كتاب
العفو والاعتذار
لأبي الحسن محمد بن عمران العبدي
المعروف بالرقام البصري صاحب ابن دريد
حققه وقدم له
الدكتور عبد القدوس أبو صالح
دار البشير
الطبعة الثالثة
1414 هـ - 1993 م(/)
الجزء الأول من كتاب العفو والاعتذار تأليف أبي الحسن محمد بن محمد بن عمران البصري(1/25)
بسم الله الرحمن الرحيم
(1) باب العفو والاعتذار
قال الشيخ أبو الحسن محمد بن محمد بن عمران البصري: اعلم أن العفو من الله عز وجل عن العباد تجافيه [.. .. .. .. ..] وهو من العباد ستر بعضهم على بعضٍ. يقال: ((عافى الله فلاناً)) أي: أعفى الله فلاناً. كما يقال: ((قاتله الله)) أي: قتله الله. ومعنى ((أعفاه الله)) أي جعل له استطاعةً يعفو بها، أي: يلبس بها العافية وأصل(1/27)
((الاعتذار)) من ((عذرت الدابة))، و ((عذرته)) أي: جعلت/ له عذاراً يحجزه عن الشراد.
فقولهم: ((اعتذر الرجل فعذرته)) أي: احتجز بالقول وغيره مما قذف به من الجناية، ((فعذرته)) أي: جعلت له بقبول ذلك منه حاجزاً بينه وبين العقوبة أو العتب عليه. يقال: ((عذرته أعذره عذراً ومعذرةً وعذرةً وعذرى)) قال الشاعر:(1/28)
قالت هنيدة لما جئت زائرها ... هلا رميت ببعض الأسهم السود(1/29)
لله درك إني قد رميتهم ... لكن حددت ولا عذرى لمحدود
ويقال في المثل: ((العذرة طرف البخل)) أي: الاعتذار. وفي المثل: ((أبى الحقين العذرة)) يضرب للرجل يعتذر/ بأن ليس عنده وهو عنده. وأصله أن رجلاً ضاف قوماً، وقد حقنوا لبناً لهم، فاعتذروا إليه، وقالوا: ليس عندنا ما نقريك. فقال: أبى الحقين العذرة، أي: اللبن الذي حقنتموه يأبى اعتذاركم إلي ألا شيء عندكم. يقال: ((اعتذرت من الذنب)) و ((تعذرت منه)) بمعنى واحد. وقال الشماخ يصف ناقةً:
كأن ذراعيها ذراعا مدلةٍ ... بعيد الشباب حاولت أن تعذرا(1/30)
أي: تعتذر. وقال آخر في مثله:
كأن يديها حين يقلق غرضها ... يدا نصفٍ غيرى تعذر من جرم
أي: تعتذر. وقولهم: ((تعذر علي الأمر)) و ((تعذرت/ الحاجة)) من هذا، أي: احتجز أن يقضى. ويقال: إن البكر من النساء سميت ((عذراء)) لأنها متعذرة الإتيان. ويقال: سميت ((عذراء)) لأنها بعذرتها بعد. و ((العذرة)): الحاجز من اللحم والدم الذي يشد مسلكها. يقال: ((فلانٌ أبو عذرة فلانةٍ وأبو عذرها)) إذا كان هو افتضها، ففرج تلك العذرة. وأكثر ما يقال: ((عذراء)) للبكر التي قد بلغت مبلغ النكاح، ألا ترى قول النابغة:(1/31)
فنكحن أبكاراً وهن بإمةٍ ... أعجلنهن مظنة الإعذار
أي: البلوغ الذي يكن به عذارى. وإنما يصف نساءً/ سبين، فنكحن غصباً قبل أن يظن لهن أنهن عذارى. ويقال: ((الإعذار)) –ها هنا-: الختان. يقال: ((أعذرت الغلام)) إذا ختنته. فمن زعم أن ((الإعذار)) في بيت النابغة: الختان رواه:
*فنكحن أبكاراً وهن بآمةٍ*
أي: بعيبٍ، لأنهن غير مطهراتٍ. و ((الآمة)) بهمزةٍ ممدودة، وهي –ها هنا- العيب. قال عبيد:
مهلاً أبيت اللعن مهلاً ... إن فيما قلت آمة
ومن روى: ((بإمة)) مشددة الميم بهمزةٍ واحدةٍ مكسورةٍ فإنه أراد: النعمة.(1/32)
يقال: ((أعذرت الجارية والغلام إعذاراً)) إذا قطعت ذلك منهما./ ويقال للطعام الذي يعمل في الختان: ((الإعذار)) قال الراجز:
كل الطعام تشتهي ربيعة ... الخرس والإعذار والنقيعة
ويقال للأتراب من الناس: ((هم عذار عامٍ واحدٍ)). ويسمى سقوط الحنك الأعلى على الأسفل حتى يحجز اللهاة أن يسوغ في الحلق طعامٌ أو شرابٌ: ((العذرة)) وهو الداء الذي يعالج منه النساء الصبيان برفع لهواتهم بالإصبع. وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه ، فقال لأم قيسٍ بنت محصنٍ: ((لا تعذبن أولادكن بالدغر)) أي: برفع(1/33)
اللهاة، وأمرها أن تدخن الصبي بالعود الهندي. يقال: ((عذرت/ الصبي أعذره عذراً)) إذا رفعت عذرته بإصبعك، قال جريرٌ:
غمز اين مرة يا فرزدق كينها ... غمز الطبيب نغانغ المعذور
((النغانغ)): لحم اللهاة، واحدها ((نغنغ)). و ((العذرة)) خصلة الشعر التي بين معرفة الدابة وناصيته من هذا لأنها حدٌ حاجزٌ بين شيئين، قال العجاج:
*ينفضن أفنان السبيب والعذر*(1/34)
ويقال لفناء الدار: ((عذرةٌ)). قال الحطيئة يهجو قومه:
لعمري لقد جربتكم فوجدتكم ... قباح الوجوه منتني العذرات
/ يريد منتني الأفنية بما يطرحون فيها من الأقذار. وقال كثيرٌ:
إذا سلف منا مضى لسبيله ... حمى عذرات الدار من يتخلف
وفي الحديث: ((اليهود أنتن خلق الله عذرةً)) يريد أفنيةً. وإنما سمي ما يخرج من الإنسان: ((عذرةً)) من هذا، أنهم كانوا يطرحونه بأفنية الدور، فسمي باسم الموضع الذي يلقى فيه، كما سميت المزادة التي يحمل فيها الماء ((راويةً)). وإنما ((الراوية)): الجمل الذي يحمل مزادة الماء فسميت باسم الجمل.
و ((العذارة)): القطعة المستطيلة من الأرض، قيل لها/: ((عذارٌ)) كأنها حاجزٌ بين شيئين، ويجمع ((عذرٌ)). وينشد أصحاب المعاني أبياتاً لا أدري لمن هي؟.. فيها:(1/35)
عذبوا شمسهم يومهم ... بتباريح فآبت في عذر
يريد: أن هؤلاء القوم أثاروا الغبار فطمسوا به عين الشمس يومهم أجمع، فكأن الشمس لكثرة الغبار المتكاثف الذي قد غطاها ((آبت في عذرٍ)) أي: قطعٍ من الأرض مستطيلةٍ، فكأنها معذبةٌ بسترهم إياها. و ((عذارا دجلة)): جانباها اللذان يحجزان الماء فيها أن يفيض على وجه الأرض.
و ((العاذر)): ميسمٌ من مياسم الإبل، قال الفرزدق:
وكم من قلوصٍ قد تمششت نقيها ... إليك بها في موضع الرحل عاذر(1/36)
وإنما سمي هذا الميسم ((عاذراً)) أن بني الأب يكون ميسم أبيهم واحداً ما لم يقتسموها، فإذا وقعت القسمة قال أحدهم لصاحبه: ((أعذر عني))، أي: سم ميسماً يعرف به إبلي من إبلك. فكأن قول بعضهم لبعضٍ: ((أعذر عني)): اجعل لنفسك علامةً تكون حجازاً بين إبلي وإبلك. ويجمع ((عاذرٌ))هنا على ((عواذير))، قال أبو وجزة السعدي:
إذ الحي والحوم الميسر وسطنا ... وإذ نحن في حالٍ من العيش صالح
وذو حلقٍ يقضي العواذير بينه ... يلوح بأخطارٍ عظام اللقائح
/ فقوله: ((يقضي العواذير بينه))، أي: يعرف كل إنسانٍ إبله، فتحجزه عن إبل أخيه.. يدل على ما فسرت من اشتقاقه. قال الآخر –وأحسبه محدثاً-:(1/37)
فخذ القليل من البخيل وذمه ... إن البخيل بما أتى معذور
((معذورٌ ها هنا: موسوم السمة التي تسمى ((عاذراً))، لا يريد: ((معذورٌ)) من العذر. ويقال: إن ((معذوراً)) ها هنا من ((عذار الدابة)). ويسمى موضع العذار من الدابة: ((المعذر))، قال امرؤ القيس:
حر المعذر أشرفت حجباته ... ينضو السوابق زاهقٌ فرد
وموضع العذار من الدابة من الإنسان يقال له: ((العذار))./ يقال: ((غلام معذرٌ)) إذا نبت الشعر على عذاره.
ويجوز أن يكون سمي ذلك الموضع ((عذاراً)) لأنه حد للشعر لا يتجاوزه، قال الشاعر –وهو جرير-:
أجدك لا يصحو الفؤاد المعلل ... وقد لاح من شيبٍ عذارٌ ومسحل(1/38)
و ((العذرة)): عذرة الجوزاء، وهي خمسة كواكب بيضٍ أسفل من الشعرى العبور في المجرة تقابل سهيلاً، سميت ((عذرة)) –فيما أرى- لأنها آخر كواكب، قال الساجع: ((إذا طلعت العذرة، لم يبق بعمان بسرة، إلا رطبةٌ أو تمرة)). ويقال للجوزاء: ((العذراء)) بما فيها من الكواكب/ التي يقال لها: ((عذرة الجوزاء))، كما يقال: ((فتاةٌ عذراء)) إذا كانت بعذرتها، ويقال: سميت الجوزاء ((العذراء)) لأنها في صورة إنسانٍ على كرسيٍ، وعليه تاجٌ. قال الشاعر يصف دياراً خربت بنوء العقرب وبنوء الجوزاء.. برياح نوء هذه، وأمطار نوء تلك:
كساهن أري القلب أهداب ثوبه ... ولم تدع العذراء فيهن معلما
((الأري)): عسل النحل، يقال: ((أرت النحل تأري أرياً)).(1/39)
وقال بعض اللصوص يذكر تعفيتها الآثار:
جزى العذراء عنا الله خيراً ... كما أغنت عن الحبل الجذيم
هذا لص كان يخاف أن يقص أثره فكان يجر خلفه/ حبلاً مقطعاً ليعفي أثره، فلما طلعت الجوزاء استغنى بتعفية نوئها الآثار عن الحبل. ويقال: أراد الحبل الذي يصعد به النخل، يقول: هي تنثر الرطب بشدة الريح في نوئها، فتغني عن ارتقاء النخل بالحبل.(1/40)
ويقال: ((عذرت في الأمر –إذا لم يبالغ فيه- تعذيراً، فأنا معذرٌ)). وفي القرآن: {وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم}. و ((أعذرت في الأمر)) إذا أتيت فيه ما يكون لك به عذرٌ، وإن لم تبلغ كل إرادتك. وقد قرئ ((المعذرون)) بالتخفيف./ وفي الحديث: ((لن يهلك الناس حتى يعذروا من أنفسهم))، أي: إذا نزل بهم بلاءٌ يعلمون أنهم قد استحقوه بسوء فعلهم، ولم يقولوا: لم نعذر ولم ننذر، أي: يعذرون الذي يعذبهم.
ويقال: ((أعذرت إلى فلانٍ في كذا)) إذا تقدمت إليه على جهة(1/41)
النهي والزجر فعذر، أي قبل نهيي وزجري، فالزاجر هو ((المعذر)) والمزجور هو ((العاذر)). قال الأخطل:
فإن تك حرب ابني نزارٍ تواضعت ... فقد عذرتنا في كلابٍ وفي كعب
وقال جريرٌ:
أعذرت في طلب النوال إليكم ... لو كان من ملك النوال ينيل
((أعذرت)) أي: بلغت عذراً في طلبي النوال إليكم وإن لم تنيلوا.
وإذا قلت أعذرت إلى الرجل بمعنى زجرته، فقبل زجري قلت: ((هو عاذرٌ وعذيري)). مخرجه: أسمعته فهو سامعٌ وسميعٌ، وأعلمته فهو عالمٌ وعليمٌ. وكذلك ((عذيرك)): الذي قد وعى نهيك وزجرك له إذا أعذرت إليه. قال عمرو بن معد يكرب:(1/42)
أريد حباءه ويريد قتلي ... عذيرك من خليلك من مراد
كأنه قال: إنه منهيك، أو ازجر مزجورك، وهو ((العذير)) على ما بينت من اشتقاقه. وقال ذو الإصبع العدواني:
عذير الحي من عدوان كانوا حية الأرض
وجرى: ((عذيرك من فلان، وعذيري من فلان)) في كلامهم نصباً مجرى المثل المبني، ويقال: إن نصبه على معنى المصدر مثل قولهم: رويدك، وقوله: (فضرب الرقاب)، ومعناه: التوجع لمن توده من تركه قبول نهيك وزجرك له حين تنهاه إذا أعذرت إليه.(1/43)
فأما قول العجاج:
*جاري لا تستنكري عذيري*
فإنه يريد: حالي التي أنا فيها، وهو يرجع إلى تأويل الأول. وكذلك قول عدي بن زيد:
إن ربي لولا تداركه الملك وأهل العراق ساء العذير
والأفصح في هذا أن يقال: ((عذيري من فلانٍ)). كذا جاءت هذه اللفظة، وسمعت عن فصحاء العرب، لا كما يقول من لا معرفة له باللغة: ((من عذيري من فلانٍ، يا من عذيري منه)). قال:(1/44)
عذيري من سعد بن زيدٍ وجندعٍ ... كما تركاني بين هرشى وودان
وقال حارثة بن بدرٍ الغداني:
عذيري من أخٍ إن أدن شبراً ... يزدني من مباعدةٍ ذراعا
ونحو: ((لن يهلك الناس حتى يعذروا من أنفسهم)) قول الأخطل:(1/45)
وما تركت أسيافنا حين جردت ... لأعدائنا قيس بن عيلان من عذر
يقول: حين أوقعنا بهم لم نأتهم ختلاً، ولا طرقناهم ليلاً فيكون لهم عذرٌ، يقولون: لو علمنا لم يوقع بنا، بل لقيناهم مجاهرةً وهم يعلمون.
وهذا مثل قول الآخر:
إذا نصبنا لقومٍ لا ندب لهم ... كما يدب إلى الوحشية الذرع
وقد قيل في بيت الأخطل غير هذا، يقول: قتلنا منهم ولم يقتلوا منا فيكون لهم بذلك عذر إذا/ فاخرناهم.
فأما قول حاتمٍ الطائي:
أماوي قد طال التجنب والهجر ... وقد عذرتني في طلابكم عذر(1/46)
فـ ((عذرٌ)) ها هنا جمع ((عذورٍ)). ويقال: ((رجل عذورٌ)) إذا كان ضيقاً سيئ الأخلاق، كأنه يحتجز بسوء الخلق أن يسأل ما عنده. قال متمم ابن نويرة يرثي أخاه:
لا يضمر الفحشاء تحت ثيابه ... حلو حلال المال غير عذور
وقال آخر:
إذا نزل الأضياف كان عذوراً ... على الأهل حتى تستقل مراجله
ويقال: ((اعتذر المنزل)) إذا خلا من أهله وما فيه، وتنكر. قال ابن أحمر:(1/47)
.. .. فقد جعلت أطلال إلفك بالودكاء تعتذر
وقال المخبل السعدي:
لم تعتذر منها مدافع ذي ... ضالٍ ولا عقبٌ ولا الزخم
أي: لم تنكر لبعد الأنس منها فيكون تنكرها حاجزاً للملم بها والمقيم فيها.
فهذا الذي من هذه الألفاظ على اختلاف معانيها في الظاهر ورجوعها كلها إلى معنى يدل على ما بينت لك أن أصل ((الاعتذار))(1/48)
وما جانسه في اللفظ –وإن باينه في ظاهر المعنى- مشتقٌ من ((عذار الدابة أو عذرة/ الدار)) أي: فناؤها الحاجز بينها وبين غيرها.
ويجوز أن تكون هذه الألفاظ التي بينت أنها ترجع إلى معنىً واحد بعضها مشتقٌ من بعضٍ ليس فيها لفظةٌ هي أولى أن تكون أصل الاشتقاق من صاحبتها. وليس يكاد أن يكون الاعتذار من الرجل إلى صاحبه إلا وهو بريءٌ من الذنب الذي قرف به. ألا تسمع إلى قول أمية بن أبي الصلت حين احتضر: ((لا بريءٌ فأعتذر، ولا(1/49)
قويٌ فأنتصر)) فأخبر أن الاعتذار لا يكون إلا للبريء، وكذلك قول ابن الدمينة:
بنفسي وأهلي من إذا عرضوا له ... ببعض الأذى لم يدر كيف يجيب
ولم يعتذر عذر البريء ولم تزل ... به حيرةٌ حتى يقال: مريب
وهذا الاشتقاق كافٍ بحمد الله. أعاذنا الله وإياك من ظلمة الشك وجلا قلوبنا بنور اليقين، إنه على كل شيءٍ قديرٌ.(1/50)
(2) باب تورية الملوك عن ذنوب ذوي الجنايات محبةً للعفو لهم عنها
حدثني سوار بن أبي شراعة قال: حدثني الرياشي قال: حدثنا إبراهيم بن بشارٍ الرمادي عن سفيان بن عيينة عن ابن جريجٍ قال: سمعت أبا سعيدٍ الأعمى يحدث عن عطاء بن أبي رباحٍ، عن أبي أيوب الأنصاري أنه رحل إلى مصر إلى عقبة بن عامرٍ الجهني يسأله عن حديثٍ سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلى مصر مسلمة بن مخلدٍ.(1/51)
فلما قدم أبو أيوب مصر أخبر مسلمة بن مخلدٍ بقدومه، فخرج إليه فاستقبله إكراماً له، لأنه صاحب منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصافحه، وقال: ما جاء بك أبا أيوب؟ قال: أرسل معي من يدلني/ على منزل عقبة بن عامرٍ الجهني، فأرسل معه من يدله، فلما أخبر عقبة بقدوم أبي أيوب بادر فخرج إليه، إكراماً له، وصافحه، وسلم عليه، وعانقه وقال:ما جاء بك أبا أيوب؟ قال حديثٌ سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لم يبق أحدٌ سمعه منه غيري وغيرك! قال: ما هو؟ قال: في الستر على المؤمن. قال: نعم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من ستر على أخيه المؤمن خزيةً في الدنيا ستر الله عليه يوم القيامة قال: ثم انثنى أبو أيوب إلى راحلته، فركبها راجعاً، فما أدركته جائزة/ مسلمة بن مخلدٍ إلا بعريش مصر.(1/52)
زيادةٌ: أملى علينا أبو جعفرٍ أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي قال: حدثنا عيسى بن إبراهيم الغافقي –ويعرف بابن مثرودٍ- قال: حدثنا سفيان بن عيينة عن ابن جريجٍ قال: سمعت أبا سعيدٍ الأعمى يحدث عن عطاء بن أبي رباحٍ عن أبي أيوب الأنصاري، فذكر نحوه.
حدثنا أبو الحسن محمد بن عبد الله بن سعيدٍ البهراني قال: حدثنا سهل بن الأزهر قال: حدثنا أبو الخطاب قال: حدثنا مالك بن سعيدٍ قال: حدثنا الأعمش عن أبي صالحٍ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من ستر على مسلمٍ عورةً ستره الله في الدنيا والآخرة، ومن يسر على مسلمٍ يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن أبطأ به(1/53)
عمله لم يسرع به نسبه ومن نفس عن نفسٍ كربةً نفس الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة، ومن أقال مسلماً عثرته أقاله الله عثرته يوم القيامة)). إلى هنا الزيادة.ً
وحدثني سوارٌ قال: حدثنا الرياشي قال: حدثنا أبو حذيفة قال: حدثنا عكرمة بن عمارٍ عن شداد بن عبد الله عن أبي أمامة –وكان من أصحاب الصفة- قال: ((بينما/ أنا قاعدٌ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد جاءه رجلٌ فقال: يا رسول الله إني أصبت حداً فأقمه علي، ! فسكت عنه رسول الله، ثم قال: يا رسول الله إني أصبت حداً فأقمه علي، ثلاث مرارٍ. وأقيمت(1/54)
الصلاة، فلما انصرف اتبعه الرجل. قال أبو أمامة: فاتبعته أنظر ما يرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: يا رسول الله إني أصبت حدا ً فأقمه علي. فقال له: ألست حين خرجت من بيتك قد توضأت فأحسنت الوضوء؟ قال: بلى، قال: وشهدت الصلاة؟ قال: نعم. قال: إن الله قد غفر لك حدك)).
حدثنا أبو عمران موسى بن زكريا التستري قال: حدثنا سليمان بن حربٍ عن جريرٍ عن يعلى بن حكيمٍ عن أبيه عن ابن عباسٍ قال: ((أتى ماعز بن مالكٍ النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: يا رسول الله إني زنيت قال: لعلك لمست أو مسست أو غمزت؟ قال: لا، بل زنيت فأعادها عليه ثلاثاً، فلما كان في الرابعة رجمه.
حدثنا أبو عمران قال: حدثنا شبابة قال: حدثنا القاسم بن(1/55)
الحكم عن التوزي عن علي بن الأقمر عن يزيد بن أبي كبشة أن أبا الدرداء أتي بامرأةٍ سرقت، فقال: سرقت؟.. قولي: لا!..
حدثنا الجوهري عن/ ابن شبة قال: حدثنا محمد بن سنانٍ قال: حدثنا شريكٌ عن جابرٌ عن داود بن سليمان عن مولى لأبي مسعودٍ البدري أن أبا مسعودٍ أتي برجلٍ سرق بعيراً فقال: قل: وجدته فقال: وجدته، فخلى سبيله!..
حدثني أبي قال: حدثني السجستاني قال: حدثنا الأصمعي قال: جاؤوا زياداً بلص، وعنده جماعةٌ فيهم الأحنف، فانتهروه،(1/56)
وقالوا: اصدق الأمير. فقال الأحنف: إن الصدق أحياناً معجزةٌ فأعجب ذلك زياداً، وقال: جزاك الله خيراً.
حدثني أبي عن أبي حاتم عن الأصمعي عن أبيه قال: قال أبو العاج: يا بن أصمع! والله لئن أقررت لألزمنك، أي:لا تقر.
حدثنا أبو خليفة الفضل بن الحباب الجمحي، وحدثنا أحمد بن سعيدٍ الدمشقي عن الزبير بن بكارٍ عن عمه –دخل حديث بعضهم في بعض- قالا: شبب عبد الرحمن بن حسان بن ثابتٍ الأنصاري بأخت معاوية، فغضب يزيد ابنه، فدخل على معاوية فقال: يا أمير(1/57)
المؤمنين! أقتل عبد الرحمن بن حسان؟ قال: ولم؟ قال: إنه شبب بعمتي. قال: وما قال؟ قال: قال:
طال ليلي وبت كالمحزون ... واعترتني الهموم في جيرون
قال: يا بني! ما علينا من طول ليلته وحزنه؟ قال: فإنه يقول:
ولذاك اغتربت بالشام حتى ... ظن قومي مرجمات الظنون
قال: يا بني! ما علينا من ظن أهله؟ قال: فإنه يقول:
وهي زهراء مثل لؤلؤة الغواص ... ميزت من جوهرٍ مكنون(1/58)
قال: صدق يا بني! هي كذلك. قال: فإنه يقول:
وإذا ما نسبتها لم تجدها ... في سناءٍ من المكارم دون
قال: صدق يا بني! هي كذلك. قال: فإنه يقول:
ثم خاصرتها إلى القبة الخضراء ... تمشي في مرمرٍ مسنون
قال: لا, ولا كل هذا. ثم ضحك وقال: وما قال أيضاً قال: قال:
قبةٌ من مراجلٍ ضربوها ... عند حد الشتاء في قيطون
عن يساري إذا دخلت من الباب ... وإن كنت خارجاً عن يميني
تجعل الند والألوة والمسك صلاءً ... لها على الكانون(1/59)
وقبابٍ قد أشرجت وبيوتٍ ... نطقت بالريحان والزرجون
فقال معاوية: يا بني! ليس يجب القتل في هذا, والعقوبة تغريه فيزيد, ولكنا [نكفه] بالتجاوز عنه والصلة له.
فلما رأى يزيد أن معاوية غير معاقبٍ لعبد الرحمن عمل في هجاء الأنصار, كما شبب صاحبهم بعمته. فبعث إلى كعب بن جعيلٍ التغلبي فقال له: اهج الأنصار, فقال له كعبٌ: أرادي أنت بعد الإسلام إلى الكفر/ أأهجو قوماً آووا رسول الله ونصروه؟ ولكني أدلك على غلامٍ منا كافرٍ ماهرٍ يقال له: غياث بن غوثٍ, لو مزج بشر(1/60)
لسانه ماء البحر لمزجه، يعني الأخطل، فوجه يزيد إلى الأخطل، فأمره بهجاء الأنصار فقال:
لعن الإله من اليهود عصابةً ... بالجزع بين حلاحلٍ وصرار
قومٌ إذا هدر العصير رأيتهم ... حمراً عيونهم من المصطار
ذهبت قريشٌ بالسماحة والندى ... واللؤم تحت عمائم الأنصار
فذروا المعالي لستم من أهلها ... وخذوا مساحيكم بني النجار
إن الفوارس يعرفون ظهوركم ... أولاد كل مسحجٍ أكار(1/61)
وإذا نسبت ابن الفريعة خلته ... كالجحش بين حمارةٍ وحمار
يعني: حسان، وفيها يمدح يزيد:
وترى عليه إذا العيون شزرنه ... سيما الحليم ورهبة الجبار
فغضب النعمان بن بشيرٍ الأنصاري حين بلغه، فدخل على معاوية، فأنشد:(1/62)
معاوي إلا تعطنا الحق تعترف ... لحى الأزد مشدوداً عليها العمائم
أيشتمنا عبد الأراقم ضلةً ... فماذا الذي تجدي عليك الأراقم
فمالي ثأر غير قطع لسانه ... فدونك من ترضيه عنك الدراهم
وإلا فبزي لأمةٌ تبعيةٌ ... مواريث آباءٍ وأبيض صارم
قال: ثم حسر عن عمامته فقال: هل ترى لؤماً؟ قال/ له معاوية: ما أرى إلا كرماً وخيراً. قال: فإن الأخطل زعم أن اللؤم تحت عمائم الأنصار، وأنشده البيت.. فقال: هو لك. فذهب الأخطل إلى يزيد بن معاوية فقال: أمرتني بهجائهم حتى إذا هجوتهم وهبني أبوك لهم، فقال(1/63)
له يزيد: فاهجني حتى يصير لي فيك نصيبٌ فأعفو عنك فإنهم يعفون. فقال:
اسلم سلمت أبا خالدٍ ... وحياك ربك بالعنقز(1/64)
أكلت الدجاج فأفنيته ... فهل في الخنانيص من مغمز
فدينك حقاً كدين الحمار بل أنت أكفر من هرمز
فقال له يزيد: ويحك لم أرك تبلغ بي هذا! جعلتني نصرانياً/ قال: ثم شكاه إلى أبيه, فقال: هو لك مع القوم, فلما اجتمعوا لقطع لسانه وهب يزيد, واستحيوا فوهبوا, فقال يزيد في ذلك:
دعا الأخطل الملهوف بالبشر دعوةً ... فإني مجيبٌ جئت لما دعانيا
فدافع عنه مدفع الخصم مشهدي ... وألسنة الواشين عنه لسانيا(1/65)
وقال الأخطل يمدح يزيد, ويذكر تخليصه إياه من النعمان بن بشير:
أبا خالدٍ دافعت عني عظيمةً ... وأدركت لحمي قبل أن يتبددا
وأطفأت عني نار نعمان بعدما ... أعد لأمرٍ فاجرٍ وتجردا
ولما رأى النعمان دوني ابن حرةٍ ... طوى الكشح إذ لم يستطعني وعردا
فبات نجياً في دمشق لحيةٍ ... إذا عض لم ينم السليم وأقصدا(1/66)
ودافعت عني يوم جلق معشراً ... وهماً ينسيني الشراب المهودا
فلولا يزيد ابن الملوك وسيبه ... تجللت حدباراً من الشر أنكدا
فأقسمت لا أنسى يزيد وسيبه ... غداة السيالى ما أساغ وزودا
وما وجدت فيها قريشٌ لأمرها ... أعف وأوفى من أبيك وأجلدا
وأورى بزنديه ولو كان غيره ... غداة اختلاف الرأي أكبى وأصلدا(1/67)
وكان الأخطل لا يزال يشكر يزيد على فعلته, وربما اعتد على بني أمية, وامتن بأنه هجا عنهم الأنصار. فمن شكره لهم:
لألجأتني قريشٌ خائفاً وجلاً ... ومولتني قريشٌ بعد إقتاري
المنعمون بني حربٍ وقد حدقت ... بي المنية واستبطأت أنصاري
بهم تكشف عن أحيائهم ظلمٌ ... حتى ترفع عن سمعٍ وإبصار
قومٌ إذا حاربوا شدوا مآزرهم ... دون النساء ولو باتت بأطهار(1/68)
ومن اعتداده عليهم قوله:
بني أمية قد ناضلت دونكم ... أبناء قومٍ هم آووا وهم نصروا
دافعت عنكم بني النجار قد علمت ... عليا معدٍ وكانوا طالما هدروا
وفي الشعر:
شمس العداوة حتى يستقاد لهم ... وأعظم الناس أحلاماً إذا قدروا
حشدٌ على الحق عيافو الخنا أنفٌ ... إذا ألمت بهم مكروهةٌ صبروا(1/69)
وفيه:
إن الضغينة تلقاها وإن قدمت ... كالعر يكمن حيناً ثم ينتشر
ويقال: إن معاوية إنما وجه تشبيب عبد الرحمن بن حسان برملة إلى أجمل جهاته اتباعاً لمذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه –حين صرف هجاء النجاشي وهجاء الحطيئة للزبرقان إلى أحسن وجوهه إيثاراً للعفو. فإنه يروى أن بني العجلان استعدوه على(1/70)
النجاشي فقالوا: يا أمير المؤمنين هجانا, فقال: ما قال؟ قالوا: قال:
إذا الله عادى أهل لؤمٍ ودقةٍ ... فعادى بني العجلان رهط ابن مقبل
فقال عمر: ما أرى بأساً! الله لا يعادي مسلماً. قالوا: فإنه يقول:
قبيلةٌ لا يغدرون بذمةٍ ... ولا يظلمون الناس حبة خردل(1/71)
قال: وددت لو أن آل الخطاب كانوا كذا. قالوا: فإنه يقول:
ولا يردون الماء إلا عشيةً ... إذا صدر الوراد عن كل منهل
قال: هو أصفى للماء, وأقل للزحام. قالوا: فإنه يقول:
وما سمي العجلان إلا بقوله ... خذ القعب فاحلب أيها العبد واعجل
قال: خادم القوم سيدهم.
وكذلك قال للزبرقان حين استعداه على الحطيئة فقال: هجاني, فقال:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
فقال: ما أراه قال بأساً, جعلك طاعماً كاسياً. فقال الزبرقان: أو ما في(1/72)
إلا أن أن أطعم وأكتسي./ ثم سأل حسان, فقال: ما هجاه ولكن سلح عليه. قلت أنا: وعمر رضي الله عنه أعلم من حسان بما في هذا البيت من الهجاء, وإنما تساهى عنه إرادةً للعفو والتغبيب عن الجاني, ولكي لا تجب عليه عقوبةٌ, ولا يلحق المهجو سبةٌ.
وخبر الزبرقان والحطيئة قد كتبته في باب العفو عن جرائم الهاجين للأشراف مستقصىً.
فمن تورية عمر –رحمه الله- عن الذنوب ما يروى عنه في أمر المغيرة بن شعبة.
حدثنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثنا الحكم بن موسى النسائي, / قال: حدثنا يحيى بن حمزة قاضي دمشق عن إسحق بن أبي فروة عن عبد الله بن عبد الرحمن الأنصاري أنه حدثه عن مصعب بن سعدٍ قال: انطلق(1/73)
أبو بكرة وشبل بن معبدٍ ونافعٌ وزيادٌ أخوهم فبينما هم يختلفون إلى المغيرة بن شعبة, وكانوا ذوي حصاةٍ في الرأي وكانوا لا يحجبون عنه, فدخل عليه أبو بكرة ونافعٌ وابن معبدٍ وزيادٌ فوجدوه في ثياب امرأةٍ. فقدم أبو بكرة ونافعٌ وابن معبدٍ نحو عمر فقالوا: يا أمير المؤمنين إنا لنشهد على المغيرة لوجدناه بين(1/74)
رجلي امرأةٍ, فتقدم أبو بكرة فقال:/ أرأيته؟ قال: نعم! والله لكأني أنظر إلى تشريم جدريٍ بفخذيها فقال له المغيرة: لقد ألطفت النظر. فقال: لم آل أن أثبت ما يخزيك الله به. قال عمر: لا والله حتى تشهد لقد رأيته يلج فيها كما يلج الميل في المكحلة. قال: نعم أشهد على ذاك. قال: اذهب مغيرة ذهب ربعك. ثم دعا نافعاً فقال: علام تشهد؟ قال: على مثل شهادة صاحبي أبي بكرة قال: لا.. حتى تشهد أنه يلج فيها ولوج الميل في المكحلة. قال: نعم. قال: اذهب(1/75)
عنك مغيرة ذهب نصفك. ثم دعا ابن معبدٍ فقال: علام تشهد؟ قال: على مثل/ شهادة صاحبي. قال: علي بن أبي طالبٍ عليه السلام: اذهب عنك مغيرة ذهب ثلاثة أرباعك.
قال: وذهب المغيرة يبكي إلى المهاجرين حتى بكوا وبكى إلى أزواج النبي –صلى الله عليه- حتى بكين معه, وحتى لا يجالس هؤلاء الثلاثة من أهل المدينة أحدٌ.
قال: ثم كتب عمر إلى زيادٍ فقدم على عمر, فلما رآه جلس له في المسجد, واجتمع عنده رؤوس المهاجرين والأنصار. قال المغيرة: ومعي كلمةٌ قد رفعتها لأحلم القوم. قال: فلما رآه عمر مقبلاً قال: إني لأرى رجلاً لن يخزي الله على لسانه رجلاً من المهاجرين. قال(1/76)
المغيرة: وقمت إليه فقلت: لا مخبأ لعطرٍ بعد عروسٍ. وقلت:/ يا زياد! اذكر الله ومواقف يوم القيامة, فإن الله وكتابه ورسله وأمير المؤمنين قد حقنوا دمي إلا أن تجاوز إلى ما لم تر ما رأيت, فلا يحملك سوء منظرٍ رأيته أن تجاوز إلى ما لم تر ما رأيت. فوالله لو كنت بين بطنها وبطني ما رأيت أين سلك ذكري منها. قال: فدفقت عيناه واحمر وجهه ثم قال: يا أمير المؤمنين! أما أن أحق ما يحق القوم فليس ذلك عندي, ولكني رأيت مجلساً قبيحاً, وسمعت نفساً حثيثاً. قال: قم إليهم فاضربهم, فقام إلى أبي بكرة فضربه ثمانين, ثم استتاب نافعاً وابن معبدٍ فتابا, واستتاب أبا بكرة, فقال: إنما تستتيبني لتقبل شهادتي؟ قال: أجل. قال: لا أشهد بين اثنين ما بقيت في الدنيا.
حدثنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال: حدثنا ابن شبة قال: حدثنا علي بن محمدٍ عن يحيى بن زكريا عن مجالدٍ عن الشعبي قال:(1/77)
كانت أم جميلٍ بنت عمروٍ التي رمي بها المغيرة بن شعبة تختلف إلى المغيرة في حوائجها فيقضيها لها, ووافت عمر بالمدينة والمغيرة بها, فقال عمر: أتعرف هذه؟ قال: نعم, هذه أم كلثومٍ بنت عليٍ فقال: أتجاهل علي, والله ما أظن أبا بكرة كذب, وما رأيتك إلا خفت أن أرمى بحجارةٍ من السماء.
وقال حسان بن ثابتٍ يهجو المغيرة:
لو أن اللؤم ينسب كان عبداً ... قبيح الوجه أعور من ثقيف
تركت الدين والإسلام لما ... بدت لك غدوةً ذات النصيف(1/78)
وراجعت الصبا وذكرت لهواً ... من القينات والغمز اللطيف
قال أبو الحسن: وإنما آثر عمر –رحمه الله- العفو عن المغيرة على إقامة الحد عليه اتباعاً لقول رسول الله –صلى الله عليه-: ((تجاوزوا لذوي الهيئات عن عثراتهم, والذي نفسي بيده إن أحدهم ليعثر ويده في يد الله)) ولقوله صلى الله عليه: ((ادرؤوا الحدود بالشبهات)).(1/79)
والتجافي عن الذنوب مذهب الأئمة والملوك السالفة./ حدثنا ابن الجوهري قال: حدثنا ابن شبة قال: حدثنا عباد بن قادمٍ قال: حدثنا حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن زاذان أن رجلين أتيا علياً –صلوات الله عليه- برجلٍ زعما أنه سرق. فقال الرجل: إني والله ما سرقت يا أمير المؤمنين! ولو كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حياً ما قطعني. قال: فكأنه صدقه فقال للشاهدين: لأفحصن عن هذا الأمر, ولأنظرن, فإن كنتما كاذبين لأفعلن.
ثم قام فأخذ الدرة فضرب الناس حتى ماجوا, ثم جاء فقعد, وذهب الرجلان فقال علي –صلوات الله عليه- قم فاذهب/ حيث شئت.
روى المدائني قال: بينا أبرهة بن الصباح الكندي عند(1/80)
عبد العزيز بن مروان بمصر إذ أتي عبد العزيز بفتيةٍ من أهل البيوتات قد أخذوا على شرابٍ لهم. فأمر عبد العزيز أن يضربوا بالسياط فقال له أبرهة: نشدتك الله أيها الأمير أن تفضح, مثل هؤلاء الفتيان في مصرنا. فقال عبد العزيز: إن الحق في هؤلاء وفي غيرهم واحدٌ. فقال أبرهة: يا غلام اصبب من شرابهم في القدح وأرنيه. فصب, وناوله, ثم شربه فقال: أصلح الله الأمير ما نشرب في بيوتنا على غدائنا وعشائنا إلا من هذا, فقال/ عبد العزيز: أطلقوهم.
فلما خرج أبرهة قيل له: أشربت الخمر؟ فقال: الله يعلم أني ما شربتها صحيحاً, ولا تعالجت بها سقيماً, ولكني كرهت أن يفضح مثل هؤلاء الفتيان ببلدٍ أنا فيه.
حدثنا الغلابي قال: حدثنا عبد الله بن الضحاك قال: حدثنا هشام بن محمدٍ عن أبي مسكينٍ قال: كانت فاطمة بنت الخرشب من بني أنمار بن بغيضٍ لها ضيافةٌ وسؤودٌ, وأولادها يقال لهم: الكملة(1/81)
فنزل بها رجلٌ من العرب، فأطعمته، وسقته وفرشت له. فلما كان في بعض الليل لم يهجها إلا أخذه برجلها، فركضته/ برجلها. وقالت: ويلك ما بالك؟ قال: ما بالي والله إنك أطمعت، وسقيت، وفرشت، فأردت أن أنال منك. فقالت: قم يا أحمق، فاتك فقام وقال في نفسه: لا بد من أن تمتنع أولاً. ثم دنا، فأخذ برجلها، فقالت: ويلك ما بالك؟ قال: هو ذاك. فقالت لجواريها: خذنه، فأخذنه، فشددنه كتافاً حتى أصبح.
فلما أصبحت –وكان بنوها حولها مطنبون، وكان كل واحدٍ منهم إذا دعته أقبل وفي يده السيف- بعثت إلى عمارة، وهو أكبرهم فقالت: ما تقول في رجلٍ ضاف أمك الليلة، فأطعمته، وسقته، وفرشت له، ثم راودها عن نفسها؟/ فوثب إلى الرجل مغضباً فقال: أقتله، فقالت: انصرف، فلم يراجعها الكلام، وانصرف.
ثم بعثت إلى قيسٍ فقالت له مثل مقالتها لعمارة، فقال مثل مقالة(1/82)
عمارة، فقالت انصرف. ثم بعثت إلى المثنى فقالت له مثل مقالتها لأخويه فرد مثل مقالتهما فقالت: انصرف.
ثم بعثت إلى الربيع –وكان أصغرهم- فقالت له مثل مقالتها لإخوته، فقال: والله إنك لتعلمين الرأي فيه! فقالت: وما الرأي فيه؟ قال: الرأي –والله- أن يكسى، ويحمل، ويكرم. والله لو أصبح قتيلاً لقالت العرب: فجر بأمهم فقتلوه. والله ما لنا أختٌ ولا بنت عمٍ قريبةٌ. قالت: فدتك أمك، أنت والله الكامل. قم إليه فاكسه، واحمله، وخل سبيله، ففعل. ثم خرج به حتى أبرزه من الحي فقال: اذهب يا ملمان! فأخبر العرب بما رأيته من فاطمة بنت الخرشب. ويقال: إن الربيع لما أخبر بذلك قال: عاذ بحقو أمي، لا يضار الليلة.
حدثنا أحمد بن عبد العزيز قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا حرب بن شدادٍ عن يحيى بن أبي كثيرٍ عن محمد(1/83)
ابن عبد الرحمن عن زبيد بن الصلت قال: سمعت أبا بكرٍ الصديق –رضي الله عنه- يقول لو أخذت سارقاً لأحببت أن يستره الله.
حدثنا الجوهري قال: حدثنا ابن شبة قال: حدثنا أبو عاصمٍ قال: حدثنا ابن طهمان عن موسى بن عقبة عن عبد الله بن يزيد عن محمد ابن عبد الرحمن بن ثوبان قال: قال أبو بكرٍ: لو لم أجد إلا ثوبي لسارقٍ أوزانٍ أو شاربٍ خمرٍ لسترته.
حدثنا الجوهري عن ابن شبة قال: ضم المنصور إلى سوار بن عبد الله صلاة البصرة مع القضاء، فكان أميراً قاضياً، فقال الشاعر:(1/84)
فمن كان لا يرضى أميراً فإننا ... رضينا بسوارٍ أميراً وقاضيا
قال: فحدثني عبد الله بن سوارٍ قال: كان أبي يغدو من داره، فيصلي الغداة بأهل المسجد الجامع ثم يقيم في دار الإمارة، فيصلي الصلوات بالناس، حتى إذا صلى العتمة جاء إلى منزله، فبات فيه، ثم يغدو بغلسٍ.
قال: فغدا يوماً معه خادمه حيان، فلما كان في زقاق الأزرق إذا هو برجلٍ يغشى امرأةً، فلما غشيهما وثب الرجل يسعى، وسعى حيان في أثره يطلبه ليأخذه، فصاح أبي، ورده، وقال: ما لك وله؟ لعل المرأة امرأته، لعلها أمةٌ لقومٍ قد شغلوها عنه، فهو لا يقدر عليها إلا في هذا الوقت.
حدثنا أبي قال: حدثنا أبو حاتمٍ عن العتبي عن أبي إبراهيم قال: لما بعث أبو بكرٍ –رحمه الله- يزيد بن أبي سفيان إلى الشام خرج(1/85)
معه يشيعه، وجعل يوصيه. فكان في وصيته له أن قال له: يا يزيد لا تجن في عقوبةٍ، ولا تسرعن إليها وأنت تستغني بغيرها، واقبل من الناس علانيتهم، وكلهم إلى الله في سرائرهم، ولا تحسسن عسكرك فتفضحه، ولا تهمله فتفسده، وأستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه.
ومن كلام أبي بكرٍ هذا أخذ عتبة بن أبي سفيان قوله في خطبته بمصر، وقد أرجف أهلها بموت معاوية، / ثم جاء الخبر بسلامته. فخطبهم عتبة، وقال في خطبته: ((اعلموا أن سلطاننا على أبدانكم دون قلوبكم. فأصلحوا لنا ما ظهر نكلكم إلى الله فيما بطن، وأظهروا لنا خيراً وإن أسررتم شراً، فإنكم حاصدون ما أنتم زارعون، وعلى الله نتوكل، وبه نستعين)).(1/86)
ونحو هذا الكلام قول علي بن أبي طالب –صلوات الله عليه- بعد مقتل عثمان –رحمه الله-: إن الله أدب هذه الأمة بأدبين: السيف والسوط، فلا هوادة فيهما عند الإمام. فاستتروا ببيوتكم، وأصلحوا ذات بينكم، والتوبة من ورائكم. من أبدى صفحته للحق هلك./ قد كانت أمورٌ ملتم علي فيها ميلةً لم تكونوا عندي فيها محمودين ولا مصيبين. والله أن لو أشاء لقلت: ((عفا الله عما سلف)).
ومن علي صلوات الله عليه أخذ زياد بن أبيه قوله في خطبته التي تسمى البتراء فإنه قال: ((وقد كانت بيني وبين أقوامٍ منكم(1/87)
أشياء جعلتها دبر أذني, وتحت قدمي. فمن كان منكم محسناً فليزدد, ومن كان مسيئاً فلينزع. إني لو علمت أن أحدكم قتله السل من بغضي لم أكشف له قناعاً, ولم أهتك له ستراً حتى يبدي لي صفحته. فإذا فعل لم/ أناظره. فأعينوا على أنفسكم, وأتنفوا أموركم.
ونحو هذا قول بعض ملوك فارس: إني إنما أملك الأجساد لا النيات, وأحكم بالعدل لا بالرضى, وأفحص عن الأعمال لا عن السرائر.
وهذا شبيهٌ بقول الشاعر:*
اقبل معاذير من يأتيك معتذراً ... إن بر عندك فيما قال أو فجرا
فقد أطاعك من يرضيك ظاهره ... وقد أجلك من يعصيك مستترا
خير الخليلين من أغضى لصاحبه ... ولو أراد انتصاراً منه لانتصرا
ونحوه قول الحسن بن رجاءٍ في المأمون –ويروى(1/88)
للعكوك-.
صفوحٌ عن الإجرام حتى كأنه ... من العفو لم يعرف من الناس مجرما
وليس يبالي أن يكون به الأذى ... إذا ما الأذى لم يغش بالكره مسلما
وفي الحديث المرفوع: ((من لم يقبل من معتذرٍ صادقاً كان أو كاذباً لم يرد علي الحوض)).(1/89)
وكان يقال: أعجل الذنوب عقوبةً الغدر واليمين الكاذبة ورد التائب وهو يرجو العفو خائباً.
ومن إيثار الملوك العفو على العقوبة والستر على الجاني ما حدثناه الجوهري قال: حدثنا أحمد بن إبراهيم قال: حدثنا صالح بن عميرٍ عن داود عن الشعبي عن أنسٍ قال: كنا محاصرين تستر, فارتد نفرٌ من بكر بن وائل, أربعةٌ أو ستةٌ فقتلوا في القتال.
فلما قدمنا على عمر بفتح تستر قال: ما فعل النفر من بكر بن وائل؟. فأعرضت آخذ في حديثٍ غيره. فقال: ما فعل النفر من بكر ابن وائل؟ قلت: قتلوا في القتال. قال: لأن أكون أخذتهم سلماً أحب إلي مما على الأرض من صفراء أو بيضاء. قلت: ما كان سبيلهم إلا القتل. قال: كنت أدعوهم إلى أن يدخلوا إلى الباب الذي خرجوا منه, وإلا استودعتهم السجن.(1/90)
زيادةٌ: حدثنا أبو جعفرٍ الطحاوي قراءةً عليه وأنا أسمع, قال: حدثنا إبراهيم بن أبي داود قال: حدثنا عمرو بن عونٍ قال: حدثنا هشيمٌ عن داود بن أبي هندٍ عن الشعبي قال: حدثنا أنس بن مالكٍ قال: لما فتحنا تستر بعثني أبو موسى إلى عمر.
فلما دخلت عليه قال: ما فعل مجينة وأصحابه؟ وكانوا قد ارتدوا عن الإسلام, ولحقوا بالمشركين, فقتلهم المسلمون. فأخذت به في حديثٍ آخر, فقال: ما فعل النفر البكريون؟ قلت: يا أمير المؤمنين! إنهم ارتدوا عن الإسلام, ولحقوا بالمشركين فقتلوا. فقال عمر: لأن أكون أخذتهم سلماً أحب إلي من كذا وكذا. قلت: يا أمير المؤمنين! ما كان سبيلهم لو أخذتهم سلماً إلا القتل.. .. قومٌ ارتدوا عن الإسلام, ولحقوا بالمشركين. فقال: لو أخذتهم سلماً لعرضت عليهم الباب الذي خرجوا منه, فإن رجعوا وإلا استودعتهم السجن.
حدثنا الجوهري عن ابن شبة قال: حدثنا بشر بن عمروٍ/ قال: حدثنا مالك بن أنسٍ عن عبد الرحمن بن عبد الغفار عن أبيه قال:
قدم على عمر رجلٌ من قبل أبي موسى الأشعري فسأله عن(1/91)
الناس فأخبره. ثم قال: هل من مغربة خبرٍ؟ قال: نعم! رجلٌ كفر بعد إسلامه، قال: فما فعلتم به؟ قال: قربناه فضربنا عنقه. قال: فهلا حبستموه ثلاثاً، وأطعمتموه كل يوم رغيفاً، واستتبتموه لعله يتوب ويراجع أمر الله. اللهم لم أحضر، ولم آمر، ولم أرض إذ بلغني.
زيادة حدثنا أبو جعفرٍ الطحاوي قال: حدثنا يونس بن/ عبد الأعلى قال: حدثنا عبد الله بن وهبٍ قال: وحدثني يعقوب بن عبد الرحمن الزهري عن أبيه عن جده قال:
لما افتتح سعدٌ وأبو موسى تستر أرسل أبو موسى رسولاً إلى عمر، فذكر حديثاً طويلاً. قال: ثم أقبل عمر على الرسول فقال: هل كانت عندكم مغربة خبرٍ؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين! أخذنا رجلاً من العرب كفر بعد إسلامه قال عمر: فما صنعتم به؟ قال: قدمناه فضربنا عنقه. فقال عمر: أفلا أدخلتموه بيتاً، ثم طينتم عليه ثم رميتم إليه برغيفٍ ثلاثة أيامٍ فلعله أن يتوب أو يراجع أمر الله. اللهم إني/ لم أشهد، ولم آمر، ولم أرض إذ بلغني.(1/92)
ويروى أن المأمون أتي بمرتد عن الإسلام إلى النصرانية فقال له: أخبرنا عن الشيء الذي أوحشك عن ديننا بعد أنسك واستيحاشك مما كنت عليه، فإن وجدت عندنا دواء دائك تعالجت به، وإن أخطأك الشفاء، ونبا بك عن دائك الدواء كنت قد أعذرت، ولم ترجع على نفسك بلائمةٍ. فإن قتلناك قتلناك بحكم الشريعة، وترجع أنت في نفسك إلى الاستبصار والثقة، وتعلم أنك لم تقصر في اجتهادك، ولم تفرط في الدخول في باب الحزم.
قال المرتد: أوحشني ما رأيت من كثرة الاختلاف فيكم. قال المأمون: لنا اختلافان: أحدهما كالاختلاف في الأذان والإقامة وتكبير الجنائز والتشهد وصلاة الأعياد وتكبير التشريق ووجوه القراءات ووجوه الفتيا، وهذا ليس باختلاف، إنما هو تخيير وسعة وتخفيفٌ من المحنة. فمن أذن مثنى وأقام مثنى لم يخطئ، ومن أذن مثنى وأقام فرادى لم يخطئ. ولا يتعايرون ولا يتعاتبون بذلك.
والاختلاف الآخر كنحو اختلافنا في تأويل الآية من كتابنا،(1/93)
وتأويل الحديث مع اجتماعنا على أصل التنزيل واتفاقنا على عين الخبر./ فإن كان الذي أوحشك هذا حتى أنكرت له هذا الكتاب، فقد ينبغي أن يكون اللفظ لجميع التوراة والإنجيل متفقاً على تأويله،كما يكون متفقاً على تنزيله، ولا يكون بين جميع اليهود والنصارى اختلافٌ في شيءٍ من التأويلات، وينبغي لك ألا ترجع إلا إلى لغةٍ لا اختلاف في تأويلها من لفظها. ولو شاء الله أن ينزل كتبه، ويجعل كلام أنبيائه وورثة رسله لا تحتاج إلى تفسيرٍ لفعل. ولكنا لم نر شيئاً من أمر الدين والدنيا وقع على الكفاية. ولو كان الأمر كذلك سقطت المحنة والبلوى، وذهبت المسابقة والمنافسة، ولم يكن تفاضلٌ. وليس على هذا بنى الله أمر الدنيا.
فقال المرتد: أنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن المسيح عبد الله، وأنك أمير المؤمنين حقاً.
قال أبو الحسن: ومن تورية الرؤساء عن الذنوب إيثاراً للعفو عن جناتها والستر عليهم ما فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أمر خالد بن الوليد وبنى جذيمة، وما امتثله بعده أبو بكرٍ في شأن خالدٍ في قتله مالك بن نويرة. فإنه حدثنا محمد بن زكريا بن دينارٍ الغلابي قال: حدثنا العباس بن بكارٍ قال: حدثنا أبو بكرٍ الهذلي عن الزهري، وعيسى بن يزيد عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن(1/94)
عمر بن حزمٍ الأنصاري، قال أبو عبد الله: وحدثنا مهدي بن سابقٍ عن أبي يقظان أن نفراً من قريشٍ مروا في الجاهلية ببني جذيمة بن عامر بن مرة بن عبد مناة بن كنانة، فيهم الفاكه بن المغيرة وعوف بن عبد عوفٍ أبو عبد الرحمن بن عوفٍ وعفان بن أبي العاص أبو عثمان بن عفان، وكان معهم رجلٌ من ثقيفٍ. فلما وردوا الماء سألهم رجلٌ من بني جذيمة: من أنتم؟ قالوا: نفرٌ من قريشٍ ومعنا رجلٌ من ثقيفٍ. قال: فإن ثقيفاً قتلت أخي/ فوالله لأقتلنه. قالوا: إذن نحول بينك وبينه. فاستغاث قومه فجاؤوه، فقاتلهم القرشيون دون الثقفي حتى قتل القرشيون ومعهم الثقفي.
فلما فتح الله على رسوله مكة سرح خالد بن الوليد إلى بني(1/95)
جذيمة بن عامرٍ فصبحهم على ماءٍ يقال له: الغميصاء. فلما أحسوا خالداً ركبوا الخيل، وحملوا السلاح، فلحقهم خالدٌ، فقال: ما أنتم؟ قالوا: نحن عباد الله المسلمون، قال: فاستأسروا. ما لي أراكم قد حملتم السلاح، وحملتم الظعن. فقال له رجلٌ منهم – يقال له: خذامٌ لا نستأسر، فإنه ليس بعد/ الأسر إلا القتل.
قال عبد الله بن [أبي] حدردٍ الأسلمي: فاتبعنا ظعائنهم حتى إذا شارفناهن كر علينا غلامٌ أمرد منهم، له ذؤابةٌ بين كتفيه، إذا ما هبت فيها الريح ضربت خديه يميناً وشمالاً، على فرسٍ له عريٍ معه قناةٌ، ليس فيها سنانها. قال: فرمى بنفسه، وأنشأ يقول:
أرخين أطراف الذيول واربعن ... مشي حيياتٍ كأن لم يفزعن
إن تمنع اليوم نساءٌ تمنعن(1/96)
قال: ثم رمى بنفسه، فأفرجنا له، فمر يهوي به فرسه حتى وقف موقفه. فقلنا: ما تنظرون بهذا؟ شدوا عليه شدة رجلٍ واحدٍ. قال: فشددنا عليه، فقتلناه، واتبعنا الظعن. فلما شارفناهن كر علينا منهم غلامٌ أمرد، له ذؤابة كذؤابة الأول، على فرس له عريٍ، ومعه قناةٌ، ليس فيها سنانها، وهو يقول:
ما إن أظن خادراً ذا لبدة ... يزأر بين أيكةٍ ووهدة
يختل شبان الرجال وحده ... بأصدق الغداة مني نجدة
قال: فرمى بنفسه، فأفرجنا له، فمر يهوي به فرسه، ثم كر راجعاً، فأفرجنا له حتى وقف موقفه. فقلنا: ما تنظرون بهذا؟ شدوا عليه، فشددنا عليه شدة رجلٍ واحدٍ فقتلناه، ثم اتبعنا الظعن. فلما شارفناهن كر علينا غلام كالأول والثاني، له/ ذؤابة بين كتفيه، على فرسٍ عريِ، معه قناةٌ، ليس فيها سنانها، فأنشأ يقول:(1/97)
قد علمت بيضاء تلهي العرسا ... لا تملأ اللحيين منها نهسا
لأضربن اليوم ضرباً وعسا ... ضرب المحلين مخاضاً قعسا
ثم رمانا بنفسه, وأفرجنا له, ومضى يهوي به فرسه, ثم كر علينا حتى وقف موقفه, قال: فشددنا عليه, فقتلناه, ثم اتبعنا الظعن, حتى إذا شارفناهن كر علينا غلام كالأول والثاني والثالث, على فرس له عريٍ, معه قناةٌ ليس فيها سنانها, وهو يقول:
قد علمت بيضاء صفراء الأصل ... كالظبية العيساء تعطو في الجبل
أن سوف أحميها بأطراف الأسل(1/98)
قال: ثم رمى بنفسه, فمر تهوي به فرسه, فأفرجنا له, ثم كر راجعاً حتى وقف موقفه, فشددنا عليه, فقتلناه, واتبعنا الظعن, حتى إذا شارفناهن, خرج إلينا غلامٌ معه قناةٌ, ليس فيها سنانها, ففعل كفعل الذين قبله, وفعلنا به مثل ذلك, ثم حملنا عليه فأخذناه أسيراً, فقال: لا عليكم أن تبلغوا بي الظعن, ثم افعلوا ما شئتم. قال قلنا: ما علينا أن نفعل. فأقبلنا به, وإذا جاريةٌ تشرف من حداجةٍ لها. فلما نظر إليها قال: اسلمي حبيش, على نكد العيش. قالت: وأنت فاسلم عشراً, وسبعاً وتراً, / وثمانياً تترى. فقال:(1/99)
لا ذنب لي قد قلت إذ نحن جيرةٌ ... أثيبي بودٍ قبل إحدى الصفائق
أثيبي بودٍ قبل أن تشحط النوى ... وينأى أميرٌ بالحبيب المفارق
ألم يك حقاً أن ينول عاشقٌ ... تكلف إدلاج السرى والودائق
ألم أك قد طالبتكم فوجدتكم ... بحلية أو أدركتكم بالخرانق
قالت: بلى! فقال:
فإني لا ضيعت سراً أمانةً ... ولا راق عيني بعدك اليوم رائق(1/100)
قال: فقدمناه, فضربنا عنقه, وتراخينا عنه, فرمت الجارية بنفسها من حداجتها, فأكبت عليه ترشفه. فطال ذلك منها, وسرحنا رسولاً يعلم علمها, فأقبل, فرفعها عنه فإذا هي ميتةٌ.
قال: ونادى منادي خالد: ليدفف كل رجلٍ منكم على أسيره. قال: فأما عبد الله بن عمر وسالمٌ مولى أبي حذيفة فأبيا أن ينفذا لأمر خالدٍ, فطالت مراجعته ومراجعة سالم, فنهمه خالدٌ فجلس, ونهم عبد الله بن عمر فجلس, وأبيا أن ينفذا لشيء من أمره.
وأقبل الصريخ إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله قتلت بنو جذيمة بن عامرٍ. قال: ومن قتلهم؟ قال: خالد بن الوليد, قال: أفما أنكر عليه أحدٌ؟ قال: بلى, قام إليه رجل أبيض(1/101)
فنهمه خالدٌ فجلس فقام عمر فقال: يا رسول الله!/ أنا أخبرك عن الرجلين, أما الأول فسالمٌ مولى أبي حذيفة, وأما الثاني فعبد الله ابني. قال: صدقت.
وأقبل خالدٌ حتى دخل المدينة، فقال له رسول الله: يا خالد! ما دعاك إلى هذا؟ قال: يا رسول الله! آيات سمعتهن، أنزلن عليك قال: وما هن؟ قال: قول الله تعالى: {قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قومٍ مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم}. وجاءني ابن أم أصرم فقال لي: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(1/102)
يأمرك أن تقاتل. فقال عبد الرحمن لخالدٍ: إنما ثأرت بعمك الفاكه بن المغيرة. قال: إي والله وبأبيك. فقال عبد الرحمن: أنا قتلت قاتل أبي خالد بن هشامٍ رجلاً من بني جذيمة.
قال فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالبٍ - صلى الله عليه - ودفع إليه أحمالاً ثلاثةً، وقال: انطلق فدهم.
قال علي: فقدمت عليهم فقلت: هل لكم أن تقبلوا هذا الحمل بما أصيب منكم من القتلى والجرحى، وتحلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ [قالوا: نعم]. قلت: هل لكم أن تقبلوا الثاني لما دخلكم من الجزع والفزع؟ قالوا: نعم. قلت: وهل لكم أن تقبلوا الحمل الثالث، وتحلوا رسول الله مما علم ومما لم يعلم؟ قالوا: نعم. قال: ودفعته إليهم، ثم قدمت على رسول الله فقلت: يا رسول الله! جعلت أديهم حتى إني لأدي ميلغ الكلب، وفضلت فضلةٌ، فقلت: هل لكم أن تحلوا(1/103)
رسول الله- صلى الله عليه وسلم - مما علم ومما لم يعلم؟ قال: أقلتها لهم؟ قلت: نعم قال: هي أحب إلي من حمر النعم.
قال أبو الحسن: وإنما تجافى أبو بكرٍ –رحمه الله- عن خالد بن الوليد حين قتل مالك بن نويرة, وقد أشار عليه عمر بن الخطاب –رحمه الله- بأن يقيده به, وشهد عنده أبو قتادة الأنصاري بإسلام مالكٍ تورية من أبي بكرٍ –رحمه الله- عن ذنب خالدٍ واتباعاً لرسول الله - صلى الله عليه - في التجافي عنه حين قتل بني جذيمة.
حدثنا أحمد بن عبد العزيز قال: حدثنا ابن شبة قال: حدثنا الحزامي قال: حدثنا ابن وهبٍ قال: حدثنا يونس بن يزيد عن ابن شهابٍ قال: مضى خالدٌ حتى دنا من حيٍ من بني تميم, فيهم(1/104)
مالك بن نويرة, وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد بعثه على صدقات قومه. فلما قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمسك مالكٌ الصدقة, فبعث إليهم خالدٌ سريةً, فيهم أبو قتادة الأنصاري, فساروا يومهم حتى انتهوا إلى محلة الحي حين طفلت الشمس للغروب فخرج مالكٌ في رهطه, ومعه السلاح,/ فقال: من أنتم؟ ومن أين جئتم؟ فقالوا: نحن عباد الله المسلمون. فزعم أبو قتادة أن مالكاً قال: وأنا عبد الله المسلم. فقالوا: فضعوا السلاح. فوضعه في اثني عشر رجلاً. فلما وضعوا السلاح ربطه أمير تلك السرية, وانطلق بهم أسارى, وساق معهم السبي حتى أتى بهم خالداً. فحدث أبو قتادة خالداً أن لهم أماناً, وأنهم قد أذعنوا بالإسلام, فخالف أبا قتادة جماعة السرية, وأخبروه أنه لم يكن لهم أمانٌ, وأنهم أخذوه قسراً, فأمر بهم خالد فقتلوا, وقسم السبي.
فركب أبو قتادة فرسه إلى أبي بكرٍ. فلما قدم عليه قال: تعلم يا أبا بكرٍ/ أنه قد كان لمالكٍ عقدٌ, وادعى إسلاماً, وقد نهيت عنه خالداً, فترك قولي, وأخذ شهادة الأعراب الذين بغيتهم الغنائم, فقام عمر فقال: يا أبا بكر! إن في سيف خالد رهقاً, وإن هذا إن(1/105)
يكن حقاً فعليك أن تقيده فسكت أبو بكرٍ، رحمه الله.
وقدم متمم بن نويرة أخو مالكٍ، فأنشد عمر مندبة ندب بها أخاه، وناشده في دم أخيه وسبيهم، فرد أبو بكرٍ السبي، وقال لعمر: ليس على خالد ما تقول فيه، إنه تأول فأخطأ.
قال: ويقال: إن عمر لما أكثر على أبي بكرٍ في قتل خالدٍ قال أبو بكر: أفعل بخالدٍ ما/ فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قتلى بني جذيمة. وطلب أخو مالكٍ قتل خالدٍ، فأبى عليه أبو بكرٍ -رحمه الله– وأعطاه دية مالكٍ كما أعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بني جذيمة ديات قتلاهم، فأبى متممٌ أن يقبل الدية. ويقال: إن الشعر الذي أنشد متمم بن نويرة أبا بكر وعمر –رحمها الله- يرثي أخاه به قوله:
أدعوته بالله ثم قتلته ... لو هو دعاك بذمةٍ لم يغدر(1/106)
نعم القتيل إذا الرياح تناوحت ... خلف البيوت قتيلك ابن الأزور
لا يضمر الفحشاء تحت ثيابه ... حلوٌ حلال المال غير عذور
وروى المبرد: ((حلوٌ شمائله عفيف المئزر))./ ((العذور)): الضيق النفس، السيء الخلق، كأنه يتعذور كل شيء من جهته، وأكثر ذلك في الطعام.
فلنعم حشو الدرع أنت وحاسراً ... ولنعم مأوى الطارق المتنور
فقال أبو بكرٍ رحمه الله: والله ما أنا دعوته، ولا قتلته.(1/107)
حدثنا أبو خليفة قال: حدثنا محمد بن سلامٍ قال: قد أكثر الناس في خالد ومالكٍ الاختلاف إلا أن الذي استقر عندي أن عمر –رحمه الله- أنكر قتله، وقام على خالدٍ فيه، وأغلظ له، وأن أبا بكرٍ –رحمه الله- صفح عن خالدٍ، وقبل تأوله.
وكان مالكٌ قدم على النبي/ - صلى الله عليه وسلم - فيمن قدم عليه من أمثاله من العرب، فولاه صدقات قومه من بني يربوع. فلما قبض النبي - صلى الله عليه وسلم - اضطرب فيها، فلم يحمد أمره، وفرق ما في يديه من إبل الصدقة. فكلمه الأقرع بن حابسٍ المجاشعي. والقعقاع بن معبد بن زرارة فقالا: إن لهذا الأمر قائماً وطالباً، فلا تعجل بتفرقة ما في يديك، فقال:(1/108)
أراني الله بالنعم المندى ... ببرقة رحرحان وقد أراني
تمشى يا بن عوذة في تميمٍ ... وصاحبك الأقيرع تلحياني
حميت جميعها بالسيف صلتاً ... فلم ترعش يداي ولا جناني
وقال أيضاً:
وقلت: خذوا أموالكم غير خائفٍ ... ولا ناظرٍ فيما يجيء من الغد
فإن قام بالأمر المخوف قائمٌ ... منعنا وقلنا: الدين دين محمد(1/109)
فطرق خالدٌ مالكاً وقومه على ماءٍ لهم يقال له: البعوضة, فذعرهم, فأخذوا السلاح, فكان في حجة خالدٍ [عليهم] أنه أنظرهم إلى وقت الأذان, فلم يسمع أذاناً. وبنو تميم تقول: إنه لما هجم عليهم خالدٌ قال: ما أنتم؟ قالوا: نحن المسلمون. قال: ونحن المسلمون. قال: فما بال السلاح؟ قالوا: ذعرتمونا. قال: فضعوا السلاح.
والمجمع عليه أن خالداً حاوره, وراده, وأن/ مالكاً سمح بالصلاة, والتوى بالزكاة. فقال خالدٌ: أما علمت أن الصلاة والزكاة معاً, لا تقبل واحدةٌ من [دون] الأخرى. قال: قد كان يقول ذلك صاحبكم. قال: وما تراه لك صاحباً! والله لقد هممت أن أضرب عنقك. ثم تجادلا, فقال له خالدٌ: إني أقتلك. قال: وبذا أمرك صاحبك؟ قال: وهذه بعد؟ والله لأقتلنك.(1/110)
فيقول من عذر مالكاً أنه أراد القرشية وتأول خالدٌ غير ذلك, أنه إنكارٌ منه للنبوة. وتقول بنو مخزومٍ ومن يعذر خالداً في قتل مالكٍ: إن عمرو بن العاص قال لخالدٍ, وقد كان لقيه وهو منصرفٌ من عمان, / وكان النبي - صلى الله عليه - وجهه إليها إلى ابن الجلندى, فقال لخالدٍ: يا أبا سليمان! إن رأت عينك مالكاً فلا تزايله حتى تقتله.
وكان خالدٌ يحتج على مالك بأشعاره التي كتبنا. وكلم أبو قتادة خالداً في ذلك كلاماً شديداً فلم يقبله, فآلى يميناً أن لا يسير تحت رايةٍ أميرها خالدٌ أبداً. وقال له عبد الله بن عمر وهو في القوم(1/111)
يومئذٍ: يا خالد! أبعد شهادة أبي قتادة, فأعرض عنه, ثم عاوده فقال: يا أبا عبد الرحمن! اسكت عن هذا فإني أعلم ما لا تعلم. وأمر ضرار بن الأزور بضرب عنقه ففعل.
قال ابن سلامٍ: ومن أحسن ما سمعت من/ عذر خالدٍ أن عمر قال لمتمم بن نويرة: ما بلغ من جزعك على أخيك؟ قال: بكيت عليه بعيني الصحيحة حتى نفد ماؤها, فأسعدتها أختها الذاهبة فقال عمر: لو كنت شاعراً لقلت في أخي –يعني زيد بن الخطاب, وكان قتل يوم اليمامة- أجود مما قلت في أخيك. قال: يا أمير المؤمنين! لو كان أخي أصيب مصاب أخيك ما بكيته. فقال عمر: ما عزاني أحدٌ عنه بأحسن مما عزيتني.
قال أبو الحسن: ومن يعذر خالداً في قتله مالكاً يستشهد على ذلك بحديث ضرار بن الأزور الأسدي, وهو الذي ضرب عنق مالكٍ بأمر خالدٍ. فإنه حدثني أبي عن/ أبي حاتمٍ قال: حدثنا يعقوب بن محمدٍ الزهري قال: حدثني عبد العزيز بن عمران قال: حدثنا ماجد بن(1/112)
مروان الأسدي قال: حدثني أبي عن أبيه عن ضرار بن الأزور قال: قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم , فوقفت بين يديه, فقلت: يا رسول الله! أنشد؟ قال: أنشد فقلت:
جعلت القداح وعزف القيان والخمر تصليةً وابتهالا
وكري المحبر في غمرةٍ ... على المشركين أريد القتالا(1/113)
فيا رب لا أغبنن بيعتي ... فقد بعت أهلي ومالي بدالا
فقال النبي صلى الله عليه وسلم , ربح البيع, ربح البيع. قالوا فرسول الله لا يقول: ربح البيع لمن يقتل مسلماً بغير حقٍ.
حدثني أبو عمران بن الجراح عن أبي العباس ثعلبٍ قال: ((تصليةً)): من الصلاة. و ((الابتهال)): من الدعاء. يقال: ((صليت صلاةً وتصليةً)). وأنشد أول هذا الشعر:
تقول جميلة مزقتنا ... وصرعت أهلك شتى شلالا
وقد صحت الرواية من غير وجهٍ أن خالداً لما قتل مالكاً وتزوج امرأته بعد فراغه من قتال أهل الردة قدم المدينة, فأتى المسجد وعليه ثيابٌ عليها صدأ الحديد معتجراً بعمامةٍ قد غرز فيها ثلاثة أسهمٍ. فلما رآه عمر قال له: أرياءً يا عدو نفسه, وقد عدوت على(1/114)
امرئٍ من المسلمين فقتلته, ثم وثبت على امرأته؟!.. والله ليرمينك بأحجاره, يعني أبا بكرٍ./ ثم انتزع الأسهم من عمامته, فكسرها, لا يكلمه, ولا يظن إلا أن رأي أبي بكرٍ على مثل رأيه.
فدخل إلى أبي بكر, وجلس عمر في المسجد, فاعتذر إلى أبي بكرٍ رحمه الله فعذره, وقبل منه. ثم خرج وعمر جالسٌ في المسجد فقال: هلم إلي يا بن هنتٍ. فعرف عمر أن أبا بكر قد رضي عنه.
ولما تزوج خالدٌ بامرأة مالكٍ بعد قتله قال حسان بن ثابتٍ:
من مبلغ الصديق قولاً كأنه ... إذا بث بين المسلمين المبارد
يظل يناجي عرسه في فراشها ... وهامٌ لها مبثوثةٌ وسواعد
إذا أبصر الأنصار صد بوجهه ... وتلقى لأعمام العروس الوسائد(1/115)
فكتب أبو بكرٍ إلى خالدٍ يعاتبه, وقال له: إنك لطيب النفس حين تزوج النساء وعندك ثلاث عشرة مائة قتيلٍ من المسلمين.
وقال أعرابيٌ لابن عم له: سأتخطى ذنبك إلى عذرك, وإن كنت من أحدهما على يقينٍ ومن الآخر على شكٍ ليتم المعروف مني إليك, وتقوم الحجة لي عليك.
وفي مثله: كتب رجلٌ إلى آخر: إنك تحسن مجاورتك للنعمة, واستدامتك لها, واجتلابك ما بعد منها بشكر ما قرب, واستعمال الصفح لعلمك بما في عاقبته من جميل عادة الله عندك./ تستقبل العذر على معرفتك بشناعة الذنب, وتقيل العثرة وإن لم تكن على يقينٍ من صدق النية, وتدفع السيئة بالتي هي أحسن.
ولأبي دهبلٍ.
ما زلت في العفو للذنوب وإطلاقٍ لعانٍ بغله غلق(1/116)
حتى تمنى الجناة أنهم ... عندك أمسوا في القد والحلق
حدثنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري عن عمر بن شبة قال: قدم معاوية المدينة سنة تسعٍ وخمسين, فعزل مروان بن الحكم, وحجبه, ثم إذن له, فقال مروان: يا أمير المؤمنين! لم عزلتني وحجبتني؟ قال: عزلتك أني رأيتك تخطرفت فوق قدر ما أردت/ بك. وشكت رملة بنت أمير المؤمنين أنك ضلعت عليها مع زوجها عمرو بن عثمان أن كان أقرب إليك منها بأبٍ, وظننت أن ذلك لشيءٍ تسره في نفسك, وتصنع له, وحجبتك لأني أردت أن أغضب عليك لئلا تغضب علي.(1/117)
قال: أما ما زعمت أني تخطرفت فوق ما أردت بي, فوالله لو جهدت ما بلغت الذي أردت بي. وأما رملة فإنها أرادت أن تأخذ بقدر فضلها على زوجها, فعلمت أن ذلك فراق بينهما, فقصرتها على الحق, فلم تره يلزمها. والله لقد بذلت العدل بالحجاز حتى من نفسي, فكيف أضلع على بنت أمير المؤمنين؟ قال معاوية: ما أراك إلا صادقاً, فدع هذا اليوم فليذهب بعتابه, فإن لك يوماً لا عتاب فيه. فانصرف ولا تخفين علي شيئاً يكون بحضرتك.
فقام مروان, فرأى رجلاً في ناحية الدار معانقاً جاريةً, فرجع فقال: يا أمير المؤمنين! حصن دارك, فإن هذه الفحول إذا هبت هجمت. قال: كأنك رأيت شيئاً أنكرته! قال: نعم! رأيت في ناحية الدار رجلاً معانقاً امرأةً. وقد قلت لي: لا تخفين علي شيئاً بحضرتك. قال: ليس بهذا أمرناك, ولا عليه أدرناك. إن الملوك يجمعون من كل حسنٍ وحسنةٍ, / فيكفونهم المؤونة, فيكون من ذلك ما لا تعلمون. والفارغ ملتمسٌ شغلاً. فإن كنت رأيت حرةً تصونها أو حراً تمنعه كان في ذلك(1/118)
نكيرٌ. قال: والله ما رأيت ذلك. قال: فاله عنه, فإن من اجتمع عمده تقعقع. وعسى أن ننظر في بعض ما ذكرت.(1/119)
(3) باب العفو عن ذوي الجنايات استصلاحاً لهم ومداراةً لعشائرهم
حدثنا مغيرة بن محمدٍ المهلبي قال: حدثنا الزبير/ بن بكارٍ قال: حدثني عمي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزا بني المصطلق بالمريسيع, وهو ماءٌ لبني المصطلق, فهزمهم الله, وسبى في غزوته جويرية بنت الحارث بن أبي ضرارٍ, فقسم لها, وكانت من نسائه, قال: وزعم بعض بني المصطلق أن أباها طلبها فأفداها من رسول الله صلى الله عليه وسلم , ثم خطبها رسول الله, فزوجه إياها.(1/121)
فلما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قتالهم, وردت واردة الناس, فازدحموا على الماء, فاقتتل رجلان من المسلمين أحدهما أجيرٌ لعمر بن الخطاب, من غفار, يقال له: جهجاه بن مسعودٍ/ والآخر من جهينة حليفٌ لبني عوف, من الخزرج. فصرخ الجهني: يا معشر الأنصار, وصرخ جهجاهٌ بالمهاجرين.
فغضب عبد الله بن أبي بن سلولٍ, وعنده رهطٌ من قومه فيهم زيد بن أرقم, وهو يومئذٍ حديث السن. فقال عبد الله: أقد فعلوها؟ أقد كاثرونا ونافرونا في بلادنا؟! والله ما أعدنا وجلابيب قريشٍ هذه إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك. أما(1/122)
والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ثم أقبل على من حضر من قومه فقال: هذا ما فعلتموه بأنفسكم, أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم/ أموالكم. أما والله لو أمسكتم عنهم بأيديكم لتحولوا إلى دار غيركم.
فمشى زيد بن أرقم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما سمع منه, وعنده عمر بن الخطاب, فقال: يا رسول الله مر به عباد ابن بشرٍ فليضرب عنقه. فقال عليه السلام: كيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه؟.. لا, ولكن أذن بالرحيل.. [وذلك] في ساعةٍ لم يكن رسول الله يرتحل فيها.
وبلغ الخبر عبد الله فجاء إلى رسول الله, فحلف أنه ما قال(1/123)
ما أبلغه زيدٌ. فقال من حضر: يا رسول الله! لعل الغلام أوهم في حديثه, ولم يفهم ما قال, حدباً على/ عبد الله ورداً عنه.
فلما استقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من منزله لقيه أسيد بن حضيرٍ, فحياه بتحية النبوة وقال: يا رسول الله! لقد ارتحلت في ساعة, ما كنت ترتحل فيها. فقال: أو ما بلغك ما قال صاحبكم؟! قال: وما قال؟ قال: زعم أنه إن دخل المدينة ليخرجن الأعز الأذل منها. فقال: فأنت والله –يا رسول الله- مخرجه إن شئت.. لأنك العزيز وهو الذليل. ثم قال: يا رسول الله! ارفق به. لقد كان الذي أكرمنا الله به قدومك علينا, وإن قومه لينظمون له [الخرز] ليتوجوه به. وإنه ليرى أنك قد سلبته ملكاً. فلما أنزل الله سورة/ ((المنافقين)) قال رسول الله لزيد بن أرقم: وفى الله بأذنه.(1/124)
وجاء عبد الله بن عبد الله بن أبي إلى رسول الله فقال: بلغني أنك أردت قتل عبد الله بن أبي فيما بلغك. فإن كنت فاعلاً فأمرني به فأنا أحمل إليك رأسه. فوالله لقد علمت الخزرج أنه لم يكن فيها رجلٌ أبر بوالده مني, وإني أخشى إن أمرت غيري بقتله ألا تطيب نفسي أن تنظر إلى قاتل أبي يمشي على الأرض فأقتله, فأكون قد قتلت مؤمناً بكافرٍ فأدخل النار. فقال له رسول الله: بل نترفق به, ونحسن صحبته ما بقي فينا. فكان عبد الله بن أبي بعد ذلك إذا أحدث/ الحدث لامه قومه وعنفوه.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمر: كيف ترى يا عمر؟! أما والله لو قتلته يوم أمرتني بقتله لأرعدت له آنفٌ لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته. فقال عمر: قد علمت أن أمرك أعظم بركةً من أمري.(1/125)
وقال حسان بن ثابتٍ يهجو المهاجرين!
أمسى الجلابيب قد عزوا وقد كثروا ... وابن الفريعة أمسى بيضة البلد
يرمون بالقول سراً في مهادنةٍ ... تهدداً لي كأني لست من أحد
قد ثكلت أمه من كنت صاحبه ... وكان منتشباً في برثن الأسد
ما للقتيل الذي أعدو فأقتله ... من ديةٍ فيه أعطيها ولا قود(1/126)
ما البحر حين تهب الريح شاميةً ... فيغطئل ويرمي العبر بالزبد
يوماً بأغلب مني حين تبصرني ... أفري من الغيظ فري العارض البرد
أما قريشٌ فإني لست تاركها ... حتى ينيبوا من الغيات للرشد
ويتركوا اللات والعزى بمنزلةٍ ... ويسجدوا كلهم للواحد الصمد
أبلغ بني بأني قد تركت لهم ... من خير ما يترك الآباء للولد(1/127)
الدار واسطةٌ والنخل شارعةٌ ... والبيض يرفلن في القسي كالبرد
فقال صلى الله عليه وسلم : يا حسان! نفست علي إسلام قومي؟.. فأغضبه كلامه, فغدا صفوان بن المعطل السلمي على حسان فضربه بالسيف, وقال صفوان:
تلق ذباب السيف عني فإنني ... غلامٌ إذا هوجيت لست بشاعر(1/128)
قال: فوثب قومه على صفوان, فحبسوه, ثم جاؤوا سعد بن عبادة فذكروا له ما فعل حسان وفعلوا. فقال: أشاورتم رسول الله في ذلك؟ قالوا: لا! فقعد إلى الأرض وقال: وا انقطاع ظهراه! تأخذون بأيديكم ورسول الله بين ظهرانيكم. ودعا بصفوان, فأتي به, فكساه وحلاه, فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من كساك كساه الله.
وقال حسان: احملوني إلى رسول الله أترضاه, ففعلوا, فأعرض عنه رسول الله, فانصرفوا به. ثم قال لهم: عودوا بي إلى رسول الله. فقالوا: قد جئناه/ بك مرتين, كل ذلك يعرض عنك, فلا نبرمه بك. فقال: احملوني إليه هذه المرة وحدها, ففعلوا وأعرض عنه رسول الله. فقال: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي احفظ قولي:(1/129)
هجوت محمداً فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء
فإن أبي ووالده وعرضي ... لعرض محمدٍ منكم وقاء
قال: فرضي عنه رسول الله, ووهب له سيرين أخت مارية أم إبراهيم بن رسول الله. فولدت لحسان عبد الرحمن بن حسان, فكان عبد الرحمن ابن خالة إبراهيم بن رسول الله.
قال: وحدثنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثنا المدائني قال: لما ارتدت العرب ارتد عمرو بن معد يكرب في بني زبيدٍ. فوجه إليهم أبو بكر خالد بن سعيد بن العاص فهزمهم, وأخذ عمراً أسيراً, فقال له عمروٌ: استبقني لعلي أصيب في الإسلام عملاً يغسل عني ذنبي. فاستبقاه, وأطلق له ماله, فاتبعه عمروٌ فقال: سلني حاجةً. قال: لا حاجة لي إليك.(1/130)
قال: علي ذاك. قال: أما إذ أبيت فسيفك الصمصامة قال: لا سبيل إلى ذلك. قال: فبارك الله لك فيه.
قال: فرجع عمرٌو، فرأته امرأته كئيباً، فقالت له: ما لك؟ فأخبرها. فقالت: ثكلتك أمك! أسرك رجلٌ، واستبقى مالك، وامتن عليك، وأطلقك ومالك بعد أن كنت له فيئاً ومالك فيئاً، فاتبعته تعرض عليه الحاجة، فأبى أن يسألها، فلم تدعه حتى سألك بعض ما وهبه لك من مالك فمنعته؟!.. اتبعه فادفعه إليه. فاتبعه مغذاً حتى دفعه إليه وقال:
فارقني ببطن الجو سيفي ... على الصمصامة الذكر السلام(1/131)
خليلٌ لم أخنه ولم يخني ... ولكن المواهب للكرام
حدثنا أحمد بن عبد العزيز قال: حدثنا ابن شبة قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر قال: حدثنا محمد بن فليحٍ عن موسى بن عقبة عن ابن شهابٍ قال: بعث أبو بكر/ المهاجر بن أبي أمية قبل النجير، وبه مقاولة أهل اليمن ورؤوسهم، وكانوا قد(1/132)
أسلموا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصدقهم. فسألهم المهاجر الصدقة، فمنعوها منه. فمنع المهاجر قلة من معه أن يقاتلهم، فتحصن، وكتب إلى أبي بكر يستمده.
فبعث إليه أبو بكر جيشاً أمر عليهم عكرمة بن أبي جهلٍ مدداً للمهاجر. فلما قدموا عليه زحف إليهم فهزمهم الله، وقتل رؤوسهم, وأخذ رجالاً من أشرافهم، فأقبل بهم، منهم الأشعث بن قيسٍ الكندي وكثير بن الصلت الكندي فأطلقهم أبو بكر، وأنكح الأشعث أخته.(1/133)
قال: ويروى أن المهاجر حاصرهم حتى تحصنوا بالنجير. فلما عضهم الحصار قال الأشعث بن قيسٍ: اجعلوا لعشرةٍ منا الأمان حتى ننزل إليكم. ففعلوا، فعد عشرةً، ولم يعد نفسه، فأخذ أسيراً، فقدم به على أبي بكر، فقال أبو بكر: الحمد لله الذي أمكن منك بلا عهدٍ ولا ميثاقٍ، أنا قاتلك. قال: أفلا خيراً من ذلك؟ قال: وما هو؟ قال: تستعين بي على حربك، وتزوجني أختك. قال: ففعل أبو بكر، صفح عنه، وزوجه أخته أم فروة بنت أبي قحافة، وكانت عمياء، فولدت للأشعث محمداً.
وقال امرؤ القيس بن عابسٍ/ الكندي في ارتداد الأشعث:(1/134)
ألا أبلغ أبا بكرٍ رسولاً ... وخص به سراة المسلمينا
فلست مبدلاً بالله رباً ... ولا مستبدلاً بالحق دينا
شأمتم قومكم وشأمتمونا ... وغابركم كأشأم غابرينا
حدثني أبي قال: حدثنا أبو حاتمٍ السجستاني قال: حدثنا وهب بن جريرٍ عن أبيه عن ابن إسحاق أن أبا بكر بعث خالد ابن الوليد إلى اليمامة، وأوعب معه الناس.فلما كان خالدٌ ببعض(1/135)
الطريق أصابت مقدمة خيله خيلاً لأهل اليمامة، فيهم مجاعة بن مرارة وهو سيد أهل اليمامة، كانوا خرجوا في طلب/ رجلٍ من بني نميرٍ، كان أصاب لهم دماً. فهجمت عليهم مقدمة خيلٍ لخالد، وهم نيامٌ، بأيديهم أعنة خيولهم. فنزلوا إليهم فأوثقوهم. فقالوا: من أنتم؟ قالوا: أهل اليمامة. قالوا: فلا مرحباً بكم ولا أهلاً.
فلما نزل خالدٌ أتي بهم فقال: يا أهل اليمامة! ما تقولون؟ قالوا: منا نبيٌ ومنكم نبيٌ.. حتى إذا بقي منهم رجلٌ، وبقي مجاعة، فأقيم الرجل لتضرب عنقه، فقال له: يا خالد! إن كنت تريد بهذه القرية غداً خيراً أو شراً، فاستبق هذا الرجل، يعني مجاعة، فضرب عنق الرجل، وأوثق مجاعة في الحديد، وألقاه إلى أم تميم/ امرأة خالدٍ.(1/136)
ومضى خالدٌ حتى ضرب عسكره بقريةٍ من اليمامة يقال لها: إباض. فلما تهيأ للقتال خرجت بنو حنيفة، وفيهم رحال بن عنفوة، وهو الذي شهد لمسيلمة الكذاب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: مسيلمة شريكي في النبوة، وفيهم محكم اليمامة. فلما أخذ الناس مصافهم، وخالدٌ مشرفٌ على(1/137)
سريرٍ رأى البارقة في حنيفة. فقال: أبشروا يا معشر قريش! فقد كفاكم الله عدوكم، واختلفوا بينهم. فنظر مجاعة فقال: كلا! والله ما اختلفوا، ولكنها الهندوانيات خشوا تحطمها، فأبرزوها للشمس حتى/ تلين متونها. فكان كما قال مجاعة.
ثم اقتتل الناس، فكان أول قتيلٍ رحال بن عنفوة. واقتتل الناس قتالاً شديداً حتى عظمت المصيبة في المسلمين، وقتل أشراف الناس، حتى انحاز خالدٌ والمسلمون عن عسكرهم، ودخلته بنو حنيفة، فشقوا فسطاطه بأسيافهم. ودخل رجلٌ منهم بالسيف على أم تميمٍ فألقى مجاعة عليها رداءه وقال: أنا لها جارٌ، فنعمت الحرة والله ما علمت، عليكم بالرجال. ثم إن فئة من المسلمين فاءت إلى عسكرهم، فدخلوا على مجاعة ليقتلوه، فقالت أم تميم: أنا له جارةٌ، فتركوه.
حدثني أبي قال: حدثني السجستاني قال: حدثنا وهب بن(1/138)
جريرٍ قال: حدثنا جويرية بن أسماء، قال: سمعت أشياخ أهل المدينة يحدثون أن معاوية لما حضرته الوفاة دعا يزيد ابنه فقال: إن لك من أهل المدينة يوماً، فإن فعلوا فارمهم بمسلم بن عقبة المري، فإنه رجلٌ قد عرفنا نصيحته.
فلما ملك يزيد ووفد إليه وفدٌ من أهل من أهل المدينة كان فيمن وفد عليه عبد الله بن حنظلة بن أبي عامرٍ، وكان شريفاً فاضلاً سيداً عابداً، ومعه ثمانية بنين له، فأعطاه مائة ألف درهم، وأعطى كل رجل من بنيه عشرة آلاف درهمٍ سوى كسوتهم وحملانهم.
فلما قدم عبد الله بن حنظلة المدينة أتاه الناس فقالوا:(1/139)
ما وراءك؟ قال: جئتكم من عند رجلٍ، والله لو لم أجد إلا بني هؤلاء لجاهدته بهم. قالوا: فقد بلغنا أنه أجارك، وأعطاك. قال: قد فعل، وما قبلت ذلك إلا لأتقوى به عليه.
قال: وحضض الناس، فبايعوه، وأخرجوا بني أمية من المدينة، وأخرجوا مروان بن الحكم وعثمان بن [أبي سفيان]، وكان الأمير، فنزل بنو أمية حيفاء. وكتب مروان إلى يزيد بالذي كان من رأي القوم. فلما جاءه الكتاب أمر بقبةٍ فضربت خارجاً من قصره. وقطع البعوث على/ أهل الشام مع مسلم بن عقبة المري. ولم تنصرم ثالثةٌ حتى فرغ. ثم أصبح في اليوم الرابع، فعرض عليه الكتائب. وقد كان بلغه أن ابن الزبير يسميه السكير. قال: فجعلت تمر به الكتائب، فجعل يقول:(1/140)
أبلغ أبا بكرٍ إذا الجيش انبرى ... ثم أتى الجمع على وادي القرى
سبعون ألفاً مثل آساد الشرى ... أجمع نشوان من القوم ترى
قال: وكان أهل المدينة قد بعثوا إلى كل ماءٍ بينهم وبين الشام ومصر, فصبوا فيه القطران, وعوروه. فأرسل الله عليهم السماء, فلم يستقوا بدلوٍ حتى وردوا المدينة. فخرج إليهم بجموعٍ لم ير مثلها. فلما رآهم أهل الشام هابوهم, وكرهوا قتالهم, ومسلمٌ وجعٌ, شديد الوجع. فأمر بسريره, وهو عليه, فقدم حتى وضع بين الصفين, وأمر منادياً فنادى: قاتلوا عني أو دعوا.
فبينا الناس في قتالهم إذ سمعوا التكبير من خلفهم في جوف المدينة, قد أقحم عليهم بنو حارثة أهل الشام, فانهزم الناس.(1/141)
فكان من أصيب في الخندق أكثر ممن قتل الناس, فدخلوا المدينة, وهزم الناس, وعبد الله بن حنظلة مستندٌ إلى بعض بنيه, يغط نوماً, فنبهه ابنه. فلما فتح عينيه, فرأى ما صنع/ الناس أمر أكبر بنيه, فتقدم حتى قتل. فلم يزل يقدم بنيه واحداً فواحداً حتى أتى على آخرهم, ثم كسر جفن سيفه, وقاتل حتى قتل.
ودخل مسلمٌ إلى المدينة, فدعا الناس إلى بيعة يزيد, على أنهم خولٌ ليزيد بن معاوية, يحكم في دمائهم وأموالهم وأهاليهم بما شاء, حتى أتي بعبد الله بن زمعة وكان صديقاً ليزيد بن معاوية وصفياً له فقال: بايع على أنك خولٌ لأمير المؤمنين, يحكم في دمك ومالك. فقال: أبايعك على أني ابن عم أمير المؤمنين يحكم في دمي وأهلي. قال: اضربا عنقه. فوثب مروان, فضمه إليه(1/142)
وقال:/ نبايعك على ما أحببت. قال: لا والله, لا أقبلها أبداً. وقال: إن تنحى وإلا فاقتلوهما جميعاً. فتركه مروان, وضربت عنق ابن زمعة.
ثم أتي بعلي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب, فأمر بضرب عنقه, فقامت كندة فقالت: والله لا تقتل ابن أختنا. وسألوه العفو عنه, فعفا عنه, فذلك قول علي بن عبد الله يفخر بخؤولته في كندة, وأنهم استنقذوه من مسلمٍ يوم الحرة:
أبي العباس قرم بني معدٍ ... وأخوالي الكرام بنو وليعة(1/143)
هم منعوا ذماري يوم جاءت ... كتائب مسلمٍ وبني اللكيعة
أراد بي التي لا خير فيها ... فحالت دونه أيدٍ منيعة
هم ملكوا بني أسدٍ وأوداً ... وقيساً والعمائر من ربيعة
وكندة معدنٌ للملك قدماً ... يزين فعالهم كرم الدسيعة
قال: وحدثني أبي عن أبي حاتم قال: حدثنا وهب بن جريرٍ عن أبيه عن ابن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وادعته يهود كلها,(1/144)
وكتبوا فيما بينهم كتاباً, فألحق كل قوم بحلفائهم, وشرط عليهم شروطاً, ألا يظاهروا علينا عدواً أبداً. فلما رأت بنو قينقاع ما أكرم الله به رسوله يوم بدرٍ من قهره/ من قهر من أشراف قريشٍ قتلاً وأسراً حسدوه فقالوا: يا محمد! لا يغرك من نفسك أن نلت من قومك ما نلت, فإنهم قومٌ لا علم لهم بالحرب. أما والله لو حاربناك لعلمت أن حربنا ليست كحربهم, وأنا نحن الناس.
فكان بنو قينقاع أول من نقض الشرط بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما رأى رسول الله ذلك سار إليهم فحاصرهم في حصونهم, فقذف الله في قلوبهم الرعب, فنزلوا على حكم رسول الله. فجاء عبد الله بن أبي بن سلولٍ فقال: يا محمد! أحسن إلي في موالي, فلم يلتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم , / فتبعه حتى أدركه, فأدخل يده في جيب درعه من خلفه, فأمسك بها, فالتفت إليه رسول الله فقال: ويلك! أرسلني. فقال: لا والله حتى تحسن إلي في موالي, أربعمائة حاسرٍ, وثلاثمائة دارعٍ, قد منعوني من الأحمر والأسود, تريد أن يحصدوا في غداةٍ واحدةٍ! إني والله امرؤٌ(1/145)
أخاف الدوائر قال: فغضب رسول الله حتى رأوا لوجهه ظللاً, ثم قال: ويلك! أرسلني. قال: لا والله لا أرسلك حتى تحسن إلي فيهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هم لك. فأجلاهم رسول الله وأخذ أموالهم.
حدثني أبي قال: حدثنا أبو حاتمٍ عن وهب بن جرير عن ابن إسحاق عن رجاله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم / لما توفي, وارتدت العرب كان فيمن ارتد طليحة بن خويلدٍ الأسدي, فإنه ادعى النبوة, وسجع أسجاعاً كثيرةً, وذكر أن جبريل يأتيه, فتبعته أسدٌ وغطفان, ورئيس غطفان عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدرٍ الفزاري. فصدق طليحة, واتبعه.(1/146)
وكان طليحة يقول لمن اتبعه من أهل الردة: إن الله لا يصنع بتعفيركم وجوهكم وفتح أدباركم شيئاً. فاذكروا الله أعفةً كراماً قياماً, فإني أشهد أن الصريح تحت الرغوة. وكان مما سجع لهم به, فابتلى به الناس أنه أصابه وأصحابه عطشٌ في منزلٍ هم فيه، فقال فيما سجع: اركبوا علالاً –يعني/ فرسه- فاضربوه أميالاً تجدوا بلالاً. ففعلوا فوجدوا ماءً.
فبعث إليه أبو بكر خالد بن الوليد لمحاربته، فقصده خالدٌ. فلما دنا منه ومن أصحابه بعث عكاشة بن محصن الأسدي وثابت بن الأقوم أخا بني النجار طليعة أمامه. وخرج طليحة بن خويلدٍ(1/147)
وأخوه سلمة أيضاً طليعةً. فالتقى طليحة بن خويلدٍ وسلمة وعكاشة وثابتٌ. فافترد طليحة عكاشة وسلمة ثابتاً فأما سلمة فلم يلبث ثابتاً أن قتله. وصرخ طليحة: يا سلمة أعنى على الرجل فإنه قاتلي. فاكتنفا عكاشة حتى قتلاه، ثم كرا راجعين إلى من وراءهما من الناس.
وأقبل خالدٌ والمسلمون، / فلم يرعهم إلا ثابت بن أقرم ينقر بطنه الطير قتيلاً. فعظم ذلك على المسلمين، وراعهم، ثم لم يسيروا إلا يسيراً حتى وطئوا عكاشة بن محصن قتيلاً. فثقل القوم على المطي كما وصف واصفهم حتى ما تكاد ترفع أخفافها.
ومضى خالدٌ حتى نزل على طيءٍ في جبليهم سلمى وأجأٍ، وضرب هناك عسكره، وانضم إليه المسلمون من تلك القبائل،(1/148)
ثم سار إلى طليحة، وهو على ماءٍ يقال له: قطنٌ. فالتقى الناس فاقتتلوا قتالاً شديداً، وقاتل عيينة بن حصن بن حذيفة في سبعمائة من فزارة قتالاً شديداً، وطليحة ملتفٌ بكساءٍ له بفناء بيتٍ له/ من شعرٍ، ويتنبى لهم، زعم، والناس يقتتلون.
فلما هر عيينة الحرب، وضرسه القتال مر على طليحة فقال: هل جاءك جبريل بعد؟ فقال: لا! فرجع يقاتل حتى إذا ضرسه القتال وهرته الحرب كر عليه فقال: لا أبا لك هل جاءك جبريل بعد؟ قال: لا والله. قال: يقول عيينة بن حصنٍ: حلفاً حتى متى؟! قد والله تلفنا. قال: ثم رجع فقاتل، حتى إذا بلغ كر عليه فقال: هل جاءك جبريل بعد؟ قال: نعم! قال: فما قال لك؟ قال: قال لي: إن لك رجاءٍ كرجاه، وحديثاً لا تنساه. فقال(1/149)
عيينة: علم الله أن سيكون لك حديثٌ لا تنساه. يا بني فزارة هكذا/ فانصرفوا، هذا والله كذابٌ. فانصرفوا.
وانهزم الناس، فغشوا طليحة يقولون: ما تأمرنا؟ وقد كان أعد فرسه عنده، وأعد لامرأته النوار بعيراً. فلما غشوه يقولون: بماذا تأمرنا؟ وثب على فرسه، وحمل امرأته ثم نجا، وقال: من استطاع منكم فليفعل كما فعلت، ثم مضى نحو الشام.
فلما أوقع الله بهم ما أوقع أقبلت القبائل التي ارتدت يقولون: ندخل فيما خرجنا منه، ونؤمن بالله وبرسوله، ونسلم لحكمه في أموالنا وأنفسنا.
وجعل خالدٌ يأخذ عليهم العهد أن عليكم عهد الله وميثاقه لتؤمنن بالله ورسوله، ولتقيمن الصلاة، وتؤتون الزكاة. حتى إذا فرغ من ذاك أوثق عيينة بن حصنٍ وقرة بن هبيرة فيمن ارتد وبعث بهما إلى أبي بكر، فأدخلا إلى المدينة، وكل واحد منهما يده(1/150)
مجموعةٌ إلى عنقه. وجعل غلمان أهل المدينة ينخسون عيينة بن حصن بالجريد، وهو مثل الجمل، ويقولون له: أكفرت بالله بعد إيمانك؟ وهو يقول: ما كنت آمنت بالله قط فتجافى أبو بكر رضي الله عنه وعن دمه، وعفا عنه، وخلى سبيله.
وأما قرة بن هبيرة فذكر له أن له إسلاماً لم يفارقه، وقال: قد كان عمرو بن العاص مر بي فأنزلته، وأكرمته. وقد كان رسول الله - عليه السلام -/ بعث عمرو بن العاص إلى عمان. فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع عمرٌو حتى مر على قرة بن هبيرة، وهو في قومه، فأنزله، ونحر له، وأكرمه، ثم خلا قرة بعمرٍو فقال: يا عمرو إنكم معاشر قريشٍ إن أنتم كففتم عن أموال الناس، وتركتموها لهم –يريد الصدقة- فقمنٌ أن يسمع الناس لكم ويطيعوا. وإن أنتم أبيتم إلا أخذ أموالهم فإني والله ما أرى العرب مقرةً لكم، ولا صابرةً عليه حتى ينازعوكم أمركم، فيطلبوا ما في أيديكم. فقال له عمرٌو: أبالعرب تخوفنا؟ موعدك جعس أمك. فإني أقسم بالله لأوطئنه عليك.(1/151)
ومضى عمرٌو حتى قدم على أبي بكرٍ بالذي سمع من قرة. فلما أتي بقرة أسيراً دعا أبو بكر عمراً، فسأله عن الخبر، وقال: ما تعلم من أمر هذا؟ فقص عليه الخبر، حتى إذا انتهى إلى ما قال له في أمر أموال الصدقة قال له قرة: حسبك رحمك الله. قال: لا والله حتى أبلغ لخليفة رسول الله كل ما قلت لي. فبلغه له، وتجافى أبو بكر عنه، وحقن دمه.
حدثنا الجوهري قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثنا المدائني قال لما سار عبد الملك بن مروان لمحاربة مصعب بن الزبير كتب إلى رؤساء أصحاب مصعبٍ/ يدعوهم إلى نفسه، ويضمن لهم الولاية. فكلهم أجابه، وشرط عليه ولاية أصبهان. وكان ممن أجاب عبد الملك إلى خذلان مصعبٍ حجار بن أبجر والغضبان بن القبعثرى وعتاب بن ورقاء(1/152)
الرياحي وقطن بن عبد الله الحارثي ومحمد بن عمير بن عطاردٍ. وكتب إلى إبراهيم بن الأشتر يدعوه إلى نفسه، ويضمن له ولاية العراق.
فأقبل إبراهيم بكتاب عبد الملك إلى مصعب مختوماً لم يقرأه، فدفعه إليه، فقال له مصعبٌ: ما فيه؟ قال: ما قرأته. فقرأه مصعب، فإذا فيه يدعوه إلى نفسه، ويجعل له ولاية العراق. فقال لمصعب: إنه والله ما كان من أحد آيس/ منه مني. ولقد كتب إلى أصحابك كلهم(1/153)
كما كتب إلي فأطعني فيهم، واضرب أعناقهم. قال: إذن لا تناصحنا عشائرهم. قال: فأوقرهم حديداً، وابعث بهم إلى أبيض كسرى فاحبسهم هناك، ووكل بهم من إن غلبت ضرب أعناقهم، وإن غلبت مننت بهم على عشائرهم. فقال: يا أبا النعمان! إنا عن ذلك لفي شغلٍ. رحم الله أبا بحرٍ إن كان ليحذرني غدر أهل العراق, وكأنه كان ينظر إلى ما نحن عليه.
ويروى أن معاوية بن أبي سفيان أمر بعقوبة روح بن زنباعٍ فقال روحٌ: يا أمير المؤمنين! أنشدك الله أن تضع مني خسيسةً/ أنت رفعتها, أو تنقض مني مرةً أنت أبرمتها, أو(1/154)
تشمت بي عدواً أنت وقمته, وإلا أتى حلمك على جهلي وإساءتي. قال معاوية: خليا عنه, وقال:
إذا الله سنى عقد أمرٍ تيسرا
حدثني أبي قال: حدثنا السجستاني قال: حدثنا المدائني, قال: لما اعتزم أبو مسلمٍ على خلع أبي جعفرٍ, وتوجه إلى(1/155)
خراسان جرت بينهم مكاتباتٌ. وكان آخر ما كتب إليه أبو مسلمٍ كتاباً فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم
((أما بعد! فإني كنت اتخذت أخاك إماماً ودليلاً/ على ما افترض الله على خلقه. وكان في ظني بأفضل محلٍ من العلم لقرابته من رسول الله, ففتح لي الفتنة, واستجهلني في القرآن يحرفه عن مواضعه طمعاً في قليلٍ من الدنيا زائلٍ, قد نعاه الله إلى أهله, ومثل لي الضلالة في صورة الهدى, وأمرني أن أجرد السيف, فأقتل في الظنة, وأقدم على الشبهة, وأرفع الرحمة, ولا أقبل العذر. فسقم عندي البريء, ولم يبرأ عندي السقيم, ووترت أهل الدين والدنيا في طاعتكم, وتوطيد سلطانكم, حتى عرفكم من كان(1/156)
يجهلكم, وأوطأت غيركم من قومكم الذل, وركبتهم بالإثم والعدوان. ثم إن الله برحمته تداركني/ منه بالندم, واستنقذني منه بالتوبة. فإن يعف ويصفح فإنه كان للأوابين غفوراً)).
فأجابه المنصور:
((أما بعد أيها المجرم الطاغي! فإن أخي –رحمه الله- كان إمام هدىً, يدعو إلى الله على بينةٍ من أمره, فأوضح السبيل, وحملك منها على المنهج الذي عليه أتى الكتاب. فلو بأخي الإمام الرضي اقتديت, وإلى أمره انتهيت, ما كنت عن الحق حائداً, وعن السلطان مولياً, ولا كنت للشيطان ولياً. ولكنك –قد يعلمه الله- ما كنت لنا في طاعةٍ يوماً واحداً, وما زلت منذ انتحلت ولايتنا تهوي بك الريح في مكانٍ سحيقٍ. لا يسنح لك أمران إلا كنت لأسدهما تاركاً, ولأغواهما موافقاً. تقتل على الغضب, وتعفو عند الرضا, وتبطش بالسيف بطش الجبارين, وتحكم بالجور حكم المفسدين في(1/157)
الأرض غير المصلحين. فأوجب الله عليك الثلاث الموجبات من قوله في الكتاب الحكيم: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}.. و {أولئك هم الظالمون}.. و {أولئك هم الفاسقون}. فجمعهن الله فيك يا أفسق الفاسقين وأظلم الظالمين وأكفر الكافرين! فعش رويداً يبلغ الكتاب أجله.
وأمير المؤمنين يشهد الله وملائكته/ المقربين وصالح المؤمنين أنه وأخاه العباس وأخانا من قبلنا أبا إسحق برآء إلى الله منك يا بن وشيكة فيما اقترفت من الإثم, واجترحت من السيئات.(1/158)
ومن قبل ما برئ والدي الإمام أبو عبد الله رضوان الله عليه من إمامك اللعين خداشٍ المرتد عن الدين فحقت عليه لعنته, فأدركه الله بها في العاجلة, وله العذاب الأكبر في الآخرة, وطالما أشبهت خداشاً وأشبهك.. .. مثل الحمار يحمل أسفاراً بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله, والله لا يهدي القوم الظالمين.
وبعد, فإن خبر ما قبلي أني قد وليت موسى بن كعبٍ/(1/159)
خراسان, وأمرته بالمقام بنيسابور فإن أنت أردت خراسان لقيك من دونها بمن معه من قوادي وشيعتي, وأنا موجهٌ للقائك أقواماً: الحسن بن قحطبة وخازم بن خزيمة وستعلم يا بن وشيكة إذا سرحتك الأسنة وأحيط بك من بين يديك ومن خلفك أي امرئٍ تكون. فأجمع أمرك وكيدك غير موفقٍ ولا سديدٍ, والله حسب أمير المؤمنين)).
قال: فلما قرأ أبو مسلمٍ الكتاب انخزل ظهره وألقى بيده, وعلم أنه لا خراسان له ولا عراق. فشاور أبا نصرٍ مالك بن(1/160)
الهيثم وأبا إسحاق صاحب حرسه, فقال لهما: ما الرأي؟! هذا موسى بن كعبٍ لنا من دون خراسان, وهذه رماح أبي جعفرٍ وسيوفه من خلفنا. وقد أنكرت من أثق به من أهل عسكري.
فقال له أبو نصرٍ: هذا رجلٌ يضغن عليك أموراً متقدمةً, منها ما كان منك إليه مقدمه عليك نيسابور, ثم زدت في ذلك, ثم في صحبتك إياه إلى مكة, وأشد من ذلك الذي فعلت مقدمك الأنبار عند وفاة أبي العباس.
فلو كنت إذ هذا بلاؤك عنده ملت إلى بني علي كان ذلك(1/161)
أقرب إلى الحزم، أو أنك إذ لم تفعل هذا قبلت توليته إياك خراسان والشام، / وغزوت الصائفة ومدت بك وبه الأيام والشهور وأنت في فسحةٍ من رأيك، ووجهت إلى المدينة رجلاً فاجتلبت من بني فاطمة، ونصبته إماماً، واستملت به قلوب أهل خراسان وأهل العراق، ورميت أبا جعفرٍ بنظيره، فكنت على طريقٍ من التدبير. أتطمع أن تحارب أبا جعفرٍ، وعساكره بحلوان وهو بالمدائن خليفةٌ مجتمعٌ عليه، ثم تقوم له؟ لبئس ما ظننت.
فقال أبو مسلمٍ: يا أبا نصر! كل الذي ذكرت أعرفه، فما الرأي لنا يومنا هذا؟ قال: الرأي ضيقٌ، وأمرك منتشرٌ. ولكني أقول على الاضطرار أرى أن تكتب إلى الحريش بن سليمان/ عاملك على(1/162)
فسا وأبا ورد يسير بأصحابه حتى ينزل نيسابور قبل أن يسير إليها موسى بن كعبٍ، وتكتب إلى أبي داود أن يستخلف على بلخٍ، ويشخص بمن قبله من القواد والأجناد حتى يأتي نيسابور، فيضم إليه الحريش، ويحارب موسى بن كعبٍ، ونتوجه نحن حتى نلقى موسى. فما أحسبه إلا سيضعف عنا.
فقال له أبو مسلم: قد أحسنت المشورة يا أبا نصر! ولكني أخاف تثاقل أبي داود والحريش عن الشخوص. قال: فها هنا رأيٌ آخرٌ. قال: وما هو؟ قال: تنفذ إلى الري فتتقوى بما جمعت فيها من الأموال وآلة الحرب والعدة، ثم تتقحم على المصمغان صاحب(1/163)
دباوند، فإنه ليست له بنا يدان. فإذا صارت إلينا معاقله امتنعنا بها، ثم نناهض أصبهبذ طبرستان فإن أدركتنا آجالنا كان ذلك بأيدي أمةٍ من أمم الشرك، وإن ظفرنا صرنا إلى مملكةٍ وعزٍ. قال أبو مسلم: هذا رأيٌ إن وافقنا عليه من معنا من القواد. فقال له أبو نصر: فما دعاك إلى أن تخلع أبا جعفرٍ، ولست على ثقةٍ من أبي داود والحريش، ولا على ثقةٍ ممن في عسكرك؟! أنا أستودعك الله من قتيلٍ، وأتوجه إلى الري، فإن عاملك ابن عمي نصر بن عبد الحميد، وهو لك شيعةٌ، ولأبي جعفرٍ حربٌ، / وهو متخوفٌ من أبي جعفرٍ مثل الذي تتخوف. فأرجو أن يجتمع رأيي ورأيه على هذا(1/164)
الأمر الذي أشرت به عليك من غزو دباوند وطبرستان، وأستنجد عشيرتي بالري وقزوين.
قال أبو مسلم: فما تقول أنت يا أبا إسحاق؟ قال: أرى أن توجهني إلى أبي جعفرٍ حتى أسأله لك الأمان، فأقدم به عليك! فإنك منه على إحدى منزلتين: إما صفح عنك، وإما عاجلك وأنت على شعبةٍ من عزك من قبل أن ترى المذلة والصغار من أهل عسكرك. فإما صرت في أيديهم أسيراً وإما قتيلاً، يركضون برأسك إلى المدائن.
قال أبو نصرٍ مالكٌ:/ يا أبا إسحاق أما إنه سيعمل برأيك، فإن أمره مدبرٌ. وودع أبا مسلم متوجهاً إلى الري، وزهير بن التركي مولى خزاعة والٍ على همذان.
فلما صار مالكٌ إلى همذان سأله زهيرٌ أن يتغدى عنده، ففعل فوثب عليه، فقيده، وجاء إبراهيم بن عوفٍ في جماعةٍ(1/165)
ليتخلص مالكاً، فأشرف عليه وعلى أصحابه من المدينة زهيرٌ فقال: والله لئن شهرتم سيفاً، أو رميتم بنشابةٍ لأرمين إليكم برأسه! ليس عليه بأسٌ، والذي أريد به خيرٌ لكم وله. وإنما أريد توجيهه إلى المنصور. ولو قد صار إليه لعفا عنه واستصلحه.
واعتزم أبو مسلم على رأي/ أبي إسحاق، فكتب لنفسه أماناً توثق فيه، ووجه به أبا إسحاق، فقدم به المدائن، ولقي أبا جعفرٍ فقال: قد جعلت له هذا الأمان، ورد أبا إسحاق إليه وأبا مالك بن أسيد بن عبد الله فقدم أبو إسحاق وأبو مالكٍ، فأبلغه أبو مالك عن أبي جعفر ما قاله، وأبرز له الأمان. فقال: يا أبا مالك! ما لي في هذا الأمان من حاجةٍ، فاردده إلى أمير المؤمنين، وأنا شاخصٌ معك.. .. وشخص إلى أبي جعفرٍ، فقتله.
فلما قتل أبو مسلمٍ، وبعث زهيرٌ بمالك بن الهيثم إلى المنصور، وكان عليه شديد الغيظ لمشورته على أبي مسلمٍ بما أشار به من محاربة أبي جعفرٍ، فلما أدخل/ عليه، ولا يشك إلا أنه قاتله، قال له يا مالك! كان أبو مسلم استشارك في القدوم علي فمنعته من(1/166)
ذلك؟ وأشرت عليه بمحاربتي! قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: وكيف ذاك؟ قال: لأني سمعت أخاك إبراهيم الإمام يحدث عن أبيه محمد بن علي قال: لا يزال الرجل يزاد في رأيه ما نصح لمن استشاره!.. .. وكنت له أمس كذاك، وأنا اليوم لك كما كنت له.. .. فعفا عنه، ولم ير منه بعد ذلك إلا خيراً.
قال أبو الحسن: ونحوه في العفو للاستصلاح ما حدثنيه أبي عن أبي حاتمٍ عن المدائني قال: لما توفي/ السفاح، وأخذ عيسى بن علي البيعة على الناس لأبي جعفرٍ، ثم لعيسى بن موسى بعده. وكان لا يمر به أحدٌ ممن يأخذ عليه البيعة من قواد أهل خراسان وغيرهم إلا أخذ البيعة لهما عليه، ثم مسح يده على يده وقبلها، حتى(1/167)
مر سلم بن قتيبة بن مسلمٍ الباهلي، وكان سلم مدة أيام أبي العباس يجول في البادية خوفاً من أبي العباس، لأن سلماً كان مرواني الرأي، وكان من أشد قواد الدولة، فقدم الأنبار قبل موت السفاح بأيامٍ بأمانٍ بعث به إليه أبو العباس.
فلما بايع سلم بن قتيبة، ومسح يده على يد عيسى انصرف عنه، / ولم يقبلها –وكان الناس في تلك الأيام لا يعرفون تقبيل اليد! إنما هو شيء جاء به أهل خراسان- فاستنكر ذلك عيسى بن علي، وأخذ بثوبه، وقال له: من أنت؟ قال: أنا سلم بن قتيبة بن مسلمٍ. فقال عيسى بن علي: المبغض لدولتنا، المرواني الرأي والهوى، الغاش لأمير المؤمنين ولدولته. فقال سلمٌ: ألا أدلك على من هو أغش لأمير المؤمنين ولدولته مني؟!.. من يزعم أنه مع أمير المؤمنين وفي حيزه، وهو ثاني عنقه إلى أخيه، ويقدم رجلاً، ويؤخر أخرى. ويقول: أيهما ظفر كنت معه. قال: وانتزع ثوبه من يده، وانصرف.
ولقيه زياد بن عبد الله القشيري ومعن بن زائدة وغيرهما(1/168)
من أشراف العرب، فقالوا: ما لنا ولك؟ وما أردت إلينا؟.. لو كان هذا الرجل ركبك بمكروهٍ، ماذا كان عندنا من النكير؟!.. قال: إني والله ما عملت ما قلته له! ولقد كان أظلم ما بيني وبينه حتى ما أبصره!.. وكتب بذلك إلى المنصور، وحكي له الأمر على وجهه، فتجافى المنصور عن سلمٍ، وكان ذلك الذي أحدث له المنزلة عنده.
قال: ومثله ما حدثني به أبي قال: حدثنا السجستاني قال: حدثنا محمد بن عبد الله الأسدي قال: حدثنا أبو الخطاب/ قال: لما قدم يزيد بن هانئ برأس مروان بن محمد على أبي العباس جلس له مجلساً عاماً مشهوراً. فدخل يزيد بالرأس، فوضعه بين يديه، فقال أبو العباس لجلسائه: هل فيكم أحد يثبت هذا الرأس؟(1/169)
فقام سعيد بن عمرو بن جعدة بن هبيرة فأكب عليه ساعةً، فتأمله طويلاً، ثم قال: نعم يا أمير المؤمنين! هذا رأس خليفتنا بالأمس، رحمة الله عليه! وعاد إلى مجلسه. فأطرق أبو العباس يفكر ساعةً، ثم قام، فدخل، وتفرق الناس.
وانصرف سعيدٌ إلى منزله. فاجتمع إليه أهله وولده وأهل بيته، فقطعوه ملامةً، وقالوا: ماذا أردت إلى هذا؟!../ أشطت بدمائنا فقال: اسكتوا قبحكم الله! ألستم أصحابي بحران أشرتم علي بالتخلف عنه، ففعلت من ذلك غير فعل أهل الوفاء والشكر، وما كان ذلك حق مروان علي، وما كان يغسل عني عار تلك إلا هذه، والموت لا بد منه، وإنما أنا شيخٌ، هامة اليوم أو غدٍ، فإن نجوت من القتل فما أقربني من الموت.(1/170)
فلم يزالوا يتوقعون رسل أبي العباس أن تأتيهم في يومه, فلم يأتيهم أحدٌ. فقالوا: يطرقه من الليل, فيضرب عنقه, فأصبح فلم يأته رسولٌ, فغدا على سليمان بن مجالدٍ فلما نظر إليه قال: أبشر يا بن جعدة بجميل رأي/ أمير المؤمنين!إنه ذكر في هذه الليلة ما كان منك بالأمس فقال: أما والله ما أخرج ذلك إلا القول منه بالوفاء, وله أقرب قرابةٍ بنا, وهو لنا أشكر إن أحسنا إليه.
وإنما قيل: مروان الجعدي لأنه منسوبٌ إلى عمرو بن جعدة بن هبيرة بن أبي وهبٍ المخزومي, فقيل: مروان الجعدي, لأن ابن جعدة كان كالمؤدب له والمجالس له, وأم جعدة بن هبيرة بن أبي وهبٍ المخزومي أم هانئٍ بنت أبي طالبٍ. فلذلك قال أبو العباس: له منا أقرب قرابةٍ, يريد قرابة أم هانئٍ بنت أبي طالبٍ.
تم الباب(1/171)
(4) باب تلطف الجناة في الحيلة لطلب العفو
حدثني أبو الحسن محمد بن محمد بن عمران بن موسى البصري العبدي قال: حدثنا أبو حاتم السجستاني عن أبي عبيدة قال: أخذ المختار بن أبي عبيدٍ سراقة بن مرداسٍ البارقي في يوم جبانة السبيع, فقدم إليه في الأسرى, فأمر بضرب عنقه فقال:(1/173)
امنن علي اليوم يا خير معد ... وخير من لبى وصلى وسجد
وخير من حل بشحرٍ والجند
فعفا عنه المختار, ثم خرج مع إسحاق بن الأشعث عليه, فأخذ أسيراً, فقال: ألم أعف عنك؟! أما والله لأقتلنك. فقال: إن أبي خبرني أن الشآم سيفتح لك حتى تهدم مدينة دمشق حجراً حجراً وأنا معك, فوالله لا تقتلني, ثم أنشده:
ألا أبلغ أبا إسحاق أنا ... نزونا نزوةً كانت علينا
خرجنا لا نرى الضعفاء شيئاً ... فكان خروجنا بطراً وحينا(1/174)
تراهم في مصفهم قليلاً ... وهم مثل الدبى لما التقينا
فأسجح إذ قدرت فلو قدرنا ... لجرنا في الحكومة واعتدينا
تقبل توبةً مني فإني ... سأشكر إن جعلت النقد دينا
لقينا منهم ضرباً طلخفاً ... وطعناً بالقنا حين التقينا
نصرت على عدوك كل يومٍ ... بكل كتيبةٍ تنعي حسينا
كنصر محمدٍ في يوم بدرٍ ... ويوم الشعب إذ لاقى حنينا
فخلى سبيله. ثم خرج إسحاق وخرج معه سراقة, فأخذ أسيراً,(1/175)
فقال له المختار: الحمد لله الذي أمكن منك يا عدو الله! فقال سراقة: ما هؤلاء الذين أخذوني, فأين الذين أخذوني؟ لا أراهم! إنا لما التقينا رأينا قوماً عليهم ثيابٌ بيضٌ, على خيلٍ بلقٍ, بين السماء والأرض. فقال المختار: خلوا سبيله يخبر الناس. فقال سراقة:
ألا أبلغ أبا إسحاق أني ... رأيت البلق دهماً مصمتات
أري عيني ما لم ترأياه ... كلانا عالمٌ بالترهات
كفرت بدينكم وجعلت نذراً ... علي قتالكم حتى الممات(1/176)
وفي بعض كتب فارس أن كسرى قال لريوسف المغني حين قتل فلهوذ, حين فاقه في الغناء, وكان تلميذه: كنت أستريح منه إليك, ومنك إليه, فأذهب شطر تمتعي حسدك ونغل صدرك! ثم أمر أن يلقى تحت أرجل الفيلة, فقال: أيها الملك! إذا قتلت أنا شطر طربك, وأبطلته, وقتلت أنت شطره الآخر, أليس تكون جنايتك على طربك كجنايتي عليه؟ قال كسرى: دعوه! ما دله على هذا الكلام إلا ما جعل له من مدة البقاء.
حدثنا ابن زكويه عن مهدي بن سابقٍ قال: حجت(1/177)
الخيزران, فلما اجتازت بالكوفة تلقاها أبو دلامة الشاعر، فوقف تحت قبتها، وقال: يا سيدتاه! عبدك أبو دلامة يسألك أن تنقذيه من امرأةٍ قد أكلت كدي, وأطالت جهدي! قد مل جلدي جلدها, حتى تمنيت فقدها! فأبدليني منها بجاريةٍ. فوعدته إذا رجعت من الحج أن تفعل. فلما رجعت رفع إليها رقاعاً, يذكرها بوعدها, ويسألها إنجازه, فتغافلت عنه حتى احتال في رقعةٍ, أوصلتها له أم عبيدة, وهي حاضنة الخلفاء. وفي الرقعة:
أبلغي سيدتي بالله يا أم عبيدة
أنها أرشدها الله وإن كانت رشيدة
وعدتني قبل أن تخرج للحج وليدة(1/178)
فتأنيت وأرسلت بعشرين قصيدة
كلما أخلفت أخلفت لها أخرى جديدة
ليس في بيتي لتمهيد فراشي من قعيدة
غير لفاء عجوزٍ ... ساقها مثل الجريدة
وجهها أقبح من نونٍ طريٍ في عصيدة
[ما حياةٌ مع أنثى ... مثل عرسي بسعيدة]
فضحكت الخيزران, وبعثت إليه بجاريةٍ بحليها وجهازها. فوصلت الجارية إلى منزل أبي دلامة, وليس هو فيه. فرآها ابنه, فوطئها. فلما جاء أبو دلامة, ودنا من الجارية منعته, وأعلمته أن ابنه قد وطئها!.. فنتف لحيته, وخرق ثيابه, ودخل إلى المهدي فقال: يا أمير المؤمنين! أعدني على الفاسق, / ابني دلامة. وخبره الخبر, فاغتاظ(1/179)
المهدي, وأحضر دلامة, ودعا بسيف ونطعٍ, وقال: يا عدو الله! ما حملك على أن دخلت في مساءة أبيك؟! وأمر بضرب عنقه. قال: يا أمير المؤمنين! فاسمع عذري. قال: لا عذر لك في ارتكاب فاحشة سؤت بها أباك. قال: يا أمير المؤمنين! فاسمع, فإن كان عذراً وإلا فأمير المؤمنين من وراء أمره. قال: هات! قال: هذا الشيخ أقل الناس كلهم حياءً, هو منذ أربعين سنةً.. .. عجوزي.. .. أنا جاريته ساعةً واحدةً, فانظر ما يصنع بي!.. فضحك المهدي وقال: قبحك الله! وقال لأبي دلامة: دعها, / وأنا أعوضك خيراً منها. قال: لا والله يا أمير المؤمنين إلا أن تصيرها في موضع لا يصل إليها الفاجر!.. وأمر له بجارية ودار ينزلها.
وروى المدائني أن عبد الله بن علي أتي بأسير من أصحاب مروان, فأمر بضرب عنقه. فلما رفع السيف ليضرب به ضرط(1/180)
الأسير, فوقع السيف بين يدي الغلام, ونفرت دابة عبد الله, فضحك, وقال: أنت عتيق استك! فاذهب حيث شئت. فالتفت إليه وقال: أصلح الله الأمير, رأيت ضرطةً قط أنجت من الموت غير هذه؟!.. قال: لا! قال: هذا والله الإدبار. قال: وكيف ذاك؟! قال: ما ظنك بنا, وكنا ندفع الموت/ بأسنتنا فلا يندفع, فصرنا اليوم ندفعه بأستاهنا فيندفع.
وروي أن مصعب بن الزبير أتي بأسير من أصحاب المختار, فأمر بضرب عنقه, فقال: أيها الأمير! ما أقبح بك أن أقوم يوم القيامة إلى صورتك هذه الحسنة ووجهك هذا الذي يستضاء به, فأتعلق بأطرافك وأقول: أي رب! سل مصعباً فيم قتلني؟ قال: أطلقوه. قال: أيها الأمير! اجعل ما وهبت لي من حياتي في خفض. قال: أعطوه مئة ألف درهمٍ. قال: بأبي أنت وأمي اشهد أن لابن قيسٍ الرقيات منها خمسين ألفاً قال: ولم؟ قال: لقوله:(1/181)
إنما مصعبٌ شهابٌ من الله تجلت عن وجهه الظلماء فضحك مصعبٌ, وقال: أنت موضعٌ للصنيعة, وأمره بلزومه, فلم يزل معه حتى قتل.
حدثني أبي قال: حدثنا أبو حاتم قال: حدثنا أبو جعفرٍ الخزاز عن الهيثم بن عديٍ عن عبد الله بن عياشٍ عن أبيه قال: كنت واقفاً على رأس الحجاج يوم دجيلٍ, وقد أتي بالأسرى من أصحاب عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث, وهم أربعة آلافٍ وثمانمائةٍ. فقتل طويلاً, حتى قدم إليه رجلٌ من بني تميم فقال: يا حجاج! كافئني ببلائي عندك قال: ويحك! وما بلاؤك عندي؟ قال:
قام ابن أم الأشعث بسجستان, فما ترك شراً يقال في أحدٍ ولا قبيحاً إلا قاله/ فيك –وكان الذي بيننا وبينك أجل من السباب- حتى ذكر أبويك, فقمت إليه, فقلت: أيها الرجل! أما الحجاج فأنت(1/182)
وهو، افعل ما بدا لك، وأما أبواه فوالله ما فيهما أبنةٌ ولا وصمةٌ لقادحٍ، فاكفف عنهما. قال: ومن يشهد لك بذلك؟ فانبرى رجلٌ من الأسرى، من بجيلة، قال: أشهد لسمعته يقول ذلك. قال: خلوا عنهما جميعاً.
قال الأصمعي: خلي عنه وعن شاهدين. قال ابن عياش: فقيل للشاهد بعد: هل كنت سمعت شيئاً؟ قال: لا! ولكن رأيت موضعاً رجوت فيه العافية والفرج.
ويقال –وليس في الخبر. الذي رويناه-: إن الحجاج/ قال للشاهد: فلم لم ترد عني كما رد هذا؟ قال: أتريد الحق؟ قال: نعم! قال: لبغضي لك. فقال: خلوا عنهما! هذا لرده عنا، وهذا لصدقه إيانا.
قال ابن عياش: ثم قتل طويلاً، ثم قدم إليه رجلٌ، زعمت كندة أنه منهم، وزعمت بجيلة أنه منهم، وزعمت تميمٌ أنه منهم.(1/183)
فقال: يا حجاج! لا جزاك الله عن السنة والقرآن خيراً! قال: وكيف؟ ولم ذاك؟ قال: والله ما أخذت فينا بقول الله: {فإذا لقيم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق، فإما مناً بعد وإما فداءً}./ فنحن الذين كفروا! فوالله ما مننت ولا فديت فالتفت الحجاج إلى جلسائه فقال: ما له قاتله الله؟! ثم قال: أف لهذه الجيف! أين كانوا عن كلمة هذا الرجل منذ اليوم؟ أما كان فيكم من يتلو هذه الآية حتى تلاها هذا المنافق؟ خلوا سبيل من بقي!.. فخلي يومئذٍ عن بقية الأسرى، وهم نحوٌ من ألفٍ وثمانمائةٍ لقول ذلك الرجل.
حدثنا الجوهري قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثنا المدائني قال: لما كان في آخر أيام دير الجماجم، والحجاج يحارب ابن الأشعث، حملت على الحجاج أربع كتائب من بني تميم، كتيبةٌ بعد كتيبةٍ حتى/ مزقوا فسطاطه، وظهر الخلل في مصافه، فهم آل مسمعٍ(1/184)
أن يستأمنوا إلى ابن الأشعث. فلما انقضت الحرب، وظهر الحجاج حبس مسمع بن مالك بن مسمعٍ. فكتب إليه عبد الملك: قد كان في بلاء مالك بن مسمعٍ ما يعفي على إساءةٍ إن كانت من ابنه مسمعٍ، فإذا أتاك كتابي فأخرجه من حبسك، ووله سجستان. فقال عتبان بن أصيلة الشيباني في حبس مسمعٍ يتهدد عبد الملك بن مروان:
أبلغ أمير المؤمنين رسالةً ... وذو النصح –لو يرعى- إليه قريب
فإنك إن لم ترض بكر بن وائلٍ ... يكن لك يومٌ بالعراق عصيب(1/185)
أتذكر إذ ثارت عليك عجاجةٌ ... بمسكن والكلبي ثم غريب
غداة قتلنا مصعباً يوم شارفت ... به الحرب والتفت عليه شعوب
قتلنا عمير بن الحباب فلم يؤب ... إلى فل قيسٍ والإياب حبيب
فلا صلح ما دامت منابر أرضنا ... يقوم عليها من ثقيف خطيب
وكيف يرجى صلحنا وابن مالكٍ ... ينوء بأقيادٍ عليه رقيب(1/186)
فجاز بنعمى وأكرمن سراتنا ... لعل أموراً بعد ذاك تنوب
فإن يك منكم كان مروان وابنه ... وحربٌ ومنكم هاشمٌ وحبيب
فمنا سويدٌ والبطين وقعنبٌ ... ومنا أمير المؤمنين شبيب
ومنا سنان الموت وابن عويمرٍ ... وسبرة فانظر أي ذاك تعيب(1/187)
.. هؤلاء الذين عددهم كلهم خوارج./ فطلبه عبد الملك, فهرب إلى أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيدٍ, فاستأمن له عبد الملك فآمنه. فلما دخل عليه قال له: أنت القائل:
ومنا سويدٌ والبطين وقعنبٌ ... ومنا أمير المؤمنين شبيب
فقال: ما قلت كذا, إنما قلت:
*ومنا أمير المؤمنين شبيب*
معناه: ومنا يا أمير المؤمنين شبيبٌ. فعفا عنه.
ومثل هذا في قلب اللفظة التي تخاف إلى ضد معناها طلباً للعفو ما حدثنا به عبد الله بن محمد عن العباس بن هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبيه قال: هجا أبو علاقة السكسكي عامر بن(1/188)
مسعودٍ الجمحي, فاستعدى/ عليه زياداً فقال: أيها الأمير! هجاني, فقال:
وكيف أرجي ثروها ونماءها ... وقد قام فيها خصية الكلب عامر
فقال أبو علاقة: ما قلت كذا! إنما قلت:
وإني لأرجو ثروها ونماءها ... وقد قام فيها يأخذ الحق عامر
فقال زيادٌ لأصحابه: ما تقولون في هذا؟ فقال رجل منهم: أشهد لكنت حاضراً عمر بن الخطاب, وقد جاءه الزبرقان بن بدرٍ, وقد أعلق يده في شعر الحطيئة, فقال: يا أمير المؤمنين! هجاني فقال:(1/189)
دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
فقال لحسان: ما تقول؟ قال: سلح عليه! فقال عمر/ للزبرقان: قد وهبت لك لسانه, فانطلق به ليقطعه. وعارضت قيس الزبرقان يسألونه, فقالوا: أبا شذرة! أصهارك وجيرانك, فهبه لنا.. فوهبه لهم.
قال: وكان زيادٌ يحب أن يسمع الحديث عن عمر فيأخذ به, فقال: هوداً نسمع, وإنما هي السنة. قم, قد وهبت لك لسانه. فانطلق عامرٌ بأبي علاقة ليقطع لسانه, وعارضته اليمن, فقالوا: جيرانك وإخوانك, فهبه لنا.. فقال: هو لكم.
حدثنا الغلابي قال: حدثنا العباس بن بكار قال: حدثنا أبو بكر الهذلي قال: لما ادعى معاوية زياداً دخل مروان بن الحكم على معاوية فقال: ألا تكفيني سفيهنا هذا؟ قال: ومن هو؟ قال: عبد الرحمن بن الحكم. قال: قد عرفت –يا أمير المؤمنين- أن عبد الرحمن لا يطلق.(1/190)
قال: أما والله! لولا حلمي وتجاوزي لعلمت أنه يطلق. يا غلام! أنشد ما قال عبد الرحمن فقال:
ألا أبلغ معاوية بن حربٍ ... فقد ضاقت بما يأتي اليدان
أتغضب أن يقال: أبوك عف ... وترضى أن يقال: أبوك زان
فأقسم أن رحمك من زيادٍ ... كرحم الفيل من ولد الأتان(1/191)
وأقسم أنها ولدت زياداً ... وصخرٌ من سمية غير دان
ثم قال معاوية: والله لا أرضى عنه حتى يأتي زياداً، ويعتذر إليه. وأقبلت قريشٌ على عبد الرحمن حتى أتى/ زياداً فقال: أنت الذي بلغني عنك ما قلت؟ قال: لا! ولكني الذي أقول:
ألا أبلغ معاوية بن حربٍ ... فقد ظفرت بما جنت اليدان
حلفت برب مكة والمطايا ... ورب العرش حقاً والقران(1/192)
لأنت زيادةٌ في آل حربٍ ... أحب إلي من وسطى بناني
أراك أخاً وعماً وابن عم ... فلا أدري بغيبٍ ما تراني
فقال له زيادٌ: أراك شاعراً مترفاً صنع اللسان، يصوغ لك ما تقول ساخطاً ومسخوطاً عليك. اكتب يا غلام برضاي عنه إلى معاوية، فكتب: ((أما بعد! فإنه صار إلي ابن عم حبيبٌ قريبٌ من بعد/ طول سيئاته، وتتابع عثراته، فأقلته الذنوب، وغفرت له العيوب، وكنت في ذلك كقول الأول:
إذا ما مسيءٌ قام بالعذر لم أكن ... بذي صممٍ عنه ولا متغافل
وأمر له بمئة ألفٍ. فلما قدم بالكتاب على معاوية رضي عنه، وأحسن صلته.
ومثل هذا في تلطف الشعراء في العذر طلباً للعفو ما حدثناه الغلابي(1/193)
قال: حدثنا محمد بن عبد الله قال: حدثنا علي بن محمد قال: لما مدح ابن هرمة المنصور أمر له بألفي درهمٍ، فاستقلها، فبلغ أبا جعفر فغضب وقال: أما يرضى أن حقنت دمه، وقد استوجب أن/ أقتله؟ ورددت عليه ماله، وقد استحق تلفه؟ وأقررته، وقد استأهل الطرد؟ وقربته وهو حقيق بالبعد؟! أو ليس هو القائل في عبد الواحد بن سليمان ابن عبد الملك:
إذا قيل من عند ريب الزمان ... لمقتر فهرٍ ومحتاجها(1/194)
ومن يعجل الخيل يوم الوغاء ... بإلجامها قبل إسراجها
أشارت نساء بني مالكٍ ... إليك به دون أزواجها
ثم أحضر ابن هرمة فقال: يا بن اللخناء! ألست القائل؟!.. وأنشد الأبيات. فقال: يا أمير المؤمنين! فإني قلت أحسن من هذا. قال: هاته. فقال:
إذا قيل: أي فتىً تعلمون ... أهش إلى الطعن بالذابل
وأضرب للقرن يوم الوغى ... وأطعم في الزمن الماحل(1/195)
أشارت إليه أكف العباد ... إشارة غرقى إلى الساحل
فقال المنصور: أما هذا فمسترقٌ من ذاك, وأما نحن فلا نكافئ إلا بالتي هي أحسن.
ويروى أن أبا نواسٍ دخل يوماً على محمد الأمين فقال: ما تصنع عندي يا كلب! وأنت تقول:
إذا لم تزر أرض الخصيب ركابنا ... فأي فتىً بعد الخصيب تزور
فقال: يا أمير المؤمنين! وأنا أقول فيك:
إذا نحن أثنينا عليك بصالحٍ ... فأنت كما نثني وفوق الذي نثني(1/196)
وإن جرت الألفاظ يوماً بمدحةٍ ... لغيرك إنساناً فأنت الذي نعني
وإنما ارتجلها أبو نواسٍ, ولم يكن قالها. فسكن الأمين ورضي عنه..
وفي مثله ما يروى عن علي بن جبلة أنه دخل على حميدٍ الطوسي فقال: يا عاض! لم جئتني وأنت تقول في أبي دلفٍ:
إنما الدنيا أبو دلفٍ ... بين مبداه ومحتضره
فإذا ولى أبو دلفٍ ... ولت الدنيا على أثره(1/197)
.. وأمر بوجئ رقبته وإخراجه, فقال في وقته: فإني قد قلت في الأمير. قال: وما قلت؟ قال: قلت:
إنما الدنيا حميدٌ ... وعطاياه الجسام
فإذا ولى حميدٌ ... فعلى الدنيا السلام
.. فرضي عنه حميدٌ وأدناه, وأمر له بجائزة.
ونحو هذا ما حدثنا به الجوهري عن ابن شبة عن أبي عبيدة:/ أن الفرزدق لما هجا خالد بن عبد الله القسري أمر مالك بن(1/198)
المنذر بن الجارود –وهو خليفته على البصرة- بطلب الفرزدق وقتله. فاحتال مالكٌ حتى وقع الفرزدق في يده. فلما قيل له: قد أتي بالفرزدق احمرت عيناه, وانتفخت أوداجه, وانتضى سيفه. فلما مثل الفرزدق بين يديه, ومالكٌ في تلك الحال, أنشأ يقول, وهو يرتعد:
أقول لنفسي حين غصت بريقها ... ألا ليت شعري ما لها عند مالك
لها عنده أن يرجع الله روحها ... إليها وتنجو من عظام المهالك
وأنت ابن جباري ربيعة أدركا ... بك الشمس والخضراء ذات الحبائك(1/199)
.. فسكن غضب مالكٍ، وأغمد سيفه، وأمر بحبس الفرزدق، وكتب فيه إلى خالد. وخبر الفرزدق قد كتبته بتمامه في باب العفو عن الشعراء الهاجين للأشراف.
ومن لطيف الحيلة في طلب العفو ما حدثناه أحمد بن إسماعيل القيسي عن عبد الله بن شبيبٍ قال: حدثنا أحمد بن محمد المهدي قال: لما أفضت الخلافة إلى أبي العباس السفاح دخل عليه أبو نخيلة الراجز، فقال: يا أمير المؤمنين! شاعرك وعبدك، وقد قلت فيك شعراً، فأذن لي في إنشاده. فقال: يا عدو الله! ألست القائل في مسلمة ابن عبد الملك:(1/200)
أمسلم إني يا بن كل خليفةٍ ... ويا فارس الهيجا ويا جبل الأرض
شكرتك إن الشكر حبلٌ من التقى ... وما كل من أودعته نعمةً يقضي
وأحييت لي ذكري وما كان خاملاً ... ولكن بعض القوم أنبه من بعض
.. ثم أمر بإخراجه. فقال: يا أمير المؤمنين! فإني قد قلت:
إنا انتظرنا قبلها أباكا ... ثم انتظرنا بعده أخاكا
ثم انتظرناك لها إياكا ... فكل ما قلت له سواكا
زورٌ فقد أذهب هذا ذاكا(1/201)
.. فرضي عنه، وأمر بصلته.
حدثني أبو جعفر محمد بن يزيد المهلبي عن أبيه عن الحسين بن الضحاك قال: دخل ابن البواب الشاعر مولى المنصور على المأمون لينشده، فقال: يا عدو الله! ألست القائل:
أعيني جودا وابكيا لي محمداً ... ولا تذخرا دمعاً عليه وأسعدا
ولا فرح المأمون بالملك بعده ... ولا زال في الدنيا غريباً مطردا
.. فقال: يا أمير المؤمنين! بل أنا الذي أقول فيك:
أيبخل فرد الحسن، فرد صفاته ... علي وقد أفردته بهوى فرد(1/202)
رأى الله عبد الله خير عباده ... فملكه والله أعلم بالعبد
أعيذك أن تقسو علي وقد ترى ... تقطع أنفاسي عليك من الوجد
ألا إنما المأمون للناس عصمةٌ ... مميزةٌ بين الضلالة والرشد
.. فقال المأمون: واحدةٌ بواحدةٍ, ولم يصله بشيء.
حدثني أبو الحسن البرمكي جحظة عن حماد بن إسحاق الموصلي عن أبيه عن معاوية بن بكر عن/ ثقيف بن عياش المروي من أهل [ذي] المروة أن أباه حمل جواري له إلى الوليد بن يزيد بن عبد الملك, فدخل عليه, وعنده عبد الجبار أخوه, وكان حسن الشعر, فيه لينٌ. فأمر جاريةً منهن أن تغني صوتاً, وأمرها الوليد أن(1/203)
تغني صوتاً. فلم تسمع ما قال الوليد, وغنت الصوت الذي قال عبد الجبار, فغضب الوليد بن يزيد, واحمر وجهه, فعرفت الجارية الشر في وجهه, فقطعت الصوت, وغنت الوليد بن يزيد:
أيها العاتب الذي خاف هجري ... وبعادي وما تعمدت ذاكا
أترى أنني بغيرك صبٌ ... جعل الله من تظن فداكا
ولو أن الذي عتبت عليه ... خير الناس واحداً ما عداكا
فارض عني جعلت نعليك إني ... والعظيم الجليل أهوى رضاكا(1/204)
.. فالتفت الوليد بن يزيد إلى أبي فقال: بكم هذه الجارية؟ فقال: بثلاثين ألف درهم. قال: ادفعوها إليه. فدفع إليه المال, ولم يشتر من الجواري غيرها.
حدثنا الغلابي قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن قال: حدثني يحيى ابن محمد بن طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر قال: اجتمعت شعراء الأمصار بباب المنصور, ومعهم المستهل بن الكميت فأذن لهم, فأنشدوه. فكلما فرغ شاعر من إنشاده نسبه, / وأمر أبا الخصيب بإثبات اسمه. فلما انتسب له ابن الكميت قال: يا ابن اللخناء! تقف أمامي وأبوك الذي يقول:
الآن صرت إلى أمية والأمور لها مصاير(1/205)
.. فقال: يا أمير المؤمنين! إن القوم أخافوه لمودته لكم, وميله إليكم, فقال ذلك ليحقن, ويدفع عن مهجته. قال: وأي عذرٍ له, وقد مدح بني هاشم فجعلنا في ذلك كبعضهم؟ وقد علم أنا رؤساؤهم وأعلاهم, فأمسك عن العباس, ولم يذكرنا إلا في بيت واحد:
وأبو الفضل إن ذكرت له الإفضال فهو الشفاء للأسقام
.. فقال: يا أمير المؤمنين! لا عذر له في ذلك! والله تبارك/ وتعالى يقول: {ولا تزر وازرةٌ وزر أخرى} وقد شفع هذا البيت ببيت آخر. قال: هيهاً, هبلتك أمك. قال: إنه قال:
صدق الناس في حنينٍ بضربٍ ... شاب منه مفارق القمقام(1/206)
.. فقال: يا أبا الخصيب! أثبت اسمه في الصحابة، وأعطه عشرة آلاف درهم.
هذا البيت إنما ألحقه المستهل بن الكميت في شعر أبيه بعد طلباً للتخلص من المنصور، فألحق، وليس هو فيما قاله الكميت في ابتدائها.
حدثنا ابن زكويه قال: حدثنا الزبير بن بكار عن عمه قال: قدم عبد الملك بن مروان مكة، فدخل عليه عمر بن أبي ربيعة، فقال عبد الملك: لا حياك الله فاسقاً خبيثاً! قال: بئست تحية ابن العم على بعد الدار ونأي المزار. قال: يا فاسق! ألست القائل:
ولولا أن تفندني قريشٌ ... مقال الناصح الأدنى الشفيق
لقلت إذا التقينا: قبليني ... ولو كنا على ظهر الطريق(1/207)
.. أو لست القائل:
نظرت إليها بالمحصب من منىً ... ولي نظرٌ لولا التحرج عارم
فقلت: أشمسٌ أم مصابيح بيعةٍ ... بدت لك خلف السجف أم أنت حالم
بعيدة مهوى القرط إما لنوفلٍ ... أبوها وإما عبد شمس وهاشم
.. يا فاسق! ما كان لك في نساء قريشٍ غنىً عن أن تشبب بنساء بني عبد مناف؟! قال: يا أمير المؤمنين! فإني أقول فيها:
طلبن الهوى حتى إذا ما أصبنه ... نزعن وهن المسلمات الكرائم
فاستحيا عبد الملك، ونكس رأسه، وقال: أما إن كان كذا فقد عفونا عن جرمك.(1/208)
حدثنا أحمد بن عبد العزيز قال: حدثنا عمر بن شبة عن المدائني قال: كان قطبة بن زياد يرى رأي الخوارج, فطلبه الحجاج حتى وجده. فلما أتي به قال له: من أنت؟ قال: قطبة. قال: وما قطبة؟ قال: قطبةٌ من قطب الدين, ورجل من المسلمين, لا يطلب بذحلٍ, ولا يوجد عليه عيبٌ. قال الحجاج: فأنت إذن! ما تقول في عثمان وعلي؟ فقال:
هما ختنا خير الأنام ومن له ... على الناس فضلٌ بينٌ يا بن يوسف
ومن عاش في الدنيا حميداً فعاله ... ومات فقيداً سيداً غير مقرف
.. قال الحجاج: إني لم أسألك عن ختنهما عليه السلام.. إني سألتك عنهما, فقال:
خليلاي عاشا برهةً مع محمدٍ ... فمات ولما يسخطاه ابن يوسف(1/209)
فلا تسألني عنهما بعد هذه ... فإني لم أعرفهما بالتكلف
.. قال الحجاج: إني إنما أسألك عن أمرهما. قال: لم أدركهما, ولا علم لي بهما إلا كعلم الأمير, فهل يشك فيهما الأمير؟ قال: لا.! قال: وأنا لا أشك فيهما. قال: فتقول فيهما على ذلك ماذا؟ قال: لا أعدو فيهما –والله- قولك. فقال: لله درك يا قطبة! لقد/ اعتصمت بمعتصمٍ! خلوا سبيله. فخرج على الناس, فقيل له: ويحك! كيف نجوت من الحجاج؟ فقال:
نجوت من الحجاج أني مجربٌ ... بصيرٌ بأحناء الأمور الأوائل
أراد بي الحجاج يا قوم عضلةً ... وكنت امرءاً طباً به غير جاهل
خذ القصد يا حجاج وابغ فريسةً ... سواي فإني عالمٌ بالدواخل(1/210)
وقد قال ناسٌ من تميمٍ وغيرهم ... نجا ابن زيادٍ من يدي غير غافل
فقلت: بحمد الله والصبر أفلتت ... حشاشة نفسي من شتيمٍ صلاصل
خبعثنةٌ في ساعديه تفاوتٌ ... كريه المحيا قرنه غير وائل
متى تر عيناه امرءاً متعدياً ... يصر لحمه للخامعات الجيائل
جماعة الضباع. و ((الجيل)). الضبع الكثيرة الشعر.(1/211)
ومن لطيف الاعتذار ما حدثنا ابن زكويه قال: حدثنا عبد الله بن الضحاك عن الهيثم بن عدي قال: حدثنا ابن عبد العزيز الأسلع قال: بلغ عبد الملك أن الحجاج بن يوسف قد شمت بموت خالد بن عبد الله بن أسيد, فكتب إليه:
((أما بعد فإن الحال قد تركك حيران, لا تعرف خيراً من شرٍ, ولا عقوقاً من برٍ! وقد عرفت حمقك وعداوتك لقريشٍ. وقد بلغني سرورك بموت خالد بن عبد الله بن أسيد. وأيم الله إن في بني أبيه لخلفاً صالحاً, والسلام)).
فكتب إليه الحجاج:
((يا أمير المؤمنين! كيف أشمت بخالد, وأحب موته/ وقد عرفت أنه لم يسبق أجله, وأن ليس له إلا عمله؟.. وكيف أكون لقريش مبغضاً, وبهم بلغت فوق الأمنية؟ ولقد أفك من قال ذلك, ولكني رجلٌ لا أخن على الموتى خنين النساء, وإنما لهم عندي الترحم والاستغفار)).(1/212)
ثم كتب إليه بأبيات لطارق بن ديسقٍ اليربوعي:
سيأكلنا الدهر الذي ليس فائتاً ... حبائله غرٌ ولا مهترٌ قحر
وما منهما إلا سيأكل رزقه ... وفاءً وإن أشجاه في عيشه الدهر
وما موت من قد مات قبلي بنافعي ... ولا ضائري عيش الذي أنسأ العمر
حدثني أبو جعفر محمد بن يزيد المهلبي عن أبيه قال:(1/213)
كان يحيى بن خالد بن برمك قد رقي إليه عن حجر/ بن سليمان الكاتب الحراني أمورٌ, فكان عليه لها مغيظاً. فلما وجه الرشيد يحيى بن خالد إلى حران ليقتل من هناك من الزنادقة ضاق بحجرٍ منزله, فكتب إلى يحيى:
((أما بعد! فإنك لما حللت بأرضنا, وقرب مزارك منا اعتلج بقلبي أمران: أحدهما الاستتار منك, وخفض الشخص في عسكرك, وأما الآخر فالإصحار لك, والرضا بحكومتك. فاعتلى الرجاء لعفوك الخوف من بادرتك. وعلمت أني لم أعجزك فيما مضى من سالف الأيام, ولأنت أعظم شأناً من الذي لم تعد قدرته الحيرة إذ يقول له النابغة:(1/214)
فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
فأنا أسألك مسألةً يعظم الله عليها أجرك, ويجزل بها ذخرك, وأسألك بحق نعم الله عليك إلا بللت ريقي بعفوك, وفرجت الضيقة التي لزمتني بعطفك)).
.. فكتب يحيى إليه بالأمان له والعفو عنه!..
حدثنا الغلابي قال: حدثنا مهدي بن سابق قال: كتب إبراهيم بن المهدي إلى المأمون:
((يا أمير المؤمنين! ولي الثأر محكمٌ في القصاص, ((والعفو أقرب للتقوى)): ومن ساقه الاعتذار بما مد له من أسباب الرجاء(1/215)
[و] السلامة أمكن عادية الدهر من نفسه. وقد جعلك الله فوق/ كل ذي ذنب, كما جعل كل ذي قدرٍ دونك. فإن غفرت فبفضلك, وإن أخذت فبحقك)).
فوقع إليه المأمون في كتابه: ((القدرة تذهب الحفيظة, والندم توبةٌ, وبينهما عفو الله, وهو أفضل ما يسأل)).
قال: ولما أخذ المأمون إبراهيم بن المهدي استشار المعتصم والعباس بن المأمون في قتله, فأشارا به. فقال إبراهيم: أما أن يكونا قد نصحا لك [في عظم] الخلافة, وما جرت به عادة السياسة فقد فعلا, ولكنك تأبى أن تستجلب النصر إلا من حيث عودك الله.
وكان في اعتذاره إليه أن قال له:
إنه وإن/ بلغ بي جرمي استحلال دمي فحلم أمير المؤمنين وفضله(1/216)
يبلغاني عفوه. ولي بعدهما شفعة الإقرار بالذنب, وحق الأبوة بعد الأب.
فقال المأمون:
لو لم يكن في حق سببك حق الصفح عن جرمك لبلغك ما أملت حسن تنصلك, ولطيف توصلك.
وكان إبراهيم بعد ذلك يقول: والله ما عفا عني المأمون صلةً لرحمي, ولا محبةً لاستحيائي, ولا قضاءً لحق عمومتي! ولكنه قامت له سوقٌ في العفو كره أن يفسدها بي.
وقال إبراهيم في اعتذاره:
هبني أسأت وما أسأت بلى أسأت ... أقركي يزداد طولك طولا(1/217)
إن كان جرمي قد أحاط بحرمتي ... فأحط بجرمي عفوك المأمولا
وقال يشكر له:
رددت مالي ولم تمنن علي به ... وقبل ردك مالي ما حقنت دمي
فأبت منك وقد ألبستني نعماً ... هي الحياتان: من موتٍ ومن عدم
فلو بذلت دمي أبغي رضاك به ... والمال حتى أسل النعل من قدمي
ما كان ذاك سوى عاريةٍ رجعت ... إليك لو لم تعرها كنت لم تلم
وقام علمك بي فاحتج عندك لي ... مقام شاهد عدلٍ غير متهم(1/218)
قرأت على أبي حفصٍ السلمي قال: أخبرنا حماد بن إسحاق الموصلي عن أبيه قال: غضب يحيى بن خالد بن برمكٍ على أبي شبابة في شيء بلغه عنه، فجفاه، واطرحه، فكتب إليه:
((الأصيد الجواد، / الواري الزناد، الماجد الأجداد، الوزير الفاضل، اللباب الحلاحل.. من المستكين المستجير، البائس الضرير: فإني أحمد الله العزيز القدير إليك وإلى الصغير والكبير بالرحمة العامة، والبركة التامة، أما بعد: فاغنم، واسلم، واعلم –إن كنت [لا]/ تعلم- أن من يرحم يرحم، ومن يحرم يحرم، ومن يعدل يغنم، ومن يصنع المعروف لا يعدم. وقد سبق إلي تغضبك علي، واطراحك لي، وغفلتك عني بما لا أقوم له ولا أقعد، ولا أبيت ولا أرقد! فلست بذي حياةٍ صحيحٍ، ولا بميتٍ مستريح. فررت بعد الله منك إليك، وتحملت بك/ عليك، ولذلك قلت:(1/219)
أسرعت بي حثاً إليك خطائي ... فأناخت بمذنبٍ ذي رجاء
راغبٍ راهبٍ إليك يرجي ... منك عفواً عنه وفضل عطاء
ولعمري ما من أصر ومن تاب مقراً بذنبه بسواء
فإن رأيت –أراك الله ما تحب، وأبقاك في خير- ألا تزهد فيما ترى من تضرعي وتخشعي، وتذللي وتضعفي فإن ذلك مني ليس سجيةً ولا طبيعةً، ولا وجه تصيدٍ ولا تخدعٍ، لكنه تذلل وتخشع وتضرعٌ من غير ضارعٍ ولا خاشع، ولا مهينٍ لمن لا يستحق ذلك.. إلا أن التضرع إليه عزٌ ورفعةٌ، وشرفٌ ومنعةٌ/ وأنت المأمول لهذا، وأنا الآمل، ولذلك أقول:
لا يزهدنك في أسيرٍ ضارعٍ ... يبغي رضاك لفضل عزك خاشع(1/220)
فإليك فاشفع لي بفضلك إنني ... أصبحت ما لي غيره من شافع
واجبر كسيراً أنت كنت كسوته ... بالعفو منك وفضل حلمٍ واسع
فأنا الغداة سليم سخطٍ فارقني ... من سم سخطٍ ما يداوى ناقع
إلا بحلمك إنه لدواؤه ... واحتل برفقك في وجوه منافعي
لا تفسدن جميلةً أسديتها ... بالمنع إن الحر ليس بمانع
واربب أياديك الجميلة عندنا ... بزيادةٍ منها وحسن تتابع
.. فأنا أسألك راغباً إليك أن تحضرني إليك، وتقعدني بين يديك، وتعرفني ذنوبي، وتلزمني عيوبي./ فإن يك ذنبي فيك، فعلي أن أرضيك، ثم أعطيك من العهد ألا أعود إليه آخر الأبد. وإن يكن إلى نفسي بسوء رعيتي لها، وجرمي عندها أعفك ونفسي من ذلك، ثم(1/221)
ارجع إلى ما هو أزين في نفسك ثم يكون لك علي ميثاق إخراجك إياي من الجهل، وجودك علي بالبذل أخذاً منك بالفضل. وأنا أعيذك بالله أن تكون ممن إذا استرحم قسا، وإذا استكين له عسا، وإذا استعطف جسا. ولذلك أقول:
يحيى تدارك بالرضا رجلاً ... أزرى عليه بسخطك المزري
قلق النهار وليله أرقٌ ... باتت عليه همومه تسري
وكذاك يأرق ليله رجلٌ ... قد أسلمته بلابل الصدر
وتقسمته أموره فرقاً ... واستمكنت منه يد الدهر
فسطت عليه سطوةً جمزى ... وعلته عن حنقٍ وعن قسر(1/222)
من ذا الذي تهدا جوارحه ... والليث يوعده أبو الأجر
لا ألفين لديك مطرحاً ... يحيى بن خالد والتمس عذري
فلئن فعلت لأجزين به ... ولئن أبيت ليجملن صبري
.. فانظر –جعلت فداك- بعين رأفتك، لا بعين نقمتك فيما رغبت إلى الله ثم إليك، واعتمدت فيه عليك بجميل رأيك، وحسن صنع الله لك من عواقب الصفح والعفو، فإني راضٍ بحسن نظرك، شاكرٌ لجميل/ أثرك. أحسن الله توفيقك وتسديدك وإرشادك)).
فكتب إليه خالدٌ بالرضا عنه، وحضر فأحسن جائزته وصلته، ولم يزل عنده أثيراً مكرماً.
ومن الاحتيال في طلب العفو رجاءً للنجاة من القتل:(1/223)
حدثنا الجوهري، قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثنا أبو عاصمٍ النبيل قال: حدثنا سفيان عن عاصم عن أنس بن مالك أن عمر ابن الخطاب –رحمه الله- قال للهرمزان: تكلم! قال: كلام حي أو كلام ميتٍ؟ قال: كلام حي. فأمر عمر بقتله، فقال: قد آمنتني! فتركه عمر.
ويقال: إن الهرمزان لما دخل على عمر دعاه إلى الإسلام، / فقال: لا أدع ديني. قال: إذن أقتلك. قال: فإني عطشان فاسقني. فدعا له بشربة ماءٍ، فأتى بماء في قدح من عيدانٍ. فقال: لو مت عطشاً لم أشرب في هذا! فدعا له بقدح قوارير فأخذه فرفعه إلى فيه،(1/224)
ويده ترعد. فقال: ما ليدك ترعد؟! فقال: خوفاً من أن تقتلني قبل أن أشربه. قال: لست بقاتلك حتى تشربه. فأرسل القدح من يده فانكسر. فقال: إيتوه بغيره, فإنا لا نجمع عليه القتل والعطش. فقال: لا حاجة لي في الماء يومي هذا! قال: إني قاتلك. قال: ما أنت بقاتلي وقد آمنتني حتى أشربه. فقال: كذبت. فقال أنس بن مالكٍ: بلى يا أمير المؤمنين! والله لقد قلت له:/ لا أقتلك حتى تشربه. وقال من حضر: قد قلت ذلك له يا أمير المؤمنين!! فشق ذلك على عمر, وأمره بالمقام بالمدينة, فأقام, وأسلم.
ويقال: إنه أدخل على عمر, وعليه لباسه من الديباج, وعلى رأسه تاجه, مكللاً بالجوهر, وعليه سواران وخاتم ذهبٍ. فجعل الوفد يسألون عن عمر, ويطؤون أثره, والهرمزان يعجب, ويقول: أما لملككم هذا مجلسٌ معلومٌ, يأتيه فيه الناس ولا حجابٌ؟ قالوا: لا! ولكنه يخرج وحده, فيطوف في الأسواق والطرق. فلم يزالوا يطلبونه حتى هجموا عليه وحده في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ./ فجعل الهرمزان يعجب من عمر وهيبته, والناس يعجبون من الهرمزان ولباسه. فلما رآه(1/225)
عمر أفف به، وقال: أعوذ بالله من النار. ثم استعبر فبكى وقال: الحمد لله الذي أذل بالإسلام هذا وأشباهه. قالوا: يا أمير المؤمنين! هذا ملك الأهواز. قال: والله لا أكلمه حتى ينزع ما عليه. فأمر بما عليه فنزع، وألبس ثياباً غيرها، وكلمه عمر رحمه الله.
ومثله: روى الهيثم بن عدي قال: لما قتل شبيبٌ الخارجي عتاب بن ورقاء الرياحي، وفل عسكره اتبع المنهزمين، فأدرك شبيبٌ رجلاً من أصحاب عتاب، فلما أحس به نزل عن فرسه، ونزع/ ثيابه/ وطرح نفسه في الفرات، فجاء شبيبٌ فوقف عليه، وهو في الماء، فقال: اخرج إلي. قال: إني أخاف أن تقتلني قبل أن ألبس ثيابي. قال له: فأنت آمنٌ إلى أن تلبس ثيابك. فقال: والله لا ألبسها أبداً! وانصرف عنه شبيبٌ.
حدثني أبي قال: حدثنا أبو حاتم السجستانيٌ قال: حدثنا(1/226)
أبو جعفر الخزاز عن الهيثم بن عدي عن ابن عياش عن أبيه قال: شهدت الحجاج يوم دجيلٍ. وأتي بالأسرى من أصحاب بن الأشعث، وهم أربعة آلافٍ وثمانمائة أسيرٍ، كلهم من أهل الكوفة وأهل البصرة.
وكان أول خلق الله قدم إليه الفضيل بن بزوان، وكان شريفاً من/ الموالي. فقال: يا فضيل! قال: نعم. قال: ألم أكرمك؟ قال: بل أهنتني، فقال: ألم أستعملك؟ قال: بل استعبدتني. قال: أما والله لأقتلنك. قال: إذن أخاصمك في دمي. [فقال: إذن أخصمك لا أم لك] قال: الحكم يومئذ بيد غيرك. قال: أراك معداً لا أم لك للجواب.
ويقال: إنه قال له: والله لا تذوق البارد أبداً. قال: والله إني لأرجو أن أسبقك إليه. قال: قدماه. قال: فضربت عنقه، ثم قتل(1/227)
طويلاً، ثم قدم الطفيل بن الحكم الطائي فقال: أطفيل! قال: نعم. قال: ألم تقدم العراق أعرابياً، لا يفرض لمثلك ففرضت لك؟ قال: بلى. قال: وزدت في عطاياك؟ قال: بلى. قال: وأوفدتك، ولا/ يوفد مثلك؟ قال: بلى. قال: وعرفتك على قومك، ولا يعرف مثلك؟ قال: بلى. قال: فما أخرجك علي؟ قال: أبا محمد! إن رأيت أن تأذن لي فألحق بأهلي فافعل. قال الحجاج: أمن شوقٍ بك إليهم؟ قال: نعم! فالتفت الحجاج إلى جلسائه فقال: ما كنت أرى البائس بلغ به الضعف ما أرى.. فخلى سبيله. قال ابن عياش: كان من أمرد الناس وأدهاهم.
قال الأصمعي: قدم إليه أعرابي، فقال له: ألم تأتني أعرابياً منقطعاً، لا ديوان لك؟ قال: بلى. قال: ففعلت بك، وفعلت. قال: قد فعلت. قال: فإن عفوت عنك/ فيك خير؟ قال: لا! قال: وكيف ويحك؟ قال: لأني قدمت، وليس لي ديوانٌ ففعلت بي، ورفعت أمري،(1/228)
ثم خرجت عليك. فدلني على ذلك عقلي ورأيي، وهما معي لا يفارقاني. فقال الحجاج: هو خير الخبثاء، خلوه!..
قال ابن عياش: ثم قتل طويلاً، ثم قدم إليه عامر بن المخيمر التميمي. وكان الحجاج يحب قتله، وكان الرجل إذا أقر عنده بالنفاق خلى سبيله. فلما رآه الحجاج قال: هذا شيخ لا يقر على نفسه بالنفاق اليوم. فقال عامر: أعن نفسي تخادعني؟ بلى والله، ما فارقتك والله إلا مشركاً فقال: خليا عنه.
حدثني أبي قال: حدثنا أبو حاتم عن أبي اليقظان قال: لما عرض الحجاج أسرى ابن الأشعث قدم إليه عمرو بن عمير الكندي. وهو الذي يقول له الهيثم بن الأسود النخعي في أمر(1/229)
حجر بن الأدبر الكندي:
ألا من عذيري من عميرٍ ومن عمرو ... يلومانني أن راب دهرٌ على حجر
وما كان ذنبي أن زيادٌ أصابه ... وأصحابه يوماً بقاصمة الظهر
فلما مروا بعمرٍو على الحجاج قال له: أيا بن أبي قرة! عاديت ابن(1/230)
الأشعث ستين سنةً، ثم خرجت معه؟! فقال: أصلح الله الأمير! ما خرجت معه إلا مخافة سفهه. قال: صدقت. وخلى سبيله!..
حدثني أبي قال: حدثنا السجستاني، قال: حدثنا أبو عبيدة، قال: حدثني عبيد الله بن إسحاق الطلحي، قال: لما أخذ المنصور الناس بظنة محمد بن عبد الله بن حسن. وقتل من قتل ممن كان يقال: إنه يعلم علماً من محمد، أتي برجلٍ من أهل المدينة، فقيل له: إنه يعلم من محمد علماً . فلما أدخل على المنصور سأله، وتهدده. فقال: يا أمير المؤمنين! إن كان يعلم من علمه شيئاً، فسلط الله عليه خيثم بن غزال! فقال المنصور: ومن خيثم بن غزالٍ؟!.. قالوا: رجلٌ من أهل المدينة من بني غفار، كان يلي شرطة المدينة، وكان صليباً. قال: اطلبوه لي حتى أعيده على الشرط. فقيل له: قد اختلط اليوم، وخرف، فأمر المنصور بتخلية الرجل.
حدثني أبي قال: حدثنا السجستاني قال: حدثنا أبو عبيدة قال:(1/231)
حدثنا عبد الرحمن بن راشد قال: بينما حميد بن عبد الرحمن بن عوف جالساً في المسجد مع قوم يذكرون ما صنع المنصور من تفتيش بيوتٍ في طلب محمد بن عبد الله قال حميدٌ: قبحه الله ما أعظم عرته! والتفت فإذا رجلٌ يسمع منه ما يقول، ويكتب بجميعه. فنظر حميدٌ فإذا هو اشرأب له، فبرك حميدٌ فضرب الحصى بيده ضرباً شديداً، وصوت بفيه، يشبه بالكير، ثم التفت إلى الرجل فقال له: هذا الماخوري لزم المجلس من كذا وكذا سنةً. فقال/ القوم: مجنونٌ رحمك الله! فانصرف عنه الرجل.
حدثنا المغيرة بن محمد المهلبي قال: حدثنا الزبير بن بكار عن عمه قال: لما قال إبراهيم بن هرمة في أيام خرج محمد بن عبد الله:(1/232)
فمهما ألام على حبهم ... فإني أحب بني فاطمة
بني بنت من جاء بالمحكمات والدين والسنة القائمة
تناشدها الناس، وكتمها ابن هرمة خوفاً من المنصور، فلقيه رجلٌ فقال له: من يقول هذا؟ وأنشده البيتين، فقال ابن هرمة: من أعضه الله.. .. أمه! فقال له ابنه لما ولى الرجل:ً يا أبه! ألست قائل البيتين؟ قال: بلى قال:/ فلم شتمت نفسك؟ فقال: يا بني! أليس يعض الرجل.. .. أمه خيرٌ له من أن يأخذه الحسن بن قحطبة فيقطع ظهره بالسياط؟..
حدثنا أبي قال: حدثنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال: حدثني سماعة بن أسود الأسدي قال: لما طلب المنصور محمد بن عبد الله استخفى، وخرج عن المدينة، وجعل يتنزل في أحياء العرب، ويأتي أخواله من غطفان، فلا يأتي أحداً منهم إلا نحر له وأكرمه.
فلما خرج المنصور حاجاً أرسل إلى جماعة من غطفان فأتي بهم،(1/233)
وقد أرسل سماعة بن الأسود بابن له يحض/ على الغطفانيين، ويغري المنصور بهم، ويخبر أن ابنه كان فيهم. وقال لابنه: قف بباب أمير المؤمنين وناد: نصيحةً، فإنك ستدخل، فأنشده هذه الأبيات، ففعل فلما دخل أنشد:
بني حسنٍ إن الوقوف عليكم ... ببطن منىً إن رمتموه عسير
تصيدك عقفان الوبار وقد ترى ... مكان أبٍ يشكو الكبول كبير
فدع عنك عقفان الضلال وذكرها ... وسر حيث أدركت الملوك تسير
تلاق الذي ما مخدرٌ شابك الشبا ... له حول أكناف الغريف زئير(1/234)
بأشجع منه مقدماً عند موطنٍ ... تكاد قلوب القوم منه تطير
فوقرت في نفس المنصور، وأدخل الغطفانيون إليه، / فقال: لا أنعم الله بكم عيناً! ينزل بكم محمد بن عبد الله، فتشتملون عليه؟! فقالوا: يا أمير المؤمنين! إنه ليمر بنا رجالٌ من قريش ممن نعرف وممن لا نعرف، فنرى علينا من الحق إكرامهم، وما عرفنا محمد بن عبد الله في الناس. قال: فما لكم لما كتب إليكم عاملي يأمركم بطلبه لم تفعلوا؟ قالوا: والله ما درينا أين اتجه. قال: يا أعداء الله! أيضل أحدكم الناب الجعماء، والبكر الأجرب، فلا يزال يتبعه، ويقتفي أثره حتى يرده من حضر موت، ويخفى عليكم أمر محمد بن عبد الله؟!.. وغضب واستشاط وأمر بحبسهم، فقال شيخٌ منهم: أتكلم يا أمير المؤمنين؟/ قال: نعم! تكلم. قال: يهمني أمر بكري ونابي، ولا يهمني أمر محمد بن عبد الله. فسكن المنصور وأمر بتخليتهم.
حدثني أبو الحسن البرمكي جحظة قال: حدثني أبو هفان قال: لما أنشد الرشيد قول أبي نواس في الخصيب:(1/235)
منحتكم يا أهل مصر نصيحتي ... ألا فخذوا من ناصحٍ بنصيب
ولا تثبوا وثب الغواة فإنكم ... على ظهر حامي الظهر غير ركوب
رماكم أمير المؤمنين بحيةٍ ... أكولٍ لحيات البلاد شروب
فإن يك باقي إفك فرعون فيكم ... فإن عصا موسى بكف خصيب
.. غضب وأمر بإحضار أبي نواس وقال: يا بن اللخناء! أنت المستخف بعصا موسى نبي الله صلى الله عليه وسلم إذ تقول:
فإن يك باقي إفك فرعون فيكم ... فإن عصا موسى بكف خصيب(1/236)
وقال لإبراهيم بن عثمان بن نهيك وكان على شرطته -: لا يأوي في عسكري من ليلته. فقال أبو نواس: يا أمير المؤمنين! فأجل ثمود. فضحك الرشيد وقال: أجله ثلاثاً، ثم أقره.
حدثنا أبو خليفة قال محمد بن سلام: حدثنا أبو الغراف قال: لما أتت الخلافة سليمان بن عبد الملك أتته وهو بالسبع فكتب إلى عامله على الأردن أن يبعث إليه بعدي بن الرقاع في وثاق،(1/237)
فوجهه إليه. فلما دخل عليه قال: إن كنت لكارهاً لولايتي. قال: وكيف ذاك يا أمير المؤمنين؟! قال:/ حين تقول في مديحك الوليد:
عذنا بذي العرش أن نبقى ونفقده ... وأن نكون لراعٍ بعده تبعا
فقال ابن الرقاع: والله ما هكذا قلت يا أمير المؤمنين! ولكني قلت:
عذنا بذي العرش أن نبقى ونفقدهم ... أو أن نكون لراعٍ بعدهم تبعا
قال: أفكذاك؟ قال: نعم. قال: فكوا حديده، وردوه على موكبه إلى أهله. وإنما كان خص بتلك المدحة الوليد.
قال: وحدثني أبي عن أبي حاتم قال: حدثنا أبو عبد الرحمن المخزومي قال: ذكروا أن عبد الملك بن مروان أتي بأعرابي قد شرب الخمر/ وحكم. فقال: ممن أنت؟ فقال: أما أسرتي ففي يلبٍ وأنا مولاك. قال: فأي موالي أنت؟ قال: من موالي عثمان. قال: ومتى شربت؟ ومتى سكرت؟ فأنشأ الأعرابي يقول:(1/238)
شربت مع الجوزاء كأساً رويةً ... وأخرى مع الشعرى أوان استقلت
مشعشعةً كانت قريشٌ تصونها ... فلما استحلوا قتل عثمان حلت
فقال عبد الملك: ما أدري من أي أمريك أعجب؟ أمن معرفتك بالوقت أم من ثبات عقلك مع السكر؟ وأمر بتخليته.(1/239)
(5) باب خطأ المنطق بحضرة الملوك ومن عفي عنه
قال محمد بن محمد بن عمران البصري: حدثني أبي قال: حدثني أبو حاتم السجستاني عن أبي عبيدة قال: خبرني أخي معاذ بن المثنى عن حماد الراوية عن سماك بن حرب عن عبيدٍ راوية الأعشى قال: كان ظاهر الحيرة يسمى خد العذراء في الجاهلية, وكان ينبت الشيح والقيصوم والأقحوان وأنواع نبات البر الطيبة. فخرج النعمان بن المنذر إليه يوماً يتصيد فرأى قطعاً من الرمل تسمى(1/241)
الشقائق, وقد أنبت ضرباً من النبت يسمى الشقر, وهو الذي يسمى اليوم شقائق النعمان. فقال النعمان واستحسن النبت: انظروا فمن نزع من هذه الشقائق نورةً واحدة فانزعوا كتفيه./ فتحاماها الناس, فسميت شقائق النعمان.
وانفرد النعمان من أصحابه, فهبط وادياً فإذا شيخٌ حوله غنيماتٌ, وهو جالس يخصف نعلاً, فوقف عليه النعمان فقال: يا شيخ! ما تصنع هاهنا. فقال: خرج النعمان يتصيد فتهارب الناس منه! فهبطت هذه الوهدة, فنتجت الشاء وسلأت السمن, وقعدت أخصف نعلي هذه. فقال النعمان: إن رأيت النعمان تعرفه؟ قال: أنا أعرف الناس به, أليس ابن سلمى, والله لربما وضعت يدي على كعثبها كأنه ضبٌ جاثمٌ. قال: فاستطار النعمان غضباً, وحسر عن رأسه, فبدت خرزات الملك, وتلاحق به أصحابه فحيوه بتحية/ الملك, فأسقط في يد الشيخ. وقال له النعمان: أعد مقالتك يا شيخ! فقال: أيها الملك إنك(1/242)
والله ما رأيت شيخاً أحمق, ولا أوضع, ولا ألأم, ولا أعض.. .. أمه من شيخٍ بين يديك. فضحك النعمان وخلى عنه, فقال الشيخ:
تعفو الملوك عن العظيم من الذنوب لفضلها
ولقد تعاقب في اليسير وليس ذاك لجهلها
إلا ليعرف فضلها ... وتخاف شدة نكلها
حدثنا الغلابي قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن عن هشام بن سليمان قال: خرج الحجاج من مكة يريد المدينة/ فتفرد من أصحابه حتى صار إلى بستان لآل منبهٍ, فيه مولىً لهم شيخٌ أسود. فقال له الحجاج: لمن هذا البستان؟ فقال: لآل منبهٍ. قال: ما يقول أهل المدينة في أميرهم؟ قال: أي الأمراء تعني؟ قال: الحجاج بن يوسف. قال: لعنه الله! ابن بياع اللبص بالطائف. قال: ويلك ولم تلعنه؟ قال: لأنه قتل عبد الله بن الزبير, وأحرق الكعبة, وأحل الحرم. قال: وطلعت خيل الحجاج فقال له الحجاج: كأنك لم تعلم أني الحجاج؟(1/243)
فقال الشيخ: وكأنك لم تعلم أني أبو ثورٍ مولى آل منبهٍ أصرع في كل شهر مرتين, واليوم من أيامي. فضحك الحجاج وانصرف عنه.
وأخبرنا الجوهري عن ابن شبة قال: خرج الحجاج يوماً إلى ظهر الكوفة, ثم أقبل راجعاً, فانفرد من أصحابه, فأتى على أعرابي فوقف عليه فقال: ممن الرجل؟ فقال: من ربيعة. قال: أي الناس خيرٌ؟ قال: قريشٌ, منهم النبوة وعليهم نزل الكتاب, أطعموا من جوعٍ وأومنوا من خوف قال: ثم من؟ قال: هذا الحي من الأنصار, آووا ونصروا ووقوا شح أنفسهم. قال: ثم من؟ قال: هذا الحي من ربيعة, يطعمون الطعام, ويضربون الهام. قال: فما تقول في ثقيف؟ قال: على من ذكرت لعنة الله, منهم الكذاب المختار, ومنهم الحجاج المبير.
وتلاحقت الخيل, فعلم الأعرابي أنه قد وقع. فجعل يلاحظ الحجاج بشق عينه, ثم طفر وانطلق يطير. فقال الحجاج: علي به(1/244)
ألحقونيه في العمر, فلحقوه فقال للذي أخذه: أتراه قاتلي فأعهد. قال: أخاف والله ذاك فاعهد إن كنت عاهداً. قال: والله إن ورائي لكرشاً منثورةً وقال الحجاج لحاجبه: لا تدعن ثقفياً إلا أحضرته, ثم أذن له. فلما رآه قال: اضربوا عنقه فقال: نشدتك الله في حق الصحبة. فقال: ردوه فرد فقال: هي نفسك إن غادرت حرفاً مما قلت لي. قال: وأنا آمنٌ؟ قال: وأنت آمنٌ. قال: فسأله حتى إذا/ بلغ ثقيف قال: على من ذكرت لعنة الله, فقال الثقفيون جميعاً: بل عليك لعنة الله. فقال: إني لأحتمل, وعزيزٌ علي أن أحتمل. فقال الحجاج: إن أخذتك بعد ثالثةٍ قتلتك. قال: لا ولا بعد ساعةٍ.
حدثنا الجوهري قال: حدثنا عمر بن شبة قال:حدثني الوليد بن هشام قال: خرج خالدٌ بن عبد الله القسري يوماً يتصيد. فانفرد من أصحابه, فإذا هو بأعرابي ومعه عجوزٌ على أتانٍ. فقال له خالد: ممن الرجل؟ قال: من أهل المآثر والمفاخر والحسب الباهر. قال: فأنت(1/245)
إذن من مضر، فمن أيها أنت؟ قال: من المطاعنين على الخيول، / والمعانقين عند النزول. قال: فأنت إذاً من بني عامر. فمن أيها أنت؟ قال: من الطالبين بالثار، والمانعين الجار. قال: فأنت إذن من بني كلاب. فمن أيها أنت؟ قال: من أهل الوفادة والقيادة. قال: فأنت إذاً من الجعافر فمن أيها أنت؟ قال: من بدورها وشموسها، وليوثها في خيسها قال: فأنت إذن من بني الأحوص. فما أقدمك هذه البلاد؟ قال: تتابع السنين وقلة رفد الرافدين قال: فمن أردت بها؟ قال: أميركم هذا الذي ترفعه إمرته، وتحطه أسرته. قال: فما أردت منه إذ كان كذاك؟ قال: أردت كثرة دراهمه لا كرم أبوته. قال:/ فما أحسبك إلا قلت فيه شعراً، فأنشدناه. قال: يا أم جحشٍ أنشديه. قالت: هيه الآن! كم تسومنا مدح اللئيم ذلاً وقلاً! قال: إنه لا بد منه فأنشديه فأنشدته:
إليك ابن عبد الله بالحمد أرقلت ... بنا البيد عيسٌ كالقسيٌ سواهم(1/246)
عليهن بيضٌ من ذؤابة عامرٍ ... حدتها سنونٌ مجحفاتٌ مشائم
يزرن امرءاً يعطي على الحمد ماله ... يهون عليه للثناء الدراهم
فإن يعطنا شيئاً فهذا ثناؤنا ... وإن تكن الأخرى فما ثم لائم
فقال خالد: ما أعجبك في شعرك! تزعم أنك جئت على العيس، وأنت على أتانٍ هزيل. فقال: ما تكلف ابن عمك من مدح اللئيم أشد عليه من الكذب في الشعر. قال: أفتعرف المسائل لك؟ قال: لا. قال: فأنا خالدٌ، وأنا مغنيك وغير مكافيك قال: يا أم جحشٍ! اصرفي(1/247)
الأتان راجعةً. فقال خالد: إني غير مؤاخذك، وأنا أغنيك. قال: لا والله لا رزأت رجلاً أسمعته قذعاً ديناراً ولا درهماً. فقال خالدٌ: بمثل صبر الشيخ أدرك آباؤه من الشرف ما أدركوا.
حدثنا ابن زكويه قال: حدثنا العباس بن بكار عن أبي بكر الهذلي قال: لما بنى أبو العباس السفاح مدينته بالأنبار طاف بعبد الله بن حسنٍ بن حسن فيها فأراه ما اتخذ لنفسه، وما اتخذ لأهل بيته وقواده/ وجنده تمثل عبد الله وهو يطوف فيها:
ألم تر حوشباً أمسى يبني ... بناءً نفعه لبني بقيلة(1/248)
يؤمل أن يعمر عمر نوحٍ ... وأمر الله يطرق كل ليلة
فتغير وجه أبي العباس، وعرف عبد الله ما فيه، فاعتذر إليه وتنصل وحلف له بالله ما أراده ولا أنشده متعمداً لمعناه، ولكنه جاء على لسانه وهو ساهٍ عن معناه، فقبل أبو العباس ذلك منه ظاهراً، وأبطن غيره. فخرج عبد الله بن حسن فأتى أبا جعفر فأعلمه خطأه، وسأله أن يكلم أبا العباس ويعذره عنده. فركب أبو جعفر إلى أبي العباس/ فكلمه فيه، فقال أبو العباس: إن معاوية كان يقول: ما من الناس أحدٌ إلا وأنا أستطيع أن أرضيه إلا الحاسد، فإنما رضاه أن تزول نعمتي!.. وصدق معاوية.. هؤلاء بنو عمنا بنو علي – صلوات الله عليه - وقد وصلت أرحامهم وبررتهم لقرابتهم، وآثرتهم بالإحسان لحرمتهم وحقهم، وقضيت ذمامهم فما أقنعهم ذلك ولا أرضاهم، ولا أوصلت إلى بني أبي شيئاً إلا وقد أوصلت إليهم مثله أو نحوه. وإنه ليرد علي من كثيرهم(1/249)
قوارص ترمضني فأطرحها ولا أحفلها براً به وصلةً له. وإنما يعرفون مغبة الحسد وسوء عاقبته لو قد فقدوا شخصي، وأفضت أمورهم إليك يا أبا جعفرٍ.
حدثني أبي قال: حدثني أبو حاتم عن الأصمعي قال: بينا سلم ابن قتيبة يساير أبا عمرو بن العلاء في طريق مكة في ليلةٍ قمراء قال سلمٌ: يا أبا عمرٍو! أنشدنا فأنشده للفرزدق:
تحن بزوراء المدينة ناقتي ... حنين عجولٍ تبتغي البورائم(1/250)
.. فمر في إنشادها وهو ساهٍ عما فيها من هجاء قتيبة حتى إذا بلغ إلى قوله:
أتغضب أن أذنا قتيبة حزتا ... جهاراً ولم تغضب لقتل ابن خازم
وما منهما إلا بعثنا برأسه ... إلى الشام فوق الشاحجات الرواجم
عرف أبو عمرٍو ما عليه في ذلك فسكت. فقال سلمٌ:/ إيهاً أبا عمرٍو! اضرب بها وجوهنا في سواد الليل.. ولم يتنكر له.(1/251)
حدثني أبو محمد بن حمدون النديم قال: حدثنا حماد بن إسحاق الموصلي عن أبيه قال: حدثني علي بن هشام عن الحسن بن مصعب قال: لما أخذ أبو مسلم على عبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس بالمخنق أرق عبد الله في ليلةٍ من الليالي التي ضاق أمره فيها, فقال لخادمه سراحٍ: ادع لي أخي عبد الصمد بن علي فجاءه فقال: يا بن أم! أما ترى ما نحن فيه؟ ما أحسبني إلا أشقاها. فقال: يا أمير المؤمنين! أتقول هذا وأنت ابن بيت الإسلام, وابن قواعد مكة/ وبطائحها, تميس بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين العباس بن عبد المطلب؟!(1/252)
.. قال: يا أخي! إني قتلت أهل الأرض ولم أترك عربياً ولا عجمياً إلا أبرته وها أنذا كالأسير بين يدي هذا العبد –يعني أبا مسلم- فوددت أني أتيح له الظفر علي وحملني إلى ابن أخي, فوالله لحكومته في بالجور أحب إلي من حكومة هذا العبد في بالعدل. فقال له: لو رمت ما عند أبي مجرمٍ لعلك أن تستميله. فتبسم وقال: أي أخي! هذا وقت ذاك؟ والله لو سألته اليوم دم شاةٍ ما أجابني إليه, كان يطمع في هذا أول الأمر. قلت: فعندك حيلةٌ؟/ قال: نعم, وإن جاوزت ما ألقيه إليك أهلكتني ونفسك, فاكتمه جوارحك الباطنة فضلاً عن غيرك.. أن تنطلق إلى سليمان بن علي بالبصرة, فأظننا إن صرنا إليه كنا في مثل أوكارنا التي نهضنا منها, وفي جوار السموأل بن عادياء ملك الحصن. فقلت: أفترى أبا جعفرٍ إن رام سليمان أن يسلمنا؟ قال: لا! هو يموت دوننا. قلت: خار الله لأمير المؤمنين, وهيأ(1/253)
له الرشاد. ثم دعا خصياً له فقال: أخرج إلي نواقيس –قينة كانت له- فقال: هات ما عندك, فوالله إني لأدفع بك كل غم, وأرى في وجهك السرور فغنت:
بني هاشمٍ كيف الهوادة بيننا ... وعند عليٍ درعه ونجائبه
هم قتلوه كي يكونوا مكانه ... كما غدرت يوماً بكسرى مرازبه(1/254)
الشعر للوليد بن أبي معيطٍ في عليٍ عليه السلام, يذكر أنه قتل عثمان ويوبخه بأنه سلبه.
فلما سمع الشعر أكربه وغمه وقال: أما كان لك في الشعر والألحان فسحةٌ وسعةٌ؟ قالت: والله يا أمير المؤمنين لقد أرتج علي كل غناءٍ سواه, وكل شعرٍ غيره. فأسبل عينه يبكي وقال: إن أبا العباس قتلني من بين الخلق, وذلك أنه ضمن لي إن قتلت مروان يعهد إلي, فلما قتلته عهد إلى أخيه, والله يأخذه بدمي وعهدي./ ثم قال: غني فغنت:
أأهجر ليلى ليس بيني وبينها ... سوى ليلةٍ إني إذاً لصبور
عفا الله عن ليلى الغداة فإنها ... إذا وليت حكماً علي تجور(1/255)
فسري عنه بعض ما كان, وقال: أحسنت والله! أعيدي علي هذا الصوت. فأعادته فرأيت في وجهه السرور فقلت: يا أمير المؤمنين ما أبعد حالك هذه من حالك آنفاً!.. قال: يا بن أم! إن الدنيا محشوةٌ آفاتٍ ومصائب. فإذا أتاك منها سرورٌ مقدار لحظةٍ فاغتنمه. والله لكأني بنفسي غداً بين هؤلاء العلجة, فإن لم أدفع ما أخاف بما ترى تعجلت المكروه./ ثم قال: غني, فغنت:
وكنت كذي رجلين: رجلٍ صحيحةٍ ... ورجلٍ رمى فيها الزمان فشلت
وكنت كذات الظلع لما تحاملت ... على ظلعها بعد العثار استقلت
فلما فرغت انهملت دموعه. فقلت: سبحان الله ما أعجب ما أرى منك يا أمير المؤمنين! قال: أي أخي! ذهبت والله دنياي إلا أن يأتيني(1/256)
موت عبد الله بن محمد وذهبت والله آخرتي وقد قتلت مائتي ألفٍ إلا أن يتفضل الله علي. ثم قال: أقول لك شيئاً؟ وأحسبك ستوصمني فيه. قلت: أعاذك الله من ذلك يا أمير المؤمنين! قال: والله ما أبالي ما أكلت من خشنٍ ولينٍ, وما أبالي ما لبست/ من غليظٍ وحسنٍ. وما الدنيا إلا صحة البدن والنظر إلى هذا الوجه الحسن –يعني نواقيس- فليتهم خلوني وإياها بالكفاية, وعلى ملكهم الدبار, وعلي إن طلبته.
قال: قلت: وهذه والله من فضائلك! ما رأيت أحداً ذم الغناء إلا كان منقوصاً, ولا قدم على الباه مطعماً أو مشرباً إلا كان شرهاً. قال: كذا كان أبوك عليٌ يقول, وكذا كان جد أبيك العباس يقول في الجاهلية, وكذا نحن أهل البيت, وأحسبهم غلطوا في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم حين رووا أنه قال: حبب إلي النساء والطيب, وإنما هو النساء والسماع! فضحك عبد الصمد.(1/257)
حدثنا ابن زكويه قال: حدثنا محمد بن راشد الخناق قال: حدثني إبراهيم بن المهدي قال: كنت نازلاً مع المخلوع في مدينة المنصور أبي جعفرٍ في قصره بباب الذهب لما حصره طاهر بن الحسين. فخرج ذات ليلةٍ من القصر يريد أن يتفرج من الضيق الذي هو فيه, فصار إلى قصرٍ في قرن الصراة أسفل من قصر الخلد في جوف الليل, ثم أرسل إلي فصرت إليه فقال لي: يا إبراهيم! أما ترى طيب هذه الليلة, وحسن هذا القمر في السماء –وصورة نوره في الماء؟! ونحن حينئذٍ على شاطئ دجلة- فهل لك في الشراب؟ فقلت: شأنك جعلني الله فداك. فدعا برطلٍ/ من نبيذٍ فشربه, ثم إني سقيت مثله, فابتدأت أغنيه من غير أن يأذن لي لما أعلم من سوء خلقه بما أعلم أنه يحب أن يسمعه. فقال لي: ما تقول فيمن يضرب عليك؟ قلت: ما أحوجني إلى ذلك! قال: فدعا بجارية من جواريه مقدمةٍ عنده, يقال(1/258)
لها: ضعف. قال: فتطيرت من اسمها للحال التي هو عليها. فلما صارت بين يديه قال لها: غني. فغنت بشعرٍ للنابغة الجعدي:
كليبٌ لعمري كان أكثر ناصراً ... وأيسر جرماً منك ضرج بالدم
فاشتد عليه ما غنت به, وتطير منه, وقال لها: غني غير هذا. فغنت:
أبكى فراقهم عيني وأرقني ... إن التفرق للأحباب بكاء
ما زال يغدو عليهم صرف دهرهم ... حتى تفانوا وصرف الدهر عداء(1/259)
فاليوم أبكيهم جهدي وأندبهم ... حتى أؤوب وما في مقلتي ماء
فقال لها: لعنك الله! أما تعرفين من الغناء غير هذا؟ فقالت: يا سيدي! ما قصدت إلا ما ظننت أنك تحب أن تسمعه, وما أردت ما تكرهه, وما هو إلا شيءٌ جاءني. ثم أخذت في غناء آخر فغنت:
أما ورب السكون والحرك ... إن المنايا كثيرة الشرك
ما اختلف الليل والنهار ولا ... دارت نجوم السماء في الفلك
إلا بنقل السلطان عن ملكٍ ... عاتٍ يحب الدنيا إلى ملك
وملك ذي العرش دائمٌ أبدا ... ليس بفان ولا بمشترك(1/260)
فقال لها: قومي عليك غضب الله. وكان له قدحٌ من بلورٍ حسن جداً، كان يسميه محمداً من حبه إياه موضوعاً بين يديه، فعثرت بالقدح فكسرته، فقال إبراهيم: ولم نجلس مع هذه الجارية قط إلا رأينا في مجلسنا ذلك ما نكره. فقال لي: ويحك يا إبراهيم! ما ترى ما جاء من هذه الجارية؟ ثم ما كان من كسر القدح؟ ما أظن أمرنا إلا قد قرب. فقلت: بل يطيل الله عمرك، ويعز ملكك، ويديم دولتك، ويكبت عدوك. فلم يتم الكلام حتى سمعنا صوتاً من دجلة يقول: {قضي الأمر الذي فيه تستفتيان} فقال: يا إبراهيم! سمعت ما سمعت؟ قلت: لا والله ما سمعت شيئاً. وقد كنت سمعت الذي سمع فقال لي: تسمع حسناً. فدنوت من الشط فلم أر شيئاً، ثم عاودنا الحديث فعاودنا القول، ثم قمت عن مجلسه مغيراً، فركب فرجع إلى موضعه بالمدينة فلما كان بعد هذه الليلة بليلتين حدث من قتله ما حدث، وذلك يوم الأحد لستٍ خلون من صفرٍ سنة ثمانٍ وتسعين ومائةٍ.
حدثنا أبو محمد بن حمدون النديم قال: حدثنا حماد بن إسحاق(1/261)
عن أبيه قال: حدثني أبو دلفٍ العجلي قال: حدثني أبي عن/ عاصم بن يونس العجلي قال: قدمت على أبي مسلمٍ بمرو، فلما بصر بي من بعيد قام عن مهاده حتى مشى خطاً في صحن داره، ثم ضمني إليه، ووضع يده على بطني وظهري ملتزماً لي، ورمى الناس بأبصارهم نحوي. وكان هذا من فعله بدعاً لا يعرف، ثم أخذ بيدي وأقبلنا نحو مجلسه، فجلس وجلست، وأقبل علي بجوارحه كلها مسائلاً ومستمعاً، وحضر طعامه فجعل يلقمني بيده، وأمر بمنزل قريب من منزله على نهر ماشان ففرغ لي ونجد ومهد، فملت إليه بعد أن طعمت.
فلما اطمأنت بي الدار دس إلي رجلاً من خاصة أصحابه/ وقال له: وانسه وضاحكه ونادمه. فإذا اطمأن إليك وأنس بك فاسأله عن(1/262)
حاله عندي وما الذي رفعها حتى أظهرت له ما أظهرت من بره وإكرامه، وهذا ما لا يطمع فيه أحد. ففعل الرجل ما قاله له. فلما توانسا سأله عما دسه إليه فقال: إني كنت قهرماناً له، أميناً عنده، فكان يخلفني في عياله إذا غاب عنهم بأصبهان فأقوم بأمورهم حتى يقدم، فاختبر مني عفافاً ووفاءً. فأدى الرجل إلى أبي مسلم ما سمع من عاصمٍ، فلم يقنعه ذلك حتى دس إليه آخر، ففعل كما فعل، وأجاب كما أجاب الأول. وكان عاصم/ أدهى من حل بسهل أو جبل، فلما أتاه الثاني بما أتاه الأول دس إليه ثالثاً، فقال له كما قال للأولين.
فلما صح لأبي مسلم خبره أعد مجلساً خاصاً، وكان عاصمٌ صاحب غزل وغناء وقيان. فأمر أبو مسلم بقينة كانت لنصر بن سيار وكان نصرٌ سماها: إشعال، لأنها كانت إذا غنت أضرمت في القلب النار، وكانت هذه الجارية عند ابن الكرماني قبل نصرٍ حين(1/263)
قتل ابن الكرماني، وصارت إلى أبي مسلم بعد، ثم لما قتل أبو مسلم صارت إلى أبي جعفرٍ المنصور، وهي أم جعفرٍ بن أبي جعفرٍ: فأحضر أبو مسلم هذه الجارية، وأحضر عاصماً.
فلما/ دخل عليه قال أبو مسلم لغلام له تركيٍ على رأسه: تنح عني حتى لا أراك. فخرج، فقال أبو مسلم لعاصم: أبيت إلا كرماً. قال: يا بن اللخناء! أردت أن أخبر أنك كنت لي خادماً فتثب علي فتقتلني! فضحك أبو مسلم، فقال عاصم: أسألك بالله لو لم أقلب المعنى ما كنت فاعلاً؟ قال أبو مسلم: الله يعلم أني كنت قدرت موضع خشبتك أين أصلبك؟! قال: فما هذا جزائي منك. قال: يا هذا ومن جازيته بجزائه؟ أتراني وضعت سيفي حتى لم يبق برٌ ولا فاجر. ثم قال للجارية: هات! فغنت بشعر كثيرٍ:
وكنت لبين الحاجبية حاذراً ... فلم ينج نفسي ما لفراق حذار(1/264)
وما ذلك الهجران إلا تجنباً ... وحبك – مما ساءكم وحذار
فأصبحت مما يحدث الدهر للفتى ... أرى أنه لؤمٌ علي وعار
فانتفض وقال: يا عاصم! قتلت والله الذي لا إله إلا هو. قال عاصم: فانتفضت وقلت: أعيذك بالله أن تحرك بهذا أو نحوه شفتيك. وكيف تقول هذا وما على ظهر الأرض أعز منك؟ فقال: نعتني هذه الزانية، فجاءت بما سمعت. يا غلام! ادفع هذه إلى أبي حميد. فدفعت إليه، فكان أبو حميد يضن بها عن الشمس حتى أهداها إلى أبي جعفرٍ
ثم قال: يا عاصم! إني في بني العباس كما قال ابن النصرانية/ خالد بن عبد الله القسري ليوسف بن عمر حين قدم عليه العراق والياً ففعل به ما فعل من العذاب. فجاؤوا بخالد يوماً فأقاموه(1/265)
نصب عينيه فقال له: يا يوسف! إن القوم الذين أنعموا عليك هذه النعمة التي أصبحت تمرغ في ظلها قد أنعموا علي قبلك. فاحذر أن تسلك بي سبيلاً تمتحن غداً بمثله. فلما حل بيوسف ما حل قال: قاتل الله ابن النصرانية ما كان أثقب رأيه! قال عاصم: فلما قتل أبو مسلم قلت: لله أبوك ما كان أثقب رأيك!,,
حدثني أحمد بن إسماعيل القيسي قال: حدثني عبد الصمد بن المعذل قال: كان خليلان الأموي من ولد خالد بن/ عبد الله ابن أسيدٍ يتغنى، وكان يرى ذلك زائداً في الفتوة، وكان سرياً واسع النعمة، فحضر يوماً مجلس عقبة بن سلمٍ الهنائي وكان(1/266)
عقبة جباراً عاتياً، وهو الذي يقال له في المثل: ((أجرأ من قاتل عقبة)). فلما طعما وخلوا نظر خليلان إلى عود موضوع في جانب البيت، فعلم أنه عرض له به فأخذه فغنى:
يا بنة الأزدي قلبي كئيب ... مستهامٌ عندها ما يؤوب
ولقد لاموا فقلت دعوني ... إن من تلحون فيه حبيب
فجعل وجه عقبة يتغير، وخليلان في سهوٍ عما فيه عقبة، يرى أنه محسنٌ، ثم فطن لتغيير وجهه فعلم/ أنه لما تغنى به لأن عقبة من الأزد. فقطع الصوت وجعل مكانه:
ألا هزئت بنا قرشيةٌ يهتز موكبها
رأت لي شيبةً في الرأس مني ما أغيبها
فقالت أبن قيسٍ ذا ... ولون الشيب يعجبها(1/267)
فسري عن عقبة. فلما انقضى الصوت وضع العود من يده، ووكد على نفسه اليمين ألا يتغنى عند من يجوز عليه أمره أبداً.
وإنما تغنى خليلان بالصوت الثاني لأن التشبيب بامرأة من قومه من قريش يستل سخيمة عقبة، إذ كان المعنى الأول الذي أغضبه هو تشبيبٌ بامرأة من الأزد من رهط عقبة.
ويروى أن بعض المغنين تغنى بحضرة الرشيد بشعر مدح به علي ابن ريطة، وهو علي بن المهدي، وتغنى المغني على جهل:
قال لعليٍ: أيا فتى العرب ... وخير نامٍ وخير منتسب
أعلاك جداك يا علي إذا ... قصر جدٌ في ذروة النسب
.. فأمر الرشيد بأن يفتش عن المغني، فإن كان لا يدري(1/268)
فيمن قيل الشعر عفا عنه، وإلا ضرب ألف سوطٍ. ففتش عنه فإذا هو لا يدري فيمن قيل، فعفا عنه.
حدثني أبي قال: حدثنا أبو حاتم عن الأصمعي عن عبد الرحمن ابن أبي الزناد قال: كنا في مدعاةٍ فيها النعمان/ بن بشير الأنصاري، فاندفع طويسٌ المخنث يتغنى بشعر قيس بن الخطيم يشبب فيه بعمرة بنت رواحة أم النعمان:(1/269)
أجد بعمرة غنيانها ... فتهجر أم شأننا شانها
فأومى القوم إلى طويسٍ وقالوا له: اسكت فإنها أمه. فقال النعمان: ما قال بأساً، إنما قال:
وعمرة من سروات النساء ... تنفح بالمسك أردانها
ويروى أن مخارقاً تغنى بحضرة المأمون بشعر مسكينٍ الدارمي يمدح معاوية بن أبي سفيان على سهوٍ من مخارق:
إذا المنبر الغربي خلى مكانه ... فإن أمير المؤمنين.. ..
ثم ذكر ما فيه وكره أن يقول: يزيد. فقال:.. مخارق./ فضحك المأمون وقال: أحسنت! أما والله لو قلت يا بن الخبيثة: ((يزيد)) لضربت عنقك.(1/270)
وأول هذا الشعر:
إليك أمير المؤمنين رحلتها ... تثير القطا ليلاً وهن هجود
على الطائر الميمون والجد صاعدٌ ... لكل أناسٍ طائرٌ وجدود
ألا ليت شعري ما يقول ابن عامرٍ ... ومروان أو ماذا يقول سعيد
بني خلفاء الله مهلاً فإنما ... يبوئها الرحمن حيث يريد(1/271)
إذا المنبر الغربي خلى مكانه ... فإن أمير المؤمنين يزيد
حدثنا الجوهري عن عمر بن شبة قال: حدثنا محمد بن يزيد قال: أتت امرأةٌ من بني قشيرٍ خالد بن عبد الله القسري فمثلت بين يديه فقالت:
إليك يا بن السادة الأماجد ... يعمد في الحاجات كل عامد
أشبهت يا خالد خير والد ... أشبهت عبد الله ذا المحامد
فالناس بين صادرٍ ووارد ... مثل حجيج البيت نحو خالد
ليس طريف المجد مثل التالد(1/272)
فقال لها خالد: من أنت؟ فقالت: امرأة أكب عليها الزمان فلم يدع لها سبداً ولا لبداً, ولا صافناً ولا عاهناً. قال: فقال: فهل لك أن يتزوجك الأمير؟ فقالت: إني والله لئن كنت فقدت نسباً ما فقدت حسباً, وما كنت لأتزوج دعياً, وإن كان ثرياً غنياً. فضحك خالد ووصلها.
حدثني أبي عن أبي حاتم عن أحمد بن الحارث الخزاز عن المدائني قال: دخل حاجب المهلب بن أبي صفرة عليه فقال: أصلح الله الأمير! بالباب رجل من الأزد, يذكر أنه مدح الأمير ويستأذن. فقال: ويحك أنا أعرف حماقة شعراء الأزد فهاته. فلما مثل بين يديه قال:(1/273)
نعم أمير الرفقة المهلب ... ينقض بالقوم انقضاض الكوكب
ابيض وضاحٌ كتيس الحلب
فضحك المهلب وقال للحاجب: قد قلت لك فلم تدعني حتى جبهتني في وجهي أني تيسٌ! وأمر له بصلة.
ومن القول بحضرة الملوك ما يروى عن/ أبي النجم العجلي أنه دخل على هشام بن عبد الملك فأنشده أرجوزته اللامية:
الحمد لله الوهوب المجزل(1/274)
فجعل هشام يصفق بيديه استحساناً لها حتى بلغ إلى قوله في صفة الشمس:
صفراء قد كادت ولما تفعل ... فهي في الأفق كعين الأحول
وكان هشام أحول, فسها أبو النجم عن حوله لما انبسط في الإنشاد. فغضب هشام وأمر بطرده وإخراجه. فأمل أبو النجم رجعته فكان يأوي المساجد. فأرق هشام ليلةً فقال لحاجبه: أبغني رجلاً عربياً فصيحاً يجاذبني وينشدني, فطلب له ما طلب, / فوقف على أبي النجم. فلما دخل به إليه قال: أين تكون منذ أقصيناك؟ قال: بحيث ألفتني رسلك. قال: فمن كان أبا مثواك؟ -يريد: على من كنت نازلاً؟- قال: رجلين كلبياً وتغلبياً, أتغدى عند أحدهما, وأتعشى عند الآخر. قال: مالك من الولد؟ قال: ابنتان. قال: أزوجتهما؟(1/275)
قال: زوجت إحداهما. قال: فبم أوصيتها؟ قال: قلت لها ليلة أهديتها:
سبي الحماة وابهتي عليها ... فإن أتت فازدلفي إليها
ثم اقرعي بالود مرفقيها ... وركبتيها وابخصي عينيها
لا تخبري الدهر بذاك ابنيها
قال: فما أوصيتها بشيء غير هذا؟ قال: بلى قلت:
أوصيت من برة قلباً حرا ... بالكلب خيراً والحماة شرا(1/276)
لا تعدمي نهكاً لها وضرا ... والحي عميهم بشرٍ طرا
حتى يروا حلو الحياة مرا ... وإن حلوك ذهباً ودرا
قال هشام: ما هكذا أوصى يعقوب ولده. قال: ما أنا مثل يعقوب, ولا ولدي مثل ولد يعقوب. قال: فما حال الأخرى؟ قال: قد درجت في بيوت الحي, ونفعتنا في الحاجة والرسالة. قال: فما قلت فيها؟ قال: قلت:
كأن ظلامة أخت شيبان ... يتيمةٌ ووالداها حيان
الرأس قملٌ كله وصئبان ... وليس في الرجلين إلا خيطان(1/277)
وقصةٌ قد شيطتها النيران ... تلك التي يذعر منها الشيطان
فقال هشام: يا غلام! ما فعلت تلك الدنانير التي أمرتك بقبضها؟ قال: هي عندي ووزنها خمسمائة دينار. قال: فادفعها إلى أبي النجم ليجعلها في رجلي ظلامة مكان الخيطين.
ومثل هذا ما حدثني ابن دريد عن أبي حاتم عن الأصمعي قال: دخلت يوماً على الرشيد, وكنت قد غبت عنه أياماً فقال: يا أصمعي! من أين؟ فقلت: يا أمير المؤمنين! ما ألاقتني أرضٌ حتى رأيتك. فسكت, فلما تفرق من عنده قال: يا أصمعي ادن مني/ فدنوت فقال: ما معنى ألاقتني؟ قلت: أمسكتني. فلما خرجت إذا جعفر بن يحيى فقال لي: يا كلب! ما حملك على أن(1/278)
تخاطب أمير المؤمنين في مجلس العامة بما يحتاج إلى تفسير؟ أما والله لولا حرمتك به لضربت عنقك. إياك أن تعود إلى مثلها.
ويروى أن الكسائي غلط بحضرة المأمون وهو على شراب فاستدرك خطأه, فقال يعتذر إلى المأمون, ويحيل الذنب على السكر:
أنا المذنب الخطاء والعفو واسعٌ ... ولو لم يكن ذنبٌ لما عرف العفو
سكرت فأبدت مني الكأس بعض ما ... كرهت وما إن يستوي السكر والصحو
ولا سيما إذ كنت عند خليفةٍ ... ومن لا يجوز عنده الطيش واللغو
فإن تعف عني ألف خطوي واسعاً ... وإن لم يكن عفوٌ فقد قصر الخطو
فتغمد المأمون خطأه وعفا عنه.(1/279)
حدثني عبدان بن محمد عن العباس بن هشام عن الهيثم بن عدي قال: كان امرؤ القيس بن حجرٍ الكندي يأتي الأبطح في كل سنةٍ، ومعه قينتاه هروفرتنى، وهما عبسيتان، فيضرب قبة أدم. وينادم فتيان قريش. وكان فيمن ينادم فتىً من قريش عارم الطرف. فكان يساور إحدى القينتين، ويرفع الكأس ليشربها، ويستترها من امرئ القيس، ففطن له، فاستوى جالساً، وقال:
ومقيمٍ درء ناظره ... قبل أن يفوته بصره
ليس ندماني أخو نزقٍ ... عارمٌ في مجلسٍ نظره
ربما نادمت مورطه ... في ذرا أهويةٍ أشره(1/280)
فقام الفتى، فقال:
نعمت صباحاً أقلني العثار ... فلست أعود إلى مثله
فإن تعف يا بن الملوك الكرام ... فقد يرتجى العفو من أهله
فعفا عنه.
ويروى أن أبا مسلم صاحب الدولة بينا هو يخاطب بعض قواده إذ حمي القائد فقال له: يا لقيط!.. فنكس أبو مسلم رأسه، فندم القائد، وعلم أنه قد أخطأ. فقال: أيها الأمير! أقلني عثرتي فوالله ما انبسطت حتى بسطتني، ولا نطقت حتى أنطقتني. فهب لي ما فرط مني. فقال أبو مسلم: قد فعلت. قال: أيها الأمير! إني أحب أن أستوثق لنفسي، فقال أبو مسلم: سبحان الله!.. كنت تسيء وأحسن، فلما أحسنت أتظنني أسيء؟!..(1/281)
حدثنا ابن زكويه قال: حدثنا إبراهيم بن عمير عن الأصمعي قال: مر الحجاج بن يوسف في بعض عمله متنكراً، فرأى أعرابياً فقال: كيف عاملكم؟ قال: شر عاملٍ. قال: أفلا ترفعون ذلك إلى من هو فوقه؟ قال: هو شر منه. قال: فتنمر الحجاج، ولحق به الناس/ فقال: عليكم بالأعرابي خذوه. فلما قعد الحجاج دعا به، فلما نظر إليه الأعرابي عرفه فقال له: إن رأيت أن يكون ذلك الأمر مستوراً فافعل! فضحك الحجاج وأطلقه.
حدثنا أبو خليفة الفضل بن الحباب الجمحي قال: حدثنا محمد ابن سلام قال: قدم الراعي عبيد بن الحصين على عبد الملك ابن مروان يشكو إليه المصدقين، ويذكر أنهم حافوا في أخذ صدقات الناس فأنشده قصيدته:(1/282)
ما بال دفك بالفراش مذيلا ... أقذىً بعينك أم أردت رحيلا
حتى انتهى إلى قوله:
إني حلفت على يمينٍ برةٍ ... لا أكذب اليوم الخليفة قيلا
ما إن أتيت أبا خبيبٍ وافدا ... يوماً أريد لبيعتي تبديلا
ولا أتيت نجيدة بن عويمرٍ ... أبغي الهدى فيزيدني تضليلا
إن الذين أمرتهم أن يعدلوا ... لم يفعلوا مما أمرت فتيلا(1/283)
أخذوا العريف فقطعوا حيزومه ... بالأصبحية قائماً مغلولا
حتى إذا لم يتركوا لعظامه ... نحضاً ولا لفؤاده معقولا
جاؤوا بصكهم وأحدب أسأرت ... منه السياط يراعةً إجفيلا
فلئن بقيت لأدعون برحلةٍ ... تدع الفرائض بالشريف قليلا(1/284)
فقال عبد الملك: إلى أين لا أم لك؟ قال: من مصدقٍ إلى مصدقٍ ومن عامل إلى عامل حتى يأتي الموت. قال: أما لو قلت غير ذلك لضربت عنقك. وظن عبد الملك أنه يتهدده وأنه يرحل إلى بعض من يصلح للخلافة. فرجع الراعي ولم يقض حاجةً لغضب عبد الملك عليه لموضع البيت الأخير. فلما كان في العام المقبل قدم عليه فأنشده قصيدته:
بان الأحبة بالعهد الذي عهدوا ... فلا تمالك عن أرضٍ لها قصدوا
حتى انتهى إلى اعتذاره وشكواه:(1/285)
إني وإياك والشكوى التي قصرت ... خطوي ونأيك والوجد الذي أجد
كالماء والظالع الصديان مورده ... هو الشفاء له والري لو يرد
إلى قوله في الشكوى:
أما الفقير الذي كانت حلوبته ... وفق العيال فلم يترك له سبد
واختل ذو المال، والمثرون قد بقيت ... على التلاتل من أمولهم عقد(1/286)
فإن رفعت بهم رأساً نعشتهم ... وإن لقوا مثلها في قابلٍ فسدوا
فأقبل عليه عبد الملك فقال: أراك العام أعقل منك عام أول. ثم أقبل على ولده فقال: أحسنوا إلى الشيخ فإن له بنا حرمةً وعلينا حقاً، وقضى حوائجه.(1/287)
(6) باب العفو عن الهراب والمنفيين وردهم إلى أوطانهم بالشفاعة لهم وبالاعتذار منهم
حدثنا أبو الحسن قال: حدثنا أبي عن أبي حاتم قال:/ حدثنا وهب بن جرير بن حازم [عن أبيه] عن محمد بن إسحاق قال: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عهد إلى المسلمين أن يقتلوا جماعةً من المشركين منهم عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية.
فلما قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتل ممن كان نذر دمه(1/289)
هربا إلى جدة ليركبا منها إلى اليمن. فقال عمير بن وهب الجمحي يا رسول الله! إن صفوان بن أمية سيد قومه، وقد خرج هارباً ليقذف نفسه في البحر فآمنه. قال: هو آمنٌ. قال: يا رسول الله أعطني شيئاً يعرف به أمانك. فأعطاه عليه السلام عمامته التي دخل فيها مكة, فخرج حتى أدركه بجدة./ فقال: يا صفوان! أذكرك الله في نفسك أن تهلكها. وهذا أمان رسول الله قد جئت به. قال: ويلك اغرب عني فلا تكلمني. فقال: مهلاً فداك أبي وأمي, هو ابن عمك, عزه عزك, وشرفه شرفك, وملكه ملكك قال: إني أخافه على نفسي قال: هو أجل من ذلك وأكرم. فرجع به عمير, فلما وقف به على رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال صفوان: إن هذا يزعم أنك آمنتني! قال: صدق. قال: فاجعلني بالخيار شهرين. قال: أنت بالخيار أربعة أشهر.
وأما عكرمة بن أبي جهل فإنه كانت عنده أم حكيم/ بنت الحارث بن هشام. وقد كانت أسلمت فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم(1/290)
فاستأمنته لعكرمة فآمنه, فلحقته باليمن حتى جاءت به, فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم على نكاحها الأول.
حدثني أبي قال: حدثنا أبو حاتم قال: حدثنا وهب بن جرير عن أبيه عن ابن إسحاق قال: حدثني [عبد الله بن] الفضل بن العباس بن الربيعة عن سليمان بن يسار عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري قال: خرجت أنا وعبيد الله بن عدي بن الخيار في زمن معاوية غازيين. فلما قفلنا مررنا بحمص، وكان وحشي بها قد سكنها. فقال لي عبيد الله بن عدي: هل لك أن نأتي/ وحشياً فنسأله عن قتل حمزة؟
فخرجنا نريده, فسألنا عنه فقيل لنا: إنكما ستجدانه/ بفناء داره على طنفسة له. قال: وهو رجل قد غلبت عليه الخمر. فإن تجداه(1/291)
صاحياً تجدا رجلاً عربياً [وتجدا عنده بعض ما تريدان, وتصيبا عنده ما شئتما من حديث تسألانه عنه] وإن تجداه وبه بعض ما يكون به فانصرفا عنه. فأتيناه, فإذا نحن بشيخ كبير أسود مثل البغاث على طنفسةٍ بفناء داره, وإذا هو صاحٍ لا بأس به, فسلمنا عليه فرفع رأسه إلى عبيد الله بن عدي فقال: ابن لعديٍ بن الخيار أنت؟ قال: نعم. فقال: أما والله ما رأيتك منذ ناولتك أمك السعدية التي أرضعتك بذي طوى وهي على بعيرٍ لها, فإني أخذتك/ بعرصتك فناولتها إياك فلمعت لي قدماك, فما هو إلا أن وقفت علي فعرفتك. فقلنا له: أتيناك لتحدثنا كيف كان قتل حمزة. فقال: أما سأحدثكما(1/292)
ما حدثت به رسول الله صلى الله عليه وسلم .
كنت عبداً لجبير بن مطعمٍ, وكان عمه طعيمة بن عدي قتل يوم بدرٍ, فقال لي: إن قتلت حمزة عم محمد فأنت حرٌ! وكنت صاحب حربةٍ أقذف بها ما أكاد أخطئ. فخرجت مع الناس وإنما حاجتي حمزة حتى نزلنا بعينين.
فلما التقى الناس أخذت حربتي, وخرجت أنظر حمزة حتى رأيته في عرض الناس, وهو مثل الجمل/ الأورق يهذ الناس هذاً(1/293)
بسيفه ما يليق شيئاً. فوالله إني لأتهيأ له قد استترت بأصل شجرة إذ تقدم إليه سباع بن عبد العزى الخزاعي. فلما رآه حمزة قال: هلم إلي يا بن المقطعة البظور, ثم ضربه, فوالله لكأنما أخطأ رأسه, فما رأيت شيئاً كان أسرع من سقوط رأسه, فهززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها عليه فوقعت في ثنته, فخرجت من بين رجليه, فوقع الرجل, فذهب ليقوم فغلبته, فتركته وإياها, فلما مات قمت فأخذت حربتي, ثم رجعت إلى العسكر, فقعدت فيه, ولم يكن لي حاجةٌ/ بغيره, فلما قدمنا مكة أعتقت.
فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة هربت إلى الطائف. فلما خرج وفد الطائف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسلموا ضاقت علي(1/294)
الأرض بما رحبت, وقلت: ألحق بالشام أو اليمن أو ببعض البلاد. فوالله إني لفي ذلك من همي إذ قال لي رجل: ويحك إن محمداً لن يقتل أحداً دخل في دينه. فخرجت حتى قدمت المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم , فلم يرعه إلا وأنا قائمٌ على رأسه أشهد شهادة الحق. قال: أوحشيٌ؟! قلت: نعم. قال: فاجلس فحدثني كيف قتلت حمزة/ فجلست فحدثته كما حدثتكما, فقال: ويحك غيب عني وجهك فلا أراك. فكنت أتنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كان حتى قبض الله رسوله.
فلما خرج المسلمون إلى مسيلمة, خرجت معهم بحربتي التي قتلت بها حمزة, فلما التقى الناس نظرت إلى مسيلمة وفي يده السيف, فوالله ما أعرفه, وإذا رجل من الأنصار يريده من ناحيته الأخرى, فكلانا يتهيأ له, حتى إذا أمكنني رفعت عليه حربتي فوقعت فيه, وشد عليه الأنصاري فضربه بالسيف, فربك أعلم أينا قتله؟ فإن كنت أنا(1/295)
قتلته فقد قتلت خير الناس بعد/ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتلت شر الناس.
حدثنا محمد بن زكريا الغلابي قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن ابن القاسم قال: حدثني أبي عن هشام بن سليمان بن عبد الملك بن نوفل بن مساحق قال: كان أربعة إخوةٍ على عهد عمر بن الخطاب ضرب عليهم البعث فخرجوا وأوصوا بعيالهم جاراً من بني سليمٍ يقال له: جعدة, وخلفوا عند نسائهم أخاً لهم صغيراً. فكان جعدة يكثر الدخول عليهن, ويكثر محادثتهن, ويأمرهن فيعقلن أرجلهن, ويحجلن معقلاتٍ. فاتهمه الغلام, واشتد عليه ما كان يعاين من أمره وأمرهن, فمكث يقاسي ذلك حيناً.
فلما عيل صبره/, وأمر عليه دهره كتب كتاباً إلى أخوته يعلمهم ذلك, وأتى به عمر بن الخطاب, فوضعه في كتبه, ووجه به مع(1/296)
البريد, وكذلك كان عمر يفعل بالغزاة وأهلهم في إيصال كتبهم وإنهاء أخبارهم إليهم في الشهر والشهرين. فلما وصل الكتاب إلى الفتية أرمضهم ذلك وساء ظنهم، وأقلقهم، ودخل منهم كل مدخل، وأرادوا أن يخلوا بمركزهم فتخوفوا سخط عمر، وكرهوا أن يكتبوا إليه مفسراً فيذيع ذلك فيفتضحوا، فأجمعوا أن يكتبوا إلى عمر بأبيات شعر يكنون فيها عن ذكر النساء فكتبوا:
ألا أبلغ أبا حفصٍ رسولاً ... فدىً لك من أخي ثقةٍ إزاري
أمير المؤمنين وأنت عدلٌ ... رضىً للمسلمين من الخيار
ألوفٌ بالرعية خير والٍ ... أمينٌ حازمٌ حامي الذمار(1/297)
غيورٌ لا يقر بأمر وكسٍ ... لغازٍ نازحٍ نائي المزار
قلائصنا هداك الله إنا ... حبسنا عنكم زمن الغوار
فما قلصٌ تركن معقلاتٍ ... قفا سلعٍ بمختلف التجار
قلائص من بني جشم بن بكرٍ ... وأسلم أو جهينة أو غفار(1/298)
يعقلهن جعدة شيظمياً ... فبئس معقل الذود الظؤار
وختموا الكتاب وكتبوا عنوانه إلى عمر بن الخطاب أمير المؤمنين. فلما قرأ عمر/ الكتاب اشتد غمه، وسأل بعض جلسائه عن جعدة السلمي فعرفه فقال: علي به الساعة. فلما أتي به، فنظر إليه داخلاً من باب المسجد عليه جبة خزٍ ومطرف خزٍ، وقد رجل جمته ودهنها، يرفل في ثيابه قال: هذا جعدة الفاجر؟ قالوا: نعم. قال: جاد(1/299)
ما نعتك أصحابك! مزقوا عليه ثيابه. وأمر بجز شعره وعاقبه عقوبةً شديدةً، ونفاه من المدينة، فمكث حيناً، ثم إن جعدة كتب إلى عمر:
ألا أبلغ أبا حفصٍ رسولاً ... أما من رجعةٍ لك في طريد
فترحمني هداك الله إني ... أبيت الليل في علزٍ شديد
أراعي النجم مكتئباً كأني ... أسيرٌ مفردٌ في عرض بيد
وما أنا بالبريء براة عذرٍ ... ولا بالقاطع الحبل الشريد
ولكن بين ذلك بين بينٍ ... فما أنا بالقريب ولا البعيد(1/300)
فغبب إن في التغبيب ستراً ... ولا تقطع بمر الحق عودي
فإن الحق محمله ثقيلٌ ... وفي إمضائه قطع الوريد
أكل الدهر جعدة مستحقٌ ... لأنواع الشتيمة والوعيد
وفي الإنصاف رحمة من طردتم ... ولو كان الطريد من اليهود
فرق له عمر وأمره أن يرجع إلى المدينة.
حدثنا ابن زكويه قال: حدثنا العباس بن بكار عن أبي بكر الهذلي عن الجارود بن أبي سبرة قال: بينا/ عمر بن الخطاب يطوف بالمدينة ذات ليلة إذ سمع امرأةً(1/301)
تنشد:
هل من سبيلٍ إلى خمرٍ فأشربها ... أو هل سبيلٌ إلى نصر بن حجاج
إلى فتىً ماجد الأعراق مقتبلٍ ... تضيء صورته في الحالك الداجي
نعم الفتى في سواد الليل تطرقه ... لبائسٍ أو لملهوفٍ ومحتاج
فأصبح عمر فدعا بنصرٍ فسيره إلى البصرة، فأنزله مجاشع بن(1/302)
مسعود عليه، فبينا هو عنده إذ تناول عوداً فكتب به في الأرض لامرأة مجاشع، وناولها العود فكتبت تحت كتابه، فوثب مجاشع إلى جفنة فكبها على الكتابين وجلس عليها، وأرسل/ إلى كاتبه فقرأ الكتابين، فكان كتاب نصرٍ: ((أنا والله أحبك حباً لو كان تحتك لأقلك، أو فوقك لأظلك)). وكان كتابها: ((وأنا والله كذاك)) فكتب مجاشع إلى عمر: ((أما بعد! فإنك سيرت نصراً من قبلك، وإنه فعل كذا وكذا..)). فكتب إليه عمر أن أقره قبلك وأغزه.
قال الهذلي: فلما سير نصرٌ قالت المرأة التي سمع عمر شعرها
قل للأمير الذي تخشى بوادره ... ما لي وللخمر أو نصر بن حجاج(1/303)
إني منيت أبا حفصٍ بغيرهما ... شرب الحليب وطرفٍ فاترٍ ساج
إن الهوى زمه التقوى فحبسه ... حتى أقر بإلجامٍ وإسراج
فقال عمر: الله أكبر. وكتب نصرٌ إلى عمر من البصرة.
لعمري لئن شردتني وطردتني ... وما لي ذنبٌ إن ذا لحرام
أأن غنت الذلفاء يوماً بمنيةٍ ... وبعض أماني النساء غرام(1/304)
ظننت بي الظن الذي ليس بعده ... بقاءٌ فما لي في الندى كلام
فأصبحت منفياً على غير ريبةٍ ... وقد كان لي بالمكتين مقام
فيحجزها عما ظننت صلاتها ... وحالٌ لها في قومها وصيام
ويحجزني عما ظننت تورعي ... وآباء صدقٍ سالفون كرام
إمام الهدى لا تلحق الظن مسلماً ... له حرمةٌ معروفةٌ وذمام
حدثنا الجوهري قال: حدثنا ابن شبة قال: حدثنا المدائني عن علي بن مجاهد عن ابن إسحاق عن الشعبي/ قال: بينا سعيد ابن العاص جالس بالكوفة وهو أميرها, وعنده القراء أصحاب(1/305)
البرانس, وهم يأكلون تمراً وزبداً إذ قال سعيدٌ: السواد بستانٌ لقريشٍ فما شئنا أخذنا وما شئنا تركنا. فقال عبد الرحمن بن خنيسٍ الأسدي –وكان على شرط سعيدٍ-: صدق الأمير! فوثب عليه القراء يضربونه وقالوا: يا عدو الله! يقول الباطل وتصدقه؟! فقال سعيد: اخرجوا من منزلي, اخرجوا.
فلما أصبحوا أتوا المسجد فداروا على الحلق فقالوا: إن أميركم هذا الصبي السفيه زعم أن السواد بستانٌ لقومه وله, وهو فيئنا ومركز رماحنا, فلا والله ما على هذا بايعنا/, ولا عليه أسلمنا.
فكتب سعيدٌ إلى عثمان: ((إن قبلي قوماً يدعون القراء وهم السفهاء, وثبوا على صاحب شرطتي فضربوه, واستخفوا بي.. منهم(1/306)
عمرو بن زرارة وكميل بن زياد ومالك بن الحارث الأشتر وحرقوص بن زهير وشريح بن أوفى ويزيد بن المكفف وزيدٌ وصعصعة ابنا صوحان)).
فكتب عثمان إليهم يأمرهم أن يخرجوا إلى الشام, ويغزوا مغازيهم.(1/307)
وكتب إلى سعيد: ((قد كفيتك الذين ذكرت, فأقرئهم كتابي فإنهم لن يخالفوا إن شاء الله. واتق الله وأحسن السيرة))
فأقرأهم الكتاب فخرجوا إلى دمشق, فأكرمهم معاوية وقال لهم: إنكم قدمتم/ إلى بلد لا يعرف أهله إلا الطاعة, فلا تجادلوهم فتدخلوا الشك في قلوبهم. فقال له الأشتر: إن الله قد أخذ على العلماء في علمهم ميثاقاً أن يبينوه للناس ولا يكتموه, فإن سألنا سائلٌ عن شيء نعلمه لم نكتمه. فقال: قد خفت أن تكونوا مرصدين للفتنة فاتقوا الله {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات} فقال عمرو بن زرارة: نحن الذين هدى الله. فأمر معاوية بحبسهما.
فقال زيد بن صوحان: إن الذين أشخصونا إليك لم يعجزوا عن حبسنا لو أرادوه، فأحسن جوارنا فإن كنا ظالمين فنستغفر الله وإن كنا مظلومين فنسأل الله العافية، فقال معاوية: إني لأحسبك امرءاً صالحاً، وإن أحببت أن آذن لك فترجع إلى مصرك، وأكتب إلى أمير(1/308)
المؤمنين بإذنك. قال: فبحسبي أن تأذن لي وتكتب إلى سعيد. فأذن له، فلما أراد الشخوص كلمه في الأشتر وعمرو بن زرارة فأخرجهما، فأقاموا بدمشق لا يرون أمراً يكرهونه.
قال المدائني: فذكر عبد الأعلى بن سليمان بن يونس بن أبي إسحاق أن قوماً من نساك أهل الكوفة كتبوا إلى عثمان –منهم عبد الله بن الطفيل العامري وحجر بن عدي الكندي وزياد ابن خصفة التيمي وعمرو بن الحمق الخزاعي وسليمان بن(1/309)
صردٍ وزيد بن حصن الطائي وكعب بن عبدة/ النهدي, ولم يسم واحدٌ منهم نفسه إلا كعب بن عبدة-: ((أن سعيداً كثر على قوم عندك من أهل الورع والدين والفضل فحملك من أمرهم على ما لا يحل لك. وإنا نذكرك الله في أمة محمد صلى الله عليه وسلم ! فإنك قد بسطت فيها يدك, وحملت بني أبيك على رقابها. وقد خفنا أن يكون فساد هذه الأمة على يدك, فإن لك ناصراً ظالماً, وناقماً عليك مظلوماً. فمتى نقم الناصر تباين الفريقان فاختلفت الأمة. فاتق الله! فإنك إمامنا ما أطعت الله واستقمت)). وبعثوا بالكتاب مع أبي ربيعة العنزي, فقال له عثمان: من كتب هذا الكتاب؟ قال: صلحاء أهل المصر/ وأشرافهم. قال: سمهم لي. قال: ما أسمي إلا من سمى نفسه.(1/310)
فكتب عثمان إلى سعيد بن العاص: ((أن اضرب كعب بن عبدة عشرين سوطاً, وحول ديوانه إلى الري)) فضربه وسيره إلى الري. فقال كعب:
أترجو اعتذاري يا بن أروى ورجعتي ... عن الحق قدماً, غال حلمك غول(1/311)
وإن دعائي كل يومٍ وليلةٍ ... عليك بما أسديته لطويل
وإن اغترابي في البلاد وجفوتي ... وشتمي في ذات الإله قليل
فبلغ عثمان شعره, فكتب إلى سعيدٍ يقول: ((قد خفت أن أكون احتملت في أمر ابن [ذي] الحبكة حوبةً, فابعث إليه من يقدمه عليك ثم احمله إلي))./ فبعث سعيدٌ بكير بن حمران, وهو الذي كان أشخصه, فلما قدم به عليه أشخصه إلى عثمان إلى المدينة فقال له عثمان: يا أخا بني نهدٍ! إن كان لكم علي حقٌ فإن لي عليكم حقاً. قد كانت مني طيرةٌ, فكتبت إلى سعيد أن يضربك عشرين سوطاً. فإن أحببت أن تقتص مني فاقتص. قال: أقتص. فخلع عثمان(1/312)
قميصه وأعطاه السوط وقعد بين يديه. فقال: قد عفوت يا أمير المؤمنين! وتركه فلما قدم الكوفة لامه بعض قومه وقالوا: ما منعك أن تقتص منه؟ قال: سبحان الله! والي المسلمين أقادني من نفسه, ولو شاء لم يفعل.
تم الجزء بحمد الله تعالى وحسن توفيقه
يتلوه في الذي يليه إن شاء الله تعالى: حدثني ابن دريد عن أبي حاتم.. ..(1/313)
الجزء الثاني من كتاب العفو والاعتذار تأليف أبي الحسن محمد بن محمد بن عمران البصري(2/317)
بسم الله الرحمن الرحيم
حدثني ابن دريد عن أبي حاتم عن أبي عبيدة, وحدثنا أبو خليفة عن ابن سلام, وحدثنا الجوهري عن ابن شبة عن المدائني.. دخل حديث بعضهم في بعض. قالوا: كان سبب هرب الفرزدق من زياد وتنقله إلى البادية ثم إلى الكوفة ثم إلى المدينة أن الفرزدق هجا وهو صبيٌ بني فقيم, فشكوه إلى أبيه, ولم يكن سمع للفرزدق قبل ذلك شعرٌ فقال: أهميمٌ يقول الشعر؟! هو أوغد من ذاك.
وكان الشعر الذي هجاهم به أن بني فقيمٍ خرجوا ينازعون في(2/319)
ركيٍ لهم, فرجع/ خصومهم وقد حكم لهم به, ورجعوا وقد اشتروا قدوراً مروا بها في طريقهم, فقال الفرزدق:
أآب الوفد وفد بني فقيمٍ ... بآلم ما يؤوب به الوفود
أتونا بالقدور معدليها ... وصار الجد للجد السعيد
وهذا أول شعرٍ قاله الفرزدق.
وكان يتعهد ماشية أبيه, فأخذ الذئب شاةً منها فلامه أبوه فقال:(2/320)
يلوم على أن خالط الذئب ضأنه ... فألوى بكبشٍ وهو في الرعي راتع
وقد مر حولٌ قبل ذاك وأشهرٌ ... مررن عليه وهو ظمآن جائع
فلما رأى الإقدام حزماً وأنه ... أخو العجز من سدت عليه المطالع(2/321)
أغار على خوفٍ فصادف غرةً ... فلاقى الذي كانت عليه المطامع
وما كنت مذياعاً ولكن همتي ... سوى الرعي مفطوماً وإذ أنا يافع
أبيت أسوم الناس كل عظيمةٍ ... إذا وطئت للمكثرين المضاجع
فسمعه أبوه ينشدها فقال: إني لأحسبك صاحب بني فقيم!..
واستعدت بنو فقيم عليه زياداً وقالوا: غلامٌ من بني غالبٍ هجانا. فطلبه(2/322)
زيادٌ فهرب, ثم قدم البصرة بإبلٍ لأبيه يبيعها ويمتار له, فباعها وجعل يصرر أثمانها. فقال له رجلٌ: لشدما تصر عليها! أما والله لو أنه رجلٌ أعرفه ما صر عليها. فقال: ومن هو؟ قال: غالب بن صعصعة!.. فنثرها الفرزدق وأنهبها/ الناس, فصاح به صائحٌ: ألق رداءك يابن غالبٍ! فألقاه. ثم صيح به: ألق قميصك! فألقاه. وقال الناس: جاهليةٌ!..
فبلغ خبره زياداً فأرسل الخيل في طلبه, فأردفه رجل من بني الهجيم على فرس, فسبق قبل مجيئهم, فأخذ زيادٌ عميه: ذهلاً والزحاف ابني صعصعة, فحبسهما, ثم كلم فيهما فأطلقهما, وقدم الفرزدق على أبيه. فكانت في نفس زياد مع ما سبق من شكوى بني فقيمٍ له.
ثم وفد الأحنف بن قيسٍ وجارية بن قدامة والجون بن(2/323)
قتادة والحتات بن يزيد على معاوية, فأعطاهم مائة ألفٍ مائة ألفٍ إلا الحتات فإنه أعطاه سبعين, فكلمه, فأتمها له مائةً, فأقام ليأخذها فمات, فحبسها معاوية فقال الفرزدق:
أبوك وعمي يا معاوي أورثا ... تراثاً فيحتاز التراث أقاربه
فلو كان إذ كنا وللكف بسطةٌ ... لصمم عضبٌ فيك ماضٍ مضاربه
فازداد زيادٌ حنقاً, وطلبه, فهرب, واستجار بعيسى بن خصيلة(2/324)
السلمي فحمله على ناقةٍ وأخرجه من البصرة ليلاً فخرج وهو يقول:
حباني بها البهزي نفسي فداؤه ... ومن يك مولاه فليس بواحد
نمته النواصي من سليمٍ إلى العلا ... وأعراق صدقٍ بين نصرٍ وخالد
وبلغ زياداً خروجه من البصرة, فبعث علي/ بن زهدمٍ في طلبه إلى كاظمة, فرجع ولم يجده. فقال الفرزدق:(2/325)
فإنك لو لاقيتني يابن زهدمٍ ... لأبت شعاعياً على غير تمثال
وجعل الفرزدق يجول في البادية, يميل بين رأييه على من ينزل ومن يستجير, فذلك قوله:
لقد ميلت بين المسير فلم تجد ... لعورتها كالحي بكر بن وائل
أعف وأوفى ذمةً يعقدونها ... لجارٍ إذا ساوى الذرى بالكواهل(2/326)
وسارت إلى الأحفار خمساً فأصبحت ... مكان الثريا من يد المتناول
فما ضرها إذ صادفت في بيوتها ... بني الحصن ما كان اختلاف القبائل
ثم خرج إلى الكوفة, فكان زيادٌ إذا نزل الكوفة نزل هو البصرة, وإذا نزل زيادٌ البصرة نزل الكوفة/ فبلغ ذلك زياداً فكتب إلى عامله على الكوفة: ((إن الفرزدق فحل الوحش يرعى القفار, فإذا ورد عليه الماء ذعر, ففارقها إلى أرضٍ أخرى, فابلغ في طلبه حتى تظفر به)).(2/327)
قال الفرزدق: فطلبت حتى لفظني الناس وحتى ما يجيرني أحد. فحملني أخوالي بنو ضبة على بعيرين, وبعثوا معي مقاعساً, أحد بني تيم اللات بن ثعلبة يدلني. قال: فخرجنا في الليل لا نرى شخصاً إلا خفناه, ولزمنا شخصٌ لا يفارقنا, ثم تقدمنا فجثم على متن الطريق, وإذا هو الأسد! فنزلنا عن ناقتينا, وأخذت قوسي, فأقبل عليه مقاعسٌ فقال: أبا الحارث! أتدري/ ممن فررنا إليك؟.. من زيادٍ.فأحصب بذنبه حتى غشينا غبارٌ. قال: فهممت أن أرميه فكفني عنه صاحبي وقال: لا تهجه, فإنه إن أصبح ذهب. فأقمنا وأقام حتى انفتق عمود الصبح، ثم ولى فذهب، فقال الفرزذق:
ما كنت أحسبني جباناً بعدما ... لاقيت ليلة جانب الأحفار(2/328)
ليثاً كأن على يديه رحالةً ... ششن البراثن موجد الأظفار
لما سمعت له هماهم أجهشت ... نفسي إلي وقلت: أين فراري
فربطت جروتها وقلت لها: اصبري ... وشددت في ضيق المقام إزاري
فلأنت أهون من زيادٍ جانباً ... فاذهب إليك مخرم السفار(2/329)
فأنشد شبث بن ربعيٍ زياداً هذه الأبيات فرق له وقال: لو أتاني لأعطيته وآمنته وعفوت عنه, فبلغ ذلك الفرزدق فقال قصيدته:
تذكر هذا القلب من شوقه ذكراً ... تذكر شوقاً ليس ناسيه عصرا
تذكر ظمياء التي ليس ناسياً ... وإن كان أدنى عهدها حججاً عشرا
وما مغزلٍ بالغور غور تهامةٍ ... ترعى أراكاً من مخارمها نظرا(2/330)
من الأدم حوراء المدامع ترتعي ... إلى رشأٍ طفلٍ تخال به فترا
بأحسن من ظمياء يوم لقيتها ... ولا مزنةٌ صابت غمامتها قصرا
وكم دونها من عاطفٍ في صريمةٍ ... وأعداء سوءٍ ينذرون دمي نذرا
إذا أوعدوني عند ظمياء ساءها ... وعيدي وقالت: لا تقولوا له هجرا
دعاني زيادٌ للعطاء ولم أكن ... لآتيه ما ضاق ذو حسبٍ وفرا(2/331)
وعند زيادٍ لو يريد عطاءهم ... رجالٌ كثيرٌ قد يرى بهم فقرا
قعودٌ لدى الأبواب: طالب حاجةٍ ... عوانٍ من الحاجات أو حاجةٍ بكرا
فلما خشيت أن يكون عطاؤه ... أداهم سوداً أو محدرجةً سمرا
نميت إلى حرفٍ أضر بنقيها ... سرى الليل واستعراضنا البلد القفرا
يؤم بها الموماة من لا يرى له ... لدى ابن أبي سفيان جاهاً ولا عذرا(2/332)
فلا تعجلاني صاحبي فربما ... سبقت بورد الماء غاديةً كدرا
وخرج إلى المدينة. قال الفرزدق: فقدمت المدينة وأميرها سعيد ابن العاص وهو في جنازةٍ قد شيعها، فتبعته، فوجدته قاعداً والميت يدفن، وكعب/ بن جعيلٍ في الصف، والحطيئة وراء الصف، فتقدمت فقمت بين يديه فقلت: هذا مقام العائذ من رجلٍ لم يصب دماً ولا مالاً. قال: قد أجرت إن لم تكن أصبت دماً ولا مالاً. ومن أنت؟ قلت: همام بن غالب بن صعصعة، وقد أثنيت على الأمير، فإن أذن لي أسمعته ثنائي. قال: هات! فأنشدته:
وكومٍ تنعم الأضياف عيناً ... وتصبح في مباركها ثقالا(2/333)
كأن فصالها حبشٌ جعادٌ ... تخال على مناكبها جفالا
أرقت فلم أنم ليلاً طويلاً ... أراقب هل أرى النسرين زالا
وأرقني نوائب من أمورٍ ... علي ولم يكن أمري عيالا
وكان قرى الأمور إذا اعترتني ... زماعاً لا أريد به زيالا(2/334)
فقال لي الذي يعنيه شأني ... نصيحة قوله سراً وعالى
عليك بني أمية فاستجرهم ... وخذ منهم لما تخشى حبالا
فإن بني أمية في قريشٍ ... بنوا لبيوتهم عمداً طوالا
فوجهت القلوص إلى سعيدٍ ... إذاما الشاة في الأرطاة قالا
إليك فررت منك ومن زيادٍ ... ولم أعلم دمي لكما حلالا(2/335)
ولكني هجوت وقد هجتني ... معاشر قد رضخت لهم سجالا
فإن كان الهجاء يحل قتلي ... فقد قلنا لشاعرهم وقالا
ترى الشم الجحاجح من قريشٍ ... إذا ما الأمر في الحدثان عالا
قياماً ينظرون إلى سعيدٍ ... كأنهم يرون به هلالا
ضروباً للقوانس غير هدٍ ... إذا خطرت مسومةً رعالا(2/336)
فقال مروان: قعوداً ينظرون إلى سعيدٍ. فقال: كلا والله إنك لقائمٌ يا أبا عبد الملك. فقال كعب بن جعيلٍ: هذه الرؤيا التي رأيت البارحة فقال سعيدٌ: وما رأيت؟ قال: رأيت كأني أمشي في سكةٍ من سكك المدينة، فإذا أنا بابن قترة في جحرٍ، فكأنه أراد أن يتناولني فاتقيته.
وقام الحطيئة فشق ما بين رجلين حتى تجاوز إلي فقال: قل ما شئت فقد أدركت من مضى، ولا يدركك من بقي! فقال سعيدٌ: هذا والله الشعر لا ما نعال به منذ اليوم، ثم قال/ الحطيئة: هل كانت أنجدت أمك؟ يريد الحطيئة أن أمك إن كانت دخلت نجداً فإني واقعتها فأنت ابني! فوجد الفرزدق جيد الجواب فطناً فقال: لا ولكن أبي! وأراد الفرزدق أن أبي واقع أم الحطيئة فهو أخوه.
فلم يزل الفرزدق مرةً بمكة ومرةً بالمدينة وقال:(2/337)
ألا من مبلغٌ عني زياداً ... مغلغلةً يخب بها البريد
بأني قد فررت إلى سعيدٍ ... ولا يسطاع ما يحمي سعيد
فررت إليه من ليثٍ هزبرٍ ... تفادى من فريسته الأسود
فإن شئت انتسبت إلى النصارى ... وناسبني وناسبت اليهود
وإن شئت انتسبت إلى فقيمٍ ... وناسبني وناسبت القرود(2/338)
وأبغضهم إلي بنو فقيمٍ ... ولكني سأفعل ما تريد
وقال يتضرع إلى زياد ويستعطفه:
وعيدٌ أتاني من زيادٍ فلم أنم ... وسيل اللوى دوني فهضب التهايم
فبت كأني مشعرٌ خيبريةً ... سرت في عظامي أو سمام الأراقم(2/339)
زياد بن صخرٍ لو أظنك تاركي ... وبالظن قد جسمتني غير ظالم
لقد جاحفت مني العراق قصيدةٌ ... رجومٌ من الأقصى رؤوس المخارم
رأيتك من تغضب عليه من امرئٍ ... وإن كان ذا رهطٍ يبت غير نائم
أغر إذا أغبر اللئام تخايلت ... يداه بسيل المفعم المتراكم
نمتك العرانين الطوال ولا أرى ... لسعيك إلا حامداً غير لائم(2/340)
فإلا تداركني من الله نعمةٌ ... ومن آل حربٍ ألق طير الأشائم
ألم يأته أني تخلل ناقتي ... بنعمان أطراف الأراك النواعم
محبسةً ترعى الأراك وربها ... بمكة يلقى عائذاً بالمحارم
فدعني أكن ما عشت دهري حمامةً ... من القاطنات البيت غير الروائم
فعيره أبو العطاف بهذا البيت. وذلك أن الفرزدق لما هجا بكر بن وائلٍ قال:(2/341)
تصرم مني ود بكر بن وائلٍ ... وما خلت عني ودهم يتصرم
قوارض تأتيني ويحتقرونها ... وقد يملأ القطر الإناء فيفعم
قال أبو العطاف يجيبه ويمتن عليه بأن بكر بن وائل أجارته حين طلبه زياد حتى تمنى أنه يكون حمامةً:
لعمري لئن كان الفرزدق عاتباً ... وأحدث صرماً، للفرزدق ألوم(2/342)
لقد وسطتك الدار بكر بن وائل ... وضمتك للأحشاء إذ أنت مجرم
ليالي تمنى أن تكون حمامةً ... بمكة يؤويك الستار المحرم
فإن تنأ عنا لا تضرنا وإن تقم ... تجدنا على العهد الذي كنت تعلم(2/343)
وكان الفرزدق يأتي الفتيان بالمدينة فقال:
إذا شئت غناني من العاج قاصفٌ ... على معصمٍ ريان لم يتخدد
لبيضاء من أهل المدينة لم تعش ... ببؤسٍ ولم تتبع حمولة مجحد
وقامت تخشيني زياداً وأجفلت ... حوالي في مرطٍ يمانٍ ومجسد(2/344)
فقلت: دعيني من زيادٍ فإنني ... أرى الموت طلاعاً على كل مرصد
فلم يزل الفرزدق مرةً بمكة ومرةً بالمدينة، فلما عزل سعيدٌ، وولي مروان بن الحكم، وكان مغيظاً على الفرزدق لقوله:
قياماً ينظرون إلي سعيدٍ ... كأنهم يرون به هلالا
فقال له مروان: قل: قعوداً.. .. فقال: لا والله إنك لقائمٌ يا أبا عبد الملك. وقد كان الفرزدق قال في امرأةٍ من أهل المدينة:
لعمري لئن أصبحت في السير قاصداً ... لقد كان يحلولي لعيني جائره(2/345)
كأن على ذي الطنء عيناً بصيرةً ... بمسمعه أو منظرٍ هو ناظره
يحاذر حتى يحسب الناس كلهم ... من الخوف لا تخفى عليهم سرائره
يقول فيها:
هما دلتاني من ثمانين قامةً ... كما انقض بازٍ أقتم الريش كاسره
فلما استوت رجلاي بالأرض قالتا ... أحيٌ يرجى أم قتيلٌ نحاذره(2/346)
فقلت: ارفعوا الأسباب لا يشعرن بنا ... وأقبلت في أعجاز ليلٍ أبادره
أحاذر بوابين أن يشعروا بنا ... وأحمر من ساجٍ تصر مسامره
وبلغت هذه الأبيات مروان فأخرجه من المدينة وأجله ثلاثاً، وكتب إليه:
قل للفرزدق والسفاهة كاسمها ... إن كنت تارك ما أمرتك فاجلس(2/347)
ودع المدينة إنها مرهوبةٌ ... واعمد لأيلة أو لبيت المقدس
فأجابه الفرزدق:
مروان إن مطيتي محبوسةٌ ... تخشى الحباء وربها لم يبؤس
وأتيتني بصحيفةٍ مختومةٍ ... أخشى علي بها حباء النقرس
ألق الصحيفة يا فرزدق لا تكن ... نكداء مثل صحيفة المتلمس(2/348)
فلما طرده مروان من المدينة ضاقت به الأرض، وقد كان قال لما مات زيادٌ:
أبلغ زياداً إذا ما جئت مصرعه ... أن الحمامة قد طارت من الحرم
طارت فما زال تنميها قوادمها ... حتى استغاثت إلى الأنهار والأجم
قال: وكان مسكينٌ الدارمي قد رثى زياداً فقال:(2/349)
رأيت زيادة الإسلام ولت ... جهاراً حين ودعنا زياد
فقال الفرزدق يجيبه ويهجو زياداً:
أمسكين أبكى الله عينيك إنما ... جرى في ضلالٍ دمعها إذ تحدرا
بكيت امرءاً من أهل ميسان فاجراً ... ككسرى على عدانه أو كقيصرا
أقول له لما أتاني نعيه ... به لا بظبيٍ بالصرائم أعفرا(2/350)
فبلغت عبيد الله بن زياد فطلبه. وأقبل الفرزدق فدخل البصرة حين لفظته البلاد، وقد وليها عبيد الله/ بن زياد، فأرسل إليه عبيد الله فأتي به فوقف بين يديه فقال: أهجوت زياداً؟ فقال: معاذ الله أيها الأمير! ولكني قلت -وأنشده الرائية حتى بلغ إلى قوله-:
يؤم بها الموماة من لا يرى له ... لدى ابن أبي سفيان جاهاً ولا عذرا
فقال: لقد خفت خوفاً شديداً! قال: أجل. ومثل أبي المغيرة خيف. وقد مدحتك أفأنشدك؟ قال: هات. فقال:(2/351)
وقفت بأعلى ذي سديرٍ مطيتي ... أميل في مروان وابن زياد
فقلت: اعمدي منه لأزهر ينتمي ... على طول أطنابٍ وطول عماد
فقالت: عبيد الله خيرهما أباً ... وأدناهما بيتاً لكل جواد
فما ظلمت ألا تعادل بامرئٍ ... له أبطن البطحاء غير صداد(2/352)
فضلت قريشاً غير جدك وابنه ... سماحة أخلاقٍ وطول نجاد
رأيتك أحكمت الأمور ولم تكن ... كمرتحلٍ أمراً بغير عتاد
فأدناه عبيد الله ولم يزل عنده أثيراً حتى أوفده إلى معاوية. فأقام بالكوفة عند عبد الرحمن بن أم الحكم ابن أخت معاوية، وكان على الكوفة، وترك الوفادة.
حدثنا الغلابي قال: حدثنا عبد الله بن الضحاك عن هشام بن محمد عن عوانة قال: وجد الحجاج على العديل بن الفرخ في شيء بلغه عنه فتخوفه، فهرب منه وقال في هربه:(2/353)
أخوف بالحجاج حتى كأنما ... تحرك عظمٌ في الفؤاد مهيض
ودون يد الحجاج من أن تنالني ... بساطٌ لأيدي اليعملات عريض
مهامه أشباهٌ كأن سرابها ... ملاءٌ بأيدي الغاسلات رحيض
فطلبه الحجاج فيقال: إنه لحق ببلاد الروم، فكتب الحجاج إلى قيصر: ((والله لئن لم تبعث به لأغزينك جيشاً أوله عندك وآخره(2/354)
عندي)). فطلب حتى أخذ وأتي به الحجاج. فلما دخل عليه قال:
هاك يدي ضاقت بي الأرض كلها ... وإن كنت قد طوفت كل مكان
فقال: يا عدو الله! ألست القائل:
ودون يد الحجاج من أن تنالني ... بساط لأيدي الناعجات عريض
فقال: بل أنا الذي أقول:
فلو كنت في سلمى وحر شعابها ... لكان لحجاجٍ علي سبيل(2/355)
صفي أمير المؤمنين وخدنه ... لكل إمامٍ صاحبٌ وخليل
بنى قبة الإسلام حتى كأنما ... هدى الناس من بعد الضلال رسول
فخلى سبيله.
حدثنا الغلابي قال: حدثنا عبد الله بن الضحاك عن هشام بن محمد بن عوانة قال: كان الأقيبل القيني في جيش الحجاج أيام حاصر عبد الله بن الزبير بمكة فقال يهجوه:
لم أر جيشاً غر بالأمس قبلنا ... ولم أر جيشاً قبلنا غر بالأمس(2/356)
عمدنا لبيت الله نهدم سوره ... بأحجار نارٍ كالولائد في العرس
دلفنا له يوم الثلاثاء من منىً ... بجمعٍ كصدر الفيل ليس بذي رأس
فإلا تجرنا من ثقيفٍ وملكها ... نصل لأيام النواقيس والقس
فبلغ ذلك الحجاج فطلبه وقال: من أتى به فله ديته! فاستجار بقبر مروان وقال:
إني استجرت بقبرٍ ليس يخفرني ... ولن أعوذ بقبرٍ بعد مروان(2/357)
فبلغ ذلك عبد الملك فقال: قد أجرتك، ولا والله لا أجرت به أحداً بعدك. فأنشأ يقول:
وددت مخافة الحجاج أني ... بكابل في است شيطانٍ رجيم
فكتب له عبد الملك بأمانه إلى الحجاج فرمى به ورجع إلى بلاد قومه، وأنشأ يقول:
لقد علمت وخير القول أصدقه ... أن انطلاقي إلى الحجاج تعذير(2/358)
إن امرءاً قال في الحجاج يشتمه ... ونابه من دماء القوم ممطور
ثم اغتدى عامداً للشر يطلبه ... بعد الجهالة عندي اليوم مغرور
مستحقباً صحفاً تدمى طوابعها ... وفي الصحائف حياتٌ مناكير
فبلغت الحجاج فكتب إليه بأمانه والعفو عنه.
حدثنا أبو خليفة الفضل بن الحباب الجمحي قال: حدثنا محمد ابن سلام الجمحي قال: حدثني أبي عمن حدثه -أحسبه قال: عن الزهري-: قال: كان الشاعر الأحوص ينسب بنساء أهل المدينة(2/359)
فتأذوا به، وكان معبدٌ وغيره من المغنين يتغنون في شعره، فشكاه قومه فبلغ ذلك سليمان بن عبد الملك فكتب إلى عامله على المدينة أن يضربه مائة سوط ويقيمه على البلس، ثم/ يسيره إلى دهلك. ففعل ذلك به فثوى بها سلطان سليمان وعمر بن عبد العزيز. فأتى رجالٌ من الأنصار عمر بن عبد العزيز فسألوه أن يرده إلى حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: قد عرفت نسبه وموضعه من قومه، وقد أخرج إلى أرض الشرك، فنطلب إليك أن ترده إلى حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال عمر: من الذي يقول:(2/360)
وما هو إلا أن أراها فجأةً ... فأبهت حتى ما أكاد أجيب
قالوا: الأحوص. قال: فمن الذي يقول:
الله بيني وبين قيمها ... يفر مني بها وأتبع
قالوا: الأحوص. قال: فمن الذي يقول:
أدور، ولولا أن أرى أم جعفرٍ ... بأبياتكم ما درت حيث أدور
قالوا: الأحوص. قال: فمن الذي يقول:(2/361)
سيبقى لها في مضمر القلب والحشا ... سريرة ودٍ يوم تبلى السرائر
قالوا: الأحوص. قال: إنه يومئذ عنها لمشغولٌ. والله لا أرده ما كان لي سلطانٌ. فمكث هناك صدراً، فذلك قوله:
إني على ما قد علمت محسدٌ ... أنمي على البغضاء والشنآن(2/362)
ما من مصيبة نكبةٍ أمنى بها ... إلا تشرفني وتعظم شاني
وتزول حين تزول عن متخمطٍ ... تخشى بوادره على الأقران
إني إذا خفي اللئام وجدتني ... كالشمس لا تخفى بكل مكان
وقال يخاطب عمر:(2/363)
وكيف ترى للنوم طعماً ولذةً ... وجارك أمسى أعلقته الحبائل
فمن يك أمسى سائلاً عن شماتةٍ ... ليشمت بي أو شامتاً غير سائل
فقد عجمت مني الحوادث ماجداً ... صبوراً على عضاء تلك الزلازل
إذا سر لم يفرح وليس لنكبةٍ ... ألمت به بالخاشع المتضائل(2/364)
ومن قوله –في غير هذه الرواية- يخاطب عمر:
ألست أبا حفصٍ هديت مخبري ... أفي الله أن أقصى ويدنى ابن أسلما
وكنا ذوي قربى إليك فأصبحت ... قرابتنا ثدياً أجد مصرما
وكنت وما أملت منك كبارقٍ ... لوى قطره من بعد ما كان غيما(2/365)
وقد كنت أرجى الناس عندي مودةً ... ليالي كان العلم ظناً مرجما
أعدك حرزاً إن خشيت ظلامةً ... ومالاً ثرياً حين أحمل مغرما
تدارك بعتبى عاتباً ذا قرابةٍ ... طوى الغيظ لم يفتح بسخطٍ لكم فما
ثم استخلف يزيد بن عبد الملك، فبينا يزيد ليلةً على سطحٍ وجاريته حبابة تغنيه بشعر الأحوص إذ قال يزيد: من يقول هذا الشعر؟ قالت: لا أدري وعيشك. وقد كان ذهب من الليل شطره فقال: ابعثوا إلى الزهري، فعسى أن يكون عنده علمٌ من ذاك.(2/366)
فأتي الزهري فقرع بابه فخرج/ فزعاً حتى أتى يزيد. فلما صعد إليه قال: لا ترع. لم ندعك إلا لخير. اجلس، فجلس فقال: من يقول هذا الشعر؟ قال: الأحوص. قال ما فعل؟ قال: قد طال حبسه بدهلك. قال: عجبت لعمر بن عبد العزيز كيف أغفله؟ فأمر بالكتاب بتخلية سبيله، وأمر له بأربعمائة دينار. فأقبل الزهري من ليلته إلى ناسٍ من الأنصار فبشرهم بتخلية سبيل الأحوص، وقدم عليه فأجازه وأحسن إليه.
وهذا الخبر الصحيح في أمر الأحوص أنه كان طول أيام عمر بن عبد العزيز منفياً بدهلك./ وقد روى بعض نقلة الأخبار أنه وفد على عمر بن عبد العزيز مع كثيرٍ ونصيبٍ، وذلك باطل. وإنما الصداقة بين عمر والأحوص أيام إمارة عمر على المدينة. فلما ولي الخلافة لم يتراءيا.(2/367)
حدثني أبي قال: حدثني السجستاني قال: حدثنا أبو عبيدة قال: لما هزم يزيد بن المهلب عبد الرحمن بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب بمنعرج هراة، وكان عبد الرحمن مع ابن الأشعث لحق بكابل فاستجار شاه كابل فأجاره، ثم إن عبد الرحمن لم يثق بشاه كابل، ففارقه، ودخل أرض القشمير من أرض الهند فبعث/ الحجاج إليه من يأتي به، ومات عبد الرحمن، وكان معه ابناه الفضل والقاسم وخلقٌ كثير من فلول ابن الأشعث،(2/368)
فلقيت رسل الحجاج ابنيه فقدموا بهما، وبلغ خبرهما ابني عمهما الفضل وعبيد الله ابني الفضل بن العباس، فخشيا إن قدم بهما على الحجاج أن يضرب أعناقهما، فدخلا على عمر بن عبد العزيز -وهو أمير المدينة- فكلماه فيهما, فكتب فيهما إلى عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك –وأمه ليلى بنت عبد العزيز- يسأله أن يكلم أباه في الصفح عنهما, وجعل كتابه: ((لعبد العزيز/ بن الوليد من عمر بن عبد العزيز. أما بعد! فإن عبد الرحمن بن العباس كان ممن غلب عليه درك الشقاء بخروجه مع ابن الأشعث, فهرب حتى لحق بالسند فهلك, وإن رسل الحجاج أخذوا ابنيه غلامين حدثي السن, فإن يقدم بهما على الحجاج يضرب أعناقهما. فكتبت إليك أحضك بكتابي لتعمل في أمرهما, فيكون لك بهما عند العرب وعند بني عبد مناف خاصةً يدٌ, فشمر ولا آلونك, ولو كتبت لأخيك لشمر)).
فانطلق الهاشميان حتى لقيا عبد العزيز, فدفعا/ الكتاب إليه. فلما قرأ العنوان مبدأ باسمه قبل اسم عمر قال: مرحباً بكما وبمن بعث بكما. ثم أتى أباه, فقرأ عليه الكتاب فقال له الوليد: أبدأ بك خالك؟ قال: نعم. قال: والله ما أعلم رجلاً في العرب له خالٌ إلا وخالك أفضل من(2/369)
خاله!.. ثم كتب له إلى الحجاج في ابني عبد الرحمن, ويشدد عليه, ويأمره أن لا يؤذيهما, وأن يخلي سبيلهما, وأعطاهما عشرة آلاف دينار. فسارا حتى قدما على الحجاج, فدفعا إليه الكتاب, وقدم عليه بالفتيين بعد ذلك فخلى سبيلهما.
وبقيت تلك الفلول/ الهراب بالسند مدة أيام الوليد. فلما جلس سليمان, وأخرج من كان في سجن الحجاج وآمن الناس الهاربين من الحجاج في جميع آفاق الأرض قال الفرزدق يذكر تلك الفلول, ويخبرهم أن الحجاج قد هلك وأمنت البلاد:
لئن نفر الحجاج آل معتبٍ ... لقوا دولةً كان العدو يدالها(2/370)
لقد أمست الأحياء منكم أذلةً ... وفي النار موتاهم كلوحاً سبالها
وكان إذا قيل اتق الله حلقت ... به عزةٌ ما يستطاع جدالها
ألكني إلى من كان بالهند منهم ... وبالصين ألواحاً عليها جلالها
هلم إلى الإسلام والعدل عندنا ... فقد مات عن أرض العراق خبالها
فتراجع أولئك الهراب كلهم إلى أوطانهم.(2/371)
(7) باب العفو عن ذوي الجرائم بالشفاعات
حدثني الغلابي قال: حدثنا محمد بن عبيد الله المعروف بابن عائشةً قال: حدثني أبي قال: لما كان يوم فتح مكة لجأ الحارث بن هشام إلى منزل أم هانئٍ بنت أبي طالب, واستجار بها فأجارته, فدخل عليها أخوها علي بن أبي طالب عليه السلام فأخبرته الخبر, فأخذ السيف ليقتله. فقالت أم هانئٍ: يابن أمي! قد أجرته. فلم(2/373)
يلتفت إلى قولها، فوثبت، فقبضت على يده، وقالت: والله لا تقتله، وقد أجرته. فلم يقدر على أن يرفع قدمه من الأرض، وجعل يتلفت منها فلا يقدر.
فدخل النبي صلى الله عليه وسلم إليها فتبسم، فقالت أم هانئٍ للنبي عليه السلام : ألا ترى يا رسول الله؟! إني أجرت رجلاً، فأراد أن يقتله. فقال رسول الله: يا أم هانئٍ! قد أجرنا من أجرت، ولا تغضبي علياً، فإن الله يغضب لغضبه، أطلقي عنه. فأطلقت عنه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا علي! غلبتك امرأةٌ؟.. فقال: يا رسول الله! ما قدرت أن أرفع قدمي/ من الأرض! فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وقال: لو أن أبا طالب ولد الناس لكانوا شجعاناً
حدثني أبي قال: حدثنا أبو حاتم قال: حدثنا وهب بن جريرٍ عن أبيه عن ابن إسحاق قال: لما فتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة عهد إلى المسلمين أن يقتلوا نفراً سماهم، منهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح أحد بني عامر بن لؤي، وعبد الله(2/374)
ابن غالب أحد بني تيم بن غالب، والحويرث بن وهب بن عبد قصي، ومقيس بن صبابة الليثي وعكرمة بن أبي جهل وصفوان ابن أمية وقينتا ابن خطلٍ فرتنى وصاحبتها، وسارة مولاةٌ لبني المطلب.(2/375)
فأما عبد الله بن سعد ففر إلى عثمان بن عفان فغيبه، وكان أخاه من الرضاعة، حتى أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاستأمنه له، فسكت رسول الله حتى كلمه عثمان فيه مرتين أو ثلاثاً، فقال: قد آمنته. فلما ولى به قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد سكت ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه. فقال رجل من الأنصار: فهلا أومأت إلينا يا رسول الله! فقال: إن النبي لا يقتل بالإيماء.
حدثنا أبو معاذ عبدان بن محمد قال: حدثنا/ العباس بن هشام عن الهيثم بن عدي قال: أغارت طيئ على النعمان بن الحارث بن أبي شمرٍ الجفني، فقتلوا ابناً له، وكان الحارث إذا غضب حلف ليقتلن وليسبين الذراري. فحلف ليقتلن من العرب أهل بيتٍ على دمٍ واحدٍ. فخرج يريد طيئاً، فأصاب من بني عدي بن أخزم سبعين رجلاً، رئيسهم وهم بن عمرو، وهم من رهط حاتمٍ الطائي، وحاتم يومئذ(2/376)
بالحيرة عند النعمان بن المنذر، فأصابتهم مقدمات خيله. فلما قدم حاتمٌ الجبلين جعلت المرأة تأتيه بالصبي من ولدها/ فتقول: يا حاتم! أسر أبو هذا. فلم يلبث إلا ليلةً حتى سار إلى النعمان ومعه ملحان بن حارثة، وكان لا يسافر إلا وهو معه. فامتدح النعمان فقال:
ألا إنني قد هاجني الليلة الذكر ... وما ذاك من حب النساء ولا الأشر
ولكنه مما أصاب عشيرتي ... وقومي بأقرانٍ حواليهم الصير(2/377)
فيا ليت خير الناس حياً وميتاً ... يقول لنا خيراً ويمضي الذي ائتمر
فإن كان شراً فالعزاء فإننا ... على وقعات الدهر من مثلها صبر
سقى الله رب الناس سحاً وديمةً ... جنوب السراة من مآب إلى زغر
بلاد امرئٍ لا يعرف الذم بيته ... له الشرف الصافي ولا يطعم الكدر
تذكرت من وهم بن عمرٍو جلادةً ... وجرأة مقدامٍ إذا صارخٌ بكر(2/378)
فأبشر وقر العين منك فإنني ... أتيت كريماً لا ضعيفاً ولا حصر
فدخل حاتمٌ على النعمان فأنشده، فأعجب به، فاستوهبهم منه، فوهب له بني امرئ القيس بن عدي، ثم أمر له بطعام وخمر فقال ملحان: أتشرب الخمر وقومك في الأغلال؟! قم إليه فسله فيهم، فدخل عليه حاتمٌ فقال:
أتبع بني عبد شمسٍ أمر إخوتهم ... نفسي فداؤك إن ضروا وإن نفعوا
لا تجعلنا -أبيت اللعن- ضاحيةً ... كمعشرٍ صلموا الآذان أو جدعوا(2/379)
أو كالجناح إذا سلت قوادمه ... صار الجناح لفضل الريش يتبع
فأطلق له بني عبد شمس بن عدي بن أخزم، وبقي قيس/ بن جحدر، وهو جد الطرماح بن حكيم الطائي، فقال النعمان: أبقي أحد من أصحابك؟ فقال حاتم:
فككت عدياً كلها من إسارها ... فأفضل وشفعني بقيس بن جحدر
أبوه أبي والأمهات أمهاتنا ... فأنعم فدتك اليوم نفسي ومعشري
فوهبه له!..(2/380)
حدثنا الجوهري قال: حدثنا ابن شبة قال: حبس الحجاج عيينة ابن أسماء بن خارجة في بعض ما كان يحبس له أهل العراق، وكان عدواً لعوف القوافي الشاعر، فلما بلغ عوفاً حبس عيينة وهو بالشام, قام إلى عبد الملك بن مروان، فلم يزل يكلمه، ويعمل في أمر عيينة حتى أخذ منه/ كتاباً إلى الحجاج بتخلية سبيله، فبعث بالكتاب إلى عيينة، وكتب إليه مع الكتاب شعراً قاله في ذلك وهو:
لما أتاني عن عيينة أنه ... عانٍ عليه تظاهر الأقياد(2/381)
خبر أتاني عن عيينة مفظعٌ ... كادت تقطع دونه الأكباد
محضت له نفسي النصيحة إنه ... عند الشدائد تذهب الأحقاد
وذكرت: أي فتىً يقوم مقامه ... بالرفد حين تقاصر الأرفاد(2/382)
أم من يهين لنا كرائم ماله ... ولنا إذا عدنا إليه معاد
ورى الأخباريون أن هند بنت أسماء بن خارجة كانت تحت الحجاج وأنه اشتاق ذات ليلة إلى حديث أخيها مالك بن أسماء، وكان الحجاج قد حبسه بمال عظيم، فأرسل إليه فأخرج من السجن، وأدخل عليه في قيوده وهندٌ عنده، فجعل يحدثه، ثم إن مالكاً استسقى ماءً فأتي بماء، فنظر إليه الحجاج فقال: لا والله لا تشرب إلا من ماء أهل السجن!.. فأتي به، وكان الحجاج يأمر فيخلط لأهل(2/383)
السجن في الماء الرماد والملح. ثم إن الحجاج قال لهند: قومي إلى أخيك قالت: لا أقوم إليه والأمير ساخطٌ عليه. فأقبل الحجاج على مالك فقال: والله ما علمت أنك للخائن أمانته، اللئيم حسبه، الزاني فرجه. قال مالك: إن أذن الأمير تكلمت. قال: تكلم!..
قال: أما قول الأمير: الزاني فرجه، فوالله/ لأنا أحقر عند الله، وأصغر في عين الأمير من أن يجب لله علي حدٌ فلا تقيمه علي. وأما قوله اللئيم حسبه، فوالله لو علم الأمير مكان رجل أشرف مني لصاهر إليه. وأما قوله: الخائن أمانته، فوالله لقد ولاني الأمير فوفرت، فأخذني بما أخذني، فبعت ما وراء ظهري. ولو ملكت الدنيا بأسرها لافتديت بها من مثل هذا الكلام.
قال: فنهض الحجاج وقال: شأنك بأخيك. قال: فوثبت هندٌ إلى مالك فأكبت عليه، ودعت الجواري فنزعن عنه الحديد، وأمرت به إلى الحمام وكسته، وانصرف فلبث أياماً، ثم دخل على الحجاج وبين يديه عهودٌ، فيها عهد ملكٍ على أصبهان، فقال له: خذ هذا وامض إلى عملك. قال مالك: فأخذته ونهضت!.. وهي ولايته التي عزل عنها، وبلغ ما بلغ من الشر.(2/384)
حدثني الجوهريٌ قال: حدثنا ابن شبة قال: حدثنا حيان بن معاوية عن الهيثم بن عدي عن ابن عياش عن أبيه قال: إنا لوقوفٌ مع عبد الملك بن مروان، وهو يحارب مصعب بن الزبير إذ دنا منه زياد بن عمرٍو فقال: يا أمير المؤمنين! إن إسماعيل بن طلحة كان لي جار صدقٍ، قلما أرادني مصعبٌ بسوء إلا/ دفعه عني، فإن رأيت أن تهب لي جرمه، وتؤمنه على دمه. قال: هو آمن.
فمضى زياد -وكان ضخماً- على ضخم حتى صار بين الصفين فقال: أين أبو البختري إسماعيل بن طلحة؟ فخرج إليه فقال: إني أريد أن أذكر لك شيئاً. فدنا حتى اختلفت أعناق دوابهما. وكان الناس ينتطقون بالحواشي المحشوة، فوضع زيادٌ يده في منطقة إسماعيل(2/385)
ثم اقتلعه عن سرجه وكان نحيفاً، فقال: أنشدك الله يا أبا المغيرة! فإن هذا ليس بالوفاء لمصعب. فقال: هذا والله أحب إلي لك من أن أراك غداً مقتولاً.
حدثنا الغلابي قال: حدثنا محمد بن عبيد الله الجشمي قال: حدثني علي بن محمد عن مسلمة بن محارب وأبي إسحاق المالكي قال: أصاب النعمان بن المنذر أسارى من بني تميم، فركب إليه وفودهم وفيهم أكثم بن صيفي حتى انتهوا إلى النجف فلما علوه أناخ بن صيفي بعيره، ثم خلع قميصه وقال لأصحابه: كيف رأيتم؟ قالوا: رأينا ما ساءنا. قال: فإن قلبي بضعةٌ من جسدي، وما أظنه إلا قد نحل كما نحل سائر جسدي! فلا تتكلن علي في حيلةٍ ولا في منطق. فأقاموا بالحيرة نصف حول. فلما أن قضى القوم حوائجهم/ ولم يبق إلا اليسير قام أكثم فأخذ بحلقة الباب فنادى:(2/386)
يا حمل بن مالك بن أهبان ... هل تبلغن ما أقول النعمان
إن الطعام كان عيش الإنسان ... أهلكنا بالحبس بعد الحرمان
من بين عانٍ جائعٍ وعريان ... وذاك من شر قرىً للضيفان
فقال النعمان: تفحشنا أبو حيدة! ايذنوا لهم. فلما دخلوا عليه قال: مرحباً بكم، سلوا حوائجكم إلا الأسارى عندي. فسألوه القوم حوائجهم، وأبى صيفيٌ أن يسأله شيئاً فقال النعمان: وما يمنعك من الطلب؟ قال: قد علم قومي أني أكثرهم/ مالاً، وقد جئنا في أمر نهيتنا عن طلبه والكلام فيه. فقال النعمان: ما أراهم إلا سيغيثون وتجدب! ففعل ذلك ثلاثاً يقول مثل مقاله الأول.(2/387)
ثم أتاه في اليوم الرابع فقال: أبيت اللعن. قد علم قومي أني أكثرهم مالاً، ولم أسأل أحداً قط شيئاً لأن المسألة من الضعف، وقد تجوع الحرة ولا تأكل ثدييها. وإن من سلك الجدد أمن العثار، ولم يجر سالك قصد، ولم يعي قاصدٌ للحق. ومن تشدد أنفر، ومن تراخى تألف، والسرو التغافل، وأحسن القول أوجزه، وخير الفقه ما حضرت به، والمروءة مطالبةٌ للطبيعة./ فاصبر لطالب حقٍ على خلاف هوىً. قال النعمان: حاجتك؟ قال: ناقتك برحلها وخلعتك وكل مكروبٍ بالحيرة والقطقطانة ممن عرفني. قال: ذلك لك !.. فركب ناقة النعمان في خلعته، ثم نادى أهل السجن فقال: إن النعمان(2/388)
قد جعل لي من عرفني، ثم أخرجهم فعرضهم، فلم يسأله عن أحد إلا سماه، وفعل مثل ذلك بالحيرة فأطلقهم له، وأنشأ أكثم يقول:
ثوينا القطقطانة نصف حولٍ ... وبالغمرين حولاً ما نريم
وأيقن أهلنا أن قد هلكنا ... فقد دعي الكواهن والقسيم
حدثنا الجوهري قال: حدثنا ابن شبة قال: كان عبيد الله/ بن زياد باراً بأمه مرجانة، ربما ركب إليها في مركبه فيتعشى عندها في الناس، ثم يقسم ما بقي من طعامها على جيرانها، فأخذ طفيل بن عثمان في ظنة الخوارج، فقال يستشفع مرجانة، كان يقال لها أم عبيد الله(2/389)
العالية، لأنها علت على أم عبيد الله بن عامر بن كريزٍ:
يا أم عبد الله يا خير شافعٍ ... لذي كربةٍ نائي المحل غريب
نأى عنه أهلوه وأوحش منهم ... وغودر في كبلٍ أجشً صخوب
فيا بن أبي سفيان لا تسمعن بي ... مقالة محالٍ أحص كذوب
فخلى سبيله.
حدثنا أبو عبد الله محمد بن زكريا قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن المهلبي/ قال: حدثني عمي قال: كان عبد الله بن معاوية(2/390)
ابن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب خرج بناحية الجبل، فغلب على أصبهان والري وفارس، ومعه جماعةٌ من بني هاشم، منهم عبد الله ابن علي بن عبد الله بن العباس. فتوجه أبو جعفر المنصور يريده، فمر بالروابي، وإذا نوبخت في قصره، فسأل عنه وأخبر أنه عالم بالنجوم، فدخل عليه أبو جعفر فقال: انظر في النجوم في أمري وفي وجهي هذا. فقال له: من أنت؟ فانتسب له فحسب فقال: إن كان أمر النجوم حقاً فإنك ستلي الخلافة، وأما وجهك هذا فينالك فيه مكروه.
فلحق/ بعبد الله بن معاوية بن عبدالله بن جعفر فولاه إيذج فبلغ سليمان بن حبيب بن المهلب، وهو بالأهواز، فأخذه فحبسه وضربه، وأراد ضرب عنقه فمنعه سفيان بن معاوية بن يزيد ابن المهلب وقال: إنما أذاتنا من بني أمية! أفتريد أن يكون لبني هاشم فينا دمٌ؟(2/391)
فلحق أبو جعفر بعبد الله بن عمر بن عبد العزيز بالبصرة فكان عنده متوارياً، فلما أفضت الخلافة إلى بني العباس، بينا أبو العباس السفاح يوماً يخطب قام إليه السيد الحميري، وأنشده قصيدته التي يقول فيها:
دونكموها يا بني هاشمٍ ... فجددوا ميراثها الطامسا
دونكموها فالبسوا تاجها ... لا تعدموا منكم لها لابسا
خلافة الله وسلطانه ... ومنبر كان لكم دارسا(2/392)
قد ساسها قبلكم ساسةٌ ... لم يتركوا رطباً ولا يابسا
لو خير المنبر فرسانه ... ما اختار إلا منكم فارسا
والملك لو شوور في ساسةٍ ... ما اختار إلا منكم سائسا
لم يبق عبد الله بالشام من ... آل أبي العاص امرءاً عاطسا
فلست من أن تملكوها إلى ... هبوط عيسى منكم آيسا
فأمر له بمائة ألف دينار وقال: سل حوائجك/ فقال: يا أمير المؤمنين! ترضى عن سليمان بن حبيب وتكتب عهده على الأهواز. قال: قد رضينا عنه، وأمر أن يكتب عهده على الأهواز. ويقال: أن هذا السبب الذي اتصل به نوبخت وأهله بالمنصور وولده وبه أيضاً قلد المنصور سفيان بن معاوية وارتفعت منزلته عنده.
أخبرني ابن دريدٍ قال: حدثنا أبو حاتم عن الأصمعي عن أبي(2/393)
عمرو بن العلاء قال: بعث الحارث بن أبي شمرٍ الغساني ملك الشام خيلاً فأغارت على مضر وربيعة، فغنموا وسبوا وأسروا وانصرفوا. فخرج قوم من/ الحيين جميعاً في وفد أسراهم، وكان فيمن خرج علقمة بن عبدة وكان يدعى الفحل وكان له أخ يقال له: شأسٌ، قد أسرته غسان، فقدم مع أصحابه وقد امتدح الحارث بن أبي شمر.
وكان علقمة في دهره من أحسن الناس غناءً وأجودهم جرماً. وكان دميماً شديد السواد، فكان إذا أتى الحاجب ليستأذن له، لم يلتفت إليه لدمامته وسواده، فشكا ذلك إلى رجل من غسان، فقال له: إنك قد مدحت الملك بمديح لم يمدح بمثله، فأت فلانةً الطحانة مولاة آل(2/394)
فلان جار الملك فروها الشعر الذي مدحته به، فإنها تغني على طحينها بالليل، فيسمع لها الملك، فلعله إذا سمع شعرك نبهته بذلك عليك. فأتى علقمة الطحانة فوصلها وخبرها بحاله وسألها أن تأخذ شعره فتغني به الملك في الوقت الذي يسمع لها فيه، فأخذت الشعر فقال لها علقمة: غني حتى أسمع. فغنته فلم يعجبه غناؤها، وغنى هو، فلما سمعته قالت: لا والله ما سمعت بمثل هذا الغناء من أحدٍ من الناس! فإن شئت فأتني إذا أسحرت حتى تدير الرحا، وتغني به، فإنه حري أن يصير إلى ما تريد. قال لها: نعم. فلما أسحر أتاها فأدار الرحا ثم تغنى:
طحابك قلب في الحسان طروب ... بعيد الشباب عصر حان مشيب
تكلفني ليلى وقد شط وليها ... وعادت عوادٍ دونها وخطوب(2/395)
إلى قوله:
إلى الحارث الوهاب أعملت ناقتي ... لكلكلها والقصريين وجيب
إلى قوله:
وأنت أمرؤٌ أفضت إليك أمانتي ... وقبلك ربتني فضعت ربوب
فلا تحرمني نائلاً عن جنابةٍ ... فإني امرؤٌ وسط القباب غريب(2/396)
وفي كل حيٍ قد خبطت بنعمةٍ ... فحق لشأسٍ من نداك ذنوب
فلما سمعه الملك طرب طرباً شديداً وقال لهم:/ ما هذا صوت فلانة الطحانة، فاعلموا لي علم هذا الصوت. فأتوه فسألوه عن حاله فأخبرهم. فأتوا الملك فقالوا: هذا علقمة الفحل قدم في فداء أخٍ له. قال: فعودوا إليه، وقولوا له: لا يقطع صوته عنا إلى الغداة، فإذا أصبح فليأتنا. فلم يزل يكرر ذلك الشعر إلى الغداة. فلما أصبح أتى الحاجب، فأذن له، فدخل إلى الملك وعنده جماعة أصحابه فأنشده الشعر، فلما بلغ إلى قوله:
*وحق لشأسٍ من نداك ذنوب*
قال: إي والله وأذنبةٌ. فأطلق له أخاه وأجاره وحمله وكساه.
وهذا في حديث يوم عين أباغ، يوم/ قتل الحارث بن أبي شمرٍ الغساني ملك الشام المنذر بن ماء السماء ملك العراق. وكان(2/397)
من حديثه كما حدثني ابن زكويه قال: حدثنا عبد الله بن الضحاك عن ابن الكلبي عن أبي مسكين قال: كان المنذر بن ماء السماء -وأمه امرأة من النمر بن قاسط يقال لها: ماء السماء، وكان قد طال ملكه، وهو ابن النعمان الأكبر- جمع جيشاً عظيماً من معدٍ كلها، فأعطى فيهم وأحسن العطايا غير أنه لم يكن معه من غطفان أحدٌ، وكانت بنو أسدٍ مع حصن بن حذيفة بن بدرٍ، فقالوا له: إن المنذر قد قسم في الناس وأعطى مالاً كثيراً فترى أن نغزو معه فإنا نرى أنه سيظهر على الشام. فقال لهم حصن: بئس الوالي والحليف أنا لكم إن أمرتكم إلا بما آمر به نفسي، لا آمركم بذلك، فعصوه وغزوا مع المنذر.
فخرج المنذر يسير بمن معه من الناس حتى أتى عين أباغ. وبلغ أمره الحارث بن أبي شمرٍ، وأخبر بمن قد أتاه من الناس فعمد إلى ثمانين غلاماً من غسان فألبسهم الثياب، وفيهم غلمانٌ لهم ذوائب(2/398)
فأرسلهم إلى المنذر وقالوا: نحن وفدٌ وهذه الهدية تأتيك, والحارث مذعنٌ لك بالإتاوة أي: الخراج. وقد كان الحارث دعا الغلمان حين أرسلهم/ فأوصاهم وأخبرهم أن المنذر إنما غزا يريد أخواتهم وأمهاتهم وقال لهم: إذا سمعتم الصيحة فشدوا على من يليكم من وراء الناس.
فلما قدم الغلمة على المنذر ومعهم كسوةٌ حسنةٌ بعث بها الحارث إليه أعجبه جمالهم والكسوة فقال لمن حوله من أصحابه: ما ظنكم بنسوةٍ نجلن من ترون؟! فكان ذلك شحذاً للغلمان فصدقوا قول الحارث. وأقبل الحارث بن أبي شمرٍ يسير بالناس, وقد استرسل المنذر إلى ما جاء به الغلمة والكتاب الذي جاءه من طاعة الحارث, ولم يشك أنه الحق. وانتشر الناس في الرعي وفي حوائجهم. وكان الحارث/ أعرج, وكان يظاهر بين درعين, ويتقلد سيفين: أحدهما مخذمٌ والآخر رسوبٌ. وكان معه كتيبتان, يقال لإحداهما:(2/399)
الملحاء والأخرى: الشهباء وقد قال رجلٌ من بني تغلب كان معه:
هبلتك أمك إن تسلسل بحرهم ... زبداً غواربه وبحرك ساجم
أو تضرب الملحاء يوماً كله ... ضرباً يعرد باليمين القائم(2/400)
فأقبل الحارث وعلى مقدمته ابنه النعمان بن الحارث فحمل على الناس حتى انتهى إليهم, وشد الغلمان من ناحية العسكر, وثبت من كان مع المنذر يوماً إلى الليل, وإنما يقاتله في ذلك اليوم الكتيبة الشهباء/ وحدها, ثم راحت الملحاء حين غابت الشمس. وكان المنذر قد جعل على ميمنته فروة بن مسعود بن عامر بن أبي ربيعة بن ذهل ابن شيبان, وعلى ميسرته قيس بن عامر عم فروة بن مسعود, فقتل فروة من أول الليل فمر به المنذر وهو قتيل, فسأل عنه فأخبر بقتله فقال: كريمٌ صادف مصرعه. وقتل قيس بن مسعود من آخر الليل, وثبت المنذر فقاتل بمن معه, فبينا هو يذمر الناس عرف صوته رجلٌ من بني حنيفة, يقال له شمر بن عمروٍ, فطعنه تحت إبطه فقتله, وأصبح الناس يؤخذون في كل ناحية وأصيب/ من بني أسد ناسٌ كثيرٌ, وأصيب من بني تميم تسعون رجلاً منهم شأس بن عبدة.(2/401)
وأقبل الحارث راجعاً وأخذ رأس المنذر فجعله في طستٍ من ذهب وسجى عليه, ثم قال: من أخبرني عنه فله ما احتكم! فجعل الناس يخبرونه, ولا يصدقونه, حتى دخل عليه الحنفي فقال: أنا قتلته, فاكتم علي فإن قومي في دينه, عرفته وهو يذمر الناس, فبرقت لي برقةٌ تحت إبطه, فقتلته. فقال: صدقت.
فلما تراجع الناس ركب نابغة بني ذبيان يطلب أسرى بني أسد, فدخل على النعمان بن الحارث بن أبي شمرٍ, وهو الذي ولي القتال/ فطلب إليه في بني أسد, وشفع إليه بمن قدر عليه من غسان. وجعل ناسٌ من كلبٍ وبهراء يقولون للملك: إن حصن بن حذيفة قد أهلكنا, وأنه قد كان يرى أنه لا يطلق, وإنما بعث بني أسد, وذخر قومه فلا يطلقهم, حتى احتمل النعمان ذلك في نفسه.
وجعل النابغة يطوف فيمن يرجو عونه من غسان حتى أطلق له نيفاً وثمانين رجلاً من أسارى بني أسد, ففي ذلك يقول النابغة يمدح(2/402)
الذين أعانوه من غسان على الملك وابنه حتى أطلقا له من أراد من أسارى بني أسد:
لله عينا من رأى مثل فتيةٍ ... أضر لمن عادى وأكثر نافعا
وأعظم أحلاماً وأكثر سيداً ... وأفضل مشفوعاً إليه وشافعا
غداة غدوا فيهم ملوكٌ وسوقةٌ ... يصونون بالإفضال أبيض بارعا
متى تلقهم لا تلق للبيت عورةً ... ولا الضيف ممنوعاً ولا الجار ضائعا
فوفد عليه علقمة بن عبدة يطلب في أخيه وأسرى بني تميم, وأنشده قصيدته:
*طحا بك قلبٌ في الحسان طروب*(2/403)
فلما انتهى إلى قوله:
به جيف الحسرى فأما عظامها ... فبيضٌ وأما جلدها فصليب
قال: قد أتعبت يابن عبدة المطي! أنشدني قولك:
*.. ورأس المرء معموم*
فأنشده:
هل ما علمت وما استودعت مكتوم ... أم حبلها إذ نأتك اليوم مصروم
حتى انتهى إلى قوله:(2/404)
وكل حصنٍ وإن طالت سلامته ... وإن تأثل فيه العز مهدوم
وكل قومٍ وإن عزوا وإن كثروا ... عريفهم بأثافي الشر مرجوم
ومن تعرض للغربان يزجرها ... على سلامته لا بد مشؤوم
ومطعم الغنم يوم الغنم مطعمه ... أنى توجه والمحروم محروم(2/405)
فلما فرغ قال له: يا علقمة! اختر من الحباء والكسوة وإطلاق أخيك وأحتبس الأسرى من قومك عندي, أو أطلقهم ولا حباء لك عندي ولا كسوة. فقال أيها الملك! أبيت اللعن. أدخل إلى قومي فأعرفهم فدخل إليهم وهم في القد, فقال: إن الملك إن أطلقكم حباكم وكساكم, فإن صيرتم لي جميع ما يصل إليكم منه كلمته فيكم!.. فجعلوا له ذلك فأطلقهم الملك, وحباه, وكساه, وحبا جميع الأسرى وكساهم.
حدثنا أحمد بن عبد العزيز قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثني عبد الله بن محمد بن حكيم عن خالد بن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص قال: حدثني بديحٌ مولى عبد الله بن جعفر بن أبي طالب قال: أتى عبد الله بن قيس الرقيات منزل عبد الله ابن جعفر فقال: استأذن لي عليه. فدخلت فوجدته نائماً, فكرهت أن(2/406)
يرجع ولم يدخل فقلت/ لجارية له: أيقظيه فقالت: لا أفعل، فإن شئت فأيقظه أنت. فجئت فوضعت وجهي بين قدميه، ثم نبحت نباح الكلب الهرم. فقال: ويلك ما لك؟! قلت: جعلت فداك.. عبد الله بن قيسٍ الرقيات بالباب، كرهت أن يرجع حتى يدخل عليك. قال: أحسنت ليدخل. فدخل فأنشده:
تقدت بي الشهباء نحو ابن جعفرٍ ... سواءٌ عليها ليلها ونهارها
فوالله لولا أن تزور ابن جعفرٍ ... لكان قليلاً في دمشق قرارها
أتيناك نثني بالذي أنت أهله ... عليك كما أثنى على الروض جارها
فقال: يا بديح! أجر على الشهباء وصاحبها ما يصلحها./ وقال لجاريته: هاتي ما عندك. فجاءت بظبيةٍ فيها دنانير فقال: اعدد(2/407)
يا بديح وارفع صوتك فعددت حتى بلغت مائة. وأنا أطرب بصوتٍ لي حسنٍ، ثم قطعت لأنظر ما يقول، فقال: ما هذا بحين يقطع هذا الصوت يا بديح! فعددت حتى بلغت سبعمائةٍ، ونفضت الظبية فاستقلها، وقال للجارية: إيتيني بمطرفٍ من مطارفي، فأتته فبسطه بين يديه على البساط، ثم قال: إيتيني بكذا وكذا ثوبٍ من خزٍ، وكذا من وشي، فطرح في المطرف حتى ما تلتقي أطرافه، ثم قال: اذهبوا بهذا إلى منزل عبد الله. فقال عبد الله: إن أمير المؤمنين سخط/ علي، وحبس عطائي عني في شعرٍ قلته، فكلمه فليرض عني. فركب إليه فقال: يا أمير المؤمنين! رجلٌ عتبتم عليه، ومنعتموه عطاءه، فارض عنه، واردد إليه عطاءه. قال: نعم! إن لم يكن ابن الرقيات. قال: وما له يا أمير المؤمنين؟ قال: أولم يبلغك قوله:
كيف نومي على الفراش ولما ... تشمل الشام غارةٌ شعواء
تذهل الشيخ عن بنيه وتبدي ... عن خدام العقلية العذراء(2/408)
وقال لأهل الشام: يا أهل الشام! أتعرفون؟ هذا هو الذي يقول: وأنشد البيت.. فنادوا: يا أمير المؤمنين!.. من كل جانب: إيذن لنا نتطهر بدمه. فقال: إني وهبته لأبي جعفر عبد الله بن جعفر. فقال ابن قيس: وأنا أقول فيك يا أمير المؤمنين:
إلى الفنيق الذي أبوه أبو العاص عليه الوقار والحجب
يعتقد التاج فوق مفرقه ... على جبينٍ كأنه الذهب
ما نقموا من بني أمية إلا ... أنهم يحلمون إن غضبوا
وأنهم معدن الملوك فلا ... تصلح إلا عليهم العرب
فقال: قد آمنتك، وعفوت عنك. ولكن والله لا تأخذ مع الناس درهماً أبداً.(2/409)
ويقال إن عبد الملك قال له: أما مصعب بن الزبير فتقول فيه:
إنما مصعبٌ شهابٌ من الله تجلت ... عن وجهه الظلماء
وأما أنا فتقول لي:
يعتقد التاج فوق مفرقه ... على جبينٍ كأنه الذهب
وكان هوى ابن قيسٍ الرقيات مع مصعب بن الزبير، فكان عبد الملك عليه مغيظاً لذلك. فلما استأمن له عبد الله بن جعفرٍ آمنه، ولم يكن يطيق أن يراه فانقطع ابن الرقيات إلى عبد العزيز بن مروان، فكان ذلك أغيظ لعبد الملك عليه، وكان لا يزال يغري به عبد العزيز.
فمن ذلك ما حدثنا به ابن زكويه قال: حدثنا عبد الله بن(2/410)
الضحاك عن هشام بن محمد عن عوانة بن الحكم قال: لما حبس عبد الملك/ بن مروان عمرو بن سعيد دخل عليه البيت الذي حبسه فيه ومعه السيف ليضرب عنقه أخذ عمروٌ رجل عبد الملك يقبلها، وسأله بالرحم. فقال عبد الملك: أبا عثمان! أما والله لو أعلم أنه يصلح ما بيننا لوقيتك ولو بدم النواظر، ولكنه قلما اجتمع فحلان في شولٍ، فصلح الذي بينهما. وأقيمت الصلاة فخرج عبد الملك يصلي، وقال لأخيه عبد العزيز: اقتله إلى أن أصلي بالناس، فسأله عمروٌ بالرحم فكف عنه. فلما رجع عبد الملك قال له: لم لم تقتله؟ قال سألني بالرحم. قال: لا، ولكن أشبهت أمك الأعرابية. وأخذ عبد الملك/ السيف ودنا من عمروٍ، وهو يتمثل:(2/411)
يا عمرو إلا تدع شتمي ومنقصتي ... أضربك حيث يقول الهامة اسقوني
فلما قتله جعل يمسح الدم من السيف ويقول:
أدنيته مني ليحسن ظنه ... وأصول صولة حازمٍ مستمكن
غضباً ومحميةً لديني إنه ... ليس المسيء سبيله كالمحسن
وغضب عبد العزيز لتعيير عبد الملك إياه بأمه، وأمه ليلى بنت زبان ابن الأصبغ الكلبية، فحلف ألا يعطي شاعراً مدحه بأبيه حتى يمدحه بأمه، فقال ابن قيس الرقيات:(2/412)
أمك بيضاء من قضاعة في البيت الذي يستظل في طنبه
يخلفك البيض من بنيك كما ... يخلف عود النضار في شعبه
ليسوا من الخروع الضعاف ولا ... أشباه عيدانه ولا غربه
فأمر له بخمسمائة دينار، فقال أيضاً:
أعنى ابن ليلى عبد العزيز بباب اليون تغدو أجفانه رذما(2/413)
مل أصبغيات في الفوارع لا ... يحملن فوق الكواهل الحزما
يلتفت الناس حول منبره ... إذا عمود البرية انهدما
فاغتاظ عبد الملك على ابن قيس فقال لعبد العزيز: ما بال ابن الرقيات يذكر أمك في الشعر، كأنه ليس لك بأبيك شرفٌ؟!.. فذكر عبد العزيز ذلك لابن الرقيات فقال له: إنما حسدك. ووالله لأقولن قصيدةً/، ولأذكرن فيها أمه وقطينها، ثم ليرضين.. . احضر غداً. فلما كان من الغد استأذن على عبد الملك، فلما دخل أنشأ يقول:
أنت ابن منبطح البطاح كديها فكدائها(2/414)
ولبطن عائشة التي ... فرعت أروم نسائها
ولدت أغر مهذباً ... كالشمس حين ضيائها
في ليلةٍ لا عيب في ... سحرائها وعشائها
ثم أتم كلمته. فلما خرج عبد العزيز قال له ابن الرقيات: كيف رأيت؟!.. ..
ومن ذلك ما حدثني به أبي قال: حدثنا أبو حاتم قال: حدثنا أبو جعفر الخزاز عن الهيثم بن عدي عن ابن عياش عن(2/415)
أشياخه قالوا كان عبد العزيز بن مروان رجلاً صدوقاً لا/ يقول قولاً إلا وفى به، وكان مع ذلك شديد الإقدام، وكان ولي عهد عبد الملك، جعله مروان بعده فكتب إلى الحجاج: ((أما بعد فإن أهل العراق كانوا شيعةً لبني أمية، فما زلت بخرقك ونكدك وقلة عقلك وضعف سياستك حتى صاروا إلباً عليهم. وأيم الله لئن بقيت لك وصار هذا الأمر إلي لأنزلنك حيث أنزلت نفسك)).
فخافه الحجاج على نفسه لإقدامه، وأراد التقرب إلى الوليد بن عبد الملك ودفع عبد العزيز عن نفسه، فقال يوماً لجلسائه دلوني على رجل حسن العقل شديد الجانب. فقيل له: عمران بن عصامٍ العنزي./فدعا به فأخبره بما رأى في البيعة للوليد بعد عبد العزيز، وقال: انطلق إلى أمير المؤمنين بكتبي في ذلك، وكلمه فيه، وقل فيه شعراً.(2/416)
وكان عمران من شعراء أهل زمانه. قال: وكتب إلى عبد الملك يدعوه إلى العقد للوليد بعد عبد العزيز ويعلمه أنه إن لم يفعل لم ينظر للوليد أحد بعده. قال: فقال عمران: أصلح الله الأمير أسس لي أساً أقول عليه. فقال له الحجاج: إن العوان لا تعلم الخمرة. فخرج عمران حتى قدم على عبد الملك، فلما قرأ كتب الحجاج قال: أدخلوا عمران رسول الحجاج. فلما دخل عليه قال يا عمران! قال: لبيك/ قال: ما تقول فيما كتب به الحجاج فأنشأ يقول:
أمير المؤمنين إليك أهدي ... على الشحط التحية والسلاما
أجبني في بنيك يكن جوابي ... لهم أكرومةً ولنا نظاما
فلو أن الوليد أطعت فيه ... جمعت له الحزامة والذماما(2/417)
شبيهك, حول قبته قريش ... به تستمطر العرب الغماما
ومثلك في التقى لم يصب يوماً ... لدن ألقى القلائد والشباما
فإن تؤثر أخاك بها فإنا ... وجدك ما نطيق لك اهتضاما
ونخشى إن جعلت الملك فيهم ... سحاباً أن تعود لنا جهاما(2/418)
فلا يك ما حلبت غداً لقومٍ ... وبعد غدٍ بنوك هم العيامى
فلو أنى تخطاني عصامٌ ... بذلك ما عذرت به عصاما
فقال عبد الملك: أوما كنت عاذر أبيك لو كان الأمر في يده؟ قال: ما كنت أعذره. قال: ويحك وكيف وقد ذلت به الألسن, واضطرب به الصوت, وسارت به الركبان؟!.. .. قال: وليجةٌ –يا أمير المؤمنين- بينك وبين أخيك. قال: ليس إلى ذلك سبيلٌ. ثم كتب إلى الحجاج أن هذا مما لا سبيل إليه.
فلما قدم عمران على الحجاج قال: ما صنعت؟ قال: نفخت في غير فحمٍ. قال: أما إنها قد وقعت في السويداء من قلبه.(2/419)
قال: وكتب عبد الملك إلى عبد العزيز: ((قد عرفت حال الوليد في فضله وأدبه/ وموضعه من قلبي, فإن رأيت أن تجعل له ولاية العهد من بعدك فافعل)).
فكتب إليه عبد العزيز: ((قد فهمت كتابك –يا أمير المؤمنين- في الوليد، وما ذكرت من فضله وأدبه وموضعه من قلبك، وسألتني أن أجعل له ولاية العهد بعدي فاعلم -يا أمير المؤمنين- أنا نجد بأبنائنا كما تجد بابنك، وإن أمير المؤمنين مروان كان عقد لي ولك في يوم واحد، وقدمك علي للسن، فإن رأيت ألا يأتي أجل الوفاة علي أو عليك إلا وأنت لحقي عارفٌ، وبأبي بار، ولي واصلٌ، فوالله ما أدري ما بقائي وبقاؤك؟..)./ فلما قرأ عبد الملك كتابه بكى، ثم قال: صدق والله! ما أدري ما بقائي وبقاؤه؟ وإن يرد الله أمراً يكن. قال: فوالله ما بقي عبد العزيز بعد ذلك إلا سنةً أو سبعة أشهر حتى مات. فدعا عبد الملك الوليد وسليمان فعقد لهما في يوم واحد.
وكان ابن قيس الرقيات عند عبد العزيز بن مروان بمصر في الوقت الذي كتب إليه عبد الملك يسأله العقد للوليد بعده. فقال ابن الرقيات في ذلك:(2/420)
يخلفك البيض من بنيك كما ... يخلف عود النضار من شعبه
ليسوا من الخروع الضعاف ولا ... أشباه عيدانه ولا غربه
نحن على بيعة الرسول التي ... أعطيت في عجمه وفي عربه
فأمر له عبد العزيز بجائزة حسنة, وبلغ هذا الشعر عبد الملك فقال: لقد دخل ابن قيس مدخلاً ضيقاً, وشتمه, وتهدده, وقال: ليس هذا بأعجب من قوله:
كيف نومي على الفراش ولما ... تشمل الشام غارةٌ شعواء
تذهل الشيخ عن بنيه وتبدي ... عن خدام العقيلة العذراء
.. ولا بأعجب من قوله:(2/421)
على بيعة الإسلام بايعن مصعبا ... كراديس من خيلٍ وجمعاً ضباركا
تدارك أخرانا ونمضي أمامنا ... ونتبع ميمون النقيبة ناسكا
إذا فرغت أظفاره من كتيبةٍ ... أمال على الأخرى السيوف البواتكا
/ أراد: إذا فرغت أظفاره من المختار وأصحابه أمال على الأخرى أي: على عبد الملك.
فبلغ ابن الرقيات تهدد عبد الملك له فقال يعرض ببخر عبد الملك:(2/422)
بشر الظبي والغراب بسعدى ... مرحباً بالذي يقول الغراب
لا أشم الريحان إلا بعيني ... كرماً إنما يشم الكلاب
يعرض بعبد الملك أنه متغير الفم. وكان عبد الملك تؤذيه رائحة فيه, فكان أبداً في يده تفاحةٌ أو ريحانةٌ أو طيبٌ.
قال أبو الحسن: وإنما ذكرت هذين الخبرين, وليسا من باب العفو والاعتذار لأخبر عن الأسباب التي كان عبد الملك بن مروان/ لها متغيظاً على ابن الرقيات, وكان يصفح عنه لموضع عبد الله بن جعفر, وأنه قد آمنه بمسألته ثم لموضع أخيه عبد العزيز.
نرجع إلى باب العفو عن ذوي الجرائم بالشفاعات, حدثنا ابن دريد قال: حدثنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال: كان المنذر بن امرئ القيس اللخمي يدعى محرقاً, وذلك أنه لقي بكر بن وائل بأوارة وعلى بكرٍ حارثة بن عمروٍ بن أبي ربيعة بن ذهل(2/423)
ابن شيبان, فهزمت بكرٌ, فحلف المنذر ليذبحنهم على رأس أوارة حتى يبلغ الدم الحضيض! فقام إليه مالك بن عمرو بن ضبيعة/ بن عجلٍ, وكان رضيع المنذر فقال: أنشدك بإلهك فإنما تفسد أهلك. قال: فكيف أصنع بيميني. قال تصب الماء على الدم حتى يبلغ الحضيض ففعل ذلك فسمي مالكٌ الوصاف. فولده إلى اليوم يقال لهم: بنو الوصاف, لا يعرفون بغيره.
وجمع المنذر أسارى بكرٍ في حظائر, فأراد أن يضرم عليهم النار, وكذلك كان يفعل فقام إليه أبو حوط الحظائر النميري فكلمه فيهم فشفعه فخلى سبيلهم, فسمي: أبا حوط الحظائر, ليس يعرف إلا بذلك. وسمي المنذر محرقاً لتحريقه الأسرى. فقال بعض شعراء النمر بن قاسط:
أناسٌ أبو حوط الحظائر منهم ... ومن ربع المرباع في سالف الدهر(2/424)
وقال شاعر آخر يمدحهم:
هم نصرونا كل يوم كريهةٍ ... وهم أنقذوا بكراً من النار والحطب
حدثني سوار بن أبي شراعة قال: حدثنا الرياشي قال: حدثني هشام بن عمرو بن خالد البجلي قال: قدم رجل من ثمالة بأهله على عبد الله بن الصمة في عشرين فارساً من بني عامر، فكانوا في جوار عبد الله حتى قتل، واشتغل دريد بن الصمة أخوه بتلك الحرب سنتين، فأغارت عليهم خثعم ورئيس القوم أنس بن مدركٍ الخثعمي وهم خلوفٌ، فاستاقوا نعم الثمالي وأهله/ وماله والفرسان من عامر، فلم يستطع أنسٌ النفوذ بهم لحرب كانت بينه وبين قومه، فجعلهم عند يزيد بن عبد الله بن عبد المدان، فقدم دريد(2/425)
لانقضاء الحولين، فبيناهم ذات ليلةٍ مخيلةٍ، وخرج النساء المغيبات، إذا هو بالشيخ الثمالي يتغنى:
كساك دريد الدهر ثوب خزايةٍ ... وقنعك الحامي حقيقته أنس
دع الخيل والسمر الطوال لخثعمٍ ... فما أنت والرمح الطويل وما الفرس
وما أنت والغزو المقرب للعدى ... وهمك سوق العود والدلو والمرس
فلو كان عبد الله حياً لجاره ... لما أصبحت إبلي بنجران تحتبس(2/426)
وكنت عبد الله حيٌ ولا أرى ... أبالي بحمد الله من قام أو جلس
فأصبحت مكسور الجناح لفقده ... وهل من نكيرٍ بعد حولين يلتمس
/ فقال دريدٌ: يا قوم! ألا يا اسمعوا! فاجتمعوا إليه فقالوا: ما أمرك؟ وما شأنك؟ قال: العجب للثمالي وما أصابه والفرسان من عامر. فقالوا أنت على خيرٍ إنه لم يصل بما أصاب، وقد خلف جميع ما استاق من النساء والنعم عند يزيد بن عبد الله بن عبد المدان، ولك عنده أيادٍ ونعمٌ، هو لك شاكر يحب مكافأتك، فاخرج إليه. قال: ليس يراني، ولكن أجهز إليه راكباً فأنظر بما يرجع. فقالوا: الرأي أصبت. فجهز إليه راكباً بأبيات:
بني الديان ردوا مال جاري ... وأسرى من ثمالة في غلال(2/427)
فأنتم أهل عائدةٍ وفضلٍ ... وأيدٍ في حوادثكم طوال
متى ما تمنعوا شيئاً فليست ... حبائل أخذه غير السؤال
حذا عبد المدان لكم نعالاً ... مخصرة الصدور على مثال
بني الديان إن بني زيادٍ ... هم أهل المكارم والفعال
فأبلوا يا بني الديان خيراً ... أبوء لكم به أخرى الليالي
فلما قدم عليه قال: مرحباً بك وبمن أرسلك. ارجع إليه فقل له: فليقدم على ما أحب. فقدم ليلاً فاعترض بعض تلك البيوت, فلما أصبح توجه يريد يزيد, فلما دفع إليه رحب به يزيد وحياه ثم جلس فقال دريدٌ: أبا البصير ما لنعمكم قليلةٌ, ونيرانكم متفرقةٌ, وسرحكم يأتي معتماً, / وصبيانكم يتضاغون من غير جوعٍ, !.. ..
قال: أما قلة نعمنا ففي نعم هوازن ما يكفينا, وأما تفرق نيراننا فمن الغيرة, وأما إعتام سرحنا ففينا المغيبة والأرملة فتخرج(2/428)
لا يراها أحدٌ حتى يأتي سرحها, وأما تضاغي صبياننا من غير جوع, فإننا نبدأ بالخيل قبل العيال. فبيناهم كذلك إذ طلع ثلاثة فرسانٍ يقدمهم شيخ فقال:
أتتك السلامة فارع النعم ... ولا تقل الدهر إلا نعم
فقال دريدٌ: ما هؤلاء يا أبا البصير؟ قال: هؤلاء نبعثهم ينفضون الأرض فإذا أمنا الغارة سرحنا النعم. قال دريد: ما ظلمت العرب إذ جعلتكم جمرة مذحج!../ فلم يسأله شيئاً إلا أعطاه, فقال دريد:
مدحت يزيد بن عبد المدان ... فأكرم به من فتىً يمتدح
إذا المدح زان الملوك الكرام ... فإن يزيد يزين المدح(2/429)
ورد النساء بأطهارهن ... ولو كان غير يزيدٍ فضح
وفك الرجال، وكل امرئٍ ... إذا أصلح الله يوماً صلح
فقلت له بعد عتق النساء ... وفك الرجال ورد المنح
هبن لي فوارس من عامرٍ ... فأكرم بمنحته إذ منح
حدثني أبي قال: حدثنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال: بعث باذام عامل كسرى على اليمن إلى كسرى أبرويز بن هرمز بعيرٍ من اليمن، تحمل الطيب وطرائف/ اليمن. فلما صارت ببلاد بني تميم أغاروا عليها، فانتهبوا ما فيها، ولم يدعوا على رجل ممن كان مع العير من الأساورة خرقةً. فلجأ أولئك الأساورة إلى هوذة بن علي(2/430)
الحنفي فكساهم، وأحسن إليهم، وحملهم، وزودهم، وسار معهم حتى دخل على كسرى فكلمه، وكان هوذة رجلاً جميلاً، فأخبره الخبر، وقص عليه الذي كان، فدعا كسرى بعقد درٍ فعقده على رأسه، وكساه قباء ديباجٍ في كسوة كثيرة، وسأله عن ماله ومعيشته فأخبره هوذة أنهم في عيشٍ رغدٍ وقصورٍ ونخل ومزارع، وأخبره أنهم يغزون المغازي فيصيبون.
/ قال كسرى: ما ولدك؟ قال: عشرةٌ، قال: أيهم أحب إليك؟ قال: غائبهم حتى يقدم، وصغيرهم حتى يكبر، ومريضهم حتى يبرأ. قال كسرى: الرأي الذي أخرج هذا منك حملك على طلب الوسيلة عندي! ودعا كسرى جوانبوذان بن درستويه وهو الذي يقال له المكعبر فأرسله مع هوذة. وقال لهوذة: إن رأيت القوم الذين صنعوا هذا تعرفهم؟ قال: نعم. قال: أمن قومك هم؟ قال: الذي بيننا وبينهم بعيدٌ.(2/431)
قال: أصلحٌ هم لك؟ قال: بيننا حسى الموت قال: قد أدركت بعض حاجتك. سر مع رسولي فاشف.
/ وأمره أن يبني مدينةً بهجر، يكون فيها عامله، فإن كان من العرب غدرٌ بهم كانت لهم حصناً إلى أن يأتيهم غياثٌ من كسرى، وبعث معه من فارس الفعلة فبنوا بالبحرين الحصن الذي يقال له: المشقر.
ثم نادوا في أرض العرب أن الملك قد أمر أن يقسم في العرب، فانصبت عليه بنو تميم، وقامت الرجال بالسلاح. فكلما دخل رجلٌ أخذوا سلاحه، وانتهوا به إلى هوذة فيضرب عنقه. وكان إذا أتي برجل بينه وبين هوذة معرفةً قال للمكعبر: هذا من قومي فيجلس.
وكان في بني سعد رجلٌ من بني عبس يقال له: وهب بن عبيدٍ فجاء معهم ليأخذ/ من القسم، فأدخل قبله رجلٌ فأخذ سلاحه، وعلى باب المشقر سلسلةٌ تجمع البابين، فلما رآهم وهبٌ العبسيٌ(2/432)
تؤخذ أسلحتهم قال: ويلكم! أين يذهب بعقولكم؟ فوالله ما بعد السلب إلا القتل. وضرب السلسلة بالسيف فقطعها فانفتح الباب, فدخل فإذا هو بالقتلى, فهرب وهرب الناس, وأطلق هوذة يومئذ مائةً من بني تميم. فقال العبسي في ذلك:
ألم تر أن المرء ينكر ضيمه ... وإن كان ذا ذنبٍ وفي ضيق محصر
ألا هل أتى قومي على النأي أنني ... حميت ذماري يوم باب المشقر
ضربت عميد القوم بالسيف ضربةً ... تفرج عنها كل بابٍ مضبر
/ وهو اليوم الذي يقال له: يوم الصفقة.
وقال الأعشى يذكر هوذة وما صنع:(2/433)
من ير هوذة يسجد غير متئبٍ ... إذا تعمم فوق التاج أو وضعا
له أكاليل بالياقوت زينها ... صواغها لا ترى عيباً ولا طبعا
وكل زوجٍ من الديباج يلبسه ... أبو ثمامة محبواً بذاك معا
سائل تميماً به أيام صفقتهم ... لما أتوه أسارى كلهم ضرعا
وسط المشقر في غبراء مظلمةٍ ... لا يستطعيون بعد الضر منتفعا(2/434)
فقال للملك أطلق منهم مائةٍ ... رسلاً من القول مخفوضاً وما رفعا
ففك عن مائةٍ منهم وثاقهم ... فأصبحوا كلهم من غله خلعا
حدثني أبي قال: حدثنا أبو حاتم عن المدائني/ قال: لما آمن المنصور عبد الله بن علي وقدم عليه قال عبد الجبار بن عبد الرحمن لأبي جعفرٍ: يا أمير المؤمنين, هذا عبد الله بن علي عطفت عليه أمير المؤمنين الرحم, ووسعه عفوه. فما بال هؤلاء النفر من قواده الذين أوتارنا قبلهم ودماء إخواننا في رقابهم؟!.. والله –يا أمير المؤمنين- لو لم يقتلوا من شيعتك إلا رجلاً واحداً, وهو محمد بن صولٍ(2/435)
وقتلوا به ما كانوا به بواءً, ولا كان في ذلك شفاءٌ غليل صدورنا, فعلام نستبقي هؤلاء؟!.. وكان محمد بن صول أخا عبد الجبار ابن عبد الرحمن لأمه. فقال أبو جعفرٍ: يا عبد الجبار! أنت تريد أن يمضغ لك الخبز!../ ففهمها عبد الجبار عنه وانصرف, وأمر مولىً له يقال له: نزكاش –ويكنى أبا مقاتل- أن يحضر خفاف بن منصور ونصير بن المحتفز. فأحضرهما, ودعا بفأس وأمره أن(2/436)
يجزرهما به, فقطعهما أعضاء. وقال للمسيب بن زهير: خذ إليك حياش بن حبيبٍ فأتى به من محبسه فبات عنده ليلةً, وأصبح فأبرزه للقتل, وأحاطت به أمةٌ من الناس ينظرون إلى مقتله.
ومر عيسى بن علي يريد دار أمير المؤمنين, فسال عن الجماعة فقالوا: حياش بن حبيب قد أبرز لتضرب عنقه, فعدل عيسى عنان دابته إلى المسيب, فلما رآه المسيب نهض إليه, فقال له عيسى: يا أبا مسلمٍ! هل لك في صنيعةٍ عند حياشٍ وعند عشيرته؟ قال المسيب: ما أرغبني في ذلك لو وجدت إليه سبيلاً!..قال عيسى فأخر قتله بمقدار ما ألقى أمير المؤمنين. قال: فإني أفعل. ونفذ عيسى فلقي(2/437)
أبا جعفر فقال: يا أمير المؤمنين! لقد لقيت في طريقي إليك منظراً هائلاً ما رأيت مثله! قال: وما رأيت يا أبا العباس؟ قال: رأيت حياش بن حبيب عرياناً, وقد أحدقت به أمةٌ من الناس ليقتل, فإن رأيت –يا أمير المؤمنين- أن تمن عليه وتهب لي دمه. قال: فإني قد فعلت يا أبا العباس. فخرج عيسى مبادراً, فقال لبعض من معه: النجاء ركضاً إلى المسيب فأعلمه الخبر. ثم إن عيسى/ مر بالمسيب فجزاه خيراً وانطلق معه بحياشٍ إلى منزله وكساه ووصله وحمله.
قال: فحدثني رجلٌ من ولد حياشٍ أن إسحاق بن عيسى قال له: يابن حياشٍ! هل تعرفون نعمتنا عليكم؟ قلت: لا والله! فقص عليه هذه القصة.
حدثني أبي قال: حدثنا أبو حاتم عن وهب بن جرير عن أبيه قال:(2/438)
لما قتل مصعب بن الزبير المختار بن أبي عبيدٍ تحصن أصحابه الذين بقوا في قصر الكوفة، وطلبوا الأمان، فأبوا أن يؤمنوهم إلا أن ينزلوا على حكم مصعبٍ، وهم ستة آلافٍ وثمانمائة رجل، خمسة آلاف من الموالي والعبيد، وألفٌ وثمانمائةٍ من العرب.
فقال/ بجير بن فلانٍ المذحجي: أيا مصعب! إنا أهل ملتك وعلى قبلتك، ولسنا من الترك ولا الديلم، لم يعد أن صنعنا كما صنع أهل البصرة، اقتتلوا ثم اجتمعوا فاصطلحوا، فدعنا فلنصطلح فيما بيننا، أو قدمنا إلى أهل الشام، فإن ظهرنا عليهم كان ذلك لك، وإن ظهروا علينا لم يظهروا حتى نوقذهم لك.
فقال مصعب لأصحابه: ما ترون؟ فإن هؤلاء قد صاروا من شيعتي فاعرضوا علي. ثم قال للمهلب: ما ترى؟ قال العفو، ثم قال للأحنف: ما ترى قال: العفو، فوثب عبيد الله بن الحر الجعفي من غير أن يستشيره، وقد كان أتى المصعب فبايعه، / فقال: أصلحك الله. أما من كان العرب فخل سبيله،(2/439)
فإنهم إن يكونوا قد أصابوا منا فقد أصبنا منهم، وليس بنا غنىً عنهم في بعوثنا. وأما هؤلاء العبيد فإنما هم لأراملنا وأيتامنا فارددهم علينا نردهم إلى أعمالهم. وأما هؤلاء الموالي فقدمهم فاضرب أعناقهم، قد بدأ كفرهم وقل شكرهم، ولست آمنهم أن يغيروا هذا الدين.
وأصغى المصعب إلى العفو، فوثب أهل الكوفة وقالوا: دماؤنا ترقرق في أجوافهم، ثم تخلي سبيلهم؟! اخترنا أو إياهم. فقدمهم فضرب أعناقهم، فكانت أعظم مقتلةٍ كانت في الإسلام/ وكان الذي قتل منهم صبراً ستة آلاف. فلما رأى ذلك عبيد الله بن الحر خرج(2/440)
مراغماً لمصعب، فجعل يغير في عمل العراق، فلم يزل مصعبٌ يحتال عليه حتى وقع بيده، فأمر به إلى السجن بعد أن ناله بشيء من ضربٍ وقيده، فأنشأ يقول:
أيرجو ابن الزبير ليوم نصري ... بعاقبةٍ ولم أنصر حسينا
وكان تخلفي عنه تباباً ... وتركي نصره غبناً وحينا
ولو أني أواسيه بنفسي ... أصبت فضيلةً وقررت عينا
فقل: أين الزيادة والعطايا ... وما منيتنا كذباً ومينا
قتلت عبيدنا سفهاً وجهلاً ... كمتخذٍ به زلفى لدينا
قتلت جهالةً ألفي صريحٍ ... كريم الجد كالمرعي علينا(2/441)
أطعت مقالة الأحداث فينا ... فلم تصب الرشاد وما اعتدينا
فإن لم تبك ملحمةً وقتلى ... كما قتلتنا وكما بكينا
وإن لم نأكل الأجعال غصباً ... وما يجبى إليك وما جبينا
فلا طفنا بمكة في حجيجٍ ... ولا زرنا المقام ولا سعينا
وقال أيضاً:
من مبلغ الفتيان أن أخاهم ... أتى دونه بابٌ شديدٌ وحاجبه(2/442)
بمنزلةٍ ما كان يرضى بمثلها ... إذا قام غنته كبولٌ تجاذبه
وكان من نية مصعبٍ أن يضرب عنقه، فلم يزل به الأحنف بن قيس يكلمه فيه حتى أخرجه، فلبث/ دهراً.
ثم لقي الأحنف، وهو واقفٌ في ظل قصر بني بقيلة بظاهر الحيرة، فسلم عليه والأحنف لا يعرفه. فقال: من أنت؟ قال: أو ما تعرفني؟، أنا طليقك عبيد الله بن الحر قال: فهلا شكرتنا بما صنعنا بك، فأهديت إلينا هديةً؟.. وهو يضاحكه، فقال والله ما يمنعني أن أهدي إليك إلا أنك رجلٌ لا تأكل إلا الحلال، وأنا رجلٌ لا آكل إلا الحرام، فكرهت أن أخلط حرامي بحلالك، ولكن سأشكرك شكراً لا أجد لك غيره، أضربك بسيفي هذا فأقتلك، فيدخلك الله الجنة بقتلي إياك، ويدخلني النار. فضحك/ الأحنف وقال: سبحان الله، سبحان الله.
قال أبو الحسن: عبيد الله بن الحر أحد الفتاك المشهورين، وكان(2/443)
قد أشجى مصعباً وجميع ولاة العراق بغاراته في السواد، يزعم أنه يطلب قتلة الحسين عليه السلام، فكان يقتل البريء والسقيم.
ويروى أن الأحنف كلم مصعب بن الزبير في قومٍ حبسهم فقال: أصلح الله الأمير، إن كانوا حبسوا في باطل فالحق يخرجهم، وإن كانوا حبسوا في حقٍ فالعفو يسعهم. فخلى سبيلهم.
ويروى أن الرشيد حبس العتابي في أمرٍ سخط عليه، فأقام في الحبس سنةً، / فطلب فيه خالد بن يزيد بن مريدٍ فأطلقه، فكتب العتابي إلى خالد يشكر له:(2/444)
ما زلت في غمرات الموت مطرحاً ... قد زال عني لطيف الفكر من حيلي
فلم تزل دائباً تسعى بلطفك لي ... حتى اختلست حياتي من يدي أجلي(2/445)
(8) باب من هرب من ملكٍ مخافة أن يقتله، ثم أتاه مقراً بذنبه فعفا عنه
حدثنا أبو خليفة الفضل بن الحباب الجمحي قال: حدثنا محمد بن سلام، قال: حدثنا سليمان بن محمد بن يحيى بن عروة عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن/ المسيب أن بجير بن زهير بن أبي سلمى أسلم، فكتب إليه أخوه كعب:(2/447)
ألا أبلغا عني بجيراً رسالةً ... فهل لك فيما قلت بالخيف هل لكا
سقيت بكأسٍ عند آل محمدٍ ... فأنهلك المأمون منها وعلكا
فخالفت أسباب الهدى وتبعته ... على أي شيءٍ ويب غيرك دلكا
على خلقٍ لم تلف أماً ولا أباً ... عليه ولا ألفيت فيه أخاً لكا(2/448)
فأجابه بجيرٌ.. رواه الأثرم عن أبي عبيدة:
من مبلغٌ كعباً فهل لك في التي ... تلوم عليها باطلاً وهي أحزم
إلى الله لا العزى ولا اللات وحده ... فتنجو إن كان النجاء وتسلم
لدى يوم لا ينجو وليس بمفلتٍ ... من النار إلا طاهر القلب مسلم
فدين زهيرٍ، وهو لا شيء غيره، ... ودين أبي سلمى علي محرم
فبلغ شعره هذا رسول الله فتوعده ونذر دمه، فكتب بجيرٌ إلى كعب يخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل رجلاً ممن كان(2/449)
يهجوه، ولم يبق من الشعراء الذين كانوا يؤذونه إلا ابن الزبعرى وهبيرة بن أبي وهبٍ المخزومي، وقد هربا، ((فإن كانت لك في نفسك حاجةٌ فاقدم عليه، فإنه لا يقتل أحداً أتاه تائباً، فإن لم تفعل فانج بنفسك)).
فلما ورد عليه الكتاب ضاقت/ عليه الأرض برحبها، وأرجف به من كان بحضرته من عدوه، فقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى أبا بكر رحمه الله، فلما صلى الصبح أتاه به وهو ملتثمٌ بعمامته. فقال أبو بكر: يا رسول الله! رجلٌ يبايعك على الإسلام. فبسط رسول الله يده، فحسر كعبٌ عن وجهه فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! [هذا] مكان العائذ بك، أنا كعب بن زهير. فتجهمته الأنصار، وغلظت عليه لما ذكر به رسول الله، ولانت له قريشٌ وأحبوا إسلامه(2/450)
فآمنه رسول الله صلى الله عليه، فأنشده مدحته التي أولها:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... متيمٌ إثرها لم يشف مكبول
حتى انتهى إلى قوله:
وقال كل خليلٍ كنت آمله ... لا ألهينك إني عنك مشغول
فقلت: خلوا سبيلي لا أبا لكم ... فكل ما قدر الرحمن مفعول
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته ... يوماً على آلةٍ حدباء محمول(2/451)
نبئت أن رسول الله أوعدني ... والعفو عند رسول الله مأمول
إلى قوله:
في فتيةٍ من قريشٍ قال قائلهم ... ببطن مكة لما أسلموا: زولوا
زالوا فما زال أنكاسٌ ولا كشفٌ ... عند اللقاء ولا ميلٌ معازيل
لا يقع الطعن إلا في نحورهم ... وما لهم عن حياض الموت تهليل(2/452)
فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى من عنده من قريشٍ، كأنه يومئ إليهم أن اسمعوا.. حتى قال:
يمشون مشي الجمال الزهر يعصمهم ... ضربٌ إذا عرد السود التنابيل
يعرض بالأنصار لغلظتهم -كانت- عليه. فأنكرت [قريش] ما قال، وقالوا: ما مدحتنا إذ هجوتهم، ولم يقبلوا منه، فقال:
من سره كرم الحياة فلا يزل ... في مقنبٍ من صالح الأنصار(2/453)
الباذلين نفوسهم لنبيهم ... يوم الهياج وسطوة الجبار
يتطهرون كأنه نسكٌ لهم ... بدماء من علقوا من الكفار
صدموا علياً يوم بدرٍ صدمةً ... ذلت لوقعتها جميع نزار
أراد [بني علي بن مسعود، وهم بنو كنانة] فكساه رسول الله صلى الله عليه وسلم / بردةً اشتراها منه بعد معاوية بمال عظيم، يقال: عشرة آلاف درهم، فهي البردة التي يلبسها الخلفاء في العيدين إلى اليوم(2/454)
حدثنا ابن زكويه قال: حدثنا عبد الله بن الضحاك عن هشام ابن محمد عن أبيه عن أبي صالح عن ابن عباس قال: سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مالك بن عوف النصري بعد حنينٍ فقالوا: بالطائف. فقال: أبلغوه إن أتاني مسلماً رددت عليه أهله، وأعطيته إبلاً مائةً. فخاف مالكٌ أن تعلم به ثقيفٌ فيحبسوه, فأعد راحلةً على ستة أميالٍ من الطائف، ثم قعد على فرسه حين أمسى، حتى أتى راحلته/ فقعد عليها حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم بالجعرانة فقال مالك بن عوف:(2/455)
ما إن رأيت ولا سمعت بواحدٍ ... في الناس كلهم كمثل محمد
أوفى وأعطى للجزيل إذا انتدى ... ومتى تشأ يخبرك عما في غد
وإذا الكتيبة جردت أنيابها ... بالمشرفي وضرب كل مهند
فكأنه ليثٌ لدى أشباله ... وسط الهباءة خادرٌ في مرصد
فرد عليه السلام عليه أهله وماله، وأعطاه إبلاً مائةً، واستعمله على من أسلم من أهل تلك الناحية.(2/456)
حدثنا أبو خليفة عن ابن سلام قال: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة هرب عبد الله بن الزبعرى/ حتى أتى نجران. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نذر دمه لأنه كان هجاه صلى الله عليه وسلم فقال حسان بن ثابت:
لا تعدمن رجلاً أحلك بغضه ... نجران في عيشٍ أحذ ذميم
وكان سبب الشعر الذي قاله ابن الزبعرى أن المسلمين لما أصيبوا يوم أحد قال يهجو الأنصار:
يا غراب البين أسمعت فقل ... إنما تنطق شيئاً قد فعل
.. يقول فيها:(2/457)
ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا ... جزع الخزرج من وقع الأسل
حين حطت بقباءٍ بركها ... واستحر القتل في عبد الأشل
وجزيناهم ببدرٍ مثلها ... وعدلنا ميل بدرٍ فاعتدل
.. وفيها يقول:
والعطيات خساسٌ بينهم ... وسواءٌ قبر مثرٍ ومقل(2/458)
فلما قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتل ممن كان نذر دمه ضاقت بابن الزبعرى الأرض فأتى رسول الله فأسلم، وقال:
يا رسول المليك إن لساني ... راتقٌ ما فتقت إذ أنا بور
إذ أجاري الشيطان في سنن الغي ومن مال ميله مثبور
آمن اللحم والعظام بما قلت فنفسي الفدى وأنت النذير(2/459)
وقال يعتذر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله الصفح عنه:
منع الرقاد بلابلٌ وهموم ... والليل معتلج الظلام بهيم
لما أتاني أن أحمد لامني ... فيه فبت كأنني محموم
يا خير من حملت على أوصالها ... عيرانةٌ سرح اليدين غشوم
إني لمعتذرٌ إليك من الذي ... سديت إذ أنا في الضلال أهيم(2/460)
أيام تأمرني بأغوى خطةٍ ... سهمٌ وتأمرني به مخزوم
وأمد أسباب الردى ويمدني ... أمر الغواة وأمرهم مشؤوم
فالآن آمن بالنبي محمدٍ ... قلبٌ، ومخطئ هديه محروم
مضت العداوة وانصرت أسبابها ... ودعت أواصر بيننا وحلوم(2/461)
فاغفر فدىً لك والداي كلاهما ... وارحم فإنك راحمٌ مرحوم
فعفا له صلى الله عليه وسلم عن جرمه وآمنه.
حدثنا ابن زكويه قال: حدثنا محمد بن عبد الله عن عطاء بن مصعب قال: حدثنا أبو محرز الحكم بن عبد الكريم عن محمد بن إسحاق قال: كان فيما حدث عبيد بن شرية الجرهمي معاوية بن أبي سفيان من أخبار العرب أن قال: كان النعمان بن المنذر الأكبر ابن امرئ القيس بن عمرو بن عدي بن نصرٍ ملك الحيرة. وكان شديد السلطان كبير العظمة، وهو الذي بنى الخورنق، بناه لبهرام جور(2/462)
ابن يزدجرد الخشن، وكان يزدجرد دفع ابنه بهرام حين ولد له إلى النعمان هذا، فتربى عنده في بلاد العرب، وهو الذي بنى دسكرة الملك.
وكان من شدة سلطان النعمان/ أنه أحب أن يعرف هيبته عند الناس، فعمد إلى كبشٍ، فجعل في عنقه مديةً وسفوداً وزنداً، وجعل على ظهره حزمةً من حطب، ثم خلاه لينظر ما قدره عند الناس، وكيف هيبتهم له؟ وقال: لا يعرض له أحد إلا قتلته. فكان يجول في أحياء العرب لا يعرض له أحد، إذ مر الكبش برجل من بني يشكر، يقال له: أرقم بن علباء، وكان على شرابٍ له مع فتية من قومه، وكان مع ذلك كاهناً. فلما نظر إلى الكبش وإلى سمنه قال: كبشٌ يحمل حتفه بأظلافه، قد حان منه الموت عند اختلافه، فما الذي يمنع من انتسافه؟!.. لافى غنم راعٍ، ولا معه/ أمانٌ من السباع، أساغبٌ فيشبع أم خائفٌ فيمنع؟!.. فظن أنه يكلمه، وأنه شيطان. فلما رآه لا يكلمه وثب عليه فذبحه بالمدية التي كانت معلقة عليه، وأورى ناراً(2/463)
بتلك الزناد، وشواه بذلك الحطب على ذلك السفود، ثم أقبل يأكل مع ندمائه لحماً لم يأكل مثله سمناً.
وبلغ قومه ذلك فخبروه بحال الكبش وقصته، وندموه، وقالوا له: أنت مهلكنا، ومهلك نفسك إن بلغ النعمان الخبر. فانطلق هارباً، وبلغ النعمان الخبر، فكثر تعجبه من جرأته عليه، وأمر بطلبه، فأعياه، فأمر بالكف عنه. فلما علم/ أن الملك قد أمر بالكف عنه تلطف حتى دخل على النعمان مسلماً. فلما سلم قال له النعمان: من أنت؟ قال: أنا أرقم ابن علباء. قال: صاحب الكبش؟ قال: نعم. وكان النعمان إذا دخل عليه رجلٌ من قبل نفسه، وتحرم بالسلام عليه عفا عنه، وإن كان عظيم الجرم. فقال له النعمان: كيف صنعت يا أرقم؟ قال: أبيت اللعن، مربي كبشٌ حالك السواد، فقلت: إليك يا كبش من الإبعاد، إن تكن حافياً تنعل، أو مرملاً تمتع بزاد. فلم يحر إلي هنالك شيئاً من جوابٍ، ولم يناد، وساقه إلى حتفه ما جاء يحمله بظلفه، فإن أك ظالماً بقرفه، فأنت أولى الناس بعطفه. فأمر به ليقتل، فقال أرقم: إن أذن الملك يسمع شعراً قلته، فأذن له في إنشاده، فأنشده قوله:(2/464)
أيا ندمي على الشباب ويا ندم ... ندمت وبان اليوم مني بغير ذم
وإذ لمتي مثل الجناح أثيثةٌ ... أرجلها بالمسك سوداء كالحمم
وإذ إخوتي حولي، وإذ أنا يافعٌ ... وإذ لا أطيع العاذلات من الصمم
ألا بكرت عرسي علي تلومني ... وتزعم فيما رابني أن من ظلم(2/465)
فقلت لها: إلا تناهي فإنني ... أخو الفتك حتى تقرعي السن من ندم
وكنت متى ما ألق كبشاً ببلدةٍ ... على خلوةٍ أشبع كريماً من القرم
تمشى كأن لا حي في الأرض غيره ... ويعلو خراطيم الجراثيم والأكم
تمشى كأن لا حي بالواد غيره ... ولا خلق أعلى منه كعباً وإن عظم
فأصبح في الكور المعلق رأسه ... وأكرعه للنسر والذئب والرخم
وقال صحابي إنك اليوم كائنٌ ... علينا كما كان القدار على إرم(2/466)
له أليةٌ لم تعد عن شط ناقةٍ ... إذا ما مشى فيها ترجرج والتطم
فغادرته من بعد ما كاد صاحبي ... من الجهد يغشاه ظلالٌ من الوحم
فلما اعتلجنا ساعةً فصرعته ... وقلت له: أنت الذليل فلا تقم
وقلت: كلوا من لحمه وتفرقوا ... لشأنكم واللحم يلقى على الوضم
فأي مليكٍ من معدٍ علمته ... يعاقب حراً ذا جلالٍ وذا كرم(2/467)
على ذبح كبشٍ لم يجده ببلدةٍ ... ولا وسط أنعامٍ رتاعٍ ولا غنم
أخوف بالنعمان حتى كأنني ... قتلت له خالاً كريماً أو ابن عم
ويسعى إليه الموسرون ذوو الغنى ... ويهوي إليه المستكين من العدم
فإن يد الجبار ليست بضيقةٍ ... ولكن سماءٌ تقطر الوبل والديم
فعفا عنه الملك وأمر بتخليته.
حدثنا مغيرة بن محمد المهلبي قال: حدثنا الزبير بن بكار قال:(2/468)
حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله عن عبد الله بن عمران بن أبي فروة قال: كان عبد الله بن الحجاج التغلبي ممن أسرف من قيسٍ مع ابن الزبير على عبد الملك بن مروان. فلما قتل ابن الزبير جاء عبد الله بن الحجاج إلى عبد الملك ليلاً وهو يعشي الناس فقال:
منع القرار فجئت نحوك هارباً ... جيشٌ يجر ومقنبٌ يتلمع
فقال عبد الملك: أي الأخابث أنت؟ فقال:
ارحم أصيبيتي هديت فإنهم ... حجلٌ تدرج بالشرية جوع
فقال عبد الملك: أجاع الله بطونهم, فأنت أجعتهم, فقال:
مالٌ لهم مما تظن جمعته ... يوم القليب فحيز عنهم أجمع
فقال عبد الملك: أظنه كسب سوءٍ, فقال:(2/469)
أدنو لترحمني وتقبل توبتي ... وأراك تدفعني فأين المدفع
فقال عبد الملك: إلى النار, فقال:
ضاقت ثياب الملبسين وفضلهم ... عني فألبسني فثوبك أوسع
قال: فرمى إليه عبد الملك بمطرف خز كان عليه./ فقال: آكل يا أمير المؤمنين؟ قال: كل. فأكل ثم قال: أمنت ورب الكعبة, فقال عبد الملك: كن من شئت إلا عبد الله بن الحجاج. قال: فأنا عبد الله ابن الحجاج, وقد أكلت طعامك, ولبست ثوبك, فأي خوفٍ علي؟.. فآمنه عبد الملك وعفا عنه.
حدثنا مغيرة قال: حدثنا الزبير قال: حدثنا عمي مصعب قال: هجا ورد بن عاصمٍ المبرسم الحسن بن زيدٍ, وهو إذ ذاك أمير الحجاز, فقال:(2/470)
له حقٌ وليس عليه حقٌ ... ومهما قال فالحسن الجميل
وقد كان الرسول يرى حقوقاً ... عليه لأهله وهو الرسول
فغضب الحسن, وأمر بطلبه فهرب. فلما ضاقت عليه الأرض لم يشعر الحسن إلا ووردٌ قائمٌ على رأسه, فأنشده:
ستأتي عذرتي حسن بن زيدٍ ... وتشهد لي بصفين القبور
قبورٌ لو بأحمد أو عليٍ ... يلوذ مجيرها حفظ المجير(2/471)
هما أبواك من وضعا فضعه ... وأنت برفع من رفعا جدير
فاستخف الحسن كرمه، فقام عن مجلسه، وبسط رداءه، وأجلسه عليه، وعفا عنه، وأحسن صلته.
حدثنا الجوهري، وحدثني أبو عبد الله الأطروش قالا: حدثنا ابن شبة قال: حدثنا أحمد بن معاوية قال: حدثنا الهيثم بن عدي عن مجالد وابن عياش عن/ الشعبي قال: لما انهزم ابن الأشعث ضاقت بي الأرض، وكرهت ترك عيالي وولدي، فلقيت يزيد بن أبي مسلم حاجب الحجاج، وكان لي صديقاً، وكانت الصداقة تنفع عنده، فقلت: قد عرفت الحال بيني وبينك، وقد صرنا إلى ما ترى.(2/472)
فقال: أبا عمرو! إن الحجاج لا يكذب، ولا ينبح، ولا يعاوى. ولكن قم بين يديه، وأقرر بذنبك، واستشهدني على ما شئت.
قال: فوالله ما شعر إلا وأنا قائمٌ بين يديه، فقال: أعامر؟ قلت: نعم أصلح الله الأمير. قال: ألم أقدم العراق فأحسنت إليك، وأدنيتك، ووفدتك إلى أمير المؤمنين واستشرتك؟!/ قلت: بلى. قال: فأين كنت من هذه الفتنة؟ قلت: استشعرنا الخوف، واكتحلنا السهر، وأحزن بنا المنزل، وأوحش الجناب وفقدنا الإخوان، وشملتنا فتنةٌ لم نكن فيها بررة أتقياء، ولا فجرةً أقوياء، وهذا يزيد بن أبي مسلمٍ قد كان يعرف عذري، وكنت أكتب إليه، فقال يزيد: صدق أصلح الله الأمير، قد كان يكتب إلي بعذره، ويخبرني بحاله. فقال الحجاج: هذا الآمن ضربنا بسيفه، ثم جاءنا بالأكاذيب.. كان وكان.. ثم قال لي: انصرف إلى أهلك راشداً.
ثم وجهني إلى المفضل بن المهلب بخراسان فعرضت الناس،(2/473)
فلما رجعت قال لي: كيف/ رأيت أهل العراق؟ قلت: رأيتهم بقعاً. قال: وما البقع؟! قلت: رأيت في ثوب الرجل رقاعاً غير متشابهات. فقال:
لقد قتلت بني بكرٍ بربهم ... حتى بكيت وما يبكي لهم أحد
يا بن أبي مسلم! مر لهم بعطاءين.. ثم وجهني إلى المفضل ثانيةً، فأمر لي بألف حريرةٍ كيمخاز. فأعطيت بكل حريرةٍ مائة درهم. فجعلت أصرف تلك الدراهم.. لفلان كذا ولفلان كذا، وأفعل كذا.. إذ قدم علينا قتيبة بن مسلمٍ، فأخذ المفضل فحبسه، وقبض على كل شيء له. وقبض الألف الحريرة فيما قبض. فقلت: أبا حفص! قد(2/474)
علمت رأيي ومودتي، قال: أما الألف الحريرة فوالله/ ما هي لك عندي. قلت: فاكفني هدايا الحي. قال: لك مائة حريرة!.. فقبضتها.
حدثني أبو محمد الأطروش قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثني الباهلي عن مجالد، وابن عياش عن الشعبي مثله.
حدثني أبو محمد حمدون النديم عن أبيه أحمد بن حمدون بن إسماعيل النديم قال: هجا أبو الهول الفضل بن يحيى بن خالد، فطلبه الفضل، فهرب عنه برهةً من الدهر، ثم لم يشعر الفضل إلا وأبو الهول قائمٌ على رأسه، فقال: أأبو الهول؟ قال: نعم. قال: ويلك بأي وجه تلقاني وقد هجوتني؟ قال: بالوجه الذي ألقى به ربي، وذنوبي إليه أكبر من ذنوبي/ إليك، على أني أقول فيك أيها الأمير:(2/475)
وكيف ينام الليل ملقٍ وساده ... على مدرجٍ يعتاده الأسد الورد
كساني وعيد الفضل ثوباً من البلى ... وإيعاده الموت الذي ما له رد
فكن راضياً لا تبتغي منه غيره ... وشأنك فيما كنت عودتنا بعد
فاستدناه الفضل وقال: قد عفونا عنك. وأمر له بجائزة سنيةٍ، وقال: نعود إلى ما كنا عودناك من الإحسان يا أبا الهول!..
حدثنا الجوهري عن ابن شبة قال: أخبرنا المدائني قال: كان فيمن خرج على الحجاج مع ابن الأشعث يوسف بن عبد الله بن أبي العاص الثقفي. فلما انهزم ابن الأشعث يوم الجماجم هرب(2/476)
يوسف، ثم لم يشعر الحجاج إلا به ماثلاً بين يديه، وأهله آيسون منه. فلما رآه الحجاج قال: ثكلتك أمك. قال: وأبي مع أمي. قال: أين أقلتك الأرض بعدي؟ قال: ما قمت بعدك مقاماً أوسع من مقامي هذا. إن الله استعملك علينا.. فأبينا فأبى علينا فآمنه وعفا عنه.
حدثنا أبو الفياض سوار بن أبي شراعة قال: حدثنا الرياشي قال: طلب إبراهيم بن عربي والي اليمامة فروة بن حميضة الأسدي، بجناية، فهرب منه، فجعل يجول في البوادي حيناً، ثم لم يشعر إبراهيم إلا وفروة قائماً/ على رأسه، فأنشأ يقول:
إليك أبا إسحاق جابت بنا الفلا ... حراجيج أمثال السرائح ذبل(2/477)
إليك هاربنا منك إذ لم يكن لنا ... إذا ما هربنا منك في الأرض موئل
فما بركت إلا قليلاً بروكها ... وما هي إلا في حراكٍ تعقل
أعوذ بجديك الكريمين أن أرى ... إلى السجن أو أمر الفضيحة أعتل
وأن تشمت الأعداء بي حين أقبلت ... عيونهم من أيمناتٍ وأشمل
فإن كنت مقتولاً فيا ليت أنني ... بكفيك إن لم يعفني الله أقتل
لتحرز لحمي أن يضيع، وميتةٌ ... بكفيك من موتٍ بغيرك أجمل
..فآمنه، وعفا عنه، وخلع عليه.
حدثني أبي قال: حدثنا أبو حاتم عن أبي عبيدة، وحدثنا/ الجوهري عن ابن شبة عن غير واحد من رجاله بأسانيد مختلفة،(2/478)
قالوا: لما فرغ علي بن أبي طالب عليه السلام من حرب الجمل سار إلى الكوفة، واستخلف عبد الله بن العباس على البصرة وزياداً على بيت مالها والديوان.
ثم إن عبد الله بن عباس خرج إلى علي عليه السلام حتى شهد معه صفين، واستخلف عبد الله بن عباس أبا الأسود الدؤلي على الصلاة، ثم لحق أبو الأسود بعد ذلك بعلي عليه السلام فشهد معه صفين، واستخلف زياداً على الصلاة مع ما كان عليه، فبعث معاوية ابن أبي سفيان عبد الله بن عامرٍ الحضرمي. وهو حليف بني أمية/ وابن أختهم، أمه أرنب ابنة كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس، وأمره أن يبطن بالبصرة، ويدعو إليه شيعته، فإن قوي على البصرة أخذها له.(2/479)
فأقبل حتى نزل دار سنيبلٍ. ودعا إلى معاوية، فاتبعه ناسٌ كثير، فيهم ذراع بن بدرٍ أخو حارثة بن بدر وعبد الله بن خازمٍ السلمي، فهرب زيادٌ من دار الإمارة، ومعه نحو خمسين رجلاً من شيعته، فيهم جرير بن شريسٍ أبو أبي حاضرٍ الأسيدي حتى أتى صبرة بن شيمان الحداني، فأنجاه صبرة. فلما كانت الجمعة أخرجه إلى مسجد الحدان، فصلى بهم وخطب. وكان يصلي بهم الصلوات، ويصنع الطعام في مسجد الحدان، فيأكلون.
فكتب إلى علي بن أبي طالب بالخبر.. .. ويستمده، فبعث(2/480)
إليهم أعين بن ضبيعة المجاشعي, فقدم البصرة لقتالهم, فقاتلهم, فلم يقو عليهم, وظفروا به, فلجأ إلى صبرة بن شيمان, وبه جراحٌ فمات. ويقال: طرقه نفرٌ من الخوارج, فضربه أحدهم فأبان يده, ووثب أعين, فركب فرسه عرياً, وهو عريانٌ يجري به فمات.
فيقال: إن ذلك لحقه بدعوة عائشة عليه, وذلك أنه قام يوم الجمل: لقد رأيت صاحبتكم حميراء. فبلغ قوله عائشة, فقالت: اللهم اهتك ستره واقتله بدار مضيعةٍ.
وقال بعض الشعراء:
ودعا أعينٌ وقد شرعت فيه العوالي فغادروه عقيرا(2/481)
وكتب زياد إلى علي عليه السلام بمقتل أعين, فوجه جارية بن قدامة السعدي وشريك بن الأعور الحارثي, وقال: كن يا شريك في قومك, وأنت يا جارية في قومك. فأما شريكٌ فأقام, وأما جارية فسار فيمن اتبعه إلى ابن الحضرمي, وهو في دار سنيبل, فحصرهم, وأغلقوا الباب على أنفسهم, وهم يومئذٍ أربعون رجلاً, فيهم عبد الله بن خازمٍ السلمي.فجاءت أمه عجلى, وكانت حبشيةً,/ فنادت ابنها وقالت: انزل, فقال: لا أنزل. قالت: إني والله ألقي خماري. قال: وإن ألقيتيه، فألقت خمارها وقالت: انزل. قال: لا أنزل. قالت: إني والله أتعرى، فقال له ابن الحضرمي: انزل إليها، فنزل.(2/482)
ودعا جارية بالبواري وأطنان القصب, وأضرم فيها النيران, فاحترقت الدار بمن فيها, ولم ينج إلا عبد الله بن خازم, واحترق ابن الحضرمي وذراع بن بدر والأربعون الرجال الذين كانوا فيها, فقالت أم عبد الله بن خازم تمتن على ابنها, وأنها نجته من أن يحترق:
الله نجاك فشكراً شكرا ... من حر نيرانٍ سعرن سعرا
وعطف أمٍ لم تجدك برا ... لو كنت تجزيها بشفعٍ وترا
لم تلق في دنياك عيشاً مرا
وقال حارثة بن بدر يرثي أخاه ذراعاً:
إذا داعي الحمام دعا هديلاً ... خلال الأيك ذكرني ذراعا
فداك أخ إذا ما زاد خيراً ... أصر وزاده ذاك امتناعا(2/483)
وقال أيضاً يرثيه:
شيب رأسي قبل حين مشيبه ... رعود المنايا حولنا وبروقها
رأيت المنايا بادئاتٍ وعوداً ... إلى دارنا سهلاً إلينا طريقها
وإنا لتستحلي المنايا نفوسنا ... ونترك أخرى مرةً لا نذوقها
لنا نبعةٌ كانت تقينا فروعها ... فقد ذهبت إلا قليلاً عروقها
وقد قسمت نفسي فريقين: منهما ... فريقٌ مع الموتى, وعندي فريقها
فعيني إن أنفذتما الدمعة فاسجما ... دماً.. .. خير خلان المصافي صديقها(2/484)
ولا تنسيا ذكر ابن بدرٍ أصابه ... بكور المنايا عدوها وطروقها
وبينا تقول النفس أفعل في غدٍ ... كذا أو كذا فاستعلقتها علوقها
وعيرت العرب حارثة بن بدر باحتراق أخيه, فكانت تقول:
يا حر كفي على ذراع ... على أخي حارثة المضاع
وقال الأبيرد الرياحي يهجوه باحتراق أخيه, ويعيره بأنه قعد عن الطلب بثأره:(2/485)
أحارث عاود شربك الخمر إنني ... رأيت زياداً عنك أصبح جافيا
ومثلك من أولاد عقرب فاسقٌ ... رمينا به جحماً من النار حاميا
أخذناه قسراً والرماح تنوشه ... جهاراً فأدرجنا عليه البواريا
فحمي حارثة فعدا على رجل من أصحاب علي بن أبي طالب صلوات الله عليه, فقتله, وخرج يخيف السبيل, ويفسد في الأرض, فطلبه علي عليه السلام, ثم إنه تاب فأتى أشراف الكوفة فخبرهم بتوبته, واستشفع بهم إلى علي عليه السلام فقيل له: إيت(2/486)
سعيد بن قيسٍ. فأتى سعيداً, فانطلق إلى علي عليه السلام فقال له: يا أمير المؤمنين! اقرأ هذه الآية: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله..} فقرأها حتى أتمها, فقال له سعيدٌ: إلا من؟..قال: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم} فقال: يا أمير المؤمنين! من تاب من قبل أن تقدروا عليه تصنعون به شيئاً؟ قال: لا. قال: فإن حارثة بن بدرٍ تاب ورجع. قال: أين هو؟ قال: عندي. قال: أرسل إليه. فأرسل إليه, فقال: يا أمير المؤمنين! إني قد تبت, وعلم ذلك قومي. قال: أكذلك؟ قال: نعم. قال: فقد أمنت. قال: يا أمير المؤمنين! إني لست من أهل البلد. وإنما أنا من أهل البصرة, ولا يعلمون بتوبتي, فكتب له: ((بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عماله.. من لقي حارثة بن بدر, فإنه قد تاب فلا يعرضن له إلا بخير)).
وقال حارثة يمدح سعيداً:(2/487)
الله يجزي سعيداً خير نافلةٍ ... أعني سعيد بن قيسٍ رب همدان
أنقذني من شفا غبراء مظلمةٍ ... لولا شفاعته ألبست أكفاني
قالت تميم بن مرٍ: لا نخاطبه ... وقد أبت ذاكم قيس بن عيلان
فساغ في الحلق ريقٌ كنت أجرضه ... وأظهر الله سري بعد كتماني
إني تداركني عفٌ شمائله ... آباؤه حين ينمي خير قحطان
وقال:
ألا أبلغن همدان حيث لقيتها ... سلاماً, ولا يسلم عدوٌ يعيبها(2/488)
ونبئتها تخشى الإله وتتقي ... مآثم ما يتلو الكتاب خطيبها
ولما خرج شيعه سعيدٌ بقومه حتى بلغ النهر، فقال:
لقد سررت غداة النهر إذ طلعت ... شيوخ همدان، فيها المجد والخير
يقودهم ملكٌ جزلٌ مواهبه ... جنابه الدهر يضحي وهو ممطور(2/489)
(9) باب تكرم الأشراف في العفو عن الأسرى وغيرهم من ذوي الجنايات
حدثني محمد بن الحسن بن حماد البلغي قال: حدثنا محمد بن الحسن التسنيمي عن ابن الكلبي عن أبيه قال: أغار عمرو بن كلثوم التغلبي على حي من بني سعد بن زيد مناة بن تميم، فأصاب فيهم. وكان فيمن أصاب/ الأحمر بن جندلٍ الشاعر، ثم مر من فوره حتى أغار على بني قيس بن ثعلبة، فملأ يده منهم، فأصاب أسارى وسبياً، ثم سار حتى أتى بني حنيفة بن لجيمٍ(2/491)
باليمامة، فكان أول من أتاه من بني حنيفة بنو سحيمٍ، عليهم يزيد ابن عمرو بن بشرٍ. فلما رآهم عمرو بن كلثوم قال:
من عال بعد هذه فلا اجتبر ... ولا سقى ماء ولا رعى شجر
بنو لجيمٍ وجعاسيس مضر ... بجانب الدو يدهدون الفكر
فانتهى إليه يزيد بن عمرو بن بشر، فطعنه طعنةً أذراه عن فرسه، ولم تخلص الطعنة إلى مقتله، ثم أسره. وكان يزيد رجلاً(2/492)
شديداً جسيماً، فشده/ بالقد، وقال: أنت الذي تقول:
متى تعقد قرينتنا بحبلٍ ... نجذ الحبل أو نقص القرينا
أما إني سأقرنك بناقتي هذه، ثم أطردكما جميعاً!.. فنادى عمرو: يالربيعة! أمثلةٌ؟!.. فاجتمعت بنو لجيمٍ إليه فنهوه، ولم يكن يريد به ذلك، ثم سار حتى انتهى إلى حجرٍ –وهي قصبة اليمامة- فأنزله قصراً من قصورها، وضرب عليه قبةً، ونحر له، وسقاه، وحمله على بعير!.. فتغنى عمرو بن كلثوم حين أخذت منه الخمر:(2/493)
أأزمع صحبتي سحراً زيالا ... ولم أزمع ببينٍ منك هالا
/ ولم أر مثل هالة في معدٍ ... يشبه حسنها إلا الهلالا
ألا أبلغ بني جشم بن بكرٍ ... وتغلب كلها خبراً جلالا
فإن الماجد البطل ابن عمروٍ ... غداة نطاع قد صدق القتالا
جزى الله الأجل يزيد خيراً ... ولقاه المسرة والجمالا(2/494)
فمن عليه، وأطلقه بغير فداء!
حدثنا ابن زكويه قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن قال: حدثنا مطرف بن عبد الله الكناني عن ابن دأب أن عبد الملك بن مروان جهز جيشاً إلى أفريقية، فبينا هو يعرض الناس إذ مر به فتىً شابٌ جميلٌ على فرس رائعٍ كريم، فنظر إليه عبد الملك/ وكان مديد القامة أيد الخلق، فقال له: أتغزو إلى أفريقيةً على عطائك هذا، وهو ثلاثون ديناراً؟!.. قال: نعم. قال عبد الملك: فأين أنت عن قول ابن إسافٍ الأنصاري:
اعص العواذل وارم الليل عن عرضٍ ... بذي سبيبٍ يقاسي ليله خببا(2/495)
حتى تصادف ملكاً أو يقال فتىً ... لاقى التي تشعب الفتيان فانشعبا
قال: فعرف الفتى ما عنى عبد الملك فقبض عطاءه، وخرج يقطع الطريق. فلم يزل على ذلك حتى قطع على مالٍ لعبد الملك قدم به من العراق، فبعث الخيل في طلبه، فأخذ، وأتي به وهو لا يعرفه، فأمر به أن تضرب عنقه، فقال: يا أمير المؤمنين! أخلني/ أكلمك فإن لي قصةً، فأخلاه، فقال: أنا الفتى الذي قلت لي كذا وكذا، وأنشده البيتين، فذكر الحديث، فخلى سبيله.
حدثنا ابن زكويه قال: حدثنا العتبي عن أبيه قال: كان مالك ابن الريب يصيب الطريق، فبلغه أن بشر بن مروان جادٌ في طلبه، فقال:(2/496)
لو كنتم تعرفون الود قلت لكم ... يا آل مروان جاري منكم الحكم
نحن الذين إذا نابت مجللةٌ ... قلتم لنا: إننا منكم لتعتصموا
حتى إذا ما انجلت عنا عمايتها ... كنا كجرمٍ فلا إلٌ ولا رحم
فلم يزل يطلبه حتى أتي به، فرأى لساناً وبياناً وظرفاً، فقال: ويحك! والله إني لأرى فيك ما أرى في رجلٍ!../ وإني لأنفس بك على الموت، فما يحملك على قطع الطريق؟!.. قال: العجز عن مكافأة الإخوان. قال: أفرأيت إن عفوت عنك، وأغنيتك أتعف؟.. قال:(2/497)
إي والله عفةً ما عفها أبو ذرٍ قط. قال: فعفا عنه، وأعطاه، وأغناه، وأفضل عليه. فلما مات بشرٌ عاد إلى قطع الطريق.
حدثنا أحمد بن العزيز الجوهري قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثنا علي بن محمد عن سعيد بن خالد بن عبد الله بن الحسن قال: قال مروان وهو أميرٌ على المدينة: ما رأيت رجلاً أكرم عفواً من علي بن أبي طالب صلوات الله عليه! التقينا يوم/ الجمل، فتناوشنا ملياً من النهار، ثم حمل بعضنا على بعض. فلما انهزم الناس نادى منادي علي عليه السلام: لا تجيزوا على جريحٍ، ولا تتبعوا مولياً، ومن ألقى سلاحه فهو آمنٌ، ومن أغلق عليه بابه فهو آمنٌ.. فدخلت داراً، فكنت فيها، فلما قدمت عائشة تحولت إليها، ثم أرسلت إلى الحسن بن علي وابن جعفر فأخذا لي أماناً.
ويقال: إن علياً لما أتي بمروان سبه، وقال: ألم تبايعني بعد قتل(2/498)
عثمان؟ فقال مروان: والله ما أبالي ما أتاني به الدهر.. كانت لي ثلاث أنفسٍ، أعزها علي عثمان، قتلته، والثانية عيشي وقوام وجهي، / أخذته، وبقي أهونهن علي، فما أبالي متى أتيت عليها؟.. فقال عليٌ عليه السلام: أما عثمان فإني لم أقتله، وأما مالك فمن أخذه؟ قال: أعوانك. قال: خذه حيث عرفته، فلا حاجة لنا به، ولا حاجة لنا بنفسك. ولتحملن لواء ضلالةٍ بعدما تشيب ذراعك.
حدثنا أبو جعفر الطحاوي قال: حدثنا أبو زيد يوسف بن يزيد قال: حدثنا سعيد بن منصور قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن جعفر بن محمد عن أبيه علي بن الحسين صلوات الله عليه أن مروان قال وهو أمير المدينة يومئذ: ما رأيت أحداً كان أحسن غلبةً من/ أبيك علي بن أبي طالب صلوات الله عليه! ألا أحدثك عن غلبته إيانا يوم الجمل؟.. قلت: الأمير أعلم.(2/499)
قال: لما التقينا يوم الجمل تواقفنا، ثم حمل بعضنا على بعض، فلم يلبث أهل البصرة أن انهزموا، فصرخ صارخٌ لعلي –عليه السلام-: لا تقتلن مدبراً، ولا تذففوا على جريحٍ. ومن أغلق داره عليه فهو آمنٌ، ومن طرح السلاح فهو آمنٌ. وقد كنت دخلت دار فلان، ثم أرسلت إلى الحسن والحسين ابني علي عليهم السلام، وعبد الله بن عباس وعبد الله بن جعفر عليهم السلام، فكلموه، فقال: هو آمنٌ، فليتوجه حيث شاء. قال: فقلت: لا والله حتى/ أبايعه، فبايعته، ثم قال: اذهب حيث شئت!..
حدثنا محمد بن إسماعيل الصائغ قال: حدثنا سعيد بن سليمان قال: حدثنا أنس بن عياض عن جعفر بن محمد عن أبيه بنحوه.
حدثنا الجوهري قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثنا أبو عاصمٍ النبيل قال: صرع محمد بن علي بن أبي طالب –صلوات الله عليه- مروان بن الحكم يوم الجمل، وقعد على صدره. فلما وفد إلى(2/500)
عبد الملك بن مروان قال له: أتذكر يوم جلست على صدر مروان؟ قال: عفواً يا أمير المؤمنين! قال: أما والله ما ذكرت لك ذلك وأنا أريد أن أكافئك/ به، ولكن أردت أن تعلم أني قد علمت.
حدثني محمد بن الحسن بن دريد قال: حدثنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال: أسر حنظلة بن عمارٍ من بني شريب بن ربيعة ابن عجلٍ في يوم الوقيط -وكان لبني عجلٍ على بني تميم- جويرية بن بدرٍ من بني عبد الله بن دارمٍ، فلم يزل في الوثاق حتى رآهم ذات يوم وقد قعدوا يشربون، فرفع عقيرته يتغنى:
وقائلةٍ: ما غاله لا يزورنا ... وقد كنت عن تلك الزيارة في شغل
وقد علقتني والحوادث جمةٌ ... مخالب قومٍ لا لئامٍ ولا عزل(2/501)
لعلهم أن يمطروني بنائلٍ ... كما صاب ماء المزن في البلد المحل
فقد ينعش الله الفتى بعد عثرةٍ ... وتصطنع النعمى سراة بني عجل
فلما سمعوه أطلقوه بغير فداء!..
وروى أبو عبيدة أن الصمة بن الحارث بن ربيعة من بني معاوية ابن بكر بن هوازن أغار على بني زبيدٍ، فسبى ريحانة بنت معد يكرب أخت عمرو بن معد يكرب فنادته ليستنقذها، فذلك قوله:(2/502)
أمن ريحانة الداعي السميع ... يؤرقني وأصحابي هجوع
براني حب من لا أستطيع ... ومن هو للذي أهوى منوع
وكل محرشٍ في حب سلمى ... يعل بعيبها أفلي مطيع
إذا لم تستطع شيئاً فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع
/ فأولدها عبد الله ودريداً ابني الصمة فأغار بعد ذلك(2/503)
بحينٍ عمرو بن معد يكرب على بني جشم، فأسره عبد الله ابن الصمة، فمن عليه، وأطلقه بغير فداءٍ، فقال عمرٌو:
من والإحسان من عاداته ... وثنته الرحم من أم نزور
ذاك عبد الله في بيت العلا ... ما لعبد الله في قيسٍ نظير
أسدٌ يرفل في الحرب إذا ... كبت الخيل لنابيه صرير
حدثنا البلغي عن أبي حاتم عن أبي عبيدة قال: أسر زفر بن(2/504)
الحارث الكلابي القطامي الشاعر في بعض حروب قيسٍ وتغلب، فجعل فرسان قيس/ يتفلتون إلى القطامي ليقتلوه، فتخلصه زفر، ومن عليه، ووهب له مائة ناقةٍ، وأطلقه، فقال يمدحه:
من مبلغٌ زفر القيسي مدحته ... عن القطامي قولاً غير إفناد
إني وإن كان قومي ليس بينهم ... وبين قومك إلا ضربة الهادي
مثنٍ عليك بما أوليت من حسنٍ ... وقد تعرض مني مقتلٌ باد(2/505)
ولست أنسى مقام الورد تحبسه ... بيني وبين حفيف العائد الغادي
إذ الفوارس من قيسٍ بشكتهم ... حولي شهودٌ، وما قومي بأشهاد
فإن قدرت على يومٍ جزيت به ... والله يجعل أقواماً بمرصاد
فقال زفر: لا قدر الله لك ذلك اليوم.
ومن هذه القصيدة:
/ ما للكواعب ودعن الحياة كما ... ودعنني واتخذن الشيب ميعادي(2/506)
أبصارهن إلى الشبان مائلةٌ ... وقد أراهن عني غير صداد
إذ باطلي لم تقشع جاهليته ... عني ولم يترك الخلان تقوادي
يقتلننا بحديثٍ ليس يعلمه ... من يتقين ولا مكنونه باد
فهن ينبذن من قولٍ يصبن به ... مواقع الماء من ذي الغلة الصادي
حدثني أبي عن أبي حاتم عن أبي جعفر أحمد بن الحارث الخزاز عن الهيثم بن عدي عن ابن عياش عن أبيه قال: لما انهزم ابن الأشعث يوم دجيلٍ هرب عبد الله بن إسحاق بن الأشعث إلى البصرة، ثم خرج منها يريد عبد العزيز بن مروان بمصر،(2/507)
وكان/ ابن خالته. أم عبد العزيز ليلى بنة زبان بن الأصبغ الكلبية، وأم عبد الله بن إسحاق البيضاء بنت زبان بن الأصبغ. قال: وخرج معه عمر بن عبد الله بن يزيد الخطمي وغوث بن مسعودٍ الكلبي وفطيسٌ الجهني.
وكان عبد الملك كتب إلى الأطراف والمياه ألا ينكروا أحداً مر بهم إلا أخذوه. فمر عبد الله بن إسحاق وأصحابه بماءٍ لبني القين بن جسرٍ، يقال له: أبيرٌ، فأنكروهم حين رأوا بزتهم، ووجدوا روائح المسك منهم، فقالوا: ممن أنتم؟ قالوا: تجارٌ. قالوا: أين تريدون؟ قالوا: نريد مصر. قالوا: ما للتجار يفوح منهم ريح المسك؟ وما لهم/ ولباس الخز؟!.. فأخذوهم، فشدوهم وثاقاً، ثم قدموا بهم على عبد الملك وهو بحمص، فأمر بسريرٍ له عظيمٍ، فوضع في مرج حمص.
وكان عبد الملك رجلاً آدم، تحسن عليه الصفرة، فخرج(2/508)
وعليه جبةٌ صفراء، وعمامةٌ صفراء، وكساء خز أصفر، ودفعت إليه خيزرانةٌ صفراء، ثم قال: علي بهم، فقدم إليه عبد الله بن إسحاق، وعليه جبة خز وعمامة خز، فقال: أعبد الله! قال: نعم. قال: ألم أقدم العراق وأنت في ستمائةٍ من العطاء، فألحقتك في ألفين؟ قال: بلى. قال: وحملتك على دابةٍ من دواب رحلي؟ قال: بلى. قال: وأمرت بشر بن مروان/ أن يثبتك في صحابته، ويجري عليك في خاصته، ففعل، ثم شخصت إلى الشام، فبلغني أنه عتب عليك في بعض ما يعتب الوالي على رعيته، ما علمت أنك أحمق من أهل بيت حمقٍ ولؤمٍ!.. فكتبك في بعثٍ إلى أصفهان، فكتبت إليه أعزم عليه أن يعفيك من البعث، ويعيدك إلى صحابته، ويجري عليك في خاصته، ففعل؟!.. قال: بلى. قال: ثم أخذت رسولي بالكوفة، فقطعت يده ورجله، وصلبته منكوساً؟ قال: بلى. قال: ثم جئتني ينفج منك ريح المسك، تسحب جباب الخز، لذيلك إعصارٌ، ترجو عندي الهوادة والهدنة!.. ثم قال:(2/509)
أبعد الذي بالنعف نعف كويكبٍ ... رهينة رمسٍ ذي ترابٍ وجندل
أذكر بالبقيا على من أصابه ... وبقياي أني جاهدٌ غير مؤتل
أنختم علينا كلكل الحرب مرةً ... فنحن منيخوها عليكم بكلكل
فلا يدعني قومي لزيد بن مالكٍ ... لئن لم أعجل ضربةً أو أعجل
قم يا أبا العباس -لرجل من الألهان من الحرس- فاضرب عنقه، ودع عليه من ثيابه ما يواري عورته. فلما ولى جعل يصيح،(2/510)
فقال عبد الملك: ما يقول؟ قال: زعم أن له أماناً!.. قال.. ممن؟ قال: من عبد العزيز بن مروان. قال: كذب، لم يؤمنه عبد العزيز، وما لعبد العزيز يجير علينا؟.. ولو فعل ما أجرناه. قال: فقدمه فضرب عنقه.
/ ثم أتي بغوث بن مسعودٍ الكلبي، فقال: أغوث! قال: نعم. قال: ألم يأت بك ابن زبان، يزعم أنك عبده، فقلت: إني أرى جلدةً عربيةً، ولساناً عربياً، وهو ابن عم خيرٌ لك من عبدٍ. فاشتريتك منه، فألحقتك عربياً، وفرضت لك في أربعين ديناراً، ثم وجهت إلى الوليد بن عبد الملك إلى الصائفة، فأمرته أن يجعلك من بشرائه فقدمت علي، فزدتك في عطائك، وأحسنت إليك؟ قال: بلى. قال: ثم واليت عدوي علي، ثم أتيتني -لا أم لك- تطلب العذر!.. يا أبا العباس، قم إليه، فاضرب عنقه، واترك عليه من ثيابه ما يواريه. فقدمه، فضربت/ عنقه.
ثم أتي بعمر بن عبد الله بن يزيد، وكان صهر عبد الله بن إسحاق، فقال: من أنت؟ قال: أنا عمر بن عبد الله بن يزيد(2/511)
الخطمي. قال: قبيلةٌ سيئةٌ والله ما علمت. قال: يا أمير المؤمنين! أنشدك الله ووصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأنصار قال: وما وصيته فيهم؟ قال: أن يقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم. فقال: سمعاً وطاعةً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم .. خليا سبيله!..
ثم أتي بفطيسٍ الجهني فقال: أفطيس! قال: نعم. قال: ويلك ما لك ولهؤلاء؟! فقال: يا أمير المؤمنين! كان وكان.. قال: ويلك إنما أنت حمال قومٍ ودليلهم، / فما لك ولهؤلاء القوم؟!.. قال: ومعه بنيٌ له، فجعل يقول: يا أبتاه.. يا أبتاه فقال عبد الملك: من هذا الصبي؟ قال: ابني يا أمير المؤمنين، قال: فرحم عبد الملك الصبي، وقال له: أتحب أن أهبه لك؟ قال: نعم. قال: فهو لك.. خليا سبيله.. فخلي!.
حدثني عبدان بن محمد قال: حدثنا العباس بن هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبيه قال: خرج زيد الخيل يطلب(2/512)
نعمةً له في بني بدرٍ، فبينا هو عندهم أغار عليهم عامر ابن الطفيل، فاستاق نعمهم وسبى امرأة وسار. فلما ظن أنه قد أعجزهم نزل، فقسم مرباعه/ ووضع رأسه في حجر المرأة فقال لها: ما ظنك بقومك؟ قالت: ظني بهم أنهم يلحقونك فيستنقذوني. فحطأ بيده ظهرها، أي ضرب على ظهرها، وقال: ما تقول استها شيئاً.
وجاء صريخ بني بدرٍ، فقال لزيد: ما كنا قط أحوج إلى نعمتك منا اليوم. فاركب معنا. فركب معهم، واتبعوا عامراً، فلحقوه ورأسه في حجر المرأة، فقام، فركب، وكان أول من لحقه زيد الخيل، فقال له: استأسر. فقال له: من أنت؟ قال: أحد بني فزارة. قال:(2/513)
ما أنت من الفلج أفواهاً. قال: فأنا رجلٌ من بني أسدٍ. قال: لا والله ما أنت من المكلئزين على ظهور/ الخيل. قال له: فأنا زيد الخيل. وكان زيد الخيل جميلاً جسيماً طوالاً, إذا ركب الفرس الجسام خطت رجلاه في الأرض لطول باديه. فقال: الآن صدقت. فاستأسر، وارتد زيد كل ما أخذ منهم وقال لعامرٍ: والله لا أطلقك أو يسأل فيك علقمة بن علاثة وكان ابن عمه وعدوه- فقال: نشدتك الله إن حكمته في، وهذه ناصيتي لك(2/514)
فاجززها، وامنن علي!.. فتكرم زيدٌ، فأطلقه بغير فداء، وذلك قوله:
إنا لتكثر في قيسٍ وقائعنا ... وفي تميمٍ وهذا الحي من أسد
وعامر بن طفيلٍ قد نحوت له ... صدر القناة بماضٍ غير ذي أود
حدثني ابن دريد قال: حدثنا أبو حاتم عن الأصمعي قال: حدثنا الحارث بن مصرفٍ أو غيره من أصحابنا في زمن أبي جعفر قال: لما كان في يوم سلى وساجرٍ طرد شقيق بن(2/515)
جزء بن رياحٍ الباهلي حكيم بن ضرارٍ الضبي. فلما أدركه ليأسره قال له: اربع علي يا بن البروك. فقال شقيقٌ: الذي بيننا أجل من السباب. فقال: معذرة ً إلى الله، لو علمت لها اسماً غيره ما دعوتها إلا به. فقال: اذهب بسلام!.. وقصر عنه حتى نجا.
و ((البروك)): التي تزوج وقد أدرك ابنها وتحرك. قال الأصمعي: واستشهد شقيقٌ يوم اليرموك، وهو الذي يقول:
/ أرى أم بشرٍ دمعها قد تحدرا ... بكاءً على بشرٍ وما كان أصبرا
إذا نحن سرنا خمس عشرة ليلةً ... وراء الجساس من مدافع قيصرا(2/516)
وقال في يوم ساجرٍ وسلى:
أقر العين ما لاقوا بسلى ... وروضة ساجرٍ ذات العرار
تقصد في متونهم العوالي ... وتمضي السمهرية في انئطار
وأفلت من أسنتنا حكيمٌ ... جريضاً مثل إفلات الحمار(2/517)
وعاد عليه أن الخيل كانت ... طرائق بين منقيةٍ ووار
ولما أن رأيت أبا جديرٍ ... صريع القوم حق به حذاري
ولم أك تاركاً ثأراً عليه ... ولم يك نافعي إلا اثئاري
تركت الطير حائمةً عليه ... كما عطف النساء على دوار(2/518)
/قال: وأدرك حكيمٌ الإسلام حتى وفد على معاوية، فقال له معاوية: أي يومٍ مر بك أشد؟ قال: يوم طردني شقيق بن جزءٍ قال: فأي يومٍ مر بك أحب إليك؟ قال: يوم هداني الله للإسلام.
ومثله ما حدثني به أبي عن أبي حاتمٍ قال: حدثنا أبو اليقظان قال: لما دخل الحجاج الكوفة بعد وقعة دير الجماجم فعرض أهلها، أتي بأم عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث ابنة سعيد ابن يزيد بن قيس بن مرتٍ الهمذاني، فقال لها: أخذت مال الله، وجعلته تحت ذيلك! فقال عنبسة أصلح الله الأمير، كأنه خشي أن يقول: تحت استك! فقال:/ ما كنت لأقول هذا.(2/519)
وأما الأصمعي فذكر أنه قال للشرطي: قل لها: أخذت مال الله، وجعلته تحت ذيلك! قال: فقال الشرطي: تحت استك!.. فقال الحجاج، واستحيا: سبحان الله! سبحان الله!.. ما هكذا قلت، خلوا سبيلها.
ومثله.. روى أبو عبيدة أن تغلب في آخر البسوس، بعد ما قتل مهلهل أغارت على بكرٍ، ورئيسهم كثيف بن حيي فهزمتهم بكرٌ، فلحق بكثيفٍ مالك بن كومة. فلما رآه كثيفٌ، وكان رجلاً أيداً شديد الخلق، انقحم عن الفرس، ورمى رمحه، ورجا أن ينزل إليه مالك بن كومة، فيغلبه بشدة بطشه وقوته، وكان/ مالكٌ قليل اللحم، وكان من أشد بكرٍ نجدةً وبأساً، فقال مالك لكثيفٍ:(2/520)
أرجوت أن أنزل إليك فتحنيني بشدة بطشك؟ استأسر!.. وسوى له الرمح، فأدركهما عمرو بن الزبان، فوثب على كثيفٍ، فأسره. فقال مالك بن كومة: أسيري. وقال عمرو بن الزبان: أسيري!.. فحكما كثيفاً في ذلك، فقال كثيفٌ: لولا مالكٌ ألفيت في أهلي، ولولا عمرٌو لم أأسر. فغضب عمرٌو، فلطم وجه كثيفٍ. فقال: أتلطمني وأنا أسيرٌ في أيديكم؟!.. لله علي ألا أحل له حلالاً، ولا أحرم حراماً حتى أنزل بك وبأهل بيتك فاقرةً، كما لطمتني.
وغضب من ذلك/ مالكٌ غضباً شديداً، ثم قال مالك لعمرو بن الزبان: بعني نصيبك منه بمائة ناقةٍ، فباعه، فأعتقه مالكٌ للطمة عمرٍو إياه. فقال كثيفٌ: يا مالك أما وربي لا أذوق خمراً، ولا أطعم لحماً، ولا أقرب امرأةً، ولا أغسل رأسي حتى أدرك ما صنع بي عمرو ابن الزبان، وقال في لطمة عمرٍو إياه:
حلفت بما لبى له كل محرمٍ ... له لمةٌ حفت من الشعر الجثل(2/521)
يميناً أرى من آل زبان وابراً ... فيفلت منى دون قاطعة الحبل
جزاءً بما أسدى إلي أخوهم ... ليعلم أن الحلم أزكى من الجهل
((الوابر)): الواحد، وهذا في حديثٍ طويلٍ ليس هذا موضعه./ وفي هذا الخبر السبب الذي ضرب له المثل، فقيل: أشأم من خوتعةٍ، و ((جاء بالدهيم)) إذا جاء بالأمر العظيم.. وإنما أخذت من الخبر معنى التكرم في العفو.(2/522)
حدثني أبي عن أبي حاتم قال: حدثنا علي بن عبيدة عن ابن عياش قال: كان عبد الله بن أمية بن عبد الله بن [خالد بن] أسيدٍ بن أبي العيص بن أمية مع ابن الأشعث يوم الراوية، وكان ممن لحق بعبد الملك هارباً من الحجاج، فآمنه عبد الملك. فقدم الحجاج وافداً على عبد الملك، فمر بعبد الله بن أمية في المقصورة، فقال: أروغاً كروغ الثعلب؟ فقال: أنت المرء يراغ منه، ويخشى/ جانبه. فعاتبه الحجاج فيما كان منه فقال:
إذا نزوات الحب أحدثن بيننا ... عتاباً تراضينا وعاد العواطف(2/523)
قال: فدخل الحجاج على عبد الملك، فقال: يا أمير المؤمنين. هرب الناس مني يوم الراوية، وفر ابن عمك هذا، وهو ما علمت ضعيفٌ، فرأيته في المقصورة، فعاتبته فقال:
إذا نزوات الحب أحدثن بيننا ... عتاباً تراضينا وعاد العواطف
فلم يمنعني أن أقول له: إنما يتمثل بهذا المخنثون رجاءً.. إلا أني رجوت أن يقولها لك حين لم أردها عليه لتعلم ضعفه. فقال عبد الملك: قد والله تمثل بهذا البيت عندي.
حدثنا البلغي عن محمد بن الحسن/ التسنيمي عن ابن الكلبي قال: شبب [محمد بن] عبد الله بن نميرٍ الثقفي بزينب بنت يوسف أخت الحجاج، فقال:(2/524)
تضوع مسكاً بطن نعمان أن مشت ... به زينب في نسوةٍ خفرات
يخبئن أطراف البنان من التقى ... ويخرجن شطر الليل معتجرات
مررن بفخٍ ثم رحن إلى منىً ... يلبين للرحمن مؤتجرات
ولما رأت ركب النميري أعرضت ... وكن من أن يلقينه حذرات
دعت نسوةً شم العرانين بدناً ... نواعم لا شعثاً ولا غبرات(2/525)
فأدنين لما قمن يحجبن دونها ... حجاباً من القسي والحبرات
أعان الذي فوق السماوات عرشه ... أوانس بالبطحاء معتمرات
فطلبه الحجاج, فهرب منه, ثم أتي به. فلما وقف بين يديه قال:
/ هاك يدي ضاقت بي الأرض كلها ... وإن كنت قد طوفت كل مكان
فلو كنت بالعنقاء أو بعمايةٍ ... لخلتك إلا أن تصد تراني(2/526)
وقال: أيها الأمير إن قلت إلا خيراً, إنما قلت:
يخبئن أطراف البنان من التقى ... ويخرجن شطر الليل معتجرات
فعفا عنه, وقال: أخبرني عن قولك:
فلما رأت ركب النميري أعرضت ... وكن من أن يلقينه حذرات
كم كنتم يومئذٍ قال: كنت على حمارٍ, وصاحبٌ لي على أتانٍ هزيل, فضحك الحجاج.
حدثنا محمد بن زكريا الغلابي قال: حدثنا محمد بن عبيد الله عن عطاء بن مصعب قال: أخبرنا أبو محرز الحكم بن/ عبد الكريم عن محمد بن إسحاق قال: كان فيما حدث عبيد بن شرية الجرهمي معاوية بن أبي سفيان من أخبار العرب أن قال:(2/527)
كان للنعمان بن المنذر الأكبر يومان في السنة: يوم نعيمٍ ويوم بؤسٍ. وكان إذا جلس مجلسه بالغريين في يوم نعماه خلع على أول طالعٍ يطلع عليه.
وكان بدء سبب ذلك أنه كان له نديمان من بني أسد بن خزيمة, يقال لأحدهما خالد بن فضلة بن الأشتر, والآخر مسعود بن كلدة بن عمرو, فأرسل إليهما ليلاً فمازحاه بشيء غضب منه, وكان شارباً فقام إليهما بالسيف, فقتلهما, ونام. فلما أفاق من السكر رآهما/ صريعين لم يحملا من الموضع الذي قتلهما فيه, فجزع وقال: من فعل هذا؟ فأخبر أنه قتلهما, فندم على فعله, وجلس عند رأسيهما ثلاثة أيام يبكي عليهما. وقال يخاطبهما:
خليلي هبا طالما قد رقدتما ... أجدكما ما تقضيان كراكما(2/528)
جرى اليوم بين المخ والعظم منكما ... كأن الذي يسقي المدام سقاكما
أما ترحماني أنني صرت مفرداً ... وأني مشتاقٌ إلى أن أراكما
أناديكما بالصوت مني صبابةً ... فما تسمعان الصوت ممن دعاكما
ثم أمر بدفنهما, وأن يبنى عليهما طربالان عظيمان –أي صومعتان- فبنيا, وهما الغريان اللذان بظاهر الكوفة, / وجعل مثل ذلك اليوم الذي قتلهما فيه من كل سنةٍ يوم بؤسٍ, لا يأكل فيه ولا يشرب, ولا يسأله أحدٌ حاجةً إلا رده, ولا يلقى فيه أحداً إلا قتله! وجعل اليوم الذي يليه يوم نعيمٍ, لا يقدم عليه أحدٌ أو يدخل عليه إلا أعطاه, وحباه, وأكرمه, حتى كان يتناول الوحش في المفاوز والطير. فما أدرك منها في يوم بؤساه أمر بذبحه على الغريين.
فلم يزل على تلك الحال حتى قدم عليه عبيد بن الأبرص, وقد امتدحه بمديح له, فوافقه في يوم بؤسه, وكان النعمان به عارفاً.(2/529)
فلما نظر إليه قال: يا عبيد. أما علمت أنك أخطأت, / وسفكت دمك؟,.. قال: وما ذاك؟ أبيت اللعن. قال: قدمت علي في يوم بؤسي. فقال: أبيت اللعن. أتتك بحائنٍ رجلاه, وأجلٌ قد بلغ أناه. فرق له الملك, وكره مكانه, وقال: أنشدني يا عبيد:
*أقفر من أهله ملحوب*
فإنه يعجبني من قولك! فقال عبيدٌ:
أقفر من أهله عبيد ... فاليوم لا يبدي ولا يعيد
عنت له منيةٌ ركود ... والمرء يقظان وما يكيد
لريب دهرٍ بطشه شديد
فقال له النعمان: أنشدنيها. قال: أبيت اللعن. حال الجريض(2/530)
دون القريض. فقال بعض القوم: أنشد/ الملك. قال: من قائلٍ مقتولٍ؟! قال الرجل: نعم. وما أشد جزعك من الموت يا عبيد! فقال عبيدٌ: لا يرحل رحلك من ليس معك فقال النعمان: لو كنت عافياً عن أحد في هذا اليوم لعفوت عنك. فاختر خصلةً من ثلاثٍ. قال: وما هن؟ قال: لا أقتلك بسيفٍ, ولا أطعنك برمحٍ, ولا أضربك بسوطٍ, ولكن أفصدك فإن شئت من الأبجل, وإن شئت من الأكحل, وإن شئت من الوريد. فقال عبيدٌ: خيرتني خصالاً كسحابات عادٍ, روادهن شر روادٍ, وحاديهن شر حادٍ, ولا خير فيهن لمرتادٍ. فإن كنت لا بد قاتلي(2/531)
فاسقني من الراح, / فإذا نامت له مفاصلي, وذهلت له ذواهلي, فشأنك وما تريد من مقاتلي. فأمر له بحاجته من الشراب, فأنشأ عبيدٌ يقول:
بلغ بني وأعمامهم ... بأن المنايا هي الواردة
فأقسم إن مت ما ضرني ... وإن عشت ما كنت في واحدة
لها مدةٌ كنفوس العباد ... إليها وإن كرهت قاصدة
فلما أخذت فيه الخمر أنشأ يقول:(2/532)
مهلاً أبيت اللعن مهلاً إن فيما قلت آمة
في كل وادٍ بين يثرب والقصور إلى اليمامة
شهبٌ ومنعفرٌ وصوت محرقٍ وصراخ هامة
/ عيت بنو أسدٍ كما ... عيت ببيضتها الحمامة(2/533)
جعلت لها عودين من ... نشمٍ وآخر من ثمامة
أنت المليك عليهم ... وهم العبيد إلى القيامة
ذلوا وأعطوك القيا ... دكما الأسير من الخزامة
بالذل منها نلتها ... ولطرفها منك استدامة
فأمر بذبحه!..
ثم إن النعمان خرج في يومٍ من أيامه متصيداً, فأصابته السماء, وسلت عنه خيله, فبدت له أبياتٌ لطيءٍ, فقصد بيتاً منها, وقد أصابه قرٌ وجوعٌ شديدٌ, فخرج إليه صاحب المنزل, وهو شيخٌ كبيرٌ,(2/534)
يقال له: عامر بن معاوية, فعرض عليه/ المنزل, فنزل. فلما وجد الطائي ريح الطيب, ونظر إلى هيئته ظن أنه من خاصة الملك, فنزع ثيابه يجففها, وأدخل فرسه مظلةً له, وذبح عنزاً كانت له, فشوى له منها, وطبخ, وطعم النعمان من ذلك اللحم, وأقام عنده بقية يومه وليلته, حتى إذا أصبح انبثت الخيل في طلبه من كل ناحية. فلما نظر إليه النعمان أمره أن يخرج الفرس فيدخلها بالعراء وشد عليه ثيابه, وأبصر الناس الفرس, فعرفوها, فأتوه, فجزع الطائي من ذلك, فقال له النعمان: أفرخ روعك! ظفرت يداك. أنا النعمان بن المنذر! فابسط مناك, فلقد أكرمت/ مثواي, فلأكرمن مثواك, فإذا بدا لك فاقدم علي.
فأقام الطائي في رحله ما شاء الله, ثم تهيأ, فقدم عليه, فوافقه في يوم بؤسه. فلما أشرف على مجلس النعمان ابتدرته الرجال, فانطلق(2/535)
به ليذبح، فنادى: أبيت اللعن، أنا الطائي المنزول بي.. فأمر به فردوه حتى أقيم بين يديه، فصافحه، وساءله، وقال: يا أخا طيءٍ ما وجدت يوماً تأتيني به إلا اليوم؟! قال: أبيت اللعن: وما اليوم؟ قال: اليوم يوم بؤساي، فسلني كل شيء تريد خلا نفسك! قال: أبيت اللعن، فأي شيءٍ بعد نفسي أبتغي؟!.. قال: لا سبيل إلى ذلك.. قال: فأجلني ثلاثاً أبلغ فيهن/ إلى أهلي، فأكتب وصيتي، واجعل ذبيحتك اليوم غيري. قال: أقم لي بذلك ضميناً. قال: ما لي في هذه البلاد أحدٌ أعرفه، ولا الدار داري. قال النعمان: لا بد من ذلك. وقد سمع الطائي الناس يقولون: قراد بن الأجدع اللخمي، وكانت له منزلةٌ من النعمان، فقام الطائي فقال:
يا قراد بن جديعٍ ... هل من الموت محالة(2/536)
يا أبا كل مضافٍ ... يا أخا من لا أخا له
يا أخا النعمان فك اليوم عبداً قد أنى له
طالما عالج كرب الموت لا ينعم باله
فقام قرادٌ، فقال: أيها الملك، خل سبيله، وأنا الضامن عنه. فإن أتاك وإلا فدمي بدمه! فخلى عنه، فمضى. فلما كان اليوم الثالث أبطأ الطائي حتى انقضى/ النهار، فأمر النعمان باللخمي ليذبح، وأقام رجلاً ينظر اطلاع الطائي. فلما كادت الشمس تجب أضجع اللخمي ليذبح، فقام عياله يضجون، ويبكون. فبيناهم كذلك إذ طلع عليهم الطائي، فأقبل الرجل الذي كان يطالعه يلوي بثوبه، وبصر به الناس، فأعلم بذلك النعمان، فأمر بتخلية اللخمي، وأقبل الطائي وهو يقول:(2/537)
ألا ليت شعري عن قراد بن أجدعا ... أحيٌ فيفدى أم قتيلٌ فأبخعا
فلما بلغ النعمان بعث إليهما، فأحضرهما، وعجب من وفائهما وصنيع الطائي، ومن جرأة اللخمي على ضمانه حتى إذ دنوا منه قال: ما رأيت أكرم منكما! وما أنا بكائنٍ شر الثلاثة، فأمر بهما، فخلي سبيلهما، وأمر لكل واحد منهما بمائة ناقة، ثم قال للطائي: دلني -لا أبا لك- على دينٍ هو دلك على الوفاء. فوصف له دين النصرانية، فتنصر النعمان يومئذٍ، وعطل الغريين، وأبطل يوم بؤسه، وأخذ بقول الطائي.
حدثنا ابن زكويه قال: حدثنا إبراهيم بن عمر بن حبيب قال: حدثنا أبو عبيدة قال: أتي الحجاج بقومٍ ممن كان خرج عليه، فأمر بهم، فضربت أعناقهم، وأقيمت الصلاة، وقد بقي من القوم رجلٌ واحدٌ فقال لقتيبة بن مسلمٍ: انصرف به معك حتى تغدو به علي. قال/ قتيبة: فخرجت والرجل معي. فلما كان في بعض الطريق قال لي: هل لك في خيرٍ؟ قلت: وما ذاك؟ قال: إني والله ما خرجت على المسلمين قط, ولا استجزت قتالهم, ولكني ابتليت بما ترى, وعندي(2/538)
ودائع وأموالٌ, فهل لك أن تخلي سبيلي, وتأذن لي حتى آتي أهلي, فأرد على كل ذي حق حقه, وأوصي؟.. ولك الله راعٍ كفيلٌ أني أرجع إليك, حتى أضع يدي في يدك. قال قتيبة: فتعجبت منه, وتضاحكت بقوله. قال: فمضينا هنيهةً, ثم أعاد القول, فقال: يا هذا إني أجعل الله على أن أعود إليك. قال قتيبة: فوالله ما ملكت أن قلت: اذهب!..
فلما/ توارى عني شخصه أسقط في يدي, فقلت: ماذا صنعت؟!.. قال: فأتيت أهلي, فسألوني عن شأني فأخبرتهم, فقالوا: لقد اجترأت على الحجاج!.. فبتنا بأطول ليلةٍ. فلما كان عند أذان الغداء إذا ضاربٌ يضرب الباب, فخرجت فإذا أنا بالرجل! فقلت: أرجعت؟ فقال: سبحان الله! جعلت الله لك علي, ولا أرجع؟! فقلت: أما والله لئن استطعت لأنفعنك.
قال: فانطلقت حتى أجلسته على باب الحجاج, ودخلت, فلما رآني قال: يا قتيبة أين أسيرنا؟ قلت: أصلح الله الأمير, هو بالباب, وقد كانت لي وله قصةٌ عجيبةٌ! قال: وما هي؟ فحدثته بالحديث, فأرسل إليه, فدخل, فقال:/ يا قتيبة, أتحب أن أهبه لك؟ قلت: نعم أصلح الله الأمير. قال: هو لك, انصرف به معك. فلما خرجت خرج معي. فلما صرت بباب الدار, قلت: خذ أي الطريقين شئت. قال: فرفع بصره إلى السماء, ثم قال: اللهم لك الحمد. ثم انصرف, وما كلمني بكلمة,(2/539)
ولا قال لي: أحسنت ولا أسأت.قال: فقلت في نفسي: مجنون والله!.. فلما كان اليوم الثالث جاءني فقال: يا هذا, جزاك الله عني خيراً. إني والله ما ذهب علي ما صنعت, ولكني كرهت أن أشرك في حمد الله أحداً.
حدثني الجوهري قال: حدثنا ابن شبة قال: حدثنا خلاد/ بن يزيد الباهلي قال: حبس عبيد الله بن زيادٍ فيمن حبس من الخوارج مرداس بن أدية. فكان السجان يرى عبادته واجتهاده, فكان يأذن له بالليل ينصرف إلى منزله. فإذا طلع الفجر أتاه حتى يدخل السجن.
وكان صديق لمرداسٍ يسامر ابن زيادٍ, فذكر ابن زيادٍ الخوارج ليلةً, فاعتزم على قتلهم إذا أصبح. فانطلق صديق مرداسٍ إلى منزل مرداسٍ, فأخبرهم, وقال: أرسلوا إلى أبي بلالٍ في السجن فليعهد, فإنه(2/540)
مقتولٌ. فسمع ذلك مرداسٌ, وبلغ الخبر السجان فبات بليلة سوءٍ إشفاقاً من أن يعلم الخبر مرداسٌ فلا يرجع. فلما كان في/ الوقت الذي كان يرجع فيه إذا به قد طلع. فقال له السجان: هل بلغك ما عزم عليه الأمير؟ قال: نعم. قال: ثم غدوت؟!.. قال: ثم غدوت, ولم يكن جزاؤك مع إحسانك إلي أن تعاقب بسببي.
وأصبح عبيد الله فجعل يقتل الخوارج, ثم دعا بمرداس بن أدية. فلما أحضر وثب السجان, وكان ظئراً لعبيد الله, فأخذ بقدمه, وقال: هبه لي. وقص عليه قصته, فوهبه له, وأطلقه.
حدثنا ابن زكويه قال: حدثنا عبد الله بن الضحاك قال: حدثنا الهيثم بن عدي عن ابن عياش قال: وفد أسماء بن خارجة إلى عبد الملك بن مروان, وكتب الحجاج إلى/ عبد الملك يخبره عن أخلاقه وكرمه وسعة يده وبسطها في ماله وإعطائه من سأله. فقال عبد الملك: يا أسماء, إن الحجاج كتب يخبر عنك بخصال, لو كانت في بشر بن مروان أو الوليد بن أمير المؤمنين كان أحب إلى أمير المؤمنين من حمر(2/541)
النعم. فقال: وما لهم لا يكون ذلك فيهم! فوالله لهم أشرف من أسماء بيتاً, وأكثر خصباً, وأطيب ثرىً, وأحمد قرىً, وأقدم عزاً, وأرفع بناءً.
قال عبد الملك: حدثني عن بعض هناتك, فقال: يا أمير المؤمنين, إن الرجل إذا حدث عن نفسه وهصه حديثه, وإذا حدث عنه غيره رفعه. قال: لست من أولئك,/ فحدثني.
قال: يا أمير المؤمنين, صحبني رجلٌ في سفرٍ, وكان محداثاً فكهاً, فأعجبني حديثه. وطالت أيام سفرنا, وكان مع غلام لي مالٌ أعددناه للسفر ولبعث المؤن, فكان ذلك المال لا يفارق وسط غلامي. فلما دنا الرجل من قومه, وكان بينه وبينهم ليلةٌ خرج الغلام في بعض الليل لبعض حوائجه, فتبعه الرجل على فرسه, حتى إذا أمكنه رضخ رأسه بجلمودٍ كان أعده, وأخذ ما كان في وسطه من المال,(2/542)
فنذر به بعض من كان معنا, فأنذروا به أصحابه, فخرجوا, فأدركوا الرجل, فجاؤوا به, فأمرت ألا يعرض له, وقلت: كذبتم/ عليه, ما كان ليقتله, ويأخذ ماله, وقد تحرم بنا. قالوا: هذا الغلام, وهذا المال معه, وهذه ثيابه مضرجة بالدم. قلت: كذبتم, لعل المال مال الرجل, ولعله رأى إنساناً تعرض له, فلم يقدر على عونه حتى قتله. قالوا: فادع به, فسائله. فقلت: لا أرى له وجهاً. قد قرفتموه بالباطل, خلوا عن الرجل يمضي لطيته! فخلوا عنه, فبعث إلينا أني نسيت حقيبتي في رحلي, فوجهوا بها إلي.. فأبوا أن يفعلوا حتى توعدتهم, فدفعوها إلى رسوله!..
فعجب عبد الملك وقال: كم كان المال؟ قال: ألفٌ وسبعمائة دينار. قال له عبد الملك:/ أنت أكرم العرب غير مدافعٍ ولا مشكوكٍ فيك! أفما كان عندكم ما تنفقون؟ قال: يا أمير المؤمنين, أصبحنا وما في رحالنا إلا كسر خبزٍ يابسٍ وسويقٌ, فكان زادنا إلى أن هبطنا.
ويروى أن الأحنف بن قيسٍ قال: كنا نختلف إلى قيس(2/543)
ابن عاصم, نتعلم منه الحلم, كما نتعلم الفقه. فبينا نحن ذات يوم عنده, وهو جالسٌ بفنائه, محتبٍ بكسائه, إذا جماعةٌ قد أقبلت, وفيهم مقتولٌ ومكتوفٌ, فقالوا: يا أبا عليٍ, هذا ابنك قتله ابن أخيك. فما حل حبوته, ولا تكلم حتى قضى تسبيحه, ثم أقبل على ابن أخيه, فقال: قتلت ابن عمك, وقللت عددك, / لا يبعد الله غيرك! ثم أقبل على ابنٍ له آخر, فقال: قم يا بني, فاحلل كتاف ابن عمك, وسق إلى أم أخيك مائةً من الإبل دية ابنها, فإنها غريبةٌ فينا, وأنشأ يقول:
إني امرؤٌ لا شائنٌ حسبي ... دنسٌ يغيره ولا أفن(2/544)
من منقرٍ في بيت مكرمةٍ ... والأصل ينبت حوله الغصن
خطباء حين يقول قائلهم ... بيض الوجوه أعفةٌ لسن
لا يفطنون لسر جارهم ... وهم لحفظ جواره فطن
ومثله: يروى أن رجلاً قتل ابن أخيه ابنه, فأتي به ليقيده منه. فلما كتف له, ومدت رقبته, وهز السيف ليضرب عنقه ارتعدت يداه, / فرمى السيف, وخلى عنه, وأنشأ يقول:
أقول للنفس تأساءً وتعزيةً ... إحدى يدي أصابتني ولم ترد(2/545)
كلاهما خلفٌ من فقد صاحبه ... هذا أخي حين أدعوه وذا ولدي
ويروى أن الحسن مر برجلٍ, يقاد منه, فقال لولي المقتول: يا عبد الله, إنك ما تدري لعل هذا قتل وليك, وهو لا يريد قتله, وأنت تقتله متعمداً, فانظر لنفسك, فقال: تركته لله.
حدثني ابن دريدٍ قال: حدثنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه قال: حدثني رجلٌ من العرب قال: انهزمنا من قطريٍ والخوارج, فأدركني رجلٌ على فرسٍ, فسمعت حساً منكراً خلفي فالتفت فإذا قطريٌ! فيئست من الحياة, وأيقنت بالموت. فلما عرف الذي بي قال: أوجع خاصرتها, واشدد عنانها, قطع الله يدك. ففعلت, فنجوت.(2/546)
حدثنا ابن زكويه قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن قال: حدثنا هشام بن محمد عن عوانة قال: خطبنا عيينة بن النهاس العجلي. فقال: ما أعجب هذا من قول الله في كتابه:
ليس حيٌ على المنون بباق ... غير وجه المهيمن الخلاق
فقلت له: أصلح الله الأمير! ليس هذا في كتاب الله, هذا من قول عديٍ بن زيدٍ. قال: ما أحسن والله ما قال!../ قال: فلما نزل عن المنبر, وصلى, وجلس للناس أتي بامرأةٍ من الخوارج, فقال: يا عدوة الله, ما حملك على الخروج؟ أما سمعت الله يقول:
كتب القتل والقتال علينا ... وعلى المحصنات جر الذيول
قالت: حملني على الخروج سوء معرفتك بكتاب الله. قال: فأمر(2/547)
بقتلها أو تتوب. فلما برزت لتقتل قيل لها: تتوبين؟.. فأنشأت تقول:
أأترك دين آبائي وقومي ... وأتبع ملة المتضاللينا
وأزعم أنهم كانوا غواةً ... أبى قلبي بهذا أن يدينا
قال: فسأل عنها, فأخبر أنها من ربيعة, فخلى سبيلها.
/ ويروى أن رجلاً من الزهاد مر في دجلة بغداد في زورقٍ. فلما رأى بناء المأمون وإيوانه صاح: واعمراه! فسمعه المأمون, فدعا به, فقال له: ما قلت؟ قال: رأيت بناء الأكاسرة, فقلت ما سمعت. فقال المأمون: أرأيت لو تحولت من هذه المدينة إلى إيوان كسرى والمدائن, هل كان لك أن تعيب نزولي هناك؟ قال: لا. قال: فأراك إنما عبت إسرافي في النفقة قال: نعم. قال: فلو وهبت قيمة هذا(2/548)
البناء لرجل, أكنت تعيب ذلك؟ قال: لا. قال: ولو بنى ذلك الرجل بما كنت أهب له بناءً كنت تصيح به كما صحت بي؟/ قال: لا. قال: فأراك إنما قصدتني بخاصتي في نفسي, لا لعلةٍ هي في غيري, ثم قال: هذا البناء ضربٌ من مكائدنا بنيناه لنزين به المملكة, ونرهب العدو, كما نتخذ الجيوش, ونعد الكراع والسلاح, وما بنا إلى أكثره حاجةٌ. فلا تعودن فتمسك عقوبتي, فإن الحفيظة ربما صرفت ذا الرأي إلى هواه, فاستعماه.
حدثني أبي عن أبي حاتم قال: حدثني خلف بن المثنى الحداني عن يونس بن حبيب النحوي قال: كنت في النظار أيام خروج يزيد ابن المهلب بالبصرة, وقد سار إلى عدي بن أرطاة, وعديٌ الأمير. فلما صار يسوق/ الرقيق وقف وقفةً, وجعل أصحابه يأتون بالرؤوس من بني تميم ومن أصحاب عديٍ إذ أتي بأسير من بني تميم,(2/549)
فقال: أصلح الله الأمير, إن الديوان استكرهني, ووالله ما أحببت قتالك. فقال يزيد: لعلنا إن مننا عليك أن تعود؟ قال: لا والله. فأمر بتخلية سبيله, وقد كان سلب لما أخذ. فلما انطلق تذمم يزيد من قوله: لعلك إن خليناك أن تعود؟.. فأرسل في إثره, فرده, فظن الناس أنه يقتله. فلما رد قال له يزيد: إنا قلنا لك: لعلنا إن مننا عليك أن تعود؟ فقلت: لا.. فقد أذنا لك في العود, فإن عدت/ فعيد بك صنعنا بك كما صنعناه, وأمر بسلبه, فرد عليه.
قال: وكان يونس يحدث بهذا الحديث إذا غضب على بني تميم.
ويروى عن الجاحظ أنه قال: ما رأيت قلباً أجمع من محمد ابن البعيث, وقد وقف السياف على رأسه ليضرب عنقه, فقال له المتوكل: يا محمد, ما حملك على ما صنعت؟ قال: الشقوة يا أمير المؤمنين. وإن لي بك لظنين, أولاهما بك أسبقهما إلى قلبي, وأنشأ يقول:(2/550)
أبى الناس إلا أنك اليوم قاتلي ... إمام الهدى, والعفو في الله أجمل
وما أنا إلا جبلةٌ من خطيئةٍ ... وعفوك من نور النبوة يجبل
تضاءل ذنبي عند عفوك قلةً ... فمن بعفوٍ منك, فالعفو أفضل
فقال: كفوا عنه. ثم قدم ابن الديواني, فلما أمر بضرب عنقه قال: سبحان الله! يعفى عن الرأس, ويقطع الذنب؟ فأطلقه.
وروى نقلة الأخبار أن محمداً الأمين بينما هو يدور في قصره إذ بصر بشابٍ حسن الوجه, قد خرج من بعض دور الحرم, فأمر به, فجرد للسياط, فقال وهو يجلد:
ولقد ذكرتك والسياط تنوشني ... عند الإمام وساعدي مغلول(2/551)
ولقد ذكرتك والحتوف شواهد ... والسيف عند ذوائبي مسلول
.. .. فلما سمعه الأمين أمر بتخليته.
حدثنا ابن زكويه قال: حدثنا العتبي قال: حدثني رجل من تميم عن بعض أهله قال: كنت عند المهاجر بن عبد الله والي اليمامة, فأتاه أعرابيٌ قد كان معروفاً بالسرق, فقال له: أخبرني عن بعض هناتك وعجائبك.
قال: إنها لكثيرةٌ, ومن أعجبها أنه كان لي بعيرٌ لا يسبق, وكانت لي خيلٌ لا تلحق. فكنت لا أخرج فأرجع خائباً. فخرجت يوماً فاحترشت ضباً, فعلقته على قتبي, ومررت بحواءٍ سريٍ(2/552)
ليس فيه غير عجوزٍ, فقلت: أحر بهذا الحواء أن يكون له خيرٌ من غنمٍ وإبلٍ. فلما أمسيت إذا إبلٌ مائةٌ, فيها شيخ عظيم البطن, مبدن اللحم, / ومعه عبدٌ أسود وغدٌ. فلما رآني رحب بي, ثم قام إلى ناقةٍ, فاحتلبها, وناولني العلبة, فشربت ما يشرب الرجل, فتناول الباقي, فضرب به جبهته, ثم احتلب تسع آنقٌ, فشرب ألبانهن, ثم نحر حواراً, فطبخه, وأكله, حتى ألقى عظامه بيضاً, وحثا كومةً من بطحاء, ثم توسدها, وغط غطيط البكر.
فقلت: هذه والله الغنيمة الباردة! وقمت إلى فحل إبله, فخطمته, ثم قرنته إلى بعيري, وصحت به فاتبعني, واتبعته الإبل إرباباً به, فصارت خلفي كأنها حبلٌ ممدودٌ. فخرجت أبادر ثنيةً, بيني وبينها مسيرة ليلةٍ للمسرع.
فلم أزل أضرب بعيري/ بيدي مرةً, وأقرعه برجلي أخرى حتى طلع الفجر, فأبصرت الثنية, وإذا عليها سوادٌ. فلما دنوت إذا بالشيخ(2/553)
قاعدٌ, قد سبقني إليها, وقوسه في حجره, فقال: أضيفنا! قلت: نعم. قال: أتسخو نفسك عن هذه الإبل؟ قلت: لا. فأخرج سهماً، كأن نصله لسان كلبٍ، ثم قال: أترى هذا السهم؟ أبصره بين أذني الضب. ثم رماه، فصدع عظمه عن دماغه، ثم قال: ما تقول؟ قلت: أنا على رأيي الأول. قال: فانظر هذا السهم الثاني في فقرة ظهره الوسطى، ثم رمى به، كأنما قدره بيده، ثم وضعه بأصبعه. ثم قال: رأيت؟ قلت: إني أحب أن أستثبت./ قال: فانظر هذا الثالث في عكرة أذنه، والرابع -والله- في بطنك، ثم رماه، فلم يخطئ العكرة. فقلت: أنزل آمناً؟ قال: نعم. فنزلت، فدفعت إليه خطام فحله، ثم قلت له: هذه إبلك لم تذهب منها وبرةٌ!.. وأنا أنتظر متى يرميني بسهم ينظم به قلبي.
فلما تنحيت قال: أقبل. فأقبلت -والله- خوفاً من شره، لا طمعاً في خيره، فقال لي: يا هذا، ما أحسبك الليلة جشمت ما جشمت إلا من حاجة. فقلت: أجل. قال: فاقرن من هذه الإبل بعيرين،(2/554)
فامض لطيتك! قلت: أما والله حتى أخبرك عن نفسك، ثم قلت: والله ما رأيت أعرابياً/ أشد ضرساً، ولا أعدى رجلاً، ولا أرمى يداً، ولا أكرم عفواً، ولا أسخى نفساً منك!..
حدثني ابن دريد قال: حدثنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال: كان خالد بن جعفر بن كلابٍ نديماً للنعمان، وكان قد قتل زهير ابن جذيمة العبسي، فبينا هو ذات يوم عند النعمان، وقد دعا بزبدٍ وتمرٍ، وهما يأكلان منه دخل عليه الحارث بن ظالمٍ، فقال النعمان: ادن يا حارث، فدنا، فقال خالدٌ: من هذا أبيت اللعن؟ قال: هذا سيد قومه وفارسهم الحارث بن ظالمٍ. قال خالدٌ: أما إن لي عنده يداً. قال الحارث: وما تلك اليد؟ قال: قتلت سيد قومك، فجعلتك سيدهم/ بعده،(2/555)
يعني قتله زهير بن جذيمة. قال الحارث: أما إني سأشكمك شكم ذلك، أي: أجزيك بتلك اليد. ثم أخذه الزمع. وأرعدت يده، فأخذ يعبث بالتمر. فقال خالدٌ: أيتهن تريد؟ فأناولكها. قال له الحارث: أيتهن تهمك؟ فأدعها. وجعل خالدٌ يأكل، ويطرح النوى بين يدي الحارث تحت النطع. فلما رفع قال خالد: أيها الملك، ألا ترى ما أكثر ما أكل الحارث،.. أكل مثل جميع ما أكل القوم!.. يعبث به، فقال الحارث: أما أنا فطرحت نوى ما أكلت، وأما أنت فبنواه أكلته. وقام مغضباً، فقال النعمان: يا خالد ما/ أردت إلى هذا؟ قد عرفت فتكه وسفهه. فقال: أبيت اللعن: وما تخوف علي منه؟ فوالله لو كنت نائماً ما أيقظني..
فانصرف خالدٌ، فدخل قبة له من أدمٍ بعد هدأةٍ من الليل، وكان على بابها أخ له يحرسه. فلما نوَّم الناس خرج الحارث حتى أتى القبة من آخرها، ثم دخل، فقتله. فقال عمرو بن الإطنابة، وكان فارساً شجاعاً، يعير الحارث أنه اغتر خالداً نائماً، فقتله:(2/556)
عللاني وعللا صاحبيا ... واسقياني من المروق ريا
إن فينا القيان يعزفن بالدف ... لفتياننا وعشياً رضيا
يتناهين في النعيم ويصببن ... خلال القرون مسكاً ذكيا
أبلغ الحارث بن ظالمٍ الموعد ... والناذر النذور عليا
إنما تقتل النيام ولا تقتل من ... كان ذا سلاحٍ كميا
ومعي شكتي معابل كالجمر ... وأعددت صارماً مشرفيا
وكان عمرٌو قد حلف ألا يدعوه رجل بليلٍ إلا أجابه، ولم يسأله عن اسمه، فأتاه الحارث ليلاً، فخرج إليه، وقال: ما تريد؟ قال: أعني(2/557)
على إبل بني فلان، وهي منك غير بعيد، فإنها غنيمةٌ باردةٌ. فدعا عمرٌو بفرسه، وأراد أن يركب حاسراً، فقال: البس سلاحك، فإني لا آمن امتناع القوم منك. فاستلأم، وخرجا/ جميعاً، حتى إذا برزا قال له الحارث: أنا أبو ليلى، فخذ حذرك يا عمرو، فقال له عمرٌو: فامنن علي، فجز ناصيته، وخلى سبيله، وقال الحارث:
عللاني بلذتي قينتيا ... قبل أن تبكي العيون عليا
قبل أن تبكر العواذل إني ... كنت قدماً لأمرهن عصيا
ما أبالي إذا اصطبحت ثلاثاً ... أرشيداً دعوتني أم غويا(2/558)
غير أن لا أسر لله إثماً ... في حياتي ولا أخون صفيا
بلغتني مقالة المرء عمروٍ ... بلغتني وكان ذاك بذيا
فخرجنا لموعدٍ فالتقينا ... فوجدناه ذا سلاحٍ كميا
غير ما نائمٍ يروع بالقتل معداً قد انتضى مشرفيا
فرجعنا بالمن منا عليه ... بعد منٍ قد كان منا بديا
وروى الأخباريون أن الحجاج لما ظفر بعامر بن حطان(2/559)
الصفري أمر بضرب عنقه, وقام السياف على رأسه, فقال الحجاج للسياف من شدة حنقه على عامرٍ: اضرب عنق ابن الفاعلة. فرفع عامرٌ رأسه, وقال: بئس ما أدبك أهلك يا حجاج, أبعد الموت غايةٌ أستبقيك لها؟ ما الذي آمنك من أن أراجعك بمثل ما ابتدأتني به من السب؟!.. فاستحيا الحجاج, ونكس رأسه, ثم رفعه, فقال: أفيك موضعٌ للصنيعة؟ قال: نعم. فدعا له بفرسٍ بسرجه ونفقةٍ, وقال: امض/ لشأنك. فلما صار إلى قومه قالوا: عد لقتال الفاسق, والله أطلقك لا هو, فقال: هيهات, غل يداً مطلقها, وارتهن رقبةً معتقها, وأنشأ يقول:(2/560)
أأقاتل الحجاج عن ملوكته ... بيدٍ تقر بأنها مولاته
إني إذاً لأخو الدناءة والذي ... عفت على عرفانه جهلاته
ماذا أقول إذا وقفت إزاءه ... في الصف واحتجت له فعلاته
أأقول: جرت علي؟ لا, إني إذاً ... لأحق من جارت عليه ولاته
تالله لاكدت الأمير بآلةٍ ... وجوارحي وسلاحها آلاته(2/561)
أأكيده وعلي سخطة خالقي ... وعليه رحمة ربه وصلاته
إني لمخذولٌ إذاً ومغادرٌ ... للحين تنجل صفحتي أسلاته
/ لأشد من قتل الكفور بكفره ... نارٌ تسوء للفحها حالاته
وتحدث الأكفاء أن صنائعاً ... غرست لديه فحنظلت نخلاته
أبت الحزامة أن أبيت مصعراً ... خدي وخيل الحق منتعلاته
وحلفت ما طبي بجبنٍ إنني ... فيكم لمطرق مفصلٍ وعلاته(2/562)
أأكع عن علل القتال وقد حلت ... قبل الورود على فمي نهلاته
فإليكم عني فإني مفلتٌ ... هيهات لا يخزى به إفلاته
ويروى أن رجلاً من أوس بن تغلب، يقال له: تميم بن جميل، خرج على الرشيد، فوجه إليه الرشيد العساكر، فأخذ أسيراً، فأمر بضرب عنقه، وكان وسيماً قسيماً جميلاً، فأحب الرشيد [أن] ينظر أين جنانه وبيانه من/ حسن جسمه، فقال: تكلم يا تميم بعذرٍ إن كان لك، أو أدل بحجةٍ. فرفع رأسه، وقال: الحمد لله {الذي(2/563)
أحسن كل شيءٍ خلقه.. .. } الآية. يا أمير المؤمنين، إن الذنوب تخرس الألسنة، وتميت الأفئدة. وأيم الله لقد ساء الظن، وعظم الجرم، ولم يبق إلا عفوك أو انتقامك، ثم أنشأ يقول:
أرى الموت بين السيف والنطع كامناً ... يلاحظني من حيثما أتلفت
وأكثر ظني أنك اليوم قاتلي ... وأي امرئٍ مما قضى الله مفلت
وأي امرئٍ يدلي بعذرٍ وحجةٍ ... وسيف المنايا بين عينيه مصلت
يعز على الأوس بن تغلب موقفٌ ... يهز علي السيف فيه وأسكت(2/564)
/ وما جزعي من أن أموت وإنني ... لأعلم أن الموت شيءٌ موقت
ولكن خلفي صبيةٌ قد تركتهم ... وأكبادهم من حسرةٍ تتفتت
كأني أراهم حين أنعى إليهم ... وقد خمشوا تلك الوجوه وصوتوا
فإن عشت عاشوا خافضين بغبظةٍ ... أذود الأذى عنهم وإن مت موتوا
فكم قائلٍ: لا يبعد الله داره ... وآخر جذلانٌ يسر ويشمت(2/565)
(10) باب العفو عمن نوي قتله اضطراراً
حدثنا الغلابي قال: حدثنا عبد الله بن الضحاك عن هشام بن محمد عن أبيه قال: أخذ الحجاج بن يوسف/ محمد بن الحنفية بعد ما قتل عبد الله بن الزبير، فقال: بايع أمير المؤمنين عبد الملك. قال: إذا اجتمع عليه الناس كنت كأحدهم، فقال: والله لأقتلنك. قال: أولا تدري؟ قال: وما لا أدري؟!.. قال: حدثني أبي أن لله في كل يوم ثلاثمائةٍ وستين لحظةً، في كل لحظةٍ ثلاثمائةٍ وستون قضيةً.. فلعله أن يكفينيك يا حجاج في قضيةٍ من قضاياه. قال: فانتفض الحجاج، وقال: قد لحظك الله، فانطلق حيث شئت!..
وكتب الحجاج بذلك إلى عبد الملك، ووافق ذلك كتاب ملك الروم إلى عبد الملك، يتوعده، فكتب إليه بهذا الكلام, فكتب إليه ملك الروم:(2/567)
هذا كلامٌ/ ما أنت بأبي عذره! هذا كلامٌ لم يخرج إلا من نبي أو من أهل بيت نبوةٍ!..
حدثنا عبدان بن محمد قال: حدثنا العباس بن هشام بن محمد الكلبي عن الهيثم بن عدي عن ابن عياش قال: سمعت رزاماً مولى خالد بن عبد الله القسري يحدث محمد بن خالد قال: لما أخذ المنصور آل أبي طالب في ظنة محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن ابن علي بن أبي طالب صلوات الله عليهم, وكان حمل من المدينة عبد الله بن الحسن وإخوته وآله إلى بغداد, فقتلهم, وماتوا في الحبوس. قال رزام: فوجهني في حمل جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن [علي] بن أبي طالب/ صلوات الله عليهم, فحملته.(2/568)
فلما شارفنا النجف نزل عن راحلته, فتوضأ, فأسبغ الوضوء, ثم استقبل القبلة, فصلى ركعتين, ثم سمعته يقول بعقب الصلاة: اللهم بك أستفتح وأستنجح, وبمحمدٍ نبيك عليه السلام أتوسل. اللهم إني أسألك بخيرك من خيره, وأعوذ بخيرك من شره. اللهم إني أدرأ بك في نحره, وأعوذ بك من شره. اللهم سهل من أمري حزنه, وذلل لي صعبه, وهون علي شديده, وارزقني من الخير أكثر مما أرجو, واصرف عني من الشر أكثر مما أخاف. ثم قام, فركب.
فلما صرنا على باب المنصور, وقيل:/ جعفر بن محمدٍ! وقد خيف عليه منه, فما هو إلا أن سمع به [حتى] أمر بالأبواب, ففتحت, والستور فرفعت, وخرج المنصور يستقبله إلى صحن الدار, فعانقه, وأخذ بيده يمشي معه إلى صدر فراشه, وقد جعل يده على صدره, وحنا عليه, فأجلسه معه على فراشه, ثم قال: يا أبا عبد الله, قد علمت(2/569)
صلتي لهذين الرجلين –يعني محمداً وإبراهيم ابني عبد الله- وعطفي عليهما تألفاً لهما وصلةً لأرحامهما, وقد خشيت أن يكون قطع ما بيننا بسببهما, وقد قيل لي: إنك تعرف أين هما؟ فعرفني ذلك.
فقال: يا أمير المؤمنين, ما زلت مائلاً معك, محباً لدولتك, حاطباً في حبلك, داعياً إليك, / وقد كنت أنهاهما عن فعلهما, وأقبح لهما أمرهما. فلما لم يسمعا لي لم أكن منهما في شيء. قال: صدقت.. إلا أنك تعلم أني أعلم أنك تعلم موضعهما. فقال: يا أمير المؤمنين, ألا أتلو عليك آيةً من كتاب الله فيها علم ما انتهى إلي منهما, وترضى بذلك مني؟!.. قال: حسبي بذلك منك. قال: قال الله عز وجل: {لئن أخرجوا لا يخرجون معهم, ولئن قوتلوا لا ينصرونهم, ولئن نصروهم ليولن الأدبار, ثم لا ينصرون}. قال: فخر المنصور ساجداً, وقال: حسبي بهذا. ورد جعفرٌ إلى أهله مكرماً.(2/570)
حدثنا الجوهري قال: حدثنا عمر بن شبة/ قال: حدثنا عبيد الله ابن جناد قال: حدثنا عطاء بن مسلم قال: سمع الحجاج أذان سويد ابن غفلة حين زالت الشمس، فقال لعنبسة بن سعيدٍ: قد كنا نرى أنا قد فرغنا من هذا القرن. وأرسل إلى سويدٍ، وكان عريف قومه ومؤذنهم وإمامهم، فقال: ما هذه الصلاة؟ قال: هكذا صليت مع أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، ولم أكن لأدعها. فقال الحجاج لعنبسة: ما ترى؟ قال: أرى أنك إن قتلته الآن قيل: قتله على الصلاة، ولكن اعرضه على البراءة من علي فإنه لا يتبرأ. وألقاها الله في مسامع سويدٍ، وقال له الحجاج: انصرف!..
فلما كان/ من الغد أمر الحجاج منادياً، فنادى في العرفاء أن احضروا لأخذ العطاء فقال سويدٌ لابنته: ما كنت فاعلةً إذا أنا مت فاصنعيه. قالت: ولم؟ فأخبرها، فقالت له: وما عليك أن تعطيه بلسانك ما يعلم الله أن قلبك له منكر؟ قال: سمعت علياً عليه السلام يقول:(2/571)
إنكم ستدعون إلى البراءة مني فلا تفعلوا، فإني على دين نبيكم محمدٍ صلى الله عليه وسلم .. وما كنت لأبتغي الحياة بسب أصحاب محمدٍ. ثم لبس ثيابه كالأكفان، وتحنط، ومضى إلى الحجاج. فلما رآه قال: ما أرانا إلا قد جشمناك أيها الشيخ. ثم دعا بغاليةٍ فغلف بها لحيته، وأمر له بعطائه/، وانصرف!.. ودخل عنبسة فقال: ما صنعت بسويدٍ؟! فقال: لا سبيل إلى سويدٍ، ما شبهتني وإياه حين رأيته إلا بنار، صب عليها ماء!..
حدثنا مغيرة بن محمد المهلبي قال: حدثني إبراهيم بن رباح قال: سمعت عبد الله بن محمد بن زبيرٍ، وكان أبوه من خاصة الرشيد، وذلك أنه كان صاحب رقيقٍ بالمدينة، فابتاع منه الرشيد عدة جوارٍ، صرن أمهات أولادٍ. وكان الفضل بن الربيع يأنس إليه.. قال: فحدثني عبد الله بن محمد عن أبيه قال: دخلت مع الفضل بن الربيع، فرأيت(2/572)
يحيى بن عبد الله بن حسن بين يديه، والرشيد يقرعه بأشياء يعتد بها/ عليه، وفي كمه كتبٌ. فجعل يدخل يده، فيستخرج الكتاب، ثم يناوله الرشيد، ويأخذ طرفه بيمينه، ويقول: أقرأ هذا يا أمير المؤمنين. فإذا أتى عليه أدخل يحيى يده في كمه، وأخرج آخر، ففعل مثل ذلك، وأعلم أن تلك الكتب حججٌ واعتذاراتٌ، فأنشدت:
عمداً أتيح له حرباء تنضبةٍ ... لا يرسل الساق إلا ممسكاً ساقا
فأقبل الرشيد علي، فقال: تلقنه، وتؤيده، وتؤازره؟! فقلت: لا والله يا أمير المؤمنين، ما أنا هكذا، ولا كنت هكذا قط، ولكنه فعل شيئاً أذكرني هذا الشعر.(2/573)
فلما فرغ يحيى من إخراج تلك الكتب من كمه، وقرأها الرشيد، أقبل الرشيد على يحيى فقال: دعني من هذا. أيما أحسن وجهاً، أنا أم أنت؟ فقال له يحيى: أنت والله يا أمير المؤمنين أحسن وجهاً مني، وأتم قامةً، وأجمل خلقةً، وما أنا منك في هذا بشيء.
فقال: فدع هذا. أيما أسخى، أنا أم أنت؟ فقال له يحيى: أجبتك يا أمير المؤمنين في الأولى بما قد علمه الله، وعلمه كل مستمعٍ وناظرٍ, فأما هذه فأنا رجلٌ أهتم بأمر معاشي أكثر السنة تأتي علي, وأتقوت بما يصير إلي على حسب الضيقة والسعة, وأنت يجبى إليك خراج الأرض. والله ما أدري ما أجيب به في هذا؟ قال: بلى, لتجيبنني, وما بهذا عليك خفاءٌ./ قال يحيى: قد والله صدقتك يا أمير المؤمنين: ما أدري كيف ذاك؟
قال: فدع ذا. أينا أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه [وسلم]؟ قال: يا أمير المؤمنين, الطينة واحدةٌ, والنسب واحدٌ, وأنا أسألك لما أعفيتني من الجواب في هذا. فحلف بالعتق والطلاق والصدقة(2/574)
لا يعفيه. فقال: يا أمير المؤمنين, ليس من يمينٍ إلا ولها كفارةٌ, وأنا أسأل أمير المؤمنين بحق الله وحق رسوله وبقرابته منه لما أعفاني. قال: قد حلفت.. هبني أحتال لكفارة اليمين في المال والرقيق, فكيف الحيلة في الطلاق وبيع أمهات الأولاد؟ قال يحيى: إن في نظر أمير المؤمنين وتفضله/ ما يصلح هذا. قال: لا والله, لا أعفيتك.
قال: أما إذ كان ذاك فنشدتك الله لو بعث فينا رسول الله أفكان له أن يتزوج فيكم؟ قال: نعم. قال: أفكان له أن يتزوج فينا؟ قال: لا. قال: فهذه!.. فوثب الرشيد عنه, وقام إلى غير مجلسه, وخرجنا والفضل بن الربيع ساكتٌ ينفخ. ثم قال لي: أسمعت أعجب مما كنا فيه قط؟!.. يقول ليحيى: أينا أحسن وجهاً؟ وأينا أسخى نفساً؟ وأينا أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه؟!.. والله لوددت أني فديت هذا المجلس بشطر ما أملك.
حدثنا المغيرة قال: حدثني إبراهيم بن رياح قال: حدثنا إسحاق ابن عيسى بن علي بن عبد الله بن العباس/ قال: شهدت يحيى بن عبد الله بن حسن وعبد الله بن مصعب بن ثابت الزبيري(2/575)
عند الرشيد, فرأيت عبد الله بن مصعب يقبل على يحيى بن عبد الله بالغلظة والمكروه والتقريع بكل سوءٍ, ولا يجيبه يحيى بحرفٍ, ويقبل على الرشيد فيقول: يا أمير المؤمنين, أما ما قال في كذا فالحجة فيه كذا.. إلى أن قال له الزبيري: وسعيتم علينا في دولتنا. فأقبل عليه يحيى برفقٍ وكلامٍ كالخفي, فقال: ومن أنتم؟! فرأيت الرشيد, وقد كاد الضحك يغلبه, فرفع رأسه إلى السقف, فما زال يجيله حتى سكن ذلك عنه.
فلما رأى ذلك يحيى بن عبد الله قال للرشيد: يا أمير المؤمنين, / إن عداوة هذا لي عداوته لك, وكذلك كانت من أبيه فيك وفي. فاذكر فعل ابن الزبير في الشعب بمكة, غير أنه قوي على سبي,(2/576)
وعجز عنك, والعداوة واحدةٌ. وكيف يقول هذا؟ وهو الله الخارج مع أخي محمد بن عبد الله على جدك المنصور, والقائل في ذلك:
قل للمشنأ والمقصى داره ... شلت يداك, أظلها مهديها
فلتدهمنك غارةٌ جرارةٌ ... علويةٌ يحتثها حسنيها
فأقبل الرشيد على عبد الله بن مصعب فقال: ما تقول فيما يقول؟ قال: لا والله يا أمير المؤمنين, ما كان ذا, ولكنه يبهتني, ويكذب علي. فقال له: أفتحلف؟ فابتدأ/ الزبيري يحلف بأيمان البيعة, فقال له يحيى: لا تكثر, ولا تهول بهذه اليمين. فإن كنت صادقاً فقل كما أقول لك, قل: إن كنت كاذباً فيما دفعت به مما حكيت عني فوكلني الله إلى حولي وقوتي, وأنا بريءٌ من حول الله وقوته!.. فوقف الزبيري عندها, فقال له الرشيد: ما يقفك؟ هذا طيلساني علي, وهذه قلنسوتي, ولو استحلفت على ملكهما لحلفت. فإن كنت صادقاً فاحلف, وإن كنت كاذباً فأمسك. فعرف الزبيري الشر,(2/577)
ورآه الفضل بن الربيع, وكان له فيه هوى, فحلف, فضرب يحيى بن عبد الله بكفه بين كتفي الزبيري وقال: لا تحلف والله بعدها أبداً.
قال إبراهيم بن رياح: فسمعت من لا أحصي من أهل بغداد يقولون: لما مات عبد الله بن مصعبٍ دفنه الفضل بن الربيع, فلما كاد الناس ينصرفون عن قبره, إذا هدةٌ, وكأن القبر خسف به, وسطع الغبار, فصاح الفضل بأصحابه, فأكثروا من السقائين, فما زالوا يصبون الماء والتراب عليه حتى سكن, وسوي الطين عليه!.. ولم يلبث عبد الله بن مصعب بعد يمينه إلا ستة أيام أو خمسةٍ, حتى مرض ومات.
حدثنا الجوهري قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثنا عبد الله ابن محمد بن عبد الله بن سالم قال: حدثنا/ شريك قال: حدثني حاجب الحجاج قال: دخلت بالحسن البصري على الحجاج حين بنى مدينة واسطٍ في خلافة عبد الملك. قال: فنظر إلى المدينة, فقال: إن السلطان ليرون في أنفسهم عبراً, ويرى فيهم عبرٌ, يشيدون(2/578)
البنيان, ثم يجمعون إليهم ذبان الطمع, ثم يقولون لهم: انظروا!.. فقد نظرنا يا أفسق الفاسقين. أما أهل السماء فمقتوك, وأما أهل الأرض فغروك. قال: ثم دخل على الحجاج, فلم يهجه حتى انصرف!..
قال: فأقبل الحجاج على أهل الشام فقال: يا أهل الشام, إن عبيد أهل العراق أسمعني ما أسمعني, ثم خرج سالماً! ثم قال: ردوه. وأمر بسيفٍ فشهر, ونطعٍ فبسط, / فقال: ادنه, ادنه حتى أجلسه على رجل فراشه, ثم قال: ما تقول في عثمان وعلي؟ وهو يريد أن يجد إليه سبيلاً. قال: أقول قول خيرٍ مني لمن هو شرٌ منك! قال: ومن هو خيرٌ منك؟ قال: موسى عليه السلام. قال: ومن هو شرٌ مني؟ قال: فرعون, حين سأله فقال: (فما بال(2/579)
القرون الأولى. قال: علمها عند ربي في كتابٍ, لا يضل ربي, ولا ينسى). قال: فصرفه, ولم يهجه!..
حدثنا ابن زكويه قال: حدثنا عبد الله بن الضحاك قال: حدثنا عبد الله بن محمد الهدادي عن أبيه قال: قال الحجاج ليزيد ابن أبي مسلم: أرسل إلى الحسن فأتني به./ قال: فبعث إليه, فجاء الحسن, فدخل والحجاج متكئٌ في مجلس له, ويزيد ابن أبي مسلم عند رجليه. فقال له يزيد: إن الأمير يريد أن يدفع إلى التجار, إلى كل رجل منهم ألف درهم, على أن يؤدوا إليه عند رأس الحول ذه دوازده.. فما ترى؟ قال الحسن: وما ذه دوازده؟ قال: العشرة باثني عشر. قال: ذلك محض الربا. قال يزيد: لا تفسد على الأمير عمله. فقال الحسن: يابن أبي مسلمٍ, إن الله لم يجعل هذا الدين هوىً للملوك وأتباعها.
قال: فاستوى الحجاج جالساً, فقال: ما تقول في أبي ترابٍ؟ قال: ومن أبو تراب؟ قال: علي بن أبي طالب./ قال: أقول: إن الله جعله من المهتدين. قال: هات بما تقول برهاناً. قال: قال الله(2/580)
في كتابه: {وما جعلنا القبلة التي كنت عليها..} إلى قوله: {وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله}.. فكان عليٌ أول من هدى الله مع النبي صلى الله عليه وسلم . قال: يقول الحجاج: رأيٌ عراقيٌ. قال: يقول الحسن: هو ما أقول لك. قال الحسن: فلما سلمني الله منه ذكرت عفو الله.
حدثني الغلابي قال: حدثنا عبد الله بن الضحاك قال: حدثنا هشام بن محمد عن عوانة بن الحكم قال: دخل أنس بن مالكٍ على الحجاج بن يوسف، فقال: إيهاً يا أنس، / يوماً مع علي، ويوماً مع ابن الزبير، ويوماً مع ابن الأشعث؟!.. أما والله لأستأصلنك، ولأدمغنك كما تدمغ الصمغة! فقال أنسٌ: من(2/581)
يعني الأمير؟ قال: إياك أعني، سك الله سمعك. قال أنسٌ: إنا لله وإنا إليه راجعون، والله لولا الصبية لما باليت أي ميتةٍ مت.
ثم خرج من عنده، وكتب إلى عبد الملك بن مروان:
((من أنس بن مالكٍ خادم رسول الله إلى عبد الملك بن مروان: أما بعد فإن الحجاج قال لي هجراً، وأسمعني نكراً، ولم أك لذلك منه ولا منك أهلاً، فخذ على يديه، واعل عليه، فإني أمت إليك بخدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصحبتي إياه، والسلام عليك ورحمة الله))./
فلما قرأ عبد الملك كتابه استشاط غضباً، وصفق عجباً، وأعظم ذلك من الحجاج!.. فبعث إلى إسماعيل بن أبي المهاجر، وكان(2/582)
صديقاً للحجاج، فقال: دونك كتابي هذين، فخذهما، واركب البريد إلى العراق، فابدأ بأنس بن مالك، فادفع إليه كتابه، وأبلغه مني السلام، وقل له: يا أبا حمزة، قد كتبت إلى الملعون الحجاج، وأمرته يكن لك أطوع من يديك. وكان في الكتاب:
((بسم الله الرحمن الرحيم.. من عبد الملك بن مروان إلى أنس ابن مالكٍ. أما بعد فقد قرأت كتابك, وفهمت ما ذكرت من شكايتك الحجاج، وما سلطته عليك، ولا أمرته/ بالإساءة إليك. فإن يعد إلى مثلها فاكتب إلي أنزل به عقوبتي، وأحسن لك معونتي، والسلام عليك ورحمة الله)).
فلما قرأ أنسٌ الكتاب، وأخبر بالرسالة قال: جزى الله أمير المؤمنين عني خيراً، وكافأه بالجنة، هذا كان ظني به ورجائي فيه. فقال إسماعيل: يا أبا حمزة، إن الحجاج عامل أمير المؤمنين، وليس بك عنه من غنىً، ولا بأهل بيتك وولدك. ولو جعل في جامعةٍ، ودفع إليك لقدر على أن يضر وينفع، فصافه وداره. قال: أفعل إن شاء الله!.. ..
قال: ثم إن إسماعيل أتى الحجاج، فلما نظر إليه قال: مرحباً(2/583)
برجل أوده، وقد كنت أحب لقاءه./ قال إسماعيل: وأنا قد كنت أحب لقاءك بغير ما لاقيتك به. قال: وما الذي لاقيتني به؟! قال: هذا كتاب أمير المؤمنين، وهو من أشد الناس عليك عتباً. قال: فاستوى الحجاج مرعوباً، وأخذ كتاب عبد الملك، فجعل يقرؤه مرة، وينظر إليه أخرى، فلما فرغ منه قال: امرر بنا إلى أبي حمزة لنترضاه، ونعتذر إليه. فقال: لا تعجل. قال: وكيف لا أعجل، وقد أتيتني بمعضلةٍ؟!. ثم رمى بالكتاب إليه، فكان فيه:
((من عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين إلى الحجاج بن يوسف.. أما بعد فإنك عبدٌ قنٌ طمت بك الأمور، فعلوت فيها، وعدوت طورك، وجاوزت قدرك، وركبت/ داهيةً إداً، وأردت أن تروزني، فإن سوغتكها نصبت قدماً، وإن لم أفعل رجعت القهقرى! فلعنك الله أخفش العينين منقوص الجاعرتين(2/584)
أنسيت -يا بن المستفرمة بعجم الزبيب- مكاسب آبائك بالطائف، حفرهم الآبار ونقلهم الصخور على ظهورهم في المناهل؟!.. والله لأغمزنك غمز الليث الثعلب.. وثبت على رجلٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم تقبل له إحساناً، ولم تجاوز له عن إساءةٍ جرأةً منك على الرب سبحانه، واستخفافاً بالعهد.
أما والله لو أن اليهود والنصارى رأوا رجلاً خدم عزيراً أو عيسى ابن مريم/ لعظمته، وشرفته، وكرمته. وهذا أنس بن مالكٍ خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم خدمه ثماني سنين، وأطلعه على سره، وهو بعد بقيةٌ من بقايا أصحابه، فإذا أتاك كتابي هذا فكن له أطوع من خفه ونعله، وإلا أتاك مني سهمٌ مثكلٌ بحتفٍ قاضٍ، ((ولكل نبأٍ مستقرٌ، وسوف تعلمون))..(2/585)
قال: فأتياه، فترضياه، وما عرف لعبد الملك مكرمةٌ أكرم منها.
حدثنا الجوهري قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثنا الحسين الأحول قال: حدثني حسين بن علي عن مجمع بن يحيى الأنصاري قال: دخل عبد الرحمن بن أبي ليلى على الحجاج، فقال: يا أهل الشام، إذا أردتم رجلاً يشتم أمير المؤمنين عثمان فدونكم هذا.
فقال عبد الرحمن: معاذ الله، أصلح الله الأمير! إنه ليمنعني من ذلك ثلاث آياتٍ من كتاب الله. قال: وما هن؟ قال: قال الله جل وعز: {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم..} إلى قوله: {أولئك هم الصادقون}.. فكان عثمان منهم. وقال تعالى: {والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم}(2/586)
[إلى قوله]: {فأولئك هم المفلحون} فكان أبي منهم. وقال الله: {والذين جاؤوا من بعدهم..} إلى قوله: {.. رؤوفٌ رحيمٌ} فأنا منهم. قال: صدقت!..
حدثنا أبو جعفر الطحاوي قال: حدثنا الوليد/ بن العباس المنصوري قال: حدثنا محمد بن أصبغ بن الفرج قال: حدثنا أبي قال: حدثنا علي بن عائش قال: حدثنا أبو فروة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: أتيت الحجاج لأسلم عليه. فلما رآني أمشي بين السماطين التفت إلى أهل الشام, فقال: إن أردتم أن تنظروا إلى رجلٍ, دم عثمان في ثوبه فانظروا هذا المقبل! فقربت منه, فقلت له: إن عثمان كان من الذين قال الله [فيهم]: {للفقراء(2/587)
المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم..} الآية. وأبي من الذين قال الله [فيهم]: {والذين تبوؤا الدار والإيمان..} الآية. وأنا من الذين قال الله [فيهم]: {والذين جاؤوا من بعدهم..} الآية. قال لي: انصرف, فانصرفت!..
حدثني أبو معاذ عبدان بن محمد قال: حدثنا العباس بن هشام بن محمد قال: حدثنا الهيثم بن عدي قال: كان الذي أتى عبد الملك بن مروان برأس مصعب بن الزبير –حين قتله زيادة بن قدامة- عبيد الله بن زياد بن ظبيان:
نعاطي الملوك الحق ما قسطوا لنا وليس علينا قتلهم بمحرم(2/588)
فكان ابن ظبيان يقول: ندمت ألا أكون ضربت رأس عبد الملك حين سجد, فأكون قد قتلت ملكي العرب, وتركتها تضطرب بأسيافها. فبلغ قوله عبد الملك, فكان عليه حنقاً, يسيء حجابه, فاستأذن عليه يوماً, فقال:/ إنا والله ما نكره سخط من رضاه في الجور. فإن يك لك طاعةٌ علينا فيما أحببت, فإن لنا العدل عليك فيما وليت. ولست مستكملاً طاعتنا إلا بعدلك فينا, فآثر طاعة الله على هواك تسلم لك طاعتنا, وتخلص لك نياتنا, ولا تبغ الفساد في الأرض, إن الله بعملك بصيرٌ, وإليه تصير.
فغضب عبد الملك وقال: لولا أن خير الأمور مغبةً, وأحمدها عاقبةً, وأفضلها أجراً العفو عما كان بعد القدرة لضربت عنقك. فقال ابنه: يا أمير المؤمنين, لم تستبقي من لم يعرف لك من رادع الهيبة وجلالة الخلافة وواجب الطاعة ما/ عرفه لك المسلمون؟. فقال عبد الملك: ما تكلمت بكلامٍ أصيلٍ لبيبٍ ولا هديت لأمرٍ(2/589)
رشيدٍ مصيبٍ, وإن مثلك لكما قال حسان بن ثابت:
ترى الناس أخلاطاً جميعاً وإنهم ... على ذاك شتى والهوى متفرق
ترى المرء إن جالسته ذا صناعةٍ ... وسائر ما فيه سوى ذاك أحمق
وتلقى أصيل اللب ليس صناعه ... بمخرج ما في قلبه حين ينطق
حدثنا ابن زكويه قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن عن أبيه عن هشام بن سليمان قال: حدثني من شهد أبا العباس السفاح, وقد حضره جماعة الطالبيين وبنو العباس, فذكروا جمع الأموال, وأنها تشرف الوضيع, / وتحسن القبيح, وتعز الذليل.
فقال عبد الله بن حسنٍ: يا أمير المؤمنين, سمعت بألف(2/590)
ألف درهم, وما رأيتها مجتمعةً قط. فقال أبو العباس: فأنا أجيئك بها, حتى تراها مجتمعةً في ملكك. فقام عبد الله بن حسن, فشكر أبا العباس على بره به وبولد أبيه وصلته لهم. فدعا أبو العباس صالح ابن الهيثم فأمره أن يحمل المال إليه. فلما قبضه, وصار في ملكه استأذن أبا العباس في الخروج إلى المدينة, فأذن له, ودفع إليه مالاً, وأمره أن يقسمه على بني هاشمٍ بالمدينة, ويزوج بعضهم من بعض, ودفع إليه حلياً من ذهب وجوهراً, وأمره أن يضعه/ عند ثقةٍ من أهل المدينة لنساء بني هاشم, يزينون به عرائسهم, ويتحملون به في حقوقهم. فلما قدم المدينة امتثل ما أمره به, فكان لا يشهد مجلساً من مجالس بني هاشم, ولا يمر به إلا سمعهم يدعون لأبي العباس, ويقرظونه, فساءه ذلك لما كان يريض ابنه له.
فخرج يوماً ومعه جعفر بن محمد وعلي بن حسن وإبراهيم ابن حسن، فمروا بمجلس من مجالس بني هاشم- فسمعهم يقرظون أبا العباس، ويدعون له، فقال: هؤلاء أحمق دواب الله، يشكرون(2/591)
رجلاً، ويدعون له على أن أعطاهم بعض حقوقهم، وذهب بأكثرها!
فكتب بكلامه إلى أبي العباس، فكتب إلى أبي جعفر/ وإلى سليمان بن علي وعيسى بن علي وإسماعيل بن علي يعرفهم ذلك، وقرأ عليهم الكتاب، وقال: سمعت أبا عبد الله محمد بن علي رضوان الله عليه يقول: أعداء النعمة المصونة بالمروءة بنو عم السوء، إن ظهر لهم البر كفروه، وإن رأوا خيراً كتموه، وإن رأوا شراً أذاعوه، وإن بلغهم قبيحٌ أظهروه!.. هذا شيخ بني أبي طالب وكبيرهم عبد الله بن حسن، قد خفت أن أكون أسخطت الله فيما أعطيته، وأعطيت ولد أبيه من ماله الذي خولنيه براً بهم وصلةً لأرحامهم. وهو يزعم أني قد ذهبت بحقه وحقوقهم.
فقال سليمان بن علي: يا أمير المؤمنين، إن جبريل/ لما نزل على(2/592)
النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الآية: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين} قال النبي لجبريل عليهما السلام: ما هذا؟ قال جبريل صلى الله عليه: إن الله يأمرك أن تصل من قطعك، وتعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك. وأولى الناس بالانتهاء إلى أمر الله وأحقهم بأدب رسول الله أنت يا أمير المؤمنين لقرابتك من رسول الله ومكانك من خلافة الله، فصله لقرابته وإن قطع، واعف عنه لحقه وإن ظلم.
وقال عيسى بن علي: إن أبا محمد علي بن عبد الله رحمه الله ذكر لجماعة بني هاشم إكرام عبد الملك له وبره به، / فقال علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب: ما أزين بالشريف شكر ما يولى. فقال علي بن عبد الله: من كتم المعروف فقد كفر، ويجب على الشريف أن يشكر من أنعم عليه بفضل بيان لسانه ومذخور جوهر كلامه، وينعم على من شكر بما نالته قدرته، وبلغه حويله لأن(2/593)
النعم لا زوال لها إذا شكرت، ولا إقامة لها إذا كفرت. والشكر زيادةٌ في النعم، وأمانٌ من الغير، وعبد الله بن حسن يكتم المعروف، ولا يقوم بشكر ما أولي، ولا يحفل ما يجب عليه من الشكر، ولا يخاف عاقبة تركه.
فقال إسماعيل: يا أمير المؤمنين، كانت العرب تقول:/ استتمام الصنيعة أشر من ابتدائها، ورب المعروف أوجب من اصطناعه. فاستتم صنيعتك -يا أمير المؤمنين- ورب معروفك عند قرابتك ولحمتك بالصفح عن ذنوبهم وجرائمهم ليجزل الله به ثوابك، ويحسن عليه مآبك.
فقال أبو جعفر: يا أمير المؤمنين، إن أباه علي بن أبي طالب صلوات الله عليه- قال للذين بايعوه، وهو يطلب هذا الأمر الذي أعطاكه الله: النار بالنار تطفأ، والحديد بالحديد يفلح، ومن لا(2/594)
يصلحه الخير يصلحه الشر فاحمله -يا أمير المؤمنين- على أدب أبيه، ولا تتركه يمرح في أعنة القطيعة والعقوق.
فقال أبو العباس: من تشدد أنفر، ومن لان تألف، والتغافل من فعل/ الكرام، وتمثل قول الأعشى:
يغضي على العوراء لولا الحلم غيرها انتصاره
والعلم بالأمر الذي ... تشري أكابره صغاره
فيقيل قائلها وقد ... أبدى مقاتله عثاره
.. بل أعفو عنه، وأتغمد سيئته، وأصل رحمه.. ثم بعث إليه بمائتي ألف درهمٍ وثلاثمائة ألف درهم لولد أبيه!..(2/595)
حدثنا الجوهري عن ابن شبة قال: استعمل الحجاج خالد ابن عتاب بن ورقاء الرياحي على الري، وكانت أمه أم ولدٍ. فكتب إليه الحجاج يلخن أمه، ويقول له: يا بن ميثاء، أنت الذي هربت عن أبيك حتى قتل. وكان خالدٌ قد آلى يميناً ألا يسمع أحدٌ أمه إلا رد عليه. فكتب إليه خالد: ((كتبت إلي/ تلخن أمي، وتزعم أني فررت عن أبي حتى قتل. ولعمري لقد فررت عنه بعد أن قتل، وحين لم أجد لي مقاتلاً. ولكن أخبرني عنك يا بن اللخناء -ويقال: كتب إليه: يا بن المستفرمة بعجم الزبيب- حين فررت أنت(2/596)
وأبوك يوم الحرة على جملٍ ثفالٍ: أيكما كان أمام صاحبه؟!)).
فقرأ الحجاج الكتاب، فقال صدق:
أنا الذي فررت يوم الحرة ... ثم ثنيت كرةً بفرة
والشيخ لا يفر إلا مرة(2/597)
ثم طلبه فهرب إلى الشام، وسلم بيت المال لم يرزأ/ منه شيئاً. وكتب فيه الحجاج إلى عبد الملك.
وقدم خالدٌ الشام، فسأل عن وزراء عبد الملك، فدل على روح ابن زنباعٍ، فأتاه حين طفلت الشمس، فقال: إني جئتك مستجيراً. قال: قد أجرتك إن لم تكن خالد بن عتاب. قال: فأنا -والله- خالد بن عتاب! فتغير لونه، وقال: نشدتك الله إلا خرجت عني، فإني لا آمن عبد الملك. قال: أنظرني تغرب الشمس. فجعل روحٌ يراعيها حتى خرج، فأتى زفر بن الحارث الكلابي، فقال: قد جئتك مستجيراً. قال: قد أجرتك. قال: فإني خالد بن عتاب. قال: وإن كنت خالداً.
فلما أصبح/ زفر دعا ابنين له، فتهادى بينهما. وقد كان(2/598)
أسن، فدخل على عبد الملك، وقد كان أذن للناس. فلما رآه دعا له بكرسيٍ، فوضع عند رأسه، فجلس، ثم قال: يا أمير المؤمنين، إني قد أجرت عليك رجلاً فأجره. قال: قد أجرته إلا أن يكون خالداً. قال: فهو -والله- خالدٌ. قال: لا ولا كرامة. فقال زفر لابنيه: انهضا بي!.. فأخذا بيده.
فلما ولى قال: يا عبد الملك، أما والله لو تعلم أن يدي تطيق حمل القناة ورأس الجواد لأجرت من أجرت. فضحك عبد الملك وقال: يا أبا الهذيل، قد أجرنا من أجرت، ولا أرينه. وأرسل إلى خالدٍ بألفي درهم، فأخذها، ودفع إلى رسوله أربعة آلاف.
حدثنا الجوهري قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثنا أبو عبيدة وأحمد بن حاتم عن محمد بن حازم قال: حدثنا عمرو بن المهاجر عن إبراهيم بن محمد بن سعد عن أبيه قال: أتي سعدٌ بأبي(2/599)
محجنٍ يوم القادسية، وقد شرب الخمر، فأمر به إلى القيد، وكانت بسعد جراحةٌ، فلم يخرج يومئذٍ إلى الناس، فصعدوا به إلى العذيب لينظر إلى الناس، واستعمل على الخيل خالد بن عرفطة. فلما التقى الناس قال أبو محجنٍ:
كفى حزناً أن ترجم الخيل بالقنا ... وأترك مشدوداً على وثاقيا(2/600)
إذا قمت عناني الحديد وأغلقت ... مصاريع من دوني تصم المناديا
وقد كنت ذا مالٍ كثيرٍ وإخوةٍ ... فقد تركوني واحداً لا أخا ليا
وقد شف جسمي أنني كل شارقٍ ... أعالج كبلاً مصمتاً قد برانيا
قعودي عن الحرب العوان وقد غدت ... وإعمال غيري يوم ذاك العواليا
فلله دري يوم أترك موثقاً ... ويذهل عني أسرتي ورجاليا
قال: فقال لامرأة سعدٍ خصفة: أطلقيني، ولك الله علي إن سلمني أن أرجع حتى أضع رجلي في القيد، وإن قتلت استرحتم(2/601)
مني. فخلته، فوثب على فرسٍ لسعدٍ، يقال لها: البلقاء، ثم أخذ رمحاً، ثم خرج، فجعل لا يحمل على ناحيةٍ من العدو إلا هزمهم. وجعل الناس يقولون: هذا ملك! لما يرونه يصنع. وجعل سعدٌ يقول: الصبر صبر البلقاء، والطعن طعن أبي محجنٍ، وأنى وأبو محجنٍ في القيد؟!..
فلما/ هزم العدو، ورجع أبو محجنٍ حتى وضع رجله في القيد، فأخبرت ابنة خصفة سعداً بذلك، وما كان من أمره. فقال سعدٌ: لا والله لا أضرب اليوم رجلاً، أبلى الله المسلمين على يديه ما أبلى، وخلى سبيله، فقال أبو محجن: قد كنت أشربها إذ كان يقوم علي الحد، وأطهر منها، فأما إذ بهرجتني، فلا والله لا أشربها أبداً!..(2/602)
وروي أن أبا محجنٍ لما هزم الله المشركين على يديه كر مسرعاً إلى محبسه، فرأته امرأته، فظنت أنه منهزم، فقالت:
من فارسٌ كره الطعان يعيرني ... رمحاً إذا نزلوا بمرج الصفر
فقال أبو محجنٍ يجيبها:
إن الكرام على الجياد مبيتهم ... فذري الرماح لأهلها وتعطري(2/603)
وقال أبو محجنٍ لما ترك شرب الخمر:
إن كانت الخمر قد عزت وقد حرمت ... وحال من دونها الإسلام والحرج
فقد أباكرها رياً فأشربها ... صرفاً وأطرب أحياناً فأمتزج
وقد تقوم على رأسي منعمةٌ ... فيها إذا رجعت من صوتها غنج
ترفع الصوت أحياناً وتخفضه ... كما يطن ذباب الروضة الهزج
تم الكتاب، وبتمامه تم الجزء الثاني من كتاب العفو والاعتذار بمشيئة الله تعالى والحمد لله وحده.(2/604)