/ 110) والحوادث والبدع (ص.44).
(3) أصول الاعتقاد (1/ 105/133) والإبانة (1/ 2/354 - 355/ 237).
(4) أصول الاعتقاد (1/ 146/225) والإبانة (1/ 2/355/ 238) والشريعة (1/ 192 - 193/ 132) وذم الكلام (2/ 402/494) وهو في الاعتصام (2/ 688).
(5) المائدة الآية (48).
(6) أصول الاعتقاد (1/ 76/65).(1/327)
- وفيه أيضا: عن ابن عباس في قوله: {اليوم أكملت لكم دينكم} وهو الإسلام {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1) قال: أخبر الله نبيه والمؤمنين أنه قد أكمل لهم الإيمان ولا يحتاجون إلى زيادة أبدا، وقد أتمه الله فلا ينقص أبدا، وقد رضيه الله فلا يسخطه أبدا. (2)
- وجاء في الإبانة: عن أبي العالية، عن ابن عباس، قال: من أقر باسم من هذه الأسماء المحدثة فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه. (3)
- وفيها: عن القاسم بن محمد أن رجلا جاء إلى ابن عباس فسأله عن الأنفال، فقال ابن عباس: كان الرجل ينفل الفرس وسرجه، فأعاد عليه، فقال مثل ذلك، ثم أعاد عليه، فقال مثل ذلك فقال ابن عباس: تدرون ما مثل هذا؟ هذا مثل صبيغ الذي ضربه عمر رضي الله عنه، أما لو عاش عمر لما سأل أحد عما لا يعنيه. (4)
- وفيها: عن أبي اليقظان قال: خرج رجل من أسلاف المسلمين يطلب علم السماء ومبتدأ الأشياء ومجاري القضاء وموقع القدر المجلوب وما قد احتجبه الله عز وجل من علم الغيوب التي لم ينزل الكتاب بها ولم تتسع العقول لها. وما طلبه حتى انتهى إلى بحر العلوم ومعدن الفقه وينبوع الحكمة عبد الله بن العباس رحمه الله فلما انتهى بالأمر الذي ارتحله إليه وأقدمه عليه
_________
(1) المائدة الآية (3).
(2) أصول الاعتقاد (5/ 965/1602).
(3) الإبانة (1/ 2/353 - 354/ 234).
(4) الإبانة (1/ 417/333) والموطأ (2/ 455/19).(1/328)
قال له: اقرأ آية الكرسي، فلما بلغ: {ولا يحيطون بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلًّا بِمَا شَاءَ}. قال: أمسك يا ابن أخي فقد بلغت ما تريد، فقد أنبأك الله أنه لا يحاط بشيء من علمه، قال له الرجل: يرحمك الله إن الله قد استثنى، فقال: {إِلًّا بِمَا شَاءَ}.
فقال عبد الله: صدقت ولكن أخبرني عن الأمر الذي استثناه من علمه وشاء أن يظهره لخلقه أين يوجد ومن أين يعلم؟ قال: لا يوجد إلا في وحي ولا يعلم إلا من نبي، قال: فأخبرني عن الذي لا يوجد في حديث مأثور ولا كتاب مسطور أليس هو الذي نبأ الله لا يدركه عقل ولا يحيط به علم؟ قال: بلى فإن الذي تسأل عنه ليس محفوظا في الكتب ولا محفوظا عن الرسل، فقام الرجل وهو يقول: لقد جمع الله لي علم الدنيا والآخرة، فانصرف شاكرا. (1)
- وفي الإبانة: أن رجلا من المسلمين أتى عبد الله بن العباس رحمة الله عليه بابن له فقال: لقد حيرت الخصومة عقله، وأذهبت المنازعة قلبه، وذهبت به الكلفة عن ربه. فقال عبد الله: امدد بصرك يا ابن أخي ما السواد الذي ترى؟ قال: فلان، قال: صدقت، قال: فما الخيال المسرف من خلفه؟ قال: لا أدري، قال عبد الله: يا ابن أخي فكما جعل الله لأبصار العيون حدا محدودا من دونها حجابا مستورا فكذلك جعل لأبصار القلوب غاية لا يجاوزها وحدودا لا يتعداها، قال: فرد الله عليه غارب عقله وانتهى عن المسألة عما
_________
(1) الإبانة (1/ 2/421 - 422/ 345).(1/329)
لا يعنيه والنظر فيما لا ينفعه والتفكر فيما يحيره. (1)
" التعليق:
قال ابن بطة عقبه: الله الله إخواني يا أهل القرآن ويا حملة الحديث، لا تنظروا فيما لا سبيل لعقولكم إليه ولا تسألوا عما لم يتقدمكم السلف الصالح من علمائكم إليه، ولا تكلفوا أنفسكم ما لا قوة بأبدانكم الضعيفة، ولا تنقروا ولا تبحثوا عن مصون الغيب ومكنون العلوم، فإن الله جعل للعقول غاية تنتهي إليها، ونهاية تقصر عندها، فما نطق به الكتاب وجاء به الأثر فقولوه، وما أشكل عليكم فكلوه إلى عالمه، ولا تحيطوا الأمور بحيط العشوا حنادس الظلماء بلا دليل هاد ولا ناقد بصير. أتراكم أرجح أحلاما وأوفر عقولا من الملائكة المقربين حين قالوا: {لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (2).
إخواني: فمن كان بالله مؤمنا فليردد إلى الله العلم بغيوبه، وليجعل الحكم إليه في أمره، فيسلك العافية ويأخذ بالمندوحة الواسعة، ويلزم المحجة الواضحة والجادة السابلة والطريق الآنسة، فمن خالف ذلك وتجاوزه إلى الغمط بما أمر به، والمخالفة إلى ما نهى عنه، يقع والله في بحور المنازعة وأمواج المجادلة، ويفتح على نفسه أبواب الكفر بربه والمخالفة لأمره والتعدي لحدوده. والعجب لمن خلق من نطفة من ماء مهين، فإذا هو خصيم مبين،
_________
(1) الإبانة (1/ 2/422 - 423/ 346).
(2) البقرة الآية (32).(1/330)
كيف لا يفكر في عجزه عن معرفة خلقه؟! أما تعلمون أن الله قد أخذ عليكم ميثاق الكتاب أن لا تقولوا على الله إلا الحق، فسبحان الله أنى تؤفكون!!
- وفيها: عن عطاء عن ابن عباس قال: ما اجتمع رجلان يختصمان فافترقا حتى يفتريا على الله عز وجل. (1)
- وفيها: عن أبي صالح عن ابن عباس قال: لا تجالسوا أصحاب الأهواء، فإن مجالستهم ممرضة للقلوب. (2)
- وفيها: عن ابن عباس أنه كان يتمثل بهذا البيت:
فما الناس بالناس الذين عهدتهم ... ولا الدار بالدار التي كنت تعرف (3)
- وفيها أيضا: عن ابن عباس في قوله عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} (4): فالمحكمات ناسخه وحلاله وحرامه، وحدوده وفرائضه، وما يؤمن به ويعمل به، {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زيغٌ} من أهل الشك، فيحملون المحكم على المتشابه والمتشابه على المحكم، ويلبسون فلبس الله عليهم. فأما المؤمنون فيقولون: {آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ
_________
(1) الإبانة (2/ 3/519/ 613).
(2) الإبانة (2/ 3/521/ 619) والشريعة (1/ 196/139).
(3) الإبانة (2/ 4/574/ 721).
(4) آل عمران الآية (7).(1/331)
مِنْ عند ربنا} محكمه ومتشابهه. (1)
- ونقل الخطيب عن سليمان بن علي: أخبرنا أبو الجوزاء غير مرة، قال: سألت ابن عباس عن الصرف، فقال: يدا بيد لا بأس به، ثم حججت مرة أخرى، والشيخ حي، فأتيته فسألته عن الصرف قال: وزنا بوزن، قلت له: إنك كنت أفتيتني اثنين بواحد، فلم أزل أفتي به منذ أفتيتني، قال: كان ذلك عن رأي، وهذا أبو سعيد الخدري يحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فتركت رأيي لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (2)
- ونقل الخطيب: عن ابن عبد الله العدوي قال: سئل لاحق بن حميد أبو مجلز، وأنا شاهد عن الصرف، فقال: كان ابن عباس لا يرى به بأسا زمانا من عمره، حتى لقيه أبو سعيد الخدري، فقال له: يا ابن عباس ألا تتقي الله حتى متى توكل الناس الربا؟ .. أما بلغك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال ذات يوم وهو عند أم سلمة زوجته: إني أشتهي تمر عجوة، وأنها بعثت بصاعين من تمر عتيق إلى منزل رجل من الأنصار، فأوتيت بدلهما تمر عجوة، فقدمته إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعجبه، فتناول تمرة ثم أمسك فقال: من أين لكم هذا؟ قالت: بعثت بصاعين من تمر عتيق إلى منزل فلان، فأتينا بدلهما من هذا الصاع الواحد، فألقى التمرة من يده، وقال: ردوه ردوه، لا حاجة فيه، التمر بالتمر، والحنطة بالحنطة، والشعير بالشعير، والذهب بالذهب، والفضة بالفضة، يدا بيد مثلا بمثل ليس فيه زيادة ولا نقصان، فمن زاد أو نقص فقد
_________
(1) الإبانة (2/ 4/605 - 606/ 781).
(2) الفقيه والمتفقه (1/ 368 - 369) والمسند (3/ 51) والكفاية (ص.28).(1/332)
أربى، فكل ما يكال أو يوزن. فقال: ذكرتني يا أبا سعيد أمرا نسيته، أستغفر الله وأتوب إليه، وكان ينهى بعد ذلك يعني: عنه أشد النهي. (1)
- ونقل أيضا: عن ابن عباس قال: تمتع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال عروة بن الزبير: نهى أبو بكر وعمر عن المتعة فقال ابن عباس: ما يقول عُرَيّة يريد؟ قال: يقول: نهى أبو بكر وعمر عن المتعة. قال ابن عباس: أراهم سيهلكون، أقول: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويقولون: نهى أبو بكر وعمر. (2)
- وجاء في شرح السنة: قال ابن عباس: أما تخافون أن تعذبوا أو يخسف بكم أن تقولوا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال فلان. (3)
- وفي الفقيه والمتفقه: عن ابن عباس: قال: من أحدث رأيا ليس في كتاب الله، ولم تمض به سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لم يدر على ما هو منه إذا لقي الله عز وجل. (4)
- وفيه: قال الأوزاعي: خاصم نفر من أهل الأهواء علي بن أبي طالب، فقال له ابن عباس: يا أبا الحسن: إن القرآن ذلول حمول ذو وجوه، تقول ويقولون، خاصمهم بالسنة، فإنهم لا يستطيعون أن يكذبوا على السنة. (5)
_________
(1) الفقيه والمتفقه (1/ 372 - 373) ورواه الحاكم في المستدرك (2/ 42 - 43) وفيه ذكر القصة، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذه السياقة". ورواه أيضا ابن عدي في الكامل (2/ 425).
(2) الفقيه والمتفقه (1/ 377) وجامع بيان العلم (2/ 1210) وهو في المسند أيضا (1/ 337).
(3) شرح السنة (1/ 214).
(4) الفقيه والمتفقه (1/ 458) وذم الكلام (ص.87). وهو في إعلام الموقعين (1/ 58) وفي الاعتصام (1/ 135).
(5) الفقيه والمتفقه (1/ 560).(1/333)
- وجاء في ذم الكلام: عن عبيد بن سعد قال: خرج ابن عباس على رجلين يمتريان في آية فقال: ما امترى رجلان في آية إلا جحدها أحدهما. (1)
- وفيه: عن ابن عباس قال: آفة الرأي الهوى. (2)
- وجاء في الشريعة عنه أيضا: أنه بلغه عن مجلس في ناحية بني سهم فيه شباب من قريش يختصمون، ويرتفع أصواتهم. فقال ابن عباس لوهب بن منبه: انطلق بنا إليهم. قال: فانطلقنا حتى وقفنا عليهم، فقال ابن عباس لوهب بن منبه: أخبر القوم عن كلام الفتى الذي كلم به أيوب عليه السلام وهو في بلائه. فقال وهب: قال الفتى: لقد كان في عظمة الله عز وجل، وذكر الموت، ما يكل لسانك، ويقطع قلبك، ويكسر حجتك؟ أفلم تعلم يا أيوب: أن لله عبادا، أسكتتهم خشية الله من غير عي ولا بكم، وإنهم لهم الفصحاء الطلقاء، العالمون بالله وأيامه، ولكنهم إذا ذكروا عظمة الله تعالى تقطعت قلوبهم، وكلت ألسنتهم، وكلت أحلامهم فرقا من الله تعالى وهيبة له، حتى إذا استفاقوا من ذلك ابتدروا إلى الله تعالى بالأعمال الزاكية، لا يستكثرون لله الكثير، ولا يرضون له بالقليل، ناحلون ذائبون، يراهم الجاهل فيقول: مرضى، وقد خولطوا، وقد خالط القوم أمر عظيم. (3)
- وعن ابن عباس في قوله: {وَاجْعَلْنَا للمتقين إِمَامًا} (4): أئمة
_________
(1) ذم الكلام (2/ 89/181).
(2) ذم الكلام (2/ 286 - 287/ 375).
(3) الشريعة (1/ 194/136).
(4) الفرقان الآية (74).(1/334)
التقوى ولأهله يقتدى بنا. (1) رواه ابن جرير وفي رواية ابن أبي حاتم: أئمة هدى ليهتدى بنا، ولا تجعلنا أئمة ضلالة. (2)
- وجاء في أعلام الموقعين: قال ابن عباس: إنما هو كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمن قال بعد ذلك برأيه فلا أدري أفي حسناته يجد ذلك أم في سيئاته.
- وقال: من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار. (3)
- وعن أبي العالية قال: قال ابن عباس: ويل للأتباع من عثرات العالم، قيل: وكيف ذاك يا أبا العباس؟ قال: يقول العالم من قبل رأيه، ثم يسمع الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيدع ما كان عليه، وفي لفظ: فيلقى من هو أعلم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه فيخبره فيرجع ويقضي الأتباع بما حكم. (4)
- وجاء في مقدمة مسلم: عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس؛ قال: إنما كنا نحفظ الحديث، والحديث يحفظ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأما إذ ركبتم كل صعب وذلول؛ فهيهات. (5)
- وفيها: عن مجاهد قال: جاء بشير العدوي إلى ابن عباس. فجعل يحدث ويقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجعل ابن عباس لا
_________
(1) ابن جرير (19/ 53).
(2) تفسير ابن أبي حاتم (8/ 2742/15487).
(3) إعلام الموقعين (1/ 58و59).
(4) الفقيه والمتفقه (2/ 27 - 28) والمدخل للبيهقي (2/ 288 - 289/ 835و836) وجامع بيان العلم وفضله (2/ 984) وذكره ابن القيم في إعلام الموقعين (2/ 193).
(5) مقدمة مسلم (1/ 13) وابن ماجه (27).(1/335)
يأذن لحديثه ولا ينظر إليه. فقال: يا ابن عباس! مالي لا أراك تسمع لحديثي؟ أحدثك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا تسمع. فقال ابن عباس: إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلا يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابتدرته أبصارنا، وأصغينا إليه بآذاننا، فلما ركب الناس الصعب والذلول؛ لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف. (1)
- وجاء في السنة لعبد الله: عن عطاء عن ابن عباس قال: لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض، فإن ذلك يوقع الشك في قلوبكم. (2)
- وفي السنة للخلال: وعنه رضي الله عنه قال: من فارق الجماعة شبرا فمات فميتة جاهلية. (3)
موقفه من المشركين:
- عن الزهري أخبرني عبد الله بن عبد الله أن عبد الله بن عباس قال: يا معشر المسلمين! كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل الله على نبيكم - صلى الله عليه وسلم - أحدث الأخبار بالله، محضا لم يشب، وقد حدثكم الله أن أهل الكتاب قد بدلوا من كتب الله وغيروا فكتبوا بأيديهم، قالوا: هو من عند الله ليشتروا بذلك ثمنا قليلا. أو لا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم؟! فلا والله ما رأينا رجلا منهم يسألكم عن الذي أنزل عليكم. (4)
_________
(1) مقدمة مسلم (1/ 13).
(2) السنة لعبد الله (22) وذم الكلام (ص.64).
(3) السنة للخلال (1/ 87/22).
(4) البخاري (13/ 607/7523).(1/336)
- وقال عكرمة: كنا جلوسا عند ابن عباس، فمر طائر يصيح، فقال رجل من القوم خير خير. فقال ابن عباس: لا خير ولا شر. (1)
- عن ابن عباس رضي الله عنهما: صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد، أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد، ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ. وأما يعوق فكانت لهمدان. وأما نسر فكانت لحمير، لآل ذي الكلاع، أسماء رجال صالحين من قوم نوح. فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا، فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت. (2)
موقفه من الرافضة:
- عن ابن أبي مليكة أن ذكوان أبا عمرو حدثه قال: جاء ابن عباس رضي الله عنهما يستأذن على عائشة، وهي في الموت. قال: فجئت وعند رأسها عبد الله ابن أخيها عبد الرحمن، فقلت: هذا ابن عباس يستأذن. قالت: دعني من ابن عباس، لا حاجة لي به، ولا بتزكيته. فقال عبد الله: يا أمه، إن ابن عباس من صالحي بنيك، يودعك ويسلم عليك.
قالت: فائذن له إن شئت. قال: فجاء ابن عباس، فلما قعد، قال: أبشري، فوالله ما بينك وبين أن تفارقي كل نصب، وتلقي محمدا - صلى الله عليه وسلم - والأحبة، إلا أن تفارق روحك جسدك.
_________
(1) تأويل مختلف الحديث (108).
(2) البخاري (8/ 862/4920).(1/337)
قالت: إيها، يا ابن عباس، قال: كنت أحب نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... -يعني: إليه- ولم يكن يحب إلا طيبا، سقطت قلادتك ليلة الأبواء، وأصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلقطها، فأصبح الناس ليس معهم ماء، فأنزل الله {فتيمموا صعيدًا طيبًا} (1). فكان ذلك من سببك، وما أنزل الله بهذه الأمة من الرخصة. ثم أنزل الله تعالى براءتك من فوق سبع سماوات، فأصبح ليس مسجد من مساجد يذكر فيها الله إلا براءتك تتلى فيه آناء الليل والنهار. قالت: دعني عنك يا ابن عباس، فوالله لوددت أني كنت نسيا منسيا. (2)
- وعن ميمون بن مهران قال: قلت لابن عباس: أوصني، قال: إياك والنجوم، فإنها تدعو إلى الكهانة، ولا تسبن أحدا من أصحاب نبيك - صلى الله عليه وسلم -، وإذا حضرت الصلاة فلا تؤخرها. (3)
- وعن عبد الله بن شداد بن الهاد قال: أتيت ابن عباس فقال لي: ألا أعجبك؟ قلت: وما ذاك؛ قال: إني في المنزل قد أخذت مضجعي للقيلولة فجاءني الغلام فقال: بالباب رجل يستأذن، فقلت: ما جاء في هذه الساعة إلا وله حاجة؛ أدخله، فدخل فقلت: ما حاجتك؟ قال: متى يبعث ذاك الرجل؟ قلت: أي رجل؟ قال: علي بن أبي طالب، قلت: لا يبعث حتى يبعث من في القبور؛ قال: ألا أراك تقول كما يقول هؤلاء الحمقاء؟! قال: قلت: أخرجوا
_________
(1) النساء الآية (43).
(2) أحمد (1/ 220و276و349) والبخاري (8/ 618 - 619/ 4752).
(3) الشريعة (3/ 550/2055).(1/338)
هذا عني لا يدخل علي هو ولا ضربه من الناس. (1)
- عن ابن عباس أنه كان يقول: كلام الحرورية ضلالة، وكلام الشيعة هلكة. (2)
- وفي الصحيح عن ابن أبي مليكة: قيل لابن عباس: هل لك في أمير المؤمنين معاوية؟ فإنه ما أوتر إلا بواحدة؟ قال: أصاب، إنه فقيه. (3)
- وأخرج اللالكائي بسنده إلى مجاهد عن ابن عباس قال: لا تسبوا أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فإن الله عز وجل قد أمرنا بالاستغفار لهم وهو يعلم أنهم سيقتتلون. (4)
- وبسنده إلى ميمون بن مهران قال: قال لي ابن عباس: يا ميمون، لا تسب السلف، وادخل الجنة بسلام. (5)
- وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: ما رأيت قوما كانوا خيرا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض، كلهن في القرآن: {يسألونك عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} (6) {يسألونك عن الخمر والميسر} (7) {يسألونك عن اليتامى} (8) {ويسألونك عن
_________
(1) الشريعة (3/ 561/2072).
(2) جامع بيان العلم وفضله (2/ 1168).
(3) البخاري (7/ 130/3765).
(4) أصول الاعتقاد (7/ 1324/2353) وفي الشريعة (3/ 540/2033).
(5) أصول الاعتقاد (7/ 1325/2355).
(6) البقرة الآية (217).
(7) البقرة الآية (219).
(8) البقرة الآية (220).(1/339)
المحيض} (1) ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم. (2)
موقفه من الجهمية:
- جاء في الفتاوى الكبرى لابن تيمية: قال الإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا ابن صالح بن جابر الأنماطي، حدثنا علي بن عاصم عن عمران بن حدير عن عكرمة قال: كان ابن عباس في جنازة، فلما وضع الميت في لحده، قام رجل فقال: اللهم رب القرآن اغفر له. فوثب إليه ابن عباس فقال: مه؟ القرآن منه. زاد الصهيبي في حديثه فقال ابن عباس: القرآن كلام الله وليس بمربوب، منه خرج وإليه يعود. (3)
- وفي الإبانة عنه في قول الله عز وجل: {قُرْآَنًا عربيًا غير ذي عِوَجٍ} (4)؛ قال: غير مخلوق. (5)
- وقال ابن عباس: لولا أن يسره على لسان الآدميين ما استطاع أحد أن يتكلم بكلام الله. (6)
- وعنه قال: إن الكرسي الذي وسع السماوات والأرض لموضع
_________
(1) البقرة الآية (222).
(2) سنن الدارمي (1/ 51) والطبراني في الكبير (11/ 454/12288) وجامع بيان العلم وفضله (2/ 1062) والإبانة (1/ 2/398/ 296).
(3) الفتاوى الكبرى (5/ 56) وهو في الإبانة (1/ 12/270 - 271/ 40).
(4) الزمر الآية (28).
(5) الإبانة (1/ 12/289/ 57) والشريعة (1/ 217 - 218/ 172) وأصول الاعتقاد (2/ 242/355) وشرح السنة للبغوي (1/ 183).
(6) مقدمة شرح السنة للبغوي (1/ 182).(1/340)
قدميه، وما يقدر قدر العرش إلا الذي خلقه، وإن السماوات في خلق الرحمن مثل قبة في صحراء. (1)
- عن ابن عباس {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (2) قال: عالم بكم أينما كنتم. (3)
- جاء في أصول الاعتقاد عنه في قوله عز وجل: {تجري بأعيننا} (4) قال: أشار بيده إلى عينيه. (5)
- وفيه عنه قال: إن الله يمهل في شهر رمضان كل ليلة إذا ذهب الثلث الأول من الليل هبط إلى سماء الدنيا ثم قال هل من سائل فيعطى؟ هل من مستغفر فيغفر له؟ هل من تائب فيتاب عليه. (6)
- وفيه عنه في قوله عز وجل: {وُجُوهٌ يومئذٍ ناضرةٌ} قال: حسنها. {إلى ربها نَاظِرَةٌ} قال: نظرت إلى الخالق. (8)
- وفيه عنه قال: هل تنكرون أن تكون الخلة لإبراهيم؟ والكلام
_________
(1) السنة لعبد الله (79 - 80).
(2) الحديد الآية (4).
(3) السنة لعبد الله (81).
(4) القمر الآية (14).
(5) أصول الاعتقاد (3/ 456/691).
(6) أصول الاعتقاد (3/ 498/766).
(7) القيامة الآيتان (22و23).
(8) السنة لعبد الله (ص.62) وأصول الاعتقاد (3/ 514/799) والشريعة (2/ 11 - 12/ 625)(1/341)
لموسى؟ والرؤية لمحمد - صلى الله عليه وسلم -؟ (1)
- وقيل لابن عباس: بماذا عرفت ربك؟ فقال: من طلب دينه بالقياس، لم يزل دهره في التباس، خارجا عن المنهاج، ظاعنا في الاعوجاج، عرفته بما عرف به نفسه، ووصفته بما وصف به نفسه. (2)
موقفه من الخوارج:
مناظرته لهم:
عن أبي زميل سماك الحنفي عن ابن عباس قال: لما اجتمعت الحرورية يخرجون على علي قال: جعل يأتيه الرجل يقول يا أمير المؤمنين، القوم خارجون عليك، قال: دعهم حتى يخرجوا، فلما كان ذات يوم قلت: يا أمير المؤمنين أبرد بالصلاة، فلا تفتني حتى آتي القوم. قال: فدخلت عليهم وهم قائلون، فإذا هم مسهمة وجوههم من السهر قد أثر السجود في جباههم، كأن أيديهم ثفن الإبل، عليهم قمص مرحضة (3). فقالوا: ما جاء بك يا ابن عباس، وما هذه الحلة عليك؟ قال: قلت: ما تعيبون من هذه، فلقد رأيت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن ما يكون من ثياب اليمنية. قال: ثم قرأت هذه الآية {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (4) فقالوا: ما جاء بك؟ قلت: جئتكم من عند أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليس
_________
(1) أصول الاعتقاد (3/ 550 - 551/ 861) والشريعة (2/ 87 - 88/ 730).
(2) الفتاوى (2/ 18).
(3) أي مغسولة. النهاية في غريب الحديث (2/ 208).
(4) الأعراف الآية (32).(1/342)
فيكم منهم أحد، ومن عند ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعليهم نزل القرآن وهم أعلم بتأويله، جئت لأبلغكم عنهم وأبلغهم عنكم. فقال بعضهم: لا تخاصموا قريشا، فإن الله تعالى يقول: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} (1) فقال بعضهم: بلى فلنكلمنه. قال: فكلمني منهم رجلان أو ثلاثة قال: قلت: ماذا نقمتم عليه؟ قالوا: ثلاثا، فقلت: ما هن؟ قالوا: حكم الرجال في أمر الله، وقال الله عز وجل: {إِنِ الْحُكْمُ إِلًّا لِلَّهِ} (2)
قال: قلت هذه واحدة وماذا أيضا؟ قالوا: فإنه قاتل فلم يسب ولم يغنم، فلئن كانوا مؤمنين، ما حل قتالهم، ولئن كانوا كافرين، لقد حل قتالهم وسباهم. قال: قلت: وماذا أيضا؟ قالوا: ومحا نفسه من أمير المؤمنين، فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين. قال: قلت: أرأيتم إن أتيتكم من كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ما ينقض قولكم هذا، أترجعون؟ قالوا: وما لنا لا نرجع؟ قلت: أما قولكم حكم الرجال في أمر الله فإن الله عز وجل قال في كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} (3). وقال في المرأة وزوجها: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} (4). فصير الله
_________
(1) الزخرف الآية (58).
(2) الأنعام الآية (57) ..
(3) المائدة الآية (95).
(4) النساء الآية (35).(1/343)
ذلك إلى حكم الرجال فنشدتكم الله، أتعلمون حكم الرجال في دماء المسلمين وفي إصلاح ذات بينهم، أفضل، أو في دم أرنب ثمن ربع درهم وفي بضع امرأة؟ قالوا: بلى، هذا أفضل. قال: أخرجت من هذه؟ قالوا: نعم، قال: وأما قولكم قاتل فلم يسب ولم يغنم، أفتسبون أمكم عائشة رضي الله عنها؟! فان قلتم: نسبيها فنستحل منها ما نستحل من غيرها، فقد كفرتم، وإن قلتم ليست بأمنا فقد كفرتم، فأنتم ترددون بين ضلالتين، أخرجت من هذه؟ قالوا: بلى، قال: وأما قولكم محا نفسه من أمير المؤمنين، فأنا آتيكم بمن ترضون، إن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية حين صالح أبا سفيان وسهيل بن عمرو قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أكتب يا علي هذا ما صالح عليه محمد رسول الله ... ، فقال أبو سفيان وسهيل بن عمرو: ما نعلم أنك رسول الله، ولو نعلم أنك رسول الله، ما قاتلناك.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اللهم إنك تعلم أنى رسولك، امح يا علي واكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله وأبو سفيان وسهيل بن عمرو (1). قال: فرجع منهم ألفان وبقي بقيتهم فخرجوا فقتلوا أجمعين. (2)
- وعن عبد الله بن أبي يزيد عن ابن عباس أنه ذكر عنده الخوارج وما يلقون عند تلاوة القرآن، فقال: ليسوا بأشد اجتهادا من اليهود والنصارى ثم
_________
(1) حديث صلح الحديبية أخرجه: البخاري (5/ 380/2699) ومسلم (3/ 1409/1783) وأبو داود (2/ 415/1832) مختصرا من حديث البراء بن عازب. وأخرجه: مسلم (3/ 1411/1784) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنهما.
(2) جامع بيان العلم (2/ 962 - 964) وهو في المصنف لعبد الرزاق (10/ 157 - 160/ 18678) والمعجم الكبير للطبراني (10/ 257 - 258/ 10598) والمستدرك للحاكم (2/ 150 - 152) والحلية لأبي نعيم (1/ 318 - 320) وأخرج بعضه الإمام أحمد (1/ 342 وغيرهم.(1/344)
هم يضلون (1).اهـ (2)
- وعن معمر عن ابن طاوس عن أبيه قال: ذكر لابن عباس الخوارج وما يصيبهم عند قراءة القرآن، قال: يؤمنون بمحكمه، ويضلون عن متشابهه، وقرأ: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} (3).اهـ (4)
- وعن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس: {وَمَنْ لَمْ يحكم بِمَا أنزل اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (5) قال: هي به كفر وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله. (6)
- روى البخاري في صحيحه في التفسير بسنده إلى المنهال عن سعيد قال: قال رجل لابن عباس: إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي، قال: {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يومئذٍ ولا يتساءلون} (7)، {وأقبل بعضهم على
_________
(1) ورد في بعض النسخ 'يصلون' بالصاد المهملة، والصواب بالضاد المعجمة، وترجحه رواية الآجري في الشريعة (وهم على ضلالة).
(2) أصول الاعتقاد (7/ 1306/2315) والشريعة (1/ 144/48) والمصنف لابن أبي شيبة (7/ 556/37901).
(3) آل عمران الآية (7).
(4) الشريعة (1/ 144/47) والمصنف لابن أبي شيبة (7/ 556/37902) وذم الكلام (68).
(5) المائدة الآية (44).
(6) الإبانة (2/ 6/734/ 1005).(1/345)
بعضٍ يتساءلون} (1)، {ولا يكتمون الله حديثًا} (2) {ربنا ما كنا مشركين} (3) فقد كتموا في هذه الآية. وقال: {أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) -إلى قوله- دحاها} (4) فذكر خلق السماء قبل خلق الأرض، ثم قال: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ -إلى - طائعين} (5) فذكر في هذه خلق الأرض قبل السماء، وقال تعالى: {وكان الله غفورًا رحيمًا} {عزيزًا حكيمًا} {سميعًا بصيرًا} فكأنه كان ثم مضى، فقال: {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ} (6) في النفخة الأولى، ثم ينفخ في الصور {فَصَعِقَ مَنْ من السَّمَاوَاتِ وَمَنْ في الأرض إِلًّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} (7) فلا أنساب بينهم عند ذلك ولا يتساءلون ثم في النفخة الآخرة {أقبل بَعْضُهُمْ على بعضٍ يتساءلون} (8) وأما قوله: {ما كنا مشركين} (9) {ولا
_________
(1) المؤمنون الآية (101).
(2) الصافات الآية (27).
(3) النساء الآية (42).
(4) الأنعام الآية (23).
(5) النازعات الآيات (27 - 30).
(6) فصلت الآيات (9 - 11).
(7) المؤمنون الآية (101).
(8) الزمر الآية (68).
(9) الصافات الآية (27).
(10) الأنعام الآية (23).(1/346)
يكتمون الله حديثًا} (1) فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم. وقال المشركون: تعالوا نقول لم نكن مشركين، فختم على أفواههم فتنطق أيديهم.
فعند ذلك عرف أن الله لا يكتم حديثا، وعنده {يود الذين كفروا} الآية. (2) وخلق الأرض في يومين ثم خلق السماء، ثم استوى إلى السماء فسواهن في يومين آخرين، ثم دحا الأرض، ودحوها أن أخرج منها الماء والمرعى وخلق الجبال والجمال والآكام وما بينهما في يومين آخرين فذلك قوله: {دحاها} وقوله: {خَلَقَ الأرض في يومين} (3) فجعلت الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام، وخلقت السماوات في يومين، {وَكَانَ اللَّهُ غفورًا رحيمًا} (4) سمى نفسه ذلك، وذلك قوله، أي لم يزل كذلك، فإن الله لم يرد شيئا إلا أصاب به الذي أراد. فلا يختلف عليك القرآن، فإن كلا من عند الله. (5)
قال الحافظ عقبه: كان هذا الرجل هو نافع بن الأزرق الذي صار بعد ذلك رأس الأزارقة من الخوارج، وكان يجالس ابن عباس بمكة ويسأله ويعارضه. (6)
- وأورد ابن كثير في تفسيره من سورة النمل عند قوله تعالى:
_________
(1) النساء الآية (42).
(2) النساء الآية (42).
(3) فصلت الآية (9).
(4) النساء الآية (100).
(5) (8/ 713 - 714).
(6) فتح الباري (8/ 716).(1/347)
{وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ} (1)، قال مجاهد وسعيد بن جبير وغيرهما عن ابن عباس وغيره: كان الهدهد مهندسا، يدل سليمان عليه السلام على الماء، إذا كان بأرض فلاة طلبه فنظر له الماء في تخوم الأرض، كما يرى الإنسان الشيء الظاهر على وجه الأرض، ويعرف كم مساحة بعده من وجه الأرض، فإذا دلهم عليه أمر سليمان -عليه السلام- الجان فحفروا له ذلك المكان حتى يستنبط الماء من قراره، فنزل سليمان عليه السلام بفلاة من الأرض، فتفقد الطير ليرى الهدهد، فلم يره، فَقَالَ {فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} (2).
حدث يوما عبد الله بن عباس بنحو هذا، وفي القوم رجل من الخوارج، يقال له (نافع بن الأزرق)، وكان كثير الاعتراض على ابن عباس، فقال له: قف يا ابن عباس، غلبت اليوم، قال: ولم؟ قال: إنك تخبر عن الهدهد أنه يرى الماء في تخوم الأرض، وإن الصبي ليضع له الحبة في الفخ، ويحثو على الفخ ترابا، فيجيء الهدهد ليأخذها فيقع في الفخ، فيصيده الصبي. فقال ابن عباس: لولا أن يذهب هذا فيقول: رددت على ابن عباس، لما أجبته: فقال له: ويحك، إنه إذا نزل القدر عمى البصر، وذهب الحذر، فقال له نافع: والله لا أجادلك في شيء من القرآن أبدا. (3)
_________
(1) النمل الآية (20).
(2) النمل الآية (20).
(3) تفسير ابن كثير (6/ 195).(1/348)
موقفه من المرجئة:
- جاء في السنة لعبد الله: عن عكرمة عن ابن عباس قال: صنفان من هذه الأمة ليس لهم في الإسلام نصيب: المرجئة والقدرية. (1)
- وفي الإبانة: عن مجاهد عن ابن عباس وأبي هريرة قالا: الإيمان يزيد وينقص. (2)
- وفي أصول الاعتقاد: عن عكرمة، عن ابن عباس قال: اتقوا الإرجاء، فإنها شعبة من النصرانية. (3)
- عن مجاهد، عن ابن عباس أنه قال لغلمانه: ومن أراد منكم الباءة زوجناه، لا يزني منكم زان إلا نزع منه الإيمان، فإن شاء أن يرده عليه رده، وإن شاء أن يمنعه منعه. (4)
- عن مورق العجلي عن ابن عباس قال: الحياء والإيمان يعني في قرن واحد، فإذا انتزع أحدهما من العبد اتبعه الآخر. (5)
قلت: ثبت في المرفوع: الحياء والإيمان قرنا جميعا، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر. (6)
_________
(1) السنة لعبد الله (89) والإبانة (2/ 7/888/ 1232) والسنة للخلال (4/ 138).
(2) الإبانة (2/ 845/1129) والشريعة (1/ 261/238).
(3) أصول الاعتقاد (5/ 1059 - 1060/ 1801).
(4) أصول الاعتقاد (6/ 1089/1866) والإبانة (2/ 715/966) والشريعة (1/ 266 - 267/ 252) والإيمان لابن أبي شيبة (94) والمصنف له (6/ 163/30352) والسنة للخلال (4/ 100/1260).
(5) أصول الاعتقاد (6/ 1089 - 1090/ 1867).
(6) البخاري في الأدب المفرد (1313) وأبو نعيم في الحلية (4/ 297) والحاكم (1/ 22) وقال: "صحيح على شرطهما" ووافقه الذهبي. عن ابن عمر رضي الله عنهما.(1/349)
موقفه من القدرية:
- عن عبد الله بن الحارث قال: سمعت ابن عباس يقول: إن بني إسرائيل كانوا على شريعة ومنهاج ظاهرين على من ناوأهم حتى تنازعوا في القدر، فلما تنازعوا اختلفوا وتباغضوا وتلاعنوا واستحل بعضهم حرمات بعض، فسلط عليهم عدوهم فمزقهم كل ممزق. (1)
- وعن عطاء بن أبي رباح: كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال: يا أبا العباس أرأيت من صدني عن الهدى، وأوردني الضلالة والردى، ألا تراه قد ظلمني؟ قال: إن كان الهدى كان شيئا لك عنده فمنعكه فقد ظلمك، وإن كان هو له يؤتيه من يشاء فلم يظلمك، قم لا تجالسني. (2)
- جاء في السنة لعبد الله عن يحيى بن سعيد: أن أبا الزبير أخبره أنه كان يطوف مع طاووس بالبيت. فمر بمعبد الجهني. فقال قائل لطاووس: هذا معبد الجهني، الذي يقول في القدر فعدل إليه طاووس حتى وقف عليه، فقال: أنت المفتري على الله القائل ما لا تعلم؟ قال معبد: يكذب علي. قال أبو الزبير: فعدلت مع طاووس حتى دخلنا على ابن عباس فقال له طاووس: يا أبا عباس، الذين يقولون في القدر؟ فقال ابن عباس: أروني بعضهم قال: قلنا: صانع ماذا؟ قال إذن أجعل يدي في رأسه ثم أدق عنقه. (3)
_________
(1) أصول الاعتقاد (4/ 700/1133).
(2) أصول الاعتقاد (4/ 742 - 743/ 1227). فتح البر (2/ 278).
(3) السنة (138 - 139) وأصول الاعتقاد (4/ 787/1322) والإبانة (2/ 9/156/ 1611) والشريعة (1/ 417/492).(1/350)
" التعليق:
هذا هو الذي يثلج الصدر مع المبتدعة لا المداهنة والنفاق، ولا دعوى الاستفادة من المبتدعة فيما عندهم من العلوم الشرعية. والواقع أن الله تعالى أغنانا عن المبتدعة في كل الفنون والحمد لله رب العالمين.
- عن عطاء قال: قال ابن عباس: لا أعرف أو لا أعلم الحق إلا في كلام قوم ألجؤوا ما غاب عنهم في الأمور إلى الله تبارك وتعالى، وفوضوا أمورهم إلى الله، وعلموا أن كلا بقضاء الله وقدره. (1)
- عن الأوزاعي أنه بلغه عن ابن عباس أنه ذكر عنده قولهم في القدر، فقال: ينتهي بهم سوء رأيهم حتى يخرجوا الله من أن يكون قدر خيرا كما أخرجوه من أن يكون قد قدر شرا. (2)
- عن ميمون بن مهران قال: قال لي ابن عباس: احفظ عني ثلاثا: إياك والنظر في النجوم فإنه يدعو إلى الكهانة، وإياك والقدر فإنه يدعو إلى الزندقة، وإياك وشتم أحد من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فيكبك الله في النار على وجهك. (3)
" التعليق:
هذا النص المبارك فيه سد الذرائع الواردة عن الصحابة رضي الله عنهم. فإن الاشتغال بالنجوم يؤدي إلى الكهانة وهي ضرب من أضراب الشرك بالله، والاشتغال بفلسفة القدرية يؤدي إلى الانسلاخ من الدين،
_________
(1) أصول الاعتقاد (4/ 771/1287) والإبانة (2/ 9/165/ 1639).
(2) أصول الاعتقاد (4/ 772/1291).
(3) أصول الاعتقاد (4/ 700/1134).(1/351)
والاشتغال بالحروب والمخاصمات التي وقعت بين بعض الصحابة مع بعضهم مجتهدين في ذلك ومتأولين يكب في نار جهنم، ولا أرى من يشتغل بذلك إلا من كان من الروافض أوفيه شعبة منهم، فما نقرأه ونسمعه من سب معاوية رضي الله عنه فمن هذا الباب والله المستعان. (1)
- عن ابن عباس أنه سئل عن القدرية؛ فقال: هم شقة من النصرانية. (2)
- وعن عمرو بن دينار قال: ذكر القدرية عند ابن عباس؛ قال: إن كان في البيت أحد منهم؛ فأرونيه آخذ برأسه. (3)
- عن مجاهد قال: ذكر القدرية عند ابن عباس؛ فقال: لو رأيت أحدا منهم عضضت أنفه. (4)
- عن مجاهد قال: قيل لابن عباس: إن ناسا يقولون بالقدر. فقال: يكذبون بالكتاب، لئن أخذت بشعر أحدهم لأنضونه (5). إن الله عز وجل كان على عرشه قبل أن يخلق شيئا، فخلق الخلق فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، فإنما يجري الناس على أمر قد فرغ منه. (6)
- جاء في أصول الاعتقاد: عن ابن عباس أن رجلا قدم علينا يكذب بالقدر. فقال: دلوني عليه -وهو يومئذ أعمى. فقالوا له: ما تصنع به؟ فقال:
_________
(1) راجع كتابنا من سب الصحابة ومعاوية فأمه هاوية.
(2) الإبانة (2/ 9/120/ 1546).
(3) الإبانة (2/ 9/157/ 1612).
(4) الإبانة (2/ 9/157/ 1613).
(5) لأقطعنه.
(6) أصول الاعتقاد (3/ 439/660) والإبانة (1/ 8/338/ 1371) والشريعة (1/ 359 - 360/ 389).(1/352)
والذي نفسي بيده لئن استمكنت منه لأعضن أنفه حتى أقطعه، ولئن وقعت رقبته بيدي لأدقنها، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "كأني بنساء بني فهر يطفن بالخزرج تصطك ألياتهن مشركات، وهذا أول شرك في الإسلام، والذي نفسي بيده لا ينتهي بهم سوء رأيهم حتى يخرجوا الله من أن يقدر الخير كما أخرجوه من أن يقدر الشر" (1).اهـ (2)
- وفي الإبانة: عن مجاهد قال: أتيت ابن عباس برجل من هذه المفوضة فقلت: يا ابن عباس. هذا رجل يكلمك في القدر، قال: أدنه مني، فقلت: هو ذا هو، فقال: أدنه فقلت: هو ذا هو، تريد أن تقتله؟ قال: إي والذي نفسي بيده؛ لو أدنيته مني لوضعت يدي في عنقه؛ فلم يفارقني حتى أدقها. (3)
- وروى عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه: أن رجلا قال لابن عباس: إن ناسا يقولون: إن الشر ليس بقدر، فقال ابن عباس: فبيننا وبين أهل القدر هذه الآية: {سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا - حتى- فَلَوْ شَاءَ لهداكم أَجْمَعِينَ} (4) والعجز والكيس بقدر. (5)
_________
(1) أحمد (1/ 330) وابن أبي عاصم في السنة (1/ 39/79) وذكره الهيثمي في المجمع (7/ 204) وقال: "رواه أحمد من طريقين وفيهما أحمد بن عبيد المكي -الصواب: محمد بن عبيد- وثقه ابن حبان وضعفه أبو حاتم، وفي إحداهما رجل لم يسم. وسماه في الأخرى العلاء بن الحجاج ضعفه الأزدي، وقال في المسند إن محمد بن عبيد سمع ابن عباس" اهـ.
(2) أصول الاعتقاد (4/ 691/1116).
(3) الإبانة (2/ 9/157 - 158/ 1615).
(4) الأنعام الآيتان (148و149).
(5) المصنف (20073) والإبانة (1/ 8/278/ 1294) وأصول الاعتقاد (3/ 607/970) والشريعة (1/ 415/488).(1/353)
- وفي الإبانة: عن ابن عباس في قول الله عز وجل: {يحول بين الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} (1)؛ قال: يحول بين المؤمن وبين المعاصي، وبين الكافر وبين الإيمان. (2)
- وروى ابن جرير بسنده عن ابن عباس: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ على عِلْمٍ} (3)؛ قال: أضله الله في سابق علمه. (4)
- قال ابن القيم: فانتظمت الآية على هذا القول في إثبات القدر والحكمة التي لأجلها قدر عليه الضلال. (5)
- وفي الإبانة: عن دميم بن سماك سمع أباه يحدث، ولقي ابن عباس بالمدينة قال: جاء عبد الله بن عباس في ثلاثة نفر يتماشون؛ فقالوا: هي يا ابن عباس؛ حدثنا عن القدر، قال: فأدرج كم قميصه حتى بدا منكبه ثم قال: لعلكم تتكلمون فيه؟ قالوا: لا، قال: والذي نفسي بيده؛ لو علمت أنكم تتكلمون فيه لضربتكم بسيفي هذا ما استمسك في يدي. (6)
- وفيها: عن عطاء بن أبي رباح قال: أتيت ابن عباس فقلت له: قد تكلم في القدر؛ فقال: وقد فعلوا ذلك؟ قلت: نعم، قال: والله ما نزلت هذه
_________
(1) الأنفال الآية (24).
(2) الإبانة (2/ 9/159/ 1620).
(3) الجاثية الآية (23).
(4) تفسير الطبري (25/ 151) والإبانة (2/ 9/160/ 1622) وأصول الاعتقاد (3/ 625/1003).
(5) شفاء العليل (1/ 94).
(6) الإبانة (2/ 9/161/ 1626).(1/354)
الآية إلا فيهم: {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (1)، أولئك شرار هذه الأمة؛ لا تعودوا مرضاهم، ولا تشهدوا موتاهم، إن أريتني أحدا منهم فقأت عينه بأصبعي هاتين. (2)
- وفيها: عن طاووس قال: كنا جلوسا عند ابن عباس، وعنده رجل من أهل القدر؛ فقلت: يا أبا عباس. كيف تقول فيمن يقول لا قدر؟ قال: أفي القوم أحد منهم؟ قلت: ولم؟ قال: آخذ برأسه ثم أقرأ عليه آية كيت، وآية كيت، حتى قرأ آيات من القرآن، حتى تمنيت أن يكون كل من تكلم في القدر شهده، فكان فيما قرأ: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} (3). اهـ (4)
- وفيها: عن ابن عباس في قول الله عز وجل: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} (5)؛ يقول شاكا كأنما يصعد في السماء؛ يقول: فكما لا يستطيع ابن آدم أن يبلغ السماء؛ فكذلك لا يقدر على أن يدخل التوحيد
_________
(1) القمر الآيتان (48و49).
(2) الإبانة (2/ 9/162/ 1628) وأصول الاعتقاد (3/ 597/948).
(3) الإسراء الآية (4).
(4) الإبانة (2/ 9/162 - 163/ 1630) والشريعة (1/ 417/493) والسنة لعبد الله (141).
(5) الأنعام الآية (125).(1/355)
والإيمان قلبه، حتى يدخله الله عز وجل في قلبه. (1)
- وفيها: عن ابن عباس قال: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} (2)، قال: خلق الله عز وجل آدم فأخذ ميثاقه أنه ربه، وكتب آجالهم وأرزاقهم ومصيباتهم، ثم أخرج ولده من ظهره كهيئة الذر؛ فأخذ مواثيقهم أنه ربهم وكتب آجالهم وأرزاقهم ومصيباتهم. (3)
- وفيها: عن ابن عباس قال: ما في الأرض قوم أبغض إلي من قوم من القدرية، يأتونني يخاصمونني، وذاك أنهم أحسب لا يعلمون قدرة الله عز وجل، قال الله تعالى: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (4). اهـ (5)
- وفيها: عن ابن عباس {يعلم السر وأخفى} (6)؛ قال: السر: ما أسر في نفسه، وأخفى: ما لم يكن وهو كائن. (7)
- وفيها: عن ابن عباس قال: ما تكلم أحد في القدر إلا خرج من الإيمان. (8)
_________
(1) الإبانة (2/ 9/163/ 1631).
(2) الأعراف الآية (172).
(3) الإبانة (2/ 9/164/ 1634).
(4) الأنبياء الآية (23).
(5) الإبانة (2/ 9/164 - 165/ 1637) والسنة لعبد الله (139) والشريعة (1/ 416/491).
(6) طه الآية (7).
(7) الإبانة (2/ 9/165/ 1638).
(8) الإبانة (2/ 9/166/ 1641) والشريعة (1/ 414/486).(1/356)
- وفيها عنه: أنه قرأ: {وَحَرَامٌ على قريةٍ} (1) قال: وجب عليهم أنهم لا يرجعون، لا يرجع منهم راجع، ولا يتوب منهم تائب. (2)
- وفيها: عن سعيد بن جبير قال: جاء رجل إلى عبد الله بن عباس فقال: يا أبا عباس. أوصني، فقال: أوصيك بتقوى الله، وإياك وذكر أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنك لا تدري ما سبق لهم من الفضل، وإياك وعمل النجوم إلا ما يهتدى به في بر أو بحر، فإنها تدعو إلى كهانة، وإياك ومجالسة الذين يكذبون بالقدر، ومن أحب أن تستجاب دعوته، وأن يزكى عمله ويقبل منه؛ فليصدق حديثه، وليؤد أمانته، وليسلم صدره للمسلمين. (3)
- وفيها: عن أبي الخليل قال: كنا نتحدث عن القدر؛ فوقف علينا ابن عباس، فقال: إنكم قد أفضتم في أمر لن تدركوا غوره. (4)
- وروى ابن جرير بسنده عن ابن عباس في قوله تعالى: {مَا أَنْتُمْ عليه بِفَاتِنِينَ (162) إِلًّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} (5) يقول: ما أنتم بفاتنين على أوثانكم أحدا إلا من قد سبق له أنه صال الجحيم. (6)
- وعن ابن عباس في قوله عز وجل: {قد أفلح من زكاها (9) وقد
_________
(1) الأنبياء الآية (95).
(2) الإبانة (2/ 9/166/ 1641).
(3) الإبانة (2/ 11/310/ 1987).
(4) الإبانة (2/ 11/310/ 1988).
(5) الصافات الآيتان (162و163).
(6) تفسير الطبري (23/ 109) وبنحوه في الإبانة (1/ 8/272/ 1285) وأصول الاعتقاد (3/ 625/1004).(1/357)
خَابَ مَنْ دساها} (1) يقول: قد أفلح من زكى الله نفسه، وقد خاب من دسى الله نفسه فأضلها. (2)
- وعن ابن عباس في قوله: {وهديناه النجدين} (3) قال: الخير والشر. (4)
- وروى ابن جرير بسنده عن ابن عباس في قوله: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} (5) قال: إن الله سبحانه بدأ خلق ابن آدم مؤمنا وكافرا، كما قال جل ثناؤه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} (6) ثم يعيدهم يوم القيامة كما بدأ خلقهم مؤمنا وكافرا. (7)
- وفي أصول الاعتقاد عن ابن عباس في قوله: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} (8) يعني قال: من كان كافرا ضالا فهديناه {وَجَعَلْنَا لَهُ نورًا
_________
(1) الشمس الآيتان (9و10).
(2) أصول الاعتقاد (3/ 601/955).
(3) البلد الآية (10).
(4) أصول الاعتقاد (3/ 602/957).
(5) الأعراف الآيتان (29و30).
(6) التغابن الآية (2).
(7) تفسير الطبري (8/ 156) وأصول الاعتقاد (3/ 603/961) والإبانة (1/ 8/277/ 1292) والشريعة (1/ 332/355).
(8) الأنعام الآية (122).(1/358)
يمشي به في الناس} يعني بالنور: القرآن من صدق به وعمل به، كمن مثله في الظلمات والكفر والضلالة. (1)
- وفيه أيضا: عن ابن عباس في قوله: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يديه وَمِنْ خَلْفِهِ يحفظونه مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} (2) قال: فإذا جاء القدر خلوا عنه. (3)
- وفيه: عن ابن عباس في قوله: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (4) قال: فريقين: فريقا يرحم فلا يختلف، وفريقا لا يرحم فيختلف، فمنهم شقي وسعيد. (5)
- وفيه عن ابن عباس: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} (6) يقول: الحسنة والسيئة من عند الله، أما الحسنة فأنعم الله بها عليك، وأما السيئة فابتلاك بها. (7)
- وفيه: عن ابن عباس قال: {تَبَّتْ يدا أبي لَهَبٍ} (8) بما جرى من
_________
(1) أصول الاعتقاد (3/ 604/962).
(2) الرعد الآية (11).
(3) أصول الاعتقاد (3/ 604/963).
(4) هود الآيتان (118و119).
(5) أصول الاعتقاد (3/ 605/966).
(6) النساء الآية (78).
(7) أصول الاعتقاد (3/ 610 - 611/ 976).
(8) المسد الآية (1).(1/359)
القلم في اللوح المحفوظ. (1)
- وفيه: عن ابن عباس في قوله تعالى: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} (2) يقول: ما كان الله ليعذب أقواما وأنبياؤهم بين أظهرهم حتى يخرجهم. ثم قال: {وَمَا كان الله معذبهم وهم يستغفرون} يقول: ومن قد سبق له من الله الدخول في الإيمان وهو الاستغفار. ويقول للكافر: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} (3) فميز أهل السعادة من أهل الشقا. فقال: {وَمَا لَهُمْ ألا يعذبهم الله} (4) فعذبهم الله يوم بدر بالسيف. (5)
- وفيه عن ابن عباس: {فَبِمَا أغويتني} قال: أضللتني. (7)
- وفيه عن ابن عباس: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حسرتى على ما فرطت في جَنْبِ اللَّهِ} {أَوْ تَقُولَ لَوْ أن الله هداني لَكُنْتُ مِنَ المتقين} أو
_________
(1) أصول الاعتقاد (3/ 614 - 615/ 986).
(2) الأنفال الآية (33).
(3) آل عمران الآية (179).
(4) الأنفال الآية (34).
(5) أصول الاعتقاد (3/ 615/987).
(6) الأعراف الآية (16).
(7) أصول الاعتقاد (3/ 624/1002).(1/360)
تقول: {لو أن لي كرةً فأكون مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (1) من المهتدين. فأخبر الله سبحانه: أنهم لو ردوا لم يقدروا على الهدى {وَلَوْ ردوا لعادوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لكاذبون} (2) قال: {وَنُقَلِّبُ أفئدتهم وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يؤمنوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} (3). قال: لو ردوا إلى الدنيا لحيل بينهم وبين الهدى، كما حلنا بينهم وبينه أول مرة. (4)
- وفيه: عن ابن عباس في قوله: {وَمَنْ يرد اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ من اللَّهِ شئيًا} يقول الله: من يرد الله ضلالته لم تغن عنه شيئا. (6)
- وفيه: عن ابن عباس في قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلًّا ليعبدون} (7) قال: ما خلقتهم عليه من طاعتي ومعصيتي، ومن شقوتي وسعادتي. (8)
- وفيه: عن ابن عباس في هذه الآية {إِنَّا كُنَّا نستنسخ مَا كُنْتُمْ
_________
(1) الزمر الآيات (56 - 58).
(2) الأنعام الآية (28).
(3) الأنعام الآية (110).
(4) أصول الاعتقاد (3/ 627 - 628/ 1010).
(5) المائدة الآية (41).
(6) أصول الاعتقاد (3/ 630/1015).
(7) الذاريات الآية (56).
(8) أصول الاعتقاد (3/ 633/1018).(1/361)
تَعْمَلُونَ} (1) قال: كتب الله أعمال بني آدم وما هم عاملون إلى يوم القيامة، قال: والملائكة يستنسخون ما يعمل بنو آدم يوما بيوم، فذلك قوله: {إِنَّا كُنَّا نستنسخ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}. (2)
- وروى ابن جرير بسنده عن ابن عباس، قوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بقدرٍ} (3) قال: خلق الله الخلق كلهم بقدر، وخلق لهم الخير والشر بقدر، فخير الخير السعادة، وشر الشر الشقاء، بئس الشر الشقاء. (4)
- وفي أصول الاعتقاد: عن ابن عباس قال: باب شرك فتح على أهل الصلاة، التكذيب بالقدر، فلا تجادلوهم فيجري شركهم على أيديكم. (5)
- وفيه عن أبي رجاء قال: سمعت ابن عباس وهو يخطب على المنبر بالبصرة يقول: لا يزال أمر هذه الأمة مقاربا أو قواما ما لم ينظروا في الولدان والقدر - أو حتى ينظروا في الولدان والقدر. (6)
- وفيه عن عطاء قال: سمعت ابن عباس يقول: كلام القدرية كفر، وكلام الحرورية ضلالة، وكلام الشيعة هلكة. (7)
_________
(1) الجاثية الآية (29).
(2) أصول الاعتقاد (3/ 595/944).
(3) القمر الآية (49).
(4) الطبري (27/ 111) وأصول الاعتقاد (3/ 597/949) بنحوه.
(5) أصول الاعتقاد (4/ 696 - 697/ 1126) ووالإبانة (2/ 9/160/ 1623) والشريعة (1/ 420/498).
(6) أصول الاعتقاد (4/ 697/1127).
(7) أصول الاعتقاد (4/ 713/1165).(1/362)
- وفيه عن ابن عباس في قوله: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (1) قال: هم الكفار الذين خلقهم الله للنار وخلق النار لهم، فزالت عنهم الدنيا وحرمت عليهم الجنة، قال الله: {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ} (2).اهـ (3)
- وفيه: عن ابن عباس في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} (4) وقوله:
{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ على الهدى} (5) وقوله: {ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقًا حَرَجًا} (6) وقوله: {مَا كَانُوا ليؤمنوا إلا أن يشاء اللَّهُ (7) وقوله: {وما كان لنفسٍ أن تؤمن إلا بإذن الله} (8) وقوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هداها} (9) وقوله: {وَلَوْ شَاءَ ربك
_________
(1) الزمر الآية (15).
(2) الحج الآية (11).
(3) أصول الاعتقاد (4/ 637/1022) وتفسير الطبري (23/ 205).
(4) البقرة الآية (6).
(5) الأنعام الآية (35).
(6) الأنعام الآية (125).
(7) الأنعام الآية (111).
(8) يونس الآية (100).
(9) السجدة الآية (13).(1/363)
لَآَمَنَ مَنْ في الأرض كُلُّهُمْ جميعًا} (1) وقوله: {جَعَلْنَا في أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا} (2) وقوله: {مَنْ أغفلنا قَلْبَهُ عَنْ ذكرنا} (3) وقوله: {فَمِنْهُمْ شقيٌّ وسعيدٌ} (4) ونحو هذا من القرآن. وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى، فأخبره الله أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادة في الذكر الأول ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاء في الذكر الأول. (5)
- وفيه عن ابن عباس قال: القدر نظام التوحيد، فمن وحد الله ولم يؤمن بالقدر كان كفره بالقضاء نَقْضاً للتوحيد، ومن وحد الله وآمن بالقدر كان العروة الوثقى لا انفصام لها. (6)
- عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان الهدهد يدل سليمان على الماء. فقلت له كيف ذاك والهدهد ينصب له الفخ عليه التراب؟ فقال: أَعَضَّكَ اللهُ بِهَنِ أَبِيكَ ألم يكن إذا جاء القضاء ذهب البصر. (7)
- وفيه عن عكرمة قال: كنت حاضرا عند عبد الله بن عباس فجاءه
_________
(1) يونس الآية (99).
(2) يس الآية (8).
(3) الكهف الآية (28).
(4) هود الآية (105).
(5) أصول الاعتقاد (4/ 637 - 638/ 1024).
(6) أصول الاعتقاد (4/ 742/1224) والإبانة (2/ 9/159/ 1619) والشريعة (1/ 418 - 419/ 496) وفي السنة لعبد الله (141).
(7) أصول الاعتقاد (4/ 743/1228).(1/364)
رجل فقال: يا أبا عباس، أخبرني من القدرية؟ فإن الناس قد اختلفوا عندنا بالمشرق. فقال ابن عباس: القدرية قوم يكونون في آخر الزمان دينهم الكلام، يقولون إن الله لم يقدر المعاصي على خلقه، وهو معذبهم على ما قدر عليهم، فأولئك هم القدرية هم مجوس هذه الأمة، وأولئك ملعونون على لسان النبيين أجمعين، فلا تقاولوهم فيفتنوكم، ولا تجالسوهم، ولا تعودوا مرضاهم، ولا تشهدوا جنائزهم، أولئك أتباع الدجال، لخروج الدجال أشهى إليهم من الماء البارد. فقال الرجل: يا أبا عباس لا تجد علي فإني سائل مبتلى بهم. قال: قل. قال: كيف صار في هذه الأمة مجوس وهذه الأمة مرحومة؟ قال: أخبرك لعل الله ينفعك. قال: افعل. قال: إن المجوس زعمت أن الله لم يخلق شيئا من الهوام والقذر، ولم يخلق شيئا يضر، وإنما يخلق المنافع وكل شيء حسن، وإنما القدر هو الشر، والشر كله خلق إبليس وفعله. وقالت القدرية: إن الله أراد من العباد أمرا لم يكن، وأخرجوه عن ملكه وقدرته، وأراد إبليس من العباد أمرا وكان. إبليس عند القدرية أقوى وأعز. فهؤلاء القدرية، وكذبوا أعداء الله. إن الله يبتلي ويعذب على ما ابتلى وهو غير ظالم لا يسأل عما يفعل، ويمن ويثيب على منه إياهم وهو فعال لما يريد، ولكنهم أعداء الله ظنوا ظنا فحققوا ظنهم عند أنفسهم وقالوا: نحن العاملون والمثابون والمعذبون بأعمالنا ليس لأحد علينا منة، وذهب عليهم أن المن من الله وأصابهم الخذلان. قال سويد بن سعيد: لا إله إلا الله ما أوحشه من قول. وإن الله هو الهادي والمضل الراحم المعذب.
فقال الرجل: الحمد لله الذي مَن بك علي يا أبا عباس، وفقك الله، نصرك الله، أعزك الله. أما والله لقد كنت من أشدهم قولا أدين الله به، وقد استبان لي(1/365)
قول الضياء. فأنا أشهد الله وأشهدكم أني تايب إلى الله وراجع مما كنت أقوله، وقد أيقنت أن الخير من الله، وأن المعاصي من الله يبتلي بها من يشاء من عباده، ولا مقدر إلا الله ولا هادي ولا مضل غيره. قال عكرمة: فما زال الرجل عندنا باكيا حتى خرج غازيا في البحر فاستشهد رحمه الله. (1)
- وفيه: أتى عبد الله بن عباس على قوم يتنازعون في القدر، فقال: لا تختلفوا في القدر، فإنكم لو قلتم: إن الله شاء لهم أن يعملوا بطاعته فخرجوا من مشيئة الله إلى مشيئة أنفسهم فقد أوهنتم الله بأعظم ملكه، وإن قلتم إن الله جبرهم على الخطايا ثم عذبهم عليها، قلتم: إن الله ظلمهم. (2)
- وجاء في الفتاوى: قال ابن عباس: إن الله خلق العرش فاستوى عليه، ثم خلق القلم فأمره ليجري بإذنه -وعظم القلم كقدر ما بين السماء والأرض- فقال القلم: بم يا رب أجري؟ فقال: بما أنا خالق وكائن في خلقي، من قطر أو نبات، أو نفس أو أثر -يعني به العمل- أو رزق أو أجل. فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة. فأثبته الله في الكتاب المكنون عنده تحت العرش. (3)
- وجاء في الشريعة: عن ابن عباس: كل شيء بقدر، حتى وضعك يدك على خدك. (4)
- وفيها: عن ابن عباس: الحذر لا يغني من القدر، ولكن الدعاء يدفع
_________
(1) أصول الاعتقاد (4/ 768 - 770/ 1286).
(2) أصول الاعتقاد (4/ 771/1288).
(3) مجموع الفتاوى (16/ 139).
(4) الشريعة (1/ 414/485) والإبانة (2/ 9/165/ 1939).(1/366)
القدر. (1)
_________
(1) الشريعة (1/ 416/490).(1/367)
- وفيها: عن مجاهد: قلت لابن عباس: إني أردت أن آتيك برجل يتكلم في القدر؛ قال: لو أتيتني به لأستتب له وجهه أو لأوجعت رأسه، لا تجالسهم ولا تكلمهم. (1)
- وفي المنهاج: عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} (2) قال: يهد قلبه لليقين، فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه. (3)
أبو الأَسْود الدُّؤَلِي (4) (69 هـ)
اسمه ظالم بن عمرو، العلامة الفاضل قاضي البصرة، ولد في أيام النبوة. كان أول من تكلم في النحو، أمره علي بوضع شيء في النحو لما سمع اللحن. من أقواله: إن أبغض الناس إلي أن أسابّ كل أهوج ذرب اللسان. ومنها: ليس السائل الملحف خيرا من المانع الحابس. أسلم في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يره. كان ذا دين وعقل ولسان وبيان، وفهم وذكاء وحزم، وكان من كبار التابعين. استخلفه ابن عباس على البصرة لما خرج منها، فأقره علي بن أبي طالب. كان معدودا في طبقات من الناس، مقدما في كل منها، كان يعد في
_________
(1) الشريعة (1/ 418/495).
(2) التغابن الآية (11).
(3) منهاج السنة (5/ 136).
(4) الإصابة (5/ 261) وطبقات ابن سعد (7/ 99) ووفيات الأعيان (2/ 535 - 539) وتهذيب التهذيب (12/ 10 - 11) والسير (4/ 81 - 86).(1/368)
التابعين وفي الشعراء والفقهاء والمحدثين، والأشراف والفرسان والأمراء والنحاة والحاضري الجواب. روى عن عمر وعلي وأبي بن كعب وطائفة. وروى عنه ابنه أبو حرب ويحيى بن يعمر وابن بريدة وغيرهم. مات في طاعون الجارف سنة تسع وستين.
موقفه من القدرية:
جاء في أصول الاعتقاد: عن يحيى بن يعمر قال: كان رجل من جهينة وفيه رهق، وكان يتوثب على جيرانه، ثم إنه قرأ القرآن وفرض الفرائض وقَصَّ على الناس، ثم إنه صار من أمره أنه زعم أن العمل أنف، من شاء عمل خيرا ومن شاء عمل شرا، قال: فلقيت أبا الأسود الدؤلي، فذكرت ذلك له، فقال: كذب، ما رأينا أحدا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يثبت القدر. (1)
سَفِينَة أبو عبد الرحمن (2) مولى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - (بعد 70 هـ)
اختلف في اسمه على عدة أقوال، كنيته أبو عبد الرحمن ولقبه سفينة. كان عبدا لأم سلمة فأعتقته، وشرطت عليه خدمة النبي - صلى الله عليه وسلم - ما عاش. فقال: لو لم تشترطي علي ما فارقته. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلي وأم سلمة. روى له في مسند بقي أربعة عشر حديثا، وحديثه مخرج في الكتب سوى البخاري.
_________
(1) أصول الاعتقاد (4/ 645 - 646/ 1037).
(2) التاريخ الكبير (4/ 209) والاستيعاب (2/ 684) والإصابة (3/ 132) وأسد الغابة (2/ 503 - 504) والسير (3/ 172 - 173) وتهذيب الكمال (11/ 204 - 206) وتهذيب التهذيب (4/ 125).(1/369)
حدث عنه ابناه عمر وعبد الرحمن والحسن البصري، وسعيد بن جهمان وابن المنكدر، وأبو ريحانة عبد الله بن مطر وغيرهم. قال رضي الله عنه: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر، وكان إذا أعيا بعض القوم ألقى علي سيفه، ألقى علي ترسه، حتى حملت من ذلك شيئا كثيرا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنت سفينة" (1)، فكان يحب أن يكنى بها. فلزمه ذلك.
توفي رضي الله عنه بعد سنة سبعين.
موقفه من الرافضة:
عن سعيد بن جمهان عن سفينة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله الملك، أو ملكه من يشاء" قال سعيد: قال لي سفينة: أمسك عليك: أبا بكر سنتين، وعمر عشرا، وعثمان اثني عشرة، وعلي كذا، قال سعيد: قلت لسفينة: إن هؤلاء يزعمون أن عليا رضي الله عنه لم يكن بخليفة، قال: كذبت استاه بني الزرقاء، يعني مروان. (2)
_________
(1) أحمد (5/ 221 - 222) البزار (كشف الأستار عن زوائد البزار 3/ 270 - 271/ 2732) الطبراني في الكبير (7/ 83/6440) والطبراني (7/ 82 - 83/ 6439) البيهقي في الدلائل (6/ 47) الحاكم (3/ 606) وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. كلهم من طريق سعيد بن جمهان أنه سأل سفينة عن اسمه؟ فقال: فذكر الحديث بنحو ما سبق. ووقع عند الحاكم، حشرج بن نباتة قال: سألت سفينة عن اسمه فذكره. ولم يذكر سعيد بن جمهان. وذكره الهيثمي في المجمع (9/ 369) وقال: "رواه أحمد والبزار والطبراني بأسانيد ورجال أحمد والطبراني ثقات".
(2) أحمد (5/ 220 و221) وأبو داود (5/ 36/4646 - 4647) والترمذي (4/ 436/2226) وقال: "هذا حديث حسن". والنسائي في الكبرى (5/ 47/8155) وابن حبان (الإحسان (15/ 392/6943) والحاكم (3/ 71 و145) وصححه ووافقه الذهبي. وأشار إلى تصحيحه الحافظ في الفتح (8/ 97).(1/370)
عبد الرحمن بن أَبْزَى (1) (بعد 70 هـ)
عبد الرحمن بن أَبْزَى الخُزَاعِي مولى نافع بن عبد الحارث، مختلف في صحبته، وجزم البخاري والذهبي وغيرهما أن له صحبة. وهو الذي استخلفه نافع بن عبد الحارث على أهل مكة حين لقي عمر بن الخطاب بعسفان، وقال: إنه قارئ لكتاب الله، عالم بالفرائض. له رواية وفقه وعلم. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أبي بن كعب وعبد الله بن خباب، وابن عباس وعلي، وعمار، وعمر، وأبي بكر وآخرين. حدث عنه ابناه سعيد وعبد الله، والشعبي، وعلقمة ابن مرثد، وأبو إسحاق السبيعي، وعبد الرحمن بن أبي ليلى وآخرون. يروى عن عمر أنه قال: "ابن أبزى ممن رفعه الله بالقرآن". قال أبو حاتم: أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - وصلى خلفه. وقال ابن عبد البر: استخلفه علي على خراسان. عاش إلى سنة نيف وسبعين فيما يظهر.
موقفه من الرافضة:
عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى قال: قلت لأبي: لو أتيت برجل يسب أبا بكر ما كنت صانعا؟ قال: أضرب عنقه، قلت: فعمر؟ قال: أضرب عنقه. (2)
_________
(1) طبقات ابن سعد (5/ 462) والتاريخ الكبير (5/ 245) والجرح والتعديل (5/ 209) والاستيعاب (2/ 822) وأسد الغابة (3/ 278) وتهذيب الأسماء واللغات (القسم الأول/1/ 293 - 294) وتهذيب الكمال (16/ 501 - 503) وتهذيب التهذيب (6/ 132) والإصابة (4/ 282 - 283) والسير (3/ 201 - 202).
(2) الشريعة 3/ 588 - 589/ 2125 وقال الآجري عقبه: "وكان عبد الرحمن بن أبزى قاضي المدينة".(1/371)
البراء بن عازب (1) (72 هـ)
البراء بن ع (9) بن الحارث الأنصاريّ الحارثيّ المدني، يكنى أبا عُمَارَة، وقيل أبا عمرو، وقيل غير ذلك، والأشهر والأكثر الأول، وهو أصح إن شاء الله تعالى. سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثا كثيرا، ومن أبي بكر الصديق، وعمر وعثمان وعلي وغيرهم. وسمع منه: عبد الله بن يزيد الخطمي وأبو جحيفة السوائي الصحابيان، وعدي بن ثابت وجماعة من التابعين. من فقهاء الصحابة نزيل الكوفة، صحابي ابن صحابي، استصغر يوم بدر وهو من أقران ابن عمر، غزا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمس عشرة غزوة وشهد مع علي الجمل وصفين وقتال الخوارج، توفي رحمه الله تعالى سنة اثنتين وسبعين.
موقفه من الجهمية:
- عن البراء بن عازب في قول الله عز وجل: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} (2) قال: نزلت في عذاب القبر. (3)
- عن أبي إسحاق، عن البراء، أو عن أبي عبيدة في قول الله عز وجل:
_________
(1) طبقات ابن سعد (4/ 364 - 368) والاستيعاب (1/ 155 - 157) وتاريخ بغداد (1/ 177) وتهذيب الكمال (4/ 34 - 37) والسير (3/ 194 - 196) والوافي بالوفيات (10/ 104 - 105) البداية والنهاية (8/ 332) والإصابة (1/ 378 - 379) وشذرات الذهب (1/ 77 - 78).
(2) إبراهيم الآية (27).
(3) أخرجه مسلم (4/ 2202/2871 [74]) والنسائي (4/ 407/2055).(1/372)
{وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} (1) قال: عذاب القبر. (2)
موقفه من المرجئة:
- جاء عن البراء في قوله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} (3) قال: صلاتكم نحو بيت المقدس. (4)
الأَحْنَف بن قَيْس (5) (72 هـ)
الأحْنَف بن قَيْس بن معاوية أبو بَحْر البصري التَّمِيمِي، الأمير الكبير العالم النبيل، أحد من يضرب بحلمه وسؤدده المثل. والأحنف لقب له وإنما اسمه الضحاك، وقيل صخر. أسلم في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يره. وكان سيدا شريفا مطاعا، مؤمنا عليم اللسان. حدث عن عمر وعلي وأبي ذر، والعباس وأبي مسعود وعثمان وعدة. وحدث عنه الحسن البصري، وعروة بن الزبير وطلق بن حبيب وغيرهم. قال الحسن البصري: ما رأيت شريف قوم أفضل منه.
_________
(1) السجدة الآية (21).
(2) الشريعة (2/ 184/909).
(3) البقرة الآية (143).
(4) الإبانة (2/ 6/807 - 808/ 1099) وأصول الاعتقاد (4/ 896 - 897/ 1504) والسنة للخلال (4/ 47 - 48/ 1142).
(5) السير (4/ 86) تاريخ دمشق (24/ 298 - 356) والبداية والنهاية (8/ 331) وشذرات الذهب (1/ 78) ووفيات الأعيان (2/ 499) وطبقات ابن سعد (7/ 93).(1/373)
من أقواله: عجبت لمن يجري في مجرى البول مرتين كيف يتكبر. وعنه قال: ما نازعني أحد إلا أخذت أمري بأمور: إن كان فوقي عرفت له، وإن كان دوني رفعت قدري عنه، وإن كان مثلي تفضلت عليه. وقيل إن رجلا خاصم الأحنف، وقال: لئن قلت واحدة، لتسمعن عشرا، فقال: لكنك إن قلت عشرا لم تسمع واحدة. وعنه: الكامل من عدت سقطاته. وعنه قال: جنبوا مجالسنا ذكر النساء والطعام، إني أبغض الرجل يكون وصافا لفرجه وبطنه. توفي سنة اثنتين وسبعين.
موقفه من المبتدعة:
جاء في أصول الاعتقاد: قال الأحنف بن قيس: كثرة الخصومة تنبت النفاق في القلب. (1)
عَبِيدَة السَّلْمَانِي (2) (72 هـ)
عبيدة بن عمرو السلماني الفقيه، المرادي الكوفي، أحد الأعلام، التابعي الكبير، يقال له: السلماني نسبة إلى بني سلمان. أسلم عبيدة في عام فتح مكة بأرض اليمن، ولا صحبة له، وأخذ عن علي وابن مسعود وغيرهما، وبرع في الفقه، وكان ثبتا في الحديث. روى عنه إبراهيم النخعي، والشعبي وابن سيرين وغيرهم. قال أحمد العجلي: كان عبيدة أحد أصحاب عبد الله بن
_________
(1) أصول الاعتقاد (1/ 145/220).
(2) الاستيعاب (3/ 1023) وتهذيب الأسماء واللغات (القسم الأول/1/ 317) والسير (4/ 40 - 44) وتاريخ بغداد (11/ 117 - 120) وتهذيب الكمال (19/ 266 - 268) وتهذيب التهذيب (7/ 84 - 85).(1/374)
مسعود الذين يقرئون ويفتون. وقال ابن سيرين: ما رأيت رجلا كان أشد توقيا من عبيدة. وكان شريح إذا أشكل عليه شيء أرسلهم إلى عبيدة. توفي سنة اثنتين وسبعين.
موقفه من المبتدعة:
روى الخطيب بسنده إلى عبيدة عن علي قال: اجتمع رأيي ورأي عمر على أن أمهات الأولاد لا يبعن، قال: ثم رأيت بعد: أن تباع في دَيْن سيدها، وأن تعتق من نصيب ولدها، فقلت -أي عبيدة-: رأيك ورأي الجماعة أحب إلي من رأيك في الفرقة، ولم ينكر عَلِيٌّ علَى عبيدة هذا القول. (1)
مُصْعَب بن الزُّبَيْر (2) (72 هـ)
مصعب بن الزبير بن العَوَّام القرشيّ الأسدي أمير العراقين، أبو عيسى وأبو عبد الله، كان فارسا شجاعا جميلا وسيما، حارب المختار وقتله. روى عمر بن أبي زائدة أن الشعبي قال: ما رأيت أميرا قط على منبر أحسن من مصعب. قال عبد الله بن قيس الرقيات:
إنما مصعب شهاب من اللـ ... ـه تجلت عن وجهه الظلماء
ملكه ملك عزة ليس فيها ... جبروت منه ولا كبرياء
يتقي الله في الأمور وقد أفـ ... ـلح من كان همه الاتقاء
_________
(1) الفقيه والمتفقه (2/ 124 - 125) وذكره ابن تيمية في منهاج السنة (8/ 280).
(2) السير (4/ 140 - 145) والبداية والنهاية (8/ 321 - 325) وطبقات ابن سعد (5/ 182) وتاريخ بغداد (13/ 105 - 108) والتاريخ الكبير (7/ 350).(1/375)
عن ابن عائشة قال: سمعت أبي يقول قيل لعبد الملك بن مروان -وهو يحارب مصعبا- إن مصعبا قد شرب الشراب؟ فقال عبد الملك: مصعب يشرب الشراب؟ والله لو علم مصعب أن الماء ينقص من مروءته ما روى منه. من أقواله: العجب من ابن آدم كيف يتكبر وقد جرى في مجرى البول مرتين.
قتل مصعب يوم نصف جمادى الأولى سنة اثنتين وسبعين. وله أربعون سنة.
موقفه من المبتدعة:
جاء في الشريعة: عن علي بن زيد أن مصعب بن الزبير هم بعريف الأنصار أن يقتله، فدخل عليه أنس بن مالك فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "استوصوا بالأنصار خيرا أو معروفا، اقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم". قال: فنزل مصعب من سريره على بساطة، فألزق عنقه، أو قال: خده، أو قال: تمعك، فقال: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الرأس والعين، أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الرأس والعين. (1)
جُنْدُب بن عبد الله البَجَلِي (2) (73 هـ)
جندب بن عبد الله بن سفيان الإمام أبو عبد الله البجلي، صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم - نزل الكوفة والبصرة، روى عنه الحسن وابن سيرين وأبو عمران الجوني
_________
(1) أحمد (3/ 240 - 241) وابن عدي في الكامل (5/ 198) والآجري في الشريعة (2/ 394) وقال الألباني رحمه الله: "وعلي بن زيد هو ابن جدعان فيه ضعف، لكن حديثه جيد في الشواهد". انظر الصحيحة (916).
(2) السير (3/ 174 - 175) وتهذيب الكمال (5/ 137 - 139) والاستيعاب (1/ 256 - 257) والإصابة (1/ 509 - 510) وأسد الغابة (1/ 566 - 568) والوافي بالوفيات (11/ 193 - 194) وتهذيب التهذيب (2/ 117 - 118).(1/376)
وأنس بن سيرين وغيرهم.
عن يونس بن جبير قال: شيعنا جندبا فقلت له: أوصنا، قال: أوصيكم بتقوى الله، وأوصيكم بالقرآن فإنه نور بالليل المظلم، وهدى بالنهار، فاعملوا به على ما كان من جهد وفاقة، فإن عرض بلاء فقدم مالك دون دينك، فإن المخروب من خرب دينه، والمسلوب من سلب دينه واعلم أنه لا فاقة بعد الجنة ولا غنى بعد النار. توفي في حدود ثلاث وسبعين.
موقفه من المرجئة:
روى ابن ماجه بسنده: عن أبي عمران الجوني عن جندب بن عبد الله قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونحن فتيان حزاورة فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآن، فازددنا به إيمانا. (1)
عبد الله بن الزُّبَيْر (2) (73 هـ)
عبد الله بن الزبير بن العَوَّام، كنيته أبو بكر وأبو خُبَيْب، وأمه أسماء بنت أبي بكر الصديق، هاجرت من مكة وهي حامل بابنها عبد الله فولدته، أتت به أمه النبي - صلى الله عليه وسلم - فوضعته في حجره فدعا بتمرة فمضغها ثم تفل في فيه فكان أول شيء دخل جوفه ريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم حنكه بالخبزة، ثم دعا له وبرك عليه
_________
(1) ابن ماجه في المقدمة (1/ 23/61) والإبانة (2/ 7/847 - 848/ 1136) وأصول الاعتقاد (5/ 1017 - 1018/ 1715).
(2) الإصابة (4/ 89 - 95) والاستيعاب (3/ 905 - 910) والمستدرك (3/ 547 - 556) والحلية (1/ 329 - 347) ووفيات الأعيان (3/ 71 - 73) والعقد الثمين (5/ 141 - 159) والبداية والنهاية (8/ 332 - 345) وشذرات الذهب (1/ 79 - 80) وتهذيب التهذيب (5/ 213 - 215) والسير (3/ 363 - 380).(1/377)
وكان أول مولود في الإسلام للمهاجرين بالمدينة. وهو أحد العبادلة، وأحد الشجعان من الصحابة، وكان فارس قريش في زمانه وله مواقف مشهودة، شهد اليرموك وهو مراهق وفتح المغرب وغزو القسطنطينية. كان لا ينازع في ثلاثة: شجاعة ولا عبادة ولا بلاغة. بويع بالخلافة عند موت يزيد سنة أربع وستين وحكم على الحجاز واليمن ومصر والعراق وخراسان وبعض الشام ولم يستوسق له الأمر، فإن مروان غلب على الشام ثم مصر، وقام عند مصرعه ابنه عبد الملك بن مروان وحارب ابن الزبير، وقتل ابن الزبير رحمه الله فاستقل بالخلافة عبد الملك وآله. قال عنه ابن عباس: قارئ لكتاب الله، عفيف في الإسلام.
عن عمرو بن دينار قال: ما رأيت مصليا قط أحسن صلاة من عبد الله ابن الزبير. وعن مجاهد: كان ابن الزبير إذا قام للصلاة كأنه عمود. وقال ابن أبي مليكة قال لي عمر بن عبد العزيز: إن في قلبك من ابن الزبير قلت: لو رأيته ما رأيت مناجيا ولا مصليا مثله. وقال ثابت البناني: كنت أمر بابن الزبير وهو خلف المقام يصلي كأنه خشبة منصوبة لا تتحرك. وعن مجاهد: ما كان باب من العبادة يعجز عنه الناس إلا تكلفه ابن الزبير. وعن أنس: أن عثمان أمر زيدا وابن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث فنسخوا المصاحف وقال: إذا اختلفتم أنتم وزيد في شيء فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم. مسنده نحو من ثلاثة وثلاثين حديثا، له صحبة ورواية أحاديث، عداده في صغار الصحابة وإن كان كبيرا في العلم والشرف والجهاد والعبادة. روى عن أبيه وجده لأمه الصديق، وأمه أسماء وخالته(1/378)
عائشة، وعمر وعثمان وغيرهم حدث عنه أخوه عروة -الفقيه- وابناه: عامر وعباد، وابن أخيه محمد بن عروة، وعبيدة السلماني وطاووس وغيرهم. قتل ابن الزبير في جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين رحمه الله.
موقفه من المبتدعة:
- جاء في الإبانة: عن الأعرج: مر ابن الزبير بابنه وهو يكلم الأشتر في اختلاف الناس، فقال: لا تحاجه بالقرآن حاجه بالسنة. (1)
- وفي الموطأ عن ربيعة بن عبد الله بن الهدير أنه رأى رجلا متجردا بالعراق، فسأل الناس عنه فقالوا: إنه أمر بهديه أن يقلد، فلذلك تجرد، قال ربيعة: فلقيت عبد الله بن الزبير، فذكرت له ذلك، فقال: بدعة، ورب الكعبة. (2)
" التعليق:
قال أبو شامة: فوصف ذلك عبد الله بأنه بدعة، لما كان موهما أنه من الدين، لأنه قد ثبت أن التجرد مشروع في الإحرام، بنسك الحج أو العمرة، فإذا فعل في غير ذلك أوهم من لا يعلم من العوام أنه مشروع في هذه الحالة الأخرى. لأنه قد ثبتت شرعيته في صورة، فربما يقتدى به، ويتفاقم الأمر في انتشار ذلك، ويعسر الفطام عنه، كما قد وقع في غيره من البدع. (3)
_________
(1) الإبانة (1/ 2/406 - 407/ 312).
(2) الموطأ (1/ 341/53) وذكره أبو شامة في الباعث (ص.90).
(3) الباعث (ص.90).(1/379)
موقفه من الصوفية:
أخرج أبو نعيم عن عامر بن عبد الله بن الزبير -رضي الله تعالى عنه- قال: جئت أبي فقال: أين كنت؟ فقلت: وجدت أقواما ما رأيت خيرا منهم، يذكرون الله فيرعد أحدهم حتى يغشى عليه من خشية الله، فقعدت معهم، فقال: لا تقعد معهم بعدها، فرآني كأنه لم يأخذ ذلك في، فقال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتلو القرآن، ورأيت أبا بكر وعمر يتلوان القرآن، فلا يصيبهم هذا، أفتراهم أخشع لله من أبي بكر وعمر؟! فرأيت أن ذلك كذلك، فتركتهم (1) اهـ.
" التعليق:
قال الشاطبي رحمه الله: وهذا يشعر بأن ذلك كله تَعَمُّلٌ وتكلف لا يرضى به أهل الدين. (2)
موقفه من الخوارج:
قال ابن كثير: وقد كان التف على عبد الله بن الزبير جماعة من الخوارج يدافعون عنه، منهم نافع بن الأزرق، وعبد الله بن أباض وجماعة من رؤوسهم. فلما استقر أمره فى الخلافة قالوا فيما بينهم: إنكم قد أخطأتم، لأنكم قاتلتم مع هذا الرجل ولم تعلموا رأيه في عثمان بن عفان، -وكانوا ينتقصون عثمان- فاجتمعوا إليه فسألوه عن عثمان فأجابهم فيه بما يسوؤهم، وذكر لهم ما كان متصفا به من الإيمان والتصديق، والعدل والإحسان،
_________
(1) حلية الأولياء (3/ 167 - 168) وتلبيس إبليس (ص.311 - 312).
(2) الاعتصام (1/ 353).(1/380)
والسيرة الحسنة، والرجوع إلى الحق إذا تبين له.
فعند ذلك نفروا عنه وفارقوه وقصدوا بلاد العراق وخراسان، فتفرقوا بأبدانهم وأديانهم ومذاهبهم ومسالكهم المختلفة المنتشرة التي لا تنضبط ولا تنحصر، لأنها مفرعة على الجهل وقوة النفوس، والاعتقاد الفاسد، ومع هذا استحوذوا على كثير من البلدان والكور، حتى انتزعت منهم. (1)
موقفه من القدرية:
روى مالك في كتاب القدر: عن زياد بن سعد عن عمرو بن دينار أنه قال: سمعت عبد الله بن الزبير يقول في خطبته: إن الله هو الهادي والفاتن. (2)
عبد الله بن عمر (3) (73 هـ)
عبد الله بن عمر بن الخطاب بن نُفَيْل القرشي العدوي، الإمام القدوة، شيخ الإسلام أبو عبد الرحمن ولد سنة ثلاث من البعثة النبوية أسلم وهو صغير، ثم هاجر مع أبيه لم يحتلم، واستصغر يوم أحد، فأول غزواته الخندق، وهو ممن بايع تحت الشجرة قال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} (4) وأمه زينب بنت مظعون أم
_________
(1) البداية والنهاية (8/ 243).
(2) الموطأ) 2/ 900) وأصول الاعتقاد (4/ 733/1201) والإبانة (2/ 9/171/ 1659).
(3) الإصابة (4/ 181 - 188) والاستيعاب (3/ 950 - 953) وطبقات ابن سعد (4/ 142 - 188) والحلية (1/ 292 - 314) والبداية (9/ 4 - 5) ووفيات الأعيان (3/ 28 - 31) والسير (3/ 203 - 239) والعقد الثمين (5/ 215 - 217) والمستدرك (3/ 556 - 561) وتاريخ بغداد (1/ 171 - 173) والوافي (17/ 362 - 364).
(4) الفتح الآية (18).(1/381)
أم المؤمنين حفصة. روى علما كثيرا نافعا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، بلغت مروياته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثين وستمائة وألفي حديث، وروى عن جمع من الصحابة، وروى عنه خلق كثير. وفي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل، قال: فكان بعد لا ينام من الليل إلا قليلا" (1). وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت أحدا ألزم للأمر الأول من ابن عمر. وكان رضي الله عنه شديد الاتباع للنبي - صلى الله عليه وسلم -. وكان كثير الإنفاق في سبيل الله تعالى. وكان ممن اعتزل الفتنة، وقال: كففت يدي فلم أندم، والمقاتل على الحق أفضل. وقال مالك: كان إمام الناس عندنا بعد زيد بن ثابت، عبد الله بن عمر مكث ستين سنة يفتي الناس. وقال ابن عمر رضي الله عنه: ما آسى على شيء إلا أني لم أقاتل الفئة الباغية. قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: مات ابن عمر وهو في الفضل مثل أبيه. مات رضي الله عنه سنة ثلاث وسبعين.
موقفه من المبتدعة:
- روى ابن أبي شيبة عن ابن عمر قال: الأذان الأول يوم الجمعة بدعة. (2)
" التعليق:
قال الحافظ: .. والذي يظهر أن الناس أخذوا بفعل عثمان في جميع البلاد إذ ذاك لكونه خليفة مطاع الأمر، لكن ذكر الفاكهاني أن أول من أحدث الأذان الأول بمكة الحجاج، وبالبصرة زياد، وبلغني أن أهل المغرب الأدنى الآن
_________
(1) أحمد (2/ 146) والبخاري (3/ 7/1122) ومسلم (4/ 1927 - 1928/ 2479) وابن ماجه (2/ 1291/3919).
(2) ابن أبي شيبة في مصنفه (1/ 470/5437).(1/382)
لا تأذين عندهم سوى مرة، وروى ابن أبي شيبة من طريق ابن عمر قال: "الأذان الأول يوم الجمعة بدعة" فيحتمل أن يكون قال ذلك على سبيل الإنكار، ويحتمل أنه يريد أنه لم يكن في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكل ما لم يكن في زمنه يسمى بدعة ... وتبين بما مضى أن عثمان أحدثه لإعلام الناس بدخول وقت الصلاة، قياسا على بقية الصلوات فألحق الجمعة بها وأبقى خصوصيتها بالأذان بين يدي الخطيب، وفيه استنباط معنى من الأصل لا يبطله، وأما ما أحدث الناس قبل وقت الجمعة من الدعاء إليها بالذكر والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو في بعض البلاد دون بعض، واتباع السلف الصالح أولى. (1)
- وفي أصول الاعتقاد: عن سالم أن ابن عمر قال: ما فرحت بشيء في الإسلام أشد فرحا بأن قلبي لم يدخله شيء من هذه الأهواء. (2)
" التعليق:
هنيئا لك يا صاحب رسول الله بهذه الراحة، أما نحن فقد أحاطت بنا البدع من كل جانب ومرضت قلوبنا بها والله المستعان.
- وفي الإبانة: عن نافع عن ابن عمر قال: كل بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنة. (3)
- وروى مسلم عن سالم بن عبد الله، أن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنَّكم إليها".
_________
(1) فتح الباري (2/ 501).
(2) أصول الاعتقاد (1/ 147/227) وذم الكلام (ص.188) والحجة للأصبهاني (1/ 304).
(3) الإبانة (1/ 2/339/ 205) وأصول الاعتقاد (1/ 104/126) ومحمد بن نصر في السنة (ص.29). وانظر الباعث على إنكار البدع والحوادث (ص.75) وطبقات الحنابلة (1/ 69).(1/383)
قال: فقال بلال بن عبد الله: والله، لنمنعهن. قال: فأقبل عليه عبد الله فسبه سبا سيئا، ما سمعته سبه مثله قط. وقال: أخبرك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتقول: والله، لنمنعهن. (1)
- وفي ذم الكلام: عن محمد بن عون الخراساني قال: سألت نافعا مولى ابن عمر عن صلاة المسافر فقال: قال ابن عمر رضي الله عنه: صلاة المسافر ركعتان، من خالف السنة كفر. (2)
" التعليق:
قال أبو عمر: الكفر ههنا كفر النعمة وليس بكفر ينقل عن الملة، كأنه قال: كفر لنعمة التأسي التي أنعم الله على عباده بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، ففيه الأسوة الحسنة في قبول رخصته، كما في امتثال عزيمته - صلى الله عليه وسلم -. (3)
- وفي ذم الكلام: عن جابر بن زيد أن ابن عمر لقيه في الطواف، فقال له: يا أبا الشعثاء، إنك من فقهاء البصرة، فلا تفت إلا بقرآن ناطق أو سنة ماضية، فإنك إن فعلت غير ذلك هلكت وأهلكت. (4)
- وروى مالك عن حميد بن قيس المكي عن مجاهد أنه قال: كنت مع عبد الله بن عمر فجاءه صائغ فقال: يا أبا عبد الرحمن، إني أصوغ الذهب ثم
_________
(1) مسلم (1/ 326 - 327/ 442 [135]) وابن ماجة (1/ 16) وسنن الدارمي (1/ 117 - 118) وجامع بيان العلم وفضله (2/ 1209) وذم الكلام (ص.92).
(2) ذم الكلام (2/ 317 - 318/ 420) وجامع بيان العلم وفضله (2/ 1207) والحلية لأبي نعيم (7/ 185 - 186) والسنن الكبرى للبيهقي (3/ 140) والباعث لأبي شامة (ص.225).
(3) فتح البر (5/ 424).
(4) الهروي في ذم الكلام (2/ 217/282) والدارمي (1/ 59) والخطيب في الفقيه والمتفقه (1/ 457 - 458).(1/384)
أبيع الشيء من ذلك بأكثر من وزنه، فأستفضل في ذلك قدر عمل يدي، فنهاه عبد الله بن عمر عن ذلك. فجعل الصائغ يردد عليه المسألة وعبد الله ينهاه عن ذلك حتى انتهى إلى باب المسجد أو إلى دابة يريد أن يركبها فقال عبد الله بن عمر: الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما هذا عهد نبينا إلينا وعهدنا إليكم. (1)
- وروى مالك عن ابن شهاب عن رجل من آل خالد بن أسيد أنه سأل عبد الله بن عمر، فقال: يا أبا عبد الرحمن، إنا نجد صلاة الخوف وصلاة الحضر في القرآن، ولا نجد صلاة السفر؟ فقال ابن عمر: يا ابن أخي، إن الله عز وجل بعث إلينا محمدا - صلى الله عليه وسلم - ولا نعلم شيئا، فإنما نفعل كما رأيناه يفعل. (2)
- وروى عن نافع أن عبدا لعبد الله بن عمر سرق وهو آبق، فأرسل به عبد الله بن عمر إلى سعيد بن العاص، وهو أمير المدينة، ليقطع يده، فأبى سعيد أن يقطع يده، وقال: لا تقطع يد الآبق السارق إذا سرق، فقال له عبد الله بن عمر: في أي كتاب الله وجدت هذا؟ ثم أمر به عبد الله بن عمر، فقطعت يده. (3)
- عن ابن عمر قال: إنما مثلنا في هذه الفتنة كمثل قوم يسيرون على جادة يعرفونها، فبينا هم كذلك، إذ غشيتهم سحابة وظلمة، فأخذ بعضهم يمينا وشمالا، فأخطأ الطريق، وأقمنا حيث أدركنا ذلك، حتى جلا الله ذلك
_________
(1) الموطأ (2/ 633) ومن طريقه: النسائي (7/ 320/4582) مختصرا والشافعي في الرسالة (ص.277) وقال أحمد شاكر في تعليقه: "هذا حديث صحيح جدا".
(2) الموطأ (1/ 145 - 146/ 7) والنسائي (3/ 117/1433) وابن ماجه (1/ 339/1066).
(3) الموطأ (2/ 833/26).(1/385)
عنا، فأبصرنا طريقنا الأول، فعرفناه، فأخذنا فيه. إنما هؤلاء فتيان قريش يقتتلون على هذا السلطان وعلى هذه الدنيا، ما أبالي أن لا يكون لي ما يقتل عليه بعضهم بعضا بنعلي هاتين الجرداوين. (1)
- وجاء في أصول الاعتقاد: عن مجاهد قال: قيل لابن عمر: إن نجدة يقول: كذا وكذا. فجعل لا يسمع منه كراهية أن يقع في قلبه منه شيء. (2)
- وفي الإبانة: عن غيلان بن جرير قال: جعل رجل يقول لابن عمر: أرأيت أرأيت، فقال ابن عمر: اجعل أرأيت عند الثريا. (3)
- عن نافع أن ابن عمر كان يكري مزارعه على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي إمارة أبي بكر وعثمان، وصدرا من خلافة معاوية، حتى بلغه في آخر خلافة معاوية، أن رافع بن خديج يحدث فيها بنهي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فدخل عليه وأنا معه. فسأله فقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن كراء المزارع، فتركها ابن عمر بعد. وكان إذا سئل عنها بعد، قال: زعم رافع بن خديج أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عنها. (4)
- وفي سنن الترمذي: عن ابن شهاب أن سالم بن عبد الله حدثه أنه سمع رجلا من أهل الشام، وهو يسأل عبد الله بن عمر عن التمتع بالعمرة إلى الحج. فقال عبد الله بن عمر: هي حلال. فقال الشامي: إن أباك قد نهى
_________
(1) السير (3/ 237).
(2) أصول الاعتقاد (1/ 137 - 138/ 199) وذم الكلام (ص.187).
(3) الإبانة (2/ 3/517/ 606) وذم الكلام (2/ 223 - 224/ 290).
(4) أحمد (4/ 140) والبخاري (5/ 28/2343 - 2344 - 2345) ومسلم (3/ 1180/1547 [109]) واللفظ له، والنسائي (7/ 57/3920) كلهم عن أيوب عن نافع به.(1/386)
عنها. فقال عبد الله بن عمر: أرأيت إن كان أبي نهى عنها؛ وصنعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أأمر أبي نتبع أم أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟! فقال الرجل: بل أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال: لقد صنعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (1)
- وروى ابن ماجه في المقدمة: عن أبي جعفر قال: كان ابن عمر إذا سمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثا لم يعده ولم يقصر دونه. (2)
- جاء في كتاب الحوادث والبدع: وروى أستاذنا القاضي أبو الوليد في 'المنتقى' أن ابن عمر حضر جنازة، فقال: لتسرعن بها وإلا رجعت.
" التعليق:
قال الطرطوشي: انظروا -رحمكم الله- لما ترك الإسراع -وهو سنة-، هم ابن عمر بالانصراف، ولم ير أن قراطين من الأجر بقيا بترك سنة من سنن النبي - صلى الله عليه وسلم -. (3)
- وقال مجاهد: كنت مع ابن عمر، فثوب رجل في الظهر أو العصر، فقال: اخرج بنا، فإن هذه بدعة. وفي رواية: اخرج بنا من عند هذا المبتدع، ولم يصل فيه. (4)
- وفي سنن الدارمي: عن ابن عمر أنه جاءه رجل، فقال: إن فلانا يقرأ
_________
(1) الترمذي (3/ 185 - 186/ 824) وقال: "حديث حسن صحيح" كما في تحفة الأحوذي (3/ 470) وأحمد (2/ 95) بلفظ أطول، وقد تقدمت قصة علي مع عثمان رضي الله عنهما في التمتع فلتنظر.
(2) مقدمة ابن ماجة (1/ 4/4).
(3) الحوادث والبدع (ص.144).
(4) أبو داود (1/ 367/538) وذكره الترمذي بعد حديث (198) وأورده الطرطوشي في الحوادث والبدع (ص.149) والشاطبي في الاعتصام (2/ 556).(1/387)
عليك السلام، قال: بلغني أنه قد أحدث. فإن كان أحدث فلا تقرأ عليه السلام. (1)
موقفه من المشركين:
- عن ابن عمر أنه مر به راهب، فقيل له: هذا يسب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال ابن عمر: لو سمعته لقتلته، إنا لم نعطهم الذمة على أن يسبوا نبينا - صلى الله عليه وسلم -. (2)
- عن سعيد بن جبير قال: خرج علينا عبد الله بن عمر فرجونا أن يحدثنا حديثا حسنا، قال فبادرنا إليه رجل فقال: يا أبا عبد الرحمن حدثنا عن القتال في الفتنة والله يقول: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} (3). فقال: هل تدري ما الفتنة ثكلتك أمك؟ إنما كان محمد - صلى الله عليه وسلم - يقاتل المشركين، وكان الدخول في دينهم فتنة، وليس كقتالكم على الملك. (4)
- وخرج ابن وهب عن عبد الله بن عمر، قال: من كان يزعم أن مع الله قاضيا أو رازقا، أو يملك لنفسه ضرا أو نفعا، أو موتا أو حياة أو نشورا، لقي الله فأدحض حجته، وأخرس لسانه، وجعل صلاته وصيامه هباء منثورا، وقطع به الأسباب، وكبه في النار على وجهه. (5)
_________
(1) سنن الدارمي (1/ 108) وأحمد (2/ 136 - 137) واللالكائي (4/ 701/1135) وهو في شرح السنة للبغوي (1/ 151).
(2) الصارم (210).
(3) البقرة الآية (193).
(4) البخاري (7095).
(5) السنة (148) وأصول الاعتقاد (4/ 772 - 773/ 1292) والإبانة (2/ 9/166 - 167/ 1643) وانظر الاعتصام (1/ 143).(1/388)
- عن إسماعيل بن عبد الرحمن بن ذؤيب قال: دخلت مع ابن عمر مسجدا بالجحفة، فنظر إلى شرافات، فخرج إلى موضع فصلى فيه، ثم قال لصاحب المسجد: إني رأيت في مسجدك هذا -يعني الشرافات- شبهتها بأنصاب الجاهلية، فمر أن تكسر. (1)
موقفه من الرافضة:
- عن نافع أو غيره، أن رجلا قال لابن عمر: يا خير الناس، أو ابن خير الناس. فقال: ما أنا بخير الناس، ولا ابن خير الناس، ولكني عبد من عباد الله، أرجو الله، وأخافه، والله لن تزالوا بالرجل حتى تهلكوه. (2)
- وعن سالم بن عبد الله بن عمر قال: قال عبد الله بن عمر: جاءني رجل في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه فكلمني بكلام طويل، يريد في كلامه بأن أعيب على عثمان، وهو امرؤ في لسانه ثقل لا يكاد يقضي كلامه في سريع، فلما قضى كلامه، قلت: قد كنا نقول -ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حي-: أفضل أمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعده أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان؛ وأنا والله ما نعلم عثمان قتل نفسا بغير حق، ولا جاء من الكبائر شيئا، ولكن إنما هو هذا المال، فإن أعطاكموه رضيتم، وإن أعطى أولي قرابته سخطتم، إنما تريدون أن تكونوا كفارس والروم لا يتركون لهم أميرا إلا قتلوه، قال: ففاضت عيناه بأربع من الدمع ثم قال: اللهم لا نريد ذلك. (3)
_________
(1) الاقتضاء (1/ 344).
(2) أخرجه أبو نعيم في الحلية (1/ 307) من طريق عبد الرزاق عن معمر، وهو في السير (3/ 236).
(3) الشريعة (3/ 161 - 162/ 1510).(1/389)
- وعن عثمان بن موهب قال: جاء رجل حج البيت فرأى قوما جلوسا فقال: من هؤلاء القعود؟ قال: هؤلاء قريش. قال: من الشيخ؟ قالوا: ابن عمر. فأتاه فقال: إني سائلك عن شيء أتحدثني؟ قال: أنشدك بحرمة هذا البيت، أتعلم أن عثمان بن عفان فر يوم أحد؟ قال: نعم. قال: فتعلمه تغيب عن بدر فلم يشهدها؟ قال: نعم. قال: فتعلم أنه تخلف عن بيعة الرضوان فلم يشهدها؟ قال: نعم. قال: فكبر. قال ابن عمر: تعال لأخبرك ولأبين لك عما سألتني عنه: أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه. وأما تغيبه عن بدر فإنه كان تحته بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكانت مريضة، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن لك أجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه. وأما تغيبه عن بيعة الرضوان فإنه لو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان بن عفان لبعثه مكانه، فبعث عثمان، وكانت بيعة الرضوان بعدما ذهب عثمان إلى مكة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده اليمنى: هذه يد عثمان، فضرب بها على يده فقال هذه لعثمان. اذهب بهذا الآن معك. (1)
- وعن ابن أبي نُعْم قال: كنت جالسا عند ابن عمر، فجاءه رجل يسأل عن دم البعوض؟ فقال له ابن عمر: ممن أنت؟ قال: أنا من أهل العراق، فقال: انظروا إلى هذا، يسألني عن دم البعوض، وقد قتلوا ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: هما ريحانتيّ من الدنيا!. (2)
- وعن نافع عن ابن عمر قال: ما رأيت أحدا بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان
_________
(1) البخاري (7/ 461/4066).
(2) أخرجه بذكر القصة أحمد (2/ 114) واللفظ له. والبخاري (7/ 119/3753) والترمذي (5/ 615/3770) وقال: "هذا حديث صحيح". والنسائي في الكبرى (5/ 150/8530).(1/390)
أسود من معاوية. قال: قلت هو كان أسود من أبي بكر؟ قال: هو والله أخير منه، وهو والله كان أسود من أبي بكر. قال: قلت فهو كان أسود من عمر؟ قال: عمر والله كان أخير منه، وهو والله أسود من عمر. قال: قلت هو كان أسود من عثمان؟ قال: والله إن كان عثمان لسيدا وهو كان أسود منه. قال الدوري: قال بعض أصحابنا قال أحمد بن حنبل: معنى أسود أي أسخى. (1)
- وعن نسير بن ذعلوق قال: سمعت ابن عمر يقول: لا تسبوا أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإن مقام أحدهم خير من عمل أحدكم عمره كله. (2)
- وعن أبي مجلز قال: قلت لابن عمر: إن الله عز وجل قد أوسع، والبر أفضل من التمر، قال: إن أصحابي سلكوا طريقا فأنا أحب أن أسلكه. (3)
موقفه من الصوفية:
- روى ابن الجوزي في تلبيس إبليس بسنده إلى أبي عيسى أو عيسى قال: ذهبت إلى عبد الله بن عمر فقال أبو السوار: يا أبا عبد الرحمن، إن قوما عندنا إذا قرئ عليهم القرآن يركض أحدهم من خشية الله، قال: كذبت. قال: بلى ورب هذه البنية. قال: ويحك، إن كنت صادقا فإن الشيطان ليدخل جوف أحدهم. والله ما هكذا كان أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -. (4)
- خرج أبو عبيد في أحاديث أبي حازم قال: مر ابن عمر برجل من أهل العراق ساقط والناس حوله، فقال ما هذا؟ فقالوا إذا قرئ عليه القرآن أو
_________
(1) السنة للخلال (1/ 441 - 442).
(2) أصول الاعتقاد (7/ 1323/2350) والشريعة (3/ 549/2054).
(3) الإبانة (1/ 1/262/ 99).
(4) تلبيس إبليس (ص.314).(1/391)
سمع الله يذكر، خر من خشية الله. قال ابن عمر: والله إنا لنخشى الله ولا نسقط (1). قال الشاطبي: وهذا إنكار. (2)
- وقال ابن عمر: ويح الآخر، أليس الفقه في الدين خيرا من كثير العمل؟! إن قوما لزموا بيوتهم فصاموا وصلوا، حتى يبست جلودهم على أعظمهم، لم يزدادوا بذلك من الله إلا بعدا. (3)
موقفه من الجهمية:
- عن ابن عمر قال: إن أدنى أهل الجنة منزلة من ينظر إلى ملكه ألفي عام، يرى أدناه كما يرى أقصاه، وإن أفضلهم منزلة لمن ينظر إلى وجه الله في كل يوم مرتين. (4)
- وعنه قال: خلق الله أربعة أشياء بيده: العرش وآدم والقلم وعدن وقال لسائر خلقه: كن فكان. (5)
- وفي الصحيح عن آدم بن علي قال: سمعت ابن عمر يقول: إن الناس يصيرون يوم القيامة جُثا كل أمة تتبع نبيها، يقولون يا فلان: اشفع، حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذلك، يوم يبعثه الله المقام المحمود. (6)
_________
(1) أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن (2/ 15/372) وابن الجوزي في التلبيس (ص.310).
(2) الاعتصام (1/ 352).
(3) الفقيه والمتفقه (1/ 108).
(4) أصول الاعتقاد (3/ 553/866).
(5) أصول الاعتقاد (3/ 477/730) والشريعة (2/ 130/801).
(6) أخرجه البخاري (8/ 509/4718).(1/392)
- وعنه قال: القرآن كلام الله غير مخلوق. (1)
موقفه من الخوارج:
- عن عمرو بن الحارث أن بكير بن الأشج حدثه أنه سأل نافعا: كيف كان رأي ابن عمر في الحرورية؟ قال: يراهم شرار الخلق، قال: إنهم انطلقوا إلى آيات في الكفار فجعلوها على المؤمنين. (2)
- عن أبي نعامة الأسدي عن خال له قال: سمعت ابن عمر يقول: إن نجدة وأصحابه عرضوا لعير لنا، ولو كنت فيهم لجاهدتهم. (3)
- عن عبد الله بن عمر عن نافع قال: لما سمع ابن عمر بنجدة قد أقبل وأنه يريد المدينة، وأنه يسبي النساء ويقتل الولدان، قال: إذا لا ندعه وذلك، وهم بقتاله وحرض الناس، فقيل له: إن الناس لا يقاتلون معك، ونخاف أن تترك وحدك، فتركه. (4)
- عن نافع قال: قيل لابن عمر: إن نجدة يقول: إنك كافر -وأراد قتل مولاك إذ لم يقل إنك كافر، فقال عبد الله: كذب والله ما كفرت منذ أسلمت. قال نافع: وكان ابن عمر حين خرج نجدة يرى قتاله. (5)
- وعن سوار بن شبيب قال: جاء رجل إلى ابن عمر فقال: إن ههنا
_________
(1) أصول الاعتقاد (2/ 257/377).
(2) علقه البخاري (12/ 350)، ووصله ابن عبد البر في التمهيد (فتح البر 1/ 469)، قال ابن حجر: "وصله الطبري في مسند علي من تهذيب الآثار ... وسنده صحيح".
(3) السنة لعبد الله (279).
(4) مصنف ابن أبي شيبة (7/ 553/37887).
(5) ابن عبد البر (فتح البر 1/ 460).(1/393)
قوما يشهدون علي بالكفر، فقال: ألا تقول لا إله إلا الله فتكذبهم. (1)
موقفه من المرجئة:
- جاء في أصول الاعتقاد: عن قيس أبي محمد قال: إني لجالس عند ابن عمر إذ جاءه رجل من أهل الشام، قال: يا أبا عبد الرحمن إن لنا كروما وأعنابا وإنا قد نبيع منها قال: أي ذاك تريد، أما العنب فحلال، وأما الزبيب فحلال وأما الخمر فحرام. قال: فرفع صوته فقال: اللهم إني أشهدك وأشهد من حضر أني لا آمن أن يعصرها، ولا أن يشربها، ولا أن يسقيها، ولا أن يبيعها، ولا أن يهديها، فوالذي نفس ابن عمر بيده لا يشربها عبد إلا نقص الإيمان من قلبه حتى لا يبقى منه قليل ولا كثير، ولا يكون في بيت إلا كان رجسا مرتجسا منه. (2)
- وروى ابن أبي شيبة بسنده: عن سعيد بن جبير قال: قال ابن عمر: (إن الحياء والإيمان قرنا جميعا، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر). (3)
- وفيه عن نافع عن ابن عمر أنه كان يقول: اللهم لا تنزع مني الإيمان كما أعطيتنيه. (4)
موقفه من القدرية:
- روى اللالكائي بسنده: عن ابن عمر قال: لو برزت لي القدرية في صعيد واحد فلم يرجعوا لضربت أعناقهم. (5)
_________
(1) ابن أبي شيبة (6/ 166/30381).
(2) أصول الاعتقاد (5/ 1020 - 1021/ 1722).
(3) ابن أبي شيبة في الإيمان (21) وفي المصنف (6/ 165/30372).
(4) ابن أبي شيبة في المصنف (6/ 160/30327) وفي الإيمان له (15).
(5) أصول الاعتقاد (4/ 783/1311).(1/394)
- وفيه: قال ابن عمر: القدرية مجوس هذه الأمة، فإن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم. (1)
- وفي السنة لعبد الله: قال ابن عمر: من زعم أن مع الله باريا أو قاضيا أو رازقا، أو يملك لنفسه ضرا أو نفعا، أو موتا أو حياة أو نشورا، بعثه الله يوم القيامة فأخرس لسانه وأعمى بصره وجعل عمله هباء منثورا، وقطع به الأسباب، وكبه على وجهه في النار. (2)
- وروى مسلم بسنده عن يحيى بن يعمر قال: كان أول من قال في القدر بالبصرة: معبد الجهني، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين، فقلنا لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر، فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب داخلا المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي، أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي، فقلت أبا عبد الرحمن، إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن ويتقفرون العلم. وذكر من شأنهم، وأنهم يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف، قال: فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر. (3)
- وجاء في الإبانة: عن عبد الله بن عبد الرحمن قال: قال رجل لعبد الله
_________
(1) أصول الاعتقاد (4/ 711 - 712/ 1161).
(2) السنة (148) وأصول الاعتقاد (4/ 772 - 773/ 1292) والإبانة (2/ 9/166 - 167/ 1643) وانظر الاعتصام (1/ 143).
(3) مسلم (8).(1/395)
ابن عمر إن ناسا من أهل العراق يكذبون بالقدر، ويزعمون أن الله عز وجل لا يقدر الشر؛ قال: فبلغهم أن عبد الله بن عمر منهم بريء وأنهم منه براء، والله؛ لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا ثم أنفقه في سبيل الله؛ ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر خيره وشره. (1)
- وفيها: عن أبي حازم قال: ذكر عند ابن عمر قوم يكذبون بالقدر؛ فقال: لا تجالسوهم، ولا تسلموا عليهم، ولا تعودوهم، ولا تشهدوا جنائزهم، وأخبروهم أني منهم بريء، وأنهم مني براء، وهم مجوس هذه الأمة. (2)
- وفيها: عن يحيى بن يعمر قال: قلت لابن عمر: إن عندنا رجالا بالعراق يقولون: إن شاؤوا عملوا، وإن شاؤوا لم يعملوا، وإن شاؤوا دخلوا الجنة، وإن شاؤوا دخلوا النار، وإن شاؤوا وإن شاؤوا؛ فقال: إني منهم بريء، وإنهم مني براء. (3)
- وفي السنة لعبد الله: عن يحيى بن يعمر قال قلت لابن عمر إن ناسا عندنا يقولون: الخير والشر بقدر وناس عندنا يقولون الخير بقدر والشر ليس بقدر فقال ابن عمر إذا رجعت إليهم فقل لهم: ان ابن عمر يقول إنه منكم بريء وأنتم منه برآء. (4)
_________
(1) الإبانة (2/ 9/56/ 1452).
(2) الإبانة (2/ 9/152 - 153/ 1601).
(3) الإبانة (2/ 9/153/ 1602) والشريعة (1/ 256/231).
(4) السنة لعبد الله (141).(1/396)
- وعن ابن عمر أنه كان يقول: اللهم إني أعوذ بك من قدر السوء. (1)
- وعن زياد بن عمر القرشي عن أبيه؛ قال: كنت جالسا عند ابن عمر؛ فسئل عن القدر، فقال: شيء أراد الله أن لا يطلعكم عليه؛ فلا تريدوا من الله ما أبى عليكم. (2)
- وفي أصول الاعتقاد: عن محمد بن كعب القرظي قال: ذكرت القدرية عند عبد الله بن عمر قال: إذا كان يوم القيامة جمع الناس في صعيد واحد فينادي مناد يسمع الأولين والآخرين: أين خصماء الله؟ فيقوم القدرية. (3)
- وفيه: عن نافع قال: بينما نحن عند عبد الله بن عمر جاءه إنسان فقال: إن فلانا يقرأ عليك السلام لرجل من أهل الشام. فقال ابن عمر: إنه قد بلغني أنه قد أحدث حدثا، فإن كان كذلك فلا تقرأن عليه مني السلام. سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "سيكون في أمتي مسخ وخسف وهو في الزنديقية والقدرية" (4). (5)
- وفي السنة لعبد الله: كان لابن عمر صديق من أهل الشام يكاتبه فكتب إليه مرة عبد الله بن عمر: بلغني أنك تكلمت في شيء من القدر، فإياك أن تكتب إلي فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "سيكون في أمتي أقوام
_________
(1) الإبانة (2/ 9/156/ 1610).
(2) الإبانة (2/ 11/313/ 1992) والشريعة (1/ 449/573).
(3) أصول الاعتقاد (4/ 699/1132).
(4) أحمد (2/ 108 و136 - 137) وأبو داود (5/ 20 - 21/ 4613) بنحوه. والترمذي (4/ 397/2152) وقال: "هذا حديث حسن صحيح غريب". وابن ماجه (2/ 1350/4061) والحاكم (1/ 84) وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم فقد احتج بأبي صخر حميد بن زياد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي.
(5) أصول الاعتقاد (4/ 701/1135) والإبانة (2/ 9/154/ 1607).(1/397)
يكذبون بالقدر" (1).اهـ (2)
- وفيه: عن نافع قال: جاء رجل إلى ابن عمر فقال: يا أبا عبد الرحمن الزنا بقدر؟ قال: نعم. قال: قدره الله علي ثم يعذبني؟ قال: نعم يا ابن اللخنا لو كان عندي إنسان لأمرته أن يجأ بأنفك. (3)
عبد الله بن عُتْبَة بن مَسْعُود (4) (73 هـ)
عبد الله بن عتبة بن مسعود الهُذَلِيّ، ابن أخي عبد الله بن مسعود، في صحبته خلاف، روى عن عمر بن الخطاب وأبي هريرة وأبي مسعود الأنصاري. وروى عنه محمد بن سيرين وأبو إسحاق السبيعي، وابناه عبد الله وعون. قال ابن سعد: كان ثقة، رفيعا، كثير الحديث والفتيا، فقيها.
توفي سنة ثلاث وسبعين.
موقفه من المبتدعة:
جاء في طبقات الحنابلة: عنه قال: إنك لن تخطئ الطريق ما دمت على الأثر. (5)
_________
(1) أحمد (2/ 90) وأبو داود (5/ 20 - 21/ 4613) وانظر الحديث الذي قبله.
(2) السنة لعبد الله (140).
(3) أصول الاعتقاد (4/ 773/1293)
(4) تهذيب الكمال (15/ 269 - 271) وطبقات ابن سعد (6/ 120) والتاريخ الكبير (5/ 485) والاستيعاب (3/ 945 - 946) والجرح والتعديل (5/ 569) وأسد الغابة (3/ 202 - 203) وشذرات الذهب (1/ 82).
(5) طبقات الحنابلة (1/ 71).(1/398)
موقفه من المشركين:
عن محمد، قال: قال عبد الله بن عتبة: ليتقين أحدكم أن يكون يهوديا أو نصرانيا وهو لا يشعر. قال محمد: فظننته أخذ ذلك من هذه الآية: {وَمَنْ يتولهم مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} (1).اهـ (2)
عمرو بن مَيْمُون (3) (74 هـ)
عمرو بن ميمون الأَوْدِي المَدْحِجي الكوفيّ، أبو عبد الله، أدرك الجاهلية وأسلم في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - على يد معاذ وصحبه، ثم قدم المدينة وصحب ابن مسعود وحدث عنهما وعن عمر وأبي ذر، وسعد وأبي هريرة وعائشة وغيرهم. روى عنه سعيد بن جبير والشعبي وحصين بن عبد الرحمن وآخرون. روى البخاري في صحيحه عن عمرو بن ميمون: قال: "رأيت في الجاهلية قردة اجتمع عليها قردة قد زنت فرجموها، فرجمتها معهم" (4).
مات سنة أربع وسبعين.
موقفه من المبتدعة:
جاء في الإبانة عنه قال: إياكم وهذه الزعانف الذين رغبوا عن السنة
_________
(1) المائدة الآية (51).
(2) الإبانة (2/ 7/858/ 1165).
(3) الجرح والتعديل (6/ 258/1422) والإصابة (5/ 154 - 155) والاستيعاب (3/ 1205 - 1206) وتهذيب الكمال (22/ 261 - 267) والسير (4/ 158 - 161) وأسد الغابة (4/ 263/4033).
(4) البخاري (7/ 197/3849).(1/399)
وخالفوا الجماعة. (1)
" الغريب:
الزعنفة: رديء كل شيء ورذاله ... والقطعة من القبيلة تشذ وتنفرد، وكل جماعة ليس أصلهم واحدا، جمع زعانف. (2)
أبو عبد الرحمن السُّلمي (3) (74 هـ)
عبد الله بن حبيب بن رُبَيِّعَة الكوفي، أبو عبد الرحمن السُّلَمِي القارئ، ولأبيه صحبة. روى عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي ابن أبي طالب وأبي هريرة وطائفة. وروى عنه سعيد بن جبير، وعطاء بن السائب وإبراهيم النخعي وأبو إسحاق السبيعي، وعدد كثير. قال أبو إسحاق السبيعي: أقرأ أبو عبد الرحمن السلمي القرآن في المسجد أربعين سنة. وروى البخاري في صحيحه عن عثمان بن عفان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" قال: وأقرأ أبو عبد الرحمن في إمرة عثمان حتى كان الحجاج. قال: وذاك الذي أقعدني مقعدي هذا. (4) توفي رحمه الله في إمرة بشر ابن مروان في خلافة عبد الملك بن مروان سنة أربع وسبعين.
_________
(1) الإبانة (2/ 3/448/ 408).
(2) المعجم الوسيط (394).
(3) طبقات ابن سعد (6/ 172 - 175) والحلية (4/ 191 - 195) وتاريخ بغداد (9/ 430 - 431) وتهذيب الكمال (14/ 408) وسير أعلام النبلاء (4/ 267 - 272) وتاريخ الإسلام (حوادث 61 - 80/ 556 - 558) والبداية والنهاية (9/ 7).
(4) البخاري (9/ 91/5027).(1/400)
موقفه من الجهمية:
قال أبو عبد الرحمن: وفضل كلام الله على كلام خلقه كفضل الرب على خلقه، وذلك لأنه منه. (1)
موقفه من الخوارج:
جاء في مقدمة مسلم: حدثنا أبو كامل الجحدري. حدثنا حماد، وهو ابن زيد قال: حدثنا عاصم، قال: كنا نأتي أبا عبد الرحمن السلمي ونحن غلمة أيفاع. فكان يقول لنا: لا تجالسوا القصاص غير أبي الأحوص، وإياكم وشقيقا. قال وكان شقيق هذا يرى رأي الخوارج، وليس بأبي وائل. (2)
مَالِك بن أبِي عَامِر الأَصْبَحِي (3) (74 هـ)
مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث الأصبحي أبو أنس جد الإمام مالك ابن أنس. كان عالما فاضلا، روى عن ربيعة بن محرز كاتب عمر، وطلحة بن عبد الله وعثمان بن عفان وعمر بن الخطاب وأبي هريرة وغيرهم. وروى عنه ابناه أنس والربيع، وسالم أبو النصر وسليمان بن يسار وآخرون. قال الإمام مالك: كان جدي مالك ممن قرأ في زمن عثمان، وكان يكتب المصاحف. وقال مالك بن أبي عامر شهدت عمر بن الخطاب عند الجمرة
_________
(1) الإبانة (1/ 12/252).
(2) مقدمة مسلم (1/ 20).
(3) تهذيب الكمال (27/ 148 - 150) والبداية والنهاية (9/ 7) وطبقات ابن سعد (5/ 63 - 64) وتهذيب التهذيب (10/ 19) وشذرات الذهب (1/ 82).(1/401)
وأصابه حجر فدماه. ذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من أهل المدينة وقال: فرض له عثمان. سئل الربيع بن مالك: متى هلك أبوك؟ قال: حين اجتمع الناس على عبد الملك بن مروان سنة أربع وسبعين.
موقفه من المبتدعة:
روى ابن وضاح عن مالك بن أنس عن عمه أبي سهيل بن مالك عن أبيه أنه قال: ما أعرف شيئا مما أدركت عليه الناس إلا النداء بالصلاة. (1)
عُبَيْد بن عُمَيْر (2) (74 هـ)
عبيد بن عمير بن قتادة اللَّيْثِي الجُنْدَعي المكي، أبو عاصم الواعظ المفسر، ولد في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، روى عن أبيه وعن عمر بن الخطاب وعلي وأبي ذر وعائشة وغيرهم. وروى عنه ابنه عبد الله وعطاء بن أبي رباح وابن أبي مليكة وعمرو بن دينار وجماعة. وكان من ثقات التابعين وأئمتهم بمكة، وكان يذكر الناس فيحضر ابن عمر مجلسه. فعن ثابت قال: أول من قص عبيد بن عمير على عهد عمر بن الخطاب. عن عطاء قال: دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة فقالت له: خفف فإن الذكر ثقيل -تعني إذا وعظت- عن مجاهد قال: نفخر على التابعين بأربعة وذكر منهم عبيد بن عمير. توفي سنة أربع وسبعين.
_________
(1) ما جاء في البدع (138).
(2) السير (4/ 156 - 157) وتهذيب الكمال (19/ 223 - 225) وطبقات ابن سعد (5/ 463 - 464) والاستيعاب (3/ 1018) وأسد الغابة (3/ 540) والبداية والنهاية (9/ 6 - 7) وتهذيب التهذيب (7/ 71) والإصابة (5/ 60).(1/402)
موقفه من الجهمية:
- جاء في الشريعة: عن عبيد بن عمير، قال: يؤتى بالرجل الطويل العظيم يوم القيامة، فيوضع في الميزان، فلا يزن عند الله جناح بعوضة، وقرأ: {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنًا} (1). اهـ (2)
- وفيها: عن عبيد بن عمير في (العتل) قال: هو القوي الشديد الأكول الشروب، يوضع في الميزان، فلا يزن شعيرة، يدفع الملك من أولئك سبعين ألفا دفعة واحدة في النار. (3)
موقفه من المرجئة:
عن عبيد بن عمير الليثي قال: ليس الإيمان بالتمني، ولكن الإيمان قول يعقل وعمل يعمل. (4)
صَفْوَان بن مُحْرِز (5) (74 هـ)
صفون بن محرز بن زياد المازنيّ البصريّ كان ثقة، وهو تابعي مشهور. له فضل وورع، وكان من عباد أهل البصرة. حدث عن أبي موسى الأشعري وعمران بن حصين وابن عمر. وروى عنه جامع بن شداد وعاصم الأحول
_________
(1) الكهف الآية (105).
(2) الشريعة (2/ 209/958).
(3) الشريعة (2/ 209/959).
(4) السنة لعبد الله (86) والإبانة (2/ 804 - 805/ 1092) والسنة للخلال (4/ 81/1212).
(5) الحلية (2/ 213 - 217) وطبقات ابن سعد (7/ 147 - 148) والسير (4/ 286) وتهذيب التهذيب (4/ 430) والإصابة (3/ 470 - 471).(1/403)
وقتادة وغيرهم. وقيل: كان واعظا قانتا لله، قد اتخذ لنفسه سربا يبكي فيه. مات بعد انقضاء أمر ابن الزبير. وأرخه ابن حبان سنة أربع وسبعين، وهي السنة التي قتل فيها ابن الزبير.
موقفه من المبتدعة:
جاء في الإبانة: عن محمد بن واسع، قال: رأيت صفوان بن محرز المازني، ورأى شبيبة يتجادلون قريبا منه في المسجد الجامع -قال حماد: وأشار بيده محمد بن واسع في ناحية بني سليم- قال: فرأيته قام ينفض ثيابه ويقول: إنما أنتم جرب، إنما أنتم جرب. (1)
موقف السلف من شبيب بن يزيد الخارجي (77 هـ)
جاء في السير: وكان قد خرج صالح بن مسرح العابد التميمي بدارا، وله أصحاب يفقههم ويقص عليهم، ويذم عثمان وعليا كدأب الخوارج، ويقول: تأهبوا لجهاد الظلمة، ولا تجزعوا من القتل في الله، فالقتل أسهل من الموت، والموت لا بد منه. فأتاه كتاب شبيب يقول: إنك شيخ المسلمين، ولن نعدل بك أحدا، وقد استجبت لك، والآجال غادية ورائحة، ولا آمن أن تخترمني المنية ولم أجاهد الظالمين، فيا له غبنا، ويا له فضلا متروكا، جعلنا الله ممن يريد الله بعمله، ثم أقبل هو وأخوه مصاد والمحلل بن وائل، وإبراهيم
_________
(1) الإبانة (2/ 3/513/ 595) والشريعة (1/ 193/134) وانظر الاعتصام (2/ 792).(1/404)
ابن حجر، والفضل بن عامر الذهلي، إلى صالح، فصاروا مائة وعشرة أنفس، ثم شدوا على خيل لمحمد بن مروان، فأخذوها وقويت شوكتهم، فسار لحربهم عدي بن عدي بن عميرة الكندي، فالتقوا فانهزم عدي، وبعد مديدة توفي صالح من جراحات، سنة ست وسبعين، وعهد إلى شبيب فهزم العساكر، وعظم الخطب، وهجم على الكوفة وقتل جماعة أعيان. فندب الحجاج لحربه زائدة بن قدامة الثقفي، فالتقوا فقتل زائدة، ودخلت غزالة جامع الكوفة، وصلت وردها وصعدت المنبر، ووفت نذرها، وهزم شبيب جيوش الحجاج مرات، وقتل عدة من الأشراف، وتزلزل له عبد الملك، وتحير الحجاج في أمره، وقال: أعياني هذا، وجمع له جيشا كثيفا نحو خمسين ألفا. وعرض شبيب جنده فكانوا ألفا، وقال: يا قوم، إن الله نصركم وأنتم مائة، فأنتم اليوم مئون. ثم ثبت معه ست مائة، فحمل في مائتين على الميسرة هزمها، ثم قتل مقدم العساكر عتاب بن ورقاء التميمي، فلما رآه شبيب صريعا توجع له، فقال خارجي له: يا أمير المؤمنين تتوجع لكافر؟ ثم نادى شبيب برفع السيف، ودعا إلى طاعته، فبايعوه ثم هربوا في الليل.
ثم جاء المدد من الشام، فالتقاه الحجاج بنفسه، فجرى مصاف لم يعهد مثله، وثبت الفريقان، وقتل مصاد أخو شبيب، وزوجته غزالة، ودخل الليل وتقهقر شبيب وهو يخفق رأسه، والطلب في أثره، ثم فتر الطلب عنهم، وساروا إلى الأهواز، فبرز متوليها محمد ابن موسى بن طلحة، فبارز شبيبا فقتله شبيب، ومضى إلى كرمان فأقام شهرين ورجع، فالتقاه سفيان بن أبرد الكلبي وحبيب الحكمي على جسر دجيل. فاقتتلوا حتى دخل الليل، فعبر شبيب على الجسر،(1/405)
فقطع به، فغرق وقيل: بل نفر به فرسه، فألقاه في الماء سنة سبع وسبعين وعليه الحديد فقال: {ذلك تقدير العزيز العليم} (1) وألقاه دجيل إلى الساحل ميتا. (2)
جابر بن عبد الله (3) (78 هـ)
جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام، الأنصاري السلمي من بني سلمة، يكنى أبا عبد الله على الأصح. كان من المكثرين الحفاظ للسنن، روى علما كثيرا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعن أبي بكر وعمر وعلي وأبي عبيدة ومعاذ بن جبل والزبير وطائفة. وحدث عنه جماعة منهم ابن المسيب وعطاء ابن أبي رباح والحسن البصري وغيرهم. كان مفتي المدينة في زمانه، وكان من أهل بيعة الرضوان، وكان آخر من شهد ليلة العقبة الثانية موتا. روى مسلم في صحيحه عن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: "غزوت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسع عشرة غزوة، قال جابر: لم أشهد بدرا ولا أحدا، منعني أبي، فلما قتل عبد الله يوم أحد، لم أتخلف عن رسول الله غزوة قط" (4). وفيه أيضا عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من يصعد الثنية، ثنية المُرار، فإنه يحط عنه ما حط عن بني إسرائيل،
_________
(1) يس الآية (38).
(2) السير (4/ 148 - 149) والبداية (9/ 18 - 22) وتاريخ الطبري (3/ 556 وما بعدها).
(3) الإصابة (1/ 434 - 435) والاستيعاب (1/ 219 - 220) والسير (3/ 189 - 194) وتذكرة الحفاظ (1/ 43 - 44) وشذرات الذهب (1/ 84) وتهذيب الأسماء واللغات (1/ 142/100) وأسد الغابة (1/ 492).
(4) أحمد (3/ 329) ومسلم (3/ 1448/1813).(1/406)
قال: فكان أول من صعدها خيلنا، خيل بني الخزرج، ثم تتامّ الناس، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وكلكم مغفور له، إلا صاحب الجمل الأحمر، فأتيناه فقلنا له: تعال يستغفر لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: والله لأن أجد ضالتي أحب إلي من أن يستغفر لي صاحبكم. قال: وكان رجل ينشد ضالة له" (1).
مات سنة ثمان وسبعين، وهو ابن أربع وتسعين سنة، وكان قد ذهب بصره رضي الله عنه.
موقفه من المبتدعة:
- روى الهروي (2) عن جابر قال: كان القرآن ينزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويبينه لنا كما أمره الله. قال الله عز وجل: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (3) وقال: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (4).
- وفي الإبانة (5) عن الأوزاعي قال: حدثني أبو عمار قال: حدثني جار كان لجابر بن عبد الله قال: قدمت من سفر فجاء جابر يسلم علي، فجعلت أحدثه عن افتراق الناس وما أحدثوا، فجعل جابر يبكي. ثم قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الناس دخلوا في دين الله أفواجا وسيخرجون منه
_________
(1) مسلم (4/ 2144 - 2145/ 2780).
(2) ذم الكلام (2/ 170 - 171/ 253).
(3) القيامة الآيتان (18و19).
(4) النحل الآية (44).
(5) (1/ 2/300/ 137).(1/407)
أفواجا" (1).
موقفه من الخوارج:
- روى مسلم في صحيحه: عن يزيد الفقير قال: كنت قد شغفني رأي من رأي الخوارج، فخرجنا في عصابة ذوي عدد نريد أن نحج، ثم نخرج على الناس قال: فمررنا على المدينة، فإذا جابر بن عبد الله يحدث القوم -جالس إلى سارية- عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فإذا هو قد ذكر الجهنميين قال: فقلت له: يا صاحب رسول الله، ما هذا الذي تحدثون والله يقول: {إِنَّكَ مَنْ تدخل النار فقد أخزيته} (2) و {كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها} (3) فما هذا الذي تقولون؟ قال: فقال: أتقرأ القرآن؟ قلت: نعم، قال: فهل سمعت بمقام محمد عليه السلام (يعني الذي يبعثه الله فيه) قلت: نعم، قال: فإنه مقام محمد - صلى الله عليه وسلم - المحمود الذي يخرج الله به من يخرج. قال: ثم نعت وضع الصراط ومر الناس عليه. قال: وأخاف أن لا أكون أحفظ ذاك. قال غير أنه قد زعم أن قوما يخرجون من النار بعد أن يكونوا فيها. قال: يعني فيخرجون كأنهم عيدان السماسم، قال: فيدخلون نهرا من أنهار الجنة فيغتسلون فيه فيخرجون كأنهم القراطيس، فرجعنا. قلنا: ويحكم أترون الشيخ يكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟!
_________
(1) أحمد (3/ 343)، وقال الهيثمي في المجمع (7/ 281): "رواه أحمد وجار جابر لم أعرفه وبقية رجاله رجال الصحيح". وعزاه السيوطي في الدر 6/ 408) لابن مردويه. وله شاهد من حديث أبي هريرة أخرجه الحاكم 4/ 496) وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي.
(2) آل عمران الآية (192).
(3) السجدة الآية (20).(1/408)
فرجعنا، فلا والله ما خرج منا غير رجل واحد. (1)
- وعن سليمان بن قيس اليشكري -وكان من أهل البيت- قال: قلت لجابر بن عبد الله: أفي أهل القبلة طواغيت؟ قال: لا. قلت: أكنتم تدعون أحدا من أهل القبلة مشركا؟ قال: لا. (2)
- وفي رواية عنه قال: قلت لجابر بن عبد الله: أكنتم تعدون الذنب شركا؟ قال: لا، إلا عبادة الأوثان. (3)
- وعن جعفر بن محمد عن أبيه، حدثني جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "شفاعتي يوم القيامة لأهل الكبائر من أمتي" (4) فقلت: ما هذا يا جابر؟ قال: نعم يا محمد، إنه من زادت حسناته على سيئاته يوم القيامة فذلك الذي يدخل الجنة بغير حساب، ومن استوت حسناته وسيئاته فذلك الذي يحاسب يسيرا ثم يدخل الجنة، وإنما شفاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمن أوبق نفسه وأغلق ظهره. (5)
موقفه من المرجئة:
جاء في الإبانة: عن مجاهد بن جبير أبي الحجاج عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: قلت له: ما كان يفرق بين الكفر والإيمان عندكم من
_________
(1) صحيح مسلم (1/ 179/191).
(2) أصول الاعتقاد (6/ 1146/2008)، وبنحوه في أصول السنة لأبي زمنين (220).
(3) أصول الاعتقاد (6/ 1146/2007).
(4) الترمذي (4/ 540/2436) وقال: "هذا حديث حسن غريب". وابن ماجه (2/ 1441/4310) وابن حبان (14/ 386/6467) والحاكم (1/ 69) وقال: "صحيح على شرط مسلم".
(5) أصول الاعتقاد (6/ 1168/2055).(1/409)
الأعمال في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: الصلاة. (1)
موقفه من القدرية:
جاء في أصول الاعتقاد: قال جابر: لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر كله خيره وشره، ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه. (2)
شُرَيْح القاضي (3) (78 هـ)
هو الفقيه أبو أمية، شريح بن الحارث بن قَيْس بن الجَهْم الكِنْدِي الكوفي القاضي. ويقال: إنه من أولاد الفرس الذين كانوا باليمن، يقال: له صحبة ولم يصح، بل هو ممن أسلم في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وانتقل من اليمن زمن الصديق. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلا، وعن زيد بن أسلم وعبد الله بن مسعود، وعلي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب. وروى عنه إبراهيم النخعي وتميم بن سلمة، والشعبي ومجاهد، وابن سيرين وغيرهم. تولى القضاء لعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب ثم عزله علي، ثم ولاه معاوية، فاستمر في القضاء إلى أن مات سنة ثمان وسبعين. قيل أقام على قضاء الكوفة ستين سنة، وقضى بالبصرة سنة.
_________
(1) الإبانة (2/ 672/876).
(2) أصول الاعتقاد (4/ 750 - 751/ 1242).
(3) طبقات ابن سعد (6/ 131) ووفيات الأعيان (2/ 460) والسير (4/ 100 - 106) وأخبار القضاة (2/ 189) والبداية والنهاية (9/ 24 - 28) وتهذيب الكمال (12/ 435 - 445).(1/410)
موقفه من المبتدعة:
- روى الدارمي عن أبي بكر الهذلي عن الشعبي قال: شهدت شريحا، وجاءه رجل من مراد فقال: يا أبا أمية، ما دية الأصابع؟ قال: عشر عشر. قال: يا سبحان الله! أسواء هاتان؟ -جمع بين الخنصر والإبهام- فقال شريح: يا سبحان الله! أسواء أذنك ويدك؟ فإن الأذن يواريها الشعر والكمة والعمامة فيها نصف الدية، وفي اليد نصف الدية، ويحك، إن السنة سبقت قياسكم، فاتبع ولا تبتدع، فإنك لن تضل ما أخذت بالأثر. قال أبو بكر: فقال لي الشعبي: يا هذلي، لو أن أحنفكم قتل وهذا الصبي في مهده أكان ديتهما سواء؟ قلت: نعم قال: فأين القياس. (1)
- وروى ابن عبد البر عن شريح قال: إنما أقتفي الأثر، فما وجدت في الأثر حدثتكم به. (2)
غُضَيْف بن الحارث (3) (80 هـ)
غضيف بن الحارث بن زُنَيْم، أبو أسماء عداده في صغار الصحابة، وله رواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعن عمر وأبي عبيدة، وبلال وغيرهم. روى عنه ابنه عبد الرحمن، وحبيب بن عبيد ومكحول وغيرهم. سكن حمص. عن غضيف
_________
(1) الدارمي (1/ 66) وجامع بيان العلم (2/ 1050).
(2) جامع بيان العلم وفضله (1/ 781) والإبانة (1/ 2/360/ 252) وذكره ابن القيم في إعلام الموقعين (4/ 151).
(3) الإصابة (5/ 323 - 325) وطبقات ابن سعد (7/ 429 - 443) وتهذيب التهذيب (8/ 248 - 250) والسير (3/ 453 - 455) والجرح والتعديل (7/ 54) وتهذيب الكمال (23/ 112 - 116).(1/411)
أنه مر بعمر فقال: نعم الفتى غضيف فلقيت أبا ذر بعد ذلك فقال: يا أخي استغفر لي. قلت: أنت صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنت أحق أن تستغفر لي. قال: إني سمعت عمر يقول: نعم الفتى غضيف، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله ضرب الحق على لسان عمر وقلبه". (1) بقي حتى خلافة عبد الملك بن مروان. توفي في حدود سنة ثمانين.
موقفه من المبتدعة:
روى الإمام أحمد في مسنده: عن غضيف بن الحارث الثمالي قال: بعث إلي عبد الملك بن مروان، فقال: يا أبا أسماء، إنا قد أجمعنا الناس على أمرين. قال: وما هما؟ قال: رفع الأيدي على المنابر يوم الجمعة، والقصص بعد الصبح والعصر، فقال: أما إنهما أمثل بدعتكم عندي، ولست مجيبك إلى شيء منهما. قال: لم؟ قال: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ما أحدث قوم بدعة إلا رفع مثلها من السنة، فتمسك بسنة خير من إحداث بدعة. (2)
" التعليق:
وقفة قصيرة مع هذا النص تريك الفرق بين علماء السلف وعلماء الخلف، فالآن لو دعي عالم منهم لملك أو أمير أو أقل، وطلب منه ما طلب -مهما كان ذلك الطلب- لعد هذا من الشرف، سواء كان الطلب، بدعة
_________
(1) أحمد (5/ 145و165و177) أبو داود (3/ 365/2962) وابن ماجه (1/ 40/108) نالحاكم (3/ 86 - 87) وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذه السياقة". ووافقه الذهبي.
(2) أحمد (4/ 105) واللالكائي في أصول الاعتقاد (1/ 102/121) ومحمد بن نصر في السنة (ص.32/ 97). وقال الهيثمي في المجمع (1/ 188): "وفيه أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم وهو منكر الحديث".(1/412)
أو فتوى توافق الهوى أو غير ذلك، إلا من عصمه الله. والله المستعان.
جُبَيْر بن نُفَيْر (1) (80 هـ)
جبير بن نفير بن مالك بن عامر الحَضْرَمِيّ الحِمْصِيّ، ويكنى أبا عبد الرحمن. أدرك حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يره، وروى عنه مرسلا. وحدث عن أبي بكر وعمر والمقداد وأبي ذر وأبي هريرة وعائشة وعدة. روى عنه ولده عبد الرحمن، ومكحول وخالد بن معدان وآخرون. وكان جبير ثقة من كبار تابعي أهل الشام من القدماء. ومن كلامه: قال: استقبلت الإسلام من أوله، ولم أزل أرى في الناس صالحا وطالحا.
قال ابن سعد وغيره: مات سنة ثمانين.
موقفه من القدرية:
- جاء في الإبانة: عنه قال: إن التكذيب بالقدر شرك فتح على أهل ضلالة، فلا تجادلوهم فيجري شركهم على أيديكم. (2)
- وروى الآجري بسنده عن جبير بن نفير: إن الله تعالى كان عرشه على الماء، وإنه خلق القلم. فكتب ما هو خالق، وما هو كائن إلى يوم القيامة. (3)
_________
(1) السير (4/ 76 - 78) وتهذيب الكمال (4/ 509 - 511) وطبقات ابن سعد (7/ 440) والاستيعاب (1/ 234) وتهذيب التهذيب (2/ 64 - 65).
(2) الإبانة (2/ 3/523/ 627).
(3) الشريعة (1/ 431 - 432/ 534).(1/413)
أبو إدريس الخَوْلاَنِي (1) (80 هـ)
عائذ الله بن عبد الله، ويقال عيذ الله بن إدريس بن عائذ قاضي دمشق وعالمها، وواعظها. روى عن عمر بن الخطاب، ومعاذ بن جبل، وأبي الدرداء، وعبادة بن الصامت وآخرين. وعنه جماعة منهم الزهري وربيعة بن يزيد وبشر ابن عبد الله ومكحول. قال مكحول: ما رأيت مثل أبي إدريس الخولاني. وقال سعيد ابن عبد العزيز: كان أبو إدريس عالم الشام بعد أبي الدرداء.
وسئل دحيم عن أبي إدريس وعن جبير، أيهما أعلم؟ قال: أبو إدريس هو المقدم، ورفع أيضا من شأن جبير بن نفير لإسناده وأحاديثه. وقال أبو زرعة: أحسن أهل الشام لقيا لأجلة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: جبير بن نفير وأبو إدريس وكثير بن مرة. توفي سنة ثمانين للهجرة.
موقفه من المبتدعة:
روى ابن بطة في الإبانة بسنده إلى أبي إدريس قال: لأن أرى في المسجد نارا تضطرم، أحب إلي من أن أرى فيه بدعة لا تغير. (2)
" التعليق:
انظر هذه الكراهية للبدعة ما أعظمها! فاحتراق المسجد وما فيه أحب من وجود البدعة فيه: فالمساجد الآن في العالم الإسلامي مليئة بالبدع، فهل لها من مغير؟
_________
(1) الإصابة (5/ 5 - 6) وطبقات ابن سعد (7/ 48) وتاريخ خليفة (280) والحلية (5/ 122 - 129) والبداية والنهاية (9/ 34) وتهذيب التهذيب (5/ 85 - 87) وتذكرة الحفاظ (1/ 56 - 57) وشذرات الذهب (1/ 88) والسير (4/ 272 - 277) والمعرفة والتاريخ (2/ 317 - 327).
(2) الإبانة (2/ 3/514/ 599) وذم الكلام (ص.197) والسنة (ص.96) وابن وضاح (ص.83) والحوادث والبدع (ص.109 - 110) وانظر الاعتصام (1/ 112).(1/414)
موقفه من المرجئة:
عن يزيد بن يزيد بن جابر قال: بلغني عن أبي إدريس الخولاني، قال: ما على ظهرها من بشر لا يخاف على إيمانه إلا ذهب. (1)
موقفه من القدرية:
- جاء في الإبانة عنه قال: ألا إن أبا جميلة لا يؤمن بالقدر فلا تجالسوه. (2)
- وفيها: عن أبي إدريس الخولاني أنه رأى رجلا يتكلم في القدر فقام إليه فوطئ بطنه، ثم قال: إن فلانا لا يؤمن بالقدر، فلا تجالسوه. فخرج الرجل من دمشق إلى حمص. (3)
عبد الله بن جعفر (4) (80 هـ)
عبد الله بن جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب أبو جعفر القرشي الهاشمي الحبشي المولد، المدني الدار، الجواد بن الجواد. عداده في صغار الصحابة، استشهد أبوه يوم مؤتة فكفله النبي - صلى الله عليه وسلم - ونشأ في حجره. له رواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعن عمه علي بن أبي طالب وعن أمه أسماء بنت عميس. روى عنه أولاده: إسماعيل وإسحاق ومعاوية، وأبو جعفر الباقر، والقاسم بن
_________
(1) الإبانة (2/ 757/1056).
(2) الإبانة (2/ 3/449/ 411).
(3) الإبانة (2/ 3/450/ 412).
(4) السير (3/ 456 - 462) والاستيعاب (3/ 880 - 882) والإصابة (4/ 40 - 43) وأسد الغابة (3/ 199 - 201) وشذرات الذهب (1/ 87) وتهذيب الكمال (14/ 367 - 372) والبداية والنهاية (9/ 35 - 36).(1/415)
محمد، وآخرون. وهو آخر من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحبه من بني هاشم. كان كبير الشأن كريما جوادا يصلح للإمامة.
عن عبد الله قال: "أتانا النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ما أخبر بقتل جعفر بعد ثالثة فقال: لا تبكوا أخي بعد اليوم، ثم قال: ايتوني ببني أخي، وقال: أما عبد الله فشبه خلقي وخلقي، ثم أخذ بيدي فأشالها، ثم قال: اللهم اخلف جعفرا في أهله، وبارك لعبد الله في صفقته". وقال عنا: أنا وليهم في الدنيا والآخرة. (1) وكان ابن عمر إذا سلم عليه قال: "السلام عليك يا ابن ذي الجناحين" (2)، ولعبد الله أخبار في الجود والبذل كثيرة، وكان وافر الحشمة، كثير التنعم، حتى كان يقال له: قطب السخاء.
توفي سنة ثمانين وصلى عليه أبان بن عثمان والي المدينة.
موقفه من الرافضة:
عن جعفر بن محمد عن أبيه عن عبد الله بن جعفر قال: ولينا أبو بكر خير خليفة، أرحمه بنا، وأحناه علينا. (3)
موقفه من القدرية:
جاء في الإبانة: كان عبد الله بن جعفر وعمر بن عبد الله يسيران في موكب لهما، فذكروا القدرية وكلامهم، فقال ابن جعفر: هم الزنادقة، فقال
_________
(1) أحمد (1/ 204) وأبو داود (4/ 409 - 410/ 4192) مختصرا. والنسائي (8/ 564/5242) مختصرا. والحاكم (3/ 298) مختصرا وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي. كلهم من طريق وهب بن جرير قال حدثني أبي عن محمد بن عبد الله بن أبي يعقوب عن الحسن بن سعد عن عبد الله بن جعفر رفعه.
(2) البخاري (7/ 94/3709) والنسائي في الكبرى (5/ 47 - 48/ 8158).
(3) المستدرك للحاكم (3/ 79) وأصول الاعتقاد (7/ 1378/2459) والشريعة (2/ 440/1247).(1/416)
عمر بن عبد الله: إنما يتكلمون في القدر؛ فقال ابن جعفر: هم والله الزنادقة. (1)
خَيْثَمَة بن عبد الرحمن (2) (بعد سنة 80 هـ)
خيثمة بن عبد الرحمن بن أبي سَبْرَة الجُعْفِي الكوفي، وأبوه وجده صحابيان. روى عن أبيه والبراء بن ع (9) وعائشة وعدي بن حاتم وعبد الله ابن عباس وابن عمر وعلي رضي الله عنهم، وطائفة. وروى عنه إبراهيم النخعي وسليمان الأعمش وقتادة ويونس بن أبي إسحاق وسعيد بن مسروق وغيرهم. قال أحمد العجلي: كوفي تابعي ثقة، وكان رجلا صالحا، وكان يركب الخيل، وكان سخيا. وعن طلحة بن مصرف: ما رأيت بالكوفة أحدا أعجب إلي من إبراهيم وخيثمة.
قال البخاري: مات قبل أبي وائل. قال شعبة: عن نعيم بن أبي هند، قال: رأيت أبا وائل في جنازة خيثمة وهو على حمار وهو يقول: واحزناه، أو كلمة نحوها. توفي رحمه الله بعد سنة ثمانين.
موقفه من المرجئة:
جاء في مجموع الفتاوى: قال خيثمة بن عبد الرحمن: الإيمان يسمن في الخصب، ويهزل في الجذب، فخصبه العمل الصالح، وجذبه الذنوب والمعاصي. (3)
_________
(1) الإبانة (2/ 10/220/ 1796).
(2) طبقات ابن سعد (6/ 286) والحلية (4/ 113) وتهذيب الكمال (8/ 370) وتاريخ خليفة (ص303) وتاريخ الإسلام (حوادث 81 - 100/ص.58) وسير أعلام النبلاء (4/ 320 - 321) وتهذيب التهذيب (3/ 178 - 179).
(3) مجموع الفتاوى (7/ 226).(1/417)
محمد بن علي بن الحَنَفِيَّة (1) (81 هـ)
هو محمد بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، كنيته أبو القاسم وأبو عبد الله، القرشي الهاشمي، المدني، أخو الحسن والحسين، وأمه من سبي اليمامة، وهي خولة بنت جعفر الحنفية. روى عن أبيه علي، وأبي هريرة، وعثمان وابن عباس، وعنه جماعة منهم: أبناؤه إبراهيم والحسن وعبد الله وعمر وعون، وكذا عطاء بن أبي رباح وسالم بن أبي الجعد.
وفد على معاوية، وعبد الملك بن مروان، وكانت الشيعة في زمانه تتغالى فيه، وتدعي إمامته، ولقبوه بالمهدي، ويزعمون أنه لم يمت. قال عبد الأعلى: إن محمد بن علي كان يكنى أبا القاسم، وكان ورعا كثير العلم.
وقال عنه العجلي: تابعي ثقة، كان رجلا صالحا.
ومن أقواله: ليس بحكيم من لم يعاشر بالمعروف من لا يجد من معاشرته بدا حتى يجعل الله من أمره فرجا، أو قال: مخرجا. وقال: من كرمت عليه نفسه لم يكن للدنيا عنده قدر. وقال أيضا: إن الله جعل الجنة ثمنا لأنفسكم فلا تبيعوها بغيرها. توفي رحمه الله سنة إحدى وثمانين.
موقفه من المبتدعة:
- جاء في الإبانة: عن محمد قال: لا تجالسوا أصحاب الخصومات فإنهم
_________
(1) طبقات ابن سعد (5/ 91 - 116) وحلية الاولياء (3/ 174 - 180) والبداية والنهاية (9/ 38 - 39) وسير أعلام النبلاء (4/ 110 - 129) ووفيات الأعيان (4/ 169 - 173) وتهذيب الكمال (26/ 147 - 152) وتهذيب التهذيب (9/ 354 - 355) وشذرات الذهب (1/ 88 - 90) والعقد الثمين (2/ 157) والوافي بالوفيات (4/ 99 - 102).(1/418)
الذين يخوضون في آيات الله. (1)
- وفيها (2): عنه قال: إن أسرع الناس ردة أهل الأهواء، وكان يرى أن هذه الآية نزلت فيهم {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} (3).
" التعليق:
رضي الله عن هذا الإمام، إذ حصر الثبات لحملة السنة والكتاب والعقيدة السلفية الصحيحة، وأما المبتدعة فلا تجد لهم ثباتا، لأنهم في شك مما هم فيه، ولأن شروط الثبات فقدت فيهم، ومن شك في ذلك فليراجع تراجم الفلاسفة والكلاميين كم واحد منهم تاب وتراجع عن بدعته، وأعلن توبته للناس كما فعل الأشعري والرازي والغزالي وغيرهم مما لا يحصى لكثرتهم.
- وجاء في أصول الاعتقاد: عن أبي يعلى عن محمد بن الحنفية قال: لا تنقضي الدنيا حتى تكون خصومات الناس في ربهم. (4)
- وروى ابن بطة: عن جابر قال: قال لي محمد بن علي: يا جابر، لا تخاصم فإن الخصومة تكذب القرآن. (5)
_________
(1) الإبانة (2/ 4/619/ 808) وذم الكلام (ص.191).
(2) الإبانة (2/ 3/498/ 552).
(3) الأنعام الآية (68).
(4) أصول الاعتقاد (1/ 143 - 144/ 213) والإبانة (2/ 3/521/ 617).
(5) الإبانة (2/ 3/495/ 542).(1/419)
موقفه من المشركين:
جاء في السير: عن محمد قال: نحن أهل بيتين من قريش نتخذ من دون الله أندادا، نحن وبنو أمية. (1)
موقفه من المرجئة:
عن فضيل بن يسار عن محمد بن علي قال: في قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن" (2)، قال: إذا أتى شيئا من ذلك نزع منه الإيمان، فإن تاب تاب الله عليه. قال محمد بن علي: هذا الإسلام وأدار إدارة واسعة وأدار في جوفها إدارة صغيرة، وقال: هذا الإيمان، قال: فالإيمان مقصور في الإسلام، قال: فقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يزني حين يزني وهو مؤمن" إذا أتى شيئا من ذلك خرج من الإيمان إلى الإسلام، قال: فإذا تاب تاب الله عليه ورجع إلى الإيمان. (3)
موقفه من القدرية:
روى اللالكائي بسنده عن منذر أبي يعلى قال: قال محمد بن الحنفية: من أحب رجلا على عدل ظهر فيه وهو في علم الله من أهل النار آجره الله كما لو كان من أهل الجنة، ومن أبغض رجلا على جور ظهر منه وهو في
_________
(1) السير (4/ 116).
(2) أحمد (2/ 376) والبخاري (5/ 150 - 151/ 2475) ومسلم (1/ 76/57) وأبو داود (5/ 64 - 65/ 4689) والترمذي (5/ 16 - 17/ 2625) وقال: "حديث حسن صحيح غريب". والنسائي (8/ 715 - 716/ 5675) وابن ماجه (2/ 1298 - 1299/ 3936) من حديث أبي هريرة.
(3) الإبانة (2/ 5/712 - 713/ 960).(1/420)
علم الله من أهل الجنة آجره الله كما لو كان من أهل النار. (1)
موقف السلف من معبد الجهني القدري (81 هـ)
قال ابن كثير في البداية: يقال إنه معبد بن عبد الله بن عكيم راوي الحديث: "لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب" (2) وقيل غير ذلك في نسبه. سمع الحديث من ابن عباس وابن عمر ومعاوية وعمران بن حصين وغيرهم، وشهد يوم التحكيم وسأل أبا موسى في ذلك ووصاه، ثم اجتمع بعمرو بن العاص فوصاه في ذلك فقال له: إيها ياتيس جهنة، ما أنت من أهل السر والعلانية وأنه لا ينفعك الحق ولا يضرك الباطل، وهذا توسم فيه من عمرو ابن العاص، ولهذا كان هو أول من تكلم في القدر، ويقال إنه أخذ ذلك عن رجل من النصارى من أهل العراق يقال له سوس، وأخذ غيلان القدر من معبد، وقد كانت لمعبد عبادة، وفيه زهادة، ووثقه ابن معين وغيره في حديثه، وقال الحسن البصري: إياكم ومعبدا فإنه ضال مضل، وكان ممن خرج مع ابن الأشعث، فعاقبه الحجاج عقوبة عظيمة بأنواع العذاب ثم قتله. وقال سعيد بن عفير: بل صلبه عبد الملك بن مروان في سنة ثمانين بدمشق ثم قتله. وقال خليفة بن خياط مات قبل التسعين فالله أعلم وقيل إن الأقرب قتل
_________
(1) أصول الاعتقاد (4/ 764/1277).
(2) أحمد (4/ 310 - 311) وأبو داود (4/ 370 - 371/ 4127 - 4128) والترمذي (4/ 194/1729) وقال: "هذا حديث حسن". والنسائي (7/ 197/4260) وابن ماجه (2/ 1194/3613).(1/421)
عبد الملك له والله سبحانه وتعالى أعلم. (1)
المُهَلَّب بن أَبي صُفْرَة (2) (82 هـ)
أبو سعيد، المُهَلَّب بن أبي صُفْرَة الأَزْدِي العَتَكِي البصري. أمير عبد الملك بن مروان على خراسان، صاحب الحروب والفتوح، حدث عن عبد الله بن عمرو بن العاص وسمرة بن جندب وابن عمر والبراء بن عازب. وروى عنه سماك بن حرب وأبو إسحاق وعمر بن سيف.
قال أبو إسحاق السبيعي: لم أر أميرا أيمن نقيبة ولا أشجع لقاء ولا أبعد مما يكره ولا أقرب مما يحب من المهلب. كان من أشجع الناس، حمى البصرة من الخوارج، وله معهم وقائع مشهورة بالأهواز، غزا أرض الهند سنة أربع وأربعين. روي أنه قدم على عبد الله بن الزبير أيام خلافته بالحجاز والعراق وتلك النواحي وهو يومئذ بمكة، فخلا به عبد الله يشاوره، فدخل عليه عبد الله بن صفوان بن أمية بن خلف بن وهب القرشي الجمحي فقال: من هذا الذي قد شغلك يا أمير المؤمنين يومك هذا؟ قال أو ما تعرفه؟ قال: لا، قال: هذا سيد أهل العراق، قال: فهو المهلب بن أبي صفرة. قال: نعم، فقال المهلب: من هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: هذا سيد قريش، فقال: فهو عبد الله بن صفوان، قال: نعم. من أقواله: يعجبني في الرجل أن أرى عقله
_________
(1) البداية والنهاية (9/ 36 - 37).
(2) الإصابة (6/ 386 - 388) وطبقات ابن سعد (7/ 129 - 130) وتاريخ الطبري (6/ 354 - 355) ووفيات الأعيان (5/ 350 - 359) وشذرات الذهب (1/ 90 - 91) والجرح والتعديل (8/ 369 - 370) وسير أعلام النبلاء (4/ 383 - 385) وتهذيب التهذيب (10/ 329 - 330) والبداية والنهاية (9/ 42) وتهذيب الكمال (29/ 8 - 13).(1/422)
زائدا على لسانه ولا أرى لسانه زائدا على عقله. وقال أيضا: نعم الخصلة السخاء، تستر عورة الشريف، وتلحق خسيسة الوضيع، وتحبب المزهود فيه. وقال: ما شيء أبقى للملك من العفو، خير مناقب الملك العفو. وعلق الذهبي على هذه القولة بقوله: ينبغي أن يكون العفو من الملك عن القتل، إلا في الحدود، وأن لا يعفو عن وال ظالم، ولا عن قاض مرتش، بل يعجل بالعزل، ويعاقب المتهم بالسجن، فحلم الملوك محمود إذا ما اتقوا الله وعملوا بطاعته. توفي رحمه الله غازيا سنة اثنتين وثمانين.
موقفه من الخوارج:
قال ابن كثير في البداية والنهاية في معرض حديثه عن حوادث سنة ثمان وستين: وفيها كانت وقعة الأزارقة. وذلك أن مصعبا كان قد عزل عن ناحية فارس المهلب بن أبي صفرة، وكان قاهرا لهم وولاه الجزيرة، وكان المهلب قاهرا للأزارقة، وولى على فارس عمر بن عبد الله بن معمر، فثاروا عليه فقاتلهم عمر بن عبد الله فقهرهم وكسرهم، وكانوا مع أميرهم الزبير ابن الماجور، ففروا بين يديه إلى اصطخر فأتبعهم فقتل منهم مقتلة عظيمة، وقتلوا ابنه، ثم ظفر بهم مرة أخرى، ثم هربوا إلى بلاد أصبهان ونواحيها، فتقووا هنالك وكثر عَددهم وعُددهم، ثم أقبلوا يريدون البصرة، فمروا ببعض بلاد فارس وتركوا عمر بن عبد الله بن معمر وراء ظهورهم، فلما سمع مصعب بقدومهم ركب في الناس وجعل يلوم عمر بن عبد الله بتركه هؤلاء يجتازون ببلاده، وقد ركب عمر ابن عبد الله في آثارهم، فبلغ الخوارج أن مصعبا أمامهم وعمر بن عبد الله وراءهم، فعدلوا إلى المدائن فجعلوا يقتلون النساء(1/423)
والولدان، ويبقرون بطون الحبالى، ويفعلون أفعالا لم يفعلها غيرهم، فقصدهم نائب الكوفة الحارث بن أبي ربيعة ومعه أهلها وجماعات من أشرافها، منهم ابن الأشتر وشبث بن ربعي، فلما وصلوا إلى جسر الصراة قطعه الخوارج بينه وبينهم، فأمر الأمير بإعادته، ففرت الخوارج هاربين بين يديه، فأتبعهم عبد الرحمن بن مخنف في ستة آلاف فمروا على الكوفة ثم صاروا إلى أرض أصبهان، فانصرف عنهم ولم يقاتلهم، ثم أقبلوا فحاصروا عتاب ابن ورقاء شهرا، بمدينة جيا، حتى ضيقوا على الناس فنزلوا إليهم فقاتلوهم فكشفوهم، وقتلوا أميرهم الزبير بن الماجور وغنموا ما في معسكرهم، وأمرت الخوارج عليهم قطرى بن الفجاءة ثم ساروا إلى بلاد الأهواز، فكتب مصعب بن الزبير إلى المهلب بن أبي صفرة -وهو على الموصل- أن يسير إلى قتال الخوارج، وكان أبصر الناس بقتالهم، وبعث مكانه إلى الموصل إبراهيم بن الأشتر فانصرف المهلب إلى الأهواز فقاتل فيها الخوارج ثمانية
أشهر قتالا لم يسمع بمثله. (1)
- وقال أيضا وهو يتحدث عن حوادث سنة اثنتين وسبعين: ففيها كانت وقعة عظيمة بين المهلب بن أبي صفرة وبين الأزارقة من الخوارج بمكان يقال له سولاق، مكثوا نحوا من ثمانية أشهر متواقفين. وجرت بينهم حروب يطول بسطها، وقد استقصاها ابن جرير، وقتل في أثناء ذلك من هذه المدة مصعب بن الزبير. ثم إن عبد الملك أقر المهلب بن أبي صفرة علىالأهواز وما معها، وشكر سعيه وأثنى عليه ثناء كثيرا، ثم تواقع الناس في دولة
_________
(1) البداية والنهاية (8/ 296 - 297).(1/424)
عبد الملك بالأهواز، فكسر الناس الخوارج كسرة فظيعة، وهربوا في البلاد لا يلوون على أحد، وأتبعهم خالد بن عبد الله أمير الناس وداود بن محندم فطردوهم، وأرسل عبد الملك إلى أخيه بشر بن مروان أن يمدهم بأربعة آلاف، فبعث إليه أربعة آلاف، عليهم عتاب بن ورقاء، فطردوا الخوارج كل مطرد، ولكن لقي الجيش جهدا عظيما وماتت خيولهم ولم يرجع أكثرهم إلا مشاة إلى أهليهم. (1)
- وقال عنه أيضا: ولي حرب الخوارج أول دولة الحجاج، وقتل منهم في يوم واحد أربعة آلاف وثمانمائة. (2)
محمد بن سعد بن أبي وقاص (3) (82 هـ)
الإمام الثقة أبو القاسم القرشي المدني. قيل: إنه كان يلقب ظل الشيطان لقصره. أرسل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. روى عن أبيه سعد وعثمان بن عفان وأبي الدرداء وطائفة. حدث عنه ابناه: إبراهيم وإسماعيل، وأبو إسحاق السبيعي ويونس بن جبير، وإسماعيل بن أبي خالد وعبد الحميد ابن عبد الرحمن ابن زيد بن الخطاب وجماعة. أمه ماوية ابنة قيس بن معدي كرب من كندة. قال ابن سعد: كان ثقة، وله أحاديث ليست بالكثيرة، وكان قد خرج مع
_________
(1) البداية والنهاية (8/ 328 - 329).
(2) البداية والنهاية (9/ 47).
(3) الجرح والتعديل (7/ 261) والتاريخ الكبير (1/ 88) وطبقات ابن سعد (5/ 167و6/ 221) وتهذيب الكمال (25/ 258 - 260) وتهذيب التهذيب (9/ 183) والسير (4/ 348 - 349) وطبقات خليفة (243) وشذرات الذهب (1/ 91) الكامل لابن الأثير (4/ 472 - 482).(1/425)
عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، وشهد دير الجماجم فأتي به الحجاج فقتله. روى جملة صالحة من العلم. وذكره ابن حبان في كتاب الثقات. وكان مصرعه رحمه الله في سنة اثنتين وثمانين.
موقفه من المبتدعة:
عن داود بن أبي هند أن محمد بن سعد بن أبي وقاص سمع قوما يتكلمون بالفارسية فقال: ما بال المجوسية بعد الحنيفية. (1)
شَقِيق بن سَلَمَة (2) (82 هـ)
الإمام الكبير أبو وائل الأسدي شيخ الكوفة. مخضرم أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - وما رآه. حدث عن عمر وعثمان وعلي وعمار، ومعاذ وابن مسعود وأبي الدرداء وغيرهم. وروى كذلك عن أقرانه كمسروق وعلقمة وحمران بن أبان. وكان من أئمة الدين. وحدث عنه خلق كثير منهم: عمرو ابن مرة وحبيب ابن أبي ثابت والحكم بن عتيبة وغيرهم. فعن وكيع عن أبي العنبس، قلت لأبي وائل: هل أدركت النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم، وأنا غلام أمرد ولم أره. وقال الأعمش، قال لي شقيق بن سلمة: يا سليمان لو رأيتنا ونحن هراب من خالد ابن الوليد يوم بزاخة، فوقعت عن البعير، فكادت تندق عنقي، فلو مت
_________
(1) ابن أبي شيبة (9/ 11).
(2) الإصابة (3/ 386 - 387) والاستيعاب (2/ 710) وطبقات ابن سعد (6/ 96 - 102) وتاريخ بغداد (9/ 268 - 271) ووفيات الأعيان (2/ 476 - 477) وتهذيب الكمال (12/ 548 - 554) وتذكرة الحفاظ (1/ 60) والحلية (4/ 101 - 112) وسير أعلام النبلاء (4/ 161 - 166).(1/426)
يومئذ كانت النار، قال: وكنت يومئذ ابن إحدى عشرة سنة. قال الذهبي: وفي نسخة ابن إحدى وعشرين سنة وهو أشبه. وعن محمد بن الفضل عن أبيه، عن أبي وائل، أنه تعلم القرآن في شهرين. وقال الأعمش: قال لي إبراهيم النخعي: عليك بشقيق فإني أدركت الناس وهم متوافرون، وإنهم ليعدونه من خيارهم. وقال عاصم بن أبي النجود: ما سمعت أبا وائل سب إنسانا قط ولا بهيمة. وعن عاصم قال: كان أبو وائل إذا صلى في بيته ينشج نشيجا، ولو جعلت له الدنيا على أن يفعله وأحد يراه ما فعله. قال الذهبي: قد كان هذا السيد رأسا في العلم والعمل.
قال خليفة: مات بعد الجماجم سنة اثنتين وثمانين. وقيل: في خلافة عمر بن عبد العزيز. قال الحافظ المزي: والمحفوظ الأول والله أعلم.
موقفه من المبتدعة:
- جاء في الإبانة: قال الزبرقان: نهاني أبو وائل أن أجالس أصحاب أرأيت أرأيت. (1)
- وروى ابن وضاح: عن الأعمش قال: قال لي شقيق أبو وائل: يا سليمان! ما شبّهت قراء زمانك إلا بغنم رعت حمضا، فمن رآها ظن أنها سمان، فإذا ذبحها لم يجد فيها شاة سمينة. (2)
_________
(1) الإبانة (2/ 3/451/ 415) والدارمي (1/ 66) وانظر إعلام الموقعين (1/ 74).
(2) ما جاء في البدع (ص.172) وكتاب الزهد لابن المبارك (ص.198) والحلية لأبي نعيم (4/ 104 - 105).(1/427)
موقفه من الخوارج:
قال الحافظ: وأخرج إسحاق بن راهويه في مسنده من طريق حبيب بن أبي ثابت قال: أتيت أبا وائل فقلت: أخبرني عن هؤلاء القوم الذين قتلهم علي، فيم فارقوه وفيم استحل قتالهم؟ قال: لما كنا بصفين استحر القتل في أهل الشام، فرفعوا المصاحف فذكر قصة التحيكم، فقال الخوارج ما قالوا ونزلوا حروراء، فأرسل إليهم علي فرجعوا، ثم قالوا نكون في ناحيته فإن قبل القضية قاتلناه، وإن نقضها قاتلنا معه، ثم افترقت منهم فرقة يقتلون الناس، فحدث علي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمرهم. (1)
موقفه من المرجئة:
عن زبيد قال: سألت أبا وائل عن المرجئة فقال: حدثني عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" (2).اهـ (3)
" التعليق:
قال الحافظ في الفتح: ففي الحديث تعظيم حق المسلم والحكم على من سبه بغير حق بالفسق، ومقتضاه الرد على المرجئة، وعرف من هذا مطابقة جواب أبي وائل للسؤال عنهم، كأنه قال: كيف تكون مقالتهم حقا والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول هذا. قوله: (وقتاله كفر) إن قيل: وهذا وإن تضمن الرد على المرجئة لكن
_________
(1) الفتح (12/ 367). وأخرجه بسياق أتم أبو يعلى (1/ 364 - 367/ 483). قال الهيثمي في المجمع (6/ 238): "رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح". وصحح إسناده الحافظ في المطالب العالية (4504).
(2) أحمد (1/ 385) والبخاري (1/ 147/48) ومسلم (1/ 81/64) والترمذي (4/ 311/1983) والنسائي (7/ 138/4121) وابن ماجه (1/ 27/69) عن ابن مسعود.
(3) السنة لعبد الله (86 - 87) وأصول الاعتقاد (5/ 1073/1839) والسنة للخلال (4/ 114 - 115/ 1297).(1/428)
ظاهره يقوي مذهب الخوارج الذين يكفرون بالمعاصي، فالجواب: إن المبالغة في الرد على المبتدع اقتضت ذلك، ولا متمسك للخوارج فيه، لأن ظاهره غير مراد، لكن لما كان القتال أشد من السباب؛ لأنه مفض إلى إزهاق الروح، عبر عنه بلفظ أشد من لفظ الفسق وهو الكفر، ولم يرد حقيقة الكفر التي هي الخروج عن الملة، بل أطلق عليه الكفر مبالغة في التحذير، معتمدا على ما تقرر من القواعد أن مثل ذلك لا يخرج عن الملة، مثل حديث الشفاعة، ومثل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}. اهـ (2)
زاذان الضّرير (3) (82 هـ)
زَاذَان أبو عمر الكِنْدي البَزَّاز الضرير الكوفي أحد العلماء الكبار، ولد في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وشهد خطبة عمر بالجابية. روى عن عمر وعلي وسلمان وابن مسعود وغيرهم. وروى عنه أبو صالح السمان وعمرو ابن مرة والمنهال ابن عمرو وآخرون. وكان ثقة صادقا، كان يتعاطى النبيذ والغناء في شبابه، فتاب على يد عبد الله بن مسعود، وحصلت له إنابة ورجوع إلى الحق وخشية شديدة، حتى كان في الصلاة كأنه خشبة. توفي سنة اثنتين وثمانين بعد الجماجم.
_________
(1) النساء الآية (48).
(2) الفتح (1/ 151).
(3) السير (4/ 280 - 281) وطبقات ابن سعد (6/ 178 - 179) والبداية والنهاية (9/ 50) وتهذيب الكمال (9/ 263 - 265) وشذرات الذهب (1/ 90) وتهذيب التهذيب (3/ 302 - 303).(1/429)
موقفه من المرجئة:
عن زاذان وميسرة، قالا: أتينا الحسن بن محمد فقلنا: ما هذا الكتاب الذي وضعت؟ -وكان هو الذي أخرج كتاب المرجئة- قال زاذان: قال لي: يا أبا عمر لوددت أني كنت مت قبل أن أخرج هذا الكتاب أو قبل أن أضع هذا الكتاب. (1)
" التعليق:
هذا الأثر أورده عبد الله بن الإمام أحمد في السنة في سياق ذكر المرجئة، وابن بطة في باب القول في المرجئة. وساق الحافظ محمد بن يحيى العدني محتوى الكتاب المذكور في كتابه الإيمان (2) الذي وضع جل فصوله في الرد على المرجئة، وصنيع هؤلاء الأئمة في إيرادهم له في أبواب المرجئة يوهم أن المقصود به الإرجاء المتعلق بالإيمان، وليس كذلك، بل القصد إرجاء أمر الطائفتين المقتتلتين في الفتنة، وبيان ذلك ما جاء في تهذيب الكمال للمزي (3): عن عثمان بن إبراهيم بن محمد بن حاطب، قال: أول من تكلم في الإرجاء الأول؛ الحسن بن محمد بن الحنفية، كنت حاضرا يوم تكلم وكنت في حلقته مع عمي، وكان في الحلقة جخدب وقوم معه، فتكلموا في علي وعثمان وطلحة والزبير فأكثروا، والحسن ساكت، ثم تكلم، فقال: قد سمعت مقالتكم ولم أر شيئا أمثل من أن يرجأ علي وعثمان وطلحة والزبير، فلا
_________
(1) الإبانة (2/ 904/1268) والسنة لعبد الله (89) وطبقات ابن سعد (5/ 238) والسنة للخلال (4/ 136 - 137/ 1358).
(2) (ص.195 - 199).
(3) (6/ 321 - 328).(1/430)
يتولوا ولا يتبرأ منهم، ثم قام فقمنا. قال: فقال لي عمي: يا بني ليتخذن هؤلاء هذا الكلام إماما. قال عثمان: فقال به سبعة رجال رأسهم جخدب من تيم الرباب، ومنهم حرملة التيمي تيم الرباب أبو علي بن حرملة، قال: فبلغ أباه محمد بن الحنفية ما قال: فضربه بعصا فشجه وقال: لا تولّ (1) أباك عليا؟ قال: وكتب الرسالة التي ثبت فيها الإرجاء بعد ذلك.
ونبه على ذلك الحافظ بن حجر في تهذيب التهذيب (2) قال: المراد بالإرجاء الذي تكلم الحسن بن محمد فيه؛ غير الإرجاء الذي يعيبه أهل السنة المتعلق بالإيمان، وذلك أني وقفت على كتاب الحسن بن محمد المذكور، أخرجه ابن أبي عمر العدني في كتاب الإيمان له في آخره قال: حدثنا إبراهيم ابن عيينة، عن عبد الواحد بن أيمن قال: كان الحسن بن محمد يأمرني أن أقرأ هذا الكتاب على الناس: أما بعد، فإنا نوصيكم بتقوى الله -فذكر كلاما كثيرا في الموعظة والوصية لكتاب الله واتباع ما فيه، وذكر اعتقاده، ثم قال في آخره: ونوالي أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، ونجاهد فيهما لأنهما لم تقتتل عليهما الأمة، ولم تشك في أمرهما، ونرجئ من بعدهما ممن دخل في الفتنة، فنكل أمرهم إلى الله- إلى آخر الكلام، فمعنى الذي تكلم فيه الحسن؛ أنه كان يرى عدم القطع على إحدى الطائفتين المقتتلتين في الفتنة بكونه مخطئا أو مصيبا، وكان يرى أنه يرجئ الأمر فيهما، وأما الإرجاء الذي يتعلق بالإيمان فلم يعرج عليه، فلا يلحقه بذلك عاب، والله أعلم. اهـ
_________
(1) في الأصل: لا تولي.
(2) (2/ 320 - 321).(1/431)
قلت: وإنما أوردناه ضمن مواقف السلف من المرجئة ليتم التنبيه عليه في بابه الذي يورد فيه. وعلى أي فانظر رحمك الله إلى غيرة زاذان وميسرة رحمهما الله على العقيدة السلفية وإنكارهما للكتاب المذكور، فكم هي الكتب اليوم التي تحتاج إلى إنكار غيرة على الحق والله المستعان.
أبو البَخْتَرِي (1) (83 هـ)
سعيد بن فَيْرُوز الطَّائِي، الكوفي، أحد العباد. حدث عن أبي برزة الأسلمي، وابن عباس، وابن عمر. روى عنه عمرو بن مرة، وعطاء بن السائب، ويونس بن خباب. قال حبيب بن أبي ثابت: اجتمعت أنا وسعيد ابن جبير وأبو البختري فكان أبو البختري أعلمنا وأفقهنا. وكان أبو البختري يقول: لأن أكون في قوم أتعلم منهم، أحب إلي من أن أكون في قوم أعلمهم. وقال عنه يحيى بن معين: ثقة، وقال هلال بن خباب: كان من أفاضل أهل الكوفة. توفي سنة ثلاث وثمانين.
موقفه من المرجئة:
عن سلمة بن كهيل قال: اجتمعنا في الجماجم؛ أبو البختري، وميسرة أبو صالح، وضحاك المشرقي، وبكير الطائي، فأجمعوا على أن الإرجاء بدعة،
_________
(1) السير (4/ 279) وحلية الأولياء (4/ 379) وطبقات ابن سعد (6/ 292) وتهذيب الكمال (11/ 32) وتهذيب التهذيب (4/ 72 - 73) وشذرات الذهب (1/ 92).(1/432)
والولاية بدعة، والبراءة بدعة، والشهادة بدعة. (1)
عبد الرحمن بن يزيد أبو بكر (2) (83 هـ)
عبد الرحمن بن يزيد بن قيس، الإمام الفقيه، أبو بكر النخعي. حدث عن عثمان وابن مسعود، وسلمان الفارسي، وحذيفة بن اليمان رضي الله عنهم وجماعة. روى عنه إبراهيم النخعي وأبو إسحاق السبيعي، وعمارة بن عمير وغيرهم. وكان عابدا ناسكا. قال المفضل الغلابي: عباد الرحمن من قريش كلهم عابد، عبد الرحمن بن زياد بن أبي سفيان، وعبد الرحمن بن خالد ابن الوليد، وعبد الرحمن بن أبان بن عثمان، وعبد الرحمن بن يزيد بن معاوية. قال ابن حبان: قتل في الجماجم سنة ثلاث وثمانين. وقيل سنة اثنتين وثمانين.
موقفه من المبتدعة:
روى ابن بطة بسنده إلى عبد الرحمن بن يزيد أنه رأى محرما عليه ثيابه، فنهى المحرم، فقال: ايتني بآية من كتاب الله عز وجل بنزع ثيابي، فقرأ عليه: {وَمَا آَتَاكُمُ الرسول فخذوه وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (3).اهـ (4)
_________
(1) السنة لعبد الله (89 - 90) وأصول الاعتقاد (5/ 1050/1784) والإيمان لأبي عبيد (22) بنحوه، والإبانة (2/ 7/905/ 1270).
(2) الثقات لابن حبان (5/ 86) والسير (4/ 78) وتهذيب الكمال (18/ 12) والتاريخ الكبير (5/ 363) وطبقات ابن سعد (6/ 121) وتاريخ الإسلام (حوادث سنة 81 - 100/ 132).
(3) الحشر الآية (7).
(4) الإبانة (1/ 1/249 - 250/ 82) والشريعة (1/ 180/106) وجامع بيان العلم وفضله (2/ 1182 - 1183).(1/433)
أبو الجَوْزَاء أَوْس بن عبد الله (1) (83 هـ)
أوس بن عبد الله، أبو الجوزاء، المجانب للأهواء والآراء، المفارق للتلاعن والأسواء، من قراء البصرة ومن كبار علمائها. روى عن عائشة، وابن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعنه جماعة منهم أبان بن أبي عياش، وسليمان بن علي الربعي، وعمرو بن مالك النكري.
قال أبو الجوزاء: ما لعنت شيئا، ولا أكلت شيئا ملعونا قط، ولا آذيت أحدا قط. قتل في الجماجم سنة ثلاث وثمانين. وقيل التي قبلها.
موقفه من المبتدعة:
- جاء في الإبانة عنه أنه قال: لأن تجاورني القردة والخنازير في دار؛ أحب إلي من أن يجاورني رجل من أهل الأهواء، وقد دخلوا في هذه الآية: {وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (2).اهـ (3)
- وجاء في السير عنه قال: لأن أجالس الخنازير أحب إلي من أن أجالس أحدا من أهل الأهواء. (4)
_________
(1) السير (4/ 371 - 372) وطبقات ابن سعد (7/ 223 - 224) الحلية (3/ 78 - 82) وتهذيب الكمال (3/ 392 - 393) والتاريخ الكبير (2/ 16 - 17).
(2) آل عمران الآية (119).
(3) الإبانة (2/ 3/467/ 466) وأصول الاعتقاد (1/ 147 - 148/ 231) وذم الكلام (ص.193) والشريعة (3/ 581/2110). وانظر الاعتصام (1/ 91).
(4) السير (4/ 372) وهو في الطبقات (7/ 224) والحلية (3/ 78).(1/434)
- وفيها: وعنه أنه قال: ما ماريت أحدا قط. (1)
موقفه من المشركين:
قال: نقل الحجارة أهون على المنافق من قراءة القرآن. (2)
موقفه من الصوفية:
عن عمرو بن مالك قال: بينما نحن يوما عند أبي الجوزاء يحدثنا؛ إذ خر رجل فاضطرب، فوثب أبو الجوزاء فسعى قبله فقيل: يا أبا الجوزاء إنه رجل به الموت فقال: إنما كنت أراه من هؤلاء القفازين ولو كان منهم لأمرت به وأخرجته من المسجد إنما ذكرهم الله فقال: تفيض أعينهم وتقشعر جلودهم.
عبد الرحمن بن أبي ليلى (3) (83 هـ)
الإمام العلامة الحافظ أبو عيسى الأنصاري الكوفي الفقيه، ويقال له: أبو محمد. حدث عن عمر وعلي وأبي ذر وابن مسعود وغيرهم رضي الله عنهم. وحدث عنه عمرو بن مرة، والحكم بن عتيبة والأعمش وطائفة سواهم. قال محمد بن سيرين: جلست إلى عبد الرحمن بن أبي ليلى وأصحابه يعظمونه كأنه أمير. وعن عبد الله بن الحارث أنه اجتمع بابن أبي ليلى فقال: ما شعرت أن النساء ولدن مثل هذا. وقال أبو نعيم وخليفة بن خياط وأبو
_________
(1) سير أعلام النبلاء (4/ 372).
(2) الحلية (3/ 80).
(3) طبقات ابن سعد (6/ 109) وتهذيب الكمال (17/ 372 - 376) والسير (4/ 262 - 268) وميزان الاعتدال (2/ 584) وتهذيب التهذيب (6/ 260 - 262) وشذرات الذهب (1/ 62).(1/435)
موسى محمد بن المثنى: مات سنة ثلاث وثمانين.
موقفه من الرافضة:
- جاء في السنة لعبد الله: عن عمرو بن مرة عن ابن أبي ليلى قال ذكر عنده قول الناس في علي فقال عبد الرحمن قد جالسناه وحدثناه وواكلناه وشاربناه وقمنا له على الأعمال، فما سمعته يقول شيئا مما تقولون، أولا يكفيكم أن تقولوا: ابن عم رسول الله وختنه، وشهد بيعة الرضوان وشهد بدرا؟! (1)
- وعن أبي حصين أن الحجاج استعمل عبد الرحمن بن أبي ليلى على القضاء ثم عزله، ثم ضربه ليسب عليا رضي الله عنه، وكان يوري ولا يصرح. (2)
موقفه من الجهمية:
عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وزيادة} (3)
قال: الزيادة: النظر إلى وجه ربهم تبارك وتعالى، {ولا يرهق وجوههم قترٌ ولا ذلةٌ} بعد النظر إلى ربهم عز وجل. (4)
_________
(1) السنة لعبد الله (234).
(2) تذكرة الحفاظ (1/ 58)
(3) يونس الآية (26).
(4) أصول الاعتقاد (3/ 510 - 511/ 792) والسنة لعبد الله (52).(1/436)
موقف السلف من عمران بن حطان الخارجي (84 هـ)
خطورة مخالطة أهل الأهواء:
قال ابن كثير: كان أولا -أي عمران بن حطان- من أهل السنة والجماعة فتزوج امرأة من الخوارج حسنة جميلة جدا فأحبها وكان هو ذميم الشكل فأراد أن يردها إلى السنة فأبت فارتد معها إلى مذهبها. (1)
وقال ابن تيمية في المنهاج: ومعلوم أن شر الذين يبغضونه (أي علي بن أبي طالب) هم الخوارج الذين كفروا واعتقدوا أنه مرتد عن الإسلام، واستحلوا قتله تقربا إلى الله تعالى حتى قال شاعرهم عمران بن حطان:
يا ضربة من تقي ما أراد بها ... إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره حينا فأحسبه ... أو فى البرية عند الله ميزانا
فعارضه شاعر أهل السنة فقال: (وهو الفقيه الطبري)
يا ضربة من شقي ما أراد بها ... إلا ليبلغ من ذي العرش خسرانا
إني لأذكره حينا فألعنه ... لعنا وألعن عمران بن حطانا (2)
وقال محمد بن أحمد الطبيب يرد عليه أيضا:
يا ضربة من غدور صار ضاربها ... أشقى البرية عند الله إنسانا
إذا تفكرت فيه ظلت ألعنه ... وألعن الكلب عمران بن حطانا (3)
_________
(1) البداية والنهاية (9/ 56) والسير (4/ 214).
(2) المنهاج (5/ 10).
(3) من هامش الكامل للمبرد (3/ 1085) وبنحوها في البداية والنهاية (9/ 57).(1/437)
جاء في سير أعلام النبلاء: فبلغ شعره عبد الملك بن مروان، فأدركته حمية لقرابته من علي رضي الله عنه فهدر دمه ووضع عليه العيون. فلم تحمله أرض، فاستجار بروح بن زنباع، فأقام في ضيافته، فقال: ممن أنت؟ قال: من الأزد. فبقي عنده سنة فأعجبه إعجابا شديدا، فسمر روح ليلة عند أمير المؤمنين، فتذاكرا شعر عمران هذا. فلما انصرف روح، تحدث مع عمران بما جرى، فأنشده بقية القصيد، فلما عاد إلى عبد الملك قال: إن في ضيافتي رجلا ما سمعت منه حديثا قط إلا وحدثني به وبأحسن منه، ولقد أنشدني تلك القصيدة كلها. قال: صفه لي، فوصفه له. قال: إنك لتصف عمران بن حطان، اعرض عليه أن يلقاني. قال: فهرب إلى الجزيرة، ثم لحق بعمان فأكرموه. (1)
واثلة بن الأسقع (2) (85 هـ)
واثِلَة بن الأَسْقَع بن عبد العُزَّى من بني كِنَانَة اللَّيْثِي. اختلف في كنيته، قيل: أبو شداد، ويقال: أبو الأسقع، وقيل: أبو محمد، وقيل: أبو الخطاب، وقيل: أبو قرصافة. أسلم والنبي - صلى الله عليه وسلم - يتجهز إلى تبوك وشهدها معه: وكان من فقراء المسلمين وسكن الصفة رضي الله عنه، وطال عمره. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
_________
(1) سير أعلام النبلاء (4/ 215).
(2) السير (3/ 383 - 387) وشذرات الذهب (1/ 95) الاستيعاب (4/ 1563 - 1564) وتهذيب التهذيب (11/ 101) وتهذيب الكمال (30/ 393 - 396) والإصابة (6/ 591) وأسد الغابة (5/ 399 - 340) وطبقات ابن سعد (7/ 407 - 408) والتاريخ الكبير (8/ 187) وتهذيب الأسماء واللغات (القسم الأول/2/ 142 - 143).(1/438)
وأبي مرثد الغنوي وأبي هريرة وأم سلمة. روى عنه أبو إدريس الخولاني وشداد أبو عمار، وبسر بن عبيد الله وعبد الواحد النصري ومكحول وغيرهم. وبعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - نزل الشام وشهد فتح دمشق وحمص. توفي رضي الله عنه سنة خمس وثمانين. وقيل سنة ثلاث وثمانين وهو آخر من مات بدمشق من الصحابة. روي له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ستة وخمسون حديثا.
موقفه من القدرية:
جاء في أصول الاعتقاد: عن حبيب بن عمر الأنصاري قال حدثني أبي قال: سألت واثلة بن الأسقع عن الصلاة خلف القدري؟ فقال: لا يصلى خلفه، أما لو صليت خلفه لأعدت صلاتي. (1)
أبو أُمَامَة البَاهِلِّي (2) (86 هـ)
هو صُدَيّ بن عَجْلاَن بن وهب ويقال ابن الحارث ويقال ابن عمرو أبو أمامة مشهور بكنيته صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونزيل حمص، رُوي أنه بايع تحت الشجرة. عن محمد بن زياد: رأيت أبا أمامة أتى على رجل في المسجد، وهو ساجد، يبكي ويدعو، فقال: أنت أنت، لو كان هذا في بيتك. روى علما كثيرا وحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن عمر وعن عبادة بن الصامت
_________
(1) أصول الاعتقاد (4/ 806 - 807/ 1347) والإبانة (2/ 10/260/ 1874).
(2) طبقات ابن سعد (7/ 411 - 412) والإصابة (3/ 420 - 421) والاستيعاب (2/ 736) وسير أعلام النبلاء (3/ 359 - 363) والبداية والنهاية (9/ 73) ومجمع الزوائد (9/ 386 - 387) وشذرات الذهب (1/ 96) والجرح والتعديل (4/ 454) والمستدرك (3/ 641 - 642) وتهذيب الكمال (13/ 158 - 164) ومشاهير علماء الأمصار (50).(1/439)
وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم وغيرهم. وروى عنه خالد بن معدان والقاسم أبو عبد الرحمن وسالم بن أبي الجعد وغيرهم. توفي بالشام سنة ست وثمانين في خلافة عبد الملك بن مروان وهو ابن إحدى وستين سنة.
موقفه من المشركين:
عن أبي غالب عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قومي أدعوهم إلى الله تبارك وتعالى، وأعرض عليهم شرائع الإسلام، فأتيتهم وقد سقوا إبلهم وأحلبوها وشربوا، فلما رأوني قالوا: مرحبا بالصدي ابن عجلان، ثم قالوا بلغنا أنك صبوت إلى هذا الرجل، قلت: لا، ولكن آمنت بالله وبرسوله، وبعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليكم أعرض عليكم الإسلام وشرائعه. فبينا نحن كذلك إذ جاءوا بقصعة دم فوضعوها، واجتمعوا عليها يأكلوها، فقالوا: هلم يا صدي، فقلت: ويحكم إنما أتيتكم من عند من يحرم هذا عليكم بما أنزله الله عليه. قالوا: وما ذاك؟ قلت: نزلت عليه هذه الآية {حُرِّمَتْ عليكم الميتة وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخنزير} إلى قوله {إِلًّا مَا ذكيتم} (1) فجعلت أدعوهم إلى الإسلام ويأبون، فقلت لهم: ويحكم ائتوني بشيء من ماء فإني شديد العطش. قالوا: لا، ولكن ندعك تموت عطشا، قال: فاعتممت وضربت رأسي في العمامة ونمت في الرمضاء في حر شديد، فأتاني آت في منامي بقدح زجاج لم ير الناس أحسن منه، وفيه شراب لم ير الناس
_________
(1) المائدة الآية (3).(1/440)
ألذ منه، فأمكنني منها فشربتها، فحيث فرغت من شرابي استيقظت، ولا والله ما عطشت ولا عرفت عطشا بعد تلك الشربة، فسمعتهم يقولون: أتاكم رجل من سراة قومكم فلم تمجعوه بمذقة فأتوني بمذيقتهم فقلت: لا حاجة لي فيها، إن الله تبارك وتعالى أطعمني وسقاني، فأريتهم بطني فأسلموا عن آخرهم. (1)
موقفه من الخوارج:
- عن أبي غالب واسمه حزور قال: كنت بالشام فبعث المهلب سبعين رأسا من الخوارج، فنصبوا على درج دمشق فكنت على ظهر بيت لي، فمر أبو أمامة فنزلت فاتبعته، فلما وقف عليهم دمعت عيناه وقال: سبحان الله ما يصنع الشيطان ببني آدم، قالها ثلاثا: كلاب جهنم، كلاب جهنم، شر قتلى تحت ظل السماء -ثلاث مرات- خير قتلى من قتلوه، طوبى لمن قتلهم أو قتلوه (2)، ثم التفت إلي فقال: أبا غالب! إنك بأرض هم بها كثير، فأعاذك الله منهم، قلت: رأيتك بكيت حين رأيتهم. قال: بكيت رحمة حين رأيتهم كانوا من أهل الإسلام (في السنة لعبد الله: كانوا مؤمنين) فكفروا بعد إيمانهم، هل تقرأ سورة آل عمران قلت: نعم. فقرأ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ}، حتى بلغ {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا
_________
(1) مستدرك الحاكم (3/ 641 - 642).
(2) أحمد (5/ 250،269) والترمذي (5/ 210/3000) وقال: "هذا حديث حسن". وابن ماجه (1/ 62/176) والحاكم (2/ 149 - 150) وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم" ووافقه الذهبي.(1/441)
اللَّهُ} (1) وإن هؤلاء كان في قلوبهم زيغ فزيغ بهم، ثم قرأ {ولا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بعد مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} إلى قوله: {ففي رحمة الله هم فيها خَالِدُونَ} (107) (2)، قلت: هم هؤلاء يا أبا أمامة؟ قال: نعم.
قلت: من قبلك تقول أو شيء سمعت من النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: إني إذا لجريء بل سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا مرة ولا مرتين حتى عد سبعا، ثم قال: إن بني إسرائيل تفرقوا على إحدى وسبعين فرقة، وإن هذه الأمة تزيد عليها فرقة كلها في النار إلا السواد الأعظم (3)، قلت: يا أبا أمامة ألا ترى ما فعلوا؟ قال: {عليه ما حمل وعليكم مَا حُمِّلْتُمْ} الآية (4). (5)
- وعنه رضي الله عنه قال: زاغوا فأزاغ الله قلوبهم؛ قال: هم الخوارج. (6)
_________
(1) آل عمران الآية (7).
(2) آل عمران الآيات (105 - 107).
(3) أخرجه: ابن أبي عاصم في السنة (1/ 34/68) والطبراني في الكبير (8/ 268/8035) وفي الأوسط (8/ 98/7198) والبيهقي (8/ 188) وذكره الهيثمي في المجمع (7/ 258) وقال: "رواه الطبراني في الأوسط والكبير بنحوه وفيه أبو غالب وثقه ابن معين وغيره، وبقية رجال الأوسط ثقات وكذلك أحد إسنادي الكبير".
(4) النور الآية (54).
(5) أحمد (5/ 253) وعبد الله بن أحمد في السنة (283) وعبد الرزاق (10/ 152/18663) والطبراني (8/ 319/8033) والمصنف لابن أبي شيبة (7/ 554/37892) وأصول الاعتقاد (1/ 114 - 115/ 151) والشريعة (1/ 155 - 156/ 63و64).
(6) السنة لعبد الله (281) والسنة للخلال (1/ 157).(1/442)
- وعنه قال: {فيتبعون مَا تَشَابَهَ منه} قال: الخوارج وأهل البدع. (1)
موقفه من المرجئة:
عن القاسم عن أبي أمامة قال: من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان. (2)
موقفه من القدرية:
روى ابن بطة بسنده عن أبي أمامة قال: ما آدمي إلا ومعه ملكان؛ ملك يكتب عمله، وملك يقيه ما لم يقدر له. (3)
عبد الملك بن مروان (4) (86 هـ)
عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية الخليفة الفقيه، أبو الوليد الأموي. ولد سنة ست وعشرين، سمع عثمان وأبا هريرة وأبا سعيد وأم سلمة، ومعاوية وابن عمر وغيرهم. روى عنه عروة وخالد بن معدان ورجاء بن حيوة وغيرهم. تملك بعد أبيه الشام ومصر، ثم حارب ابن الزبير الخليفة وقتل أخاه مصعبا في وقعة مسكى، واستولى على العراق، وجهز الحجاج لحرب ابن الزبير، فقتل ابن الزبير سنة ثلاث وسبعين. واستوسقت
_________
(1) الإبانة (2/ 4/606 - 607/ 783) وابن أبي حاتم (2/ 594/3179).
(2) أصول الاعتقاد (5/ 1017/1714).
(3) الإبانة (2/ 9/171/ 1657).
(4) السير (4/ 246 - 249) وتهذيب الكمال (18/ 408 - 414) وطبقات ابن سعد (5/ 223 - 235) والبداية والنهاية (8/ 263) وتهذيب التهذيب (6/ 368 - 369) والشذرات (1/ 97).(1/443)
الممالك لعبد الملك وهو عام الجماعة. كان قبل الخلافة عابدا ناسكا بالمدينة، شهد مقتل عثمان وهو ابن عشر. قال عبادة بن نسي: قال ابن عمر: إن لمروان ابنا فقيها فسلوه. عن نافع قال: لقد رأيت المدينة وما بها شاب أشد تشميرا ولا أفقه ولا أنسك ولا أقرأ لكتاب الله من عبد الملك. قال الذهبي: ذكرته لغزارة علمه. قال الشعبي: ما جالست أحدا إلا وجدت لي عليه الفضل إلا عبد الملك بن مروان فإني ما ذاكرته حديثا إلا زادني فيه ولا شعرا إلا زادني فيه. قال الذهبي: كان من رجال الدهر ودهاة الرجال، وكان الحجاج من ذنوبه. توفي في شوال سنة ست وثمانين عن نيف وستين سنة.
موقفه من المشركين:
جاء في البداية والنهاية: عن عبد الرحمن بن حسان قال: كان الحارث الكذاب من أهل دمشق، وكان مولى لأبي الجلاس، وكان له أب بالجولة، فعرض له إبليس، وكان رجلا متعبدا زاهدا لو لبس جبة من ذهب لرؤيت عليه الزهادة والعبادة، وكان إذا أخذ بالتحميد لم يسمع السامعون مثل تحميده ولا أحسن من كلامه، فكتب إلى أبيه وكان بالجولة: يا أبتاه أعجل علي فإني قد رأيت أشياء أتخوف أن يكون الشيطان قد عرض لي، قال فزاده أبوه غيا على غيه، فكتب إليه أبوه: يا بني أقبل على ما أمرت به فإن الله تعالى يقول: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} (1) ولست بأفاك ولا أثيم، فامض لما أمرت به، وكان يجيء
_________
(1) الشعراء الآيتان (221و222).(1/444)
إلى أهل المسجد رجلا فيذاكرهم أمره ويأخذ عليهم العهد والميثاق إن هو يرى ما يرضى وإلا كتم عليه.
قال: وكان يريهم الأعاجيب. كان يأتي إلى رخامة في المسجد فينقرها بيده فتسبح تسبيحا بليغا حتى يضج من ذلك الحاضرون. قلت: وقد سمعت شيخنا العلامة أبا العباس ابن تيمية رحمه الله يقول كان ينقر هذه الرخامة الحمراء التي في المقصورة فتسبح، وكان زنديقا. قال ابن أبي خيثمة في روايته: وكان الحارث يطعمهم فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، وكان يقول لهم: اخرجوا حتى أريكم الملائكة، فيخرج بهم إلى دير المراق فيريهم رجالا على خيل فيتبعه على ذلك بشر كثير، وفشا أمره في المسجد، وكثر أصحابه وأتباعه، حتى وصل الأمر إلى القاسم بن مخيمرة، قال: فعرض على القاسم أمره، وأخذ عليه العهد إن هو رضي أمرا قبله، وإن كرهه كتم عليه، قال فقال له: إني نبي، فقال القاسم: كذبت يا عدو الله، ما أنت نبي، وفي رواية ولكنك أحد الكذابين الدجالين الذين أخبر عنهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الساعة لا تقوم حتى يخرج ثلاثون دجالون كذابون كلهم يزعم أنه نبي" (1) وأنت أحدهم ولا عهد لك. ثم قام فخرج إلى أبي إدريس -وكان على القضاء بدمشق- فأعلمه بما سمع من الحارث فقال أبو إدريس نعرفه، ثم أعلم أبو إدريس عبد الملك بذلك.
وفي رواية أخرى أن مكحولا وعبد الله بن أبي زائدة دخلا على الحارث فدعاهما إلى نبوته فكذباه وردا عليه ما قال،
_________
(1) أحمد (2/ 313) والبخاري (6/ 764/3609) ومسلم (4/ 2239 - 2240/ 157) وأبو داود (4/ 507/4333) والترمذي (4/ 432/2218) من حديث أبي هريرة.(1/445)
ودخلا على عبد الملك فأعلماه بأمره، فتطلبه عبد الملك طلبا حثيثا، واختفى الحارث وصار إلى دار بيت المقدس يدعو إلى نفسه سرا واهتم عبد الملك بشأنه حتى ركب إلى النصرية فنزلها فورد عليه هناك رجل من أهل النصرية ممن كان يدخل على الحارث وهو ببيت المقدس فأعلمه بأمره وأين هو، وسأل مِن عبد الملك أن يبعث معه بطائفة من الجند الأتراك ليحتاط عليه فأرسل معه طائفة وكتب إلى نائب القدس ليكون في طاعة هذا الرجل ويفعل ما يأمره به، فلما وصل الرجل إلى النصرية ببيت المقدس بمن معه انتدب نائب القدس لخدمته، فأمره أن يجمع ما يقدر عليه من الشموع ويجعل مع كل رجل شمعته فإذا أمرهم بإشعالها في الليل أشعلوها كلهم في سائر الطرق والأزقة حتى لا يخفى أمره، وذهب الرجل بنفسه فدخل الدار التي فيها الحارث فقال لبوابه استأذن على نبي الله، فقال: في هذه الساعة لا يؤذن عليه حتى يصبح، فصاح النصري أسرجوا، فأشعل الناس شموعهم حتى صار الليل كأنه النهار، وهم النصري على الحارث فاختفى منه في سرب هناك فقال أصحابه هيهات يريدون أن يصلوا إلى نبي الله، إنه قد رفع إلى السماء، قال فأدخل النصري يده في ذلك السرب فإذا بثوبه فاجتره فأخرجه، ثم قال للفرعانين من أتراك الخليفة [:خذوه] (1) قال فأخذوه فقيدوه، فيقال إن القيود والجامعة سقطت من عنقه مرارا ويعيدونها، وجعل يقول: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ
_________
(1) زيادة ليست في الأصل، والسياق يقتضيها.(1/446)
سَمِيعٌ قَرِيبٌ} (1) وقال لأولئك الأتراك: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} (2)؟ فقالوا له بلسانهم ولغتهم: هذا كراننا فهات كرانك، أي هذا قرآننا فهات قرآنك، فلما انتهوا به إلى عبد الملك أمر بصلبه على خشبة وأمر رجلا فطعنه بحربة فانثنت في ضلع من أضلاعه، فقال له عبد الملك: ويحك أذكرت اسم الله حين طعنته؟ فقال: نسيت، فقال: ويحك سم الله ثم اطعنه، قال فذكر اسم الله ثم طعنه فأنفذه، وقد كان عبد الملك حبسه قبل صلبه وأمر رجالا من أهل الفقه والعلم أن يعظوه ويعلموه أن هذا الذي به من الشيطان، فأبى أن يقبل منهم فصلبه بعد ذلك، وهذا من تمام العدل والدين. (3)
عبد الله بن أبي أَوْفَى (4) (87 هـ)
عبد الله بن أبي أوفى علقمة بن خالد بن الحارث الفقيه المعمر، صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم -، أبو معاوية وقيل: أبو محمد، الأسلمي من أهل بيعة الرضوان، وخاتمة من مات بالكوفة من الصحابة، وأبوه صحابي أيضا. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عدة أحاديث. وروى عنه إبراهيم بن مسلم الهجري وإسماعيل بن أبي خالد وعطاء بن السائب وسليمان الأعمش وغيرهم. وقد فاز عبد الله
_________
(1) سبأ الآية (50).
(2) غافر الآية (28) ..
(3) البداية (9/ 29 - 31).
(4) السير (3/ 428 - 430) وتهذيب الكمال (14/ 317 - 319) والبداية والنهاية (9/ 81) وطبقات ابن سعد (4/ 301 - 302) والاستيعاب (3/ 870 - 871) والإصابة (4/ 18 - 19) وأسد الغابة (3/ 181 - 182) وشذرات الذهب (1/ 96).(1/447)
بالدعوة النبوية حيث أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بزكاة والده فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم صل على آل أبي أوفى". (1) وقد كف بصره في آخر حياته. في الصحيحين أن عبد الله قال: "غزونا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - سبع غزوات نأكل الجراد" (2). توفي سنة سبع وثمانين بالكوفة وقد قارب مائة سنة.
موقفه من الخوارج:
- روى ابن أبي عاصم: عن أبي حفص أنه سمع عبد الله بن أبي أوفى وهم يقاتلون الخوارج، وكان غلام له قد لحق بالخوارج من الشق الآخر، فناديناه يا فيروز، يا فيروز، هذا عبد الله بن أبي أوفى، فقال: نعم الرجل لو هاجر، قال عبد الله: ما يقول عدو الله؟ فقيل له: يقول نعم الرجل لو هاجر. فقال: أهجرة بعد هجرتي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ وقد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: طوبى لمن قتلهم وقتلوه (3).اهـ (4)
- وعن سعيد بن جمهان قال: أتيت عبد الله بن أبي أوفى وهو محجوب البصر فسلمت عليه، قال لي: من أنت؟ فقلت: أنا سعيد بن جمهان قال: فما
_________
(1) أحمد (4/ 353و383) والبخاري (3/ 460 - 461/ 1497) ومسلم (2/ 756 - 757/ 1078) وأبو داود (2/ 246 - 247/ 1590) والنسائي (5/ 31/2458) وابن ماجه (1/ 572/1796).
(2) أحمد (4/ 353و357و380) والبخاري (9/ 774/5495) ومسلم (3/ 1546/1952) وأبو داود (4/ 164/3812) والترمذي (4/ 236 - 237/ 1821 - 1822) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي (7/ 239/4367 - 4368).
(3) أحمد (4/ 382) وابن أبي عاصم (2/ 438 - 439/ 906) وفيه سعيد بن جمهان. قال الحافظ: "صدوق له أفراد". وحسن إسناده الشيخ الألباني في تخريجه لكتاب السنة.
(4) ابن أبي عاصم (2/ 438 - 439/ 906) وأصول الاعتقاد (7/ 1305/2312) وهو عند الإمام أحمد في مسنده (4/ 382) والسنة لابنه (279).(1/448)
فعل والدك؟ قال: قلت: قتلته الأزارقة. قال: لعن الله الأزارقة، لعن الله الأزارقة، حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهم كلاب النار (1) قال: قلت: الأزارقة وحدهم أم الخوارج كلها؟ قال: بل الخوارج كلها. قال: قلت: فإن السلطان يظلم الناس ويفعل بهم. قال: فتناول يدي فغمزها بيده غمزة شديدة ثم قال: ويحك يا ابن جمهان، عليك بالسواد الأعظم، عليك بالسواد الأعظم، إن كان السلطان يسمع منك فأته في بيته فأخبره بما تعلم، فإن قبل منك وإلا فدعه، فإنك لست بأعلم منه. (2)
موقفه من المرجئة:
عن بلال بن المنذر الحنفي قال: كنا مع ابن أبي أوفى فقالت له امرأة: يا صاحب رسول الله استغفر لي فقال: إنما يغفر لك بعملك. (3)
عبد الله بن بُسْر (4) (88 هـ)
عبد الله بن بُسْر المازني، كنيته: أبو بسر ويقال أبو صفوان، نزيل حمص، له أحاديث قليلة، وصحبة يسيرة ولأخويه عطية والصماء ولأبيهم صحبة.
_________
(1) أحمد (4/ 355) وابن ماجه (1/ 61/173) والحاكم (3/ 571) وصححه ووافقه الذهبي. وللحديث شواهد من حديث أبي أمامة.
(2) المسند للإمام أحمد (4/ 382 - 383) والسنة لابنه (286) والسنة لابن أبي عاصم (2/ 438/905) والمسند للطيالسي (822) وأصول الاعتقاد (7/ 1306/2313).
(3) أصول الاعتقاد (5/ 1019/1719).
(4) طبقات ابن سعد (7/ 413) والإصابة (4/ 23 - 24) وتهذيب الكمال (14/ 333) والجرح والتعديل (5/ 11) والسير (3/ 430 - 433) وشذرات الذهب (1/ 98 - 111).(1/449)
روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أبيه وأخيه. وروى عنه خالد بن معدان وأبو الزاهرية، وصفوان بن عمرو وحريز بن عثمان وغيرهم. غزا جزيرة قبرس مع معاوية في دولة عثمان.
مات بالشام وقيل بحمص منها سنة ثمان وثمانين، وهو آخر من مات بالشام من الصحابة.
موقفه من المبتدعة:
جاء في الإبانة: عن زيد بن ضمير الرحبي قال: سألت عبد الله بن بسر صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم -: كيف حالنا من حال من كان قبلنا؟ قال: سبحان الله لو نشروا من القبور ما عرفوكم إلا أن يجدوكم قياما تصلون. (1)
يحيى بن يعمر (2) (89 هـ)
يحيى بن يَعْمَر الفقيه، المقرئ، أبو إسماعيل العَدْوَانيّ البصري، قاضي
مرو، حدث عن أبي ذر الغفاري وعمار بن ياسر وابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم. وروى عنه عبد الله بن بريدة، وقتادة، وعكرمة، وعطاء الخراساني. وقرأ القرآن على أبي الأسود الدؤلي، وكان من أوعية العلم وحملة الحجة. قال هارون بن موسى: أول من نقط القرآن يحيى بن يعمر. ولاه الأمير قتيبة بن مسلم قضاء خراسان، فكان إذا انتقل من بلد إلى بلد
_________
(1) الإبانة (2/ 4/572 - 573/ 717).
(2) السير (4/ 441) وتذكرة الحفاظ (1/ 75) وطبقات ابن سعد (7/ 368) وتهذيب الكمال (32/ 53) والبداية والنهاية (9/ 78) وشذرات الذهب (1/ 175).(1/450)
استخلف على القضاء بها. قال أبو عمرو الداني: روى القراءة عنه عرضا عبد الله بن أبي إسحاق وأبو عمرو ابن العلاء. قال خليفة بن خياط: توفي قبل التسعين وقال ابن الجوزي: توفي سنة تسع وثمانين.
موقفه من القدرية:
روى اللالكائي بسنده: عن يحيى بن يعمر قال: كان رجل من جهينة وفيه رهق وكان يتوثب على جيرانه، ثم إنه قرأ القرآن وفرض الفرائض وقص على الناس، ثم إنه صار من أمره أنه زعم: أن العمل أنف من شاء عمل خيرا ومن شاء عمل شرا. قال: فلقيت أبا الأسود الديلي فذكرت ذلك له. فقال: كذب ما رأينا أحدا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يثبت القدر. (1)
- عن يحيى بن يعمر قال: كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين، أو معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر، فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب داخلا في المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي -أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله- فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي، فقلت: أبا عبد الرحمن، إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرؤون القرآن ويتقفرون العلم، وذكر من شأنهم؛ وأنهم يزعمون أن لا قدر، وأن الأمر أنف، قال: فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر: لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر، ثم قال: حدثني أبي عمر بن الخطاب، قال: بينما
_________
(1) أصول الاعتقاد (4/ 645 - 646/ 1037).(1/451)
نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا" قال: صدقت، قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه، قال: فأخبرني عن الإيمان، قال: "أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره"، قال: صدقت، قال: فأخبرني عن الإحسان، قال: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك" قال: فأخبرني عن الساعة قال: "ما المسؤول عنها بأعلم من السائل" قال: فأخبرني عن أمارتها، قال: "أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان" قال: ثم انطلق، فلبثت مليا، ثم قال: "يا عمر، أتدري من السائل؟ "
قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم". (1)
_________
(1) أحمد (1/ 27) ومسلم (1/ 36 - 38/ 8) وأبو داود (5/ 69 - 73/ 4695) والترمذي (5/ 8 - 9/ 2610) والنسائي (8/ 472 - 475/ 5005) وابن ماجه (1/ 24 - 25/ 63).(1/452)
أبو العَالِيَة (1) (90 هـ)
رُفَيْع بن مِهْرَان، الإمام المقرئ الحافظ المفسر، أبو العالية الرِّيَاحِيّ البصري أحد الأعلام، مولى امرأة من بني رياح بن يربوع حي من بني تميم، أعتقته سائبة. أدرك الجاهلية وأسلم بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - في خلافة أبي بكر الصديق ودخل عليه، وصلى خلف عمر بن الخطاب، وروى عنه وعن علي وأبي بن كعب وابن مسعود وأبي ذر، وعائشة وأبي موسى وابن عباس وعدة. وروى عنه بكر بن عبد الله المزني، وثابت البناني وخالد الحذاء وأبو خلدة خالد بن دينار وغيرهم. حفظ القرآن وقرأه على أبي بن كعب، وتصدر لإفادة العلم، وبعد صيته. وعن أبي خلدة عن أبي العالية قال: كنت آتي ابن عباس فيرفعني على السرير، وقريش أسفل من السرير، فتغامزت بي قريش، وقالوا: يرفع هذا العبد على السرير، ففطن بهم ابن عباس فقال: إن هذا العلم يزيد الشريف شرفا، ويجلس المملوك على الأسرة. وقال أبو خلدة: ذكر الحسن البصري لأبي العالية، فقال: رجل مسلم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وأدركنا الخير وتعلمنا قبل أن يولد، وكنت آتي ابن عباس وهو أمير البصرة، فيجلسني على السرير وقريش أسفل. وقال أبو خلدة: قال أبو العالية: لما كان زمان علي ومعاوية وإني لشاب، القتال أحب إلي من الطعام الطيب، فتجهزت بجهاز حسن حتى أتيتهم، فإذا صفان ما يرى طرفاهما، إذا
_________
(1) تهذيب الكمال (9/ 214 - 218) وطبقات ابن سعد (7/ 112 - 117) وسير أعلام النبلاء (4/ 207 - 213) وحلية الأولياء (2/ 217 - 224) وتذكرة الحفاظ (1/ 61 - 62) وشذرات الذهب (1/ 102) وتهذيب التهذيب (3/ 284 - 286) ومشاهير علماء الأمصار (95).(1/453)
كبر هؤلاء كبر هؤلاء وإذا هلل هؤلاء هلل هؤلاء، فراجعت نفسي، فقلت: أي الفريقين أنَزِّلُه كافرا؟ ومن أكرهني على هذا؟ قال: فما أمسيت حتى رجعت وتركتهم. توفي رحمه الله سنة تسعين.
موقفه من المبتدعة:
- جاء في أصول الاعتقاد عن عاصم قال أبو العالية: ما أدري أي النعمتين علي أعظم: إذ أخرجني الله من الشرك إلى الإسلام، أو عصمني في الإسلام أن يكون لي فيه هوى. (1)
- وفيه قال: تعلموا الإسلام، فإذا تعلمتموه فلا ترغبوا عنه، وعليكم بالصراط المستقيم فإنه الإسلام. ولا تحرفوا الإسلام يمينا ولا شمالا، وعليكم بسنة نبيكم، والذي كان عليه أصحابه، وإياكم وهذه الأهواء التي تلقي بين الناس العداوة والبغضاء.
فحدثت الحسن، فقال: صدق ونصح. قال: فحدثت حفصة بنت سيرين فقالت: يا باهلي: أنت حدثت محمدا (2) بهذا؟ قلت: لا، قالت: فحدثه إذا. (3)
- وجاء في الإبانة: عن أبي العالية في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا
_________
(1) أصول الاعتقاد (1/ 147/230) وذم الكلام (ص.196).
(2) تعني أخاها محمد بن سيرين.
(3) أصول الاعتقاد (1/ 62 - 63/ 17) وابن وضاح (ص.75) والمروزي في السنة (ص.13) والآجري في الشريعة (1/ 124/19) وذم الكلام (ص.195) والإبانة (1/ 2/299 - 300/ 136) والاستقامة (1/ 254) والاعتصام (1/ 114 - 115). وبنحوه في السير (4/ 210).(1/454)
اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} (1) قال: الذين أخلصوا الدين والعمل والدعوة. (2)
- وفيها (3): عنه أيضا قال: آيتان في كتاب الله ما أشدهما على الذين يجادلون في القرآن: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} (4)، {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} (5).
- وفي طبقات الحنابلة: قال أبو العالية: من مات على السنة مستورا فهو صديق. والاعتصام بالسنة نجاة. (6)
موقفه من الجهمية:
قال أبو العالية: استوى إلى السماء: ارتفع. (7)
موقفه من الخوارج:
عن محمد بن واسع عن أبي العالية قال: ما أدري أي النعمتين أعظم علي، نعمة أنعمها علي فأنقذني بها من الشرك، أو نعمة أنعمها علي فأنقذني بها من الحرورية. (8)
_________
(1) فصلت الآية (30).
(2) الإبانة (1/ 2/334 - 335/ 195).
(3) الإبانة (2/ 3/494/ 540).
(4) غافر الآية (4).
(5) البقرة الآية (176).
(6) طبقات الحنابلة (2/ 42).
(7) علقه البخاري (13/ 496).
(8) عبد الرزاق (10/ 153/18667) ورياض الجنة بتخريج أصول السنة لابن أبي زمنين (304) والطبقات لابن سعد (7/ 114) والسير (4/ 212).(1/455)
موقفه من المرجئة:
- عن الربيع بن أنس عن أبي العالية: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صدقوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (1) يقول: تكلموا بكلام الإيمان وحققوه بالعمل. (2)
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية: قال أبو العالية: أدركت ثلاثين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلهم يخاف النفاق على نفسه. (3)
موقفه من القدرية:
- جاء في أصول الاعتقاد: عن عاصم الأحول قال: لما خاض الناس في القدر اجتمع رفيع أبو العالية ومسلم بن يسار. فقال أحدهما لصاحبه: تعال حتى ننظر فيما خاض الناس فيه. قال: اجتمع رأيهما أنهما قالا: يكفيك من هذا الأمر أن تعلم: أنه لن يصيبك إلا ما كتب الله لك وأنك مجزي بعملك. (4)
- وفي الإبانة: عن أبي العالية {كَمَا بدأكم تعودون} (5)؛ قال: عادوا إلى علمه فيهم، ألم تسمع إلى قول الله عز وجل: {فريقًا هدى
_________
(1) البقرة الآية (177).
(2) الإبانة (2/ 792/1074) والشريعة (1/ 285/278).
(3) مجموع الفتاوى (6/ 353)، وفي البخاري معلقا من قول ابن أبي مليكة في كتاب الإيمان (1/ 147 الفتح) وقال الحافظ: "وصله ابن أبي خيثمة في تاريخه لكنه أبهم العدد".
(4) أصول الاعتقاد (4/ 761/1269).
(5) الأعراف الآية (29).(1/456)
وفريقًا حق عليهم الضلالة} (1).اهـ (2)
إبراهيم التَّيْمِي أبو أسماء (3) (92 هـ)
إبراهيم بن يزيد بن شريك التيمي، من تيم الرباب، أبو أسماء الكوفي، الإمام القدوة الفقيه، كان من العباد. حدث عن أبيه يزيد بن شريك التيمي، وأنس بن مالك، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وعمرو بن ميمون الأودي. وحدث عنه الحكم بن عتيبة والأعمش، ومسلم البطين، وجماعة. كان إبراهيم شابا صالحا قانتا لله عالما فقيها كبير القدر واعظا.
روى أبو حيان عن إبراهيم قال: ما عرضت قولي على عملي إلا خفت أن أكون مكذبا. وروى الثوري قال إبراهيم التيمي: كم بينكم وبين القوم، أقبلت عليهم الدنيا فهربوا، وأدبرت عنكم فاتبعتموها. قتله الحجاج وقيل: بل مات في حبسه سنة اثنتين وتسعين وقيل سنة أربع وتسعين، ولم يبلغ أربعين سنة.
موقفه من المبتدعة:
روى ابن عبد البر في جامع بيان العلم عنه أنه كان يقول: اللهم اعصمني بدينك وبسنة نبيك من الاختلاف في الحق، ومن اتباع الهوى، ومن
_________
(1) الأعراف الآية (30).
(2) أصول الاعتقاد (4/ 761/1269) والإبانة (1/ 8/277 - 278/ 1293).
(3) طبقات ابن سعد (6/ 285 - 286) والسير (5/ 60 - 62) وتهذيب الكمال (2/ 232 - 233) والتاريخ الكبير (1/ 334 - 335) والجرح والتعديل (2/ 145).(1/457)
سبيل الضلالة، ومن شبهات الأمور، ومن الزيغ والخصومات. (1)
أنس بن مالك (2) (92 هـ)
أنس بن مالك بن النَّضْر بن ضَمْضَم الإمام المفتي المقرئ المحدث، أبو حمزة الأنصاري الخزرجي النجاري المدني، نزيل البصرة، صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخادمه. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - علما جما، وعن أبي بكر وعمر وعثمان وعدة، وروى عنه خلق عظيم منهم الحسن، وابن سيرين والشعبي وغيرهم، وبقي أصحابه الثقات إلى بعد الخمسين ومائة، وبقي ضعفاء أصحابه إلى بعد التسعين ومائة، وبقي بعدهم ناس لا يوثق بهم. فعن أنس قال: "قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة وأنا ابن عشر، ومات وأنا ابن عشرين، وكن أمهاتي يحثثنني على خدمته" (3). وغزا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - غير مرة، وبايع تحت الشجرة. وعنه قال: "جاءت بي أمي؛ أم أنس، إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد أزرتني بنصف خمارها وردتني بنصفه، فقالت: يا رسول الله. هذا أنيس ابني، أتيتك به يخدمك،
_________
(1) جامع بيان العلم وفضله (2/ 1179) وذكره الشاطبي في الاعتصام (1/ 116).
(2) طبقات ابن سعد (7/ 17 - 26) والاستيعاب (1/ 109 - 111) والإصابة (1/ 126 - 129) والبداية والنهاية (9/ 88 - 92) وتذكرة الحفاظ (1/ 44 - 45) وسير أعلام النبلاء (3/ 395 - 406) ومجمع الزوائد (9/ 325) والمستدرك (3/ 573 - 575) وشذرات الذهب (1/ 100 - 101) وتهذيب الكمال (3/ 353 - 378).
(3) أحمد (3/ 110) مسلم (3/ 1603/2029 (125)) من طريق زهير بن حرب ومحمد بن عبد الله بن نمير قال حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن أنس قال: فذكره. والطرف الأخير من الحديث الذي فيه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الأيمن فالأيمن" أخرجه أحمد (3/ 113و97) والبخاري (5/ 38/2352) ومسلم (3/ 1603/2029) وأبو داود (4/ 113 - 114/ 3726) والترمذي (4/ 271/1893) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي في الكبرى (4/ 193/6861و6862) وابن ماجه (2/ 1133/3425) كلهم من طرق عن ابن شهاب عن أنس رضي الله عنه فذكره.(1/458)
فادع الله له، فقال: اللهم أكثر ماله وولده، قال أنس: فوالله، إن مالي لكثير، وإن ولدي وولد ولدي ليتعادون على نحو المائة اليوم" (1).
توفي رضي الله عنه سنة اثنتين وتسعين.
موقفه من المبتدعة:
- في صحيح البخاري: قال الزهري دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي، فقلت له ما يبكيك فقال: ما أعرف شيئا مما أدركت إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضيعت. (2)
- وروى ابن بطة: عن ثابت عن أنس قال: ما من شيء كنت أعرفه على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إلا قد أصبحت له منكرا، إلا أني أرى شهادتكم هذه ثابتة. قال: فقيل: يا أبا حمزة فالصلاة؟ قال: قد فعل فيها ما رأيتم. (3)
" التعليق:
قال الطرطوشي: فانظروا -رحمكم الله- إذا كان في ذلك الزمان طمس الحق وظهر الباطل حتى لا يعرف من الأمر القديم إلا القبلة، فما ظنك بزمانك هذا؟!! والله المستعان. (4)
- وجاء في ذم الكلام: عن حميد الأعرج، قال: سمع أنس بن مالك ابنه
_________
(1) مسلم (4/ 1929/2481 (143)) من طريق عمر بن يونس عن عكرمة عن إسحاق عن أنس رضي الله عنه قال فذكره. وأصل حديث دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنس بكثرة المال والولد .. أخرجه أحمد (3/ 194 و248) والبخاري (11/ 217/6378 - 6379) ومسلم (4/ 1928/2480) والترمذي (5/ 640/3829).
(2) البخاري (2/ 16/530).
(3) الإبانة (2/ 4/573/ 718). وبنحوه عند أحمد (3/ 101) والبخاري (2/ 16/529) والترمذي (4/ 545/2447).
(4) الحوادث والبدع (ص.42).(1/459)
عبد الله يخاصم الأشتر، فقال: لا تخاصم بالقرآن وخاصم بالسنة. (1)
- وعن أنس قال: إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر، إن كنا لنعدها على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الموبقات. (2)
موقفه من الرافضة:
روى الآجري بسنده إلى حميد، قال: قال أنس بن مالك: قالوا: إن حب عثمان وعلي رضي الله عنهما لا يجتمع في قلب مؤمن وكذبوا، قد اجتمع حبهما بحمد الله في قلوبنا. (3)
موقفه من الصوفية:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه سئل عن القوم يقرأ عليهم القرآن فيصعقون، فقال: ذلك فعل الخوارج. (4)
" تنبيه:
انظر رعاك الله كيف سرى هذا الداء الأجرب الذي تعبد به الصوفية ربهم، وهو لعمري داء أجرب، كيف لا وقد أنكره خادم النبي - صلى الله عليه وسلم - وجعله من شيم الخوارج.
موقفه من الجهمية:
- عن أنس بن مالك قال: دخلت على ابن زياد، وهم يتذاكرون الحوض، فلما رأوني طلعت عليهم، قالوا: قد جاءكم أنس فقالوا: يا أنس ما
_________
(1) ذم الكلام (ص.67).
(2) أحمد (3/ 157) والبخاري (11/ 400/6492).
(3) الشريعة (3/ 22/1287).
(4) أبو عبيد في فضائل القرآن (2/ 16/375) وتلبيس إبليس (ص.311).(1/460)
تقول في الحوض؟ فقلت: والله ما شعرت أني أعيش حتى أرى أمثالكم. تشكون في الحوض، لقد تركت عجائز بالمدينة، ما تصلي واحدة منهن صلاة إلا سألت ربها عز وجل أن يوردها حوض محمد - صلى الله عليه وسلم -. (1)
" التعليق:
قال محمد بن الحسين الآجري رحمه الله تعالى معلقا: ألا ترون إلى أنس بن مالك رحمه الله يتعجب ممن يشك في الحوض، إذ كان عنده أن الحوض مما يؤمن به الخاصة والعامة حتى إن العجائز يسألن الله عز وجل أن يسقيهن من حوضه - صلى الله عليه وسلم -، فنعوذ بالله ممن لا يؤمن بالحوض، ويكذب به.
- قال عبد الله الرومي: جاء رجل إلى أنس بن مالك وأنا عنده فقال: يا أبا حمزة: لقيت قوما يكذبون بالشفاعة وعذاب القبر. فقال: أولئك الكذابون فلا تجالسهم. (2)
- عن أنس قال: من كذب بالشفاعة فلا نصيب له فيها. (3)
- عن أنس بن مالك في قوله عز وجل: {ولدينا مزيد} (4). قال: يظهر لهم الرب عز وجل يوم القيامة. (5)
_________
(1) الشريعة (2/ 177/893).
(2) الإبانة (2/ 3/448/ 408) وأصول الاعتقاد (6/ 1198/2120).
(3) أصول الاعتقاد (6/ 1182/2088) والآجري في الشريعة (2/ 147/829).
(4) ق الآية (35).
(5) أصول الاعتقاد (3/ 519/813).(1/461)
موقفه من الخوارج:
جاء في الإبانة: عن يزيد قال: قلت لأنس بن مالك: إن ناسا يشهدون علينا بالشرك فقال: أولئك شر الخليقة، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: بين العبد والشرك أو الكفر ترك الصلاة أو من ترك الصلاة كفر. (1)
موقفه من القدرية:
جاء في الإبانة: قال أبو بلال القسملي: سألت أنس بن مالك: هل كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكرون القدر؟ قال: إنه لم يك شيء أكره إليهم من الخصومات، وكانوا إذا ذكر لهم شيء من ذلك نفضوا أرديتهم وتفرقوا. (2)
عُرْوَة بن الزُّبَيْر (3) (93 هـ)
عروة ابن حواري رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وابن عمته صفية، الزبير بن العوام بن خويلد الإمام، عالم المدينة أبو عبد الله القرشي الأسدي، المدني الفقيه، أحد الفقهاء السبعة. حدث عن أبيه بشيء يسير لصغره، وعن أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق وعن خالته أم المؤمنين عائشة ولازمها وتفقه بها، وكان عالما
_________
(1) الإبانة (5/ 676 - 677/ 882) وتعظيم قدر الصلاة للمروزي (2/ 880 - 881/ 900) والمرفوع منه أخرجه ابن ماجه (1/ 342/1080).
(2) الإبانة (2/ 3/524/ 630).
(3) طبقات ابن سعد (5/ 178 - 182) والبداية والنهاية (9/ 101 - 103) وحلية الأولياء (2/ 176 - 183) وسير أعلام النبلاء (4/ 421 - 437) ووفيات الأعيان (3/ 255 - 258) والمعرفة والتاريخ (1/ 364 - 365 و550 - 554) وتهذيب الكمال (20/ 11 - 25) وتذكرة الحفاظ (1/ 62 - 63) وشذرات الذهب (1/ 103 - 104) ومشاهير علماء الأمصار (64).(1/462)
بالسيرة حافظا ثبتا. حدث عنه بنوه: هشام ومحمد وعثمان ويحيى، وحفيده عمر بن عبد الله بن عروة، والزهري وأبو الزناد، وخلق كثير. قال الزهري: رأيته بحرا لا ينزف، قال: وكان يتألف الناس حديثه. وعن عثمان بن عروة قال: كان عروة يقول: يا بني هلموا فتعلموا فإن أزهد الناس في عالم أهله، وما أشده على امرئ أن يسأل عن شيء من أمر دينه فيجهله. وعن هشام بن عروة عن أبيه أنه وقعت الأكلة في رجله، فقيل له: ألا ندعو لك طبيبا؟ قال: إن شئتم، فجاء الطبيب فقال: أسقيك شرابا يزول فيه عقلك. فقال: امض لشأنك ما ظننت أن خلقا يشرب شرابا ويزول فيه عقله حتى لا يعرف ربه، قال: فوضع المنشار على ركبته اليسرى ونحن حوله فما سمعنا له حسا، فلما قطعها جعل يقول: لئن أخذت لقد أبقيت، ولئن ابتليت لقد عافيت. وترك حزبه من القراءة تلك الليلة. وعن هشام بن عروة عن أبيه قال: إذا رأيت الرجل يعمل الحسنة فاعلم أن لها عنده أخوات، وإذا رأيته يعمل السيئة فاعلم أن لها عنده أخوات، فإن الحسنة تدل على أختها وإن السيئة تدل على أختها. توفي رضي الله عنه سنة ثلاث وتسعين.
موقفه من المبتدعة:
روى الدارمي عن عروة بن الزبير قال: ما زال أمر بني إسرائيل معتدلا ليس فيه شيء حتى نشأ فيهم المولدون أبناء سبايا الأمم أبناء النساء التي سبت بنو إسرائيل من غيرهم، فقالوا فيهم بالرأي فأضلوهم. (1)
_________
(1) الدارمي (1/ 50) وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1/ 1047) وذكره الشاطبي في الاعتصام (1/ 135). وابن القيم في إعلام الموقعين (1/ 74).(1/463)
"
التعليق:
لاشك أن الدعوة إلى الرأي والبعد عن النص أمر دخيل، حمله أعداء الإسلام إلى الإسلام، نرجوا الله تعالى أن يخلصنا من هذه الدعوة المشئومة إنه سميع مجيب.
- وجاء في الاعتصام عن هشام بن عروة عن أبيه: أنه كان يقول: السنن السنن، فإن السنن قوام الدين. (1)
موقفه من الرافضة:
- عن هشام بن عروة، عن أبيه؛ قال: لقد صحبت عائشة رحمها الله حتى قلت قبل وفاتها بأربع سنين أو خمس: لو توفيت اليوم ما ندمت على شيء فاتني منها، فما رأيت أحدا قط كان أعلم بآية أنزلت ولا بفريضة ولا بسنة، ولا أعلم بشعر ولا أروى له، ولا بيوم من أيام العرب، ولا بنسب، ولا بكذا ولا بكذا، ولا بقضاء ولا بطب منها. فقلت لها: يا أمه، الطب من أين علمتيه؟ فقالت: كنت أمرض فينعت لي الشيء، ويمرض المريض فينعت له فينتفع، فأسمع الناس بعضهم لبعض فأحفظه. قال عروة: فلقد ذهب عني عامة علمها لم أسأل عنه. (2)
- عن تميم بن سلمة عن عروة قال: لقد رأيت عائشة تقسم سبعين ألفا وهي ترقع درعها. (3)
_________
(1) الاعتصام (2/ 848).
(2) الشريعة (3/ 482/1958) وهو في أصول الاعتقاد (8/ 1520 - 1521/ 2759).
(3) أصول الاعتقاد (8/ 1522/2764).(1/464)
- عن هشام عن القاسم بن محمد قال: سمعت ابن الزبير قال: ما رأيت امرأة قط أجود من عائشة وأسخى، كانت تجمع الشيء إلى الشيء حتى إذا اجتمع عندها. وضعته مواضعه وأما أسماء فكانت لا تمسك شيئا لغد. (1)
موقفه من المرجئة:
- عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: ما نقصت أمانة عبد قط إلا نقص إيمانه. (2)
- وعنه عن أبيه قال: لا يغرنكم صلاة امرئ ولا صيامه، ما شاء صام وما شاء صلى، لا دين لمن لا أمانة له. (3)
علي بن الحسين (4) (93 هـ)
علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب زيد العابدين الهاشمي العلوي المدني، يكنى أبا الحسين ويقال: أبو الحسن، ويقال أبو محمد، ويقال أبو عبد الله، وأمه أم ولد، اسمها سَلاَّمَة سُلاَفَة بنت ملك الفرس يَزْدَجِرْد، وقيل غزالة. حدث عن أبيه الحسين، وكان معه يوم كائنة كربلاء وله ثلاث وعشرون سنة. وحدث أيضا عن صفية أم المؤمنين وعائشة، وعمه
_________
(1) أصول الاعتقاد (8/ 1521 - 1522/ 2763).
(2) أصول الاعتقاد (5/ 1023/1729) والإبانة (2/ 852/1148) والشريعة (1/ 273/272) والإيمان لابن أبي شيبة (10) وفي المصنف (6/ 159/30323) والسنة للخلال (4/ 49/114).
(3) المصنف لابن أبي شيبة (6/ 160/30326) والإيمان له (13).
(4) السير (4/ 386 - 401) ووفيات الأعيان (3/ 266 - 269) وحلية الأولياء (3/ 133 - 145) وطبقات ابن سعد (5/ 211) وتذكرة الحفاظ (1/ 74 - 75) وتهذيب الكمال (20/ 382 - 404) وشذرات الذهب (1/ 104).(1/465)
الحسن وطائفة، وحدث عنه أولاده: أبو جعفر محمد، وعمر، وزيد المقتول، وعبد الله، والزهري وعمرو بن دينار، والحكم بن عتيبة وزيد بن أسلم وخلق سواهم. عن سعيد بن المسيب قال: ما رأيت رجلا أورع من علي بن الحسين. وقال أبو حازم الأعرج: ما رأيت هاشميا أفضل من علي بن الحسين. قال الواقدي وأبو عبيد والبخاري والفلاس: مات رحمه الله سنة ثلاث وتسعين وقيل سنة أربع وتسعين. ودفن بالبقيع. وليس للحسين بن علي عقب إلا من ولد زين العابدين هذا.
موقفه من المبتدعة:
جاء في أصول الاعتقاد عن إبراهيم بن أبي حفصة بياع السابري قال: قلت لعلي بن الحسين: ناس يقولون: لا ننكح إلا من كان على رأينا، ولا نصلي إلا خلف من كان على رأينا، قال علي بن الحسين: ننكحهم بالسنة ونصلي خلفهم بالسنة. (1)
موقفه من المشركين:
- قال أبو نعيم: حدثنا عيسى بن دينار -ثقة- قال: سألت أبا جعفر عن المختار، فقال: قام أبي على باب الكعبة، فلعن المختار، فقيل له: تلعنه وإنما ذبح فيكم؟ قال: إنه كان يكذب على الله وعلى رسوله. (2)
- وعن علي بن حسين: أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيدخل فيها، فيدعو فنهاه. فقال: ألا أحدثكم حديثا سمعته من أبي
_________
(1) أصول الاعتقاد (1/ 74/57).
(2) السير (4/ 397).(1/466)
عن جدي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: لا تتخذوا قبري عيدا، ولا بيوتكم قبورا، فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم. (1)
قال ابن تيمية معلقا (2): إن أفضل التابعين من أهل بيته علي بن الحسين رضي الله عنه، نهى ذلك الرجل أن يتحرى الدعاء عند قبره - صلى الله عليه وسلم -، واستدل بالحديث ... وكذلك ابن عمه حسن بن حسن شيخ أهل بيته كره أن يقصد الرجل القبر للسلام عليه ... فانظر هذه السنة كيف مخرجها من أهل المدينة وأهل البيت!! الذين لهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرب النسب وقرب الدار، لأنهم إلى ذلك أحوج من غيرهم فكانوا لها أضبط.
موقفه من الرافضة:
- جاء في سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي: قال أبو حازم المدني ما رأيت هاشميا أفقه من علي بن الحسين، سمعته وقد سئل: كيف كانت منزلة أبي بكر وعمر عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فأشار بيده إلى القبر ثم قال: بمنزلتهما منه الساعة. (3)
" التعليق:
ما أكثر فقه هؤلاء الرجال، أليس هذا من أئمة أهل البيت؟ ماذا يقول الروافض قبحهم الله ولعنهم، في قولة هذا الإمام؟ فرضي الله عنه وأرضاه.
_________
(1) ابن أبي شيبة (2/ 150/7542) وأبو يعلى (1/ 361/469) وإسماعيل القاضي في فضل الصلاة (20). قال الهيثمي في المجمع (4/ 3): "رواه أبو يعلى وفيه جعفر بن إبراهيم الجعفري ذكره ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرجا وبقية رجاله ثقات". قال الشيخ الألباني في فضل الصلاة للقاضي: "حديث صحيح بطرقه وشواهده".
(2) الاقتضاء (2/ 659 - 660).
(3) السير (4/ 394 - 395) أصول الاعتقاد (7/ 1378/2460).(1/467)
- وفيها عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: جاء رجل إلى أبي فقال: أخبرني عن أبي بكر قال: عن الصديق تسأل؟ قال وتسميه الصديق؟ قال: ثكلتك أمك قد سماه صديقا من هو خير مني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والمهاجرون والأنصار فمن لم يسمه صديقا فلا صدق الله قوله، اذهب فأحب أبا بكر وعمر وتولهما، فما كان من أمر ففي عنقي. (1)
- وفيها: عن محمد بن علي، عن أبيه، قال قدم قوم من العراق، فجلسوا إلي، فذكروا أبا بكر وعمر فسبوهما، ثم ابتركوا في عثمان ابتراكا، فشتمتهم. (2)
- جاء في البداية: عن محمد بن علي عن أبيه قال: جلس قوم من أهل العراق فذكروا أبا بكر وعمر فنالوا منهما، ثم ابتدأوا في عثمان فقال لهم: أخبروني أأنتم من المهاجرين الأولين الذين {أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (3)
؟ قالوا: لا. قال: فأنتم من الذين {تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} (4)؟ قالوا لا. فقال لهم: أما أنتم فقد أقررتم وشهدتم على أنفسكم أنكم لستم من هؤلاء ولا من هؤلاء، وأنا أشهد أنكم لستم من الفرقة الثالثة الذين قال الله عز وجل فيهم {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ
_________
(1) السير (4/ 395)
(2) السير (4/ 395)
(3) الحشر الآية (8).
(4) الحشر الآية (9).(1/468)
{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} (1) الآية. فقوموا عني لا بارك الله فيكم، ولا قرب دوركم، أنتم مستهزئون بالإسلام، ولستم من أهله. (2)
- وعن القاسم بن عوف قال: قال علي بن الحسين: جاءني رجل فقال: جئتك في حاجة، وما جئت حاجا ولا معتمرا، قلت: وما هي؟ قال: جئت لأسألك متى يبعث علي؟ فقلت: يبعث -والله- يوم القيامة، ثم تهمه نفسه. (3)
- وعن يحيى بن سعيد قال: سمعت علي بن الحسين -وكان أفضل هاشمي أدركته- يقول: أيها الناس أحبونا حب الإسلام، فما برح حبكم حتى صار علينا عارا. (4)
- وعن أبي جعفر محمد بن علي عن أبيه علي بن الحسين قال: من زعم منا أهل البيت أو غيره أن طاعته مفترضة على العباد فقد كذب علينا ونحن منهم براء، فاحذر ذلك إلا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولأولي الأمر من بعده. (5)
موقفه من الجهمية:
- عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: سئل علي بن الحسين عن القرآن، فقال: ليس بخالق ولا مخلوق ولكنه كلام الخالق. (6)
_________
(1) الحشر الآية (10).
(2) البداية (9/ 112).
(3) السنة لابن أبي عاصم (997) وهو في السير (4/ 396) والبداية والنهاية (9/ 112)
(4) الطبقات لابن سعد (5/ 214) والسنة لابن أبي عاصم (996) والسنة للخلال (1/ 500).
(5) أصول الاعتقاد (8/ 1481/2684).
(6) أصول الاعتقاد (2/ 263/387) والسنة لعبد الله (30) والمنهاج (2/ 253).(1/469)
- وعن الزهري قال: سألت علي بن الحسين عن القرآن؟ قال: كتاب الله وكلامه. (1)
موقفه من القدرية:
جاء في أصول الاعتقاد: قال علي بن الحسين: إن أصحاب القدر حملوا مقدرة الله عز وجل على ضعف رأيهم فقالوا لله: لم؟ ولا ينبغي أن يقال لله: لم؟ (2)
سعيد بن المسيب (3) (94 هـ)
هو سعيد بن المُسَيِّب بن حَزْن بن أبي وَهْب. أبو محمد القرشي المخزومي المدني، سيد التابعين في زمانه، ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر بن الخطاب وقيل لأربع مضين منها بالمدينة. رأى عمر، وسمع عثمان وعليا وزيد ابن ثابت، وعائشة وأبا هريرة وابن عباس وخلقا سواهم. روى عنه إدريس ابن صبيح وأسامة بن زيد الليثي، وإسماعيل بن أمية، وحسان بن عطية، وغيرهم. قال علي بن المديني: لا أعلم في التابعين أحدا أوسع علما من سعيد ابن المسيب، نظرت فيما روى عنه الزهري وقتادة ويحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن حرملة، فإذا كل واحد منهم لا يكاد يروي ما يرويه الآخر ولا يشبهه، فعلمت أن ذلك لسعة علمه، وكثرة روايته، وإذا قال سعيد:
_________
(1) أصول الاعتقاد (2/ 264/389) والإبانة (2/ 12/17 - 18/ 206).
(2) أصول الاعتقاد (4/ 758/1621).
(3) طبقات ابن سعد (5/ 119 - 143) والبداية والنهاية (9/ 99 - 110) ووفيات الأعيان (2/ 375 - 378) والوافي بالوفيات (15/ 262) وسير أعلام النبلاء (4/ 217 - 246) وتهذيب الكمال (11/ 66 - 75) وتذكرة الحفاظ (1/ 54 - 56) وحلية الأولياء (2/ 161 - 175) وشذرات الذهب (1/ 102 - 103) والمعرفة والتاريخ (1/ 468 - 479).(1/470)
مضت السنة، فحسبك به. قال علي: وهو عندي أجل التابعين. وعن مالك عن يحيى بن سعيد، قال: سئل سعيد بن المسيب عن آية، فقال سعيد: لا أقول في القرآن شيئا. قال الذهبي: ولهذا قل ما نقل عنه في التفسير. ومن كلام ابن المسيب قال: لا تملؤوا أعينكم من أعوان الظلمة إلا بإنكار من قلوبكم؛ لكيلا تحبط أعمالكم. توفي رحمه الله سنة أربع وتسعين.
موقفه من المبتدعة:
- روى الدارمي: عن أبي رباح شيخ من آل عمر قال: رأى سعيد بن المسيب رجلا يصلي بعد العصر الركعتين يكثر، فقال له: يا أبا محمد أيعذبني الله على الصلاة؟ قال: لا ولكن يعذبك الله بخلاف السنة. (1)
" التعليق:
قال الشيخ الألباني رحمه الله: وهذا من بدائع أجوبة سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى، وهو سلاح قوي على المبتدعة الذين يستحسنون كثيرا من البدع باسم أنها ذكر وصلاة، ثم ينكرون على أهل السنة إنكار ذلك عليهم، ويتهمونهم بأنهم ينكرون الذكر والصلاة!! وهو في الحقيقة إنما ينكرون خلافهم للسنة في الذكر والصلاة ونحو ذلك. (2)
- وروى عن عبد الرحمن بن حرملة قال: جاء رجل إلى سعيد بن المسيب، يودعه بحج أوعمرة فقال له: لا تبرح حتى تصلي: فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يخرج بعد النداء من المسجد إلا منافق إلا رجل أخرجته حاجة وهو
_________
(1) الدارمي (1/ 116) والبيهقي (2/ 466) والفقيه والمتفقه (1/ 381) بنحوه.
(2) الإرواء (2/ 236).(1/471)
يريد الرجعة إلى المسجد". فقال: إن أصحابي بالحرة، قال: فخرج، قال: فلم يزل سعيد يولع بذكره حتى أخبر أنه وقع من راحلته فانكسرت فخذه. (1)
- وجاء في الاقتضاء: وروى الخلال بإسناد صحيح عن قتادة عن سعيد بن المسيب قال: أحدث الناس الصوت عند الدعاء. (2)
موقفه من الرافضة:
- جاء في أصول الاعتقاد: عن علي بن زيد أن سعيد بن المسيب قال له: مر غلامك فلينظر إلى وجه هذا الرجل، قلت له: أنت تكفيني أخبرني عنه فقال: إن هذا الرجل قد سود الله وجهه كان يقع في علي وطلحة والزبير فجعلت أنهاه فجعل لا ينتهي فقلت: اللهم إن كنت تعلم أنه قد كانت لهم سوابق وقدم فإن كان مسخطا لك ما يقول، فأرني به آية واجعله آية للناس فسود الله وجهه. (3)
- وروى ابن عبد البر في جامع بيان العلم بسنده إلى ابن المسيب أنه سئل عن شيء فقال: اختلف فيه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا رأي لي معهم. قال ابن وضاح: هذا هو الحق.
قال أبو عمر: معناه أنه ليس له أن يأتي بقول يخالفهم جميعا به؟ (4)
- قال سعيد بن المسيب: لو شهدت لأحد حي أنه من أهل الجنة
_________
(1) الدارمي (1/ 118 - 119) وأبو داود في مراسيله (84/ 25) والبيهقي (3/ 56 - 57) ومالك في الموطأ (1/ 162) وعبد الرزاق (1/ 508/1946). قال الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح الترغيب (1/ 224/264): "صحيح لغيره".
(2) اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 639).
(3) أصول الاعتقاد (7/ 1332/2370) وفي السير (4/ 242 بنحوه).
(4) جامع بيان العلم وفضله (1/ 770).(1/472)
لشهدت لعبد الله بن عمر. (1)
موقفه من الجهمية:
- جاء في أصول الاعتقاد: عن سعيد بن المسيب في قوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وزيادة} (2) قال: أحسنوا: شهادة أن لا إله إلا الله، والحسنى: الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله. (3)
- وقال سعيد: إذا تكلم الناس في ربهم وفي الملائكة ظهر لهم الشيطان فقدمهم إلى عبادة الأوثان. (4)
موقفه من القدرية:
عن قتادة قال: سألت سعيد بن المسيب عن القدر؛ فقال: ما قدره الله؛ فقد قدره. (5)
أبو سلمة بن عبد الرحمن (6) (94 هـ)
أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف القرشي الحافظ، كان طلابة للعلم، فقيها، مجتهدا، كبير القدر، حجة. قيل اسمه عبد الله، وقيل إسماعيل، وقيل اسمه وكنيته واحد. ولد سنة بضع وعشرين. روى عن أبيه، وأنس بن مالك
_________
(1) السنة للخلال (1/ 363).
(2) يونس الآية (26).
(3) أصول الاعتقاد (3/ 509 - 510/ 789).
(4) أصول الاعتقاد (1/ 137/197).
(5) الإبانة (2/ 10/221/ 1799).
(6) السير (4/ 287 - 292) وتهذيب الكمال (33/ 370 - 376) وطبقات ابن سعد (5/ 155 - 157) وأخبار القضاة (1/ 116 - 118) وتذكرة الحفاظ (1/ 59).(1/473)
وأسامة بن زيد وابن عباس وعائشة، وعطاء وعروة بن الزبير وعمر بن عبد العزيز وآخرين. وعنه جماعة منهم ابنه عمر بن أبي سلمة والشعبي والزهري وهشام بن عروة. قال ابن سعد: وكان ثقة فقيها كثير الحديث. قال معمر عن الزهري: أربعة من قريش وجدتهم بحورا: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وعبد الله بن عبد الله. قال: وكان أبو سلمة كثيرا ما يخالف ابن عباس، فحرم لذلك من ابن عباس علما كثيرا. قال عقيل بن خالد، عن الزهري: قدمت مصر على عبد العزيز بن مروان وأنا أحدث عن سعيد بن المسيب، فقال لي إبراهيم بن عبد الله بن قارظ: ما أسمعك تحدث إلا عن ابن المسيب؟ فقلت: أجل، فقال: لقد تركت رجلين من قومك لا أعلم أكثر حديثا منهما: عروة بن الزبير، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، فلما رجعت إلى المدينة، وجدت عروة بحرا لا تكدره الدلاء. قال الذهبي: لم يكثر عن أبي سلمة وهو من عشيرته، ربما كان بينهما شيء، وإلا فما أبو سلمة بدون عروة في سعة العلم. توفي سنة أربع وتسعين.
موقفه من المبتدعة:
روى الخطيب في الفقيه والمتفقه: عن أبي نضرة قال: قدم أبو سلمة -وهو ابن عبد الرحمن- فنزل دار أبي بشير، فأتيت الحسن، فقلت: إن أبا سلمة قدم وهو قاضي المدينة وفقيههم، انطلق بنا إليه، فأتيناه، فلما رأى الحسن، قال: من أنت؟ قال: أنا الحسن بن أبي الحسن، قال: ما كان بهذا المصر أحد أحب إلي أن ألقاه منك، وذلك أنه بلغني أنك تفتي الناس، فاتق الله يا حسن، وأفت الناس بما أقول لك: أفتهم بشيء من القرآن قد علمته، أو سنة ماضية قد سنها(1/474)
الصالحون والخلفاء، وانظر رأيك الذي هو رأيك فألقه. (1)
العلاء بن زياد (2) (94 هـ)
الشيخ الزاهد أبو نَصْر العلاء بن زياد بن مطر بن شريح العدوي البصري، قدم الشام. أرسل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثا، وروى عن أبي هريرة وعمران بن حصين وعياض بن حمار ومطرف بن عبد الله بن الشخير وغيرهم. روى عنه الحسن وقتادة ومطر الوراق وإسحاق بن سويد العدوي وأسيد بن عبد الرحمن الخثعمي.
قال الذهبي: وكان ربانيا تقيا قانتا لله، بكاء من خشية الله. عن قتادة قال: كان زياد بن مطر العدوي قد بكى حتى عمي وبكى ابنه العلاء بن زياد بعده حتى عشي بصره، قال: وكان إذا أراد أن يتكلم أو يقرأ جهشه البكاء.
ذكر البخاري في صحيحه في تفسير (حم المؤمن): "وكان العلاء بن زياد يذكر النار، فقال رجل: لم تقنط الناس؟ قال: وأنا أقدر أن أقنط الناس، والله عز وجل يقول: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} (3) ويقول: {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} (4)
_________
(1) الفقيه والمتفقه (2/ 344 - 345) وبنحوه في إعلام الموقعين (1/ 74).
(2) طبقات ابن سعد (7/ 217) وحلية الأولياء (2/ 243 - 249) وتهذيب الكمال (22/ 497 - 506) وسير أعلام النبلاء (4/ 202 - 206) وتاريخ الإسلام (حوادث 81 - 100/ص.444 - 447) وتهذيب التهذيب (8/ 181 - 182).
(3) الزمر (53).
(4) غافر الآية (43).(1/475)
ولكنكم تحبون أن تُبَشَّروا بالجنة على مساوئ أعمالكم، وإنما بعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - مبشرا بالجنة لمن أطاعه ومنذرا بالنار لمن عصاه". (1)
قال ابن حبان: مات بالشام في آخر ولاية الحجاج سنة أربع وتسعين.
موقفه من الخوارج:
جاء في السير: عن العلاء بن زياد، قال: ما يضرك شهدت على مسلم بكفر أو قتلته. (2)
عطاء بن يسار (3) (94 هـ)
الإمام عطاء بن يسار الهلالي، أبو محمد المدني القاص، مولى ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو أخو سليمان بن يسار وعبد الله بن يسار وعبد الملك بن يسار.
روى عن مولاته ميمونة وأبي سعيد الخدري وابن عباس وأبي هريرة وابن عمر وطائفة. روى عنه زيد بن أسلم وعبد الله بن مقسم وشريك بن أبي نمر وهلال بن أبي ميمونة.
قال أبو حازم: ما رأيت رجلا قط كان ألزم لمسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عطاء بن يسار. قال ابن حجر: ثقة فاضل، صاحب مواعظ وعبادة.
_________
(1) البخاري تعليقا (8/ 711).
(2) سير أعلام النبلاء (4/ 204) والحلية لأبي نعيم (2/ 246).
(3) طبقات ابن سعد (5/ 173) وتاريخ ابن عساكر (40/ 438 - 454) وتهذيب الكمال (20/ 125 - 127) والسير (4/ 448) وتهذيب التهذيب (7/ 217) والتقريب (1/ 676) وشذرات الذهب (1/ 125).(1/476)
من أقواله رحمه الله: جدوا في دار العمل لدار الثواب، وجدوا في دار الفناء لدار البقاء. ولم نر شيئا إلى شيء أزين من حلم إلى علم. توفي رحمه الله سنة أربع وتسعين، وقيل غير ذلك.
موقفه من الجهمية:
روى اللالكائي في أصول الاعتقاد عن عطاء بن يسار قال: ما من ليلة بعد ليلة القدر أفضل منها -يعني ليلة النصف من شعبان- ينزل الله تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا فيغفر إلا لمشرك أو مشاحن أو قاطع رحم. (1)
عبد الله بن أبي قتادة (2) (95 هـ)
عبد الله بن أبي قَتَادَة بن رَبْعِيّ بن بلذمة، أبو إبراهيم ويقال: أبو يحيى المدني، أمه سلافة بنت البراء بن معرور بن صخر. روى عن أبيه، وعن جابر ابن عبد الله. وعنه جملة منهم: ابناه ثابت ويحيى، وسلمة بن دينار، وزيد بن أسلم. قال ابن سعد: وكان ثقة قليل الحديث. توفي سنة خمس وتسعين.
موقفه من المبتدعة:
روى ابن بطة في الإبانة (3): عن عبد الله بن أبي قتادة قال: من دعا إلى سنة فأجيب إليها أعطاه الله أجر من أجاب إليها، ولا ينقص ذلك من
_________
(1) أصول الاعتقاد (3/ 499 - 500/ 769).
(2) طبقات ابن سعد (5/ 274) وتاريخ خليفة (309) والتاريخ الكبير (5/ 175 - 176) والجرح والتعديل (5/ 32) وتهذيب الكمال (15/ 440 - 442).
(3) الإبانة (1/ 2/342 - 343/ 213).(1/477)
أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة فأجابه إليها أحد، حمله الله مثل أوزارهم، ولا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا، ثم تلا هذه الآية: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل: 25] (1).
سعيد بن جُبَيْر (2) (95 هـ)
سعيد بن جبير بن هشام أبو محمد، ويقال أبو عبد الله، الإمام الحافظ المقرئ المفسر، أحد الأعلام، من كبار التابعين. روى عن أبي هريرة وعائشة وابن عباس فأكثر عنه وجود، وابن عمر وأنس وأبي سعيد الخدري وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم وكذا عن بعض التابعين. روى عنه آدم بن سليمان والد يحيى بن آدم، وأيوب السختياني، وثابت بن عجلان وجعفر ابن أبي المغيرة وأبو صالح السمان، وابنه عبد الله بن سعيد بن جبير وغيرهم.
قال عطاء بن السائب: كان سعيد بن جبير بفارس، وكان يتحزن، يقول: ليس أحد يسألني عن شيء، وكان يبكينا، ثم عسى أن لا يقوم حتى نضحك. وعن عبد السلام بن حرب عن خصيف قال: كان أعلمهم بالقرآن مجاهد، وأعلمهم بالحج عطاء، وأعلمهم بالحلال والحرام طاووس، وأعلمهم بالطلاق سعيد بن المسيب وأجمعهم لهذه العلوم سعيد بن جبير.
_________
(1) النحل الآية (25).
(2) طبقات ابن سعد (6/ 256 - 267) وتهذيب الكمال (10/ 356 - 376) والبداية والنهاية (9/ 98 - 99) والوافي بالوفيات (15/ 206 - 207) ووفيات الأعيان (2/ 371 - 374) وسير أعلام النبلاء (4/ 321 - 343) والحلية (4/ 272 - 309) وتذكرة الحفاظ (1/ 76 - 77) والعقد الثمين (4/ 549 - 553) وشذرات الذهب (1/ 108 - 110).(1/478)
وقال جعفر بن أبي المغيرة: كان ابن عباس بعد ما عمي إذا أتاه أهل الكوفة يسألونه يقول: تسألوني وفيكم ابن أم دهماء؟ يعني سعيد بن جبير. وعن سعيد بن جبير قال: سأل رجل ابن عمر عن فريضة فقال: ائت سعيد ابن جبير فإنه أعلم بالحساب مني، وهو يفرض فيها ما أفرض. قتله الحجاج سنة خمس وتسعين، فأهلكه الله بعده بخمسة عشر يوما، وقيل أربعين يوما.
موقفه من المبتدعة:
- روى عبد الله بن الإمام أحمد عن أبي المختار قال: شكا ذر سعيد بن جبير إلى أبي البختري الطائي فقال: مررت فسلمت عليه، فلم يرد علي، فقال أبو البختري لسعيد بن جبير، فقال سعيد: إن هذا يجدد كل يوم دينا، لا والله لا أكلمه أبدا. (1)
- وروى الدارمي عن أيوب عن سعيد بن جبير، عن عبد الله بن مغفل قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخذف (2) وقال: إنها لا تصطاد صيدا ولا تنكي عدوا، ولكنها تكسر السن وتفقأ العين، فرفع رجل بينه وبين سعيد قرابة شيئا من الأرض فقال: هذه، وما يكون هذه؟! فقال سعيد: ألا أراني أحدثك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم تهاون به، لا أكلمك أبدا. (3)
- وجاء في السير عن سعيد بن جبير في قوله: {فَإِنْ كُنْتَ في شَكٍّ
_________
(1) السنة لعبد الله (ص.90) والإبانة (2/ 7/891/ 1240) وأصول الاعتقاد (5/ 1062 - 1063/ 1812).
(2) تقدم تخريج المرفوع منه ضمن مواقف عبد الله بن مغفل سنة (57هـ).
(3) الدارمي (1/ 177) وذم الكلام (ص.96) مختصرا.(1/479)
مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} (1) قال: لم يشك ولم يسأل. (2)
- وروى الدارمي في سننه: عن أيوب قال رآني سعيد بن جبير جلست إلى طلق بن حبيب، فقال لي: ألم أرك جلست إلى طلق بن حبيب؟ لا تجالسنه. (3)
- وروى أيضا: عن كلثوم بن جبر، أن رجلا سأل سعيد بن جبير عن شيء فلم يجبه، فقيل له فقال ((أزا يشان)) (4)؟. (5)
- وجاء في ذم الكلام عن مروان الأصفر قال: كنت عند سعيد بن جبير جالسا، فسأله رجل عن آية من كتاب الله فقال: الله أعلم، فقال: قل فيها أصلحك الله برأيك، قال: أقول في كتاب الله برأيي؟! مرتين أو ثلاثا، ولم يجبه بشيء. (6)
- وفي الشريعة: عن سعيد بن جبير؛ أنه حدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثا فقال رجل: إن الله تعالى قال في كتابه: كذا وكذا. فقال: ألا أراك تعارض حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكتاب الله تعالى، رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلم بكتاب الله تعالى. (7)
_________
(1) يونس الآية (94).
(2) السير (12/ 180 - 181) وهو عند الطبري (11/ 168).
(3) الدارمي (1/ 108).
(4) كلمة فارسية معناها: منهم، أي: من أهل الأهواء.
(5) الدارمي (1/ 109).
(6) ذم الكلام (90) والسنن لسعيد بن منصور (1/ 174/41) والشعب للبيهقي (2/ 425/2285).
(7) الشريعة (1/ 180/105) والإبانة (1/ 1/248 - 249/ 81) وذم الكلام (96) والدارمي (1/ 145).(1/480)
- وروى ابن بطة: عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: {وعمل صالحًا ثم اهتدى} (1). قال: لزم السنة والجماعة. (2)
موقفه من الرافضة:
عن سعيد بن جبير قال: ما لم يعرفه البدريون فليس من الدين. (3)
موقفه من الخوارج:
جاء في الشريعة للآجري عن عطاء بن دينار، عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} قال: أما المتشابهات فهن آي في القرآن يتشابهن على الناس إذا قرؤوهن، من أجل ذلك يضل من ضل ممن ادعى هذه الكلمة، كل فرقة يقرؤون آيات من القرآن ويزعمون أنها لهم أصابوا بها الهدى. ومما تتبع الحرورية من المتشابه قول الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (4) ويقرؤون معها {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يعدلون} (5) فإذا رأوا الإمام يحكم بغير الحق قالوا: قد كفر. ومن كفر عدل بربه، فقد أشرك فهؤلاء الأئمة مشركون، فيخرجون فيفعلون
_________
(1) طه الآية (82).
(2) الإبانة (1/ 2/322 - 323/ 165).
(3) جامع بيان العلم وفضله (1/ 771) ومجموع الفتاوى (4/ 5).
(4) المائدة الآية (44).
(5) الأنعام الآية (1).(1/481)
ما رأيت؛ لأنهم يتأولون هذه الآية. (1)
موقفه من المرجئة:
- عن عبد الله بن حبيب عن أمه، قالت: سمعت سعيد بن جبير وذكر المرجئة، فقال: اليهود. (2)
- وعن سعيد بن جبير قال: المرجئة يهود القبلة. (3)
- وعنه قال: مثل المرجئة مثل الصابئين. (4)
- وعن قيس بن مسلم عن سعيد جبير: في قوله: {ليطمئن قَلْبِي} (5) قال: ليزداد إيماني. وكذلك فسره مالك بن أنس. (6)
- وعن أيوب رآني سعيد بن جبير وأنا جالس إلى طلق بن حبيب، قال أيوب: وما أدركت بالبصرة أعبد منه، ولا أبر بوالديه منه -يعني من طلق- وكان يرى رأي المرجئة. فقال سعيد: ألم أرك جالسا إليه، لا تجالسه. قال أيوب: وكان والله ناصحا وما استشرته. ولكن يحق للمسلم إذا رأى من أخيه ما يكره أن يأمره وينهاه. (7)
_________
(1) الشريعة (1/ 143 - 144/ 46).
(2) الإبانة (2/ 886/1226) والسنة لعبد الله (88) والسنة للخلال (4/ 134 - 135/ 1353).
(3) أصول الاعتقاد (5/ 1061/1809) والسنة لعبد الله (97).
(4) السنة لعبد الله (88 - 89) والشريعة (1/ 309/334) والسنة للخلال (4/ 135/1355).
(5) البقرة الآية (260).
(6) أصول الاعتقاد (5/ 966 - 967/ 1603) والإبانة (2/ 846/1133) والشريعة (1/ 273/273) والسنة لعبد الله (109) والسنة للخلال (4/ 40/1123).
(7) أصول الاعتقاد (5/ 1061 - 1062/ 1810) ونحو في الشريعة (1/ 309/335) والسنة لعبد الله (ص.88).(1/482)
- وعن أبي الجحاف قال: قال سعيد بن جبير لذر: يا ذر (1) ما لي أراك كل يوم تجدد دينا. (2)
- وعن حبيب قال: كنت عند سعيد بن جبير في مسجد فتذاكرنا ذرا في حديثنا فنال منه، فقلت: يا أبا عبد الله إنه لواد لك بحسن الثناء عليك إذا ذكرت، فقال: ألا تراه ضالا كل يوم يطلب دينه. (3)
- وعن أبي المختار الطائي قال: شكا ذر سعيد بن جبير إلى أبي البختري الطائي قال: مررت به فسلمت عليه فلم يرد علي، فقال أبو البختري لسعيد بن جبير، فقال سعيد بن جبير: إن هذا كل يوم يجددنا دينا، لا والله لا أكلمه أبدا. (4)
- وعن العلاء بن عبد الله بن رافع أن ذرا أبا عمر أتى سعيد بن جبير يوما في حاجة قال فقال: لا حتى تخبرني على أي دين أنت اليوم أو رأي أنت اليوم، فإنك لا تزال تلتمس دينا قد أضللته، ألا تستحي من رأي أنت اليوم أكبر منه. (5)
- وعن عطاء بن السائب قال: ذكر سعيد بن جبير المرجئة قال: فضرب لهم مثلا فقال: مثلهم مثل الصابئين، إنهم أتوا اليهود فقالوا: ما دينكم؟ قالوا اليهودية قالوا: فمن نبيكم؟ قالوا: موسى قالوا: فماذا لمن
_________
(1) كان يرى الإرجاء، وسيأتي الموقف منه إن شاء الله (قبل 100هـ).
(2) أصول الاعتقاد (5/ 1062/1811) والإبانة (2/ 891/1239) والسنة لعبد الله (ص.90).
(3) السنة لعبد الله (93).
(4) أصول الاعتقاد (5/ 1062 - 1063/ 1812) والإبانة (2/ 891/1240) والسنة لعبد الله (ص.90).
(5) السنة لعبد الله (89) والسنة للخلال (4/ 139/13694) والإبانة (2/ 890/1237).(1/483)
تبعكم؟ قالوا الجنة. ثم أتوا النصارى فقالوا: ما دينكم؟ قالوا: النصرانية، قالوا: فما كتابكم؟ قالوا: الإنجيل، قالوا: فمن نبيكم؟ قالوا: عيسى، قالوا: فماذا لمن تبعكم؟ قالوا: الجنة، قالوا: فنحن به ندين. (1)
- وعن عطاء بن دينار الهذلي أن عبد الملك بن مروان كتب إلى سعيد بن جبير يسأله عن هذه المسائل. فأجابه فيها: سألت عن الإيمان، قال: فالإيمان هو التصديق، أن يصدق العبد بالله وملائكته وما أنزل من كتاب وما أرسل من رسول، وباليوم الآخر. وتسأل عن التصديق. والتصديق: أن يعمل العبد بما صدق به من القرآن، وما ضعف عن شيء منه وفرط فيه عرف أنه ذنب، واستغفر الله وتاب منه ولم يصر عليه فذلك هو التصديق. وتسأل عن الدين، والدين العبادة، فإنك لن تجد رجلا من أهل دين يترك عبادة أهل دينه، ثم لا يدخل في دين آخر إلا صار لا دين له، وتسأل عن العبادة والعبادة هي الطاعة، وذلك أنه من أطاع الله فيما أمره به وفيما نهاه عنه، فقد أتم عبادة الله، ومن أطاع الشيطان في دينه وعمله، فقد عبد الشيطان، ألم تر أن الله قال للذين فرطوا: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} (2) وإنما كانت عبادتهم الشيطان أنهم أطاعوه في دينهم. (3)
_________
(1) أصول الاعتقاد (5/ 1063/1814) والسنة لعبد الله (89) والإبانة (2/ 887 - 888/ 1230) والسنة للخلال (4/ 136).
(2) يس الآية (60).
(3) المروزي في تعظيم قدر الصلاة (1/ 346/345).(1/484)
موقفه من القدرية:
- جاء في أصول الاعتقاد عن سعيد بن جبير قال: القدرية يهود. (1)
- وفيه: عن سعيد بن جبير: {لولا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سبق} (2). قال: ما سبق لأهل بدر من السعادة. (3)
- وفيه: في قوله: {كما بدأكم تعودون} (4) قال: كما كتب عليكم تكونون. (5)
- وفي الإبانة عن سعيد بن جبير {فَأَلْهَمَهَا فجورها وَتَقْوَاهَا} (6)؛ قال: فألزمها فجورها وتقواها. (7)
- وفيها: عن سعيد في قوله تعالى: {أُولَئِكَ ينالهم نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} (8)؛ قال: ينالهم ما كتب عليهم من شقوة أو سعادة من خير أو شر. (9)
- وفيها: عن سعيد بن جبير في قوله: {يحول بين المرء
_________
(1) أصول الاعتقاد (4/ 760 - 761/ 1267).
(2) الأنفال الآية (68).
(3) أصول الاعتقاد (3/ 612/980).
(4) الأعراف الآية (29).
(5) أصول الاعتقاد (3/ 612/982) والإبانة (2/ 10/199/ 1727).
(6) الشمس الآية (8).
(7) الإبانة (2/ 10/199 - 200/ 1728).
(8) الأعراف الآية (37).
(9) الإبانة (2/ 10/200/ 1730).(1/485)
وَقَلْبِهِ} (1)؛ قال: يحول بين المؤمن والكفر، وبين الكافر والإيمان. (2)
مُطَرِّف بن عبد الله (3) (95 هـ)
مطرف بن عبد الله بن الشِّخِّير الإمام القدوة الحجة، أبو عبد الله العامري الحَرَشِيّ البصري، كان رأسا في العلم والعمل، وله جلالة في الإسلام ووقع في النفوس. روى عن أبيه رضي الله عنه، وعلي وعمار وأبي ذر وعثمان وعائشة وغيرهم. وروى عنه الحسن البصري، وأخوه يزيد بن عبد الله وثابت البناني وغيرهم.
من أقواله: إن الفتنة لا تجيء حين تجيء لتهدي، ولكن لتقارع المؤمن عن نفسه. وعن ثابت البناني أن مطرف بن عبد الله قال: لبثت في فتنة ابن الزبير تسعا أو سبعا ما أخبرت فيها بخبر ولا استخبرت فيها عن خبر. وعن حميد بن هلال قال: أتى مطرف بن عبد الله زمان ابن الأشعث ناس يدعونه إلى قتال الحجاج، فلما أكثروا عليه قال: أرأيتم هذا الذي تدعوني إليه، هل يزيد على أن يكون جهادا في سبيل الله؟ قالوا: لا، قال: فإني لا أخاطر بين هلكة أقع فيها وبين فضل أصيبه. وعنه قال: قال لي عمران بن حصين ألا
_________
(1) الأنفال الآية (24).
(2) الإبانة (2/ 10/200/ 1729).
(3) الإصابة (6/ 260 - 262) وطبقات ابن سعد (7/ 141 - 146) وحلية الأولياء (2/ 198 - 212) ووفيات الأعيان (5/ 211) والبداية والنهاية (9/ 69 - 70و140) وسير أعلام النبلاء (4/ 187 - 195) وتذكرة الحفاظ (1/ 64 - 65) وتهذيب الكمال (28/ 67 - 70) وشذرات الذهب (1/ 110 - 111) ومشاهير علماء الأمصار (88).(1/486)
أحدثك حديثا لعل الله أن ينفعك به في الجماعة، إني أراك تحب الجماعة، قال قلت: لأنا أحرص على الجماعة من الأرملة، لأني إذا كانت الجماعة عرفت وجهي.
توفي رضي الله عنه سنة خمس وتسعين وقيل غيرها.
موقفه من المبتدعة:
- جاء في ذم الكلام عن مطرف قال: أكثر أتباع الدجال، اليهود وأهل البدع. (1)
" التعليق:
الله أكبر وسبحان الله ما أعظم فقه السلف، وفراستهم في المبتدعة، وقد صارت أفعالهم الآن لا فرق بينها وبين الدجال في قليل ولا كثير، فعمدة الدجال في ترويج دجله هو الكذب والحيل بجميع أنواعها، وقد كان المبتدعة كذلك، وكذلك أشبهوا اليهود في تعصبهم الأعمى ليهوديتهم الضالة، وكذلك المبتدعة يتعصبون لبدعتهم الممقوتة. نرجو الله العفو والعافية.
- جاء في السير عن مطرف قال: كنا نأتي زيد بن صوحان فكان يقول: يا عباد الله، أكرموا وأجملوا، فإنما وسيلة العباد إلى الله بخصلتين: الخوف والطمع. فأتيته ذات يوم وقد كتبوا كتابا، فنسقوا كلاما من هذا النحو: إن الله ربنا، ومحمد نبينا، والقرآن إمامنا، ومن كان معنا كنا وكنا.
_________
(1) ذم الكلام (ص.192).(1/487)
ومن خالفنا كانت يدنا عليه وكنا وكنا. قال: فجعل يعرض الكتاب عليهم رجلا رجلا، فيقولون: أقررت يا فلان؟ حتى انتهوا إلي فقالوا: أقررت يا غلام؟ قلت: لا، قال -يعني زيدا: لا تعجلوا على الغلام، ما تقول يا غلام؟ قلت: إن الله قد أخذ علي عهدا في كتابه، فلن أحدث عهدا سوى العهد الذي أخذه علي. فرجع القوم من عند آخرهم ما أقر منهم أحد، وكانوا زهاء ثلاثين نفسا. (1)
- وجاء في أصول الاعتقاد عن مطرف بن الشخير قال: لو كانت هذه الأهواء كلها هوى واحدا لقال القائل الحق فيه، فلما تشعبت واختلفت عرف كل ذي عقل أن الحق لا يتفرق. (2)
- وفي الإبانة: عن غيلان قال: قال مطرف: إن الفتنة لا تجيء تهدي الناس ولكن لتقارع المؤمن عن دينه. (3)
- وفيها: عن أبي عقيل قال: قلت لأبي العلاء: ما كان مطرف يصنع إذا هاج هيج؟ قال: كان لا يقرب لها صفا ولا جماعة حتى تنجلي عما انجلت. (4)
- وفي ذم الكلام: عن أيوب قال: قال رجل لمطرف إنا نريد كتاب الله، فقال مطرف: إنا لا نريد بكتاب الله بدلا، ولكن نريد من هو أعلم به منا. (5)
_________
(1) سير أعلام النبلاء (4/ 192).
(2) أصول الاعتقاد (1/ 169/312) وجامع بيان العلم وفضله (2/ 921) وذكره الشاطبي في الاعتصام (1/ 82 - 83).
(3) الإبانة (2/ 4/593/ 755).
(4) الإبانة (2/ 4/595/ 760).
(5) ذم الكلام (ص.80) وكتاب العلم أبي خيثمة (ص.97) وجامع بيان العلم (2/ 1193).(1/488)
موقفه من الخوارج:
جاء في السير: وقال حميد بن هلال: أتت الحرورية مطرف بن عبد الله يدعونه إلى رأيهم، فقال: يا هؤلاء لو كان لي نفسان بايعتكم بإحداهما وأمسكت الأخرى، فإن كان الذي تقولون هدى أتبعتها الأخرى، وإن كان ضلالة، هلكت نفس وبقيت لي نفس، ولكن هي نفس واحدة لا أغرر بها. (1)
" التعليق:
رضي الله عن هذا الإمام العلم، ونحن نقول: لو كانت لنا نفسان لقاتلناكم بالأولى فإذا قضت نحبها أتبعناها الثانية، وذلك أنكم استحللتم دماء المسلمين وقتلتم خيارهم، وعتوتم في الأرض فسادا، وقد أمرنا في الأحاديث الصحيحة بقتالكم.
موقفه من القدرية:
- روى ابن بطة بسنده: عن مطرف؛ قال: ليس لأحد أن يصعد فوق بيت، فيلقي نفسه، ثم يقول: قدر لي. ولكنا نتقي ونحذر، فإن أصابنا شيء؛ علمنا أنه لن يصيبنا إلا ما كتب لنا. (2)
- وفيها عنه أنه كان يقول: لو كان الخير في كف أحدنا ما استطاع أن يفرغه في قلبه حتى يكون الله هو الذي يفرغه في قلبه. (3)
_________
(1) السير (4/ 195) وعند ابن سعد في الطبقات (7/ 143).
(2) الإبانة (2/ 10/196/ 1713).
(3) الإبانة (2/ 10/196/ 1714).(1/489)
-وفيها: عنه قال: إنا لم نوكل إلى القدر، وإليه نصير. (1)
- وفيها: عنه قال لابني أخيه: يا ابني أخي، فوضا أمركما إلى الله عز وجل تستريحا. (2)
- وفيها: عن يوسف بن أسباط قال: كان مطرف بن عبد الله بن الشخير يدعو بهؤلاء الدعوات الخمس الكلمات: اللهم إني أعوذ بك من شر الشيطان، ومن شر السلطان، ومن شر ما تجري به الأقلام، وأعوذ بك من أن أقول حقا هو لك رضى أبتغي به حمد سواك، وأعوذ بك من أن أتزين للناس بشيء يشنيني عندك، وأعوذ بك أن تجعلني عبرة لغيري، وأعوذ بك أن يكون أحد هو أسعد بما علمتني مني. (3)
- وفي أصول الاعتقاد عن مطرف قال: نظرت فإذا ابن آدم ملقى بين يدي الله وبين يدي إبليس. فإن شاء الله أن يعصمه عصمه، وإن تركه ذهب به إبليس. (4)
- وفيه: عن ثابت: أن مطرف قال: نظرت في هذا الأمر ممن كان، فإذا بدؤه من الله عز وجل وإذا تمامه على الله، ونظرت ما ملاكه فإذا ملاكه الدعاء. (5)
_________
(1) الإبانة (2/ 10/196/ 1716) والشريعة (1/ 426/518).
(2) الإبانة (2/ 10/197 - 198/ 1721).
(3) الإبانة (2/ 11/280/ 1915).
(4) أصول الاعتقاد (4/ 755 - 756/ 1256) والإبانة (2/ 10/195 - 196/ 1712) والشريعة (1/ 426/516).
(5) أصول الاعتقاد (4/ 756/1257) والإبانة (2/ 10/195/ 1711).(1/490)
إبراهيم النخعي (1) (96 هـ)
إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود، النَّخَعِي اليماني ثم الكوفي، كنيته أبو عمران، وأمه مليكة بنت يزيد، أخت الأسود بن يزيد وعبد الرحمن بن يزيد. روى عن خاله الأسود بن يزيد ومسروق وعلقمة بن قيس وعبيدة السلماني وغيرهم. وروى عنه إبراهيم بن مهاجر البجلي، وسليمان الأعمش وسماك بن حرب وغيرهم. كان النخعي مفتي أهل الكوفة هو والشعبي في زمانهما، وكان رجلا صالحا فقيها متوقيا، قليل التكلف، وهو مختف من الحجاج. عن طلحة بن مصرف قال: قلت لإبراهيم النخعي: يا أبا عمران من أدركت من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: دخلت على أم المؤمنين عائشة. وكان يدخل على عائشة مع الأسود وعلقمة. وعن عاصم قال: تبعت الشعبي فمررنا بإبراهيم، فقام له إبراهيم عن مجلسه، فقال له الشعبي: أما إني أفقه منك حيا، وأنت أفقه مني ميتا، وذاك أن لك أصحابا يلزمونك، فيحيون علمك. قال إبراهيم: تكلمت ولو وجدت بدا لم أتكلم، وإن زمانا أكون فيه فقيها لزمان سوء.
توفي رحمه الله في سنة ست وتسعين في خلافة الوليد بن عبد الملك بالكوفة. قال الشعبي لما أخبر بموته: أحمد الله أما إنه لم يخلف خلفه مثله، قال: وهو ميتا أفقه منه حيا.
_________
(1) طبقات ابن سعد (6/ 270 - 284) والحلية (4/ 219 - 240) ومشاهير علماء الأمصار (101) وسير أعلام النبلاء (4/ 520 - 529) ووفيات الأعيان (1/ 25 - 26) وتهذيب الكمال (2/ 233 - 240) والبداية والنهاية (9/ 140) وتذكرة الحفاظ (1/ 73 - 74) وشذرات الذهب (1/ 11).(1/491)
موقفه من المبتدعة:
- جاء في الشريعة وطبقات الحنابلة قال أبو حمزة لإبراهيم: يا أبا عمران أي هذه الأهواء أعجب إليك؟ فإني أحب أن آخذ برأيك وأقتدي بك قال: ما جعل الله في هذه الأهواء مثقال ذرة من خير، وما هي إلا زينة من الشيطان. وما الأمر إلا الأمر الأول. وقد جعل الله على الحق نورا يكشف به العلماء ويصرف به شبهات الخطأ، وإن الباطل لا يقوم للحق. قال الله عز وجل: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} (1) فهذه لكل واصف كذب إلى يوم القيامة، وإن أعظم الكذب أن تكذب على الله. (2)
- وروى ابن وضاح عنه قال: لا تجالسوا أصحاب الأهواء ولا تكلموهم، فإني أخاف أن ترتد قلوبكم. (3)
- وجاء في ذم الكلام عنه قال: إن العبد إذا أعيى الشيطان، قال: فمن أين فمن أين؟ ثم أتاه من هواه. (4)
- وروى ابن بطة عنه قال: كانوا يرون التلون في الدين من شك القلوب في الله. (5)
_________
(1) الأنبياء الآية (18).
(2) طبقات الحنابلة (1/ 71) والاعتصام (2/ 688) والباعث (74) وطرفه الأول في الشريعة (1/ 192/131).
(3) ابن وضاح (ص.108) والإبانة (2/ 3/438 - 439/ 374) وذكره الشاطبي في الاعتصام (1/ 113).
(4) ذم الكلام (ص.222).
(5) الإبانة (2/ 3/505/ 575).(1/492)
- وجاء في السنة لعبد الله بن الإمام أحمد عن المغيرة قال: مر إبراهيم التيمي بإبراهيم النخعي فسلم، فلم يرد عليه. (1)
- وجاء في الإبانة: عن أبي حمزة عن إبراهيم قال: لو أن أصحاب محمد مسحوا على ظفر لما غسلته التماس الفضل في اتباعهم. (2)
- وفيها: عنه أيضا عن إبراهيم قال: لو بلغني أنهم لم يجاوزوا بالوضوء ظفرا لما جاوزت، وكفى بنا على قوم إزراء أن نخالف أعمالهم. (3)
- وفيها: عن فضيل عن إبراهيم قال: كانوا لا يسألون إلا عن الحاجة. (4)
- وفيها: عن الأعمش قال: قال إبراهيم: لا تجالسوا أهل الأهواء فإن مجالستهم تذهب بنور الإيمان من القلوب، وتسلب محاسن الوجوه، وتورث البغضة في قلوب المؤمنين. (5)
- وفيها: عن أبي نعيم الفضل بن دكين قال: حدثنا محل، قال: دخلت على إبراهيم أنا والمغيرة، ومعنا رجل آخر فذكرنا له من قولهم فقال: لا تكلموهم ولا تجالسوهم، وقال لأعرفن إذا قمت من عندي ولا ترجعن إلي. (6)
- وفيها: عن ابن عون عن إبراهيم قال: لا تجالس بني فلان فإنهم
_________
(1) السنة (ص.90) واللالكائي (5/ 1061/1808).
(2) الإبانة (1/ 2/361/ 254).
(3) الإبانة (1/ 2/361 - 362/ 255) والدارمي (1/ 72) وذكره ابن القيم في إعلام الموقعين (4/ 151).
(4) الإبانة (1/ 2/409/ 319).
(5) الإبانة (2/ 3/439/ 375).
(6) الإبانة (2/ 3/449/ 410).(1/493)
كذابون. (1)
- وفيها: عن العوام بن حوشب: سمعت إبراهيم النخعي يقول في قوله عز وجل: {فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} (2) قال: أغرى بعضهم ببعض في الخصومات والجدال في الدين. (3)
- وجاء في ذم الكلام: وعنه قال في قوله تعالى: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} ما أرى الإغراء في هذه الأمة إلا الأهواء المتفرقة والبغضاء. (4)
- وفي الإبانة: عن الحسن بن عمرو، عن إبراهيم، قال: ما خاصمت قط. (5)
- وروى الدارمي عن الأعمش قال: ما سمعت إبراهيم يقول برأيه في شيء قط. (6)
- وجاء في الفقيه والمتفقه: قال إبراهيم النخعي: الجماعة، هو الحق وإن كنت وحدك. (7)
_________
(1) الإبانة (2/ 3/452/ 417).
(2) المائدة الآية (14).
(3) الإبانة (2/ 3/500/ 558) وجامع بيان العلم وفضله (2/ 932).
(4) ذم الكلام (ص.201).
(5) الإبانة (2/ 3/524 - 525/ 631).
(6) الدارمي (1/ 47) وذم الكلام (ص.99).
(7) الفقيه والمتفقه (2/ 404 - 405).(1/494)
- وفي ذم الكلام: عن مغيرة عن إبراهيم قال: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذونه -زاد هشيم- كنا إذا أتينا الرجل لنأخذ عنه نظرنا إلى سمته وإلى صلاته، ثم أخذنا عنه. هذا كله من قول إبراهيم. (1)
- وفيه: عن أبي حمزة الأعور قال: لما كثرت المقالات بالكوفة أتيت إبراهيم النخعي فقلت: يا أبا عمران ما ترى ما ظهر بالكوفة من المقالات؟ فقال: أوه رققوا قولا، واخترعوا دينا من قبل أنفسهم، ليس في كتاب الله ولا من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإياك وإياهم. (2)
- وفي سنن الدارمي: قال الأعمش: كان إبراهيم لا يرى غيبة للمبتدع. (3)
- وجاء في الإبانة عنه قال: إن القوم لم يدخر عنهم شيء خبيء لكم لفضل عندكم. (4)
موقفه من الصوفية:
جاء في تلبيس إبليس عن سفيان بن عيينة قال: سمعت خلف بن حوشب يقول: كان خوات يرعد عند الذكر، فقال له إبراهيم: إن كنت تملكه فما أبالي أن لا أعتد بك، وإن كنت لا تملكه فقد خالفت من كان قبلك، (وفي رواية: فقد خالفت من هو خير منك).
_________
(1) ذم الكلام (ص.292) والدارمي (1/ 112) والحلية (4/ 225).
(2) ذم الكلام (ص.204).
(3) الدارمي (1/ 109) وأصول الاعتقاد (1/ 158/276).
(4) الإبانة (2/ 7/892/ 1245) والسنة لعبد الله (24) وجامع بيان العلم وفضله (2/ 946/1808).(1/495)
" التعليق:
قال ابن الجوزي رحمه الله: إبراهيم هو النخعي الفقيه وكان متمسكا بالسنة شديد الاتباع للأثر، وقد كان خوات من الصالحين البعداء عن التصنع، وهذا خطاب إبراهيم له، فكيف بمن لا يخفى حاله في التصنع؟! (1) اهـ.
قال جامعه: ولو أدرك ابن الجوزي أهل هذا الزمان، ماذا يقول؟ وماذا يسمي كتابه الذي وضعه من أجل التنبيه على كثير من الأخطاء التي وقعت فيها الأمة الإسلامية؟ والله المستعان.
موقفه من الجهمية:
روى الآجري في الشريعة: عن حماد قال: سألت إبراهيم عن هذه الآية: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} (2) قال: حدثت أن المشركين قالوا لمن دخل النار: ما أغنى عنكم ما كنتم تعبدون؟ فيغضب الله عز وجل لهم، فيقول للملائكة والنبيين: اشفعوا، فيشفعون فيخرجون من النار، حتى إن إبليس ليتطاول رجاء أن يخرج معهم، فعند ذلك ود الذين كفروا لو كانوا مسلمين. (3)
موقفه من الخوارج:
- جاء في سير أعلام النبلاء: قال أبو حمزة الثمالي: كنت عند إبراهيم النخعي، فجاء رجل فقال: يا أبا عمران، إن الحسن البصري يقول: إذا تواجه
_________
(1) تلبيس إبليس (ص.315 - 316).
(2) الحجر الآية (2).
(3) الشريعة (2/ 146/827).(1/496)
المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار. فقال رجل: هذا من قاتل على الدنيا، فأما قتال من بغى، فلا بأس به. فقال إبراهيم: هكذا قال أصحابنا عن ابن مسعود، فقالوا له: أين كنت يوم الزاوية؟ قال: في بيتي، قالوا: فأين كنت يوم الجماجم؟ قال: في بيتي، قالوا: فإن علقمة شهد صفين مع علي، فقال: بخ بخ، من لنا مثل علي بن أبي طالب ورجاله. (1)
موقفه من المرجئة:
- عن أبي حمزة الثمالي الأعور قال: قلت لإبراهيم: ما ترى في رأي المرجئة؟ فقال: أوه، لفقوا قولا، فأنا أخافهم على الأمة، والشر من أمرهم كثير، فإياك وإياهم. (2)
- وعن المغيرة عنه قال: سؤال الرجل الرجل: أمؤمن أنت؟ بدعة. (3)
- وعن أبي حمزة قال: سأل رجل إبراهيم النخعي أمؤمن أنت؟ قال ما أشك في إيماني، وسؤالك إياي عن هذا بدعة؟ (4)
- وعنه قال: الخوارج أعذر عندي من المرجئة. (5)
- وعنه قال: ما أعلم قوما بأحمق في رأيهم من هذه المرجئة، إنهم يقولون: مؤمن ضال، ومؤمن فاسق. (6)
_________
(1) السير (4/ 526).
(2) الشريعة (1/ 307/330) والإبانة (2/ 892/1243).
(3) السنة للخلال (4/ 130/1337) والسنة لعد الله (ص.87) والشريعة (1/ 304/324).
(4) السنة لعبد الله (ص.95).
(5) السنة لعبد الله (ص.95).
(6) السنة لعبد الله (ص.97).(1/497)
- وعن ميمون بن أبي حمزة قال: قال لي إبراهيم النخعي: لا تدعوا هذا الملعون يدخل علي بعد ما تكلم في الإرجاء -يعني حمادا-. (1)
- وعن عيسى بن علي الضبي، قال: كان رجل معنا يختلف إلى إبراهيم، فبلغ إبراهيم أنه قد دخل في الإرجاء، فقال له إبراهيم: إذا قمت من عندنا فلا تعد. (2)
- وجاء في طبقات ابن سعد عن إبراهيم قال: إياكم وأهل هذا الرأي المحدث، يعني المرجئة.
- وفيها عن محمد بن عبد الله الأسدي قال: سمعت محلا يروي عن إبراهيم قال: الإرجاء بدعة.
- وفيها عن محل قال: كان رجل يجالس إبراهيم يقال له محمد، فبلغ إبراهيم أنه يتكلم في الإرجاء فقال له إبراهيم: لا تجالسنا.
- وفيها عن محل قال: قلت لإبراهيم إنهم يقولون لنا مؤمنون أنتم؟ قال: إذا سألوكم فقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم، إلى آخر الآية.
- وفيها عن محل قال: قال لنا إبراهيم: لا تجالسوهم، يعني المرجئة.
- وفيها عن غالب أبي الهذيل أنه كان عند إبراهيم فدخل عليه قوم من المرجئة، قال: فكلموه فغضب وقال: إن كان هذا كلامكم فلا تدخلوا علي.
_________
(1) السنة لعبد الله (ص.108).
(2) تلبيس إبليس (ص.22).(1/498)
- وفيها عن الأعمش قال: ذكر عند إبراهيم المرجئة فقال: والله إنهم أبغض إلي من أهل الكتاب. (1)
- وعن مغيرة قال: كان إبراهيم التيمي يدعو إلى هذا الرأي، فحدث بذلك إبراهيم النخعي فأتيته فقال: أخبرنا يا مغيرة هل يدعو إلى هذا الرأي أحدا، فإنه حلف لي بالله أن الله لم يطلع على قلبه أنه يرى هذا الرأي. وقد كنت سمعته يدعو إليه ولكن جعلت لا أخبر إبراهيم النخعي. (2)
- وعن المغيرة قال: مر -يعني إبراهيم التيمي- بإبراهيم النخعي فسلم عليه فلم يرد عليه. (3)
- وعن سعيد بن صالح -يعني الأسدي- قال: قال إبراهيم: لأنا لفتنة المرجئة أخوف على هذه الأمة من فتنة الأزارقة. (4)
- وعنه قال: تركت المرجئة الدين أرق من ثوب سابري. (5)
- وقال: إذا قيل لك أمؤمن أنت؟ فقل: لا إله إلا الله. (6)
- وعنه قال: إذا قيل لك أمؤمن أنت؟ فقل: أرجو. (7)
_________
(1) طبقات ابن سعد (6/ 273 - 274).
(2) أصول الاعتقاد (5/ 1060/1805).
(3) أصول الاعتقاد (5/ 1061/1808) والسنة لعبد الله (ص.90).
(4) أصول الاعتقاد (5/ 1060 - 1061/ 1806) ونحوه في الشريعة (1/ 307 - 308/ 331) والإبانة (2/ 885/1221) والسنة لعبد الله (ص.84) والسنة للخلال (4/ 137/1360).
(5) أصول الاعتقاد (5/ 1061/1807) والسنة لعبد الله (ص.84) والسنة للخلال (4/ 138/1361).
(6) السنة لعبد الله (87) والسنة للخلال (4/ 129/1336) والشريعة (1/ 305/327) ونحوه في الإبانة (2/ 879/1208).
(7) السنة لعبد الله (87) والإبانة (2/ 879/1209).(1/499)
- وعن الحسن بن عبد الله قال: سمعت إبراهيم يقول لذر: ويحك يا ذر ما هذا الدين الذي جئت به؟ قال ذر: ما هو إلا رأي رأيته. قال ثم سمعت ذرا يقول: إنه لدين الله الذي بعث به نوح. (1)
- وعن إبراهيم النخعي أنه قال لمحمد بن السائب التيمي: ما دمت على هذا الرأي فلا تقربنا، وكان مرجئا. (2)
موقفه من القدرية:
- جاء في السنة لعبد الله عنه قال: إن آفة كل دين كان قبلكم أو قال: آفة كل دين، القدر. (3)
- وفي الإبانة عن إبراهيم قال: كانوا يقولون النطفة التي قدر منها الولد لو ألقيت على صخرة لخرجت تلك النسمة منها. (4)
- وفيها: عن إبراهيم {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} (5)؛ قال: بمضلين إلا من قدر له أن يصلى الجحيم. (6)
_________
(1) السنة لعبد الله (94).
(2) الشريعة (3/ 579 - 580/ 2105) وما جاء في البدع لابن وضاح (144).
(3) السنة (135) والإبانة (2/ 10/221/ 1801) والشريعة (1/ 431/532).
(4) الإبانة (2/ 9/47/ 1442).
(5) الصافات الآية (162).
(6) الإبانة (1/ 8/271 - 272/ 1284) والشريعة (1/ 431/531).(1/500)
الحسن بن الحسن بن علي (1) (97 هـ)
الحسن ابن سبط رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أبي محمد الحسن ابن أمير المؤمنين، أبي الحسن علي بن أبي طالب، الهاشمي العلوي، المدني، أبو محمد. روى عن أبيه الحسن بن علي، وابن عمه عبد الله بن جعفر، وبنت عمه فاطمة بنت الحسين. روى عنه جماعة منهم: أبناؤه إبراهيم والحسن وعبد الله، وابن عمه الحسن بن محمد بن الحنفية، وإسحاق بن يسار المدني. توفي سنة سبع وتسعين.
موقفه من المشركين:
- عن سهيل بن أبي سهيل قال: رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- عند القبر فناداني وهو في بيت فاطمة يتعشى. فقال: هلم إلى العشاء، فقلت: لا أريده. فقال: ما لي رأيتك عند القبر؟ قلت: سلمت على النبي - صلى الله عليه وسلم -. فقال: إذا دخلت المسجد فسلم. ثم قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تتخذوا قبري عيدا، ولا تتخذوا بيوتكم مقابر، لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وصلوا علي، فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم" (2)، ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء. (3)
- وعن ابن عجلان عن رجل يقال له سهيل عن الحسن بن الحسن بن علي قال: رأى قوما عند القبر فنهاهم وقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تتخذوا قبري عيدا، ولا تتخذوا
_________
(1) طبقات ابن سعد (5/ 319 - 320) وتهذيب الكمال (6/ 89 - 95) والبداية والنهاية (9/ 170 - 171) وسير أعلام النبلاء (4/ 483 - 487) وتهذيب التهذيب (2/ 263) والوافي بالوفيات (11/ 416 - 418).
(2) تقدم تخريجه ضمن مواقف علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب سنة (93 هـ).
(3) الاقتضاء (1/ 298 - 299) والسير (4/ 483 - 484).(1/501)
بيوتكم قبورا، وصلوا علي حيث ما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني. (1)
عبد الله بن مُحَيْرِيز (2) (99 هـ)
عبد الله بن محيريز بن جُنَادَة، الإمام الفقيه، القدوة الرباني، أبو مُحَيْرِيز، الجمحي، المكي. من رهط أبي محذورة، وكان يتيما في حجره، نزل الشام، وسكن بيت المقدس. حدث عن عبادة بن الصامت، وأبي محذورة المؤذن زوج أمه، ومعاوية بن أبي سفيان، وأبي سعيد الخدري وآخرين. وروى عنه طائفة منهم: خالد بن معدان، ومكحول، وحسان بن عطية والزهري، وأبو زرعة يحيى السيباني وغيرهم. قال رجاء بن حيوة: إن يفخر علينا أهل المدينة بعابدهم ابن عمر، فإنا نفخر عليهم بعابدنا ابن محيريز. وعن خالد بن دريك قال: كانت في ابن محيريز خصلتان ما كانتا في أحد ممن أدركت من هذه الأمة، كان من أبعد الناس أن يسكت عن حق بعد أن يتبين له حتى يتكلم فيه، غضب في الله من غضب، ورضي فيه من رضي، وكان من أحرص الناس أن يكتم من نفسه أحسن ما عنده. وقال الأوزاعي: كان ابن أبي زكريا يقدم
_________
(1) أخرجه عبد الرزاق (3/ 577/6726) وابن أبي شيبة (2/ 150/7542) وإسماعيل بن إسحاق في فضل الصلاة (30) وابن خزيمة في حديث علي بن حجر (436) وابن عساكر في تاريخ دمشق (13/ 61 - 62). وهذا مرسل كما قال الذهبي في السير (4/ 484) لكن يشهد له حديث علي المتقدم.
(2) الإصابة (5/ 208 - 209) والاستيعاب (3/ 983 - 985) وتهذيب الكمال (16/ 106 - 111) وتذكرة الحفاظ (1/ 68 - 69) والحلية (5/ 138 - 149) والبداية والنهاية (9/ 185 - 186) والسير (4/ 494 - 496) والعقد الثمين (5/ 281 - 282) وشذرات الذهب (1/ 116) والوافي بالوفيات (17/ 599 - 600).(1/502)
فلسطين، فيلقى ابن محيريز فتتقاصر إليه نفسه لما يرى من فضل ابن محيريز. وقال ضمرة الشيباني: كان عبد الله بن الديلمي من أبصر الناس لإخوانه، فذكر ابن محيريز في مجلس هو فيه، فقال رجل: كان بخيلا، فغضب ابن الديلمي وقال: كان جوادا حيث يحب الله، بخيلا حيث تحبون. وعن رجاء بن أبي سلمة قال: كان ابن محيريز يجيء إلى عبد الملك بصحيفة فيها النصيحة يقرئه ما فيها، فإذا فرغ منها أخذ الصحيفة. وقال يحيى السيباني: قال لنا ابن محيريز: إني أحدثكم فلا تقولوا: حدثنا ابن محيريز، إني أخشى أن يصرعني ذلك القول مصرعا يسوؤني. قال ابن محيريز: لأن يكون في جلدي برص أحب إلي من أن ألبس ثوب حرير. توفي رحمه الله سنة تسع وتسعين.
موقفه من المبتدعة:
جاء في تلبيس إبليس عن عبد الله بن محيريز قال: يذهب الدين سنة سنة كما يذهب الحبل قوة قوة. (1)
سليمان بن عبد الملك (2) (99 هـ)
سليمان بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية، القرشي، الأموي، أمير المؤمنين، أبو أيوب. بويع بعد أخيه الوليد سنة ست وتسعين. روى عن أبيه وعبد الرحمن بن هنيدة، وروى عنه ابنه عبد الواحد والزهري. وقال يزيد
_________
(1) تلبيس إبليس (ص.22).
(2) تاريخ الطبري (4/ 57 - 59) وسير أعلام النبلاء (5/ 111 - 113) وتاريخ الإسلام (حوادث 81 - 100/ص.377) ووفيات الأعيان (2/ 420 - 427) وفوات الوفيات (2/ 68 - 70) وشذرات الذهب (1/ 116).(1/503)
ابن حازم: كان سليمان بن عبد الملك يخطبنا كل جمعة، لا يدع أن يقول: أيها الناس إنما أهل الدنيا على رحيل لم تمض بهم نية ولم تطمئن لهم دار حتى يأتي وعد الله وهم على ذلك، لا يدوم نعيمها ولا تؤمن فجائعها، ولا يتقى من شر أهلها، ثم قرأ: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} (1). وكان رحمه الله ينهى الناس عن الغناء. وعن ابن سيرين قال: يرحم الله سليمان بن عبد الملك، افتتح خلافته بإحيائه الصلاة لوقتها، واختتمها باستخلافه عمر بن عبد العزيز. توفي رحمه الله سنة تسع وتسعين.
موقفه من الجهمية:
جاء في السنة لعبد الله عن محمد بن قيس قال: إن فضل القرآن على الكلام كفضل الخالق على سائر خلقه. قال محمد بن قيس سمعت سليمان بن عبد الملك يخطب بها على المنبر. (2)
طلق بن حبيب (3) (قبل 100 هـ)
طَلْق بن حَبِيب، الموفق النجيب، والمتعبد اللبيب، العَنَزِي، بصري زاهد كبير، من العلماء العاملين. روى عن أنس بن مالك، وجابر بن عبد الله،
_________
(1) الشعراء الآيتان (205و207).
(2) السنة لعبد الله (28).
(3) طبقات ابن سعد (7/ 227) والحلية (3/ 63 - 75) والتاريخ الكبير (4/ 359) والجرح والتعديل (4/ 440 - 491) والسير (4/ 601 - 603) وتهذيب الكمال (13/ 451 - 454).(1/504)
وجندب بن عبد الله، وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص، والأحنف بن قيس، وبشير ابن كعب العدوي، وغيرهم. وعنه جماعة منهم: الأعمش، وطاووس، وأبو العالية البَرَّاء، وأيوب السختياني، وبكر بن عبد الله المزني. قال أيوب: ما رأيت أحدا أعبد من طلق بن حبيب. عن طاووس قال: كنت أطوف معه، فذكر وحلف، ما رأيت أحدا من الناس أحسن صوتا بالقرآن من طلق بن حبيب، وكان ممن يخشى الله. عن بكر المزني قال: لما كانت فتنة ابن الأشعث، قال طلق بن حبيب: اتقوها بالتقوى، فقيل له: صف لنا التقوى؟ فقال: العمل بطاعة الله على نور من الله رجاء ثواب الله، وترك معاصي الله على نور من الله مخافة عذاب الله. قال الذهبي: أبدع وأوجز، فلا تقوى إلا بعمل، ولا عمل إلا بترو من العلم والاتباع، ولا ينفع ذلك إلا بالإخلاص لله، لا ليقال: فلان تارك للمعاصي بنور الفقه، إذ المعاصي يفتقر اجتنابها إلى معرفتها، ويكون الترك خوفا من الله، لا ليمدح بتركها، فمن داوم على هذه الوصية فقد فاز. قال طلق: إن حقوق الله أعظم من أن يقوم بها العباد، وإن نعم الله أكثر من أن تحصى، ولكن أصبحوا تائبين، وأمسوا تائبين. قال ابن الأعرابي: كان يقال: فقه الحسن، وورع ابن سيرين، وحلم مسلم بن يسار، وعبادة طلق، وكان طلق يتكلم على الناس ويعظ. وقد كان رحمه الله يرى الإرجاء، وقد تقدم قريبا موقف سعيد بن جبير منه. كانت وفاته ما بين التسعين والمائة.(1/505)
موقفه من المبتدعة:
جاء في الإبانة: عن سليمان بن عتيق، قال: لما وقعت الفتنة، قال طلق ابن حبيب: اتقوها بالتقوى، قالوا: وما التقوى؟ قال: أن تعمل بطاعة الله على نور من نور الله رجاء ثواب الله، والتقوى ترك معاصي الله على نور من الله خوف عقاب الله. (1)
موقف السلف من ذر الهمداني المرجئي (مات قبل 100 هـ)
قال الإمام أحمد: لا بأس به، هو أول من تكلم في الإرجاء. (2)
وقال المغيرة: سلم ذر على إبراهيم النخعي فلم يرد عليه لأنه كان يرى الإرجاء. (3)
وقال ذر: قد شرعت شيئا -أو قال: دينا- أخاف أن يتخذ سنة. (4)
عن أبي المختار الطائي: شكا ذر الهمداني سعيد بن جبير إلى أبي البختري الطائي، فقال: مررت فسلمت عليه فلم يرد علي فقال: أبو البختري لسعيد بن جبير في ذلك، فقال سعيد: إن هذا يحدث كل يوم دينا، والله لا كلمته أبدا. (5)
_________
(1) الإبانة (2/ 4/598/ 766) والسير (4/ 601).
(2) الميزان (2/ 32/ت2697).
(3) السنة لعبد الله (90).
(4) التنبيه والرد للملطي (ص.154).
(5) السنة لعبد الله (90) وأصول الاعتقاد (5/ 1062 - 1063/ 1812) والإبانة (2/ 891/1240).(1/506)
عن ابن عون قال: كان إبراهيم -أي النخعي- يعيب على ذر قوله في الإرجاء. (1)
وقال إبراهيم: إذا لقيت ذرا فتنصل إلي منه. (2)
عن العلاء بن عبد الله بن رافع أن ذرا أبا عمر أتى سعيد بن جبير يوما في حاجة قال: فقال: لا حتى تخبرني على أي دين أنت اليوم أو رأي أنت اليوم، فإنك لا تزال تلتمس دينا قد أضللته، ألا تستحي من رأي أنت اليوم أكبر منه. (3)
القاسم بن مُخَيْمِرَة (4) (100 هـ)
الإمام القدوة، أبو عروة الهمداني الكوفي نزيل دمشق. حدث عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وأبي سعيد الخدري، وأبي أمامة الباهلي. وروى عنه الأوزاعي وأبو إسحاق السبيعي، وعلقمة بن مرثد.
عن القاسم بن مخيمرة قال: لم يجتمع على مائدتي لونان من طعام قط، وما أغلقت بابي قط ولي خلفه هم. قال الأوزاعي: كان القاسم يقدم علينا مرابطا متطوعا، وسمعته يقول: لأن أطأ على سنان محمي ينفذ من قدمي أحب إلي من أن أطأ على قبر مؤمن متعمدا. توفي في خلافة عمر بن عبد العزيز سنة مائة.
_________
(1) السنة لعبد الله (84).
(2) التنبيه والرد للملطي (ص.154).
(3) السنة لعبد الله (89) والسنة للخلال (4/ 139/1364).
(4) السير (5/ 201) وتهذيب الكمال (23/ 442) وتهذيب التهذيب (8/ 337) وطبقات ابن سعد (6/ 303).(1/507)
موقفه من القدرية:
جاء في الإبانة: عن عبد الله بن العلا بن زبر قال: سمعت القاسم بن مخيمرة يقول لرجل يأتي التباعات: يا فلان، ويحك يا فلان، اتق الله وراجع ما كنت عليه من الإسلام، فقال: يا أبا عروة. اسمع مني حتى أكلمك؛ فقال القاسم: لا حاجة لي في كلامك، وكان رجلا يتهم بالقدر. (1)
الحسن بن محمد بن الحَنَفِيَّة (2) (100 هـ)
الحسن بن محمد بن الحنفية، أبو محمد، وأمه جمال بنت قيس. كان من ظرفاء بني هاشم وأهل العقل منهم، وهو تابعي جليل. روى عن أبيه، وابن عباس، وجابر وسلمة بن الأكوع، وعدة. وروى عنه الزهري وعمرو بن دينار وموسى بن عبيدة وآخرون.
وكان من علماء أهل البيت، قال فيه عمرو بن دينار: ما رأيت أحدا أعلم بما اختلف فيه الناس من الحسن بن محمد، ما كان زُهريُّكم إلا غلاما من غلمانه.
من أقواله: إن أحسن رداء ارتديت به رداء الحلم، هو والله عليك أحسن من بردي حبرة، فإن لم تكن حليما فتحالم.
_________
(1) الإبانة (2/ 10/227/ 1820).
(2) طبقات ابن سعد (5/ 328) والبداية والنهاية (9/ 140) والوافي بالوفيات (12/ 213 - 214) وتهذيب الكمال (6/ 316 - 323) والسير (4/ 130 - 131) وتهذيب التهذيب (2/ 320 - 321) والمعرفة والتاريخ (1/ 543 - 544) وشذرات الذهب (1/ 121).(1/508)
توفي في خلافة عمر بن عبد العزيز ولم يكن له عقب.
موقفه من القدرية:
جاء في أصول الاعتقاد عن أبي الضحى، قال الحسن بن محمد بن علي: لا تجالسوا أهل القدر. (1)
عبد الله بن الديلمي (2) (100 هـ)
عبد الله بن فَيْرُوز الدَّيْلَمِيّ، أبو بِشْر، كان يسكن بيت المقدس. روى عن أبيه، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وابن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وغيرهم. وعنه ربيعة بن يزيد على خلاف فيه، وأبو إدريس الخولاني، وعروة ابن رويم، وغيرهم. قال ابن حجر: ذكره ابن قانع في معجم الصحابة، وأبو زرعة الدمشقي في تابعي أهل الشام، وأما ابن حبان فقال: هو عبد الله بن ديلم بن هوشع الحميري عداده في أهل مصر، كذا قال. وروى ابن سيرين عنه قال: كنت ثالث ثلاثة ممن يخدم معاذ بن جبل. توفي عام مائة.
موقفه من المبتدعة:
- روى اللالكائي بسنده إلى عبد الله بن الديلمي قال: إن أول ذهاب الدين ترك السنة، يذهب الدين سنة سنة كما يذهب الحبل قوة قوة. (3)
- وروى ابن وضاح: عن عبد الله بن الديلمي قال: ما ابتدعت بدعة إلا ازدادت مضيا، ولا تركت سنة إلا ازدادت هربا. (4)
_________
(1) أصول الاعتقاد (4/ 764 - 765/ 1278) والإبانة (2/ 10/230/ 1829).
(2) تهذيب الكمال (15/ 435 - 437) والإصابة (5/ 204 - 205) وتهذيب التهذيب (5/ 358 - 359) وتقريب التهذيب (1/ 440).
(3) أصول الاعتقاد (1/ 104/127) والدارمي (1/ 45) والإبانة (1/ 2/350/ 226).
(4) ما جاء في البدع (ص.85).(1/509)
أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز (1) (101 هـ)
عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم، أمير المؤمنين، أبو حفص القرشي الأموي المدني ثم المصري، الخليفة الزاهد الراشد أشج بني أمية. كان واحد أمته في الفضل، ونجيب عشيرته في العدل، جمع زهدا وعفافا، وورعا وكفافا، شغله آجل العيش عن عاجله وألهاه إقامة العدل عن عاذله، كان للرعية أمنا وأمانا، وعلى من خالفه حجة وبرهانا، كان مفوها عليما، ومفهما حكيما. حدث عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، والسائب بن يزيد وسعيد بن المسيب وعروة، وأبي سلمة بن عبد الرحمن وغيرهم. وعنه جماعة منهم: أبو سلمة أحد شيوخه، ورجاء بن حيوة وابن المنكدر والزهري، وأيوب السختياني ويحيى بن سعيد الأنصاري. روى ضمام ابن إسماعيل عن أبي قبيل: أن عمر بن عبد العزيز بكى وهو غلام صغير، فأرسلت إليه أمه، وقالت: ما يبكيك؟ قال: ذكرت الموت، قال وكان يومئذ قد جمع القرآن، فبكت أمه حين بلغها ذلك. عن عمرو بن ميمون قال: كانت العلماء مع عمر بن عبد العزيز تلامذة. وعنه أيضا قال: أتينا عمر بن عبد العزيز، ونحن نرى أنه يحتاج إلينا، فما كنا معه إلا تلامذة. وكذلك جاء عن مجاهد وغيره.
قال حماد بن واقد: سمعت مالك بن دينار يقول: الناس يقولون عني
_________
(1) طبقات ابن سعد (5/ 330 - 408) وتاريخ الطبري (6/ 565 - 573) والحلية (5/ 253 - 353) والكامل (5/ 58 - 66) وتذكرة الحفاظ (1/ 118 - 121) والسير (5/ 114 - 148) والبداية والنهاية (9/ 192 - 219) والوافي بالوفيات (22/ 506 - 510) والعقد الثمين (6/ 331 - 334) وتهذيب الكمال (21/ 432 - 447) وشذرات الذهب (1/ 112 - 119).(2/1)
زاهد، إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز الذي أتته الدنيا فتركها. عن عمر بن ذر: حدثني عطاء بن أبي رباح، قال: حدثتني فاطمة امرأة عمر بن عبد العزيز أنها دخلت عليه، فإذا هو في مصلاه يده على خده، سائلة دموعه، فقلت: يا أمير المؤمنين. ألشيء حدث؟ قال: يا فاطمة. إني تقلدت أمر أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فتفكرت في الفقير الجائع، والمريض الضائع، والعاري المجهود، والمظلوم المقهور، والغريب المأسور، والكبير وذي العيال في أقطار الأرض، فعلمت أن ربي سيسألني عنهم، وأن خصمهم دونهم محمد - صلى الله عليه وسلم -، فخشيت ألا تثبت لي حجة عند خصومته، فرحمت نفسي وبكيت.
قال عطاء: كان عمر بن عبد العزيز يجمع كل ليلة الفقهاء فيتذاكرون الموت والقيامة والآخرة ويبكون. عن الأوزاعي قال: كتب إلينا عمر بن عبد العزيز رسالة، لم يحفظها غيري وغير مكحول: أما بعد، فإنه من أكثر ذكر الموت، رضي من الدنيا باليسير، ومن عد كلامه من عمله، قل كلامه إلا فيما ينفعه. توفي سنة إحدى ومائة.
موقفه من المبتدعة:
- عن جعفر بن برقان أن عمر بن عبددالعزيز قال لرجل: وسأله عن الأهواء فقال: عليك بدين الصبي الذي في الكتاب والأعرابي واله عما سواهما. (1)
- روى الدارمي بسنده إلى عبيد الله بن عمر أن عمر بن عبد العزيز
_________
(1) أصول الاعتقاد (1/ 153/250) والإبانة (1/ 2/334/ 194) والشريعة (3/ 579/2104) وذم الكلام (ص.199)، الدارمي (1/ 91) والتلبيس (ص.109).(2/2)
خطب فقال: يا أيها الناس إن الله لم يبعث بعد نبيكم نبيا، ولم ينزل بعد هذا الكتاب الذي أنزله عليه كتابا، فما أحل الله على لسان نبيه فهو حلال إلى يوم القيامة، وما حرم على لسان نبيه فهو حرام إلى يوم القيامة، ألا وإني لست بقاض، ولكني منفذ، ولست بمبتدع ولكني متبع، ولست بخير منكم، غير أني أثقلكم حملا، ألا وإنه ليس لأحد من خلق الله أن يطاع في معصية الله، ألا هل أسمعت. (1)
- وعنه قال: ما أتاك به الزهري مما رواه فاشدد يديك به، وما أتاك به من رأيه فانبذه. (2)
- قال مطرف بن عبد الله: سمعت مالك بن أنس إذا ذكر عنده الزائغون في الدين يقول: قال عمر بن عبد العزيز: سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وولاة الأمر من بعده سننا الأخذ بها اتباع لكتاب الله تعالى، واستكمال لطاعة الله تعالى وقوة على دين الله، ليس لأحد من الخلق تغييرها ولا تبديلها ولا النظر في شيء خالفها، من اهتدى بها فهو مهتد، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن تركها اتبع غير سبيل المؤمنين وولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا. (3)
- عن الأوزاعي قال كتب عمر بن عبد العزيز أنه لا رأي لأحد في
_________
(1) سنن الدارمي (1/ 115) والطبقات لابن سعد (5/ 340) والمعرفة والتاريخ للفسوي (1/ 574 - 575).
(2) ذم الكلام (ص.105).
(3) الشريعة (1/ 174/98) والإبانة (2/ 3/511،513/ 594) وجامع بيان العلم وفضله (2/ 1176) والفقيه والمتفقه (1/ 435 - 436) وأصول الاعتقاد (1/ 105 - 106/ 135) وانظر اجتماع الجيوش الإسلامية (ص.146) والاعتصام (1/ 116 - 117).(2/3)
كتاب وإنما رأي الأئمة فيما لم ينزل فيه كتاب ولم تمض به سنة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا رأي لأحد في سنة سنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (1)
- كتب رجل إلى عمر بن عبد العزيز يسأله عن القدر، فكتب: أما بعد، أوصيك بتقوى الله، والاقتصاد في أمره، واتباع سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وترك ما أحدث المحدثون بعد ما جرت به سنته، وكفوا مؤنته، فعليك بلزوم السنة، فإنها لك -بإذن الله- عصمة، ثم اعلم أنه لم يبتدع الناس بدعة إلا قد مضى قبلها ما هو دليل عليها أو عبرة فيها، فإن السنة إنما سنها من قد علم ما في خلافها من الخطأ والزلل والحمق والتعمق، فارض لنفسك ما رضي به القوم لأنفسهم، فإنهم على علم وقفوا، وببصر نافذ كفوا، وهم على كشف الأمور كانوا أقوى، وبفضل ما كانوا فيه أولى، فإن كان الهدى ما أنتم عليه لقد سبقتموهم إليه، ولئن قلتم إنما حدث بعدهم ما أحدثه إلا من اتبع غير سبيلهم ورغب بنفسه عنهم، فإنهم هم السابقون، فقد تكلموا فيه بما يكفي، ووصفوا منه ما يشفي، فما دونهم من مقصر، وما فوقهم من محسر، وقد قصر قوم دونهم فجفوا، وطمح عنهم أقوام فغلوا، وإنهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم. (2)
_________
(1) سنن الدارمي (1/ 114) وجامع بيان العلم وفضله (1/ 781) وابن بطة في الإبانة (1/ 1/262 - 263/ 100) وذم الكلام (ص.107) والآجري في الشريعة (1/ 182/113) والخطيب في الفقيه والمتفقه (1/ 508) وهو في إعلام الموقعين (1/ 74).
(2) أبو داود (5/ 18/4612) وبنحوه عند ابن بطة في الإبانة (1/ 2/321/ 163) والحلية (5/ 338) والشريعة (1/ 444 - 445) وذم الكلام (ص.198) وابن وضاح (ص.72 - 73) وانظر طبقات الحنابلة (1/ 70) والباعث (ص.71) والتلبيس (ص.110) والاعتصام (1/ 65 - 66).(2/4)
" التعليق:
رحمك الله يا أمير المؤمنين، ما أحسن ما قلت وأفضل ما فعلت! تخاطب عمالك بهذه الحكم الغالية، وتبين لهم أن الخير كل الخير في الالتزام بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن الذي سنها علم ما فيها من الخير وما في خلافها من الشر، وأن السابقين الأولين لم يعجزهم الابتداع في دين الله والزيادة فيه، ولكنهم يعلمون أن الخير كل الخير في اتباع سنته، والشر كل الشر في البدع والمحدثات، فبالله عليك قل لي: ماذا يقول المبتدعة في مثل هذه النصوص القاطعة الواضحة التي تسد باب الابتداع في وجوههم؟
- قال ابن عبد البر: روينا عن الحسن البصري أنه قال: ما ورد علينا قط كتاب عمر بن عبد العزيز إلا بإحياء سنة، أو إماتة بدعة، أو رد مظلمة. فهؤلاء هم الأئمة الذين هم لله في الأرض حجة. (1)
- عن يحيى بن سعيد قال: قال عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه غرضا للخصومات أكثر الشك، أو قال: يكثر التحول. (2)
- عن الأوزاعي قال: قال عمر بن عبد العزيز: إذا رأيت قوما يتناجون في دينهم بشيء دون العامة فاعلم أنهم على تأسيس ضلالة. (3)
_________
(1) الاستذكار (1/ 389) وبنحوه في أصول الاعتقاد (1/ 62/16).
(2) أصول الاعتقاد (1/ 144/216) والإبانة (2/ 3/503/ 569) والشريعة (1/ 189/122) وجامع بيان العلم (2/ 931) والفقيه والمتفقه (1/ 562) والدارمي (1/ 91) وشرح السنة (1/ 217).
(3) أصول الاعتقاد (1/ 153/251) وجامع بيان العلم (2/ 932) وذم الكلام (ص.283) والدارمي (1/ 91) وتلبيس إبليس (ص.109).(2/5)
- عن عمرو بن مهاجر أن عمر بن عبد العزيز كان يقول: إذا سمعت المراء فأقصر. (1)
- عن عمر بن عبد العزيز قال: من عمل على غير علم، كان ما يفسد أكثر مما يصلح. (2)
- عن ابن أبي ذئب قال: أخبرني مخلد بن خفاف، قال: ابتعت غلاما، فاستغللته، ثم ظهرت منه على عيب، فخاصمت فيه إلى عمر بن عبد العزيز، فقضى لي برده، وقضى علي برد غلته، فأتيت عروة فأخبرته، فقال أروح إليه العشية فأخبره أن عائشة أخبرتني: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى في مثل هذا أن الخراج بالضمان (3). فعجلت إلى عمر فأخبرته ما أخبرني عروة عن عائشة عن النبي فقال عمر: فما أيسر علي من قضاء قضيته، الله يعلم أني لم أرد فيه إلا الحق، فبلغتني فيه سنة عن رسول الله، فأرد قضاء عمر، وأنفذ سنة رسول الله. فراح إليه عروة، فقضى لي أن آخذ الخراج من الذي قضى به علي له. (4)
- عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: لم يزل أمر بني إسرائيل مستقيما حتى حدث فيهم المولدون أبناء سبايا الأمم فغالوا فيهم بالرأي فضلوا
_________
(1) الإبانة (2/ 3/528/ 644).
(2) الفقيه والمتفقه (1/ 109) وجامع بيان العلم وفضله (1/ 131) وانظر مجموع الفتاوى (2/ 382).
(3) أحمد 6/ 49) وأبو داود (3/ 777 - 779/ 3508) والترمذي (3/ 581 - 582/ 1285) وقال: "هذا حديث حسن صحيح. والنسائي (7/ 292/4502) وابن ماجه (2/ 753 - 754/ 2242) والحاكم (2/ 15) وابن حبان الإحسان (11/ 299/4928) كلهم من طرق عن ابن أبي ذئب عن مخلد بن خفاف به وقد روي هذا الحديث من غير هذا الوجه.
(4) الشافعي في الرسالة (1232) ومن طريقه رواه البيهقي في السنن (5/ 321 - 322) والفقيه والمتفقه (1/ 506) ورواه أبو داود الطيالسي مختصرا (1424).(2/6)
وأضلوا. (1)
- قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: ألا وإني أعالج أمرا لا يعين عليه إلا الله، قد فني عليه الكبير، وكبر عليه الصغير، وفصح عليه الأعجمي، وهاجر عليه الأعرابي، حتى حسبوه دينا لا يرون الحق غيره. (2)
- روي عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: أنه خطب الناس، فكان من جملة كلامه في خطبته أن قال: والله إني لولا أن أنعش سنة قد أميتت، أو أن أميت بدعة قد أحييت، لكرهت أن أعيش فيكم فواقا. (3)
- عن عمر بن عبد العزيز: أنه كان يقول: اثنان لا نعاتبهما: صاحب طمع، وصاحب هوى، فإنهما لا ينزعان. (4)
- وقال عمر بن عبد العزيز: لا تكن ممن يتبع الحق إذا وافق هواه، ويخالفه إذا خالف هواه، فإذا أنت لا تثاب على ما اتبعته من الحق، وتعاقب على ما خالفته. قال ابن تيمية: وهو كما قال -رضي الله عنه- لأنه في الموضعين إنما قصد اتباع هواه لم يعمل لله. (5)
- وقد قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: الرأي فيهم -يعني في أهل الأهواء- أن يستتابوا فإن تابوا وإلا عرضوا على السيف وضربت رقابهم، ومن قتل منهم على ذلك فميراثه لورثته لأنهم مسلمون إلا أنهم قتلوا لرأيهم
_________
(1) ذم الكلام (ص.36) ومعرفة السنن للبيهقي (1/ 109).
(2) الاعتصام (1/ 42).
(3) الاعتصام (1/ 46) وبنحوه في طبقات ابن سعد (5/ 344).
(4) الاعتصام (1/ 163).
(5) مجموع الفتاوى (10/ 480).(2/7)
رأى السوء. (1)
- عن هشام بن عروة أن عمر بن عبد العزيز أخذ قوما على شراب ومعهم رجل صائم فضربه معهم فقيل له: إن هذا صائم، فقال: {فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} (2). (3)
موقفه من المشركين:
- جاء في الصارم: وكان عمر بن عبد العزيز يقول: يقتل، وذلك أنه من شتم النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو مرتد عن الإسلام ولا يشتم مسلم النبي - صلى الله عليه وسلم -. (4)
- وفيه عن خليد أن رجلا سب عمر بن عبد العزيز فكتب عمر: إنه لا يقتل إلا من سب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن اجلده على رأسه أسواطا، ولولا أني أعلم أن ذلك خير له لم أفعل. رواه حرب، وذكره الإمام أحمد، وهذا مشهور عن عمر بن عبد العزيز، وهو خليفة راشد، عالم بالسنة متبع لها. (5)
موقفه من الرافضة:
- جاء في أصول الاعتقاد: عن الحارث بن عتبة أن عمر بن عبد العزيز أتي برجل سب عثمان فقال ما حملك على أن سببته قال: أبغضته قال: أبغضت رجلا وسببته قال: فأمر به فجلد ثلاثين سوطا. (6)
_________
(1) أصول السنة (ص.308).
(2) النساء الآية (140).
(3) الإبانة (2/ 3/481/ 515).
(4) الصارم (10).
(5) الصارم (213).
(6) أصول الاعتقاد (7/ 1340/2383) وهو في الصارم المسلول (571).(2/8)
-وفيه عن إبراهيم بن ميسرة قال: ما رأيت عمر بن عبد العزيز ضرب إنسانا قط إلا إنسانا شتم معاوية فضربه أسواطا. (1)
- وفي السنة للخلال عن جحشة بن العلاء قال: كان عمر بن عبد العزيز إذا سئل عن صفين والجمل قال: أمر أخرج الله يدي منه ما أدخل لساني فيه. (2)
موقفه من الجهمية:
روى اللالكائي في أصول الاعتقاد: عن محمد بن كعب القرظي يحدث عن عمر بن عبد العزيز قال: إذا فرغ الله من أهل الجنة وأهل النار أقبل تبارك وتعالى في ظلل من الغمام ومعه الملائكة فيقف على أهل أول درجة من الجنة فيسلم عليهم فيردون عليه وهو قوله: {سلامٌ قولاً من ربٍ رحيم} (3). (4)
موقفه من الخوارج:
- روى ابن عبد البر بسنده إلى هشام بن يحيى الغساني عن أبيه قال: خرجت علَيَّ الحرورية بالموصل فكتبت إلى عمر بن عبد العزيز بمخرجهم، فكتب إلي يأمرني بالكف عنهم وأن أدعو رجالا منهم فأجعلهم على مراكب من البريد، حتى يقدموا على عمر فيجادلهم، فإن يكونوا على الحق اتبعهم وإن يكن عمر على الحق اتبعوه، وأمرني أن أرتهن منهم رجالا وأن أعطيهم
_________
(1) أصول الاعتقاد (7/ 1341/2385) وهو في الصارم المسلول (571).
(2) السنة للخلال (1/ 461 - 462) وفي جامع بيان العلم (2/ 934/1778) وهو في المنهاج (6/ 254).
(3) يس الآية (58).
(4) أصول الاعتقاد (3/ 500/771).(2/9)
رهنا يكون في أيديهم حتى تنقضي الأمور وأجلهم في سيرهم ومقامهم ثلاثة أشهر فلما قدموا على عمر أمر بنزولهم ثم أدخلهم عليه فجادلهم حتى إذا لم يجد لهم حجة رجعت طائفة منهم، ونزعوا عن رأيهم وأجابوا عمر وقالت طائفة منهم: لسنا نجيبك حتى تكفر أهل بيتك وتلعنهم وتبرأ منهم، فقال عمر: إنه لا يسعكم فيما خرجتم له إلا الصدق، أعلموني هل تبرأتم من فرعون أو لعنتموه أو ذكرتموه في شيء من أموركم، قالوا: لا، قال: فكيف، وسعكم تركه ولم يصف الله عز وجل عبدا بأخبث من صفته إياه ولا يسعني ترك أهل بيتي ومنهم المحسن والمسيء والمخطئ والمصيب. (1)
- وعن هشام بن يحيى الغساني عن أبيه أن عمر بن عبد العزيز كتب إليه في الخوارج: إن كان من رأي القوم أن يسيحوا في الأرض من غير فساد على الأئمة، ولا على أحد من أهل الذمة، ولا يتناولون أحدا، ولا قطع سبيل من سبل المسلمين، فليذهبوا حيث شاؤوا، وإن كان رأيهم القتال، فوالله لو أن أبكاري من ولدي خرجوا رغبة عن جماعة المسلمين، لأرقت دماءهم ألتمس بذلك وجه الله والدار الآخرة. (2)
- وله بسنده إلى محمد بن سليم -أحد بني ربيعة بن حنظلة بن عدي- قال: بعثني وعون بن عبد الله عمر بن عبد العزيز إلى خوارج خرجت بالجزيرة، فذكر الخبر في مناظرة عمر الخوارج وفيه قالوا: خالفت أهل بيتك وسميتهم الظلمة، فإما أن يكونوا على الحق أو يكونوا على الباطل، فإن زعمت أنك
_________
(1) جامع بيان العلم (2/ 965).
(2) التمهيد (انظر فتح البر 1/ 470 - 471).(2/10)
على الحق وهم على الباطل فالعنهم وتبرأ منهم، فإن فعلت فنحن منك وأنت منا، وإن لم تفعل فلست منا ولسنا منك، فقال عمر: إني قد علمت أنكم لم تتركوا الأهل والعشائر وتعرضتم للقتل والقتال إلا وأنتم ترون أنكم مصيبون، ولكنكم أخطأتم وضللتم وتركتم الحق، أخبروني عن الدين أواحد أو اثنان؟ قالوا: بلى، واحد، قال: فيسعكم في دينكم شيء يعجز عني؟ قالوا: لا، قال: أخبروني عن أبي بكر وعمر ما حالهما عندكم؟ قالوا: أفضل أسلافنا أبو بكر وعمر، قال: ألستم تعلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما توفي ارتدت العرب فقاتلهم أبو بكر فقتل الرجال وسبى الذرية والنساء؟ قالوا: بلى، قال عمر بن عبد العزيز: فلما توفي أبو بكر وقام عمر رد النساء والذراري على عشائرهم؟ قالوا: بلى، قال عمر: فهل تبرأ عمر من أبي بكر ولعنه بخلافه إياه؟ قالوا: لا، قال: فتتولونهما على اختلاف سيرتهما؟ قالوا: نعم، قال عمر: فما تقولون في بلال بن مرداس؟ قالوا: من خير أسلافنا بلال بن مرداس، قال: أفلستم قد علمتم أنه لم يزل كافا عن الدماء والأموال وقد لطخ أصحابه أيديهم في الدماء والأموال فهل تبرأت إحدى الطائفتين من الأخرى أو لعنت إحداهما الأخرى؟ قالوا: لا، قال: فتتولونهما جميعا على اختلاف سيرتهما؟ قالوا: نعم، قال عمر: فأخبروني عن عبد الله بن وهب الراسبي حين خرج من البصرة هو وأصحابه يريدون أصحابكم بالكوفة فمروا بعبد الله بن خباب فقتلوه وبقروا بطن جاريته، ثم عدوا على قوم من بني قطيعة فقتلوا الرجال وأخذوا الأموال وغلوا الأطفال في المراجل، وتأولوا قول الله عز وجل: {إِنَّكَ إِنْ إن تذرهم يضلوا(2/11)
عبادك ولا يلدوا إلا فاجرًا كفارًا} (1)، ثم قدموا على أصحابهم من أهل الكوفة وهم كافون عن الفروج والدماء والأموال فهل تبرأت إحدى الطائفتين من الأخرى أو لعنت إحداهما الأخرى؟ قالوا: لا، قال عمر: فتتولونهما على اختلاف سيرتهما؟ قالوا: نعم، قال عمر: فهؤلاء الذين اختلفوا بينهم في السيرة والأحكام ولم يتبرأ بعضهم من بعض على اختلاف سيرتهم، ووسعهم ووسعكم ذلك ولا يسعني حين خالفت أهل بيتي في الأحكام والسيرة حتى ألعنهم وأتبرأ منهم؟ أخبروني عن اللعن أفرض هو على العباد؟ قالوا: نعم، قال عمر لأحدهما: متى عهدك بلعن فرعون؟ قال: ما لي بذلك عهد منذ زمان، فقال عمر: هذا رأس من رؤوس الكفر ليس له عهد بلعنه منذ زمان، وأنا لا يسعني أن لا ألعن من خالفتهم من أهل بيتي، وذكر تمام الخبر. (2)
" التعليق:
تأمل هذه المناظرة التي عقدها أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز مع طائفة الخوارج تر البون الشاسع بين العقل الراجح المنور بالعلم الغزير والعقل الطائش المظلم بالجهل الفاضح، وبين الوسطية والاعتدال في الأمور والتطرف والتنطع الذي يتصف به خوارج كل زمان. نسأل الله العافية.
- وروى ابن أبي شيبة بسنده إلى مغيرة قال: خاصم عمر بن عبد العزيز
_________
(1) نوح الآية (27).
(2) جامع بيان العلم وفضله (2/ 966 - 967).(2/12)
الخوارج، فرجع من رجع منهم، وأبت طائفة منهم أن يرجعوا، فأرسل عمر رجلا على خيل وأمره أن ينزل حيث يرحلون، ولا يحركهم ولا يهيجهم، فإن قتلوا وأفسدوا في الأرض فاسط عليهم وقاتلهم، وإن هم لم يقتلوا ولم يفسدوا في الأرض فدعهم يسيرون. (1)
- وله بسنده إلى عبيد بن الحسن: قال: قالت الخوارج لعمر بن عبد العزيز: تريد أن تسير فينا بسيرة عمر بن الخطاب؟ فقال: ما لهم قاتلهم الله، والله ما زدت أن أتخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إماما. (2)
- وروى عبد الرزاق بسنده إلى عيسى بن المغيرة قال: خرج خارجي بالسيف بخراسان فأخذ، فكتب فيه إلى عمر بن عبد العزيز، فكتب فيه: إن كان جرح أحدا فاجرحوه، وإن قتل أحدا فاقتلوه، وإلا فاستودعوه السجن، واجعلوا أهله قريبا منه، حتى يتوب من رأي السوء. (3)
- وعن ابن وهب قال: أخبرني ابن أبي الزناد عن أبيه قال: خرجت حرورية بالعراق في خلافة عمر بن عبد العزيز وأنا يومئذ بالعراق مع عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، فكتب إلينا عمر بن عبد العزيز يأمرنا أن ندعوهم إلى العمل بكتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - فلما أعذر في دعائهم كتب إليه أن قاتلهم فإن الله وله الحمد، لم يجعل لهم سلفا يحتجون به علينا، فبعث إليهم عبد الحميد جيشا فهزمتهم الحرورية، فلما بلغ ذلك عمر بعث
_________
(1) المصنف (7/ 557/37908).
(2) المصنف (7/ 360/37922).
(3) المصنف (10/ 118/18576).(2/13)
إليهم مسلمة بن عبد الملك في جيش من أهل الشام وكتب إلى عبد الحميد أنه قد بلغني ما فعل جيشك جيش السوء وقد بعثت إليك مسلمة بن عبد الحميد فخل بينه وبينهم فلقيهم مسلمة فأظفره الله عليهم وأظفره بهم. (1)
موقفه من المرجئة:
عن عدي بن عدي قال: كتب إلي عمر بن عبد العزيز: أما بعد: فإن للإيمان فرايض وشرايع فمن استكملها استكمل الإيمان ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان فإن عشت أبينها لكم حتى تعملوا بها إن شاء الله وإن مت فوالله ما أنا على صحبتكم بحريص. (2)
موقفه من القدرية:
روى اللالكائي بسنده إلى حيان بن عبيد الله التميمي عن أبيه قال: شهدت عمر بن عبد العزيز وقد أدخل عليه غيلان، فقال: ويحك يا غيلان، أراني أبلغ عنك ويحك يا غيلان أراني أبلغ عنك؟ أيا غيلان أحقا ما أبلغ عنك؟ فسكت فقال: هات فإنك آمن فإن يك الذي تدعو الناس إليه حقا فأحق من دعا إليه الناس نحن هات. فأسكت طويلا، فقال عمر: ويحك فإنك آمن وأمره أن يجلس فجلس فتكلم بلسان ذلق، فقال: إن الله لا يوصف إلا بالعدل ولم يكلف نفسا إلا وسعها ولا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها، ولم
_________
(1) رياض الجنة بتخريج أصول السنة لابن أبي زمنين (306 - 307).
(2) علقه البخاري في أول كتاب الإيمان (1/ 63 فتح) ووصله ابن أبي شيبة في كتاب الإيمان (135) وفي المصنف له (6/ 166/30384) وأحمد في الإيمان كما في الفتح (1/ 65) والخلال في السنة (4/ 57/1162) وابن بطة في الإبانة (2/ 858 - 859/ 1166) واللالكائي (4/ 926/1572).(2/14)
يكلف المسافر صلاة المقيم ولم يكلف الله المريض عمل الصحيح ولم يكلف الفقير مثل صدقة الغني ولم يكلف الناس إلا ما جعل إليه السبيل وأعطاهم المشيئة فقال: {فَمَنْ شَاءَ فليؤمن وَمَنْ شَاءَ فليكفر} (1) وقال: اعْمَلُوا {مَا شِئْتُمْ} (2) فلما فرغ من كلام كثير قال له عمر في آخر كلامه: يا غيلان ما تقول في قول الله: {يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} (3).
أنت تزعم يا غيلان -ذكر كلاما كثيرا سقط من الكتاب- فأسكت غيلان لا يجيبه وجعل عمر يسأله وغيلان يرفع بصره إلى السماء مرة وإلى الأرض مرة، وانتفخت أوداجه، فقال: ما يمنعك أن تتكلم وقد جعلت لك
_________
(1) الكهف الآية (29).
(2) فصلت الآية (40).
(3) يس الآيات (1 - 10).(2/15)
الأمان؟ فقال غيلان: أستغفر الله وأتوب إليه يا أمير المؤمنين، ادع الله لي بالمغفرة، فقال: اللهم إن كان عبدك صادقا فوفقه وسدده وإن كان كاذبا أعطاني بلسانه ما ليس في قلبه بعد أن أنصفته وجعلت له الأمان فسلط عليه من يمثل به. قال: فصار من أمره بعد أن قطع لسانه وصلب. (1)
- وجاء في الإبانة: أن عمر بن عبد العزيز قيل له: إن غيلان يقول في القدر كذا وكذا، فقال: يا غيلان: ما تقول في القدر؛ فتقور ثم قرأ: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} حتى قرأ: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} (2)؛ قال: فقال عمر: القول فيه طويل عريض، ما تقول في القلم؟ قال: قد علم الله ما هو كائن، قال: أما والله لو لم تقلها لضربت عنقك. (3)
- وفيها عن الأوزاعي قال: كتب غيلان إلى عمر بن عبد العزيز: أما بعد يا أمير المؤمنين؛ فهل رأيت عليما حكيما أمر قوما بشيء ثم حال بينهم وبينه ويعذبهم عليه، قال: فكتب إليه عمر رضي الله عنه: أما بعد؛ فهل رأيت قادرا قاهرا يعلم ما يكون خلف لنفسه عدوا وهو يقدر على هلاكه، قال: فبطلت الرسالة الأولى. (4)
_________
(1) أصول الاعتقاد (4/ 791 - 792/ 1326) والشريعة (1/ 438 - 439/ 556) والإبانة (2/ 10/235 - 236/ 1840) والسنة (145 - 146)
(2) الإنسان الآيات (1 - 3).
(3) الإبانة (2/ 10/236 - 237/ 1841) وبنحوه في السنة (120).
(4) الإبانة (2/ 11/279/ 1911).(2/16)
- وروى الآجري في الشريعة بسنده: سأل رجل عمر بن عبد العزيز عن القدر؟ فقال: ما جرى ذباب بين اثنين إلا بقدر ثم قال للسائل: لا تعودن تسألني عن مثل هذا. (1)
- وفي الشريعة عن عمرو بن مهاجر: أقبل غيلان وهو مولى لآل عثمان وصالح بن سويد إلى عمر بن عبد العزيز. فبلغه أنهما ينطقان في القدر، فدعاهما فقال: إن علم الله تعالى نافذ في عباده أم منتقض؟ قالا: بل نافذ يا أمير المؤمنين؛ قال: ففيم الكلام؟ فخرجا، فلما كان عند مرضه بلغه أنهما قد أسرفا، فأرسل إليهما وهو مغضب. فقال: ألم يك في سابق علمه حين أمر إبليس بالسجود: أنه لا يسجد؟؛ قال عمرو: فأومأت إليهما برأسي: قولا: نعم، فقالا: نعم، فأمر بإخراجهما، وبالكتاب إلى الأجناد بخلاف ما قالا، فمات عمر رضي الله عنه قبل أن ينفذ تلك الكتب. (2)
- وفي أصول الاعتقاد عن أبي جعفر الخطمي قال: شهدت عمر بن عبد العزيز وقد دعا غيلان لشيء بلغه عنه في القدر. فقال له: ويحك يا غيلان ما هذا الذي بلغني عنك؟ قال: يكذب علي يا أمير المؤمنين ويقال علي ما لا أقول. قال: ما تقول في العلم؟ قال: نفذ العلم. قال: أنت مخصوم اذهب الآن فقل ما شئت. يا غيلان إنك إن أقررت بالعلم خصمت وإن جحدته كفرت وإنك إن تقر به فتخصم خير لك من أن تجحد فتكفر. ثم قال له: أتقرأ يس؟ فقال: نعم. قال: اِقرأ. قال: فقرأ: {يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ}
_________
(1) الشريعة (1/ 442 - 443/ 568) وأصول الاعتقاد (4/ 752 - 753/ 1247).
(2) الشريعة (1/ 443/569).(2/17)
إلى قوله: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُون} (1) قال: قف. كيف ترى؟ قال: كأني لم أقرأ هذه الآية يا أمير المؤمنين. قال: زد. فقرأ: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} (2). فقال له عمر: قل: {سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} (3). قال: كيف ترى؟ قال: كأني لم أقرأ هذه الآيات قط وإني أعاهد الله أن لا أتكلم في شيء مما كنت أتكلم فيه أبدا. قال: اذهب. فلما ولى قال: اللهم إن كان كاذبا بما قال فأذقه حر السلاح. قال: فلم يتكلم زمن عمر فلما كان يزيد بن عبد الملك كان رجلا لا يهتم بهذا ولا ينظر فيه. قال: فتكلم غيلان. فلما ولي هشام أرسل إليه فقال له: أليس قد كنت عاهدت الله لعمر لا تتكلم في شيء من هذا أبدا؟ قال: أقلني فوالله لا أعود. قال: لا أقالني الله إن أقلتك هل تقرأ فاتحة الكتاب؟ قال: نعم. قال: اِقرأ الحمد لله رب العالمين.
فقرأ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ
_________
(1) يس الآيات (1 - 7).
(2) يس الآيتان (8و9).
(3) يس الآيتان (9و10).(2/18)
نَسْتَعِينُ} (1). قال: قف: على ما استعنت؟ على أمر بيده لا تستطيعه أو على أمر في يدك -أو بيدك-؟ اذهبا فاقطعا يديه ورجليه واضربا عنقه واصلباه. (2)
" التعليق:
هكذا يستجاب للصالحين الصادقين في المبتدعة الهالكين الذين آثروا زبالة الأذهان الفاسدة الضالة على نور الوحي، الذي نزل من السماء طاهرا مطهرا، لم يدنس، لا بفكر فلان ولا بجهالة علان. فعقاب الله للمبتدع في الدنيا مع ما يدخر له للآخرة.
- قال محمد بن الحسين الآجري: كان غيلان مصرا على الكفر بقوله في القدر، فإذا حضر عند عمر رحمه الله نافق، وأنكر أن يقول بالقدر، فدعا عليه عمر بأن يجعله الله تعالى آية للمؤمنين، إن كان كذابا، فأجاب الله عز وجل فيه دعوة عمر، فتكلم غيلان في وقت هشام، هو وصالح مولى ثقيف، فقتلهما وصلبهما، وقبل ذلك قطع يد غيلان ولسانه، ثم قتله وصلبه، فاستحسن العلماء في وقته ما فعل بهما.
فهكذا ينبغي لأئمة المسلمين وأمرائهم إذا صح عندهم أن إنسانا يتكلم في القدر بخلاف ما عليه من تقدم أن يعاقبه بمثل هذه العقوبة، ولا تأخذهم
_________
(1) الفاتحة الآيات (2 - 5).
(2) أصول الاعتقاد (4/ 789 - 791/ 1325) والسنة لعبد الله (146).(2/19)
في الله لومة لائم. (1)
- وروى أبو داود بسنده إلى أبي الصلت قال: كتب رجل إلى عمر بن عبد العزيز يسأله عن القدر، فكتب: أما بعد أوصيك بتقوى الله، والاقتصاد في أمره، واتباع سنة نبيه. إلى أن قال (2): كتبت تسأل عن الإقرار بالقدر فعلى الخبير -بإذن الله- وقعت، ما أعلم ما أحدث الناس من محدثة، ولا ابتدعوا من بدعة هي أبين أثرا ولا أثبت أمرا من الإقرار بالقدر، لقد كان ذكره في الجاهلية الجهلاء، يتكلمون به في كلامهم وفي شعرهم، يعزون به أنفسهم على ما فاتهم، ثم لم يزده الإسلام بعد إلا شدة، ولقد ذكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غير حديث ولا حديثين، وقد سمعه منه المسلمون فتكلموا به في حياته وبعد وفاته، يقينا وتسليما لربهم، وتضعيفا لأنفسهم، أن يكون شيء لم يحط به علمه، ولم يحصه كتابه، ولم يمض فيه قدره، وإنه مع ذلك لفي محكم كتابه: منه اقتبسوه، ومنه تعلموه، ولئن قلتم: (لم أنزل الله آية كذا؟ ولم قال كذا؟) لقد قرأوا منه ما قرأتم، وعلموا من تأويله ما جهلتم، وقالوا بعد ذلك: كله بكتاب وقدر، وكتبت الشقاوة، وما يقدر يكن، وما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا نملك لأنفسنا ضرا ولا نفعا، ثم رغبوا بعد ذلك ورهبوا. (3)
- وجاء في أصول الاعتقاد: قال عمر بن عبد العزيز في أصحاب القدر: يستتابون فإن تابوا وإلا نفوا من ديار المسلمين. (4)
_________
(1) الشريعة (1/ 443).
(2) تقدم معنا في مواقفه من المبتدعة.
(3) أبو داود (5/ 19 - 20/ 4612).
(4) أصول الاعتقاد (4/ 785/1318) والإبانة (2/ 10/234/ 1837) والسنة لعبد الله (147).(2/20)
- وروى مالك عن عمه أبي سهيل قال: كنت مع عمر بن عبد العزيز فقال لي: ما ترى في هؤلاء القدرية قال: قلت: أرى أن تستتيبهم فإن قبلوا ذلك وإلا عرضتم على السيف. فقال عمر بن عبد العزيز: ذلك رأيي، قلت لمالك: فما رأيك أنت. قال: هو رأيي. (1)
- وروى عبد الله بسنده: عن نافع بن مالك أبي سهيل (2) أن عمر بن عبد العزيز قال له ما ترى في الذين يقولون لا قدر قال أرى أن يستتابوا وإلا ضربت أعناقهم قال عمر وذلك الرأي فيهم لو لم يكن إلا هذه الآية الواحدة كفى بها {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} (3). (4)
- وروى اللالكائي بسنده عن عمر بن ذر قال: بينما عمر بن عبد العزيز في نفر منهم يزيد -أو زياد- الفقير كذى- قال داود وموسى بن كثير أبو الصباح وناس من أهل الكوفة. قال: فتكلم متكلمنا ويرى أنه عمر ابن ذر قال: ما بلغ فريتنا لعمر وظننا أنه لا يقدر على جوابه فلما سكت. تكلم عمر بن عبد العزيز فلم يدع شيئا مما جاء به إلا أجابه فيه. قال: ثم ابتدأ الكلام فما كنا عنده إلا تلامذة فقال فيما قال: إن الله لو كلف العباد العمل
_________
(1) الموطأ (2/ 900) والسنة (147) والإبانة (2/ 10/233/ 1834) وأصول الاعتقاد (4/ 784/1315) والشريعة (1/ 437/552) وأصول السنة لابن أبي زمنين (307).
(2) في الأصل: أبو إسماعيل، وهو خطأ.
(3) الصافات الآيات (161 - 163).
(4) السنة لعبد الله (147).(2/21)
على قدر عظمته لما قامت لذلك سماء ولا أرض ولا جبل ولا شيء من الأشياء ولكن أخذ منهم اليسر. ولو أراد -أو أحب- أن لا يعصى لم يخلق إبليس رأس المعصية. (1)
- وبنحوه أخرج الآجري بسنده: عن عمر بن ذر قال: جلسنا إلى عمر بن عبد العزيز فتكلم منا متكلم، فعظم الله تعالى وذكر بآياته، فلما فرغ تكلم عمر بن عبد العزيز، فحمد الله وأثنى عليه، وشهد شهادة الحق، وقال للمتكلم: إن الله تعالى كما ذكرت وعظمت، ولكن الله تعالى: لو أراد أن لا يعصى ما خلق إبليس وقد بين ذلك في آية من القرآن، علمها من علمها، وجهلها من جهلها؛ ثم قرأ: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} قال: ومعنا: رجل رأى رأي القدرية، فنفعه الله تعالى بقول عمر بن عبد العزيز، ورجع عما كان يقول: فكان أشد الناس بعد ذلك على القدرية. (2)
- وعن الأوزاعي قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى ابن له كتابا فكان فيما كتب فيه: إني أسأل الله الذي بيده القلوب يصنع ما شاء من هدى وضلالة ... (3)
- وعن معمر قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطأة أما بعد: فإن استعمالك سعد بن مسعود على عمان من الخطايا التي قدر الله
_________
(1) أصول الاعتقاد (4/ 751 - 752/ 1245).
(2) الشريعة (1/ 442/567) وأصول الاعتقاد (3/ 625/1005) والإبانة (2/ 10/237 - 238/ 1845 مختصرا).
(3) أصول الاعتقاد (4/ 752/1246).(2/22)
عليك وقدر أن تبتلى بها. (1)
- وروى عبد الله بن أحمد بسنده: قال عمر بن عبد العزيز: ويلهم يعني "القدرية" أما يقرءون هذه الآيات {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} ويلهم أما يقرءون وقرأ حتى بلغ {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} (2). (3)
- وروى ابن بطة في الإبانة: عن حكيم بن عمر قال: قال عمر بن عبد العزيز: ينبغي لأهل القدر أن يوعز إليهم فيما أحدثوا من القدر، فإن كفوا، وإلا؛ سلت ألسنتهم من أقفيتهم استلالا. (4)
- وفيها عن سيار قال: خطب عمر بن عبد العزيز؛ فقال: يا أيها الناس. من أحسن منكم؛ فليحمد الله، ومن أساء؛ فليستغفر الله، ثم إذا أساء؛ فليستغفر الله، ثم إذا أساء؛ فليستغفر الله، ثم إذا أساء؛ فليستغفر الله، مع أني قد علمت أن أقواما سيعملون أعمالا وضعها الله في رقابهم وكتبها عليهم. (5)
- وفيها عن أبي خطاب أن عمر بن عبد العزيز كان يقول في دعائه: وأنك إن كنت خصصت برحمتك أقواما أطاعوك فيما أمرتهم به وعملوا لك
_________
(1) أصول الاعتقاد (4/ 753/1248) والإبانة (2/ 10/237/ 1844) والسنة (143).
(2) الصافات الآيات (161 - 173).
(3) السنة لعبد الله (137 - 138).
(4) الإبانة (2/ 10/234/ 1836).
(5) الإبانة (2/ 10/237/ 1842) والشريعة (1/ 441/564).(2/23)
فيما خلقتهم له؛ فإنهم لم يبلغوا ذلك إلا بك، ولم يوفقهم لذلك إلا أنت، كانت رحمتك إياهم قبل طاعتهم لك. (1)
- وفيها عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز قال: قال عمر بن عبد العزيز: لا تغزوا مع القدرية؛ فإنهم لا ينصرون. (2)
- وفيها عن حكيم بن عمير قال: قيل لعمر بن عبد العزيز: إن قوما ينكرون من القدر شيئا، فقال عمر: بينوا لهم وارفقوا بهم حتى يرجعوا، فقال قائل: هيهات هيهات يا أمير المؤمنين، لقد اتخذوا دينا يدعون إليه الناس؛ ففزع لها عمر؛ فقال: أولئك أهل أن تسل ألسنتهم من أقفيتهم، هل طار ذباب بين السماء والأرض إلا بمقدار؟ (3)
مُجاهد بن جَبْر (4) (101 هـ)
مجاهد بن جبر الإمام شيخ القراء والمفسرين أبو الحجاج المكي. روى عن ابن عباس فأكثر وأطاب أخذ عنه القرآن والتفسير والفقه وعن أبي هريرة وعائشة وسعد بن أبي وقاص وابن عمر وغيرهم. قرأ عليه جماعة منهم ابن كثير الداري وأبو عمرو بن العلاء وابن محيصن وحدث عنه عكرمة وطاووس
_________
(1) الإبانة (2/ 10/238/ 1847).
(2) الإبانة (2/ 10/238/ 1848).
(3) الإبانة (2/ 10/238 - 239/ 1849) والشريعة (1/ 440/559).
(4) طبقات ابن سعد (5/ 466 - 467) ومشاهير علماء الأمصار (82) والبداية والنهاية (9/ 224) وتذكرة الحفاظ (1/ 92 - 93) والسير (4/ 449 - 457) والحلية (3/ 279 - 310) وتهذيب الكمال (27/ 228) والعقد الثمين (7/ 132 - 134) وشذرات الذهب (1/ 125) وتقريب التهذيب (2/ 229) وميزان الاعتدال (3/ 439 - 440).(2/24)
وعطاء وغيرهم. كان يقول: عرضت القرآن على ابن عباس ثلاثين عرضة، وفي رواية قال: عرضت القرآن ثلاث عرضات على ابن عباس، أقفه عند كل آية أسأله؛ فيم نزلت وكيف كانت. قال سفيان الثوري: خذوا التفسير من أربعة: مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والضحاك. قال خصيف: كان مجاهد أعلمهم بالتفسير. وقال قتادة: أعلم من بقي بالتفسير مجاهد. قال ابن جريج: لأن أكون سمعت من مجاهد فأقول: سمعت مجاهدا؛ أحب إلي من أهلي ومالي. قال سلمة بن كهيل: ما رأيت أحدا يريد بهذا العلم وجه الله إلا هؤلاء الثلاثة: عطاء ومجاهد وطاووس. قال مجاهد: صحبت ابن عمر وأنا أريد أن أخدمه؛ فكان يخدمني. وعنه قال: ربما أخذ ابن عمر لي بالركاب. وقال: طلبنا هذا العلم وما لنا فيه نية، ثم رزق الله النية بعد. وقال: لا تنوهوا بي في الخلق. عن قتادة قال: أعلم من بقي بالحلال والحرام الزهري، وأعلم من بقي بالقرآن مجاهد. مات سنة إحدى ومائة وهو ساجد رحمه الله تعالى.
موقفه من المبتدعة:
- روى ابن بطة بسنده إلى ابن أبي نجيح عن مجاهد: {ولا تَتَّبِعُوا السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سبيله} (1) قال: البدع والشبهات. (2)
- عن أبي يحيى القتات، عن مجاهد في قوله عز وجل: {شرعةً
_________
(1) الأنعام الآية (153).
(2) الإبانة (1/ 2/298/ 134) والدارمي (1/ 68) وذم الكلام (ص.192).(2/25)
وَمِنْهَاجًا} (1) قال: سبيلا وسنة. (2)
- وعنه قال: ما أدري أي النعمتين علي أعظم؛ أن هداني للإسلام أو عافاني من هذه الأهواء. (3)
قال الذهبي: مثل الرفض والقدر والتجهم. (4)
" التعليق:
إن هذه الكلمات من هذا الإمام ونظرائه بمقام الحجب والسدود التي يضعها السلف أمام المبتدعة أصحاب الأهواء الذين ضلوا وأضلوا، فانظر كيف قارن رضي الله عنه بين نعمة الإسلام، وكفى بها نعمة، وبين نقمة البدع والأهواء؟! نسأل الله السلامة والعافية.
- عن الأعمش عن مجاهد قال: أفضل العبادة حسن الرأي، يعني السنة. (5)
- عن ابن أبي نجيح عن مجاهد: {يخوضون في ءاياتنا} (6) يستهزؤون، نهى محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يقعد معهم إلا أن ينسى فإذا ذكر فليقم وذلك
_________
(1) المائدة الآية (48).
(2) الإبانة (1/ 2/346 - 347/ 221).
(3) الدارمي (1/ 92) وذم الكلام (ص.193).
(4) سير إعلام النبلاء (4/ 454 - 455).
(5) الإبانة (1/ 2/348/ 223) وتأويل مختلف الحديث (ص.57).
(6) الأنعام الآية (68).(2/26)
قوله: {فلا تقعد بعد الذكرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (1). (2)
- عن قيس بن سعد قال: سمعت مجاهدا يقول: لا تجالسوا أهل الأهواء فإن لهم عرة كعرة الجرب. (3)
- قال عبد الرحمن بن مهدي: أدركت الناس وهم على الجملة يعني لا يتكلمون ولا يخاصمون. قال عبد الله: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو أسامة، عن شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: {لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} (4) قال: لا خصومة بيننا وبينكم.
- عن ابن أبي نجيح عن مجاهد: {ءايات محكمات} (6) قال: ما فيه من الحلال والحرام وما سوى ذلك من المتشابهات يصدق بعضه بعضا وهو مثل قوله: {وَمَا يضل بِهِ إِلًّا الْفَاسِقِينَ} (7). وهو مثل قوله: {كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} (8).
_________
(1) الأنعام الآية (68).
(2) الإبانة (2/ 3/430/ 351) وتفسير الطبري (7/ 229).
(3) الإبانة (2/ 3/441/ 382).
(4) الشورى الآية (15).
(5) الإبانة (2/ 3/529/ 648).
(6) آل عمران الآية (7).
(7) البقرة الآية (26).
(8) الأنعام الآية (125).(2/27)
ومثل قوله: {وَالَّذِينَ اهتدوا زادهم هدًىوَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} (17) (1). {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} (2).
الشبهات: ما أهلكوا به والراسخون في العلم يعلمون تأويله ويقولون آمنا به. (3)
- عن مجاهد في قول الله: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} (4)، يقول: ما قدموا من خير، وآثارهم التي أورثوا الناس بعدهم من الضلالة. (5)
- عن مجاهد قال: ليس أحد من خلق الله إلا وهو يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي - صلى الله عليه وسلم -. (6)
موقفه من الرافضة:
عن مجاهد قال: لو أدركتم معاوية لقلتم هذا المهدي. (7)
موقفه من الجهمية:
- جاء في السنة لعبد الله: عن مجاهد {لا يملكون مِنْهُ خِطَابًا} (8)
_________
(1) محمد الآية (17).
(2) آل عمران الآية (7).
(3) الإبانة (2/ 4/608 - 609/ 787).
(4) يس الآية (12).
(5) ابن أبي حاتم في التفسير (10/ 3190/18043) وذكره صاحب الاعتصام (1/ 90 - 91).
(6) جامع بيان العلم (2/ 925) والحلية (3/ 300).
(7) المنهاج (6/ 233).
(8) النبأ الآية (37).(2/28)
قال: كلام الله. (1)
- وجاء في أصول الاعتقاد: عن مجاهد: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى} (2) قال: الحسنى: الجنة، والزيادة: النظر إلى الرب. (3)
- وفيه عنه في قوله عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} (4) قال: حسنة {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (5) قال: تنظر إلى ربها تبارك وتعالى. (6)
- وفيه عنه قال: ما من ميت يموت حتى يعرض عليه أهل مجلسه إن كانوا من أهل لهو فأهل لهو وإن كانوا أهل ذكر فأهل ذكر. (7)
- وفي البخاري معلقا: وقال مجاهد، استوى: علا على العرش. (8)
موقفه من المرجئة:
- عن الوليد بن زياد عن مجاهد قال: يبدؤون فيكم مرجئة ثم يكونون قدرية ثم يصيرون مجوسا. (9)
_________
(1) السنة لعبد الله (30).
(2) يونس الآية (26).
(3) أصول الاعتقاد (3/ 512 - 513/ 797).
(4) القيامة الآية (22).
(5) القيامة الآية (23).
(6) أصول الاعتقاد (3/ 515/802) والسنة لعبد الله (81).
(7) أصول الاعتقاد (6/ 1202/2126).
(8) علقه البخاري (13/ 403).
(9) أصول الاعتقاد (5/ 1060/1803) والإبانة (2/ 123/1554) وبنحوه في السنة لعبد الله (148).(2/29)
- وعن مجاهد قال: الإيمان يزيد وينقص والإيمان قول وعمل. (1)
- وعن عبد الوهاب بن مجاهد قال: كنت عند أبي فجاء ولده يعقوب فقال: يا أبتاه، إن لنا أصحابا يزعمون أن إيمان أهل السماء وأهل الأرض واحد. فقال: يا بني، ما هؤلاء بأصحابي، لا يجعل الله من هو منغمس في الخطايا كمن لا ذنب له. (2)
موقفه من القدرية:
- جاء في الاعتصام للشاطبي: عن حميد الأعرج قال: قدم غيلان مكة يجاور بها، فأتى غيلان مجاهدا فقال: يا أبا الحجاج، بلغني أنك تنهى الناس عني وتذكرني ... بلغك عني شيء لا أقوله؟ إنما أقول كذا، فجاء بشيء لا ينكر. فلما قام، قال مجاهد: لا تجالسوه فإنه قدري. قال حميد: فإني يوما في الطواف لحقني غيلان من خلفي يجذب ردائي فالتفت فقال: كيف يقرأ مجاهد حرف كذا وكذا فأخبرته، فمشى معي، فبصر بي مجاهد معه، فأتيته فجعلت أكلمه فلا يرد علي، وأسأله فلا يجيبني. فقال: فغدوت إليه فوجدته على تلك الحال فقلت: يا أبا الحجاج أبلغك عني شيء ما أحدثت حدثا، مالي؟ قال ألم أرك مع غيلان وقد نهيتكم أن تكلموه أو تجالسوه. قال: قلت يا أبا الحجاج، ما أنكرت قولك وما بدأته هو بدأني. قال: والله يا حميد لولا أنك عندي مصدق ما نظرت لي في وجه منبسط ما عشت، ولئن عدت لا
_________
(1) السنة لعبد الله (83) وأصول الاعتقاد (5/ 1023/1728).
(2) السير (4/ 455).(2/30)
تنظر لي في وجه منبسط ما عشت. (1)
- وفي الإبانة عن حميد بن قيس الأعرج، قال: صليت إلى جنب رجل يتهم بالقدرية؛ فلقيت مجاهدا فأعرض عني فقلت له: فقال: ألم أرك صليت إلى جنب فلان؟ قلت: إنما ضمتني وإياه الصلاة. (2)
- وروى عبد الله بسنده عنه قال: لا يكون مجوسية حتى يكون قدرية ثم يتزندقوا ثم يتمجسوا. (3)
- وروى اللالكائي بسنده عن مجاهد في قوله: {إني أعلم ما لا تعلمون} (4) قال: علم من إبليس المعصية وخلقه لها. (5)
- وروى عن سفيان عن منصور: عن مجاهد في قوله: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحصيناه في إمام مبين} (6) قال: في أم الكتاب. (7)
- وروى عن شريك عن عطاء بن السائب: عن مجاهد في قوله: {يمحو الله ما يشاء ويثبت} (8) قال: إن الله عز وجل ينزل كل شيء
_________
(1) الاعتصام (2/ 790) وما جاء في البدع (110 - 111).
(2) الإبانة (2/ 10/207/ 1754).
(3) السنة (148) وبنحوه في أصول الاعتقاد (4/ 714/1168) والإبانة (2/ 9/123/ 1554).
(4) البقرة الآية (30).
(5) أصول الاعتقاد (3/ 602 - 603/ 959) والسنة (134) والإبانة (2/ 10/202/ 1736).
(6) يس الآية (12).
(7) أصول الاعتقاد (3/ 609/973) والإبانة (1/ 8/292/ 1309).
(8) الرعد الآية (39).(2/31)
يكون في ليلة القدر فيمحو ما يشاء من المقادير والآجال والأرزاق إلا الشقاوة والسعادة فإنه ثابت. (1)
- وروى عن مجاهد: وَجَعَلْنَا {مِنْ بَيْنِ أيديهم سدًا وَمِنْ خَلْفِهِمْ} (2) قال: عن الحق. (3)
- وروى عن مجاهد في قوله: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} (4) قال: مكتوب في ورقة في عنقه شقي أو سعيد. (5)
- وجاء في الإبانة: عن ابن أبي نجيح عن مجاهد: {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (6)؛ قال: بمن قدر له الهدى والضلالة. (7)
- وفيها عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ} (8)؛ قال: يترددون في الضلالة. (9)
_________
(1) أصول الاعتقاد (3/ 610/975).
(2) يس الآية (9).
(3) أصول الاعتقاد (3/ 616/988).
(4) الإسراء الآية (13).
(5) أصول الاعتقاد (3/ 630/1014) والإبانة (2/ 10/204 - 205/ 1743).
(6) القلم الآية (7).
(7) الإبانة (2/ 10/202/ 1736).
(8) النمل الآية (4).
(9) الإبانة (2/ 10/202/ 1737).(2/32)
- وفيها عن مجاهد: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ} (1)؛ قال: كتب على الشيطان. (2)
- وفيها عن مجاهد أنه قال في قوله عز وجل: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ} (3) قال: وما يدريكم أنكم تؤمنون، {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ} (4): نحول بينهم وبين الإيمان لو جاءتهم تلك الآية؛ فلا يؤمنون كما حلت بينهم وبينه أول مرة. (5)
- وفيها عن مجاهد: {أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ} (6)؛ قال: هو ما سبق لهم. (7)
- وفيها عن مجاهد: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} (8)؛ قال: المؤمن مؤمن، والكافر كافر. (9)
- وفيها عن مجاهد: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا
_________
(1) الحج الآية (4).
(2) الإبانة (2/ 10/203/ 1738).
(3) الأنعام الآية (109).
(4) الأنعام الآية (110).
(5) الإبانة (2/ 10/203 - 204/ 1741).
(6) الأعراف الآية (37).
(7) الإبانة (2/ 10/204/ 1742).
(8) الأعراف الآية (29).
(9) الإبانة (2/ 10/205/ 1745).(2/33)
عَامِلُونَ} (63) (1) قال: لهم أعمال لا بد لهم من أن يعملوها. (2)
- وفيها عن مجاهد: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} (3)؛ قال: الشقوة والسعادة. (4)
- وفيها عن مجاهد في قوله عز وجل: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ} (5)؛ قال: طريقة الحق، {لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا}؛ قال: ماء كثيرا لنفتنهم فيه حتى يرجعوا إلى ما كتب عليهم. (6)
مسلم بن يسار (7) (101 هـ)
مسلم بن يسار البصري أبو عبد الله المكي، الفقيه الزاهد القدوة. روى عن عبادة بن الصامت ولم يلقه، وعن ابن عباس، وابن عمر وأبيه يسار. حدث عنه محمد بن سيرين، وهو من طبقته، وقتادة، وثابت البناني، وأيوب السختياني وغيرهم. قال ابن عون: كان لا يفضل عليه أحد في زمانه. كان
_________
(1) المؤمنون الآية (63).
(2) الإبانة (2/ 10/205 - 206/ 1747).
(3) الإنسان الآية (3).
(4) الإبانة (2/ 10/206/ 1750).
(5) الجن الآية (16).
(6) الإبانة (2/ 10/206 - 207/ 1751).
(7) طبقات ابن سعد (7/ 186 - 188) وتهذيب الكمال (27/ 551) والحلية (2/ 290 - 298) وتهذيب التهذيب (10/ 140 - 141) ومشاهير علماء الأمصار (88) والسير (4/ 510 - 514) والبداية والنهاية (9/ 186 - 187) وشذرات الذهب (1/ 119).(2/34)
ثقة فاضلا عابدا ورعا. روى حميد بن الأسود عن ابن عون قال: أدركت هذا المسجد وما فيه حلقة تنسب إلى الفقه إلا حلقة مسلم بن يسار قال أيوب السختياني قيل لابن الأشعث: إن أردت أن يقتلوا حولك كما قتلوا يوم الجمل حول جمل عائشة فأخرج معك مسلم بن يسار، فأخرجه مكرها. قال أيوب عن أبي قلابة: قال لي مسلم بن يسار: إني أحمد الله إليك أني لم أرم بسهم ولم أضرب فيها بسيف، قلت له: فكيف بمن رآك بين الصفين فقال: هذا مسلم بن يسار لن يقاتل إلا على حق، فقاتل حتى قتل؟ فبكى والله حتى وددت أن الأرض انشقت فدخلت فيها. توفي رحمه الله سنة إحدى ومائة.
موقفه من المبتدعة:
- قال: لا تمكن صاحب بدعة من سمعك فيصب فيها ما لا تقدر أن تخرجه من قلبك. (1)
- وعنه قال: إياك والمراء فإنها ساعة جهل العالم وبها يبتغي الشيطان زلته. (2)
_________
(1) الإبانة (2/ 3/459/ 436).
(2) ذم الكلام (ص.200) والإبانة (2/ 3/497/ 550) والشريعة (1/ 187/118).(2/35)
ذَكْوَان أبو صالح السَّمَّان (1) (101 هـ)
القدوة الحافظ الحجة ذكوان بن عبد الله مولى أم المؤمنين جويرية. ولد في خلافة عمر، وشهد يوم الدار وحصر عثمان. سمع من: سعد بن أبي وقاص، وعائشة، وأبي هريرة ولازمه مدة. حدث عنه: ابنه سهيل، والأعمش، وعبد الله بن دينار، والزهري. كان من كبار العلماء بالمدينة، قال فيه أحمد بن حنبل: ثقة ثقة من أجل الناس وأوثقهم. قال الأعمش: كان أبو صالح مؤذنا فأبطأ الإمام، فأمنا، فكان لا يكاد يجيزها من الرقة والبكاء. توفي سنة إحدى ومائة.
موقفه من القدرية:
جاء في السنة: حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} (2) وأنا قدرتها عليك. (3)
_________
(1) السير (5/ 36) وطبقات ابن سعد (5/ 301) وتهذيب التهذيب (3/ 219) وتهذيب الكمال (8/ 517) وتاريخ الإسلام (حوادث 101 - 120/ص.290 - 291) وتذكرة الحفاظ (1/ 89).
(2) النساء الآية (79).
(3) السنة لعبد الله (144) وأصول الاعتقاد (3/ 611/978).(2/36)
الضَّحَّاك بن مُزَاحِم (1) (102 هـ)
الضحاك، أبو محمد، صاحب التفسير، كان من أوعية العلم. حدث عن: سعيد بن جبير، وعطاء، وطاووس. وروى عنه: عمارة بن أبي حفصة، وأبو سعيد البقال، وقرة بن خالد. قال سفيان الثوري: كان الضحاك يعلم ولا يأخذ أجرا. وقال الضحاك: حق على كل من تعلم القرآن أن يكون فقيها، وتلا قول الله: {كُونُوا ربانيين بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ} (2). وكان إذا أمسى بكى، فيقال له: ما يبكيك؟ قال: لا أدري ما صعد اليوم من عملي. توفي سنة اثنتين ومائة.
موقفه من المبتدعة:
عن حوشب عن الضحاك في قوله: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى}. قال: استقام. (4)
موقفه من الجهمية:
- جاء في الإبانة: عن الضحاك بن مزاحم قال: كان أولوكم يتعلمون الورع أما إنه سيأتي زمان يتعلمون فيه الكلام. (5)
_________
(1) السير (4/ 598) وتهذيب الكمال (13/ 291) وتهذيب التهذيب (4/ 453) وميزان الاعتدال (2/ 325) وشذرات الذهب (1/ 124).
(2) آل عمران (79).
(3) طه الآية (82).
(4) الإبانة (1/ 2/323/ 166).
(5) الإبانة (2/ 3/529/ 647).(2/37)
- وفي الشريعة: عن الضحاك: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} قال: هو على العرش، وعلمه معهم. (2)
موقفه من القدرية:
- جاء في الإبانة: عن الضحاك بن مزاحم في قول الله عز وجل: {يحول بين المرء وقلبه} (3)؛ قال: يحول بين الكافر وبين طاعته، وبين المؤمن وبين معصيته. (4)
- وروى الآجري بسنده: عن الضحاك في قوله تعالى: {مَا أَنْتُمْ عليه بِفَاتِنِينَ (162) إِلًّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} (5) يقول: من سبق له في علم الله تعالى أنه يصلى الجحيم. (6)
خالد بن مَعْدَان (7) (103 هـ)
الإمام، شيخ أهل الشام خالد بن معدان بن أبي كَرِب الكَلاَعيّ، أبو
_________
(1) المجادلة الآية (7).
(2) الشريعة (2/ 68/698) والسنة لعبد الله (80).
(3) الأنفال الآية (24).
(4) الإبانة (1/ 8/279/ 1298).
(5) الصافات الآيتان (161و163).
(6) الشريعة (1/ 434/542).
(7) طبقات ابن سعد (7/ 455) وحلية الأولياء (5/ 210) وتاريخ دمشق (16/ 189 - 205) وتهذيب الكمال (8/ 167 - 174) وسير أعلام النبلاء (4/ 536 - 541) وتهذيب التهذيب (3/ 118 - 120) وشذرات الذهب (1/ 126).(2/38)
عبد الله الشامي الحمصي. حدث عن أبي هريرة وأبي أمامة الباهلي وابن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص وثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعاذ بن جبل وأبي الدرداء وجمع من الصحابة، وأكثر ذلك مرسل. وروى عنه حسان بن عطية وصفوان بن عمرو والأحوص بن حكيم وثابت بن ثوبان وداود بن عبيد الله وغيرهم.
قال خالد بن معدان: أدركت سبعين رجلا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال بحير بن سعد: ما رأيت أحدا ألزم للعلم من خالد بن معدان، وكان علمه في مصحف له أزرار وعرى.
وقال أبو أسامة: كان الثوري إذا جلسنا معه إنما نسمع الموت الموت، فحدثنا عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان قال: لو كان الموت علما يستبق إليه ما سبقني إليه أحد إلا أن يسبقني رجل بفضل قوته، قال: فما زال الثوري يحب خالد بن معدان منذ بلغه هذا الحديث عنه. وكان الإمام الأوزاعي يعظمه ويجله.
ومن أقواله رحمه الله: أكل وحمد خير من أكل وصمت. وقال: من التمس المحامد في مخالفة الحق، رد الله تلك المحامد عليه ذما، ومن اجترأ على الملاوم في موافقة الحق، رد الله تلك الملاوم عليه حمدا. توفي رحمه الله سنة ثلاث ومائة في خلافة يزيد بن عبد الملك.
موقفه من القدرية:
جاء في سير أعلام النبلاء: وقال محمد بن حمير: حدثنا محمد بن زياد الألهاني قال: كنا في المسجد إذ مر بمعبد الجهني إلى عبد الملك، فقال الناس:(2/39)
هذا هو البلاء. فقال خالد بن معدان: إن البلاء كل البلاء إذا كانت الأئمة منهم. (1)
مصعب بن سعد (2) (103 هـ)
مصعب بن سعد بن أبي وقاص القرشي الزهري أبو زُرَارَة المدني والد زرارة ابن مصعب. روى عن أبيه سعد بن أبي وقاص وصهيب بن سنان، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الله بن عمر بن الخطاب وعدي بن حاتم وغيرهم. وروى عنه إسماعيل بن عبد الرحمن السدي والحكم بن عتيبة والزبير بن عدي، وزياد بن فياض وغيرهم. وكان ثقة كثير الحديث. توفي رحمه الله سنة ثلاث ومائة.
موقفه من المبتدعة:
قال: لا تجالس مفتونا فإنه لن يخطئك منه إحدى اثنتين: إما أن يفتنك فتتابعه، وإما أن يؤذيك قبل أن تفارقه. (3)
موقفه من الرافضة:
عن طلحة بن مصرف عن مصعب بن سعد قال: الناس على ثلاث منازل فمضت منزلتان وبقيت واحدة فأحسن ما أنتم كائنون عليه أن تكونوا
_________
(1) السير (4/ 187)
(2) طبقات ابن سعد (5/ 169و6/ 222) وتهذيب الكمال (28/ 24 - 26) والسير (4/ 350) والبداية والنهاية (9/ 238) والكامل في التاريخ (5/ 106) وشذرات الذهب (1/ 125) ومشاهير علماء الأمصار (68).
(3) الإبانة (2/ 3/442/ 385) والبيهقي في الشعب (7/ 61) وما جاء في البدع (ص.110 - 111) وانظر الاعتصام (2/ 790 - 791).(2/40)
على التي بقيت قال ثم قرأ: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} (1) هؤلاء المهاجرون وهذه منزلة ثم قرأ: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (2) قال: وهؤلاء الأنصار وهذه منزلة قد مضت ثم قرأ: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (3)
قد مضت هاتان وبقيت هذه المنزلة فأحسن ما أنتم كائنون عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي قد بقيت، يقول أن تستغفروا لهم. (4)
_________
(1) الحشر الآية (8).
(2) الحشر الآية (9).
(3) الحشر الآية (10).
(4) أصول الاعتقاد (7/ 1324 - 1325/ 2354).(2/41)
الشعبي (1) (104 هـ)
عامر بن شَرَاحيل أبو عمرو الهَمْدَانِي، ثم الشعبي، الكوفي، وأمه من سبي جلولاء. حدث عن جماعة من الصحابة منهم علي بن أبي طالب وأبو هريرة وعائشة وسعد بن أبي وقاص وأبو سعيد وجابر بن سمرة وابن عمر وخلق سواهم. وروى عنه إبراهيم بن مهاجر وحصين بن عبد الرحمن السلمي وإسماعيل بن أبي خالد وغيرهم. قال أحمد بن عبد الله العجلي: سمع من ثمانية وأربعين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال أشعث بن سوار: نعى لنا الحسن الشعبي، فقال: كان والله كبير العلم عظيم الحلم، قديم السلم من الإسلام بمكان. قال الشعبي: إنما كان يطلب هذا العلم من اجتمعت فيه خصلتان: العقل والنسك، فإن كان ناسكا ولم يكن عاقلا، قال: هذا أمر لا يناله إلا العقلاء، فلم يطلبه، وإن كان عاقلا ولم يكن ناسكا قال: هذا أمر لا يناله إلا النساك، فلم يطلبه، قال: ولقد رهبت أن يكون يطلبه اليوم من ليست فيه واحدة منهما، لا عقل ولا نسك. قال الذهبي: قلت: أظنه أراد بالعقل الفهم والذكاء. من كلامه: قال: ما اختلفت أمة بعد نبيها إلا ظهر أهل باطلها على أهل حقها. وقال: إنما سمي هوى لأنه يهوي بأصحابه. وقال: لا أدري نصف العلم. توفي الشعبي رحمه الله سنة أربع ومائة.
_________
(1) طبقات ابن سعد (6/ 246 - 256) والحلية (4/ 310 - 338) وتاريخ بغداد (12/ 227 - 234) والسير (4/ 294 - 319) ووفيات الأعيان (3/ 12 - 16) وتهذيب الكمال (14/ 28 - 40) وتذكرة الحفاظ (1/ 79 - 88) والبداية والنهاية (9/ 239 - 240) والوافي بالوفيات (16/ 587 - 589) والجرح والتعديل (6/ 322 - 324) وشذرات الذهب (1/ 126 - 128).(2/42)
موقفه من المبتدعة:
- روى الدارمي عن مالك هو ابن مغول قال: قال لي الشعبي: ما حدثوك هؤلاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخذ به وما قالوه برأيهم فألقه في الحش. وفي شرف أصحاب الحديث وغيره: فبل عليه. (1)
- جاء في طبقات ابن سعد عن عبد الله بن أبي السفر عن الشعبي قال: لقد أتى علي زمان وما من مجلس أحب إلي أن أجلس فيه من هذا المسجد، فلكناسة اليوم أجلس عليها أحب إلي من أن أجلس في هذا المسجد. قال: وكان يقول إذا مر عليهم: ما يقول هؤلاء الصعافقة؟ أو قال: بنو استها -شك قبيصة- ما قالوا لك برأيهم فبل عليه، وما حدثوك عن أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، فخذ به. (2)
" التعليق:
قلت: لأنهم هم القدوة؛ هم الذين شاهدوا التنزيل، وفهموا التأويل، وهم المختارون للبلاغ عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
- وروى الدارمي عن عيسى عن الشعبي قال: جاءه رجل فسأله عن شيء فقال: كان ابن مسعود يقول فيه كذا وكذا، قال أخبرني أنت برأيك؟ فقال: ألا تعجبون من هذا؟ أخبرته عن ابن مسعود ويسألني عن رأيي، وديني
_________
(1) الدارمي (1/ 67) وذم الكلام (ص.297) والإبانة (2/ 3/517/ 607) والمدخل للبيهقي (2/ 274/814) وشرف أصحاب الحديث (ص.74) وانظر سير أعلام النبلاء (4/ 319) و (7/ 176) وإعلام الموقعين (1/ 73).
(2) طبقات ابن سعد (6/ 251) وشرف أصحاب الحديث (ص.74).(2/43)
عندي آثر من ذلك، والله لأن أتغنى أغنية أحب إلي من أن أخبرك برأيي. (1)
" التعليق:
هذا الإمام الشعبي يغضب ويقارن رأيه بأغنية، ربما لو قالها لتأثم بها، فما بالك بمن يترك نص القرآن والسنة ويأخذ بأقوال من لم يشموا رائحة الوحي.
- وقال: إنما هلك من كان قبلكم حين تشعبت بهم السبل وحادوا عن الطريق، فتركوا الآثار وقالوا في الدين برأيهم فضلوا وأضلوا. (2)
- وقال الشعبي: إنما الرأي بمنزلة الميتة إذا احتجت إليها أكلتها. (3)
- عن أبي حمزة قال: سئل الشعبي عن مسألة فقال: لا تجالس أصحاب القياس فتحل حراما أو تحرم حلالا. (4)
- وروى الدارمي عن الشعبي قال: إياكم والمقايسة والذي نفسي بيده لئن أخذتم بالمقايسة لتحلن الحرام ولتحرمن الحلال، ولكن ما بلغكم عمن حفظ من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فاعملوا به. (5)
- عن صالح بن مسلم قال: لقيت الشعبي في السدة فمشيت معه حتى
_________
(1) الدارمي (1/ 47) وأورده ابن القيم في إعلام الموقعين (1/ 257).
(2) جامع بيان العلم وفضله (2/ 1050).
(3) شرح السنة (1/ 216).
(4) الإبانة (2/ 3/450 - 451/ 414) وتأويل مختلف الحديث (ص.58).
(5) الدارمي (1/ 47) وذم الكلام (ص.103) وجامع بيان العلم وفضله (2/ 1047) والفقيه والمتفقه (1/ 460) وانظر إعلام الموقعين (1/ 255).(2/44)
إذا قاربنا أبواب المسجد نظر إليه فقال: يعلم الله لقد بغض إلي هؤلاء هذا المسجد حتى هو أبغض إِلَيَّ من داري، فقلت له: ومن هؤلاء يا أبا عمرو؟ فقال: هؤلاء الآرائيون يعني أصحاب الرأي. (1)
- عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال: ما من كلمة أبغض إلي من أرأيت أرأيت. (2)
- وعنه قال: لو أدرك هؤلاء الآرائيون النبي - صلى الله عليه وسلم - لنزل القرآن كله: يسألونك، يسألونك. (3)
- عن الشعبي قال: إنما سميت الأهواء لأنها تهوي بصاحبها في النار. (4)
- روى عطاء بن السائب عن الشعبي قال: ما اختلفت أمة بعد نبيها إلا ظهر أهل باطلها على أهل حقها. (5)
- عن الشعبي قال: سل عما كان ولا تسأل عما لم يكن ولا يكون. (6)
- عن خالد بن عبد الله عن بيان عن الشعبي قال: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} (7). قال: بيان من العمى وهدى
_________
(1) ذم الكلام (ص.105) والإبانة (2/ 3/516/ 603) والفقيه والمتفقه (1/ 462) بنحوه، والحلية (4/ 320).
(2) الإبانة (2/ 3/517/ 605).
(3) الإبانة (1/ 2/419/ 343).
(4) أصول الاعتقاد (1/ 147/229) والسنة لعبد الله (ص.90) والدارمي (1/ 110) والحلية (4/ 320).
(5) سير أعلام النبلاء (4/ 311) وحلية الأولياء (4/ 313).
(6) الإبانة (1/ 2/410/ 321).
(7) آل عمران الآية (138).(2/45)
من الضلالة وموعظة من الجهل. (1)
" التعليق:
هذا هو التفسير السلفي للآية لا كما فسرها البيانية من فرق الشيعة الضالة المضلة، أصحاب بيان بن سمعان التميمي الذي قال لهم إن روح الإله تناسخت في الأنبياء والأئمة حتى صارت إلى أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية ثم انتقلت إليه منه -يعني نفسه- فادعى لنفسه الربوبية على مذاهب الحلولية وزعم أيضا أنه هو المذكور في القرآن في قوله
{هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} (2) وقال: أنا البيان وأنا الهدى والموعظة. (3)
ألا لعنة الله على الكاذبين ورحم الله الإمام ابن بطة إذ قال معقبا على هذا الأثر: فأي عبد أتعس جدا ولا أعظم نكدا ولا أطول شقاء وعناء من عبد حرم البصيرة بنور القرآن والهداية بدلالته والزجر بموعظته.
- عن مجالد بن سعيد قال: نا الشعبي يوما قال: يوشك أن يصير الجهل علما ويصير العلم جهلا قالوا: وكيف يكون هذا يا أبا عمرو؟ قال: كنا نتبع الآثار وما جاء عن الصحابة، فأخذ الناس في غير ذلك: القياس. (4)
- عن الشعبي قال: كان يقال: من أراد بَحْبَحة الجنة فعليه بجماعة المسلمين. (5)
- قال ابن شبرمة: سمعت الشعبي إذا سئل عن مسألة شديدة قال: رُبَّ ذاتِ وَبَر لا تنقاد ولا تنساق، ولو سئل عنها الصحابة لعضلت بهم. (6)
- قال الشعبي: كل أمة علماؤها شرارها، إلا المسلمين فإن علماءهم خيارهم. (7)
- عن الشعبي قال: أرجئ الأمور إلى الله ولا تكن مرجئا، وأمر بالمعروف وانه عن المنكر ولا تكن حروريا واعلم أن الخير والشر من الله ولا تكن قدريا. قال يحيى بن أيوب وحدثني رجل كان إلى جنب الأبار أن الشعبي قال مع هذا: وأثبت صلاح بني هاشم ولا تكن شيعيا. (8)
- عن الشعبي قال شهدت شريحا وجاءه رجل من مراد فقال يا أبا أمية ما دية الأصابع؟ قال: عشر عشر. قال: يا سبحان الله أسواء هاتان جمع بين الخنصر والإبهام، فقال شريح: يا سبحان الله أسواء أذنك ويدك فإن الأذن يواريها الشعر والكمة والعمامة فيها نصف الدية وفي اليد نصف الدية ويحك إن السنة سبقت قياسكم فاتبع ولا تبتدع فإنك لن تضل ما أخذت بالأثر. قال أبو بكر فقال لي الشعبي يا هذلي لو أن أحنفكم قتل وهذا الصبي في
_________
(1) الإبانة (2/ 6/774/ 1070).
(2) آل عمران الآية (138).
(3) انظر الفرق بين الفرق (ص.227).
(4) الفقيه والمتفقه (1/ 460) وانظر إعلام الموقعين (1/ 257).
(5) الشريعة (1/ 124/18).
(6) إعلام الموقعين (1/ 185).
(7) مجموع الفتاوى (7/ 284).
(8) السنة لعبد الله بن أحمد (ص.227 - 228) والسنة للخلال (1/ 79 بخلاف يسير).(/)
مهده أكان ديتهما سواء قلت: نعم. قال: فأين القياس؟ (1)
موقفه من الرافضة:
- جاء في سير أعلام النبلاء: ابن حميد: حدثنا حر، عن مغيرة قال رجل من الكيسانية عند الشعبي: كانت عائشة من أبغض زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه. قال: خالفت سنة نبيك. (2)
- وفيها: روى عقيل بن يحيى: حدثنا أبو داود، عن شعبة، عن منصور الغداني، عن الشعبي، قال: أدركت خمس مئة صحابي أو أكثر يقولون: أبو بكر وعمر
وعثمان وعلي.
وأما عمرو بن مرزوق، فرواه عن شعبة، وفيه: يقولون: علي وطلحة والزبير في الجنة. (3)
- وفيها: عبد الله بن إدريس، عن عمرو بن خليفة، عن أبي عمرو، عن الشعبي، قال: أصبحت الأمة على أربع فرق: محب لعلي مبغض لعثمان، ومحب لعثمان مبغض لعلي، ومحب لهما، ومبغض لهما. قلت: من أيها أنت؟ قال: مبغض لباغضهما. (4)
- وفيها: وروى خالد بن سلمة، عن الشعبي قال: حب أبي بكر وعمر
_________
(1) سنن الدارمي (1/ 66) والإبانة (1/ 2/419/ 343) وذم الكلام (ص.103) وفي السير (4/ 311) والحلية (4/ 320 مختصرا).
(2) السير (4/ 300).
(3) السير (4/ 301).
(4) السير (4/ 308) والتذكرة (1/ 82 - 83 مختصرا).(2/48)
ومعرفة فضلهما من السنة. (1)
- عن حصين؛ عن عامر؛ قال: ما كذب على أحد في هذه الأمة كما كذب على علي رضي الله عنه. (2)
- جاء في الميزان: وقال ابن حبان: رشيد الهجري كوفي، كان يؤمن بالرجعة. ثم قال ابن حبان: قال الشعبي: دخلت عليه فقال: خرجت حاجا، فقلت: لأعهدن بأمير المؤمنين. فأتيت بيت علي فقلت لإنسان: استأذن لي على أمير المؤمنين. قال: أو ليس قد مات. قلت: قد مات فيكم، والله إنه ليتنفس الآن نفس الحي. قال: أما إذ عرفت سر آل محمد فادخل. فدخلت على أمير المؤمنين، وأنبأني بأشياء تكون. فقال له الشعبي: إن كنت كاذبا فلعنك الله. وبلغ الخبر زيادا فبعث إلى رشيد الهجري فقطع لسانه وصلبه على باب دار عمرو بن حريث. (3)
- محمد بن المثنى، حدثنا عبد الله بن داود، عن عبد الرحمن بن مالك ابن مغول، عن أبيه، قال لي الشعبي: ائتني بزيدي صغير أخرج لك منه رافضيا كبيرا، وائتني برافضي صغير أخرج لك منه زنديقا كبيرا. (4)
- قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى: وبهذا وأمثاله يتبين أن الرافضة أمة ليس لها عقل صريح؛ ولا نقل صحيح، ولا دين مقبول؛ ولا دنيا منصورة، بل هم من أعظم الطوائف كذبا وجهلا ودينهم يدخل على المسلمين كل
_________
(1) السير (4/ 310).
(2) الشريعة (3/ 567 - 568/ 2084).
(3) الميزان (2/ 52).
(4) الميزان (2/ 584).(2/49)
زنديق ومرتد، كما دخل فيهم النصيرية؛ والإسماعيلية وغيرهم، فإنهم يعمدون إلى خيار الأمة يعادونهم، وإلى أعداء الله من اليهود والنصارى والمشركين يوالونهم، ويعمدون إلى الصدق الظاهر المتواتر يدفعونه، وإلى الكذب المختلق الذي يعلم فساده يقيمونه؛ فهم كما قال فيهم الشعبي -وكان من أعلم الناس بهم- لو كانوا من البهائم لكانوا حمرا، ولو كانوا من الطير لكانوا رخما. (1)
- عن مالك بن مغول قال: قال الشعبي: يا مالك: لو أردت أن يعطوني رقابهم عبيدا أو أن يملؤا بيتي ذهبا على أن أكذب لهم على علي لفعلوا ولكن والله لا كذبت عليه أبدا. يا مالك: إنني قد درست الأهواء كلها فلم أر قوما هم أحمق من الخشبية؛ لو كانوا من الدواب لكانوا حمرا ولو كانوا من الطير لكانوا رخما.
وقال: أحذرك الأهواء المضلة وشرها الرافضة وذلك أن منهم يهود يغمصون الإسلام لتحيا ضلالتهم كما يغمص بولس بن شاؤل ملك اليهود ليغلبوا.
لم يدخلوا في الإسلام رغبة ولا رهبة من الله ولكن مقتا لأهل الإسلام وطعنا عليهم فأحرقهم علي بن أبي طالب بالنار ونفاهم من البلدان: منهم عبد الله بن سبأ نفاه إلى ساباط وعبد الله بن شباب نفاه إلى جازت، وأبو الكروش وابنه.
وذلك أن محنة الرافضة محنة اليهود. قالت اليهود: لا يصلح الملك إلا في
_________
(1) مجموع الفتاوى (4/ 471 - 472).(2/50)
آل داود. وقالت الرافضة لا تصلح الإمارة إلا في آل علي.
وقالت اليهود: لا جهاد في سبيل الله حتى يخرج المسيح الدجال أو ينزل عيسى من السماء. وقالت الرافضة: لا جهاد حتى يخرج المهدي ثم ينادي مناد من السماء.
واليهود يؤخرون صلاة المغرب حتى تشتبك النجوم. وكذلك الرافضة.
والحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تزال أمتي على الفطرة ما لم يؤخروا المغرب حتى تشتبك النجوم". (1)
واليهود يولون عن القبلة شيئا. وكذلك الرافضة.
واليهود تسدل أثوابها وكذلك الرافضة.
وقد مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برجل قد سدل ثوبه فقمصه عليه (2). واليهود حرفوا التوراة. وكذلك الرافضة حرفوا القرآن.
واليهود يستحلون دم كل مسلم. وكذلك الرافضة. واليهود: لا يرون الطلاق ثلاثا شيئا. وكذلك الرافضة. واليهود لا يرون على النساء عدة وكذلك الرافضة. واليهود يبغضون جبريل ويقولون: هو عدونا من الملائكة. وكذلك صنف من الرافضة يقولون غلط بالوحي إلى محمد. وفضلت اليهود والنصارى على الرافضة بخصلتين: سئلت اليهود من خير أهل ملتكم؟ قالوا:
_________
(1) أحمد (4/ 147) وأبو داود (1/ 291/418) والحاكم (1/ 190 - 191) وقال: "صحيح على شرط مسلم" ووافقه الذهبي.
(2) الطبراني (22/ 111 - 112/ 283) وفي الأوسط (7/ 95 - 96/ 6160) وفي الصغير (2/ 317/853) والبيهقي (2/ 243) وابن عدي في الكامل (2/ 381) والبزار (2/ 286/595 كشف)، قال الهيثمي في المجمع (2/ 50): "رواه الطبراني في الثلاثة والبزار، وهو ضعيف".(2/51)
أصحاب موسى.
وسئلت الرافضة: من شر أهل ملتكم؟
قالوا: أصحاب محمد.
وسئلت النصارى: من خير أهل ملتكم؟
قالوا: حواري عيسى.
وسئلت الرافضة: من شر أهل ملتكم؟
قالوا: حواري محمد.
أمروا بالاستغفار لهم فسبوهم.
فالسيف مسلول عليهم إلى يوم القيامة لا يثبت لهم قدم ولا تقوم لهم راية ولا تجتمع لهم كلمة.
دعوتهم مدحوضة وجمعهم متفرق كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله عز وجل. (1)
- وجاء في المنهاج: ولهذا قال فيهم الشعبي: يأخذون بأعجاز لا صدور لها أي بفروع لا أصول لها. (2)
موقفه من الخوارج:
- جاء في المنهاج: وقد قيل للشعبي في فتنة ابن الأشعث: أين كنت يا عامر؟ قال: كنت حيث يقول الشاعر:
_________
(1) أصول الاعتقاد (7/ 1549 - 1552/ 2823) والسنة للخلال (1/ 496 - 498) وهو في المنهاج (1/ 22 - 23).
(2) المنهاج (8/ 355).(2/52)
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى ... وصوت إنسان فكدت أطير
أصابتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء، ولا فجرة أقوياء. (1)
موقفه من القدرية:
أخرج اللالكائي بسنده: قال الشعبي: لا تجالسوا القدرية فوالذي يحلف به إنهم لنصارى. (2)
الحسن بن وهب (104 هـ)
موقفه من القدرية:
جاء في الاعتصام عن الحسن بن وهب الجمحي قال: الذي كان بيني وبين فلان خاص، فانطلق بأهله إلى بئر ميمون فأرسل إلي أن ائتني، فأتيته عشية فبت عنده، قال: فهو في فسطاط وأنا في فسطاط آخر فجعلت أسمع صوته الليل كله كأنه دوي النحل. قال: فلما أصبحنا جاء بغدائه فتغدينا، قال: ثم ذكر ما بيني وبينه من الإخاء والحق قال: فقال لي: أدعوك إلى رأي الحسن. قال: ثم فتح لي شيئا من القدر، قال: فقمت من عنده فما كلمته بكلمة حتى لقي الله. قال: فأنا يوما خارج من الطريق في الطواف وهو داخل أو أنا داخل وهو خارج، فأخذ بيدي فقال: يا أبا عمر حتى متى؟ حتى متى؟ قال: فلم أكلمه فقال: مالي؟ أرأيت لو أن رجلا قال: {تَبَّتْ يدا أبي
_________
(1) منهاج السنة (4/ 529).
(2) أصول الاعتقاد (4/ 761/1268).(2/53)
لَهَبٍ} (1) ليست من القرآن؟ ما كنت تقول له؟ قال: فنزعت يدي من يده. قال: علي: قال مؤمل: فحدثت به سفيان بن عيينة فقال لي: ما كنت أرى أنه بلغ هذا كله. قال علي: وسمعته أنا وأحمد. قال: حدثت أنا سفيان بن عيينة عن معلى الطحان ببعض حديثه، فقال: ما أحوج صاحب هذا الرأي إلى أن يقتل. (2)
أبو قِلاَبَة (3) (104 هـ)
عبد الله بن زيد بن عمرو، ويقال ابن عامر، الإمام شيخ الإسلام أبو قلابة الجَرْمِي البصري. روى عن أنس بن مالك الأنصاري وعبد الله بن عباس، ومعاوية بن أبي سفيان والنعمان بن بشير وثابت بن الضحاك، وآخرين. وعنه جملة منهم: أيوب السختياني وحسان بن عطية وحميد الطويل ويحيى بن أبي كثير. قال حماد بن زيد: سمعت أيوب ذكر أبا قلابة فقال: كان والله من الفقهاء ذوي الألباب. عن أيوب قال: وجدت أعلم الناس بالقضاء أشدهم منه فرارا، وأشدهم منه فرقا، وما أدركت بهذا المصر رجلا كان أعلم بالقضاء من أبي قلابة. قال علي بن أبي حملة: قدم علينا مسلم بن يسار دمشق، فقلنا له: يا أبا عبد الله، لو علم الله أن بالعراق من هو أفضل منك
_________
(1) المسد الآية (1).
(2) الاعتصام (1/ 297 - 298).
(3) طبقات ابن سعد (7/ 183 - 185) والحلية (2/ 282 - 289) وتهذيب الكمال (14/ 542 - 548) وتذكرة الحفاظ (1/ 94) والسير (4/ 468 - 475) والبداية والنهاية (9/ 240) والوافي بالوفيات (17/ 185 - 186) وميزان الاعتدال (2/ 425 - 426) وشذرات الذهب (1/ 126).(2/54)
لجاءنا به، فقال: كيف لو رأيتم عبد الله بن زيد أبا قلابة الجرمي؟ قال: فما ذهبت الأيام والليالي حتى قدم علينا أبو قلابة. وعن أبي خشينة صاحب الزيادي: ذكر أبو قلابة عند محمد بن سيرين، فقال: ذاك أخي حقا. توفي سنة أربع ومائة.
موقفه من المبتدعة:
- قال الدارمي: أخبرنا مسلم بن إبراهيم حدثنا وهيب حدثنا أيوب عن أبي قلابة قال: ما ابتدع رجل بدعة إلا استحل السيف. (1)
- جاء في السنة للخلال قال: حدثنا أبو عبد الله، قال: ثنا إسماعيل، قال: ثنا أيوب، قال: قال أبو قلابة: ما وجدت مثل أهل الأهواء إلا مثل النفاق، فإن الله قد ذكر النفاق بقول مختلف وعمل مختلف، قال: غير أن جميع ذلك الضلال. (2)
- عن أيوب عن أبي قلابة قال: إن أهل الأهواء أهل الضلالة، ولا أرى مصيرهم إلا النار، فجربهم فليس أحد منهم ينتحل قولا -أو قال حديثا- فيتناهى به الأمر دون السيف، وإن النفاق كان ضروبا ثم تلا: {وَمِنْهُمْ مَنْ عاهد اللَّهَ} (3)، {وَمِنْهُمْ مَنْ يلمزك في الصدقات} (4)، {وَمِنْهُمُ الذين
_________
(1) الدارمي (1/ 45) وأصول الاعتقاد (1/ 152/147) والشريعة (1/ 200/145) وطبقات ابن سعد (7/ 184) وانظر الاعتصام (1/ 113).
(2) السنة للخلال (4/ 111).
(3) التوبة الآية (75).
(4) التوبة الآية (58).(2/55)
يؤذون النَّبِيَّ} (1) فاختلف قولهم، واجتمعوا في الشك والتكذيب. وإن هؤلاء اختلف قولهم واجتمعوا في السيف، ولا أرى مصيرهم إلا النار. قال حماد: ثم قال أيوب عند ذا الحديث أو عند الأول: وكان والله من الفقهاء ذوي الألباب -يعني أبا قلابة-. (2)
" التعليق:
وإذا لم يكن أبو قلابة من الفقهاء فمن هم الفقهاء؟ هم أصحاب العمم المنتفخة المؤسسة على الجهل والضلال؟! فهذه المقارنة التي ذكرها أبو قلابة بين المبتدعة والمنافقين من أروع ما قرأت في ذم أهل البدع، فكما أن المنافق لا ثبات له كما وصفه الله تعالى: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ} (3) فالشك والحيرة والريب ملأ قلوبهم، فكذلك المبتدعة مثلهم نسأل الله العافية.
- جاء في طبقات ابن سعد بالسند إلى أيوب: قال أبو قلابة، لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم أو
_________
(1) التوبة الآية (61).
(2) الدارمي (1/ 45 - 46) والشريعة مختصرا (1/ 200/143) وطبقات ابن سعد (7/ 184).
(3) النساء الآية (143).(2/56)
يلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون. (1)
- وعن أيوب عن أبي قلابة قال: إذا حدثت الرجل بالسنة، فقال: دعنا من هذا وهات كتاب الله، فاعلم أنه ضال. (2)
- عن أيوب السختياني قال: قال لي أبو قلابة: يا أيوب احفظ عني أربعا: لا تقل في القرآن برأيك، وإياك والقدر، وإذا ذكر أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فأمسك، ولا تمكن أصحاب الأهواء من سمعك فينبذوا فيه ما شاءوا. (3)
- قال أبو قلابة: يا أيوب احفظ عني ثلاث خصال: إياك وأبواب السلطان، وإياك ومجالسة أصحاب الأهواء، والزم سوقك؛ فإن الغنى من العافية. (4)
- عن أيوب قال: كان أبو قلابة إذا قرأ هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} (5) قال: يقول أبو قلابة: فهذا جزاء كل مفتر إلى يوم القيامة: أن يذله الله. (6)
_________
(1) طبقات ابن سعد (7/ 184) وأصول الاعتقاد (1/ 151/244) والإبانة (2/ 3/435/ 363) والشريعة (1/ 188/120) وذم الكلام (ص.201) والسنة لعبد الله (ص.24) وابن وضاح (ص.106) والدارمي (1/ 108). وانظر الاعتصام (1/ 112) وشرح السنة (1/ 227) والسير (4/ 472.).
(2) ابن سعد (7/ 184) وكذا في السير (4/ 472) ذم الكلام (ص.74).
(3) الإبانة (2/ 3/445/ 397) وأصول الاعتقاد (1/ 151 - 152/ 246) وذم الكلام (ص.139).
(4) جامع بيان العلم وفضله (1/ 635).
(5) الأعراف الآية (152).
(6) أصول الاعتقاد (1/ 161/288) والطبري في التفسير (9/ 70).(2/57)
- عن إسحاق بن أحمد، قال: حدثنا عبد الله، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا إسماعيل، قال: أخبرنا خالد، قال: حدثني رجل قال: رآني أبو قلابة وأنا مع عبد الكريم، فقال: مالك ولهذا الهزء الهزء. (1)
موقفه من الخوارج:
ذكر ابن أبي شيبة بسنده إلى غيلان بن جرير قال: أردت أن أخرج مع أبي قلابة إلى مكة، فاستأذنت عليه، فقلت أدخل؟ قال: إن لم تكن حروريا. (2)
موقفه من القدرية:
- جاء في الإبانة: عن أيوب قال: قال لي أبو قلابة: احفظ عني ثلاث خصال: لا تجالس أهل القدر؛ فيمرثوك، وإياك وأبواب السلطان، والزم سوقك. (3)
أبو رجاء العُطَارِدِي (4) (105 هـ)
الإمام الكبير، عمران بن مِلْحَان التميمي البصري أبو رجاء العُطَارِدي من كبار المخضرمين، أدرك الجاهلية، وأسلم بعد فتح مكة، ولم ير النبي - صلى الله عليه وسلم -. حدث عن عمر، وعلي، وابن عباس، وروى عنه: أيوب، وابن عون، وعوف الأعرابي. وكان كثير الصلاة وتلاوة القرآن، وكان يقول: ما آسى على شيء
_________
(1) الإبانة (2/ 7/891/ 1242) والسنة لعبد الله (ص.90).
(2) المصنف لابن أبي شيبة (7/ 557/37910).
(3) الإبانة (2/ 11/324/ 2014).
(4) الإصابة (7/ 148 - 149) والسير (4/ 253) والاستيعاب (3/ 1209 - 1212) والحلية (2/ 304) وتهذيب الكمال (22/ 356).(2/58)
من الدنيا إلا أن أعفر في التراب وجهي كل يوم خمس مرات. وقال أبو الأشهب: كان أبو رجاء العطاردي يختم بنا في قيام لكل عشرة أيام. قال ابن عبد البر: مات سنة خمس ومائة.
موقفه من المشركين:
- جاء في السير: عن أبي رجاء قال: أدركت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا شاب أمرد، ولم أر ناسا كانوا أضل من العرب، كانوا يجيئون بالشاة البيضاء فيعبدونها، فيختلسها الذئب، فيأخذون أخرى مكانها يعبدونها، وإذا رأوا صخرة حسنة، جاؤوا بها، وصلوا إليها، فإذا رأوا أحسن منها رموها، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أرعى الإبل على أهلي، فلما سمعنا بخروجه، لحقنا بمسيلمة. (1)
- وفيها: عن يوسف بن عطية، عن أبيه: دخلت على أبي رجاء فقال: بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان لنا صنم مدور، فحملناه على قتب، وتحولنا ففقدنا الحجر، انسل فوقع في رمل، فرجعنا في طلبه فإذا هو في رمل قد غاب فيه، فاستخرجته، فكان ذلك أول إسلامي، فقلت: إن إلها لم يمتنع من تراب يغيب فيه لإله سوء وإن العنز لتمنع حياها بذنبها. فكان ذلك أول إسلامي. فرجعت إلى المدينة وقد توفي النبي - صلى الله عليه وسلم -. (2)
موقفه من الرافضة:
عن أبي رجاء العطاردي قال: لا تسبوا أهل هذا البيت، بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن جارا لي من بلهجيم، حين قتل الحسين رضي الله عنه قال: ألم
_________
(1) السير (4/ 254).
(2) السير (4/ 256 - 257).(2/59)
تروا إلى الكذا ابن الكذا يعني الحسين فرماه الله عز وجل بكوكبين من السماء، فطمسا بصره. (1)
عِكْرِمَة مولى ابن عباس (2) (105 هـ)
العلامة الحافظ، إمام المفسرين عكرمة القرشي الهاشمي، أبو عبد الله المدني، مولى ابن عباس، أصله من البربر من أهل المغرب. قيل: كان لحصين ابن أبي الحر العنبري، فوهبه لابن عباس. حدث عن عائشة وأبي هريرة وابن عباس وعلي بن أبي طالب مرسلا كما قال أبو زرعة الرازي، وابن عمر وعبد الله بن عمرو، وخلق كثير. وحدث عنه الشعبي وإبراهيم النخعي وحبيب بن أبي ثابت وعمرو بن دينار وجابر بن زيد، وأمم سواهم.
قال عمرو بن دينار: دفع إلي جابر بن زيد مسائل أسأل عنها عكرمة وجعل يقول: هذا عكرمة مولى ابن عباس، هذا البحر فسلوه.
وقال الشعبي: ما بقي أحد أعلم بكتاب الله من عكرمة. تكلم فيه الإمام مالك، ولذلك تركه الإمام مسلم وغيره، واتهمه بعضهم برأي الخوارج، لكن صنف في الذب عنه جماعة من الأئمة منهم أبو جعفر الطبري ومحمد بن نصر المروزي وأبو عبد الله بن منده وأبو عمر بن عبد البر.
قال العجلي: مكي، تابعي، ثقة، بريء مما يرميه به الناس من الحرورية.
_________
(1) الشريعة (3/ 326/1734)
(2) طبقات ابن سعد (2/ 385 و5/ 287) وثقات ابن حبان (5/ 229 - 230) وتهذيب الكمال (20/ 264 - 292) وسير أعلام النبلاء (5/ 12 - 36) وميزان الاعتدال (3/ 93 - 97) وتهذيب التهذيب (7/ 263 - 273) والتقريب (1/ 685).(2/60)
وقال الحافظ ابن حجر: ثقة ثبت، عالم بالتفسير، لم يثبت تكذيبه عن ابن عمر، ولا يثبت عنه بدعة.
مات رحمه الله سنة خمس ومائة، وقيل غير ذلك.
موقفه من المبتدعة:
- عن قتادة: أن عكرمة أنكر مسح الخفين، فقلت له: إن ابن عباس بلغني أنه كان يمسح، قال: ابن عباس إذا خالف القرآن لم يؤخذ عنه.
قال همام في هذا الحديث: عن قتادة قال: قلت لعكرمة: لولا ابن عباس ما سألك أحد عن شيء. (1)
هذا موقف طيب من عكرمة مبني على أصل نفي التقليد فالأصل صحيح لكن ثبت المسح بالسنة.
قال الخطيب معلقا: كان ابن عباس أعلم بكتاب الله من عكرمة، وإنما مسح على الخفين لثبوت ذلك عنده، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعله، (2) وحمل الآية التي أشار إليها عكرمة على ما ذكر أبو عبيد، أن المراد بغسل الأرجل إذا لم تكن مستورة بالخفاف، وأن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسرت كتاب الله عز وجل. (3)
_________
(1) الفقيه والمتفقه (1/ 235 - 236).
(2) عبد الرزاق (1/ 208/802) وابن أبي شيبة (1/ 165/1893) والطحاوي في شرح المشكل (6/ 291 - 292) والبيهقي (1/ 273) وقال: "هذا إسناد صحيح كلهم عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفا عليه: للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يوم وليلة وهو في حكم المرفوع وقد ثبت عن غيره من الصحابة رضي الله عنهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ".
(3) الفقيه والمتفقه (1/ 236).(2/61)
- وعن عكرمة: {ولا يزالون مختلفين} (1) يعني: في الأهواء، {إِلًّا مَنْ رحم ربك} (2) هم أهل السنة. (3)
موقفه من الجهمية:
- عن عكرمة أنه كان يقرأ هذا الحرف {فلما تجلى ربك للجبل جعله دكًا} (4) قال: كان حجرا أصم فلما تجلى له صار تلا ترابا دكا من الدكوات. (5)
- جاء في أصول الاعتقاد: عن عكرمة في قوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وزيادة} (6) قال: قوله: أحسنوا الحسنى: قول لا إله إلا الله والحسنى الجنة والزيادة (النظر) إلى وجهه الكريم. (7)
_________
(1) هود الآية (118).
(2) هود الآية (119).
(3) الاعتصام (1/ 83) ورواه بنحوه ابن جرير في تفسيره (5/ 533/18713 شاكر).
(4) الأعراف الآية (143).
(5) السنة لعبد الله (65).
(6) يونس الآية (26).
(7) أصول الاعتقاد (3/ 512/796).(2/62)
المُسَيَّب بن رافع الأَسَدِي (1) (105 هـ)
الفقيه الكبير المسيب بن رافع الأسدي الكاهلي، أبو العلاء الكوفي الأعمى، والد العلاء بن المسيب.
روى عن الأسود بن يزيد والبراء بن عازب وأبي إياس عامر بن عبدة وذكوان أبي صالح السمان وخلق. وروى عنه سليمان الأعمش وعاصم بن بهدلة وابنه العلاء وإسماعيل بن أبي خالد وعمرو بن ثابت وآخرون.
ذكره ابن حبان في الثقات. وعن يزيد بن هارون عن العوام عن المسيب بن رافع أنه كان يختم القرآن في ثلاث ثم يصبح اليوم الذي يختم فيه صائما. وقال العجلي: كوفي تابعي ثقة. مات رحمه الله سنة خمس ومائة.
موقفه من المبتدعة:
عن العلاء بن المسيب عن أبيه قال: إنا نتبع ولا نبتدع، ونقتدي ولا نبتدي ولن نضل ما تمسكنا بالآثار. (2)
طاووس (3) (106 هـ)
طَاوُوس بن كَيْسَان الفقيه القدوة عالم اليمن، أبو عبد الرحمن الفارسي
_________
(1) طبقات ابن سعد (6/ 293) وثقات ابن حبان (5/ 437) وسير أعلام النبلاء (5/ 102) وتهذيب الكمال (27/ 586) وتهذيب التهذيب (10/ 153) وشذرات الذهب (1/ 131).
(2) ذم الكلام (ص.98).
(3) طبقات ابن سعد (5/ 537 - 542) والحلية (4/ 3 - 23) ووفيات الأعيان (2/ 509 - 511) والسير (5/ 38 - 49) وتهذيب الكمال (13/ 357 - 375) وتذكرة الحفاظ (1/ 90) والوافي بالوفيات (16/ 412) والعقد الثمين (5/ 58 - 59) وشذرات الذهب (1/ 133 - 134) والبداية والنهاية (9/ 244 - 253).(2/63)
ثم اليمني الجندي الحافظ. روى عن أبي هريرة وابن عباس وزيد بن ثابت وعائشة. وعنه جماعة منهم: عطاء ومجاهد، وعكرمة وعمرو بن دينار. قال قيس بن سعد: هو فينا مثل ابن سيرين في أهل البصرة. قال سفيان: وحلف لنا إبراهيم بن ميسرة وهو مستقبل الكعبة، ورب هذه البنية ما رأيت أحدا، الشريف والوضيع عنده بمنزلة، إلا طاووسا. عن ابن أبي نجيح عن أبيه أن طاووسا قال له: يا أبا نجيح، من قال واتقى الله خير ممن صمت واتقى الله. ويروى أن طاووسا جاء في السحر يطلب رجلا، فقالوا: هو نائم، قال: ما كنت أرى أن أحدا ينام في السحر. عن داود بن إبراهيم أن طاووسا رأى رجلا مسكينا في عينيه عمش، وفي ثوبه وسخ، فقال له: عُدَّ أن الفقر من الله، فأين أنت من الماء. وقال ابن حبان: كان من عباد أهل اليمن، ومن سادات التابعين، وكان قد حج أربعين حجة، وكان مستجاب الدعوة. قال ابن شهاب: لو رأيت طاووسا: علمت أنه لا يكذب. توفي سنة ست ومائة.
موقفه من المبتدعة:
- عن ابن حثيم أن طاوسا كان جالسا هو وطلق بن حبيب، فجاءهما رجل من أهل الأهواء، فقال: أتأذن لي أن أجلس؟ فقال له طاوس: إن جلست قمنا. فقال: يغفر الله لك أبا عبد الرحمن. فقال: هو ذاك إن جلست والله قمنا فانصرف الرجل. (1)
- عن الصلت بن راشد، قال: سألت طاوسا عن مسألة فقال لي: أكانت؟ قلت: نعم، قال: آلله، قلت: آلله، قال: إن أصحابنا أخبرونا عن
_________
(1) الإبانة (2/ 3/447/ 403).(2/64)
معاذ بن جبل أنه قال: أيها الناس لا تسألوا عن البلاء قبل نزوله فيذهب بكم ههنا وههنا وإنكم إن لم تسألوا لم تبتلوا، فإنه لا ينفك أن يكون في المسلمين من إذا قال وفق أو قال سدد. (1)
- وقال طاوس: إني لأرحم الذين يسألون عما لم يكن مما أسمع منهم. (2)
- وعن طاوس قال: ما ذكر الله هوى في القرآن إلا عابه. (3)
" التعليق:
صدق طاوس رحمه الله قال تعالى: {فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا} (4) فنهى عن اتباعه لأنه يصد عن العدل ويصد عن سبيل الله، قال تعالى: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (5).
وقال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إلى الأرض وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} (6)، وقال: {أرءيت من اتخذ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عليه وكيلاً} (7)، وقال: {ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدًى
_________
(1) الإبانة (1/ 2/395 - 396/ 293).
(2) الإبانة (1/ 2/419/ 342).
(3) أصول الاعتقاد (1/ 147/228).
(4) النساء الآية (135).
(5) ص الآية (26).
(6) الأعراف الآية (176).
(7) الفرقان الآية (43).(2/65)
من اللَّهِ} (1) وغيرها من الآيات الذامات للهوى.
- وروى مسلم في مقدمة صحيحه: عن سليمان بن موسى قال لقيت طاوسا فقلت: حدثني فلان كيت وكيت، قال: إن كان صاحبك مليا فخذ عنه. (2)
موقفه من المشركين:
عن معمر عن ابن طاووس أو غيره أن رجلا كان يسير مع طاووس، فسمع غرابا ينعب فقال: خير، فقال طاووس: أي خير عند هذا أو شر؟ لا تصحبني، أو قال: لا تمش معي. (3)
موقفه من الرافضة:
روى اللالكائي بسنده إلى محمد بن بلال عن طاوس قال: حب أبي بكر وعمر ومعرفة فضلهما من السنة. (4)
موقفه من الجهمية:
روى اللالكائي في أصول الاعتقاد عن طاوس قال: أصحاب المراء والمقاييس لا يزال بهم المراء والمقاييس حتى يجحدوا الرؤية ويخالفوا السنة. (5)
_________
(1) القصص الآية (50).
(2) أخرجه: مسلم في المقدمة (1/ 15) والرامهرمزي في المحدث الفاصل (ص.407) والخطيب في الكفاية بنحوه (ص.132).
(3) السير (5/ 40).
(4) أصول الاعتقاد (7/ 1312/2323) وهو في المنهاج (6/ 136 - 137).
(5) أصول الاعتقاد (3/ 554 - 555/ 868).(2/66)
موقفه من الخوارج:
- عن سعيد المكي عن طاوس: {وَمَنْ لَمْ يحكم بما أنزل اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (1) قال: ليس بكفر ينقل عن الملة. (2)
- روى عبد الرزاق بسنده إلى ابن طاووس قال: لما قدمت الحروراء علينا فر أبي، فلحق بمكة، ثم لقي ابن عمر فقال: قدمت الحروراء علينا، ففررت منهم، ولو أدركوني لقتلوني، فقال ابن عمر: أفلحت إذا وأنجحت. (3)
- وله بسنده إليه قال: كان أبي يحرض يوم رزيق في قتال الحرورية. (4)
موقفه من المرجئة:
- عن ابن طاوس عن أبيه قال: مثل الإيمان كشجرة، فأصلها الشهادة وساقها وورقها كذا، وثمرها الورع ولا خير في شجرة لا ثمر لها ولا خير في إنسان لا ورع له. (5)
- وعن ابن طاوس عن أبيه قال: كان إذا قيل له: أمؤمن أنت؟ قال: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله، لا يزيد على ذلك. (6)
_________
(1) المائدة الآية (44).
(2) الإبانة (2/ 6/735/ 1006).
(3) المصنف (10/ 119/18580).
(4) المصنف (10/ 120/18581).
(5) السنة لعبد الله (85) والسنة للخلال (4/ 59 - 60/ 1166).
(6) السنة لعبد الله (88) والإبانة (2/ 7/877 - 878/ 1203) والإيمان لأبي عبيد (13) والسنة للخلال (4/ 129/1334) والشريعة (1/ 305/326).(2/67)
موقفه من القدرية:
- جاء في السنة لعبد الله: كان طاوس بمكة يصلي ورجلان خلفه يتجادلان في القدر، فانصرف إليهما فقال: يرحمكما الله تجادلان في حكم الله. (1)
- وأخرج اللالكائي بسنده: قال حنظلة بن أبي سفيان: كنت أرى طاوسا إذا أتاه قتادة يفر منه، وكان قتادة يرى القدر. (2)
- وروى اللالكائي بسنده عن طاوس قال: أدركت ناسا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولون: كل شيء بقدر. وسمعت عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله: "كل شيء بقدر حتى العجز والكيس" (3). (4)
- وعن عبد الله بن الإمام أحمد قال: حدثنا أبي حدثنا سفيان قال: قال عمر: وقال لنا طاوس أخزوا معبدا الجهني فإنه قدري. (5)
- وجاء في سير أعلام النبلاء: قال طاوس: احذروا قول معبد، فإنه كان قدريا. (6)
- وروى عن عمرو قال: بينما طاوس يطوف بالبيت لقيه معبد الجهني فقال له طاوس أنت معبد؟ قال: نعم. قال: فالتفت إليهم طاوس فقال: هذا
_________
(1) السنة لعبد الله (138).
(2) أصول الاعتقاد (4/ 704/1143).
(3) أحمد (2/ 110) ومسلم (4/ 2045/2655).
(4) أصول الاعتقاد (4/ 640/1027) والإبانة (2/ 9/173/ 1663).
(5) السنة لعبد الله (122).
(6) السير (4/ 187).(2/68)
معبد فأهينوه. (1)
- روى عبد الله بن الإمام أحمد بسنده إلى يحيى بن سعيد أن أبا الزبير أخبره أنه كان يطوف مع طاوس بالبيت فمر بمعبد الجهني فقال قائل لطاوس: هذا معبد الجهني الذي يقول في القدر، فعدل إليه طاوس حتى وقف عليه، فقال: أنت المفتري على الله القائل ما لا تعلم. قال معبد: يكذب علي، قال أبو الزبير: فعدلت مع طاوس حتى دخلنا على ابن عباس، فقال له طاوس: يا أبا عباس الذين يقولون في القدر فقال ابن عباس: أروني بعضهم. قال: قلنا صانع ماذا؟ قال إذا أجعل يدي في رأسه ثم أدق عنقه. (2)
- وجاء في الإبانة عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه قال: اجتنبوا الكلام في القدر؛ فإن المتكلمين فيه يقولون بغير علم. (3)
القاسم بن محمد (4) (106 هـ)
القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، الإمام القدوة الحافظ الحجة عالم وقته بالمدينة مع سالم وعكرمة، أبو محمد وأبو عبد الرحمن القرشي التيمي البكري المدني. تربى القاسم في حجر عمته أم المؤمنين عائشة وتفقه منها
_________
(1) أصول الاعتقاد (4/ 704/1141) والإبانة (2/ 11/301/ 1963).
(2) السنة لعبد الله (138 - 139).
(3) الإبانة (2/ 10//214/ 1774) وشرح السنة للبغوي (1/ 145).
(4) طبقات ابن سعد (5/ 187 - 194) والجرح والتعديل (7/ 118) وحلية الأولياء (2/ 183 - 187) وسير أعلام النبلاء (5/ 53 - 60) ووفيات الأعيان (4/ 59 - 60) وتهذيب الكمال (23/ 427 - 435) وتذكرة الحفاظ (1/ 96 - 97) والبداية والنهاية (9/ 260 - 261) وشذرات الذهب (1/ 135).(2/69)
وأكثر عنها. وحدث عن جماعة من الصحابة منهم أبو هريرة وابن عباس وابن عمر ومعاوية وزينب بنت جحش وأسماء بنت عميس وطائفة. وحدث عنه ابنه عبد الرحمن، والشعبي ونافع العمري والزهري وخلق كثير. قال ابن سعد: أمه أم ولد يقال لها: سودة، وكان ثقة، عالما، رفيعا، فقيها، إماما، ورعا، كثير الحديث. عن القاسم، قال: كانت عائشة قد استقلت بالفتوى في خلافة أبي بكر وعمر وإلى أن ماتت، وكنت ملازما لها مع ترهاتي، وكنت أجالس البحر ابن عباس وقد جلست مع أبي هريرة وابن عمر فأكثرت، فكان هناك -يعني ابن عمر- ورع وعلم جم ووقوف عما لا علم له به. قال ابن حبان: من سادات التابعين، ومن أفضل أهل زمانه علما وأدبا وعقلا وفقها، وكان صموتا لا يتكلم، فلما ولي عمر بن عبد العزيز قال أهل المدينة: اليوم تنطق العذراء في خذرها -أرادوا به القاسم بن محمد-. عن أبي الزناد قال: ما رأيت أحدا أعلم بالسنة من القاسم بن محمد وما كان الرجل يعد رجلا حتى يعرف السنة. توفي سنة ست ومائة.
موقفه من المبتدعة:
- روى عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه قال: ما رأيت أحدا أعلم بالسنة من القاسم بن محمد، وما كان الرجل يعد رجلا حتى يعرف السنة، وما رأيت أحدَّ ذهنا من القاسم، إن كان ليضحك من أصحاب الشبه كما يضحك الفتى. (1)
- وقال القاسم: إن من إكرام الرجل نفسه أن لا يقول إلا ما أحاط به
_________
(1) سير أعلام النبلاء (5/ 56).(2/70)
علمه. (1)
- وقال رحمه الله: يا أهل العراق والله لا نعلم كثيرا مما تسألوننا عنه، ولأن يعيش الرجل جاهلا إلا أن يعلم ما فرض الله عليه، خير له من أن يقول على الله ورسوله ما لا يعلم. (2)
- عن ابن عون قال: قال القاسم: إنكم تسألون عن أشياء ما كنا نسأل عنها وتنقرون عن أشياء ما كنا ننقر عنها وتسألون عن أشياء ما أدري ما هي ولو علمناها ما حل لنا أن نكتمكوها. (3)
- جاء في السير أنه رحمه الله أوصى أن لا يبنى على قبره. (4)
موقفه من القدرية:
- جاء في أصول الاعتقاد عن القاسم قال: ويحكم كيف تنكرون القدر وقد كان في خطبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له" (5).اهـ (6)
- وجاء في ذم الكلام: عن القاسم أنه مر بقوم يذكرون القدر فقال: تكلموا فيما سمعتم الله ذكر في كتابه وكفوا عما كف الله عنه. (7)
_________
(1) الفقيه والمتفقه (2/ 368) والمدخل للبيهقي (2/ 269/805).
(2) المعرفة والتاريخ (1/ 546) وجامع بيان العلم (2/ 837) والمدخل للبيهقي (2/ 270/807).
(3) الدارمي (1/ 49).
(4) السير (5/ 60).
(5) أحمد (3/ 371) ومسلم (2/ 593/867 (45)) والنسائي (3/ 209 - 210/ 1577) وابن ماجه (1/ 17/45) من طريق جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر به.
(6) أصول الاعتقاد (4/ 762/1271).
(7) ذم الكلام (195).(2/71)
- وجاء في الإبانة: عن عكرمة بن عمار قال: سمعت سالم بن عبد الله والقاسم بن محمد يلعنان القدرية؛ فقلت لهما: من القدرية يرحمكما الله؟ قالا: الذين يقولون الزنا ليس بقدر. (1)
سالم بن عبد الله (2) (106 هـ)
سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب الإمام الزاهد الحافظ مفتي المدينة، أبو عمر ولد في خلافة عثمان حدث عن أبيه فجود وأكثر وعن أبي هريرة وأبي لبابة وعائشة وغيرهم. وروى عنه ابنه أبو بكر وسالم بن أبي الجعد وعمرو بن دينار ومحمد بن واسع وغيرهم. قال مالك: لم يكن أحد في زمن سالم أشبه بمن مضى من الصالحين في الزهد والفضل والعيش منه. قال ابن المبارك: كان فقهاء أهل المدينة الذين كانوا يصدرون عن رأيهم سبعة: ابن المسيب وسليمان بن يسار وسالم والقاسم وعروة وعبيد الله بن عبد الله وخارجة بن زيد. وقال أحمد وابن راهويه: أصح الأسانيد الزهري عن سالم عن أبيه.
توفي سالم سنة ست ومائة في آخر ذي الحجة، وهشام بن عبد الملك بالمدينة وكان حج بالناس تلك السنة ثم قدم المدينة فوافق موت سالم فصلى عليه.
_________
(1) الإبانة (2/ 9/122/ 1553) والسنة لعبد الله (122).
(2) طبقات ابن سعد (5/ 195 - 201) والجرح والتعديل (4/ 184) والحلية (2/ 193 - 198) والسير (4/ 457 - 467) ووفيات الأعيان (2/ 34 - 50) والوافي بالوفيات (15/ 83 - 85) وتهذيب الكمال (10/ 145 - 154) وتذكرة الحفاظ (1/ 88 - 89) والبداية والنهاية (9/ 244) وشذرات الذهب (1/ 133).(2/72)
موقفه من المبتدعة:
- روى الحميدي عن عمرو بن دينار عن سالم عن أبيه قال: قال عمر: إذا رميتم الجمرة وذبحتم وحلقتم فقد حل لكم كل شيء حرم عليكم إلا النساء والطيب. قال سالم: وقالت عائشة: طيبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحرمه قبل أن يحرم ولحله بعدما رمى الجمرة وقبل أن يزور (1)، قال سالم: وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحق أن تتبع. (2)
- وقال ابن وهب: حدثني ابن لهيعة أن رجلا سأل سالم بن عبد الله بن عمر عن شيء، فقال: لم أسمع في هذا شيئا، فقال له الرجل: فأخبرني أصلحك الله برأيك، فقال: لا، ثم أعاد عليه، فقال: إني أرضى برأيك، فقال سالم: إني لعلي إن أخبرتك برأيي ثم تذهب فأرى بعد ذلك رأيا غيره فلا أجدك. (3)
موقفه من القدرية:
- جاء في السنة عن عكرمة بن عمار قال: سمعت القاسم بن محمد وسالم ابن عبد الله يلعنان القدرية الذين يكذبون بقدر الله حتى يؤمنوا بخيره وشره. (4)
- وجاء في أصول الاعتقاد عن سالم بن عبد الله بن عمر -وسأله
_________
(1) أحمد (6/ 39) والبخاري (3/ 505/1539) ومسلم (2/ 846/1189) وأبو داود (2/ 358 - 359/ 1745) والترمذي (3/ 259/917) والنسائي (5/ 147 - 148/ 2683 - 2686) وابن ماجه (2/ 976/2926).
(2) ذم الكلام (ص.90) والمسند للشافعي (1/ 299/779) والسنن الكبرى للبيهقي (5/ 135 - 136).
(3) إعلام الموقعين (1/ 74).
(4) السنة لعبد الله (122) والإبانة (2/ 9/122/ 1553) بنحوه.(2/73)
رجل- فقال: أيزني الرجل بقدر؟ فقال: نعم. قال: أشيء كتبه الله عليه؟ قال: نعم. قال: فيعذبه عليه وقد كتبه عليه؟ قال: فحصبه. (1)
عبد الله بن أبي سلمة العمري (106 هـ)
موقفه من الجهمية:
عن عبد الله بن أبي سلمة العمري المدني -نزيل بغداد- أنه سئل عن من قال: إن القرآن غير مخلوق؟ فقال: إن الذي لا يقول: إنه غير مخلوق فهو يقول مخلوق إلا أنه جعل هذه سترة يستتر بها. (2)
سليمان بن يسار (3) (107 هـ)
الفقيه، الإمام، عالم المدينة ومفتيها أبو أيوب، مولى أم المؤمنين ميمونة. حدث عن: زيد بن ثابت، وابن عباس، وأبي هريرة. وروى عنه: الزهري، وعمرو بن دينار، وأبو الزناد. قال ابن سعد: كان ثقة، عالما، رفيعا، فقيها، كثير الحديث. وقال أبو الزناد: كان ممن أدركت من فقهاء المدينة وعلمائهم ممن يرضى وينتهى إلى قولهم فذكر منهم سليمان بن يسار. وقال الزهري: كان من العلماء. مات سنة سبع ومائة.
_________
(1) أصول الاعتقاد (4/ 761 - 762/ 1270).
(2) أصول الاعتقاد (2/ 359/527).
(3) السير (4/ 444) وتهذيب الكمال (12/ 100 - 103) وتهذيب التهذيب (4/ 228) والحلية (2/ 190) ووفيات الأعيان (2/ 399) وشذرات الذهب (1/ 134).(2/74)
موقفه من المبتدعة:
عن مالك قال: كان سليمان بن يسار إذا سمع في مجلس مراء قام وتركهم. (1)
موقفه من القدرية:
أخرج اللالكائي بسنده إلى عكرمة قال: سمعت القاسم وسليمان -يعني ابن يسار- يلعنان القدرية. (2)
موقف السلف من كثير عزة الشيعي ومخازيه (107 هـ)
- قال الزبير بن بكار: كان شيعيا، يقول بتناسخ الأرواح، وكان خشبيا يؤمن بالرجعة. (3)
- من مخازي كثير قوله: (4)
ألا إن الأئمة من قريش ... ولاة الحق أربعة سواء
علي والثلاثة من بنيه ... هم الأسباط ليس بهم خفاء
فسبط سبط إيمان وبر ... وسبط غيبته كربلاء
وسبط لا يذوق الموت حتى ... يقود الخيل يقدمها اللواء
_________
(1) الإبانة (2/ 3/523/ 626).
(2) أصول الاعتقاد (4/ 713 - 714/ 1167).
(3) السير (5/ 152).
(4) المنهاج (3/ 475 - 476).(2/75)
تغيب لا يرى فيهم زمانا ... برضوى عنده عسل وماء
بكر بن عبد الله المزني (1) (108 هـ)
بكر بن عبد الله بن عمرو الإمام القدوة الواعظ الحجة أبو عبد الله المزني أحد الأعلام روى عن المغيرة بن شعبة وابن عباس وابن عمر وغيرهم روى عنه ثابت البناني وعاصم الأحول وسليمان التيمي وآخرون. كان ثبتا ثقة كثير الحديث حجة فقيها. قال ابن المديني: كان من خيار الناس. كان سليمان التيمي يقول: الحسن شيخ البصرة وبكر فتاها.
من أقواله: إذا رأيتم الرجل موكلا بعيوب الناس ناسيا لعيبه فاعلموا أنه قد مكر به. وقال: لا يكون العبد تقيا حتى يكون تقي الطمع تقي الغضب. وقال: من مثلك يا ابن آدم؟ خلى بينك وبين الماء والمحراب متى شئت تطهرت ودخلت على ربك عز وجل ليس بينك وبينه ترجمان ولا حاجب. توفي سنة ثمان ومائة.
موقفه من المرجئة:
جاء في الإبانة: عن بكر بن عبد الله -يعني المزني- قال: لو انتهيت إلى هذا المسجد وهو غاص بأهله مفعم من الرجال، فقيل لي: أي هؤلاء خير؟ لقلت لسائلي: أتعرف أنصحهم لهم فإن عرفه عرفت أنه خيرهم. ولو انتهيت
_________
(1) طبقات ابن سعد (7/ 209 - 211) والجرح والتعديل (2/ 388) والسير (4/ 532 - 536) وتهذيب الكمال (4/ 216) والحلية (2/ 224 - 232) والبداية والنهاية (9/ 267 - 268) وشذرات الذهب (1/ 135) ومشاهير علماء الأمصار (90).(2/76)
إلى هذا المسجد وهو غاص بأهله مفعم من الرجال، فقيل لي: أي هؤلاء شر؟ لقلت لسائلي: أتعرف أغشهم لهم؟ فإن عرفه عرفت أنه شرهم، وما كنت لأشهد على خيرهم أنه مؤمن مستكمل الإيمان، ولو شهدت له بذلك شهدت أنه في الجنة. وما كنت لأشهد على شرهم أنه منافق بريء من الإيمان ولو شهدت عليه بذلك شهدت أنه في النار ولكن أخاف على خيرهم، فكم عسى خوفي على شرهم، فإذا رجوت لشرهم فكم رجائي لخيرهم هكذا السنة. (1)
موقفه من القدرية:
روى أبو نعيم في الحلية بسنده إلى عبد الله بن بكر بن عبد الله المزني: أخبرتني أم عبد الله بنت بكر بن عبد الله قالت: كان أبوك قد جعل على نفسه أن لا يسمع رجلين يتنازعان في القدر إلا قام فصلى ركعتين. (2)
مُوَرِّق العجلي (3) (108 هـ)
الإمام مورق بن عبد الله العِجْلِي، أبو المعتمر البصري. روى عن عمر وأبي الدرداء وأبي ذر وابن عمر وجندب، وجماعة. وعنه توبة العنبري وقتادة وعاصم الأحول وحميد الطويل وإسماعيل بن أبي خالد.
_________
(1) الإبانة (2/ 751 - 752/ 1045).
(2) الحلية (2/ 225).
(3) طبقات ابن سعد (7/ 213) والحلية (2/ 234) والسير (4/ 353) وتهذيب الكمال (29/ 16 - 17) وتهذيب التهذيب (10/ 331) والكاشف (2/ 300).(2/77)
قال ابن سعد: كان ثقة عابدا. وذكره ابن حبان في الثقات وقال: كان من العباد الخشن. وقال الذهبي: عابد مجاهد بار. مات رحمه الله سنة ثمان ومائة، وقيل خمس ومائة.
موقفه من المبتدعة:
عن حماد بن سلمة عن حميد أن قوما قرؤوا السجدة، فلما سجدوا رفعوا أيديهم واستقبلوا القبلة. فأنكر ذلك عليهم مورق العجلي وكرهه. (1)
الحسن البصري (2) (110 هـ)
الحسن بن أبي الحسن يسار أبو سعيد البصري مولى زيد بن ثابت وأمه مولاة لأم سلمة أم المؤمنين، ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر. سمع عثمان يخطب في الجمعة. وكان سيد أهل زمانه علما وعملا. روى عن عمران بن حصين والمغيرة بن شعبة وسمرة وابن عباس وغيرهم، لكن في روايته تدليس إذا عنعن. روى عنه أيوب وشيبان النحوي ويونس بن عبيد وغيرهم. وكان جامعا عالما رفيعا فقيها ثقة حجة مأمونا عابدا ناسكا كثير العلم فصيحا جميلا وسيما، عن أبي بردة قال: ما رأيت أحدا أشبه بأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - منه. وعن أنس بن مالك قال: سلوا الحسن فإنه حفظ ونسينا، وقال قتادة:
_________
(1) ابن وضاح (ص.52).
(2) طبقات ابن سعد (7/ 156 - 178) والمعرفة والتاريخ (2/ 32و3/ 32) والجرح والتعديل (3/ 40 - 42) وحلية الأولياء (2/ 131 - 161) والوافي بالوفيات (12/ 306 - 308) ووفيات الأعيان (2/ 69 - 73) وسير أعلام النبلاء (4/ 563) وتهذيب الكمال (6/ 95 - 127) وتذكرة الحفاظ (1/ 71 - 72) والبداية والنهاية (9/ 280 - 286) وشذرات الذهب (1/ 136 - 138).(2/78)
ما جمعت علم الحسن إلى أحد من العلماء إلا وجدت له فضلا عليه، غير أنه إذا أشكل عليه شيء كتب فيه إلى سعيد بن المسيب يسأله، وما جالست فقيها قط إلا رأيت فضل الحسن. قال معاذ بن معاذ: قلت للأشعث: قد لقيت عطاء وعندك مسائل، أفلا سألته؟ قال: ما لقيت أحدا بعد الحسن إلا صغر في عيني. وقال قتادة وحميد ويونس: ما رأينا أحدا أكمل مروءة من الحسن. وقال عوف: ما رأيت رجلا أعلم بطريق الجنة من الحسن. عن بكر ابن عبد الله قال: من سره أن ينظر إلى أفقه من رأينا فلينظر إلى الحسن. وقال قتادة: كان الحسن من أعلم الناس بالحلال والحرام. رمي بالقول في القدر! لكن قال سليمان التيمي: رجع الحسن عن قوله في القدر. قال حميد: سمعت الحسن يقول: خلق الله الشيطان، وخلق الخير، وخلق الشر. فقال رجل: قاتلهم الله! يكذبون على هذا الشيخ. قال أيوب السختياني: لو رأيت الحسن لقلت إنك لم تجالس فقيها قط.
مات في أول رجب سنة عشر ومائة، وكانت جنازته مشهودة، صلوا عليه عقيب الجمعة.
موقفه من المبتدعة:
- صلى الحسن الجمعة وجلس فبكى، فقيل له ما يبكيك يا أبا سعيد؟ فقال: تلومني على البكاء، ولو أن رجلا من المهاجرين اطلع من باب مسجدكم؛ ما عرف شيئا مما كان عليه على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ أنتم اليوم عليه إلا قبلتكم هذه. (1)
_________
(1) إغاثة اللهفان (1/ 206).(2/79)
- عن الحسن قال: أدركت عشرة آلاف من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لو رأوكم لقالوا: ما لهؤلاء؟ .. مجانين؟ ولو رأيتموهم لقلتم: هؤلاء مجانين، ولو رأوا خياركم لقالوا: ما لهؤلاء في الآخرة من حاجة، ولو رأوا شراركم لقالوا: ما يؤمن هؤلاء بيوم الحساب. (1)
- عن الحسن قال: لو أن رجلا أدرك السلف الأول ثم بعث اليوم ما عرف من الإسلام شيئا -قال: ووضع يده على خده ثم قال- إلا هذه الصلاة. ثم قال: أما والله على ذلك لمن عاش في هذه النكراء، ولم يدرك هذا السلف الصالح فرأى مبتدعا يدعوا إلى بدعته، ورأى صاحب دنيا يدعوا إلى دنياه فعصمه الله عن ذلك، وجعل قلبه يحن إلى ذلك السلف الصالح يسأل عن سبيلهم ويقتص آثارهم ويتبع سبيلهم، ليعوض أجرا عظيما. فكذلك فكونوا إن شاء الله. (2)
- وروى الدارمي عن المبارك عن الحسن قال: سننكم -والله الذي لا إله إلا هو- بينهما بين الغالي والجافي، فاصبروا عليها رحمكم الله، فإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى وهم أقل الناس فيما بقي، الذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف في إترافهم، ولا مع أهل البدع في بدعهم، وصبروا على سنتهم حتى لقوا ربهم، فكذلك إن شاء الله فكونوا. (3)
- وعنه رضي الله عنه كان يقول: لا تجالسوا أهل الأهواء ولا
_________
(1) ما جاء في البدع (ص.130).
(2) ما جاء في البدع (ص.140) وذكره الشاطبي في الاعتصام (1/ 34) وفيه عن أنس وهو خطأ.
(3) الدارمي (1/ 71 - 72) والباعث (ص.72).(2/80)
تجادلوهم ولا تسمعوا منهم. (1)
- وعنه قال: لا تجالسوا أهل الأهواء فإن مجالستهم ممرضة للقلوب. (2)
- وعنه رضي الله عنه قال: أهل الهوى بمنزلة اليهود والنصارى. (3)
- وعنه رضي الله عنه قال: ليس لأهل البدع غيبة. (4)
- وعنه قال: ثلاثة ليست لهم حرمة في الغيبة: أحدهم صاحب بدعة الغالي ببدعته. (5)
- وعنه قال: ليس لصاحب بدعة ولا لفاسق يعلن بفسقه غيبة. (6)
- وعنه رضي الله عنه قال: صاحب البدعة لا يقبل الله له صلاة ولا صياما ولا حجا ولا عمرة ولا جهادا ولا صرفا ولا عدلا. (7)
- وعنه قال: صاحب البدعة لا يزداد اجتهادا -صياما وصلاة- إلا ازداد من الله بعدا. (8)
- وعنه قال: لا يقبل الله من صاحب البدعة شيئا. (9)
_________
(1) أصول الاعتقاد (1/ 150/240) وذم الكلام (ص.189) والإبانة (2/ 3/444/ 395) وجامع بيان العلم وفضله (2/ 944) والبيهقي في الشعب (7/ 61) وميزان الاعتدال (1/ 3).
(2) الإبانة (2/ 3/438/ 373) وانظر الاعتصام (1/ 113).
(3) أصول الاعتقاد (1/ 148/233).
(4) ذم الكلام (ص.177) وأصول الاعتقاد (1/ 158/280) والكفاية في علم الرواية (ص.43).
(5) أصول الاعتقاد (1/ 158/278).
(6) أصول الاعتقاد (1/ 158/279).
(7) أصول الاعتقاد (1/ 156 - 157/ 270) وذم الكلام (ص.148) والشريعة (1/ 200/144) والباعث (ص.73).
(8) ابن وضاح (ص.67) وأورده الشاطبي في الاعتصام (1/ 111).
(9) أصول الاعتقاد (1/ 157/271).(2/81)
- وعنه قال: أبى الله تبارك وتعالى أن يأذن لصاحب هوى بتوبة. (1)
- وعنه رضي الله عنه قال في قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (2). قال: وكان علامة حبه إياهم: اتباع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (3)
- وعنه رضي الله عنه قال: يا أهل السنة ترفقوا رحمكم الله فإنكم من أقل الناس. (4)
- عن مبارك بن فضالة عن الحسن في هذه الآية: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} (5) قال: هو المنافق لا يهوى شيئا إلا ركبه. (6)
- وكان الحسن البصري يقول: شر داء خالط قلبا يعني الهوى. (7)
- عن الحسن في قوله: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (8) قال: الكتاب: القرآن. والحكمة: السنة. (9)
- وعنه أن رجلا أتاه فقال: يا أبا سعيد إني أريد أن أخاصمك فقال
_________
(1) أصول الاعتقاد (1/ 159 - 160/ 285).
(2) آل عمران الآية (31).
(3) أصول الاعتقاد (1/ 77/68).
(4) أصول الاعتقاد (1/ 63/19).
(5) الجاثية الآية (23).
(6) السير (4/ 570 - 571).
(7) السنة لعبد الله (ص.25) والسنة للخلال (5/ 34).
(8) البقرة الآية (129).
(9) أصول الاعتقاد (1/ 78/70).(2/82)
الحسن: إليك عني فإني قد عرفت ديني وإنما يخاصمك الشاك في دينه. (1)
- وعنه قال: ذهبت المعارف وبقيت المناكر ومن بقي من المسلمين فهو مغموم. (2)
- وعنه قال: ما لي لا أرى زمانا إلا بكيت منه فإذا ذهب بكيت عليه. (3)
" التعليق:
قال ابن بطة: إخواني فاستمعوا إلى كلام هؤلاء السادة من الماضين، والأئمة العقلاء من علماء المسلمين، والسلف الصالح من الصحابة والتابعين، هذه أقوالهم والإسلام في طرافة ومطاوعة، وعنفوان قوته واستقامته والأئمة راشدون والأمراء مقسطون، فما ظنكم بنا وبزمان أصبحنا فيه وما نعانيه ونقاسيه ولم يبق من الدين إلا العكر، ومن العيش إلا الكدر ونحن في دردى الدنيا وثمادها؟!
- عن مرة سمع الحسن يقول: لا تمكن أذنيك من صاحب هوى فيمرض قلبك، ولا تجيبن أميرا وإن دعاك لتقرأ عنده سورة من القرآن؛ فإنك لا تخرج من عنده إلا بشر مما دخلت. (4)
- عن الحسن البصري قال: لا تجالس صاحب هوى فيقذف في قلبك
_________
(1) أصول الاعتقاد (1/ 144/215) والإبانة (2/ 3/509/ 586) والشريعة (1/ 189 - 190/ 124) وانظر طبقات الحنابلة (2/ 39).
(2) الإبانة (1/ 1/184 - 185/ 19).
(3) الإبانة (1/ 1/186/ 21).
(4) الإبانة (2/ 3/444 - 445/ 396) وشعب الإيمان (7/ 60).(2/83)
ما تتبعه عليه فتهلك أو تخالفه فيمرض قلبك. (1)
- عن ابن عيينة قال: سمعت رجلا من أهل البصرة يذكر عن الحسن، قال: ما أدركت فقيها قط يماري ولا يداري ينشر حكم الله فإن قبلت حمد الله وإن ردت حمد الله. (2)
- عن سفيان بن حسين قال: سمعت الحسن وتلا هذه الآية: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} (3). قال: ابتغاء الضلالة. (4)
- عن الحسن أنه كان يقول: اتهموا أهواءكم ورأيكم على دين الله وانتصحوا كتاب الله على أنفسكم. (5)
- وعنه قال: شرار عباد الله يتبعون شرار المسائل يعمون بها عباد الله عز وجل. (6)
- عن الأشعث عن الحسن قال: إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذونه. (7)
- قال الشاطبي: وخرج ابن وضاح في كتاب (القطعان) حديث
_________
(1) ما جاء في البدع (ص.110) وذكره الشاطبي في الاعتصام (1/ 112).
(2) الإبانة (2/ 3/518 - 519/ 611).
(3) آل عمران الآية (7).
(4) الإبانة (2/ 4/606/ 782).
(5) الإبانة (1/ 2/389/ 283).
(6) الإبانة (1/ 2/402 - 403/ 304).
(7) ذم الكلام (ص.292).(2/84)
الأوزاعي: أنه بلغه عن الحسن: أنه قال: لن يزال لله نصحاء في الأرض من عباده، يعرضون أعمال العباد على كتاب الله، فإذا وافقوه، حمدوا الله، وإذا خالفوه، عرفوا بكتاب الله ضلالة من ضل، وهدى من اهتدى، فأولئك خلفاء الله. (1)
- ونقل عبيد بن حميد بن مهران، قال: سألت الحسن كيف يصنع أهل هذه الأهواء الخبيثة بهذه الآية في آل عمران: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} (2)، قال: نبذوها -ورب الكعبة- وراء ظهورهم. (3)
- وعن الحسن: إنما هلك من كان قبلكم حين تشعبت بهم السبل، وحادوا عن الطريق، فتركوا الآثار، وقالوا في الدين برأيهم، فضلوا وأضلوا. (4)
- عن الحسن أنه تلا هذه الآية {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} (5) قال: قاس إبليس وهو أول من قاس. (6)
- عن أبي التياح قال: قلت للحسن: إمامنا يقص، فيجتمع الرجال والنساء، فيرفعون أصواتهم بالدعاء. فقال الحسن: إن رفع الصوت بالدعاء
_________
(1) الاعتصام (1/ 46).
(2) آل عمران الآية (105).
(3) الاعتصام (1/ 75).
(4) الاعتصام (1/ 135 - 136).
(5) الأعراف الآية (12) وص الآية (75).
(6) الدارمي (1/ 65) وجامع بيان العلم وفضله (2/ 892).(2/85)
لبدعة، وإن مد الأيدي بالدعاء لبدعة، وإن اجتماع الرجال والنساء لبدعة. (1)
- قال الحسن: إن هذا القرآن قد قرأه عبيد وصبيان لا علم لهم بتأويله، ولم يأتوا الأمر من قبل أوله؛ قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (2)، وما تدبر آياته إلا اتباعه بعلمه، أما والله ما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، حتى إن أحدهم ليقول: والله لقد قرأت القرآن كله ما أسقطت منه حرفا، وقد والله أسقطه كله، ما رئي القرآن له في خلق ولا عمل، وإن أحدهم ليقول: والله إني لأقرأ السورة في نفس واحد، ما هؤلاء بالقراء ولا العلماء الورعة، متى كان القراء يقولون مثل هذا؟. لا كثر الله في الناس مثل هذا. قال الحسن: ولقد قرأ القرآن ثلاثة نفر: فرجل قرأ القرآن، فأعده بضاعة؛ يطلب به ما عند الناس، من مصر إلى مصر. وقوم قرؤوا القرآن فثقفوه تثقيف القدح، فأقاموا حروفه، وضيعوا حدوده، واستدروا به ما عند الولاة، واستطالوا به على أهل بلادهم، وما أكثر هذا الصنف من حملة القرآن. لا كثر الله صنفهم تعالى. قال: ورجل قرأ القرآن، فبدأ بدواء ما يعلم من القرآن، فجعله على داء قلبه، فهملت عيناه، وسهر نومه، وتسربل الحزن، وارتدى الخشوع، فبهم يسقي الله الغيث، وينفي العدو، ويدفع البلاء، فوالله لهذا الضرب من حملة القرآن أقل في الناس من الكبريت الأحمر. (3)
_________
(1) الاقتضاء (2/ 639 - 640).
(2) ص الآية (29).
(3) الحوادث والبدع (ص.98 - 99)(2/86)
- قال الحسن: عمل قليل في سنة خير من عمل كثير في بدعة. (1)
موقفه من المشركين:
عن حميد الطويل عن الحسن: {كذلك نَسْلُكُهُ في قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} (2) قال الشرك. (3)
موقفه من الرافضة:
- روى الآجري في الشريعة بسنده إلى عبد ربه؛ قال: كنا عند الحسن في مجلس، فذكر كلاما، وذكر أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أولئك أصحاب محمد، كانوا أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا؛ قوم اختارهم الله عز وجل لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم؛ فإنهم كانوا ورب الكعبة على الهدي المستقيم. (4)
- وله بسنده إلى أبي مودود بحر بن موسى؛ قال: سمعت الحسن قرأ هذه الآية: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (5). قال: والله ما هي لأهل حرورا، ولكنها لأبي بكر وعمر وأصحابهما. (6)
- وجاء في أصول الاعتقاد عن مبارك بن فضالة: سمعت الحسن حلف
_________
(1) جامع بيان العلم (2/ 1204) وشعب الإيمان (7/ 72) وهو في الاعتصام (1/ 112).
(2) الحجر الآية (12).
(3) أبو داود (4619).
(4) الشريعة (2/ 421/1221) وجامع بيان العلم (2/ 946).
(5) المائدة الآية (54).
(6) الشريعة (2/ 421 - 422/ 1223).(2/87)
بالله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استخلف أبا بكر. (1)
- وفيه: عن عبد العزيز بن جعفر اللؤلؤي قال: قلت للحسن حب أبي بكر وعمر سنة قال: لا: فريضة (2)
- وفيه عن كلثوم بن جوشن قال: سأل النضر بن عمرو الحسن البصري فقال: أبو بكر أفضل أم علي فقال: سبحان الله ولا سواء سبقت لعلي سوابق شركه فيها أبو بكر وأحدث أحداثا لم يشركه فيها أبو بكر. أبو بكر أفضل قال: فعمر أفضل أم علي فذكر مثل قوله الأول ثم قال عمر أفضل قال: فعلي أفضل أم عثمان فذكر مثل قوله الأول ثم قال: عثمان أفضل فطمع الشامي فقال: علي أفضل أم معاوية فقال: سبحان الله ولا سواء سبقت لعلي سوابق لم يشركه فيها معاوية وأحدث علي أحداثا شركه معاوية في أحداثه علي أفضل من معاوية. (3)
موقفه من الصوفية:
جاء في الاعتصام عن يونس بن عبيد أن رجلا قال للحسن: يا أبا سعيد، ما ترى في مجلسنا هذا؟ قوم من أهل السنة والجماعة لا يطعنون على أحد، نجتمع في بيت هذا يوما وفي بيت هذا يوما فنقرأ كتاب الله، وندعو لأنفسنا ولعامة المسلمين؟ قال: فنهى الحسن عن ذلك أشد النهي. (4)
_________
(1) أصول الاعتقاد (7/ 1369/2446).
(2) أصول الاعتقاد (7/ 1312/2321).
(3) أصول الاعتقاد (8/ 1453 - 1454/ 2626).
(4) الاعتصام (1/ 507) وابن وضاح (48).(2/88)
موقفه من الجهمية:
- قال الذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء: واصل بن عطاء هو وعمرو بن عبيد رأسا الاعتزال، طرده الحسن عن مجلسه لما قال: الفاسق لا مؤمن ولا كافر، فانضم إليه عمرو، واعتزلا حلقة الحسن، فسموا المعتزلة. (1)
" التعليق:
ما أحسن فعل هذا الإمام مع رأسي هذه الفرقة الضالة التي جرت على المسلمين من البلايا ما الله أعلم به. فكم ذهب بسببهم من الضحايا من خيرة علماء السلف، وكم عذبوا، وكم انحرف من انحرف من المسلمين بسبب فكرهم الضال، وما يزال بلاؤهم على المسلمين إلى الآن. كفى الله المسلمين شرهم وشر من يحبهم ويشيد بهم، ويجعلهم في مقدمة قادة الفكر الحر، وهو -إن صح التعبير- زبالة فكر الفلاسفة الضلال الذين لم يشموا رائحة الوحي والهداية فضلا عن أن يكونوا مصدر هداية. والخلاصة أنهم أخذوا من كل فكر أسوأه والله المستعان، فليحذر الشباب الذي يريد الهداية من الترويج لمثل هذه الفرق الضالة التي شنت الحرب على الكتاب والسنة، ومن كذب بهذا فليقرأ أصولهم وليعرضها على الكتاب والسنة، فهل هي موافقة في نسبة ما فوق تسعين بالمائة أو خمسين أو عشرة أو صفر. هم وغيرهم ممن يدعي أن له فكرا حرا، وإلا كان هؤلاء المروجون لمثل هؤلاء يهرفون بما لا يعرفون وما أكثرهم والله المستعان.
_________
(1) السير (5/ 464).(2/89)
- وروى عبد الله بن أحمد بسنده إلى سليمان بن المغيرة عن يحيى البكاء قال: كانت رقاع تأتي الحسن من قبل عمرو بن عبيد فيها مسائل، فإذا علم أنها من قبله لم يجب فيها. (1)
- عن الحسن قال: إذا كان يوم القيامة برز ربنا تبارك وتعالى، فيراه الخلق، ويحجب الكفار فلا يرونه، وهو قوله: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ ربهم يومئذٍ لَمَحْجُوبُونَ} (2).اهـ (3)
- وروى اللالكائي بسنده إلى الحسن في قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (4). قال: النضرة الحسن، نظرت إلى ربها عز وجل فنضرت بنوره عز وجل. (5)
- وقال: لو علم العابدون في الدنيا أنهم لا يرون ربهم في الآخرة؛ لذابت أنفسهم في الدنيا. (6)
- وقال: إن الله تعالى ليتجلى لأهل الجنة، فإذا رآه أهل الجنة نسوا نعيم الجنة. (7)
_________
(1) السنة لعبد الله (153).
(2) المطففين الآية (15).
(3) أصول الاعتقاد (3/ 517/805).
(4) القيامة الآيتان (22و23).
(5) أصول الاعتقاد (3/ 514/800) والسنة لعبد الله (162) والشريعة (2/ 12/626).
(6) السنة لعبد الله (62) وأصول الاعتقاد (3/ 555/869) والشريعة (2/ 7/612).
(7) الشريعة (2/ 7 - 8/ 613).(2/90)
- وقال: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وزيادة} (1) قال: الحسنى، دخول الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله. (2)
- وجاء في السنة لعبد الله: أتى رجل الحسن فقال له: يا أبا سعيد إني إذا قرأت كتاب الله فذكرت شروطه وعهوده ومواثيقه قطع رجائي فقال له الحسن: ابن أخي، إن القرآن كلام الله إلى القوة والمتانة وإن أعمال بني آدم إلى الضعف والتقصير ولكن سدد وقارب وأبشر. (3)
- وعن عوف قال: سئل الحسن عن القرآن خالق أو مخلوق فقال: ما هو بخالق ولا مخلوق ولكنه كلام الله. (4)
- وقال: لو كان ما يقول الجعد حقا لبلغه النبي - صلى الله عليه وسلم -. (5)
- وعنه في تفسير هذه الآية: {وَلَوْ أَنَّمَا في الأرض مِنْ شَجَرَةٍ} (6) - مذ خلق الله الدنيا إلى أن تقوم الساعة- أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر لتكسرت الأقلام ونفدت البحور ولم تنفد كلمات الله: فعلت كذا صنعت كذا. (7)
- وعن عبد الملك بن أبي سليمان قال: ذكر الميزان عند الحسن فقال:
_________
(1) يونس الآية (26).
(2) أصول الاعتقاد (3/ 510/790).
(3) السنة لعبد الله (29).
(4) أصول الاعتقاد (2/ 264 - 265/ 391).
(5) الفتح (13/ 504).
(6) لقمان الآية (27).
(7) أصول الاعتقاد (2/ 246/361).(2/91)
له لسان وكفتان. (1)
موقفه من الخوارج:
- جاء في أصول الاعتقاد عن عصام بن زيد رجل من مزينة قال: كان رجل من الخوارج يغشى مجلس الحسن فيؤذيهم. فقيل للحسن: يا أبا سعيد ألا تكلم الأمير حتى يصرفه عنا؟ قال فسكت عنهم قال: فأقبل ذات يوم والحسن جالس مع أصحابه فلما رآه قال: اللهم قد علمت أذاه لنا فاكفناه بما شئت. قال: فخر -والله- الرجل من قامته فما حمل إلى أهله إلا ميتا على سرير فكان الحسن إذا ذكره بكى وقال: البائس ما كان أغره بالله؟ (2)
- وفي الشريعة عن سليمان بن أبي نشيط، عن الحسن -وذكر الخوارج- فقال: حيارى سكارى، ليس بيهود ولا نصارى، ولا مجوس فيعذرون. (3)
- وفيها أيضا: قال رجل للحسن: يا أبا سعيد؛ ما تقول في أمرائنا هؤلاء؟ فقال الحسن: ما عسى أن أقول فيهم، هم لحجنا، وهم لغزونا، وهم لقسم فيئنا، وهم لإقامة حدودنا، والله إن طاعتهم لغيظ، وإن فرقتهم لكفر، وما يصلح الله بهم أكثر مما يَفْسُد. وقيل للحسن: يا أبا سعيد؛ إن خارجيا خرج بالخريبة، فقال: المسكين رأى منكرا فأنكره، فوقع فيما هو أنكر منه. (4)
_________
(1) أصول الاعتقاد (6/ 1245/2210).
(2) أصول الاعتقاد (9/ 232 - 233/ 166).
(3) الشريعة (1/ 144 - 145/ 49).
(4) الشريعة (2/ 434 - 435) وطرفه الأخير أخرجه المصنف نفسه موصولا (1/ 145/50).(2/92)
- قال محمد بن الحسين الآجري تعليقا على كلام الحسن: فلا ينبغي لمن رأى اجتهاد خارجي قد خرج على إمام، عدلا كان الإمام أو جائرا، فخرج وجمع جماعة وسل سيفه، واستحل قتال المسلمين، فلا ينبغي له أن يغتر بقراءته للقرآن، ولا بطول قيامه في الصلاة، ولا بدوام صيامه، ولا بحسن ألفاظه في العلم إذا كان مذهبه مذهب الخوارج. (1)
قال محقق كتاب الشريعة: ومن هنا يعلم خطأ وانحراف كثير من الشباب المتحمس لإنكار المنكر، فسرعان ما نجده يتبع الشعارات واللافتات، بمجرد سماعه لها، أو لأصحابها من ذوي العاطفة الجياشة وممن يزعم أنه يريد الجهاد في سبيل الله، أو يظهر منه بعض علامات الصلاح، فالله الله يا شباب الإسلام لا يغرنكم مثل ذلك، وعليكم بطريق أهل العلم فاقتدوا بهم، واصدروا عن أقوالهم، ولا يستهوينكم الشيطان، وامتثلوا قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (2) وقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (3) والزيغ عن طريق كبار أهل العلم، والطعن فيهم هو من أكبر أسباب الضعف والضلال والانحراف في هذه الأمة والنكبات التي نعيشها اليوم، وما أكثرها ولا حول ولا قوة إلا بالله.
- جاء في الاعتصام للشاطبي عن الحسن؛ قال: العامل على غير علم
_________
(1) الشريعة (1/ 145).
(2) النساء الآية (59).
(3) النحل الآية (43).(2/93)
كالسائر على غير طريق، والعامل على غير علم ما يفسد أكثر مما يصلح، فاطلبوا العلم طلبا لا يضر بترك العبادة، واطلبوا العبادة طلبا لا يضر بترك العلم؛ فإن قوما طلبوا العبادة وتركوا العلم حتى خرجوا بأسيافهم على أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولو طلبوا العلم لم يدلهم على ما فعلوا (1) -يعني: الخوارج-، والله أعلم؛ لأنهم قرؤوا القرآن، ولم يتفهموا، حسبما أشار إليه الحديث: يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم. (2)
- وقال أبو هلال: كنت عند قتادة، فجاء الخبر بموت الحسن، فقلت: لقد كان غمس في العلم غمسة، قال قتادة: بل نبت فيه وتحقبه وتشربه، والله لا يبغضه إلا حروري. (3)
موقفه من المرجئة:
- قال أبو حيان البصري سمعت الحسن يقول: لا يصح القول إلا بعمل ولا يصح قول وعمل إلا بنية ولا يصح قول وعمل ونية إلا بالسنة. (4)
- وجاء في الإبانة: عن عبد الملك بن جدان أن عبد الواحد بن زيد والحسن دخلا المسجد يوم الجمعة فجلسا فدمعت عين الحسن، فقال عبد الواحد: يا أبا سعيد ما يبكيك؟ فقال: أرى قولا ولا أرى فعلا، معرفة بلا يقين أرى رجالا ولا أرى عقولا أسمع أصواتا ولا أرى أنيسا دخلوا ثم
_________
(1) الاعتصام (2/ 682) وهو في جامع بيان العلم (1/ 545).
(2) أحمد (1/ 404) والترمذي (4/ 417 - 418/ 2188) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". وابن ماجه (1/ 59/168) من حديث عبد الله بن مسعود.
(3) السير (4/ 573 - 574) وابن سعد في الطبقات (7/ 174).
(4) أصول الاعتقاد (1/ 63/18) والإبانة (2/ 803/1090) والشريعة (1/ 287/281).(2/94)
خرجوا حرموا ثم استحلوا عرفوا ثم أنكروا وإنما دين أحدهم لعقه على لسانه ولو سألته هل يؤمن بيوم الحساب، لقال: نعم، كذب ومالك يوم الدين ما هذه من أخلاق المؤمنين، إن من أخلاق المؤمنين قوة في الدين وحزما في لين وإيمانا في يقين وحرصا في علم وقصدا في غنى وتجملا في فاقة ورحمة للمجهود وعطاء في حق ونهيا عن شهوة وكسبا في حلال وتحرجا عن طمع ونشاطا في هدى وبرا في استقامة لا يحيف على من يبغض ولا يأثم في الحب ولا يدعي ما ليس له ولا ينابز بالألقاب ولا يشمت بالمصائب ولا يضر بالجار ولا يهمز، في الصلاة متخشع، وإلى الزكاة متسرع، إن صمت لم يغمه الصمت، وإن ضحك لم يعل صوته، في الزلازل وقور، وفي الرخاء شكور، قانع بالذي له لا يجمح به الغيظ ولا يغلبه الشح، يخالط الناس ليعلم ويصمت ليسلم وينطق ليفهم إن كان مع الذاكرين لم يكتب من الغافلين وإن كان مع الغافلين كتب من الذاكرين وإن بغي عليه صبر حتى يكون الله هو الذي ينتقم له يوم القيامة. (1)
- وعن طريف بن شهاب قال: قلت للحسن: إن أقواما يزعمون أن لا نفاق ولا يخافون النفاق. قال الحسن: والله لأن أكون أعلم أني بريء من النفاق أحب إلي من طلاع الأرض ذهبا. (2)
- وقال الربيع بن أنس: وكان الحسن يقول: الإيمان كلام وحقيقته العمل، فإن لم يحقق القول بالعمل لم ينفعه القول. (3)
_________
(1) الإبانة (2/ 665 - 666/ 864).
(2) الإبانة (2/ 758/1059) وانظر تذكرة الحفاظ (2/ 694).
(3) الإبانة (2/ 792/1074) والشريعة (1/ 285/278).(2/95)
- وعن أبي بشر الحلبي، عن الحسن، قال: ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال، من قال حسنا وعمل غير صالح رده الله على قوله، ومن قال حسنا وعمل صالحا رفعه العمل ذلك بأن الله عز وجل يقول: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (1). (2)
- عن أبي عقيل الدورقي قال: سمعت الحسن يقول: لو شاء الله عز وجل لجعل الدين قولا لا عمل فيه أو عملا لا قول فيه ولكن جعل دينه قولا وعملا وعملا وقولا، فمن قال قولا حسنا وعمل سيئا رد قوله على عمله، ومن قال قولا حسنا وعمل عملا صالحا رفع قوله عمله، ابن آدم قولك أحق بك. (3)
- وعن سلام الخراساني سمعت الحسن في قوله تعالى: {وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} (5) قال: وما زادهم البلاء إلا إيمانا بالرب وتسليما للقضاء. (6)
- وعن جعفر بن سليمان: قيل للحسن: ما الإيمان؟ قال: الصبر
_________
(1) فاطر الآية (10).
(2) الإبانة (2/ 805/1093) واقتضاء العلم العمل للخطيب (56) والإيمان لابن أبي شيبة (93) وفي المصنف (6/ 163/30351).
(3) الإبانة (2/ 896 - 897/ 1250).
(4) الأحزاب الآية (22).
(5) أصول الاعتقاد (5/ 1023/1731).(2/96)
والسماح قال: الصبر عن محارم الله والسماح بفرايض الله. (1)
- وعن هشام عن الحسن قال: الإيمان قول وعمل. (2)
- وعن هشام قال: كان الحسن ومحمد يقولان: (مسلم) ويهابان (مؤمن). (3)
- وعن عوف قال: قال الحسن- في تفسير حديث: لا يزني الزاني .. (4): يجانبه الإيمان ما كان كذلك، فإن رجع، راجعه الإيمان. (5)
موقفه من القدرية:
- جاء في السنن لأبي داود عن أيوب قال: كذب على الحسن ضربان من الناس: قوم القدر رأيهم وهم يريدون أن ينفقوا بذلك رأيهم، وقوم له في قلوبهم شنآن وبغض يقولون: أليس من قوله كذا؟ أليس من قوله كذا؟ (6)
- وعن ابن عون قال: لو علمنا أن كلمة الحسن تبلغ ما بلغت لكتبنا برجوعه كتابا وأشهدنا عليه شهودا، ولكنا قلنا: كلمة خرجت لا تحمل. (7)
- وعن أيوب قال: قال لي الحسن: ما أنا بعائد إلى شيء منه أبدا. (8)
_________
(1) أصول الاعتقاد (4/ 928/1578).
(2) السنة لعبد الله (85) والشريعة (1/ 288/283) وأصول الاعتقاد (4/ 929/1581).
(3) السنة لعبد الله (88) وأصول الاعتقاد (4/ 895/1501).
(4) أخرجه من حديث أبي هريرة: أحمد (2/ 376) والبخاري (5/ 150 - 151/ 2475) ومسلم (1/ 76/57) وأبو داود (5/ 64 - 65/ 4689) والترمذي (5/ 16 - 17/ 2625) وقال: "حديث حسن صحيح غريب". والنسائي (8/ 715 - 716/ 5675)، ابن ماجه (2/ 1298 - 1299/ 3936).
(5) الشريعة (1/ 268/256) والسنة لعبد الله (ص.102).
(6) أبو داود (4622).
(7) أبو داود (4622).
(8) أبو داود (4625).(2/97)
- وروى ابن بطة عن سفيان قال: سمعت أبي وكان ثقة عن العلاء بن عبد الله بن بدر قال: دخلت على الحسن وهو جالس على سرير هندي فقلت: وددت أنك لم تكلم في القدر بشيء؛ فقال: وأنا وددت أني لم أكن تكلمت فيه بشيء. (1)
- وجاء في السنة لعبد الله عن مرحوم بن عبد العزيز العطار قال: سمعت أبي وعمي يقولان: سمعنا الحسن وهو ينهى عن مجالسة معبد الجهني يقول: لا تجالسوه فإنه ضال مضل. (2)
- وجاء في أصول الاعتقاد عنه رضي الله عنه قال: الشقي من شقي في بطن أمه. (3)
- وفيه عنه رضي الله عنه في قوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} (4) قال الحسن: قد أفلحت نفس أتقاها الله عز وجل، وقد خابت نفس أغواها الله عز وجل. (5)
- وعن عاصم قال: سمعت الحسن يقول في مرضه الذي مات فيه: إن الله قدر أجلا وقدر معه مرضا وقدر معه معافاة فمن كذب بالقدر فقد كذب بالقرآن ومن كذب القرآن فقد كذب بالحق. (6)
_________
(1) الإبانة (2/ 10/188/ 1692).
(2) السنة (122 - 123) وأصول الاعتقاد (4/ 704/1142) ونحوه في الشريعة (1/ 456 - 457/ 592).
(3) أصول الاعتقاد (4/ 754/1251).
(4) الشمس الآيات (8 - 10).
(5) أصول الاعتقاد (3/ 601/954) والإبانة (2/ 10/183/ 1674).
(6) أصول الاعتقاد (4/ 755/1254) والشريعة (1/ 424/509 بلفظ أطول).(2/98)
قال الآجري معلقا: بطلت دعوى القدرية على الحسن، إذ زعموا أنه إمامهم، يموهون على الناس، ويكذبون على الحسن، لقد ضلوا ضلالا بعيدا، وخسروا خسرانا مبينا. (1)
- جاء في السنة لعبد الله عن حميد قال: قدم الحسن مكة فقال لي فقهاء مكة الحسن بن مسلم وعبد الله بن عبيد: لو كلمت الحسن، فأخلانا يوما، فكلمت الحسن فقلت: يا أبا سعيد إخوانك يحبون أن تجلس لهم يوما قال: نعم ونعمة عين فواعدهم يوما فجاؤوا فاجتمعوا وتكلم الحسن وما رأيته قبل ذلك اليوم ولا بعده أبلغ منه ذلك اليوم، فسألوه عن صحيفة طويلة فلم يخطئ فيها شيئا إلا في مسألة فقال له رجل: يا أبا سعيد، من خلق الشيطان قال: سبحان الله- سبحان الله، وهل من خالق غير الله؟ ثم قال: إن الله خلق الشيطان وخلق الشر وخلق الخير، فقال رجل منهم: قاتلهم الله يكذبون على الشيخ. (2)
- وروى أبو داود بسنده عن خالد الحذاء، قال: قلت للحسن: يا أبا سعيد، أخبرني عن آدم أللسماء خلق أم للأرض؟ قال: لا، بل للأرض، قلت: أرأيت لو اعتصم فلم يأكل من الشجرة؟ قال: لم يكن له منه بد، قلت: أخبرني عن قوله تعالى: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} (3) قال: إن الشياطين لا يفتنون بضلالتهم إلا من أوجب الله
_________
(1) الشريعة (1/ 424).
(2) السنة لعبد الله (144) والإبانة (2/ 10/190 - 191/ 1698) وأبو داود بنحوه (4618).
(3) الصافات الآيتان (162و163).(2/99)
عليه الجحيم. (1)
- وفي السير عنه قال: من كذب بالقدر فقد كفر. (2)
- وفيها عن ابن سيرين -وقيل له في الحسن: وما كان ينحل إليه أهل القدر؟ قال: كانوا يأتون الشيخ بكلام مجمل، لو فسروه له لساءهم. (3)
- وروى أبو داود بسنده عن حميد: كان الحسن يقول: لأن يسقط من السماء إلى الأرض أحب إليه أن يقول: الأمر بيدي. (4)
- وروى ابن بطة عن منصور بن عبد الرحمن؛ قال: كنت مع الحسن فقال لي رجل إلى جنبه سله عن قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} (5)، فسألته عنها فقال: ومن يشك في هذا، ما من مصيبة بين السماء والأرض إلا في كتاب من قبل أن تبرأ النسمة. (6)
- وفيها عن عيسى بن الربيع عن كثير بن زياد قال: سألت الحسن عن هذه الآية: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ
_________
(1) أبو داود (4614) والشريعة (1/ 327/349) والإبانة (2/ 10/186/ 1683).
(2) السير (4/ 581).
(3) السير (4/ 582).
(4) أبو داود (4617) والإبانة (2/ 10/182 - 183/ 1672).
(5) الحديد الآية (22).
(6) الإبانة (2/ 10/180/ 1668).(2/100)
مُسْوَدَّةٌ} (1)؛ قال: هم الذين يقولون: الأشياء إلينا، إن شئنا فعلنا، وإن شئنا لم نفعل. (2)
- وفيها عن محمد بن مروان العقيلي قال: سمعت عوفا يقول: سمعت الحسن يقول: من كذب بالقدر؛ فقد كذب بالإسلام، إن الله عز وجل قدر خلق الخلق بقدر، وقسم الأرزاق بقدر، وقسم البلاء بقدر، وقسم العافية بقدر، وأمر ونهى. (3)
- وفيها عن ربيعة بن كلثوم قال: سأل رجل الحسن ونحن عنده فقال: يا أبا سعيد. أرأيت ليلة القدر؛ أفي كل رمضان هي؟ قال: إي والله الذي لا إله إلا هو؛ إنها لفي كل شهر رمضان، إنها ليلة يفرق فيها كل أمر حكيم، فيها يقضي الله عز وجل كل خلق وأجل وعمل ورزق إلى مثلها. (4)
- وفيها عن يونس عن الحسن أنه كان إذا تلا هذه الآية: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} (5)؛ قال: قد علم الله من كل نفس ما هي عاملة وما هي صانعة، وإلى ما هي صائرة (6).
- وفيها عن المعلمي بن زياد قال: قلت للحسن: المقتول بأجل قتل؟
_________
(1) الزمر الآية (60).
(2) الإبانة (2/ 10/183/ 1673).
(3) الإبانة (2/ 10/183 - 184/ 1676).
(4) الإبانة (2/ 10/184/ 1677).
(5) النجم الآية (32).
(6) الإبانة (2/ 10/185/ 1681).(2/101)
قال: وأي أجل ينتظر بعد الموت؟ (1)
- وفيها عن حميد أن شعيب بن أبي مريم قرأ للحسن: {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} (2)؛ فقال الحسن: نعم القرآن عند الله في أم الكتاب، قال: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} (3) قال: نعم. (4)
- وفيها عن حميد قال: سألت الحسن عن هذه الآية: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} (5)؛ قال: اقرأ ما بعدها، فقرأت: {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} (6)؛ قال: هو هكذا خلق هكذا. (7)
- وفيها عن الحسن بن أبي الحسن قال: جف القلم، ومضى القضاء، وتم القدر بتحقيق الكتاب وتصديق الرسل وسعادة من عمل واتقى، وشقاوة من ظلم واعتدى، وبالولاية من الله عز وجل للمؤمنين، وبالتبرئة من الله
_________
(1) الإبانة (2/ 10/186/ 1684).
(2) الزخرف الآيات (1 - 4).
(3) المسد الآيتان (1و2).
(4) الإبانة (2/ 10/190/ 1697).
(5) المعارج الآية (19).
(6) المعارج الآيتان (20و21).
(7) الإبانة (2/ 10/192/ 1701).(2/102)
للمشركين. (1)
- وفيها عن عبد المؤمن السدوسي قال: سمعت الحسن سئل عن هذه الآية: يعني {كل يوم هو في شأن} (2)؛ فقال: إن الله عز وجل ليقضي القضية في السماء وهو كل يوم في شأن ثم يضرب لها أجلا ثم يمسكها إلى أجلها، فإذا جاء أجلها؛ أرسلها، فليس لها مردود أنه كائن في يوم كذا من شهر كذا في بلد كذا من المصيبة من القحط والرزق من المصيبة في الخاصة والعامة. (3)
- وفيها عن أبي جعفر الخطمي أن الفضيل الرقاشي كان جالسا عند محمد بن كعب القرظي فكلمه في القدر؛ فقال الحسن: تحسن تشهد؟ قال: نعم، قال: فتشهد حتى بلغ: (من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له)؛ قال: فأخذ العصا فضرب، فلما قفا، قال: لا يرجع هذا عن قوله أبدا (4).
- وفيها عن الحسن في هذه الآية {وحيل بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَايشتهون} (5)؛ قال: حيل بينهم وبين الإيمان. (6)
- وفيها عن حميد: قرأت القرآن كله على الحسن في بيت أبي خليفة؛
_________
(1) الإبانة (2/ 10/194/ 1705) والشريعة (1/ 422/502).
(2) الرحمن الآية (29).
(3) الإبانة (2/ 10/194/ 1706).
(4) الإبانة (2/ 10/208/ 1756).
(5) سبأ الآية (54).
(6) الإبانة (1/ 8/279/ 1299).(2/103)
ففسره لي أجمع على الإثبات، فسألته عن قوله تعالى: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} (1)؛ قال: الشرك سلكه في قلوبهم، وسألته عن قوله: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} (2)؛ قال: أعمال سيعملونها، وسألته عن قوله: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} (3)؛ قال: ما أنتم عليه بمضلين إلا من هو صالي الجحيم. (4)
- وفيها عن المبارك قال: جالست الحسن ثنتي عشرة سنة؛ فما سمعته يفسر شيئا من القرآن إلا على إثبات القدر. (5)
محمد بن سيرين (6) (110 هـ)
محمد بن سيرين شيخ الإسلام أبو بكر الأنصاري مولى أنس بن مالك إمام وقته ولد لسنتين بقيتا من خلافة عثمان. سمع من أبي هريرة وعمران بن حصين وابن عمر وغيرهم وروى عنه قتادة وأيوب ويونس بن عبيد وابن
_________
(1) الشعراء الآية (200).
(2) المؤمنون الآية (63).
(3) الصافات الآيتان (162و163).
(4) الإبانة (1/ 8/279 - 280/ 1300).
(5) الإبانة (2/ 10/182/ 1672).
(6) طبقات ابن سعد (7/ 193 - 206) والجرح والتعديل (7/ 280) وحلية الأولياء (2/ 263 - 282) وتاريخ بغداد (5/ 331 - 338) ووفيات الأعيان (4/ 181 - 183) وتهذيب الكمال (25/ 344 - 355) وتذكرة الحفاظ (1/ 77 - 78) وسير أعلام النبلاء (4/ 606 - 622) والبداية والنهاية (9/ 286 - 288) والوافي بالوفيات (3/ 146) ومشاهير علماء الأمصار (88).(2/104)
عون وآخرون قال هشام بن حسان: أدرك محمد ثلاثين صحابيا، وقال هشام أيضا: حدثني أصدق من أدركته من البشر محمد بن سيرين، قال ابن عون: كان ابن سيرين يحدث بالحديث على حروفه. كان ثقة مأمونا عاليا رفيعا فقيها إماما كثير العلم ورعا. عن ابن عون قال: لم أر في الدنيا مثل ثلاثة محمد بن سيرين بالعراق والقاسم بن محمد بالحجاز ورجاء بن حيوة بالشام ولم يكن في هؤلاء مثل محمد. عن عثمان البتي قال: لم يكن بالبصرة أحد أعلم بالقضاء من محمد بن سيرين. قال بكر بن عبد الله المزني: من أراد أن ينظر إلى أورع من أدركنا فلينظر إلى محمد بن سيرين. كان يتجر فإذا ارتاب في شيء تركه. من أقواله: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذونه.
مات سنة عشر ومائة بعد موت الحسن البصري بمائة يوم وله سبع وسبعون سنة.
موقفه من المبتدعة:
- جاء عنه رضي الله عنه أنه قال: أول من قاس إبليس وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس. (1)
- وعنه رضي الله عنه أنه كان إذا سمع كلمة من صاحب بدعة وضع أصبعيه في أذنيه، ثم قال: لا يحل لي أن أكلمه حتى يقوم من مجلسي. (2)
- وروى اللالكائي بسنده إلى أسماء قال: دخل رجلان على محمد بن
_________
(1) ذم الكلام (ص.102) والدارمي (1/ 65) والفقيه والمتفقه (1/ 466) وجامع بيان العلم (2/ 892) وذكره ابن القيم في إعلام الموقعين (1/ 254).
(2) الإبانة (2/ 3/473/ 484).(2/105)
سيرين من أهل الأهواء فقالا: يا أبا بكر، نحدثك بحديث، قال: لا. قالا: نقرأ عليك آية من كتاب الله. قال: لا. قال: تقومان عني وإلا قمت. فقام الرجلان فخرجا، فقال بعض القوم: ما كان عليك أن يقرءا آية. قال: إني كرهت أن يقرءا آية فيحرفانها فيقر ذلك في قلبي. (1)
- وجاء في ذم الكلام عنه قال: لو خرج الدجال في نفسي لاتبعه أصحاب الأهواء. (2)
- وروى الدارمي بسنده إلى قتادة قال: حدث ابن سيرين رجلا بحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال رجل: قال فلان كذا وكذا، فقال ابن سيرين: أحدثك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وتقول: قال فلان وفلان كذا وكذا، لا أكلمك أبدا. (3)
- وروى الدارمي بسنده إلى ابن عون عن ابن سيرين قال: كانوا يرون أنه على الطريق ما كان على الأثر. (4)
- وجاء في الإبانة عن ابن عون قال: قال محمد: إن أسرع الناس ردة أهل الأهواء وكان يرى أن هذه الآية نزلت فيهم: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ
_________
(1) أصول الاعتقاد (1/ 150 - 151/ 242) والسنة لعبد الله (ص.24) وبنحوه في الإبانة (2/ 3/445 - 446/ 398) والشريعة (1/ 191/127) والدارمي (1/ 109) وابن وضاح (ص.115 - 116) وانظر الاعتصام (2/ 792).
(2) ذم الكلام (4/ 52 - 53 طبعة الأنصاري) وأصول الاعتقاد (1/ 148/235). وفيه: لو خرج الدجال لرأيت أنه سيتبعه أهل الأهواء.
(3) سنن الدارمي (1/ 117).
(4) سنن الدارمي (1/ 53 - 54) وذم الكلام (ص.99) وأصول الاعتقاد (1/ 97 - 98/ 109) والإبانة (1/ 2/356/ 241) والشريعة (1/ 132/32) وجامع بيان العلم (1/ 783).(2/106)
فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ}. اهـ (2)
- وروى الدارمي بسنده إلى ابن سيرين قال: ما أخذ رجل ببدعة فراجع سنة. (3)
- وعن شعيب بن الحبحاب، قلت لابن سيرين: ما ترى في السماع من أهل الأهواء؟ قال: لا نسمع منهم ولا كرامة. (4)
- قال مسلم في مقدمة صحيحه: حدثنا أبو جعفر محمد بن الصباح قال حدثنا إسماعيل بن زكرياء عن عاصم الأحول عن ابن سيرين قال: لم يكونوا يسألون عن الإسناد. فلما وقعت الفتنة قالوا سموا لنا رجالكم فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم. (5)
" التعليق:
أقول: هكذا كان منهاج السلف رضي الله عنهم في التمييز بين أهل السنة وأهل البدع، فأهل البدع لا يُؤْمَنون في علمهم ولا في روايتهم، فيجب اجتنابهم والتحذير منهم والرد عليهم وبدعهم. وأما أهل هذا الزمان فلا يهمهم أن فلانا من أهل البدع أو فلانا من أهل السنة، فالأمر عندهم سيان،
_________
(1) الأنعام الآية (68).
(2) الإبانة (2/ 3/498/ 552) والشريعة (1/ 426/515) وذم الكلام (ص.190) وكذا في السير (4/ 610)، وأورده الشاطبي في الاعتصام (1/ 91).
(3) الدارمي (1/ 69) والباعث (ص.72).
(4) السير (4/ 611).
(5) أخرجه: مسلم في المقدمة (1/ 15) وبنحوه في الدارمي (1/ 112) والحلية (2/ 278) والمحدث الفاصل (ص.208 - 209) والكفاية (ص.122).(2/107)
فلا نفرق بين أفعى وسمكة؛ فكل ما سقط في الشبكة هو صالح للقوت وللغذاء، والله المستعان.
- عن ابن سيرين أنه سئل عن شيء، فقال: أكره أن أقول برأيي ثم يبدو لي بعد ذلك رأي آخر فأطلبك فلا أجدك. (1)
- وسئل أيضا ابن سيرين عن شيء فقيل له: ألا تقول فيه برأيك، فقال: إني أكره أن أجرب السم على نفسي. (2)
- وقال رجل لابن سيرين إن فلانا يريد أن يأتيك ولا يتكلم بشيء قال: قل لفلان لا ما يأتيني، فإن قلب ابن آدم ضعيف وإني أخاف أن أسمع منه كلمة فلا يرجع قلبي إلى ما كان. (3)
- عن مهدي بن ميمون قال: سمعت محمد بن سيرين وماراه رجل في شيء فقال له محمد: إني قد أعلم ما تريد وأنا أعلم بالمراء منك ولكني لا أماريك. (4)
- عن ابن عون قال: سمعت محمد بن سيرين ينهى عن الجدال إلا رجلا إن كلمته طمعت في رجوعه. (5)
- عن محمد قال: كانوا يرون أهل الردة وأهل تقحم الكفر: أهل الأهواء. (6)
_________
(1) الإبانة (1/ 2/423/ 348).
(2) الإبانة (1/ 2/423/ 349).
(3) الإبانة (2/ 3/446/ 399).
(4) الإبانة (2/ 3/522/ 623 والشريعة (1/ 196/140).
(5) الإبانة (2/ 3/541/ 681 وهو في السير (4/ 614).
(6) أصول الاعتقاد (1/ 148/234).(2/108)
- عن سلمة بن علقمة قال: كان محمد بن سيرين ينهى عن كلام ومجالسة أهل الأهواء. (1)
- عن أشعث قال: كان محمد بن سيرين لا يكاد يقول في شيء برأيه. (2)
- وقال ابن سيرين: لأن يموت الرجل جاهلا خير له من أن يقول ما لا يعلم. (3)
- عن محمد بن سيرين قال: إن هذا العلم دين. فانظروا عمن تأخذون دينكم. (4)
" التعليق:
أقول: وقد اشترط علماء الحديث في من يؤخذ عنه العلم أن يكون ثقة عدلا ضابطا، وقد اختلفوا في رواية المبتدع، فمنعها البعض وقبلها البعض بشروط، والصحيح أنها تؤخذ فيما لم يكن داعية إلى بدعته أو يَكُنِ النص في خدمتها، هذا في المحدثين والذين عرفوا برواية الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأما من لم يعرف بعلم ولا رواية فهذا ليس محل جدال في رد روايته.
- عن أيوب قال: كان رجل يرى رأيا فرجع عنه، فأتيت محمدا فرحا بذلك أخبره، فقلت: أشعرت أن فلانا ترك رأيه الذي كان يرى؟ فقال: أنظر إلام يتحول، إن آخر الحديث أشد عليهم من أوله: "يمرقون من الإسلام ثم
_________
(1) الإبانة (2/ 3/522/ 624).
(2) الفقيه والمتفقه (1/ 463).
(3) إعلام الموقعين (2/ 185).
(4) أخرجه مسلم في المقدمة (1/ 14) وابن سعد في الطبقات (7/ 194) والرامهرمزي في المحدث الفاصل (ص.414) وأبو نعيم في الحلية (2/ 278) والخطيب في الكفاية (ص.121 - 122).(2/109)
لا يعودون فيه" (1).اهـ (2)
- وجاء في الباعث لأبي شامة قال: وأخرج الحافظ أبو القاسم في كتاب فضل أصحاب الحديث عن ابن سيرين قال: إن قوما تركوا العلم ومجالسة العلماء، واتخذوا محاريب فصلوا فيها، حتى يبس جلد أحدهم على عظمه، خالفوا السنة، فهلكوا. والله ما عمل عامل بغير علم إلا كان ما يفسد أكثر مما يصلح. (3)
- عن الحسن وابن سيرين أنهما قالا: لا تجالسوا أصحاب الأهواء ولا تجادلوهم ولا تسمعوا منهم. (4)
موقفه من الرافضة:
- عن محمد بن سيرين قال: كنت أطوف بالكعبة فإذا رجل يقول اللهم اغفر لي وما أظن أن تغفر لي. قلت يا عبد الله ما سمعت أحدا يقول كما تقول؟ قال إني كنت قد أعطيت الله عهدا إن قدرت أن ألطم وجه عثمان بن عفان لطمته فلما قتل ووضع على سرير في البيت والناس يصلون عليه دخلت كأني أصلي فوجدت خلوة فرفعت الثوب عن وجهه فلطمته وتنحيت وقد يبست يميني فإذا هي يابسة سوداء كأنها عود شيز. (5)
- وفي السنة للخلال عن ابن سيرين قال: كان معاوية لا يتهم في
_________
(1) تقدم تخريجه ضمن مواقف ابن مسعود سنة (32هـ) وسيأتي من حديث أبي ذر ضمن مواقف ابن هبيرة سنة (560هـ).
(2) ما جاء في البدع (ص.118).
(3) الباعث (ص.213).
(4) سنن الدارمي (1/ 110).
(5) أصول الاعتقاد (7/ 1329/2363).(2/110)
الحديث على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (1)
موقفه من الصوفية:
- جاء في الاعتصام: وسئل محمد بن سيرين عن الرجل يقرأ عنده القرآن فيصعق؟ فقال: ميعاد ما بيننا وبينه أن يجلس على حائط ثم يقرأ عليه القرآن من أوله إلى آخره فإن وقع فهو كما قال. (2)
وقد قيل لمحمد بن سيرين إن قوما يقصدون لبس الصوف، ويقولون: إن المسيح كان يلبسه. فقال: هدي نبينا أحب إلينا من هدي غيره. (3)
موقفه من الجهمية:
جاء في الاعتصام عن أيوب قال: كنت يوما عند محمد بن سيرين إذ جاء عمرو بن عبيد، فدخل، فلما جلس وضع محمد يده في بطنه وقام، فقلت لعمرو: انطلق بنا، قال: فخرجنا، فلما مضى عمرو رجعت، فقلت: يا أبا بكر، قد فطنت إلى ما صنعت، قال: أقد فطنت؟ قلت: نعم، قال: أما إنه لم يكن ليضمني معه سقف بيت. (4)
موقفه من الخوارج:
- جاء في أصول الاعتقاد: عن معمر عن ابن سيرين قال: سؤال الرجل
_________
(1) السنة للخلال (4/ 440).
(2) الاعتصام (1/ 353) وأبو عبيد في فضائل القرآن (2/ 16/376) والحلية (2/ 265) وتلبيس إبليس (ص.312 - 313).
(3) المنهاج (4/ 43).
(4) الاعتصام (2/ 791) وابن وضاح (112).(2/111)
أخاه أمؤمن أنت محنة بدعة كما يمتحن الخوارج. (1)
- وعن عبد الله بن مسلم المروزي قال: كنت أجالس ابن سيرين، فتركته وجالست الإباضية، فرأيت كأني مع قوم يحملون جنازة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأتيت ابن سيرين فذكرته له، فقال: مالك جالست أقواما يريدون أن يدفنوا ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم -. (2)
- وفي المصنف لابن أبي شيبة عن الهذيل بن بلال قال: كنت عند محمد بن سيرين فأتاه رجل فقال: إن عندي غلاما لي أريد بيعه، قد أعطيت به ستمائة درهم، وقد أعطاني الخوارج ثمانمائة، أفأبيعه منهم؟ قال كنت بايعه من يهودي أو نصراني؟ قال: لا، قال فلا تبعه منهم. (3)
- وفي المصنف لعبد الرزاق عن أيوب عن ابن سيرين قال: سأله رجل -أحسبه من أهل اليمامة- قال: أتينا الحرورية، زمان كذا وكذا، لا يسألونا عن شيء، غير أنهم يقتلون من لقوا، فقال ابن سيرين: ما علمت أحدا كان يتحرج من قتل هؤلاء تأثما، ولا من قتل من أراد مالك إلا السلطان، فإن للسلطان لحقا. (4)
موقفه من المرجئة:
- عن حبيب بن الشهيد عن محمد بن سيرين قال: إذا قيل لك أمؤمن أنت؟
_________
(1) أصول الاعتقاد (5/ 1060/1804).
(2) السير (4/ 617).
(3) مصنف ابن أبي شيبة (15/ 331 - 332/ 19787).
(4) مصنف عبد الرزاق (10/ 119/18579).(2/112)
فقل له: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} (1). (2)
- جاء في السنة عن خالد بن عبد الرحمن بن بكر السلمي قال: كنت عند محمد وعنده أيوب فقلت له: يا أبا بكر، الرجل يقول لي مؤمن أنت؟ أقول مؤمن، فانتهرني أيوب فقال محمد: وما عليك أن تقول آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله. (3)
موقفه من القدرية:
- عن صالح المري قال: دخل على ابن سيرين فلان يعني رجلا مبتدعا وأنا شاهد ففتح بابا من أبواب القدر فتكلم فيه فقال له ابن سيرين: أحب لك أن تقوم وإما أن نقوم. (4)
- وروى اللالكائي بسنده إلى ابن سيرين قال: إن لم يكن أهل القدر من الذين يخوضون في آيات الله فلا أدري من هم. (5)
- وفيه عن يحيى بن عتيق قال: كنا في بيت محمد بن سيرين أنا وسالم ابن قتيبة فقال سالم: لوددنا أنا علمنا ما قول محمد بن سيرين في القدر. قال: فدخل رجل فقلنا سله ما يقول في القدر؟ فسأله الرجل. قال: فنكس محمد ونكسنا مطرقين. ثم إن محمدا قال له: أيهم أمرك بها؟ ثم سكت ساعة ثم
_________
(1) البقرة الآية (136).
(2) السنة لعبد الله (87) والسنة للخلال (4/ 129/1335) والشريعة (1/ 304/322).
(3) السنة لعبد الله (87).
(4) الإبانة (2/ 3/473/ 485) والتلبيس (22).
(5) أصول الاعتقاد (4/ 696/1125) والسنة لعبد الله (147).(2/113)
قال: إن الشيطان ليس له سلطان ولكن من أطاعه أضله. (1)
- وفيه عن محمد بن سيرين: أنه كره ذبائح القدرية. (2)
- وفي الإبانة: عن حبيب بن الشهيد عن محمد بن سيرين قال: إذا أراد الله بعبد خيرا؛ جعل له واعظا من قلبه يأمره وينهاه، وقال ابن سيرين: ما ينكر هؤلاء أن يكون الله عز وجل علم علما جعله كتابا، وقال ابن سيرين: يجري الله الخير على يدي من يشاء، ويجري الشر على يدي من يشاء. (3)
- وفيها عن عبد الملك بن عبد الله بن محمد بن سيرين قال: سألت ابن عون عن القدر؛ فقال: سألت جدك محمد بن سيرين عن القدر؛ فقال: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} (4). اهـ (5)
- وفيها عن عثمان البتي قال: دخلت على ابن سيرين فقال لي: ما يقول الناس في القدر؟ قال: فلم أدر ما رددت عليه، قال: فرفع شيئا من الأرض فقال: ما يزيد على ما أقول لك مثل هذا، إن الله عز وجل إذا أراد بعبد خيرا؛ وفقه لمحابه وطاعته وما يرضى به عنه، ومن أراد به غير ذلك؛ اتخذ عليه الحجة ثم عذبه غير ظالم له. (6)
- وفيها عن محمد بن سيرين أن رجلا أتاه فسأله عن القدر، فقال
_________
(1) أصول الاعتقاد (4/ 762 - 763/ 1272).
(2) أصول الاعتقاد (4/ 806/1346).
(3) الإبانة (2/ 10/198/ 1723) والشريعة (1/ 425/511 مختصرا).
(4) الأنفال الآية (23).
(5) الإبانة (2/ 10/198/ 1724).
(6) الإبانة (2/ 10/198 - 199/ 1725) والشريعة (1/ 424 - 425/ 510).(2/114)
محمد: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (1). فأعاد عليه الكلام فوضع محمد يديه في أذنيه، قال: ليخرجن عني أو لأخرجن عنه، قال: فخرج الرجل، فقال محمد: إن قلبي ليس بيدي وإني لا آمن من أن يبعث في قلبي شيئا لا أقدر أن أخرجه منه وكان أحب إلي أن لا أسمع كلامه. (2)
- ومن اللَّطائف ما روى ابن بطة عن ابن عون قال: عطست شاة عند ابن سيرين فقال: يرحمك الله إن لم تكوني قدرية. (3)
فضيل بن فضالة (4) (ما بين 101 هـ و110 هـ)
فُضَيْل بن فَضَالَةَ الهَوْزَنِي الشامي تابعي. روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلا وعن حبيب بن عبيد الرحبي وخالد بن معدان وعطية بن رافع وغيرهم. روى عنه صفوان ابن عمرو ومعاوية بن صالح ومحمد بن الوليد الزبيدي وآخرون. ذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن حجر: مقبول، أرسل شيئا، من الخامسة. وذكره الذهبي في تاريخه في أعيان الطبقة الحادية عشرة المؤرخة ما بين 101هـ و110هـ.
موقفه من الجهمية:
_________
(1) النحل الآية (90).
(2) الإبانة (2/ 3/458/ 432).
(3) الإبانة (2/ 10/199/ 1726).
(4) تهذيب الكمال (23/ 304 - 305) والتاريخ الكبير (7/ 120 - 121) والكاشف (2/ 125) وتهذيب التهذيب (8/ 298) والتقريب (2/ 15) وتاريخ الإسلام (حوادث 101 - 120/ص.216).(2/115)
عن الفضيل بن فضالة الهوزني قال: إن الله يهبط إلى سماء الدنيا ليلة النصف من شعبان فيعطي رغابا ويفك رقابا ويفخم عقابا. (1)
_________
(1) أصول الاعتقاد (3/ 501/773).(2/116)
طلحة بن مصرف (1) (112 هـ)
طلحة بن مُصَرِّف بن عمرو الإمام الحافظ المقرئ، المجود، شيخ الإسلام أبو محمد، ويقال أبو عبد الله الكوفي. روى عن أنس بن مالك وسعيد بن جبير، ومجاهد بن جبر، ويحيى بن سعيد الأنصاري. وعنه: ابنه محمد، وشعبة ابن الحجاج وأبو إسحاق السبيعي وآخرون. قال عبد الله بن إدريس عن حريش بن سليم: شهدت أبا إسحاق، وسلمة بن كهيل، وحبيب بن أبي ثابت، وأبا معشر، كلهم يقول: لم أر مثل طلحة، أو ما أدركت مثل طلحة، وقد رأوا أصحاب عبد الله. قال يحيى بن أبي بكير عن شعبة: كنت في جنازة طلحة بن مصرف فقال أبو معشر: ما ترك بعده مثله، وأثنى عليه. قال ابن إدريس: كانوا يسمونه سيد القراء. قال أحمد بن عبد الله العجلي: اجتمع قراء أهل الكوفة في منزل الحكم بن عتيبة فأجمعوا على أن أقرأ أهل الكوفة طلحة ابن مصرف، فبلغه ذلك، فغدا إلى الأعمش يقرأ عليه ليذهب عنه ذلك الاسم. توفي سنة اثنتي عشرة ومائة.
موقفه من المبتدعة:
عن طلحة بن مصرف بن عمرو قال: لا تجالسوا أهل الأهواء فإن لهم عرة (2) كعرة الجرب. (3)
_________
(1) طبقات ابن سعد (6/ 308 - 309) وحلية الأولياء (5/ 14 - 29) وسير أعلام النبلاء (5/ 191 - 193) وتهذيب الكمال (13/ 433 - 437) والجرح والتعديل (4/ 473) والوافي بالوفيات (16/ 483 - 484) وتهذيب التهذيب (5/ 25) وشذرات الذهب (1/ 145) ومشاهير علماء الأمصار (110).
(2) عرة: هي الفضيحة والقذارة.
(3) ذم الكلام (ص.236).(2/117)
موقفه من الرافضة:
- جاء في سير أعلام النبلاء: وقال الحسن بن عمرو: قال لي طلحة بن مصرف: لولا أني على وضوء لأخبرتك بما تقول الرافضة. (1)
" التعليق:
الله أكبر ما أعظم هذه الكلمة من هذا الإمام الذي عاش في أول القرن الثاني قبل أن يستطير شر الروافض فكيف لو عاش بعد هذا القرن ورأى ما جلبه هؤلاء الكفرة على المسلمين من بلايا ومصائب لا يعلم عددها ومقدارها إلا الله، وما سقوط خلافة المسلمين ببغداد وغيرها إلا بسبب الروافض، كم ذبح من عالم وكم قتل من مسلم وما يزال بلاؤهم إلى الآن. وجهلة الدعاة إلى الإسلام يكتبون كتبا ومقالات يدعون فيها إلى التقارب بين الروافض والسنة وتعقد المؤتمرات واللقاءات لهذا القصد ولا يدرون أنه لا ينفع مع هؤلاء إلا الحجة والبيان والسنة والقرآن. والله المستعان.
- وفي أصول الاعتقاد: عن طلحة بن مصرف قال: كان يقال بغض بني هاشم نفاق وبغض أبي بكر وعمر نفاق والشاك في أبي بكر كالشاك في السنة. (2)
_________
(1) السير (5/ 192) وأصول الاعتقاد (7/ 1345/2401).
(2) أصول الاعتقاد (7/ 1342/2389) وذكره في الصارم المسلول (584).(2/118)
رجاء بن حيوة (1) (112 هـ)
رجاء بن حَيْوَة بن جَرْوَل، ويقال: ابن جزل بن الأحنف، الإمام، القدوة، الوزير العادل أبو المقدام، ويقال: أبو نصر الشامي الفلسطيني. روى عن أبي سعيد الخدري وأبي أمامة وجابر وابن عمرو، وآخرين. وعنه خلق كثير منهم: مكحول والزهري وقتادة، وعبد الله بن عون. قال ابن سعد: كان ثقة، عالما، فاضلا، كثير العلم. قال رجاء بن أبي سلمة: ما من رجل من أهل الشام أحب إلي أن أقتدي به من رجاء بن حيوة. عن ابن عون قال: ما لقيت أكف من ثلاثة: رجاء بن حيوة بالشام، والقاسم بن محمد بالحجاز، وابن سيرين بالعراق يقول: لم يجاوزوا ما علموا أو لم يتكلفوا أن يقولوا برأيهم. عن رجاء بن حيوة قال: يقال ما أحسن الإسلام ويزينه الإيمان، وما أحسن الإيمان ويزينه التقوى، وما أحسن التقوى ويزينه العلم، وما أحسن العلم ويزينه الحلم، وما أحسن الحلم ويزينه الرفق. عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر: كنا مع رجاء بن حيوة فتذاكرنا شكر النعم، فقال: ما أحد يقوم بشكر نعمة، وخلفنا رجل على رأسه كساء فكشف الكساء عن رأسه، فقال: ولا أمير المؤمنين؟ قلنا: وما ذكر أمير المؤمنين هاهنا؟ إنما أمير المؤمنين رجل من الناس، فغفلنا عنه، فالتفت رجاء فلم يره، فقال: أتيتم من صاحب الكساء -وفي لفظ: فإن دعيتم فاستحلفتم فاحلفوا- فما علمنا إلا وبحرسي
_________
(1) طبقات ابن سعد (7/ 454 - 455) والجرح والتعديل (3/ 501) والحلية (5/ 170 - 177) ووفيات الأعيان (2/ 301 - 303) وتهذيب الكمال (9/ 151 - 159) والسير (4/ 557 - 561) والبداية والنهاية (9/ 315) وتذكرة الحفاظ (1/ 118) والوافي بالوفيات (14/ 103) وشذرات الذهب (1/ 145) ومشاهير علماء الأمصار (117).(2/119)
قد أقبل فقال: أجيبوا أمير المؤمنين، فأتينا باب هشام، فأذن لرجاء من بيننا فلما دخل عليه، قال: هيه يا رجاء يذكر أمير المؤمنين فلا تحتج له؟ قال: فقلت: وما ذاك يا أمير المؤمنين؟ قال: ذكرتم شكر النعم فقلتم: ما أحد يقوم بشكر نعمة، قيل لكم: ولا أمير المؤمنين، فقلتم: أمير المؤمنين رجل من الناس، فقلت: لم يكن ذلك، قال: آلله؟ قلت: آلله. قال رجاء: فأمر بذلك الساعي فضرب سبعين سوطا، وخرجت وهو متلوث في دمه، فقال: هذا وأنت ابن حيوة.
قلت: سبعون سوطا في ظهرك خير من دم مؤمن، قال ابن جابر: فكان رجاء بن حيوة بعد ذلك إذا جلس في مجلس التفت فقال: احذروا صاحب الكساء. توفي سنة اثنتي عشرة ومائة.
موقفه من المبتدعة:
أخرج ابن عساكر في ترجمة عبد الرحمن بن سليمان عن هارون بن معروف حدثنا ضمرة حدثنا رجاء بن جميل قال: شهدت رجاء بن حيوة في جنازة عبد الرحمن بن سليمان بن عبد الملك فسمع رجلا يقول: استغفروا له غفر الله لكم فقال رجاء: اسكت دق الله عنقك. (1)
موقفه من القدرية:
جاء في أصول الاعتقاد بالسند إلى ابن أبى السائب عن رجاء بن حيوة أنه كتب إلى هشام بن عبد الملك أمير المؤمنين: بلغني أنه دخلك من قبل غيلان وصالح، فأقسم بالله لقتلهما أفضل من قتل ألفين من الترك والديلم. (2)
_________
(1) ابن عساكر (34/ 401) والباعث (ص.273 - 274).
(2) أصول الاعتقاد (4/ 792 - 793/ 1327) والإبانة (2/ 10/239/ 1850) والشريعة (1/ 439/557).(2/120)
" التعليق:
الله أكبر ما أعظم هذا، انظر رحمك الله كيف عرف السلف خطر البدع على الأمة الإسلامية، فيجعلون قتل رجل منهم يعادل قتل ألفين من الكفرة، فكيف لو عاشوا إلى هذا الزمن الذي صارت فيه الكلمة للمبتدعة وصار العالم الإسلامي لا يعرف إلا البدع، -إلا من رحم ربك- وأنها هي الإسلام، وأن من قال بخلافها يعتبر خارجيا أو متطرفا أو متنطعا أو وهابيا إلى غير ذلك من الألقاب التي اخترعها المبتدعة وأعوانهم، والله المستعان.
- وجاء في السنة لعبد الله بن الإمام أحمد: عن إبراهيم بن أبي عبلة قال: وقف رجاء بن حيوة على مكحول وأنا معه فقال: يا مكحول بلغني أنك تكلمت في شيء من القدر ووالله لو أعلم ذلك لكنت صاحبك من بين الناس. فقال مكحول: لا والله أصلحك الله ما ذلك من شاني ولا من قولي أو نحو ذلك قال ليث وكان مكحول يعجبه كلام غيلان فكان إذا ذكره قال: كل كليلة، يريد قل قليلة وكانت فيه لكنة يعني مكحولا. (1)
معاوية بن قرة (2) (113 هـ)
معاوية بن قُرَّة بن إياس المزني البصري أبو إياس. قال: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس فيهم إلا من طَعَنَ أو طُعِنَ أو ضَرَبَ أو ضُرِب مع
_________
(1) السنة لعبد الله (135).
(2) طبقات ابن سعد (7/ 221) والجرح والتعديل (8/ 378 - 379) ومشاهير علماء الأمصار (92) وسير أعلام النبلاء (5/ 153 - 155) وتهذيب الكمال (28/ 210 - 217) وشذرات الذهب (1/ 147) والتقريب (2/ 197).(2/121)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. روى عن أبيه وابن عمر وابن عباس وأبي هريرة وعلي ومعقل وغيرهم. وروى عنه ابنه إياس ومنصور بن زاذان وثابت البناني وخالد الحذاء وغيرهم. سئل معاوية كيف ابنك لك؟ قال: نعم الابن كفاني أمر دنياي وفرغني لآخرتي. قال ابن حبان: كان من عقلاء الناس. وقال ابن حجر: ثقة عالم.
من أقواله: بكاء العمل أحب إلي من بكاء العين. لا تجالس بعلمك السفهاء ولا تجالس بسفهك العلماء. لأن لا يكون فيَّ نفاق أحب إلي من الدنيا وما فيها كان عمر يخشاه وآمنه أنا؟
توفي سنة ثلاث عشرة ومائة وهو ابن ست وسبعين سنة.
موقفه من المبتدعة:
جاء عنه رضي الله عنه أنه قال: إياكم وهذه الخصومات فإنها تحبط الأعمال. (1)
موقفه من الرافضة:
عن مبارك بن فضالة قال: سمعت معاوية بن قرة يقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - استخلف أبا بكر. (2)
موقفه من الخوارج:
جاء في السنة لعبد الله عنه قال: هلكت الخوارج والأهواء. (3)
_________
(1) أصول الاعتقاد (1/ 145 - 146/ 221) وذم الكلام (ص.194) والسنة لعبد الله (ص.24) والشريعة (1/ 188 - 189/ 121) والإبانة (2/ 3/522/ 621).
(2) أصول الاعتقاد (7/ 1369/2446).
(3) السنة لعبد الله (273).(2/122)
موقفه من المرجئة:
وجاء في كتاب الإيمان لابن أبي شيبة: عن معاوية بن قرة قال: كان أبو الدرداء يقول: (اللهم إني أسألك إيمانا دائما، وعلما نافعا، وهديا قيما) قال معاوية: فنرى أن من الإيمان إيمانا ليس بدائم، ومن العلم علما لا ينفع، ومن الهدي هديا ليس بقيم. (1)
عبد الله بن عبيد بن عمير (2) (113 هـ)
عبد الله بن عُبَيْد بن عُمَيْر، أبو هاشم. يروي عن: عائشة، وابن عباس، وابن عمر، وحدث عنه: ابن جريج وجرير بن حازم والأوزاعي. قال أبو زرعة وأبو حاتم: ثقة. قال عبد الله بن عبيد: لا تقنعن لنفسك باليسير من الأمر في طاعة الله عز وجل كعمل المهين الدنيء، ولكن اجهد واجتهد فعل الحريص الحفي، وتواضع لله عز وجل دون الضعف فعل الغريب السبي. توفي سنة ثلاث عشرة ومائة.
موقفه من المرجئة:
جاء في أصول الاعتقاد: عن هارون بن إبراهيم (التبريزي) قال: سمعت عبد الله بن عبيد بن عمير يقول: الإيمان قائد والعمل سايق والنفس حرون. فإذا وني قائدها لم يستقم سايقها وإذا وني سايقها لم تستقم لقائدها. الإيمان
_________
(1) كتاب الإيمان لابن أبي شيبة (رقم 106) والمصنف له (6/ 164/30364).
(2) السير (4/ 157) وتهذيب الكمال (15/ 259) وطبقات ابن سعد (5/ 474) والحلية (3/ 354) وتهذيب التهذيب (5/ 308).(2/123)
بالله مع العمل والعمل مع الإيمان ولا يصلح هذا إلا مع هذا حتى يقدمان على الخير إن شاء الله. (1)
وهب بن منبه (2) (114 هـ)
وَهْب بن مُنَبِّه بن كَامِل بن سِيج بن ذي كِبَار، وهو الأسوار اليماني الصنعاني الذِّماري، أبو عبد الله الأَبْنَاوِي أخو همام بن منبه، ومعقل بن منبه وغيلان بن منبه. مولده في زمن عثمان سنة أربع وثلاثين، ورحل وحج. روى عن أنس بن مالك وابن عباس وجابر بن عبد الله وعبد الله بن عمر وغيرهم. وروى عنه ولداه: عبد الله وعبد الرحمن، وابن ابنته إدريس بن سنان والد عبد المنعم بن إدريس وسماك بن الفضل، وعوف الأعرابي وغيرهم. قال العجلي: وهب تابعي ثقة، كان على قضاء صنعاء.
قال وهب بن منبه لعطاء الخراساني: كان العلماء قبلنا قد استغنوا بعلمهم عن دنيا غيرهم، فكانوا لا يلتفتون إلى دنياهم، وكان أهل الدنيا يبذلون دنياهم في علمهم، فأصبح أهل العلم منا اليوم يبذلون لأهل الدنيا علمهم رغبة في دنياهم، وأصبح أهل الدنيا قد زهدوا في علمهم لما رأوا من سوء موضعه عندهم. توفي رحمه الله سنة أربع عشرة ومائة.
_________
(1) أصول الاعتقاد (4/ 928 - 929/ 1579).
(2) طبقات ابن سعد (5/ 543) والجرح والتعديل (9/ 24) وسير أعلام النبلاء (4/ 544 - 557) وحلية الأولياء (4/ 23 - 81) وتهذيب الكمال (31/ 140 - 162) وتذكرة الحفاظ (1/ 100 - 101) والبداية والنهاية (9/ 288 - 313) ووفيات الأعيان (6/ 35 - 36) ومشاهير علماء الأمصار (121 - 123).(2/124)
موقفه من المبتدعة:
- قال الذهبي: وعنه قال: احفظوا عني ثلاثا: إياكم وهوى متبعا، وقرين سوء، وإعجاب المرء بنفسه. (1)
- وعن وهب بن منبه قال: الفقيه العفيف الزاهد المتمسك بالسنة أولئك أتباع الأنبياء في كل زمان. (2)
- عن عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهبا يقول: دع المراء والجدال عن أمرك، فإنك لا تعجز أحد رجلين: رجل هو أعلم منك، فكيف تماري وتجادل من هو أعلم منك؟ ورجل أنت أعلم منه، فكيف تماري وتجادل من أنت أعلم منه، ولا يطيعك، فاقطع ذلك عليك. (3)
موقفه من الجهمية:
- جاء في تاريخ ابن عساكر عن معمر عن سماك بن الفضل قال: كنت عند عروة بن محمد وإلى جنبه وهب بن منبه، فجاء قوم فشكوا عاملهم، وذكروا منه شيئا قبيحا، فتناول وهب عصى كانت في يد عروة، فضرب بها رأس العامل حتى سال دمه، فضحك عروة واستلقى على قفاه، وقال: يعيب علينا أبو عبد الله الغضب، وهو يغضب. فقال وهب: وما لي لا أغضب وقد غضب الذي خلق الأحلام، إن الله يقول: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} (4)
_________
(1) السير (4/ 549).
(2) الشريعة (1/ 111/3) والإبانة (1/ 1/201/ 38).
(3) الشريعة (1/ 195/137) والإبانة (2/ 3/526/ 638) وانظر السير (4/ 549).
(4) الزخرف الآية (55).(2/125)
يقول: أغضبونا. (1)
" التعليق:
وهذا النص صريح في إثبات صفة الغضب فلا أدري ماذا يقول المؤولة والمفوضة في هذا وأمثاله هل هذا تفويض أو تشبيه أو إثبات للصفة على الوجه الذي يليق بجلاله وعظمته.
- وجاء في سير أعلام النبلاء في ترجمة الجعد بن درهم قال المدائني: كان زنديقا وقد قال له وهب: إني لأظنك من الهالكين لو لم يخبرنا الله أن له يدا وأن له عينا ما قلنا ذلك، ثم لم يلبث الجعد أن صلب. (2)
" التعليق:
جاء في هامش السير (3) اعتراض من المعلق على ابن كثير في ذكره سند الجعد في ضلاله، ثم ذكر رأي بعض المتأخرين في أن الجعد قتل في أمر سياسي، وأن بني أمية ما كانوا يعتنون بأمر العقيدة، والواقع أن هذا الكلام لا يصدر إلا عمن لا علم له ولا خبرة بعصر بني أمية الذي كان مكتظا بعلماء التابعين والصحابة، وظهرت رؤوس البدع، وتصدى السلف لها، ومن بينهم خلفاء بني أمية وما نحن ببعيدين عن مناظرة عمر بن عبد العزيز الخوارج وغيرهم.
_________
(1) تاريخ ابن عساكر (63/ 379) والسير (4/ 547 - 548).
(2) السير (5/ 433) والبداية (9/ 365).
(3) (5/ 433).(2/126)
موقفه من الخوارج:
جاء في السير: علي بن المديني: حدثنا هشام بن يوسف، أخبرني داود ابن قيس، قال: كان لي صديق يقال له أبو شمر ذو خولان، فخرجت من صنعاء أريد قريته، فلما دنوت منها وجدت كتابا مختوما إلى أبي شمر، فجئته فوجدته مهموما حزينا، فسألته عن ذلك فقال: قدم رسول من صنعاء، فذكر أن أصدقاء لي كتبوا لي كتابا فضيعه الرسول، قلت: فهذا الكتاب، فقال: الحمد لله، ففضه فقرأه، فقلت: أقرئنيه، فقال: إني لأستحدث سنك، قلت: فما فيه؟ قال: ضرب الرقاب قلت: لعله كتبه إليك ناس حرورية في زكاة مالك، قال: من أين تعرفهم؟ قلت: إني وأصحابا لي نجالس وهب بن منبه، فيقول لنا: احذروا أيها الأحداث الأغمار هؤلاء الحروراء لا يدخلونكم في رأيهم المخالف، فإنهم عرة (1) لهذه الأمة، فدفع إلي الكتاب فقرأته فإذا فيه: سلام عليك، فإنا نحمد إليك الله، ونوصيك بتقواه، فإن دين الله رشد وهدى، وإن دين الله طاعة الله ومخالفة من خالف سنة نبيه، فإذا جاءك كتابنا، فانظر أن تؤدي -إن شاء الله- ما افترض الله عليك من حقه، تستحق بذلك ولاية الله، وولاية أوليائه والسلام.
قلت له: فإني أنهاك عنهم، قال: فكيف أتبع قولك وأترك قول من هو أقدم منك؟ قلت: فتحب أن أدخلك على وهب حتى تسمع قوله؟ قال: نعم. فنزلنا إلى صنعاء، فأدخلته على وهب -ومسعود بن عوف وَالٍ على اليمن
_________
(1) العرة: عذرة الناس، فلان عرة أهله أي شرهم.(2/127)
من قبل عروة بن محمد- فوجدنا عند وهب- نفرا، فقال لي بعض النفر: من هذا الشيخ؟ قلت: له حاجة، فقام القوم، فقال وهب: ما حاجتك يا ذا خولان؟ فهرج (1) وجبن، فقال لي وهب: عبر عنه، قلت: إنه من أهل القرآن والصلاح، والله أعلم بسريرته، فأخبرني أنه عرض له نفر من أهل حروراء فقالوا له: زكاتك التي تؤديها إلى الأمراء لا تجزئ عنك، لأنهم لا يضعونها في مواضعها فأدها إلينا، ورأيت يا أبا عبد الله أن كلامك أشفى له من كلامي، فقال: يا ذا خولان، أتريد أن تكون بعد الكبر حروريا تشهد على من هو خير منك بالضلالة؟ فماذا أنت قائل لله غدا حين يقفك الله؟ ومن شهدت عليه، فالله يشهد له بالإيمان، وأنت تشهد عليه بالكفر، والله يشهد له بالهدى، وأنت تشهد عليه بالضلالة، فأين تقع إذا خالف رأيك أمر الله، وشهادتك شهادة الله؟ أخبرني يا ذا خولان، ماذا يقولون لك؟ فتكلم عند ذلك وقال لوهب: إنهم يأمرونني أن لا أتصدق إلا على من يرى رأيهم ولا أستغفر إلا له، فقال: صدقت، هذه محنتهم الكاذبة، فأما قولهم في الصدقة، فإنه قد بلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر أن امرأة من أهل اليمن دخلت النار في هرة ربطتها (2)، أفإنسان ممن يعبد الله يوحده ولا يشرك به أحب إلى الله أن يطعمه من جوع، أو هرة؟ والله يقول: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} (3) الآيات.
_________
(1) هرج في الحديث خلط فيه.
(2) أخرجه البخاري (6/ 438/3318) ومسلم (4/ 1760/2242) عن عبد الله بن عمر، وفي الباب عن أبي هريرة.
(3) الإنسان الآية (8).(2/128)
وأما قولهم لا يستغفر إلا لمن يرى رأيهم، أهم خير أم الملائكة، والله يقول: {ويستغفرون لمن في الأرض} (1) فوالله ما فعلت الملائكة ذلك حتى أمروا به: {لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون} (2) وجاء ميسرا: {ويستغفرون للذين ءامنوا}. (3)
يا ذا خولان إني قد أدركت صدر الإسلام، فوالله ما كانت الخوارج جماعة قط إلا فرقها الله على شر حالاتهم، وما أظهر أحد منهم قوله إلا ضرب الله عنقه، ولو مكن الله لهم من رأيهم لفسدت الأرض، وقطعت السبل والحج، ولعاد أمر الإسلام جاهلية، وإذا لقام جماعة، كل منهم يدعو إلى نفسه الخلافة، مع كل واحد منهم أكثر من عشرة آلاف، يقاتل بعضهم بعضا ويشهد بعضهم على بعض بالكفر، حتى يصبح المؤمن خائفا على نفسه ودينه ودمه وأهله وماله، لا يدري مع من يكون، قال تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} (4) وقال: {إنا لننصر رسلنا والذين آَمَنُوا} (5) فلو كانوا مؤمنين لنصروا، وقال: {وَإِنَّ جندنا _________
(1) الشورى الآية (5).
(2) الأنبياء الآية (27).
(3) غافر الآية (7).
(4) البقرة الآية (251).
(5) غافر الآية (51).(2/129)
لَهُمُ الْغَالِبُونَ} (1) ألا يسعك يا ذا خولان من أهل القبلة ما وسع نوحا من عبدة الأصنام، إذ قال له قومه: {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأرذلون} (2) إلى أن قال: فقال ذو خولان: فما تأمرني؟ قال: انظر زكاتك فأدها إلى من ولاه الله أمر هذه الأمة، وجمعهم عليه، فإن الملك من الله وحده وبيده، يؤتيه من يشاء، فإذا أديتها إلى والي الأمر برئت منها، وإن كان فضل فصل به أرحامك ومواليك وجيرانك والضيف، فقال: اشهد أني نزلت عن رأي الحرورية. (3)
موقفه من المرجئة:
عن سفيان الثوري عن عبد العزيز بن رفيع: عن وهب بن منبه قال: الإيمان عريان ولباسه التقوى ورأس ماله الفقه وزينته الحياء. (4)
موقفه من القدرية:
- جاء في السير: عن عمرو بن دينار، قال: دخلت على وهب داره بصنعاء، فأطعمني من جوزة في داره، فقلت له: وددت أنك لم تكن كتبت في القدر كتابا، فقال: وأنا والله.
قال أحمد: اتهم بشيء منه ورجع. وقال العجلي: رجع. (5)
_________
(1) الصافات الآية (173).
(2) الشعراء الآية (111).
(3) سير أعلام النبلاء (4/ 553 - 555).
(4) أصول الاعتقاد (4/ 926/1571).
(5) السير (4/ 548).(2/130)
- وروى ابن بطة بسنده عن يزيد الخراساني قال: بينا أنا ومكحول إذ قال: يا وهب بن منبه. أي شيء بلغني عنك في القدر؟ قال: عني؟ قال: نعم، فقال: والذي كرم محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالنبوة؛ لقد اقترأت من الله عز وجل اثنين وسبعين كتابا، منه ما يسر ومنه ما يعلن، ما منه كتاب إلا وجدت فيه: من أضاف إلى نفسه شيئا من قدر الله؛ فهو كافر بالله، فقال مكحول: الله أكبر. (1)
محمد بن علي بن الحسين أبو جعفر الباقر (2) (114 هـ)
محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أبو جعفر الباقر، القرشي الهاشمي المدني ولد زين العابدين. روى عن ابن عمر وأنس وجابر وأبيه زين العابدين ومحمد بن الحنفية وطائفة. وروى عنه ابنه جعفر بن محمد الصادق، والزهري، وربيعة بن أبي عبد الرحمن وغيرهم. قال عنه الذهبي: كان أحد من جمع بين العلم والعمل والسؤدد، والشرف، والثقة، والرزانة، وكان أهلا للخلافة، وهو أحد الأئمة الاثني عشر الذين تبجلهم الشيعة الإمامية وتقول بعصمتهم وبمعرفتهم بجميع الدين، فلا عصمة إلا للملائكة والنبيين، وكل أحد يصيب ويخطئ ويؤخذ من قوله ويترك سوى النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه معصوم مؤيد بالوحي. وقال أيضا: وشهر أبو جعفر بالباقر، من بقر العلم، أي شقه
_________
(1) الإبانة (2/ 10/213 - 214/ 1772).
(2) طبقات ابن سعد (5/ 320 - 324) والجرح والتعديل (8/ 36) ومشاهير علماء الأمصار (62) وسير أعلام النبلاء (4/ 401 - 409) وحلية الأولياء (3/ 180 - 192) والبداية والنهاية (9/ 321 - 324) والوافي بالوفيات (4/ 102 - 103) وشذرات الذهب (1/ 149).(2/131)
فعرف أصله وخفيه. ولقد كان أبو جعفر إماما مجتهدا، تاليا لكتاب الله، كبير الشأن. ولكن لا يبلغ في القرآن درجة ابن كثير ونحوه، ولا في الفقه درجة أبي الزناد، وربيعة ولا في الحفظ ومعرفة السنن درجة قتادة وابن شهاب، فلا نحابيه ولا نحيف عليه، ونحبه في الله لما تجمع فيه من صفات الكمال. توفي سنة أربع عشرة ومائة.
موقفه من المبتدعة:
روى الدارمي بسنده إلى محمد بن علي قال: لا تجالس أصحاب الخصومات فإنهم يخوضون في آيات الله. (1)
موقفه من الرافضة:
- جاء في السير: عن بسام الصيرفي، قال: سألت أبا جعفر عن أبي بكر وعمر، فقال: والله إني لأتولاهما وأستغفر لهما، وما أدركت أحدا من أهل بيتي إلا وهو يتولاهما. (2)
- وفيها عن سالم بن أبي حفصة وكان يترفض، قال: دخلت على أبي جعفر وهو مريض فقال -وأظن قال ذلك من أجلي: اللهم إني أتولى وأحب أبا بكر وعمر، اللهم إن كان في نفسي غير هذا، فلا نالتني شفاعة محمد يوم القيامة - صلى الله عليه وسلم -. (3)
- وفيها عن الأعمش، عنه قال: يزعمون أني المهدي، وإني إلى أجلي
_________
(1) سنن الدارمي (1/ 71و110).
(2) السير (4/ 403).
(3) السير (7/ 406).(2/132)
أدنى مني إلى ما يدعون. (1)
- وفيها عن عروة بن عبد الله، قال: سألت أبا جعفر محمد بن علي عن حلية السيوف، فقال: لا بأس به، قد حلى أبو بكر الصديق سيفه. قلت: وتقول الصديق؟ فوثب وثبة واستقبل القبلة ثم قال: نعم الصديق، نعم الصديق، فمن لم يقل الصديق، فلا صدق الله له قولا في الدنيا والآخرة. (2)
- وفي الشريعة: عن حكيم بن جبير قال: كنت في مجلس فيه رهط من الشيعة فعاب بعضهم أبا بكر وعمر رضي الله عنهما فقلت: على من يقول هذا لعنة الله فقال رجل من القوم: من أبي جعفر أخذناه؛ قال: فلقيت أبا جعفر فقلت: ما تقول في أبي بكر وعمر؟ قال: وما يقول الناس فيهما؟. فقلت: يقلونهما. فقال: إنما يقول ذلك فيهما المراق، تولهما مثل ما تتولى به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه. (3)
- وفيها: عن جابر عن أبي جعفر قال: قلت له: هل كان فيكم أهل البيت أحد يسب أبا بكر وعمر رضي الله عنهما فقال: لا، فتولهما واستغفر لهما وأحبهما، قلت: هل كان فيكم أحد يؤمن بالرجعة؛ قال: لا. (4)
- وفي أصول الاعتقاد عن سالم بن أبي حفصة سألت أبا جعفر محمد ابن علي وجعفرا عن أبي بكر وعمر فقالا: تولهما وابرأ من عدوهما فإنهما
_________
(1) السير (4/ 407).
(2) السير (4/ 408).
(3) الشريعة (3/ 459/1919).
(4) الشريعة (3/ 561/2073).(2/133)
كانا إمامي هدى. (1)
- وفيه عن كثير النواء قال: قلت لأبي جعفر محمد بن علي: جعلني الله فداك أرأيت أبا بكر وعمر هل ظلماكم من حقكم من شيء أو ذهبا به. قال: لا والذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ما ظلمانا من حقنا شيئا قال: قلت: جعلني الله فداك فأتولاهما؟ قال: ويحك تولهما لعن الله مغيرة وبيان فإنهما كذبا علينا أهل البيت. (2)
- وفيه عن جابر قال: قلت لأبي جعفر جعلت فداك هل كان أحد منكم تبرأ من أبي بكر وعمر، وفي حديث ابن الأصبهاني: يسب أبا بكر وعمر قال: لا، ثم قال: أحبهما واستغفر لهما وتولهما. (3)
- وفيه عن يونس بن بكير، عن أبي جعفر يعني محمد بن علي بن الحسن قال: من جهل فضل أبي بكر وعمر فقد جهل السنة. (4)
- وفيه عن عبد الله بن قشير قال: لقيت أبا جعفر محمد بن علي يشهد أن أبا بكر الصديق وعمر الفاروق رضوان الله عليهما والرافضة تنكر ذلك. (5)
- وفيه عن مغيرة قال: كان أبو جعفر يقول: اللهم إنك تعلم أني لست لهم بإمام. (6)
_________
(1) أصول الاعتقاد (7/ 1326/2358) والسير (4/ 402).
(2) أصول الاعتقاد (7/ 1378 - 1379/ 2462).
(3) أصول الاعتقاد (7/ 1379/2463).
(4) أصول الاعتقاد (7/ 1312/2324) والشريعة (3/ 417/1863).
(5) أصول الاعتقاد (8/ 1481 - 1482/ 2685).
(6) أصول الاعتقاد (8/ 1543/2805).(2/134)
موقفه من الجهمية:
- جاء في السير: عن بسام الصيرفي، قال: سألت أبا جعفر محمد بن علي عن القرآن فقال: كلام الله غير مخلوق. (1)
- وعن جعفر بن محمد عن أبيه أنه سأله: إن قوما يقولون القرآن مخلوق. فقال: ليس بخالق ولا مخلوق ولكنه كلام الله. (2)
موقفه من المرجئة:
- قال أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين: ما ليل بليل ولا نهار بنهار أشبه من المرجئة باليهود. (3)
- وعن الفضيل بن يسار قال: سئل أبو جعفر محمد بن علي عن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن" (4) فقال: هذا الإسلام ودور دائرة عظيمة ثم دور دائرة في جوفها أصغر منها، ثم قال: هذا الإيمان مقصور في الإسلام، فإذا هو زنا أو سرق خرج من الإيمان إلى الإسلام، فإذا تاب رجع إلى الإيمان، ولا يخرجه من الإسلام إلا الكفر بالله. (5)
موقفه من القدرية:
_________
(1) السير (4/ 408).
(2) أصول الاعتقاد (2/ 264/390) والإبانة (2/ 12/6/ 182).
(3) أصول الاعتقاد (5/ 1063 - 1064/ 1815).
(4) تقدم تخريجه في مواقف الحسن البصري سنة (110هـ).
(5) أصول الاعتقاد (5/ 1092/1877) والإبانة (2/ 854/1154) والشريعة (1/ 264/248) والسنة لعبد الله (97و102) والبزار كما في المجمع (1/ 101 - 102).(2/135)
- جاء في أصول الاعتقاد عن الحارث بن سريج البزاز: قلت لمحمد بن علي: إن لنا إماما يقول في القدر، فقال: يا ابن الفارسي، انظر كل صلاة صليتها خلفه أعدها- إخوان اليهود والنصارى قاتلهم الله أنى يؤفكون. (1)
" التعليق:
الله أكبر! انظر بغض السلفي للمبتدعة إلى أي حد وصل، فإذا كانت الصلاة لا تجوز وراءهم، فماذا بقي لهم من الخير؟ والواقع أن البدع والمبتدعة ليس فيهم خير، فكلهم شر نسأل الله المعافاة.
- وروى الآجري وابن بطة بسنديهما عن حرب بن شريح أبي سفيان البزار قال: سألت أبا جعفر محمد بن علي فقال: أشامي أنت؟ فقالوا له: إنه مولاك، فقال: مرحبا، وألقى لي وسادة من أدم، قال: قلت: إن منهم من يقول لا قدر، ومنهم من يقول قدر الخير، وما قدر الشر. ومنهم من يقول ليس شيء كائنا ولا شيء كان إلا جرى به القلم، فقال: بلغني أن قبلكم أئمة يضلون الناس مقالتهم، المقالتان الأوليان، فمن رأيتهم منهم إماما يصلي بالناس؛ فلا تصلوا وراءه، ثم سكت هنيهة؛ فقال: من مات منهم؛ فلا تصلوا عليه، وإنهم إخوان اليهود، قلت: قد صليت خلفهم؛ قال: من صلى خلف أولئك؛ فليعد الصلاة. (2)
_________
(1) أصول الاعتقاد (4/ 807/1348).
(2) الإبانة (2/ 10/228/ 1824) والشريعة (1/ 432/536).(2/136)
عطاء بن أبي رَبَاح (1) (115 هـ)
عطاء بن أبي رباح واسمه أسلم القرشي الفهري، أبو محمد المكي مولى آل أبي خثيم ويقال مولى بني جمح. كان من مولدي الجند ونشأ بمكة، ولد في أثناء خلافة عمر. روى عن عائشة وأم سلمة وأبي هريرة وابن عباس وجماعة. روى عنه: أبان ابن صالح ومجاهد بن جبر وأبو إسحاق السبيعي وغيرهم. قال أبو عاصم الثقفي: سمعت أبا جعفر الباقر يقول للناس -وقد اجتمعوا عليه-: عليكم بعطاء، هو والله خير لكم مني. قال الأصمعي: دخل عطاء بن أبي رباح على عبد الملك بن مروان وهو جالس على سريره وحوله الأشراف من كل بطن وذلك بمكة في وقت حجه في خلافته فلما بصر به قام إليه فسلم عليه، وأجلسه معه على السرير وقعد بين يديه، وقال له: يا أبا محمد حاجتك؟ فقال: يا أمير المؤمنين اتق الله في حرم الله وحرم رسوله فتعاهده بالعمارة، واتق الله في أولاد المهاجرين والأنصار فإنك بهم جلست هذا المجلس، واتق الله في أهل الثغور فإنه حصن المسلمين، وتفقد أمور المسلمين فإنك وحدك المسؤول عنهم، واتق الله فيمن على بابك فلا تغفل عنهم ولا تغلق دونهم بابك، فقال له أفعل، ثم نهض وقام وقبض عليه عبد الملك، فقال: يا أبا محمد إنما سألتنا حوائج غيرك، وقد قضيناها فما حاجتك؟ فقال: مالي إلى مخلوق حاجة، ثم خرج، فقال عبد الملك: هذا
_________
(1) طبقات ابن سعد (5/ 467 - 470) والجرح والتعديل (6/ 330 - 331) ووفيات الأعيان (3/ 261 - 263) وتهذيب الكمال (20/ 69 - 85) وسير أعلام النبلاء (5/ 78 - 88) والمعرفة والتاريخ (1/ 700 - 703) والبداية والنهاية (9/ 317 - 321) ومشاهير علماء الأمصار (81) والعقد الثمين (6/ 84 - 93) وتاريخ خليفة (346) وشذرات الذهب (1/ 147 - 148).(2/137)
وأبيك الشرف، هذا وأبيك السؤدد. توفي رحمه الله سنة خمس عشرة أو أربع عشرة ومائة.
موقفه من المبتدعة:
- جاء في سنن الدارمي بالسند إليه قال: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (1) قال: أولوا العلم والفقه، وطاعة الرسول اتباع الكتاب والسنة. (2)
- وجاء أيضا في سنن الدارمي بالسند إلىعبد العزيز بن رفيع قال: سئل عطاء عن شيء قال: لا أدري قال: قيل له: ألا تقول فيه برأيك؟ قال: إني أستحيي من الله أن يدان في الأرض برأيي. (3)
- وجاء في ذم الكلام: عنه في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دينهم وَكَانُوا شيعًا} (4). قال هم أصحاب الخصومات والمراء في دين الله. (5)
- عن عطاء في قول الله عز وجل: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (6). قال: (إلى الله) إلى كتابه، وإلى الرسول إلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (7)
_________
(1) النساء الآية (59).
(2) الدارمي (1/ 72) وأصول الاعتقاد (1/ 80/75) والطبري (5/ 149).
(3) الدارمي (1/ 47) وذم الكلام (ص.104) والإبانة (2/ 3/423/ 347).
(4) الأنعام الآية (159).
(5) ذم الكلام (ص.192).
(6) النساء الآية (59).
(7) الإبانة (1/ 1/252/ 86) والشريعة (1/ 182/112).(2/138)
- عن عطاء قال: الساقط يوالي من شاء. (1)
- عن ابن جريج عن عطاء قال: ليس الدين الرأي ولكنه السمع. (2)
- عن عطاء بن أبي رباح أنه قال لجلسائه في أصحاب الأهواء: إذا رأيتم منهم أحدا قد جلس إلينا فأعلموني بأمارة أجعلها بينهم، فإذا جلس إليهم منهم أحد فأعلموا أخذ نعليه ثم قام. (3)
موقفه من الخوارج:
- جاء في البداية والنهاية: وقال سعيد بن سلام البصري: سمعت أبا حنيفة النعمان يقول: لقيت عطاء بمكة، فسألته عن شيء فقال: من أين أنت؟ فقلت: من أهل الكوفة. قال: أنت من أهل القرية الذين فارقوا دينهم وكانوا شيعا؟ قلت: نعم قال: فمن أي الأصناف أنت؟ قلت: ممن لا يسب السلف ويؤمن بالقدر، ولا يكفر أحدا من أهل القبلة بذنب: فقال عطاء: عرفت فالزم. (4)
- وجاء في أصول الاعتقاد: عن عثمان بن الأسود قال: سمعت عطاء يقول: صَلِّ على كل من وضع على هذا الباب ممن يستقبل قبلتك قال فذكرت له أناسا فقال لهم شيئا فقال: صل على كل من صلى إلى القبلة منهم. (5)
_________
(1) الإبانة (2/ 3/507/ 581).
(2) ذم الكلام (ص.104)
(3) أصول السنة لابن أبي زمنين (ص.302).
(4) البداية والنهاية (9/ 319).
(5) أصول الاعتقاد (7/ 1302/2307).(2/139)
موقفه من المرجئة:
- جاء في الإبانة: عن مبارك بن حسان قال: قلت لسالم الأفطس: رجل أطاع الله فلم يعصه ورجل عصى الله فلم يطعه فصار المطيع إلى الله فأدخله الجنة وصار العاصي إلى الله فأدخله النار، هل يتفاضلان في الإيمان؟ قال: لا، فذكرت ذلك لعطاء، فقال: سلهم الإيمان طيب أو خبيث فإن الله قال: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (1). قال: فسألتهم فلم يجيبوني، فقال سالم: إنما الإيمان منطق ليس معه عمل فذكرت ذلك لعطاء فقال: سبحان الله أما تقرؤون الآية التي في سورة البقرة: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} ثم وصف الله على هذا الاسم العمل فألزمه فقال: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} إلى قوله: {هُمُ الْمُتَّقُونَ} (2) قال: سلهم هل دخل هذا العمل في هذا الاسم؟ فقال: وَمَنْ {ومن أراد الآخرة وسعى
_________
(1) الأنفال الآية (37).
(2) البقرة الآية (177).(2/140)
لَهَا سعيها وَهُوَ مُؤْمِنٌ} (1). فألزم الاسم العمل وألزم العمل الاسم. (2)
- قال معقل بن عبيد العبسي: فحججت فدخلت على عطاء بن أبي رباح في نفر من أصحابي وإذا هو يقرأ سورة يوسف قال: فسمعته يقرأ هذا الحرف: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} (3) مخففة، قال: قلت له: إن لنا حاجة فأدخلنا ففعل، فأخبرته أن قوما قبلنا قد أحدثوا وتكلموا وقالوا: إن الصلاة والزكاة ليستا من الدين، فقال: أو ليس الله عز وجل يقول: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} (4) قال: وقلت: إنهم يقولون: ليس في الإيمان زيادة قال: أو ليس قد قال الله فيما أنزل: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} (5) هذا الإيمان الذي زادهم، قال فقلت: إنهم انتحلوك وبلغني أن ابن درهم دخل عليك في أصحابه فعرضوا عليك قولهم، فقبلته فقلت هذا الأمر، فقال: لا والله الذي لا إله إلا هو مرتين أو ثلاثا. (6)
- وفي أصول الاعتقاد: عن ابن مجاهد قال: كنت عند عطاء بن أبي
_________
(1) الإسراء الآية (19).
(2) الإبانة (2/ 7/897 - 898/ 1251).
(3) يوسف الآية (110).
(4) البينة الآية (5).
(5) الفتح الآية (4).
(6) أصول الاعتقاد (5/ 1024 - 1025/ 1732) والسنة لعبد الله (117 - 119) والسنة للخلال (4/ 29 - 32/ 1105) والإبانة (2/ 808 - 811/ 1101).(2/141)
رباح فجاء ابنه يعقوب فقال: يا أبتاه إن أصحابا لنا يزعمون أن إيمانهم كإيمان جبريل فقال: يا بني ليس إيمان من أطاع الله كإيمان من عصى الله. (1)
الحَكَم بن عُتَيْبَة (2) (115 هـ)
الإمام الكبير عالم أهل الكوفة، أبو محمد الكندي. حدث عن أبي جحيفة السوائي، وشريح القاضي، وإبراهيم النخعي. وعنه: منصور، والأعمش، والأوزاعي، وشعبة. قال أحمد بن حنبل: هو أثبت الناس في إبراهيم، وقال عباس الدوري: كان الحكم صاحب عبادة وفضل. وقال أحمد العجلي: كان صاحب سنة واتباع. وقال الأوزاعي: حججت فلقيت عبدة ابن أبي لبابة، فقال لي: هل لقيت الحكم؟ قلت: لا، قال: فالقه، فما بين لابتيها أفقه منه. توفي رحمه الله سنة خمس عشرة ومائة.
موقفه من المبتدعة:
- عن الحكم بن عتيبة قال: ليس أحد من خلق الله إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي - صلى الله عليه وسلم -. (3)
- عن سفيان عن عمرو بن قيس قال قلت: للحكم -يعني- بن عتيبة: ما اضطر الناس إلى هذه الأهواء أن يدخلوا فيها؟ قال: الخصومات. (4)
_________
(1) أصول الاعتقاد (5/ 1027 - 1028/ 1734) والسنة لعبد الله (98).
(2) السير (5/ 208) وتهذيب الكمال (7/ 114) وتهذيب التهذيب (2/ 432) وطبقات ابن سعد (6/ 331) والوافي بالوفيات (13/ 111) وشذرات الذهب (1/ 151).
(3) جامع بيان العلم وفضله (2/ 925/1761).
(4) أصول الاعتقاد (1/ 145/218) والشريعة (1/ 192/130) والإبانة (2/ 3/500/ 557).(2/142)
موقفه من المرجئة:
قال معقل بن عبيد العبسي: فلقيت الحكم بن عتيبة فقلت له: إن عبد الكريم، وميمون بلغهما أنه دخل عليك ناس من المرجئة فعرضوا عليك قولهم، فقبلت قولهم قال: فَقَبِلَ ذَلِكَ عَلَيَّ ميمون وعبد الكريم؟ فقلت: لا، قال: دخل علي اثنا عشر رجلا وأنا مريض فقالوا: يا أبا محمد أبلغك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتاه رجل بأمة سوداء أو حبشية فقال: يا رسول الله إن علي رقبة مؤمنة أفترى هذه مؤمنة فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أتشهدين أن محمدا رسول الله؟ قالت: نعم، قال: وتشهدين أن الله يبعث من بعد الموت؟ قالت: نعم قال: فأعتقها قال فخرجوا وهم ينتحلوني (1). (2)
مُحَارِب بن دِثَار (3) (116 هـ)
مُحَارِب بن دِثَار بن كُرْدُوس بن قِرْوَاش السدوسي الكوفي الفقيه قاضي الكوفة، وليها لخالد بن عبد الله القسري يكنى أبا مطرف. سمع من ابن عمر وجابر ابن عبد الله، وعبد الله بن يزيد الخطمي، وجماعة. وسمع منه:
_________
(1) رواه مالك في الموطإ (2/ 777) وعبد الرزاق (9/ 175/16814) وأحمد (3/ 451 - 452) والبيهقي (10/ 57) وقال: "هذا مرسل". عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن رجل من الأنصار. قال الهيثمي في المجمع (2/ 244): "رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح". وروى نحوه مسلم في صحيحه (537) من حديث معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه.
(2) أصول الاعتقاد (5/ 1024 - 1025/ 1732) والسنة لعبد الله (117 - 119) والسنة للخلال (4/ 29 - 32/ 1105) والإبانة (2/ 808 - 811/ 1101).
(3) المعرفة والتاريخ (2/ 674 - 680) وطبقات ابن سعد (6/ 307) وتهذيب الكمال (27/ 255 - 258) وميزان الاعتدال (3/ 441) والسير (5/ 217 - 219) وتهذيب التهذيب (10/ 49 - 51) وشذرات الذهب (1/ 152).(2/143)
مسعر وشعبة، والثوري وعدد كثير. كان من ثقات التابعين وأخيارهم وعلمائهم وثقه غير واحد، بل قال الذهبي في الميزان: وهو حجة مطلقا. قال الثوري: ما يخيل إلي أني رأيت أحدا أفضله عليه. قال ابن سعد: كان من المرجئة الأولى الذين يرجئون عليا وعثمان إلى أمر الله، ولا يشهدون عليهما بإيمان ولا بكفر.
توفي رحمه الله سنة ست عشرة ومائة.
موقفه من الرافضة:
- جاء في الشريعة عن مالك بن مغول قال: سمعت محارب بن دثار يقول:
أليس يحزنك أن أمتنا ... قد فرقوا دينهم إذ اشتجروا
بعد نبي الهدى وصاحبه ... الصديق والمرتضى به عمر
ثلاثة برزوا وبسبقهم ... ينصرهم ربهم إذا نشروا
فليس من مسلم له بصر ... ينكر تفضيلهم إذا ذكروا
عاشوا بلا فرقة ثلاثتهم ... واجتمعوا في الممات إذا قبروا (1)
- عن سفيان قال محارب بن دثار: بغض أبي بكر وعمر نفاق. (2)
_________
(1) الشريعة (3/ 453 - 454/ 1911).
(2) السنة للخلال (1/ 290).(2/144)
عون بن عبد الله (1) (116 هـ)
عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، الإمام القدوة العابد الزاهد أبو عبد الله الهذلي الكوفي أخو فقيه المدينة عبيد الله بن عبد الله بن عتبة. روى عن أبيه وأخيه وابن المسيب وابن عباس وعبد الله بن عمرو وطائفة. وروى عنه إسحاق بن يزيد الهذلي ومالك بن مغول وحنظلة بن أبي سفيان وجماعة.
ومن كلامه: قال: لا أحسب الرجل ينظر في عيوب الناس إلا من غفلة قد غفلها عن نفسه. قال الأصمعي: كان من آدب أهل المدينة وأفقههم، كان مرجئا ثم تركه وقال أبياتا في مفارقة الإرجاء. وقيل: خرج مع ابن الأشعث وفر فأمنه محمد بن مروان بالجزيرة وتعلم منه ولده مروان.
توفي رحمه الله سنة ست عشرة ومائة.
موقفه من المبتدعة:
- جاء في أصول الاعتقاد: عنه قال: من مات على الإسلام والسنة فله بشير بكل خير. (2)
- عن عون بن عبد الله: لا تفاتح أصحاب الأهواء في شيء فإنهم يضربون القرآن بعضه ببعض. (3)
_________
(1) طبقات ابن سعد (6/ 313) وحلية الأولياء (4/ 240 - 272) والسير (5/ 103 - 105) والجرح والتعديل (6/ 384 - 385) وتهذيب الكمال (22/ 453 - 460) وشذرات الذهب (1/ 140) وتهذيب التهذيب (8/ 171 - 173).
(2) أصول الاعتقاد (1/ 74 - 75/ 60).
(3) الإبانة (2/ 3/522/ 625).(2/145)
موقفه من الخوارج:
وجاء في السنة لعبد الله: عن عاصم الأحول عن عون بن عبد الله قال بعثني عمر بن عبد العزيز إلى الخوارج أكلمهم. فقلت لهم: هل تدرون ما علامتكم في وليكم التي إذا لقيكم بها أمن بها عندكم وكان بها وليكم. وما علامتكم في عدوكم التي إذا لقيكم بها خاف عندكم وكان بها عدوكم؟ قالوا ما ندري ما تقول؟ قلت: فإن علامتكم عند وليكم التي إذا لقيكم بها أمن بها عندكم وكان بها وليكم أن يقول أنا نصراني أو يهودي أو مجوسي. وعلامتكم عند عدوكم التي إذا لقيكم بها خاف بها عندكم وكان بها عدوكم أن يقول أنا مسلم. (1)
موقفه من المرجئة والخوارج:
عن أبي نوفل الهذلي عن أبيه قال: كان عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود من آدب أهل المدينة وأفقههم وكان مرجئا ثم رجع فأنشد يقول:
لأول ما نفارق غير شك ... نفارق ما يقول المرجئونا
وقالوا مؤمن من أهل جور ... وليس المؤمنون بجائرينا
وقالوا مؤمن دمه حلال ... وقد حرمت دماء المؤمنينا (2)
موقفه من القدرية:
جاء في الإبانة عنه قال: لا تجالسوا أهل القدر ولا تخاصموهم فإنهم
_________
(1) السنة لعبد الله (275).
(2) أصول الاعتقاد (5/ 1077/1850) والإبانة (2/ 7/906/ 1273).(2/146)
يضربون القرآن بعضه ببعض. (1)
مكحول (2) (116 هـ)
مَكْحُول الشامي، أبو عبد الله، ويقال: أبو أيوب، ويقال: أبو مسلم والمحفوظ أبو عبد الله الدمشقي الفقيه. أرسل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث، وأرسل عن عدة من الصحابة لم يدركهم كأبي بن كعب وثوبان وعبادة بن الصامت وأبي هريرة وجماعة وروى عن طائفة من التابعين لم يلقهم كأبي مسلم الخولاني ومسروق. وحدث عن جماعة لقيهم. وحدث عنه الزهري وربيعة الرأي وأسامة بن زيد الليثي وجماعة. قال أبو حاتم: ما بالشام أحد أفقه من مكحول، وقال سعيد بن عبد العزيز: كان إذا سئل -أي مكحول- يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، هذا رأي والرأي يخطئ ويصيب. وعن تميم بن عطية قال: كثيرا ما كنت أسمع مكحولا يسأل، فيقوم ندانم يعني: لا أدري، وكان أعجميا. قال ابن يونس: ذكر أن مكحولا من أهل مصر، ويقال: كان لرجل من هذيل مصري فأعتقه، فسكن الشام. ويقال: إنه من الفرس من السبي الذين سبوا من فارس ويكنى أبا مسلم، وكان فقيها عالما ورأى أبا أمامة وأنسا وسمع واثلة بن الأسقع. توفي رحمه الله سنة ست عشرة ومائة.
_________
(1) الإبانة (2/ 3/466/ 463).
(2) طبقات ابن سعد (7/ 453 - 454) والجرح والتعديل (8/ 407 - 408) وسير أعلام النبلاء (5/ 155 - 160) وحلية الأولياء (5/ 177 - 193) وتهذيب الكمال (28/ 464 - 474) ووفيات الأعيان (5/ 280 - 283) وتذكرة الحفاظ (1/ 107 - 108) والبداية والنهاية (9/ 317) وشذرات الذهب (1/ 146 - 147).(2/147)
موقفه من المبتدعة:
- عن مكحول قال: السنة سنتان: سنة الأخذ بها فريضة وتركها كفر. وسنة الأخذ بها فضيلة وتركها إلى غير حرج. (1)
" التعليق:
قال ابن بطة: وأنا أشرح لكم طرفا من معنى كلام مكحول يخصكم ويدعوكم إلى طلب السنن التي طلبها، والعمل بها فرض، والترك لها والتهاون بها كفر. فاعلموا رحمكم الله أن السنن التي لزم الخاصة والعامة علمها والبحث والمسألة عنها والعمل بها؛ هي السنن التي وردت تفسيرا لجملة فرض القرآن مما لا يعرف وجه العمل به إلا بلفظ ذي بيان وترجمة. قال الله عز وجل: {وأقيموا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزكاة} (2)، وقال: {وأتموا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (3)، وقال: {كُتِبَ عليكم الصيام كَمَا كُتِبَ على الذين من قَبْلِكُمْ} (4)، وقال: {وجاهدوا في سبيل اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} (5) وقال: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ ورباع} (6)
_________
(1) الشريعة (1/ 182 - 183/ 114) والإبانة (1/ 1/263/ 101).
(2) البقرة الآية (110).
(3) البقرة الآية (196).
(4) البقرة الآية (183).
(5) التوبة الآية (20).
(6) النساء الآية (3).(2/148)
وقال: {وأحل لكم البيع وَحَرَّمَ الرِّبَا} (1).
فليس أحد يجد السبيل إلى العمل بما اشتملت عليه هذه الجمل من فرائض الله عز وجل دون تفسير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتوقيف والتحديد والترتيب. ففرض على الأمة علم السنن التي جاءت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تفسير هذه الجمل من فرائض الكتاب؛ فإنها أحد الأصلين اللذين أكمل الله بهما الدين للمسلمين، وجمع لهم بهما ما يأتون وما يتقون فلذلك صار الأخذ بها فرضا وتركها كفرا.
وأنا أذكر حديثا يحتج به المبطلون للشريعة ويحتال به المموهون وأهل الخديعة ليعرفه إخواننا فيردوه على من احتج به عليهم، وهو حديث رواه رجل جرحه أهل العلم بالحديث وأئمة المحدثين وأسقطوه. حدث بأحاديث بواطيل وأنكرها العلماء عليه، يعرف هذا الرجل بعثمان بن عبد الرحمن الوقاصي.
حدثنا أبو الحسن أحمد بن زكريا بن يحيى بن عبد الرحمن الساجي البصري، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا محمد بن الحارث المخزومي، قال: حدثنا يحيى بن جعدة المخزومي، عن عمر بن حفص، عن عثمان بن عبد الرحمن -يعني الوقاصي- عن سالم، عن أبيه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا عمر! لعل أحدكم متكئ على أريكته ثم يكذبني. ما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله فإن وافقه فأنا قلته وإن لم يوافقه فلم أقله". (2)
_________
(1) البقرة الآية (110).
(2) سيأتي تخريجه ضمن مواقف محمد أمان الجامي سنة (1416هـ).(2/149)
قال ابن الساجي: قال أبي رحمه الله: هذا حديث موضوع عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: وبلغني عن علي بن المديني أنه قال: ليس لهذا الحديث أصل، والزنادقة وضعت هذا الحديث.
قال ابن بطة: وصدق ابن الساجي وابن المديني رحمهما الله، لأن هذا الحديث كتاب الله يخالفه ويكذب قائله وواضعه، والحديث الصحيح والسنة الماضية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترده. قال الله عز وجل: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1).
والذي أمرنا الله عز وجل أن نسمع ونطيع ولا نضرب لمقالته عليه السلام المقاييس، ولا نلتمس لها المخارج، ولا نعارضها بالكتاب ولا بغيره، ولكن نتلقاها بالإيمان والتصديق والتسليم إذا صحت بذلك الرواية.
وأما السنة الواردة عنه - صلى الله عليه وسلم - التي تخالف هذا الحديث الموضوع التي نقلها أهل العدالة والأمانة، فهو ما حدثنا: أبو جعفر محمد بن عبيد الله بن العلا الكاتب، قال: حدثنا علي بن حرب، قال: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن علي. وحدثني أبو صالح محمد بن أحمد بن ثابت قال: حدثنا أبو الأحوص وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود، وهذا لفظه، قالا: حدثنا حفص بن عمر، قال: حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي رضي
_________
(1) النساء الآية (65).(2/150)
الله عنه قال: إذا حدثتكم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثا فظنوا برسول الله أهناه وأتقاه وأهداه. ولم يذكر الأعمش في حديثه أبا عبد الرحمن السلمي.
حدثنا ابن الصواف قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: حدثني أبي قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي عليه السلام قوله: أو نحوه. فالذي ذكرته رحمكم الله في هذا الباب من طاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحضضت عليه من اتباع سنته واقتفاء أثره موافق كله لكتاب الله عز وجل وسنة رسول الله وهو طريق الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين والصحابة والتابعين وعليه كان السلف الصالح من فقهاء المسلمين وهي سبيل المؤمنين التي من اتبع غيرها ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا.
فإذا سمع أحدكم حديثا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رواه العلماء واحتج به الأئمة العقلاء فلا يعارضه برأيه وهوى نفسه فيصيبه ما توعده الله عز وجل به، فإنه قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1).
وهل تدري ما الفتنة ههنا؟ هي والله الشرك بالله العظيم والكفر بعد الإيمان؛ فإن الله عز وجل قال: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} (2).
يقول: حتى لا يكون شرك فإنه قال تعالى: {وَاقْتُلُوهُمْ حيث ثَقِفْتُمُوهُمْ
_________
(1) النور الآية (63).
(2) البقرة الآية (193).(2/151)
وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حيث أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أشد مِنَ الْقَتْلِ} (1).
يقول: الشرك بالله أشد من قتلكم لهم. ثم قال عز وجل: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (2).
أعاذنا الله وإياكم من هذه الأهوال، ووفقنا وإياكم لصالح الأعمال. (3)
- عن مكحول قال: القرآن أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن. (4)
- وروي عن مكحول أنه قال: تفقه الرعاع فساد الدين والدنيا، وتفقه السفلة فساد الدين. (5)
موقفه من الجهمية:
- جاء في الإبانة: عن الأوزاعي قال: سمعت الزهري ومكحولا يقولان: القرآن كلام الله غير مخلوق. (6)
- وروى أبو بكر الخلال في كتاب السنة عن الأوزاعي قال: سئل مكحول والزهري عن تفسير الأحاديث فقالا: أمروها كما جاءت. (7)
_________
(1) البقرة الآية (191).
(2) النساء الآية (115).
(3) الإبانة (1/ 1/264 - 269).
(4) الإبانة (1/ 1/253/ 88) وذم الكلام (75) وجامع بيان العلم وفضله (2/ 1194).
(5) ابن عبد البر في الجامع (1/ 620) وهو عند الطرطوشي في الحوادث والبدع (126) والشاطبي في الاعتصام (2/ 683).
(6) الإبانة (2/ 12/8/ 185).
(7) الفتاوى (5/ 39).(2/152)
موقفه من المرجئة:
عن عبيد الله بن عبيد الكلاعي قال: أخذ بيدي مكحول فقال: يا أبا وهب، كيف تقول في رجل ترك صلاة مكتوبة متعمدا؟ فقلت: مؤمن عاص. فشد بقبضته على يدي، ثم قال: يا أبا وهب ليعظم شأن الإيمان في نفسك، من ترك صلاة مكتوبة متعمدا فقد برئت منه ذمة الله، ومن برئت منه ذمة الله فقد كفر. (1)
موقفه من القدرية:
- جاء في الإبانة: عن مسافر قال: جاء رجل إلى مكحول من إخوانه، فقال: يا أبا عبد الله. ألا أعجبك أني عدت اليوم رجلا من إخوانك، فقال: من هو؟ قال: لا عليك. قال: أسألك، قال: هو غيلان، فقال: إن دعاك غيلان فلا تجبه، وإن مرض فلا تعده، وإن مات فلا تمش في جنازته، ثم حدثهم مكحول عن عبد الله بن عمر، وذكروا عندهم القدرية، فقال: أو قد أظهروه وتكلموا به؟ قال: نعم، فقال ابن عمر: أولئك نصارى هذه الأمة ومجوسها. (2)
- وفيها عن أيوب قال: سمعت مكحولا يقول لغيلان: لا تموت إلا مفتونا. (3)
- وفيها عن إبراهيم بن عبد الله الكناني قال: حلف مكحول لا يجمعه
_________
(1) ابن أبي شيبة في الإيمان (129) وفي المصنف (6/ 171 - 172/ 30438).
(2) الإبانة (2/ 10/216/ 1780).
(3) الإبانة (2/ 10/216/ 1781) والشريعة (1/ 458/595).(2/153)
وغيلان سقف بيت إلا سقف المسجد، وإن كان ليراه في أسطوان من أسطوانات السوق؛ فيخرج منه. (1)
- وفيها عن سعيد بن عبد العزيز قال: قال مكحول: حسيب غيلان الله، لقد ترك هذه الأمة في لجج مثل لجج البحار. (2)
- وفيها عن ثابت بن ثوبان: سمعت مكحولا يقول: ويحك يا غيلان؛ ركبت بهذه الأمة مضمار الحرورية، غير أنك لا تخرج عليهم بالسيف، والله لأنا على هذه الأمة منك أخوف من المزققين أصحاب الخمر. (3)
- وفيها عن إبراهيم بن مروان قال: قال أبي: قلت لسعيد بن عبد العزيز: يا أبا محمد: إن الناس يتهمون مكحولا بالقدر، فقال: كذبوا، لم يك مكحول بقدري. (4)
- وفيها عن الأوزاعي قال: لا نعلم أحدا من أهل العلم نسب إلى هذا الرأي إلا الحسن ومكحولا ولم يثبت ذلك عنهما، قال أبو مسهر: كان سعيد بن عبد العزيز يبرئ مكحولا ويدفعه عن القدر. (5)
_________
(1) الإبانة (2/ 10/217/ 1785).
(2) الإبانة (2/ 11/300/ 1961) والشريعة (1/ 458/594).
(3) الإبانة (2/ 11/300 - 301/ 1962).
(4) الإبانة (2/ 10/218/ 1786).
(5) الإبانة (2/ 10/218/ 1788).(2/154)
نافع مولى ابن عمر (1) (117 هـ)
الإمام المفتي الثبت نافع مولى عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي، أبو عبد الله المدني. قيل إن أصله من المغرب وقيل: من نيسابور وقيل غير ذلك. سمع من ابن عمر وعائشة وأبي هريرة وجماعة من الصحابة، وسمع منه: الزهري وأيوب السختياني وعبيد الله بن عمر وخلق من التابعين. كان من الثقات النبلاء والأئمة الأجلاء، وكان عمر بن عبد العزيز قد بعثه إلى مصر يعلم الناس السنن، كان صغير النفس، وكان في حياة سالم لا يفتي شيئا. قال البخاري: أصح الأسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر. قال الخليلي: نافع من أئمة التابعين بالمدينة، إمام في العلم متفق عليه. وقال ابن حجر: ثقة ثبت فقيه مشهور. مات رحمه الله تعالى سنة سبع عشرة ومائة على الأصح.
موقفه من المرجئة:
عن معقل قال: قدمت المدينة فجلست إلى نافع فقلت له: يا أبا عبد الله إن لي إليك حاجة قال: سرا أم علانية فقلت: لا بل سر قال: دعني من السر سر لا خير فيه فقلت: ليس من ذاك، فلما صلينا العصر قام وأخذ بيدي وخرج من الخوخة ولم ينتظر القاص وقال: حاجتك قال: قلت: اخلني هذا، فقال: تنح قال: فذكرت له قولهم (2) فقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أمرت أن
_________
(1) المعرفة والتاريخ (1/ 645 - 647) وتهذيب الكمال (29/ 298 - 306) وتذكرة الحفاظ (1/ 99 - 100) والسير (5/ 95 - 101) والبداية والنهاية (9/ 332) وشذرات الذهب (1/ 154).
(2) أي المرجئة.(2/155)
أضربهم بالسيف حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوا لا إله إلا الله عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله" (1) قال: قلت: إنهم يقولون: نحن نقر بالصلاة فريضة ولانصلي، وإن الخمر حرام ونحن نشربها، وإن نكاح الأمهات حرام ونحن نريده فنتر يده من يدي وقال: من فعل هذا فهو كافر. (2)
موقفه من القدرية:
- جاء في الإبانة: عن محمد بن يزيد الرحبي قال: قلت لنافع مولى ابن عمر: إن قبلنا قوما يقولون إن الله عز وجل لم يقدر الذنوب على أهلها والناس مخيرون بين الخير والشر، قال: أولئك قوم كفروا بعد إيمانهم. (3)
- روى اللالكائي بسنده: عن عبد المجيد بن أبي رواد عن أبيه قال: كنت عند نافع مولى ابن عمر فجاء رجل يسأل عن شيء فقال له: أنا أفتيك يا قدري. (4)
- وعن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة قال: سمعت نافعا مولى ابن عمر يقول لأمير كان على المدينة: أصلحك الله اضرب أعناقهم- يعني القدرية. قال: وأنا يومئذ قدري حتى رأيت في المنام كأني أخاصم ناسا قال فتلوت آية. فلما أصبحت جاءني أصحابي فقلت يا هؤلاء إني أستغفر الله
_________
(1) هذا الحديث رواه: البخاري (13/ 311/7284و7285) ومسلم (1/ 51 - 52/ 20) وأبو داود (2/ 198/1556) والترمذي (5/ 5 - 6/ 2607) والنسائي (7/ 88/3980) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) أصول الاعتقاد (5/ 1024 - 1025/ 1732) والسنة لعبد الله (117 - 119) والسنة للخلال (4/ 29 - 32/ 1105) والإبانة (2/ 808 - 811/ 1101).
(3) الإبانة (2/ 9/121/ 1547).
(4) أصول الاعتقاد (4/ 714/1169).(2/156)
وأتوب إليه فأخبرتهم بما رأيت فرجع بعضهم وأبى بعض أن يرجع. (1)
- وأخرج ابن بطة: عن ابن وهب قال: أخبرني يحيى بن أيوب عن سليمان بن حميد أنه كان جالسا مع محمد بن كعب القرظي؛ فحدثهم عن امرأة قدمت من المجوس ومعها ابن لها، فأسلمت وحسن إسلامها؛ فكبر ابنها فكذب بالقدر ودعى أمه إلى ذلك، فقالت: يا بني. هذا دين آبائك المجوس؛ أفترجع إلى المجوسية بعد إذ أسلمنا؟ قال: سليمان يعني: ابن حميد: كان نافع مولى ابن عمر قريبا من مجلسه، فسمع حديثه؛ فأقبل على القرظي، فقال: صدقت، والذي نفسي بيده؛ إنه لدين المجوسية. (2)
- وأخرج الآجري في الشريعة: قيل لنافع: إن هذا الرجل يتكلم في القدر؛ قال: فأخذ كفا من حصى فضرب بها وجهه. (3)
قَتَادَة بن دِعَامَة (4) (117 هـ)
أبو الخطاب قَتَادَة بن دِعَامَة السدوسي البصري الضرير الأكمه، كان من أوعية العلم، وممن يضرب به المثل في قوة الحفظ. روى عن عبد الله بن سرجس وأنس بن مالك وسعيد بن المسيب وعامر الشعبي وخلق كثير. روى
_________
(1) أصول الاعتقاد (4/ 783/1312) والسنة لعبد الله (147).
(2) الإبانة (2/ 10/210/ 1761).
(3) الشريعة (1/ 432/535).
(4) طبقات ابن سعد (7/ 229 - 231) والجرح والتعديل (7/ 133 - 135) ووفيات الأعيان (4/ 85 - 86) وتهذيب الكمال (23/ 498 - 517) وتذكرة الحفاظ (1/ 122 - 124) وسير أعلام النبلاء (5/ 269 - 283) وميزان الاعتدال (3/ 385) ومشاهير علماء الأمصار (96) وشذرات الذهب (1/ 153 - 154) والبداية والنهاية (9/ 325 - 326).(2/157)
عنه أيوب السختياني وابن أبي عروبة ومعمر بن راشد والأوزاعي ومسعر بن كدام، وأمم سواهم. قال أحمد بن حنبل: كان قتادة عالما بالتفسير، وباختلاف العلماء، ثم وصفه بالفقه والحفظ، وأطنب في ذكره وقال: قلما تجد من يتقدمه. قال قتادة: ما قلت لمحدث قط أعد علي، وما سمعت أذناي شيئا قط إلا وعاه قلبي. قال ابن حبان: كان من علماء الناس بالقرآن والفقه، وكان من حفاظ أهل زمانه، على قدر فيه. قال أبو داود: لم يثبت عندنا عن قتادة القول بالقدر، والله أعلم. قال ابن أبي حاتم: كان قتادة بارع العلم، نسيج وحده في الحفظ في زمانه، لا يتقدمه كبير أحد. وعنه في قوله تعالى: {إِنَّمَا الله من عباده الْعُلَمَاءُ} (1) قال: كفى بالرهبة علما، اجتنبوا نقض الميثاق، فإن الله قدم فيه وأوعد، وذكره في آي من القرآن تقدمة ونصيحة وحجة، إياكم والتكلف والتنطع والغلو والإعجاب بالأنفس، تواضعوا لله لعل الله يرفعكم. توفي سنة سبع عشرة ومائة بواسط وقيل ثماني عشرة.
موقفه من المبتدعة:
- جاء في الإبانة أن قتادة كان إذا تلا: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا ربنا اللَّهُ ثُمَّ استقاموا} (2) قال: إنكم قد قلتم ربنا الله فاستقيموا على أمر الله وطاعته وسنة نبيكم وامضوا حيث تؤمرون، فالاستقامة أن تلبث على الإسلام
_________
(1) فاطر الآية (28).
(2) الأحقاف الآية (13).(2/158)
والطريقة الصالحة ثم لا تمرق منها ولا تخالفها ولا تشذ عن السنة ولا تخرج عنها. فإن أهل المروق من الإسلام منقطع بهم يوم القيامة، ثم إياكم وتصرف الأخلاق واجعلوا الوجه واحدا والدعوة واحدة، فإنه بلغنا أنه "من كان ذا وجهين وذا لسانين كان له يوم القيامة لسانان من نار" (1). (2)
- جاء في أصول الاعتقاد: عن عاصم الأحول قال: قال قتادة: يا أحول! إن الرجل إذا ابتدع بدعة ينبغي لها أن تذكر حتى تحذر. (3)
" التعليق:
نعم ويبين بطلانها، وكذلك رؤوس المبتدعة وأفراخهم، ويعتبر ذلك من أفضل القرب إلى الله، ومن الجهاد في سبيله كما قال بعض السلف والحمد لله رب العالمين.
- روى الدارمي بسنده إلى أبي عوانة عن قتادة قال: ما قلت برأيي منذ
_________
(1) رواه أبو يعلى (5/ 159/2771و2772) وابن أبي الدنيا في كتاب الصمت (ص.282) والبزار (2/ 428/2025 كشف الأستار) والطبراني في الأوسط (9/ 409/8880) وأبو نعيم في الحلية (2/ 160) والخطيب في التاريخ (12/ 103) من طرق عن أنس بن مالك به، وذكره الهيثمي في المجمع (8/ 95) وقال: "رواه الطبراني في الأوسط وفيه مقدام بن داود وقد ضعف، ورواه البزار بنحوه، وأبو يعلى وفيه إسماعيل بن مسلم وهو ضعيف". وأخرجه أبو داود (5/ 191/4873) والبخاري في الأدب المفرد (1310) وابن حبان (الإحسان 13/ 68/5756) من حديث عمار بن ياسر وحسن إسناده العراقي في تخريج الإحياء (4/ 1777/2806). وفي الباب عن أبي هريرة وسعد بن أبي وقاص وجندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنهم. قال الشيخ الألباني رحمه الله بعد ذكر هذه الطرق: "وبالجملة فالحديث صحيح بمجموع هذه الطرق، والله أعلم". انظر الصحيحة (2/ 584 - 585).
(2) الإبانة (1/ 2/317 - 318/ 156).
(3) أصول الاعتقاد (1/ 154/256) والكفاية في علم الرواية (ص.44).(2/159)
ثلاثون سنة، قال أبو هلال: منذ أربعون سنة. (1)
" التعليق:
انظر كيف كان السلف يتمسكون بالنص ولا يعدلون به إلى آرائهم الطيبة التي كانت مبنية على النصوص، ومع ذلك لشدة حبهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وورعهم عن الوقوع في الخطأ التزموا بالنصوص. وأما نحن فأعرضنا عن النصوص بالكلية وجعلنا حججنا في قول فلان وعلان مهما كان مصدر رأيه سواء كان مستاقا من ضلال اليونان؛ أو من الفكر الهندي والمسيحي؛ أو من متأخرة الفقهاء الذين لم يشموا رائحة السنة، أو من الفكر الاستشراقي النصراني، والله المستعان.
- عن قتادة في قوله عز وجل: {واذكرن ما يتلى عليكم في بيوتكن من آيات اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} (2)، قال: القرآن والسنة. (3)
- عن قتادة: {ويعلمهم الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (4)، قال: السنة. (5)
- وعنه: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يخوضوا في حديث غيره} (6)، قال: نهاه الله أن يجلس مع الذين يخوضون في آيات الله يكذبون بها وإن نسي
_________
(1) سنن الدارمي (1/ 47).
(2) الأحزاب الآية (34).
(3) الإبانة (1/ 1/255/ 91) والسنة للمروزي (ص.108 - 109).
(4) البقرة الآية (129).
(5) أصول الاعتقاد (1/ 78/71) والإبانة (1/ 2/344 - 345/ 217).
(6) الأنعام الآية (68).(2/160)
فلا يقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين. (1)
- وعنه في قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} (2)، قال: لا تبتدعوا ولا تجالسوا مبتدعا. (3)
- قال قتادة: إنا والله ما رأينا الرجل يصاحب من الناس إلا مثله وشكله فصاحبوا الصالحين من عباد الله لعلكم أن تكونوا معهم أو مثلهم. (4)
- عن قتادة: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يجادل في الله عِلْمٍ} (5)، قال: صاحب بدعة يدعو إلى بدعته. (6)
- عن قتادة: {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ العالمين} (71) (7)، قال: خصومة علمها الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يخاصمون بها أهل الضلالة. (8)
- وعن قتادة في قوله تعالى: {كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} (9): يعني أهل البدع. (10)
_________
(1) الإبانة (2/ 3/430 - 431/ 352) والطبري (5/ 228).
(2) النساء الآية (171).
(3) الإبانة (2/ 3/440/ 380) وما جاء في البدع (ص.66).
(4) الإبانة (2/ 3/479 - 480/ 511).
(5) الحج الآية (3).
(6) أصول الاعتقاد (1/ 129/178).
(7) الأنعام الآية (71).
(8) ذم الكلام (ص.128).
(9) آل عمران الآية (105).
(10) الاعتصام (1/ 75).(2/161)
- قال الحافظ في الفتح: وأخرج عبد بن حميد بسند صحيح عن قتادة في قوله: {وَاجْعَلْنَا للمتقين إِمَامًا} (1) أي قادة في الخير ودعاة هدى يؤتم بنا في الخير. (2)
موقفه من الرافضة:
- عن سعيد عن قتادة قال: ما سب أحد عثمان إلا افتقر. (3)
- عن قتادة قال: لو أصبحتم في مثل عمل معاوية لقال أكثركم: هذا المهدى. (4)
موقفه من الجهمية:
- جاء في الإبانة عن معاذ بن معاذ قال: جاء الأشعث بن عبد الملك إلى قتادة فقال: من أين؟ لعلك دخلت في هذه المعتزلة؟ قال: قال له رجل: إنه لزم الحسن ومحمدا، قال: هي ها الله إذا فالزمهما. (5)
- وفي أصول الاعتقاد: عن قتادة في قوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وزيادة} (6) قال: ذكر لنا أن المؤمنين إذا دخلوا الجنة ناداهم ربهم: إن الله وعدكم الحسنى: وهي الجنة والزيادة: النظر إلى وجه الرحمن. (7)
_________
(1) الفرقان الآية (74).
(2) الفتح (13/ 251).
(3) أصول الاعتقاد (7/ 1344/2397).
(4) المنهاج (6/ 233).
(5) الإبانة (2/ 11/305/ 1976).
(6) يونس الآية (26).
(7) أصول الاعتقاد (3/ 513/798).(2/162)
- وعن معمر عن قتادة في قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} (1) قال يأتيهم في ظلل من الغمام، وتأتيهم الملائكة عند الموت. (2)
- وعن قتادة في قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} (3) قال: قال المشركون: إنما هنا كلام يوشك أن ينفد. فأنزل الله تعالى ما تسمعون. يقول: لو كان شجر الأرض أقلاما ومع البحر سبعة أبحر مدادا لتكسرت الأقلام ونفدت البحور قبل أن تنفد عجائب ربي وحكمته وكلماته وعلمه. (4)
موقفه من الخوارج:
عن معمر عن قتادة في قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} (5) وكان قتادة إذا قرأ هذه الآية: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} قال: إن لم يكونوا الحرورية والسبائية، فلا أدري من هم، ولعمري لقد كان في أهل بدر والحديبية الذين شهدوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيعة
_________
(1) البقرة الآية (210).
(2) السنة لعبد الله (187).
(3) لقمان الآية (27).
(4) أصول الاعتقاد (2/ 245 - 246/ 360).
(5) آل عمران الآية (7).(2/163)
الرضوان من المهاجرين والأنصار خبر لمن استخبر، وعبرة لمن استعبر، لمن كان يعقل أو يبصر. إن الخوارج خرجوا وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ كثير بالمدينة والشام والعراق، وأزواجه يومئذ أحياء. والله إن خرج منهم ذكر ولا أنثى حروريا قط، ولا رضوا الذي هم عليه، ولا مالأوهم فيه، بل كانوا يحدثون بعيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إياهم ونعته الذي نعتهم به، وكانوا يبغضونهم بقلوبهم، ويعادونهم بألسنتهم، وتشتد والله عليه أيديهم إذا لقوهم. ولعمري لو كان أمر الخوارج هدى لاجتمع، ولكنه كان ضلالا فتفرق. كذلك الأمر إذا كان من عند غير الله وجدت فيه اختلافا كثيرا. فقد ألاصوا هذا الأمر منذ زمان طويل. فهل أفلحوا فيه يوما أو أنجحوا؟ يا سبحان الله؟ كيف لا يعتبر آخر هؤلاء القوم بأولهم؟ لو كانوا على هدى، قد أظهره الله وأفلحه ونصره، ولكنهم كانوا على باطل أكذبه الله وأدحضه. فهم كما رأيتهم، لكما خرج لهم قرن أدحض الله حجتهم، وأكذب أحدوثتهم، وأهراق دماءهم. إن كتموا كان قرحا في قلوبهم، وغما عليهم. وإن أظهروه أهراق الله دماءهم. ذاكم والله دين سوء فاجتنبوه. والله إن اليهودية لبدعة، وإن النصرانية لبدعة، وإن الحرورية لبدعة وإن السبائية لبدعة ما نزل بهن كتاب ولا سنهن نبي. (1)
- وعنه في قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} (2)
، قال: تُدْخِل مقلوبُ تُخْلِد، ولا نقول كما قال أهل حروراء. (3)
_________
(1) ابن جرير (6/ 187 - 189) وعبد الرزاق في التفسير (1/ 115).
(2) آل عمران الآية (192).
(3) تفسير القرطبي (4/ 201).(2/164)
موقفه من المرجئة:
- جاء في السنة لعبد الله: عن الأوزاعي قال: كان يحيى وقتادة يقولان: ليس من الأهواء شيء أخوف عندهم على الأمة من الإرجاء. (1)
- وعن قتادة قال: إنما حدث هذا الإرجاء بعد هزيمة ابن الأشعث. (2)
موقفه من القدرية:
- روى اللالكائي بسنده إلى الحكم بن عمر: أرسلني خالد بن عبد الله إلى قتادة وهو بالجيزة أسأله عن مسائل فكان فيما سألته قلت: أخبرني عن قول: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} (3) هم مشركوا العرب؟ قال: لا ولكنهم الزنادقة المباينة الذين جعلوا لله شركاء في خلقه فقالوا: إن الله يخلق الخير وإن الشيطان يخلق الشر وليس لله على الشيطان قدرة. (4)
- وجاء في مجموع الفتاوى: عن قتادة: {والذي قدر فهدى} (5) قال: لا والله ما أكره الله عبدا على معصية قط ولا على ضلالة، ولا رضيها له ولا أمره، ولكن رضي لكم الطاعة فأمركم بها، ونهاكم عن
_________
(1) السنة لعبد الله (86) وأصول الاعتقاد (5/ 1064/1816) والإبانة (2/ 885 - 886/ 1223) والشريعة (1/ 309/337).
(2) أصول الاعتقاد (5/ 1074/1841) والإبانة (2/ 889/1235) والسنة لعبد الله (86) والسنة للخلال (4/ 87 - 88/ 1230).
(3) الحج الآية (17).
(4) أصول الاعتقاد (4/ 774/1297).
(5) الأعلى الآية (3).(2/165)
معصيته. (1)
قال ابن تيمية معلقا: قتادة ذكر هذا عند هذه الآية ليبين أن الله قدر ما قدره من السعادة والشقاوة، كما قال الحسن وقتادة، وغيرهما من أئمة المسلمين، فإنهم لم يكونوا متنازعين. فما سبق من سبق تقدير الله، وإنما كان نزاع بعضهم في الإرادة وخلق الأفعال.
وإنما نازع في التقدير السابق والكتاب أولئك الذين تبرأ منهم الصحابة كابن عمر، وابن عباس، وغيرهما.
وذكر قتادة أن الله لن يكره أحدا على معصية، وهذا صحيح؛ فإن أهل السنة المثبتين للقدر متفقون على أن الله لا يكره أحدا على معصية كما يكره الوالي والقاضي وغيرهما للمخلوق على خلاف مراده، يكرهونه بالعقوبة والوعيد، بل هو سبحانه يخلق إرادة العبد للعمل وقدرته وعمله، وهو خالق كل شيء.
وهذا الذي قاله قتادة قد يظن فيه أنه من قول القدرية، وأنه لسبب مثل هذا اتهم قتادة بالقدر، حتى قيل: إن مالكا كره لمعمر أن يروي عنه التفسير لكونه اتهم بالقدر، وهذا القول حق، ولم يعرف أحد من السلف قال: إن الله أكره أحدا على معصية. (2)
- وجاء في الإبانة: عن قتادة في قوله: {وَهُوَ الحكيم الخبير} (3)؛
_________
(1) مجموع الفتاوى (16/ 140).
(2) مجموع الفتاوى (16/ 140 - 141).
(3) سبأ الآية (1).(2/166)
قال: حكيم في أمره، خبير بخلقه. (1)
- وفيها: عن سعيد بن أبي عروبة أن رجلا جاء إلى قتادة فقال: يا أبا الخطاب. ما تقول في القدر؟ فقال: رأي العرب أعجب إليك أم رأي العجم؟ قال: رأي العرب، قال: إن العرب لم تزل في جاهليتها وإسلامها تثبت القدر، ثم أنشده بيتا من شعر. (2)
- وفيها: عن معمر عن قتادة قال: {يعلم السر وأخفى} (3)؛ قال: أخفى من السر ما حدثت به نفسك، وما لم تحدث به نفسك أيضا مما هو كائن. (4)
ميمون بن مِهْرَان (5) (117 هـ)
ميمون بن مِهْرَان الإمام الحجة عالم الجزيرة ومفتيها أبو أيوب الجزري. روى عن أبي هريرة وعائشة وابن عباس وابن عمر وغيرهم. روى عنه ابنه عمرو وجعفر بن إياس وحميد الطويل وسليمان الأعمش وغيرهم. كان ثقة كثير الحديث، عن سليمان بن موسى قال: هؤلاء الأربعة علماء الناس في
_________
(1) الإبانة (2/ 10/219/ 1791).
(2) الإبانة (2/ 10/219/ 1792).
(3) طه الآية (7).
(4) الإبانة (2/ 10/225/ 1813).
(5) طبقات ابن سعد (6/ 477 - 479) والجرح والتعديل (8/ 233 - 234) والسير (5/ 71 - 78) وحلية الأولياء (4/ 82 - 97) وتهذيب الكمال (29/ 210 - 227) والبداية والنهاية (9/ 326 - 332) وتذكرة الحفاظ (1/ 98 - 99) ومشاهير علماء الأمصار (117) وشذرات الذهب (1/ 154).(2/167)
زمن هشام بن عبد الملك مكحول والحسن والزهري وميمون بن مهران. كان ميمون عند عمر بن عبد العزيز فلما قام قال عمر: إذا ذهب هذا وضرباؤه صار الناس بعده رجراجة. قال أبو المليح: ما رأيت رجلا أفضل من ميمون ابن مهران. قال له رجل: يا أبا أيوب ما يزال الناس بخير ما أبقاك الله لهم، قال: أقبل على شأنك ما يزال الناس بخير ما اتقوا ربهم.
من أقواله: قال لجعفر بن برقان: قل لي في وجهي ما أكره فإن الرجل لا ينصح أخاه حتى يقول له في وجهه ما يكره. ثلاثة تؤدى إلى البر والفاجر: الأمانة، والعهد، وصلة الرحم. وقال: من أحب أن يعلم ما له عند الله، فليعلم مالله عنده، فإنه قادم على ما قدم لا محالة. توفي رحمه الله سنة سبع عشرة ومائة.
موقفه من المبتدعة:
- عن ميمون بن مهران قال: ثلاث لا تبلون نفسك بهن: لا تدخل على السلطان، وإن قلت: آمره بطاعة الله، ولا تصغين بسمعك إلى هوى، فإنك لا تدري ما يعلق بقلبك منه، ولا تدخل على امرأة، ولو قلت: أعلمها كتاب الله. (1)
- عن جعفر بن برقان قال: سمعت ميمون بن مهران يقول: إياكم وكل هوى يسمى بغير الإسلام. (2)
- عن جعفر بن برقان عن ميمون قال: إن هذا القرآن قد أخلق في
_________
(1) السير (5/ 77).
(2) الإبانة (1/ 2/354/ 235).(2/168)
صدور كثير من الناس والتمسوا ما سواه من الأحاديث، وإن ممن يتبع هذا العلم من يتخذه بضاعة يريد به الدنيا ومنهم من يريد أن يشار إليه ومنهم من يماري به وخيرهم الذي يتعلمه ليطيع الله. (1)
" التعليق:
قال أبو عمر: معنى قوله: إن هذا القرآن قد أخلق، والله أعلم أي أخلق علم تأويله من تلاوته إلا بالأحاديث عن السلف العالمين به، فبالأحاديث الصحاح عنهم يوقف على ذلك، لا بما سولته النفوس، وتنازعته الآراء كما صنعته أهل الأهواء. (2)
- وجاء في ذم الكلام عن ميمون بن مهران في قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ} (3) قال: إلى كتاب الله والرد إلى رسول الله إذا قبض إلى سنته. (4)
- قال ميمون بن مهران: لو أن رجلا نشر فيكم من السلف ما عرف فيكم غير هذه القبلة. (5)
موقفه من المشركين:
روى أبو المليح الرقي عن ميمون بن مهران قال: لا تجالسوا أهل القدر
_________
(1) ذم الكلام (ص.61) والحلية (4/ 84) والجامع لابن عبد البر (2/ 1203).
(2) جامع بيان العلم وفضله (2/ 1203).
(3) النساء الآية (59).
(4) ذم الكلام (ص.76) والإبانة (1/ 1/217/ 58) وأصول الاعتقاد (1/ 80/76).
(5) ما جاء في البدع لابن وضاح (ص.141) وانظر السير (5/ 76) والاعتصام (1/ 34).(2/169)
ولا تسبوا أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا تعلموا النجوم. (1)
موقفه من الرافضة:
- عن أبي المليح الرقي قال: كان ميمون بن مهران يقول: إن أقواما يقولون: لا يسعنا أن نستغفر لعثمان وعلي، وأنا أقول غفر الله لعثمان وعلي وطلحة والزبير. (2)
- عن ميمون بن مهران قال: ثلاثة أرفضوهن: مجادلة أصحاب الأهواء، وشتم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والنظر في النجوم. (3)
موقفه من المرجئة:
- عن أبي مليح قال: سئل ميمون عن كلام المرجئة، فقال: أنا أكبر من ذلك. (4)
- قال معقل: فجلست إلى ميمون بن مهران فقلت: يا أبا أيوب لو قرأت لنا سورة ففسرتها قال: فقرأ أو قرئت: {إذا الشمس كورت} حتى إذا بلغ {مطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} (5) قال: ذلكم جبريل، والخيبة لمن يقول: إن إيمانه كإيمان جبريل. (6)
_________
(1) السير (5/ 73. جامع بيان العلم وفضله (2/ 794).
(2) الشريعة (3/ 22/1289).
(3) رياض الجنة بتخريج أصول السنة لابن أبي زمنين (ص.267) والسير (5/ 73).
(4) الإبانة (2/ 7/890/ 1236).
(5) التكوير الآيات (1 - 21).
(6) أصول الاعتقاد (5/ 1024 - 1025/ 1732) والسنة لعبد الله (117 - 119) والسنة للخلال (4/ 29 - 32/ 1105) والإبانة (2/ 808 - 811/ 1101).(2/170)
- وعن نصر بن المثنى الأشجعي قال: كنت مع ميمون بن مهران فمر بجويرية وهي تضرب بدف وهي تقول: وهل علي من قول قلته من كنود فقال ميمون: أترون إيمان هذه كإيمان مريم بنت عمران. قال: والخيبة لمن يقول إيمانه كإيمان جبريل. (1)
موقفه من القدرية:
جاء في الإبانة: عن ميمون بن مهران: ثلاث أرفضوهن: ما شجر بين أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والنجوم، والنظر في القدر. (2)
عبد الله بن أبي مليكة (3) (117 هـ)
عبد الله بن عبيد الله بن أبي مُلَيْكَة زهير بن عبد الله بن جدعان الإمام الحجة الحافظ أبو بكر وأبو محمد القرشي المؤذن. روى عن عائشة وأختها أسماء وأبى محذورة وابن عباس وغيرهم. روى عنه عطاء بن أبي رباح وعمرو ابن دينار وأيوب السختياني وغيرهم. قال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. وكان عالما مفتيا صاحب حديث وإتقان وكان قاضيا لابن الزبير ومؤذنا له.
توفي سنة سبع عشرة ومائة.
_________
(1) الإبانة (2/ 900 - 901/ 1258) وانظر الإيمان لأبي عبيد (19).
(2) الإبانة (1/ 8/243/ 1281) وجامع بيان العلم وفضله (2/ 794) وبنحوه في السير (5/ 73).
(3) طبقات ابن سعد (5/ 473) والجرح والتعديل (5/ 99 - 100) وسير أعلام النبلاء (5/ 88 - 90) وتهذيب الكمال (15/ 256) وتذكرة الحفاظ (1/ 101 - 102) والعقد الثمين (5/ 204 - 205) والوافي بالوفيات (17/ 304) وشذرات الذهب (1/ 153).(2/171)
موقفه من المرجئة:
- جاء في الإبانة: عن نافع بن عمر بن جميل القرشي قال: كنت عند عبد الله ابن أبي مليكة فقال له بعض جلسائه: يا أبا محمد إن ناسا يجالسونك يزعمون أن إيمانهم كإيمان جبريل، قال: فغضب ابن أبي مليكة فقال: والله ما رضي الله لجبريل حين فضله بالثناء على محمد - صلى الله عليه وسلم - فقال: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} (1) يعني محمدا - صلى الله عليه وسلم -، أفأجعل إيمان جبريل وميكائيل كإيمان فهدان لا والله ولا كرامة. قال نافع: وقد رأيت فهدان رجلا لا يصحى من الشراب. (2)
- وفيها: قال ابن أبي مليكة: إن فهدان يزعم أنه يشرب الخمر ويزعمون أن إيمانه على إيمان جبريل وميكائيل. (3)
- وعن الصلت بن دينار عن ابن أبي مليكة قال: لقد أتى علي برهة من الدهر وما أراني أدرك قوما يقول أحدهم: إني مؤمن مستكمل الإيمان ثم ما رضي حتى قال: إن إيماني على إيمان جبريل وميكاييل ثم مازال بهم الشيطان حتى قال أحدهم: إنه مؤمن وإن نكح أمه وأخته وابنته ولقد أدركت كذا وكذا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ما مات رجل منهم إلا وهو
_________
(1) التكوير الآيات (19 - 22).
(2) الإبانة (2/ 7/900/ 1256) والشريعة (1/ 312 - 313/ 345).
(3) الإبانة (2/ 7/900/ 1257) والسنة لعبد الله (109).(2/172)
يخشى على نفسه النفاق. (1)
أنس بن سيرين (2) (118 هـ)
أنس بن سيرين ويكنى أبا حمزة قال: لما ولدت انطلق بي إلى أنس بن مالك فسماني باسمه وكناني بكنيته. ولد لسنة بقيت من خلافة عثمان بن عفان ودخل على زيد بن ثابت. روى عن أنس وابن عباس وابن عمر وغيرهم. روى عنه ابن عون وخالد وشعبة والحمادان وغيرهم. عن قتادة قال: استعمل ابن الزبير أنس بن مالك على البصرة فأرسل إلى مولاه أنس بن سيرين، فاستعمله على الأبلّة. توفي رحمه الله سنة ثماني عشرة ومائة، وقيل سنة عشرين.
موقفه من القدرية:
جاء في أصول الاعتقاد: قال أنس بن سيرين: لا تقاعدن قدريا ولا تسمع كلامه. (3)
_________
(1) أصول الاعتقاد (5/ 1026/1733) والإبانة (2/ 6/755/ 1053) والفقرة الأخيرة علقها البخاري في صحيحه كتاب الإيمان باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر بلفظ: قال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل. ووصله الخلال في السنة (3/ 607 - 608/ 1081)، وقال الحافظ في الفتح (1/ 148): "هذا التعليق وصله ابن أبي خيثمة في تاريخه لكن أبهم العدد وكذا أخرجه محمد بن نصر المروزي مطولا في كتاب الإيمان له وعينه أبو زرعة الدمشقي في تاريخه من وجه آخر مختصرا عما هنا".
(2) طبقات ابن سعد (7/ 207) والجرح والتعديل (2/ 287 - 288) ومشاهير علماء الأمصار (91) والسير (4/ 622 - 623) وتهذيب الكمال (3/ 346) والوافي بالوفيات (9/ 416 - 417).
(3) أصول الاعتقاد (4/ 705/1144).(2/173)
عبادة بن نسي (1) (118 هـ)
عُبَادة بن نُسَيّ الكِنْدي أبو عمر الشامي قاضي طبريّة. روى عن شداد ابن أوس ومعاوية وأبي سعيد الخدري وغيرهم. روى عنه برد بن سنان وعلي ابن أبي حملة وهشام بن الغاز وعبد الله بن عثمان وخلق، وكان سيدا شريفا وافر الجلالة ذا فضل وصلاح وعلم. سأل هشام بن عبد الملك: من سيد أهل الأردن؟ قالوا: عبادة بن نسي. ولاه عبد الملك على الأردن فلما استخلف عمر بن عبد العزيز ولاه جند الأردن. مات سنة ثماني عشرة ومائة.
موقفه من القدرية:
جاء في أصول الاعتقاد بالسند إلى إبراهيم بن أبي عبلة قال: كنت عند عبادة بن نسي فأتاه آت فقال: إن أمير المؤمنين -يعني هشاما- قد قطع يد غيلان ورجليه وصلبه قال: ما تقول؟ قال: قد فعل. قال عبادة: أصاب والله فيه القضية والسنة ولأكتبن إليه فلأحسنن رأيه. (2)
" التعليق:
وأنا أيضا أقول: جزاه الله خيرا، لقد سن لمن جاء بعده السنن في المبتدعة كغيلان وأمثاله، إن جزاءهم هو الصلب والقتل، وهذا العالم السلفي الفاضل عبادة يبارك له في هذا الفعل، وكذلك يفعل العلماء الصادقون في كل عصر.
_________
(1) طبقات ابن سعد (7/ 456) والجرح والتعديل (6/ 96) ومشاهير علماء الأمصار (180) والسير (5/ 323 - 324) وتهذيب الكمال (14/ 194) والمعرفة والتاريخ (2/ 329) وتهذيب التهذيب (5/ 113 - 114).
(2) أصول الاعتقاد (4/ 793/1328) والإبانة (2/ 10/239 - 240/ 1851) والشريعة (1/ 439 - 440/ 558).(2/174)
علي بن عبد الله بن عباس (1) (118 هـ)
علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم القرشي الهاشمي أبو محمد، ولد ليلة قتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، في شهر رمضان سنة أربعين، فسمي باسمه وكني بكنيته أبي الحسن. فقال له عبد الملك بن مروان: لا والله لا أحتمل لك الاسم والكنية جميعا فغير أحدهما، فغير كنيته فصيرها أبا محمد. سمع من أبيه ابن عباس وأبي هريرة وابن عمر وجماعة وسمع منه بنوه: عيسى، وداود وسليمان وآخرون. كان رحمه الله من خيار الناس في غاية العبادة والزهادة والعلم والعمل وحسن الشكل وتمام القامة والعدالة والثقة. وقد أثنى عليه غير واحد من الأئمة ووثقوه.
مات رحمه الله سنة ثماني عشرة ومائة وبه جزم الأكثرون.
موقفه من الرافضة:
عن عمر بن بزيع قال: سمعني علي بن عبد الله بن عباس وأنا أريد أن أسب معاوية رحمه الله فقال: مهلا لا تسبه، فإنه صهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (2)
عبد الرحمن بن عبد الله بن سابط (3) (118 هـ)
عبد الرحمن بن عبد الله بن سابط بن أبي حُمَيْضَة بن عمرو بن أُهَيْب
_________
(1) طبقات ابن سعد (5/ 312 - 314) وتهذيب الكمال (21/ 35 - 40) والسير (5/ 252 - 253،284 - 285) والبداية والنهاية (9/ 332) وتهذيب التهذيب (7/ 357 - 358) وشذرات الذهب (1/ 148 - 149).
(2) الشريعة (3/ 506/1989) والسنة للخلال (1/ 433).
(3) طبقات ابن سعد (5/ 472) وتهذيب الكمال (17/ 123 - 127) وتهذيب التهذيب (6/ 180 - 181) والإصابة (5/ 228 - 231) وشذرات الذهب (1/ 156).(2/175)
ابن حُذَافَة بن جُمَح القرشي الجمحي المكي. روى عن أبيه وله صحبة وجابر وأبي أمامة وابن عباس وغيرهم. وروى عنه من القدماء: فطر بن خليفة، ويزيد بن أبي زياد وابن جريج، وليث بن أبي سليم وآخرون.
وثقه ابن معين والعجلي وأبو زرعة والنسائي وآخرون. أرسل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. كان فقيها من أصحاب ابن عباس كثير الحديث. له في صحيح مسلم حديث واحد في الفتن. أجمعوا على أنه توفي بمكة سنة ثماني عشرة ومائة.
موقفه من الجهمية:
جاء في السنة لعبد الله عن عبد الرحمن بن سابط الجمحي {إلى ربها نَاظِرَةٌ} (1) قال: إلى وجه ربها ناظرة. (2)
موقفه من القدرية:
أخرج ابن بطة بسنده: عن ابن سابط في قوله: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دون ذلك هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} (3)؛ قال: لا بد أن يعملوها. (4)
_________
(1) القيامة الآية (23).
(2) السنة لعبد الله (61) ونحوه في أصول الاعتقاد (3/ 512/795).
(3) المؤمنون الآية (63).
(4) الإبانة (2/ 10/224/ 1809).(2/176)
حبيب بن أبي ثابت (1) (119 هـ)
حبيب بن أبي ثابت بن قيس أبو يحيى الإمام الحافظ، فقيه الكوفة. روى عن ابن عمر وابن عباس وأنس بن مالك وغيرهم. وروى عنه: عطاء بن أبي رباح وحصين ومنصور والأعمش وغيرهم. قال أبو بكر بن عياش: كان بالكوفة ثلاثة ليس لهم رابع حبيب بن أبي ثابت، والحكم، وحماد كانوا من أصحاب الفتيا ولم يكن أحد بالكوفة إلا يذل لحبيب. قال أبو يحيى القتات: قدمت الطائف مع حبيب ابن أبي ثابت فكأنما قدم عليهم نبي. قال أبو بكر ابن عياش: رأيت حبيبا ساجدا فلو رأيته قلت ميت يعني من طول السجود. عن أبي سنان قال حبيب: من وضع جبينه لله فقد برئ من الكبر. مات سنة تسع عشرة ومائة.
موقفه من المبتدعة والرافضة:
عن أبي بكر بن عياش قال: كان عندنا فتى يقاتل ويشرب، وذكر أشياء من الفسق ثم إنه تقرأ فدخل في التشيع، فسمعت حبيب بن أبي ثابت وهو يقول له: لأنت يوم كنت تقاتل وتفعل ما تفعل خير منك اليوم. (2)
_________
(1) السير (5/ 288 - 291) وتهذيب الكمال (5/ 358 - 363) وتهذيب التهذيب (2/ 178 - 180) وطبقات ابن سعد (6/ 320) والوافي بالوفيات (11/ 290 - 291) وشذرات الذهب (1/ 156).
(2) ابن وضاح (ص.81 - 82/ 86).(2/177)
الضَّحَّاك بن شُرَحْبِيل المِشْرَقِي (1) (بعد 111 هـ إلى 120 هـ)
الضحاك بن شُرَاحِيل ويقال: ابن شُرَحبيل الهمداني المشرقي، أبو سعيد الكوفي. روى عن أبي سعيد الخدري، ومالك بن أوس بن الحدثان. وروى عنه: حبيب بن أبي ثابت، وسلمة بن كهيل، وسليمان الأعمش. ذكره ابن حبان في الثقات. قال الذهبي: حجة مقل، وذكره في أعيان الطبقة الثانية عشر من تاريخه المؤرخة بين 111 و120هـ.
موقفه من المرجئة:
عن سلمة بن كهيل قال: اجتمعنا في الجماجم؛ أبو البختري الطائي، وميسرة أبو صالح، وضحاك المشرقي، وبكير الطائي، فأجمعوا على أن الإرجاء بدعة، والولاية بدعة، والبراءة بدعة، والشهادة بدعة. (2)
خالد بن اللَّجْلاَج (3) (بعد 111 هـ إلى 120 هـ)
خالد بن اللجلاج العامريّ مولى بني زهرة، أبو إبراهيم الشامي الحمصي. سمع أباه -وله صحبة- وعبد الرحمن بن عايش، وقبيصة بن ذؤيب،
_________
(1) تهذيب الكمال (13/ 263 - 267) وميزان الاعتدال (2/ 324) والسير (4/ 604) وتاريخ الإسلام (حوادث101 - 120/ص.185) وتهذيب التهذيب (4/ 444 - 445).
(2) الإبانة (2/ 905/1270) والسنة لعبد الله (89 - 90) وأصول الاعتقاد (5/ 1050/1784) والإيمان لأبي عبيد (22 بنحوه).
(3) تهذيب الكمال (8/ 160 - 161) وتهذيب التهذيب (3/ 115) وتاريخ دمشق (16/ 181 - 185) وتاريخ الإسلام (حوادث 101 - 120/ص.354) والتاريخ الكبير (3/ 170/578) والجرح والتعديل (3/ 349/1576) والإصابة (2/ 376) والاستيعاب (2/ 436) ومشاهير علماء الأمصار (116).(2/178)
وأرسل عن عمر. وعنه زرعة بن إبراهيم، وزيد بن واقد، وأبو قلابة عبد الله ابن زيد، ومكحول، وغيرهم.
فعن مكحول قال: كان ذا سن وصلاح، جريء اللسان على الملوك في الغلظة عليهم. وقال ابن حبان: كان من أفاضل أهل زمانه. وقال أبو مسهر: كان يفتي مع مكحول. وقال ابن حجر: صدوق فقيه، من الثانية. وذكره الذهبي في الطبقة الثانية عشرة من تاريخ الإسلام المؤرخة بين 111و120هـ.
موقفه من القدرية:
- جاء في أصول الاعتقاد بسنده إلى المنذر بن نافع: سمعت خالد بن اللجلاج يقول لغيلان: ويحك يا غيلان، ألم يأخذك في شبيبتك ترامي النساء في شهر رمضان بالتفاح، ثم صرت حارثيا تحجب امرأة وتزعم أنها أم المؤمنين، ثم تحولت من ذلك فصرت قدريا زنديقا؟! (1)
وفي لفظ الإبانة: عن المنذر بن رافع أن خالد بن اللجلاج دعا غيلان؛ قال: فجاء فقال: اجلس؛ فجلس فقال: ألم تك قبطيا فدخلت في الإسلام؟ قال: بلى، قال: ثم أخذتك ترمي بالتفاح في المسجد قد أدخلت رأسك في كم قميصك؟ قال: بلى، قال أبو مسهر: أشك في هذه الكلمة، ثم كنت جهميا تسمى امرأتك أم المؤمنين؟ قال: بلى، ثم صرت قدريا شقيا؛ قم فعل الله بك وفعل. (2)
" التعليق:
قال جامعه: هكذا تجد هؤلاء المبتدعة والعياذ بالله مبتلين ببلايا يتبرأ
_________
(1) أصول الاعتقاد (4/ 793/1329).
(2) الإبانة (2/ 11/299 - 300/ 1958).(2/179)
منها -ولله الحمد- علماء السلف.
محمد بن كعب القُرَظِي (1) (120 هـ)
محمد بن كعب بن سُلَيْم: وقيل: محمد بن كعب بن حيان بن سليم. الإمام العلامة الصادق أبو حمزة وقيل أبو عبد الله المدني القُرَظِي. روى عن جماعة منهم: جابر بن عبد الله وابن عباس وأنس بن مالك والمغيرة بن شعبة. وعنه جماعة منهم: الحكم بن عتيبة وزياد بن محمد الأنصاري وزيد بن أسلم. قال ابن سعد: كان ثقة، عالما، كثير الحديث، ورعا. قال العجلي: مدني تابعي، ثقة، رجل صالح، عالم بالقرآن. قال ابن عون: ما رأيت أحدا أعلم بتأويل القرآن من القرظي. قال القرظي: إذا أراد الله بعبد خيرا زهده في الدنيا، وفقهه في الدين وبصره عيوبه، ومن أوتيهن أوتي خير الدنيا والآخرة. قال ابن حبان: كان من أفاضل أهل المدينة علما وفقها وكان يقص في المسجد، فسقط عليه وعلى أصحابه سقف، فمات هو وجماعة تحت الهدم. توفي سنة عشرين ومائة.
موقفه من الجهمية:
- في الشريعة عنه قال في قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى
_________
(1) تهذيب الكمال (26/ 340 - 348) والسير (5/ 65 - 68) والمعرفة والتاريخ (1/ 563 - 564) والجرح والتعديل (8/ 67) وحلية الأولياء (3/ 212 - 221) والبداية والنهاية (9/ 268 - 270) ومشاهير علماء الأمصار (65) وتاريخ خليفة (348) وشذرات الذهب (1/ 136).(2/180)
ربها نَاظِرَةٌ} (1) قال: نضر الله تلك الوجوه وحسنها للنظر إليه. (2)
- وفيها: عن محمد بن إسحاق قال: سمعت محمد بن كعب يحدث: إن الله عز وجل لم يمس بيده شيئا إلا ثلاثة: آدم عليه السلام. والتوراة فإنه كتبها لموسى بيده، وطوبى شجرة في الجنة، غرسها الله بيده، ليس في الجنة غرفة إلا فيها منها فنن وهي التي قال الله عز وجل: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} (3).اهـ (4)
موقفه من القدرية:
- جاء عنه: أنه قال في قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بقدر} (5) نزلت تعييرا لأهل القدر. (6)
- وعن محمد بن كعب قال: نزلت هذه الآية {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (7) في أهل
_________
(1) القيامة الآيتان (22و23).
(2) الشريعة (2/ 11/623) والسنة لعبد الله (61).
(3) الرعد الآية (29).
(4) الشريعة (2/ 131/803).
(5) القمر الآية (49).
(6) السنة لعبد الله (144) وأصول الاعتقاد (4/ 757/1260) والإبانة (2/ 7/114/ 1535) والشريعة (1/ 332/356).
(7) القمر الآيتان (48و49).(2/181)
القدر. (1)
- وروى اللالكائي بسنده: عن خصيف قال: سأل مجاهد محمد بن كعب القرظي وأنا معه {إِنَّ كِتَابَ الفجار لفي سجين} (2) قال: فقال محمد: رقم الله عز وجل كتاب الفجار في أسفل الأرض فهم عاملون بما قد رقم عليهم في ذلك الكتاب. (3)
- عن محمد بن كعب القرظي أن الفضل الرقاشي قعد إليه فذاكره شيئا من القدر فقال له محمد بن كعب القرظي تشهد؟ فلما بلغ من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له رفع محمد عصا معه فضرب بها رأسه وقال قم فلما قام فذهب قال لا يرجع هذا عن رأيه أبدا. (4)
- وجاء في الإبانة: عن عمر مولى عفرة: سمعت محمد بن كعب يقول: والله لوددت أن المكذبين بالقدر جمعوا إلي، فإن لم أفلح عليهم ضربت رقبتي، والله إن قولهم للكفر البواح. (5)
- وفيها عن أبي داود أن محمد بن كعب قال لهم: لا تجالسوهم -يعني القدرية، والذي نفسي بيده؛ لا يجالسهم رجل لم يجعل الله عز وجل له فقها في دينه وعلما في كتابه إلا أمرضوه، والذي نفسي بيده؛ لوددت أن يميني هذه تقطع على كبر سني وأنهم أتموا آية من كتاب الله، ولكنهم يأخذون
_________
(1) السنة لعبد الله (140).
(2) المطففين الآية (7).
(3) أصول الاعتقاد (3/ 614/985).
(4) السنة لعبد الله (148).
(5) الإبانة (2/ 10/209/ 1758).(2/182)
بأولها ويتركون آخرها، ويأخذون بآخرها ويتركون أولها، والذي نفسي بيده؛ لإبليس أعلم بالله منهم، يعلم من أغواه وهم يزعمون أنهم يغوون أنفسهم ويرشدونها. (1)
- وفيها عن محمد بن كعب القرظي قال: لو أن الله عز وجل مانع أحدا لمنع إبليس مسألته حين عصاه، ودحره من جنته وآيسه من رحمته وجعله داعيا إلى الغي، فيسأله النظرة أن ينظره إلى يوم يبعثون؛ فأنظره، ولو كان الله مشفعا أحدا في شيء ليس في أم الكتاب لشفع إبراهيم في أبيه حين اتخذه خليلا وشفع محمدا - صلى الله عليه وسلم - في عمه. (2)
- وفيها عن محمد بن كعب قال: كان القدر قبل البلاء، وخلقت الأقدار قبل الأقوات، ثم قرأ: {فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} (3). (4)
- وفيها عن محمد بن كعب القرظي قال: لقد سمى الله عز وجل المكذبين بالقدر باسم، نسبهم إليه في القرآن؛ فقال عز وجل: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (5)؛ قال: فهم
_________
(1) الإبانة (2/ 10/211/ 1765) والشريعة (1/ 429 - 430/ 528).
(2) الإبانة (2/ 10/211 - 212/ 1766) والشريعة (1/ 430/529).
(3) القمر الآية (12).
(4) الإبانة (2/ 10/212/ 1767).
(5) القمر الآيات (47 - 49).(2/183)
المجرمون. (1)
- وقال محمد بن كعب القرظي: العباد أذل من أن يكون لأحد منهم في ملك الله تعالى شيء هو كاره أن يكون. (2)
بلال بن سعد (3) (120 هـ)
بلال بن سعد بن تَمِيم السَّكُوني الإمام الرباني الواعظ أبو عمرو الدمشقي شيخ أهل دمشق، كان لأبيه سعد صحبة. روى عن أبيه سعد بن تميم وجابر ومعاوية وأبي سكينة. وعنه الأوزاعي وعبد الله بن العلاء بن زبر، وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر. قال ابن المبارك: كان محل بلال بن سعد بالشام ومصر؛ كمحل الحسن بن أبي الحسن بالبصرة. قال أبو زرعة الدمشقي: بلال بن سعد، أحد العلماء في خلافة هشام، وكان قاصا حسن القصص. وقال ابن حجر: ثقة عابد فاضل. قال الأوزاعي: سمعت بلال بن سعد يقول: كفى به ذنبا أن يكون الله تبارك وتعالى قد زهدنا في الدنيا، ونحن نرغب فيها، فزاهدكم راغب، وعالمكم جاهل، وعابدكم مقصر. وقال الأوزاعي: سمعت بلال بن سعد يقول: لا تنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن انظر من عصيت. وعنه قال: سمعت بلال بن سعد يقول: أخ لك كلما لقيك
_________
(1) الإبانة (2/ 10/212/ 1768) والشريعة (1/ 429/526).
(2) تأويل مختلف الحديث (83).
(3) طبقات ابن سعد (7/ 461) والجرح والتعديل (2/ 398) وحلية الأولياء (5/ 221 - 234) وتهذيب الكمال (4/ 291 - 296) وسير أعلام النبلاء (5/ 90 - 93) والبداية والنهاية (9/ 362 - 364) ومشاهير علماء الأمصار (115) والكاشف (1/ 277) والتقريب (1/ 140).(2/184)
ذكرك بحظك من الله، خير لك من أخ كلما لقيك وضع في كفك دينارا. قال: وسمعت بلال بن سعد يقول: لا تكن وليا لله في العلانية، وعدوه في السر. توفي في خلافة هشام بن عبد الملك في حدود العشرين ومائة.
موقفه من القدرية:
جاء في الإبانة: عن سعيد بن عبد العزيز؛ أن بلال بن سعد أصبح يوما، فتكلم في قصصه، فقال: رب مسرور مغبون، ويل لمن له الويل ولا يشعر؛ يأكل، ويشرب، ويضحك، وقد حق عليه في قضاء الله أنه من أصحاب النار. (1)
عطية بن قيس (2) (121 هـ)
الإمام المقرئ عطية بن قيس أبو يحيى الكلبي الدمشقي، عرض على أم الدرداء، التي أخذت عن زوجها أبي الدرداء. حدث عن عمرو بن عبسة، وعبد الله بن عمرو، والنعمان بن بشير. وروى عنه: ابنه سعد، وأبو بكر بن أبي مريم، وعبد الله بن العلاء. قال سعيد بن عبد العزيز: لم نكن نطمع أن يفتح ذكر الدنيا في مجلس عطية. وقال عبد الواحد بن قيس: كانوا يصلحون مصاحفهم على قراءة عطية بن قيس. وغزا في زمن معاوية، وكان هو وإسماعيل بن عبيد الله قارئ الجند.
توفي سنة إحدى وعشرين ومائة.
_________
(1) الإبانة (2/ 10/226/ 1816).
(2) السير (5/ 324) والثقات (5/ 260) وتهذيب التهذيب (7/ 228) وتهذيب الكمال (20/ 153).(2/185)
موقفه من الرافضة:
عن عطية بن قيس قال: سمعت معاوية بن أبي سفيان يخطبنا يقول: إن في بيت مالكم فضلا بعد أعطياتكم، وإني قاسمه بينكم، فإن كان يأتينا فضل عاما قابلا قسمناه عليكم، وإلا فلا عتبة علي، فإنه ليس بمالي، وإنما هو مال الله الذي أفاء عليكم. (1)
سلمة بن كُهَيْل (2) (121 هـ)
سلمة بن كُهَيْل بن حصين الإمام، الثبت، الحافظ: أبو يحيى الحضرمي. حدث عن: أبيه، وجندب بن عبد الله، وأبي جحيفة، وأبي الطفيل وغيرهم. وروى عنه منصور، والأعمش، وشعبة، والثوري وغيرهم. كان من علماء الكوفة الأثبات على تشيع كان فيه. توفي سنة إحدى وعشرين ومائة.
موقفه من المرجئة:
عن سفيان عن سلمة بن كهيل قال: اجتمعنا في الجماجم أبو البختري الطائي وميسرة أبو صالح وضحاك المِشْرَقِيّ وبكير الطائي فأجمعوا على أن الإرجاء بدعة والولاية بدعة والبراءة بدعة والشهادة بدعة. (3)
_________
(1) المنهاج (6/ 234).
(2) المعرفة والتاريخ (2/ 648) وطبقات ابن سعد (6/ 316) وتهذيب الكمال (11/ 313 - 317) والسير (5/ 298 - 300) والوافي بالوفيات (15/ 322 - 323) وشذرات الذهب (1/ 159).
(3) الإبانة (2/ 905/1270) والسنة لعبد الله (ص.89 - 90) وأصول الاعتقاد (5/ 1050/1784) والإيمان لأبي عبيد (22 بنحوه).(2/186)
إياس بن معاوية (1) (122 هـ)
إياس بن معاوية بن قرة المزني، أبو واثلة البصري، قاضيها، ولجده صحبة. روى عن أنس بن مالك وعن أبيه معاوية بن قرة، وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب. وعنه جماعة منهم: أيوب السختياني وحماد بن زيد وحماد ابن سلمة، وشعبة بن الحجاج. كان يضرب به المثل في الذكاء والدهاء والسؤدد والعقل. قال عبد الله بن إدريس عن أبيه عن ابن شبرمة: قال لي إياس بن معاوية: إياك وما يستشنع الناس من الكلام، وعليك بما يعرف الناس من القضاء. عن ربيعة ابن أبي عبد الرحمن قال: قال لي إياس بن معاوية: يا ربيعة كل ما بني على غير أساس فهو هباء، وكل ديانة أسست على غير ورع فهي هباء. عن الأصمعي قال: قال إياس بن معاوية: امتحنت خصال الرجال، فوجدت أشرفها صدق اللسان، ومَنْ عُدِمَ فضيلة الصدق، فقد فجع بأكرم أخلاقه. عن سفيان بن حسين: كنت عند إياس بن معاوية، وعنده رجل، تخوفت إن قمت من عنده أن يقع في. قال: فجلست حتى قام، فلما قام ذكرته لإياس، قال: فجعل ينظر في وجهي، ولا يقول لي شيئا حتى فرغت، فقال لي: أغزوت الديلم؟ قلت: لا، قال: فغزوت السند؟ قلت: لا، قال: فغزوت الهند؟ قلت: لا. قال: فغزوت الروم قلت: لا، قال: يسلم منك الديلم، والسند والهند، والروم، وليس يسلم منك أخوك هذا؟ قال: فلم يعد
_________
(1) طبقات ابن سعد (7/ 234 - 235) ومشاهير علماء الأمصار (153) والسير (5/ 155) ووفيات الأعيان (1/ 247 - 250) والبداية والنهاية (9/ 347 - 352) والمعرفة والتاريخ (2/ 93 - 95) وتهذيب الكمال (3/ 407 - 440) وتاريخ خليفة (354) وشذرات الذهب (1/ 160).(2/187)
سفيان إلى ذاك. قال حماد بن سلمة: قال إياس: لا تنظر إلى ما يصنع العالم، فإن العالم قد يصنع الشيء يكرهه، ولكن سله حتى يخبرك بالحق. توفي سنة اثنتين وعشرين ومائة.
موقفه من القدرية:
- روى عبد الله في السنة بالسند إليه قال: أعلم الناس بالقدر ضعفاؤهم يقول: إن كل من لم يدخل في خصومة القدر كان من قوله إذا تكلم: كان من قدر الله كذا وكذا. (1)
- وروى أيضا عنه قال: ما كلمت أحدا من أهل الأهواء بعقلي كله إلا القدرية فإني قلت لهم: ما الظلم فيكم؟ فقالوا أن يأخذ الإنسان ما ليس له. فقلت لهم: فإن الله على كل شيء قدير. (2)
- وجاء في تهذيب الكمال: قال الأصمعي عن عدي بن الفصيل البصري: اجتمع إياس بن معاوية وغيلان، عند عمر بن عبد العزيز، فقال عمر: أنتما مختلفان وقد اجتمعتما فتناظرا تتفقا، فقال إياس: يا أمير المؤمنين إن غيلان صاحب كلام، وأنا صاحب اختصار. فإما أن يسألني ويختصر، أو أسأله وأختصر، فقال غيلان: سل، فقال إياس: أخبرني: ما أفضل شيء خلقه الله عز وجل؟ قال: العقل. قال: فأخبرني عن العقل مقسوم أو مقتسم؟ فأمسك غيلان، فقال له: أجب. فقال: لا جواب عندي، فقال إياس: قد
_________
(1) السنة لعبد الله (133).
(2) السنة لعبد الله (145) وأصول الاعتقاد (4/ 765/1280) ونحوه في الإبانة (2/ 11/274 - 275/ 1899) والشريعة (1/ 426 - 427/ 519) والبداية والنهاية (9/ 349) وتهذيب الكمال (3/ 416) والمنهاج لابن تيمية (2/ 304 - 305) ومجموع الفتاوى له (18/ 139).(2/188)
تبين لك يا أمير المؤمنين أن الله تبارك وتعالى يهب العقول لمن يشاء، فمن قسم له منها شيئا ذاده به عن المعصية، ومن تركه تهور.
- قال الأصمعي: وحدثني غيره أن غيلان وإياسا التقيا فتساءلا، فقال إياس: أسألك أم تسألني؟ فقال له غيلان: سل. فقال له إياس: أي شيء خلق الله أفضل؟ قال: العقل. قال إياس: فمن شاء استكثر منه، ومن شاء استقل، فسكت غيلان مليا ثم قال: سل عن غير هذا؟ فقال له إياس: أخبرني عن العلم قبل أو العمل؟ فقال غيلان: والله لا أجيبك فيها. فقال إياس: فدعها، وأخبرني عن الخلق، خلقهم الله مختلفين أو مؤتلفين؟ فنهض غيلان وهو يقول: والله لا جمعني وإياك مجلس أبدا. (1)
- وجاء في البداية والنهاية: قال بعضهم: اكترى إياس بن معاوية من الشام قاصدا الحج، فركب معه في المحارة غيلان القدري، ولا يعرف أحدهما صاحبه، فمكثا ثلاثا لا يكلم أحدهما الآخر، فلما كان بعد ثلاث تحادثا فتعارفا وتعجب كل واحد منهما من اجتماعه مع صاحبه، لمباينة ما بينهما في الاعتقاد في القدر، فقال له إياس: هؤلاء أهل الجنة يقولون حين يدخلون الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} (2) ويقول أهل النار: {ربنا غلبت علينا شِقْوَتُنَا} (3) وتقول الملائكة:
_________
(1) تهذيب الكمال (3/ 416 - 417).
(2) الأعراف الآية (43).
(3) المؤمنون الآية (106).(2/189)
{سبحانك لا عِلْمَ لَنَا إِلًّا مَا عَلَّمْتَنَا} (1) ثم ذكر له من أشعار العرب وأمثال العجم ما فيه إثبات القدر ثم اجتمع مرة أخرى إياس وغيلان عند عمر بن العزيز فناظر بينهما فقهره إياس، وما زال يحصره في الكلام حتى اعترف غيلان بالعجز وأظهر التوبة، فدعا عليه عمر بن عبد العزيز إن كان كاذبا، فاستجاب الله منه فأمكن من غيلان فقتل وصلب بعد ذلك ولله الحمد والمنة. (2)
- وفي الإبانة: عن حبيب بن الشهيد؛ قال: جاؤوا برجل إلى إياس بن معاوية فقالوا: هذا يتكلم في القدر؛ فقال إياس: ما تقول؟ قال: أقول: إن الله عز وجل قد أمر العباد ونهاهم، وأن الله لا يظلم العباد شيئا، فقال له إياس: خبرني عن الظلم تعرفه أو لا تعرفه؟ قال: بلى أعرفه، قال: فما الظلم عندك؟ قال: أن يأخذ الرجل ما ليس له، قال: فمن أخذ ما له ظلم؟ قال: لا، قال: الآن عرفت الظلم. (3)
زيد بن علي (4) (122 هـ)
زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أبو الحسين الهاشمي
_________
(1) البقرة الآية (32).
(2) البداية (9/ 349).
(3) الإبانة (2/ 11/275/ 1900) والشريعة (1/ 427/520).
(4) طبقات ابن سعد (5/ 325 - 326) ووفيات الأعيان (5/ 122 - 123) وتهذيب الكمال (10/ 95 - 98) والسير (5/ 389 - 391) وفوات الوفيات (2/ 35 - 38) وتهذيب التهذيب (3/ 419 - 420).(2/190)
العلوي المدني، أخو أبي جعفر الباقر، وعبد الله، وعمر، وعلي، وحسين روى عن: أبيه زين العابدين، وأخيه الباقر، وعروة بن الزبير. وروى عنه: ابن أخيه جعفر بن محمد، وشعبة، وفضيل بن مرزوق وغيرهم. قال عنه جعفر الصادق: كان والله أقرأنا لكتاب الله وأفقهنا في دين الله، وأوصلنا للرحم، والله ما تركنا وفينا مثله. وسأله يوما بعض أصحابه عن قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} (1)، قال: أبو بكر وعمر، ثم قال: لا أنالني الله شفاعة جدي إن لم أوالهما. قال الذهبي رحمه الله تعالى: كان ذا علم وجلالة وصلاح، هفا، وخرج، فاستشهد. عاش نيفا وأربعين سنة، وقتل يوم ثاني صفر سنة اثنتين وعشرين ومائة رحمه الله.
موقفه من الرافضة:
- جاء في السير: قال عيسى بن يونس: جاءت الرافضة زيدا، فقالوا: تبرأ من أبي بكر وعمر حتى ننصرك، قال: بل أتولاهما. قالوا: إذا نرفضك، فمن ثم قيل لهم: الرافضة. وأما الزيدية: فقالوا بقوله، وحاربوا معه. (2)
- وفيها: وروى هشام بن البريد عن زيد بن علي قال: كان أبو بكر رضي الله عنه إمام الشاكرين، ثم تلا {وسيجزي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} (3) ثم قال: البراءة من أبي بكر هي البراءة من علي. (4)
_________
(1) الواقعة الآية (10).
(2) السير (5/ 390).
(3) آل عمران الآية (144).
(4) السير (5/ 390).(2/191)
- عن هشام بن الزبير عن زيد بن علي قال: البراءة من أبي بكر وعمر البراءة من علي عليه السلام. (1)
- عن كثير أبي إسماعيل النواء قال سألت زيد بن علي عن أبي بكر وعمر فقال: تولهما، قال قلت كيف تقول فيمن تبرأ منهما؟ قال تبرأ منه حتى يتوب. (2)
موقفه من القدرية:
جاء رجل إلى زيد بن علي فقال: يا زيد أنت الذي تزعم أن الله أراد أن يعصى؟ فقال له زيد: أيعصى عنوة؟ قال: فأقبل يحظر (3). (4)
سيَّار أبو الحكم (5) (122 هـ)
سَيَّار بن وردان الإمام الحجة القدوة الرباني أبو الحكم الواسطي. حدث عن طارق بن شهاب وأبي وائل شقيق وعامر الشعبي وأكثر عنه. وحدث عنه: شعبة ومسعر وسفيان الثوري وآخرون. قال عنه الإمام أحمد رحمه الله: صدوق ثقة ثبت في كل المشايخ. وقال عنه صاحب الحلية: المتعبد الصبار أبو الحكم سيار. توفي رحمه الله سنة اثنتين وعشرين ومائة.
_________
(1) أصول الاعتقاد (7/ 1381/2469) والشريعة (3/ 459 - 460/ 1920).
(2) السنة لعبد الله (226).
(3) يحظر: يعدو.
(4) أصول الاعتقاد (4/ 759 - 760/ 1264).
(5) الحلية (8/ 313 - 317) وتهذيب الكمال (12/ 313 - 315) والسير (5/ 391 - 392) والوافي بالوفيات (16/ 62) وتهذيب التهذيب (4/ 291 - 292).(2/192)
موقفه من القدرية:
- كان سيار أبو الحكم يقول: لا يصلى خلف القدرية فإذا صلى خلف أحد منهم أعاد الصلاة. (1)
- وجاء في الشريعة: عن المعتمر بن سليمان: سمعت أبا مخزوم يحدث عن سيار وأبي هاشم الرماني أنهما كانا يقولان: التكذيب بالقدر شرك. (2)
ثابت بن أسلم البناني (3) (123 هـ)
ثابت بن أَسْلَم أبو محمد البُنَانِي -بضم الباء الموحدة وبعدها نون وبعد الألف نون أخرى- مولاهم البصري أحد أئمة التابعين. ولد في خلافة معاوية. روى عن ابن عمر وعبد الله بن مغفل وابن الزبير وطائفة. وروى عنه: عطاء بن أبي رباح وقتادة وحميد الطويل وشعبة وخلق كثير. كان رأسا في العلم والعمل ثقة ثبتا رفيعا. قال أنس: إن للخير أهلا، وإن ثابتا هذا من مفاتيح الخير. قال بكر بن عبد الله: من أراد أن ينظر إلى أعبد أهل زمانه فلينظر إلى ثابت البناني. وقال: كابدت الصلاة عشرين سنة وتنعمت بها عشرين سنة. ومناقبه كثيرة.
توفي رحمه الله سنة ثلاث وعشرين ومائة.
_________
(1) أصول الاعتقاد (4/ 807/1349).
(2) الشريعة (1/ 434/541).
(3) الحلية (2/ 318 - 323) وطبقات ابن سعد (7/ 232 - 233) وتهذيب الكمال (4/ 349 - 351) وتذكرة الحفاظ (1/ 125) والسير (5/ 220 - 225) والوافي بالوفيات (10/ 461) وتهذيب التهذيب (2/ 2 - 4).(2/193)
موقفه من القدرية:
عن وزير بن عبد الله قال: سمعت ثابتا البناني يقول في قول الله عز وجل: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (1)؛ قال: بإثباتهم القدر. (2)
محمد بن شِهَاب الزُّهْرِي (3) (124 هـ)
محمد بن مسلم بن عبيد الله، الإمام العلم، حافظ زمانه، أبو بكر القرشي الزهري المدني. روى عن ابن عمر، وجابر بن عبد الله شيئا قليلا، ويحتمل أن يكون سمع منهما، وأنس بن مالك. حدث عنه عطاء بن أبي رباح وهو أكبر منه، وعمر بن عبد العزيز، وعمرو بن دينار وغيرهم. عن يحيى بن سعيد قال: ما بقي عند أحد من العلم ما بقي عند ابن شهاب. قال أبو بكر ابن منجويه: رأى عشرة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان من أحفظ أهل زمانه وأحسنهم سياقا لمتون الأخبار، وكان فقيها فاضلا. وقال مكحول: ما بقي على ظهرها أحد أعلم بسنة ماضية من الزهري. قال مالك: حدث الزهري
_________
(1) الأحزاب الآية (33).
(2) الإبانة (2/ 11/323/ 2012).
(3) المعرفة والتاريخ (1/ 620 - 643) والجرح والتعديل (8/ 71 - 74) وحلية الأولياء (3/ 360 - 381) والسير (5/ 326 - 350) وتهذيب الكمال (26/ 419) وتذكرة الحفاظ (1/ 108 - 113) وميزان الاعتدال (4/ 40) ووفيات الأعيان (4/ 177 - 179) والوافي بالوفيات (5/ 24 - 26) ومشاهير علماء الأمصار (66) والبداية والنهاية (9/ 354 - 362).(2/194)
يوما بحديث، فلما قام قمت فأخذت بعنان دابته، فاستفهمته فقال: تستفهمني؟ ما استفهمت عالما قط، ولا رددت شيئا على عالم قط. وكان الزهري يوصف بالعبادة. قال رحمه الله إنما يذهب العلم النسيان وترك المذاكرة. قال الذهبي رحمه الله: بعض من لا يعتد به لم يأخذ عن الزهري لكونه كان مداخلا للخلفاء، ولئن فعل ذلك فهو الثبت الحجة وأين مثل الزهري رحمه الله. قال الزهري: لا يرضى الناس قول عالم لا يعمل، ولا عمل عامل لا يعلم. مات رحمه الله سنة أربع وعشرين ومائة. وقيل سنة خمس وعشرين.
موقفه من المبتدعة:
- روى الدارمي بالسند إليه رحمه الله قال: كان من مضى من علمائنا يقولون: الاعتصام بالسنة نجاة، والعلم يقبض قبضا سريعا، فنعش العلم ثبات الدين والدنيا، وفي ذهاب العلم ذهاب ذلك كله. (1)
" التعليق:
هذا الإمام الزهري يحكي عن علماء أهل بلده الذين هم أهل المدينة -الصحابة والتابعون- أن الاعتصام بالكتاب والسنة نجاة في الدنيا والآخرة، والابتداع هلاك في الدنيا والآخرة وهذا إجماع من علماء أهل الحق كلهم جزاهم الله خيرا.
_________
(1) سنن الدارمي (1/ 45) والإبانة (1/ 2/319 - 320/ 159) وأبو نعيم في الحلية (3/ 369) وأصول الاعتقاد (1/ 106/136) والشريعة (2/ 104/764) وذم الكلام (ص.206) والطرف الأول منه في السير (5/ 337) وانظر مجموع الفتاوى (4/ 57).(2/195)
- وجاء في ذم الكلام بالسند إليه قال: تعلم السنة أفضل من عبادة مائتي سنة. (1)
" التعليق:
لا تعلم الأشعار الصوفية، والمتون الغريبة البعيدة عن الدليل، والعقائد الباطلة الموروثة عن ضلال اليونان، وغير ذلك مما ضرره واضح على العقيدة السلفية الخالصة من شوائب الشرك والبدع، والله المستعان.
- عن مالك بن أنس قال: سمعت ابن شهاب يقول: سلموا للسنة ولا تعارضوها. (2)
- عن الزهري قال: لا يحب الحديث من الرجال إلا ذكرانها ولا يكرهه إلا إناثها. (3)
- جاء في فتح الباري عن محمد بن علي قال: دخل ابن شهاب على الوليد بن عبد الملك فسأله عن حديث "إن الله إذا استرعى عبدا الخلافة كتب له الحسنات ولم يكتب له السيآت" (4) فقال له: هذا كذب، ثم تلا {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} إلى قوله: {بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} (5)
_________
(1) ذم الكلام (ص.204) ووعقيدة الصابوني (ص.318).
(2) الفقيه والمتفقه (1/ 385) وبنحوه في إعلام الموقعين (1/ 74).
(3) ذم الكلام (ص.78) وبنحوه في حلية الأولياء (3/ 365) وشرف أصحاب الحديث (ص.70).
(4) لم أقف عليه.
(5) ص الآية (26).(2/196)
فقال الوليد: إن الناس ليغروننا عن ديننا. (1)
- عن الزهري قال: إياكم وأصحاب الرأي، أعيتهم الأحاديث أن يعوها. (2)
موقفه من الرافضة:
- عن ابن أبي ذئب عن الزهري قال: ما رأيت قوما أشبه بالنصارى من السبائية. قال أحمد بن يونس: هم الرافضة. (3)
- عن الزهري قال: عمل معاوية بسيرة عمر بن الخطاب سنين لا يخرم منها شيئا. (4)
موقفه من الجهمية:
- جاء في السير: عن الأوزاعي سمعت الزهري لما حدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" (5) قلت له: فما هو؟ قال: من الله القول، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم، أمروا حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما جاء بلا كيف. (6)
- وفي الإبانة: عن الأوزاعي قال: سمعت الزهري ومكحولا يقولان:
_________
(1) الفتح (13/ 113).
(2) جامع بيان العلم وفضله (2/ 1052).
(3) الشريعة (3/ 567/2083) وجامع بيان العلم (2/ 1098).
(4) السنة للخلال (1/ 444).
(5) تقدم تخريجه في مواقف محمد بن الحنفية سنة (81هـ).
(6) السير (5/ 346).(2/197)
القرآن كلام الله غير مخلوق. (1)
- وعنه قال: ليس الجعدي من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -. (2)
موقفه من الخوارج:
جاء في مجموع الفتاوى: عن الأوزاعي قال: وقد قلت للزهري حين ذكر هذا الحديث "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" (3) فإنهم يقولون: فإن لم يكن مؤمنا فما هو؟ قال: فأنكر ذلك. وكره مسألتي عنه. (4)
موقفه من المرجئة:
- عن الزهري قال: ما ابتدعت في الإسلام بدعة أضر على أهله من هذه، يعني الإرجاء. (5)
- وقال معمر عن الزهري: كنا نقول الإسلام بالإقرار، والإيمان بالعمل، والإيمان: قول وعمل قرينان، لا ينفع أحدهما إلا بالآخر، وما من أحد إلا يوزن قوله وعمله فإن كان عمله، أوزن من قوله: صعد إلى الله؛ وإن كان كلامه أوزن من عمله لم يصعد إلى الله. (6)
- عن معمر قال: قال الزهري: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أسلمنا} (7)
_________
(1) الإبانة (2/ 12/8/ 185).
(2) درء التعارض (5/ 302).
(3) تقدم تخريجه.
(4) مجموع الفتاوى (7/ 32).
(5) الإبانة (2/ 885/1222) والشريعة (1/ 307/329) والإيمان لأبي عبيد (23).
(6) مجموع الفتاوى (7/ 295) وعزاه لأبي عمرو الطلمنكي.
(7) الحجرات الآية (14).(2/198)
قال: نرى الإسلام الكلمة والإيمان العمل. (1)
- قال معقل: فلقيت الزهري فأخبرته بقولهم (2) فقال: سبحان الله أو قد أخذ الناس في هذه الخصومات قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الشارب الخمر حين يشربها وهو مؤمن" (3). (4)
موقفه من القدرية:
- روى اللالكائي بالسند إلى الزهري قال: القدر رياض الزندقة فمن دخل فيه هملج (5). (6)
- وروى ابن بطة بسنده عنه قال: القدر نظام التوحيد، فمن وحد ولم يؤمن بالقدر؛ كان كفره بالقدر نقضا للتوحيد، ومن وحد وآمن بالقدر؛ كانت عروة لا انفصام لها. (7)
إبراهيم بن هشام (8) (125 هـ)
إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي. ولاه هشام بن عبد الملك إمارة
_________
(1) أخرجه أبو داود (5/ 62/4684).
(2) أي المرجئة.
(3) تقدم تخريجه.
(4) أصول الاعتقاد (5/ 1024 - 1025/ 1732) والسنة لعبد الله (117 - 119) والسنة للخلال (4/ 29 - 32/ 1105) والإبانة (2/ 808 - 811/ 1101).
(5) هملج: أسرع.
(6) أصول الاعتقاد (4/ 784/1314).
(7) الإبانة (2/ 10/221/ 1800) والسير (5/ 343 مختصرا).
(8) تاريخ الطبري (7/ 226 - 227) والكامل في التاريخ (5/ 273 - 274) وتاريخ خليفة (361 - 362).(2/199)
الحجاز (مكة والمدينة والطائف) منذ سنة ست ومائة إلى أربع عشرة ومائة للهجرة. وفي سنة خمس وعشرين ومائة كتب الوليد بن يزيد إلى يوسف بن عمر، فقدم عليه، فدفع إليه خالد بن عبد الله القسري ومحمدا وإبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزوميين، وأمره بقتلهم.
موقفه من القدرية:
جاء في أصول الاعتقاد عن حميد بن حبيب: أنه رأى محمد بن إسحاق مجلودا في القدر، جلده إبراهيم بن هشام خال هشام بن عبد الملك. (1)
" التعليق:
ما أعظمهما من رجلين يتتبعان رؤوس البدع ليطهرا الأرض منهم. أين من يدعون أنهم حماة الإسلام الآن؟ لقد عششت وفرخت البدع والخرافات والعقائد الباطلة من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم، وصار المبتدعة أصدقاءهم الأعزاء، ولقوا عندهم كل تقدير واحترام، أما دعاة عقيدة السلف فلقوا كل تشريد وطرد وإبعاد وإن ربك لبالمرصاد، والله المستعان.
مطر بن طهمان (2) (125 هـ)
الإمام الزاهد الصادق، أبو رجاء مَطَر بن طَهْمَان الخراساني، الوراق
_________
(1) أصول الاعتقاد (4/ 800/1335).
(2) الجرح والتعديل (8/ 287 - 288) وتهذيب الكمال (28/ 51 - 55) وحلية الأولياء (3/ 75 - 78) والسير (5/ 452 - 453) ومشاهير علماء الأمصار (95) وتاريخ خليفة (389).(2/200)
نزيل البصرة. روى عن الحسن البصري، ومحمد بن سيرين وقتادة بن دعامة وعامر الشعبي وآخرين. وعنه جملة منهم: شعبة، وإبراهيم بن طهمان، وحماد ابن سلمة وحماد بن زيد. قال الخليل ابن عمر بن إبراهيم: سمعت عمي أبا عيسى يقول: ما رأيت مثل مطر في فقهه وزهده. من درر أقواله أنه قال في قوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (1) قال: هل من طالب علم يعان عليه. وقال: لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه بميزان التربص لم يوجد أحدهما يزيد على صاحبه شيئا.
مات سنة خمس وعشرين ومائة.
موقفه من المبتدعة:
- عن مطر الوراق قال: عمل قليل في سنة خير من عمل كثير في بدعة، من عمل في سنة قبل الله منه ومن عمل في بدعة رد الله عليه بدعته. (2)
- عن مطر الوراق قال: ترك أصحاب الرأي الآثار والله. (3)
موقفه من الجهمية:
جاء عنه في السنة قال: لقيني عمرو بن عبيد فقال: والله إني وإياك لعلى أمر واحد قال: وكذب والله إنما عنى على الأرض قال: وقال مطر: والله ما أصدقه في شيء. (4)
_________
(1) القمر الآية (17).
(2) الإبانة (1/ 2/358 - 359/ 248).
(3) الفقيه والمتفقه (1/ 463).
(4) السنة لعبد الله (149) والإبانة (2/ 11/304/ 1973).(2/201)
هشام بن عبد الملك (1) (125 هـ)
هشام بن عبد الملك بن مروان الخليفة أبو الوليد القرشي الأموي الدمشقي. ولد سنة اثنتين وسبعين. أمه عائشة بنت هشام بن إسماعيل المخزومي. كان هشام حريصا جماعا للمال، ذكيا عاقلا حازما، له بصر بالأمور جليلها وحقيرها، وكان فيه حلم وأناة وظلم مع عدل، يكره سفك الدماء. استخلف بعد وفاة أخيه يزيد، وبعهد منه، لأربع بقين من شعبان عام خمس ومائة للهجرة، وعمره آنذاك أربعة وثلاثون عاما. قيل: وتفقد هشام بعض ولده فلم يحضر الجمعة، فقال: ما منعك من الصلاة؟ قال: نفقت دابتي، قال: أفعجزت عن المشي؟ فمنعه الدابة سنة. قال العيشي: قال هشام: ما بقي علي شيء من لذات الدنيا إلا وقد نلته إلا شيئا واحدا، أخ أرفع مؤنة التحفظ منه.
توفي سنة خمس وعشرين ومائة.
موقفه من الجهمية:
- جاء في أصول الاعتقاد عن صالح بن أبي عبيد الله قال: قرأت في دواوين هشام بن عبد الملك إلى عامله بخراسان نصر بن سيار: أما بعد: فقد نجم قبلك رجل من الدهرية من الزنادقة يقال له جهم بن صفوان، فإن أنت ظفرت به فاقتله وإلا فادسس إليه من الرجال غيلة ليقتلوه. (2)
_________
(1) تاريخ خليفة (356 - 357) والبداية والنهاية (9/ 365 - 369) وتاريخ الطبري (7/ 200 - 208) وفوات الوفيات (4/ 238 - 239) والكامل في التاريخ (5/ 261 - 264) والسير (5/ 351) وشذرات الذهب (1/ 163 - 165).
(2) أصول الاعتقاد (3/ 424/637).(2/202)
- وفي الإبانة: عن أبي الوليد قال: القرآن كلام الله وليس بمخلوق، ومن لم يعقد عليه قلبه أنه ليس بمخلوق؛ فهو كافر. (1)
- عن إسماعيل بن أبي الحارث قال: سمعت هارون بن معروف يقول: كتب هشام بن عبد الملك -أو بعض ملوك بني أمية- إلى سلم بن أحوز أن يقتل جهما حيث ما لقيه فقتله سلم بن أحوز وكان والي مرو. (2)
موقفه من القدرية:
تقدم في مواقف عمر بن عبد العزيز مناظرته لغيلان، حتى قال له: وإني أعاهد الله أن لا أتكلم في شيء مما كنت أتكلم به أبدا. قال: اذهب فلما ولى قال: اللهم إن كان كاذبا فيما قال: فأذقه حر السلاح، قال: فلم يتكلم زمن عمر فلما كان زمن يزيد بن عبد الملك وكان رجلا لا يهتم لهذا، ولا ينظر فيه، قال: فتكلم غيلان فلما ولي هشام أرسل إليه فقال: أليس قد عاهدت الله لعمر أن لا تكلم في شيء من هذا الأمر أبدا قال: أقلني فوالله لا أعود، قال: لا أقالني الله إن أقلتك، هل تقرأ فاتحة الكتاب قال: نعم. قال: اقرأها فقرأ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (3). قال: قف، علام استعنته؟ قال: على أمر بيده لا تستطيعه إلا به أو على أمر في يدك أو
_________
(1) الإبانة (2/ 12/55/ 252).
(2) أصول الاعتقاد (3/ 424/636).
(3) الفاتحة الآيات (2 - 5).(2/203)
بيدك؟ اذهبا به فاقطعا يديه ورجليه واضربا عنقه واصلباه. (1)
سعد بن إبراهيم (2) (125 هـ)
الإمام الحجة سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قاضي المدينة أبو إسحاق ويقال أبو إبراهيم الزهري المدني، وأمه أم كلثوم بنت سعد بن أبي وقاص. روى عن أبيه وخاليه إبراهيم وعامر ابني سعد، وأنس بن مالك وأبي أمامة بن سهل وعبد الله بن شداد بن الهاد وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج، وخلق سواهم. وعنه ابنه إبراهيم بن سعد ومسعر والسفيانان وأبو عوانة وابن عجلان، وطائفة. قال أحمد بن حنبل: كان ثقة فاضلا، ولي قضاء المدينة. وعن حجاج بن محمد: كان شعبة إذا ذكر سعد بن إبراهيم قال: حدثني حبيبي سعد بن إبراهيم. قال ابن حجر: كان ثقة فاضلا عابدا. مات رحمه الله تعالى سنة خمس وعشرين ومائة، وقيل بعدها، وهو ابن اثنتين وسبعين سنة.
موقفه من المبتدعة:
قال الشافعي: أخبرني من لا أتهم من أهل المدينة عن ابن أبي ذئب، قال: قضى سعد بن إبراهيم على رجل بقضية برأي ربيعة بن أبي عبد الرحمن، فأخبرته عن النبي بخلاف ما قضى به، فقال سعد لربيعة: هذا ابن أبي ذئب، وهو عندي ثقة يخبرني عن النبي بخلاف ما قضيت به، فقال له ربيعة: قد
_________
(1) السنة لعبد الله (146) وأصول الاعتقاد (4/ 789 - 791/ 1325).
(2) تهذيب الكمال (10/ 240 - 247) والسير (5/ 418) وتاريخ الإسلام (حوادث 121 - 140/ص.111 - 113) والوافي بالوفيات (15/ 148) وتهذيب التهذيب (3/ 463) والتقريب (1/ 342) وشذرات الذهب (1/ 173).(2/204)
اجتهدت ومضى حكمك، فقال سعد: واعجبا أنفذ قضاء سعد بن أم سعد، وأرد قضاء رسول الله؟ بل أرد قضاء سعد بن أم سعد، وأنفذ قضاء رسول الله، فدعا سعد بكتاب القضية فشقه وقضى للمقضي عليه. (1)
عمرو بن دينار (2) (126 هـ)
عمرو بن دينار، الإمام الكبير أبو محمد الجمحي مولاهم المكي الأثرم أحد الأعلام وشيخ الحرم في زمانه. ولد في إمرة معاوية سنة خمس أو ست وأربعين. روى عن جملة منهم: أنس بن مالك وابن عباس وجابر بن عبد الله وابن عمر، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وطاووس. وعنه ابن أبي مليكة وقتادة والزهري وأيوب السختياني، والثوري وابن عيينة وآخرون. قال عبد الله بن أبي نجيح: ما رأيت أحدا أفقه من عمرو بن دينار، لا عطاء ولا مجاهدا ولا طاووسا. قال أحمد بن حنبل: كان شعبة لا يقدم على عمرو بن دينار أحدا لا الحكم ولا غيره في الثبت قال: كان عمرو مولى هؤلاء، ولكن الله شرفه بالعلم. قال شعبة: ما رأيت في الحديث أثبت من عمرو بن دينار.
قال يحيى بن معين: أهل المدينة لا يرضون عمرا يرمونه بالتشيع، والتحامل على ابن الزبير، ولا بأس به، وهو بريء مما يقولون.
_________
(1) الرسالة (1233)، الفقيه والمتفقه (1/ 506 - 507) والسير (5/ 419 - 420).
(2) طبقات ابن سعد (5/ 479 - 480) وتاريخ خليفة (368) والسير (5/ 300 - 307) والمعرفة والتاريخ (2/ 18 - 22و207) والجرح والتعديل (6/ 231) وتهذيب الكمال (22/ 5 - 13) والعقد الثمين (5/ 382) ومشاهير علماء الأمصار (84) وشذرات الذهب (1/ 171).(2/205)
توفي رحمه الله سنة ست وعشرين ومائة.
موقفه من الجهمية:
- جاء في أصول الاعتقاد عنه قال: أدركت مشايخنا والناس منذ سبعين سنة يقولون القرآن كلام الله منه بدأ وإليه يعود. (1)
- وفيه عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار قال: سمعت مشيختنا منذ سبعين سنة يقولون القرآن كلام الله غير مخلوق.
- وقال محمد بن عمار: ومَن مشيخته إلا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ابن عباس وجابر وذكر جماعة. (2)
- وفيه عنه قال: أدركت تسعة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولون: من قال القرآن مخلوق فهو كافر. (3)
موقفه من القدرية:
جاء في الميزان والسير عنه قال: دخلت على وهب بن منبه داره بصنعاء، فأطعمني من جوزة في داره، فقلت: وددت أنك لم تكن كتبت في القدر كتابا. قال: وأنا والله لوددت ذلك. (4)
_________
(1) أصول الاعتقاد (2/ 260/381) والإبانة (2/ 12/6 - 7/ 183) والمنهاج (2/ 253).
(2) أصول الاعتقاد (2/ 260 - 261/ 383).
(3) أصول الاعتقاد (2/ 259/380) والتلبيس (109).
(4) الميزان (4/ 353) السير (4/ 548).(2/206)
درَّاج أبو السَّمح (1) (126 هـ)
دراج بن سَمْعَان، يقال: اسمه عبد الرحمن ودراج لقب، أبو السَّمْح القرشي السهمي المصري القاص. روى عن: عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي، وأبي الهيثم وأبي قبيل المعافري وعبد الرحمن بن حجيرة. وروى عنه: حيوة بن شريح وسعيد بن يزيد القتباني وعمرو بن الحارث. يقال: كان مجاب الدعوة من الخاشعين. توفي سنة ست وعشرين ومائة.
موقفه من المبتدعة:
عن دراج أبي السمح قال: يأتي على الناس زمان، يسمن الرجل راحلته حتى تعقد شحما، ثم يسير عليها في الأمصار حتى تعود نقضا، يلتمس من يفتيه بسنة قد عمل بها فلا يجد إلا من يفتيه بالظن. (2)
خالد القسري (3) (126 هـ)
الأمير الكبير أبو الهيثم خالد بن عبد الله بن يزيد القسري، كان جوادا ممدوحا معظما عالي الرتبة، من نبلاء الرجال، لكنه فيه نصب معروف. روى عن أبيه. وروى عنه حميد الطويل وإسماعيل بن أبي خالد وسيار وغيرهم. قيل
_________
(1) تهذيب الكمال (8/ 477 - 480) وميزان الاعتدال (2/ 24 - 25) تاريخ الإسلام (حوادث 121 - 140/ص.90 - 91) والوافي بالوفيات (14/ 6 - 7) وتهذيب التهذيب (3/ 208 - 209) وشذرات الذهب (1/ 171).
(2) ابن وضاح (ص.174 - 261) وجامع بيان العلم وفضله (1/ 603) وأورده الشاطبي في الاعتصام (1/ 136).
(3) الجرح والتعديل (3/ 340) والسير (5/ 124و276 - 280) ووفيات الأعيان (2/ 226 - 231) وتهذيب الكمال (8/ 107 - 118) والبداية والنهاية (10/ 19 - 23) وتاريخ الطبري (7/ 254 - 260) وشذرات الذهب (1/ 169 - 171).(2/207)
لسيار: تروي عن خالد؟ قال: إنه كان أشرف من أن يكذب. كان واليا على مكة من سنة تسع وثمانين إلى سنة عشرين بعد المائة. كان قائما في إطفاء الضلال والبدع كقتله للجعد بن درهم وغيره من أهل الإلحاد. كان كريما كثير الجود فقد كان يطعم في اليوم ستة وثلاثين ألفا من الأعراب من تمر وسويق.
من أقواله: لا يحتجب الوالي إلا لثلاث خصال: إما رجل عيي فهو يكره أن يطلع الناس على عيه، وإما رجل يشتمل على سوءة فهو يكره أن يعرف الناس ذلك، وإما رجل بخيل يكره أن يسأل. ومن أقواله أيضا: إن أكرم الناس من أعطى من لا يرجوه، وأعظم الناس عفوا من عفا عن قدرة، وأوصل الناس من وصل عن قطيعة. توفي سنة ست وعشرين بعد المائة الأولى للهجرة.
موقفه من المشركين:
- جاء في سير أعلام النبلاء وميزان الاعتدال: عن أبي بكر بن عياش قال: رأيت خالدا القسري حين أتي بالمغيرة بن سعيد وأصحابه، وكان يريهم أنه يحيى الموتى، فقتل خالد واحدا منهم ثم قال للمغيرة: أحيه فقال: والله ما أحيي الموتى، قال: لتحيينه أو لأضربن عنقك، ثم أمر بطن من قصب فأضرموه وقال: اعتنقه، فأبى فعدا رجل من أتباعه فاعتنقه. قال أبو بكر: فرأيت النار تأكله وهو يشير بالسبابة فقال خالد: هذا والله أحق بالرئاسة منك. ثم قتله وقتل أصحابه.(2/208)
قال الذهبي: كان رافضيا (1) خبيثا كذابا ساحرا، ادعى النبوة، وفضل عليا على الأنبياء وكان مجسما، سقت أخباره في ميزان الاعتدال. (2)
قال المدائني: أتي خالد بن عبد الله برجل تنبأ بالكوفة فقيل له ما علامة نبوتك؟ قال: قد نزل علي قرآن، قال: إنا أعطيناك الكماهر، فصل لربك ولا تجاهر. ولا تطع كل كافر وفاجر. فأمر به فصلب [وكان يقول] (3) وهو يصلب: إنا أعطيناك العمود، فصل لربك على عود، فأنا ضامن لك ألا تعود. (4)
- وجاء في البداية والنهاية في حوادث سنة ثماني عشرة ومائة: وفيها قصد شخص يقال له: عمار بن يزيد، ثم سمي بخداش، إلى بلاد خراسان ودعا الناس إلى خلافة محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، فاستجاب له خلق كثير، فلما التفوا عليه دعاهم إلى مذهب الخرمية الزنادقة، وأباح لهم نساء بعضهم بعضا، وزعم لهم أن محمد بن علي يقول ذلك، وقد كذب عليه فأظهر الله عليه الدولة فأخذ فجيء به إلى خالد بن عبد الله القسري أمير العراق وخراسان، فأمر به فقطعت يده وسل لسانه ثم صلب بعد ذلك. (5)
- وجاء في ميزان الاعتدال في ترجمة بيان الزنديق: قال ابن نمير: قتله خالد بن عبد الله القسري وأحرقه بالنار.
_________
(1) يعني المغيرة.
(2) السير (5/ 426) وميزان الاعتدال (4/ 162) والبداية والنهاية (10/ 21).
(3) زيادة يقتضيها السياق.
(4) البداية والنهاية (10/ 21).
(5) البداية والنهاية (9/ 333).(2/209)
قال الذهبي: هذا بيان بن سمعان النهدي من بني تميم، ظهر بالعراق بعد المائة، وقال بإلهية علي؛ وأن فيه جزءا إلهيا متحدا بناسوته ثم من بعده في ابنه محمد بن الحنفية، ثم في أبي هاشم ولد بن الحنفية، ثم من بعده في بيان هذا؛ وكتب بيان كتابا إلى أبي جعفر الباقر، يدعوه إلى نفسه، وأنه نبي. (1)
موقفه من الجهمية:
جاء في السير عن قتيبة بن سعيد وغيره قالا: حدثنا القاسم بن محمد عن عبد الرحمن بن محمد بن حبيب عن أبيه عن جده قال: شهدت خالدا القسري في يوم أضحى يقول: ضحوا تقبل الله منكم فإني مضح بالجعد بن درهم، زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما، تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا ثم نزل فذبحه. (2)
" التعليق:
أصبح هذا الموقف خالدا لخالد خلده الله في جنات الخلد هو وأمثاله ممن أراحوا المسلمين من رؤوس البدع والضلالة في كل زمان ومكان.
موقفه من الخوارج:
جاء في البداية والنهاية: وفي هذه السنة (أي تسع عشرة ومائة) خرج رجل يقال له بهلول بن بشر ويلقب بكثارة، واتبعه جماعات من الخوارج دون المائة، وقصدوا قتل خالد القسري، فبعث إليهم البعوث فكسروا الجيوش واستفحل أمرهم جدا لشجاعتهم وجلدهم، وقلة نصح من يقاتلهم
_________
(1) الميزان (1/ 357).
(2) السير (5/ 432) والفتاوى (10/ 66 - 67).(2/210)
من الجيوش، فردوا العساكر من الألوف المؤلفة، ذوات الأسلحة والخيل المسومة، هذا وهم لم يبلغوا المائة، ثم إنهم راموا قدوم الشام لقتل الخليفة هشام، فقصدوا نحوها، فاعترضهم جيش بأرض الجزيرة فاقتتلوا معهم قتالا عظيما، فقتلوا عامة أصحاب بهلول الخارجي. ثم إن رجلا من جديلة يكنى أبا الموت ضرب بهلولا ضربة فصرعه وتفرقت عنه بقية أصحابه، وكانوا جميعهم سبعين رجلا، وقد رثاهم بعض أصحابهم فقال:
بُدِّلت بعد أبي بشر وصحبته ... قوما علي مع الأحزاب أعوانا
بانوا كأن لم يكونوا من صحابتنا ... ولم يكونوا لنا بالأمس خلانا
يا عين أذري دموعا منك تهنانا ... وأبكي لنا صحبة بانوا وجيرانا
خلوا لنا ظاهر الدنيا وباطنها ... وأصبحوا في جنان الخلد جيرانا
ثم تجمع طائفة منهم أخرى على بعض أمرائهم فقاتلوا وقتلوا وقتلوا، وجهزت إليهم العساكر من عند خالد القسري، ولم يزل حتى أباد خضراءهم ولم يبق لهم باقية. (1)
عبد الكريم بن مالك الجزري (2) (127 هـ)
عبد الكريم بن مالك، أبو سعيد الجزري الحراني، مولى بني أمية، الحافظ الإمام، عالم الجزيرة، رأى أنس بن مالك رضي الله عنه. روى عن سعيد بن
_________
(1) البداية والنهاية (9/ 336 - 337).
(2) تهذيب الكمال (18/ 252 - 258) وتذكرة الحفاظ (1/ 140) وسير أعلام النبلاء (6/ 80) وتهذيب التهذيب (6/ 373 - 375) وشذرات الذهب (1/ 173) وتاريخ الإسلام (حوادث 121 - 140،ص.167).(2/211)
جبير وسعيد بن المسيب وعبد الرحمن بن أبي ليلى وطاووس وعطاء ومجاهد وغيرهم. وروى عنه: شعبة وأيوب وسفيان بن عيينة ومسعر بن كدام ومعمر بن راشد، وعدة. قال سفيان: ما رأيت عربيا أثبت من عبد الكريم. وقال أبو طالب عن أحمد بن حنبل: ثقة، ثبت، وهو أثبت من خصيف في الحديث، وهو صاحب سنة. وقال الحميدي عن سفيان: كان حافظا، وكان من الثقات، لا يقول إلا سمعت وحدثنا ورأيت. توفي رحمه الله سنة سبع وعشرين ومائة.
موقفه من المبتدعة:
- عن مروان بن شجاع قال: سمعت عبد الكريم الجزري يقول: ما خاصمت قط. (1)
- وعنه أيضا قال: سمعت عبد الكريم يقول: ما خاصم ورع قط في الدين. (2)
موقفه من المرجئة:
- عن معقل بن عبيد الله العبسي قال: قدم علينا سالم الأفطس بالإرجاء فنفر منه أصحابنا نفارا شديدا فيهم ميمون بن مهران وعبد الكريم ابن مالك فأما عبد الكريم بن مالك فإنه عاهد الله أن لا يأويَه وإياه سقف بيت إلا
_________
(1) الإبانة (2/ 3/525/ 633).
(2) الشريعة (1/ 191/129) والإبانة (2/ 3/525/ 634).(2/212)
المسجد. (1)
- وعن موسى بن أعين الجزري سمعت عبد الكريم بن مالك الجزري وخصيف بن عبد الرحمن يقولان: الإيمان يزيد وينقص. (2)
أبو إسحاق السَّبِيعِي (3) (127 هـ)
عمرو بن عبد الله، أبو إسحاق السبيعي الهمداني الكوفي، الحافظ أحد الأعلام. ولد لسنتين بقيتا من خلافة عثمان، ورأى عليا رضي الله عنه يخطب. وغزا الروم في خلافة معاوية، روى عن: معاوية بن أبي سفيان، وابن عباس، والبراء بن عازب، وجابر بن سمرة، وعمرو بن الحارث الخزاعي، وجماعة من الصحابة وعن خلائق من كبار التابعين. وروى عنه: ابن سيرين، والزهري، وأبان بن تغلب، وقتادة، ومالك بن مغول وخلق سواهم. عن ابن فضيل، عن أبيه قال: كان أبو إسحاق يقرأ القرآن في كل ثلاث. وقال علي ابن المديني: حفظ العلم على الأمة ستة: فلأهل الكوفة أبو إسحاق والأعمش، ولأهل البصرة: قتادة ويحيى بن أبي كثير ولأهل المدينة: الزهري، ولأهل مكة: عمرو بن دينار. وقيل لشعبة: أسمع أبو إسحاق من مجاهد؟ قال: وما كان يصنع به، هو أحسن حديثا من مجاهد ومن الحسن وابن سيرين.
_________
(1) أصول الاعتقاد (5/ 1024/1732) والسنة لعبد الله (117) والسنة للخلال (4/ 29 - 32/ 1105) والإبانة (2/ 6/808 - 809/ 1101).
(2) السنة لعبد الله (95).
(3) طبقات ابن سعد (6/ 313 - 315) وتهذيب الكمال (22/ 102 - 113) وميزان الاعتدال (3/ 270) وسير أعلام النبلاء (5/ 392) وتهذيب التهذيب (8/ 63) وشذرات الذهب (1/ 174).(2/213)
وقال ابن حجر: ثقة مكثر عابد، اختلط بأخرة. توفي سنة سبع وعشرين ومائة، وقيل تسع وعشرين، والله أعلم.
موقفه من المبتدعة:
قال الإمام الآجري: وأنبأنا الفريابي قال: حدثنا إسماعيل بن سيف قال: حدثنا حسان بن إبراهيم الكرماني قال: سمعت أبا إسحاق الهمداني يقول: من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام. (1)
موقفه من الرافضة:
- جاء في أصول الاعتقاد: قال أبو إسحاق الهمداني: شتم أبي بكر وعمر من الكبائر التي قال الله عز وجل: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} (2). (3)
- وفيه عن حمزة الزيات قال: سألت أبا إسحاق السبيعي: فما ترى في الصلاة خلف من يسب أبا بكر وعمر؟ قال: ألست تجد غيرهم؟ قلت: بلى. قال: لا تصلي خلفهم. (4)
- وجاء في السنة للخلال: عنه قال: ما رأيت بعده مثله يعني معاوية. (5)
- وفيها: عنه أنه ذكر معاوية فقال: لو أدركتموه أو أدركتم زمانه
_________
(1) الشريعة (3/ 577/2097).
(2) النساء الآية (31).
(3) أصول الاعتقاد (7/ 1341 - 1342/ 2388).
(4) أصول الاعتقاد (8/ 1545 - 1546/ 2814).
(5) السنة للخلال (1/ 438).(2/214)
كان المهدي. (1)
موقفه من الجهمية:
جاء في أصول الاعتقاد عن أبي إسحاق قال: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وزيادة} (2) قال: النظر إلى وجه الرحمن. (3)
عَبْدَة بن أبي لُبَابَة (4) (127 هـ)
عَبْدَة بن أبي لُبَابَة، أبو القاسم الأسدي ثم الغاضري مولاهم الكوفي ويقال: مولى قريش، أحد الأئمة، نزيل دمشق، وهو خال الحسن بن الحر. روى عن ابن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص، ومجاهد بن جبر، وعمر بن الخطاب مرسل، وآخرين. روى عنه شعبة بن الحجاج والأوزاعي وسفيان بن عيينة وغيرهم. قال أبو أسامة عن الأوزاعي: لم يقدم علينا من العراق أحد أفضل من عبدة بن أبي لبابة والحسن بن الحر، وكانا شريكين جميعا. روى الأوزاعي عنه قال: أقرب الناس إلى الرياء آمنهم منه. قال رجاء بن أبي سلمة: سمعت عبدة يقول: لوددت أن حظي من أهل الزمان أنهم لا يسألوني عن شيء، ولا أسألهم، إنهم يتكاثرون بالمسائل كما يتكاثر أهل الدراهم
_________
(1) السنة للخلال (1/ 439) وهو في منهاج السنة (6/ 233 - 234).
(2) يونس الآية (26).
(3) أصول الاعتقاد (3/ 511 - 512/ 794).
(4) طبقات ابن سعد (6/ 328) والجرح والتعديل (6/ 89) والسير (5/ 229 - 230) وتهذيب الكمال (18/ 541) وتهذيب التهذيب (6/ 461 - 462).(2/215)
بالدراهم. قال الأوزاعي: كان عبدة بن أبي لبابة إذا كان في المسجد لم يذكر شيئا من أمر الدنيا. قال الأوزاعي عن عبدة بن أبي لبابة: إذا رأيت الرجل لجوجا مماريا معجبا برأيه فقد تمت خسارته. مات في حدود سنة سبع وعشرين ومائة.
موقفه من المبتدعة:
روى الدارمي بسنده إليه قال: قد رضيت من أهل زماني هؤلاء أن لا يسألوني ولا أسألهم إنما يقول أحدهم أرأيت أرأيت. (1)
موقفه من القدرية:
عن عبدة بن أبي لبابة قال: علم الله ما هو خالق وما الخلق عاملون، ثم كتبه ثم قال لنبيه: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (2). (3)
يزيد بن أبي حبيب (4) (128 هـ)
الإمام الفقيه يزيد بن أبي حبيب، أبو رجاء المصري مولى شريك بن الطفيل الأزدي. ولد تقريبا سنة ثلاث وخمسين، روى عن إبراهيم بن عبد الله
_________
(1) سنن الدارمي (1/ 67).
(2) الحج الآية (70).
(3) الإبانة (2/ 10/316/ 1996) والشريعة (1/ 453/582).
(4) طبقات ابن سعد (7/ 513) وتهذيب الكمال (32/ 102 - 107) والسير (6/ 31) وتاريخ الإسلام (حوادث 121 - 140/ص.304 - 306) وتهذيب التهذيب (11/ 318) وشذرات الذهب (1/ 175).(2/216)
ابن حنين وعلي بن رباح وأبي الطفيل وسعيد بن أبي هند، وروى عنه سعيد ابن أبي أيوب وحيوة بن شريح ويحيى بن أيوب والليث بن سعد وابن لهيعة.
قال أبو سعيد بن يونس: كان مفتي أهل مصر وكان حليما عاقلا وهو أول من أظهر العلم والمسائل والحلال والحرام بمصر. وقال الليث بن سعد: هو عالمنا وسيدنا. وثقه أبو زرعة الرازي والعجلي وغيرهما. وقال الحافظ ابن حجر: ثقة فقيه، وكان يرسل. مات رحمه الله سنة ثمان وعشرين ومائة.
موقفه من المبتدعة:
أخرج ابن بطة: عن يزيد بن أبي حبيب قال: إذا كثر مراء القارئ فقد أحكم الخسارة. (1)
موقف السلف من الجهم بن صفوان (128 هـ)
- جاء في السير: الجهم بن صفوان أبو محرز الراسبي مولاهم السمرقندي الكاتب المتكلم أس الضلالة ورأس الجهمية، كان صاحب ذكاء وجدال كتب للأمير حارث بن سريج التميمي وكان ينكر الصفات وينزه الباري عنها بزعمه ويقول بخلق القرآن ويقول: إن الله في الأمكنة كلها. قال ابن حزم: كان يخالف مقاتلا في التجسيم وكان يقول: الإيمان عقد بالقلب وإن تلفظ بالكفر، قيل إن سلم بن أحوز قتل الجهم لإنكاره أن الله كلم موسى. (2)
_________
(1) الإبانة (2/ 3/511/ 592).
(2) السير (6/ 26 - 27).(2/217)
- جاء في الفتاوى الكبرى عن ابن شوذب: ترك جهم الصلاة أربعين يوما وكان فيمن خرج مع الحارث بن سريج. وعن مروان بن معاوية الفزاري وذكر جهما فقال: قبح الله جهما حدثني ابن عم لي أنه شك في الله أربعين صباحا. (1)
- وفيها: عن يحيى بن أيوب قال: كنا يوما عند مروان بن معاوية الفزاري فسأله رجل عن حديث الرؤية فلم يحدثه به، قال: إن لم تحدثني به فأنت جهمي، فقال مروان: أتقول لي جهمي وجهم مكث أربعين ليلة لا يعرف ربه؟! (2)
- وفيها: قال عبد العزيز بن أبي سلمة: كلام جهم صفة بلا معنى وبناء بلا أساس، ولم يُعَد قط من أهل العلم. (3)
- وفي المنهاج قال شيخ الإسلام: وإنما أنكر ذلك الجهم بن صفوان فزعم أن الجنة والنار يفنيان. (4)
أبو كثير السحيمي اليمامي (5) (129 هـ)
أبو كثير السُّحَيْمِي الغُبَرِي اليَمَامِي، الأعمى، قيل اسمه: يزيد بن عبد الرحمن بن أذينة، وقيل: يزيد بن عبد الله بن أذينة، وقيل: ابن غفيلة. روى
_________
(1) الفتاوى الكبرى (5/ 41).
(2) الفتاوى الكبرى (5/ 41).
(3) الفتاوى الكبرى (5/ 41).
(4) المنهاج (1/ 146 - 147).
(5) تاريخ الثقات للعجلي (479) الثقات لابن حبان (5/ 539) وتهذيب الكمال (34/ 221) وتهذيب التهذيب (12/ 211) وتاريخ الإسلام (حوادث 121 - 140، ص.325).(2/218)
عن أبيه وأبي ذر وأبي هريرة. وروى عنه: ابنه زفر وأيوب ابن عتبة وعكرمة ويحيى بن أبي كثير وغيرهم. وثقه أبو حاتم وأبو داود والنسائي والعجلي، وذكره ابن حبان في الثقات. توفي رحمه الله سنة تسع وعشرين ومائة.
موقفه من القدرية:
جاء في الإبانة عنه أنه ذكر عنده القدرية؛ فقال: لا تجادلوهم ولا تجالسوهم؛ فإنهم شعبة من المنانية قد كان كسرى يصلب فيها. (1)
يحيى بن أبي كثير (2) (129 هـ)
يحيى بن أبي كثير أبو نصر الطائي مولاهم اليمامي، واسم أبيه صالح بن المتوكل وقيل يسار وقيل: نشيط، وكان مولى لطيء، كان أحد العلماء الأعلام الأثبات. حدث عن خلق كثير منهم: أنس بن مالك، وأبو أمامة الباهلي مرسلا وأبو سلمة بن عبد الرحمن وعبد الله بن أبي قتادة. روى عنه جم غفير منهم: معمر بن راشد والأوزاعي وأبان بن يزيد المعلم، وحسين المعلم، وابنه عبد الله بن يحيى. قال أبو حاتم الرازي: هو إمام لا يروي إلا عن ثقة، وقد نالته محنة وضرب لكلامه في ولاة الجور. قال أيوب السختياني: ما أعلم أحدا بالمدينة بعد الزهري أعلم من يحيى بن أبي كثير. مات سنة تسع وعشرين ومائة.
_________
(1) الإبانة (2/ 10/221/ 1798).
(2) طبقات ابن سعد (5/ 555) وتهذيب الكمال (31/ 504) والسير (6/ 27 - 31) وميزان الاعتدال 4/ 402 - 403) وشذرات الذهب (1/ 176) وتاريخ الإسلام (حوادث 121 - 140، ص.297 - 299).(2/219)
موقفه من المبتدعة:
- جاء في الشريعة: قال يحيى بن أبي كثير: إذا لقيت صاحب بدعة في طريق فخذ في غيره. (1)
" التعليق:
لأنه شيطان يتحايل عليك بخيله ورجله وحباله وأعوانه وأكاذيبه، فمن لا يعرف المبتدعة وأكاذيبهم ربما ينخدع بهم، ولا سيما في زمننا هذا.
- جاء في ذم الكلام عنه قال: ثلاثة لا غيبة فيهم: إمام جائر وصاحب بدعة وفاسق. (2)
" التعليق:
لأنه من باب النصيحة لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، والساكت غاش وخائن وجبان.
- قال الأوزاعي: وكان يحيى يقول: السنة قاضية على القرآن وليس القرآن بقاض على السنة. (3)
_________
(1) الشريعة (1/ 199/142) وأصول الاعتقاد (1/ 155/259) والإبانة (2/ 3/474/ 490) وذم الكلام (ص.203) وما جاء في البدع (ص.106) والحلية (3/ 67) وبنحوه في السير (6/ 29) والاعتصام (1/ 113 - 114).
(2) ذم الكلام (ص.177).
(3) الإبانة (1/ 1/254/ 89) وذم الكلام (ص.74) والدارمي (1/ 145) وجامع بيان العلم وفضله (2/ 1194).(2/220)
موقفه من المرجئة:
عن الأوزاعي قال: كان يحيى بن أبي كثير وقتادة يقولان: ليس من الأهواء شيء أخوف عندهم على هذه الأمة من الإرجاء. (1)
موقفه من القدرية:
- جاء في السنة لعبد الله عنه قال في القدرية: هم الذين يقولون إن الله لم يقدر الشر. (2)
- وجاء في أصول الاعتقاد عن عكرمة بن عمار قال: سألت يحيى بن أبي كثير: من القدرية؟ فقال: الذين يقولون: إن الله لم يقدر المعاصي. (3)
سلم بن أحوز (4) (130 هـ)
سلم بن أحوز، أمير الشرط لنصر بن سيار، قتل الجهم بن صفوان -رأس الجهمية- على المشهور سنة ثمان وعشرين ومائة، ثم كانت وقعة هائلة بين جيش أبي مسلم الخراساني وجيش نصر بن سيار، فانهزم جيش نصر، وظفر أبو مسلم بسلم بن أحوز فحبسه، ثم أقدمه، فقتله هو وآخرين، وذلك في حدود الثلاثين ومائة.
_________
(1) أصول الاعتقاد (5/ 1064/1816) والسنة لعبد الله (86) والإبانة (2/ 885 - 886/ 1223) والشريعة (1/ 309/337).
(2) السنة (123).
(3) أصول الاعتقاد (4/ 774 - 775/ 1298).
(4) تاريخ الطبري (4/ 321) والكامل في التاريخ (5/ 382) وتاريخ الإسلام (حوادث 121 - 140، ص.27و67).(2/221)
موقفه من الجهمية:
- عن بكير بن معروف قال: رأيت سلم بن الأحوز ضرب عنق الجهم فاسود وجهه. (1)
- وأخرج ابن أبي حاتم من طريق محمد بن صالح مولى بني هاشم قال: قال سلم حين أخذه، يا جهم إني لست أقتلك لأنك قاتلتني، أنت عندي أحقر من ذلك، ولكني سمعتك تتكلم بكلام أعطيت الله عهدا أن لا أملكك إلا قتلتك فقتله. (2)
" التعليق:
انظر كيف يفعل مع المبتدعة الذين صاروا فيما بعد أئمة يدعون إلى النار، فكم جر هذا الخبيث هو وسلفه وأفراخه من بلايا على العقيدة السلفية. وكم وقعت من الفتن بسبب ذلك وكم مسلم مات على غير عقيدة السلف والله المستعان.
مالك بن دينار (3) (130 هـ)
مالك بن دينار السامي الناجي، أبو يحيى البصري الزاهد، معدود في
_________
(1) أصول الاعتقاد (3/ 424/638).
(2) الفتح (13/ 429).
(3) طبقات ابن سعد (7/ 243) وحلية الأولياء (2/ 357) وتهذيب الكمال (27/ 135) وتاريخ الإسلام (حوادث 121 - 140/ص.214 - 217) وسير أعلام النبلاء (5/ 362) وشذرات الذهب (1/ 173).(2/222)
ثقات التابعين، ومن أعيان كتبة المصاحف. روى عن أنس بن مالك والأحنف بن قيس وسعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح والحسن وجماعة. وعنه: سعيد بن أبي عروبة وهمام بن يحيى وابن شوذب وجماعة. قال ابن حبان: كان يكتب المصاحف بالأجرة ويتقوت بأجرته. وكان يجانب الإباحات جهده ولا يأكل شيئا من الطيبات، وكان من المتعبدة الصبر والمتقشفة الخشن. قال مالك بن دينار: أتينا أنس بن مالك أنا وثابت ويزيد الرقاشي وزياد النميري، فنظر إلينا فقال: ما أشبهكم بأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - وإني لأدعو لكم بالأسحار. وقال مالك بن دينار: إذا تعلم العبد ليعمل به كسره علمه، وإذا تعلم العلم لغير العمل زاده فخرا. وروى الأصمعي عن أبيه قال: مر المهلب بن أبي صفرة على مالك بن دينار وهو يتبختر في مشيته، فقال مالك: أما علمت أن هذه المشية تكره إلا بين الصفين؟ فقال له المهلب: أما تعرفني؟ قال: أعرفك أولك نطفة مذرة وآخرك جيفة قذرة وأنت بينهما تحمل العذرة، فقال المهلب: الآن عرفتني حق المعرفة. قال خليفة وابن المديني وغيرهما: مات سنة ثلاثين ومائة.
موقفه من المبتدعة:
- عن سيار بن جعفر قال: سمعت مالك بن دينار يقول: الناس أجناس كأجناس الطير، الحمام مع الحمام، والغراب مع الغراب، والبط مع البط، والصعو مع الصعو، وكل إنسان مع شكله. (1)
- قال: وسمعت مالك بن دينار يقول: من خلط خلط له ومن
_________
(1) الإبانة (2/ 3/480/ 512).(2/223)
صفى صفي له وأقسم بالله لئن صفيتم ليصفين لكم. (1)
موقفه من المرجئة:
قال مالك بن دينار: الإيمان يبدو في القلب ضعيفا ضئيلا كالبقلة، فإن صاحبه تعاهده فسقاه بالعلوم النافعة والأعمال الصالحة، وأماط عنه الدغل وما يضعفه ويوهنه، أوشك أن ينمو أو يزداد، ويصير له أصل وفروع، وثمرة وظل إلى ما لا يتناهى حتى يصير أمثال الجبال. وَإِنْ صاحبه أهمله ولم يتعاهده جاءه عنز فنتفتها، أوصبي فذهب بها، وأكثر عليها الدغل فأضعفها أو أهلكها أو أيبسها، كذلك الإيمان. (2)
أبو الزِّنَاد عبد الله بن ذَكْوَان (3) (130 هـ)
الإمام الحافظ عبد الله بن ذكوان القرشي، أبو عبد الرحمن المدني المعروف بأبي الزناد، مولى رملة بنت شيبة بن ربيعة، امرأة عثمان بن عفان، وقيل مولى عائشة بنت شيبة بن ربيعة وقيل مولى آل عثمان، وقيل مولى عائشة بنت عثمان بن عفان. مولده في نحو سنة خمس وستين في حياة ابن عباس.
روى عن أنس بن مالك وأبي أمامة بن سهل وابن المسيب والقاسم بن
_________
(1) الإبانة (2/ 3/480/ 513).
(2) مجموع الفتاوى (7/ 225).
(3) طبقات خليفة (259) وتاريخ دمشق (44/ 63) والسير (5/ 445) وتهذيب الكمال (14/ 476 - 483) وتهذيب التهذيب (5/ 203 - 205) وشذرات الذهب (1/ 182).(2/224)
محمد وعروة وغيرهم، وروى عنه ابنه عبد الرحمن وابن أبي مليكة ومالك والليث والسفيانان والأعمش وآخرون.
قال حرب بن إسماعيل عن أحمد بن حنبل: كان سفيان يسمي أبا الزناد أمير المؤمنين في الحديث. وقال أبو حاتم: ثقة فقيه، صالح الحديث، صاحب سنة. وقال ابن سعد: كان ثقة، كثير الحديث، فصيحا، بصيرا بالعربية، عالما، عاقلا. قال البخاري: أصح أسانيد أبي هريرة: أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة. توفي رحمه الله سنة ثلاثين ومائة وهو ابن ست وستين سنة.
موقفه من المبتدعة:
- جاء في الفقيه والمتفقه: عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه قال: إن السنن لا تخاصم، ولا ينبغي لها أن تتبع بالرأي والتفكير، ولو فعل الناس ذلك لم يمض يوم إلا انتقلوا من دين إلى دين، ولكنه ينبغي للسنن أن تلزم ويتمسك بها على ما وافق الرأي أو خالفه. (1)
ولعمري إن السنن ووجوه الحق لتأتي كثيرا على خلاف الرأي، ومجانبته خلافا بعيدا، فما يجد المسلمون بدا من اتباعها والانقياد لها، ولمثل ذلك ورع أهل العلم والدين فكفهم عن الرأي، ودلهم على غوره وغورته، إنه يأتي الحق على خلافه في وجوه غير واحدة، من ذلك: أن قطع أصابع اليد، مثل قطع اليد من المنكب، أي ذلك أصيب ففيه ستة ألف.
_________
(1) الفقيه والمتفقه (1/ 392 - 393).(2/225)
ومن ذلك: أن قطع الرجل في قلة ضررها مثل قطع الرجل من الورك، أي ذلك أصيب ففيه ستة ألف.
ومن ذلك: أن في العينين إذا فقئتا، مثل ما في قطع أشراف الأذنين في قلة ضررهما، أي ذلك أصيب ففيه اثنا عشر ألفا.
ومن ذلك: أن في شجتين موضحتين صغيرتين مائة دينار، وما بينهما صحيح فإن جرح ما بينهما حتى تقام إحداهما إلى الأخرى، كان أعظم للجرح بكثير، ولم يكن فيها حينئذ إلا خمسون دينارا.
ومن ذلك أن المرأة الحائض تقضي الصيام ولا تقضي الصلاة.
ومن ذلك رجلان قطعت أذنا أحدهما جميعا، يكون له اثنا عشر ألفا، وقتل الآخر فذهبت أذناه وعيناه ويداه ورجلاه، وذهبت نفسه ليس له إلا اثنا عشر ألفا، مثل الذي لم يصب إلا أشراف أذنيه، في أشباه هذا غير واحدة. فهل وجد المسلمون بدا من لزوم هذا؟!
وأي هذه الوجوه يستقيم على الرأي أو يخرج في التفكير؟ ولكن السنن من الإسلام، بحيث جعلها الله، هي ملاك الدين وقيامه الذي بني عليه الإسلام، وأي قول أجسم وأعظم خطرا مما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع حين خطب الناس فقال: "وقد تركت فيكم أيها الناس، ما إن اعتصمتم به، فلن تضلوا أبدا، أمرا بينا: كتاب الله، وسنة نبيه" (1)، فقرن
_________
(1) أخرجه الحاكم (1/ 93) والبيهقي (10/ 114) من طريق ثور بن زيد الديلي عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب الناس في حجة الوداع فذكره. وقال الحاكم: "قد احتج البخاري بأحاديث عكرمة واحتج مسلم بأبي أويس وسائر رواته متفق عليهم وهذا الحديث لخطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - متفق على إخراجه في الصحيح يا أيها الناس إني قد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله وأنتم مسئولون عني فما أنتم قائلون". وذكر الاعتصام بالسنة في هذه الخطبة غريب ويحتاج إليها. ووافقه الذهبي وقال: "وله أصل في الصحيح". وللحديث شواهد كثيرة، انظر الصحيحة للشيخ الألباني رحمه الله (1761).(2/226)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما. (1)
وايم الله إن كنا لنلتقط السنن من أهل الفقه والثقة، ونتعلمها شبيها بتعليمنا آي القرآن، وما برح من أدركنا من أهل الفضل والفقه من خيار الناس يعيبون أهل الجدل والتنقيب ومن أخذ بالرأي أشد العيب، وينهوننا عن لقائهم ومجالستهم، ويحذروننا مقاربتهم أشد التحذير، ويخبروننا أنهم أهل ضلال وتحريف، بتأويل كتاب الله وسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى كره المسائل وناحية التنقيب والبحث عن الأمور، وزجر عن ذلك وحذره المسلمين في غير موطن حتى كان من قوله - صلى الله عليه وسلم - كراهية ذلك أن قال: "ذروني ما تركتكم، فإنما أهلك الذين من قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم" (2). (3)
فأي أمر أكف لمن يعقل عن التنقيب من هذا؟ ولم يبلغ الناس يوم قيل لهم هذا القول من الكشف عن الأمور جزءا من مائة جزء مما بلغوا اليوم، وهل هلك أهل الأهواء وخالفوا الحق إلا بأخذهم بالجدل، والتفكير في دينهم، فهم كل يوم على دين ضلال وشبهة جديدة لا يقيمون على دين، وإن أعجبهم إلا نقلهم الجدل والتفكير إلى دين سواه، ولو لزموا السنن وأمر
_________
(1) الفقيه والمتفقه (1/ 393 - 394).
(2) أخرجه أحمد (2/ 247) والبخاري (13/ 312/7288) ومسلم (2/ 975/1337) والترمذي (5/ 45 - 46/ 2679) وقال: "هذا حديث حسن صحيح". والنسائي (5/ 116 - 117/ 2618) وابن ماجه (1/ 3/2) كلهم من طرق عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بألفاظ متقاربة.
(3) هذا الجزء من كلام أبي الزناد قد أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2/ 949 - 950)، وانظر الاعتصام (2/ 847).(2/227)
المسلمين وتركوا الجدل لقطعوا عنهم الشك، وأخذوا بالأمر الذي حضهم عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضيه لهم، ولكنهم تكلفوا ما قد كفوا مؤنته وحملوا على عقولهم من النظر في أمر الله ما قصرت عنه عقولهم، وحق لها أن تقصر عنه وتحسر دونه، فهنالك تورطوا وأين ما أعطى الله العباد من العلم في قلته وزهادته مما تناولوا، قال الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} (1)، وقد قص الله تعالى ما عير -أو غير هذه الكلمة- به موسى عليه السلام، من أمر الرجل الذي لقيه فقال: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} (2)،
فكان منه في خرقه السفينة، وقتله الغلام، وبنائه الجدار، ما قد قال الله تعالى في كتابه، فأنكر موسى ذلك عليه، وجاءه ذلك في ظاهر الأمر منكرا لا تعرفه القلوب، ولا يهتدي له التفكير، حتى كشف الله ذلك لموسى فعرفه، وكذلك ما جاء من سنن الإسلام وشرائع الدين التي لا توافق الرأي، ولا تهتدي لها العقول، ولو كشف للناس عن أصولها لجاءت للناس واضحة بينة غير مشكلة على مثل ما جاء عليه أمر السفينة وأمر الغلام وأمر الجدار، فإن ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - كالذي جاء به موسى يعتبر بعضه ببعض، ويشبه بعضه بعضا، ومن أجهل وأضل وأقل معرفة بحق الله وحق رسوله وبنور الإسلام وبرهانه ممن قال لا أقبل سنة ولا أمرا مضى من أمر المسلمين
_________
(1) الإسراء الآية (85).
(2) الكهف الآية (65) ..(2/228)
حتى يكشف لي غيبه وأعرف أصوله؟ أو لم يقل ذلك بلسانه، فكان عليه رأيه وفعله، ويقول الله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1). (2)
- وقال مسلم في مقدمة صحيحه: حدثنا نصر بن علي الجهضمي حدثنا الأصمعي عن ابن أبي الزناد عن أبيه قال: أدركت بالمدينة مائة كلهم مأمون ما يؤخذ عنهم الحديث، يقال: ليس من أهله. (3)
" التعليق:
هكذا كان منهج السلف الصالح رضوان الله عليهم لا يكتفون بمظاهر العبادة والزهد ولكن يضيفون إلى ذلك دقة العلم والمعلومات، فإن كان من أهل العلم وعرف بالرواية والحديث وكان مأمونا في الحديث أخذوا عنه، وإلا لم يلتفتوا إلى ما عنده. وأما أهل هذا الزمان الذين فقدوا الموازين، فيأخذون عن كل أحد تظاهر لهم بالإسلام والصلاح وادعى لهم أنه وصل إلى كذا وكذا، أو رأى في منامه كذا وكذا، أو كشفت له الحجب، أو ظهرت له كرامات، كل ذلك من أدلته التي أقامها وتبعه الناس عليها ولو كان على ضلالة حتى ادعى المهدويَة كثيرٌ من الدجاجلة، وادعى عيسى كثير
_________
(1) النساء الآية (65).
(2) الفقيه والمتفقه (1/ 395 - 396).
(3) أخرجه مسلم في المقدمة (1/ 15) والرامهرمزي في المحدث الفاصل (ص.407) والخطيب في الكفاية (ص.159) وكذا في (ص.162).(2/229)
من المفترين، وادعى القطبية التي هي زور وبهتان كثير من المتحايلين، وادعى المشيخة المزعومة والإذن كثير من المهرجين، وادعى الصلاح والإصلاح كثير من المخرفين. والناس إذا لم يتعلموا السنة ساقهم كل راع، والأمثلة في وقتنا الحاضر كثيرة في الشرق وفي الغرب يعرفها من له تتبع لأحوال العالم الإسلامي.
حسان بن عطية (1) (بين 120 هـ إلى 130 هـ)
الإمام الحجة أبو بكر المحاربي مولاهم الدمشقي. حدث عن أبي أمامة الباهلي وسعيد بن المسيب وأبي كبشة السلولي وطائفة. وحدث عنه: الأوزاعي وأبو معيد حفص بن غيلان وأبو غسان محمد بن مطرف وغيرهم. قال الأوزاعي: ما رأيت أحدا أكثر عملا في الخير من حسان بن عطية. وقال أيضا: كان حسان بن عطية إذا صلى العصر يذكر الله تعالى في المسجد حتى تغيب الشمس. قال يحيى بن معين: كان قدريا. قال الذهبي معقبا: لعله رجع وتاب. مات من العشرين إلى الثلاثين ومائة.
موقفه من المبتدعة:
- جاء في سنن الدارمي بالسند إليه قال: ما ابتدع قوم بدعة في دينهم
_________
(1) حلية الأولياء (6/ 70 - 79) وتاريخ الإسلام (حوادث 121 - 140/ص.74 - 76) والسير (5/ 466 - 468) وتهذيب التهذيب (2/ 251) وتهذيب الكمال (6/ 34 - 40).(2/230)
إلا نزع الله من سنتهم مثلها ثم لا يعيدها إليهم إلى يوم القيامة. (1)
- عن الأوزاعي عن حسان بن عطية قال: خمس كان عليها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والتابعون بإحسان: اتباع السنة، ولزوم الجماعة، وتلاوة القرآن، والجهاد في سبيل الله.
- قال أبو عبد الله المروزي: وأظن قال: وعمارة المساجد. (2)
- عن حسان بن عطية قال: إذا أراد الله بقوم شرا ألقى بينهم الجدل وخزن العلم. (3)
موقفه من المرجئة:
جاء في الإبانة: عن الأوزاعي عن حسان بن عطية قال: إن الإيمان في كتاب الله صار إلى العمل فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} ثم صيرهم إلى العمل فقال: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} (4).
" التعليق:
قال ابن بطة: فاحذروا، رحمكم الله، من يقول أنا مؤمن عند الله وأنا
_________
(1) سنن الدارمي (1/ 45) وأصول الاعتقاد (1/ 104/129) والإبانة (1/ 2/351/ 228) وابن وضاح (ص.85) والحوادث والبدع (ص.146).
(2) تعظيم قدر الصلاة للمروزي (2/ 679).
(3) الفقيه والمتفقه (1/ 554).
(4) الأنفال الآيات (2 - 4).(2/231)
مؤمن كامل الإيمان ومن يقول إيماني كإيمان جبريل وميكائيل. فإن هؤلاء مرجئة أهل ضلال وزيغ وعدول عن الملة. (1)
طلحة بن عبيد الله بن كَرِيز (2) (ما بين 121 هـ و130 هـ)
طلحة بن عبيد الله بن كَرِيز أبو المُطَرِّف الكوفي الخُزَاِعي. روى عن الحسن بن علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمر، وعائشة. روى عنه: إبراهيم بن أبي عبلة، وحماد بن سلمة، وحميد الطويل. قال عنه أحمد بن حنبل والنسائي: ثقة. قال ابن عساكر: كان شريفا فاضلا. وقال ابن حجر: ثقة، من الطبقة الثالثة. وذكره الذهبي في تاريخ الإسلام ضمن الطبقة الثالثة عشرة المؤرخة بين 121هـ و130هـ.
موقفه من المبتدعة:
- خرج ابن وضاح عن أبان بن أبي عياش قال: لقيت طلحة بن عبيد الله بن كريز الخزاعي فقلت له: قوم من إخوانك من أهل السنة والجماعة لا يطعنون على أحد من المسلمين، يجتمعون في بيت هذا يوما وفي بيت هذا يوما، ويجتمعون يوم النيروز والمهرجان ويصومونهما. قال طلحة: بدعة من أشد البدع، والله لهم أشد تعظيما للنيروز والمهرجان من غيرهم. ثم استيقظ أنس بن مالك رضي الله عنه فرقيت إليه وسألته عما سألت طلحة، فرد علي
_________
(1) الإبانة (2/ 898 - 899/ 1253).
(2) تهذيب الكمال (13/ 424) وتهذيب التهذيب (5/ 22) وتقريب التهذيب (1/ 451) وتاريخ الإسلام (حوادث 121 - 140/ص.137) وطبقات ابن سعد (7/ 228) وتاريخ دمشق (25/ 125).(2/232)