العلمانية
في ميزان العقل
عيد الدويهيس
مقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمد عبده ورسوله.
يعيش العالم اليوم فترة من أشد فترات الجهل والضياع في الجوانب العقائدية والاجتماعية والسياسية، وتعرض العلم الفكري الى تشوهات كثيرة حتى أصبح الحق باطلا والباطل حقا، فلم يعد البشر يعرفون الله سبحانه وتعالى، وما هي صفاته؟ ولماذا خلقهم؟ وكيف يعبدونه ويطيعونه ؟ وما هو التوحيد والإيمان؟ وما هو الشرك والكفر؟ وهذه أمور هامة جدا لأنها تتعلق بالحقائق الكبرى في الكون، ويجهل البشر كذلك المعاني الصحيحة للحرية والعدل والحقوق والواجبات الزوجية والإرهاب والرحمة ......الخ مما أشعل بين المخلصين منهم النزاعات والصراعات السياسية والاجتماعية ، والسبب الرئيس وراء هذا الجهل هو الاقتناع بالعلمانية التي يعترف أهلها أن ما عندهم هو آراء متناقضة، وليس حقائق فكرية فللحرية عندهم معاني متناقضة وكذلك للعدل والعبادة والفساد ......الخ وهذا التناقض هو الجهل بعينه، ولكن العلمانيين استطاعوا أن يبعدوا الناس عن التعمق في العلمانية ليكتشفوا فشلها، وأنها والفلسفة وجهان لعملة واحدة، وذلك بأن اشغلوهم بالشعارات الجميلة، والأهداف العامة، والاختباء خلف العلم المادي والديمقراطية وتوجيه الاتهامات الكثيرة لخصومها، وخاصة للاتجاه الإسلامي فإذا كان الاتجاه الإسلامي على علاقة طيبة مع حكومة عربية اتهم بأن هذا تحالف مع الاستبداد والانتهازية والمتاجرة بالدين، واتهم علماء الإسلام بأنهم وعاظ السلاطين، وإذا فعل العلمانيون ذلك قالوا هو تعاون لمصلحة الشعب، ومحاولة إصلاح من الداخل، وتفويت الفرصة على أعداء الوطن الخارجيين، أما إذا حمل الاتجاه الإسلامي السلاح على حكومة فإنهم يتهمونه بالإرهاب، والتطرف،(1/1)
وبأنهم خوارج وأن هدفهم كرسي الحكم، ولو فعلوا هم ذلك لوصفوه بأنه كفاح وثورة ومحاربة لأنظمة عميلة ، وما أقوله ليس افتراضات بل واقع شاهدناه خلال الخمسين سنة الماضية، ولا شك في أن هذه العقلية العلمانية لا تصلح للبناء والإصلاح لأنها تحتكم الى الهوى والجهل الفكري، وما ينطبق على الجانب السياسي من ضياع المعايير والضوابط في الحكم على الأعمال والمواقف ينطبق أيضا على الجوانب العقائدية وما فيها من حق وباطل، وضياعهم فيها أشد خطرا، وأكثر تدميرا، ويأتي هذا الكتاب ليسلط الأضواء على حقيقة العلمانية بعد أن يجردها من الأقنعة التي تختبئ خلفها، ومن المساحيق التجميلية التي تضعها وعندها سيكتشف الناس كم هي قبيحة وشريرة، وسيقتنعوا بأنهم عاشوا أكبر عملية تزوير فكري في التاريخ، وأقول وأكرر: إن العلمانية ليست قوية بل هزيلة وضعيفة، ولكنها لم تجد من يهاجمها وينتقدها بصورة عميقة وذكية. ويأتي هذا الكتاب "العلمانية في ميزان العقل" بعد كتابي "عجز العقل العلماني" كجزء ثان من عملية جراحية طويلة لوضع النقاط على الحروف في مواضيع العقل والعلمانية والعلم والجهل، والدين والفلسفة والاجتهاد والعدل، والحرية ، وإذا كان الكتاب الأول قد ناقش الموضوع بطريقة علمية عميقة متسلسلة فإن هذا الكتاب ركز على الشرح والتفصيل والأمثلة الواقعية.
وفي الختام أجد من واجبي أن أشكر كل من ساعدني في إنجاز هذا الكتاب، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجزيهم خير الجزاء، وأن يجعل عملي خالصا لوجهه الكريم، واسأل كل من انتفع بشيء منه أن يدعو لي ولوالدي وللمسلمين أجمعين.
عيد بطاح الدويهيس
الكويت في 29 من ذي القعدة 1423 هجرية
1 فبراير 2003 ميلادية
المدخل لقراءة هذا الكتاب(1/2)
هناك نقاط لا بد من توضيحها حتى تتم قراءة هذا الكتاب بصورة صحيحة منها:- 1- الاستشهاد بالأمثلة الواقعية مطلوب جزئيا لإثبات نجاح أو فشل مبدأ أو فكرة أو مشروع ، إلا أنه ليس الوسيلة الصحيحة للحكم على المبادئ، لأن في واقع كل الدول الإسلامية والعلمانية قديما وحديثا إنجازات طيبة، وانحرافات سيئة ، فإيمان الشعوب بمبادئها يختلف من فترة الى أخرى، ويختلف الإيمان باختلاف الأفراد، كما أن هناك عوامل كثيرة تؤثر في الواقع فالواقع لا تصنعه المبادئ وحدها ، ولكن إذا كان الواقع ، والسلوك والأعمال والأقوال جاءت ممن يؤمنون بالمبادئ فهي محسوبة عليهم، وقد حاولت في هذا الكتاب أن أركز على المبادئ وعلى أدلتها العقلية لإثبات صوابها أو خطئها وابتعدت قدر الإمكان عن الواقع حتى ولو استشهدت به أحيانا .
2- نقدي الشديد للعلمانية ليس معناه أنها الخطر الوحيد الذي يواجه المسلمين والعالم ، فهناك أخطار كثيرة مثل التطرف باسم الإسلام، وعدم التزام الكثيرين بالصلاة والزكاة والصدق ، وضعف الدعوة إلى الله ، والفقر والعصبيات العرقية والسياسية والديكتاتورية ، والفساد الإداري ، وغياب المعاهد العلمية ؛ وهذه الأمور بحاجة إلى جهود إصلاحية كبيرة جدا ، وقد ذكرت بعضا منها في هذا الكتاب ، وليس هدف هذا الكتاب الوقوف عندها لأن موضوعه هو العلمانية .(1/3)
3- انتقادي للعلمانية الرأسمالية ليس معناه أنه ليست لديها إيجابيات ، ففي أمريكا حرية للرأي والحوار، وفيها حرية للاعتقاد والعبادة ، وفيها الديمقراطية والمساواة بين المواطنين، وغير ذلك، ولا شك أننا نجد المسلم في أمريكا له الحرية في ممارسة عقائده وعبادته أفضل مما هو متاح في بعض الدول العربية والإسلامية وهذه الأمور في أساسياتها هي جزء لا يتجزأ من مبادئنا الإسلامية، واختلافنا مع العلمانية هو في كفرها بالله سبحانه وتعالى، وأرجو أن يعرف العلمانيون معنى الكفر حتى لا يتهموني بالجهل بالعلمانية ، كما أن اختلافنا معها هو في ابتعادها عن الدين الإسلامي، واتباع الأنبياء والصالحين ، واختلافنا معها في مبادئها التي فككت الحياة الأسرية والاجتماعية ، ونشرت الفساد الأخلاقي والأمراض النفسية والمادية، وهذه الانحرافات ليست هامشية أو جزئية أو طبيعية ، بل هي كارثة ! فالكفر بالله سبحانه وتعالى أكبر الجرائم على الإطلاق، والفكر العلماني يجعل هذه الجرائم وغيرها هامشية، ويبالغ أيضا في حجم إيجابياته، ويقلل كذلك من إيجابيات الآخرين كمبادئ أو دول، وعندما سلط هذا الكتاب الأضواء على السلبيات العلمانية فإنما كان هذا بهدف إثبات فشلها، ولا يتعارض هذا مع الموضوعية لأن إيجابياتها لا ننكرها ولم ننكرها.(1/4)
4- ليس من الصحيح أيضا أن نجعل كل الإيجابيات في الواقع الأمريكي مصدرها العلمانية، فالتقدم التكنولوجي حققته عوامل كثيرة مثل التنافس الاستعماري، والحروب، والتنافس الاقتصادي بين الدول والشركات، وهذا لا ينفي أن يكون للعلمانية دور فيه، كما أن أمريكا دولة متأثرة بالفكر المسيحي، وهو يدعو إلى التسامح، وكذلك لليهود وإعلامهم في أمريكا دور كبير في الدفاع عن حرية الأديان والعقيدة حتى يكون لهم مكان ونفوذ وتأثير، واستفاد المسلمون بالطبع من ذلك، وأقصد من ذلك أن الواقع الأمريكي تأثر بعوامل كثيرة، وليس من الموضوعية أن نقول أن المبادئ العلمانية هي الوحيدة التي صنعت هذا الواقع.
5- ذكرت في كتاب عجز العقل العلماني أن العلمانية مبادئ خاطئة، وأن انتشارها يعود لمتاجرتها بالشعارات والأهداف العامة، وركوبها الحصان المادي، ولمساندتها من أوربا وأمريكا، وهي دول قوية وغنية، ولقدرتها الفائقة على تشويه المبادئ الإسلامية والدينية وغير ذلك، فهي وبلا شك عملية تزوير متقنة تحتاج صفحات كثيرة حتى نثبت أنها مبادئ خاطئة، ولهذا قمت بتأليف هذا الكتاب "العلمانية في ميزان العقل".
6- يهمني أن أذكر أن نقدي الشديد والصريح للعلمانية لا يتعارض مع العلمية والموضوعية، بل هو جزء منها، ولنا في القرآن الكريم نموذج يحتذي في الصراحة والوضوح، وتسمية الأشياء باسمها ، فالضياع ضياع ، والكفر كفر، والجاهلية جاهلية، والنفاق نفاق، والصراحة مطلوبة لأن البشرية تشكو من الضياع العقائدي والضبابية الفكرية، فلا مكان للمجاملات، ولا أنطلق من غضب أو كراهية لفرد أو دولة، وما كان في كلامي مما يخالف كلام الله ورسوله فأنا أتراجع عنه فالكتاب دعوة للمخلصين للاحتكام إلى العقل وللتعمق في دراسة العقائد والمبادئ حتى نستطيع بناء حياتنا كأفراد وأسر وتجمعات ودول على مبادئ صحيحة.(1/5)
7- موقف الدولة العلمانية من الأديان السماوية قضى على استبداد الكنيسة ورجال الدين، وقضى على اجتهادات دينية خاطئة مسيحية أو إسلامية، وأضعف تأثير خرافات وأساطير منسوبة الى الأديان في الواقع الشعبي ....الخ فهذه إيجابيات ولا ننكرها، ولكن العلمانية أنتجت سلبيات أكبر من ذلك بكثير بإتباعها المناهج الفلسفية، كما أن هذه الانحرافات ليست أصلا من الأديان السماوية الصحيحة، فهي ترفضها وتحاربها، فالعلمانية أحرقت الأخضر واليابس، ثم تحاول أن تقنعنا أن النار التي أشعلتها أرحم وأحسن من الأشواك التي كانت في الأعواد اليابسة.
العلمانية ليست الأسلوب العلمي
قال الأخ العزيز حجاج بو خضور في جريدة الطليعة بتاريخ 15ديسمبر 2001 " "العلمانية هي نهج اجتماعي متجدد مبدع مع كل تجدد حضاري وفكري، وهي إعمال العقل والمنطق الميسر والإدارة المثابرة والمساءلة العلمية الذاتية والمسئولية الواعية المجربة في شئون الدنيا بما يسرته الحضارة من إمكانيات وقدرات وخبرات متراكمة" وأقول هذه ليست العلمانية ، والعلمانية أبعد ما تكون عن الأسلوب العلمي والعلم، بل هي المنبع الأكبر للجهل والضياع ، واليكم الأدلة :-(1/6)
1- يجب أن نتفق على أن للمصطلحات معان علمية محددة متفق عليها، فعندما نقول الإسلام أو الرأسمالية أو الشيوعية أو السيارة أو الطائرة .............الخ فنحن نتكلم عن مصطلح له معان معروفة، ومفاهيم محددة لا يجوز تغييرها، والعلمانية ليست كما عرفها الأخ حجاج بل هي حسب المراجع العلمية كما جاء في قاموس اكسفورد (العلمانية مفهوم يرى ضرورة أن تقوم الأخلاق والتعليم على أساس غير ديني)(1) وهي من مصادر أخرى (مأخوذة من كلمةsecularism وتعنى الدنيا اوالدنيويه اواللادينية (2) وهي (حركة تاريخية حملت الأفراد من داخل المجتمع الغربي من المجتمع (الثيوقراطي) الديني إلى المدنية الأرضية، وفى هذا السياق لم يعد الإنسان مجبرا على تنظيم أفكاره وأعماله وفق معايير فرضت على أنها إرادات إلهية (3)) وأقول بأن أي تعاريف أخرى للعلمانية مخالفة لهذه المعاني غير صحيحة فالعلمانية ليست الأسلوب العلمي وليست العالمية أو العلمية أو الحداثة أو العقلانية ، فهذا خلط للأوراق . فالعلمانية تعنى أننا كبشر قادرين على بناء دولتنا وحياتنا الشخصية وأنظمتنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية وتحديد مواقفنا من الأحداث السياسية اعتمادا على عقولنا المجردة ،ولسنا بحاجة إلى رسالات سماوية ، وأنبياء حتى نعرف الحق من الباطل في هذه الأمور، ومعنى ذلك أن عقولنا قادرة على تحديد معاني العدل والحرية والمساواة وحقوق الإنسان، وتحديد مناهج الإصلاح بصورة أفضل وأعدل وأعلم مما أمرنا الله سبحانه وتعالى، بل إن الأديان السماوية هي منبع التعصب والتخلف والجمود والجاهلية والسذاجة قال تعالى: "ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور"(40) سورة النور، فالعلمانية هي أقوال الفلاسفة واقتناعاتهم، وهي التي أنتجت الشيوعية والاشتراكية والنازية والرأسمالية والوجودية ..الخ وهذه كلها فلسفات جاهلية حتى ولو ظن أصحابها انهم أهل علم وعقل وتفكير لأنهم لم يصلوا إلى حقائق فكرية وعلم(1/7)
وحكمة، بل وصلوا إلى آراء ونظريات وظنون وحلول وسط ، وجدل وحيرة وضياع . فالعلمانية جاءت كرد فعل لانحراف رجال الكنيسة في أوربا في العصور الوسطى، فهي ليست شيئا مجهولا بل أحداث معروفة وواقع تم تطبيقه منذ عدة قرون في أوربا وأمريكا، وانتج الرأسمالية، والشيوعية، والنازية ، والوجودية ..........الخ .
2- لو كان العلمانيون يتبعون الأسلوب العلمي لوجدوا أن الأدلة العقلية أثبتت وجود الله سبحانه وتعالى ، وأثبتت صدق الأنبياء ، وبالتالي ما جاء به الأنبياء هو الصحيح، وهو مبنى على العقل والعلم، وعلينا اتباع الإسلام وعقائده وشريعته والالتزام به. ولكن العلمانيين يريدون أن يبتعدوا عن العلم والصراط المستقيم، ومن خالف العلم فهو في جهل، ومن يريد أن يبنى دولته أو حتى حياته الشخصية على أساس غير سليم،أي غير علمي فكأنه يقول أنا لا اعتقد أن خالق السموات والأرض العليم الحكيم، وخالقي وخالق عقلي قادر على أن يهديني للعلم والنور ومن الحماقة والجهل أن يقولوا أن الإسلام دين صحيح، ولكننا لا نريد أن نطبقه بل نريد أن نطبق غيره مما يخالفه، ونريد أن نحبسه في المسجد والحياة الشخصية، ونريد أن نأخذ قوانيننا وعقائدنا (حتى لو خالفت أمر الله سبحانه وتعالى) مما يقوله الفلاسفة المتناقضون أو التصويت الشعبي ممن يعترفون بأن ما عندهم آراء ووجهات نظر وظن وليس علما. وهذا وغيره يثبت أن العلمانيين لا يتبعون العقل، ولا العلم، بل الظن والشبهات وردود الفعل.(1/8)
3- لو كان العلمانيون يتبعون العقل لعارضوا الكنيسة فيما انحرفت فيه من نصوص، أو تعصب، أو مخالفة لحقائق مادية لا أن يتطرفوا ويرفضوا الدين كله، ولو كانوا أهل عقل لالتزموا بالدين الصحيح لا برفض كل دين، ولو كانوا أهل عقل لدرسوا الإسلام وتأكدوا أنه دين صحيح ، فاتبعوه أو اثبتوا انه دين خاطئ فرفضناه معهم، ولوا كانوا أهل عقل لما تجاهلوا قضايا عقائديه هامة جدا وهي من خلق هذا الكون؟ ولماذا خلقنا؟ وأين تنتهي حياتنا؟ ...........الخ ولكنهم تجاهلوا هذه القضايا الكبرى، واعتبروها قضايا هامشية أو حرية شخصية، وهذا دليل عجزهم وجهلهم.
4- العلمانية لم تصنع الأسلوب العلمي، فالوصول للحقائق في العلوم المادية كالزراعة والكيمياء والطب ......الخ هو من خلال التجربة والمشاهدة والاستنتاج، وهذا شيء يعرفه البشر منذ قديم الزمان، ولا خلاف عليه بين أهل الأديان السماوية والفلاسفة وأبنائهم العلمانيين. والأخذ بأحدث العلوم المادية من حاسبات إلكترونية وطائرات ووسائل اتصال ...الخ هو أمر لا خلاف عليه، وتأخذ به جميع الشعوب، وهي علوم تدرس في كل بقاع الأرض، ولا يوجد من يعارض تدريسها، ليس حاليا بل في تاريخنا الإسلامي كله تأخذ بما وصل إليه العلم المادي في ذلك العصر، ولكن العلمانيين يظنون أنهم من اخترع الأسلوب العلمي في مجال العلوم المادية، وما فعله الصينيون والمصريون القدماء والأتراك من نجاح في صناعات ومباني وفلك وأقمشة وزراعة أشياء معروفة ومشهورة وإنما يرجع الفضل فيه إلى التطور الهائل للعلوم التكنولوجية والتنافس القومي والاستعماري بين الدول الأوربية والى الحروب والتنافس الاقتصادي بين الشركات، وإشراك علماء المادة فيه، وهذا لا يمنع أن يكون هناك نصيب قليل للعلمانية فيه.(1/9)
5- في جانب العقائد والأيدلوجيات من إسلام ومسيحية ورأسمالية وشيوعية واشتراكية ......الخ لم ينجح العلمانيون في تحديد الأسلوب العلمي للوصول للحقائق في المجال الفكري بل أخذوا يتبعون آراء ونظريات الفلاسفة قديما وحديثا، والغريب أن بعضهم أعلن صراحة أن هذا الأسلوب فاشل، ولا يوصل إلى أي حقيقة فكرية، بل هو ينتج آراء متناقضة، فهذا يظن أن الله سبحانه وتعالى غير موجود، وأن الكون خلق صدفة، ثم ينتج نظرية شيوعية، وهذا يؤمن بوجود الله ولكنه يؤلف فكرا مخالفا له كالرأسمالية العلمانية، وهذا يرى بأنه ليس المهم أن تصل إلى الحقائق بل المهم أن نتجادل وننتقد ونفكر، وانظروا إذا شئتم في كتب الفلاسفة حتى تضحكوا وتبكوا في آن واحد من شدة الجهل والضياع! فأين الأسلوب العلمي عندما نعتمد على الظن والآراء في بناء حياتنا ودولنا؟ ألم يدع الشيوعيون بأنهم أهل العلم ثم يكتشفوا بأنها من أسوأ وأجهل وأفشل العقائد والأنظمة ، وإذا كانت الرأسمالية أقل جهلا من الشيوعية فهي لا زالت في دائرة الجهل فكرا و واقعا، فالإنسان الغربي من أكثر شعوب الأرض تعاسة وقلقا وأمراضا نفسية وطلاقا وتفككا اجتماعيا وبعدا عن الله سبحانه وتعالى، وانغماسا في الشهوات وحبا للمادة.(1/10)
6- إذا كانت العلمانية فشلت في معرفة الأسلوب العلمي للوصول إلى الحقائق الفكرية، فإنه ليس لها فضل أيضا في ادعائها بأنها تنظر بشمولية وموضوعية في القضايا والأحداث، فهذا شيء نعرفه وطبقناه، فالله سبحانه وتعالى أمرنا بمعرفة الواقع والأحوال والظروف والبحث الميداني وتجميع المعلومات الصحيحة وتحليلها بصورة صحيحة ونحن ضد تقليد الآباء والأجداد في أمور تخالف الإسلام ، ونحن ندور مع الحق حيث دار، ولا نتعصب لقبيلة أو شعب أو مسلمين أو مصالح طبقية أو أهواء شخصية، ومطلوب منا أن لا نتأثر بالحب والكراهية في الحكم على الأمور، ولو اختلف أحد الصحابة رضوان الله عليهم مع يهودي في موضوع، وكان الحق مع اليهودي لشهدنا له، وكلمة الاجتهاد تعني بذل الجهد الكبير في الوصول للحق، والصواب والتشجيع له كبير إلى درجة أن من يخطئ له أجر، وهذا ليس تشجيعا للخطأ، بل دعوة للتفكير والقراءة والتحليل، والآيات القرآنية التي تدعو للتفكير والقراءة والنقاش الموضوعي وتجميع المعلومات الصحيحة والتروي معروفة ومشهورة، وكل هذه أدوات علمية عرفناها وطبقناها، ولا ينقصنا كمسلمين اليوم إلا أن نعيد تطبيقها، وأقصد أنه ليس عندنا مشكلة أو نقص في معرفة الحقائق الفكرية والأدوات العلمية وأهمية العقل والاجتهاد والموضوعية، وبالتالي فإدعاء العلمانية بأنها اخترعت الأسلوب العلمي أو استخدمت العقل بصورة صحيحة مجرد أكاذيب ليس لها أي سند من الحقائق بدليل أنها لم تصل إلى الحقائق الفكرية إلى يومنا هذا !!
العلمانية ليست ظاهرة كونية(1/11)
يقوم بعض مؤيدي العلمانية بين فترة وأخرى بإعطائها تعريفات جديدة منها أنها ظاهرة كونية معقدة وبسيطة في آن واحد، وأنها تعني المجتمع المدني، وأنها شأن بالغ التعقيد والتنوع وأنها تعني حقوق الإنسان وسيادة الأمة والديمقراطية ، ومبدأ فصل السلطات، وتعني الفصل بين التعليم الديني والتعليم المدني..الخ. لم يضف هذا التفسير للعلمانية جديداً لأن هذه ليست العلمانية فالعلمانية تعني فصل الدين عن الدولة، وتعني رفض الإيمان الصحيح بالله سبحانه وتعالى، ورفض اتباع أنبيائه ودينه وهي تبني حياتها كدولة وأفراد على آراء واقتاعات الفلاسفة المتناقضين، وعلى الأهواء الشخصية، والشهوات، وهي المنبع الذي خرجت منه الشيوعية والاشتراكية والنازية والرأسمالية والوجودية والانتقائية...الخ. أي كل المبادئ الفاسدة، وهذا لا يعني أن كل ما تحت هذه المبادئ باطل وخطأ ، بل هناك بعض المبادئ الصحيحة كالعدالة الاجتماعية في الشيوعية، والسيادة للأمة في الرأسمالية (ليست على إطلاقها)...الخ. أما القول بأن العلمانية تعني حقوق الإنسان والدولة المدنية فالخلاف بين المبادئ في العالم هو في تعريف حقوق الإنسان لا في ضرورة أن تكون للإنسان حقوق فلا يحق إذن احتكار حقوق الإنسان ونسبتها للعلمانية، أما الدولة الإسلامية فهي دولة مدنية منذ خمسة عشر قرنا فهي لا يحكمها رجال الدين، لأنه لا يوجد طبقة اسمها رجال الدين، ولا يتكلم حكامها بالنيابة عن الله، بل هم بشر يصيبون ويخطئون، ويكتسبون شرعيتهم من الشعب، وعندما يفرح الأوروبيون بالقضاء على الدولة الدينية المسيحية في العصور الوسطى فهذا من حقهم، ولكن ليس من حقهم القول أيها العالم نحن الذين اخترعنا الدولة المدنية. أما تعريف العلمانية بأنها ظاهرة كونية ليس مفهوما، فهل معناه أنها منتشرة عالمياً، وهذا شيء صحيح، ولكن هذا لا يعني أنها مبادئ صحيحة، فقد كانت الشيوعية منتشرة عالمياً، ومع هذا سقطت في سنوات قليلة(1/12)
كما يسقط نمر من ورق. أما التعريف الجديد والغريب فهي إنها شأن بالغ التعقيد، والتنوع، لأن هذا التعريف يعني أنها شيء ضبابي ومجهول، وليس له ملامح محددة، فإذا كان الأمر كذلك فلا شك أن الفكر العلماني سيكون أشد تعقيداً وضبابية وسيكون أيضاً أكثر اختلافاً وضياعاً وسيصعب علينا نحن أعداء العلمانية أن نوجه سهامناً لأنها ليست شيئا واضح المعالم، وأرجو أن يتراجع العلمانيون عن تعريفها بأنها شأن بالغ التعقيد والتنوع لأنه من السذاجة أن يدعو الناس للاقتناع بشيء لا يستطيع العلمانيون أنفسهم فهمه، لأنه "معقد" كأن المطلوب من الناس أن يعطلوا عقولهم، وأن يثقوا بالعلمانيين ويتبعوهم بدون تفكير. والطريف أن تعريف العلمانية بأنها شيء بالغ التعقيد صحيح لأن العلمانية خلطت مواضيع كثيرة مثل العقل والعلم الفكري والفلسفة والعلم المادي والحرية والواقع والتاريخ والظلم والديمقراطية..الخ. فهذا الخلط سيعطي صورة معقدة، لها فهي تفصل الدين وتبعده ومع هذا تقول بأنها ليست ضده، وهي تصفق لبعض آراء الفلسفة، وتكفر بآراء أخرى لهم، وتحديد ما يتم الإيمان به أو الكفر به من مبادئ متروك لعقل كل فرد يحدده كما يشاء، وهي تخلط العلم المادي بقضايا العلم الفكري قال تعالى: (ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا) ومن الأمور الخاطئة الظن بأن العلمانية قائمة على العلم المادي لأن البعض يصفها بأنها فكر مادي وقد يكون المقصود بهذا الوصف أنها مجردة من الإيمان والروحانيات، وليس لها اهتمام بالأخلاق، وهذا فيه جزء كبير من الصحة، أما إذا كان المقصود أنها قائمة على العلم المادي فهذا ليس بصحيح فلا علاقة للكيمياء والفيزياء والفلك والطب... الخ بالعلمانية فلم تثبت التفاعلات الكيماوية أن فصل الدين عن الدولة من الحقائق، ولم نصل من خلال علم الطب للتعاريف التي تضعها العلمانية الرأسمالية للحرية وهكذا. ومعروف أن العلوم المادية موجودة في دول(1/13)
علمانية وإسلامية وبوذية، فنجد الكيميائي المسلم والكيميائي الشيوعي والكيميائي الرأسمالي ،أما الظن أن العلمانية قائمة على العلم المادي بمعنى دراسة واقع الإنسان كحياته الاجتماعية والسياسية، ثم بعد ذلك استنتاج العقائد والقوانين المناسبة له، فهذا شيء صحيح، وهذا أحد أساليب الفلاسفة في الوصول إلى مبادئهم، وهذا أسلوب خاطئ لأن الإنسان ليس مادة نطبق عليها أسلوب الوصول للحقائق المادية في العلوم المادية كالفيزياء حيث من خلال التجربة والمشاهدة والاستنتاج نستطيع أن نعرف أن الماء يغلي عند مئه درجة مئوية ونعتبر ذلك حقيقة تطبق على كل ماء لأن الأمر يختلف مع الإنسان، فليس لك إنسان يشكرك إذا عملت له معروفاً، بل البعض يقابل الإحسان بالجحود، فما هي الحقيقة التي سنصل إليها وتطبق على كل إنسان ؟ ولو تأملنا في واقع الشعوب والدول فقد نتفق على بعض المبادئ والأحكام كالمساواة العرقية بين البشر، وحق الشعوب في تقرير مصيرها، وحرية الرأي المعتدلة، ولكن الغالبية الساحقة من المبادئ والعقائد لن تستطيع الاقتناع بصوابها من خلال هذا الأسلوب. فدراسة الإنسان والشعوب والدول والتاريخ لن تحدد لنا صفات الله سبحانه وتعالى؟ ولماذا خلقنا؟ ولن تحدد لنا الحقوق والواجبات الزوجية العادلة؟ ولن تبين لنا كيف نربي أبناءنا تربية صحيحة؟ وكيف سنتعامل مع المال بطريقة صحيحة؟ وهكذا فالظن أن الوصول إلى المبادئ ينطلق من التأمل العقلي في الواقع ظن خاطئ لأن هذا الأسلوب لا يوصل أبدا إلى حقائق فكرية، فالعلمانية تحاول أن تتشبث بأي شيء حتى تثبت صحتها، فهي تدعي انتسابها للعلم المادي، وهذا ليس بصحيح، وقالت أنها تعتمد على العقل، وهذا أيضاً ليس بصحيح وهي بالتأكيد لا تستمد شرعيتها من الله سبحانه وتعالى والعلمانية هي آراء الفلاسفة وهذه الآراء قائمة على الظن والشك والنسبية، وما أقوله يعترفون به، ولا أدري لماذا يخجل بعضهم من ذلك، ويصر على ربط(1/14)
العلمانية بالعلم المادي والفكري، ولا شك في أن العلم الفكري هو الذي جاء به الأنبياء كموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم، ولو كان العلمانيون يعقلون لما تركوا الأديان السماوية لأن هناك انحرافات حدثت من المنتسبين، لأن التصرف العقلاني هو الالتزام بالدين الصحيح، ومحاربة الانحرافات والمنحرفين باسم الدين. قال تعالى" (قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل"(108) سورة يونس. وقال تعالى: "ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين"(85) كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين (86) أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" (87) سورة آل عمران.
ما هو الجهل ؟(1/15)
أ- ما هو الجهل؟ سؤال قد يبدو غريبا، وقد يظن البعض أن الجهل اختفى من واقع البشر لأننا في القرن الواحد والعشرين حيث هناك آلاف الجامعات ومئات الملايين من أصحاب الشهادات الجامعية، وآلاف المعاهد البحثية، وأقول بداية أنا لا أتكلم عن العلم التكنولوجي من هندسة وطب وكيمياء .......الخ المتعلق ببناء المصانع والطائرات والمزارع والمستشفيات .....الخ بل أتكلم عن العلم الفكري المتعلق بالعقائد وحياتنا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ، هذا العلم الذي يتعلق ببناء الإنسان. إن الجهل لا يتم القضاء عليه بالجامعات والكتب والشهادات إذا كانت الاقتناعات التي تكونها يختلط فيها الحق بالباطل والصواب بالخطأ، وكذلك لا يتم القضاء على الجهل بمعرفة نظريات وأراء الفلاسفة والمفكرين لأنها أراء متناقضة ضائعة تختلط فيها الحكمة بالحماقة، والنور بالظلام، إن من لا يؤمن بوجود الله سبحانه وتعالى مع وجود الأدلة الكونية والمنطقية على وجوده وعظمته وعلمه وقدرته ورحمته ...... الخ هو إنسان شديد الجهل حتى لو حصل على أعلى الشهادات الجامعية، ومن لا يعرف ما الهدف من خلق الإنسان؟ وما جاءت به الرسل من مبادئ وأحكام وأخلاق؟ هو إنسان جهل أسباب سعادته وشقائه ومن يجهل كيف يبني أسرته على أسس صحيحة من العدل في الحقوق والواجبات سيكون إنسانا تعيسا، ومن لا يعرف كيف يتعامل مع مصائب الحياة ونعيمها ومع مجتمعه وما فيه من الخير والشر سيقع فريسة لليأس أو الغرور أو الأنانية أو الكراهية أو الحسد أو الانتقام أو المظاهر أو التبذير أو غير ذلك، وهذه الثمرات المرة هي ثمرات الجهل، وهي أمور نشاهدها في حياتنا في كل يوم. إن العلم الفكري يتعلق بعلاقتنا مع الله سبحانه وتعالى وعلى أساسه نبني علاقاتنا مع طموحاتنا وشهواتنا ومصالحنا، وعلى أساسه نحدد موقفنا مما في هذا العالم من عقائد واقتناعات وأحداث وأفراد وأحزاب وحكومات....الخ ولاشك أبدا بأن أهم أنواع العلم(1/16)
الفكري هو معرفة الله سبحانه وتعالى بصفاته وأسمائه ولماذا خلقنا؟ وما هي سننه في الكون؟ وهذا يسمى علم التوحيد، فمن لا يعرف أساسيات هذا العلم هو من أشد الناس جهلا ، ومن هنا ندرك جهل كثير من العلمانيين حيث نجدهم يعرفون عن المال والتجارة والأفلام والملابس الكثير ويعرفون الكثير عن أمريكا وتاريخها ومناطقها وقوانينها وأحزابها وصناعاتها .......الخ، ولا يعرفون إلا القليل جدا عن الله سبحانه وتعالى وكتبه ورسله! قال ابن تيمية: " إذا نظر في كلام معلمهم الأول .. أرسطو .. وتدبره الفاضل العاقل لم يفده إلا العلم بأنهم من أجهل الخلق برب العالمين، وصار يتعجب تعجبا لا ينقضي ممن يقرن علم هؤلاء بالإلهيات بما جاءت به الأنبياء"(1) وقال ابن تيمية: " وأما ما جاءت به الأنبياء فلا يعرفه هؤلاء ألبته، وليسوا قريبين منه، بل كفار اليهود والنصارى أعلم منهم بالأمور الإلهية، ولست أعني بذلك ما اختص الأنبياء بعلمه من الوحي الذي لا ينال غيرهم، فإن هذا ليس من علمهم، ولا من علم غيرهم، وإنما أعني العلوم العقلية التي بينها الرسل للناس بالبراهين العقلية في أمر معرفة الرب وتوحيده، ومعرفة أسمائه وصفاته، وفي النبوات والمعاد، وما جاءوا به من مصالح الأعمال التي تورث السعادة في الآخرة فإن كثيرا من ذلك لم يشموا رائحتها ولا في علومهم ما يدل عليها"(2)
(1) (2) ص203 رجال الفكر والدعوة في الإسلام ج2 الشيخ أبو الحسن الندوي(1/17)
ولا يقتصر العلم على المعرفة، فمن يعرف الحق ولا يفعله فهو جاهل قال تعالى: " مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين " (5) سورة الجمعة كما أن هناك فرقا كبيرا بين الثقافة الفكرية والعلم فالثقافة هي أن تعرف عقائد ومبادئ وأحكام الإسلام والمسيحية والرأسمالية والشيوعية والبوذية .......الخ ولكنك لا تدري أي هذه المبادئ صحيحة؟ فالثقافة تعطيك معلومات ، والعلم يعطيك حقائق ويعترف العلمانيون بجهلهم عندما يقولون بأن ما يؤمنون به في مجال العقائد والمبادئ إنما هي آراء قالها فلاسفة ومفكرون، وليست حقائق أي علم، ومن الجهل أن يتمسك العلمانيون بالعلمانية مع اعترافهم بأنها توصلهم لآراء والأكثر من ذلك جهلا أنهم يقولون لا توجد في المجال الفكري حقائق! وهذا يعني أننا لن نصل إلى المعاني الصحيحة للعدل والحرية والأنظمة الاجتماعية الصحيحة .....الخ وبالتالي فلنستسلم للظن والشك والنسبية والحلول الوسط وأهواء ورغبات المجالس النيابية والمصالح والعصبيات .......الخ قال تعالى: "وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا" (28) سورة النجم. قال ابن تيمية " بل قد صرح أساطين الفلسفة ، بأن العلوم الإلهية لا سبيل فيها إلى اليقين ، إنما يتكلم فيها بالأحرى والأخلق ، فليس لهم فيها إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا "(1) فالعلماني الصادق يسير على أسس خاطئة حتى لو كانت نواياه طيبة، وقد قيل كم مريد للخير لن يصيبه، وقيل الطريق إلى جهنم مفروش بالنوايا الحسنة.(1/18)
ب- كارثة الآراء: الذين رفضوا الإسلام واتبعوا عقولهم العلمانية وصلوا إلى اجتهادات بشرية تجسدت في عقائد كالرأسمالية والشيوعية والاشتراكية والنازية والوجودية ......الخ مما أنتجته عقول الفلاسفة والمفكرين قال الدكتور يوسف القرضاوي "ومن ذلك كثير من نتائج العلوم الإنسانية والاجتماعية التي يريد بعض دارسيها أن يلبسوها ثوب العلم اليقيني وهي ليست أكثر من استنتاجات، مبنية على مقدمات غير يقينية قد يقبل بعضها ويرفض بعضها وقد ترفض كلها"(2)
(1) ص 202 رجال الفكر والدعوة في الإسلام ج2 الشيخ أبو الحسن الندوي
(2) ص63 الإسلام والعلمانية وجها لوجه د. يوسف القرضاوي(1/19)
ولقد شجعوا العقل على التفكير والحركة والحرية ولكن انتهى العقل العلماني من حيث بدأ .... أي لا يدري أين الحق؟ ولا كيف نصل إليه؟ ولم يعط إجابات محددة للأسئلة الكبرى التي تواجه الإنسان وهربوا من ذلك وقالوا النظريات والآراء كثيرة فاختر ما تشاء منها وطبقه على نفسك وإذا تعمقنا فيما قالوا سنكتشف أن ما يقولونه كارثة علمية ومصيبة كبرى ومعناه أنه لا يوجد علم ولا يوجد جهل فكلها آراء خذ ما تشاء منها، وإذا كانت العلمانية توصلنا إلى آراء متناقضة فإنه لا يوجد ما يحتاج أن ندرسه أو نتعلمه غير آراء متناقضة لكل واحد منها حججه، ولن يوجد هناك علماء لأنه لا يوجد علم أصلا، فعلماؤهم فلاسفة متناقضون. وجعلوا العالم عندهم هو الذي يقرأ ويكتب ويجادل ويعرف ماذا قال هذا الفيلسوف، أو ذاك الكاتب أي جعلوا الثقافة علما وهذا هو ضياعهم وكثيرون يجهلون أن العلمانية هي الفلسفة، وأن الفلاسفة هم الذين أنتجوا العقائد الرأسمالية والشيوعية والاشتراكية والنازية .......الخ وتناقض آرائهم جعلت باسكال يقول "الفلسفة كلها لا تستحق ساعة تعب" والتفلسف الحقيقي هو الهزء من الفلسفة "والفلسفة مضيعة للوقت"(1). ولو انتقلنا إلى بعض الجهل الذي يردده بعض العلمانيين من العرب عندما يحاولون أن يقنعونا بأن اختلافات المسلمين كثيرة أي أننا مختلفون حول كل شيء، وأن كل ما عندنا آراء ونقول هذا غير صحيح، فنحن متفقون على كل ما في القرآن والسنة من حقائق تتعلق بصفات الله وأسمائه والجنة والنار والحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ومعاني العدل والحرية وغير ذلك كثير، كل هذا عندنا حق وحقائق ونور وصواب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، أما الاختلاف الاجتهادي في الإسلام فله ضوابط وهو ضمن حدود، وللاجتهاد أهله من العلماء المسلمين وهو في قضايا فرعية، وليست رئيسة قال د يوسف القرضاوي "ليس الإسلام دعوة غامضة، ولا مادة هلامية، يفسرها كل من شاء بما(1/20)
شاء، فالإسلام له أصوله البينة الثابتة، ومصادره الواضحة المحكمة"(2)
(1) ص128 المقدمة في فلسفة الدين الأستاذ أديب صعب
(2) ص 24 الإسلام والعلمانية وجها لوجه د. يوسف القرضاوي
ومن أساليبهم الغريبة أنهم يأتون لحقائق واضحة مكتوبة بلغة عربية فصيحة فيجادلون في معانيها ويرفضون ما أتفق عليه علماء المسلمين فهم يريدون أن يجعلوا الإسلام آراء، فتراهم يجادلون في معنى الربا وفي شرعية الحجاب، وفي قتل المرتد وفي شرعية الحدود .....الخ.(1/21)
ج- الجهل العلماني الأمريكي: نجح الأمريكيون في الوصول إلى حقائق مادية كثيرة في المجال الصناعي والعسكري والزراعي ......الخ ووصلوا كذلك إلى معرفة حقائق واقعية كثيرة تتعلق بأوضاع الدول والشعوب السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ووصلوا وطبقوا حقائق كثيرة في علم الإدارة. ولكنهم من أكثر شعوب الأرض جهلا في مجال الحقائق الفكرية لأنهم علمانيون، وكل ما عندهم من اقتناعات ومبادئ فكرية لا تزيد عن نصف صفحة لعل أهمها فصل الدين عن الدولة والاحتكام للشعوب في التشريع واتباع الفلاسفة المتناقضين، ورفع شعارات الحرية والمساواة والعدل، وافعل ما تشاء في الجانب الاجتماعي فهذه حرية شخصية واترك القضايا العقائدية لأنها ما وراء الطبيعة ففي هذه السطور القليلة اختصروا العلم الفكري، ومن خلال هذه السطور يتعاملون مع الحياة فكل ما يتعلق بالله سبحانه وتعالى لا يعرفونه؟ ويجهلون كيف ننظم حياتنا الاجتماعية؟ وكيف تتعامل مع المال؟ وكيف نحارب التعصب العرقي والتبذير والكذب والغيبة والغرور والخيانة الزوجية؟ ولماذا أرسل الله سبحانه وتعالى الرسل؟ وما في التوراة والإنجيل والقرآن أمور لا يعتبرونها هامة ولو كان العلم الفكري يختصر في نصف صفحة وان هذا هو الحل السحري للقضايا التي تواجه الإنسان لما أرسل الله سبحانه وتعالى الرسل للبشر يعلمونهم العقائد والأحكام والأخلاق بل أن هذا الحل السحري لم يقبله الفلاسفة (علماء العلمانية) بدليل أنهم ألفوا الكتب حول الخالق والحياة والحرية والعدل والظلم والخير والشر ......الخ قال سقراط "إنني جاهل، وأعرف إنني جاهل، وأما هم فجهلة ويجهلون أنهم يجهلون" وقال آلان ود "برتراند رسل فيلسوف بدون فلسفة"(1) أي لم يصلوا إلى علم، وقال جوليان هكسلي "يجب أن نستعد لمواجهة الحقيقة وهي أن جهلنا بالحقائق النهائية سوف يستمر إلى الأبد بسبب فطرتنا المحدودة"(2)
(1) ص 29 الدين في مواجهة العلم الأستاذ وحيد الدين خان(1/22)
(2) ص93 الدين في مواجهة العلم الأستاذ وحيد الدين خان
وأقول الأسلوب العلماني لا يؤدي إطلاقا إلى الوصول للحقائق الفكرية. وقال تعالى: "ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور" (40) سورة النور.
العلمانية لم تصنع العلم المادي
يظن كثير من الناس أن العلمانية هي أم العلم المادي، وأن من يتبنى العلمانية سيتقدم علمياً وتكنولوجياً، وسيحقق التنمية والرخاء، وهذا من الأخطاء الشائعة وإليكم الأدلة:
1- من المعروف أن الإغريق حققوا نجاحا علميا جيدا في الرياضيات والفلك والإنشاءات والطب... الخ وهذه أمور تحققت قبل العصور الوسطى بقرون، كما أن الاختراعات والتقدم العلمي كان موجوداً في الصين ومصر الفرعونية والخلافة العباسية والدولة الأموية في الأندلس، فكان هناك صناعة وتجارة وزراعة فالأقمشة أشكال وأنواع وألوان ، والمنتجات الزراعية ، بضائع يتم المتاجرة بها، وهناك عجائب الدنيا السبع ..الخ. وكل هذا كان وراءه علم وتكنولوجيا وتجارب وتفكير وكتب ، وصحيح أن حجم هذا العلم محدود بما نعرفه اليوم ، ولكن كان هناك علم وتكنولوجيا، فالعلمانية ليست أم العلم المادي، ولا حتى خالته!!(1/23)
2- التصادم الذي حدث بين رجال الكنيسة في أوروبا في العصور الوسطى وبين بعض علماء المادة لم يكن صراعا يشمل عداء لكل أنواع العلم المادي بل لأجزاء منه ظن رجال الكنيسة أنها تتعارض مع العقائد المسيحية بدليل أنه كان في أوروبا تقدم في مجال البناء والزراعة والأسلحة، ولا زلنا نشاهد مباني راقية في كثير من الكنائس المبنية منذ أكثر من ألف سنة، فالكنيسة لم تكن ضد العلم المادي بل ضد أجزاء صغيرة منه ولكن العلمانية نجحت في إقناع الناس بأن رجال الكنيسة ضد العلم، وضد التقدم، وضد العقل... الخ وقد يكون الناس استجابوا لذلك ليس تصديقاً لما يقول العلمانيون بل رغبة منهم في رفع ظلم رجال الكنيسة والإقطاع عنهم أي أن المسألة ليست ذات علاقة كبيرة بموقف الكنيسة النظري من العلم المادي، بل ذات علاقة بواقع التطبيق العملي في أوروبا، وتشجيع العلمانيين على العلم المادي، وتقدير علمائه كان محاولة لإيجاد عقيدة ومبادئ ينطلق منها العلمانيون في صراعهم مع الكنيسة، والطريف أن العلمانية ليست قائمة أصلاً على العلم المادي حتى ولو ادعت ذلك، فهي قائمة على عقائد واقتناعات الفلاسفة فيما يتعلق بالعقائد والاقتناعات والأحكام في حين العلم المادي يتعلق بالطب والهندسة والزراعة والفلك.
3- عاشت العلمانية عدة قرون بدون أن تشهد ثورات علمية، فبقى العلم المادي نشاطاً فردياً، ولكن لا شك في أن العلمانية ساهمت في إعطاء علماء المادة مزيداً من الاحترام والتقدير، ولم تضع حدودا لآرائهم وتقدمهم وهذا الفضل يحسب لها، ولكن كما وضحت لا يعني هذا أن علماء المادة كانوا مختنقين قبل ذلك. والذي حدث وأدى إلى بعض التغيرات العلمية الكبيرة هو تنافس الدول الأوربية الاستعمارية فيما بينها على احتلال أكبر مساحات ممكنة في آسيا وأفريقيا مما شجع صناعة السفن وعلم الفلك، وتطوير الأسلحة، فالعلم المادي دخل ساحة الصراع السياسي والعسكري ولم يعد يهم علماء المادة وحدهم.(1/24)
4- أدركت الدول والشعوب وخاصة في بداية القرن العشرين أن التطور العلمي هو الدجاجة التي تبيض ذهبا وهو الكنز الحقيقي، فاختراعات أديسون حققت أرباحا هائلة ، وتطوير الأسلحة اصبح الوسيلة الرئيسة لكسب الحروب ولهذا اتجهت الشركات والحكومات للاستثمار الكبير في البحث العلمي مما أحدث الثورات الكثيرة في القرن العشرين في حين أن العلمانية كان عمرها على الأقل أربعمائة سنة، وهذا دليل على أنه لا يوجد ترابط بينهما إلا في جانب محدود. ومن المعروف أن الحروب تحقق قفزات علمية ونسبة عالية مما يصرف على البحث العلمي يصرف في مجال الأبحاث العسكرية ويستفاد من نتائجها في المجال المدني بصورة مباشرة وغير مباشرة.
5- حدوث التطورات التكنولوجية في دول علمانية لا يعني أن العلمانية نفسها هي وراء ذلك، بل العوامل الأخرى التي ذكرتها، فروسيا الشيوعية وكذلك الصين حققتا نجاحات علمية كبيرة مع أن الدول العلمانية الرأسمالية تعتبرانهما دولتين غير علمانيتين، وحققت اليابان بعقائدها البوذية نجاحات تكنولوجية كبيرة، أما دولنا الإسلامية فالغالبية الساحقة منها لم يتح لها الاستقرار العقائدي والسياسي والاقتصادي لتقوم بالبناء التكنولوجي، ورغبتنا كدول وكشعوب في تعلم العلوم التكنولوجية واضحة بدليل تخصص كثير منا في الهندسة والطب والكيمياء والحاسب الآلي، ولم يقف الإسلام معارضاً لذلك، بل مشجعاً له وهذا يثبت أن المشكلة لم تكن إطلاقاً في وجود تعارض بين الدين والعلم المادي ولكن بعض العلمانيين لا يزال يصر على تزوير الحقائق!!
الإسلام والتصادم مع العلم
كثيرا ما تطرقنا إلى العلمانية واتهاماتها وأوهامها فقد اتهمت الإسلام بأنه ضد العقل وهذا الاتهام باطل وإليكم الأدلة :-(1/25)
1- من الخطأ أن نقول أن الإسلام ضد العقل لأنه لا يوجد هناك عقل واحد له عقائد ومبادئ محددة ومعروفة يحتكم لها البشر فالعقول البشرية بعدد البشر، وهي عقول مختلفة ومتناقضة في مبادئها، فهناك عقول تتفق مع الإسلام، وهناك عقول تتناقض معه إذا المفروض أن يتهم الإسلام أنه ضد العلم وليس العقل والعلم ينقسم إلى حقائق مادية وحقائق فكرية والسؤال الذي يطرح نفسه هل يتعارض الإسلام مع هذه الحقائق وإذا كان الأمر كذلك ننتقل إلى النقطة الثانية.
2- أثبتنا وأثبت غيرنا من البشر ومنهم كثير من العلمانيين أيضا أن وجود الله سبحانه وتعالى حقيقة أي علم وأثبتنا أن محمد بن عبدالله رسول الله بما جاء معه من أدلة منها إعجاز القرآن وصدق تنبؤاته، وعظمة سيرته ....الخ أي أن صدقه حقيقة وبالتالي فكل ما جاء في القرآن والأحاديث الصحيحة حقائق أي علم، أما اجتهادات علماء الإسلام فهي تصيب وتخطئ، فما كان منها خطأ يرفض، وما كان منها حقيقة (علم) يقبل، والذي يحدد ذلك هو العقل الإسلامي الذي يستند في ذلك للقرآن والسنة وحقائق الواقع والتحليل والتفكير أي الاجتهاد، أما الآراء والاجتهادات العلمانية فهي أراء الفلاسفة، ولا توجد أسس صحيحة لها فهي في اعترافهم آراء تصيب وتخطئ وليست علما (حقائق) أي هي ظن، وليست يقينا وهذا لا يعني أنها كلها خطأ، ولكن لا أحد يستطيع أن يثبت أن هذا الرأي أو ذاك هو علم أو جهل، فإذا تعارضت الآراء العلمانية مع الحقائق الإسلامية الفكرية فالآراء خاطئة.(1/26)
3- عندما يقال إن هناك حقائق مادية تعارض الإسلام فإن هذا معناه إما أن يكون هناك خطأ في الإسلام وهذا أمر مستحيل، أو أن هناك خطأ في الحقيقة المادية، وهذا مستحيل إذا كانت فعلا حقيقة، إذن التعارض مستحيل، ومما يثبت ذلك أننا نطالب أولا بتحديد أين يوجد هذا التعارض، أي اذكروا لنا الحقائق الإسلامية التي تتعارض مع الحقائق المادية، هل هي في مجال الفلك أو النبات أو الطب أو الفيزياء ......؟ طبعا لا توجد أي حالات يقينية ! أما القول بأن نظرية دارون في خلق الإنسان تتعارض مع آيات قرآنية، فهذه نظرية لم تثبت أن الإنسان تطور من قرد أي ليست هذه حقيقة علمية مادية، أما إثباتها بأن هناك تدرج في الكائنات فهو أمر لا نستطيع من ناحية إسلامية فكرية إثباته، أو نفيه لان الآيات لم تتطرق لهذا الموضوع حسب علمي وهذا التدرج خاضع إثباته أو نفيه للعلم المادي وأدلته. وعموما فنحن عندما نتكلم عن الحقائق الإسلامية لا نتكلم عن تفسيرات لآيات أو أحاديث فهذه اجتهادات، بل نتكلم عن حقائق واضحة.
4- أي قارئ للقرآن الكريم حتى ولو لم يكن مسلما يعلم أن الكتب السماوية هي كتب تتكلم عن العلم الفكري أي عن صفات الله سبحانه وتعالى وأمره وشريعته ونظم الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأخلاق وقصص الأنبياء، وان تطرقها للعلوم المادية كالسماوات والأرض والكائنات ....الخ هو محدود، وهو تطرق ليس فيه ما يعارض أي علم مادي معروف . فهي إذن كتب ليست مختصة بالعلوم المادية، وبالتالي فاحتمال أن يوجد تعارض ضعيف بحكم اختلاف العلم الفكري عن العلم المادي، فالمسالة في حقيقتها أن العلمانيين يناقشون الموضوع ليس لأن هناك تعارض علمي، بل بدوافع سياسية وفكرية ومصالح لدول أو اتجاهات فكرية، أو أحزاب، أو أفراد تريد أن تحارب الإسلام، ولا تريد أن تبحث عن الحق ولا تريده !!(1/27)
5- أقول وأكرر مطلوب من كل من يتهم الإسلام بأنه يتعارض مع الحقائق المادية أن يحدد أي الحقائق المادية التي تعارض آيات أو أحاديث حتى يتم نقاش الموضوع بصورة واضحة،أما محاولة إيهام الناس بأن هناك مشكلة أو مشاكل كبيرة في وجود تعارض بين الإسلام والعلم المادي فهو كلام لا يصدر إلا عن جاهل أو كاذب بدليل أن تعامل المسلمين كدول وأفراد مع العلم المادي قديما وحديثا تعامل طبيعي، ولم يجدوا فيه أي تناقض أو حيرة فكرية أو تشكيك في إيمانهم، فنجد المسلم المهندس والمسلم الطبيب والمسلم الكيميائي ونجد تشجيعا إسلاميا كبيرا على التأمل في الكون والكائنات، وعلى تشجيع العلم المفيد بكافة جوانبه، ونجد الدعوة لاكتساب القوة المادية بكافة أنواعها وهذا وغيره يثبت أنه لا توجد إطلاقا مشكلة حقيقية بين إسلامنا والعلم المادي، وهذه حقيقة نشاهدها كل يوم بأعيننا في كل مكان، وإذا أضفنا إلى ذلك أن علماءنا كتبوا الكثير قديما وحديثا ينفون أي تعارض بين الإسلام والعلم المادي، وناقشوا شكوك واتهامات في هذه المواضيع وفندوها فالمسألة إذن لا تزيد عن عناد وجهل ومصالح سياسية وليس فيها من الحق والموضوعية شيء.(1/28)
6- من المعروف أن العلم المادي يتعامل مع مجالات الطب والهندسة والكيمياء والفيزياء والزراعة ......الخ مما يسمى العلوم التجريبية وهذا العلم وأدواته عاجزة تماما عن إثبات أو نفي الحقائق الفكرية والتاريخية فهو ليس باستطاعته معرفة ماذا حصل من أحداث قبل ألفي عام مثلا فهناك حقائق تاريخية لا ولن يعرفها العلم المادي لأنه لا يوصل لها طريق التجربة والمشاهدة والاستنتاج، وإذا عجز العلم المادي عن إثباتها فلا يعني أنه ليست هناك حقائق تاريخية حدث فيها قتل أو خيانة أو كذب أو صدق أو وفاء أو سرقة ....الخ وهناك في المجال الفكري حقائق: فوجود الله سبحانه وتعالى حقيقة فكرية، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم حقيقة، وكل ما في القرآن والسنة حقائق فكرية، فالوصول للحقائق الفكرية يتم بمناقشة أسس وأصول المبادئ والعقائد الدينية والعلمانية وما لديها من أدلة عقلية. ونقول العلم المادي عاجز عن إثبات صواب أو خطأ الرأسمالية والشيوعية والنازية وبقية فروع العلمانية لأنه لا يمكن إدخالها المختبرات، وفحصها وعجز العلم المادي ليس دليلا على عدم وجود حقائق في المجال الفكري لأننا لو قلنا ذلك فهذا يعني أننا لن نصل إلى معرفة ما هي الحرية أو العدل أو حقوق الإنسان ولن نستطيع أن نقول الزواج حق والزنا باطل وليس لدينا دليل علمي على أن السرقة والكذب وحتى القتل رذائل وجرائم وهذا ليس بصحيح والظن بأن العلم يقتصر على العلم المادي فقط هو بحد ذاته كارثة علمية، فوجود الله سبحانه وتعالى هو أكبر وأهم حقيقة في الكون، ومع هذا لا نستطيع إثباتها في المختبر، ولكن هناك نجوم وكواكب ومجرات وأرض وكائنات مادية محسوسة تثبت وجود خالق عليم وعظيم، فهذا دليل علمي عقلي وتعجز المختبرات عن إثبات إعجاز القرآن العظيم ولكن هذا شيء يعرفه علماء اللغة العربية، ونعرفه من عجزنا كبشر على عمل قرآن آخر مع ما لدينا من علماء في اللغة وغيرها، ويعلم أيضا العقلاء أن شريعة(1/29)
الإسلام وما فيها من اعتدال وعمق ورحمة وحزم ومرونة و واقعية وأخلاق ......الخ شريعة راقية، ودليل على عظمة الخالق، وصدق الأنبياء لان عقول المفكرين والفلاسفة عجزت حتى يومنا هذا على إنتاج مبادئ وشريعة تحقق حتى خمسة بالمائة مما جاء به الإسلام.
الدين العلمي
من التهم الطريفة التي يطلقها العلمانيون هو اتهام المسلمين بأنهم مقتنعون بأنهم أهل الحق والحقيقة والصواب وأن الآخرين على باطل وخطأ ونعترف أن هذه التهمة صحيحة إذا كان الحديث عن العقائد والمبادئ الأساسية وهي ليست صحيحة إذا كان الحديث عن اجتهادات إسلامية فكرية أو سياسية لدولة أو جماعة أو عالم. وشدة "اقتناع وإيمان" المسلم بمبادئه شئ طبيعي مقارنة "باقتناع وإيمان" العلماني بمبادئه وما فيها "من حقائق" لأن الفكر العلماني قائم على الظن والشك وأقوال الفلاسفة فهو آراء وليس حقائق وبكلمات أخرى كلها اجتهادات تحتمل الصواب في اعتقادهم وكذلك تحتمل الخطأ، وهم يعترفون صراحة بأن عقولهم لم تصل إلى حقائق فكرية يجب الإيمان بها، وان الاحتكام فى المبادئ والتشريعات عندهم خاضع للتصويت لا العقل، وأحيانا يقولون إن الحقائق نسبية، وهذه كارثة عقلية وعلمية، فمتى كان الحق والصواب نسبيا فما دام أن مبادئهم وعلمهم مشكوك في صحتها فالمسألة نسبية لأنها مقارنة بين سئ وأسوأ وفى المقابل نجد المسلم مقتنعا بناء على عقله وأدلة عقلية على وجود الخالق وصدق الرسل وأن ما يؤمن به هو حقائق لا يأتيها الباطل والشك والظن لا من أمامها ولا من خلفها فمن الطبيعي أن يكون واثقا منها. والفكر العلماني قائم على انه لا أحد يملك الحقيقة ،لا العلمانيون ولا الإسلاميون وبكلمات أخرى كلنا جهلاء، ومن يدعى أنه عالم فهو مخطئ، وفى نفس الوقت واثقون "من علمهم" ومفاهيمهم عن الحرية والعدل والإصلاح وحقوق الإنسان ......الخ ويدافعون عنه ولو طبقنا الإقتناعات العلمانية في القضايا المادية وجعلنا كل الحقائق(1/30)
المادية التي وصل لها البشر في علم الفيزياء والكيمياء والفلك والطب والزراعة ......الخ آراء مادية لا يجوز لمن وصل لها اعتبارها حقائق، ومن يدعى أنها حقائق فهو يحتكر العلم، وهو شخص مغرور، فإن هذه الإقتناعات يرفضها حتى العلمانيون لأنهم يعلمون أنها حقائق، ويعلمون أن الفيزيائي يتكلم بثقة واعتزاز عن المبادئ والقوانين التي تتحكم في المواد، وأنه ليس على استعداد للتنازل حتى عن بعضها أملا في التقرب للآخرين ، أو لإرضاء من لا يفقه في الفيزياء ،ونقول إن المسلم يؤمن بأن مبادئه حقائق، وانه يعرف علم السعادة ، وعلم العدل، وعلم الحرية، وعلم العبادة .......الخ ويعلم أن ما يخالفها من عقائد ومبادئ وشرائع علمانية أو دينية خاطئة ، فالدين علم وليس آراء، وقد جاءت كلمة علم ومشتقاتها في القرآن مئات المرات قال تعالى: "أفمن يعلم أنما انزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولو الألباب" (19) سورة الرعد، وقال تعالى: "قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون" (9) سورة الزمر وقال تعالى : من بعد ما جاءك من العلم" (145) سورة البقرة، ومن الأخطاء القاتلة هو الظن بأن العلم science سيقتصر فقط على العلوم المادية كالكيمياء والفيزياء والطب والهندسة ....الخ وتسمية كلية "العلوم" تنسجم مع هذا الاقتناع كأن التخصصات الأخرى "ليست علمية" أي لا يوجد فيها علم، وهذا الاقتناع صحيح لدرجة كبيرة في العالم الغربي حيث تنقسم عندهم العلوم إلى قسمين رئيسين، قسم العلوم المادية، وقسم العلوم الاجتماعية، والقسم الأول قسم يتم التوصل لحقائقه من خلال التجربة والمشاهدة والاستنتاج، ويشمل مجالات الكيمياء والفيزياء والأحياء وغيرهم، أما المجال الثاني فهو الفكر العلماني، ويشمل الدراسات الفلسفية والعقائدية والاجتماعية والنفسية، وهم لم يتوصلوا فيه إلى حقائق بل نظريات وآراء فهو يبين ماذا قالت هذه المدرسة الفلسفية أو تلك وماذا قالت هذه النظرية(1/31)
أو تلك ورأى هذا الفيلسوف أو ذاك تاركين في النهاية لكل شخص يقرر ما يرى أنه صواب، ولا يوجد هناك علم يتم الدفاع عنه. قال أبو الحسن الندوي: يعتقد ابن تيمية أن المتكلمين والفلاسفة كلهم إنما ارتكبوا نوعا واحدا من الخطأ، وأن خطة عملهم واحدة بالرغم من جميع الخلافات التي توحد بينهم، إن خطأ كل من هؤلاء وضعفهم أنهم حاولوا أن يعتمدوا على الحدس في الحصول على الشيء الذي لا يحصل بالحدس والتخمين، وصارعوا الفطرة والنبوة كلتيهما، ولذلك فإن تحقيقاتهم إثمها أكبر من نفعها"(1)
(1) ص 212 رجال الفكر والدعوة في الإسلام - الجزء الثاني - أبو الحسن الندوي(1/32)
قال ابن تيمية " للمتفلسفة في الطبيعيات خوض وتفصيل تميزوا به بخلاف الإلهيات، فإنهم أجهل الناس بها وأبعدهم عن معرفة الحق فيها، وكلام أرسطو معلمهم فيها قليل كثير الخطأ "(1) وليس غريبا إذن أن يتأثر بعض شبابنا ممن درسوا في الغرب بهذه الاقتناعات ويعتبروا كلمة علم تنطبق فقط على المجالات المادية كأن المجالات الفكرية ليس فيها علم، ونقول علمنا منطلق من قضيتين أساسيتين هما وجود الأدلة العقلية على وجود الله سبحانه وتعالى، وهذه الحقيقة يؤمن بها الأغلبية الساحقة من البشر بغض النظر عن صفات الله سبحانه وتعالى عندهم ،وكذلك قامت الأدلة العقلية أيضا على أن محمدا بن عبدالله رسول الله، وبالتالي فكل ما في القرآن والأحاديث صحيح، ونذكر هنا أن مبدأ وجود الرسل هو أيضا مبدأ متفق عليه بين الغالبية الساحقة من البشر بغض النظر عن عدد الرسل الذين يؤمنون بصدقهم كما أضيف إلى ذلك أن عندنا كمسلمين بناء على القرآن والسنة أن موسى وعيسى صلوات الله وسلامه عليهما أنبياء، وأن التوراة والإنجيل من الكتب السماوية وأن ما بهما حقائق فكرية، ولكن حدث بعد ذلك تغيير في بعضها، والمقصود أن الحقائق الفكرية السماوية المشتركة بين الأديان السماوية كلها علم وحقيقة، وليست آراء، ولو لم يكن علما لما آمنا به فصفات الله سبحانه وتعالى التي جاء ذكرها بالقرآن والأحاديث هي حقائق وليست أساطير أو آراء أو ظنون ، وكذلك بالنسبة لواجباتنا وأحكام شريعتنا فهذه حقائق فكرية أي علم إذا التزمنا بها وطبقناها في حياتنا حققنا السعادة والنصر والقوة والعدل والحرية .......الخ وأي مبادئ علمانية مخالفة للإسلام هي الجهل، وبالتالي لو طبقناها في حياتنا فسنحصد التعاسة والهزيمة والضعف والظلم والعبودية، وما نقوله ينطبق على الفرد والأسرة والحزب والدولة وهو لا يتناقض مع ما يحدث في واقعنا والعلو فيه يرجع إلى حجم ما يتم أخذه فيه من حقائق مادية وفكرية أي ما يأخذ من(1/33)
أسباب مادية وإيمانية فالذي يعقلها ويتوكل على الله ينجح، ويكون على القمة، والناس والدول يتفاوتون في أخذهم بالأسباب الإيمانية والمادية ولهذا يتفاوتون في القوة والغنى والعز والذل والسعادة والتعاسة. ومن المعروف أن نصيب أغلب دولنا الإسلامية ضعيف في أخذنا بالأسباب الإيمانية والمادية معا، ولهذا أغلبها في مؤخرة الدول في سلم النجاح والفشل ومن المعروف أيضا أن أمريكا مثلا متقدمة جدا في العلوم المادية ولهذا تحقق خطوات كثيرة للأمام كما أن لديها بعض النجاح الفكري في قضايا الشورى والحرية والعدل وهذا لا يمنع وجود فشل ذريع لها في أغلب القضايا الفكرية العقائدية والاجتماعية ولهذا يعتبر الأمريكي من أكثر الناس تعاسة. وبعيدا عن جدل العلمانيين والفلاسفة فالمسلم الملتزم بالإسلام هو نموذج واقعي مشاهد عن بعده عن المخدرات والخمر والزنا والكذب والظلم والنفاق ......الخ. وهو إنسان صادق وأمين ومجتهد في عمله وبار بوالديه وأسرته ومحترم في عائلته ومجتمعه وحكيم في قراراته ومتحكم في تصرفاته وفعال في مجتمعه فهذا النجاح الشخصي حدث لأنه ملتزم بعلم، ويعيش على نور وهداية وبصيرة وعقلانية.
عجز العقل العلماني(1/34)
نفهم أن يتحدث فرد باسم حكومة أو شعب أو حزب أو دين أو مؤسسة أو غير ذلك وقد يكون ممثلا نموذجيا لمن يتحدث باسمهم أو لا يكون ولكن الغريب أن بعضهم بني آدم كالعلمانيين جعلوا أنفسهم الممثلين الوحيدين للعقل البشري، وكأن عندنا شئ أو مجسم محدد اسمه العقل، وأن هذا له اتباع وأولياء يمثلونه ويتكلمون باسمه، ويحق لهم تحديد المؤمنين بالعقل والكافرين به. وهؤلاء يجهلون أو يتجاهلون أن عندنا بلايين من العقول البشرية، وكلها عقول بشرية سليمة مائة بالمائة من الناحية العضوية، أي ليسوا مجانيين كما أن بني آدم لم يعطوا لا قديما ولا حديثا أي بيعة أو انتخاب لفرد أو حزب أو اتجاه لأن يتكلم باسم العقل ونرجو أن لا يقول أحد أن العقل البشري يقول كذا وكذا بل ليقل عقلي يقول كذا وكذا لأن للآخرين عقول فلا تتكلم باسم عقولهم كما أن لمن يخالفك بالرأي عقل، ولا تظن أنه لم يستخدم عقله لأن الحقيقة قد تكون أنه استخدم عقله أكثر منك بعشر مرات، وأنه إنسان كثير القراءة والتفكير والتأمل والنقاش وهو بالتأكيد لا تأتي أفكاره من أنفه أو بطنه بل من عقله، ولكن مشكلة العلمانيين أنهم لا يعرفون الفرق بين العقل والعلم، وبين العلم والجهل، ولا يعرفون ماهي الحقائق الفكرية؟ وعقول العلمانيين حتى ولو كانت تفكر فإنها لم تصل للحقائق الفكرية، بل تعيش على الآراء والظنون وأقوال الفلاسفة، ولهذا ترى عقائدهم مختلفة ومفاهيمهم متناقضة، وتهزها وتغيرها الأحداث السياسية، بل الشخصية، وهذا يثبت أنها اقتناعات قائمة على الجهل، ولهذا تهتز بسهولة !! وإذا قيل قبل عدة قرون كم من جرائم ارتكبت باسم الحرية فأقول: كم من جهل نسب زورا للعقل، ولو تكلم العقل البشري الحكيم لقال عن العلمانيين أنتم أعداء العقل والعلم.(1/35)
قالت العلمانية للبشر: ابتعدوا عن الدين، واتبعوا العقل "العلماني" فهو سيبين لكم الحق من الباطل، والصواب من الخطأ في الجوانب السياسية والاجتماعية والعقائدية والاقتصادية، وتعالوا لنسأل العلمانيين الرأسماليين عما وصلت إليه عقولهم من الهداية والنور والعلم خاصة وأن عقولهم تفكر وتناقش وتكتب منذ أكثر من أربعمائة سنة .... ولنسألهم أسئلة عقائدية مثل هل يوجد خالق لهذا الكون؟ وإذا كان موجودا فما هي صفات الخالق؟ ولماذا خلقنا؟ وهل هناك جنة أو نار؟ هذه الأسئلة وغيرها فكر فيها العلمانيون من فلاسفة ومفكرون وكانت إجاباتهم متناقضة وسنكتشف أن العقل العلماني لم يصل إلى إجابات محددة تحدد للناس الحق والصواب في هذه الأمور، وبكلمات أخرى لم يصل لحقائق علمية، بل وصل إلى إجابات متناقضة، أي آراء وظنون، فالعقل العلماني لا زال يعيش في عالم الحيرة والضياع في الجوانب العقائدية، وهذا هو الجهل والعجز والفشل، ولكن الذكاء العلماني يتهرب من هذا المأزق بأن يعطيك أراء لهذا الفيلسوف أو ذاك، وقد ينصحك بأن تبتعد عن هذا المجال لأنه معقد، أو فشل فيه الفلاسفة العلمانيون فلماذا تحاول أن تبحث عن إجابات صحيحة؟ إن في ذلك مضيعة لوقتك وقد يقول بعض العلمانيين ناصحا هذه قضايا ما وراء الطبيعة (ميتافيزيقا) (أو بلغتنا العربية أمور غيبية) فابتعد عنها، واهتم بالواقع، وما يفيد نفسك وأسرتك، وهذا الهروب مرفوض لأن العقائد والمبادئ سواء كانت صحيحة أو خاطئة تنعكس على سلوك الفرد وواقع المجتمع ، ويتضح العجز العلماني إذا انتقلنا للجوانب الاجتماعية وقلنا للعقل العلماني أعطنا الإجابات التي وصلت لها، ولنسأله، ما هي حدود الحرية الشخصية؟ ومن هو المسئول عن الإنفاق على المنزل؟ وما هي الحقوق والواجبات الزوجية ؟ وكيف نربي أبناءنا؟ .........الخ هذه الأسئلة وغيرها لن نجد لها إجابات محددة في العقل العلماني يثبتها بالأدلة العقلية، بل سنجد إجابات(1/36)
متناقضة لهذا الفيلسوف وذاك المفكر، فالعقل العلماني لا يقول أن الإنفاق على المنزل هو مسئولية الرجل أو المرأة أو بالمناصفة أو غير ذلك بل يعطيك "الحرية" أن تختار ما تشاء من إجابات فلا يوجد حق ولا باطل ولا علم ولا جهل، ويتهرب من هذه الأسئلة الأساسية بكلمات جميلة مثل هذه حرية شخصية وتفاهم مع زوجتك، وهذا في الحقيقة فشل وعجز وجهل لأن العقل العلماني الذي طلب منا أن نترك الإجابات الدينية على هذه الأسئلة لم يعطنا أي إجابات أي وصل إلى لا شئ ومن البديهيات أن الإنسان حر ويستطيع أن يتصرف كما يشاء، في أموره الاجتماعية بأن يقتنع بأي مبادئ، ويتبع أي سلوكيات والسؤال الموجه للعقل العلماني ما هي المبادئ الصحيحة التي تحقق العدل والحرية الشخصية والعلاقات الاجتماعية الرشيدة؟ حتى يتمسك بها الناس ويحتكمون إليها. فالعقل العلماني يقول الإجابات الدينية خاطئة، وفي نفس الوقت لا يعطيك "إجابات علمانية" لأن إجاباته مستندة إلى ظن، ومن المحتمل ويمكن ولا أدري، وأنت حر واختر ما تشاء، ولو كانت له أخلاق العلماء لقال أنا جاهل وأنا ضائع.....الخ وإذا كان العقل العلماني هرب من إعطاء الإجابات العقائدية والاجتماعية فإنه أيضا لا يملك إجابات سياسية أو اقتصادية، فقوانينه وتشريعاته وحتى مبادئه مجهولة وغير معروفة، ولا يتم استنباطها على مستوى الدولة من خلال العقل والأدلة العقلية بل من خلال التصويت، فهي مجهولة قبل التصويت ولا تظهر إلا بعده فهي إذن ليست حقائق علمية بل هي آراء شعبية تم صناعتها من خلال التصويت لا العقل وكلنا يعرف أن المجالس الشعبية تعطي حلولا سياسية لا علمية، كما أن النجاح في الانتخابات لا يخضع للأكثر حكمة وعقلا بل للأكثر مالا وعرقا وإعلاما وأحيانا خداعا وكذبا، وتتدخل في التصويت المصالح والشهوات والأهواء والعصبيات والتحزبات والأعراق والعقائد المتناقضة، واللجوء للتصويت هو لجوء العاجز عن الوصول بالعقل للحقائق،(1/37)
والتصويت كمبدأ جيد في القضايا الاجتهادية لا في تحديد العلم من الجهل، والحق من الباطل في القضايا الأساسية وأقول بصوت عال لم يحلم الجهل في تاريخه الطويل أن يتساوى مع العلم إلا من خلال الفلسفة العلمانية، فما يقوله الجهل آراء وما يقوله العلم آراء وكلها مقبولة ونطبق منها ما يحصل على الأغلبية في التصويت وباختصار العقل العلماني قال ابتعدوا عن الدين وسنحتكم للعقل، وهو فعلا لم يحتكم للعقل، لا في القضايا العقائدية، ولا الاجتماعية، ولا الاقتصادية والسياسية، فالأولى قضايا غيبية لنبتعد عنها، والثانية حرية شخصية، فافعل ما تشاء، وأما الثالثة والرابعة فالاحتكام فيها للتصويت لا العقل، فهو لم يصل إلى علم أي حقائق علمية، ولم يحتكم أبدا إلى العقل ومع هذا يظن كثير من العلمانيين أنهم أهل العقل والعلم. قال تعالى: "فإن لم يستجيبوا لك فاعلم إنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين " (50) سورة القصص.
قال د. "الكسس كاريل" (في كتاب الإنسان ذلك المجهول: إننا قوم تعساء ننحط أخلاقيا وعقليا إن الجماعات والأمم التي بلغت فيها الحضارة الصناعية أعظم نمو وتقدم هي على وجه الدقة، الجماعات والأمم الآخذة في الضعف، والتي ستكون عودتها إلى البربرية والهمجية أسرع من عودة غيرها إليها، ولكنها لا تدرك ذلك.. إن القلق والهموم التي يعاني منها سكان المدن العصرية تتولد عن نظمهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية)(1).
(1) ص 77 أوهام العلمانية حول الرسالة والمنهج د. توفيق الواعي.
القراءة الصحيحة للعلمانية والواقع التركي
كتب الأخ العزيز حامد الحمود مقالا في القبس بتاريخ 11 نوفمبر 2002 بعنوان "العلمانية والقراءة الخاطئة لنتائج الانتخابات التركية" وتم التطرق فيه إلى مواضيع كثيرة تحتاج إلى نقاش وتوضيح وألخص وجهة نظري في النقاط التالية :(1/38)
1- من المعروف أن في تركيا صراعا بين الإسلام والعلمانية، وبين العلمانيين والمسلمين، كان من مظاهره جعل الأذان باللغة التركية ،ومحاربة الشريعة الإسلامية والحجاب وإعدام رئيس الوزراء التركي المنتخب عدنان مندريس في الستينات لأن له ميولا إسلامية منها أنه أعاد الأذان باللغة العربية، ومن مظاهر هذا الصراع حل الأحزاب ذات التوجهات الإسلامية كحزب الرفاه، وحزب الفضيله، ومنع المحجبات من التعليم، وإغلاق المدارس الإسلامية، وغير ذلك وبالتالي فحصول حزب العدالة والتنمية على 34% من أصوات الناخبين هو انتصار كبير للإسلاميين، وهزيمة ساحقة للعلمانيين خاصة إذا أخذنا في عين الاعتبار أن قواعد المعركة السياسية والانتخابية وضعها العلمانيون والتي منها أن الدولة العلمانية تقف بمناهجها التعليمية وأجهزتها الإعلامية والعسكرية ضد الإسلام والمسلمين، ولم تتحمل هذه الدولة نجاح نائبة واحدة هي السيدة مروة قاوقجي لأنها محجبة فأجبرتها على الاستقالة وليس مسموحا رسميا أن يعلن أي حزب انتماءه للإسلام، ولا توجد ديمقراطية حقيقية في تركيا ، والحرية الموجودة هي أن تتكلم في كل شيء إلا انتقاد العلمانية، وحرم رئيس حزب العدالة والتنمية رجب أوردغان من حقوقه السياسية بحكم قضائي لأنه انتقد العلمانية. فليس مسموحا للشعب التركي أن يخرج من النظام العلماني،وهذا يخالف بديهيات الحرية والعدل والعقل والديمقراطية. وتم فرض العلمانية عليه بالقوة قبل ثمانين سنة من قبل مصطفى كمال وهذا ليس تغييرا لنظام سياسي أو دستور بل هو تغيير للمبادئ والعقائد التي يؤمن بها الشعب، والصراع العقائدي بين الإسلام والعلمانية صراع جذري، والدولة لا تتحمل مرجعيتين إسلامية وعلمانية، والمسلم لا يمكن أن يكون علمانياً؛ ؛ فلا يوجد في الإيمان حل وسط، والعلمانيون هم الذين أشعلوا هذا الصراع في تركيا ولا يمكن أن تتفرغ تركيا للتنمية والبناء إلا بحسم هذا الصراع، ولا أعلم الغيب،(1/39)
ولكن أظن أن العد التنازلي لنهاية العلمانية التركية قد بدأ.
2- استشهاد الأخ حامد بما قاله الأستاذ رجب أوردغان "إن العلمانية هي الحامي الأمثل لجميع المعتقدات والأديان" غير مقبول لأنه لو قال غير ذلك لحل الحزب وسجن مرة أخرى، والطريف أنه لا توجد في تركيا أديان فالشعب التركي من الشعوب التي تفتخر بأن عدد المسلمين 99% أي أكثر من نسبة المسلمين عند العرب، ولازلنا نذكر كيف أجبر العسكريون أربكان كرئيس الوزراء على أمور كثيرة ليس مقتنعا بها ومع هذا أجبروه على الاستقالة وحتى تورغت أوزال رحمه الله واجه القيود العسكرية كرئيس وزراء، وكرئيس دولة ومع هذا حقق نجاحات إسلامية، ووطنية كثيرة منها تطوير الاقتصاد التركي وتشجيع التعليم الإسلامي والمدارس الإسلامية وإعادة الاعتبار لرئيس الوزراء عدنان مندريس الذي اعدمه العلمانيون. وقد وجه ضربة قوية للعلمانيين بعد موته عندما طالب بوصيته بأن تكون جنازته إسلامية، وأن يدفن بقرب عدنان مندريس. فهو رحمه الله حاربهم حياً وميتاً والصراع الفكري والسياسي بين العلمانية والإسلام هو صراع أبدي وأزلي واستخدم العلمانيون الأتراك كل ما لديهم من وسائل لمحاربة الإسلام والمسلمين كما ذكرت أعلاه، ويستخدم المسلمون ما لديهم من سياسة وذكاء وقواعد شعبية وظروف محلية وإقليمية لتحقيق الإنجازات الإسلامية والوطنية، وأتمنى أن يحدث استفتاء للشعب التركي حول الاختيار بين الإسلام والعلمانية، وهذا حل عادل يجب أن يرضى به الجميع وأضيف إلى ذلك أنه إذا كان الإسلاميون في تركيا أثبتوا للشعب وبالتجربة أنهم أهل أمانة وحرص على أموال الشعب وأنهم أمل الشعب في إنقاذ الاقتصاد والدولة فهذا نجاح كبير خاصة وأنه لا يوجد حزب علماني واحد مع تنوع الأحزاب العلمانية قد نال الثقة المالية، فالتجربة أثبتت انتشار الفساد المالي في هذه الأحزاب.(1/40)
3- عداؤنا كمسلمين للعلمانية ليس راجعا لعداء شخصي أو سياسي أو سوء فهم لمعانيها أو غير ذلك بل إلى أدلة من القرآن والسنة، وإليكم بعضها قال تعالى (ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون(18) إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين(19) سورة الجاثية. وقال تعالى: (ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير(120) سورة البقرة وقال شيخ الإسلام ابن تيميه "ومعلوم بالاضطرار من دين المسلمين وباتفاق جميع المسلمين أن من سوغ اتباع غير دين الإسلام، أو اتباع شريعة غير شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر" (1) وقال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله" كما أجمعوا (علماء الإسلام) على ان من زعم أنه يجوز لأحد من الناس الخروج على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم أو تحكيم غيرها فهو كافر ضال وبما ذكرناه من الأدلة القرآنية وإجماع أهل العلم يعلم السائل وغيره أن الذين يدعون إلى الاشتراكية، أو إلى الشيوعية أو غيرها من المذاهب الهدامة المناقضة لحكم الإسلام كفار ضلال أكفر من اليهود والنصارى"(2) وقال الدكتور أحمد كمال أبو المجد "أما قضية فصل الدين عن الدولة بمعنى إقصاء الدين عن أن يكون له دور في تنظيم أمور المجتمع فإنها المكون الرئيس من مكونات العلمانية الذي لا يسع مسلماً قبوله"(3) فالعلمانية هي الكفر والشرك وإذا كانت العلمانية الأوروبية كما ذكر الأخ حامد تحترم المسلمين وتعلمهم الإسلام من ميزانية الدولة العلمانية فهذا شيء يشكروا عليه ولكن ذلك لا ينفي وجود الاختلاف والصراع الجذري بين الإسلام والعلمانية، ولا شك أن العلمانية ستقبل الإسلام إذا تم إلغاؤه كدولة وكشريعة وكجهاد واقتصر فقط على الأخلاق والعبادات، وهذا ما لم ولن يقبله الإسلام والمسلمون حتى يرث الله الأرض ومن عليها.(1/41)
4- ذكر الأخ حامد أن العلمانية تضيق المجال على العنصرية والمذهبية والقومية والطائفية والعشائرية وأقول بل العكس هو الصحيح لأن كل من ينتمي لهذه المبادئ هو إنسان طبق ما دعت إليه العلمانية، وهو فصل الدين عن الدولة فهؤلاء أوصلتهم عقولهم العلمانية إلى أن التعصب القومي أو الوطني أو الطبقي أو القبلي..الخ هو مبدأ صحيح فالنازية فكر علماني استند إلى عقول الفلاسفة العلمانيين وليس إلى علماء المسيحية، أو الإسلام، وكذلك الفكر الشيوعي والرأسمالي والاستعماري والوجودي.. الخ ولو كان الاحتكام للإسلام لما وجدت كل هذه المبادئ العلمانية، وبعد رفض الانتماء للإسلام كدولة وسياسة في تركيا العلمانية ظهرت العصيبات العرقية التركية والكردية، وظهرت الأحزاب اليمينية واليسارية المتطرفة، وظهر التعصب لمصطفى كمال وجعلها أيضاً منبوذة داخل الوسط الإسلامي العربي والعالمي مما أفقدها التأييد السياسي في صراعها مع اليونان حول قبرص مما دفعها لاحقاً لاستضافة مؤتمر وزراء خارجية الدول الإسلامية بعد أن وجدت نفسها وحيدة في عالم السياسة وبالإسلام كانت تركيا دولة عظمى واليوم هي دولة عادية تخضع لشروط البنك الدولي وتطلب المساعدة من أمريكا، وتعبت وهي تطلب أن تقبل عضوا في الاتحاد الأوروبي. وما أقوله لا يتعارض مع حرص العلمانية الأمريكية على محاربة التعصب الديني والسياسي، ولكن العلمانية الأمريكية ليست الممثل الشرعي والوحيد للعلمانية، وأتمنى ألا نتفاءل كثيراً بالعلمانية الأمريكية؛ فالسيطرة في أمريكا للبيض وللبروتستانتية، وإذا وجدت استثناءات عرقية وطائفية فهذا لا يتعارض مع المصالح العليا للطوائف والأعراق الكبيرة، والذكاء الأمريكي يسمح بذلك لأن البدائل الأخرى أشد مرارة وليس صدفة أن يكون الأمريكيون الأفارقة أكثر الأمريكيين فقراً وبطالة وجهلاً، وأنا هنا لا أتحدث عن القوانين الجميلة بل عن الواقع والحقائق. وعموماً في أغلب بلاد العالم(1/42)
عقائد ومبادئ دينية وطائفية وعلمانية وفي النهاية يجب أن يتم اختيار أحدها على مستوى الدولة فإذا اخترنا الإسلام اخترنا الحق والصواب وإذا اخترنا العلمانية فقد اخترنا الباطل والخطأ، وأضيف لذلك أن العلمانية ليست الاختيار الصحيح حتى ولو كان موقفها من الأديان السماوية كحل وسط لأن الحق ليس بالضرورة هو الحل الوسط. فإذا كان هذا الجانب في العلمانية والذي يبدو جميلاً هو قبيح، فكيف إذا سلطنا الأضواء على سلبيات العلمانية الكثيرة؟! وراجعوا أن شئتم كتابي "عجز العقل العلماني" لأن الموضوع طويل ومتشعب.(1/43)
5- القول بأن العلمانية الرأسمالية تنصف الأقليات صحيح لدرجة كبيرة، والسؤال المهم هو هل النظام الإسلامي يضطهد الأقليات الدينية والعرقية؟ الإجابة لا، لأن النظام الإسلامي يستمد مبادئه من القرآن والسنة، والله لا يأمر إلا بالعدل والحق، ونحن نتحدث عن الإسلام لا عن اجتهادات متطرفة، أو تطبيقات خاطئة، ومعارضتنا للعلمانية الرأسمالية ليس معناه أن كل ما فيها مرفوض، وخطأ، بل فيها جوانب كثيرة صحيحة كالديمقراطية التي نستطيع أن نقول بينها وبين الشورى تشابه كبير جداً، كما أننا نتفق إلى درجة كبيرة مع حرية الرأي الغربية. وقد أعطى المسلمون للأقليات الدينية الحرية في ممارسة عبادتهم، ولم يقتصر ذلك على المسيحيين واليهود بل أيضاً للآشوريين والهندوس، وكذلك هناك حجم كبير من الحرية والمساواة مع المسلمين في كثير جداً من الحقوق والواجبات، ولكنها ليست مساواة مطلقة. كما يطالبنا الإسلام بالنظر إلى الفرد ومؤهلاته وإنتاجيته في التوظيف والترقيات، وأمام المحاكم، ولا نفرق بين المسلم وغير المسلم، وهذا ما يفعله كل مسلم واع قال تعالى: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط(25) سورة الحديد وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون(8) سورة المائدة.
(1) فتوى شيخ الإسلام في حكم من بدل شرائع الإسلام.
(2) ص 60 تحكيم الشريعة ودعاوى العلمانية د. صلاح الصاوي.
(3) ص 530 كتاب القومية العربية والإسلام - مركز دراسات الوحدة العربية.(1/44)
ولو قلت لي اختصر الإسلام في كلمات قليلة لقلت هو التوحيد والعدل والرحمة بالإنسان والحيوان ويستحيل عقلاً وشرعاً أن يأمرنا الله سبحانه وتعالى بمبادئ وشريعة ضد العدل والحرية النظيفة والأخلاق الرفيعة، ويدعونا الإسلام للتميز في المجالات الاقتصادية، والتكنولوجية، والإدارية، والى إتقان العلم والعمل، وما يحدث في واقع المسلمين من كسل وخمول وتخلف علمي وتكنولوجي هو نتيجة عدم التزام المسلمين بالإسلام، وليس العكس. وتبقى نقطة هامة في قضية العدل وهو من المستحيل تحديد العدل قبل أن نحدد ما هي المبادئ الصحيحة أولاً هل هي الإسلام، أو العلمانية؟ والعدل هو الالتزام بهذه المبادئ حتى ولو كانت عقولنا تظن أن بعض هذه المبادئ تخالف العدل والحق فالعقل البشري المجرد يرى أحياناً كثيرة الحق باطلاً، والباطل حقاً، فبلا نور من الله سبحانه وتعالى لن نعرف الحق من الباطل قال تعالى:(ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور) سورة النور.(1/45)
6- سيتضح لنا فشل العلمانية وشرها إذا فصلناها عن أمور ليست منها كالديمقراطية والعلمية والعقلانية والحداثة والتطور التكنولوجي والإداري والاقتصادي والرأسمالي والأهداف والشعارات الجميلة فالعلمانية هي فصل الدين عن الدولة ومعناها أن الأديان السماوية منبع الظلم والخرافات والتعصب والسطحية والجهل.. الخ وتطالبنا العلمانية باتباع عقول الفلاسفة المتناقضين الضائعين ليحددوا لنا معاني العدل والحرية والمساواة والإنسانية..الخ والعلمانية لم توصلنا إلى حقائق وعلم بل إلى آراء متناقضة. وكل الأدلة التي قدمها الفلاسفة والمفكرون لإثبات صواب العلمانية أو أحد مدارسها كالرأسمالية والشيوعية والاشتراكية والوجودية..الخ هي أدلة مرفوضة عقلا. والعلمانية الرأسمالية بالذات لا تستند إلى أي أدلة واضحة فهي قائمة على أن الدين المسيحي حدث له تحريف، وأنه في جوانب منه يعارض الحقائق المادية، والعقل وأن رجال الدين المسيحية استغلوا الدين للتحكم بالشعوب، وهذا شيء صحيح، ولكن هذا ليس دليلاً على أن السير في الاتجاه المعاكس العلماني هو الصحيح، وحسم الخلاف بصورة علمية مع العلمانية هو بالتركيز على الأدلة التي تستند إليها، وليس على ذكر إيجابياتها وسلبياتها، فبالإمكان كما شاهدنا أن نقول عن الشيوعية أنها تنصف العمال والمستضعفين والفقراء وتقضي على الاحتكار والإقطاع، وتساوي بين البشر، وتحارب التعصب العرقي بأنواعه المختلفة..الخ وسنعرف فشل الشيوعية عندما نسلط الأضواء على الأدلة العقلية التي تستند لها في إثبات نظريات لا وجود للخالق، والكون خلق صدفة، والإنسان تطور من قرد، فهذا الكلام ينفيه العقل والعلم، وهو تخريف للفلاسفة الجهلاء. وتستند العلمانية الرأسمالية إلى أسس مثل الواقعية والتصويت، والنسبية والحلول الوسط، والعملية..الخ وهذه ليست أدلة عقلية وليست هي الأسلوب للوصول للحقائق الفكرية العقائدية والاجتماعية والسياسية، والاقتصادية،(1/46)
وسبب نجاحها أن فلاسفتها أكثر عقلانية وواقعية إذا تم مقارنتهم بالفلاسفة الشيوعيون كما أن وقوف أمريكا وأوربا خلفها بقوتهم الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية أعطاها دعما أكبر خاصة وأن الكثيرين اعتقدوا أن هذه القوة هي نتيجة المبادئ العلمانية! وهذا ليس بصحيح!.
مبادئنا أو مبادئكم (1)
يقول العلمانيون بأن مبادئهم أرقى من مبادئنا الإسلامية، فهم مع الديمقراطية، والسيادة للشعب، والتسامح والحرية، والمساواة، والانفتاح على الآخرين، وتشجيع الإبداع العلمي والأدبي،.....الخ في حين أن الإسلام ليس فيه ديمقراطية، وفيه تعصب وتزمت وانغلاق وجمود فكري وعقلي .......الخ. طبعا لو كان الأمر كذلك سأكون شخصيا أول العلمانيين ولكن والحمد لله فإن الأمر ليس كذلك أبدا وإليكم الأدلة:-(1/47)
(1) " الأهداف العامة" : ادعاء العلمانيين انهم أهل الحرية والعدل والمساواة والديمقراطية هو ادعاء باطل لأن هذه أهداف عامة تسعى لها كل العقائد أو أغلبها على الأقل،ويسعى لها كل المخلصين أو أغلبهم، فلا أحد يتبنى عقائد أو مبادئ لأنها تحقق الاستبداد والظلم والطبقية، فاحتكار الأهداف العامة وجعلها كأنها مبادئ وعقائد هي كارثة علمية وقد نجح العلمانيون من حيث يدرون أو لا يدرون في خداع الناس وخداع أنفسهم بالربط بين الأهداف العامة والعلمانية، فالحقيقة أنه ليس هناك خلاف حول الأهداف العامة، بل الاختلاف بين المخلصين في ما هي المبادئ والعقائد ( الإسلام، الرأسمالية، الاشتراكية....الخ ) التي تحقق هذه الأهداف؟ وبكلمات أخرى للحرية معان كثيرة ومتناقضة، وكذلك للعدل والتسامح، والمساواة، والعقلانية، والرحمة، .....الخ ولن نستطيع تحديد الحرية الصحيحة إن لم نعرف أولا المبادئ الصحيحة، ولن نصل للمبادئ الصحيحة إلا من خلال الأدلة العقلية الصحيحة، وما ينطبق على الحرية ينطبق على العدل والمساواة والتسامح وغير ذلك، وبكلمات أخرى لن تكون عادلا إذا كان كل ما لديك رغبة صادقة في تحقيق العدل، ولن تدافع عن الحرية إن لم تعرف أولا حدودها وهذا لا يتعارض مع معرفتنا بجوانب من العدل، والحرية لا يختلف البشر عليها، لأن المشكلة ليست فيما هو معروف ومتفق عليه بين البشر على أنه عدل أو حرية، بل فيما هو مختلف فيه، قيل كم من جرائم ارتكبت بإسم الحرية؟(1/48)
(2) "عقلك يخدعك": قد يكون غريبا أن أحذرك من عقلك، لأن العقل المجرد قد يرى القبيح جميلا، والجميل قبيحا، فهو كالعين التي ترى السراب فتظنه ماء، فلا تنظر إلى السطح الخارجي للعقائد والمبادئ، فكثير منها جميل وجذاب وخادع، فهذه تدافع عن العمال والفقراء والمستضعفين (كالشيوعية)، وهذه مبادئ تدافع عن الحرية والقطاع الخاص (كالرأسمالية)، وهذه مبادئ تدافع عن الروح، والنفس، وهكذا والعكس صحيح، فهذه تتهم بالاستبداد، وأخرى بالطبقية، وثالثة، ورابعة بالمادية ....الخ وعقول البشر المخلصين توزعت بين هذه المبادئ وغيرها، فما يراه هؤلاء جميلا وحقا يراه آخرون قبيحا وباطلا، وضياع العقل البشري منتشر إلى درجة كبيرة لأسباب منها أن المفاضلة بين العقائد والمبادئ المختلفة محاولة فيها كثير من الصعوبة لاختلاف المعايير التي يستخدمها البشر، ولقدرة العقل البشري على مدح وذم كثير من العقائد والأحكام والأخلاق، فحتى الخمر تجد من يمدحها ويجعلها علاجا للهموم والمشاكل ونجد أيضا من يذم الصلاة ويعتبرها ضياعا للوقت، أو علامة على التخلف والسطحية، وبالتالي فالعقول المخلصة لن تحسم اختلافاتها إذا عملت مقارنات بين مبادئنا ومبادئكم، أي أن المقارنة مثلا بين الإسلام والعلمانية في العقائد والشرائع لن تكون حاسمة، وسيكون مجال الجدل واسعا ومستمرا أما طريق الحسم فهو أن نسأل ماهية الأدلة العقلية على صواب هذه المبادئ أو تلك؟ قال ابن تيمية: "إن مئات الآلاف من النفي لا يقوم مقام إثبات واحد"(1).(1/49)
(3) "الأدلة العقلية" : حسم الحق من الباطل في العلوم المادية يتم من خلال طريق التجربة والمشاهدة والاستنتاج، لا من خلال جمال هذا الرأي، أو قبح الآخر، ولهذا فالحقائق المادية واضحة، ولا اختلاف حولها. وإذا بحثنا عن الحقائق في المجال الفكري (الإسلام، المسيحية، العلمانية، البوذية، الشيوعية، .....الخ) فهو ممكن وسهل إذا سلكنا الطريق الصحيح الذي يوصل إليها والذي يركز على إرجاع
(1) ص 216 رجال الفكر والدعوة في الإسلام أبو الحسن الندوي(1/50)
هذه الحقائق والمبادئ إلى منابعها وأصولها، فالشيوعية معتمدة على أسس من أهمها عدم وجود الله سبحانه وتعالى، فإذا ناقشنا وتعمقنا بالأدلة التي يقدمها المؤمنون بوجود الله من مسلمين ومسيحيين ويهود أو غيرهم وناقشنا كذلك الأدلة التي تنفى وجود الله ويقدمها الملحدون من شيوعيين وغيرهم نستطيع أن نصل إلى الحق والصواب، فإذا ثبت وجود الله سبحانه وتعالى تسقط الشيوعية كفكر، وإذا أثبتنا صدق الرسول محمد يكون الإسلام هو الدين الصحيح، ويكون الفكر الرأسمالي العلماني فكرا خاطئا لأنه إيمان ببعض الكتاب وكفر بالبعض الآخر، وهذا شئ خاطئ بناء على المعايير الإسلامية، والغريب فعلا أن الفكر الرأسمالي العلماني هو فكر ليس قائما على أدلة عقلية وهذا ليس بناء على ما يقوله أعداؤه بل أيضا هذا ما يقوله أهله، ففكرهم قائم على الآراء لا الحقائق، وعلى الظنون لا اليقين، فهو نظريات وآراء متناقضة لفلاسفة ومبادئهم وشرائعهم ليست مبنية على أدلة عقلية، بل على التصويت الشعبي فكلنا يعرف أن التصويت الشعبي سواء كان من خلال استفتاء، أو مجلس نيابي، ليس أساسا عقليا وعلميا، لأنه تتداخل فيه المصالح والأهواء والعصبيات والفهم الخاطئ والتحالفات وشراء الذمم المزايدات والتهديد ......الخ ومع هذا يعتبر التصويت الشعبي في الفكر الرأسمالي الغربي هو الميزان الرئيس لتحديد المبادئ والقوانين والقرارات، فهو فعلا كارثة علمية، ولكنه يعتبر خشبة أفضل من غيرها إذا تم مقارنتها بالغرق في بحر الأقلية والانفرادية، والفردية سواء كانت هذه الأقلية حاكما أو حزبا أو طبقة أو عرقا فالتصويت حل سياسي وليس علميا وهذه الخشبة ستكون متواضعة جدا إذا تم مقارنتها بالسفينة الإسلامية العملاقة التي تشق طريقها في الدنيا والآخرة على هدي من خالق الكون العظيم العليم الحكيم القوي الجبار قال تعالى:"أفمن يعلم أنما انزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولو الألباب".( سورة(1/51)
الرعد -13-).
مبادئنا أو مبادئكم (2)
عرف أحد العلمانيين العلمانية "بأنها حيادية الدولة أمام الأديان، وهي تحقق المساواة الكاملة بين المواطنين ، ولا تفرق بينهم بسبب الدين، وتقول للمسلم والمسيحي واليهودي وغيرهم مارسوا شعائركم الدينية" وهذا التعريف هو تعريف جزئي وليس كاملا للعلمانية، ولكنه فيه كثير من معاني العلمانية، وتعليقي عليه هو كالآتي:
1- ليس صحيحا إطلاقاً أن المسيحية الحقيقية والإسلام مع ظلم الإقطاع واضطهاد البشر أو مع الاستبداد أو الحروب أو التعصب الديني والإرهاب..الخ. فالعلمانية وأبنائها الرأسمالية والشيوعية والاشتراكية والنازية..الخ وهذه كلها عقائد علمانية قد أشعلوا مئات الحروب أو أكثر خلال الأربع قرون الماضية ، منها حربان عالميتان في القرن العشرين قتل فيها أكثر من خمسين مليون من البشر أغلبهم من المدنيين، فالعلمانيون تناحروا فيما بينهم، وإذا أضفنا إلى ذلك أن ليس كل الحروب التي حدثت باسم الأديان السماوية هي حروب دينية فعلاً، وأن الأديان السماوية لا تدعو إلى قتل الناس أو إعلان الحرب عليهم بناء على عقائدهم، وأن الحروب تحدث أيضاً بين المسلمين أنفسهم والمسيحيين أنفسهم وبين أبناء الأمة الواحدة والشعب الواحد والقبيلة الواحدة حدث هذا في كثير من الأمم والشعوب بما فيها أمريكا في الحرب الأهلية، وبالتالي فإن من الجهل أن تتهم العلمانية الأديان السماوية أنها منبع التعصب والحرب، فهذا ليس له علاقة أبداً بالعلم والموضوعية.(1/52)
2- من قال أن العلمانية هي الحل الوسط أو الحيادي بين العقائد السماوية، كالإسلام والمسيحية؟ فهناك تشابه كبير بين الأديان السماوية وهي قائمة على معرفة الله سبحانه وتعالى وطاعته، والعبادة والعفاف وتحريم الزنا..الخ. والعلمانية تدعو لعكس ذلك، أو على الأقل تسمع وتدافع عن كثير من الأمور المخالفة ابتداء من التمرد على الشرائع السماوية، وانتهاء بالدفاع عن كل الانحرافات الشخصية والقانونية باسم الحرية. فالعلمانية لا تبنى على ما تم الاتفاق عليه بين المسلمين والمسيحيين بل تعارضه، ومن المعروف أن المسيحية ليست دينا ودولة، وبالتالي ليس هناك صراعا أو تنافسا بينها وبين الإسلام على مستوى الدولة قال الدكتور يوسف القرضاوي: "فالمسيحي يمكن أن يقبل العلمانية، حاكماً أو محكوماً، ويبقى مع هذا مسيحياً، غير مخدوش ولا مقهور في عقيدته ولا شريعته". وقال "وإذا نظرنا إلى العلمانية مع الإسلام وجدنا الأمر يختلف تمام الاختلاف، وذلك لأن الإسلام جاء نظاماً كاملاً للحياة"(1) فالمسيحية تقبل (ما لقيصر لقيصر وما لله لله). وأنا كمسلم أفضل أن أعيش بدولة مسيحية ملتزمة بدينها على أن أعيش في دولة علمانية مشبعة بالكفر والزندقة في كثير من جوانبها. ومن قال أن الدولة الإسلامية ستمنع المسيحي واليهودي والبوذي..الخ من ممارسة شعائرهم الدينية ، وما نتكلم عنه ليس شعارات بل هو واقع موجود في تاريخ وواقع دولنا الإسلامية ، وليس صحيحا أيضاً أن المساواة محدودة بين المسلمين والمسيحيين في الدولة الإسلامية، فهي كبيرة جداً ولكنها ليست مساواة مطلقة، بل إن المسيحيين لا يريدون أن تكون مساواة مطلقة في بعض المجالات كقوانين الزواج، والخدمة العسكرية والزكاة..الخ ولو نظرنا لواقع الأمة العربية لوجدنا أن 95% منها مسلمون، وهذه أكبر وحدة فكرية عرفتها العرب، وغالبية شعوبنا العربية لا يوجد فيها حتى 1% من غير المسلمين. فالعلمانية تسير مخالفة للحقائق(1/53)
الفكرية، ومخالفة للحقائق الواقعية، ومخالفة لرأي الأم، والشعب والديمقراطية، قال د.يوسف القرضاوي: "لا يتصور للعلمانية أن تنجح في بلد إسلامي، لأنها مناقضة لطبيعة الإسلام، الذي تدين به الشعوب المسلمة، ومناقضة لمفاهيمه وسلوكه وتاريخه..، ولا يوجد أي مبرر لقيامها، كما وجد ذلك في الغرب النصراني"(2)
(1) صـ73 الإسلام والعلمانية وجهاً لوجه د.يوسف القرضاوي.
(2) صـ60 الإسلام والعلمانية وجهاً لوجه د. يوسف القرضاوي.
فهي تصنع فتنة غير موجودة ، وهذا هو فعلاً ما صنعته حيث جاءت بعقائد أوربية وأمريكية، وتحاول تطبيقها في واقع يرفضها، ولهذا تنتقل من فشل إلى آخر، ومن هزيمة إلى كارثة.(1/54)
3- من قال أن المساواة المطلقة أمام الدولة هي الشيء الصحيح علمياً؟ ولماذا لا نطالب المساواة بين البشر في رواتبهم، وما يملكون فهذه أهم؟ ولماذا لا نطالب المساواة بين البشر في اختيار أين يعيشون على هذه الأرض؟ فالأرض ملك لله سبحانه وتعالى. وسعى الفكر الشيوعي لتحقيق المساواة المطلقة في دخل الناس، ولكننا نقول بأن المساواة المطلقة خطأ، والمؤمن بالله وبكتبه لا يجب أن يتساوى مع الكافر. وأمريكا لا تسمح بدخول الهنود والعرب والصينيين وغيرهم لأراضيها إلا بإذن، فلا تعامل البشر بالتساوي مع الأمريكان، كما أن الرئيس الأمريكي بيل كلينتون يحاكم عند محكمة سياسية في قضية لونيسكي، وهذه مهزلة في المساواة والعدل ، وعموماً فالدول لا تساوي بين الملتزم بقوانينها والمتمرد، والناس لا تساوي بين الإنسان المحترم والتافه، وبالتالي فلا يجوز أن نساوي بين من يطيع الله سبحانه تعالى وبين من يكفر به، لأن فضل الله علينا أكبر من فضل دولنا والناس. فالمفاهيم الصحيحة للمساواة وتفاصيلها هي تلك التي حددها الله سبحانه وتعالى، ولكن العلمانية ترفضها وتعتبرها ظلما. ونقول نعم، الإسلام لا يساوي بين المسلم والكافر، ولم نفعل ذلك تعصباً أو جهلاً، بل لأن الله سبحانه وتعالى أمرنا بذلك، فإذا اثبتوا لنا أن الله لم يأمر فسنطيعكم، أما إذا قلتم لا يهمكم ما يأمر به الله، فنقول هو يهمنا فهو العليم الحكيم، والعادل، والرحيم قال تعالى: (فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون) سورة الأنعام: 33 .(1/55)
4- من الخطأ أن يظن البعض أن هناك تياران إسلامي وعلماني في شعوبنا، أو أمتنا، فكثير ممن يعتبرهم البعض علمانيين ليسوا كذلك، بل هم مسلمون متأثرون جزئياً ببعض الأفكار العلمانية نتيجة دراستهم في أمريكا وأوربا، أو نتيجة الغزو الثقافي والإعلامي الغربي الذي أثار شبهات كثيرة، وشوهه كثير من الحقائق الفكرية والواقعية والتاريخية. وعموماً فليس للعلمانيين قوة حقيقية، فهم يعيشون على إثارة الشبهات، وتوجيه الاتهامات، والاستفادة من نقاط ضعف الشعوب والأمة، مثل تطرف بعض الجماعات الإسلامية، أو ضعف التمثيل السياسي للشعب أو التحالف مع المفسدين.
ماهي الليبرالية ؟
كتب الأخ خليل على حيدر بتاريخ 22 يوليو 2002 بجريدة الوطن مقالا بعنوان "لا إسلامية ولا ليبرالية" وذكر فيه أن الأنظمة التي ليست إسلامية ليست بالضرورة ليبرالية، وطالب الكتاب الإسلاميين "باستخدام مصطلح الليبرالية والنظام الليبرالي والجماعات الليبرالية بشكل دقيق، فالذي يراه الآن فوضى فكرية لا آخر لها" وقال الأخ خليل: " الليبرالية تقوم على الديمقراطية الدستورية، والحرية السياسية والاقتصادية، والمساواة بين الجنسين في الحقوق والواجبات، وحرية الفكر، والعقيدة الدينية، واعتبار الشعب مصدر التشريع، وتتضمن الليبرالية احترام حقوق سائر الجماعات السياسية، والأقليات القومية والمذهبية، وتؤمن بتداول السلطة، وبحق جميع التيارات في المشاركة الكاملة في الحياة السياسية ما دامت وفية للدستور ولمبدأ "حق الأغلبية في إدارة الحكم مع حق الأقلية في المعارضة" وذكر الأخ خليل "أن بريطانيا وفرنسا وألمانيا وهولندا وكندا وأمريكا أنظمة ليبرالية راسخة" وأعلق على ما قال بما يلي :-(1/56)
(1) بعض ما ذكره الأخ خليل نؤيده ولا اعتراض عليه كخطوط عريضة، مثل حكم الأغلبية وحق الأقلية في المعارضة، والديمقراطية والحرية السياسية والاقتصادية والتساوى في الحقوق والواجبات بين الجنسين، وحقوق الأقليات، فهذه أهداف عامة لا نختلف حولها كمسلمين إلا في نوعية الضوابط، ولنقل أننا متفقون حولها 90%، وليس هذا مجال تفصيل الاختلاف. ونعلم أن هذه مطبقة في الدول الغربية، وغير مطبقة في معظم بلادنا الإسلامية، ولكن الخطأ ليس في مبادئنا بل في ضعف التزامنا بهذه المبادئ.
(2) الدول التي اعتبرها الأخ خليل ليبرالية كأمريكا وبريطانيا وهولندا هي دول علمانية رأسمالية، ولو طلبنا منه أن يذكر أمثلة عن الدول العلمانية لقال أمريكا وبريطانيا وهولندا، والأهم من ذلك أن التعريف الذي ذكره لليبرالية هو فعلا التعريف الجديد للعلمانية بعد أن تم رفضها عندنا كمسلمين لأنها تفصل الدين عن الدولة، أو بكلمات صريحة هي كفر وزندقة، فالليبرالية هي الاسم السري للعلمانية الرأسمالية، وليس عندنا كمسلمين جهل أو توهم في ذلك، فالفوضى الفكرية هي أن نعتبرهما شيئين مختلفين أو متناقضين، وحتى نضع النقاط على الحروف نقول الحرية والمساواة والعدل كلمات عامة لا اختلاف على أهميتها، ولكن الاختلاف على معناها فهناك معان لها محددة في العلمانية الرأسمالية، ومعان أخرى كانت موجودة في العلمانية الشيوعية وهناك معان إسلامية لها، أي أن هناك حرية رأسمالية، وحرية شيوعية، وحرية إسلامية، النوعان الأولان وغيرهما كثير كالحرية الاشتراكية، والوجودية، والانتقائية، والنازية، وضعها الفلاسفة، والحرية الإسلامية وضعها الله سبحانه وتعالى أي أن حقيقة الخلاف هل نبني حياتنا على عقيدة وشريعة وأخلاق أمرنا الله سبحانه وتعالى بها أم على آراء ومفاهيم الفلاسفة عن الحرية والعدل والمساواة؟ (راجع إن شئت كتابي "عجز العقل العلماني" لأنه فيه تفصيل لهذا الموضوع).(1/57)
(3) كثير من المبادئ والشعارات والأهداف تبدو جميلة سواء كانت رأسمالية أو اشتراكية أو شيوعية أو إسلامية أو مسيحية فالشيوعية كانت تطالب بإنصاف العمال والفلاحين والفقراء، وتطالب بالعدل، وتحرير الشعوب، و"العلمية" وصفق لها الكثيرون، وكذلك الأمر مع الليبرالية تبدو منظرا جميلا، ولكنها في حقيقتها الجهل والضياع والسراب لأن الاحتكام ليس للشعارات والأهداف، بل ما هي الأدلة العلمية التي تثبت صحة الإسلام أو الشيوعية أو الليبرالية أو غير ذلك؟ أي ما الذي يثبت أن العقائد والمفاهيم للحرية والعدل والحقوق والواجبات ...... الخ لهذا المبدأ أو ذاك هي الصحيحة؟(1/58)
نحن نريد أن نبني حياتنا على العلم والنور والحكمة، أي الحق والصواب، وأدلتنا كمسلمين باختصار شديد هو أنه ثبت بالأدلة العقلية العلمية وجود الله سبحانه وتعالى، وصدق محمد صلى الله عليه وسلم، فما هي الأدلة العقلية العلمية على صواب الليبرالية أو العلمانية الرأسمالية، الطريف والغريب أنه لا يوجد دليل واحد على صوابها بعكس الشيوعية التي حاولت أن تستند إلى العلم والعقل من خلال نظرية التطور لدارون أو الحتمية التاريخية وهي ليست بالطبع أدلة علمية بل تخريف الفلاسفة. فالليبرالية قائمة على مبدأ لنبتعد عن الدين المسيحي لأنه في اعتقادهم خطأ، وهذا ليس دليلا على أن الليبرالية حق وصواب. ولا نختلف معهم في أنه حدث للمسيحية بعض التحريف، وهناك اجتهادات خاطئة للكنيسة، وقد يعتبر البعض أن النجاح المادي والتكنولوجي وحتى السياسي الذي حققته أمريكا وبريطانيا وهولندا دليل على صواب الليبرالية، ونقول هذا ظن وخلط لأوراق تكنولوجية في قضايا فكرية، لأنه يمكن أن نقول بناء على ذلك أن الإسلام ساهم في بناء عدة دول عظمى كانت قوية، وغنية وكذلك الشيوعية قامت عليها الصين وروسيا، وهم دول عظمى وحتى لا يتعب الليبراليون أنفسهم نقول إن الليبرالية الرأسمالية قائمة على آراء الفلاسفة الذين يعترفون بأن ما لديهم إنما هو آراء ونظريات، وليست حقائق أي علم، وقائمة على الأهداف والشعارات، وقائمة على الجدل والتناقض، وقائمة على الحلول الوسط للقضايا المختلف حولها، أي عجز العقل العلماني في الوصول للحقائق والعلم والنور والحكمة جعلهم يلجئون للتصويت والحلول الوسط، والتجاهل والتأجيل، والظن والآراء، فهم لم يعد يهمهم أين الحق في القضايا العقائدية والتشريعية؟ بل أصبحت الأمور عندهم نسبية، وأصبحت حياتهم تدور حول المال والمصالح والشهوات فأغلبهم يؤمنون بوجود الله سبحانه وتعالى ولكنهم لا يعبدونه ولا يطيعونه "حل وسط" وهم ليسوا مع الدين، ولا ضده ، ولا مع(1/59)
آراء هذا الفيلسوف، ولا ضده، وهم ليسوا ضد العقائد الباطلة لأنهم يؤمنون "بحرية العقيدة" وليسوا ضد الفساد الأخلاقي لأنهم يؤمنون "بالحرية الشخصية" أي حقيقتهم أنهم بلا مبادئ محددة يدافعون عنها إلا في مجالات محدودة، أي أن الغالبية الساحقة من حياتهم لا تخضع إلى المبادئ لأنها عندهم آراء وحريات شخصية، وقضايا فلسفية، وما وراء الطبيعة، وكلها في ظنهم لا تستحق أن يكون لهم فيها مبادئ وموقف، وهذا قمة الجهل والباطل والضياع، والعجز وهذا خذلان للعلم والعقل، ومع هذا يظنون أنهم أهل العقل والحكمة قال تعالى: "ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا "(72) سورة الإسراء.
(4) أتمنى فعلا أن نحتكم إلى الشعب " باعتباره في العلمانية الرأسمالية مصدر التشريع" لأن هذه حرية نؤمن بها، وأتمنى أن يقوم العلمانيون باستفتاء للشعوب العربية والمسلمة على سؤال واحد هو :أتريدون الإسلام أم العلمانية والليبرالية؟ ونعلم أن النتيجة محسومة بنسبة أكبر من 90% للإسلام ومع هذا يصر الليبراليون، على اقتراح أنظمة ليبرالية لشعوب لا تؤمن بها وهذا أحد الأسباب الرئيسة لاستبداد الأنظمة والأحزاب العلمانية والمتأثرة بالعلمانية، سواء كانت يمينية أو يسارية لأنها إذا فتحت الباب للديمقراطية والحرية ستخسر الانتخابات والساحة الإعلامية والشعبية. ولو كان الليبراليون يلتزمون بالتعريف الذي ذكره الأخ خليل لفعلوا ذلك والحد الأدنى من الالتزام الأخلاقي يفرض عليهم ذلك إذا كانوا صادقين في مبادئهم، وأحيانا يقولون العلمانية لا تعارض الإسلام، وهذا جهل عظيم بالإسلام أو بالعلمانية أو بكليهما.(1/60)
(5) يعرف الأخ خليل حيدر الليبرالية بأنها الحرية السياسية والاقتصادية وتداول السلطة والاحتكام إلى الشعب ...الخ وهذا في أغلبه تعريف يتكلم عن أهداف جميلة تشترك فيها أغلب العقائد والمبادئ والأيدلوجيات، لأن هدفها سعادة الإنسان وحريته وتحقيق العدل والمساواة، وحماية حقوق الإنسان، وهذه أهداف تسعى لها الأديان السماوية، وكذلك كل العقائد العلمانية بما فيها الشيوعية، وبالتالي لا يحق لليبرالية (العلمانية الرأسمالية) احتكار الأهداف الجميلة لأنه لا يوجد خلاف عليها أصلا، ومن يتبنون المبادئ بصدق هم مخلصون لمبادئهم وللبشرية، وإذا جردنا "الليبرالية" من هذا الاحتكار "يسقط" نصفها، أو بتعبير أكثر علمية يسقط أسلوب من أهم أساليب الخداع الذي مارسته الليبرالية عن جهل كشعارهم بأنهم مع الحرية والمساواة والعدل وحقوق الإنسان لأن الخلاف هو أي المبادئ والعقائد التي تحقق هذه الأمور أي ما هو التعريف الصحيح للحرية أو العدل، هل هو التعريف الشيوعي أو الرأسمالي أو الإسلامي أو البوذي ...الخ وما هي "الأدلة العلمية العقلية" التي تثبت أن هذا التعريف أو ذاك هو الصحيح.(1/61)
(6) صحيح أن الليبرالية مع حكم الشعب والديمقراطية وحرية الرأي والقطاع الخاص وهي صادقة في ذلك، وطبقت ذلك دول غربية كأمريكا وبريطانيا إلا أن التزوير الليبرالي واضح في اتهام خصومه وخاصة الإسلام بأنهم أهل الاستبداد والديكتاتورية والجمود والظلام والخرافات .......الخ وهذه الاتهامات ليست صحيحة فنحن نؤمن بالشورى وطبقناها، ونحن نؤمن بحرية الرأي والاجتهاد ...الخ ولم يكتف الليبراليون بذلك بل شوهوا كثيرا من عقائد وأحكام الإسلام الأخرى، ومن المعروف أنه من السهل أن تشوه الآخرين خاصة إذا كنت ليبراليا أصيلا تستند إلى أراء الفلاسفة وجدلهم واتهاماتهم، ومن المعروف أنه حتى العمل الخيري يمكن تشويهه بالتشكيك في أهدافه ونواياه، أو باتهامه بأنه يشجع الفقراء على الكسل، فالليبرالية إذن تشوه خصومها بالباطل، وتوهم الناس بأن المبادئ الصحيحة كالديمقراطية وحرية الرأي وغيرهما لم تعرفها البشرية قبلها بل إن الأسوأ من ذلك أنها احتكرت العقل البشري كأن الأنبياء والصالحين والعقلاء في تاريخ البشرية كله لم يكونوا يعتمدون عقولهم مع أن المسلمين والمسيحيين واليهود يؤمنون بأن الأنبياء أكثر الناس عدلا ورحمة وحزما وأخلاقا وعبادة وأحكاما....الخ ولم يصلوا إلى هذا النور والعلم والحكمة إلا بمبادئ سماوية، وعقول مجتهدة وفى المقابل أغلب مفكري الليبرالية من أكثر الناس اختلافا وجدلا وقلقا وتعاسة وتقلبا وضياعا وحيرة وحماقة! فكيف يكون هؤلاء "أهل العقل"؟ إن الموازين فعلا مقلوبة، والبشرية مخدوعة، فالعلم والعقل ليس إذن مرتبطا بقراءة مئات الكتب أو تأليفها فكل أصحاب المبادئ السماوية والعلمانية يؤلفون ولكن المقياس هو كم فيها من حقائق وعلم وحكمة؟ وكم فيها من أراء وظنون؟.
(7) العلمانية الليبرالية الرأسمالية هي كارثة علمية وعقلية لأنها ليست مستندة إلى أدلة علمية فهي قائمة على عدة أسس منها:-(1/62)
1- الدين المسيحي خطأ، ورجال الكنيسة منحرفون، كما حصل في أوربا في العصور الوسطى ونحن نتفق معهم في أن هناك تحريف للمسيحية وأن هناك بعض الاجتهادات الخاطئة لرجال الكنيسة ولكن هذا ليس دليلا على أن "الليبرالية" صحيحة فإذا أثبت أن المبدأ الآخر خطأ فليس هذا دليلا أن مبدأك صحيح ، بل قد يكون أسوأ منه. قال ابن تيمية:(وبنو آدم ضلالهم فيما جحدوه ونفوه بغير علم أكثر من ضلالهم فيما أثبتوه وصدقوا به، قال تعالى: "بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله " سورة يونس (39)(1).
2- من مبادئ الليبرالية أن الشعب هو مصدر التشريع، وهذا يعنى أن كل شعب من شعوب الكرة الأرضية سيقرر ما هي دساتيره وقوانينه، فلا سلطة أعلى من الشعب، وستختلف الشعوب في قوانينها السياسية والاجتماعية والاقتصادية حسب ما فيها من قوى طبقية وعرقية وفكرية، وما فيها من علم وجهل وثقافة، وهذا يعنى أنه لا توجد مبادئ ليبرالية محددة، فهناك مبادئ أمريكية، وأخرى هولندية، وثالثة برازيلية، ورابعة روسية وهكذا وهذا يعنى أن الاحتكام ليس للعقل والعلم بل للشعب والتصويت والأهواء والمصالح، وهذا معناه لا يوجد حق وصواب، ولا باطل وخطأ في القوانين ، فما يقرره الشعب صحيح وما يرفضه خاطئ، وقد يغير الشعب قراره بعد فترة من الزمن، وهذا شئ طبيعي، لأن الليبرالية قائمة على الآراء والظنون لا الحقائق واليقين، ففي الليبرالية لا توجد مبادئ ثابتة أي لا يوجد علم ولا جهل كلها آراء وهذا قمة الجهل ولم يحلم الجهل في تاريخه الطويل أن يتساوى مع العلم إلا من خلال الفلسفة الليبرالية.
فالليبرالية هي اليوم العدو رقم واحد للمبادئ الصحيحة كعقائد وشرائع، أي هي عدوة للعلم والعقل، وبالتالي فهي العدو رقم واحد للبشرية قال تعالى: "أفمن يعلم أنما انزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب (19) سورة الرعد.
سراب الليبرالية(1/63)
قال الأخ عبد اللطيف الدعيج في القبس بتاريخ 6يناير 2002 " الليبرالية تعنى التحرر من كل شئ مسبق. والتحرر ليس بمعنى الرفض أو التجاوز كما يحاول أن يدعي ذلك خصوم الليبرالية في إشارة إلى معاداة الليبرالية للمعتقدات والثوابت، ولكن بمعنى أن تمحيص الأشياء ونقدها واحتمال "تجاوزها" هو أمر وارد ومقبول. فإذا كان صحيحا إن الليبرالية لا تعادى كل شئ فإن الصحيح أن الليبرالية لا تقبل أي شئ أيضا. ليس هناك ثوابت في الفكر الليبرالي، ولا وجود لقيم و"تابوتات" يمنع تجاوزها أو انتقادها فكل شئ يخضع للنقاش ، وكل شئ قابل للنقد وكل شئ عرضة للتطوير أو حتى للزوال " ومادام النقد جميلا فسأنقد الليبرالية حتى اثبت إن شاء الله إن منهجها خاطئ وليس صحيحا واليكم الأدلة:-
1- إذا كان ليس هناك ثوابت في الفكر الليبرالي، ولا وجود لقيم فالليبرالية إذن ليست عقائد ولا نظام ولا مبادئ، وليست فكرا، ولا أيدلوجية ولا تصورا للحياة أو لدولة فهي إذن ليست اكثر من "حرية النقد" وبالتالي من الخطأ اعتبارها فكرا مخالفا أو متفقا لهذا أو ذاك من العقائد والمبادئ وهي بكلمات مختصرة جزئية صغيرة تطالب بحرية القول والتفكير والكتابة بلا أي ضوابط أو محرمات، فمن الخطأ أن تقول إنني ليبرالي أو أن هناك اتجاه ليبرالي لأنني سأكون عاجزا عن بناء فرد ناهيك عن حزب أو دولة بناء على جزئية اسمها "حرية النقد، لا تحتوى على فهم للحياة ولماذا خلقنا الله سبحانه وتعالى؟ وما هو العدل والحرية والمساواة ؟ وماهي الأنظمة التي تناسب البشر وتحقق السعادة لهم؟
2- من البديهي إن الهدف من التفكير والعقل والكلام والنقد والتحليل أن نصل في النهاية إلى الحقائق سواء في العقائد والمبادئ وكذلك في الأمور الاجتهادية، فإن لم نصل إلى ذلك فنحن في بداية الطريق، أو ضائعين، ومن الخطأ أن نعتبر النقد هدف بحد ذاته، بل هو وسيلة، وليس من الصحيح أن تكون الوسيلة هي الهدف.(1/64)
فالنقد لأجل النقد مضيعة للوقت، بل لا فائدة من الحقائق (العلم) إذا لم نسع لتطبيقها لنستفيد من ثمارها في حياتنا أي الهدف من العلم هو الوصول للعمل وإلا فأنه سيكون العلم مجرد معرفة إبليسية. ولو طبقنا هذا على العلوم المادية لقلنا بإن الهدف من عمل التجارب المختبرية هو الوصول إلى الحقائق المادية التي نستفيد منها في الصناعة والزراعة والطب والحاسب الآلي .......الخ ولهذا نفكر ونحلل ونعمل التجارب ونسجل المشاهدات ونستنتج الحقائق، ولو صرفنا الأموال والأوقات دون أن يكون هذا هدفنا لاعتبرنا مجانين، ولفصلت جميع الحكومات والشركات العلماء الذين يعملون في المختبرات!!
3- إذا كان الوصول للحقائق المادية هو الهدف النهائي والذي يتم بعده الاستفادة من هذه الحقائق في حياتنا، فإن هذه الحقائق تصبح ثوابت و"عقائد" لا مجال لنقدها أو تغييرها، وليست خاضعة للتطوير والزوال حتى ولو مرت قرون كثيرة فهي "مقدسة" وأقول الحقائق "مقدسة". وهناك استنتاجات ظن بعض علماء المادة أنها حقائق ولكنها لم تكن كذلك كما ظن البعض أن الذرة هي اصغر جزء في المادة، وهي فعلا ليست كذلك بل هناك ما هو أصغر منها أي أن هذا الاعتقاد ليس حقيقة، ولكن كل حقيقة ثابتة ولا تتغير وهذا ينطبق أيضا في القضايا الفكرية، فوجود الله سبحانه وتعالى حقيقة فكرية لا تتغير، وصدق الأنبياء حقيقة فكرية لا تتغير والهدف من خلقنا حقيقة فكرية، لا تتغير وضرورة اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم حقيقة فكرية لا تتغير، وهكذا فهي ثوابت لا تتطور، ولا تزول، وإذا طبقناها في حياتنا حققنا الخير والربح والسعادة.(1/65)
4- من المعروف أن بالإمكان النقد مدحا أو ذما إذا لم تكن لدينا معايير صحيحة للخير والشر والحق والباطل والصواب والخطأ فهناك من مدح الشيوعية والنازية والرأسمالية والإسلام ...........الخ وهناك من انتقدها. وكما قيل في عالم السياسة إذا نجح الانقلاب سمي ثورة وإذا فشل فهو مؤامرة. فالنقد مدحا أو ذما سيكون بلا فائدة أو محدود الفائدة إذا لم تكن هناك معايير ومقاييس معتمدة "حقائق ومبادئ صحيحة" نقيس عليها فنمدح من يستحق المدح ونذم من يستحق الذم.
5- إذا كان دوران الأرض حول الشمس حقيقة مادية تم إثباتها علميا، وغير هذه الحقيقة آلاف الحقائق، فهل هناك فائدة من نقدها والتشكيك فيها، وهل يمكن اعتبار ذلك انفتاحا وحرية رأى وحكمة ورقيا علميا؟!.. .الخ. طبعا الجواب لا، لأن هذه حقيقة، والحقيقة لا تخاف من النقد، وعدم نقدها راجع لاقتناعنا العقلي انه لا فائدة من النقد، والمطلوب أن نتعامل معها، ونستفيد منها في حياتنا، فهذا هو ما يفيد الناس. وكذلك الأمر بالنسبة للحقائق الفكرية كوجود الله سبحانه وتعالى، وصدق الأنبياء، وحقائق القرآن والسنة، فلماذا ننقدها ونحن وصلنا لها بعقولنا، وبالأدلة العقلية التي أثبتت وجود الله سبحانه وتعالى وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم، فالمطلوب هو الاستفادة منها وتطبيقها في حياتنا.(1/66)
ومبدأ النقد والتفكير والتحليل هو في البداية كما فعل إبراهيم عليه الصلاة والسلام حيث كان يبحث عن حقيقة الخالق، فلما اقتنع عقليا بذلك حسم الموضوع بالنسبة له، وهذا ينطبق على حقائق القرآن والسنة، أما عدا ذلك فهو خاضع للنقد والحوار فلا يوجد شئ مقدس غير الحقائق الفكرية، ولا قدسية للأفراد والدول والحكومات والتاريخ والواقع والتقاليد، ومجال الاجتهاد واسع جدا، وهناك أيضا اجتهادات ضمن ضوابط في تفسير القرآن والسنة. ومن المعروف أن الإسلام دين واقعي عملي يتجه نحو العمل والإنتاج، ولا يحب الكلام الكثير والجدل في حين أن الفلسفة جعلت همها الجدل والافتراض، والظن ويختصر الإسلام النقاش الجذري في قضيتين وجود الله سبحانه وتعالى وصدق محمد صلى الله عليه وسلم، فمن آمن بهما بالأدلة العقلية فقد وفر على نفسه النقاش في بقية الحقائق الفكرية لأن ما بني على صواب فهو صواب، أما من لم يؤمن بهما فسينافش كل جزئية أساسية فكرية كالحرية، أو توزيع الميراث، أو الحقوق الزوجية، وآلاف القضايا الأخرى، والاهم من ذلك انه لن يصل بالتأكيد إلي يقين وأدلة عقلية قاطعة، إن توزيع الميراث بهذه الطريقة أو تلك هو الحق والصواب أو أن الحرية الحقيقية هي كذا وكذا، وهذه هي الحفرة العظيمة التي سقط بها الفلاسفة والعلمانيون، فاختلفوا حول كل شئ لاستحالة الوصول للحقائق الفكرية من خلال التفكير العقلي العلماني.(1/67)
6- ليس صحيحا أن الله سبحانه وتعالى تركنا بلا حقائق فكرية، أو أن هناك صعوبات كبيرة في الوصول إليها أو أن الطريق إليها معقد وصعب، بل الأمور واضحة، وهي ما جاء به الأنبياء والكتب السماوية. قال ابن تيمية : (إن المطلوب كلما كان الناس إلى معرفته أحوج يسر الله على عقول الناس معرفة أدلته، فأدلة إثبات الصانع وتوحيده وإعلامه وأدلته كثيرة جدا، وطرق الناس في معرفتها كثيرة، وكثير من الطرق لا يحتاج إليه أكثر الناس، وإنما يحتاج إليه من لم يعرف غيره، أو من أعرض عن غيره.)(1)
(1) ص 213 رجال الفكر والدعوة في الإسلام ج2 أبو الحسن الندوي.
العلمانيون وكارثة الاختلاف
من المزايا التي يظن العلمانيون "الديمقراطيون" أنهم يتميزون بها أن تجمعاتهم الفكرية والسياسية قائمة على اختلاف وجهات النظر، وأن لديهم استعدادا لتقبل كل الآراء ومناقشتها، ولا يشعرون بحساسية من ممارسة "فضيلة" الاختلاف، وأن لا مانع عندهم أن يكون قادتهم مسلمين أو مسيحيين أو زنادقة أو غير ذلك، ويظنون أن ما يفعلونه هو الحرية والديمقراطية والمساواة الحقيقية، ونقول لهؤلاء ما يلي :-(1/68)
1- من الخطأ أن يقوم البناء الفكري للدولة أو الحزب أو الفرد على " قاعدة الاختلاف" لأن هذا معناه لا يوجد بناء فكري أصلا، أو في أحسن الأحوال توجد مفاهيم فكرية قليلة كالإيمان بحرية الرأي، والديمقراطية، والبناء الفكري أكبر من ذلك بكثير جدا، فهو عقائد وأحكام وأخلاق كثيرة جدا وبكلمات أخرى الفكر الصحيح هو المبادئ الصحيحة التي تجعل الإنسان راقيا في عقائده وأعماله وأقواله ومعاملاته، فلا يمكن تجاهل أهمية الفكر ناهيك عن إلغائها، والفكر هو الخريطة التي يقوم على أساسها بناء ضخم يتم فيه تحديد أدواره وحجراته ومرافقه وعلاقته بعضها بالبعض، فكيف نظن أننا سنبني بناء بلا خريطة ؟ ونظن أننا قادرون على إنشاء هذا البناء الضخم بالاستمرار في مناقشة بعض الأمور المتعلقة به، والتفاعل مع الواقع بحسب الأحداث والقضايا المطروحة ، إننا إذا لم نعرف حقائق " مبادئ " الهندسة المدنية فلن نستطيع أبدا إنجاز البناء مهما توفر لنا من مواد وعمال وأموال و" مثقفين "، والأشد جهلا من ذلك هو الظن بأنه لا يوجد علم للهندسة، وكلها أراء، فالاختلاف حول أنواع المواد أراء، والاختلاف حول درجة تحمل الطوابق أراء، والاختلاف حول الأولويات في البناء أراء، والاختلاف حول التوصيلات الكهربائية أراء وكلها سيتم حسمها بالتصويت إن المهندسين يرفضون هذه الاقتناعات، بل الخرافات، ويتمسكون بالحقائق الهندسية، وهذا التمسك ليس تشددا وتعصبا وانغلاقا وتغييبا للعقل وتدميرا للحوار وحرية الرأي كما يتهم العلمانيون الإسلاميين بذلك إذا تمسكوا بمبادئهم الإسلامية .(1/69)
2- كان الواجب على العلمانيين أن يقولوا أيها الناس نحن نجهل ما هي المبادئ الصحيحة، وأين الحق والصواب ، وأين الباطل والخطأ في الأديان والعقائد العلمانية؟ فنحن لا زلنا في مرحلة النقاش والاختلاف، وبالتالي فنحن لسنا قادرين على معرفة كيف نبني دولة أو فرد ؟ ولكنهم لم يفعلوا ذلك، بل قالوا لنجتمع ونتناقش ونحكم على الأمور بالأغلبية، فإذا اتفقنا أن البناء لا يحتاج حديدا فلنفعل ذلك ، وإذا صوتت الأغلبية على أنه لا يوجد داع لربط الأسلاك الكهربائية فلننفذ ذلك..... والمشكلة أن الجهل في مجال الهندسة سيظهر فورا إذا كان جهلا أساسيا في حين أن الحياة البشرية تسير بأنظمة رأسمالية أو شيوعية أو يهودية مهما كان فيها من شقاء وتعاسة، ولاشك أن الإسلام هو المنبع الصافي للحقائق الفكرية، وكلما زادت معرفتنا به وتمسكنا كلما زاد نصيبنا من السعادة، وفي نفس الوقت كلما جهلناه حتى ولو كنا مسلمين فقد أصابنا الشقاء بمقدار جهلنا، وكذلك لن يفيدنا معرفتنا بالحقائق الإسلامية إذا لم نتمسك بها، قال تعالى: "مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين". (5) سورة الجمعة.(1/70)
3 - من المعروف أن في علم الكيمياء أو الفيزياء حقائق كثيرة ، وعلاقات وتكامل، والتكامل يوجد في كثير من العقائد الدينية والشيوعية، أي توجد شمولية وترابط بين العقائد والأحكام والأخلاق، أما في الذين يبنون بنيانهم على "الاختلاف" ثم التصويت فلا يوجد شمولية، ولا يوجد تكامل بين "مبادئهم" وقوانينهم، لأنه لا يوجد فهم مشترك لخالق الكون والإنسان والحياة، ولا يوجد وسيلة لربط الاقتصاد بالأخلاق والمعاملات بالسياسة، وقد يتجاهلوا قضايا كثيرة ، وما لا يدخل ضمن القوانين لا علاقة لهم بها، ولو تأمل الإنسان العاقل لوجد أن القسم الأكبر من المبادئ لا علاقة لها بالقوانين فالمواقف الشجاعة والعزة والكرامة والتعامل مع الناس والأمور التربوية لا علاقة لها بالقوانين والاجتهاد الصادق في العمل والعلم، والتعليم لا علاقة له بالقوانين، والانحرافات الأخلاقية بما فيها الخيانة الزوجية فإنه لا علاقة لها بالقوانين، وكذلك النفاق والكذب والحسد والأنانية ....الخ فمبادئنا هي التي تحدد موقفنا من الأحداث، وهذه أمور يجب أن نحدد فيها الحق من الباطل بالعقل والأدلة العقلية، لا من خلال التصويت بكلمات أخرى الوصول للحقائق المادية في الهندسة وغيرها، تم بناء على إثباتات عقلية وليس بالتصويت، وكذلك الأمر في المبادئ الفكرية فالديمقراطية والتصويت يصلحان للقضايا الاجتهادية لا الأساسية فالعلم والعقل والحكمة أرقى من التصويت والحقيقة تبقى حقيقة حتى ولو اعتبرها شعب ما بأنها خطأ بنسبة 100% وإذا كان أعضاء المجلس النيابي يتناقشون وليس لديهم فهم صحيح لهندسة الفرد والمجتمع كما يفعل الديمقراطيون العلمانيون فإن حوارهم ليس علميا ولا عقلانيا، بل جدل يتم حسمه بالتصويت لأن دور العلم والعقل فيه ضعيف، والدور الأكبر للجهل (الآراء) والقوة (الأغلبية).(1/71)
4- إذا كان أحد أهداف العلمانية الخروج من "الاختلاف" بين الإسلام والمسيحية فهي أقامت بنيانها كله على "الاختلاف"، وهناك اتفاق كبير بين المسلمين والمسيحيين في قضايا كثيرة مثل وجود الخالق، وكثير من صفاته وأسمائه، وعلى وجود جنة ونار، وعلى الأخلاق الفاضلة. ...الخ في حين أن العلمانيين مختلفون حول كل شئ، فمنهم من يؤمن بوجود الله، ومنهم من ينفيه، ومنهم الرأسمالي والاشتراكي والشيوعي .....الخ وبالتالي فالصراع بينهم كبير وجذري فإذا كان المسلمون والمسيحيون مختلفين فالعلمانيون أشد اختلافا ،وتفرقا، فهم هربوا من الرمضاء وأشعلوا النار تحت أرجلهم ، ولا شك أن الاختلاف يفسد للود ألف قضية إذا كان اختلافا جذريا، بل إن بعض الاختلافات الاجتهادية "في الفروع" تفسد للود ألف قضية، فقيام البناء العلماني على الاختلاف كارثة، وليس ميزة، وقام الإسلام بحسم الاختلافات الجذرية، وبترشيد الاختلافات الاجتهادية، ومن بديهيات العقل أن الاتفاق في العقائد والشرائع و"الاجتهادات" يولد التقارب والتعاون والقوة والوحدة، وأن الاختلاف يولد التنافر والتنازع والتفرق والصراع والضعف، فمن الصعب بل المستحيل الوصول إلى اتفاق وتفاهم مع من نختلف معهم فكريا، وسياسيا، وأنا أتكلم هنا عن القاعدة لا الاستثناء لأن هناك اتفاقات جزئية، فكيف يقتنع العلمانيون بأن اختلافهم حضارة ورقي وتطور عقلي؟ وقد يقول قائل بأن العلمانيين يعتبرون اقتناعاتهم أراء وليس حقائق كما يفعل المسلم والمسيحي، ونقول الاختلاف الأساسي خطر حتى لو لم يتعصب له أفراده قال تعالى "مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون" (41) سورة العنكبوت ونضيف لذلك أن المسلمين عندما يجتمعون فلأنهم حددوا ما هي "حقائقهم الفكرية"، وكذلك المسيحيون والشيوعيون فعقولهم وصلت إلى "شئ" فكيف يكون أكثر تطورا "عقليا" من يقول أن ما عندنا(1/72)
أراء متناقضة وسنحسمها بالتصويت ولا ندري إلى أين سنصل؟
5- لا يعني الالتزام بالحقائق الفكرية الإسلامية رفض الآخرين فكريا وسياسيا واجتماعيا، بل معناه الحقائق الفكرية مقدسة، وفيها مساحة كبيرة جدا لحرية الرأي، وللاجتهادات العقلية، وللتمثيل السياسي لغير المسلمين، ولحقوق الإنسان، ونعلم أن هناك اقتناعات خاطئة عند بعض المسلمين في تعاملهم مع غير المسلمين، ونطالب المسلمين دولا وجماعات وأفرادا بوضع نظم سياسية واجتماعية تثبت سماحة الإسلام، وتدافع عن الحقوق السياسية للأقليات في الدول الإسلامية وتوضح حدود وضوابط حرية الرأي . ولو أخذنا حرية الرأي الإسلامية لوجدنا أنها تسمح بانتقاد حكام وحكومات ودول ومواقف وعلماء الإسلام بل أكثر من ذلك يدعو الإسلام إلى حوار عقلي وعلمي حول القضايا العقائدية بين جميع البشر، والحرية الإسلامية ضد الكذب والتجريح والسخرية ، وما ندعو له واضح في القرآن الكريم، وفي سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأي إنسان عاقل لا يريد حرية أكثر من ذلك ؟ لأن أكثر من ذلك يفتح الأبواب للفساد الأخلاقي ،وللفتن، وللسفهاء، والمتطرفين،والمرتزقة !!.(1/73)
6- كتبنا وقلنا مرارا بأن الديمقراطية هي جزء من نظام، وليست نظاما فالديمقراطية تعني حكم الأغلبية، وحقوق الأقلية، وحرية الرأي والنظام هو عقائد ومبادئ وأحكام تضع الأسس، وأحيانا التفاصيل العقائدية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية ، فالصحيح أن يقال النظام العلماني مقابل النظام الإسلامي لأنه لا يوجد "نظام" ديمقراطي، والنظام الإسلامي يقبل بالديمقراطية بل هي جزء لا يتجزأ منه لأن الشورى ملزمة ولكن هذا لا يعني أن الديمقراطية الأمريكية هي النموذج الذي يحتذي به فالديمقراطية العاقلة هي ديمقراطية أهل الوعي والخبرة والإخلاص وليست الديمقراطية التي يتحكم فيها المال والدعاية والعصبيات الحزبية والطبقية والعرقية، والنظام الغربي نظام علماني يتبنى الديمقراطية، وتوجد أنظمة علمانية ليست ديمقراطية، والنظام الإسلامي يجب أن يكون ديمقراطيا وإلا فهو نظام ناقص أو مشوه فالآية القرآنية واضحة ، قال الله تعالى: " وأمرهم شورى بينهم" وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم واضحة، وارجعوا إن شئتم إلى كتاب الشورى وأثرها في الديمقراطية للدكتور عبد الحميد الأنصاري لتقتنعوا أن الشورى ملزمة في الإسلام .
العلمانية كفر وزندقة(1/74)
لم يصل العقل العلماني إلى فكر محدد هو الحق والصواب، بل أنتج فلسفات وعقائد كثيرة متناقضة كالرأسمالية، والاشتراكية، والشيوعية، والنازية ، والوجودية.. الخ وهذه كلها عقائد مخالفة للإسلام ،ومناهج متعارضة معه ،أي هي عقائد الكفر والشرك والضلال، قال تعالي " فذالكم الله ربكم الحق فما بعد الحق إلا الضلال فأني تصرفون" 32 سورة يونس " فكل العقائد غير الدينية مقبولة عند العلمانيين من الشيوعية إلى الرأسمالية وما بينهما، وكل العقائد الدينية مرفوضة سواء كانت إسلاما أو مسيحية؛ فالعلمانية هي اللادينية ،أي هي المبادئ المناقضة للأديان السماوية، فهل بعد هذا كفر وتمرد على الله سبحانه وتعالى ورسله وكتبه، قال تعالى " ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه "(130) سورة البقرة ومن المعروف أن المبادئ التي أنتجتها العلمانية تتخذ مواقف معادية للأديان، وخاصة الإسلام فهي تريد تدميره، أو على الأقل حبسه وعزله عن الدولة والحياه السياسية، بل عن كل جوانب الحياة، وهذا واقع مشاهد، فهي ضد الاحتكام إلى الشريعة الإسلامية، وهي مع فصل الدين عن الدولة، وهي ضد كثير من العقائد والأخلاق الإسلامية! فالعلمانية هي الكفر والشرك واليكم الادله :
1- قال تعالي " ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون(18) إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً وان الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولى المتقين " (19) سورة الجاثية .
2- قال تعالى " ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم أمنوا بما انزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً(60) وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً (61)" سورة النساء(1/75)
3 - وقال تعالى " أفتومنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون " (85) سورة البقرة .
4- قال تعالي " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا فى أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً " (65) سورة النساء قال بن كثير رحمه الله : (يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة انه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم فى جميع الأمور، فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطناً وظاهراً) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 1/520 ص 28 تحكيم الشريعة ودعاوي العلمانية د . صلاح الصاوي
5- قال الدكتور صلاح الصاوي " وقد أقسم ربنا فى القرآن هذا القسم على نفي الإيمان عن مجرد من وجد في نفسه حرجاً من قضائه صلي الله عليه وسلم! أين هذا ممن يجلسون من شريعته مجلس الحكم الأعلى يصوبون منها ما يشاءون ويقرون منها ما يشاءون ، ويلغون ما يشاءون، ويعدلون منها ما يشاءون، ويزعمون الإصلاح والتقدمية ويدعون التطور والاستنارة، وما دروا أنهم يتخبطون بذلك في أوحال من الكفر ويتردون إلى دركات سحيقة من الزندقة والنفاق" ص 30 تحكيم الشريعة ودعاوي العلمانية د . صلاح الصاوي.(1/76)
6- قال الدكتور يوسف القرضاوي قال تعالى : " وان أحكم بينهم بما انزل الله ولا تتبع أهواءهم ، وأحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فأن تولوا فأعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وان كثيرا من الناس لفاسقون(49) أفحكم الجاهلية يبغون ، ومن احسن من الله حكماً لقوم يوقنون (50 ) سورة المائدة . إن العلمانية بمعيار الدين دعوة مرفوضة ، لأنها دعوة إلى حكم الجاهلية، أي إلى الحكم بما وضع الناس لا بما أنزل الله - إنها دعوه تتعالم على الله جل جلاله، وتستدرك على شرعه وحكمه وكأنها تقول لله رب العالمين نحن أعلم بما يصلح لنا منك " صـ83. الإسلام والعلمانية وجهاً لوجه د .يوسف القرضاوي .
7- قال الشيخ مصطفى صبري شيخ الإسلام فى الدولة العثمانية ( إن هذا الفصل مؤامرة بالدين للقضاء عليه . ولقد كان فى كل بدعه أحدثها العصريون المتفرنجون في البلاد الإسلامية كيد للدين، ومحاولة للخروج عليه . ولكن كيدهم فى فصله عن السياسة أدهى وأشد من كل كيد" ص112 تحكيم الشريعة ودعاوى العلمانية د. صلاح الصاوي .
8- قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله : وقد أجمع العلماء على أن من زعم أن حكم غير الله احسن من حكم الله أوان غير هدي رسول الله صلي الله عليه وسلم احسن من هدي الرسول صلي الله عليه وسلم، فهو كافر كما اجمعوا على أن من زعم أنه يجوز لأحد من الناس الخروج على شريعة محمد صلي الله عليه وسلم أو تحكيم غيرها فهو كافر ضال بما ذكرناه من الأدلة القرآنية وإجماع أهل العلم، يعلم السائل وغيره أن الذين يدعون إلى الاشتراكية أو إلى الشيوعية أو غيرها من المذاهب الهادمة المناقضة لحكم الإسلام كفار ضلال اكفر من اليهود والنصارى " صـ60 تحكيم الشريعة ودعاوي العلمانية د . صلاح الصاوي .(1/77)
9- قال الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الجامع الأزهر : فصل الدين عن السياسة هدم لمعظم حقائق الدين ولا يقدم عليه المسلمون إلا بعد أن يكونوا غير مسلمين. صـ58 تحكيم الشريعة ودعاوي العلمانية د . صلاح الصاوي
10- قال الشيخ محمد الفقي ( من اتخذ من كلام الفرنجة قوانين يتحاكم إليها في الدماء والفروج والأموال ويقدمها على ما علم وتبين له من كتاب الله وسنه رسوله صلي الله عليه وسلم فهو بلا شك كافر مرتد إذا أصر عليها ولم يرجع إلى الحكم بما أنزل الله . ولا ينفعه بأي أسم تسمى به، ولا أي عمل من ظواهر أعمال الصلاة والصيام والحج ونحوها) ص59 تحكيم الشريعة ودعاوي العلمانية د . صلاح الصاوي .
11- قال الدكتور يوسف القرضاوي " أما العلمانية في أوطاننا ... فهي ضد الدين ، وضد الدستور ، وضد حقوق الإنسان وضد مصلحة الأمة وأصالتها " ص79. الإسلام والعلمانية وجهاً لوجه د . يوسف القرضاوي .
12- قال د . صلاح الصاوي " إننا أمام قوم يدينون بالحق في السيادة العليا والتشريع المطلق لمجالسهم التشريعية، فالحلال ما أحلته، والحرام ما حرمته، والواجب ما، أوجبته والنظام ما شرعته "ص81 تحكيم الشريعة ودعاوي العلمانية د . صلاح الصاوي
13- قال الدكتور صلاح الصاوي " العلمانيون يفهمون الدين على انه ما يقام في الناس من شعائر العبادات ، وما يدعو إليه الوعاظ والخطباء من مكارم الأخلاق، أما ما وراء ذلك من أحكام المعاملات ، وأمور القضاء والسياسة، ونحوه فليس من الدين في شئ والدين منه براء" .
ثم قال : " ولا يخفي أن في القرآن أحكاماً كثيرة ليست من العبادات ولا من الأخلاق المجردة كأحكام البيع والربا والرهن والدين والأشهاد وأحكام الزواج ... بل في القرآن آيات حربية...الخ هذا يدلنا على أن من يدعو إلى فصل الدين عن السياسة إنما يدين دينا أخر سماه الإسلام" .
ولا يخلو حال الداعيين إلى هذه النحلة من أحد أمرين :(1/78)
- إما أن ينكروا كل هذا الحشد الهائل من الأحكام ويكذبوا بما جاء فيها من الآيات والأحاديث، وكفر هؤلاء معلوم بالضرورة من الدين .
- وإما أن يقروا بوجود هذه الأحكام في الكتاب والسنة . وينكروا صلاحيتها للتطبيق، وكفالتها بالمصالح في هذا العصر، وفى هذا المسلك من الزندقة والكفر ما تكاد السموات تنفطر منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا، فإن عيب هذه التشريعات عيب للمشرع جل في علاه، وكفر من يجترئ على ذلك معلوم بالضرورة من الدين".ص110تحكيم الشريعة ودعاوي العلمانية د.صلاح الصاوي.
14- قال الشيخ محمد الغزالي رحمه الله : إنني لا أستطيع إلا أن أقول : يحارب الغزو الثقافي يحارب الاستعمار التشريعي ، يحارب الاستعمار التربوي كما حورب الاستعمار العسكري حتى تجلوا عن بلادنا هذه الأفكار الدخيلة التي جاءت مع القبعات الغازية ، ويعود الإسلام لأهله ويكون الدين كله لله " ص110 المواجهة بين الإسلام والعلمانية د . محمد صلاح الصاوي
15- قال الدكتور احمد كمال أبو المجد " أما قضية فصل الدين عن الدولة بمعني إقصاء الدين عن أن يكون له دور في تنظيم أمور المجتمع فإنها المكون الرئيس من مكونات العلمانية الذي لا يسع مسلماً قبوله " ص530 كتاب القومية العربية والإسلام مركز دراسات الوحدة العربية.(1/79)
ولنتذكر دائماً حقيقة موقف العلمانية من الدين حيث قامت من أساسها على الابتعاد عن الدين وتذرعت في البداية بوجود انحرافات من رجال الدين المسيحي، ثم ابتعدت عن المسيحية لأنها دين خاطئ، ثم اعتبرت كل دين ومنها الإسلام أديان خاطئة ورجعية وساذجة وسطحية ومتعصبة، وتعادي التقدم والحضارة، وهذا ليس فقط كفر بواح، بل أيضاً جهل لا يوجد أعظم منه في تاريخ البشرية، ثم كانت النتيجة المنطقية أن تبتعد عن الله سبحانه وتعالى دون أن تعلن الحرب الصريحة على معرفته وطاعته والعبودية له، وإذا كان غير المسلمين لا يعرفون الدين الصحيح ومعاني الإيمان والكفر والشرك فان هذه المفاهيم واضحة في الإسلام، فالإيمان بالله لا يعني فقط الإيمان بوجوده، فحتى كفار قريش كانوا يؤمنون بذلك، واغلب الكفار والمشركين في الأرض يؤمنون بذلك فالإيمان له شروط منها طاعة الله وتحكيم شرعه، وموالاه أوليائه، ومعاداة أعدائه، وغير ذلك . والبيئة المعادية للأديان التي أوجدتها العلمانية جعلت من الطبيعي أن تعلن الشيوعية وهى إحدى مدارس العلمانية نفى وجود الخالق، وان الدين آفيون الشعوب، بل أعلنت أن هذه هي " العلمية " الحقيقية مع أن وجود الله سبحانه وتعالي هو أعظم حقيقة في الكون أثبتتها الأدلة الفكرية، والمادية ولم ينكرها الأغلبية الساحقة من المفكرين العلمانيين والعلمانية الرأسمالية جرأتهم على الكفر والشرك بالخالق، وجرأتهم على التهجم على الدين، وما ينتمي له من علماء وجماعات وأحزاب، وإن كان للشيوعية حسنه فهي أنها كانت صادقة في إعلان كفرها وزندقتها في حين أن العلمانية الرأسمالية تميع القضايا الفكرية، وتهرب منها، وتتجاهلها وتكفر عملياً مع إعلانها الإيمان النظري بالله وبكتبه مستغلة جهل الناس بالمعاني الصحيحة للإيمان والكفر . فالعلمانية الرأسمالية دين جديد له عقائده واحكامه المتناقضة في جوانب رئيسة مع الإسلام والصراع اليوم في جانبه الفكري هو في حقيقته(1/80)
بين الإسلام والعلمانية فليختر كل فرد موقفة أهو مع المؤمنين أم مع الكفار والمنافقين؟!!
حقيقة العلمانيين
إذا نظرنا في الواقع وجدنا الأدلة الكثيرة التي تثبت أن الصراع هو بين الإسلام وبين العلمانية، وإليكم الأدلة :قال د. فرج فوده: "ببساطة أنا ضد تطبيق الشريعة الإسلامية فورا أو حتى خطوة خطوة"(1).وقال الدكتور طه حسين: "كل شيء في فرنسا يعجبني ويرضيني، خير فرنسا وشرها، حلو فرنسا ومرها نعيم فرنسا وبؤسها......" وقال "لابد أن نسير سير الأوربيين، ونسلك طريقهم لنكون أنداداً، ولنكن لهم شركاء في الحضارة، خيرها وشرها، حلوها ومرها، وما يحب وما يكره، وما يحمد وما يعاب"(2) . وأقول إذا سرنا كالأوربيين رفضنا الدين ولا شك أن ليس من العقلانية أن نقلدهم حتى فيما يكره ويعاب، قال الدكتور أحمد كمال أبو المجد: " وهناك فريق آخر من العلمانيين يتاجر ويزايد ويصفي حسابات تحت ستار المخاوف من الإسلاميين.. والقضية عندهم ليست مقاومة التطرف بأي صورة من صوره، وإنما كراهية أصيلة، وكأنها مرض في القلوب، فهو يكره كل ما هو إسلامي... وهذا مسلك أقل ما يقال فيه أنه شديد الهبوط وشديد الخيانة وعظيم الضرر"(3)(1/81)
موقف الدول العلمانية من الأديان السماوية موقف عدائي فهي مقبولة ومرضي عنها إذا بقى الدين ضعيفا مسجوناً في مسجد أو كنيسة، وهو مقبول إذا تكلم في الأمور الأخلاقية والاجتماعية ولم يخرج عن الوعظ والإرشاد، وبعضها يسمح بوجود أحزاب شيوعية أو ملحدة ولكنها ترفض وجود أحزاب دينية وإذا نظرنا إلى واقعنا العربي وجدنا أن فصل الدين عن السياسة أدى وسيؤدي إلى أن يكون عالم السياسة بلا مبادئ ولا أخلاق فالكذب شئ طبيعي ، والاختلاسات شطارة ، والنفاق ذكاء وحكمة ، والغاية تبرر الوسيلة ، ويعني فصل الدين عن السياسة أن كل المبادئ سيسمح لها بالدخول إلى عالم السياسة ما عدا الإسلام أي سنسلم الحكم والسلطة إلى المفاهيم والتناقضات العلمانية والعصبيات العرقية وأصحاب المصالح وهو يعني أيضا فصل الدين ( الإسلام ) عن التشريع والتعليم والاقتصاد لأن للسياسة علاقة بكل ذلك.
(1) ص57 المواجهة بين الإسلام والعلمانية د. محمد صلاح الصاوي .
(2) ص80 أوهام العلمانية حول الرسالة والمنهج د. توفيق الواعي .
(3) ص23 من كتاب الإسلاميون والحوار مع العلمانية والدولة والغرب هشام العوضي.(1/82)
ولم يتجرأ العلمانيون العرب على إعلان حربهم الصريحة على الإسلام، ولهذا يقولون كذباً ونفاقاً ومكراً أنهم مسلمون، وأنهم يريدون الإسلام، لكن اختلافهم وصراعهم هو مع جماعات إسلامية، واجتهادات متطرفة وخاطئة ولكن هذه ليست الحقيقة لأنهم أهل الأفكار الرأسمالية والشيوعية والليبرالية والاشتراكية والعنصرية، ويرفعون بعض أو أغلب شعاراتها وأهدافها، ومن وصل منهم للحكم اضطهدوا علماء المسلمين، وسجنوا بعضهم، وقتلوا بعضهم، وحاربوا أهل الصلاة والمساجد وكان ولا زال العلمانيون هم المدافعون عن كتاب عرب متهمين بالإلحاد والزندقة وهم الذين يضعون دائماً أيديهم بأيدي أعداء الإسلام . فالعلمانيون طابور خامس أعلن خيانته العقائدية للإسلام ولو كان العلمانيون صادقين في انتمائهم للإسلام لوضح في حياتهم الشخصية تمسكهم بالصلاة والزكاة والحج وقليل منهم من يفعل ذلك فاختلافهم هو مع الإسلام، وليس كما يدعون مع جماعات أو اجتهادات خاطئة. بل نقول إن العلمانيين الأوربيين ضد الكنيسة، وليسوا ضد المسيحية في حين أننا نجد علمانيين عرب ضد الإسلام ليس فقط في جانبه التشريعي بل والعقائدي والأخلاقي ويقول العلمانيون العرب نحن ضد الدولة الدينية وأقول لا توجد دولة دينية في الإسلام، وليس هناك احتمال لوجود دولة مسيحية في الوطن العربي أو يهودية، إذن أنتم ضد الدولة الإسلامية، ويقولون نحن مع الحرية ونحن كمسلمين مع الحرية الحكيمة العفيفة، وهم يقصدون حرية الفساد الأخلاقي، وحرية الكفر والزندقة، وحرية التهجم على الإسلام، وكان ولازال العلمانيون يهاجمون الإسلام بطرق غير صريحة، فهو أحياناً مثالي لا يمكن تطبيقه، وأحياناً لا يريدون أن يتلوث الإسلام بالسياسة، وأحياناً مع التدرج في تطبيق الشريعة، ويقصدون بالتدرج التأجيل للأبد. ويكيلون التهم والشبهات لكثير من عقائد الإسلام وأحكامه ودوله وجماعاته وعلمائه وأفراده، وحتى العمل الخيري لم يسلم من(1/83)
اتهاماتهم، ولا أبالغ إذا قلت هم مجموعة تجمع فيها ما قاله الكفار والزنادقة والمنافقون قديماً وحديثاً، ومن حق العلمانيين أن يدافعوا عن مبادئهم ويشرحوها، ولكن ليس من حقهم بأن يقولوا أن الإسلام ليس ضد العلمانية، أو أن الإنسان بإمكانه أن يكون علمانيا ومسلما في نفس الوقت، فالإسلام علم له كتبه وعلماؤه ، وهو مكتوب بلغة عربية واضحة تبين معاني الإيمان والكفر والواجبات والحقوق والتوحيد والشرك وسبيل المؤمنين وعقائد الكافرين.. قال تعالى: (فأسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون). (43) سورة النحل.
ما نتفق فيه مع العلمانيين(1/84)
نحن نتفق مع العلمانيين في أن هناك جماعات إسلامية متطرفة بعيدة عن الفهم الصحيح للإسلام، والفهم الصحيح للواقع،ونحن نتفق معهم على أن هناك استبداد كبير في كثير من الدول الإسلامية، وان تطبيق الشورى بصورة صحيحة ضرورة لابد منها، وأن المشاركة الشعبية من أساسيات الإسلام ، والحياة ، وان سلبيات الاستبداد كثيرة وكبيرة، ونحن نتفق مع العلمانيين على ضرورة إنصاف الأقليات الدينية والعرقية، وعلى ضرورة إنصاف المرأة ، ونحن نتفق معهم على أهمية الدفاع القوي عن حقوق الإنسان وجعلها على رأس الأولويات، ونحن نتفق معهم على مساحات شاسعة من حرية الرأي والتنظيم والعمل الجماعي، ونحن نتفق مع العلمانيين على أهمية دور القطاع الخاص في بناء التنمية، ونحن نتفق معهم على رفض الدولة الدينية بالمفهوم الغربي قال الدكتور يوسف القرضاوي والدكتور أحمد العسال : "الأمة الإسلامية هي الحاكمة، وهي صاحبة السلطة ، هي التي تختار حاكمها وهى التي تشير عليه، وهى التي تنصح له ، وتعينه ، وهى التي تعزله إذا انحرف أو جار، والخليفة في الإسلام ليس نائباً عن الله ، ولا وكيلاً له في الأرض إنما هو وكيل الأمة، ونائب عنها"(1). ونحن نتفق معهم على أهمية التعليم والبحث العلمي والإبداع الفكري والتطوير الإداري والتكنولوجي واتباع الأسلوب العلمي في معالجة مشاكلنا، ونحن لسنا ضد الانفتاح على الغرب والشرق والشمال والجنوب والاستفادة من النجاحات التي حققوها والتعلم منها وتطبيقها في بلادنا سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو إدارية، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها، ونحن نؤيدهم في ضرورة الحفاظ على الوحدة الوطنية، ونحن مع الوسطية والاعتدال والتسامح والواقعية والاجتهاد العقلاني.
(1) ص26 أوهام العلمانية حول الرسالة والمنهج . د . توفيق الواعي .(1/85)
ونحن نتفق معهم على أن حجم الصدق والحرية والشورى والعدل والالتزام بالقانون في الدول الغربية أفضل مما هو في الغالبية من ديار العرب والمسلمين فقد قال الشيخ محمد عبده رحمه الله قبل قرن عندما زار أوربا : " وجدت الإسلام ولم أجد المسلمين و وجدت هنا المسلمين ولم أجد الإسلام " فالتطبيق العملي للإسلام ضعيف في واقعنا، وذلك لأن الإيمان ضعيف أو مفقود في كثير ممن نسميهم المسلمين، ولهذا نجد ألوانا من الاستبداد، والنفاق، والعصبيات العرقية، والتبذير، والكسل ......الخ مما يساهم في إعطاء صورة سيئة عن الإسلام، والمسلمين.(1/86)
ولكننا نختلف مع العلمانيين في رغبتهم في الابتعاد عن الله سبحانه وتعالى ومعرفته وطاعته وعبادته، ولا نعتبر هذه القضايا ثانوية أو شخصية بل لطاعة الله وعبادته خلقنا، ونحن نريد أن نسير على طريق الأنبياء والمؤمنين لا الفلاسفة والملحدين، ونحن نريد أن نكون من أهل القرآن والسنه والصلاه لعلمنا أن فيها سعادتنا في الدنيا والآخرة، ونحن نختلف مع العلمانيين في فهمنا للحياة وما فيها من أحداث، فنحن نفهمها على أسس من الحقائق الفكرية، والمادية، ولا نرى الأمور بالموازين المادية فقط لأننا نعلم أن للذنوب والمعاصي والشرك آثار دنيوية وأخروية سيئة ، وصلاح الحياة في محبة الله وطاعته والخوف منه وفى اتخاذ الرسول صلي الله عليه وسلم قدوة، ونعلم أن للأخلاق دورا كبيرا فالتواضع والوفاء والصدق والكرم وصلة الرحم والحلم ... الخ صفات عظيمة من الضروري أن نهتم بها، ونتدرب عليها ونحن نعلم أن معرفة الله سبحانه وتعالى والقرب منه أهم من معرفة أمريكا والجري وراء المال والشهوات. ونحن عرفنا عقائد العلمانية بكافة مدارسها، وكذلك العقائد الدينية، فآمنا بالإسلام لأنه الدين الصحيح، فنحن جيل رأى المدارس الفكرية تختلف أمامه، وتعرض بضائعها فلسنا سطحيين أو ساذجين أو رجعيين .قال تعالى " أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى أمن يمشي سوياً على صراط مستقيم (22) سورة الملك وقال تعالى: " قل هذه سبيلى أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين (108) سورة يوسف.
نحن نقبل الآخرين(1/87)
أهديت كتابي " عجز العقل العلماني " لأحد الأخوة المدافعين عن العلمانية وكتب لي بعد أن قرأ القسم الأكبر منه ملاحظات مختصرة أحببت أن أعلق عليها لأن القضية عامة وليست شخصية وأكرر دعوة قلتها قبل عدة سنوات وهي ضرورة أن يكون هناك حوارات علمية بين الإسلاميين والليبراليين فأحد أسباب مشاكلنا أننا لا نتحاور بل نتبادل الاتهامات وسأذكر هنا بعض ملاحظاته ووجهة نظري لعل يكون فيها فائدة :-
1- قال الأخ الليبرالي " واضح أن لديك موقف مبدئيا ومسبقا مما تسميه " علمانية"، وأن همك الأساسي هو إثبات خطأ هذه "العلمانية"، وأقول هذه العبارة تعطي انطباعا بأنني حكمت على العلمانية قبل أن أدرسها وأفهمها، وأقول موقفي المعارض جاء بعد أن قرأت ما كتب أصحابها وخصومها، واقتنعت بخطرها وضررها على البشر فلا يوجد في نقدي لها اندفاع عاطفي أو وراثي أو تقليد لعالم، والأهم من ذلك أنني أنتقدها بناء على أدلة عقلية، وبناء على ما قاله أصحابها قبل أعدائها واستندت إلى العقل والمنطق والمراجع، وهنا يجب أن يكون النقاش بين المخلصين، ولا فائدة من النظر إلى أمور أخرى كالموقف المسبق أو المتأخر.(1/88)
2- قال الأخ الليبرالي :" لماذا أنت معني بإثبات خطأ العلمانية ، أليس في إمكانك ترويج بضاعتك دون ذم بضاعة الآخرين " وأقول أنا مهتم بإثبات خطأ العلمانية لأنها" مرض " يتلف العقول، فيشوه لها مفاهيم الحرية والعدل والمساواة والعبادة .....الخ وقد ذكرت سلبيات العلمانية في كتابي، ولو قرأت الكتاب بتركيز لما سألت هذا السؤال ؟ أما بالنسبة لذم بضاعة الآخرين فما فعلته ليس سوء أدب مني بل هو واجب إنساني ليعرف الناس البضائع الفكرية الفاسدة، فيتجنبوها، والحوار العلمي يتطلب بيان صواب مبادئك، وكذلك إثبات خطأ مبادئ الآخرين، فنحن لا نتكلم عن غيبة ونميمة أو ذم بضاعة تجارية، والغريب أن صاحبنا الليبرالي من المؤيدين للنقد، فكيف يتناقض هنا مع مبادئه ؟ وأي حرية رأي ستوجد إذا كان النقد ممنوعا؟ والأكثر غرابة أن العلمانية قائمة على الجدل والنقد واتهام الآخرين بالحق والباطل وآخر ما يتوقع من أصحابها والمتأثرين بها أن يطالبوك بأن لا تنتقدهم.(1/89)
3- قال الأخ الليبرالي " أعتقد أن الناس في إمكانها أن تتعايش شيوعيين كانوا أو علمانيين أو متدينين، ولكن بشرط أن يقبل كل طرف بالطرف الآخر إن مشكلة المتدينين والمسلمين أمثالك بالذات أنهم لا يقبلون الطرف الآخر" وأقول نعلم كمسلمين أن الناس مختلفين في عقائدهم، وأن التعايش بينهم هو الأساس، ولا نحارب الناس لأنهم يختلفون معنا في عقائدهم، ولا نسعى لإكراههم حتى يؤمنوا بالإسلام، والمسلمون يتعايشون ويتعاملون مع كل شعوب العالم على اختلاف عقائدهم في تجارة وسياحة وتعليم، ولا توجد مشكلة في قبولهم أما على مستوى الدولة وعقائدها ونظامها فالأمر بسيط، فلنقبل ما تختاره الأكثرية كنظام، فإذا قالت أغلبية الشعب نريد العلمانية فهم أحرار في أن يطبقوا النظام الشيوعي، أو الرأسمالي، أو الاشتراكي، وأن يختاروا ما شاءوا من مفاهيم " خاطئة " للحرية والمساواة والعدل، وأما إذا اختاروا الإسلام وقالوا نريد أن نكون مسلمين فالعقائد والأحكام الإسلامية واضحة، ولن يكون الحاكم مسيحيا ولا وزير الدفاع يهوديا، ولن تطبق المفاهيم العلمانية للحرية ولقبول الآخرين، ولنتذكر بأن الديمقراطية قائمة على حكم الأكثرية، وأن القبول فيها بالأقلية لا يعني أن المساواة مطلقة بينهما، فآراء الأقلية مرفوضة وستخضع لحكم الأكثرية، ولو تأمل صاحبنا لوجد نفسه يفرض المفاهيم العلمانية لقبول الآخر على الآخرين بل يريد فرض النظام العلماني على الآخرين حتى لو كان الآخرون أغلبية ساحقة تؤمن بالإسلام كما في دولنا العربية المسلمة فأما النظام العلماني وإلا فنحن متعصبون وجهلاء وأعداء للآخرين إذا طالبنا بالنظام الإسلامي.(1/90)
4- كثير ما يظن العلمانيين أننا نتعصب لمبادئنا الإسلامية وأن في بعض أحكامها تعصبا وتطرفا وقسوة أو تخالف العدل أو غير ذلك ونقول لا يوجد أبدا في شريعة الله سبحانه وتعالى تطرف أو تعصب أو ظلم لأن الله لا يأمر إلا بالعدل والحق والعقول التي ترى غير ذلك هي عقول ضائعة تظن السراب ماء ونحن نتكلم هنا عن الحقائق الإسلامية لا الاجتهادات وحسم الخلاف هنا يكون بأن نناقش الأصول بمعنى إذا أثبتوا لنا أن الله سبحانه وتعالى لم يأمر بكذا أو كذا فسنتخلى عنه فورا أما إذا لم يكن عندهم أدلة إلا الظن واتباع الهوى وعقول الفلاسفة العلمانيين ومفاهيمهم عن العدل والظلم فهي أمور نرفضها لأننا لا نريد أن نكفر بعد أن هدانا الله سبحانه وتعالى للإيمان ولأنها مفاهيم خاطئة بدليل تناقضهم فيما بينهم في مفاهيم الحرية والعدل .(1/91)
5- هل المبادئ الإسلامية خطر على الإنسانية ؟ وهل المبادئ العلمانية هي المنقذ لها من التعصب والحروب والظلم ..... نقول إن العلمانية أنتجت الرأسمالية والشيوعية والاشتراكية والنازية ......الخ، وأنتجت أنظمة متصارعة صنعت الحروب والظلم والاستعمار والكراهية كما شاهدنا في القرن العشرين، والعلمانية الرأسمالية ليست عندها مبادئ محددة، فمبادئها نسبية ومتغيرة، وتحركها المصالح والشهوات والانفعالات، وهذا ما تفعله الولايات المتحدة الأمريكية، وهي تعلن صراحة بأن مصالحها تعطيها الحق في أن تفعل ما تشاء في العالم حتى ولو خالفت بديهيات الحق والعدل ومواثيق الأمم المتحدة، فمن أجل مصالحها تعلن الحروب، وتتآمر على الشعوب، وتقول من ليس معي فهو ضدي ، والعلمانية أنتجت بمبادئها الجاهلية الضياع العقائدي والإلحاد والكفر والتعاسة الشخصية والتفكك الاجتماعي والفساد الأخلاقي وعبادة المال، وهذه الانحرافات غير موجودة في حياة المسلمين الملتزمين، وهذه أمثلة حية نشاهدها بأعيننا، فهل المبادئ الإسلامية هي الخطر على الإنسانية ؟ ولاشك أن الجوانب الإنسانية والأعمال الخيرية لا تقتصر على المسلمين، ولا على الفكر الإسلامي لأننا نجد أجزاء منها عند العلمانيين والمسيحيين وغيرهم، قال تعالى:"ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون (82) سورة المائدة ولا شك أن الرقي الإنساني بمختلف جوانبه العقائدية والاجتماعية والأخلاقية والسياسية يتجسد فقط في المبادئ الإسلامية.(1/92)
6- أخي الليبرالي لا زلت أدعو لحوارات طويلة وعلمية ومنظمة حتى تستطيع أن تحكم العقول حكما صحيحا معتمدا على أدلة عقلية لا الشبهات والظنون، ولا شك أن الموضوع طويل ومتشعب لأنه يتعلق بالأديان السماوية والعقائد العلمانية والشعارات والمبادئ والفلسفة والعلم والتاريخ والدول والأحزاب والجماعات والسياسة والأخلاق والتسامح والتعصب والتطرف والاعتدال والحرية والديمقراطية، ولن نصل إلى الحقائق إذا كان البعض منا واثقا إلى درجة أنه لا يريد أن يستمع، ولا يريد حوارات تفتح للعقل الأبواب ليفكر بعمق وهدوء وأدلة، قال تعالى : " هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور وإن الله بكم لرؤوف رحيم" ( 9) سورة الحديد.
الفتاوى الإسلامية للعلمانيين
جرى بيني وبين أحد المدافعين عن العلمانية حوار دفعني لكتابة هذا المقال لتوضيح جوانب من الفهم الخاطئ للإسلام عندهم :-(1/93)
1- يرى بعض العلمانيين أن العلمانية ليست ضد الدين، وهي تهتم بأمور الدولة والسياسة، ولا تتدخل بالأديان، فالعلمانية تعني أن الدولة بلا دين، وأقول الإسلام دين ودولة، وعقيدة وشريعة، ولا يقبل من المسلم أن يؤمن ويطبق الإسلام في الأمور العقائدية والاجتماعية، ويرفضه ويكفر به في الأمور السياسية والتشريعية، وما أقوله ليس اجتهادا أو رأيا بل هذا من المعلوم من الدين بالضرورة، وتوضحه الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، فلا اجتهاد مع نصوص صريحة، وبناء على ذلك فالمسلم لا يمكن أن يكون علمانيا، ولا شك أن رفض تطبيق الشريعة الإسلامية معناه أن الله سبحانه وتعالى أمرنا بشريعة لا تحقق العدل والرحمة، وأن العلمانيين قادرون على تشريع أفضل وهذا كفر صريح لا خلاف عليه، فهم يجعلون أنفسهم أعدل وأرحم وأعلم من الله سبحانه وتعالى، وواضح جدا أن العلمانيين لا يعرفون معنى كلمة الإسلام، فالإسلام يتعامل مع القوانين والأحداث السياسية والعدل والمناصب والعصبيات العرقية، وأنظمة الحكم والنظم المالية، والعقوبات والتعليم والتربية ......الخ ، فلا يمكن فصله عن الدولة.(1/94)
2- لا يجوز أن يكون للمسلم عقائد واقتناعات تخالف آيات قرآنية وأحاديث نبوية كأن يقول أرى أن العلمانية لا تخالف الإسلام، أو أنا مع روح العقوبات الإسلامية لا حرفيتها ،أو أن الاجتهاد في الإسلام ليس له حدود وشروط، أو ضوابط أو غير ذلك، ومن البديهيات أن لكل علم علماءه والإسلام له علماؤه وهم الذين يفتون، أما أن يفتي من ليس بعالم فهذا من الجهل والعبث، ونذكر هنا أننا لا نخضع خضوعا أعمى لعلماء الإسلام لأن العلماء يستشهدون بآيات وأحاديث في بيان حكم الشرع، ويعترض البعض بأن يقول من هم العلماء المخلصون ؟ ومن يحددهم ؟ وأقول: كبار علمائنا معروفون قديما وحديثا، وهم من شهد لهم العلماء بإخلاصهم وعلمهم، منهم الأئمة الأربعة، وابن القيم، وابن باز وكثير من علماء عصرنا، والبعض يريد أن يلغي الدين بحجة أنه لا يوجد علماء يعترف بهم ،إذن هل سيتكلم القرآن والأحاديث ما دام هؤلاء لا يثقون في العلماء، فالتقليل من مكانة العلماء وعلمهم وإخلاصهم مرفوض، قال تعالى :" إنما يخشى الله من عباده العلماء" (28) سورة فاطر، وكان ولازال علماؤنا يجتهدون في تعلم العلم، وفي التكلم فيه، لأنه أمانة عظيمة، ولنتذكر لو أفتى أحدنا في الطب ناهيك عن مخالفة الأطباء لأتهم سريعا بالجهل، فلماذا يكون الدين هو المجال الذي يتجرأ على الحديث فيه العلمانيون ولا نجد من يردعهم ؟!.(1/95)
3- يظن البعض أن علماء الإسلام يقيدوننا ويمنعون العقل من الاجتهاد والتفكير، وهذا الاتهام ليس بصحيح، فعلماء الإسلام كالخبراء الدستوريين، فهم يحمون الشريعة من العبث والتأويلات الخاطئة، وعلماء الإسلام لا يمنعون العقل من البحث العلمي في مختلف مجالات العلوم والهندسة، ولا يعارضون الدراسات الاقتصادية والإدارية وخطط التنمية، ولا يمنعون القصة الهادفة، ولا يعارضون الشعر الجميل، ولا يرفضون الاجتهادات في الدين، ومن المعروف أن حجم الاجتهاد كبير جدا، فلا يوجد عقل إسلامي مقيد، والعقول المقيدة هي التي تريد الطعن في الذات الإلهية، أو الأنبياء، أو تلك التي تريد أن تستخدم الكلمات البذيئة، والجنسية، وما شابه ذلك، وما أقوله يشهد له واقعنا، وأعطوني أمثلة عن وقوف علماء الإسلام ضد إبداع عقلي سياسي، أو اقتصادي، أو تكنولوجي، أو إداري، أو غير ذلك مما يفيد الناس، ولا نريد اتهامات بدون أدلة كما هي عادة العلمانيين.
4- يتعامل العلمانيون بانتقائية في تعاملهم مع الإسلام، فيأخذون منه ما شاءوا، ويدعون ما شاءوا، فما وافق عقولهم أو مصالحهم أو أهواءهم أخذوه، وما خالفها تركوه، وكذلك يفعلون مع الاجتهادات والآراء الإسلامية، فتجدهم يمدحون الاجتهاد الخاطئ كرأي الشيخ على عبد الرازق قبل قرن، والذي قال بأن الإسلام دين وليس دولة، ويرفضون آيات وأحاديث تثبت خطأ هذا الرأي، ويرفضون اجتهادات مئات من علماء الإسلام، ونقول تتبع الاستثناءات والحالات الشاذة ليس من الموضوعية والحكم على صواب عقائد وأحكام لا يكون بالنظر العقلي المباشر لكل جزئية فكرية لأن الجزئيات كثيرة جدا، بل بالحكم على صواب أو خطأ القواعد " الأصول " الفكرية، ونذكر بأن الانتقائية يستخدمها العلمانيون كثيرا فتراهم يسلطون الأضواء على إيجابيات الغرب لا سلبياته، وعلى سلبيات واقعنا بحكوماته وجماعاته وأحزابه وأفراده، ويتجاهلون إيجابياتنا مع أنها كثيرة.(1/96)
5- أقول وأكرر وبصوت عال هناك اجتهادات خاطئة لعلماء ولجماعات إسلامية وخاصة في الموقف من الديمقراطية، والأحزاب، والعلاقة مع غير المسلمين، والفهم لبعض قضايا الواقع السياسي، وقد شاهدنا مواقف خاطئة أو متخاذلة وضعيفة من قضايا سياسية واجتماعية كالاستبداد والظلم وحرية الرأي والتعصب العرقي، ونحن نطالب الملتزمين بالإسلام بالتطبيق الصحيح للإسلام، وفي المقابل وجدنا مواقف طيبة ومشرفة من العلمانيين والمتأثرين بالعلمانية في بعض القضايا السياسية والاجتماعية، وخاصة حرية الرأي والديمقراطية، والموقف من الأقليات، ومن الخطأ أن يكون موقف العلمانيين والمتأثرين بالعلمانية من الإسلام هو رد فعل لانحرافات لدى بعض الجماعات الإسلامية أو الاجتهادات الخاطئة لعلماء، وأقول الإسلام مع أن تكون الشورى ملزمة، ومع حرية الرأي العاقلة، وحقوق الأقليات ، وتشجيع القطاع الخاص، والانفتاح على الآخرين ....الخ وتمسكنا بالإسلام هو الطريق لتقليل الانحرافات داخل الاتجاه الإسلامي وخارجه، ولا يوجد طريق آخر قال تعالى: "أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نور يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون" (122) سورة الأنعام.(1/97)
6- أقول للعلمانيين من العرب إذا كنتم تريدون حقا الإسلام الصحيح فطريقه معروف، وهو موجود في القرآن والسنة، وهو علم له علماؤه وليس مقبولا لا عقلا ولا شرعا ولا منطقا أن تحددوا أنتم ملامح الإسلام وحدوده وعلاقته بالدولة والحياة، كما أن ليس من الأخلاق العلمية أن يتم التعامل مع علم الإسلام من باب التشويه والكذب والنفاق والخداع بإعلان إيمانكم بالإسلام وأخفاء كفركم به لأن في هذا خداع للناس، ولأن الكذب والنفاق من أسوأ الصفات ولا يقبل في مجال المبادئ والعقائد كذب وابتعدوا عن صناعة إسلام علماني فالإسلام أكبر وأقوى بكثير مما تظنون لأن الله سبحانه وتعالى ناصره قال تعالى " إنا نحن نزلنا الذكر وأنا له لحافظون " (90) سورة الحجر.
مشكلة الشرع والعقل(1/98)
اين ينتهي الشرع؟ وأين يبدأ العقل؟ سؤال خاطئ وإجابته ستكون خاطئة. هذا السؤال فلسفي وبيزنطي وتفلسف لا معنى له. فالشرع هو النور والعقل هو البصر فأين ينتهي النور؟ وأين يبدأ البصر؟ هذا السؤال فلسفي لأن المطلوب أن تبصر وتسير في طريقك لا أن تقف وتفكر بمشكلة غير موجودة. فبالعقل والأدلة العقلية عرفنا أن وجود الله سبحانه وتعالى حق وأن محمداً رسول الله وسنحتاج للعقل حتى نفهم القرآن والسنة وسنحتاجه حتى نفهم الواقع والمخلوقات والكون وحتى نجتهد في أمور ديننا ودنيانا. فلا يوجد مشكلة أو صراع أو تناقض بين الدين والعقل حتى نضع لهما حدوداً دولية لكي لا يعتدي طرف على الآخر ما نقوله هو شيء مطبق عند ملايين المسلمين الملتزمين فلا توجد في حياتهم العقائدية أو السياسية أو الاجتماعية أو الشخصية أو الاقتصادية مشكلة بين الدين والعقل أو الدين والدولة هم يتعلمون ويعملون ويتاجرون ويصنعون ويتزوجون ويضحكون ويعيشون من المهد الى اللحد بدون أن يواجهوا يوماً مشكلة اسمها أين ينتهي الدين؟ وأين يبدأ العقل؟ ولكن العلمانيين أو من تأثر بهم يغرقون في ما لا يغرق فيه ويعيشون في مشاكل وهمية وهذا شيء طبيعي لأنهم أبناء الفلاسفة الذين من طبيعتهم الجدل والكلام الكثير والعمل القليل والظن بأن الإسلام يقدم النقل (القرآن والسنة) على العقل ظن صحيح ولكن ليس معنى ذلك وجود تعارض بينهما فالعقل هو الذي وصلنا به لوجود الله سبحانه وتعالى وصدق النبي صلى الله عليه وسلم وبالتالي فإن كل ما في القرآن والسنة صحيح عقلياً فكيف يأتي بعد ذلك العقل ليقول يوجد تعارض بيني وبين آية قرآنية ولا يمكن أن تأتي حقائق مادية جديدة لتعارض حقيقة قرآنية فالحقائق لا تتناقض فالخلل سيكون في فهمنا للحقيقة القرآنية أو للحقيقة الفكرية أو المادية الجديدة قال الإمام الغزالي "إن أهل السنة قد تحققوا أن لا معاندة بين الشرع المنقول والحق المعقول"(1).(1/99)
(1) ص25 سقوط الغلو العلماني د. محمد عمارة
ونحن نختلف مع بعض المحسوبين على أهل الحديث ممن يتطرفون في بعض اقتناعاتهم فيتمسكون بصورة عمياء بالنصوص دون دور للعقل فهم يقللون من أهمية الاجتهاد والتفكير وقراءة الواقع وفهم المقاصد وقد ذكر بعض الأمثلة الإمام ابن الجوزي في كتابه "تلبيس إبليس" وأصحاب الحديث الحقيقيون هم أهل التفكر والتأمل والاجتهاد وهم الذين قال عنهم الإمام أحمد بن حنبل امام أهل السنة والجماعة عندما سئل عن الفرقة الناجية "إن لم يكونوا أصحاب الحديث فلا أدري من هم" وإذا كان هناك من العلمانيين من يشكك بصحة بعض الأحاديث النبوية. فاقول دور العقل هو التأكد من نسبتها الى الرسول وقد بذل علماء المسلمين أقصى ما يستطيع الجهد البشري للتأكد من صحة الأحاديث ووضعوا الكتب في الأحاديث الصحيحة والضعيفة والموضوعة وهو ما لم يحدث في تاريخ البشر كله وكلما ابتعدنا عن الأحاديث النبوية فرح أصحاب العقائد المنحرفة والأهواء والزنادقة والعلمانيين.. الخ ويكفي أن نتذكر أن أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا خير البشر وأكثرهم التزاماً بالأحاديث قال الإمام أحمد بن حنبل "أهل الحديث أفضل من تكلم في العلم"(1) ويظن العلمانيون أن الالتزام بالنصوص القرآنية والأحاديث النبوية هو نوع من السطحية والبدائية وفيه تعطيل للعقل والفقه وهذا الظن خاطئ جداً لأن أهم العلوم هو معرفة آيات القرآن والأحاديث النبوية فهذا هو العلم الصافي الذي يبنى عليه الاجتهاد والعمل والعدل والحكمة والحرية والقانون والعبادة والحياة الشخصية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية أما ما خالفه من آراء الفلاسفة ومفكرين وسياسيين فهي مبنية على الظن والشك والعادات والتقاليد والأهواء والمصالح والعصبيات أي هي جهل في جهل حتى لو كان بعضها صحيحاً بالصدفة.
(1) ص67 مكانة أهل الحديث للشيخ ربيع هادي المدخلي
الكلمة الإسلامية(1/100)
يتعرض العلم الفكري في عصرنا هذا إلى حرب ثقافية أسلحتها الكتب والمجلات والجرائد والتلفاز والإذاعة والجامعات والمدارس والفلاسفة وكثير من المثقفين والصحفيين والسياسيين... الخ وينشر هؤلاء حجما هائلا من المعلومات وتحاليل فاشلة، وعقائد خاطئة، وأهداف مشوهة، ومواضيع ثانوية وتافهة، ولا أبالغ إذا قلت إن 90% من هذه المعلومات يضر ولا ينفع مع أنها تتحدث عن العدل والحرية وحوار الحضارات والدين والدولة والحقوق والواجبات والأحداث السياسية والإصلاح؛ فهي تبعد الإنسان عن العلم المفيد له في حياته الشخصية والعامة، وعلينا أن نفرق بين الثقافة والعلم. فهناك فرق شاسع بينهما، فالثقافة تزداد بزيادة ما تقرأ أو تسمع وتشاهد في مختلف مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والعقائدية والاجتماعية والإدارية والتاريخية والأدبية... الخ في حين أن العلم الفكري هو معرفتك بالحقائق الفكرية الأساسية التي تحتاجها في حياتك الشخصية والأسرية والسياسية، فإذا لم تكن تعرف الحقائق الفكرية فأنت جاهل حتى ولو كنت أكبر مثقف عرفته البشرية إنك بالتأكيد لست صاحب علم ينير لك طريقك في الحياة ، وعشرة صفحات تزيدك علماً أفضل من آلاف الصفحات تتعب بصرك بلا فائدة حقيقية! وما أكثر الناس الذين تشفق عليهم مما يقرءون من روايات ومجلات وسير ذاتية وكتب فلسفية! فالثقافة كارثة إذا زادت عن حدها وهي كارثة عظمى إذا أخذت وقت العلم أو اعتبرت بديلاً عنه . وحتى نحدث ثورة في الثقافة والعلم الفكري فإنني اقترح ما يلي :-(1/101)
1- الطريق المختصر للحق ولبناء حياة البشر على أسس عقائدية وسياسية واجتماعية وتربوية صحيحة هو قال الله وقال رسوله وليس هو في مئات الصفحات كتبها فيلسوف ضائع، ولا هي في مفاهيم إصلاحية كتبها مفكر أمريكي أو صيني، أو في حلقة تلفزيونية تعتمد على الآراء والظنون والتجارب الشخصية. هذه وغيرها مضيعة للوقت حتى لو أعطتنا بعض الثقافة والمتعة علينا أن نعرف خالقنا وصفاته وكيف نعبده؟ وبماذا أمرنا؟ وعلينا أن نشغل وقتنا بالأعمال الصالحة الدنيوية والأخروية. إن أهم ثروة للبشرية هو وقتها وهي تضيع الجزء الأكبر منه فيما لا يفيد. وما أدعو إليه هو ما فعله الأنبياء والعلماء الواعون فاقرءوا حياتهم وستجدون إن شاء الله هذا واضحاً، وأقول وأكرر: الإسلام دين عملي يبحث عن العلم المفيد ليطبقه قال الإمام أحمد بن حنبل "لا أحب الكلام فيما ليس تحته عمل" والعلمانية منهج فلسفي جدلي يهمه الكلام والنقد فلنفكر كيف نحقق تنمية سياسية واجتماعية معتمدين على مبادئ الإسلام وحقائق الواقع حتى نحول ذلك لخطط وأعمال تفيد مجتمعاتنا.. أنقذوا العلم من كلام الضائعين وجدلهم.(1/102)
2- إن الحوار مع غير المسلمين يجب أن يركز على قضيتين: وجود الله سبحانه وتعالى، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم ،لا على مفاهيم الحرية والعدل والتاريخ وحقوق الإنسان وحوار وصراع الحضارات. وأخطأ كثير من المثقفين المسلمين وأحياناً بعض العلماء في الاهتمام بالثقافة الغربية، وقراءة ما كتب فلاسفتها ومفكروها، وتجهيز الردود عليها ومحاورتهم ، وأفضل نموذج لهؤلاء علماء الكلام في الخلافة العباسية حيث استخدموا الأسلوب الفلسفي والمصطلحات الفلسفية. وعيب علينا كمسلمين بعد أن تعلمنا أن الكلام المفيد في القرآن والسنة أن نتفلسف. إن أي قارئ لكلام الرسول صلى الله عليه وسلم يجد الفائدة والنور والحكمة والاختصار والبلاغة والعقلانية والحق والصواب . وأدعو إلى حوار حضارات مع العالم الغربي، ولكنه حوار له أهداف أهمها هو الوصول إلى العلم الفكري، ومن خلال التركيز على الأدلة التي تثبت صواب مبادئنا أو مبادئهم ومنا قشتها بعمق وعقلانية.(1/103)
3- من الأخطاء التي نجدها هو تركيز بعض المسلمين في العلم الفكري (الإسلام) على بعض المواضيع مثل العبادات والأخلاق مع إهمال قضايا عقائدية وسياسية واقتصادية هامة كالعلمانية وحقوق الإنسان والشورى والإنتاجية في العمل والعمل الجماعي والتعاون الاقتصادي والتعصب العرقي، ومفاهيم الإصلاح والعمل الخيري .. فمن الخطأ أن نجد مئات الكتب تتكلم عن الصلاة ، وأغلبه كلام مكرر، ولا نجد عشرات الكتب تتكلم عن الشورى، أو الإنتاجية في العمل والصدق، فلابد من إيجاد توازن في العلم لدى المسلمين والغريب أن كثيرا من المسلمين اليوم لا يهتم بإتقان عمله الوظيفي كأن هذا ليس من الإسلام، ونجد كثيرا منهم يتعصبون لقبائلهم وشعوبهم بدون أن يسمعوا من يقول لهم إن هذه جاهلية منتنة. وأطالب بالقيام بثورة في الكتب الإسلامية، وخطب الجمعة، والمجلات الإسلامية، تعيد ترتيب أولوياتنا العلمية الإسلامية بطريقة صحيحة خطوطها العريضة تركز على العلم لا التراث، وعلى الواقع لا التاريخ، وعلى العمل لا الكلام ، وعلى بناء النموذج الإسلامي لا رد الفعل على أقوال وأحداث، فليس مقبولاً أن نجد الشورى غائبة في أغلب دولنا في مجالاتها السياسية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية، ولا نجد إلا القليل من الاجتهاد في هذه المواضيع.(1/104)
4- لست ضد الاطلاع على الخطوط العريضة لثقافات الشعوب الغربية والشرقية، ولكن ضد أن نغرق في تفاصيلها وضد أن ننسى أن العلم أهم من الثقافة بآلاف المرات، ولست ضد أن نعرف التاريخ، ولكنني ضد أن يأخذ من وقتنا أكثر من واحد في المائة مما يأخذه الحاضر والمستقبل، ولست بالتأكيد ضد الانفتاح والاستفادة من تجارب العقل البشري الصالحة والفاسدة في مختلف المجالات، ولكنني ضد أن ننسى أن العمود الفقري للعلم الفكري هو القرآن والسنة، وما أريده هو أن نختصر ما يقال ويكتب ويشاهد في العالم بنسبة 90% لأنه أغلبه لا فائدة منه وكثير منه مضر . قال ابن تيميه: " وأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا مع أنهم أكبر الناس علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، أقل الناس تكلفاً يصدر عن أحدهم الكلمة، والكلمتان من الحكمة، أو من المعارف ما يهدي الله به أمة، وهذا من منن الله تعالى على هذه الأمة، وتجد غيرهم يحشون الأوراق من التكلفات والشطحات ما هو من أعظم الفضول المبتدعة، والآراء المخترعة"(1)
(1) ص216 رجال الفكر والدعوة في الإسلام لأبي الحسن الندوى .(1/105)
وأقول لمن ليس مقتنعا بما أقول: أقرا ما كتب في العالم عن "العدل"، وانظر فيما ستصل إليه من مبادئ واقتناعات وستجد أن التعريف العقلي العلمي هو التعريف الإسلامي، وما عداه فهو مجرد آراء فيها صواب وخطأ، فابدأ من حيث ندعوك لا تنتهي من حيث نبدأ نحن فهذه الرحلة لا داعي لها، وكثيرون قبلك جربوها كما قال الرازي "لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً " وقال: ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا وقال الجويني : يا أصحابنا، لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي ما بلغ ما اشتغلت به!!(1) وقال الأمام احمد بن حنبل: "لا تجالسوا أهل الكلام وان ذبوا عن السنة" وقال الإمام الشافعي: "حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال،ويطاف بهم في القبائل والعشائر، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام"(2).
(1) ص 43 العقيدة في الله د. عمر سليمان الأشقر.
(2) ص42 العقيدة في الله د. عمر سليمان الأشقر.
شبهات علمانية ظالمة (1)
ما أكثر الاتهامات التي يوجهها العلمانيون للإسلام، والتي إذا درسناها سنقتنع بأنها خاطئة وظالمة، وليست لها أي أساس من الصحة واليكم بعضها :-(1/106)
1- مبادئ قديمة : هل تريدون أن نعيش بعقائد واقتناعات مضى عليها خمسة عشر قرنا ونحن في عصر الإنترنت والطائرة والعولمة ؟ ونقول من قال إن المسلمين لا يؤيدون استخدام الطائرة والإنترنت والطب الحديث..الخ فكل البلاد الإسلامية تسعى لذلك، وكثير من المسلمين تخصصوا في علوم الهندسة والتكنولوجيا فهذا الاتهام باطل من أساسه، فلا توجد معارضة فكرية إسلامية لهذه العلوم ، فالعلمانيون يفتعلون مشكلة غير موجودة أصلا، أما بالنسبة للمجال الفكري فحقائقه ثابتة حتى ولو كانت قبل خمسة عشر قرنا ، فوجود الله سبحانه وتعالى حقيقة فكرية لا تتغير مع الزمن، وكذلك صفاته، وشريعته، والإنسان هو الإنسان يضحك ، ويبكي ويحب ويكره ، ويؤمن ويكفر، ويصدق ويكذب، ويعدل ويظلم..الخ هكذا كان الإنسان قبل خمسة آلاف سنة، وهو كذلك حاليا، وسيبقى كما هو إلى أن يرث الله سبحانه وتعالى الأرض ومن عليها. والشيوعية عقيدة حديثة كنظام وكدول، ومع هذا فقد ثبت فشلها النظري والعملي، وكل أقوال الفلاسفة الحديثة هي نفسها أقوال الفلاسفة القدماء ، أي كلها أراء موجودة منذ أكثر من ألفين سنة، فالإلحاد قديم، والإيمان قديم ، والاختلاف حول معاني الحرية والعدل قديم، وهكذا فكل المبادئ الصحيحة والخاطئة ( الدينية والعلمانية ) قديمة، وباختصار تحديد الحق من الباطل في المجال الفكري والمادي أيضا ليس قائما على القديم والحديث بل على الأدلة التي تثبت أنه حق أو باطل.(1/107)
2- العقول الجامدة : تمسكنا بالحقائق الفكرية الإسلامية ( القرآن والسنة ) ليس معناه إطلاقا أننا نجمد عقولنا، وأننا لا نفكر ولا نحلل، فالفقه الإسلامي كله اجتهادات عقلية، والاجتهادات تصيب وتخطئ، ومساحتها واسعة جدا، ورفض علماؤنا التعصب لمذاهب أو اجتهادات، وعارضوا الجمود الفكري والتقليد ، وبلغ من تشجيع الاجتهاد أن المجتهد المخطئ له أجر، فهل هناك تشجيع على العلم والتفكير والتأمل أكثر من ذلك ، وبلغ من تشجيع العلم والقراءة أن الله سبحانه وتعالى جعل العلماء هم ورثة الأنبياء، قال تعالى: "يؤتى الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب " (269) سورة البقرة ، وقال تعالى " وقل رب زدني علما "(114) سورة طه. ونحن لا نتكلم عن الجانب النظري فقط بل ندعو للنظر في واقع المسلمين، وتحليله وهناك آيات كثيرة جدا في القرآن تدعو للعلم والتفكير والتأمل في مخلوقات الله والكون وواقع البشر...........الخ والمكتبة الإسلامية بها آلاف كثيرة من الكتب التي تثبت دور العقل والثقافة والعلم في حياة المسلمين، وأقرءوا إن شئتم في كتب ابن القيم أو أبي حامد الغزالى أو ابن الجوزى وغيرهم كثير جدا لتتعجبوا من ذكائهم وثقافتهم وحكمتهم وتنوع علومهم، ولكن مشكلة بعض العلمانيين أنهم لا يعرفون ثقافتنا وبديهيات الاجتهاد، ومع هذا يتهموننا بالجمود العقلي، فهل هم علميون حقا!!(1/108)
3- الاختلاف الفكري : يرفض بعض العلمانيين تطبيق الشريعة الإسلامية لأن هناك فرق كثيرة ، واجتهادات مختلفة، وبالتالي فما الذي سيتم تطبيقه ؟ ونقول: إن المسلمين بشكل عام مع اختلاف فرقهم متفقون على قضايا كثيرة جدا، فطبقوها كما أن الأغلبية الساحقة من العرب هم من أهل السنة والجماعة، ولا توجد وحدة فكرية أكثر من ذلك، ولا توجد بينهم اختلافات أساسية، وأما الاختلافات الاجتهادية فهذا شئ طبيعي، وفى نفس الوقت الاختلاف بين العلمانيين هو في الأسس الفكرية فهناك علمانيون رأسماليون وهناك علمانيون اشتراكيون وهناك شيوعيون وهكذا ...... وإذا قلنا للعلمانيين اجمعوا علماء الإسلام ليقرروا الصواب فيما لديكم فيه غموض ( إذا كان هناك شئ غامض ) قالوا من الذي يحدد علماء المسلمين لأن عندهم أن كل علماء المسلمين لا يصلحون! فهذا متطرف، وهذا رجعي، وهذا من وعاظ السلاطين، وهكذا، ونقول: علماء المسلمين الصادقون الواعون معروفون ويشهد لهم الناس ويثقون فيهم أكثر من ثقتهم بالعلمانيين.(1/109)
4- البيئة الملوّثة: من الشبهات التي يثيرها العلمانيون هو ضرورة توفير البيئة المناسبة لتطبيق الشريعة، وهذه كلمة حق أريد بها باطل، لأنهم لو كانوا صادقين لطالبوا بالإعلام النظيف والمناهج التعليمية الإسلامية ومساعدة الفقراء وغير ذلك، ولكنهم يريدون تأجيل تطبيق الشريعة للأبد بحجة التدرج في تطبيق الشريعة، والغريب أن الاشتراكيين واليساريين لا يطالبون بتطبيق الزكاة مع أنها تفيد الفقراء، وذلك رغبة منهم في مخالفة الإسلام حتى ولو حقق بعض أهدافهم ، فهم يخربون بيوتهم بأيديهم، ومن الشبهات التي يثيرها العلمانيون هي أن الدين شئ سام ونقي ويجب أن نبعده عن الحياة السياسية، ونقاء الدين لا يتعارض مع ما في الحياة السياسية من حق وباطل بمعنى أن النظام الإسلامي السياسي سيقف مع الحق والصواب والمبادئ قدر ما يستطيع، والإسلام لا يمنع السياسي المسلم من الخداع والمناورة إذا تطلب الأمر ذلك، فالحرب خدعة، ونضيف إلى ذلك أن التلوث يصيب الحياة الاجتماعية والاقتصادية فهل نبعد الإسلام عن كل هذه المجالات؟ وماذا يبقى له ؟!! .
5- الأقوال الشاذة : هناك عشرات الآلاف من العلماء والخطباء والكتاب الإسلاميين، وكثيرا ما نجد كاتبا علمانيا يختار بعض الأقوال الشاذة لخطيب أو جماعة أو كاتب أو اجتهاد خاطئ لعالم، ويجعل منها حكايات ودليلا على تطرف المسلمين وتعصبهم وسطحيتهم، ولو فعلنا مثل ما يفعل العلمانيون لوجدنا آلاف الأمثلة على شذوذ أراء العلمانيين، ولو أخذنا الفكر الشيوعي العلماني وحده لو جدنا العجب إلى درجة أن العواطف لا وجود لها، والإنسان أصله صرصور ......!!!.الخ ولو أنصف العلمانيون لوجدوا مئات الكتب الإسلامية التي تنتقد وتفضح التطرف والجهل الذي يحدث باسم الدين ولو أنصفوا لقالوا في كل العقائد والمبادئ متطرفون، ولو أنصفوا لقالوا الغالبية الساحقة والعظمى من الاتجاه الإسلامي والمسلمين معتدلون.(1/110)
6- الأحاديث الموضوعة: حذر الرسول صلى الله عليه وسلم ممن ينسب له أحاديث لم يقلها . وألف علماؤنا كتبا في الأحاديث الصحيحة والضعيفة والموضوعة، وأفنى كثير منهم أعمارهم في هذا المجال كمالك والبخاري ومسلم والترمذي والألباني، ومع هذا نجد من العلمانيين من يستند في نقده واتهاماته للإسلام بأحاديث موضوعة، فهذا يتهم الإسلام بظلم المرأة، والآخر بالاستبداد، والثالث بالإرهاب ........الخ ولا أدري لماذا لا يأخذ هؤلاء ان كانوا صادقين أحاديث موضوعة تمجد المرأة مثل " خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء" ويأخذ هؤلاء كذلك أقوال شاذة لرجال ينسبون زورا للإسلام ويعتبرونها دليلا قاطعا على تخلف المسلمين الفكري ، وقد وضح علماؤنا في كتب كثيرة ضلال الفرق المخالفة والاجتهادات الشاذة والخاطئة سواء كانت عقائدية أو تشريعية أو عبادية . وهذا يثبت أن العلمانيين ليس هدفهم الحقيقة بل التشويه والجدل!!.(1/111)
7- التخلف التكنولوجي : سبب تخلف المسلمين الصناعي والإداري والزراعي والتجاري .....الخ في القرنين التاسع عشر والعشرين يرجع لعوامل كثيرة منها فقر العرب، وتفرقهم السياسي، وتنازعهم كحكومات ومكائد الاستعمار والأعداء، ونشر الفتن بينهم، ومنها غياب الاستقرار في كثير من دولنا، وغياب الشركات الكبيرة والقطاع الخاص القوي والمراكز البحثية الحكومية، فعلى سبيل المثال أغلب دول الجزيرة العربية كانت تشكو وبشدة من نقص الماء، فكيف بالطعام، وكيف ستكون قادرة على بناء المختبرات والمصانع والمدارس ، وبالمقابل توفر لأمريكا الأنهار والأمن لعدة قرون، والوحدة السياسية والشعب الكبير والثروات الهائلة . فمن الطبيعي أن تكون أقوى بكثير من الدول العربية . فتخلف المسلمين لم يكن راجعا لعقائد إسلامية تمنعهم من اعمار الأرض، والاستفادة من التكنولوجيا، وتطويرها ، بل للظروف التي ذكرتها باختصار، وقد رأينا بأعيننا جيل الآباء واجتهادهم في عملهم ، وطموحهم وصبرهم ورغبتهم في التعلم والعلم ، واحترامهم الشديد للمعلمين، ولكن كثيرا منهم لم يستطيعوا الحصول على كثير مما يتمنون لأن إمكانياتهم كشعوب وحكومات محدودة جدا.(1/112)
8- الماضي الأسود : ليس من الإنصاف أن نحسب على الإسلام والمسلمين اقتناعات كانت موجودة قبل قرنين أو ثلاثة كرفض تعليم المرأة، أو التعصب للمذاهب، أو التعامل الخاطئ مع غير المسلمين ......الخ فهذه أمور يرفضها الإسلام ، ومن بديهيات الحياة والتاريخ أن يحدث هناك سوء فهم للمبادئ من أهلها، وأن ينتمي لها من هو غير صادق في الاقتناع كالمنافقين حتى ولو كانت أسماؤهم محمد وعبدالله وعلي وبالتالي فلا يجوز إطلاقا نسبة ما في تاريخنا من ظلم أو جهل أو تعصب للإسلام، أو حتى للمسلمين الحقيقيين. فالواقع ليس دائما ترجمة صحيحة للفكر، وهذا ينطبق حتى على العقائد العلمانية، وتاريخ الشعوب غير الإسلامية. فالنقاش والنقد مقبولان إذا كان حول ما تدعو له المبادئ، ومع من ينتمون حقا لها. والأمثلة التي نشاهدها قديما وحديثا في المسلمين الحقيقيين هي أمثلة رائعة فعلا، فسيماهم في وجوههم، فهم في أسرهم، وحياتهم الوظيفية والسياسية من أفضل البشر، بل أفضلهم على الإطلاق، فهم لا يكذبون، ولا ينافقون، ولا يزنون، ولا يسرقون، وهم أهل عدل ورحمة وصدقات وتواضع واجتهاد وحكمة.(1/113)
9- الاستبداد: يصر بعض العلمانيين على اتهام الإسلام والدولة الإسلامية بتهم كثيرة غير صحيحة تم الرد عليها مرارا وتكرارا في كتب ومقالات وتلفاز وإذاعة وصحافة وأشرطة ، قالوا: الإسلام ضد الديمقراطية، وقلنا الشورى والديمقراطية متشابهتان لدرجة كبيرة جدا، وقالوا الدولة الإسلامية دولة دينية، وقلنا هي دولة مدنية والشعب هو الذي يحكمها وليس علماء الإسلام، ودور علماء الإسلام أشبه ما يكون بدور الخبراء الدستوريين . وقالوا: إن الإسلام يظلم المرأة ، وقلنا أن المرأة المسلمة هي أكثر نساء الأرض حقوقا واحتراما وكرامة ، وقالوا: الإسلام ضد الحرية، وقلنا الإسلام مع الحرية الحكيمة المسؤولة، وضد حرية الشتم والفساد والإلحاد . وقالوا الإسلام مع الأخذ بالأسباب الإيمانية فقط، وقلنا بل بالأخذ بالأسباب الإيمانية والمادية وشعارنا " اعقلها وتوكل على الله " وهذا هو أسلوب الرسول صلى الله عليه وسلم وطبقه في السلم والحرب . وعموما لماذا يصر البعض على تكرار هذه الاتهامات ، المسألة لم تعد جهلا منهم بقدر ما هو عناد وحقد وتشويه !!.(1/114)
10- الفشل الدائم : نجح الإعلام الغربي في إقناع بعض شبابنا بأننا لم نعمل شيئا جيدا لا في حاضرنا ولا تاريخنا وهذا ظلم كبير، ويفتقد الموضوعية وأقول باختصار وبأعلى صوتي إن أعداء أمتنا يريدون منا أن نفقد الثقة في حكوماتنا وشعوبنا حتى نيأس ونستسلم لهم، وأعرف أن عندنا مهازل فكرية وسياسية وإدارية ولكن الصفحات المضيئة كثيرة، والإنجازات الطبية كثيرة ، فالعمل الخيري الإسلامي الكويتي أنشأ آلاف المدارس والمستوصفات والمساجد في العالم ، ونجاح الثورة الجزائرية مفخرة كبيرة، وهناك انتصارات جزئية في حرب أكتوبر، وتم بناء عشرات الآلاف من المدارس خلال الخمسين سنة الماضية وانخفضت نسبة الأمية في السعودية من 95% إلى أقل من 10% خلال أربعين عاما و وراء هذا وغيره كثير من المخلصين والمجتهدين، فلا تيئسوا؛ وأعملوا فالمستقبل أفضل بكثير إذا اجتهدنا إن شاء الله.
11- الإسلام هو الحل : يتهم العلمانيون الإسلاميين بأنهم يعتبرون الرجوع للإسلام حلا لكل مشاكل الأفراد والوطن والأمة، وهذا الاتهام صحيح إذا فهمناه بصورة صحيحة، فالأخذ بالإسلام معناه الأخذ بالعقائد الصحيحة والشورى والأخلاق الفاضلة والأحكام العادلة ونبذ العصبيات والفرقة والطبقية ومحاربة النفاق والكذب والحسد والأنانية والبخل والانتقام ، ومعناه أيضا الأخذ بالعلوم التكنولوجية من صناعة وزراعة وطب .....الخ ومعناه الأخذ بالعقل والاجتهاد في معرفة حقائق الواقع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعقائدية ، والإسلام لا يقتصر على العبادات والأخلاق فقد تعامل المسلمون قديما وحديثا مع الحياة من خلال المبادئ الإسلامية والقوانين والقرارات والصلاحيات الحكومية والسياسية والسيف والتسامح والصبر ...........الخ وما نقوله تاريخ مكتوب ومعروف.
شبهات علمانية ظالمة (2)(1/115)
كل العلمانيين والمتأثرين بالعلمانية يفهمون الإسلام بصورة خاطئة لم نعرفها نحن الذين نقرأ في الفكر الإسلامي منذ ثلاثين عاماً، ولذلك هم يتهمونه باتهامات ليس لها أسس صحيحة، أو حتى منطقية ، وإليكم أمثلة من اتهاماتهم :
1-يقول الأمريكيون "لا تضع الكلمات في فمي" بمعنى لا تنسب لي قولاً لم أقله، ثم تبنى عليه انتقادك ، فهناك من يتهم الاتجاه الإسلامي بأنه يغضب إذا إنتقدت التاريخ" أو "يطالب بالدولة الدينية" أو "يرفض الديمقراطية" .ولو أخذنا تهمة رفض انتقاد التاريخ لوجدنا كتبا إسلامية كثيرة قديمة وحديثة تطرقت بالنقد والتحليل لتاريخ الدول الإسلامية، وما فيها من إيجابيات وسلبيات، ولوجدنا محاضرات في ذلك في كل الدول العربية، فمثل هذه التهمة ليس فيها من الموضوعية، ولا حتى واحد في المائة، ولكن الاتجاه الإسلامي يغضب إذا كانت هناك اتهامات كاذبة توجه لشخصيات إسلامية أثبتت إخلاصها وعلمها، والفرق ولا شك شاسع بين النقد الموضوعي، وبين الكذب والشتم، والتشويه وليس الاتجاه الإسلامي وحده الذي يرفض ذلك ، بل كل أصحاب عقيدة أو مبدأ أو حتى حكومة أو حزب أو فرد يرفضون الاتهامات الباطلة، ومن المعروف أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه ستكون هناك فتن وظلم، ومن ذلك ما قاله لعمار بن ياسر رضي الله عنه "ستقتلك الفئة الباغية" والكتب التي تحدثت عن الفتنة بعد قتل عثمان رضي الله عنه وعن مقتل الحسين بن علي رضي الله عنه وعن الخلافة الأموية والعباسية والعثمانية متوفرة في المكتبات. ومرتبط بهذا الموضوع أن من الظلم أن يستشهد العلماني بأقوال أو مواقف أو اجتهادات قديمة أو حديثة يرفضها الإسلام ويعارضها العلماء، ثم بناء عليها يتهم الإسلام بالتطرف، أو الجمود، أو الجهل ، أو غير ذلك، فمن الطبيعي أن تكون هناك أقوال ومواقف شاذة في أمة فيها مئات الملايين من البشر لا يستطيع أحد أن يمنعهم من الكلام والكتابة، أو القيام بأعمال ومواقف(1/116)
منحرفة، فمن الظلم تحميل الإسلام الصحيح المعتدل الواعي مسئولية ما قاله هذا أو فعله ذاك.
2- صحيح أن الإسلام يرفض الثورة على الحاكم المسلم الظالم خوفاً من الفتنة ولكن هذا الأمر ليس على إطلاقه، وقد جرب بعض المسلمين الثورة على الخلافة الأموية والعباسية فزاد الظلم والانحرافات، وهذا أضعف المسلمين والدولة الإسلامية. وإذا أضفنا إلى ذلك أن الانحرافات موجودة في كل حكومة، وأن المصالح والعصيبات والجهلاء في كل شعب، فإن تشجيع التصادم بين الشعب والحكومة سيؤدي إلى الضعف والفشل والفقر، ولا شك في أن الإسلام دين واقعي ولا يتوقع المثالية من حكومة أو حزب أو جماعة أو فرد، فالواقعية شيء والتخاذل والاستسلام شيء آخر، ولو ثار المسلمون على كل حاكم ظالم لقال العلمانيون : انظروا إلى المسلمين، إنهم إرهابيون يحبون القتل والدماء. ومن المعروف في عالمنا العربي أن العلمانيين والمتأثرين بالعلمانية في العالم العربي لم يقوموا بثورات مسلحة خلال الثلاثين سنة الماضية، فلماذا لا يتهمون أنفسهم بأنهم يرضون بالظلم والاستبداد.
3- يتهم الإسلام بأنه يناقض الديمقراطية، وهذا الاتهام ليس صحيحا، فمن المعروف أن الشورى واجبة، ومن المعروف أن الرسول صلى الله عليه وسلم، وكل حاكم مسلم عادل يشاور المسلمين، واختلف فقهاؤنا هل الشورى ملزمة للحاكم أم لا؟ ومن قال بأنها ملزمة للحاكم اقترب كثيراً من الديمقراطية الغربية، وعموماً واقع كثير من الدول الإسلامية الملتزمة بالإسلام ليس سيئاً في جانب الشورى حتى ولو حدث استبداد في فترات من تاريخنا. وإذا أضفنا إلى ذلك أن الديمقراطية الغربية ليست الصورة الأفضل للشورى لما فيها من سلبيات جعلت" تشرشل " يصفها بأنها أحسن الأنظمة السيئة. فإن محاكمة الإسلام بناء على المقاييس الغربية للديمقراطية خطأ، كما أن محاكمته بناء على ضعف المسلمين وعدم التزامهم بالشورى خطأ.(1/117)
4- يظن بعض العلمانيين أن الفكر الإسلامي يواجه عجزا في بناء الدولة الإسلامية الحديثة، وأن من الصعب تقديم نظرية إسلامية سياسية واقعية، وأن المسلمين بحاجة لمن يشرح لهم أساسيات السياسة والعدل والحكمة......الخ وقد يكون هذا صحيحاً لو لم يبن المسلمون عدة دول عظمى على مدى تاريخنا، وقد يكون صحيحاً لو لم توجد دول إسلامية كالسعودية وإيران وماليزيا والسودان وغيرهم ليس لديها أزمة فكرية، لا في داخلها ولا في تعاملها مع العالم. أما من الناحية النظرية فالفكر الإسلامي السياسي ليس بحاجة إلى تقديم نظرية سياسية جديدة لأن مبادئه لم يثبت فشلها حتى يغيرها، أما إذا كان المقصود اجتهادات جديدة تناسب تعقد الحياة في عصرنا هذا، وتغير بعض الظروف والأحوال فهذا شيء مطلوب، وهذا هو ما يحصل في أغلب دولنا الإسلامية، وهو يحدث في اجتهادات العلماء والجماعات الإسلامية.
5- عجزت العقول العلمانية العربية والأجنبية عن إيجاد تفسير لعودة الناس للتمسك بالإسلام، وبالتالي تفسير قوة الاتجاه الإسلامي من إندونيسيا حتى المغرب، في حين أن العلمانية كانت وستبقى ضعيفة مع دعمها من أمريكا وأوربا، قالوا: الإسلام ينتشر في بيئات الفقر والجهل، ونقول أن انتشاره واضح في الدول الخليجية وماليزيا وحتى أوروبا وأمريكا وغير ذلك من الدول. فالشعب الكويتي هو أكثر الشعوب الإسلامية غنى وترفا، ومع هذا فاتحاد الطلبة يسيطر عليه الاتجاه الإسلامي منذ أكثر من عشرين عاماً بانتخابات حرة ونزيهة. وسيطر الإسلاميون على نقابات المحامين والأطباء وغيرهم في مصر وغيرها. ولن يستطيع العلمانيون قراءة الواقع بصورة صحيحة، وذلك لأن الله سبحانه وتعالى أعمى بصائرهم قال تعالى: (فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور).(46) سورة الحج(1/118)
6- يظن العلمانيون إنك إن لم تقتنع بالعلمانية فأنت ضد الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والتفكير الإبداعي والحوار والسلام .وهذا من أغرب وأجهل التهم فإذا لم نعتبر الشذوذ الجنسي من الحرية، فإن هذا لا يعني أننا ضد الحرية بل مع الحرية النظيفة. ونحن إذا عارضنا بعض ما يسمى حقوق الإنسان بالمفاهيم العلمانية، فلسنا ضد حقوق الإنسان ولو نظرنا للأمر من زاوية أخرى لوجدنا العلمانية الرأسمالية تحتكر معاني الحرية والمساواة وحقوق الإنسان،......الخ وتريد أن تجبر كل أصحاب العقائد الدينية والعلمانية الأخرى على تطبيقها بالصورة العلمانية، وهذا في حد ذاته ضد حرية الإنسان والدول. هذا ما تفعله أمريكا وأوربا لأنها دول غنية ،وقوية، فلا صوت يعلو فوق صوتها حتى ولو كان صوت الأنبياء والعقل والحرية الحقيقية.
7- لا نستغرب أن يتهم الإسلام بتهم كثيرة كاذبة فأحياناً هو مثالي لا يصلح للتطبيق (مع أنه مطبق في حياة كل مسلم ملتزم وكل دولة ملتزمة) وأحياناً توجد به اختلافات (والاختلافات الاجتهادية دليل مرونة وتنوع وحرية رأي)...الخ وإذا فخر المسلمون بإنجازات عظيمة بتاريخهم اتهموا بأنهم يريدون أن يعيشوا في الماضي، ويتركوا الحاضر والمستقبل مع أن هذا أمر تفعله كل شعوب الأرض، ولو سكت المسلمون، ولم يتكلموا عن تاريخهم لأتهمهم العلمانيون بأنهم ليست لهم إنجازات طيبة... المهم أن اتهامات العلمانيين لم ولن تنتهي وهي نابعة من الجهل أو الحقد أو الغباء!!
الأقتناعات العلمانية السرية والتاريخ(1/119)
هناك فكر علماني سري يتشكل في الظلام من خلال تداول معلومات وشبهات واتهامات خاطئة، فهذا يزعم أن هناك تعارض بين آيات القرآن الكريم، والثاني يشكك بالأحاديث الصحيحة، أو طرق جمعها، والثالث يعتبر تاريخنا كتبه مرتزقة وجهلاء، والرابع يعتقد أن المسلمين لا يفكرون بعقولهم، والخامس يظن أن المسلمين مخدوعون ولا يعرفون دينهم، والسادس يقول عن الجماعات الإسلامية أشد مما قاله مالك في الخمر، والسابع يعتقد أننا كشعوب وأمة لم نحقق أي إنجازات طيبة، وإذا سلطنا الأضواء على فهم العلمانيين لتاريخنا لوجدنا الجهل مجسداُ في فهمهم لحقائق الحياة والتاريخ وإليكم الأدلة :
1- "المراجع الانتقائية" يختار العلمانيون مراجع وكتب وأقوال انتقائية مما كتب عن تاريخنا بالحق وبالباطل، ويرفضون ما خالفها من مراجع وكتب وأقوال، وهذا ليس من الأنصاف، والعلمية، فلماذا يصدقون السلبيات، ويرفضون تصديق الإيجابيات، فكل ما ذكر من سلبيات سواء صحيحة أو خاطئة يعتبرونها حقا وصوابا وما ذكر من إيجابيات حتى ولو كانت واضحة جداً فهي باطل وخطأ أو مبالغ فيها، ولو أخذنا تاريخ الاتحاد السوفيتي وهو تاريخ حديث من مصادر شيوعية لوجدناه كله إيجابيات، ولو أخذناه من مصادر غربية لوجدنا أغلبه سلبيات وقد شاهدنا في القرن العشرين وحتى يومنا هذا اختلافات كبيرة في تقييم إيجابيات وسلبيات ثورة 23 يوليو المصرية، فمن أحبوا عبد الناصر اعتبروه بطلاً قومياً ، ومن كرهوه اعتبروه مجرماً كبيراً ، والغريب أننا نادراً ما نجد من يكتب بموضوعية، ليس في التاريخ وحده بل في أمور كثيرة في حياتنا. والموضوعية تتطلب أن نعتمد على مصادر صحيحة حتى نعرف الحقائق.(1/120)
2- " التخصص بالتاريخ " ليس من المعروف عن العلمانيين أنهم متخصصون في التاريخ حتى يكونوا واثقين جداً من أن تاريخنا الإسلامي أسود، ومع هذا عندهم ثقة كبيرة في " علمهم " الذي لم يدرسوه فالعلمانيون أهل جدل ونقاشات فلسفية وبيزنطية، وأغلبهم أهل سياسة واقتصاد، وبالتالي فمن باب احترام العلم عليهم أن يتركوا العلم لأهله، ولا يندفعوا في توجيه اتهامات تاريخية، لأن دافعهم الوحيد سيكون هو تحقيق "انتصارات" بأي وسيلة، وليس خدمة العلم والحقائق، ونحن قوم نريد الوصول للحقائق، ولا وقت عندنا لمناقشة من يريد أن يجادل بغير علم، وكثيراً ما يناقش العلمانيين مسلمين ممن ليس لديهم علم بالتاريخ فالمسلم قد يكون طبيباً أو مهندساً، وبالتالي فثقافته التاريخية محدودة، ويظن العلماني أنه "انتصر" في نقاشه والمفروض أن يناقش المتخصصين في التاريخ من المسلمين وغيرهم.
3- "العلمانية والمصارحة": لا يوجد ما يمنع الحوار العلني وتوجيه الأسئلة الصريحة لأهل الاختصاص في وجود الفضائيات والإذاعات والجامعات والكتب والتلفونات والرسائل، وبالإمكان عقد ندوات ومحاضرات ليس فقط لمناقشة تاريخنا بل لكثير من الاتهامات والشبهات التي ذكرتها أعلاه، فما الذي يمنع أن تتصل بالهاتف بعشر علماء مسلمين أو متخصصين بالتاريخ، أو غيرهم وتسألهم، ومن يريد أن يعرف الحقائق فعليه أن يتعب ويسأل ويقرأ ويفكر. ولكن العلمانيين لا يفعلون ذلك، بل يتبادلون اعتقاداتهم الخاطئة فيما بينهم في سرية مما يجعلهم يبقون على جهلهم ولا يدخل الهواء النظيف لحجراتهم.(1/121)
4- "اتهام النوايا": يظن بعض العلمانيين أو المتأثرين بالعلمانية أن تاريخنا الإسلامي كتبه رجال موالون للدولة العباسية أو الأموية، ونقول هذا ليس صحيحا فأين بقية الأمة وما فيها من علماء ورجال؟ وأين من يخالفون هذه الحكومات وهم كثيرون، وهذا وجدناه في أشعار وقصص كثيرة، فكيف وصلت إلينا لو كان هناك كتب محددة للتاريخ تعكس وجهة النظر الحكومية، بل لقد وصلنا الشعر الجاهلي وهو أقدم ، ووصلنا تاريخ اليونانيين، وهو قديم فكيف يضيع تاريخنا بعد أن أصبحنا أمة تقرأ وتكتب وتقود العالم ؟ وهناك كثير من العلماء المخلصين كتبوا التاريخ بأمانة. ومن الظلم اتهامهم بدون أدلة بأنهم كتبوا التاريخ بصورة كاذبة حتى يرضوا حاكماً أو مسئولاً، ونحن نتكلم عن علماء كبار مثل الطبري وابن كثير وغيرهم. وكانت الدولة العباسية على سبيل المثال دولة ثقافة وحوار يتناقش ويختلف فيها المسلمون وغيرهم في عقائدهم وانتمائاتهم ويناقشوا أيضاً الفكر الفلسفي اليوناني فكيف بالتاريخ.
5- "أولويات العلم": اهتم المسلمين كثيراً جداً بالتدقيق والبحث في ما يتعلق بالإسلام من أحاديث وسيرة ورجال وأحداث في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وبذلوا جهوداً عظيمة جداً في جمع الأحاديث، وبيان الصحيح والضعيف والموضوع، ولكن لم يهتموا كثيراً بالتاريخ القديم والحديث للدول الإسلامية، وهذا شيء طبيعي لأن هناك أولويات، وهذا لا يعني أنهم يجهلون أساسيات تاريخهم، ولا يعني أن التاريخ ليس مهما وهم فعلوا ذلك لأن المهم معرفة الإسلام عقائد وشريعة وأخلاقاً، فهذا هو المنهج الذي نحتاجه في حياتنا ، أما تاريخ هذه الدولة أو تلك أو تاريخ هذا الفرد أو ذاك فهو ليس مهما لدرجة كبيرة قال تعالى : (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون) (134) سورة البقرة.(1/122)
6-"النظرية والتطبيق": اتهام الدولة العباسية أو العثمانية أو غيرهما أنها فعلت كذا وكذا من السلبيات قد يكون بعضها صحيحا ولا ننكره. وهذا لا يصلح لاتهام الإسلام بأنه دين خاطئ، وليس دليلا أبداً على أن الإسلام لا يصلح لأن يكون ديناً ودولة، فالانحرافات موجودة في كل الدول الإسلامية والعلمانية قديماً وحديثاً، ولم يقل أحد أن الدول الإسلامية دول مثالية، فكلما زاد الإيمان زاد العدل والشعوب الإسلامية حالياً تتفاوت في إسلامها، بل إن هناك بعض المسلمين ليسوا مسلمين! فهم رأسماليين أو شيوعيين مع أن أسماءهم احمد ومحمد وعمر وعلي، وعلينا أن نفهم العلاقة بين المبادئ وبين الدول والأفراد بصورة صحيحة، فالالتزام بالعقيدة الصحيحة يعطي تطبيقاً صحيحاً، أما عدم الالتزام فلا يحسب عليها.
7- "الواقعية": من أهم الأمور التي يجب أن نعرفها أن القراءة الموضوعية لتاريخ الشعوب والدول الغير إسلامية سيبين بوضوح أن تاريخ المسلمين أفضل كثيراً من تاريخ أوروبا وروسيا والصين، فلديهم كثير من الانحرافات والخرافات والجهل والظلم والسخافات في العقائد والأحكام والشخصيات والأحداث والأهداف والأخلاق، فإيجابيات الدولة العثمانية مثلاً كثيرة جداً مع ما فيها من انحرافات قال د. فؤاد زكريا : "أما التجارب التاريخية، فلم تكن إلا سلسلة طويلة من الفشل. إذ كان الاستبداد هو القاعدة، والظلم هو أساس العلاقة بين الحاكم والمحكوم، والعدل والإحسان والشورى وغيرها من مبادئ الشريعة لا تعدو أن تكون كلاماً يقال لتبرير أفعال حاكم يتجاهل كل ما له صلة بهذه المبادئ السامية"(1)(1/123)
وقال د. محمد عمارة : "أنا أقول ليس هذا تاريخنا، وأنا أزعم أن د. فرج فودة وأشباهه يستمدون التاريخ من ألف ليلة وليلة" وقال: "ليس هذا تاريخنا، صحيح أنه منذ الدولة الأموية حدث تراجع واختراق في علاقة الحاكم بالمحكوم ، وفي العدالة الاجتماعية، لكن تأملوا معي كل العلوم الإسلامية شرعية ومدنية بنيت بعد الخلافة الراشدة، كل تيارات الفكر الإسلامي لم تنشأ إلا بعد الخلافة الراشدة... كل ما تتلمذت عليه أوروبا في الغرب واستخدمته في النهضة لم ينشأ إلا بعد الخلافة الراشدة ، من الذي يقول أن تاريخ هذه الأمة كان ظلاماً؟ العلماء ، المفكرون ، الفتوحات ، نشر الإسلام ، نشر العربية ، كل هذا الفخر الذي نتيه به نشأ بعد الخلافة الراشدة"(2)
8- "نفق الزمن": يتعامل البعض من العلمانيين وغيرهم كأن كل أحداث وأسرار التاريخ والأفراد واضحة إلى درجة معرفة ماذا قال الحاكم للوزير أو غير ذلك كأنهم جالسون معهم، ومن له معرفة أولية بالتاريخ وبالاتصالات وبالحياة يعلم أن هذا الفهم خاطئ جداً، وفي المقابل نجد البعض يشكك حتى في الخطوط العريضة للتاريخ والأحداث. فالفريق الأول يجعل كل شيء معروف ومفصل وموثق وخاصة الأخبار السيئة والسلبيات، والفريق الثاني يشكك في إيجابيات كبيرة ومشهورة في تاريخنا، وهذا التناقض يثبت أن المسألة في حقيقتها هي صراع سياسي وفكري وليس نقاشا علميا وموضوعيا.
(1) ص 169 الإسلام والعلمانية وجهاً لوجه د.يوسف القرضاوي.
(2) ص 192 المواجهة بين الإسلام والعلمانية د.محمد صلاح الصاوي.
ما هي الحرية الحقيقية؟(1/124)
ما من شك أن الحرية والعدل والمساواة كلمات جذابة ، وأهداف نبيلة يجب أن نسعى لتحقيقها، والمشكلة التي واجهت البشر قديما وحديثا هو تحديد المعنى الصحيح لهذه الكلمات! فهناك حرية رأسمالية، وحرية شيوعية، وحرية اشتراكية، وحرية نازية، وحرية مسيحية، وحرية إسلامية ......الخ فأيها هي الحرية الصحيحة؟ ولنعمل مقارنة بين الحرية الإسلامية والحرية الرأسمالية سنجد أن الغرب يعتبر أن الزنا والقمار جزء من الحرية الشخصية للفرد، ويعتبر من الحرية أن يتصرف الإنسان في ماله كما يشاء حتى لو صرفه على شرب الخمر، أو شراء السيارات الغالية الثمن، أو غير ذلك في حين أن الإسلام لا يعتبر هذه الأمور جزءا من الحرية، ويعاقب عليها قانونيا، أو فكريا فكل إنسان عاقل مقتنع بأن الخمر والزنا والقمار لها أثار سيئة كثيرة ومعروفة، فكيف تكون جزءا من الحرية، وهل تأتي الحرية بالشر والمآسي؟ وبدليل أن العقل الأمريكي حرم الخمر في بداية القرن العشرين، ثم تراجع بعد ذلك، وألغى تحريمه، وبالتأكيد أن الغرب لم يتبع العقل الواعي بل اتبع الشهوات والأهواء. ومحاولة تحديد ماهي الحرية الصحيحة بدون تحديد، أو لا، ما هي العقائد والمبادئ الصحيحة خطأ ارتكبه كثير من العلمانيين وممن تأثروا بالعلمانية ، لأن الصحيح هو تحديد ماهي العقائد والمبادئ الصحيحة بصورة شاملة تبدأ من العقائد الكبرى المتعلقة بوجود الله سبحانه وتعالى، وصدق الأنبياء، والمبادئ الأساسية السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وسيكون العدل هو الالتزام بهذه العقائد والمبادئ، وهو في نفس الوقت الحق والصواب، وما ينحرف عن هذه المبادئ هو الظلم والباطل والخطأ، وكذلك الأمر بالنسبة للحرية فما يتعارض مع المبادئ الصحيحة ليس حرية، فإذا كان الزنا يتعارض مع هذه المبادئ فهو ليس حرية، بل انحراف وفساد وما نقوله لا يتعارض مع وجود تشابه في جوانب كثيرة بين الحرية الإسلامية، والحرية الرأسمالية، لعل من أهمها أن(1/125)
للشعوب الحق في اختيار الحكام والحكومات والإنسان له الحرية في التملك والتجارة والكتابة .............الخ كما أن الحرية العقائدية في الإسلام كبيرة، فبإمكان الإنسان أن يبقى على عقيدته المخالفة للإسلام، ولكن لا يحق للمسلم أن يغير عقيدته. ودول العالم في أغلبها تعتبر صفة الخيانة للوطن جريمة عقوبتها القتل لأنه خرج من انتمائه لمصالح الوطن لانتماء أعدائه، فإذا كان الانتقال من مبدأ إلى آخر أو من موقف إلى آخر يعتبر خيانة أو جريمة يجب أن يعاقب فاعلها، ألا يحق أن نعتبر من ينتقل من معسكر الإيمان إلى معسكر الكفر خيانة عظمى لأن هذا انتقال من عبادة الله الواحد القهار إلى معسكر الشيطان والأهواء والشهوات، وحق الله سبحانه وتعالى أهم وأعظم من حق الوطن والشعب والقبيلة والعائلة والأسرة.
وإذا كنا نستطيع أن نحدد بصورة دقيقة مساحة وحجم ونوع الحرية في الإسلام من خلال ما فيه من عقائد وأحكام وأخلاق فإن معاني الحرية في الفكر العلماني بمدارسه الرأسمالية والاشتراكية والشيوعية وغيرها هي معاني متناقضة، ومختلفة في أنواعها ومساحتها ، قال الأستاذ أديب صعب : " وقد استفاض فلاسفة الأخلاق في معالجة مسالة الحرية التي تشكل أحد موضوعاتهم الرئيسة ، وملأوا الصفحات والكتب الكثيرة في هذا المجال ، وتوزعوا مدارس حيال هذه المسالة فمنهم من سلم بحرية الإنسان التامة لكي يؤدي ما هو واجبه، أو لا يؤديه مما يستتبع مسئوليته ومنهم من حد الحرية والمسئولية ببعض الشروط، ومنهم من نفى الحرية والمسئولية نفيا تاما ........"(1).
(1) ص 269 المقدمة في فلسفة الدين الأستاذ أديب صعب .(1/126)
وعجزت العقول العلمانية عن إثبات الشرعية العقلية لهذا المعنى أو ذاك، واختلفوا حول حجم حرية الصحافة، وحرية وجود الأحزاب السياسية، واختلفوا حول حدود حرية الشباب، والوالدين، والأطفال، فبعضهم يعتبر ضرب الأب أو الأم للطفل اعتداء على حرية الطفل وحتى لو اجتمع العلمانيون وحاولوا أن يتفقوا عقليا على تعاريف واضحة وشاملة للحرية فلن ينجحوا أبدا، وإذا حاولوا أن يصلوا لها من خلال التصويت على مستوى الشعب فهذا ليس حلا علميا وعقليا، بل هو حل سياسيي، لأن كل شعب سيختار المعاني التي يقتنع فيها، وهذا يعني أن الحرية ستختلف معانيها من شعب لآخر. وستبقى المعاني الصحيحة للحرية مجهولة ويعني ذلك أننا سنسعى وراء شئ غامض، وسراب لا نعرفه إلا اسمه حتى ولو عرفنا بعض ملامحه مما لا تختلف عليها العقول العاقلة، ونقول لكل المفكرين والمنادين بالإصلاح والرقي البشري لا تتعاملوا مع الواقع قبل أن تعرفوا ما هي الحرية الصحيحة؟ وما هو العدل؟ فالنوايا الصادقة لا تكفي للإصلاح، وقد يكون من الغريب أن التعمق في قضية الحرية سيجعلنا نقتنع أن الإنسان مقيد بقيود متنوعة و واجبات كثيرة، فحرية القول ليست على إطلاقها، فممنوع اتهام الناس، أو السخرية منهم، أو غيبتهم، أو شتمهم ،أو استخدام ألفاظ بذيئة، وأنت لست حرا في وقتك، فهناك واجبات كثيرة نحو والديك وأهلك وأبنائك و وطنك وأقاربك ............الخ وهناك وقت للعبادة والعمل ........الخ وننبه هنا إلى قضية هامة جدا وهي أن البعض يفهم الحرية بأن معناها التحرر من المبادئ والأخلاق، ونقول التحرر الحقيقي هو التحرر من الشهوات، وحب المناصب، وعشق المال، والحسد، والحقد .....الخ . ويقصد أغلب العلمانيين بالحرية حرية الفساد الأخلاقي، وحرية التهجم على الدين وحرية الزندقة والكفر، وحرية إثارة الغرائز الجنسية بالروايات والأفلام : قال لي أحد المتأثرين بالعلمانية : من حق الإنسان أن يمارس الجنس إذا كان عمره(1/127)
يزيد عن واحد وعشرين عاما. فقلت له : هل تقبل هذا من ابنتك ؟ قال : لا سأقاطعها. والتناقض هنا مادمت تؤمن أن هذا حرية فلماذا تغضب من ابنتك إذا كانت ما تفعله حرية ؟ إنه هنا يناقض مبادئه ويرفضها ...ويريد أن تكون ابنته عفيفة وزوجة محترمة .........وهذا ما يريده كل أب وأخ، وما نحبه لأنفسنا يجب أن نحبه للآخرين والمبادئ الصحيحة "الإسلامية" هي التي تحقق ذلك والحرية الصحيحة (الإسلامية) لا نخجل منها ، ولا نكيل فيها بمكيالين، وبعض العلمانيين يقبلون العلاقات الجنسية قبل الزواج، ويرفضونها بعد الزواج ، فإذا كان الجنس خارج الزواج فساد فليرفضوه سواء كانوا عزابا أو متزوجين، وإذا كان جزء من الحرية فليقبلوه قبل الزواج وبعده، وهناك من يقول أن من حرية، الإنسان أن يشاهد الأفلام الجنسية ما دام في بيته، أما إذا جعل هذا العمل تجارة أو قضية عامة فهو مرفوض وضد الحرية وأقول إذا كانت المشاهدة جزء من حرية الإنسان فلتكن حق يمارسه من يريد داخل المنزل أو خارجه، وإذا كانت باطلا فلنرفضها في كلا الحالتين. وهناك من قال : أعطوا الإنسان حريته ودعه يختار ؟ وأفتح الأبواب للناس ودعهم يختارون، ولا تتحكموا في حياتهم وأمورهم؟ ومثل هذه الأقوال يرد عليها بان الله سبحانه وتعالى أعطى للإنسان كامل الحرية حتى في الأمور العقائدية، فبإمكان الإنسان أن يكفر بالله سبحانه وتعالى ويكون زنديقا وملحدا وبإمكانه أن يكون مسلما وصالحا قال تعالى : " وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر " (29) سورة الكهف ، فلا أحد يستطيع أن يفرض على الإنسان أن يؤمن بالله، أو أن يصلي، أو أن يكون صادقا في كلامه .ولكن إذا كنا نريد أن نكون مسلمين فحدود الحرية معروفة، وليس منها فتح أبواب الفساد الأخلاقي والزندقة والأدب الرخيص والأفلام الهابطة، أما إذا كنا كشعب نريد أن نكفر ونتبع غير الإسلام فافتحوا الأبواب لما شئتم ، وافعلوا ما تشاءون، فليس بعد الكفر(1/128)
ذنب ولا يوجد " حل وسط " كأن نكون مسلمين كأفراد وكفار كمجتمع أي نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض ولا يوجد حل وسط في الإيمان، ولا يجوز أن يعتقد أو يظن المسلم أنه أرحم أو أعدل أو أعلم من الله سبحانه وتعالى، ولهذا سيضع قوانين للحرية أكثر تطورا !!. ومن الأمور الهامة في هذا الموضوع أن موضوع فرض عقائد وقوانين هو شئ موجود في كل الدول، فالولايات المتحدة قد تمنعك من الدخول لها، وهذا ضد حريتك في التنقل في أرض الله، وهي تفرض عليك أن تعيش قوانينها في التجارة والعقوبات والسياسة والضرائب وأعلامها . ولم نغلق كمسلمين الأبواب على حريات الناس، وما يفيدهم، ولكن أغلقنا أبواب الفساد والشر، فكل أب عاقل وليس بالضرورة أن يكون مسلما يمنع أبناءه من الخمر والزنا والأفلام الجنسية ....الخ ويجبرهم على الدراسة ولا نعتبر ذلك تحطيما لحريتهم أو من الاستبداد والظلم.
أوهام التسامح العلماني
من طبيعة الفكر العلماني النقد وتوجيه الاتهامات للخصوم بالتعصب والرجعية والتخلف ......الخ بل إن من أساسياته انتقاد وتسفيه المناهج الفكرية العلمانية نفسها لأنه فكر قائم على آراء الفلاسفة وجدلهم، وسنأخذ تهمة واحدة يتهم فيها العلمانيون المسلمين بأنهم ضد التسامح، وأن العلمانيين هم أهل التسامح ونقول هذا ليس بصحيح وإليكم الأدلة :-(1/129)
1- انقسم العلمانيون إلى رأسماليين واشتراكيين وشيوعيين ونازيين وغيرهم، وهذه كلها أفكار صنعتها عقول الفلاسفة، وأنتجت المعسكر الغربي، والمعسكر الشرقي، والمعسكر النازي وغيرهم، وهؤلاء تعصبوا لمبادئهم، وأنتجوا في القرن العشرين وحده عشرات الحروب من بينها حربين عالميتين قتل فيهما أكثر من أربعين مليون من البشر، وهذا الرقم أضعاف ما قتلته الحروب باسم الأديان السماوية بالحق وبالباطل، فأين التسامح العلماني ؟ وما ذكرته حقائق واقعية وليس أراء شخصية، ولنتذكر أن أغلب من قتلوا في الحروب العلمانية هم المدنيون من أطفال ونساء ورجال، فحروبهم ليست بلا تسامح فقط بل بلا أخلاق والحروب الرأسمالية الاستعمارية حدثت بين الدول الأوربية العلمانية من القرن السادس عشر وحتى التاسع عشر، وحدثت بين المدارس الشيوعية العلمانية، واتهاماتهم كانت الخيانة للثورة، والتآمر على النظام، والعمالة للإمبريالية ..........الخ . ونذكر بأن أهداف الحروب الدينية الصادقة نشر الرسالة السماوية، وتطبيق شريعة الله، أما أهداف الحروب العلمانية فهو تحقيق المصالح المادية، وإشباع التعصب العرقي.(1/130)
2- الفكر العلماني ليس فكرا محدد المعالم يحدد ماهي الحرية والعدل والمساواة والتسامح، بل هو فكر قائم على الاختلاف حول معاني هذه الأمور فما يراه هذا العلماني عدلا يراه الآخر ظلما وما يراه الثالث حرية يراه الرابع عبودية، والخامس فوضى، وما يراه السادس تسامحا يراه السابع سذاجة ............الخ والاختلاف يؤدى إلى الصراعات والكراهية وعدم التسامح بين العلمانيين، فما بالك فيما بينهم وبين غيرهم من أهل الأديان السماوية خاصة وأن العلمانية قائمة على تسفيه الدين، واتهامه بأنه سبب التخلف والتعصب، وسيكون بالتالي المتمسكون بالأديان السماوية متهمين بأنهم متعصبون ومتخلفون ومتطرفون، وهذا الاقتناع نراه ينعكس في التعامل معهم على المستوى السياسي والشخصي، فهي سجنت الدين في المساجد والكنائس وهي حاربت الأحزاب الإسلامية، ولم تعطها حتى حق الاحتكام إلى الانتخابات والتصويت الشعبي، فهي مرفوضة حتى ولو حصلت الأغلبية الشعبية الساحقة، ومع هذا يقولون الحكم للشعب، ووصل عدم التسامح في فرنسا إلى منع طالبة مسلمة من التعليم لأنها ترتدي الحجاب، أما تركيا العلمانية فحدث ولا حرج، ووصل التدخل حتى إلى جعل الآذان بالتركية، والى طرد نائبة لأنها متحجبة، والى منع المدارس الإسلامية، والى التحالف مع إسرائيل اليهودية مع أن الشعب التركي شعب مسلم ، ولكنه يحكم بالقوة العسكرية، وكل هذا ينشئ بيئة بعيدة عن التسامح وقد وضعت العلمانية تصنيفات جديدة للبشر كما وجدنا في المعسكر الغربي الرأسمالي والمعسكر الشرقي الاشتراكي، و وجدنا عالم "حر" وعالم "غير حر، ووجدنا تقدمي وثوري ومحافظ ويمين ويسار ورجعي وإمبريالي وكلها تقسيمات علمانية، فهي هربت من التعصب الديني المرفوض دينيا لتقع في حفر الجهل والتعصب العلماني!!!.(1/131)
3- أمريكا العلمانية لم تكن يوما نموذجا صالحا للتسامح مع الهنود الحمر، ولا مع الزنوج، بل قتلت واستعبدت واضطهدت! وأين التسامح في تعامل الأمريكيين مع قادة الأمريكيين الأفارقة مثل مارتن لوثر كينج والزعيم المسلم مالكوم اكس، لقد تم السماح باغتيالهم، وما أخذه الأفارقة من حقوق انتزعوه انتزاعا، وليس نتيجة التسامح العلماني الأمريكي، وأين التسامح الأمريكي في إلقاء قنبلتين نوويتين على عشرات الآلاف من المدنيين اليابانيين في الحرب العالمية الثانية ليقتلوا الأطفال والنساء مع أن أمريكا لم تكن مهددة في عقر دارها، وكانت معركة عادلة لحرب بأسلحة تقليدية، وأين التسامح في الذهاب إلى فيتنام ومحاربة الشعب الفيتنامي بقنابل النابالم ؟ وأين التسامح في تدبير الانقلابات في أمريكا الجنوبية ضد إرادة شعوبها ؟ فهي لم تتسامح مع من يطالبون بالاستقلال، وحرية تقرير المصير، فما بالك بغيرهم ؟! ، والتسامح الأمريكي موجود مع إسرائيل ووقوفها في أكثر من عشرين فيتو تؤيدها، وتمنع معاقبتها من دول العالم، والتسامح موجود مع حكام ديكتاتورين في أفريقيا وأسيا لأنهم يحققون مصالحها، ولا يهمها ما عملوا من جرائم وسرقات ....الخ . وإذا كانت أمريكا هي الدولة رقم واحد خلال الخمسين سنة الماضية، فكلنا يعلم أن السياسة العالمية قائمة على المصالح والقوة كما في أغلب فترات التاريخ، وليست قائمة إطلاقا على المبادئ أو على جزئية منها اسمها التسامح، وكلنا شاهدنا كيف تعاملت أمريكا بعد أحداث 11 سبتمبر مع باكستان، وهي دولة ذات سيادة حيث قالت لها إما معي أو ضدي في حربي مع أفغانستان، فهل هذا تسامح أو حتى التزام ببديهيات القانون الدولي والأعراف الإنسانية؟ وهذا كلام معلن وليس تهديدات سرية، كما أن تسامحها كان مفقودا في قصف الطائرات للأفغان العرب الأسرى في سجن مزار الشريف حيث قتل بعضهم وهم مقيدون، فلا تحقيق بالأمر، بل تعتيم إعلامي والتسامح الأمريكي بدأ(1/132)
فورا بعد أحداث 11سبتمبر بإنشاء محاكم عسكرية للمتهمين، وواجه كثير من العرب من المقيمين بأمريكا " ألوانا " من التسامح الأمريكي في اضطهادهم ومقاطعتهم بلا أي تهمة . ولم يعد من حرية الرأي أن تسمح أمريكا ولو بصوت واحد يؤيد أسامة بن لادن داخل أمريكا فأين حرية الرأي ؟ وضرب الجنود الأمريكان جنديا برتغاليا في قاعدة لحلف الأطلسي لأنه أيد بن لادن .......إن حرية الرأي هي في تشويه الدين، واتهام الله سبحانه وتعالى،أما مصالح أمريكا واقتناعاتها فلا تقبل أن ينتقدها أحد !!.
4- لم يظهر العلمانيون العرب أو المتأثرون بالعلمانية أي نوع من التسامح مع الآخرين، ونحن نتكلم عن واقع امتد خمسين عاما حيث شاهدنا مواقف دموية وعنيفة فيما بينهم، وكذلك في تعاملهم مع الإسلاميين واقرءوا التاريخ القريب فهو كتاب كبير مفتوح يثبت التصفيات والتآمر والسجن والتعذيب والطرد والنفي والشك وسوء الظن، فكل حاكم لا يحتكم للإسلام فهو علماني وكل حكومة لا تحتكم للإسلام فهي علمانية ، وقد ذاقت بعض شعوبنا مرارة العلمانية والعلمانيين وعانت من كذب شعاراتهم وفشلهم في تحقيقها، فلا حرية رأي، ولا انتخابات نزيهة، ولا احتكام إلى قانون بل لأنظمة سرية وديكتاتورية وإرهابية، وموقفهم من الدين كان في الغالب سيئا جدا، وفى أحسن الأحوال يتم تجاهله، ويكفي أن بعض شعوبنا أخذت تترحم على أيام الاستعمار البريطاني والفرنسي بعدما رأت ما فعله العلمانيون والمتأثرون بالعلمانية، وحاربوا حتى العمل الخيري وشككوا في أهدافه وأمواله. وأقول وأكرر الفلسفة العلمانية قائمة على نقد الآخرين وتسفيه آرائهم وعقائدهم، وهي بالتالي لم ولن تستطيع بناء المحبة والتعاون والتسامح.(1/133)
5- ليطمئن بعض العلمانيين فالملتزمون بالإسلام بصورة صحيحة ليس في قلوبهم كراهية وحقد على غير المسلمين بما فيهم الأمريكان ، فالمبادئ الإسلامية تجعلنا نحب الخير للناس، ونسعى لدعوتهم وهدايتهم، وتمنعنا من ظلمهم . وأي دراسة موضوعية ستثبت أن ثقافة التسامح لا توجد إلا في الإسلام بصورة شاملة وصحيحة وواقعية، وهي موجودة في كثير من الآيات والأحاديث، كما أن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم مكتوبة ومعروفة، فاقرءوها وستشاهدون ألوانا كثيرة من تسامح الإسلام مع أعدائه ومع المسلمين فحتى القاتل يتم العفو عنه إذا تنازل أهل القتيل، وأمر الله سبحانه وتعالى بالستر، وكظم الغيظ والعفو والإحسان والتنازل عن بعض الحقوق، والصبر على الأذى والظلم .......الخ ولا توجد أبدا مقارنة بين ثقافة التسامح بالإسلام، وثقافته بالعلمانية ومدارسها ،واعملوا مقارنة عادلة حتى تقتنعوا . قال تعالى : " لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين (8) سورة الممتحنة. وإذا كانت هناك أراء لجماعات إسلامية متطرفة أو فتاوى خاطئة تعطي غير مبادئ الإسلام فهي مرفوضة. وبالإمكان القيام في عصرنا هذا بدراسة ميدانية عن المسلمين الملتزمين في البلاد الإسلامية وفى بلاد الغرب وعلاقاتهم مع غير المسلمين سواء كانوا جيرانا أو أصدقاء أو أساتذة أو غير ذلك، وسنجد بالتأكيد أن غير المسلمين سيشهدون بحسن أخلاق المسلمين الملتزمين وصدقهم وأمانتهم، وأنهم لا يظلمون ولا يضرون . ونذكر هنا أنه حتى علماء الإسلام في أفغانستان وفى حكم طلبان عارضوا اعتداءات 11 سبتمبر على أمريكا، ولم يعتبروا ذلك عملا جهاديا يقره الإسلام. وثقافة التسامح لا تعني ألا نقول عن أمريكا والغرب أنهم أهل شرك وكفر وباطل، ولا تعني أن نصمت عن المواقف العدائية الأمريكية للمسلمين في فلسطين وغيرها، فلن نتنازل عن مبادئنا الإسلامية، ولا(1/134)
حقوقنا الوطنية ، وثقافة التسامح لا تعني أن نتسامح مع من يقتل ويخون ويسرق ويعتدي ويظلم وينافق ويعق والديه ويفسد في الأرض، وهذا ما تطبقه جميع شعوب الأرض قال: "ولكم في القصاص حياة يا أولى الألباب لعلكم تتقون " (179) سورة البقرة فالتسامح له قوانينه والعقاب له أحكامه، وقبول الآخرين له ضوابط وهكذا. ومن الجهل والكفر أن نعتقد أننا سنشرع قوانين للبشر تكون أرحم وأعدل وأكثر تسامحا مما شرع لهم الله سبحانه وتعالى!!
أكذوبة الوسطية العلمانية
يظن العلمانيون وما أكثر ما يبنون بنيانهم على الظن لا العلم أنهم أهل وسطية، واعتدال، وموضوعية في الفكر والمواقف ونقول بأن رغبتهم في الوسطية والاعتدال هدف صحيح ولكن الفكر العلماني لا يؤدي إلى ذلك، فكم من مريد للحق لن يصيبه واليكم الأدلة :-(1/135)
1- الفكر العلماني ليس فكرا وسطيا بين ما لدى البشر من عقائد بل هو فكر متطرف سيئ حتى ولو كانت فيه جوانب اعتدال، فالفكر الشيوعي كان فكرا متطرفا للعمال والفقراء والقطاع العام، ومتطرفا في موقفه من الانتماءات القومية والوطنية، ومتطرفا في موقفه من الأديان السماوية .......الخ أما الفكر العلماني الرأسمالي فهو أقل منه تطرفا في موقفه من الدين، إلا أنه ليس فكرا وسطيا لأنه يرفض الدين ويعتبره أساطير، وتعصبا وتخلفا وهو فكر ينطلق كليا من أراء الفلاسفة ، ويلغي كل ما في التاريخ البشري من كتب سماوية وفكر لعلماء الأديان، ولا يعتبر الدين حتى أحد مصادر التشريع حتى ولو كان في أمة الغالبية الساحقة منها مسلمون أو مسيحيون، والفكر العلماني الرأسمالي ليس حلا وسطا لاختلافات المسلمين مع المسيحيين، فهو شئ ثالث مخالف لهما، أي هو يرفض تبني الحقائق المشتركة بين الإسلام والمسيحية من ضرورة طاعة الله سبحانه وتعالى، واتباع الرسل، والحرص على الأخلاق الفاضلة، والالتزام بالعبادة والأمور الروحانية .......الخ بل تجده يدافع عن الزنا والخمر والربا والتبرج، فكأنه يتعمد استفزاز الأديان السماوية في مواضيع يعرف كل عقل سليم أنها انحرافات أخلاقية واجتماعية، وتطرفهم يجعلهم يثيرون الفتن والأزمات ، ولو نظرنا للفكر الإسلامي لوجدنا الاعتدال في عقائده وعباداته وشريعته، فهو مع مصلحة المجتمع لا مصلحة العمال ولا التجار وهو يوازن بين أمور الدنيا وأمور الدين، وبين الفرد والمجتمع والحديث طويل، ونختصره في قوله تعالى: "وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس" (143) سورة البقرة فالوسطية هي صفة رئيسة في فكرنا منذ خمسة عشرة قرنا.(1/136)
2- لم يكن العلمانيون وسطا في المواقف السياسية فهم لا يمثلون الاعتدال داخل أسرهم وعوائلهم وقبائلهم وشعوبهم وأمتهم ، فبعضهم يميني، ويعضهم يساري، وهناك معتدلون، وتراوح تحالفهم وأحيانا ولائهم من روسيا إلى أمريكا وأصبحت مجموعة كبيرة منهم اليوم موالين لأمريكا ، ومدافعين عن مصالحها ، وليس فقط فكرها إلى درجة أنهم أصبحوا ينافسون أكثر الأمريكان تطرفا، فكل ما تفعله أمريكا حق وصواب حتى لو خالفت مواثيق الأمم المتحدة وحقوق الإنسان كقتل المدنين والأسرى في أفغانستان. ولا يعتبر العلمانيون تجمعا معتدلا في الحياة السياسية العربية؛ فهم انعزاليين و مغرورون وعلاقاتهم بالقواعد الشعبية - ناهيك عن القوى السياسية - هي علاقات ضعيفة،أو مقطوعة وليسوا قوة معتدلة تلتقي عندها القوى الشعبية في حلول وسط، ومما يثبت عزلتهم وضعفهم هو سقوطهم الكبير في أي انتخابات شعبية حرة، ولو كانوا كانوا يمثلون الاعتدال والوسطية لنجحوا، وهذا شئ طبيعي، فتطرفهم الفكري والسياسي يجعلهم منبوذين من مجتمعهم، ولو كانوا وسطا لكانوا مندمجين في مجتمعهم في آمالهم وآلامهم وأهدافهم ومواقفهم وأقوالهم.
3- والعلمانيون ليسوا وسطا بين الكلام والعمل، بل هم أهل كلام وجدل وفلسفة وسخرية ونقد، ونصيبهم من الإنجازات العملية محدودة جدا، فهم ظاهرة صوتية عاجزة عن تحقيق إنجازات كبيرة عملية، ليس فقط في المجال السياسي، بل أيضا في المجال الاجتماعي والاقتصادي والخيري، ولو قارنا مساهمتهم العملية في العمل الخيري مع الاتجاه الإسلامي لوجدنا فرقا هائلا، بل لا توجد حتى مقارنة !!.(1/137)
4- والعلمانيون ليسوا وسطا أيضا في فهمهم للحياة وشموليتها، فأغلب جهودهم وتفكيرهم واهتماماتهم في الجانب السياسي والاقتصادي، وبهما وضعوا أغلبية بيضهم إن لم نقل جميعه، أما سلة العقائد وسلة الأخلاق وسلة الحياة الاجتماعية فهي فارغة أو شبه فارغة من بيضهم، فنادر جدا ما تجد علمانيا يطالب بالأخلاق الفاضلة، ويعرف كيف يصل إليها، وعندما نتكلم عن الأخلاق مثلا فنحن نتكلم عن شئ هام جدا في حياة كل فرد، أو أسرة، أو مجتمع، أو دولة، فهي أساس من الأسس الرئيسة للبناء قال أحمد شوقى رحمه الله:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا
5- يقوم الفكر العلماني في جوانب أساسية منه على النقد والجدل والاتهامات والسخرية مما يجعل العلماني في حالة نقد وصراع واختلاف مع مجتمعه والآخرين؛ فلا تعجبه عقائد مجتمعه، ولا عاداته، ولا مواقفه السياسية، فكثير منهم لا يرى الإيجابيات بل يرى السلبيات فقط، ولهذا يصبح الأغلبية إن لم نقل الجميع منحرفون أو مقصرون أو مخطئون وهذا ليس من الوسطية، والاعتدال، فكما أن هناك سلبيات فهناك أيضا إيجابيات، وكل سلبية أو إيجابية يجب أن يعطيها وزنها بلا مبالغة ، ولا يوجد دولة أو جماعة بلا سلبيات . والوسطية تتطلب الموضوعية فى الحكم على الأفراد والاتجاهات والعقائد والأحزاب والدول والتاريخ، وهذا شئ مفقود كليا عند العلمانيين، فقد أشبعوا الشرق واليسار مدحا قبل نصف قرن، وأشبعوا اليمين والغرب ذما والآن انقلبوا من تطرف إلى تطرف، ولعل أوضح دليل على عدم موضوعيتهم و وسطيتهم هو موقفهم من الاتجاه الإسلامي، فلم تعجبهم جماعة واحدة فيه على كثرة ما فيه من جماعات واجتهادات ومدارس فكرية، ولم يمدحوا إلا نادرا موقفا واحدا سواء كان جهاديا أو خيريا فهم متطرفون في عدائهم وفي ولائهم ومن لا يعجبه العجب، ولا الصيام في رجب فهو بالتأكيد بعيد عن الاعتدال والحق.
العلمانيون بلا مبادئ(1/138)
قد يظن البعض أن اتهام العلمانيين بأنهم بلا مبادئ قول فيه تجن ولكنه حقيقة يجب أن يعرفها العلمانيون قبل غيرهم، وسأسلط الأضواء على العلمانيين الغربيين لأنهم النموذج الأشهر حاليا بعد انقراض العلمانيين الشيوعيين وإليكم الأدلة:-
(1) الحرية الكبيرة:- عندما يكون حجم الحرية كبيرا فهذا دليل على دائرة متسعة من التصرف مما يجعل المبادئ التي يلتزم بها الفرد محدودة فهو حر في أن يعبد الله سبحانه وتعالى، أو يكفر به، وهو حر في أن ينحرف أخلاقيا أو يستقيم، وهو حر في أن يشرب الخمر ويتعاطى المخدرات أو يمتنع، وهو حر في أن يذهب للكنيسة أو للمسجد أو لا يذهب، وهو حر في أن يكذب وان يتصرف في ماله كيف شاء .....الخ هذه الحرية تثبت أن" مذهبهم وسيع" وانه لا توجد مبادئ كثيرة يلتزمون بها. وفى المقابل نجد عندنا في الإسلام مبادئ كثيرة تتحكم في حريتنا وشهواتنا وانفعالاتنا ومالنا وعلاقتنا بوالدينا وأسرتنا. . ....الخ وقد يقول العلمانيون أن عندهم قوانين لكثير من الأمور، وهم ملتزمون بها، وأقول المبادئ اشمل واكبر من القوانين، فالقوانين تتغير بالتصويت، والمبادئ ثابتة، وليس كل القوانين مبادئ بل أغلبها ليست كذلك، وعندما تكون مبادئك متغيرة فليست عندك مبادئ، ولا يوجد عند العلمانيين شئ يجب الالتزام به إلا الدستور والقانون وما عداهما فهو غير ملزم أي منطقة حرة، أو بكلمات أدق ليس عندهم مبادئ وقيم خارج ما اتفق عليه الشعب في دستور أو قانون، وبالتالي فمبادئهم ناقصة ، ولا تشمل الحياة بتشعبها وتنوعها وعمقها!!.(1/139)
(2) "المبادئ شخصية" من المعروف أن الفكر العلماني الرأسمالي عجز عن تحديد المعايير والمقاييس التي تحدد الحق من الباطل، والصواب من الخطأ، ولهذا نجد للأفراد العلمانيين عقائد ومبادئ مختلفة، فما يراه هذا حقا يراه الآخر باطلا فهذا العلماني مقتنع بأن المال هو أهم مافى الحياة، والثاني مقتنع بتفوق الإنسان الغربي، والثالث بأن الزواج شر، وتخلف، وهكذا ....الخ وهذا التناقض مقبول عندهم ولا يخالف مبادئهم، وبالتالي فهناك مساحة كبيرة جدا من العقائد والسلوك والأعمال مسموح بها مما يجعل دائرة المبادئ المتفق عليها محدودة إلى درجة كبيرة، ولو نظرنا للفكر الإسلامي لوجدنا أن المعايير ثابتة، والحق واضح، والباطل واضح، وإذا حدث انحراف من المسلم فهو يعرف أنه انحراف عن المبادئ، في حين أن الانحراف الواضح كالجنس بين الرجال يعتبر في الغرب حرية شخصية، أي جزء من مبادئهم، فما الذي بقى في مجال الجنس حرام ؟!. فمساحة الحرام في الجنس وغيره محدودة جدا وهذا دليل على تحكم الأهواء والشهوات والمصالح في" مبادئهم"، والمبادئ تقوم على العلم واليقين، والعلمانية قائمة على الظن والشك، كل هذا يجعل من الطبيعي أن تكون مساحة المبادئ قليلة، والإيمان بها ضعيف.(1/140)
(3) "الحياد السلبي" كثير من العلمانيين أعجبتهم "مبادئهم" مثل الناس أحرار في عقائدهم، والدولة لا تتدخل في عقائد الناس، واعمالهم وحرياتهم......وهذا الكلام الجميل كارثة عقلية وعلمية، وأيضا كارثة للمبادئ، فالعلمانية تحرص على الحياد، وعلى قلة المبادئ التي تؤمن بها . وبالتالي فالمعارك العقائدية التي تحدث بين أصحاب العقائد المختلفة الدينية والعلمانية لا تتدخل فيها، ولا تنصر حقا ولا تهزم باطلا ،فكلها عندها آراء لا تستحق الدراسة والحسم ، فالحق آراء، والباطل آراء، ومن المعروف أن من يتمسك بالمبادئ هو من يدخل في اختلاف وصراع مع الانحرافات سواء كانت عقائدية أو سياسية أو اجتماعية أو إدارية .....الخ. فعند العلمانيين أن تكون مؤمنا بالله سبحانه وتعالى أو كافرا به قضية يمكن الوقوف فيها على الحياد، وكذلك ليس هناك فرق بين أهل الطاعة وأهل المعاصي، ولا يوجد أمر بالمعروف ولا نهي عن منكر، ولا يهتمون بالانحرافات كالتبذير والفساد الأخلاقي والاجتماعي والغرور والغيبة .......الخ وقديما قالوا: "لو قلت الحق لأبغضوك" ولهذا نرى تفاعل العلمانيين والمتأثرين بالعلمانية مع قضايا مجتمعهم محدود وجزئي ، ويتركز على بعض القضايا السياسية والفكرية.(1/141)
(4) الإيمان بالقوانين:- الكارثة الرابعة التي تثبت أنهم بلا مبادئ أو مبادئ محدودة أن بعض وقد يكون كثير من العلمانيين لا يلتزمون بالدستور والقانون، فإيمانهم بمبادئهم ضعيف، وأحيانا غير موجود، فلو أخذنا مثلا المتأثرين بالعلمانية والعلمانيين في الكويت، وأخذنا شرب الخمر وهو ممنوع قانونا، فهل هم ملتزمون بذلك؟ الجواب إن بعضهم لا يتردد في شرب الخمر، بل ويعتبر فعله هذا حضارة وتقدمية مع انه مخالف للقانون الذي ارتضاه الشعب الكويتي، والأخطر من ذلك أن هذا الانحراف يتعارض مع مبادئهم التي تدعو للسيادة للشعب، والالتزام بالقانون، فهذا كفر بالمبادئ العلمانية، فالتزامهم بهذا القانون أو ذاك ، وانحرافاتهم عن هذا أو ذاك خاضع للاقتناعات الشخصية والشهوات والعصبيات والمصالح والضغوط. فالمطالبة بالالتزام بالقانون تصبح لا معنى لها لأنها مسألة اختيارية ومزاجية وانتقائية وهذا هو بالضبط ما يفعله كثير من المنحرفين المجرمين في تعاملهم مع القانون والمبادئ، وقد يعرف المنحرف انه منحرف إذا سرق أو زنا أو شرب الخمر ولكن العلماني يعتبر انحرافه أيا كان نوعه حقا وحرية، وكثير ما يقلل العلمانيون من أهمية المبادئ، ويعتبرون كل هذه الانحرافات، وغيرها قضايا هامشية وشخصية، فالمهم عندهم الاقتصاد والسياسة، ولو سلطنا الأضواء على الأوضاع الجنسية في الغرب لوجدنا الحيوانات أكثر نضجا ورقيا في تعاملها مع الجنس منهم، ولو جدنا الفساد الأخلاقي مسئول عن جزء كبير من شقائهم فقد تحطمت عندهم الأسرة وازدادت العزوبية ودمرت مفاهيم الحب والوفاء والإخلاص وانفتحت أبواب الخيانة والاغتصاب والطلاق والإجهاض والأبناء الغير شرعيين ....الخ، وتم الاهتمام بدرجة أكثر من المطلوب بأدوات التجميل والمواصفات الجسدية، والأطعمة قال تعالى: "فاعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا (29) ذلك مبلغهم من العلم وربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن(1/142)
اهتدى" (30) سورة النجم وقال تعالى: "يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون "قال عبد القادر الجيلاني لغلامه" يا غلام لا يكن همك ما تأكل، وما تشرب، وما تلبس، وما تنكح، وما تسكن، وما تجمع كل هذا هم النفس والطبع ،فأين هم القلب؟ همك ما أهمك فليكن همك ربك عز وجل وما عنده"(1)، ووصف سعد بن معاذ رضي الله عنه المشركين فقال: "رأيت قوما ليس لهم فضل على أنعامهم، لا يهمهم إلا ما يجعلونه في بطونهم وعلى ظهورهم، وأعجب منهم قوم يعرفون ما جهل أولئك ويشتهون كشهوتهم".(2)
(1) ص 77 كتاب علو الهمة- الأستاذ محمد أحمد إسماعيل المقدم
(2) ص46 كتاب علو الهمة الأستاذ محمد أحمد إسماعيل المقدم.
الأسس الجاهلية للعلمانية الرأسمالية
حتى نفهم العقائد والمبادئ وحظها من العلم والعقل أو الجهل والحماقة فمن الضروري أن نتعمق فيها ونبحث عن الأدلة العقلية التي تنطلق منها، فإذا كانت هذه الأسس صحيحة فإن ما بني على حق فهو صحيح، أما إذا كانت قائمة على الظن والآراء والنسبية فما يخرج منها إلا جهل حتى ولو كان بعضه صحيحا بحكم الصدفة والحد الأدنى من الذكاء للعقل البشري، والعلمانية الرأسمالية قائمة في قواعدها على الجهل، وبالتالي لا تتوقع منها نورا لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وإليكم الأدلة :(1/143)
1- فصل الدين عن الدولة: استند اقتناع العلمانيين الرأسماليين بهذا المبدأ إلى الانحرافات التي حدثت من رجال الكنيسة في أوروبا في العصور الوسطى. والخطأ الذي وقعوا فيه هو اتهام الدين بأنه سبب الانحراف، ومن المعروف أن كل المبادئ الدينية والعلمانية يحدث باسمها انحرافات، لأنه ينتمي لها أحياناً من ليسوا ممثلين حقيقيين لها سواء عن علم أو عن جهل، ووجدنا فيمن ينتمي للإسلام منافقين وظالمين وتصوف منحرف وخوارج ومرجئه.. الخ والخروج من هذا الانحراف هو بالتمسك بالدين الصحيح.. ولم يرفض العلمانيون الدين المسيحي فقط، بل رفضوا كل دين آخر حتى ولو كان لا يتعارض مع العلم المادي أو لديه أدلة عقلية صحيحة أنه دين الله. والأديان السماوية ليست أشياء قائمة بذاتها، بل هي ما أمرنا الله سبحانه وتعالى به، وبالتالي فرفضها هو قطع علاقة الإنسان بالله سبحانه وتعالى، وقال العلمانيون نترك الدين، ونتبع العقل والعلم وكأن بين الموضوعين تناقض، وهذا موضوع وضحته عدة مرات، وفصل الدين عن الدولة عبارة فيها مكر، فإذا كان الدين خطأ فليقولوا أنه باطل وخطأ كما فعل الشيوعيون، ويرفضونه علانية، وإذا كان حقا وصوابا فيلتزموا به، ولكنهم لم يفعلوا هذا أو ذاك، بل قبلوه وآمنوا به نظرياً، ورفضوه وكفروا به عملياً!!. آمنوا ببعض عقائده وأحكامه وعباداته مما يدور في الحياة الشخصية، ورفضوه في مجال شؤون الدول والسياسة، بل حتى الجانب الشخصي منه حاربوه بتشجيع الفساد الأخلاقي والزندقة باسم الحرية الشخصية. ولا نختلف مع العلمانيين بأنه حدث انحراف رجال الكنيسة، بل نؤمن بأن هناك تحريف في المسيحية، ولكن إثبات العلمانيين لذلك ليس دليلا على صحة السير في الاتجاه المعاكس المناقض للدين لأنهم لم يثبتوا بالأدلة العقلية إطلاقاً أن آراء الفلاسفة العلمانيين هي الطريق إلى الحق والصواب، وكانت العلمانية الشيوعية تحاول أن تبحث عن أدلة عقلية تستند إليها كنظرية(1/144)
داروين والحتمية التاريخية،وهذه أدلة فاشلة، أما العلمانية الرأسمالية فهي لم تقدم دليلا واحدا على صوابها، بل تعيش على الشعارات والأهداف العامة، وادعاء العلمية والعقلانية، وعلى كيل الاتهامات "أسلوب الفلاسفة" بالحق وبالباطل لخصومها أصحاب الأديان السماوية، وحتى العقائد العلمانية الأخرى بأنهم أعداء الحرية والديمقراطية والتسامح والعقل والعلم والمرأة...الخ. وهذا الهجوم العلماني نجح في إرباك وتشويه خصومها، وكذلك في حماية بنيانها الفكري الهزيل، وتمت حمايته أيضاً بالقوة الاقتصادية والسياسية والعسكرية والإعلامية لأمريكا وأوربا. ولكن هذا الوضع لن يستمر، ونطالب العلمانيين بأن يتعمقوا في دراسة أصول مبادئهم حتى ينقذوا أنفسهم من أذكى عملية تزوير فكري في التاريخ !!.
2- آراء الفلاسفة: العلمانية هي الفلسفة، وكتب الفلاسفة الكتب والمقالات في العلم الفكري المتعلق بوجود الله سبحانه وتعالى وصفاته، والعدل والحرية والمساواة والألم والخير والشر...الخ وهم لم يصلوا إلى علم، ولم يتفقوا على فكر محدد أنه حق وصواب، ولكن أعطوا آراء فيها باطل كثير، وحق قليل، أي هي آراء وظن وليس حقائق ويقين، قال تعالى: (وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا) (28) سورة النجم. والآراء الفلسفية هي المنبع الرئيس للعلمانية والغريب فعلا أنهم يعترفون أنها آراء، ومع هذا يتعصبون لها، ويقولون ستهدينا للحق والصواب، وما ينطبق على الفلاسفة ينطبق على سياسيين ومثقفين يتكلمون في الغرب عن حوار الحضارات وصراعها وحقوق الإنسان وحرية المرأة ، والإجهاض، والإرهاب فاجتهاداتهم هي آراء ليست مبنية على نور، قال تعالى: (ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور) وكثير من آرائهم تخالف بصراحة ما أمر به الله ، ويظنون أنها نور وعلم !!.(1/145)
3- التصويت الشعبي: نعم للتصويت الشعبي إذا كان ضمن ضوابط العلم والعقل والحكمة، أي المبادئ الصحيحة، أما أن يعتبر مرجعاً علمياً يتم حسم الأمور من خلاله حتى في قضايا العقائد والمبادئ، فهذه كارثة، فإذا صوت الشعب أن الأرض أكبر من الشمس، فهذه نكتة وحماقة لأنها تعارض حقيقة علمية مادية، وكذلك الأمر في قضايا العلم الفكري فإذا صوت الشعب بأن فصل الدين عن الدولة حضارة، وأن الزنا حرية، وأن الشذوذ الجنسي فضيلة، وأن الخمر تعالج الهموم، فهذا جهل يؤدي إلى شر ومفاسد كثيرة، ومن البديهات أن المجالس النيابية لا يصل لها العقلاء فقط بل هي تتأثر بالتوازنات العرقية والطبقية والعقائدية والسياسية، ويدخل فيها شراء الأصوات بوسائل مختلفة، وتتأثر كثيراً بالدعاية الإعلامية...الخ. فهل هؤلاء مصدر نقي نصل منه للحقائق والعلم والنور؟ وهل من المقبول عقلاً أن نحتكم في مبادئنا لهؤلاء الذي يتحركون وأعين أكثرهم على أهواء ومصالح الناخبين سواء كانت حقا أو باطلا وهل من الحكمة أن نجعل التصويت الشعبي يقودنا حتى ولو خالف العقل والعلم مع علمنا بأنه يتأثر بالمصالح أكثر من تأثره بالحق والصواب.(1/146)
4- الاحتكام للعقل: تزعم العلمانية أنها تحتكم إلى العقل، ونقول هل يوجد عندنا عقل واحد نذهب إليه ويعطينا حكماً صحيحاً (علمياً)؟ لا نجد الأمر كذلك، بل نجد لدينا عقولا بعدد سكان الكرة الأرضية، وكل عقل له عقائد واقتناعاته المختلفة عن الآخرين، ولا يمكن كذلك الاحتكام إلى عقول المفكرين لأنهم متناقضون وفي النهاية لن نستطيع الوصول إلى حكم، فالذين يتكلمون عن العقل بهذه الصورة يتكلمون عن سراب، أما إذا كان الكلام عن أدلة عقلية تسند هذا الرأي أو ذاك فهذا لن يوصلنا إلا إلى جدل لأن النقد والنقد المضاد لن ينتهي في كثير من الأمور كما شاهدنا في الحوار بين الرأسمالية والشيوعية، فهو حوار طرشان!!. فتحكيم العقل على الطريقة العلمانية أكذوبة ووهم إذا تعمقنا فيها، ولم نأخذها كما يريدوننا بسطحية وسذاجه. والإسلام قائم على تحكيم العقل بصورة صحيحة، فوجود الله سبحانه وتعالى ثبت بالعقل، وكذلك صدق محمد صلى الله عليه وسلم، ويبقى العقل يتحرك بنشاط في فهم النصوص القرآنية والأحاديث، والواقع والكون والحياة. ودور العقل في النقاش مع العلمانية وغيرها مطلوب وهو في أغلبه في مناقشة الأسس التي تقوم عليها لا في الفروع والجزئيات.(1/147)
5- التجاهل: من أهم أسس العلمانية الرأسمالية التجاهل، فهي تتجاهل قضايا كثيرة عقائدية واجتماعية وأخلاقية ونفسية بحجة أنها قضايا ما وراء الطبيعة، أو حريات شخصية، أو لا أهمية لها في الحياة. وهذا التجاهل والهروب كارثة، وهو لو تعمقنا فيه ترك لأغلب القضايا التي تواجه الإنسان بدون تحديد الحق من الباطل فيها، وهو أيضاً إعلان عجز العقل العلماني عن الوصول إلى حسم فيها لأنه فشل في ذلك وتعب من النقاش والجدل حولها. فالأسرة تحتاج إلى كثير من المبادئ والأحكام والأخلاق حتى تسير بصورة صحيحة، ولا نجد للعلمانية مفاهيم محددة في هذا الموضوع، بل لا تعرف من الموضوع غير بعض القوانين التي بيد الدولة، أما غيرها فتتجاهلها ومرتبط بذلك هو ما نراه من حيادية العلمانية في كثير من الأمور فهي تقول أنها ليست مع الله سبحانه وتعالى ولا ضده، وليست مع الأديان ولا ضدها، وهذه الحيادية نوع من التجاهل، وهي إذا تعمقنا فيها ليست مع الحق، وليست ضد الباطل، وهي أشبه ما تكون بفرد متبلد الإحساس، ولا مبالي لا علاقة له بكثير مما يدور في هذا العالم من صراع بين الخير والشر.(1/148)
6- الحلول الوسط والنسبية: نعلم أن الحلول الوسط والنسبية تصلح للوصول إلى اتفاق في قضايا اجتهادية سياسية أو اجتماعية أو غير ذلك، ولكن لا تصلح هذه الأمور لتحديد ما هي المبادئ الصحيحة؟ فلا يجوز أن يكون الحق نسبيا أو يتم مقارنة بين مبدأين، وبناء على ذلك نأخذ الأفضل فقد يكون الأفضل سيئاً، ولكن إذا تم مقارنته بما هو أسوأ منه يكون حسنا كأن يقال: يسمح بالخمر لأنها أقل ضرراً من المخدرات، ومما يذكر هنا أن العقل العلماني الأمريكي منع الخمر في بداية القرن العشرين، وهذا حق وصواب، فلما وجد معارضة شديدة سمح بها، أي خضع للشهوات والأهواء، وهذا هو جزء هام من مصادر الفكر العلماني، ويكمله فلسفة من يريد أن يشرب الخمر فليفعل، ومن لا يريد فليمتنع، فهذا حل وسط بين العقل وبين الشهوات ، وإذا حدث صراع بين أقوياء وضعفاء على مستوى دول أو أفراد نجد الحلول العلمانية في الغالب هي حلول وسط حتى لو كان الحق واضحاً. وهذا قد يكون مقبولاً إذا كنا عاجزين عن إعطاء الحق لصاحبه، ولكن هذا جزء من المبادئ العلمانية، ونجد فكرنا الإسلامي يتناقض مع هذا الأسلوب في الحياة، فنجد أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه- يقول في أول خطبة له كخليفة "القوي فيكم ضعيف عندي حتى أخذ الحق منه، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أخذ الحق له" ولو تعمقنا في مبدأ الحل الوسط لاقتنعنا بأنه مقبول عندهم لأن فكرهم ليس قائما على مبادئ (حقائق) يجب الالتزام بها بل هو آراء بشرية يمكن التخلي عنها بسهولة، ومع هذا يقولون بأن فكرهم راقي.(1/149)
7- الحقائق فردية: عندما تطالبنا العلمانية بأن نتبع عقولنا، وعندما يقتنع كل واحد فينا بمبادئ وعقائد في القضايا الفكرية الأساسية تختلف عن الآخرين فهذا مقتنع بأن مصلحته الشخصية أهم من المصلحة الوطنية، والثاني بالعكس، والثالث بأن أهم ما في الحياة الجنس والخمر، والرابع أن الأخلاق أوهام وأكاذيب، وغير ذلك فكل واحد لديه "حقائق" فكرية خاصة به، وهذا بحد ذاته كارثة لأن الحقائق ليست فردية، بل هي شيء تم إثباته بالأدلة العقلية، وهي مبادئ يجب أن نسعى للالتزام بها، والدفاع عنها كأفراد وتجمعات وأحزاب ودولة، وبناء عليها نحدد من يسير مع الحق والصواب، ومن يسير مع الباطل والخطأ، قال الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه "أعرف الحق تعرف أهله" إننا نقرأ ونتحاور ونفكر حتى نصل إلى الحقائق لا أن يصل كل فرد إلى مبادئ يرى أنها "حقائق".
8- تقليد أمريكا: نفهم أن يقلد الإنسان الجاهل العلماء أو الآباء والأجداد ولكن من الغريب أن نجد أن حالة الإعجاب بإنجازات الدول الغربية التكنولوجية والسياسية والاقتصادية جعلت أحد الأسس للعلمانية الحديثة هو تقليد أمريكا وأوروبا تقليداً أعمى بدون تفكير وتحليل لما نجحت فيه أو فشلت، أي بدون أي دور للعقل، ويكون هذا التقليد قبيحاً إذا جاء من مثقفين، ويكون أكثر قبحاً إذا قلدت أمريكا فيما فشلت فيه، لا في ما نجحت فيه، فمن المعروف أن أغلب جهود العلمانيين العرب ليست في مجال تطوير الوضع الإداري، أو التكنولوجي، أو الاقتصادي لبلادهم، بل هي في الدفاع عن الانحراف عن المبادئ والقيم والأخلاق حتى قال قائلهم الدكتور طه حسين: "كل شيء في فرنسا يعجبني ويرضيني، خير فرنسا وشرها، حلو فرنسا ومرها نعيم فرنسا وبؤسها.." وقال "لابد أن نسير سير الأوروبيين، ونسلك طريقهم لنكون أنداداً، ولنكن لهم شركاء في الحضارة، خيرها وشرها حلوها ومرها، وما يحب وما يكره وما يحمد وما يعاب"(1).(1/150)
(1) ص80 أوهام العلمانية حول الرسالة والمنهج د.توفيق الواعي.
تعمقوا أيها العلمانيين
يردد العلمانيون شعارات جميلة مثل " الدين لله والوطن للجميع " و " حريتك تنتهي عند بداية حرية الآخرين " و" الاختلاف لا يفسد للود قصية " و " الحرية والعدل والمساواة " و " لا لإلغاء الآخر " .....الخ هذه الشعارات التي لا اختلاف حولها بين عقلاء البشر على اختلاف عقائدهم إذا كانت تعنى معاني محددة كما يفهمها كل عاقل، وهي محل رفض من جميعهم بلا استثناء إذا كانت لها معان أخرى بمعنى أن لا أحد ضد الحرية أو المساواة بين الناس، ولكن هذه الأمور ليست على إطلاقها، بل لها ضوابط، فليس من الحرية أن تشتم الناس أو تتخلى عن رعاية أسرتك، فحرية القول أن تتكلم بأدب واحترام ، ولكن مشكلة العلمانيين أنهم يريدون أن يعيشوا في عالم الشعارات والأهداف العامة والأحلام والأماني لأنهم عجزوا عن الوصول لفكر وعقائد تحدد لهم المعاني الصحيحة للحرية والعدل والمساواة . ونقول للعلمانيين والمتأثرين بالعلمانية لنتعمق معكم في بعض شعاراتكم من خلال النقاط التالية :-(1/151)
1- هل "الاختلاف لا يفسد للود قضية" إن ما بين الشيوعيين والرأسماليين من حروب ساخنة وباردة هو بسبب اختلاف عقائدهم، وهذان الطرفان علمانيان فلماذا لم ينجح هذا الشعار؟ ولماذا لم يطبقه الأمريكان الرأسماليون مع الروس الشيوعيين؟ واختلافات الدول العربية ليست كلها اختلافات مصالح، بل جزء منها اختلافات عقائد أو أراء، أو مواقف، وهذا أفسد للود قضايا كثيرة، والاختلاف الإداري يفسد للود ألف قضية، وكذلك اختلاف الزوج مع زوجته في تربية الأولاد أو في ميزانية الأسرة، فالاختلاف فيما هو أمور مباحة واجتهادية يفسد الود في أحيان كثيرة، فكيف بالأمور العقائدية والجذرية؟ والالتزام بالإسلام ينهى الاختلافات الجذرية بين المسلمين، ويرشد الاختلافات الاجتهادية ، ويوجد التعاون والمحبة والود بين القلوب قال تعالى: " لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم انه عزيز حكيم" (63) سورة الأنفال، وأتمنى لو تعمق العلمانيون في هذا الموضوع ولم يعالجوا أمورهم بسطحية!!.(1/152)
2- "الدين لله والوطن للجميع" هذا الشعار مقبول إذا كان المقصود به هو عدم إدخال الدين في كل قضية، ورفض الاجتهادات الدينية المتطرفة، وعدم تقليل مساحة المساواة بين المسلمين وغيرهم في مجالات سياسية وقانونية وإدارية واقتصادية أي رفض الظلم بإسم الإسلام، ونقول التعصب ليس من الدين، ومحاربة التعصب هو بالالتزام بالدين، ولكن هذا الشعار يصبح كارثة إذا كان معناه لنترك الإسلام ولنعزله عن الدولة والسياسة والقوانين والتشريع، ولنأخذ العلمانية دينا ومنهجا، وهذا معناه أن الله سبحانه وتعالى أعطانا عقائد وشرائع لا تصلح للتطبيق وهذا قمة الكفر والجهل تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا قال تعالى : "أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون" (50) سورة المائدة وقال تعالى " ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون" (18) سورة الجاثية وباختصار مساحة المساواة بين المسلمين وغير المسلمين كبيرة جدا، ولكنها ليست مطلقة، وحرية الاعتقاد مكفولة لغير المسلمين ولن نتخلى أبدا عن نظامنا الإسلامي لنقبل بنظام علماني، نؤمن بأنه كفر فنحن حاربنا الكفر، في عقر داره، فكيف نرضى به في عقر دارنا ومبدؤنا " الدين لله، والوطن لله ونحن لله ، قال تعالى: قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين. (162) سورة الأنعام.(1/153)
3- "بالديمقراطية سنحل مشاكلنا" نعلم أن الديمقراطية ( الشورى ) فيها خير كثير، ونعلم أن الله سبحانه وتعالى قال لنا " وأمرهم شورى بينهم " ونعلم أن رأى الأكثرية خير من رأى الأقلية في القضايا الاجتهادية، وتوجد استثناءات لذلك ولكن نعلم أيضا أن الديمقراطية جزء من بناء الدولة السياسي والاجتماعي والاقتصادي . وأن هناك أجزاء كثيرة لابد منها ليكمل البناء، فلا بد من عقائد وأحكام وأخلاق نؤمن بها ونلتزم بها حتى نبني أنفسنا وأسرنا وقبائلنا وشعوبنا ودولنا، فالديمقراطية لا تشفى كل الأمراض، ولا تبني كل الأجزاء، فما الفائدة من الديمقراطية إذا كان الشعب بلا أخلاق فاضلة ؟ وما الفائدة منها إذا تناقش الضائعون والحمقى والمغرورون ؟ وما الفائدة منها إذا كنا نتعصب عرقيا أو طبقيا؟ ........الخ ومن الخطأ تجاهل كل هذه القضايا الهامة والاعتقاد أن الديمقراطية ستحل كل مشاكلنا، ونقول للعلمانيين تعمقوا في فهم ما ترددونه من شعارات وأهداف عامة، ولا تحملوها أكبر مما تحتمل فالزائد أخو الناقص !!.
نحن نرفض التصويت(1/154)
بين فترة وأخرى يعلن بعض الليبراليين رفضهم لنتائج التصويت في مجلس الأمة في موضوع الاختلاط، أو انتخاب المرأة، أو غير ذلك، محتجين على ذلك بأن هذا يتعارض مع الحريات الشخصية، وأن ما يتعارض معها مرفوض حتى ولو حصل على 99% من الأصوات في مجلس الأمة، أو في استفتاء شعبي. ونعتقد أن هذا الموقف صحيح إذا كانوا يقصدون أن الحق والصواب (المبادئ الصحيحة) هي فوق التصويت، ولا يجوز أن يتم التصويت على شئ يعارضها، ونقول أنتم تطالبون بالديمقراطية وبالاحتكام إلى الشعب، فإن فعلنا ذلك وجاءت نتيجة التصويت بخلاف ما تريدون رفضتم حكم الشعب وطالبتمونا بالاحتكام إلى المبادئ الصحيحة، وهذا هو منهجنا، وكل ما تثبت عقولنا أنه حق لا يجوز أن نحتكم فيه للتصويت في مجالس نيابية، فالحقيقة تبقى حقيقة ولو رفضها كل الناس، وهذا ينطبق على الحقائق الفكرية كما ينطبق على الحقائق المادية، فغليان الماء حقيقة مادية تبقى حقيقة حتى لو عارضها كل البشر، وكذلك إذا وصلنا بعقولنا وبأدلة عقلية صحيحة إلى أن الحرية الشخصية ليس من مكوناتها حرية التبرج يصبح هذا التعريف للحرية الشخصية هو التعريف الصحيح، فيجب أن ندافع عنه، ولا نطرحه للتصويت، وما ينطبق على الحريات ينطبق على المفهوم الحقيقي ( الصحيح ) للعدل وللأسس العقائدية السياسية والاجتماعية والاقتصادية الصحيحة فهي فوق التصويت، وبهذا الأسلوب وحده نبني حياتنا على العلم الفكري الصحيح، وهذا العلم فيه مجال كبير للتصويت وحكم الشعب (القضايا الاجتهادية) ولكن لا يكون بالانفلات والفوضى التي يدعو لها البعض حاليا. باختصار الاحتكام المطلق للتصويت خطأ نتفق معكم به. وتصور وضع دولة من الدول النامية أو حتى المتقدمة تكنولوجيا ممن تكثر فيها حالات عدم الاستقرار العقائدي والسياسي إذا قلنا لهم إن كل الأوراق هي بيد الانتخابات والتصويت وأنتم أحرار لدرجة الفوضى فلا يوجد فكر أو مبادئ تلتزمون بها، هذا الوضع يجعل(1/155)
الانتخابات معركة شرسة بين فكر وفكر، وبين عرق وآخر، وبين مصالح ومصالح ،فأجزاء هامة من هوية المجتمع ومبادئه ستكون مرتبطة بنتائج الانتخابات وهذا يدفع الأغلبية إن لم نقل الجميع إلى استخدام كل أسلحتهم المشروعة وغير المشروعة في المعارك الانتخابية، وهذا يؤدي إلى هزات فكرية وسياسية خطرة جدا على الدول، وتؤدي إلى كوارث ومصائب وفتن، وما نقوله هو واقع حدث في بعض الدول إلى درجة أن الحل هو إلغاء مبدأ الانتخابات، أو تجميده بحجة المحافظة على النظام بل الدولة، ولا يدرك كثير من العلمانيين أن التصويت والانتخابات والديمقراطية اكتسبت مساحة كبيرة جدا في الفكر العلماني الغربي لأنهم عجزوا بعقولهم ومن خلال الأدلة العقلية عن معرفة المعاني الصحيحة للحرية والعدل والمساواة والتربية ومفاهيم الإصلاح والحقوق والواجبات الزوجية والوطنية والقوانين العادلة في البيع والشراء وتوزيع الميراث ........الخ ولهذا احتكموا إلى التصويت في تحديد كل ذلك وجمدوا دور العقل فلا يوجد عندهم شئ اسمه "مبادئ ثابتة لا تتغير" أي علم فكري أي حق وحلال، ولا يوجد شئ عندهم اسمه جهل فكري أي باطل وحرام، ولهذا نجد العلاقة الجنسية بين ذكر وذكر حلال، وحرية، وكذلك الإجهاض والزنا والربا والخمر والأبناء الغير شرعيين. وأي عاقل حتى لو لم يكن مسلما يعلم أن العقل يرفض هذه الأمور، ويعتبرها انحرافا وفسادا واضحا، ولهذا نطالب العلمانية والمتأثرين بالعلمانية بأن يكونوا عادلين فإما أن يكون العقل أولا والتصويت ثانيا وإما أن يكون الاحتكام للتصويت فقط كما يحدث مع الغرب . ونذكركم بأن أكبر أكذوبة صنعتها العلمانية الغربية أنها تحتكم إلى العقل وفى الحقيقة كما ذكرت هي تحتكم حاليا إلى التصويت لأن عقلها لم يصل إلى علم (حقائق).
علمانية التعصب العرقي(1/156)
لو احتكم البشر للعلم الفكري (القرآن والسنة) لقضوا على التعصب العرقي سواء كان على مستوى لون أو جنس أو قومية أو قبيلة او عائلة لأننا سنعلم أن الأفضلية تقاس على أساس التقوى، قال تعالى: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير" سورة الحجرات آية:13 وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية، إنما هو مؤمن تقي، وفاجر شقي، الناس كلهم بنو آدم، وآدم خلق من تراب" رواه الترمذي وقال عن العصبية العرقية "دعوها فإنها منتنة" ولكن الذي حدث هو أن كثيرا من البشر رفضوا العلم الفكري والنور، واتبعوا عقولهم وعقول الفلاسفة، فأوصلتهم العقول العلمانية اللادينية إلى عقائد عنصرية مختلفة، وظهر التعصب القبلي والشعبي والقومي، وأخذت العقول العلمانية تعطي مبررات لهذا التعصب أو ذاك، فأحياناً ترجع للتاريخ وتحاول أن تثبت أن عرقها متميز عن غيره في إنجازاته، وطبعاً في كل تاريخ صفحات سوداء، ولكنها تتجاهلها، أو حتى تمزقها، وفي نفس الوقت تقلل كثيراً من الإنجازات التاريخية للأعراق الأخرى، وتزيد من تركيز الأضواء على صفحاتها السوداء، واستندت عقول علمانية أخرى في تعصبها العرقي للانتماء إلى أرض أو لغة أو لهجة أو نسب وأخذت تبالغ في إثبات "صواب" تعصبها بأدلة هزيلة لا تصمد أمام النقاش الموضوعي.(1/157)
والتعصب العرقي ليس انحرافا بسيطا بل هو ينعكس بصورة واضحة في مواقف سياسية واجتماعية واقتصادية وله تأثيرات سيئة جداً على مستوى وحدة الوطن والأمة والبشرية، فأحد معوقات تقدم العرب مثلاً وجود تعصب عرقي يمنع الاستثمار في أغلب دولنا لغير المواطنين، وأنتج التعصب العرقي التفرق والكراهية والغضب والانتقام والثارات، وأنتج حروبا بين قبائل وشعوب وأمم وألوان، فالحرب العالمية الثانية كان المحرك الرئيس لها التعصب النازي الألماني الذي أستند إلى عقول علمانية لفلاسفة كتبوا الكتب والمقالات عن تميز العرق الألماني، وهذا التخلف العقلي حدث في القرن العشرين، ولو كان الاحتكام للقرآن والسنة لما تجرأ مؤلف على محاولة إقناع الناس أن البشر يتفاوتون في الأفضلية بناء على أعراقهم لأنه سيتهم بأنه جاهل وأحمق، ولم يقتصر الانحراف العرقي على من يؤمنون به عقلياً ، بل هو استغل أيضاً من أصحاب مصالح سياسية أو مالية لتحقيق مصالحهم. وعقائد التعصب العرقي ليست هي الوحيدة المستندة للعقل العلماني بل غيرها كثير جداً، فالفكر الشيوعي مستند للعلمانية، وكذلك الرأسمالي، وفكر التمتع بالشهوات والفساد الأخلاقي يستند إلى اقتناعات مثل تمتع بالجنس والخمر، فنحن نحيا مرة واحدة، ووجدنا من يبذر في المال أو يحسد الأغنياء، أو يتكبر على الفقراء، أو يتكاسل في أداء عمله، أو ينافق لأصحاب المناصب، أو يكون لا مبالياً فيما يحدث لوطنه أو أمته وغير ذلك كثير، وكل هؤلاء أقنعتهم عقولهم أن فيها مصلحتهم، ولو كان الاحتكام للإسلام لما حدثت كل هذه الانحرافات ولما وجدنا من يضع فلسفات لها، ولعلمنا أن المصالح الحقيقية للفرد والأسرة والقبيلة والشعب والأمة البشرية تتحقق باتباع الإسلام الذي يدعو للخير أي للمساواة العرقية والعفاف والتواضع والقناعة والاجتهاد في العمل والتفاعل مع قضايا المجتمع وغير ذلك.
حياة يساري علماني(1/158)
لا تستغرب عندما تقرأ ليساري يروي سيرته الذاتية كيف تحول من الحزب الديمقراطي الشعبي إلى الحزب الاشتراكي الديمقراطي، ثم كيف أثر فيه كتاب " الثورة على الإمبريالية " وأحدث تغيرا جذريا في مواقفه من الإصلاح، ثم بعد ذلك قرأ كتاب ألفه شيوعي من الصين اسمه" ماوتسي تونغ " فأحدث تغيرا جذريا أخر في أسلوب النضال وتأثر هذا اليساري بعد ذلك بإخلاص وآراء المناضل سالم بن جورج. ما قلته هو سير ذاتية من تأليفي ولكنها تعكس نموذجا سائدا في سيرة حياة كثير من اليساريين واليمينيين أي العلمانيين بشكل عام حيث يبنون عقائدهم على كتاب قرءوه لفيلسوف أو ثائر أو قائد تاريخي، وأقول الحمد لله الذي هدانا للنور والحكمة والعلم فجعلنا مقتنعين بحقائق القرآن والسنة فلا نتعرض لتغيرات جذرية في حياتنا، ولا ننتقل من خندق إلى آخر، ولا نجعل أفرادا مهما كانوا مخلصين قدوتنا، ولا نجعل كتابا أو كاتبا يؤثر فينا لأن ما عندهم آراء شخصية وليس حقائق علمية. كما أننا لا تخدعنا " الدعاية " العلنية أو السرية لمفكر أو قائد حزب أو لعقيدة أو لكتاب فعقولنا راقية، وتعرف العقائد والأنظمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية الصحيحة، وتعرف منهج الإصلاح وصفات المنافقين والمؤمنين .....الخ فما الذي سيأتي به كتاب لمفكر أو فيلسوف، وإن كان معه حق في بعض ما يقول فإننا نعرفه ونعرف أكثر مما لديه بمئات المرات، فقد أكمل الله سبحانه وتعالى لنا ديننا، ونعرف أن آراء الشر يختلط فيها الحق بالباطل، والصواب بالخطأ ، كما أن أغلبها تدور في السياسة والاقتصاد أو بالأحرى بعض جوانبهما، ولا شك أن الحياة تتطلب فكرا أشمل وأغنى وأكثر تفصيلا، ويحق لنا أن نتعجب كيف يتخذ بعض البشر من إنسان مهما كان مفكرا وذكيا وقارئا مبادئهم وفيه ما في البشر من علم قليل، فالخبرة الشخصية مهما كانت كبيرة فهي صغيرة جدا، وتعجز عن معرفة طبائع البشر، ناهيك عن حقائق سياسية أو واقع اقتصادي أو قضايا(1/159)
العقيدة، بل بعضهم يجهل حتى معلومات أساسية عن الأفراد المحيطين به، والإنسان العاقل يعرف عجزه وجهله، ومن الخطأ الكبير أن يتم تصنيف أحزاب، ويتوزع الناس إلى تجمعات يسارية ويمينية ووسطية ... .الخ بناء على آراء بشرية لا حقائق علمية ومثل هذه العقائد السطحية تجعل الاختلافات والانشقاقات شيئا طبيعيا بين المنتمين للحزب الواحد فما بالك بين بقية العلمانيين وغيرهم ولو نظرنا للفكر الإسلامي لوجدناه دستورا وقوانين وأخلاقا ومناهج تربوية ......الخ وهذا يعني أن التجمع الإسلامي سيسير في طريقه متماسكا ومتفقا على قضايا كثيرة ، وهناك حدود وضوابط للاختلاف الاجتهادي، فالمبادئ العلمانية ضعيفة تحمل في جوفها عوامل فشلها وتفككها كلما سارت القافلة، ولهذا تنتهي الى انشقاقات وصراعات وتصفيات، وتكون فريسة سهلة لانتماءات عرقية أو طبقية أو استبدادية أو غير ذلك قال تعالى: "مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون" سورة العنكبوت (42) ولا يوجد عند العلمانيين مبادئ تحرم القتل أو الكذب أو سوء الظن أو توجيه الاتهامات بالخيانة والضعف ولن يسلموا من المثالية والخيالية. وتحيرت الأحزاب الماركسية واليسارية في دول العالم الثالث بعد سقوط النظام الشيوعي في " اختيار بديل " للفكر الماركسي،وهذا يعني أشياء كثيرة منها أن ارتباطهم بالفكر الماركسي كان ارتباطا سياسيا أو مصلحيا أو توازنا محليا أو كراهية للرأسمالية وليس اقتناعا عقائديا مبنيا على العلم والتفكير والتحليل والأدلة العقلية . والسقوط " الفكري " للماركسية دليل على ضعفها الشديد وكنا نتمنى أن تحدث صحوة عند الشيوعيين والاشتراكيين بعد اقتناعهم أن فكرهم السابق قائم على الجهل والباطل والخطأ، ولكن بعضهم تحول إلى رأسماليين أو انعزاليين أو عنصريين أو ماديين أو بلا فكر!!.
الديمقراطية أو العلمانية(1/160)
بعض مبادئ العلمانية الرأسمالية صحيحة، ونتفق فيها معها وبعضها كفر وزندقة وجهل وضياع، ومن مبادئها الصحيحة الديمقراطية بمعنى الاحتكام للشعب، وهو مبدأ نتفق معه إلى درجة كبيرة، وليست مطلقة، بمعنى أنه إذا قرر الشعب إباحة الخمر أو الشذوذ الجنسي فهذا نرفضه. ويواجه العلمانيون الديمقراطيون في الوطن العربي مأزقا لن يستطيعوا الخروج منه إلا بالتخلي عن العلمانية، أو عن الديمقراطية، وذلك لأن تبني الاحتكام إلى الشعب ستكون نتيجته تبني المبادئ الإسلامية بغض النظر عن درجة التمسك بها فعلياً لأن شعوبنا مسلمة لا تقبل فصل الدين عن الدولة، ولا تقبل المفهوم العلماني للحرية الشخصية، ولا تقبل تقليد الغرب في عاداته وأخلاقه، وترى في هذه المبادئ الكفر والزندقة والانحلال الأخلاقي قال المستشار محمد المأمون الهضيبي: "وعندنا في مصر 95% أو نحو ذلك من المسلمين اسألوهم هل يرضى أحد أن يطبق عليه غير الإسلام؟ اسألوهم لماذا لا يٌسألون؟ لماذا يسأل الناس عن كل شيء؟! إلا عن دينهم وعن رغبتهم في حكمهم به؟ يقولون الديمقراطية هاهي الديمقراطية قد سقطت على أوسع ما يكون، حتى في البلاد التي تدعي ذلك بدءوا أول أمس وأذاعوا هذا: لا نريد الديمقراطية لأنها ستأتي لنا بالأصوليين"(1) يقصد ما حدث في انتخابات الجزائر 1992 قال الدكتور القرضاوي: والعلمانيون يباهون بأنهم ديمقراطيون، وأنهم أنصار الديمقراطية ودعاتها. والديمقراطية هي النزول على إرادة الشعب.. فما بالهم هنا في قضية تحكيم الشريعة- يخونون مبدأهم، الذي اتخذوه شعاراً لهم؟!!(2)
(1) ص122 المواجهة بين الإسلام والعلمانية محمد صلاح الصاوي .
(2) ص86 الإسلام والعلمانية وجهاً لوجه د. يوسف القرضاوي(1/161)
وقد حدث تصادم في الوطن العربي بين العلمانيين والمتأثرين بالعلمانية وبين الديمقراطية فاختاروا الاستبداد والديكتاتورية، وأصبح الاحتكام هو لحاكم أو حزب أو حكومة، وتم إلغاء أي توجه جاد لتطبيق الديمقراطية أو المطالبة بها، وجعلوا لذلك أسبابا منها أن الشعوب غير واعية، وغير مؤهلة للديمقراطية، ومنها أن الديكتاتورية مرحلة مؤقت، ومنها أن الأخطار الخارجية لا تسمح بهذا الترف المسمى الديمقراطية. ولأن الديمقراطية لها إيجابيات كثيرة منها كسب رضى الشعب والاستفادة من عقول كثيرة وشفافية المعلومات وعلانية الآراء وكلها أمور تساهم في القضاء على اللصوص والمنافقين والفاسدين والفاشلين والمجرمين، فقد أدى الاستبداد إلى انتشار الفساد السياسي والإداري والمالي في الأنظمة العلمانية أو المتأثرة بالعلمانية مما جعلها ضعيفة وفقيرة ومتخلفة تكنولوجياً وإدارياً ولا تجيد غير الكلام والتنظير، وطبقت بعض هذه الأنظمة أشكالا من الديمقراطية الكاذبة بمعنى أن هناك أحزاب ولكنها أحزاب صورية وضعيفة ليست لها أي قواعد شعبية، ولا دور فعلي لها في المشاركة في الحكم. ومن المعروف أن من أساسيات الديمقراطية حرية تكوين الأحزاب، وأن من حق الشعب أن يختار ما يشاء من أحزاب إسلامية أو مسيحية أو رأسمالية أو شيوعية، ولكن هذا لم يحدث في الوطن العربي بل منع تشكيل أحزاب إسلامية، وهذا قيد على حرية الشعب وتركت الساحة للرأسماليين والاشتراكيين والشيوعيين والمنافقين، والطريف أن بعض الأنظمة تسمح بالحزب الشيوعي الذي أنصاره لا يصلون حتى إلى واحد في الألف من الأمة، ويحرم على الشعوب إنشاء أحزاب إسلامية في أمة أكثر من 95% منها مسلمون فهم لا يحتكمون للشعب بل يضعون قيودا تفرض على الشعب المبادئ العلمانية، فعندهم الشعب حر ما لم يخالف مبادئهم ومصالحهم، وهذا ما يفعله كل نظام ديكتاتوري. ولا شك أن الشعب العربي لم يقل حتى الآن كلمته بحرية، وإذا قالها سيثبت(1/162)
للجميع الفشل الساحق للأطروحات العلمانية بمدارسها المختلفة، وقد رأت شعوبنا التطبيق العملي لهذه المدارس ولم تجد ديمقراطية، ولا حرية، ولا عدلا، ولا غنى، ولا قوة، ولا عزا، ولا تقدما تكنولوجيا أو إداريا. فالعلمانية سقطت عملياً ونظرياً وكحكومات وكمعارضة، ويكفي أننا اليوم نادراً ما نجد من العلمانيين الحقيقيين من يصرح بأنه علماني . وإذا أضفنا إلى ذلك أن تحقيق تنمية حقيقية يتطلب بناء قطاع خاص قوي، وأن هذا من الصعب أن يحدث في ظل أنظمة ديكتاتورية فاسدة فِإن الحاجة لإبعاد العلمانية تزداد عند الرأسماليين العلمانيين لأنها تضر مصالحهم. وإذا أضفنا إلى ذلك أن القوة الشعبية الوحيدة من الخليج إلى المحيط هي القوة الإسلامية فإن نهاية العلمانية التي تعاني الآن سكرات الموت أصبحت مسألة وقت وهي لن تجد حتى من يصلي عليها !!
فشل الأحزاب العلمانية العربية(1/163)
تكونت العديد من الأحزاب والتجمعات العلمانية أو المتأثرة بها في الوطن العربي خلال القرن العشرين، وانتهت إلى الفشل الذريع في تحقيق الديمقراطية وحرية الرأي والتقدم التكنولوجي والغنى وحقوق الإنسان وهذا لا يمنع تحقيقها لبعض الإنجازات وتحقيق بعض الإنجازات لا يعني أنها ناجحة فلا يوجد شئ شر كله إلا نار جهنم واستخدمت كلمة متأثرين بالعلمانية لأن أغلب هذه الأحزاب لم تعلن تبنيها للعلمانية ولكنها عاشت بطريقة علمانية بعيدة عن الإسلام وأهدافه وعلمائه. وتعاملت مع الواقع من خلال منهج يتعامل مع الشعارات الوطنية وأهداف الحرية والمساواة والعدل والتحرير والخطابات الحماسية وترك الأمور للقيادة السياسية للحزب أو حتى للفرد الأول في الحزب سواء كان حاكما أو معارضا وجاءت نهاية هذه الأحزاب في الغالب بأيدي أصحابها نتيجة تبنيهم للعلمانية، أو تأثرهم به، فهم مختلفون حتى ولو اتفقوا على بعض الأهداف العامة والتي عادة لا يختلف معها أي مخلص كاستقلال الأوطان وإنصاف الفقراء أو غير ذلك وهذا أدى من أول الطريق إلى ظهور الاختلافات الكثيرة الفكرية والسياسية بين العلمانيين في التعامل مع الواقع والأحداث مما أوجد الصراع والانشقاقات والتصفيات بين أعضاء الحزب الواحد لان الأحزاب العلمانية لا تتبنى عقيدة أن القتل حرام، أو السجن بلا ذنب حرام حتى في التعامل مع المنتمين لها، وليس لها مبادئ أخلاقية هي ملتزمة بها بل كل صفحات الأخلاق غير موجودة في أدبيات هذه الأحزاب أو توجهاتها فقد أصبح أصحابها إما قاتلا أو مقتولا أو هاربا أو معزولا وانتهى الأمر فيها إلى تحكم فردي أو عائلي أو عشائري أو عسكري أو تحالف مع أجانب أو منافقين وأصبح هدفها الوحيد البقاء في المناصب وفتنة المناصب والمال فتنة عظيمة وأقرءوا إن شئتم اعترافات كثيرة لأفرادها في مقالات ومقابلات وكتب لتقتنعوا بأن الرابطة العلمانية ضعيفة وأن العلمانية هي منبع الضعف والاختلاف(1/164)
والجهل والضياع، ولتقتنعوا أن الشعوب لم تتجاوب مع هذه الأحزاب إلا في حالات محدودة وهو تجاوب مع مصلحة الأوطان أكثر من أي شئ آخر ولتقتنعوا بأن هذه الأحزاب أصبحت فعليا نموذجا مثاليا للاستبداد والضعف والنفاق والغموض وانتهاك حقوق الإنسان وفشلوا أيضا اقتصاديا، وأصبحت دولهم من أكثر الدول فقرا وتخلفا، وانتشرت فيها الرشاوى والسرقات ولم يقتصر فشل الأحزاب العلمانية داخل أوطانها بل أيضا اختلفت وتصارعت مع جيرانها أحيانا كثيرة، وساهمت في تطوير الإنتاج العالمي بمصطلحات جديدة للشتم والسخرية والانهزامية، وهذا وغيره جعل المواطن العربي العادي يترحم على أيام الاستعمار، وعلى أنظمة قديمة اتهمت بالرجعية والعمالة قال الدكتور فؤاد زكريا عما حدث في الثمانينات من القرن العشرين (فإن التقدميين، والديمقراطيين، والعلمانيين، لم يكن لهم دور في هذا التحريك المفاجئ للأحداث بل كان يبدأ في الوقت الذي حدثت فيه المفاجأة أنهم وصلوا إلى طريق مسدود لا مخرج منه)(1)
(1) ص 93 الإسلام والعلمانية وجهاً لوجه د. يوسف القرضاوي
وما أكثر ما ينتقد العلمانيون العرب دولنا العربية والإسلامية وتاريخنا وشريعتنا، ونقول لهم بأن البديل الذي تسعون إليه تم تطبيقه في الغرب والشرق وأثبت فشله واضحا في حروب عالمية، وشهوات ومخدرات وشقاء شخصي وتعاسة أسرية، وما تدعون إليه تم تطبيقه في العديد من الدول العربية خلال القرن العشرين وفشل فشلا ذريعا، وليس هدفنا إحراج أحد بذكر أمثلة تفصيلية فالمتأمل في واقع بعض الدول العربية يقتنع بذلك، وهذه تجارب واقعية، وكان كثير من قياداتها مخلصون وصادقون ولكن حققوا الفشل الكبير !!.(1/165)
لماذا أيها العلمانيون الجدد تريدون تكرار نفس الخطأ؟ لماذا لا تسألون العلمانيين القدماء أو من تأثر بالعلمانية لماذا فشلتم؟ لماذا لم تطبقوا الديمقراطي؟ لماذا لم تفتحوا الأبواب للحرية؟ لماذا لم تحققوا التقدم الاقتصادي؟ ولماذا لم تسألوهم لماذا تصارعتم واختلفتم ولجأتم للقتل والتعذيب والسجن فيما بينكم وفي تعاملكم مع الشعوب؟ ومشكلة العلمانيين الجدد أنهم لا يعتبرون أي نظام عربي قديم أو حديث يمثلهم سواء كان رأسماليا، أو اشتراكيا، أو شيوعيا، أو عرقيا، أو غير ذلك ، هم فعلا يتكلمون عن سراب وأحلام وأوهام وظنون وتوقعات لأن ما يريدون لم ينجح أحد في تطبيقه ومع هذا يصرون عليه . وهم يفعلون ذلك لأن الله أعمى بصائرهم ، وهم يفعلون ذلك لأن من طبيعتهم الاختلاف حتى مع أنفسهم وأساتذتهم، فكلما جاءت أمة لعنت أختها . أتمنى أن يستمعوا لما نقول لهم ولا يضعوا أصابعهم في آذانهم!! ... قولوا لنا: لماذا انتهيتم إلى جزر معزولة وأفراد يائسين ومتذمرين وقلقين ؟ وقولوا لنا كم من فتنة سياسية وفكرية كنتم أنتم وراءها ؟ وكم من الاختلاف والتنافر والغضب زرعتموه في الشعوب ؟ ويا ليتكم تؤمنون بالديمقراطية وتحتكموا للشعوب، وإذا فعلتم ذلك فلن تجدوا تأييد لكم فاقتنعوا بحكم الشعوب و وفروا جهودكم . ونحن أمة ذات عقيدة إسلامية، وذات فكر صحيح و واقعي ومعتدل، أخرج الله سبحانه وتعالى البشر به من الظلام إلى النور، ومن الجهل إلى العلم، وهو الفكر الذي جاء به الأنبياء جميعا وسار عليه الصالحون في كل زمان ومكان ، ودخلت علينا في القرن العشرين عقائد علمانية تريد أن تغير عقائدنا، ومبادئنا، فتتهمنا بالتخلف والرجعية سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وتأثر بعض شبابنا بالأفكار العلمانية خاصة منهم من درس في أمريكا وأوربا فعادوا ليشعلوا الفتنة في الأمة، وكان شيئا طبيعيا أن يغضب كل مسلم واع من هؤلاء، ويدخل في صراع معهم لأن مكانة الإسلام عندنا(1/166)
مقدسة، ولأننا أمة نكره الكفر والشرك، ونريد أن نحاربه أينما وجد فكيف نرضى به في أرضنا؟! وسيكون الفكر الإسلامي هو المنتصر إن شاء الله سواء كان الحسم سلميا أو عنيفا ليس فقط لأن المسلمين أصبحوا يزدادون كل يوم في وعيهم وثقافتهم وخبرتهم السياسية والإدارية بل أيضا لأن العلمانيين بحكم طبيعة الفكر العلماني متفرقون ومتناقضون وانعزاليون ويتصارعون فيما بينهم، واتفاقاتهم سطحية وكثير منهم تركوا " النضال " وقضايا الإصلاح واكتفوا بالتنظير والكلام والجدل وتوزيع الاتهامات، فليست لديهم قواعد شعبية، ولا بناء فكري واضح، ولم يعودوا يمثلون للشعوب القدوة في الشجاعة والتضحية والوعي والعلم !!.
العلمانيون هم أهل الفتنة واليأس
قد يدري العلمانيون أو من تأثر بالعلمانية والأغلب أنهم لا يدرون أنهم أحد أكبر أعداء شعوبنا وأمتنا لأنهم أشعلوا كثيرا من الفتن العقائدية والسياسية والاجتماعية مما أدى إلى تفرق أمتنا وشعوبنا إلى أفراد وجماعات وحكومات وتجمعات متناقضة ومتنافرة والتفرق هو العمود الفقري للضعف والهزيمة والتخلف. قال تعالى: (وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين) سورة الأنفال: 46 وإليكم الأدلة:-(1/167)
1- مطالبات العلمانيين بحرية التهجم على الدين، وفصل الدين عن الدولة، ورفض تطبيق الشريعة، وحماية الروايات الجنسية (بحجة الإبداع الأدبي)، وتقليد الغرب في بعض عقائده وعاداته واحتفالاته.. الخ أدت إلى فتن عقائدية واجتماعية والى إشغال الشعوب بقضايا محسومة، ومن المعروف أن الاختلاف العقائدي هو أكثر الأنواع تدميراً للوحدة الشعبية، وأكثرها زرعاً للكراهية والتنافر، وتم استغلال هذه الاختلافات من بعض من فسدت ضمائرهم وأخلاقهم، فزادوا في انحرافاتهم واعتداءاتهم على مصالح الوطن والأمة، واحب أن أذكر أن العلمانيين العرب الحقيقيين قلة قليلة وضعيفة جداً، ولكنهم نجحوا في الهدم وإثارة الشبهات والتشويش على أبصار وعقول فئات أخرى نتيجة جهل الشعوب، وضعف وعيهم واتصالاتهم، فإذا كنا كمسلمين عرفنا بفضل الله سبحانه وتعالى الحق من الباطل، والهداية من الضلال في القضايا العقائدية والتشريعية، فإن العلمانيين يريدون أن نقف ونفكر ونتساءل أين الحق وأين الباطل؟ وما هي الحرية؟ وما هو العدل؟ وهذا بحد ذاته فتنة ناهيك عن إضاعة الجهد والوقت.(1/168)
2- لازال وسيبقى العلمانيون ضعيفين فكرياً وسياسياً، فهم أولاً قليلو العدد، وثانياً متناقضون فكرياً وسياسياً، وفيهم الرأسمالي والاشتراكي والشيوعي وغير ذلك، وأحياناً يسمون القوى المتحالفة غير الدينية، وهذا الضعف انعكس في قدراتهم على تحقيق إنجازات طيبة سواء على مستوى الحكومات، أو الأحزاب، أو حتى النقابات والاتحادات الطلابية. ومن وصل منهم إلى الحكم فشل في تحقيق الإنجازات الطيبة مع ضخامة الموارد التي كانت تحت سيطرتهم سواء كانت بشرية أو مادية. ولا شك أن الضعف الفكري والسياسي سيحد كثيراً من القدرة على وضع رؤية للإصلاح، ووضع الخطط الاستراتيجية والشاملة للتنمية. ومعرفتهم بضعفهم جعلتهم يبحثون عن أي "قوة" ليستفيدوا منها في إعطاء وزن لهم، ولهذا وجدناهم يتحالفون مع حكومات اشتراكية ويسارية، ثم مع حكومات يمينية، وكانوا ضد أمريكا، واليوم أغلبيتهم معها فكرياً وسياسياً، ولم يمانعوا أن تستند قوتهم على أعراق معينة، أو تكتلات سياسية، أو حتى شعارات فكرية، فالمهم أن يبقوا ويعيشوا حتى ولو تنكروا لبديهيات مبادئهم المحدودة، وهذا التقلب أفقد الناس الثقة بهم، كما أدى إلى فتن وضبابية إلى درجة أننا لم نعد نعرف من يحارب من؟! وماذا يريد هذا أو ذاك؟! ومن هو عدو الأمة ومن هو صديقها ؟!(1/169)
3- قدرة العلمانيين الكبيرة لأنهم أبناء الفلاسفة في توجيه الاتهامات، وإثارة الشكوك مما جعلهم يتهمون الحكومات والجماعات والأحزاب والأفراد بتهم متنوعة، فهذا متطرف، وهذا عميل، وهذا ضعيف ، وهذا حرامي، وهذا كذاب، وهذا أحمق، وهذا إرهابي، وهكذا.. فحتى الأعمال الخيرية لم تسلم من تشويه أهدافها مع أن أعمالها ظاهرة جداً في كفالة الأيتام، ومساعدة الفقراء، وبناء المدارس والمستوصفات والمساجد، ولم يقتصر التشكيك على الواقع ومن فيه بل أمتد حتى تاريخنا، وأخذوا يكذبون كل ما فيه من إيجابيات، ويصدقون كل ما كتب عنه من سلبيات، بل يضيفون لها سلبيات جديدة، ولو صدقنا هذه الاتهامات لفقدنا ثقتنا في كثير مما في واقعنا من حكومات وتجمعات وأفراد ومؤسسات، ولتركنا العمل، وتقاعسنا عن المشاركة في البناء، ومن جهل العلمانيين ظنهم أن هذه الاتهامات لن يكون لها نتائج مريرة تفسد الود والوحدة والاحترام والتفاؤل، ومن طبيعة البشر أن يكرهوا من يتهمهم حتى ولو كان صادقاً، فكيف لو كان كاذباً أو جاهلاً يتبع الظنون؟ وكثيرا ما يكون الكلام أشد فتكاً في النفوس والشعوب من الرصاص، ويشعل من الكراهية والعنف الشيء الكثير، ويؤدي إلى التفرق والضعف، ونحن لسنا ضد الحوار العلمي الهادئ الباحث عن الحق والموضوعية والاعتدال ولكننا ضد اتهامات كاذبة وباطلة لعقائدنا وقيمنا وتاريخنا.
4- قال الدكتور فؤاد زكريا "أما التجارب التاريخية، فلم تكن إلا سلسلة طويلة من الفشل إذ كان الاستبداد هو القاعدة والظلم هو أساس العلاقة بين الحاكم والمحكوم والعدل والإحسان والشورى وغيرها من مبادئ الشريعة لا تعدو أن تكون كلاماً يقال لتبرير أفعال حاكم يتجاهل كل ماله صلة بهذه المبادئ السامية"(1) .(1/170)
أي قارئ لهذا الكلام سيصاب باليأس والتشاؤم إذا صدقه، ولكن الحقيقة غير ذلك فقد حققنا سلاسل من النجاح فأنشأنا دولا عظمى، وحققنا الوحدة السياسية لعالمنا العربي عدة مرات، وحققنا كثيرا من العدل والرحمة والشورى ..الخ وحققنا انتصارات عسكرية وتطوراً اقتصاديا وعلميا وثقافيا، فالخلافة العثمانية كانت دولة عظمى لعدة قرون، وغير ذلك كثير، فهل حققنا هذا من خلال الاستبداد والظلم!! ولا شك أن الشورى طبقت مرات كثيرة، وكذلك العدل، وأغلب دولنا كانت العلاقة فيها طيبة بين الحكومات والشعوب وكان هناك مبادئ وأعراف تفرض العدل والاحتكام إلى الشريعة، وكلنا يعرف أن التكافل الاجتماعي قوي في المجتمع المسلم، ومن المعروف أن الإنجازات الطيبة التي تم تحقيقها كثيرة في عصرنا الحالي، ولكن العلمانيين يشككون فيها، أو في أصحابها، فهم يحطمون الأمة باليأس، ولاشك أن الهزيمة النفسية هي من أخطر أعداء الأوطان والأمم، فهي أخطر من الهزائم العسكرية والتخلف التكنولوجي والفقر، ويريد منا أعداؤنا أن نيأس وأن يشك بعضنا في بعض وهذا ما يفعله العلمانيون، بل وما يصرون عليه حتى لا تكاد تجدهم يمدحون أحدا في الأمة، وأمة لا تثق في حكوماتها وعلماء الإسلام وقيادتها لا شك أنها أمة ستبقى ضعيفة، فلابد أن نحذر من البيئة الملوثة التي صنعها العلمانيون فقتلت الحماس والبناء، والعلمانيون هم طابور خامس من حيث يدرون أو لا يدرون .!!
(1) ص169 الإسلام والعلمانية وجهاً لوجه د.يوسف القرضاوي.
بنية العقل العربي
ألف الدكتور محمد عابد الجابري كتابا بعنوان " بنية العقل العربي " ولن أناقش الكتاب الذي جاء في حوالي ستمائة صفحة، ولكنني سأعلق عليه من زوايا مختلفة هي:-(1/171)
1- استخدم الدكتور محمد عابد الجابري مصطلحات فلسفية كثيرة منها الوجود ومشكلة السببية ومشكلة الدلالة والزمان الدائري والعرفان والزمان المنكسر والعرفان الصوفي والمماثلة والبيان والمشكلة الإبيستمولوجية والجوهر والبيداغواجية .....الخ هذه المصطلحات وغيرها كثير أجزم بأنه لا يعرفها الغالبية الساحقة من المفكرين والحكماء والمثقفين فكيف لو أضفنا لها ما يربطها من اقتناعات وتحاليل الفلاسفة الذين لا يعرف أغلبنا أسماءهم ناهيك عن كتبهم وأقول نحن لسنا جهلاء أو سطحيين لأننا لا نعرف ذلك، فالعلم بنوعه الفكري والمادي ليس معقدا، ويمكن أن تتعلم حقائقه بسهولة بدون التعقيد الفلسفي الذي هو بحد ذاته نوع من الغرق في مستنقع الآراء والجزئيات والتناقضات والجهل، وهذا نوع "متطور" من الجهل جاء مغلفا بالمصطلحات والقراءة والكتابة، ولنتذكر أن العلم بشقيه الفكري والمادي بريئان من الفلسفة، فهي لا تنتسب لأي منهما.(1/172)
2- إذا قسمنا العلم إلى نوعين رئيسين العلم الفكري والعلم المادي، فإن طريقنا للعلم الفكري القرآن والأحاديث الصحيحة، وبهما نبني عقائدنا ونظمنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وبالعلم المادي نبني المصانع والمزارع والسؤال الهام هو ما الذي ستعطينا الفلسفة؟ وأي المجالات التي سنبنيها؟ فهي لا تبني لا دنيا ولا آخره ولا علما فكريا ولا علما ماديا فالمنهج الفلسفي قائم على التعقيد والنقد والقيل والقال والجدل والغموض والتناقض، فلا يوجد بها علم، فالفلسفة آراء وليست حقائق، ولا يوجد فيها علماء بل فلاسفة متناقضون فإذا لم يكن يوجد فيها علم ولا علماء، فماذا سنتعلم ؟ إن الفلسفة منهج جاهلي نظري، والإسلام منهج علمي وعملي، وأتمنى أن نقرأ كتاب " بنية العقل العربي " وما شابهه من كتب ونرى بعد ذلك مردودها الحقيقي على علمنا الفكري والمادي، ولا أبالغ إذا قلت أننا لن نجد شيئا، وإذا وجدنا شيئا مفيداً فقد وجده قبل ذلك علماء الإسلام، ولا أقول ذلك من باب الغرور أو التجريح بل من باب بيان الحقائق، ولأن من الخطأ أن نضيع جهودنا ونخسر وقتنا في السباحة في بحور الفلسفة! قال المفكر الفرنسي بليز باسكال: "الفلسفة كلها لا تستحق ساعة تعب" وقال "التفلسف الحقيقي هو الهزء من الفلسفة"(1) وأقول وأكرر أقرءوا الكتب الفلسفية وقارنوا فوائدها إن "وجدت" بالفوائد من قراءة الأحاديث النبوية.
(1) ص 128 المقدمة في فلسفة الدين الأستاذ أديب صعب(1/173)
3- من المعروف أن في تاريخنا الإسلامي علماء الكلام والمعتزلة والجهمية والصوفية والخوارج والسنة والشيعة .......الخ ولسنا في حاجة للتعمق في كثير مما كتب حول هذا الموضوع، فالهداية والنور هو في فهم واتباع القرآن الكريم والأحاديث النبوية الصحيحة، فهذا ما أمرنا به الله ورسوله، ونحن نريد بناء الحاضر والمستقبل لا محاكمة الماضي والتعمق الكبير في جزيئاته الفكرية قال تعالى "تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون"(134) سورة البقرة وعلاقتنا مع الماضي أن نستفيد من خطوطه الرئيسة الفكرية والسياسية فليس من الحكمة أن نغرق في خلافات الماضي أو ماذا قال ابن رشد والغزالي والفارابي وغيرهم ونجهل أساسيات عقيدتنا وشريعتنا، فالعلم الفكري له أولوياته، وهناك الكثير جدا من فضول الكلام والجدل، ونحن بحاجة لأن ننطلق للعمل والبناء.
4- هناك فكر إسلامي و واقع فكري وفلسفة وإسلام وعلمانية وأحداث سياسية وتاريخ وعلوم مادية ونظم سياسية ....الخ وإذا كنا نعرف أنه لا يسمح للطبيب أن يفتي في علوم الهندسة، أو القانون، بل لو مارس عملا فيهما لتعرض للمحاكمة، فإنه لا يجوز للفيلسوف أن يتحدث عن الأديان إذا لم يكن يعرف أساسياتها، ولا يحق للمفكر السياسي التحدث في المجالات العلمية المادية إذا كان لا يفهم بديهيات العلم المادي، وأحد أسباب تخلف أمتنا أن نجد علمانيين يتكلمون في الإسلام، وعلماء إسلام يتكلمون في السياسة، وفلاسفة يتكلمون في كل شئ، وسياسيين يفتون في العقائد، وأساتذة جامعات نظريين يتكلمون عن الواقع ....الخ وما أقوله لا يتعارض مع قدرة القليلين على الإلمام بأكثر من مجال، ولكنني أتكلم عن القاعدة لا الاستثناء فأخذوا العلم من أهله وصدق من قال " لو سكت من لا يدري لاستراح الناس " ومن قال " هؤلاء يفتون في أمور لو حدثت في عهد عمر لجمع لها أهل بدر " فإلى متى يستمر التجرؤ على العلم ؟!.(1/174)
5- يتهم العقل العربي بالتخلف وهو في الغالبية الساحقة برئ من أغلب التهم فإذا تكلم الجهلاء والحمقى والانفعاليون انتقدنا العقل العربي، وإذا تصارع أهل العصبيات العلمية والأهواء والمصالح والمأجورون حملنا العقل العربي الآلام والمعاناة والمهازل وإذا غابت المعاهد العلمية المتميزة أو ضعفت ميزانياتها قلنا بأن العقل العربي لا ينتج ولا يبدع، وإذا سيطر أهل السياسة على أهل العلم واضطهدوهم وأسكتوهم قلنا لماذا لا يتكلم العقل العربي؟ ولا شك أن العقل العربي المسلم أرقى بكثير من العقل الشيوعي والعقل الرأسمالي والعقل النازي .....الخ فنحن أكثر معرفة منهم بالله سبحانه وتعالى وصفاته وأسمائه ونحن نعرف علم التوحيد، وعلم الحرية وعلم العدل وعلم التربية الصحيحة .....الخ فنحن بلا مبالغة أساتذة العلم الفكري، وهم يجهلون أساسيات هذه العلوم، أما مرارة واقعنا فهي راجعة لعدم التزامنا بعقلنا، فنحن نفضل عليه المعاصي من أهواء وعصبيات وشهوات وكسل وتبذير، وما أقوله لا يتعارض مع حاجة بعض المسلمين الملتزمين لتعديلات تزيد من نسبة التفكير والحوار والاجتهاد والفهم الصحيح للواقع، كما أن العقل العربي أثبت " كفاءته " في العلوم المادية بدليل تميز نسبة لا بأس بها من العرب في العلوم والهندسة عندما عملوا في مختبرات الدول الغربية، فالعقل العربي يحتاج البيئة الصحيحة، وهو لا يشكو من عجز بل من عدم الرغبة في الاحتكام إليه، وما ينقصنا كأمة وشعوب هو الإخلاص والعمل لا العقل.(1/175)
6- من الأدلة التي تثبت أن العقل العربي متطور نسبيا هو أن نسبة عالية من السياسيين العرب لديهم فهم صحيح لواقع السياسة الإقليمي والعربي والعالمي، فهم يتصرفون بعقلانية، ومن الخطأ والظلم أن نسلط الأضواء على الانفعالات السياسية الشعبية، فمن الطبيعي أن يتصرف العامة بانفعال وسطحية، وهذا أمر يحدث حتى في الدول الغربية خاصة في وقت الأزمات التي تتعلق ببلادهم، وبالتالي فمن الطبيعي أن يتصرف عامة العرب بانفعال، لأن واقعهم مرير ومعقد، وفيه استفزازات كثيرة ودكتاتورية وكذب ومكر للأعداء ....الخ وإذا تميز العقل الغربي عنا في هذا المجال فذلك راجع لتوفر المعلومات والمعاهد العلمية والتنظيم الإداري، كما أن من المهم أن نذكر أن العجز السياسي العربي الذي يظهر بين فترة وأخرى يرجع لأسباب كثيرة منها: قلة إمكانياته العسكرية والاقتصادية مقارنة بأعدائه، وهذا يجعل هامش الحركة أمام استخدام العقل محدودة، وقد قالت العرب قديما " لا رأي لمن لا يطاع " ونختصر القول، أنه إذا كان بعض السياسيين العرب أثبتوا تخلفهم وحماقاتهم فهناك سياسيون عرب أثبتوا تقدمهم وذكاؤهم.(1/176)
7- الذي يشكو من العجز هو العقل العلماني العربي الذي يتخبط في العقائد والمبادئ، فهو متمزق بين الرأسمالية والاشتراكية والشيوعية والعصبيات العرقية، وهو الذي فشل في أهدافه وشعاراته وحروبه وزعمائه، ومفكريه وما أكثر اقتناعاتهم الفكرية والسياسية والتي عادة ما تموت بين ليلة وضحاها، وما أكثر ما أصابوا الجماهير العربية بصدمات فكرية وسياسية واقتصادية، وكلما هوى لهم صنم عبدوا صنما أخر، وكلما اكتشفوا أنهم يجرون وراء سراب ظهر لهم في الأفق سراب جديد ظنوه ماء ويهمنا هنا الدعاية الكبيرة التي يصنعها العلمانيون لمفكريهم وكتبهم التي تتعلق بالفكر والمبادئ والإصلاح والوعي ....الخ وقولوا لي من المفكرين العلمانيين العرب أثر في الأمة العربية أو حتى في أحد شعوبها؟ وليتنا نقرأ كتبهم حتى نعرف حجم الكارثة! فهذا كتاب يدافع عن العلمانية وهو لا يعرف ما هي العلمانية؟ ولا ما هو الإسلام، وهذا كتاب يتكلم عن التفكير العلمي وحقيقته أنه كتاب سطحي، وهذا كاتب علماني " مبدع " إذا استمعت إليه لا تجد علما ولا ثقافة .....الخ وأقوال: لا تغني ولا تسمن من جوع وفوائدها محدودة جدا، وسلبياتها كبيرة، فهي في أحسن الأحوال ثقافة لا علم، ونقول للعلمانيين المشكلة الأولى التي تواجهها البشرية قديما وحديثا أنها لا تستطيع أن تمنعكم من الكلام والتأليف، والمشكلة الثانية أن الملايين من المثقفين العرب لم يقرءوا كتب هؤلاء " المبدعين " ناهيك عن أن يتعمقوا فيها، ولهذا تبقى للدعاية تأثيرها.
حالة علمانية صعبة(1/177)
قال الأستاذ فهمي هويدي عن الثورة الإيرانية في سنواتها الأولى بعد أن زار إيران عدة مرات وتقصى الحقائق "ومما اكتشفته وأثار ذهني في ذلك الوقت أن نصف المعلومات التي كانت الصحف ووكالات الأنباء الغربية تنشرها، لم يكن له أي أساس من الصحة، بينما النصف الآخر إما مبالغ فيه وإما مصوغ بطريقة يراد بها تشويه وجه الثورة، وتخويف الآخرين منها"(1) وأقول بناء على ذلك أن مناقشة علماني عربي أو من هو متأثر بالعلمانية يجعلك تقتنع أنك تعالج حالة صعبة للأسباب التالية:
(1) ص22 من كتاب طالبان جند الله في المعركة الغلط.
1- المعلومات الخاطئة: كثير من العلمانيين والمتأثرين بالعلمانية يأخذون معلوماتهم واقتناعاتهم الفكرية من مصادر أجنبية بصورة مباشرة أو غير مباشرة، فهم فهموا الفلسفة والدين والأخلاق والحرية والسياسة والديمقراطية والتاريخ والأحداث الحالية.. الخ بناء على معلومات ومعايير أجنبية، وبالتالي فمن الصعب أن يكون عند العلمانيين استعداد لتغيير اقتناعاتهم حتى ولو كانوا مخلصين لأنه حدث لهم غسيل مخ، وقد يكون بعضهم قد قرأ عشرات الكتب، وعمل مئات الحوارات، ولكن إذا كانت المفاهيم التي يزن بها الأمور خاطئة أو كانت هناك معلومات خاطئة فإن إمكانية الوصول للحق والصواب تكون محدودة. ولاشك أن الإعلام الغربي سلاح رهيب في تشويه كثير من المعلومات بصور مقصودة، وغير مقصودة وإذا أضفنا إلى ذلك أن بعض العلمانيين تأثرت عقولهم في فترة مبكرة من شبابهم من خلال الدراسة في الغرب ندرك أننا أمام حالة صعبة.(1/178)
2- الفهم الخاطئ للإسلام: من الغريب فعلاً أن العلمانيين والمتأثرين بالعلمانية من العرب هم أكثر الناس جهلاً في فهم الإسلام، فمن يناقشهم يدرك بسرعة أن ثقافتهم الإسلامية محدودة، وأنهم لا يفرقون بين الشريعة والفقه، ولا بين الدولة الإسلامية والدولة الدينية، ولا بين التطرف والاعتدال، ولا بين الإيمان والكفر، ولا بين النظرية والتطبيق، وهم من أجهل الناس في القرآن الكريم والأحاديث النبوية وتاريخنا الإسلامي... الخ. فالنقاش مع فرد لا يفهم فكرك قضية تحتاج إلى صبر وإزالة شبهات كثيرة من خلال حوارات طويلة ولكن ليست هذه المشكلة الأساسية بل هي في اقتناع العلماني أنه يعرف، وبالتالي لا يريد أن يستمع، ومن لا يستمع كيف سيقتنع؟ ألم أقل إنها حالة صعبة؟!.
3- النقاش السطحي: أدى جهل العلماني بأساسيات الإسلام، واعتماده على معلومات خاطئة إلى امتلاء عقله بشبهات واتهامات كثيرة، وفهم خاطئ لأمور كثيرة عقائدية وسياسية، وأحداث وتاريخ وشعارات وأهداف، سواء في الدائرة الإسلامية أو العلمانية، وإذا حاولت أن تختصر النقاش وتنقله إلى الأساسيات والمبادئ الإسلامية والعلمانية وجدته ينقله إلى نقاط فرعية كثيرة كأحداث سياسية، أو تقييم جماعات، أو أفراد، أو اجتهادات، وهذا فيه إضاعة لأصول الحوار ومنابع الاختلاف الحقيقية، فالنقاش يجب أن يكون فكرياً وجذرياً أولاًً، إن النقاش في الفرعيات والأحداث السياسية محدود الفائدة في الغالب في حين أن النقاش في الأصول الفكرية يحسم كثيرا من الأمور إن شاء الله. والغريب أن أغلبية العلمانيين لا يعرفون العلمانية ولا ما هي أدلتها؟ ولا ما هي نتائجها؟ وإذا كانوا لم يتعمقوا في مبادئهم فهل نستغرب سطحيتهم في فهم الإسلام؟!!.(1/179)
4- "المصالح لا المبادئ" أصبحت العلمانية أحد وسائل الشهرة والمناصب والمكاسب المالية، فهناك من يصفق للعلمانيين، ويدعوهم لمحاضرات ويشجع مقالاتهم، ويمدح كتبهم، وهناك من أصبح رئيس حزب أو اتحاد أو جمعية أو جريدة أو نائبا أو كاتبا بل أصبح انتقاد الإسلام هو ورقة الشهرة لمؤلفين أو أساتذة جامعة تجعل الدول الأجنبية تحتضنهم وتدعوهم وتعتبرهم مفكرين وضحايا الإبداع والحرية. وهناك علمانيون صادقون في اقتناعهم، ولكن هناك من كسب من العلمانية، وحقق مصالح لن تتحقق له بدونها، ولا شك أن الشهرة فتنة، وكذلك المناصب والمال. وتبني البعض العلمانية لأنها تفتح له باب الفساد الأخلاقي والخمر باسم التحرر والحرية الشخصية، ومما يثبت أن للمصالح والأهواء والشهوات دورا كبيرا في حياة أغلبية العلمانيين أن تمسكهم بمبادئهم المعلنة كالديمقراطية والحرية ضعيف، فهو لا يزيد عن "كلام" لا يزعج أشد المستبدين والظالمين فتضحياتهم محدودة أو غير موجودة، أما الصادقون من العلمانيين فاكتفوا بالصمت واليأس والتذمر والعزلة واللامبالاة والانشغال بأهداف شخصية، وكلاً النوعين المنافق والصادق يجعلك تقتنع أنك أمام حالة صعبة! هل تعالجها أم تتجاهلها؟
لماذا أصبحوا علمانيين؟
قد يكون من المهم أن نتعرف على الأسباب التي أدت إلى اقتناع بعض العرب المسلمين بالعلمانية والتي منها:-(1/180)
1- الإعجاب بالنموذج الأمريكي والأوروبي: بعض العلمانيين العرب هم خريجو جامعات أوروبية وأمريكية، وأغلبيتهم الساحقة ذهبوا إلى الغرب وهم شباب صغار، وأعمارهم أقل من عشرين عاماً، فانبهروا بما شاهدوه من حرية رأي، وديمقراطية وتكنولوجيا ونظام وإدارة وغنى وعدل، وقارنوا ذلك بما في أغلب بلادنا العربية من استبداد وظلم وفقر وتخلف تكنولوجي وإداري؛ فكان طبيعياً أن يظنوا أن سبب تقدم الغرب هو مبادئهم العلمانية، وسبب تخلفنا هو مبادئنا الإسلامية، والغريب فعلاً أن العلمانية ليست هي سبب تقدم الغرب، وفي المقابل ليس الإسلام سبب تخلفنا، لأن أغلبنا لسنا ملتزمين بالإسلام كحكومات أو شعوب، وكان من المفروض أن يفهم هؤلاء لماذا تقدم الغرب؟ وفي أي المجالات هو متقدم وأيها متخلف؟ وكذلك ما هي أسباب تخلفنا كشعوب وحكومات؟ ولو فعلوا ذلك لما تأثروا بالعلمانية، ومما يدعو للاستغراب أنهم لم ينقلوا ألينا تقدم الإدارة الغربية، ولا التكنولوجيا الأمريكية، بل ركزوا جهودهم على نقل العلمانية التي هي الفشل العقائدي والأخلاقي الغربي.
2- أحد أهم أسباب استمرار إعجاب العلمانيين العرب بالعلمانية أن النموذج الإسلامي الصحيح غير مجسد بالصورة المطلوبة في أغلب الممثلين للاتجاه الإسلامي كأفراد أو جماعات أو اجتهادات، فهناك تطرف إسلامي كبير أو صغير، وهناك ضبابية فكرية وسياسية لبعض الجماعات الإسلامية، وهناك أخطاء كبيرة من الإسلاميين، وهناك فهم خاطئ لقضايا الحرية والديمقراطية والأحزاب وإذا أضفنا إلى ذلك حملات تشويه مستمرة للإسلاميين من الإعلام الأجنبي، ومن بعض الأنظمة العربية، يصبح من الطبيعي أن ينفر كثير من العلمانيين من الإسلاميين والمبادئ الإسلامية!!.(1/181)
3- أغلب ردود الاتجاه الإسلامي من كتب ومحاضرات ومقالات في بيان خطأ العلمانية ليست بالمستوى المطلوب وقد يكون هذا شيئا غريبا مع كثرة علماء الإسلام ومفكريه، ولكن الغرابة تزول إذا عرفنا أن الأغلبية الساحقة منهم مهتمة بأمور أخرى كالعبادات والأحكام الاجتماعية والاقتصادية والعقائد والفقه والدعوة والأعمال الخيرية، أما من كتب عن العلمانية، وهم قلة فكانت أغلبية كتاباتهم جزئية، وغير عميقة، وغير شاملة، ويمكن أن يضاف إلى قلة اهتمام علماء الإسلام بالكتابة عن العلمانية عدم إداركهم لخطورتها. وكثير منهم لا يعلم أن العلمانية كانت ولازالت أحد أهم أسباب ضعف الأمة لما تثيره من فتن عقائدية وسياسية.
4- أحد مصائب أمتنا هو ضعف الاتصالات بين علماء الإسلام والمتأثرين بالعلمانية، وبين السياسيين والإداريين، وبين الأغنياء والفقراء، وبين أصحاب العمل والعمال، وبين الحكومات والشعوب ... الخ . والحوار ضعيف حتى بين الإسلاميين أنفسهم، ويهمنا هنا الحوار بين المسلمين والمتأثرين بالعلمانية من المسلمين حيث لا نجد حوارات منظمة وعميقة ومفتوحة يتم فيها مناقشة العلمانية والإسلام، والعقل والاجتهاد، والعلم والفلسفة، والحرية والعدل.. الخ. وإذا وجدنا حوارات فهي جزئية وسريعة أو جدلية، أو بين أطراف غير مؤهلة. ومن المعروف أن الانغلاق والعزلة والسرية تؤدي إلى الثقة الكبيرة بالعقائد والاقتناعات والمواقف والفهم والى سوء الظن بالآخرين، والاقتناع بأنهم سطحيون أو أغبياء أو دجالون أو مخدوعون . ولهذا ندعو للحوار والحوار والحوار والحوار، فنحن نحتاج إلى مئات الحوارات العلمية بين كل فئات شعوبنا، ليس فقط في موضوع العلمانية بل في كل المواضيع كالديمقراطية، وحقوق الإنسان، والإصلاح الإداري، والبحث العلمي، والتعليم، والزواج، والعنوسة، والفقر، والتوظيف، والاتصالات، والتخطيط... الخ.
حسم الخلاف مع العلمانيين(1/182)
عندما أدعو إلى تركيز بعض الجهود الإصلاحية في اتجاه هدم العلمانية فذلك ليس لأنها قوية فكريا، بل لأنها سببت أضرار هائلة للبشرية عقائدية ونفسية واجتماعية، فقد اقتنعت بها دول وأفراد، وكما تم إنقاذ البشرية من المبادئ الشيوعية، وهي أحد فروع العلمانية، فواجبنا أن نسعى لإنقاذها من العلمانية الرأسمالية ، ونحن قادرون إن شاء الله على بيان جهلها وخطرها إذا حاربناها بطريقة صحيحة وشاملة وعميقة وليست خاطئة وجزئية وسطحية كما وجدنا في كثير من الكتب الإسلامية التي تطرقت لهذا الموضوع، وأحد أهم وسائل هدم العلمانية هو الوصول إلى تطبيق النموذج الإسلامي الصحيح كأفراد وجماعات وأحزاب وأسر ودول، وعلى كثير من جهود الإصلاح أن تتوجه في هذا الاتجاه خاصة في الدول العربية والإسلامية ، وكما سقطت الشيوعية خلال سنوات قليلة بل شهور قليلة في بعض الدول، فإن العلمانية الرأسمالية ستسقط بإذن الله لأن شرها أخذ يزداد في الشعوب التي تؤمن بها،ولأن الوعي الإسلامي بخطورتها أصبح يزداد أكثر وأكثر، ونقول للعلمانيين العرب هناك عدة وسائل لحسم الخلاف معكم، فاختاروا أحدها أو حتى كلها حتى ننهي الخلاف معكم جذريا واليكم هذه الوسائل:-(1/183)
1- الحسم العلمي: أن يتم التعمق في الإسلام والعلمانية من خلال دراسات علمية جادة وحوار علمي راق يدافع كل طرف فيه عن مبادئه، ويتم النظر في الأدلة العقلية ( العلمية ) التي تثبت صوابه وخطأ خصومه، ولا مجال لآراء خاطئة تقول أن العلمانية ليست ضد الإسلام والإسلام ليس ضد العلمانية، أو أن العلمانية تعنى العلمية والعقلانية والحداثة ......الخ فهذا فهم خاطئ، ومن يقوله لا يعرف ماهي العلمانية أو لا يعرف ما هو الإسلام أو لا يعرفهما معا . ونحن هنا نتكلم عن الإسلام الصحيح لا الإسلام الجامد، أو الرجعي، أو اجتهادات خاطئة. والحسم العلمي هو الذي يجب أن يختاره كل عاقل، وهو يتطلب حوارات شخصية وجماعية وخاصة وعامة وعميقة وطويلة فالموضوع لا يمكن حسمه في ساعة أو ساعتين ومطلوب أن يعطي كل طرف حقه، وأن يختار كل طرف أكثر الناس علما وإخلاصا، والملاحظ أن هذا الأسلوب يكاد أن يكون غائبا لأن الموجود هو تبادل الاتهامات والتشويه، وخلط الأوراق وعندما نقول حوارا علميا فهذا يعنى أنه سيكون بعيدا عن الجدل والجزئيات، ويتم التركيز فيه على الأصول الفكرية للإسلام والعلمانية وماهي أدلتهما العقلية ونصيبها من الصواب أو الخطأ، ولا تستغربوا إذا وجدتم العلمانيين أو المتأثرين بالعلمانية أبعد الناس عن الحوار العلمي الجاد، بل لا يرغبون حتى بالحوار فهذا شئ واجهته شخصيا مع بعضهم.(1/184)
2- الاستفتاء الشعبي: أن يجري استفتاء في الأمة للاختيار بين الإسلام أو العلمانية بعد أن يعطى الطرفان الحرية الكاملة في بيان مبادئهم، ونقد الآخرين، ثم يتم الاستفتاء بين المبادئ الإسلامية والمبادئ العلمانية، وهذا الخيار عادل وحاسم إسلاميا وعلمانيا، ففي الإسلام من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر وفى العلمانية الغربية رأي الشعب مقدس، والتصويت هو الوسيلة المقبولة عندهم للحسم، وهو يتناسب مع إيمان الطرفين بحرية الإنسان وحقه في تقرير مصيره، وقد يقول علماني لسنا ضد الإسلام والدين وهذا فهم متطرف للعلمانية، وأقول قولوا ذلك للناس ولا تقله لي لأنني أعرف العلمانية وأعرف الإسلام، وأعلم يقينا تناقضهما فإذا اقتنع الناس أن علمانيتكم ليست ضد الإسلام وأن فهمنا للإسلام هو المتطرف فسيصوتون لكم، ولنا أيضا الحرية في بيان وجهة نظرنا، وفى استفتاء علماء الإسلام الواعين المخلصين في الموقف الإسلامي من العلمانية مع أن موقفهم معروف ومكتوب ومشهور. قال الدكتور فؤاد زكريا في ختام كتابه: "الحقيقة والوهم" "إن كثيرا من المعترضين على مقالاتي، قد تمسكوا بالحجة القائلة: إن تطبيق الشريعة هو - الآن - مطلب شعبي واسع النطاق، ولست أملك أن أخالف رأيهم في هذه المسألة "(1).
(1) ص 87 الإسلام والعلمانية وجها لوجه د. يوسف القرضاوي
وقال الشيخ محمد الغزالي "وكما قلنا إن الحكم على إرادات الشعوب بالإعدام لأنها تريد الإسلام لا هو ديمقراطية ولا هو شورى ولا هو دين ولا هو دنيا"(1).
(1) ص 114المواجهة بين الإسلام والعلمانية د.محمد صلاح الصاوي.(1/185)
3- الحسم السياسي: الوسيلة الثالثة للحسم هي الحسم السياسي بإيجاد مجالس شعبية منتخبة، ثم تقرر هذه المجالس الموقف من العلمانية، وأعتقد أن هذا الأمر تم حسمه في كثير من الدول العربية وظهر في نتائج انتخابات مجالس شعبية، واتحادات طلابية، وجمعيات مهنية ودساتير وقوانين، ففي الكويت مثلا يسيطر الإسلاميون على اتحاد الطلبة منذ أكثر من عشرين عاما كما أن بعض منافسيه أيضا من الإسلاميين وهذا وغيره كثير في دولنا العربية ويثبت القوة السياسية للاتجاه الإسلامي، بل لا أبالغ إذا قلت أنه ليست هناك مقارنة بينه وبين العلمانيين والأغلبية الساحقة منهم لا تستطيع أن تنافس، ناهيك عن النجاح، وضعفهم واضح حتى داخل أحزابهم وتجمعاتهم، فهم قليلو العدد، ومختلفون حول قضايا كثيرة، وتأثيرهم على حكومات أو قرارات أو أحداث هو تأثير قليل إن لم نقل منعدم، وأي جرد لما حدث في الأمة خلال الثلاثين سنة الماضية يثبت ذلك، أما أصحاب الاتجاه الإسلامي من عقلاء أو متطرفين فهم الذين يملئوا الساحة بالحق والباطل، ويصلحون ويفسدون، ولو أخذنا جانبا واحدا وهو الإنجازات الخيرية التي عملها الاتجاه الإسلامي جماعات ومنظمات وجمعيات وأفراد وقارناها بما قدمه العلمانيون لو جدنا الفرق شاسعا جدا، ويدرك العلمانيون قبل غيرهم أن عدادهم قليلة جدا، وأن الترابط بينهم ضعيف، وأن الاستعداد للتضحية محدود جدا، فهم أهل كلام لا أعمال لأن العمل يتطلب الاقتناع الشديد بالمبادئ أي الإيمان ، والعلمانية عقيدة قائمة على أراء الفلاسفة وما فيها من الظن والشك والتناقض والجزئية وبالتالي سيكون إيمانهم ضعيفا، وكذلك استعدادهم للعمل والتضحية.(1/186)
4- الحسم الثقافي: إذا تم اختيار الحسم الثقافي فسنجد أن عدد الكتب الإسلامية التي تم تأليفها في الوطن العربي أكثر بكثير من تلك التي ألفها المدافعون عن العلمانية من العرب والمحاضرات الإسلامية الأكثر حضورا، والترابط بين المفكرين الإسلاميين أكثر قوة، بل إن بعضهم يتم دعوته لأمريكا وأوربا لإلقاء محاضرات وأينما تنقلت في الكرة الأرضية فإنك تجد كتب ابن القيم والألباني وابن باز ومحمد الغزالي وأبي الحسن الندوى وحسن البنا وغيرهم كثير في حين أن كتب العلمانيين تجدها محدودة الانتشار والتوزيع، وكثير منها لا تجد من يشتريها، أو يؤيدها أو حتى يقرأها، ونظرة سريعة للمؤلفين العلمانيين أو المتأثرين بالعلمانية خلال الخمسين سنة الماضية تكشف لنا أن الأغلبية الساحقة من الناس بل من الجامعيين والمثقفين لم يقرؤوا لهم حتى ولو كتابا واحدا، بل لا يهتمون حتى بالبحث عن كتبهم وقراءتها وأصبح مكانها المتاحف ، أين مؤلفات طه حسين، وساطع الحصري، وفرج فوده وفؤاد زكريا؟!.(1/187)
5- الحسم الرياضي: وهو أن نقوم بعمل مصارعة جماعية بين المسلمين والعلمانيين في الأمة، ومن ينتصر في هذه المصارعة يكون فكره هو المسيطر، وهذه مبارزة عادلة، وتعتمد على القوة والبقاء للأقوى، وعلى المهزوم أن ينسحب من الساحة. ونعلم أن المسلمين أكثر من العلمانيين بآلاف المرات، وأنهم في دقائق ولا أقول في ساعة سيتم هزيمة جميع العلمانيين في الوطن العربي . ذكرت خمسة أنواع من طرق الحسم بين المسلمين والعلمانيين، وهي طرق عادلة، ولا يهمني أن تكون مقبولة من الطرفين، أو مرفوضة، ولكن أردت أن أبين أن العلمانيين لو كانوا يستخدمون العقل والعلم لوفروا جهودهم، ورحلوا من الأمة، فالحقائق الفكرية ضدهم، والشعب ضدهم، وممثلوه ضدهم، والطلاب ضدهم، وعلماء الإسلام ضدهم، والثقافة ضدهم، والتاريخ ضدهم، والحاضر ضدهم، والمستقبل ضدهم .......الخ فهم ليسوا أكثر من ظاهرة صوتية تنتقد وتكتب وتشوه وتتهم وهذا هو الشيء الوحيد الذي نجحوا فيه.
نصائح لليبراليين
لدي المخلصين من الليبراليين صدق وإخلاص للوطن،ورغبة صادقة في الالتزام بالحق والعدل ولديهم تفهم وتقبل لحقوق الإنسان، وإنصاف الأقليات ولديهم ثقافة عالمية، وخبرات اقتصادية وسياسية جيدة، ولكن في المقابل لديهم عيوب فكرية وسياسية أدت إلى ضعفهم وقلة شعبيتهم والتي ظهرت في انتخابات نيابية وطلابية فى العديد من الدول العربية ولهذا سأحاول أن أنصحهم مع اقتناعي بمحدودية استعدادهم لقبول القول ممن يخالفهم ونصائحي هي:-(1/188)
1- من المعروف أن مخالفة عقائد ومبادئ الأمة من الأخطاء التي لا تغتفر، وكما قيل ليس بعد الكفر ذنب فالليبراليون في أغلبهم ينتمون للفكر العلماني سواء بصورة كلية أو جزئية، وهذه خيانة عظمى فكرية للمبادئ الإسلامية. والصراع العقائدي صراع جذري يجب أن يحسم لأحد الأطراف لأنه لا يمكن التعايش معه على مستوى الدولة والشعب، ولا شك أن الأمة العربية بل كل الأمم المسلمة لا تقبل غير الإسلام كفكر ومنهج بغض النظر عن درجة الالتزام العملي به، وهذا يعني أن الفكر العلماني سيتم القضاء عليه بالانتخاب، أو بالقوة، وبالتالي فليختصر الليبراليون الطريق بتبني فكر إسلامي معتدل؛ هذا إذا كانوا يريدون المشاركة في بناء الوطن والأمة، والخيار الآخر أن يبقوا كما هم حاليا يغردون خارج السرب، ومكروهين ومنبوذين كفكر وأفراد!.(1/189)
2- الفكر العلماني فكر ضعيف، وهو عاجز عن تحقيق وحدة فكرية بين العلمانيين ناهيك، على مستوى الشعب أو الأمة، والضعف العقائدي يجعل البناء الحزبي والحكومي ضعيفا، ويكون دور الأفراد في التأثير كبيرا. والإنجازات الكبرى في الدول لا يتم تحقيقها من خلال الثقة بالفرد أو الحزب بل من خلال المبادئ والعقائد التي يتبناها الشعب، فإذا كانت العقائد صحيحة وسامية كالإسلام كانت الإنجازات عملاقة وشاملة، وكلما كانت العقائد هزيلة وجزئية كالشيوعية والرأسمالية كلما كان هناك تخبط وفشل وضياع، وهذا لا يتعارض مع تحقيق بعض الإنجازات الطيبة فليس كل ما في الرأسمالية مثلا شرا كله. وكسب الأصدقاء والموالين الحقيقيين لا يتم إلا من خلال الجانب العقائدي قال تعالى: "وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم انه عزيز حكيم" (63) سورة الأنفال وإذا تم الاعتماد على فكر علماني هزيل تصبح عملية إقناع الناس عملية فاشلة ولهذا نجد الأحزاب العلمانية العربية ضعيفة، ودائما في غرفة الإنعاش إن لم نقل في المقبرة، حتى أصبح استمرارها أو وجودها بغض النظر عن قوتها هو الإنجاز الكبير الذي تفرح به. وهذا لا ينطبق فقط على أحزاب المعارضة العلمانية بل حتى على من وصل منها إلى الحكم، أي أتيحت لها إمكانيات دولة فكانت النتائج متواضعة، فلا زال الفقر والاستبداد والضعف العسكري والسياسي والعلمي هو السائد. فالتجمعات العربية المتأثرة بالعلمانية فى أواسط القرن العشرين كانت قائمة على كلمات عامة مثل وحدة حرية اشتراكية وهذا فشل من أول الطريق، فهي لم تعرف الحق والفكر الصحيح قال الإمام علي كرم الله وجهه:" اعرف الحق تعرف أهله" فلا بد أولا من معرفة الحق ،ولا يمكن إطلاقا تجاهل هذه الخطوة.(1/190)
3- ليبتعد الليبراليون عن المجال الفكري وليركزوا كل جهودهم على الجوانب الفنية والمهنية كالإصلاح الإداري والاقتصادي والعلمي والتعليمي، فهذه أهداف مشتركة بينهم وبين الاتجاه الإسلامي، وهي أيضا أهداف شعبية، وفى هذه المجالات لن يدخلوا في صراع مع الاتجاه الإسلامي بل يمكن أن يتعاونوا معه في حلف كحلف الفضول. وهذه المجالات مما يتناسب مع علمهم وتخصصهم وتحقيق نجاحات فيها أفضل مائة مرة لهم ولأوطانهم من الجدل والكتابة والكلام والشعارات والمعارك التي يدخلونها مع الاتجاه الإسلامي فهم لن يصلوا للعنب، ولن ينتصروا على الناطور، فليبتعدوا عن أمراض الفلاسفة، وليركزوا على ما يمكن أن ينجحوا فيه علما وعملا ،هذا إذا كانوا يريدون أن يكونوا واقعيين فمن الواقعية أن تركز على ما يمكن أن تنجح فيه لا على ما ستفشل فيه.(1/191)
4- وقف كثير من الليبراليين بعد أحداث نيويورك موقفا سياسيا مواليا لأمريكا ومعروف أن الشعوب العربية مشبعة بالعداء لأمريكا، وهذا العداء لم يأت من فراغ، وليس كله مبني على اتهامات باطلة. وهناك حالة من العشق عند كثير من الليبراليين لثقافة أمريكا وفكرها ومنتجاتها، بل حتى للغتها ومواقفها وأراضيها وعاداتها، وستبقى أمريكا دولة لها مصالحها، والتي سيتعارض بعضها مع مصالحنا كشعوب وأمة، وهذا يعني أن على الليبراليين أن يحسموا أمرهم لأنهم لا يمكن أن يكونوا مع مصالح أمريكا وفى نفس الوقت مع مصالح أمتهم العربية، وأن يدركوا أن هناك فرق شاسع بين إقامة علاقات طيبة مع أمريكا أو غيرها وبين أن يكونوا طابورا خامسا لأمريكا، ولهذا ننصح الليبراليين بفك التشابك مع أمريكا وأن يبنوا علاقاتهم بأمريكا من خلال فهم عاقل للسياسة العالمية وأن يقللوا كثيرا من إقتناعاتهم "بالمبادئ الأمريكية" و "الصداقة والسلام والحب .....الخ فهذه الأمور لا وزن كبير لها خاصة مع أمريكا، كما قالت أم جون كنيدي " معك دولار فقيمتك دولار" أي الدور الأكبر عندهم هو للمصالح لا المبادئ.
5- من الواضح جدا أن الليبراليين فئة منعزلة عن المجتمع والأمة بدرجة كبيرة، ليس فقط في عقائدها وثقافتها بل أيضا في علاقاتها وروابطها. ومن بديهيات الإصلاح أنك لن تستطيع المساهمة في البناء، ناهيك عن القيادة، إن لم تتفاعل مع الشعب فلا بد من المعايشة الفعلية حتى نفهم آماله وآلامه وظروفه ومشاكله وآراءه فلا يمكن أن تكون ممثلا لشعب لا تعرفه، ولا يعرفك، أو تنظر بدونية وسطحية لأفكاره وآرائه وتريد في نفس الوقت أن يؤيدك ويساندك. ويكتسب هذا الأمر أهمية خاصة لأن الليبراليين "يقولون" من مبادئهم الالتزام برأي الأغلبية، وهم لا يقصدون بالأغلبية أغلبية الليبراليين بل أغلبية الشعب.
الحوار بين المخلصين(1/192)
اختلاف المخلصين استغله أهل الفساد ممن فسدت ضمائرهم وقلوبهم، ولا ينتمون إلى أي مبادئ، وهمهم هو مصالحهم وشهواتهم، سواء كانت مناصب أو مال أو ملذات وحرص هؤلاء على إشعال الفتن بين المخلصين حتى لا يتحدوا على الحد الأدنى من المبادئ المشتركة بل تحالفوا أيضا مع بعض المخلصين، وصحيح أن الاختلاف بين المخلصين سيبقى موجودا للأبد، ولكن هذا لا يمنع أن يتحد أكبر عدد من المخلصين ضمن عقيدة صحيحة تحقق العدل والحرية، وتحارب الباطل والخطأ بكل أنواعه العقائدية والسياسية الموجودة في بيئة المخلصين ويمكن تحقيق هذا من خلال الدراسات المتعمقة للمبادئ والحوارات الراقية والشاملة والمنظمة، ولاشك أن المخلصين أصحاب الضمائر النظيفة هم أهل الصدق والعلانية والصراحة، وسيتراجع جزء منهم عن مبادئه إذا اقتنع أنها كانت خاطئة، وما نقوله حدث مع أفراد وجماعات وشعوب على مدى التاريخ، وهو يحدث كل يوم، وأهم مشكلة أن كثيرا من الحوارات بين المخلصين إما أن تكون بين أفراد ليس لديهم علم كاف في مبادئهم وإما أن يكون حوارا ناقصا أو جزئيا أو غير منظم أو سريعا أو هدفه إحراج الخصم أو هزيمته أو تؤثر به أحداث سياسية، وإرهاب فكري، أو سياسي والغريب أننا نادرا ما نجد حوارا منظما واعيا وعميقا يتعمق في أسباب الخلاف بين المخلصين، ويحاول أن يحدد أين الخطأ الفكري؟ وهذا ليس فقط على مستوى العالم بل أيضا على مستوى الأمة العربية، وعلى مستوى الشعب الواحد. ولاشك أن من يبني مبادئه على أدلة عقلية وتفكير ونقاش لا يخشى من الحوار العلمي الهادف، ولهذا نكرر الدعوة بضرورة عمل حوارات مكثفة ومستمرة ومنظمة بين مختلف القوى الشعبية، فنحن نعيش في كارثة من الجهل سببها الفهم الخاطئ، والمعلومات المزورة، والاتهامات المتبادلة، والظن السيئ، والشك ودسائس الأعداء، فلنفتح أبواب الحوار بيننا، ولنضاعف الاتصالات، ولنركز أولا على الأسس الفكرية التي ننطلق منها، وأنا متأكد أن(1/193)
كثيرا من العلمانيين والمتأثرين بالعلمانية ممن نجدهم الآن ليسوا مستعدين للحوار العلمي والواثقين جدا من إقتناعاتهم سيكتشفون أنهم ليسوا بعيدين عن الضياع الشيوعي العلماني الذي ثبت فشله الذريع ويمكن عمل حوارات مكثفة حول قضايا إدارية واقتصادية واجتماعية لا اختلاف بين العقلاء على ضرورة العمل المشترك لتحقيق الأهداف الوطنية والقومية، وهناك مساحة كبيرة من القضايا الغير فكرية يمكن الاتفاق حولها بين المخلصين . وندعو أيضا للحوار بين الإسلاميين أنفسهم فهم وإن لم تكن لهم مشاكل فكرية جذرية إلا أنهم بحاجة إلى تقوية الاتصالات بينهم والابتعاد عن الانعزالية والثقة الزائدة بالاجتهادات والتعصب لجماعة أو علماء أو مذهب، وهم أيضا بحاجة ماسة للحوار مع الشعوب والحكومات والأحزاب ومن الضروري جدا أن نعرف أن كثيرا ما يكون الحق مخلوطا بالباطل، أي أن لا يتم أخذ الأمور إما أبيض وإما أسود وأنه من خلال ضوابط ومواثيق واتفاقات وخطوط وحوار وتنازلات يمكن الوصول إلى حلول لكثير من مشاكلنا وقضايانا، والمطلوب تغييرات هائلة في تنظيم وإدارة علاقاتنا مع بعضنا البعض حتى نخرج من الاختلافات التي أعاقتنا والتي كثير منها لن يحسم بالقوة، أو بالانتخاب كما جربنا بل لابد من الحوار، ومما يشجع على الحوار أننا لسنا مختلفين حول الالتزام بالإسلام،ولسنا مختلفين على أنواع كثيرة من الحرية، ولسنا مختلفين على أننا نواجه مشاكل كبيرة من الفقر والتخلف التعليمي والتكنولوجي والاجتماعي والإداري وما أدعو إليه من بديهيات الأمور، وهناك من طبقه وحقق نجاحا كبيرا.
غورباتشوف والعلمانية(1/194)
من المعروف عن الكاتب المصري أحمد رجب أنه كثير الانتقاد لدكاترة الاقتصاد في مصر، ويجعلهم أحد أسباب تخلف الاقتصاد المصري لأن آراءهم ومقترحاتهم غير صحيحة وقد اتفق معه غوربا تشوف الرئيس السوفيتي الذي جرب مقترحات خبراء الاقتصاد السوفيتي، فأصابت الاقتصاد السوفيتي الكوارث، مما جعل الأستاذ أحمد رجب يذكر هذه الطرفة عن غوربا تشوف في مقاله المشهور 1/2 كلمة: "نقلت وكالات الأنباء نكتة لجوربا تشوف يقول فيها: "إن الرئيس الفرنسي له مائة صديقة بينهن واحدة مصابة بالإيدز لا يعرفها ميتران، والرئيس الأمريكي له مائة حارس بينهم إرهابي لا يعرفه بوش أما هو (جورباتشوف) فعنده مائة خبير اقتصادي بينهم واحد ذكي لا يعرفه" وواضح أن الشكوى أصبحت عالمية من دكاترة الاقتصاد" وإذا عزلنا الجانب الساخر في كلمة غوربا تشوف فإن هناك كثير من الفوائد يمكن استفادتها من التجربة البشرية الواقعية مع دكاترة الاقتصاد، والتجربة خير برهان، ومن هذه الفوائد ما يلي :-(1/195)
1- أن هناك نسبة عالية جداً من الأخطاء في آراء واجتهادات خبراء الاقتصاد والعقائد وعلماء الاجتماع العلمانيين وخاصة في أسس علمهم ومبادئهم والتي تنعكس في فشل كبير نتيجة تطبيق نظرياتهم ومقترحاتهم وآرائهم أي بكلمات أخرى إن نسبة الجهل كبيرة عند هؤلاء في مجال تخصصهم. فهؤلاء ليسوا علماء حقا حتى ولو حصلوا على شهادات الدكتوراة، وهذا يرجعنا إلى القضية الأولى في العلوم الفكرية الاجتماعية: ما هو العلم الفكري؟ وكيف نصل إليه؟ وما هو الجهل؟ ومن هم أهله؟ ولنتذكر كلام الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: "أعرف الحق تعرف أهله". والحق هو العلم، والباطل هو الجهل والعلمانية جعلت بعض الناس علماء وهم ليسوا كذلك، وما ينطبق على الخبراء السوفيت في الاتحاد السوفيتي ينطبق على فلاسفة ومفكري الغرب في مجال العقائد والحياة الاجتماعية، فالفشل في حياة الإنسان الغربي واضح جداً في هذه المجالات، فقد تحول الإنسان الغربي إلى إنسان ذي عقائد مشوهة ومتناقضة أنتجت القلق والمادية والأنانية والانغماس في الشهوات.
2- تقدم أمريكا في مجال الاقتصاد لا يرجع "للعبقرية" العلمانية في مجال العلم الفكري، فالمبادئ الرأسمالية كانت معروفه قبل ظهور العلمانية، حيث كان هناك النظام الاقتصادي الإسلامي الذي يؤمن بحرية التملك والتجارة والمنافسة... الخ بل إن الإقطاع الذي كان في أوروبا في العصور الوسطى هو نوع متطرف من الرأسمالية، وبالتالي فالرأسمالية ليست اختراعا علمانيا بل هي المبادئ السائدة في العالم، والفكر الشيوعي هو الفكر الاستثنائي. وما فعلته أمريكا وأوربا هو تنظيم وتطوير حركة رأس المال، ونجحوا في ذلك لدرجة كبيرة، وهذه أمور في أغلبها فنية وإدارية، ولا علاقة لها بالعلمانية، وهذه أمور لا يعارضها الدين، بل يدعو إليها.(1/196)
3- إذا كانت نسبة الباطل والخطأ كبيرة في العلوم الفكرية عند المتخصصين فيها في الغرب والشرق فإن الكارثة تكون أكبر عندما يتكلم المتخصصون في مجال فكري ليسوا متخصصين فيه كما نشاهد في عصرنا هذا من دكاترة في الهندسة (علم مادي) يتكلمون في العقائد، أو عندما يتكلم دكاترة في القانون في مجال السياسة، وكثيرا ما وجدنا من العلمانيين والمتأثرين بالعلمانية من يتكلمون في مجالات كثيرة كالسياسة والتاريخ وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم والمشاكل والاجتماعية، والغريب أنهم يتكلمون بثقة كبيرة وجدل حاد مع أنهم يعترفون أنهم ليسوا متخصصين،وما عندهم مجرد آراء، وليس حقائق، بل كل رأي عندهم يعتبر حقيقة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، وصدق من قال من المسلمين عندما رأى التجرؤ على العلم الشرعي من بعض الناس حيث قال: "إن هؤلاء يفتون في قضايا لو حدثت في عهد عمر رضي الله عنه لجمع لها أهل بدر" أي يجمع لها أهل العلم والأمانة. وقيل قديماً: " لو سكت من لا يدري لاستراح الناس".
من يعارض الحل العلمي؟(1/197)
يروى أن في الحرب العالمية الثانية عندما كانت ألمانيا تحتل فرنسا، ركب رجل فرنسي وضابط ألماني وامرأة عجوز وفتاة جميلة فى عربة أحد القطارات ، ولما دخل القطار نفقا مظلما سمع الجميع صوت قبلة ثم صوت صفعة شديدة ، وبعد خروج القطار من النفق كانت أثار الصفعة واضحة على وجه الضابط الألماني .... والآن ماذا حدث ؟ لقد ظن الضابط الألماني أن الرجل الفرنسي قبل الفتاة فظنت الفتاة أن الضابط هو الذي قبلها فصفعته، وظنت العجوز أن الفتاة صفعت الضابط بعد أن قبلها وظنت الفتاة أن الضابط قبل العجوز فصفعته وطبعا كان كل واحد يعتقد أنه عرف الحقيقة ، والحقيقة أن الرجل الفرنسي قبل يده ثم صفع الضابط الألماني، وواصل القطار رحلته والكل يعتقد أنه عرف الحقيقة . وأخشى أن يستمر القطار العربي في السير والكثيرون منا يجهلون الحقيقة . حكاية الرجل الفرنسي تدعونا للابتعاد عن السطحية والاستعجال في الوصول إلى الاقتناعات والعقائد، ويدرك أهل العلم في القضايا الفكرية والسياسية والاجتماعية ......الخ أن من الخطأ في أحيان كثيرة إطلاق الاتهامات الشمولية، كأن تقول عن دولة أنها فاشلة وكذلك عن التراث أو الانفتاح أو تقليد الغرب أو الحرية أو العدل أو حقوق الإنسان أو حوار الحضارات .....الخ فلا بد من تحديد أو تفصيل الموضوع، فليس كل ما تفعله هذه الدولة شرا وخطأ، وليس كل ما في تراثنا جميلا، والانفتاح له ضوابط، وهكذا وإذا فعلنا ذلك من خلال دراسات علمية عميقة وشاملة فإن كثيرا من القضايا الخلافية سيتم حسمها لأن الأمور ستكون واضحة، وسيتكلم العلم لا الآراء والظنون، فكلما تعمقنا أكثر ظهر الحق وظهر الباطل، واختفت المعلومات الخاطئة والآراء الباطلة والعقائد المنحرفة، والغريب فعلا أن الغالبية الساحقة من المثقفين لا يتعمقون في المواضيع المطروحة، شاهدت هذا في مؤتمرات وندوات واجتماعات ومقالات وكتب وانتخابات .........الخ ولو طبقنا دعوة التفصيل(1/198)
والبحث العلمي على العلمانية، وفتحنا ملفها ورقة ورقة لعرفنا أن العلمانية ليست هي العلمية أو العالمية أو الحداثة أو الاسلوب العلمي أو الديمقراطية أو العلم التكنولوجي، ولعرفنا أهمية قراءة الواقع والاجتهاد ومكانة العقل في الإسلام، ولعرفنا أن هناك فرق بين الثقافة والعلم، ولاكتشفنا أن هناك فهم خاطئ للعلمانية عند كثير من الإسلاميين والعلمانيين ومن الخطأ أن نناقش موضوعا كبيرا ومتشعبا من خلال حوار سريع، أو مقال، أو لقاء تلفزيوني، أو غير ذلك ،فالأمور لا تؤخذ بعجالة إلا إذا كنا نريد أن نبقى في دائرة الجهل، ونستمر ولسنوات طويلة في تكرار نفس المواضيع والمشاكل والاتهامات. ولا أبالغ إذا قلت بأن ثمانيين في المائة(80%) من الكتب التي تناقش قضايانا تفتقد العمق والتفاصيل والشمولية والموضوعية والمعلومات الصحيحة، فما أكثر الكلام، وما أقل الحق والصواب، فيه وأغلب الأطراف المختلفة تتعصب لمصالح وأهواء وانتقام وعقائد وأعراق وعصبيات سياسية وفكرية .........الخ وهدفها هو تحقيق النصر على الأعداء والخصوم لا البحث عن الحق والانتصار له . الطريق إلى حل المشاكل والاختلافات والصراعات سواء كانت عقائدية أو سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو شخصية هو طريق واضح ومعروف . وهناك ضمائر فاسدة يجب أن نبعدها عن طريقنا، وكذلك علينا أن نبعد الحمقى والمغرورين والمتطرفين من المخلصين، وإذا فعلنا ذلك فمن السهل جدا الوصول للحل العلمي من خلال الخطوات التالية :-(1/199)
1- يوجد العلم في عقول العلماء سواء كانوا علماء الإسلام أو الاقتصاد أو الإدارة أو غير ذلك قال تعالى : "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون" (43) سورة النحل فلا بد إذا من إيجاد معاهد ومراكز علمية يجتمع فيها هؤلاء العلماء بصورة دائمة أو جزئية، والغريب أننا نفتقد وبشدة غالبية هذه المراكز، وعلماؤنا مشتتون في جامعات أو وزارات أو شركات وهم مشغولون في التدريس، أو الأمور الإدارية، أو التجارة ،أو غير ذلك. وتحقيق قفزة هائلة في طريق الحل العلمي يتطلب تجميعهم في معاهد هدفها حل مشاكل المجتمع وتطويره، وهذا ينقذنا من مصيبة تحدث سياسيين وكتاب وأساتذة جامعات في مجالات ليست في مجال علمهم واختصاصهم، وهذا أحد أسباب ضياع العقل العربي.
2- لا يكفي أن يكون الإنسان عالما في مجال حتى يتكلم فيه، وخاصة عندما نتكلم عن موضوع متشعب وذي علاقة بواقع الناس، وبتخصصات علمية أخرى، وحتى نلغي أو نضعف هذا النوع من الجهل فلا بد من تشكيل فرق عمل علمية من العلماء والمتخصصين ممن يشهد لهم بالموضوعية والإخلاص في المعاهد العلمية للعمل كفريق كبير ومتعاون ومنظم لدراسة القضية المطلوبة، ويعطى لهذا الفريق الموارد البشرية والمالية الكافية، والتي قد يصل بعضها إلى مليون دينار إذا كانت القضية كبيرة ومتشعبة وبهذه الطريقة سنقوم بتجميع المعلومات الصحيحة ومناقشتها بموضوعية وهدوء وشمولية وعمق وتفرغ وصبر وهذا سيقربنا كثيرا من الحل العلمي، وقد تأخذ بعض القضايا سنة أو سنتين أو حتى أكثر وهذا هو الوضع الطبيعي الذي غاب عن واقعنا وجعل كثيرا منا يتبنون عقائدهم بناء على كتاب قرؤوه، أو قول سمعوه أو موقف عايشوه أو طرف استمعوا له.(1/200)
3- خلال مدة دراسة القضية المطلوبة وكجزء لا يتجزأ من الحل العلمي علينا مشاورة أهل الحل والعقد في الموضوع خلال دراسته سواء كانوا سياسيين أو اقتصاديين أو شيوخ قبائل أو رؤساء أحزاب وجماعات أو غيرهم، فالحل العلمي يتعامل مع الواقع والأطراف التي ستنفذ الحل، فالحل العلمي هو حل واقعي وليس مثاليا وليس معنى ذلك أنه يرضى " بلا ضوابط " أهل الحل والعقد على حساب العلم والحقائق، بل الهدف أن يتعامل مع الممكن والمقبول أكثر مما يتعامل مع الآمال والمرغوب، وكلما زاد الوعي والضمير في أهل الحل والعقد كلما كان الحل العلمي أكثر قربا من الحق والصواب . أما إذا افتقد الحل العلمي أهدافه ومبادئه فلا يصبح حلا علميا بل دجلا سياسيا يحرق أصحابه قبل أعدائه !!.
4- إذا نظرنا لواقع شعوبنا وأمتنا سنجد أن " الحل العلمي "الذي جاء في دراسات محلية أو أجنبية لقضايانا هو في الغالب حل غير علمي لأنه لم يأت بناء على معلومات صحيحة، وتحاليل دقيقة وشمولية، أو قام به غير متخصصين، أو تم الاستعجال في الوصول إليه، أو لم يكونوا موضوعيين فيه، أو لم تدرس جوانبه الواقعية بصورة صحيحة أو غير ذلك، وهذا هو أحد أسباب فشل كثير من الدراسات وتقارير اللجان وقرارات حكومية وقوانين تشريعية ومواقف سياسية، وهذا هو أحد أسباب وضع كثير من الدراسات والأبحاث والتقارير على الرف، ورفض توصياتها ومقترحاتها.(1/201)
5- من الأمور الهامة جدا في الوصول إلى العلم هو أن نكون صادقين في نوايانا، وأن يكون هدفنا رضى الله سبحانه وتعالى، وأن نلتزم قولا وعملا باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم قدر ما نستطيع، وإذا لم نفعل ذلك فلن نهتدي للحل العلمي أبدا قال تعالى: "إن الله لا يهدي القوم الفاسقين" وقال تعالى: "إن الله لا يهدي القوم الظالمين" وقال تعالى :"والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا "وقال الإمام أحمد ابن حنبل رضي الله عنه عندما سئل من نسأل بعدك ؟ فقال سل عبد الوهاب قيل : انه ليس له اتساع في العلم، فقال أبو عبدالله : انه رجل صالح مثله يوفق لإصابة الحق"(1)
(1) ص 10 كتاب الورع للإمام أحمد بن حنبل دراسة وتحقيق الأستاذ محمد السيد بسيوني زغلول
وباختصار فإن العلم نور، والنور مرتبط بالطاعات، ولا نور مع المعاصي، بل معها الجهل والظلام، ألا هل بلغت اللهم فاشهد.
6- من الضروري أن يعطي المسلمون اهتماما خاصا لاكتساب العلم والتقانة في مختلف المجالات التخطيطية والإدارية والسياسية والصناعية والزراعية .....الخ وهذا يتطلب ميزانيات كبيرة جدا للمعاهد العلمية والتكنولوجية وربطها بصورة صحيحة بالتنمية واحتياجاتها، وهذا ما لم تفعله كثير من الدول النامية، ولهذا بقيت نامية وتقدمنا كمسلمين في العلم الفكري يتطلب منا الاهتمام بالدراسات والأبحاث العلمية في المجالات المتقدم فيها الغرب كالعلوم التقنية والاقتصادية والإدارية التي يصرف عليها الغرب مئات المليارات سنويا في مجال البحث العلمي هذا بالإضافة إلى مئات المليارات على التعليم والتدريب ولهذا تأتي كثير من دراساته عميقة وشاملة بعكس الفقر المدقع الذي تعيش فيه إمكانياتنا البحثية والتعليمية والتدريبية.(1/202)
7- لا يقتصر أهمية الحل العلمي على القضايا الشعبية والحكومية الكبرى، بل هو ضروري جدا في حياتنا كأفراد وأسر وأصدقاء لأن كثيرا منا وصلوا إلى عقائدهم واقتناعاتهم وآرائهم دون أن يسلكوا طريق العلم، فهم قرءوا كتبا مشوهة، أو اعتمدوا على إعلام كاذب، أو درسوا مناهج ضائعة، أو ناقشوا أناسا جهلاء، أو اعتمدوا على تجارب شخصية، أو صدقوا شعارات وأهدافا عامة ......الخ ولهذا نجد المواقف الشاذة والاقتناعات المتطرفة في التعامل مع أمة أو شعب أو حزب أو جماعة أو حكومة أو فكر أو اجتهاد أو دنيا أو آخرة أو التراث أو التاريخ أو المستقبل أو المال أو الشهوات او المناصب أو اليأس أو غير ذلك ، تلفت حولك وتأمل وستجد الكثير وستقتنع أن دور العلم في حياتنا لا زال ضعيفا مع وجود المدارس والجامعات والصحف والمجلات.
هكذا يكون الحوار بين الحضارات(1/203)
اختلافنا كإسلام ومسلمين مع الآخرين دولا وشعوبا وأفرادا ليس هو اختلاف حول حقائق الهندسة والطب والزراعة والإدارة والتجارة والاستثمار .....الخ وليس هو في أساسه اختلاف حول مصالح سياسية واقتصادية، وليس هو اختلاف في مواضيع التاريخ والثقافة والفنون والعادات ......بل هو اختلاف عقائدي بين الإسلام وكل ما يخالفه من علمانية ومسيحية ويهودية وبوذية واشتراكية وشيوعية ......الخ وهو اختلاف جذري وعميق، لا مجال فيه للتكامل والتنازلات المتبادلة لأنه صراع بين الحق والباطل، ولكم دينكم ولنا ديننا، ومن الخطأ أن نتعامل معه كمسلمين تحت تأثير الهجوم الغربي الحالي علينا لنقول لا يوجد بيننا وبينكم صراع واختلاف، ونحن لسنا ضد عقائدكم الضالة، وسنغير مناهجنا التعليمية التي تتهمكم بالكفر والضلال ، فإن فعلنا ذلك فنحن نكذب عليهم وعلى أنفسنا، ولن يصدقوننا، ولن نصدق نحن ذلك . وآيات القرآن الكريم واضحة جدا في بيان طبيعة الاختلاف، ولن نستطيع كبشر تغيير حقائق القرآن، ومن يريد منا أن ينسلخ عن دينه أو أن يرفض بعض عقائده فليفعل، وما نقوله لا يتعارض مع أن نوضح موقفنا المعارض للإرهاب والتطرف باسم الإسلام، ولا يمنع من أن نسلط الأضواء على ما يدعونا له الإسلام من بناء العلاقات الطيبة بين البشر، ورفض الظلم والعدوان. إن الحوار بين الحضارات يجب أن يركز على الأسس العقائدية للإسلام والرأسمالية والشيوعية والبوذية ....الخ وما هي أدلتها على صواب مبادئها، وما هو نصيب هذه الأدلة من العلم والعقل، وأقول: الأسس العقائدية لأن المناقشة في الفروع والتفاصيل محدودة الفائدة، ولا تؤدي إلى حسم الاختلاف، وهي تصب في بند الثقافة لا في بند العلم، ولا شك أننا إذا استطعنا أن نعد أنفسنا والبشرية لحوار راق وعلمي ومنظم وصريح تعطى فيه مختلف الأطراف حقها من الحوار باحترام، فإننا نخدم البشرية أكبر خدمة، لأننا نساهم في إخراجها من الظلمات إلى النور،(1/204)
فالإنسان الغربي مثلا إنسان ضائع عقائديا وقلق نفسيا، وتعيس اجتماعيا، ولا شك أن معرفة العلاقة الصحيحة مع الله سبحانه وتعالى، هي أهم ما يحتاجه البشر وهذا ما يجب أن يكون الحوار بينهم حوله، وهذا هو ما فعله الأنبياء، وهو أفضل الأعمال عند الله سبحانه وتعالى لأنه من خلاله سنصل إلى الحقائق الفكرية التي تحقق سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، وستحدد الحقائق الفكرية المفاهيم الصحيحة للعدل والمساواة والإرهاب والجهاد وحقوق المرأة والحقوق والواجبات الزوجية والمفاهيم الصحيحة لتربية الأطفال، وستحدد الموقف الصحيح من الربا والزنا والخمر والتعصب العرقي ......الخ وهذا هو التقدم الإنساني الحقيقي، وهو أهم من التقدم التكنولوجي وأفضل البشر من عرفوا الحقائق الفكرية، وآمنوا بها وطبقوها، وسيبقى الاختلاف العقائدي موجودا، فهناك من لا يريد أن يقتنع مهما رأى من أدلة، وواجبنا هو إنارة الطريق للعقول والقلوب التي تريد الحق، وتبحث عنه، وأتيح للبشرية اليوم وسائل اتصالات كثيرة ومتنوعة، ومن تواصل جماعي وفردي ما يجعلها مهيأة لحوارات علمية جادة ،وبالتالي على كل طرف أن يحضر الأدلة التي تثبت صواب عقائده ،والأدلة التي تثبت خطأ ما يخالفها. إذا كان هذا هو ما يجب أن يكون موضوع الحوار بين الحضارات، فإن الواقع يقول أن ما يحدث مختلف، لأننا نشاهد ونسمع من يدعو أولا لحوار بين المسلمين أنفسهم، ونقول له افعل ذلك ،ولكن هذه حوارات متوازية وليست متوالية، أو متناقضة، وهناك من يدعو لأن نبدأ أولا بإصلاح واقعنا الإسلامي المرير لأن الآخرين سيرفضون الاقتناع بما نقول من حقائق إذا كان الواقع لا يعطي صورة جيدة عن مبادئنا، ونقول نحن نتكلم عن فكر وحقائق وأدلة علمية وليس ممارسات و واقع ،وهناك من يدعو لأن نهتم أولا بطرح حلول لواقعنا وكيف ننقله من استبداد لحرية، ومن تخلف وضعف تكنولوجي وإداري وسياسي إلى تقدم، ونقول هذه قضايا مهمة جدا ولكن ليس(1/205)
مجالها حوار الحضارات ، وهناك من يرى أنه لا مجال لحوار بين الحضارات لأن الحضارة الغربية مسيطرة سياسيا واقتصاديا، ولأن حضارتنا الحالية ضعيفة ومستسلمة، ونقول نحن لا نبحث عن القوة المادية بل عن القوة الفكرية، والذي سينتصر هو من يملك الأدلة العقلية العلمية على صواب مبادئه، وهذا أمر لا علاقة له بالقوة والضعف، وبالكثرة والقلة وسيرة الأنبياء تثبت أنهم بدؤوا ضعافا، وحاوروا شعوبا وملوكا، وأيضا ليس مجال حوار الحضارات القضايا السياسية كقضية فلسطين أو أمريكا والإرهاب أو المؤامرات الأمريكية على العالم العربي، ومن الخطأ أيضا أن يهتم حوار الحضارات بتحديد معاني مصطلحات كثيرة مثل الحضارة والمدنية والتقدم والثقافة وماذا قال هذا المفكر أو ذاك الفيلسوف، فهذه أمور غرق فيها الفلاسفة، وكثير من المفكرين، ولا فائدة منها لأن الحوار هو حول ما هي الأدلة على صواب أو خطأ الإسلام والعلمانية والبوذية ....الخ لأن الحوار بين" الحضارات " هو الحوار بين العقائد المتناقضة وأيضا ليس هدف الحوار محاكمة الماضي وما فيه من انحرافات وأخطاء وإعلان اعتذارات متبادلة بين المسلمين والمسيحيين، أو غيرهم، لأننا نريد أن نبني الحاضر والمستقبل . ولا يصلح لحوار الحضارات المتعصبون ممن ينتسبون إلى الإسلام والمسلمين ولا يصلح له العلمانيون والمتأثرون بالعلمانية من بني جلدتنا لأنهم ليسوا ممثلين للإسلام والمسلمين ولعل من الأمور الغريبة أننا نادرا ما نجد من علماء الإسلام ومفكريه من يتقن فن الحوار مع الآخرين كعلم وكأسلوب مع غزارة ما عندنا من علم وأدلة علمية وعقلية وحكمة وأخلاق وتراث، وعلى سبيل المثال كثير من المسلمين يركزون جهودهم في الدفاع عن دينهم كعقائد وأحكام، ولا يعرفون كيف ينتقدون عقائد الآخرين ومبادئهم بطريقة صحيحة تركز على أدلتهم الواهية، وهذا نجده واضحا في حوارهم مع العلمانيين، ومثل هذا الأسلوب يجعل الحوار محدود الفائدة ولا يؤدي(1/206)
إلى حسم القضايا المختلف حولها، وقد استخدمت في كتابي " عجز العقل العلماني " أسلوب النقد الهجومي للعلمانية وهو أسلوب يختصر الوصول إلى الحقائق بدرجة كبيرة جدا . وأطالب بأن نأخذ المبادرة في قضايا كثيرة، ولا تكون أعمالنا ردود فعل لأفكار وأحداث ومواقف فرضها الآخرون، فمثلا: لماذا لا نقترح على البشرية قوانين تحرم استغلال أجساد النساء في الدعاية والأفلام؟ ولماذا لا نطالب الأمم المتحدة بتشريعات تمنع القمار والعري؟ ......الخ وإذا فعلنا ذلك سيعرف العالم من يدافع عن عبادة الله وحده، ومن يدافع عن الفساد العقائدي والأخلاقي.
باختصار نحن بحاجة إلى حوار يسلط الأضواء على الخلافات الحقيقية، ويتكلم بصراحة وباحترام وبأدلة عقلية وعلمية وحتى الآن مازلنا بعيدين عن ذلك لأننا نجتهد كأفراد لا كمؤسسات تؤمن بالتخطيط والتنظيم والتدريب والتطوير والاستمرار، ونتمنى في النهاية أن نفتح الحوار مع العالم كله شرقه وغربه وشماله وجنوبه وألا نركز كل حوارنا أو أغلبه مع الغرب.
حالة علمانية صعبة جدا
من المستحيل أن تتحاور العقول لتصل إلى الحقائق إذا فقدت بعض هذه العقول مبدأ الاحتكام إلى الأدلة العلمية، وأخذت تستبدلها بشبهات واعتراضات لا يوجد لها أي دليل علمي، وتعالوا في مناقشة ما يطرحه بعض العلمانيين في نقاشاتهم من شبهات:-(1/207)
1- طريقة حسم النقاش مع العلمانيين وغيرهم يجب أن تستند إلى حسم النقاش في قضيتين أساسيتين وهما بحث الأدلة التي تثبت أو تنفي وجود الله تعالى كخالق لهذا الكون، وكذلك الأدلة التي تثبت أو تنفي صدق محمد صلى الله عليه وسلم، والابتعاد كليا أو شبه كلي عن الأدلة العلمية التي تثبت قضايا عقائدية أو تشريعية كتحديد معنى الحرية الصحيحة، أو العقوبات الصحيحة، أو الأنظمة السياسية العادلة، أو تطبيقات حالية، أو تاريخية .....الخ لأن النقاش في هذه المواضيع لا يحسم الاختلاف الجذري، ولأن من لم يقتنع بالأساس لا فائدة من اقتناعه وإيمانه بأجزاء هنا أو هناك.(1/208)
2- مع علمنا باقتناع أغلب العلمانيين بوجود الله سبحانه وتعالى إلا أن هناك من العلمانيين من لا يؤمن بوجوده، وإذا قلت لهؤلاء أن وجود بشر وحيوانات ونباتات وأرض ونجوم وكواكب ....الخ وهي تنسجم مع بعضها البعض من خلال نظام دقيق ومتشعب وعظيم، وهذا يدل على وجود خالق لديه علم وقدرة ، رفض هذا الدليل القاطع الذي آمنت به الأغلبية الساحقة من البشر من المؤمنين بالأنبياء والرسالات السماوية ومن غيرهم من أديان أخرى ومن كثير من العلمانيين ورفض هذا الدليل القاطع الذي يسره الله سبحانه وتعالى للإنسان البسيط وللعالم يرجع إلى أحد احتمالين أن الله سبحانه وتعالى أعمى بصيرة وعقل هؤلاء حتى لا يرون أعظم حقائق الكون، أو هو الجهل الشديد بالحقائق الإحيائية والكيميائية والفيزيائية والهندسية والفلكية .....الخ التي تحرك ما في هذا الكون من كائنات ومكونات فلو عرفنا القليل مما يحدث في أجسامنا من أمور لاقتنعنا بوجود وعظمة الخالق، قال تعالى: "سنريهم آياتنا في الأفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد" (53) سورة فصلت ولنتذكر أننا نادرا ما نجد إنكار الخالق عند المتخصصين في الطب والفيزياء والفلك والزراعة .......الخ في حين أننا نجده عند بعض من هم متخصصون بالفلسفة والاقتصاد والسياسة لأن المجموعة الأولى تتعامل مع علم حقيقي فتدرك عظمته وعجز عقولها وما نقوله لا ينفي وجود من ينكروا وجود الله سبحانه وتعالى فيمن تخصصوا في العلوم التطبيقية، ولكن المقصود أن أغلبية من تعمق في العلوم التطبيقية يعلم عظمة الخلق ومحدودية العقل البشري قال تعالى : "وما أوتيتم من العلم إلا قليلا" (85) سورة الإسراء والقاعدة الأساسية التي ننطلق منها ليست هي رأي عالم يؤيد أو يعارض، بل ما هي الأدلة العلمية التي تثبت هذا أو ذاك لأنه لا يوجد شيء سواء كان حقا أو باطلا إلا وله مؤيدون ومعارضون، فمن المستحيل عقلا أن يوجد هذا(1/209)
الكون بلا خالق، ولو قلنا أن الطائرة صنعت صدفة أو صنعتها الطبيعة لسخروا منا لأنها شيء منظم ومعقد نسبيا فكيف بصناعة إنسان عجز كل علماء الطائرات بل كل علماء الأرض مجتمعين عن صناعة إنسان واحد مع أنهم يعلمون أنه مصنوع من الماء والكربون ......الخ ولا يوجد دليل علمي أن الكون خلقته الصدفة! أعطوني دليلا يثبت ذلك؟! لا يوجد! كما أن القول بأن الكون خلقته الطبيعة كلام غير صحيح فما هي الطبيعة؟ هل هي الشمس أو المجرات أو الأرض أي هي خلقت نفسها، وهذا أمر يستحيل عقلا فإذا كان هذا الدليل "وجود المخلوقات" لا يقنع الزنادقة فهذا يعني أنهم لا يحتكمون إلى الأدلة العلمية والعقل، وبعض هؤلاء الزنادقة يحاولون نفي وجود الخالق بكلام غير علمي كأن يقولون إذا كان هناك خالق فلماذا خلق الإنسان المعوق والفقير، ولماذا هناك شر وظلم، ولماذا نجد بعض من يؤمنون فقراء جدا وبعض من يكفر به أغنياء جدا فهذا ينفي العدل والرحمة؟ وأقول أولا هذا الكلام ليس دليلا على نفي وجود الخالق، وكان المفروض أن يقولوا نحن خلقنا هذا الكون أو هذا الكون خلق نفسه أو غير ذلك وهذه أمور يرفضها العقل قال تعالى: "أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون". (35) سورة الطور أما نفي وجود خالق بإثارة قضايا وشبهات أخرى كوجود الظلم والفقر وغير ذلك فالجواب على ذلك هو موجود في آيات القرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم فالدنيا دار اختبار وبلاء بالخير والشر، وهناك جزاء للصابرين والشاكرين، وهناك نعم عظيمة أعطاها الله سبحانه وتعالى في الحياة الدنيا للمؤمنين.(1/210)
3- الموضوع الثاني الذي يجب أن يتركز عليه الحوار هو صدق الأنبياء، وما هي الأدلة العلمية على صدقهم ؟ ونجد هنا العلمانيين ممن يؤمنون بوجود الله وهم الغالبية لا يريدون اتباع الأنبياء مع اعترافهم أنهم أنبياء وصادقون، ولكنهم يحاولون أن يقصروا دعوة الأنبياء على العبادة وهذا شيء غير صحيح بدليل آيات القرآن وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وبدليل ما حدث بين الأنبياء وقومهم كما حدث بين موسى وفرعون ونقول بأن أدلة صدق محمد صلى الله عليه وسلم واضحة، وأن الأنبياء أتوا بمعجزات كإحياء الموتى وعصا موسى وغير ذلك، حتى يصدقهم الناس بأنهم ليسوا سحرة أو منجمين أو غير ذلك، ومن المهم جدا أن نذكر أن الناس في عصور الأنبياء ليسوا سطحيين أو ساذجين، وفي سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ما يثبت ذلك، فهم شككوا في ما يقوله من قرآن كعقائد وأحداث، واتهموه بالسحر والرغبة في السلطة، بل والجنون، وأنه أخذ القرآن من بشر وغير ذلك، ونقول من لا يريد أن يتبع الحق والعلم والعقل يثير الاتهامات الهزيلة لأنه لا توجد أدلة تثبتها وأدلة صدق الرسول كثيرة أهمها وجود هذا القرآن بين أيدينا، وبعض العلمانيين يرفضون هذا الدليل ويقولون مثلا نحن أجانب لا نعرف العربية، وبالتالي فلا نعرف إعجاز القرآن اللغوي ونقول هل تريدون أن ينزل القرآن بلغة كل قوم ولو كان هؤلاء العلمانيون عربا لقالوا: نعم نقدر أن نأتي بمثل هذا القرآن دون أن يفعلوا، وأقول القرآن كتاب معجز، ونعلم نحن العرب بأنه ليس كتاب عاديا أنتجه البشر لأننا سنكون قادرين على تقليده والتحدي بالقرآن واضح جدا وهذا دليل ملموس ومشاهد ولا أدري لماذا لا يتجمع الملاحدة بما لديهم من أموال وإمكانيات ليهدموا هذا الدليل، ويهدموا الإسلام، ويبتعدوا عن الجدل البيزنطي والكلام النظري، ونقول لهم: ما هو الدليل الذي تريدونه ؟هل تريدون أن يعود عيسى عليه السلام ليحيي الموتى؟ أو تريدون أن تروا الله جهرة؟(1/211)
ونقول من يريد أن يصل إلى الحق والصواب فالحق واضح وطريقه معروف، وأعطانا الله سبحانه وتعالى العقل حتى نستخدمه ونعرف الحق من الباطل، ولكن من يريد أن يكابر ويكفر فمهما رأى من أدلة فلن يؤمن كما أخبر الله سبحانه وتعالى بالقرآن الكريم، ولا شك أن أدلة صدق الرسول صلى الله عليه وسلم كثيرة، وفي سيرته الأخلاق الرفيعة، والعلم والرحمة بالبشر والحيوان، وفي شريعة الإسلام الاعتدال والحكمة والعقلانية، وغير ذلك وليس هذا مجال التفصيل، ولا شك أن للبشر المؤمنين بالأنبياء عقول وأدركوا صدق الأنبياء وأدلتهم، وهذا ما فعله اليهود والمسيحيون والمسلمون وغيرهم.(1/212)
4- من يقتنع من العلمانيين بوجود الله سبحانه وتعالى ثم يرفض تصديق الأنبياء نقول إذن لماذا خلقنا الله ؟ هل طلب الله منا أن نكون علمانيين ؟ وما هي المبادئ الصحيحة التي علينا أن نسير عليها وتحدد لنا العقائد والأحكام الصحيحة ؟ وهل نختار ما نشاء من أنظمة الحكم والعقوبات ؟ وهل خلقنا الله سبحانه وتعالى عبثا وسيكون الموت نهايتنا ؟ وهذه الأسئلة وغيرها تعني أن من واجب العلمانيين أن يقفوا ويعلنوا أنهم ضائعون، ولا يعرفون لماذا خلقهم الله ؟ ولم تعط عقولهم أي أجوبة، وعليهم أن يقولوا أيضا أنه لا يوجد أساس علمي لكل مبادئهم لأن منبعها الظن والشك والتصويت، وأقوال الفلاسفة، وليعلنوا أيضا أن عقلهم أثبت وجود الله ،وهذه الحقيقة الوحيدة التي يؤمنون بها، وما عداها مما يقولون ليس حقيقة وعلما بل آراء متناقضة، والكارثة هنا هو أن ما يقولونه من اتهامات لا تنتهي كانتقاد بعض الأنبياء بل كثير من أحكام الشريعة الإسلامية أو التصفيق والتأييد لهذا الزنديق أو ذاك في أقواله هو آراء وليست حقائق، أي هم يعترفون بأن العقل لا يثبت ما يقولون، ومع هذا يقولونه، ويؤلفون الكتب ويكتبون المقالات، وهذا قمة الجهل لأنه جهل بالجهل قال تعالى: "ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا " (72) سورة الإسراء وأقول: لو أنصف هؤلاء العلمانيون لقالوا ليس من العقل والعقلانية والموضوعية أن نؤمن بالعلمانية الرأسمالية أو غيرها أو نتكلم عن العدل والحرية والمساواة، أو نضع الدساتير والقوانين التي تحكم الناس، أو نحكم على المواقف السياسية والأفراد وهم لم يفعلوا ذلك بل أقاموا بناءهم الفكري والسياسي كأفراد و دول على الظن والهوى واندفعوا يتعاملون مع الواقع بعقول هزيلة ضائعة.(1/213)
5- إذا وصلنا بالأدلة العقلية إلى إثبات وجود الله سبحانه وتعالى، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم فإننا سنعرف أجوبة على أسئلة كثيرة مثل كيف خلقنا الله؟ ولماذا خلقنا؟ وكيف نبني حياتنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية على أسس صحيحة ؟ ولماذا هناك شر وخير وغني وفقر ؟ وسنعرف كيف نربي أطفالنا؟ وما هي الحقوق الزوجية الصحيحة ؟ وسنعرف ما هي الأخلاق الفاضلة وأهميتها ؟ وسنعلم أن الإسلام رحمة لكل البشر وغير ذلك .كثير.
6- المسلم الواعي بنى فكره على أدلة صحيحة على وجود الله سبحانه وتعالى، وصدق الرسول، وانطلق بعد ذلك من القرآن والسنة لأن ما بني على صواب هو صواب، وثقته في علمه وفكره تأتي لأنه ثبت عنده بأدلة علمية وليس إيمانا وراثيا والثقة ليست غرورا أو تعصبا أو عنادا أو إيمانا أعمى فهو ليس مستعدا بأن يسمع، أو يقرأ كل ما قال الزنادقة والملاحدة وما ألفوه من كتب حديثة وقديمة حتى يستمع إلى الرأي الآخر لأنه استمع لمن هم مثلهم قديما وحديثا فإلى متى يستمع ويقرأ؟ وهل سيقضي حياته كلها ليقرأ سخافات وأوهام وشبهات هؤلاء ؟ وقد ذكر القرآن الكريم كثير من الشبهات التي يثيرها الكافرون سواء في قضايا الخلق أو في التصديق بالأنبياء وما يقوله الملاحدة اليوم هو ما قاله أسلافهم وأقول وأكرر بالإمكان إثارة الاتهامات الكثيرة لأن بالإمكان أن يقال هناك تعارض بين آيات القرآن، أومن يثبت أن القرآن وصل لنا كاملا أو من يثبت أنه كان هناك أنبياء، أو ليس من العدل أن يكون هناك طلاق أو غير ذلك ولا وقت عندنا نضيعه للاستماع لمن يشكك في وجود الجن بعد أن ثبت وجودهم بالقرآن ولا مجال لتحريف الكلام عن معانيه ومقاصده ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم.(1/214)
7- أدعو جادا العلمانيين المؤمنين بوجود الله سبحانه وتعالى لمناقشة العلمانيين الزنادقة في حقيقة وجود الله وسيكتشفون أن هؤلاء لا يتبعون العقل والأدلة العلمية الواضحة جدا وليستفيد العلمانيين المؤمنين من هذه التجربة ليشكوا في اقتناعاتهم وأدلتهم " العلمية " التي يستندون عليها في فصل الدين عن الدولة واتباع النموذج العلماني الأمريكي.
كتب للمؤلف
1 - الطريق إلى الوحدة الشعبية "دعوة لبناء الجسور بين الاتجاهين القومي والإسلامي".
2 - الطريق إلى السعادة.
3 - إصلاح الشعوب أولاً.
4 - لا للتعصب العرقي.
5 - عجز العقل العلماني.
6 - الكويت الجديدة.
7- العلمانية في ميزان العقل.
8 - تطوير البحث العلمي الخليجي "تحت الإعداد".(1/215)