فَصْلٌ
فَهَذِهِ (أَمْثِلَةٌ عَشَرَةٌ) (1) تُوَضِّحُ لَكَ (الْوَجْهَ الْعَمَلِيَّ) (2) فِي الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ، وَتُبَيِّنُ لَكَ اعْتِبَارَ أُمُورٍ:
أَحَدُهَا: الْمُلَاءَمَةُ لِمَقَاصِدِ الشَّرْعِ بِحَيْثُ لَا تُنَافِي أَصْلًا مِنْ أُصُولِهِ، وَلَا دَلِيلًا مِنْ (أدلته) (3).
والثاني: أَنَّ عَامَّةَ النَّظَرِ فِيهَا إِنَّمَا هُوَ فِيمَا عقل (معناه) (4) وجرى على (ذوق) (5) المناسبات المعقولة (المعنى) (6) الَّتِي إِذَا عُرِضَتْ عَلَى الْعُقُولِ تَلَقَّتْهَا بِالْقَبُولِ، فَلَا مَدْخَلَ لَهَا فِي التَّعَبُّدَاتِ، وَلَا مَا جَرَى مَجْرَاهَا مِنَ الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ، لِأَنَّ عَامَّةَ التَّعَبُّدَاتِ لَا يُعْقَلُ لَهَا مَعْنًى عَلَى التَّفْصِيلِ (7)، كَالْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ فِي زَمَانٍ مَخْصُوصٍ دُونَ غيره، والحج، ونحو ذلك (8).
فليتأمل/ النَّاظِرُ الْمُوَفَّقُ كَيْفَ وُضِعَتْ عَلَى التَّحَكُّمِ الْمَحْضِ المنافي للمناسبات التفصيلية (9).
_________
(1) في (ت): "الأمثلة العشرة".
(2) في (ت): "أوجه العلم".
(3) في (ط) و (خ): "دلائله".
(4) في (ط): "منها".
(5) في (ط): "دون".
(6) زيادة من (غ) و (ر).
(7) في هامش (ت) ما نصه: "قوله: على التفصيل؛ يعني لما كانت الصلوات خمساً؟ ولماذا كان الركوع كذا والسجود كذا؟ إلى غير ذلك من سائر العبادات في صورها وأزمنتها وأمكنتها كلية وجزئية، وأما من حيث معقوليتها إجمالاً وهو وضعها لأجل التعبد لله وحده بالطاعة، في التذلل له سبحانه والخضوع لعزته وجلاله، فإنها من هذه الجهة معقولة معلومة".
(8) مسألة تعليل العبادات واختلاف العلماء فيها، فصَّلها أحمد الريسوني في رسالته: نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي (ص185 ـ 232).
(9) في هامش (ت) ما نصه: "قلت: وكذلك لتحقق كمال الطاعة والعبودية من العبد العاجز=(3/35)
أَلَا تَرَى/ أَنَّ الطَّهَارَاتِ ـ عَلَى اخْتِلَافِ/ أَنْوَاعِهَا ـ قَدِ اخْتَصَّ كُلُّ نَوْعٍ مِنْهَا بِتَعَبُّدٍ مُخَالِفٍ جِدًا لِمَا يَظْهَرُ (لِبَادِي) (1) الرَّأْيِ؟
فَإِنَّ الْبَوْلَ وَالْغَائِطَ خَارِجَانِ نَجِسَانِ يَجِبُ بِهِمَا تَطْهِيرُ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ دُونَ الْمَخْرَجَيْنِ فَقَطْ، وَدُونَ جَمِيعِ الْجَسَدِ، فَإِذَا خَرَجَ الْمَنِيُّ أَوْ دَمُ الْحَيْضِ وَجَبَ غسل جميع الجسد دون المخرج فقط، ودون أعضاء الوضوء.
ثم (ذلك) (2) التطهير واجب مع نظافة/ الأعضاء، وَغَيْرُ وَاجِبٍ مَعَ قَذَارَتِهَا بِالْأَوْسَاخِ وَالْأَدْرَانِ، إِذَا فُرِضَ أَنَّهُ لَمْ يُحْدِثْ.
ثُمَّ التُّرَابُ ـ وَمِنْ شَأْنِهِ التَّلْوِيثُ ـ يَقُومُ مَقَامَ الْمَاءِ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ التَّنْظِيفُ، ثُمَّ نَظَرْنَا فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ فَلَمْ نَجِدْ فِيهَا مُنَاسَبَةً لِإِقَامَةِ الصَّلَوَاتِ فِيهَا، لِاسْتِوَاءِ الْأَوْقَاتِ فِي ذَلِكَ.
وَشُرِعَ لِلْإِعْلَامِ بِهَا أَذْكَارٌ مَخْصُوصَةٌ/ لَا يُزَادُ فِيهَا وَلَا يُنْقَصُ مِنْهَا/، فَإِذَا أُقِيمَتِ ابْتَدَأَتْ إِقَامَتُهَا بِأَذْكَارٍ أَيْضًا، ثُمَّ شُرِعَتْ (رَكَعَاتُهَا) (3) مُخْتَلِفَةً بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ، وَكُلُّ رَكْعَةٍ لَهَا رُكُوعٌ وَاحِدٌ وَسُجُودَانِ دُونَ الْعَكْسِ، إِلَّا صَلَاةَ (خُسُوفِ/ الشَّمْسِ) (4) فَإِنَّهَا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، ثُمَّ كَانَتْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ دُونَ أَرْبَعٍ أو ست أو غير ذَلِكَ مِنَ الْأَعْدَادِ، فَإِذَا دَخَلَ الْمُتَطَهِّرُ الْمَسْجِدَ أمر بتحيته بركعتين دون واحدة (كالوتر) (5)، أَوْ أَرْبَعٍ كَالظُّهْرِ، فَإِذَا سَهَا فِي صَلَاةٍ سجد سجدتين دون سجدة واحدة، وإذا قرأ سَجْدَةٍ، سَجَدَ وَاحِدَةً دُونَ اثْنَتَيْنِ.
ثُمَّ أُمِرَ بِصَلَاةِ النَّوَافِلِ، وَنُهِيَ عَنِ الصَّلَاةِ فِي أَوْقَاتٍ مَخْصُوصَةٍ، وَعَلَّلَ النَّهْيَ بِأَمْرٍ غَيْرِ مَعْقُولِ الْمَعْنَى.
_________
=الضعيف لسيده ومولاه القادر القوي، لأن معرفة علة الخدمة تكسر سورة المهابة والتعظيم لجانب المخدوم".
(1) في (غ) و (ر): "ببادي".
(2) في (م): "ذكر". وفي (ط) و (خ) و (ت): "إن".
(3) في (م): "ركعتاها".
(4) في (غ) و (ر): "الخسوف".
(5) في (ط) و (خ): "كالموتر".(3/36)
ثُمَّ شُرِعَتِ الْجَمَاعَةُ فِي بَعْضِ النَّوَافِلِ، كَالْعِيدَيْنِ، وَالْخُسُوفِ، وَالِاسْتِسْقَاءِ، دُونَ صَلَاةِ اللَّيْلِ (1)، وَرَوَاتِبِ النَّوَافِلِ.
فَإِذَا صِرْنَا إِلَى غُسْلِ الْمَيِّتِ وَجَدْنَاهُ لَا معنى له معقولاً، لأنه غَيْرُ مُكَلَّفٍ، ثُمَّ أُمِرْنَا بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ بِالتَّكْبِيرِ دُونَ رُكُوعٍ أَوْ سُجُودٍ أَوْ تَشَهُّدٍ وَالتَّكْبِيرُ (عليه) (2) أَرْبَعُ تَكْبِيرَاتٍ دُونَ اثْنَتَيْنِ أَوْ سِتٍّ أَوْ سَبْعٍ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْأَعْدَادِ (3).
فَإِذَا صِرْنَا إِلَى الصِّيَامِ وَجَدْنَا فِيهِ مِنَ التَّعَبُّدَاتِ غَيْرِ المعقولة (المعنى) (4) كثيراً (أيضاً) (5)، كَإِمْسَاكِ النَّهَارِ دُونَ اللَّيْلِ، وَالْإِمْسَاكِ عَنِ الْمَأْكُولَاتِ وَالْمَشْرُوبَاتِ، دُونَ الْمَلْبُوسَاتِ وَالْمَرْكُوبَاتِ، وَالنَّظَرِ/ وَالْمَشْيِ/ وَالْكَلَامِ، وأشباه ذلك، وكان (الإمساك عن) (6) الْجِمَاعُ (وَهُوَ) (7) رَاجِعٌ إِلَى الْإِخْرَاجِ ـ كَالْمَأْكُولِ ـ وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى الضِّدِّ ـ.
وَكَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ ـ وَإِنْ كَانَ قَدْ أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ـ وَلَمْ يَكُنْ أَيَّامَ الْجُمَعِ، وَإِنْ كَانَتْ خَيْرَ أَيَّامٍ طَلَعَتْ عَلَيْهَا الشَّمْسُ، أَوْ كَانَ الصِّيَامُ أَكْثَرَ مِنْ شَهْرٍ أَوْ أَقَلَّ، ثُمَّ الْحَجُّ أَكْثَرَ تَعَبُّدًا مِنَ الْجَمِيعِ.
وَهَكَذَا تَجِدُ عَامَّةَ التَّعَبُّدَاتِ فِي كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ.
(فَاعْلَمُوا) (8) أَنَّ فِي هَذَا الِاسْتِقْرَاءِ مَعْنًى يُعْلَمُ مِنْ مَقَاصِدِ الشرع أنه قصد قصده، ونحى نَحْوَهُ،/ (وَاعْتُبِرَتْ جِهَتُهُ) (9)؛ وَهُوَ أَنَّ مَا كَانَ من
_________
(1) ويستثنى من ذلك قيام الليل من شهر رمضان، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم فعله، ثم تركه خوفاً أن يفرض على الأمة، ثم أعاد ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، والمسألة مشهورة.
(2) زيادة من (م) و (غ) و (ر).
(3) ثبت عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كبر على الميت أربع وخمس وست وسبع وتسع تكبيرات. انظر تفصيل المسألة في فتح الباري (3 240 ـ 241)، وشرح صحيح مسلم (7 32 ـ 24)، وأحكام الجنائز للألباني (ص111 ـ 114).
(4) زيادة من (غ) و (ر).
(5) زيادة من (م) و (غ) و (ر).
(6) ما بين القوسين زيادة من (ت).
(7) في (خ): "هو".
(8) في (ط) و (خ): "ما علموا".
(9) سقط من (غ) و (ر).(3/37)
التَّكَالِيفِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، فَإِنَّ قَصْدَ الشَّارِعِ (فيه) (1) أَنْ يُوقِفَ (عِنْدَهُ) (2) وَيَعْزِلَ عَنْهُ النَّظَرَ الِاجْتِهَادِيَّ جُمْلَةً، وَأَنْ يُوكَلَ إِلَى وَاضِعِهِ وَيُسَلَّمَ لَهُ فيه، سواء عَلَيْنَا أَقُلْنَا: إِنَّ التَّكَالِيفَ مُعَلَّلَةٌ بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، أَمْ لَمْ نَقُلْهُ، اللَّهُمَّ إِلَّا قَلِيلًا مِنْ مَسَائِلِهَا/ ظَهَرَ فِيهَا مَعْنًى فَهِمْنَاهُ مِنَ الشَّرْعِ، فَاعْتَبَرْنَا بِهِ أَوْ شَهِدْنَا فِي بَعْضِهَا بِعَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، وَالْمَسْكُوتِ عَنْهُ، فَلَا حَرَجَ حِينَئِذٍ، فَإِنْ أَشْكَلَ الْأَمْرُ فَلَا بُدَّ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ، فَهُوَ الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى لِلْمُتَفَقِّهِ فِي الشَّرِيعَةِ والوَزَر (3) الْأَحْمَى.
وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَالَ حُذَيْفَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (كُلُّ عِبَادَةٍ لَمْ يَتَعَبَّدْهَا أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا تعبَّدوها؛ فَإِنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَدَعْ لِلْآخِرِ مَقَالًا، فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ، وَخُذُوا بِطَرِيقِ مَنْ كَانَ قبلكم)، ونحوه لابن مسعود أيضاً (4).
_________
(1) زيادة من (غ) و (ر).
(2) في (م): "عند".
(3) الوزر بفتح الواو والزاي: هو الملجأ. انظر: لسان العرب مادة (وزر).
(4) أثر حذيفة بن اليمان أخرجه ابن المبارك في الزهد (47) وبنحوه ابن أبي شيبة في المصنف (16651 و18985)، والبخاري (7282)، نحوه مختصراً، وابن وضاح في البدع والنهي عنها (10 و11 و12 و15 و16)، وعبد الله في السنة (106)، ومحمد بن نصر المروزي في السنة (86 و87)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (1809)، وابن بطة في الإبانة (196 و197)، واللالكائي (119)، وأبو نعيم في الحلية (1 280)، والخطيب في تاريخه (3 446). وهذا النص يظهر أن الشاطبي أخذه من الطرطوشي في كتابه الحوادث والبدع كما في (ص298).
وأثر ابن مسعود أخرجه وكيع في الزهد (315) بلفظ: (اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم وكل بدعة ضلالة)، وعنه أحمد في الزهد (ص202)، والدارمي برقم (205)، وابن وضاح في البدع والنهي عنها برقم (14)، والطبراني في الكبير برقم (8770)، وابن بطة برقم (175)، ومحمد بن نصر المروزي في السنة برقم (78)، واللالكائي برقم (104)، والبيهقي في المدخل (204)، والأصبهاني في الترغيب والترهيب (1 218)، كلهم من طريق الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي عبد الرحمن السلمي عن ابن مسعود، وأخرجه أبو خيثمة في كتاب العلم برقم (54) عن جرير عن العلاء عن حماد عن إبراهيم، قال: قال عبد الله بن مسعود .. ، بنحوه، وأخرجه ابن وضاح في البدع والنهي عنها (12) من طريق قتادة عن ابن مسعود، بنحوه.(3/38)
وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ ذَلِكَ كَثِيرٌ.
وَلِذَلِكَ الْتَزَمَ مَالِكٌ فِي الْعِبَادَاتِ عَدَمَ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْمَعَانِي وَإِنْ ظَهَرَتْ/ لِبَادِي الرَّأْيِ، وُقُوفًا مَعَ مَا فُهِمَ مِنْ مَقْصُودِ الشَّارِعِ فِيهَا مِنَ التَّسْلِيمِ (لها) (1) عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ/ فِي إِزَالَةِ الْأَخْبَاثِ/ وَرَفْعِ الْأَحْدَاثِ، إِلَى مُطْلَقِ النَّظَافَةِ الَّتِي اعْتَبَرَهَا غَيْرُهُ، حَتَّى اشْتَرَطَ فِي رَفْعِ الْأَحْدَاثِ النِّيَّةَ، وَلَمْ يَقُمْ غَيْرُ الْمَاءِ مَقَامَهُ عِنْدَهُ وَإِنْ حَصَلَتِ النَّظَافَةُ، حَتَّى يَكُونَ بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ، وَامْتَنَعَ مِنْ إِقَامَةِ غَيْرِ التَّكْبِيرِ وَالتَّسْلِيمِ وَالْقِرَاءَةِ بِالْعَرَبِيَّةِ مَقَامَهَا فِي التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ/ وَالْإِجْزَاءِ، وَمَنَعَ مِنْ إِخْرَاجِ القِيَم فِي الزَّكَاةِ، (وَاقْتَصَرَ) (2) فِي الْكَفَّارَاتِ عَلَى مُرَاعَاةِ الْعَدَدِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
وَدَوَرَانِهِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى الْوُقُوفِ مَعَ مَا حَدَّهُ الشَّارِعُ دُونَ مَا يَقْتَضِيهِ مَعْنًى مُنَاسِبٌ ـ إِنْ تَصَوَّرَ ـ لِقِلَّةِ ذَلِكَ فِي التَّعَبُّدَاتِ وَنُدُورِهِ، بِخِلَافِ قِسْمِ الْعَادَاتِ الَّذِي هُوَ جَارٍ عَلَى الْمَعْنَى الْمُنَاسِبِ الظَّاهِرِ لِلْعُقُولِ؛ فَإِنَّهُ اسْتَرْسَلَ فِيهِ اسْتِرْسَالَ الْمُدِلِّ الْعَرِيقِ/ فِي فَهْمِ الْمَعَانِي الْمَصْلَحِيَّةِ، نَعَمْ (مَعَ) (3) مُرَاعَاةِ مَقْصُودِ الشَّارِعِ أَنْ لَا يَخْرُجَ عَنْهُ، وَلَا يُنَاقِضَ أَصْلًا مِنْ أُصُولِهِ، حَتَّى لَقَدِ اسْتَشْنَعَ الْعُلَمَاءُ كَثِيرًا مِنْ وُجُوهِ اسْتِرْسَالِهِ زَاعِمِينَ أَنَّهُ خَلَعَ الرِّبْقَةَ (4)، وَفَتَحَ بَابَ التَّشْرِيعِ، وَهَيْهَاتَ مَا أَبْعَدَهُ مِنْ ذَلِكَ ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ بَلْ هُوَ الَّذِي رَضِيَ لِنَفْسِهِ فِي فِقْهِهِ بِالِاتِّبَاعِ، بِحَيْثُ يُخَيَّلُ لِبَعْضٍ (الناس) (5) أَنَّهُ مُقَلِّدٌ لِمَنْ قَبْلُهُ، بَلْ هُوَ صَاحِبُ البصيرة في دين الله ـ حسبما بين (ذلك) (6) أصحابه في (كتب) (7) سِيَرِهِ.
بَلْ حُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا رَأَيْتَ الرَّجُلَ يُبْغِضُ مَالِكًا
_________
(1) زيادة من (م) و (غ) و (ر).
(2) في (ط) و (خ): "واختصر".
(3) ساقطة من (غ) و (ر).
(4) الربق بكسر الراء المشددة وفتحها: الخيط، واستعيرت للإسلام، فتقول: خلع ربقة الإسلام: أي عقده. انظر لسان العرب مادة ربق.
(5) زيادة من (غ) و (ر).
(6) زيادة من (م).
(7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "كتاب".(3/39)
فَاعْلَمْ أَنَّهُ مُبْتَدِعٌ (1).
وَهَذِهِ غَايَةٌ/ فِي الشَّهَادَةِ بِالِاتِّبَاعِ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: أَخْشَى عَلَيْهِ الْبِدْعَةَ ـ يعني المبغض لمالك (2) ـ.
وقال ابن مهدي (3): إِذَا رَأَيْتَ الْحِجَازِيَّ يُحِبُّ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ فَاعْلَمْ أَنَّهُ صَاحِبُ سُنَّةٍ، وَإِذَا رَأَيْتَ أَحَدًا يَتَنَاوَلُهُ فَاعْلَمْ أَنَّهُ عَلَى خِلَافِ (السُّنَّةِ) (4).
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَحْيَى (بْنِ هِشَامٍ) (5): مَا سَمِعْتُ أَبَا دَاوُدَ لَعَنَ أَحَدًا قَطُّ إِلَّا/ رَجُلَيْنِ: أَحَدُهُمَا رَجُلٌ ذُكِرَ لَهُ أَنَّهُ لَعَنَ مَالِكًا، وَالْآخَرُ بِشْرُ الْمُرَيْسِيُّ (6).
وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَغَيْرُ مَالِكٍ أَيْضًا مُوَافِقٌ لَهُ فِي أَنَّ أَصْلَ الْعِبَادَاتِ عَدَمُ مَعْقُولِيَّةِ الْمَعْنَى، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ التفاصيل، فالأصل متفق عليه (بين) (7) الْأُمَّةِ، مَا عَدَّا الظَّاهِرِيَّةَ؛ فَإِنَّهُمْ لَا يُفَرِّقُونَ بين العبادات والعادات، بل الكل تعبد غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى، فَهُمْ أَحْرَى بِأَنْ لَا يَقُولُوا بِأَصلِ الْمَصَالِحِ، فَضلًا عَنْ أَنْ يَعْتَقِدُوا المصالح المرسلة.
والثالث: أَنَّ حَاصِلَ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ يَرْجِعُ إِلَى حِفْظِ أَمْرٍ ضَرُورِيٍّ، وَرَفْعِ حَرَجٍ لَازِمٍ فِي الدِّينِ، وأيضاً (فرجوعها) (8) إلى حفظ الضروري من
_________
(1) انظر: ترتيب المدارك (1 169 ـ 170).
(2) المصدر السابق (1 170).
(3) هو: الإمام عبد الرحمن بن مهدي بن حسان العنبري، تقدمت ترجمته (1 84).
(4) ما بين القوسين ساقط من (غ) و (ر)، وقول ابن مهدي أخرجه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (1 25) وانظر: ترتيب المدارك (1 170).
(5) في (م) و (ت) و (خ) و (ر): "بن بسام"، وفي (غ) و (ر): "إبراهيم بن يحيى". فقط بدون زيادة ولم أقف له على ترجمة، ووقفت على من اسمه: إبراهيم بن يحيى بن هشام في تفسير ابن كثير في تفسير سورة النمل: الآية (15). والله أعلم.
(6) هو بشر بن غياث بن أبي كريمة العدوي مولاهم البغدادي المريسي تقدمت ترجمته.
(7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "عند".
(8) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): مرجعها.(3/40)
بَابِ مَا (لَا) (1) يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ/ فَهِيَ إِذًا مِنَ الْوَسَائِلِ لَا مِنَ الْمَقَاصِدِ، وَرُجُوعُهَا إِلَى رَفْعِ الْحَرَجِ رَاجِعٌ إِلَى بَابِ التَّخْفِيفِ لَا إِلَى التَّشْدِيدِ.
/أَمَّا رُجُوعُهَا إِلَى ضَرُورِيٍّ (فَقَدْ ظَهَرَ) (2) مِنَ الْأَمْثِلَةِ الْمَذْكُورَةِ.
وَكَذَلِكَ رُجُوعُهَا إِلَى رَفْعِ حَرَجٍ لَازِمٍ، وَهُوَ إِمَّا لَاحِقٌ بِالضَّرُورِيِّ، وَإِمَّا مِنَ الْحَاجِيِّ، وَعَلَى كُلِّ تقدير فليس فيها ما يرجع إلى (التحسين) (3) وَالتَّزْيِينِ الْبَتَّةَ، فَإِنْ جَاءَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، فإما من باب آخر (لا) (4) مِنْهَا،/ كَقِيَامِ رَمَضَانَ فِي الْمَسَاجِدِ جَمَاعَةً ـ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ (5) ـ وَإِمَّا مَعْدُودٌ مِنْ قَبِيلِ الْبِدَعِ الَّتِي أَنْكَرَهَا السَّلَفُ الصَّالِحُ كَزَخْرَفَةِ الْمَسَاجِدِ وَالتَّثْوِيبِ بِالصَّلَاةِ (6)، وهو من قبيل ما (لا) (7) يُلَائِمُ.
وَأَمَّا كَوْنُهَا فِي الضَّرُورِيِّ مِنْ قَبِيلِ الْوَسَائِلِ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ (فظاهر من الأمثلة المذكورة وأشباهها، وحقيقة ما لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ) (8)، إِنْ نُصَّ عَلَى اشْتِرَاطِهِ، فَهُوَ شَرْطٌ شَرْعِيٌّ فَلَا مَدْخَلَ لَهُ فِي هَذَا الْبَابِ؛ لِأَنَّ نَصَّ الشَّارِعِ فِيهِ قَدْ كَفَانَا مُؤْنَةَ النَّظَرِ فِيهِ.
وَإِنْ لَمْ يُنَصَّ/ عَلَى اشْتِرَاطِهِ، فَهُوَ إِمَّا عَقْلِيٌّ أَوْ عَادِيٌّ؛ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ شَرْعِيًّا، كَمَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ عَلَى كَيْفِيَّةٍ مَعْلُومَةٍ؛ فَإِنَّا لَوْ فَرَضْنَا حِفْظَ/ الْقُرْآنِ والعلم بغير (الكتب عادياً) (9) مطرداً لصح (لنا حفظه به) (10)
_________
(1) في (ط): "لم".
(2) في (غ) و (ر): "فظاهر".
(3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "التقبيح".
(4) ما بين القوسين ساقط من (ط).
(5) في (ص5).
(6) التثويب بالأذان ذكره الشاطبي في الاعتصام (2 70) قال: وَقَدْ فَسَّرَ التَّثْوِيبَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ مَالِكٌ بأن المؤذن كان إذا أبطأ النَّاسُ قَالَ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَّاحِ، وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِمْ عِنْدَنَا: الصَّلَاةُ رَحِمَكُمُ اللَّهُ.
(7) ما بين القوسين زيادة من (غ).
(8) ما بين القوسين زيادة من (غ) و (ر).
(9) في (ط) و (خ): "كتب".
(10) هكذا في (غ)، وفي باقي النسخ كتبت هكذا: (ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمَصَالِحِ الضَّرُورِيَّةِ يَصِحُّ لَنَا حفظها) وهو انتقال نظر من النسَّاخ، فإنك إذا تأملت النص تجد بعد سطر جملة (لصح ذلك .... إلى ـ الضرورية) وهي مقحمة في غير مكانها، والصواب=(3/41)
كَمَا أَنَّا لَوْ فَرَضْنَا حُصُولَ مَصْلَحَةِ الْإِمَامَةِ الْكُبْرَى بِغَيْرِ إِمَامٍ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ النَّصِّ بِهَا لَصَحَّ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمَصَالِحِ الضَّرُورِيَّةِ، وإذا ثَبَتَ هَذَا، لَمْ يَصِحَّ أَنْ يُسْتَنْبَطَ مِنْ بَابِهَا شَيْءٌ مِنَ الْمَقَاصِدِ الدِّينِيَّةِ الَّتِي لَيْسَتْ بِوَسَائِلَ.
وَأَمَّا كَوْنُهَا فِي الْحَاجِيِّ مِنْ بَابِ التَّخْفِيفِ فَظَاهِرٌ أَيْضًا، وَهُوَ أَقْوَى فِي الدَّلِيلِ (الرَّافِعِ لِلْحَرَجِ) (1)؛ فَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَشْدِيدٍ وَلَا زِيَادَةِ تَكْلِيفٍ، وَالْأَمْثِلَةُ مُبَيِّنَةٌ لِهَذَا الْأَصْلِ أَيْضًا.
إِذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ، عُلِمَ أَنَّ الْبِدَعَ كَالْمُضَادَّةِ لِلْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ، لِأَنَّ مَوْضُوعَ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ مَا عُقِلَ مَعْنَاهُ عَلَى التَّفْصِيلِ، وَالتَّعَبُّدَاتُ مِنْ حَقِيقَتِهَا أَنْ لَا يُعْقَلَ مَعْنَاهَا عَلَى التَّفْصِيلِ، وَقَدْ مَرَّ أَنَّ الْعَادَاتِ إِذَا دَخَلَ فِيهَا الِابْتِدَاعُ فَإِنَّمَا يَدْخُلُهَا مِنْ جِهَةٍ مَا فِيهَا مِنَ التَّعَبُّدِ لَا بِإِطْلَاقٍ.
/وَأَيْضًا، فَإِنَّ الْبِدَعَ فِي عَامَّةِ أَمْرِهَا لَا تُلَائِمُ مَقَاصِدَ الشَّرْعِ، بَلْ إِنَّمَا/ تُتَصَوَّرُ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا مُنَاقِضَةً لِمَقْصُودِهِ ـ كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَسْأَلَةِ الْمُفْتِي لِلْمَلِكِ بِصِيَامِ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ـ وَإِمَّا مَسْكُوتًا (عَنْهَا) (2) فِيهِ، كَحِرْمَانِ الْقَاتِلِ وَمُعَامَلَتِهِ بِنَقِيضِ مَقْصُودِهِ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ النَّصِّ بِهِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ (3) نَقْلُ الْإِجْمَاعِ عَلَى اطِّرَاحِ الْقِسْمَيْنِ وَعَدَمِ اعْتِبَارِهِمَا، وَلَا يُقَالُ: إِنَّ الْمَسْكُوتَ عَنْهُ يَلْحَقُ بِالْمَأْذُونِ فِيهِ، إِذْ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ خَرْقُ الْإِجْمَاعِ لِعَدَمِ الْمُلَاءَمَةِ، وَلِأَنَّ الْعِبَادَاتِ لَيْسَ حُكْمُهَا حُكْمَ الْعَادَاتِ فِي أَنَّ الْمَسْكُوتَ عَنْهُ كَالْمَأْذُونِ فيه، إن قيل بذلك (بل هي) (4) تُفَارِقُهَا. إِذْ لَا يُقْدَمُ عَلَى اسْتِنْبَاطِ عِبَادَةٍ لَا أَصْلَ لَهَا؛ لِأَنَّهَا/ مَخْصُوصَةٌ بِحُكْمِ الْإِذْنِ الْمُصَرَّحِ بِهِ، بِخِلَافِ الْعَادَاتِ، وَالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مَا تَقَدَّمَ مِنِ اهْتِدَاءِ الْعُقُولِ لِلْعَادِيَّاتِ فِي الْجُمْلَةِ، وَعَدَمِ اهْتِدَائِهَا لِوُجُوهِ التَّقَرُّبَاتِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وقد أشير إلى هذا
_________
=أن سائر النسخ ما عدا (غ) الجملة تكون هكذا (لصح لنا حفظها) ما عدا (م) فهي: حفظه. وأمّا نسخة (غ) فهي المثبتة أعلاه.
(1) ساقط من (غ) وفي (ر) بياض.
(2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "عنه".
(3) انظر: (ص9) من النص المحقق.
(4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فهي".(3/42)
الْمَعْنَى فِي كِتَابِ الْمُوَافِقَاتِ (1) وَإِلَى هَذَا (2).
/ (فَإِذَا) (3) ثبت أن المصالح المرسلة ترجع إما إِلَى حِفْظِ ضَرُورِيٍّ مِنْ بَابِ الْوَسَائِلِ أَوْ إِلَى التَّخْفِيفِ، فَلَا يُمْكِنُ إِحْدَاثُ الْبِدَعِ مِنْ جِهَتِهَا وَلَا الزِّيَادَةُ فِي الْمَنْدُوبَاتِ، لِأَنَّ الْبِدَعَ من باب/ (المقاصد لا مِنْ بَابِ الْوَسَائِلِ) (4)، لِأَنَّهَا مُتَعَبَّدٌ (بِهَا) (5) بِالْفَرْضِ، ولأنها زيادة في التكليف، وهو مضاد لِلتَّخْفِيفِ.
فَحَصَلَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنْ لَا تَعَلُّقَ (لِلْمُبْتَدِعِ) (6) بِبَابِ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ إِلَّا الْقِسْمَ الْمُلْغَى بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، وَحَسْبُكَ بِهِ مُتَعَلِّقًا، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
وَبِذَلِكَ كُلِّهِ (يُعْلَمُ) (7) مِنْ قَصْدِ الشَّارِعِ أَنَّهُ لَمْ يَكِلْ شَيْئًا مِنَ التَّعَبُّدَاتِ إِلَى آرَاءِ الْعِبَادِ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْوُقُوفُ عِنْدَ مَا حَدَّهُ، وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ بِدْعَةٌ؛ كَمَا أَنَّ النُّقْصَانَ مِنْهُ بِدْعَةٌ، وَقَدْ مَرَّ لَهُمَا أَمْثِلَةٌ كثيرة (وستأتي أخرٌ) (8)، في أثناء الكتاب بحول الله.
_________
(1) الموافقات (1 137 ـ 138) و (2 211 ـ 215).
(2) هكذا في جميع النسخ.
(3) في (غ): "فقد".
(4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الوسائل".
(5) ما بين القوسين ساقط من (ت).
(6) في (غ) و (ر): "لمبتدعٍ".
(7) في (غ) و (ر): "تعلم".
(8) في (ط): "وسيأتي أخيراً"، وفي (خ) و (ت): "وسيأتي آخراً"، وفي م: "سيأتي أخرى".(3/43)
/فصل
وَأَمَّا الِاسْتِحْسَانُ (1)، فَلِأَنَّ لِأَهْلِ الْبِدَعِ أَيْضًا تَعَلُّقًا بِهِ؛ فَإِنَّ الِاسْتِحْسَانَ لَا يَكُونُ إِلَّا (بمستحسِن) (2)، وَهُوَ إِمَّا الْعَقْلُ أَوِ الشَّرْعُ.
أَمَّا الشَّرْعُ فَاسْتِحْسَانُهُ وَاسْتِقْبَاحُهُ قَدْ فَرَغَ مِنْهُمَا، لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ اقْتَضَتْ ذَلِكَ، فَلَا فَائِدَةَ لِتَسْمِيَتِهِ اسْتِحْسَانًا، وَلَا لِوَضْعِ تَرْجَمَةٍ لَهُ زَائِدَةٍ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ/ والإجماع، وما ينشأ (عنهما) (3) مِنَ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِدْلَالِ؛ فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْعَقْلُ هُوَ المستحسِن، فَإِنْ كَانَ بِدَلِيلٍ فَلَا فَائِدَةَ لِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ، لِرُجُوعِهِ إِلَى الْأَدِلَّةِ لَا إِلَى غَيْرِهَا، وَإِنْ/ كَانَ بِغَيْرِ دَلِيلٍ/ فَذَلِكَ هُوَ البدعة التي تُستحسن.
(ويشبهه) (4) قَوْلُ مَنْ قَالَ فِي الِاسْتِحْسَانِ: أَنَّهُ (مَا يستحسنه) (5) المجتهد بعقله، ويميل إليه برأيه (6).
_________
(1) ذكر ابن قدامة ثلاث تعريفات للاستحسان، فقال: له ثلاثة معان: أحدها: أن المراد به العدول بحكم المسألة عن نظائرها لدليل خاص من كتاب أو سنة. الثاني: أنه ما يستحسنه المجتهد بعقله. الثالث: قولهم: الْمُرَادَ بِهِ دَلِيلٌ يَنْقَدِحُ فِي نَفْسِ الْمُجْتَهِدِ، لا يقدر على التعبير عنه. انظر: روضة الناظر (ص147) وهناك تعريفات أخرى، انظر: التعريفات للجرجاني (ص18 ـ 19)، والإحكام للآمدي (4 156 ـ 160)، والموافقات (4 205 ـ 206)، والاستصلاح لمصطفى الزرقا (ص23).
(2) في (م): "مستحسن". وفي (غ) و (ر): "من مستحسن".
(3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "عنها".
(4) في (ط) و (م) و (خ): "ويشهد"، وفي (ت): "يشهد لذلك".
(5) في (م) و (ط): "يستحسنه".
(6) هذا القول هو قول أبي حنيفة، ذكره عنه السبكي في الإبهاج (3 190)، وابن قدامة في روضة الناظر (ص147).(3/44)
قَالُوا: وَهُوَ عِنْدُ هَؤُلَاءِ مِنْ جِنْسِ مَا يُسْتَحْسَنُ فِي الْعَوَائِدِ، وَتَمِيلُ إِلَيْهِ الطِّبَاعُ؛ فَيَجُوزُ الْحُكْمُ بِمُقْتَضَاهُ إِذَا لَمْ يُوجَدُ فِي الشَّرْعِ (ما ينافيه، ففي هَذَا) (1) الْكَلَامُ مَا بيَّن أَنَّ ثَمَّ مِنَ التَّعَبُّدَاتِ مَا لَا يَكُونُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى بِالْبِدْعَةِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَنْقَسِمَ إِلَى حَسَنٍ وَقَبِيحٍ، إِذْ لَيْسَ كُلُّ اسْتِحْسَانٍ (باطلاً، كما أنه لَيْسَ كُلُّ اسْتِحْسَانٍ) (2) حَقًّا.
وَأَيْضًا فَقَدْ يَجْرِي عَلَى التَّأْوِيلِ الثَّانِي لِلْأُصُولِيِّينَ فِي الِاسْتِحْسَانِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ: دَلِيلٌ يَنْقَدِحُ فِي نَفْسِ الْمُجْتَهِدِ لَا تُسَاعِدُهُ الْعِبَارَةُ عَنْهُ، وَلَا يَقْدِرُ على إظهاره (3)، وهذا التأويل (للاستحسان يساعد البدعة) (4) لِأَنَّهُ يَبْعُدُ فِي مَجَارِي الْعَادَاتِ أَنْ يَبْتَدِعَ أحد بدعة من غير شبهة دليل (تنقدح) (5) لَهُ، بَلْ عَامَّةُ الْبِدَعِ لَا بُدَّ لِصَاحِبِهَا مِنْ مُتَعَلِّقِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، لَكِنْ قَدْ يُمْكِنُهُ إِظْهَارُهُ وَقَدْ لَا يُمْكِنُهُ ـ وَهُوَ الْأَغْلَبُ ـ فَهَذَا مِمَّا يَحْتَجُّونَ بِهِ.
وَرُبَّمَا/ يَنْقَدِحُ لِهَذَا الْمَعْنَى وَجْهٌ بِالْأَدِلَّةِ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا أَهْلُ التَّأْوِيلِ الْأَوَّلُونَ، وَقَدْ أَتَوْا بِثَلَاثَةِ أَدِلَّةٍ:
أَحَدُهَا: قَوْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ/ مِنْ رَبِّكُمْ} (6)، وقوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} (7)، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ *الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} (8)، (فأحسنه) (9) هو ما تستحسنه عقولهم.
والثاني: (قَوْلُهُ) (10) عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حسناً فهو
_________
(1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "ما ينافي هذا".
(2) زيادة من (غ) و (ر).
(3) انظر: روضة الناظر (ص148)، والإحكام للآمدي (4 157).
(4) في (ط) و (غ) و (م): "فالاستحسان يساعده لبعده"، وفي (ت): "للاستحسان لا يساعده لبعده".
(5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "ينقدح".
(6) سورة الزمر: الآية (55).
(7) سورة الزمر: الآية (23).
(8) سورة الزمر: الآية (17، 18).
(9) زيادة من (غ) و (ر).
(10) في (م): "في قوله".(3/45)
عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ" (1).
وَإِنَّمَا (يَعْنِي) (2) بِذَلِكَ مَا رأوه بعقولهم، وإلا (فلو) (3) كَانَ حُسْنُهُ بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ، لَمْ يَكُنْ مِنْ حُسْنِ مَا يَرَوْنَ، إِذْ لَا مَجَالَ لِلْعُقُولِ فِي التَّشْرِيعِ عَلَى مَا زَعَمْتُمْ، فَلَمْ يَكُنْ لِلْحَدِيثِ فَائِدَةٌ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَا (رأوه) (4) برأيهم.
والثالث: أَنَّ الْأُمَّةَ قَدِ اسْتَحْسَنَتْ دُخُولَ الْحَمَّامِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرِ/ أُجْرَةٍ، وَلَا تَقْدِيرِ مُدَّةِ اللَّبْثِ وَلَا تَقْدِيرِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ، وَلَا سَبَبَ لِذَلِكَ إِلَّا أَنَّ الْمُشَاحَّةَ فِي مِثْلِهِ (قَبِيحَةٌ) (5) فِي الْعَادَةِ، فَاسْتَحْسَنَ النَّاسُ/ تَرْكَهُ، مَعَ أَنَّا نَقْطَعُ (بأن) (6) الْإِجَارَةَ الْمَجْهُولَةَ، أَوْ مُدَّةَ الِاسْتِئْجَارِ أَوْ مِقْدَارَ الْمُشْتَرَى إِذَا جُهِلَ فَإِنَّهُ مَمْنُوعٌ، وَقَدِ اسْتُحْسِنْتَ إِجَارَتُهُ مَعَ مُخَالَفَةِ الدَّلِيلِ، فَأَوْلَى أَنْ يُجَوَّزَ إذا لم يخالف دليلاً.
_________
(1) قال الألباني في السلسلة الضعيفة (2 16)، برقم (532): موضوع، رواه الخطيب (4 165) ... وقال: تفرد به النخعي قلت (الألباني): وهو كذاب ... ولهذا قال الحافظ ابن عبد الهادي: إسناده ساقط، والأصح وقفه على ابن مسعود، نقله في الكشف (2 188)، انتهى كلام الألباني. والحديث ثبت موقوفاً على ابن مسعود رضي الله عنه، أخرجه الإمام أحمد في المسند (5 211)، برقم (3600)، وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح، وهو في مجمع الزوائد (1 177 ـ 178) وقال الهيثمي: رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير، ورجاله موثقون. انتهى كلام أحمد شاكر، وقال الألباني في السلسلة الضعيفة برقم (533) عن حديث ابن مسعود: لا أصل له مرفوعاً، وإنما ورد عن ابن مسعود ... أخرجه أحمد (رقمه 3600)، والطيالسي في مسنده (23)، وأبو سعيد الأعرابي في معجمه (84 2)، من طريق عاصم عن زر بن حبيش عنه، وهذا إسناد حسن، وروى الحاكم ... وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وقال الحافظ السخاوي: هو موقوف حسن. قلت (الألباني): وكذا رواه الخطيب في الفقيه والمتفقه (100 2)، من طريق المسعودي عن عصام به، إلا أنه قال: أبي وائل بدل زر بن حبيش ... إلخ. ثم علق الألباني على الحديث تعليقاً مهما فانظره في السلسلة الضعيفة (2 17 ـ 19).
(2) في (م): "ينبغي".
(3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "لو".
(4) في (خ): "رواه".
(5) في (م) و (غ) و (ر): "قبيح".
(6) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "أن".(3/46)
فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ هَذَا الْمَوْضِعَ مَزَلَّةُ قَدَمٍ أَيْضًا لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْتَدِعَ فَلَهُ أَنْ يَقُولَ: إِنِ اسْتَحْسَنْتُ كَذَا وَكَذَا فَغَيْرِي مِنَ الْعُلَمَاءِ قَدِ اسْتَحْسَنَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا (بُدَّ) (1) مِنْ فَضْلِ اعْتِنَاءٍ بِهَذَا الْفَصْلِ، حَتَّى لَا يَغْتَرَّ بِهِ جَاهِلٌ أَوْ زَاعِمٌ أَنَّهُ عَالَمٌ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ، فَنَقُولُ:
إِنَّ الِاسْتِحْسَانَ يَرَاهُ مُعْتَبَرًا فِي الْأَحْكَامِ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ، بِخِلَافِ الشَّافِعِيِّ (2) فَإِنَّهُ مُنْكِرٌ لَهُ جِدًّا حَتَّى قَالَ: من استحسن فقد شرَّع (3). والذي يُستقرى مِنْ/ مَذْهَبِهِمَا أَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى الْعَمَلِ بِأَقْوَى الدَّلِيلَيْنِ، (هَكَذَا) (4) قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، قَالَ: فَالْعُمُومُ إِذَا اسْتَمَرَّ، وَالْقِيَاسُ إِذَا اطَّرَدَ، فَإِنَّ مَالِكًا وَأَبَا حَنِيفَةَ يَرَيَانِ تَخْصِيصَ الْعُمُومِ بِأَيِّ دَلِيلٍ كَانَ مِنْ ظَاهِرٍ أَوْ مَعْنَى ـ قَالَ ـ وَيَسْتَحْسِنُ مَالِكٌ أَنْ يَخُصَّ بِالْمَصْلِحَةِ، وَيَسْتَحْسِنُ أَبُو حَنِيفَةَ أَنْ يَخُصَّ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ مِنَ الصَّحَابَةِ الْوَارِدِ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ ـ قَالَ ـ: وَيَرَيَانِ مَعًا تَخْصِيصَ الْقِيَاسِ ونقض الْعِلَّةِ، وَلَا يَرَى الشَّافِعِيُّ لِعِلَّةِ الشَّرْعِ/ ـ إِذَا ثَبَتَ ـ تَخْصِيصًا.
هَذَا مَا قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ. ويشعر بذلك تفسير الكرخي (5): أَنَّهُ الْعُدُولُ عَنِ الْحُكْمِ فِي الْمَسْأَلَةِ بِحُكْمِ نَظَائِرِهَا إِلَى خِلَافِهِ لِوَجْهٍ أَقْوَى (6).
وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهُ الْقِيَاسُ الَّذِي يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ؛ لأن العلة (لمَّا) (7) كَانَتْ عِلَّةً بِأَثَرِهَا، سَمَّوْا الضَّعِيفَ الْأَثَرِ قِيَاسًا، والقوي الأثر
_________
(1) زيادة من (ط) و (ت) و (غ) و (ر).
(2) انظر: روضة الناظر ص147 ـ 148، علم أصول الفقه لخلاف ص79 ـ 83، ومصادر التشريع لخلاف ص70، وأدلة التشريع المختلف في الاحتجاج بها للربيعة ص175 ـ 168، والاستصلاح للزرقا ص23 ـ 33.
(3) لم أجد هذا النص في كتب الشافعي، ولكن ذكره عن الشافعي جمع من العلماء منهم الآمدي في الإحكام (4 209) والإبهاج شرح المنهاج (3 188).
(4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "وهكذا".
(5) هو أبو الحسن عبيد الله بن الحسين بن دلال البغدادي الكرخي، انتهت إليه رئاسة المذهب، توفي سنة 340هـ. انظر: تاريخ بغداد (10 353)، والجواهر المضية (1 306)، السير (15 426)، وغير ذلك.
(6) انظر: الإحكام للآمدي (4 158).
(7) زيادة من (غ) و (ر). وفي هامش (ت): "إن".(3/47)
اسْتِحْسَانًا، أَيْ قِيَاسًا مُسْتَحْسَنًا، وَكَأَنَّهُ/ نَوْعٌ مِنَ الْعَمَلِ بِأَقْوَى الْقِيَاسَيْنِ، وَهُوَ يَظْهَرُ مِنِ اسْتِقْرَاءِ مَسَائِلِهِمْ فِي الِاسْتِحْسَانِ بِحَسَبِ النَّوَازِلِ الْفِقْهِيَّةِ.
بَلْ قَدْ جَاءَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ/ الِاسْتِحْسَانَ تِسْعَةُ أعشار العلم (1). ورواه أَصْبُغُ (2) عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ.
قَالَ أَصْبُغُ فِي الِاسْتِحْسَانِ: قَدْ يَكُونُ أَغْلَبَ مِنَ القياس (3).
وجاء عن مالك: إن المغرق فِي/ الْقِيَاسِ يَكَادُ يُفَارِقُ السُّنَّةَ (4).
وَهَذَا الْكَلَامُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بِالْمَعْنَى الَّذِي تَقَدَّمَ قَبْلُ، وَأَنَّهُ مَا يَسْتَحْسِنُهُ الْمُجْتَهِدُ بِعَقْلِهِ/ أَوْ أَنَّهُ دَلِيلٌ يَنْقَدِحُ فِي نَفْسِ الْمُجْتَهِدِ تَعَسُرُ عِبَارَتُهُ عَنْهُ، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَكُونُ تِسْعَةَ أَعْشَارِ الْعِلْمِ، وَلَا أَغْلَبَ مِنَ الْقِيَاسِ الَّذِي هُوَ أَحَدُ الْأَدِلَّةِ.
/وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: الِاسْتِحْسَانُ إِيثَارُ تَرْكِ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِثْنَاءِ وَالتَّرَخُّصِ، (لِمُعَارَضَةِ) (5) مَا يُعَارَضُ بِهِ فِي بَعْضِ مُقْتَضَيَاتِهِ، وقسَّمه أَقْسَامًا عدَّ مِنْهَا أَرْبَعَةَ أَقْسَامِ، وَهِيَ: تَرْكُ الدَّلِيلِ للعرف، وتركه للمصلحة، (وتركه للإجماع) (6)، وتركه (في اليسير) (7) لِرَفْعِ الْمَشَقَّةِ (وَإِيثَارِ التَّوْسِعَةِ) (8).
وحدَّه غَيْرُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ مِنْ أَهْلِ الْمَذْهَبِ بِأَنَّهُ عِنْدَ مَالِكٍ: اسْتِعْمَالُ مَصْلَحَةٍ جُزْئِيَّةٍ فِي مُقَابَلَةِ قِيَاسٍ كُلِّيٍّ. قَالَ: فَهُوَ تَقْدِيمُ الِاسْتِدْلَالِ الْمُرْسَلِ عَلَى الْقِيَاسِ.
وَعَرَّفَهُ ابْنُ رُشْدٍ فَقَالَ: الِاسْتِحْسَانُ الَّذِي يَكْثُرُ استعماله حتى يكون
_________
(1) أخرجه ابن حزم في الإحكام بسند متصل (6 16).
(2) هو أصبغ بن الفرج بن نافع المصري المالكي، تقدمت ترجمته (1/ 26).
(3) انظر: الإحكام لابن حزم (6 16).
(4) لم أجده عن مالك، وقد جعله المصنف من قول أصبغ لا مالكاً كما في الموافقات (4 210).
(5) في هامش (ت) كتبت: "لمعاوضة".
(6) زيادة من (غ) و (ر).
(7) في (ط) و (خ) و (ت): "لليسير".
(8) في (ت): "وإيثاراً للتوسعة".(3/48)
أعم من القياس هو: أن يكون (طرد القياس) (1) يُؤَدِّي إِلَى غُلُوٍّ فِي الْحُكْمِ وَمُبَالَغَةٍ فِيهِ، فَيُعْدَلَ عَنْهُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ لِمَعْنًى يُؤَثِّرُ فِي الْحُكْمِ يَخْتَصُّ بِهِ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ.
وَهَذِهِ تَعْرِيفَاتٌ قَرِيبٌ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ.
وَإِذَا كَانَ هذا معناه (عند) (2) مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ فَلَيْسَ بِخَارِجٍ عَنِ الْأَدِلَّةِ الْبَتَّةَ؛ لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ يُقَيِّدُ بَعْضُهَا وَيُخَصِّصُ بَعْضُهَا بَعْضًا كَمَا فِي الْأَدِلَّةِ/ السُّنِّيَّةِ/ مَعَ الْقُرْآنِيَّةِ، وَلَا يَرُدُّ الشَّافِعِيُّ مِثْلَ هَذَا أَصْلًا، فَلَا حُجَّةَ فِي تَسْمِيَتِهِ اسْتِحْسَانًا لِمُبْتَدَعٍ عَلَى حَالٍ.
وَلَا بُدَّ مِنَ الْإِتْيَانِ بِأَمْثِلَةٍ تُبَيِّنُ الْمَقْصُودَ بِحَوْلِ اللَّهِ، وَنَقْتَصِرُ عَلَى عَشَرَةِ أَمْثِلَةٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُعْدَلَ بِالْمَسْأَلَةِ عَنْ نَظَائِرِهَا بِدَلِيلِ الْكِتَابِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (3) فَظَاهِرُ اللَّفْظِ الْعُمُومُ فِي جَمِيعِ/ مَا (يُتَمَوَّلُ) (4) بِهِ، وَهُوَ مَخْصُوصٌ فِي الشَّرْعِ بِالْأَمْوَالِ الزَّكَوِيَّةِ خاصة، فلو قال قائل: مالي صَدَقَةٌ. فَظَاهِرُ لَفْظِهِ يَعُمُّ كُلَّ مَالٍ، وَلَكِنَّا نَحْمِلُهُ عَلَى مَالِ الزَّكَاةِ، لِكَوْنِهِ ثَبَتَ الْحَمْلُ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ.
قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَكَأَنَّ هَذَا يَرْجِعُ إِلَى تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِعَادَةِ فَهْمِ خِطَابِ الْقُرْآنِ. وَهَذَا الْمِثَالُ أَوْرَدَهُ الْكَرْخِيُّ تَمْثِيلًا لِمَا قاله في/ الاستحسان.
والثاني: أَنْ يَقُولَ الْحَنَفِيُّ: سُؤْرُ سِبَاعِ الطَّيْرِ نَجِسٌ، قِيَاسًا عَلَى سِبَاعِ الْبَهَائِمِ. وَهَذَا ظَاهِرُ الْأَثَرِ، وَلَكِنَّهُ ظَاهِرٌ اسْتِحْسَانًا، لِأَنَّ السَّبْعَ لَيْسَ بِنَجِسِ الْعَيْنِ، وَلَكِنْ لِضَرُورَةِ تَحْرِيمِ لَحْمِهِ، فَثَبَتَتْ نَجَاسَتُهُ (لمجاورة) (5) رُطُوبَاتِ لُعَابِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَارَقَهُ الطَّيْرُ، لِأَنَّهُ يَشْرَبُ بِمِنْقَارِهِ وَهُوَ طَاهِرٌ بِنَفْسِهِ، فَوَجَبَ الْحُكْمُ بِطَهَارَةِ سُؤْرِهِ، لِأَنَّ هَذَا أَثَرٌ قَوِيٌّ وإن خفي، فترجح على
_________
(1) في (ط): "طرحا لقياس".
(2) في (ط): "عن".
(3) سورة التوبة: الآية (103).
(4) في (م): "يتعول".
(5) في (ط): "بمجاورة".(3/49)
الْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَ أَمْرُهُ جَلِيًّا، وَالْأَخْذُ بِأَقْوَى القياسين متفق عليه.
والثالث: أَنْ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: إِذَا/ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا، وَلَكِنْ عيَّن كُلُّ وَاحِدٍ (جهة) (1) غير الجهة التي عيَّنها (غيره) (2)، فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يُحَدَّ، وَلَكِنِ اسْتُحْسِنَ حَدُّهُ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُحَدُّ إِلَّا مَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ أَرْبَعَةٌ، فَإِذَا عيَّن كُلُّ وَاحِدٍ ((منهم) (3) دَارًا، فَلَمْ يَأْتِ عَلَى كُلِّ مَرْتَبَةٍ بِأَرْبَعَةٍ؛ لِامْتِنَاعِ/ اجْتِمَاعِهِمْ عَلَى رُتْبَةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِذَا عيَّن كُلُّ وَاحِدٍ) (4) زَاوِيَةً فَالظَّاهِرُ تَعَدُّدُ الْفِعْلِ، وَيُمْكِنُ التزاحف.
فإذا قيل: الْقِيَاسُ أَنْ لَا يُحد، فَمَعْنَاهُ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَمْ يَجْتَمِعِ الْأَرْبَعَةُ عَلَى زِنًا وَاحِدٍ، ولكنه (يقول) (5) فِي الْمَصِيرِ إِلَى الْأَمْرِ الظَّاهِرِ تَفْسِيقُ (الْعُدُولِ) (6)؛ فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَحْدُودًا صَارَ الشُّهُودُ فَسَقَةً، وَلَا سَبِيلَ إِلَى (ذَلِكَ) (7) مَا وَجَدْنَا إِلَى/ الْعُدُولِ عَنْهُ سَبِيلًا، فَيَكُونُ حَمْلُ الشُّهُودِ عَلَى مُقْتَضَى الْعَدَالَةِ عِنْدَ/ الْإِمْكَانِ يَجُرُّ ذَلِكَ الْإِمْكَانَ الْبَعِيدَ، فَلَيْسَ هَذَا حُكْمًا بِالْقِيَاسِ، وَإِنَّمَا/ تَمَسُّكٌ بِاحْتِمَالِ تَلَقِّي الْحُكْمِ مِنَ (الْقُرْآنِ) (8)، وَهَذَا يرجع في الحقيقة إلى تحقيق (مناطه) (9).
والرابع: أَنَّ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنْ يَتْرُكَ الدَّلِيلَ (لِلْعُرْفِ) (10)، فَإِنَّهُ رَدَّ الْأَيْمَانَ (إِلَى الْعُرْفِ) (11)، مَعَ أَنَّ اللُّغَةَ تَقْتَضِي فِي أَلْفَاظِهَا غير ما
_________
(1) زيادة من (غ).
(2) في (ط) و (غ): "الآخر"، وساقطة من (خ) و (م).
(3) زيادة من (ت).
(4) ساقط من (غ).
(5) كذا في جميع النسخ، وقال رشيد رضا: لعل أصله (يؤول) فإن الزنا إذا لم يثبت بشهادة من شهدوا به، يؤول الأمر إلى قذفهم للمشهود عليه وهو فسق، والله أعلم.
(6) في (غ): "الأمور".
(7) زيادة من (م) و (غ) و (ر).
(8) في (ت): "القرائن" ولعلها أصوب، وكتب في هامشها: "القرآن".
(9) في (م) و (خ) و (ت): "مناط".
(10) ما بين القوسين ساقط من (ت). وانظر: الجواهر الثمينة في بيان أدلة عالم المدينة للمشاط (ص269 ـ 272)، وكتاب أصول الفقه وابن تيمية للمنصور (2 509 ـ 530).
(11) في (ت): "للعرف".(3/50)
يَقْتَضِيهِ الْعُرْفُ، كَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ لَا دَخَلْتُ مَعَ فلان بيتاً. فلا يحنث (بدخوله) (1) (معه المسجد وما أشبه ذلك ووجهه أن اللفظ يقتضي الحنث بِدُخُولِ) (2) كُلِّ مَوْضِعٍ يُسَمَّى بَيْتًا (فِي اللُّغَةِ) (3) وَالْمَسْجِدِ يُسَمَّى بَيْتًا فَيَحْنَثُ عَلَى ذَلِكَ، إِلَّا أَنَّ عُرْفَ النَّاسِ أَنْ لَا يُطْلِقُوا هَذَا اللَّفْظَ عَلَيْهِ، فَخَرَجَ بِالْعُرْفِ (عَنْ) (4) مُقْتَضَى اللَّفْظِ، فلا يحنث.
/والخامس: ترك الدليل للمصلحة، كَمَا فِي تَضْمِينِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرِكِ (5)، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَانِعًا، فَإِنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ، كَتَضْمِينِ صَاحِبِ الحمَّام الثِّيَابَ، وَتَضْمِينِ صَاحِبِ السَّفِينَةِ، وَتَضْمِينِ السَّمَاسِرَةِ الْمُشْتَرِكِينَ، وَكَذَلِكَ حمَّال الطَّعَامِ ـ عَلَى رَأْيِ مَالِكٍ ـ فَإِنَّهُ ضَامِنٌ، ولاحق عنده بالصنَّاع، والسبب في ذلك (عين) (6) السَّبَبِ فِي تَضْمِينِ الصُّنَّاعِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا مِنْ بَابِ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ لَا مِنْ بَابِ الِاسْتِحْسَانِ.
قُلْنَا: نَعَمْ، إِلَّا أَنَّهُمْ (صَوَّرُوا الِاسْتِحْسَانَ تصور الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الْقَوَاعِدِ) (7) بِخِلَافِ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ يُتَصَوَّرُ فِي مَسْأَلَةِ التَّضْمِينِ، فَإِنَّ/ الْأُجَرَاءَ مُؤْتَمَنُونَ بِالدَّلِيلِ/ لَا بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، فَصَارَ تَضْمِينُهُمْ فِي حَيِّزِ (الْمُسْتَثْنَى) (8) مِنْ ذَلِكَ الدَّلِيلِ، فَدَخَلَتْ تحت معنى
_________
(1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "بدخول".
(2) زيادة من (غ).
(3) زيادة من (غ) و (ر).
(4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "على".
(5) الأجير المشترك: هو الذي يقع العقد معه على عمل معين، كخياطة ثوب، وبناء حائط، وحمل شيء إلى مكان معين، أو على عمل في مدة لا يستحق جميع نفعه فيها، كالكحَّال والطبيب، سمي مشتركاً لأنه يقبل أعمالاً لاثنين وثلاثة وأكثر في وقت واحد، ويعمل لهم، فيشتركون في منفعته واستحقاقها، فسمي مشتركاً لاشتراكهم في منفعته. انظر: المغني لابن قدامة (6 105 ـ 106).
(6) في (ط) و (خ) و (م): "بعد". وفي (غ) و (ر): "هو".
(7) في (غ): "تصوير الاستحسان من العوايد". وفي (ت): "صورا الاستحسان بصور ... ". وفي هامشها: "تصورا الاستحسان تصور ... إلخ".
(8) في (ت): "الاستثناء" وكتبت في هامشها: "المستثنى".(3/51)
الاستحسان (بذلك) (1) (النظر) (2).
والسادس: أنهم يحكون الإجماع عَلَى إِيجَابِ الْغَرْمِ عَلَى مَنْ (قَطَعَ) (3) ذَنَبَ بَغْلَةِ الْقَاضِي، يُرِيدُونَ غَرْمَ قِيمَةِ الدَّابَّةِ لَا قِيمَةَ النَّقْصِ الْحَاصِلِ فِيهَا، وَوَجْهُ ذَلِكَ ظَاهِرٌ، فإن (مثل) (4) بَغْلَةَ الْقَاضِي لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهَا إِلَّا لِلرُّكُوبِ، وَقَدِ امْتَنَعَ رُكُوبُهُ لَهَا بِسَبَبِ فُحْشِ ذَلِكَ العيب، حتى صارت بالنسبة إلى (ركوبه أو) (5) رُكُوبِ مِثْلِهِ فِي حُكْمِ الْعَدَمِ، فَأَلْزَمُوا الْفَاعِلَ غَرْمَ قِيمَةِ الْجَمِيعِ، وَهُوَ/ مُتَّجِهٌ بِحَسَبِ الْغَرَضِ الْخَاصِّ، وَكَانَ الْأَصْلُ أَنْ لَا يَغْرَمَ إِلَّا قِيمَةَ مَا نَقَّصَهَا الْقَطْعُ خَاصَّةً، لَكِنِ اسْتَحْسَنُوا/ مَا تَقَدَّمَ.
وَهَذَا الْإِجْمَاعُ مِمَّا يُنْظَرُ فِيهِ، فَإِنَّ الْمَسْأَلَةَ ذَاتُ قَوْلَيْنِ فِي الْمَذْهَبِ وَغَيْرِهِ، وَلَكِنَّ الْأَشْهَرَ فِي الْمَذْهَبِ الْمَالِكِيِّ مَا تَقَدَّمَ حسبما نص عليه القاضي عبد الوهاب (6).
والسابع: تَرْكُ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ فِي الْيَسِيرِ لِتَفَاهَتِهِ وَنَزَارَتِهِ لِرَفْعِ الْمَشَقَّةِ، وَإِيثَارِ التَّوْسِعَةِ عَلَى الْخَلْقِ، فَقَدْ أَجَازُوا التَّفَاضُلَ الْيَسِيرَ فِي الْمُرَاطِلَةِ (7) الْكَثِيرَةِ، وَأَجَازُوا البيع (والصرف) (8) إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا تَابِعًا لِلْآخَرِ، وَأَجَازُوا بَدَلَ الدِّرْهَمِ النَّاقِصِ بِالْوَازِنِ (9) لِنَزَارَةِ مَا بَيْنَهُمَا، وَالْأَصْلُ الْمَنْعُ فِي الْجَمِيعِ، لِمَا فِي الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّ/ الْفِضَّةَ بِالْفِضَّةِ، وَالذَّهَبَ بِالذَّهَبِ مِثْلًا بِمِثْلٍ سواء بسواء، وأن مَنْ زَادَ أَوِ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى (10)، وَوَجْهُ ذلك أن التافه في حكم
_________
(1) في (غ) و (ر): "بهذا".
(2) ما بين القوسين ساقط من (ت).
(3) في (م): "قط".
(4) زيادة من (غ) و (ر).
(5) زيادة من (غ) و (ر).
(6) هو القاضي عبد الوهاب بن علي بن نصر التغلبي المالكي صاحب كتاب التلقين، وهو مختصر في الفقه المالكي، يقول عنه الذهبي: وهو من أجود المختصرات، توفي سنة 422هـ. انظر: السير (17 429)، وتاريخ بغداد (11 31)، وترتيب المدارك (4 691).
(7) يعني الوزن بالرطل، انظر: لسان العرب مادة رطل.
(8) في سائر النسخ ما عدا (غ): "بالصرف".
(9) يعني: درهم تام الوزن، المصدر السابق مادة وزن.
(10) أخرجه البخاري في كتاب البيوع، باب بيع الشعير بالشعير برقم (2174 ـ 2177)،=(3/52)
الْعَدَمِ، وَلِذَلِكَ لَا تَنْصَرِفُ إِلَيْهِ الْأَغْرَاضُ فِي الْغَالِبِ، وَأَنَّ الْمَشَاحَّةَ فِي الْيَسِيرِ قَدْ تُؤَدِّي إِلَى الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ، وَهُمَا مَرْفُوعَانِ عَنِ الْمُكَلَّفِ.
والثامن: أَنَّ فِي الْعُتْبِيَّةِ (1) مِنْ سَمَاعِ أَصْبُغَ (2) فِي الشَّرِيكَيْنِ يَطَآنِ الْأَمَةَ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ، فَتَأْتِي بِوَلَدٍ فَيُنْكِرُ أَحَدُهُمَا الْوَلَدَ دُونَ الْآخَرِ: أَنَّهُ/ يَكْشِفُ مُنْكِرَ الْوَلَدِ عَنْ/ وَطْئِهِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ، (فَإِنْ كَانَ فِي صِفَتِهِ مَا يُمْكِنُ مَعَهُ الْإِنْزَالُ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى إِنْكَارِهِ، وَكَانَ كَمَا لَوِ اشْتَرَكَا فِيهِ، وَإِنْ كَانَ يَدَّعِي الْعَزْلَ مِنَ الْوَطْءِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ) (3) فَقَالَ أصبغ: إني أستحسن ها هنا أَنْ أُلْحِقَهُ بِالْآخَرِ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَا سَوَاءً، فَلَعَلَّهُ غَلَبَ وَلَا يَدْرِي.
وَقَدْ قَالَ عَمْرُو بن العاص رضي الله عنه فِي (نَحْوِ) (4) هَذَا: إِنَّ الْوِكَاءَ قَدْ يَنْقَلِبُ ـ قال ـ: (والاستحسان فِي الْعِلْمِ) (5)، قَدْ يَكُونُ أَغْلَبَ مِنَ الْقِيَاسِ،/ ثُمَّ حَكَى عَنْ مَالِكٍ مَا تَقَدَّمَ (ووجَّهَ) (6) ذلك ابن رشد بأن الأصل: (أن) (7) مَنْ وَطِئَ أَمَتَهُ فَعَزَلَ عَنْهَا وَأَتَتْ بِوَلَدٍ لحق به وإن كان له منكراً، ووجب على قياس ذلك إذا كانت (أمة) (8) بين رجلين (فوطئاها) (9) جميعاً
_________
=ومسلم برقم (1584)، والترمذي برقم (1243، 1240)، وأبو داود (48 ـ 49)، والنسائي (7 273 ـ 275)، وابن ماجه (2259، 2160).
(1) (2) العتبية، وتسمى (المستخرجة من السماعات مما ليس في المدونة) وشرحها ابن رشد ـ الجد ـ في كتابه: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل في مسائل المستخرجة. والعتبية هي من تأليف محمد بن أحمد العتبي القرطبي ـ المالكي (ت355هـ) له ترجمة في تاريخ علماء الأندلس (2/ 634) والسير (12/ 335)، وأصبغ هو: أصبغ بن الفرج الذي مرت ترجمته (1/ 26)، وهو الذي يرد في العتبية ويروي غالباً عن ابن القاسم تلميذ الإمام مالك. انظر: دراسات في مصادر الفقه المالكي (ص110 ـ 139).
(3) ساقط من (غ) و (ر).
(4) في (ت): "مثل".
(5) في (ط) و (م) و (خ): [والاستحسان ها هنا أَنْ أُلْحِقَهُ بِالْآخَرِ وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَا فِي العلم]. وهو خطأ وجملة "ها هنا ... ـ إلى قوله ـ أن يكونا" يظهر أنها انتقال نظر من الناسخ، فهي موجودة بعينها قبل سطر. وفي نسخة ت: والاستحسان ها هنا أن ألحقه بالآخر (ثم بياض بمقدار نصف سطر) ثم تكملة النص من قول: ثم حكى عن مالك ... إلخ.
(6) في (م) و (غ) و (ر): "وجه".
(7) زيادة من (ت) و (غ) و (ر).
(8) زيادة من (غ) و (ر).
(9) في (م): "فوطئها".(3/53)
فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ وَعَزَلَ أَحَدُهُمَا (عَنْهَا) (1) (فَأَنْكَرَ) (2) الْوَلَدَ وَادَّعَاهُ الْآخَرُ الَّذِي لَمْ يَعْزِلْ عَنْهَا، أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَا إِذَا كَانَا جَمِيعًا يَعْزِلَانِ أَوْ يُنْزِلَانِ، وَالِاسْتِحْسَانُ ـ كَمَا قَالَ ـ أَنْ (يَلْحَقَ) (3) الْوَلَدُ بِالَّذِي ادَّعَاهُ وأقر أنه كان ينزل، (ويبرأ) (4) مِنْهُ الَّذِي أَنْكَرَهُ وَادَّعَى أَنَّهُ كَانَ يَعْزِلُ، لِأَنَّ الْوَلَدَ يَكُونُ/ مَعَ الْإِنْزَالِ غَالِبًا، وَلَا يَكُونُ مَعَ الْعَزْلِ إِلَّا نَادِرًا، فَيَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ الْوَلَدَ إِنَّمَا هُوَ لِلَّذِي ادَّعَاهُ وَكَانَ يُنْزِلُ، لَا الَّذِي أَنْكَرَهُ وَهُوَ يَعْزِلُ، وَالْحُكْمُ (بِغَلَبَةِ) (5) الظَّنِّ أَصْلٌ فِي الْأَحْكَامِ، وَلَهُ فِي هَذَا الْحُكْمِ (تَأْثِيرٌ) (6)، فَوَجَبَ أَنْ يُصَارَ إليه استحساناً كما قال أصبغ. (انتهى) (7)، وهو ظاهر فيما نحن فيه.
والتاسع: ما تقدم أولاً من أن الأمة اسْتَحْسَنَتْ دُخُولَ الْحَمَّامِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرِ أُجْرَةٍ، وَلَا تَقْدِيرِ مُدَّةِ/ اللَّبْثِ، وَلَا تَقْدِيرِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْمَنْعُ إِلَّا أَنَّهُمْ (أجازوه) (8) لا (لما) (9) قَالَ الْمُحْتَجُّونَ عَلَى الْبِدَعِ، بَلْ لِأَمْرٍ آخَرَ هُوَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ/ الَّذِي لَيْسَ بِخَارِجٍ عَنِ الْأَدِلَّةِ، فَأَمَّا تَقْدِيرُ الْعِوَضِ فَالْعُرْفُ هُوَ الَّذِي قَدَّرَهُ فَلَا/ حَاجَةَ إِلَى التَّقْدِيرِ، وَأَمَّا مُدَّةُ اللَّبْثِ وَقَدْرُ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُقَدَّرًا بِالْعُرْفِ أَيْضًا، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ لِلضَّرُورَةِ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ لِقَاعِدَةٍ فِقْهِيَّةٍ، وَهِيَ: أَنَّ نَفْيَ/ جَمِيعِ الْغَرَرِ فِي الْعُقُودِ لَا يُقَدَرُ عليه، وهو يضيق أبواب المعاملات (ويحسم) (10) أبواب (المعاوضات) (11).
ونفي (الغرر) (12) إِنَّمَا يَطْلُبُ تَكْمِيلًا وَرَفْعًا لِمَا عَسَى أَنْ يقع من نزاع،
_________
(1) ساقط من (غ) و (ر).
(2) في (ت): "وأنكر".
(3) في (م): "تلحق".
(4) في (م): "سرى". وفي (ط) و (خ): "وتبرأ".
(5) في (غ) و (ر): "لغلبة".
(6) في (م): "تأثر".
(7) زيادة من (م).
(8) في (ط) و (خ): "أجازوا".
(9) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "كما".
(10) في (ط): "وهو تحسيم". وفي (م) و (خ) و (ت): "وهو يحسم".
(11) في (م): "العارضات". وفي (غ) و (ر): "المعارضات" والتصحيح من (ت) حيث كتبت في الهامش مصححة "المعاوضات" وفي (ط) و (خ): "المفاوضات".
(12) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الضرر".(3/54)
فَهُوَ مِنَ الْأُمُورِ الْمُكَمِّلَةِ، وَالتَّكْمِيلَاتِ إِذَا أَفْضَى اعْتِبَارُهَا إِلَى إِبْطَالِ الْمُكَمِّلَاتِ سَقَطَتْ جُمْلَةً؛ تَحْصِيلًا لِلْمُهِمِّ ـ حَسْبَمَا تَبَيَّنَ فِي الْأُصُولِ ـ فَوَجَبَ أَنْ يُسَامِحَ فِي بَعْضِ أَنْوَاعِ الْغَرَرِ الَّتِي (لَا) (1) يَنْفَكُّ عَنْهَا، إِذْ يَشُقُّ طَلَبُ الِانْفِكَاكِ عَنْهَا، فَسُومِحَ الْمُكَلَّفُ بِيَسِيرِ الْغَرَرِ، لِضِيقِ الِاحْتِرَازِ مَعَ تَفَاهَةِ مَا يَحْصُلُ مِنَ (الْغَرَرِ) (2)، وَلَمْ يُسَامَحْ فِي كَثِيرِهِ إِذْ لَيْسَ فِي مَحَلِّ الضَّرُورَةِ، وَلِعَظِيمِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْخَطَرِ، لَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ، وَإِنَّمَا نُهِيَ عَنْ بَعْضِ (أَنْوَاعِهِ) (3) مِمَّا يَعْظُمُ فِيهِ الْغَرَرُ، فَجُعِلَتْ أُصُولًا يقاس عليها (غيرها) (4) (فصار) (5) الْقَلِيلِ أَصْلًا فِي عَدَمِ الِاعْتِبَارِ وَفِي الْجَوَازِ، (وصار) (6) الكثير (أصلاً) (7) في المنع، ودار في الأصلين فروع تجاذب الْعُلَمَاءُ النَّظَرَ فِيهَا، فَإِذَا (قلَّ الْغَرَرُ) (8) وَسَهُلَ الْأَمْرُ، وَقَلَّ النِّزَاعُ، وَمَسَّتِ الْحَاجَةُ إِلَى الْمُسَامَحَةِ فَلَا بُدَّ مِنَ الْقَوْلِ بِهَا، وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مَسْأَلَةُ التَّقْدِيرِ فِي مَاءِ الْحَمَّامِ، وَمُدَّةِ اللبث.
قال العلماء: ولقد/ بالغ مالك رحمه الله في هذا الباب وأمعن فيه، فجوَّز أَنْ يَسْتَأْجِرَ الْأَجِيرَ بِطَعَامِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَنْضَبِطُ مِقْدَارُ أَكْلِهِ، لِيَسَارِ أَمْرِهِ وَخِفَّةِ خَطْبِهِ، وَعَدَمِ الْمُشَاحَّةِ، وَفَرْقٌ/ (بَيْنَ تَطَرُّقٍ) (9) يَسِيرِ الْغَرَرِ إِلَى الْأَجَلِ فَأَجَازَهُ، وَبَيْنَ تَطَرُّقِهِ/ لِلثَّمَنِ فَمَنَعَهُ، فَقَالَ: يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَشْتَرِيَ سِلْعَةً إِلَى الْحَصَادِ أَوْ (إِلَى) (10) الْجَذَاذِ، وَإِنْ كَانَ الْيَوْمَ بِعَيْنِهِ لَا يَنْضَبِطُ، وَلَوْ بَاعَ سِلْعَةً بِدِرْهَمٍ أَوْ مَا يُقَارِبُهُ لَمْ يَجُزْ، وَالسَّبَبُ فِي التفرقة (أن) (11) الْمُضَايَقَةُ فِي تَعْيِينِ الْأَثْمَانِ وَتَقْدِيرِهَا لَيْسَتْ فِي العرف (كالمضايقة) (12) فِي الْأَجَلِ، إِذْ قَدْ يُسَامِحُ الْبَائِعُ فِي التَّقَاضِي الْأَيَّامَ، وَلَا يُسَامِحُ فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ على حال.
_________
(1) زيادة من (غ) و (ر).
(2) في سائر النسخ ما عدا (ت): "الغرض".
(3) في (م) و (خ): "أعوانه".
(4) في (ط) و (خ) و (ت): "غير".
(5) زيادة من (غ) و (ر).
(6) في (ر): "صار".
(7) زيادة من (غ) و (ر).
(8) في (م): "قال الخطر". وفي (غ) و (ر): "قلَّ الخطر".
(9) في (غ) و (ر): "بين يسير تطرق".
(10) ما بين القوسين ساقط من (م).
(11) زيادة من (غ) و (ت) و (ر).
(12) في (م): "والمضايقة".(3/55)
/وَيُعَضِّدُهُ مَا رَوَى عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ (1) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم أَمَرَ بِشِرَاءِ الْإِبِلِ إِلَى خُرُوجِ الْمُصَدِّقِ (2) وَذَلِكَ لا (ينضبط) (3) يومه ولا (تُعين) (4) / سَاعَتَهُ، وَلَكِنَّهُ عَلَى التَّقْرِيبِ وَالتَّسْهِيلِ.
فَتَأَمَّلُوا كَيْفَ وَجْهُ الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الْأُصُولِ الثَّابِتَةِ (بِالْحَرَجِ) (5) وَالْمَشَقَّةِ، وَأَيْنَ هَذَا مِنْ زَعْمِ الزَّاعِمِ (أَنَّهُ) (6) اسْتِحْسَانُ العقل بحسب العوائد فقط، (يتبين لكم) (7) (بَوْنُ) (8) مَا بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ.
الْعَاشِرُ: أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ مِنْ جُمْلَةِ أَنْوَاعِ الِاسْتِحْسَانِ مُرَاعَاةَ خِلَافِ الْعُلَمَاءِ (9) وَهُوَ أَصْلٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، يَنْبَنِي عَلَيْهِ مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ.
مِنْهَا: أَنَّ الْمَاءَ الْيَسِيرَ إِذَا حَلَّتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ الْيَسِيرَةُ وَلَمْ تُغَيِّرْ أَحَدَ/ أَوْصَافِهِ أَنَّهُ لَا يُتَوَضَّأُ بِهِ بَلْ يَتَيَمَّمُ وَيَتْرُكُهُ، فَإِنْ تَوَضَّأَ (بِهِ) (10) وَصَلَّى، أَعَادَ مَا دَامَ فِي الْوَقْتِ، وَلَمْ يُعِدْ بَعْدَ الْوَقْتِ، وَإِنَّمَا قَالَ: يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ، مُرَاعَاةً لقول من يقول: إنه طاهر مطهر (ويرى) (11) جَوَازُ الْوُضُوءِ بِهِ ابْتِدَاءً، وَكَانَ قِيَاسُ هَذَا الْقَوْلِ أَنْ يُعِيدَ أَبَدًا إِذْ لَمْ (يَتَوَضَّأْ) (12) إِلَّا بِمَاءٍ يَصِحُّ لَهُ تَرْكُهُ، وَالِانْتِقَالُ عَنْهُ إلى التيمم.
_________
(1) هكذا في جميع النسخ والصواب: عبد الله بن عمرو بن العاص.
(2) أخرجه أحمد في المسند ـ طبعة الأرناؤوط ـ (11/ 164) برقم (6593) وبرقم (7025) واستفاض المحقق في دراسة إسناده وذكر شواهده. وأخرجه أبو داود (3357)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (4 60)، والدارقطني في السنن (261 ـ 264) والحاكم في المستدرك (2340)، والبيهقي في السنن الكبرى (10308 ـ 10309)، وضعفه الألباني في ضعيف سنن أبي داود (3357)، وقال ابن حجر في فتح الباري (4 420): "إسناده قوي"، وضعفه ابن القطان، وأعلّه باضطراب السند، كما في نصب الراية (4 47).
(3) في سائر النسخ ما عدا (ت): يضبط.
(4) في (ط) و (خ) و (م): يعين.
(5) في (غ): "للحرج".
(6) في (غ) و (ر): "أنها".
(7) في (ط) و (خ) و (م): فتبين لك.
(8) في ت: بالوزن.
(9) مسألة مراعاة خلاف العلماء، انظر ما ذكره ابن عرفة في المعيار المعرب (6 377 ـ 379) والموافقات (4 8 ـ 86).
(10) ساقط من (غ) و (ر).
(11) في (ط) و (خ): "ويروى".
(12) في م: يتضوا.(3/56)
وَمِنْهَا: قَوْلُهُمْ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ الَّذِي يَجِبُ فَسْخُهُ: إِنْ لَمْ يُتَّفَقْ/ /عَلَى فَسَادِهِ فَيُفْسَخُ بِطَلَاقٍ، وَيَكُونُ فِيهِ الْمِيرَاثُ، وَيَلْزَمُ فِيهِ الطَّلَاقُ عَلَى حَدِّهِ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ، فَإِنِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى فَسَادِهِ، فُسِخَ بِغَيْرِ طَلَاقٍ، وَلَا يَكُونُ فِيهِ مِيرَاثٌ، وَلَا يَلْزَمُ فِيهِ طَلَاقٌ.
ومنها: (مِنْ) (1) نَسِيَ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ وكبَّر لِلرُّكُوعِ، وَكَانَ مع الإمام (أنه) (2) يتمادى (مراعاة) (3) لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ يُجْزِئُهُ، فَإِذَا سلَّم/ الْإِمَامُ/ أَعَادَ هَذَا الْمَأْمُومُ.
/وَهَذَا الْمَعْنَى كَثِيرٌ جِدًّا فِي الْمَذْهَبِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ رَاعَى دَلِيلَ الْمُخَالِفِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، لِأَنَّهُ تَرَجَّحَ عنده (فيها) (4)، وَلَمْ يَتَرَجَّحْ عِنْدَهُ فِي بَعْضِهَا فَلَمْ يُرَاعِهِ.
ولقد كتبت في مسألة مراعاة الخلاف (5) (سؤالاً) (6) إِلَى بِلَادِ الْمَغْرِبِ، وَإِلَى بِلَادِ أَفْرِيقِيَّةَ لِإِشْكَالٍ عَرَضَ فِيهَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مِمَّا يَخُصُّ هَذَا الْمَوْضِعَ عَلَى فَرْضِ صِحَّتِهَا، وَهُوَ مَا أَصْلُهَا مِنَ الشَّرِيعَةِ (وعلامَ) (7) تُبْنَى مِنْ قَوَاعِدِ أُصُولِ الْفِقْهِ، فَإِنَّ الَّذِي يَظْهَرُ الْآنَ أَنَّ الدَّلِيلَ هُوَ الْمُتَّبَعُ فَحَيْثُمَا صَارَ صِيرَ إِلَيْهِ، ومتى (ما ترجح) (8) لِلْمُجْتَهِدِ أَحَدُ الدَّلِيلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ ـ وَلَوْ بِأَدْنَى وُجُوهِ التَّرْجِيحِ ـ وَجَبَ التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ وَإِلْغَاءُ مَا سِوَاهُ، عَلَى مَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْأُصُولِ، فإذن رُجُوعُهُ ـ أَعْنِي الْمُجْتَهِدَ ـ إِلَى قَوْلِ الْغَيْرِ إِعْمَالٌ لدليله المرجوح (عنده) (9)، وإهمال
_________
(1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "مسألة من". وحذفها يناسب أسلوب المصنف.
(2) في (م) و (ط) و (خ): "أن".
(3) زيادة من (غ) و (ر).
(4) ما بين القوسين زيادة من (ت).
(5) وهي موجودة في المعيار المعرب (6 387 ـ 396).
(6) زيادة من (غ) و (ر).
(7) في سائر النسخ ما عدا (ط): "على ما". والصواب هو المثبت؛ لأن "ما" الاستفهامية إذا دخلت عليها حروف الجرِّ تحذف ألفها.
(8) في (ط) و (خ): "رجح".
(9) في (م): "عند".(3/57)
(لِلدَّلِيلِ) (1) الرَّاجِحِ عِنْدَهُ، الْوَاجِبِ عَلَيْهِ اتِّبَاعُهُ (وَذَلِكَ) (2) عَلَى خِلَافِ الْقَوَاعِدِ.
فَأَجَابَنِي (بَعْضُهُمْ) (3) بِأَجْوِبَةٍ، مِنْهَا الْأَقْرَبُ وَالْأَبْعَدُ، إِلَّا أَنِّي رَاجَعْتُ بَعْضَهُمْ بِالْبَحْثِ، وَهُوَ أَخِي وَمُفِيدِي أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ الْقِبَابِ (4) رحمة الله عليه، فكتب إلي بما (أردت أن أثبته ها هنا لأن فيه شرحاً لما نحن فيه، وذلك أنه كتب إلي ما) (5) نَصُّهُ: (وَتَضَمَّنَ الْكِتَابُ الْمَذْكُورُ عَوْدَةَ السُّؤَالِ فِي مَسْأَلَةِ مُرَاعَاةِ الْخِلَافِ، وَقُلْتُمْ: إِنَّ رُجْحَانَ إِحْدَى الأمارتين على الأخرى إن (اقتضى) (6) / تقديمها على الأخرى، اقتضى ذلك عدم (اعتبار) (7) (الْمَرْجُوحَةِ) (8) مُطْلَقًا، وَاسْتَشْنَعْتُمْ أَنْ (يَقُولَ الْمُفْتِي: هَذَا لَا يَجُوزُ ابْتِدَاءً) (9)، وَبَعْدَ الْوُقُوعِ يَقُولُ بِجَوَازِهِ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ الْمَمْنُوعُ إِذَا فُعِلَ جَائِزًا. وَقُلْتُمْ: إنه إنما يتصور الجمع في (مثل) (10) هذا النحو في منع التنزيه لا (في) (11) مَنْعِ التَّحْرِيمِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا (أَوْرَدْتُمْ) (12) في المسألة.
وكلها إيرادات (سديدة) (13) صَادِرَةٌ عَنْ قَرِيحَةٍ قِيَاسِيَّةٍ مُنْكِرَةٍ/ لِطَرِيقَةِ الِاسْتِحْسَانِ،/ وَإِلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ مَيْلُ فَحَوْلٍ (مَنِ) (14) الْأَئِمَّةِ والنظار، حتى
_________
(1) في (م): "الدليل".
(2) في (م): "وكذلك".
(3) في (غ) و (ر): "جماعة".
(4) هو أحمد بن قاسم بن عبد الرحمن الجذامي، أبو العباس القباب، فقيه مالكي، ولي القضاء بجبل طارق، توفي سنة 778، وقيل 779هـ. انظر: الديباج المذهب (1 187)، وشجرة النور (1 235).
(5) زيادة من (غ) و (ر).
(6) زيادة من (غ) و (ر) والمعيار. وجميع الزيادات التي في المعيار أضعها بين قوسين هكذا ()، وهي في المعيار (6 387 ـ 396).
(7) زيادة من (غ) و (ر).
(8) في (ت): "المرجوحية".
(9) في المعيار هكذا: يقول المفتي ابتداء: "هذا لا يجوز"، ونصّ المعيار أقرب إلى الصواب.
(10) ما بين القوسين زيادة من (ت).
(11) زيادة من المعيار.
(12) في المعيار: أودعتموه.
(13) في (ط) و (خ): "شديدة".
(14) ساقط من (غ) و (ر).(3/58)
قال الإمام أبو عبد الله الشافعي ـ (رحمه الله) ـ: مَنِ اسْتَحْسَنَ فَقَدْ شَرَّعَ.
وَلَقَدْ ضَاقَتِ الْعِبَارَةُ عن معنى أصل الاستحسان ـ/ كما في (كريم) (1) عِلْمِكُمْ ـ حَتَّى قَالُوا: أَصَحُّ عِبَارَةٍ فِيهِ أَنَّهُ مَعْنًى يَنْقَدِحُ فِي نَفْسِ الْمُجْتَهِدِ تَعْسُرُ الْعِبَارَةُ عَنْهُ. فَإِذَا كَانَ هَذَا أَصْلُهُ الَّذِي (تَرْجِعُ) (2) / فروعه إليه، فكيف (ما) (3) يبنى/ عليه؟ (لا بُدَّ) (4) أَنْ تَكُونَ الْعِبَارَةُ عَنْهَا أَضْيَقَ.
وَلَقَدْ كُنْتُ أَقُولُ: (بِمِثْلِ مَا قَالَ) (5) هَؤُلَاءِ الْأَعْلَامُ فِي طَرْحِ الِاسْتِحْسَانِ، وَمَا بُنِيَ عَلَيْهِ، لَوْلَا أنه اعتضد وتقوى (بوجدانه) (6) كثيراً في فتاوى الخلفاء وأعلام الصحابة (بمحضر جمهورهم) (7) مَعَ عَدَمِ النَّكِيرِ، فَتُقَوِّي ذَلِكَ عِنْدِي غَايَةً، وَسَكَنَتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَانْشَرَحَ إِلَيْهِ الصَّدْرُ، وَوَثِقَ بِهِ الْقَلْبُ، لِلْأَمْرِ بِاتِّبَاعِهِمْ، وَالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
فَمِنْ ذَلِكَ، الْمَرْأَةُ يَتَزَوَّجُهَا رَجُلَانِ ولا يعلم الآخر بتقدم نكاح غيره (عليه) (8) إِلَّا بَعْدَ الْبِنَاءِ، (فَأَبَانَهَا عَلَيْهِ) (9) بِذَلِكَ عُمَرُ (10) ومعاوية (11)
_________
(1) زيادة من المعيار.
(2) في (م) و (غ) و (ر): "مرجع"، وفي المعيار: ترجح، وفي (خ): "يرجع".
(3) في (ت): "بما".
(4) هكذا في (م) و (غ) و (ر): "وفي المعيار"، وفي (ط) و (خ): فلا بد.
(5) في (ت): بما قال به. وفي (غ) و (ر): "مقال".
(6) في (ط): "لوجدانه".
(7) في جميع النسخ: وجمهورهم، والتصحيح من المعيار و (غ) و (ر).
(8) زيادة من المعيار و (غ) و (ر).
(9) في المعيار و (ت) و (غ) و (ر): "فأفاتها".
(10) أثر عمر مذكور في المدونة (4/ 169) من طريق ابن وهب عن معاوية بن صالح عن يحيى بن سعيد أنه قال: (إن عمر بن الخطاب قضى في الوليين ينكحان المرأة ولا يعلم أحدهما بصاحبه إنها للذي دخل بها، فإن لم يكن دخل بها أحدهما فهي للأول). ويحيى بن سعيد لم يسمع من عمر.
(11) أثر معاوية أخرجه عبد الرزاق في المصنف (6/ 233) برقم (10636) قال: أخبرنا ابن جريج قال: أخبرني ابن أبي مليكة أن موسى بن طلحة أنكح بالشام يزيد بن معاوية .... إلخ، فظاهر السند صحيح.(3/59)
والحسن (1) (رضي الله تعالى عنهم جميعهم، ونسب مثله أيضاً لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (2)) (3) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكُلُّ مَا (أَوْرَدْتُمْ) (4) فِي قَضِيَّةِ السُّؤَالِ وَارِدٌ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ إِذَا تَحَقَّقَ أَنَّ الَّذِي لَمْ يَبِنِ هُوَ الْأَوَّلُ، فَدُخُولُ الثَّانِي بِهَا دُخُولٌ بزوج غيره، وكيف يكون غلطه على زوج (غيره) (5) / مبيحاً (لوطئها) (6) عَلَى الدَّوَامِ، وَمُصَحِّحًا لِعَقْدِهِ الَّذِي لَمْ يُصَادِفْ مُحِلًّا، (وَمُبْطِلًا) (7) لِعَقْدِ نِكَاحٍ مُجْمَعٍ عَلَى صِحَّتِهِ (ولزومه) (8)، لِوُقُوعِهِ عَلَى وَفْقِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا؟ وَإِنَّمَا (الْمُنَاسِبُ) (9) أَنَّ الْغَلَطَ يَرْفَعُ عَنِ الْغَالِطِ الْإِثْمَ وَالْعُقُوبَةَ، لَا إِبَاحَةَ زَوْجِ غَيْرِهِ دَائِمًا، وَمَنْعَ زَوْجِهَا مِنْهَا.
وَمِثْلُ (ذَلِكَ) (10) مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ فِي مَسْأَلَةِ امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ: أَنَّهُ إِنْ قَدِمَ الْمَفْقُودُ قَبْلَ نِكَاحِهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ نِكَاحِهَا وَالدُّخُولِ بِهَا (بَانَتْ) (11)، وَإِنْ (كَانَ) (12) بَعْدَ الْعَقْدِ، وَقَبْلَ الْبِنَاءِ فَقَوْلَانِ؛ فَإِنَّهُ يُقَالُ: الْحُكْمُ لَهَا بِالْعِدَّةِ مِنَ الْأَوَّلِ إِنْ كَانَ/ قَطْعًا (لِعِصْمَتِهِ) (13) فَلَا حَقَّ لَهُ فيها
_________
(1) إن كان الحسن هو ابن علي بن أبي طالب فهو مذكور في أثر معاوية السابق، وإن كان الحسن البصري، فلم أقف على قوله.
(2) أثر علي أخرجه عبد الرزاق في المصنف (6/ 231) برقم (10626) عن ابن جريج قال: أخبرني عبد الكريم أن أبا موسى أخبره أن وليين كلاهما جائز نكاحه ... إلخ وعبد الكريم لم يتبيّن لي من هو؟ فمحتمل أن يكون عبد الكريم بن أبي المخارق البصري، وهو ضعيف كما في التقريب (4156) ومحتمل أن يكون: عبد الكريم بن مالك الجزري وهو ثقة كما في التقريب (4154)، كما أن أبا موسى المذكور في الأثر، جاء في بقية الأثر أنه جار لعبيد الله بن الحر الجعفي أحد أفراد القصة اللذين نكحا امرأة واحدة، فيكون أبو موسى مجهولاً، والله أعلم.
وجاء بنحوه في السنن الكبرى للبيهقي (7/ 141) برقم (13587) من طريق خلاس بن عمرو الهجري عن علي، وفي روايته عن علي كلام، قيل أنه كتاب وقع له ولم يسمع من علي. انظر: جامع التحصيل (ص172).
(3) زيادة من المعيار و (غ) و (ر).
(4) في (غ) و (ر): "أورد".
(5) في (م): "غير".
(6) زيادة من (غ) و (ر).
(7) في (م): "ولا مبطلاً".
(8) زيادة من المعيار.
(9) ساقط من (غ) و (ر).
(10) ساقط من (غ) و (ر).
(11) في (م) و (غ) و (ر): "فاتت".
(12) في (ط) و (خ) و (ت): "كانت".
(13) في المعيار: بعصمته.(3/60)
وَلَوْ قَدِمَ قَبْلَ تَزَوُّجِهَا، أَوْ لَيْسَ بِقَاطِعٍ للعصمة، فكيف تباح لغيره وهي فِي عِصْمَةِ الْمَفْقُودِ؟.
وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ (1) فِي ذَلِكَ أَغْرَبُ وَهُوَ أَنَّهُمَا قَالَا: إِذَا قَدِمَ الْمَفْقُودُ يخيَّر بَيْنَ امْرَأَتِهِ أَوْ صداقها، فإن (اختارها بقيت له، وإن) (2) اخْتَارَ صَدَاقَهَا بَقِيَتْ لِلثَّانِي، (فَأَيْنَ) (3) هَذَا مِنَ الْقِيَاسِ؟
وَقَدْ صَحَّحَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ هَذَا النَّقْلَ عَنِ الْخَلِيفَتَيْنِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَنَقَلَ/ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ بِمِثْلِ ذَلِكَ أَوْ أَمْضَى الْحُكْمَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ الْأَشْهَرُ عَنْهُ خِلَافُهُ، وَمِثْلُهُ في قضايا الصحابة كثير (من) (4) ذلك (رضي الله عن جميعهم) (5).
(قال ابن المعذل) (6): لَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ حَضَرَهُمَا وَقْتُ الصَّلَاةِ، فَقَامَ أَحَدُهُمَا فَأَوْقَعَ الصَّلَاةَ/ بِثَوْبٍ نَجِسٍ (مِجَاناً) (7)، وَقَعَدَ الآخر حتى خرج الوقت ((ثم صلاها) (8) بثوب طاهرٍ ما استوت (حالتهما) (9) عند مسلم، ولا تقاربت. يعني/ أن الذي صلى في الوقت بالنجاسة عامداً أجمع الناس أنه لا يساويه مؤخرها حَتَّى خَرَجَ الْوَقْتُ) (10) (وَلَا يُقَارِبُهُ) (11) مَعَ نَقْلِ غير واحد
_________
(1) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (7/ 85) برقم (12317) عن عمر وعثمان، وورد بنحوه عن عثمان وعلي في السنن الكبرى للبيهقي (7/ 247) برقم (15352) وبنحوه قصة الذي اختطفته الجن وتخيير عمر له. أخرجها ابن أبي شيبة (3/ 523)، وابن حزم في المحلى (10/ 134)، وذكرها ابن عبد البر في التمهيد (13/ 265 ـ 266)،
(2) زيادة من المعيار و (غ) و (ر).
(3) في (غ) و (ر): "فليس".
(4) في (غ) و (ر): "ومن".
(5) ما بين القوسين زيادة من (ت)
(6) في (ط): "قال ابن المعدل"، وفي (غ) و (ر): "قال ابن معذل"، وفي المعيار: قول ابن المعدل، وهو أحمد بن المعذل بن غيلان العبدي، من كبار فقهاء المالكية، لم يذكروا سنة وفاته. انظر: الديباج المذهب (1 141)، والسير (11 519)، والتنكيل (1 202).
(7) ما بين القوسين ساقط من (ت).
(8) في المعيار: وصلاها.
(9) في (غ) و (ر): "حالهما".
(10) زيادة في المعيار و (غ) و (ر).
(11) في (ط): "ولا يغار به". في (ت): "لم يستويا عند مسلم".(3/61)
من الأشياخ الإجماع على وجوب (الإعادة على من صلى بالنجاسة عامداً ووجوب الطهارة من) (1) النَّجَاسَةِ (2) حَالَ الصَّلَاةِ، وَمِمَّنْ نَقَلَهُ اللَّخْمِيُّ، وَالْمَازِرِيُّ (3) وصحَّحه الْبَاجِيُّ (4)، وَعَلَيْهِ مَضَى عَبْدُ الْوَهَّابِ (5) فِي تَلْقِينِهِ.
وَعَلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي أَوْرَدْتُمْ، أَنَّ الْمَنْهِيَّ/ عنه ابتداء غير معتبر، أحرى (أن يكون) (6) أَمْرِ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ بِعَكْسِ مَا قَالَ (ابْنُ معذل) (7)؛ لِأَنَّ الَّذِي صلَّى بَعْدَ الْوَقْتِ قَضَى مَا فرط فيه؛ والآخر لم (يصل) (8) كَمَا أُمِرَ، وَلَا قَضَى شَيْئًا، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْهِيٍّ عَنْهُ ابْتِدَاءً غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بَعْدَ وُقُوعِهِ.
وَقَدْ صَحَّحَ الدَّارَقُطْنِيُّ (9) حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (لَا تُزَوِّجُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ، وَلَا تُزَوِّجُ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا، فَإِنَّ الزَّانِيَةَ هِيَ التي تزوج نفسها) (10).
_________
(1) ما بين القوسين زيادة من (ت). وفي (غ) و (ر): "بدل الجملة بجانية".
(2) بعد هذه الكلمة في (ط) و (خ) هكذا: عَامِدًا جَمْعَ النَّاسِ أَنَّهُ لَا يُسَاوِي مُؤَخِّرَهَا (حَتَّى خَرَجَ الْوَقْتُ وَلَا يُقَارِبُهُ مَعَ نَقْلِ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الْأَشْيَاخِ الْإِجْمَاعَ) عَلَى وُجُوبِ النجاسة حال الصلاة.
وما بين القوسين زيادة من (م). والجملة هكذا لا تفهم أبداً، والتصحيح هو كما ورد في المعيار و (ت).
(3) هو محمد بن عني بن عمر التميمي المازري المالكي، صاحب كتاب المعلم بفوائد شرح مسلم، كان من أئمة المالكية، توفي في سنة 536هـ. انظر: السير (20 104)، وشجرة النور (1 127)، وأزهار الرياض (3 165).
(4) هو أبو الوليد سليمان بن خلف بن سعد الباجي، ولد سنة 403هـ. وله تصانيف كثيرة، وتوفي سنة 474هـ. انظر: السير (18 535)، نفح الطيب (2 67).
(5) هو القاضي عبد الوهاب بن علي بن نصر المالكي، تقدمت ترجمته (3/ 52).
(6) في سائر النسخ ما عدا (ت): "بكون".
(7) في (ط) و (خ) و (ت): "ابن المعدل".
(8) في (ط) و (خ) و (ت): "يعمل".
(9) أورده الدارقطني في سننه (3 227) ولم يتكلم عليه بتصحيح أو تضعيف، ومسند أبي هريرة من العلل لم يطبع بعد، ويحتمل أن يكون تصحيحه فيه، والله تعالى أعلم.
(10) أخرجه ابن ماجه (1882)، والدارقطني (3 227)، برقم (25 و26 و29)، والبيهقي في السنن الكبرى (13410 و13412 و13413)، وغيره، ويظهر أن الجملة الأخيرة، وهي قوله: (فإن الزانية هي التي تزوج نفسها) موقوفة على أبي هريرة رضي الله عنه.=(3/62)
وَأَخْرَجَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنها: (أيما امرأة نكحت بغير إذن (وليها) (1) فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ ـ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ـ فَإِنْ دَخَلَ بِهَا، فَالْمَهْرُ لَهَا بِمَا (أَصَابَ) (2) مِنْهَا) (3)، فَحَكَمَ أَوَّلًا بِبُطْلَانِ الْعَقْدِ، وَأَكَّدَهُ بِالتَّكْرَارِ ثَلَاثًا،/ وَسَمَّاهُ زِنًا، وَأَقَلُّ (مُقْتَضَيَاتِهِ) (4) عَدَمُ اعْتِبَارِ هَذَا الْعَقْدِ جُمْلَةً، لَكِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقَّبَهُ بِمَا اقْتَضَى اعْتِبَارَهُ بَعْدَ الْوُقُوعِ بِقَوْلِهِ: وَلَهَا مَهْرُهَا بِمَا أَصَابَ مِنْهَا. وَمَهْرُ الْبَغِيِّ حَرَامٌ (5).
وَقَدْ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} (6)، (فعلل) (7) النهي عن استحلالهم (8) بِابْتِغَائِهِمْ فَضْلَ اللَّهِ وَرِضْوَانَهُ مَعَ كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ تعالى،
_________
=أشار إلى ذلك البيهقي في السنن الكبرى عقب الحديث ونقله الزيلعي عن ابن معين كما في نصب الراية (3 188)، وقال الألباني في إرواء الغليل: صحيح دون الجملة الأخيرة ـ يقصد قوله: (فإن الزانية هي التي تزوج نفسها) ـ انظر: إرواء الغليل (6 248 ـ 249).
(1) في (ط) و (خ) و (ت) و (غ): "مواليها"، وما أثبته هو ما يوجد في (م) ويوافق رواية الدارقطني.
(2) في (م): "استحل".
(3) الحديث أخرجه جمع كبير من العلماء منهم الدارقطني ـ وهي الرواية التي ذكرت في النص ـ انظر: سنن الدارقطني (3 221 و225 ـ 226)، وأبو داود برقم (2083)، والترمذي (3 407)، برقم (1102)، وابن ماجه (1 605)، برقم (1879)، والإمام أحمد في المسند (6 165، 47)، والدارمي (2 137)، وعبد الرزاق في المصنف (10472)، وابن أبي شيبة (4 128)، وابن حبان (9 384)، برقم (4074)، وقال الأرناؤوط: إسناده حسن. والحاكم (2 168)، والبيهقي (7 124، 113، 105 ـ 138، 125)، والبغوي في شرح السنة (9 38) برقم (2262)، وغيرهم من أصحاب كتب السنة، وقد تكلم العلماء في إسناد هذا الحديث كلاماً طويلاً، انظر ما ذكره ابن حبان في صحيحه (9 384 ـ 386)، والترمذي في السنن (1 405 ـ 411)، والبيهقي في السنن الكبرى (7 107 ـ 110)، وابن حجر في التلخيص الحبير (3 157)، والألباني في إرواء الغليل (6 243)، واستفدت هذا التخريج من التخريج الموسع لأبي إسحاق الحويني في جنة المرتاب (ص407 ـ 429).
(4) في (م): "مقتضاته".
(5) أخرجه البخاري (2237)، ومسلم (1568).
(6) سورة المائدة: الآية (2).
(7) في (غ) و (ر): "فلعل".
(8) في المعيار: فصل النهي عن استحلالهم. وفي (ط) و (خ) و (م) و (ت): "استحلاله".(3/63)
الَّذِي لَا يَصِحُّ مَعَهُ عِبَادَةٌ، وَلَا يُقْبَلُ عَمَلٌ، وَإِنْ كَانَ هَذَا الْحُكْمُ الْآنَ مَنْسُوخًا، فَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ (الِاسْتِدْلَالَ بِهِ) (1) فِي هَذَا الْمَعْنَى.
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَسَتَجِدُ (أَقْوَامًا) (2) (زَعَمُوا أَنَّهُمْ) (3) حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ لِلَّهِ، فَذَرْهُمْ وَمَا زَعَمُوا أَنَّهُمْ حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ له (4).
ولهذا/ (لا) (5) يسبى الراهب (ويترك) (6) له ماله (أو) (7) ما قل منه، على خلاف فِي ذَلِكَ، وَغَيْرُهُ مِمَّنْ لَا يُقَاتِلُ يُسْبَى وَيُمْلَكُ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِمَا زَعَمَ أَنَّهُ حَبَسَ نَفْسَهُ لَهُ، وَهِيَ عِبَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَتْ عِبَادَتُهُ أَبْطَلَ الْبَاطِلِ/ فَكَيْفَ يُسْتَبْعَدُ اعْتِبَارُ عبادة (المسلم) (8) عَلَى (وَفْقِ) (9) / دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ لَا يُقْطَعُ بِخَطَأٍ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ يَظُنُّ ذَلِكَ ظَنًّا، وَتَتَبُّعُ (مِثْلِ هَذَا) (10) يَطُولُ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيمَا تَحَقَّقَ فِيهِ نَهْيٌ مِنَ الشَّارِعِ: هَلْ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ؟ وَفِيهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ مَا لا يخفى عليكم، فكيف بهذا؟
_________
(1) في المعيار: الاستبدال به.
(2) في (غ) و (ر): "قوماً".
(3) ما بين القوسين ساقط من (ت).
(4) أخرجه عبد الرزاق في المصنف (9377)، من طريق الزهري عن أبي بكر، وبرقم (9378)، من طريق أبي عمران الجوني عن أبي بكر، وأخرجه مالك في الموطأ (965)، والبيهقي في السنن الكبرى (19727)، كلاهما من طريق يحيى بن سعيد عن أبي بكر، وأخرجه أبو بكر المروزي في مسند أبي بكر (21) من طريق كوثر بن حكيم، قال عنه الإمام أحمد: "متروك الحديث" وضعفه ابن معين وأبو حاتم وأبو زرعة كما في الجرح والتعديل (7 176).
وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى (5 179)، من طريق ابن المسيب عن أبي بكر وذكر عقبه إنكار الإمام أحمد لهذه الرواية، وأخرجه أيضاً برقم (19728)، من طريق صالح بن كيسان عن أبي بكر، وبرقم (19728)، من طريق يزيد بن أبي مالك الشامي عن أبي بكر، فجميع الطرق منقطعة بين أبي بكر الصديق ومن روى عنه، ما عدا رواية المروزي وهي ضعيفة الإسناد.
(5) ساقطة من المعيار.
(6) في (ت) و (خ): وترك.
(7) في (ت): و.
(8) في (ت) و (غ) و (ر): مسلم.
(9) في المعيار: وجه.
(10) في (ت): ذلك.(3/64)
وَإِذَا خَرَجَتِ الْمَسْأَلَةُ (الْمُخْتَلَفُ فِيهَا) (1) إِلَى أَصْلٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ، فَقَدْ خَرَجَتْ عَنْ حَيِّزِ الْإِشْكَالِ، ولم يبق إلا الترجيح لبعض تلك (المسائل) (2)، وَيُرَجِّحُ كُلُّ أَحَدٍ مَا ظَهَرَ لَهُ بِحَسَبِ مَا وُفِّقَ لَهُ، وَلْنَكْتَفِ بِهَذَا الْقَدْرِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
/انْتَهَى مَا كَتَبَ لِي بِهِ، وَهُوَ بَسْطُ أَدِلَّةٍ شَاهِدَةٍ لِأَصْلِ الِاسْتِحْسَانِ، فَلَا/ يُمْكِنُ مَعَ هَذَا التَّقْرِيرِ كُلِّهِ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِهِ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَحْسِنَ بِغَيْرِ دَلِيلٍ (شرعي) (3) أصلاً.
_________
(1) ساقطة من المعيار.
(2) في (م) و (غ) و (ر): "المذاهب".
(3) زيادة من (غ) و (ر).(3/65)
فصل
فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَلْنَرْجِعْ إِلَى مَا احْتَجُّوا بِهِ أَوَّلًا، فَأَمَّا مَنْ حَدَّ الِاسْتِحْسَانَ بِأَنَّهُ: مَا يَسْتَحْسِنُهُ الْمُجْتَهِدُ بِعَقْلِهِ، وَيَمِيلُ إِلَيْهِ بِرَأْيِهِ. فَكَانَ هَؤُلَاءِ يَرَوْنَ هَذَا النَّوْعَ مِنْ جُمْلَةِ أَدِلَّةِ الْأَحْكَامِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعَقْلَ يُجَوِّز أَنْ يَرِدَ الشَّرْعَ بِذَلِكَ، بَلْ يُجَوِّز أَنْ يَرِدَ بِأَنَّ مَا سَبَقَ إِلَى أَوْهَامِ الْعَوَامِّ ـ مَثَلًا ـ فَهُوَ حُكْمُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، فَيَلْزَمُهُمُ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهُ، وَلَكِنْ لَمْ يَقَعْ مِثْلُ (هَذَا) (1)، وَلَمْ (يُعْرَفِ) (2) التَّعَبُّدُ بِهِ، لَا بِضَرُورَةٍ، وَلَا بِنَظَرٍ، وَلَا بِدَلِيلٍ مِنَ الشَّرْعِ قَاطِعٍ وَلَا مَظْنُونٍ، فَلَا يَجُوزُ (إِسْنَادُهُ لِحُكْمِ اللَّهِ) (3) لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ تَشْرِيعٍ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ حَصَرُوا نَظَرَهُمْ فِي الْوَقَائِعِ الَّتِي لَا نُصُوصَ فِيهَا فِي الِاسْتِنْبَاطِ، وَالرَّدِّ إِلَى مَا فَهِمُوهُ مِنَ الْأُصُولِ الثابتة، ولم يقل أحد منهم (قط) (4): إِنِّي حَكَمْتُ فِي هَذَا بِكَذَا/ لِأَنَّ طَبْعِي مَالَ إِلَيْهِ، أَوْ لِأَنَّهُ يُوَافِقُ مَحَبَّتِي/ وَرِضَائِي. وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لَاشْتَدَّ عَلَيْهِ النَّكِيرُ، وَقِيلَ لَهُ مِنْ أَيْنَ لَكَ أَنْ تَحْكُمَ عَلَى عباد اللَّهِ بِمَحْضِ مَيْلِ النَّفْسِ وَهَوَى الْقَلْبِ؟ هَذَا مَقْطُوعٌ بِبُطْلَانِهِ.
بَلْ كَانُوا يَتَنَاظَرُونَ وَيَعْتَرِضُ بَعْضُهُمْ (5) عَلَى مَأْخَذِ بَعْضِ، (وَيَنْحَصِرُونَ إِلَى) (6) ضَوَابِطِ الشَّرْعِ.
_________
(1) في (غ) و (ر): "ذلك".
(2) في (غ) و (ر): "يقع".
(3) في (غ) و (ر): "إسناد الحكم إليه".
(4) زيادة من (غ) و (ر).
(5) في (ط) و (خ): "ويعترض بعضهم بعضا".
(6) في (ط): "ويحصرون"، وفي (خ): "ويحصرون إلى".(3/66)
وَأَيْضًا فَلَوْ رَجَعَ الْحُكْمُ إِلَى مُجَرَّدِ الِاسْتِحْسَانِ لَمْ يَكُنْ لِلْمُنَاظَرَةِ فَائِدَةٌ، لِأَنَّ النَّاسَ تَخْتَلِفُ أَهْوَاؤُهُمْ/ وَأَغْرَاضُهُمْ فِي الْأَطْعِمَةِ، وَالْأَشْرِبَةِ وَاللِّبَاسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
/وَلَا يَحْتَاجُونَ إِلَى مُنَاظَرَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، لمَ كَانَ هَذَا الْمَاءُ (أَشْهَى) (1) عِنْدَكَ مِنَ الْآخَرِ؟ وَالشَّرِيعَةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ.
عَلَى أَنَّ أَرْبَابَ الْبِدَعِ الْعَمَلِيَّةِ أَكْثَرُهُمْ لَا يُحِبُّونَ أَنْ يُنَاظِرُوا أَحَدًا، وَلَا يُفَاتِحُونَ عَالِمًا وَلَا غَيْرَهُ فِيمَا (يبتدعون) (2)، خَوْفًا مِنَ الْفَضِيحَةِ أَنْ لَا يَجِدُوا مُسْتَنَدًا شَرْعِيًّا، وَإِنَّمَا شَأْنُهُمْ/ إِذَا وَجَدُوا عَالِمًا أَوْ لَقَوْهُ أَنْ يُصَانِعُوا، وَإِذَا وَجَدُوا جَاهِلًا عَامِّيًّا أَلْقَوْا عَلَيْهِ فِي الشَّرِيعَةِ الطَّاهِرَةِ إِشْكَالَاتٍ، حَتَّى (يزلزلوه) (3) ويخلطوا (عليه) (3)، (ويلبسوا) (4) (دينه) (3)، فإذا عرفوا (منه) (3) الحيرة والالتباس ألقوا إليه مِنْ بِدَعِهِمْ عَلَى التَّدْرِيجِ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَذَمُّوا أَهْلَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ الدُّنْيَا الْمُكِبُّونُ عَلَيْهَا، وَأَنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ هُمْ أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ، وَرُبَّمَا أَوْرَدُوا عَلَيْهِمْ مِنْ كَلَامِ غُلَاةِ الصُّوفِيَّةِ شَوَاهِدَ عَلَى مَا يُلْقُونَ (إِلَيْهِمْ) (3)، حَتَّى يَهْوُوا (بِهِمْ) (3) فِي نَارِ جَهَنَّمَ، وَأَمَّا أَنْ يَأْتُوا الْأَمْرَ مِنْ بَابِهِ وَيُنَاظِرُوا عَلَيْهِ الْعُلَمَاءَ الرَّاسِخِينَ فَلَا.
وَتَأَمَّلْ مَا نَقَلَهُ الْغَزَالِيُّ فِي اسْتِدْرَاجِ الْبَاطِنِيَّةِ غَيْرَهُمْ إِلَى مَذْهَبِهِمْ، تَجِدُهُمْ لَا يَعْتَمِدُونَ إِلَّا عَلَى خَدِيعَةِ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ تَقْرِيرِ عِلْمٍ، وَالتَّحَيُّلِ/ عَلَيْهِمْ بِأَنْوَاعِ الْحِيَلِ، حَتَّى يُخْرِجُوهُمْ (عن) (5) السُّنَّةِ، أَوْ عَنِ الدِّينِ جُمْلَةً، وَلَوْلَا الْإِطَالَةُ لأتيت بكلامه، فطالعه في كتابه:/ (فَضَائِحُ) (6) الْبَاطِنِيَّةِ (7).
وَأَمَّا الْحَدُّ الثَّانِي (8) فَقَدْ رُد بِأَنَّهُ لَوْ فَتَحَ هَذَا الْبَابَ لَبَطَلَتِ الْحُجَجُ وَادَّعَى كُلُّ مَنْ شَاءَ مَا شَاءَ، وَاكْتَفَى بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ؛ فَأَلْجَأَ الْخَصْمَ إِلَى الْإِبْطَالِ، وَهَذَا
_________
(1) زيادة من (ط) و (خ). وفي (غ) و (ر): "أطيب".
(2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "يبتغون".
(3) في سائر النسخ ما عدا (ت): "جميع الضمائر بالجمع".
(4) ما بين القوسين ساقط من (غ) و (ر).
(5) في (ط) و (خ) و (ت): "من".
(6) في (غ) و (ر): "في فضائح".
(7) انظر: فضائح الباطنية (ص21 ـ 32).
(8) راجع (ص45).(3/67)
يجر فساداً لا خفاء (به) (1)، وَإِنْ سلَّم فَذَلِكَ الدَّلِيلُ إِنْ كَانَ فَاسِدًا فَلَا عِبْرَةَ/ بِهِ، وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فَلَا ضَرَرَ فِيهِ.
وأما الدليل الأول فلا متعلق (فيه) (2)، فَإِنَّ (أَحْسَنَ الِاتِّبَاعِ إِلَيْنَا) (3) اتِّبَاعُ الْأَدِلَّةِ (الشَّرْعِيَّةِ) (4)، وَخُصُوصًا الْقُرْآنَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ/ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} (5)، وَجَاءَ فِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ ـ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ ـ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ: "أَمَّا بَعْدُ، فَأَحْسَنُ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ" (6)، فَيَفْتَقِرُ أَصْحَابُ/ الدَّلِيلِ أَنْ يُبَيِّنُوا أَنَّ مَيْلَ الطِّبَاعِ أَوْ أَهْوَاءِ النُّفُوسِ مِمَّا أُنْزِلَ إِلَيْنَا، فضلاً عن أن (يكون) (7) مِنْ أَحْسَنِهِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} (8) يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانِ أَنَّ مَيْلَ النُّفُوسِ يُسَمَّى قَوْلًا، وَحِينَئِذٍ يُنْظَرُ إِلَى (كَوْنِهِ) (9) أَحْسَنَ الْقَوْلِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهَذَا كُلُّهُ فَاسِدٌ.
ثُمَّ إِنَّا نُعَارِضُ هَذَا الِاسْتِحْسَانَ بِأَنَّ عُقُولَنَا تَمِيلُ إِلَى إِبْطَالِهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَإِنَّمَا الْحُجَّةُ الْأَدِلَّةُ (الشَّرْعِيَّةُ) (10) الْمُتَلَقَّاةُ مِنَ الشَّرْعِ.
وَأَيْضًا فَيَلْزَمُ عَلَيْهِ اسْتِحْسَانُ الْعَوَامِّ وَمَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ، إِذَا فَرَضَ أَنَّ الْحُكْمَ يَتَّبِعُ مُجَرَّدَ مَيْلِ (النفوس) (11) وهوى الطباع، وذلك محال،
_________
(1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "له".
(2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "به".
(3) في (م): "الاتباع أحسن إلينا"، وفي (غ) و (ر): "اتباع ما أنزل إلينا".
(4) ما بين القوسين ساقط من (ت).
(5) سورة الزمر: الآية (23).
(6) أخرجه مسلم برقم (867)، وأحمد في المسند (3 310 و319 و371)، والدارمي (1 80) برقم (206)، وابن ماجه (1 17) برقم (45)، والنسائي في السنن الكبرى (1 550) برقم (1786) و (3 449)، برقم (5892) وفي المجتبى (3 188)، برقم (1578)، وأبو يعلى في المسند (4 85)، برقم (2111)، وابن الجارود في المنتقى (297)، وابن خزيمة في صحيحه (3 143)، برقم (1785)، وابن حبان في صحيحه (1 186)، برقم (10)، والبيهقي في السنن الكبرى (3 206 و213 و214)، برقم (5544 و5589 ـ 5591).
(7) في (ط): "يقول".
(8) سورة الزمر: الآية (18).
(9) في (غ) و (ر): "قوله".
(10) ساقط من (غ) و (ر).
(11) ساقط من (غ) و (ر).(3/68)
لِلْعِلْمِ بِأَنَّ ذَلِكَ مُضَادٌّ لِلشَّرِيعَةِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَدِلَّتِهَا.
وَأَمَّا الدَّلِيلُ الثَّانِي، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ مِنْ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ ظَاهِرَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنْ مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ (بجملتهم) (1) حَسَنًا فَهُوَ حَسَنٌ، وَالْأُمَّةُ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى بَاطِلٍ، فَاجْتِمَاعُهُمْ عَلَى حُسْنِ شَيْءٍ يَدُلُّ عَلَى حسنه شرعاً، لأن الإجماع يَتَضَمَّنُ دَلِيلًا شَرْعِيًّا؛ فَالْحَدِيثُ/ دَلِيلٌ عَلَيْكُمْ لَا لكم (2).
والثاني: أَنَّهُ خَبَرٌ وَاحِدٌ فِي مَسْأَلَةٍ قَطْعِيَّةٍ فَلَا يسمع (3)
والثالث: أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُرَدْ بِهِ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ، وأريد (به) (4) بَعْضُهُمْ فَيَلْزَمُ عَلَيْهِ اسْتِحْسَانُ الْعَوَامِّ، وَهُوَ بَاطِلٌ بِإِجْمَاعٍ، لَا يُقَالُ: إِنَّ الْمُرَادَ اسْتِحْسَانُ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، لِأَنَّا نَقُولُ: هَذَا تَرْكٌ لِلظَّاهِرِ، فَيَبْطُلُ الِاسْتِدْلَالُ، ثُمَّ إِنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي اشْتِرَاطِ الاجتهاد؛ لأن المستحسن بالفرض (لا ينحو إلى الْأَدِلَّةِ) (5) فَأَيُّ حَاجَةٍ إِلَى اشْتِرَاطِ الِاجْتِهَادِ؟.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا يُشْتَرَطُ حَذَرًا مِنْ مُخَالَفَةِ الْأَدِلَّةِ/ فَإِنَّ الْعَامِّيَّ لَا يَعْرِفُهَا. قِيلَ:/ بَلِ الْمُرَادُ اسْتِحْسَانٌ يَنْشَأُ عَنِ الْأَدِلَّةِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَصَرُوا أَحْكَامَهُمْ عَلَى اتِّبَاعِ الْأَدِلَّةِ، وَفَهْمِ مَقَاصِدِ الشَّرْعِ.
(فَالْحَاصِلُ) (6) أنَّ تَعَلُّقَ الْمُبْتَدِعَةِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ تَعَلُّقٌ بِمَا لَا يُغْنِيهِمْ وَلَا يَنْفَعُهُمُ الْبَتَّةَ،/ لَكِنْ/ رُبَّمَا يَتَعَلَّقُونَ في آحاد (بدعهم) (7) بِآحَادٍ شُبَهٍ سَتُذْكَرُ فِي مَوَاضِعِهَا إِنْ شَاءَ الله، ومنها ما قد قضى.
_________
(1) زيادة من (م) و (غ) و (ر).
(2) في هامش (ت): "قلت: بل الإجماع أول أدلة الدين وأساسهما لأن الكتاب والسنّة إنما ثبت أمرهما ووصل إلينا بإجماع الصحابة رضي الله عنهم، فمن هذه الحيثية كان له فضل التقدم والمزية".
(3) يرى الشاطبي أن خبر الآحاد دليل ظني، ولا يعمل به إلا إذا استند إلى أصل قطعي في الشريعة وأن خبر الآحاد لا يؤخذ به في الأمور القطعية، هذا ما صرح به في الجزء الأول من الاعتصام (ص235 ـ 236) (نسخة رشيد رضا)، وهذا الرأي خلاف مذهب أهل السنة في هذه المسألة، إذ يرون وجوب الأخذ بأحاديث الآحاد في المسائل العلمية والعملية.
(4) زيادة من (غ) و (ر).
(5) في (ط): "لا ينحصر في الأدلة، وفي (خ) و (ت) و (غ) و (ر): "لا ينحصر إلى الأدلة".
(6) في (ر): "فالجاهل".
(7) في (ط) و (خ) و (ت): "بدعتهم".(3/69)
فصل
فإن قيل: أفليس في (بعض) (1) الْأَحَادِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى الرُّجُوعِ إِلَى مَا يَقَعُ فِي الْقَلْبِ (وَيَحِيكُ) (2) فِي النَّفْسِ، وَإِنْ لَمْ/ يَكُنْ ثَمَّ دَلِيلٌ صَرِيحٌ عَلَى حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ وَلَا غَيْرُ صَرِيحٍ؟ فَقَدْ جَاءَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: "دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ، فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ، وَالْكَذِبَ رِيبَةٌ" (3).
وخرَّج مُسْلِمٌ عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَأَلْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الْبِرِّ وَالْإِثْمِ فَقَالَ: "الْبِرُّ (حُسْنُ) (4) الْخُلُقِ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ الناس عليه" (5).
_________
(1) زيادة من (غ) و (ر).
(2) في (ط): "ويجري".
(3) قول الشاطبي: فقد جاء في الصحيح. لعله يقصد به صحيح ابن حبان وابن خزيمة لأن الحديث ليس في الصحيحين، ولا أحدهما، وإنما أخرج الحديث أبو داود الطيالسي في مسنده (1178)، وأحمد في المسند (1 200) و (3 112)، والدارمي في سننه (2532 و2789)، والترمذي (2518)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (416)، والنسائي (8 327)، وفي الكبرى (5220)، وأبو يعلى في مسنده (6762 و7492)، وابن خزيمة في الصحيح (2348)، والطبراني في الصغير (284)، وفي الكبير (2708 و2711) و (22 81 برقم 197) و (22 147 برقم 399)، وأبو الشيخ في طبقات أصبهان (1 191) و (4 91)، والحاكم في المستدرك (2169)، وصححه الذهبي، وبرقم (2170)، وبرقم (7046)، وقال الذهبي: "سنده قوي". وأخرجه ابن حبان (722)، والخطيب في تاريخ بغداد (2 220 و386)، (6 385)، والبيهقي في السنن الكبرى (10601).
(4) في (م): "خلق".
(5) أخرجه مسلم برقم (2553)، وأحمد في المسند (4 82)، والبخاري في الأدب المفرد (295 و302)، والترمذي (2389)، والطبراني في مسند الشاميين (980)، وابن حبان=(3/70)
وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ (1) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ/ مَا الْإِيمَانُ؟ قال: "إذا سرتك (حسناتك) (2) وساءتك (سيئاتك) (3) فأنت مؤمن قال: يا رسول الله، فما الإثم؟ قَالَ: إِذَا حَاكَ شَيْءٌ فِي صَدْرِكَ فَدَعْهُ" (4).
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ" (5).
وَعَنْ وَابِصَةَ (6) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ فَقَالَ: "يَا وَابِصَةُ، اسْتَفْتِ قَلْبَكَ، وَاسْتَفْتِ نَفْسَكَ، الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ، وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ" (7).
وَخَرَّجَ الْبَغَوِيُّ فِي مُعْجَمِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُعَاوِيَةَ أَنَّ رَجُلًا سأل
_________
= (397)، والحاكم (2172)، والبيهقي في السنن الكبرى (20574)، والقضاعي في مسنده (53).
(1) هو صُدي بن عجلان بن وهب بن عريب الباهلي، صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونزيل حمص، توفي سنة 86هـ. انظر: السير (3 359)، وطبقات ابن سعد (7 411)، وأسد الغابة (3 16).
(2) في (م) و (غ) و (ر): "حسنتك".
(3) في (غ) و (ر): "سيئتك".
(4) أخرجه معمر في الجامع (20104)، وابن المبارك في الزهد (825)، وأحمد في المسند (5 252 ـ 256)، والحارث في مسنده ـ بغية الباحث ـ (11)، والطبراني في الكبير (7539 و7540)، وفي مسند الشاميين (233)، وابن حبان في الصحيح (176)، والحاكم (33)، وقال الذهبي: "على شرطهما". وبرقم (34 و2171).
(5) أخرجه الإمام أحمد (3/ 153) وأخرجه موقوفاً على أنس رضي الله عنه في المسند (3 112)، وتقدم تخريج الحديث بتوسع في الصفحة السابقة.
(6) هو وابصة بن معبد بن عتبة بن الحارث الأسدي، وفد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سنة تسع، وروى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وعبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأم قيس بنت محصن وغيرهم. انظر: الإصابة (3 262).
(7) أخرجه أحمد (4 228)، والدارمي في السنن (2533)، والحارث في مسنده ـ بغية الباحث ـ (260)، وأبو يعلى (1586 و1587)، والطبراني في الكبير (22 148 ـ 149).(3/71)
رسول الله صلى الله عليه وسلم/ فقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا يَحِلُّ لِي مِمَّا يَحْرُمُ عَلَيَّ؟ فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ/ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَدَّ عَلَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، كُلُّ ذَلِكَ يَسْكُتُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: أَيْنَ السَّائِلُ؟ فَقَالَ: أَنَا ذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ ـ وَنَقَرَ بِإِصْبَعِهِ ـ: "مَا أَنْكَرَ قَلْبُكَ فَدَعْهُ" (1).
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: الْإِثْمُ (حُوَازُّ) (2) الْقُلُوبِ، فَمَا حَاكَ مِنْ شَيْءٍ فِي قَلْبِكَ فَدَعْهُ، وَكُلُّ شَيْءٍ فِيهِ نَظْرَةٌ فَإِنَّ لِلشَّيْطَانِ فِيهِ مَطْمَعًا (3).
وَقَالَ أَيْضًا: الْحَلَالُ بيِّن وَالْحَرَامُ بيِّن، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ، فَدَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ (4).
وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ الْخَيْرَ طُمَأْنِينَةٌ، وَأَنَّ الشَّرَّ رِيبَةٌ، فَدَعْ مَا يريبك إلى ما لا يريبك (5).
_________
(1) أخرجه ابن المبارك في الزهد (824 و1162) وقال الألباني في السلسلة الصحيحة (2230): (هذا إسناد مرسل صحيح، رجاله ثقات، فإن ابن لهيعة صحيح الحديث إذا روى عنه العبادلة، وابن المبارك أحدهم). وذكر الحديث ابن حجر في الإصابة (5 244) وبيّن أن عبد الرحمن بن معاوية تابعي.
(2) في (م) و (خ): "خوار"، وفي (غ) و (ر): "حراز". والصواب حواز: وهي الأمور التي تحز في القلوب، أي تؤثر فيها، كما يؤثر الحز في الشيء. انظر مادة حوز من لسان العرب.
(3) أخرجه الطبراني في الكبير (9 163) برقم (8749، 8748)، وقال الهيثمي في المجمع (1 176): رواه الطبراني كله بأسانيد رجالها ثقات. وذكره في كنز العمال (3 434)، برقم (7320)، وروي مرفوعاً إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وسيأتي تخريجه قريباً.
(4) أخرجه موقوفاً على ابن مسعود النسائي في المجتبى (5397، 5398)، وفي السنن الكبرى (5945، 5946)، وقال النسائي عقبه: "هذا حديث جيد جيد". وأخرجه الدارمي (165، 168)، والطبراني في الكبير (8920)، والبيهقي في السنن الكبرى (20130).
والحديث أصله مرفوع إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم أخرجه البخاري من حديث النعمان بن بشير برقم (52)، ومسلم (1599)، وابن ماجه (3984)، والترمذي (1205)، وأبو داود (3329، 3330)، والنسائي (4453، 5710).
والحديث مرفوعاً إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم مروي في غالب الكتب المسندة من رواية النعمان بن بشير وابن عمر وأنس بن مالك وجابر بن عبد الله.
(5) أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره (29 7)، في تفسير سورة الملك: آية (15)،=(3/72)
وقال شريح: دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ، فَوَاللَّهِ مَا وَجَدْتُ فَقْدَ شَيْءٍ تَرَكْتُهُ ابْتِغَاءَ وجه الله (1).
فهذه (الأحاديث والآثار) (2) ظَهَرَ مِنْ مَعْنَاهَا الرُّجُوعُ فِي جُمْلَةٍ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ إِلَى مَا يَقَعُ بِالْقَلْبِ/ وَيَهْجِسُ بِالنَّفْسِ وَيَعْرِضُ بِالْخَاطِرِ، وَأَنَّهُ إِذَا اطْمَأَنَّتِ النَّفْسُ/ إِلَيْهِ فَالْإِقْدَامُ عَلَيْهِ صَحِيحٌ، وَإِذَا تَوَقَّفَتْ أَوِ ارْتَابَتْ فَالْإِقْدَامُ عَلَيْهِ مَحْظُورٌ، وَهُوَ عَيْنُ مَا وَقَعَ إِنْكَارُهُ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَى الِاسْتِحْسَانِ/ الَّذِي يَقَعُ بِالْقَلْبِ وَيَمِيلُ إِلَيْهِ الْخَاطِرُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ هُنَالِكَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ أَوْ كَانَ هَذَا (التَّقْرِيرُ) (3) مُقَيَّدًا بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ لَمْ يُحِلْ بِهِ عَلَى مَا فِي النُّفُوسِ وَلَا عَلَى مَا يَقَعُ بِالْقُلُوبِ، مَعَ أَنَّهُ عِنْدَكُمْ عَبَثٌ وَغَيْرُ مُفِيدٍ، كَمَنْ يُحِيلُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى الْأُمُورِ الْوِفَاقِيَّةِ، أَوِ (الْأَفْعَالِ) (4) الَّتِي لَا ارْتِبَاطَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ شَرْعِيَّةِ الْأَحْكَامِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ (لِاسْتِحْسَانِ) (5) الْعُقُولِ وَمَيْلِ النُّفُوسِ أَثَرًا فِي شَرْعِيَّةِ الْأَحْكَامِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ وَمَا كَانَ فِي مَعْنَاهَا قَدْ زَعَمَ الطَّبَرِيُّ فِي تَهْذِيبِ الْآثَارِ (6) أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ السَّلَفِ قَالُوا بِتَصْحِيحِهَا، وَالْعَمَلِ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ (ظَاهِرُهَا) (7)، وَأَتَى بِالْآثَارِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمَا، ثُمَّ ذَكَرَ عَنْ آخَرِينَ الْقَوْلَ بِتَوْهِينِهَا وَتَضْعِيفِهَا، وإحالة معانيها.
_________
=وأصله حديث مرفوع إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم أخرجه من حديث الحسن بن علي، الترمذي (2518)، وصححه الألباني، وأخرجه النسائي (5711)، والحاكم في المستدرك (2169)، وصححه الذهبي، وبرقم (2170)، وبرقم (7046)، وقال الذهبي: "سنده قوي".
وأخرجه مرفوعاً من حديث واثلة بن الأسقع الطبراني في الكبير (22 81).
(1) أخرجه ابن سعد في الطبقات (6 136)، وهناد في الزهد (939)، ونعيم بن حماد في زوائد الزهد لابن المبارك (38).
(2) في (م): "الأدلة"، وهو ساقط من (ط) و (خ). وفي (غ) و (ر): "أدلة".
(3) في (ت): "بياض بمقدار كلمة".
(4) في (غ) و (ر): "الأعمال".
(5) في (م): "الاستحسان".
(6) لم أجده في المطبوع من تهذيب الآثار.
(7) في (خ): "ظاهر"، وفي (غ) و (ر): "ظاهر هذه".(3/73)
/ (ورأيت كلامه) (1) وترتيبه بالنسبة إلى ما نحن فيه/ (لائقاً) (2)
أَنْ/ يُؤْتَى بِهِ عَلَى وَجْهِهِ، فَأَتَيْتُ بِهِ عَلَى تَحَرِّي مَعْنَاهُ دُونَ (لَفْظِهِ) (3) لِطُولِهِ، فَحَكَى عَنْ جَمَاعَةٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَا شَيْءَ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ إِلَّا وَقَدْ بَيَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِنَصٍّ عَلَيْهِ أَوْ بِمَعْنَاهُ، فَإِنْ كَانَ حَلَالًا فَعَلَى الْعَامِلِ بِهِ ـ إِذَا كَانَ عَالِمًا ـ تَحْلِيلُهُ، أَوْ حَرَامًا فَعَلَيْهِ تَحْرِيمُهُ، أَوْ مَكْرُوهًا غَيْرَ حَرَامٍ، فَعَلَيْهِ اعْتِقَادُ التَّحْلِيلِ أَوِ التَّرْكِ (تَنْزِيهًا) (4).
فأما العمل بِحَدِيثِ النَّفْسِ وَالْعَارِضِ فِي الْقَلْبِ فَلَا، فَإِنَّ اللَّهَ حَظَرَ ذَلِكَ عَلَى نَبِيِّهِ فَقَالَ: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ/ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} (5) فَأَمَرَهُ بِالْحُكْمِ بِمَا أَرَاهُ (اللَّهُ) (6) لَا بِمَا رآه، وحدثته (به) (7) نفسه، (فغيره) (8) من البشر أَوْلَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَحْظُورًا عَلَيْهِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ جَاهِلًا فَعَلَيْهِ مَسْأَلَةُ الْعُلَمَاءِ دُونَ مَا حَدَّثَتْهُ نَفْسُهُ (9).
وَنُقِلَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ خَطَبَ (النَّاسَ) (10) فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ سُنَّتْ لَكُمُ السُّنَنُ، وَفُرِضَتْ لَكُمُ الْفَرَائِضُ، وَتُرِكْتُمْ عَلَى الْوَاضِحَةِ، (إِلَّا) (11) أَنْ تَضِلُّوا (بِالنَّاسِ) (12) يَمِينًا وَشِمَالًا (13).
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: مَا كَانَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ حلال أو
_________
(1) في (م): "كلامه"، وفي سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "وكلامه".
(2) في (ط) و (ت): "لائق".
(3) في (م) و (غ) و (ر): "نصه".
(4) في (غ) و (ر): "تنزها".
(5) سورة النساء: الآية (105).
(7) (6) ساقط من (غ) و (ر).
(8) في (م): "فغير".
(9) في هامش (ت) ما نصّه: "قلت ـ والله أعلم ـ إن مورد هذه الأحاديث وما في معناها ليس هو مما يتعلق بشيء من إحداث الشريعة المنزهة عن صدورها من آراء الخلق وأنظارهم، والخواطر والهواجس الفائضة من أنفسهم وقلوبهم، وإنما المراد بذلك ما يشبه معنى الاستخارة في الأمور العادية من الإقدام على شيء أو الإحجام عنه، ولا يبعد أن يكون ذلك في المتشابهات، وإن كان المأمور به من الشارع الترك استبراءً للدين، وأما المعنى الذي حاولوا الاحتجاج به أهل البدع، فلا سبيل إلى دخوله في الشرعيات أصلاً".
(10) زيادة من (غ) و (ر).
(11) زيادة من (غ) و (ر).
(12) في (غ) و (ر): "بين الناس".
(13) تقدم تخريجه (1 135).(3/74)
حرام (بين) (1) فَهُوَ كَذَلِكَ، وَمَا سُكِتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عُفِيَ عَنْهُ (2).
/وَقَالَ مَالِكٌ: قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ تَمَّ هَذَا الْأَمْرُ وَاسْتُكْمِلَ (فَيَنْبَغِي) (3) أَنْ تُتَّبَعَ آثَارُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ وَلَا تتبع الرأي، فإنه (من اتَّبَعَ) (4) الرَّأْيَ (جَاءَهُ) (5) رَجُلٌ آخَرُ أَقْوَى فِي الرَّأْيِ (مِنْهُ فَاتَّبَعَهُ) (6)، (فَكُلَّمَا غَلَبَهُ رَجُلٌ اتَّبَعَهُ أُري أن هذا الأمر بَعْدُ لَمْ يَتِمَّ) (7).
/ (وَاعْمَلُوا) (8) مِنَ الْآثَارِ بِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي إِذَا اعتصمتم به، كتاب الله) (9).
(وفي حديث أبي هريرة: (إني قد خلفت فيكم شيئين لن تضلوا بعدي أبداً ما أخذتم بهما، وعملتم بما فيهما: كِتَابَ اللَّهِ) (10) وَسُنَّتِي، وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا علي (الحوض) (11)) (12).
_________
(1) زيادة من (غ) و (ر).
(2) أخرجه أبو داود (3800) والحاكم في المستدرك (7113) وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى (9 330) برقم (19243).
(3) في جامع بيان العلم: فإنما ينبغي.
(4) في (م): "متى ما اتبع"، وفي جامع بيان العلم: متى اتبع.
(5) في (م): "وجامع بيان العلم": جاء.
(6) في (م): "منك فاتبعته"، وفي جامع بيان العلم: منك فاتبعه.
(7) في (م): "فكلما غلبك رجل اتبعته، أرى هذا بعد لم تتم. وفي جامع بيان العلم: "فَأَنْتَ كُلَّمَا جَاءَ رَجُلٌ غَلَبَكَ اتَّبَعْتَهُ، أَرَى هذا لا يتم" جامع بيان العلم (2072، 2117).
(8) في (م): "وأعتلو".
(9) أخرجه مسلم (1218)، وابن ماجه (3074)، وأبو داود (1905)، والنسائي في السنن الكبرى (4001)، والمنتقى لابن الجارود (469)، وابن خزيمة في الصحيح (2809)، وابن حبان في الصحيح (1457 و3944)، والبيهقي في السنن الكبرى (8609).
(10) ما بين () زيادة من (غ) و (ر).
(11) في (م): "حوضي".
(12) أخرجه الحاكم (319)، والبيهقي في السنن الكبرى (20124)، وابن عدي في الكامل (4 68). وقد وردت روايات أخرى للحديث منها: رواية زيد بن أرقم أخرجها الترمذي (3788)، والنسائي في السنن الكبرى (8148 و8464)، والطبراني في الكبير (2681=(3/75)
وروي عن عمرو بن (شعيب) (1) خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوماً وهم يجادلون في القرآن، فخرج وجهه أَحْمَرُ كَالدَّمِ فَقَالَ: (يَا قَوْمُ، عَلَى هَذَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، جَادَلُوا فِي الْقُرْآنِ وَضَرَبُوا بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، فَمَا كَانَ مِنْ حَلَالٍ فَاعْمَلُوا بِهِ، وَمَا كَانَ مِنْ حَرَامٍ فَانْتَهُوا عَنْهُ، وَمَا كَانَ مِنْ مُتَشَابِهٍ فَآمِنُوا بِهِ) (2).
وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَرْفَعُهُ/ قَالَ: (مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ حَلَالٌ، وَمَا حَرَّمَ فِيهِ فَهُوَ حَرَامٌ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَافِيَةٌ، فَاقْبَلُوا مِنَ اللَّهَ عَافِيَتَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ/ لَمْ يَكُنْ (لِيَنْسَى) (3) شَيْئًا {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (4)) (5).
_________
=و4969 و4971 و4980 و4981 و4986)، والحاكم (4576 و4711 و6272).
ومن رواية أبي سعيد الخدري أخرجها ابن الجعد في مسنده (2711)، وأحمد في المسند (3 17)، وفي فضائل الصحابة (990 و1382 و1383)، وأبو يعلى في المسند (1027)، والطبراني في الكبير (2979)، وأبو الشيخ في طبقات أصبهان (2 194)، وابن عدي في الكامل (6 66)، والعقيلي في الضعفاء الكبير (2 250) و (4 362).
ومن رواية ابن عباس أخرجها الحاكم (318)، والبيهقي في السنن الكبرى (20123).
ومن رواية حذيفة بن أسيد أخرجها الطبراني في الكبير (2683 و3052).
ومن رواية زيد بن ثابت أخرجها أحمد في الفضائل (1032)، وعبد بن حميد في المنتخب (240)، والطبراني في الكبير (4921 ـ 4923).
ومن رواية ابن عمر أخرجها عبد بن حميد في المنتخب (858).
(1) زيادة من (م) و (غ) و (ر).
(2) رواية عمر بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلّى الله عليه وسلّم خرج على بعض أصحابه وهو يتجادلون في القدر ـ وليس في القرآن كما في المتن ـ أخرجه أحمد في المسند (2 178)، والبخاري في خلق أفعال العباد (ص63)، وبنحوه في المسند (2 185 و192)، والنسائي في السنن الكبرى (5 33)، برقم (8095)، وبنحوه أخرجه مسلم في الصحيح (4 2053) برقم (2666) وغيره.
(3) في (م): "ينسى"، وفي رواية الحاكم (نسيا).
(4) سورة مريم: الآية (64).
(5) أخرجه الدارقطني في سننه (2 137)، برقم (12)، والحاكم (2 406)، برقم (3411)، وقال: (هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه)، وقال الذهبي: (صحيح)، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى (10 12)، برقم (19508)، وورد بنحوه عن سلمان=(3/76)
/قَالُوا: فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ وَرَدَتْ بِالْعَمَلِ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَالْإِعْلَامُ بِأَنَّ الْعَامِلَ بِهِ لَنْ يَضِلَّ، وَلَمْ يَأْذَنْ (لِأَحَدٍ) (1) فِي الْعَمَلِ بِمَعْنًى ثَالِثٍ غَيْرِ مَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَوْ كَانَ ثَمَّ ثَالِثٌ لَمْ يَدَعْ بَيَانَهُ، (فَدَلَّ) (2) على (أنه) (3) لا ثالث، و (أن) (4) من ادَّعَاهُ فَهُوَ مُبْطِلٌ.
قَالُوا: فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّهُ صلّى الله عليه وسلّم قَدْ سنَّ لِأُمَّتِهِ وَجْهًا ثَالِثًا وَهُوَ قَوْلُهُ: (اسْتَفْتِ قَلْبَكَ) (5)، وَقَوْلُهُ: (الْإِثْمُ حُوَّازُ) (6) الْقُلُوبِ) (7) إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
قُلْنَا: لَوْ صَحَّتْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ لَكَانَ ذَلِكَ إِبْطَالًا لِأَمْرِهِ بِالْعَمَلِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إذا صحَّا مَعًا؛ لِأَنَّ أَحْكَامَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَمْ تَرِدْ بِمَا اسْتَحْسَنَتْهُ النُّفُوسُ وَاسْتَقْبَحَتْهُ، وَإِنَّمَا كَانَ يَكُونُ وَجْهًا ثَالِثًا لَوْ خَرَجَ شَيْءٌ مِنَ الدِّينِ عَنْهُمَا، (وَلَيْسَ) (8) بِخَارِجٍ، فَلَا ثَالِثَ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ يَكُونُ قَوْلُهُ: (اسْتَفْتِ قَلْبَكَ) وَنَحْوَهُ أَمْرًا لِمَنْ لَيْسَ فِي مَسْأَلَتِهِ نَصٌّ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ، وَاخْتَلَفَتْ فِيهِ الْأُمَّةُ، فَيُعَدُّ وَجْهًا ثَالِثًا.
قُلْنَا: (لَا يَجُوزُ) (9) ذَلِكَ لِأُمُورٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ كُلَّ مَا لَا نَصَّ فِيهِ بِعَيْنِهِ قَدْ نُصِبَتْ عَلَى حُكْمِهِ دَلَالَةٌ، فَلَوْ كَانَ فَتْوَى/ الْقَلْبِ، وَنَحْوِهِ دَلِيلًا لَمْ يَكُنْ (لِنَصْبِ) (10) الدَّلَالَةِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَيْهِ معنى، فيكون/ عبثاً، وهو باطل.
_________
=الفارسي في سنن ابن ماجه (2 1117)، برقم (3367)، والترمذي (4 220)، برقم (1726) ـ وحسنه الألباني ـ والطبراني في المعجم الكبير (6 250 و261)، برقم (6124 و6159)، والبيهقي في السنن الكبرى (9 320 و10 12) برقم (19175 و19506 و19507)، وورد بنحوه عن ابن عباس موقوفاً، انظر (ص75).
(1) في (غ) و (ر): "لأمته".
(2) في (ط): "فعدل".
(3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "أن".
(4) زيادة من (غ) و (ر).
(5) سبق تخريجه (ص71) ت7.
(6) في (م): "جواز"، وفي (خ) و (ت): "خوار".
(7) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (5434)، وورد موقوفاً، حيث تقدم (ص72) ت3.
(8) في (ت): "ولا".
(9) في (خ): "يجوز".
(10) في (ط): "لنصت".(3/77)
وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (1)، فَأَمَرَ الْمُتَنَازِعِينَ بِالرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ دُونَ حديث النفوس وفُتيا القلوب.
والثالث: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (2)، فَأَمَرَهُمْ بِمَسْأَلَةِ أَهْلِ الذِّكْرِ لِيُخْبِرُوهُمْ بِالْحَقِّ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ أَنْ يَسْتَفْتُوا فِي ذلك أنفسهم.
والرابع: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ/ لِنَبِيِّهِ احْتِجَاجًا عَلَى من أنكر وحدانيته: {ت ث ج ح خ د} (3) إِلَى آخِرِهَا، فَأَمَرَهُمْ بِالِاعْتِبَارِ (بِعِبْرَتِهِ) (4) / وَالِاسْتِدْلَالِ بِأَدِلَّتِهِ عَلَى صِحَّةِ مَا جَاءَهُمْ بِهِ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ أن يستفتوا فيه نفوسهم ويصدروا عَمَّا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ قُلُوبُهُمْ، وَقَدْ وَضَعَ الْأَعْلَامَ وَالْأَدِلَّةَ، فَالْوَاجِبُ/ فِي كُلِّ مَا وَضَعَ اللَّهُ عَلَيْهِ الدَّلَالَةَ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِأَدِلَّتِهِ عَلَى مَا دلت (عليه) (5) دُونَ فَتْوَى النُّفُوسِ، وَسُكُونِ الْقُلُوبِ/ مِنْ أَهْلِ الجهل بأحكام الله.
هذا مَا حَكَاهُ الطَّبَرِيُّ عَمَّنْ تَقَدَّمَ، ثُمَّ (اخْتَارَ) (6) إِعْمَالَ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ، إِمَّا لِأَنَّهَا صَحَّتْ عِنْدَهُ (أَوْ صَحَّ) (7) مِنْهَا عِنْدَهُ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ معانيها؛ كحديث: "الْحَلَالُ بيِّن وَالْحَرَامُ بيِّن وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ" (8) إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ صَحِيحٌ خرَّجه الْإِمَامَانِ، ولكنه لم يُعملها في كل (شيء) (9) مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ، إِذْ لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ فِي تَشْرِيعِ الْأَعْمَالِ وَإِحْدَاثِ التَّعَبُّدَاتِ، فَلَا يُقَالُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى إِحْدَاثِ الْأَعْمَالِ: إِذَا اطْمَأَنَّتْ نَفْسُكَ إِلَى هَذَا الْعَمَلِ فَهُوَ بِرٌّ، أَوِ اسْتَفْتِ قَلْبِكَ فِي إِحْدَاثِ هَذَا الْعَمَلِ، فَإِنِ اطْمَأَنَّتْ إليه نفسك فاعمل به وإلا فلا.
_________
(1) سورة النساء: الآية (59).
(2) سورة النحل: الآية (43).
(3) سورة الغاشية: الآية (17).
(4) في (م) و (غ) و (ر): "بعبرة".
(5) زيادة من (م) و (غ) و (ر).
(6) في (م): "اخبار".
(7) في (ر): "وأصح".
(8) تقدم تخريجه (1/ 183).
(9) زيادة من (غ) و (ر).(3/78)
وكذلك (بالنسبة) (1) إِلَى التَّشْرِيعِ التُّرْكِيِّ، لَا يَتَأَتَّى تَنْزِيلُ مَعَانِي الْأَحَادِيثِ عَلَيْهِ بِأَنْ يُقَالَ: إِنِ اطْمَأَنَّتْ نَفْسُكَ إِلَى تَرْكِ الْعَمَلِ الْفُلَانِيِّ فَاتْرُكْهُ، وَإِلَّا فَدَعْهُ، أَيْ فَدَعِ التَّرْكَ وَاعْمَلْ بِهِ، وَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ إِعْمَالُ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ فِيمَا أَعْمَلَ فِيهِ قَوْلَهَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "الْحَلَالُ بيِّن وَالْحَرَامُ بيِّن" الْحَدِيثَ.
وَمَا كَانَ مِنْ قَبِيلِ الْعَادَاتِ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ وَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالنِّكَاحِ وَاللِّبَاسِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِي هَذَا الْمَعْنَى، فَمِنْهُ مَا هُوَ بَيِّنُ الْحِلِّيَّةِ وَمَا هُوَ بَيِّنُ التَّحْرِيمِ/ وَمَا فِيهِ إِشْكَالٌ، وَهُوَ الْأَمْرُ الْمُشْتَبَهُ الَّذِي لَا يُدْرَى أَحَلَالٌ/ هُوَ أَمْ حَرَامٌ؟ (فَإِنَّ تَرْكَ الْإِقْدَامِ أَوْلَى مِنَ الْإِقْدَامِ مَعَ جَهَلَةٍ بِحَالِهِ، نَظِيرَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "إِنِّي لِأَجِدُ التَّمْرَةَ سَاقِطَةً عَلَى فِرَاشِي، (فَلَوْلَا) (2) أَنِّي أَخْشَى أَنْ تَكُونَ مِنَ الصَّدَقَةِ لَأَكَلْتُهَا" (3).
فَهَذِهِ التَّمْرَةُ لَا شَكَّ أَنَّهَا لَمْ تَخْرُجْ مِنْ إِحْدَى (الحالتين) (4): إِمَّا مِنَ الصَّدَقَةِ وَهِيَ حَرَامٌ عَلَيْهِ/ وَإِمَّا مِنْ غَيْرِهَا وَهِيَ حَلَالٌ لَهُ، فَتَرَكَ أَكْلَهَا حَذَرًا مِنْ أَنْ تَكُونَ مِنَ الصَّدَقَةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.
قَالَ الطَّبَرِيُّ: فَكَذَلِكَ حَقُّ اللَّهِ تعالى عَلَى الْعَبْدِ ـ فِيمَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ مِمَّا هُوَ فِي سَعَةٌ مِنْ تَرْكِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ، أَوْ مما هو غير واجب (عليه) (5) أن يدع ما يريبه فيه إِلَى مَا لَا يُرِيبُهُ، إِذْ يَزُولُ بِذَلِكَ عن نفسه الشك، كمن يريد
_________
(1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "في النسبة".
(2) في (خ): "فلو".
(3) أخرجه البخاري برقم (2055 و2431)، ومسلم (1070 و1071)، وبنحوه في صحيفة همام بن منبه (94)، وإسحاق بن راهويه في المسند (483)، وأحمد في المسند (2 180 و193 و317) و (3 119 و132 و184 و258 و291)، وأبو داود (1651 و1652)، وأبو يعلى في مسنده (2862 و2975 و3011 و3094)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (2 9 و10)، وابن حبان في صحيحه (3292 و3296)، والبيهقي في السنن الكبرى (10600 و11876 و11877 و13012 ـ 13014).
(4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الحالين".
(5) زيادة من (غ) و (ر).(3/79)
خِطْبَةَ امْرَأَةٍ فَتُخْبِرُهُ امْرَأَةٌ أَنَّهَا قَدْ أَرْضَعَتْهُ وَإِيَّاهَا، وَلَا يَعْلَمُ صِدْقَهَا مَنْ كَذِبِهَا، فَإِنْ تَرَكَهَا/ أَزَالَ عَنْ نَفْسِهِ الرِّيبَةَ اللَّاحِقَةَ لَهُ بِسَبَبِ إِخْبَارِ الْمَرْأَةِ، وَلَيْسَ (تَزَوُّجُهُ) (1) إِيَّاهَا بِوَاجِبٍ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَقْدَمَ، فَإِنَّ النَّفْسَ لَا تَطْمَئِنُّ إِلَى حِلِّيَّة تِلْكَ (الزَّوْجَةِ) (2).
وَكَذَلِكَ قَوْلُ عُمَرَ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا أَشْكَلَ أَمْرُهُ فِي الْبُيُوعِ فَلَمْ يَدْرِ (أَحَلَالٌ) (3) هُوَ أَمْ (حَرَامٌ) (4)؟ فَفِي تَرْكِهِ سُكُونُ النَّفْسِ وَطُمَأْنِينَةَ الْقَلْبِ، كَمَا فِي الْإِقْدَامِ شَكٌّ، هَلْ هُوَ آثِمٌ أَمْ لَا؟ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلنَّوَّاسِ وَوَابِصَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ الْمُشْتَبِهَاتِ، لَا مَا ظَنَّ أُولَئِكَ مِنْ أنه أمر للجهال أن يعملوا بِمَا رَأَتْهُ أَنْفُسُهُمْ، وَيَتْرُكُوا مَا/ اسْتَقْبَحُوهُ دُونَ أَنْ يَسْأَلُوا عُلَمَاءَهُمْ.
قَالَ الطَّبَرِيُّ: فَإِنْ قِيلَ: إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتَ عليَّ حَرَامٌ، فَسَأَلَ/ الْعُلَمَاءَ فَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْ بَانَتْ (مِنْكَ) (5) بِالثَّلَاثِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا حَلَالٌ غَيْرَ أَنَّ عَلَيْكَ كَفَّارَةَ يَمِينٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: ذَلِكَ إِلَى نِيَّتِهِ إِنْ أَرَادَ الطَّلَاقَ فَهُوَ طَلَاقٌ، أَوِ الظِّهَارَ فَهُوَ ظِهَارٌ، أَوْ يَمِينًا فَهُوَ يَمِينٌ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا فَلَيْسَ بِشَيْءٍ.
أَيَكُونُ هَذَا اخْتِلَافًا فِي الْحُكْمِ كَإِخْبَارِ الْمَرْأَةِ بِالرِّضَاعِ فَيُؤْمَرُ هُنَا بِالْفِرَاقِ، كَمَا يُؤْمَرُ هُنَاكَ أَنْ لَا يَتَزَوَّجَهَا خَوْفًا مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْمَحْظُورِ (أَوْ لَا) (6)؟
قِيلَ: حُكْمُهُ فِي مَسْأَلَةِ الْعُلَمَاءِ أَنْ يَبْحَثَ عَنْ أَحْوَالِهِمْ، وَأَمَانَتِهِمْ وَنَصِيحَتِهِمْ، ثُمَّ يُقَلِّدُ/ الْأَرْجَحَ. فَهَذَا مُمْكِنٌ، (وَالْحَزَّازَةُ) (7) مرتفعة بهذا
_________
(1) في (م) و (غ) و (ر): "تزويجها".
(2) في (غ) و (ر): "الزوجية".
(3) في (ط): "حلال".
(4) في (م) و (غ) و (ر): "لا".
(5) في (غ) و (ر): "منه".
(6) في (م): "أولى"، وفي (غ) و (ر): "أم لا".
(7) في (م): "الحزارة".(3/80)
الْبَحْثِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا بَحَثَ مَثَلًا عَنْ أَحْوَالِ الْمَرْأَةِ فَإِنَّ (الْحَزَّازَةَ) (1) لَا تَزُولُ، وَإِنْ أَظْهَرَ الْبَحْثُ أَنَّ أَحْوَالَهَا غَيْرُ حَمِيدَةٍ، فَهُمَا عَلَى (هَذَا) (2) مُخْتَلِفَانِ، وَقَدْ يَتَّفِقَانِ فِي الْحُكْمِ إِذَا بَحَثَ عَنِ الْعُلَمَاءِ فَاسْتَوَتْ أَحْوَالُهُمْ عِنْدَهُ، (بحيث) (3) لَمْ يَثْبُتْ لَهُ تَرْجِيحٌ لِأَحَدِهِمْ، فَيَكُونُ الْعَمَلُ الْمَأْمُورُ بِهِ مِنَ الِاجْتِنَابِ كَالْمَعْمُولِ بِهِ فِي مَسْأَلَةِ المُخبرة بِالرَّضَاعِ سَوَاءٌ، إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ. انْتَهَى مَعْنَى كَلَامِ الطَّبَرِيِّ.
وَقَدْ أَثْبَتَ فِي مَسْأَلَةِ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْمُسْتَفْتِي أَنَّهُ غَيْرُ مخيَّر، بَلْ حُكْمُهُ حُكْمُ مَنِ الْتَبَسَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ فَلَمْ يَدْرِ أحلال هو أو حَرَامٌ) (4)، فَلَا خَلَاصَ لَهُ مِنَ الشُّبْهَةِ إِلَّا باتباع أفضلهم وَالْعَمَلُ بِمَا (أَفْتَى) (5) بِهِ، وَإِلَّا (فَالتُّرْكُ) (6) إِذْ لَا تَطْمَئِنُّ النَّفْسُ إِلَّا بِذَلِكَ حَسْبَمَا اقْتَضَتْهُ الأدلة المتقدمة.
_________
(1) في (م): "الحزارة".
(2) ساقط من (غ) و (ر).
(3) زيادة من (غ) و (ر).
(4) ما بين القوسين () من الصفحة السابقة إلى هنا سقط من (ت)، وهو قريب من صفحتين.
(5) في (غ) و (ر): "أتى".
(6) في (غ) و (ر): "الترك".(3/81)
/فصل
ثُمَّ يَبْقَى فِي هَذَا الْفَصْلِ الَّذِي فَرَغْنَا مِنْهُ إِشْكَالٌ عَلَى كُلِّ مَنِ اخْتَارَ اسْتِفْتَاءَ الْقَلْبِ مُطْلَقًا أَوْ بِقَيْدٍ، وَهُوَ الَّذِي رَآهُ الطبري، وذلك أَنَّ حَاصِلَ الْأَمْرِ يَقْتَضِي أَنَّ فَتَاوَى الْقُلُوبِ وَمَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النُّفُوسُ مُعْتَبَرٌ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَهُوَ التَّشْرِيعُ بِعَيْنِهِ، فَإِنَّ طُمَأْنِينَةَ النَّفْسِ (وسكون) (1) الْقَلْبُ مُجَرَّدًا عَنِ الدَّلِيلِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُعْتَبَرَةً أَوْ غَيْرَ مُعْتَبَرَةٍ شَرْعًا، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُعْتَبَرَةً فَهُوَ خِلَافُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ (تِلْكَ) (2) الْأَخْبَارُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهَا مُعْتَبَرَةٌ (بِتِلْكَ) (3) الْأَدِلَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ مُعْتَبَرَةً فَقَدْ صَارَ ثَمَّ قسم ثالث غير الكتاب والسنة، وهو (عين) (4) مَا نَفَاهُ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَإِنْ قِيلَ: إِنَّهَا تُعْتَبَرُ فِي الْإِحْجَامِ دُونَ الْإِقْدَامِ، لَمْ (تَخْرُجْ) (5) (بذلك) (6) عَنْ الْإِشْكَالِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْإِقْدَامِ وَالْإِحْجَامِ فِعْلٌ لَا بُدَّ أَنْ يَتَعَلَّقَ به حكم شرعي، وهو الجواز أو عدمه، وَقَدْ عُلِّقَ ذَلِكَ بِطُمَأْنِينَةِ النَّفْسِ أَوْ عَدَمِ طمأنينتها، فإن كان ذلك عن دليل: (فالحكم مبني على الدليل لا على نفس الطمأنينة أو عدمها وإن لم يكن عن دليل) (7) فهو ذلك الأول بعينه (فالإشكال) (8) بَاقٍ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ.
وَالْجَوَابُ: / أَنَّ الْكَلَامَ الأوّل صحيح، وإنما النظر في تحقيقه.
_________
(1) في (م): "والسكون".
(2) ساقط من (غ) و (ر).
(3) في (غ) و (ر): "فتلك".
(4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "غير".
(5) في (غ) و (ر): "يخرج".
(6) في (ط) و (م) و (خ): "تلك".
(7) زيادة من (غ) و (ر).
(8) ما بين القوسين ساقط من (ط).(3/82)
/فَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَسْأَلَةٍ تَفْتَقِرُ إِلَى نَظَرَيْنِ، نَظَرٍ فِي دَلِيلِ الْحُكْمِ، وَنَظَرٍ فِي مَنَاطِهِ (1)، فأما النظر في دليل الحكم (فإن الدليل) (2) لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إِلَّا مِنَ الْكِتَابِ (أو السنة) (3) أَوْ مَا يَرْجِعُ إِلَيْهِمَا (مِنْ) (4) إِجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ طُمَأْنِينَةُ النَّفْسِ، وَلَا نَفْيُ رَيْبِ الْقَلْبِ إِلَّا مِنْ/ جِهَةِ اعْتِقَادِ كَوْنِ الدَّلِيلِ/ دَلِيلًا أَوْ غَيْرَ دليل، ولا يقول (بذلك) (5) أحد ـ إِلَّا أَهْلَ الْبِدَعِ الَّذِينَ يَسْتَحْسِنُونَ (الْأَمْرَ) (6) بِأَشْيَاءَ لَا دَلِيلَ (عَلَيْهَا) (7)، أَوْ يَسْتَقْبِحُونَ كَذَلِكَ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ إِلَّا طُمَأْنِينَةَ النَّفْسِ ـ أَنَّ الْأَمْرَ كما زعموا، وهو مخالف لإجماع المسلمين.
وأما النظر (الثاني الذي هو) (8) فِي مَنَاطِ الْحُكْمِ، فَإِنَّ الْمَنَاطَ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا/ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ فَقَطْ، بل (قد) (9) (يَثْبُتُ) (10) بِدَلِيلٍ غَيْرِ شَرْعِيٍّ، أَوْ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، فلا يشترط (في تحقيقه) (11) بُلُوغَ دَرَجَةِ الِاجْتِهَادِ، بَلْ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعِلْمُ فَضْلًا عَنْ دَرَجَةِ الِاجْتِهَادِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَامِّيَّ إِذَا سَأَلَ عَنِ الْفِعْلِ الَّذِي لَيْسَ مِنْ جِنْسِ/ الصَّلَاةِ إِذَا فَعَلَهُ الْمُصَلِّي هَلْ تَبْطُلُ بِهِ الصَّلَاةُ أَمْ لَا؟ فَقَالَ (له) (12) (العالم) (13): إِنْ كَانَ يَسِيرًا فَمُغْتَفَرٌ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا فمبطل. (لم يفتقر) (14) في اليسير إِلَى أَنْ يُحَقِّقَهُ (لَهُ) (15) الْعَالِمُ، بَلِ الْعَاقِلُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْفِعْلِ الْيَسِيرِ وَالْكَثِيرِ، فَقَدِ انْبَنَى ها هنا الْحُكْمُ ـ وَهُوَ الْبُطْلَانُ أَوْ عَدَمُهُ ـ عَلَى مَا يَقَعُ بِنَفْسٍ الْعَامِّيُّ، وَلَيْسَ وَاحِدًا مِنَ الْكِتَابِ أو
_________
(1) المناط: هي علة الحكم، لأنها مكان نوطه أي تعليقه. انظر مذكرة الشنقيطي (ص291).
(2) زيادة من (غ) و (ر).
(3) في (ط) و (خ): "والسنة".
(4) في (ط) و (خ): "عن".
(5) زيادة من (غ) و (ر).
(6) في (ت): "الأمور".
(7) ساقطة من (م).
(8) ما بين القوسين زيادة من (ت).
(9) زيادة من (غ) و (ر).
(10) في (م): "تثبت".
(11) في (ط) و (خ) و (ن): "فيه"، وهي ساقطة من (م).
(12) زيادة من (غ) و (ر).
(13) في (ط) و (خ) و (ت): "العامي".
(14) في (ط): "لم يغتفر". وفي (ت): "ولم يفتقر".
(15) ساقط من (غ) و (ر).(3/83)
السُّنَّةِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مَا وَقَعَ بِقَلْبِهِ دَلِيلًا على حكم، وإنما هو (تحقيق) (1) مَنَاطُ الْحُكْمِ، فَإِذَا تَحَقَّقَ لَهُ الْمَنَاطُ بِأَيِّ وَجْهٍ تَحَقَّقَ، فَهُوَ الْمَطْلُوبُ فَيَقَعُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ بِدَلِيلِهِ الشَّرْعِيِّ.
وَكَذَلِكَ إِذَا قُلْنَا بِوُجُوبِ الْفَوْرِ فِي الطَّهَارَةِ، وَفَرَّقْنَا بَيْنَ الْيَسِيرِ وَالْكَثِيرِ فِي التَّفْرِيقِ الْحَاصِلِ أَثْنَاءَ الطَّهَارَةِ (2)، فَقَدْ يَكْتَفِي الْعَامِّيُّ بِذَلِكَ حَسْبَمَا يَشْهَدُ قَلْبُهُ فِي الْيَسِيرِ أَوِ الْكَثِيرِ، فَتَبْطُلُ طَهَارَتَهُ أَوْ تَصِحُّ بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ الْوَاقِعِ فِي الْقَلْبِ، لِأَنَّهُ نَظَرَ فِي مَنَاطِ الْحُكْمِ.
/فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَمَنْ مَلَكَ لَحْمَ شَاةٍ ذَكِيَّةٍ حلَّ لَهُ أَكْلُهُ، لِأَنَّ حلّيته ظاهرة عنده، (إذ) (3) حصل له شرط الحلية (فتحقق) (4) مَنَاطِهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، أَوْ مَلَكَ لَحْمَ شَاةٍ مَيِّتَةٍ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَكْلُهُ، لِأَنَّ تَحْرِيمَهُ ظاهر من جهة/ فقده شرط الحلية (وهو الذكاة) (5) فتحقق (مناطه) (6) بالنسبة إليه، وكل واحد من (هذين) (7) الْمَنَاطَيْنِ رَاجِعٌ إِلَى مَا وَقَعَ بِقَلْبِهِ، وَاطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ نَفْسُهُ، لَا بِحَسَبِ الْأَمْرِ فِي نَفْسِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّحْمَ قَدْ يَكُونُ وَاحِدًا بِعَيْنِهِ فَيَعْتَقِدُ وَاحِدٌ حِلِّيَّتَهُ بِنَاءً عَلَى مَا تَحَقَّقَ لَهُ مِنْ (مَنَاطِهِ) (8) بِحَسَبِهِ، وَيَعْتَقِدُ آخَرُ تَحْرِيمَهُ بِنَاءً عَلَى مَا تَحَقَّقَ لَهُ مِنْ مَنَاطِهِ بِحَسَبِهِ، فَيَأْكُلُ أَحَدُهُمَا حَلَالًا وَيَجِبُ عَلَى الْآخَرِ الِاجْتِنَابُ لِأَنَّهُ حَرَامٌ،/ وَلَوْ كَانَ مَا يَقَعُ بِالْقَلْبِ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَدُلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ لَمْ يَصِحَّ هَذَا الْمِثَالُ، وَكَانَ محالاً (شرعاً) (9)، لأن (أدلة) (10) الشرع لا (تتناقض) (11) / أبداً.
_________
(1) زيادة من (م) و (غ) و (ر).
(2) في (خ) تكرار وهو: وَفَرَّقْنَا بَيْنَ الْيَسِيرِ وَالْكَثِيرِ فِي التَّفْرِيقِ الْحَاصِلِ أثناء الطهارة.
(3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "إذا".
(4) في (م): "يتحقق"، وفي (ت) و (خ) و (ط): "لتحقق".
(5) زيادة من (غ) و (ر).
(6) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "مناطها".
(7) زيادة من (م) و (غ) و (ر).
(8) في (ط) و (م) و (خ) و (غ) و (ر): "مناطها".
(9) زيادة من (غ) و (ر).
(10) في (م): "الدلة".
(11) في (ط): "تناقض".(3/84)
فَإِذَا فَرَضْنَا لَحْمًا أَشْكَلَ عَلَى الْمَالِكِ تَحْقِيقُ مَنَاطِهِ (لَمْ) (1) يَنْصَرِفْ إِلَى إِحْدَى الْجِهَتَيْنِ، كَاخْتِلَاطِ الميتة (بالذكية) (2)، واختلاط الزوجة بالأجنبية.
فها هنا قَدْ وَقَعَ الرَّيْبُ وَالشَّكُّ وَالْإِشْكَالُ وَالشُّبْهَةُ.
وَهَذَا الْمَنَاطُ مُحْتَاجٌ إِلَى دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ يبيِّن حُكْمَهُ، (وهو) (3) تِلْكَ الْأَحَادِيثُ/ الْمُتَقَدِّمَةُ، كَقَوْلِهِ: "دَعْ مَا يَرِيبُكَ إلا مَا لَا يَرِيبُكَ"، وَقَوْلُهُ: "الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ" (4)، كأنه يقول: إذا (اعتبرت) (5) بِاصْطِلَاحِنَا مَا تَحَقَّقْتَ مَنَاطَهُ فِي الْحِلِّيَّةِ أَوِ الْحُرْمَةِ؛ فَالْحُكْمُ فِيهِ مِنَ الشَّرْعِ بيِّن، وَمَا أَشْكَلَ عَلَيْكَ تَحْقِيقُهُ فَاتْرُكْهُ وَإِيَّاكَ وَالتَّلَبُّسَ بِهِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ ـ إِنْ صَحَّ ـ: "اسْتَفْتِ قَلْبَكَ وَإِنْ أَفْتَوْكَ" (6)، فَإِنَّ تَحْقِيقَكَ لِمَنَاطِ مَسْأَلَتِكَ أَخَصُّ (بِكَ) (7) مِنْ تَحْقِيقِ غَيْرِكَ لَهُ إِذَا كَانَ مِثْلَكَ.
وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِيمَا إِذَا أَشْكَلَ عَلَيْكَ الْمَنَاطُ وَلَمْ يُشْكِلْ عَلَى غَيْرِكَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَعْرِضْ لَهُ مَا عَرَضَ لَكَ.
/وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: (وَإِنْ أَفْتَوْكَ)، أَيْ: إِنْ نَقَلُوا (إِلَيْكَ) (8) الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ فَاتْرُكْهُ وَانْظُرْ مَا يُفْتِيكَ بِهِ قَلْبُكَ، فَإِنَّ هَذَا بَاطِلٌ، وَتَقَوُّلٌ عَلَى التَّشْرِيعِ الْحَقِّ، وَإِنَّمَا/ الْمُرَادُ مَا يَرْجِعُ إِلَى تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ.
نَعَمْ قَدْ لَا يَكُونُ (لَكَ دُرْبَةٌ) (9) أو (أنس) (10) بتحقيقه، فيحققه لك
_________
(1) في (م) و (خ) و (غ) و (ر): "فلم". وأشار المحقق لنسخة (ط) أن أصل المخطوط عنده (فلم) فعدلها لأنها جواب (فإذا).
(2) في (م) و (ت): "بالمذكية".
(3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "وهي".
(4) تقدم تخريجه (ص71).
(5) في (م) و (غ) و (ر): "عبرنا". وفي (ط) و (خ): "اعتبرنا".
(6) تقدم تخريجه (ص71).
(7) في (غ) و (ر): "به".
(8) في (غ) و (ر): "لك".
(9) في (ط): "ذلك درية". وفي (خ): "لك درية".
(10) في (ط): "أنسا".(3/85)
غَيْرُكَ، وَتَقَلِّدُهُ فِيهِ، وَهَذِهِ الصُّورَةُ خَارِجَةٌ عَنِ الْحَدِيثِ، كَمَا أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ تَحْقِيقُ الْمَنَاطِ أَيْضًا (مَوْقُوفًا) (1) عَلَى تَعْرِيفِ الشَّارِعِ، كَحَدِّ الْغِنَى الْمُوجِبِ لِلزَّكَاةِ، فَإِنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، فَحَقَّقَهُ الشَّارِعُ بِعِشْرِينَ دِينَارًا (أَوْ) (2) مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا/ النَّظَرُ هُنَا فِيمَا وُكِلَ تَحْقِيقُهُ إِلَى الْمُكَلَّفِ.
فَقَدْ ظَهَرَ مَعْنَى الْمَسْأَلَةِ وَأَنَّ الْأَحَادِيثَ لَمْ تَتَعَرَّضْ لِاقْتِنَاصِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ طُمَأْنِينَةِ النَّفْسِ أَوْ مَيْلِ الْقَلْبِ كَمَا أَوْرَدَهُ السَّائِلُ الْمُسْتَشْكِلُ، وَهُوَ تَحْقِيقٌ بَالِغٌ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الذي بنعمته تتم الصالحات.
_________
(1) في (م): "موقوف".
(2) في (ط): "و".(3/86)
/ الْبَابُ التَّاسِعُ
فِي السَّبَبِ الَّذِي لِأَجْلِهِ افْتَرَقَتْ فرق المبتدعةعن (جماعة المسلمين) (1)
فَاعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ أَنَّ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى ذَمِّ/ الْبِدْعَةِ، وَكَثِيرًا مِنَ الْأَحَادِيثِ أَشْعَرَتْ بِوَصْفٍ لِأَهْلِ الْبِدْعَةِ، وَهُوَ الْفِرْقَةُ الْحَاصِلَةُ، حَتَّى يَكُونُوا بسببها شيعاً متفرقة، لا ينتظم شملهم (الإسلام) (2)، وَإِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِهِ، وَحَكَمَ (لَهُمْ) (3) بِحُكْمِهِ.
أَلَّا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (4)، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ *مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} (5)، وقوله تَعَالَى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا/ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (6)، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى وصف التفرق.
وفي الحديث: "ستفترق أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً" (7)، وَالتَّفَرُّقُ/ نَاشِئٌ عَنِ الِاخْتِلَافِ فِي الْمَذَاهِبِ وَالْآرَاءِ إِنْ جَعْلَنَا التَّفَرُّقَ مَعْنَاهُ بِالْأَبْدَانِ ـ وَهُوَ الْحَقِيقَةُ ـ وَإِنْ جَعْلَنَا مَعْنَى التَّفَرُّقِ فِي الْمَذَاهِبِ، فَهُوَ الِاخْتِلَافُ، كَقَوْلِهِ: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} (8).
_________
(1) في (غ) و (ر): "أهل السنة".
(2) في (ط) و (خ) و (ت): "بالإسلام".
(3) ساقط من (غ) و (ر).
(4) سورة الأنعام: الآية (159).
(5) سورة الروم: الآيتان (31، 32).
(6) سورة الأنعام: الآية (153).
(7) سيأتي تخريجه ـ إن شاء الله تعالى ـ (ص122).
(8) سورة آل عمران: الآية (105).(3/87)
فَلَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فِي هَذَا الِاخْتِلَافِ مَا سَبَبُهُ؟ وَلَهُ سَبَبَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا كَسْبَ للعباد فِيهِ، وَهُوَ الرَّاجِعُ إِلَى سَابِقِ الْقَدَرِ.
وَالْآخَرُ: هُوَ الْكَسْبِيُّ؛ وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالْكَلَامِ/ عَلَيْهِ فِي هذا الباب، إلا (أنا) (1) نَجْعَلَ السَّبَبَ الْأَوَّلَ مُقَدِّمَةً، فَإِنَّ فِيهَا مَعْنًى أصيلاً يجب (التنبه) (2) لَهُ عَلَى مَنْ أَرَادَ التَّفَقُّهَ فِي الْبِدَعِ، فَنَقُولُ ـ وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ ـ:
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ *إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (3)، فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ لَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ أَبَدًا، مَعَ أَنَّهُ (لَوْ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهُمْ مُتَّفِقِينَ لكان (قادراً) (4) على ذلك، لَكِنْ سَبَقَ الْعِلْمُ الْقَدِيمُ أَنَّهُ) (5) إِنَّمَا خَلَقَهُمْ لِلِاخْتِلَافِ، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فِي الآية وأن قوله: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} مَعْنَاهُ: وَلِلِاخْتِلَافِ خَلَقَهُمْ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: خَلَقَهُمْ لِيَكُونُوا فَرِيقًا فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقًا فِي السَّعِيرِ (6). وَنَحْوَهُ عَنِ الْحَسَنِ (7).
فَالضَّمِيرُ فِي خَلَقَهُمْ عَائِدٌ عَلَى النَّاسِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ مِنْهُمْ إِلَّا مَا سَبَقَ (في) (8) العلم، وليس المراد ها هنا الِاخْتِلَافُ فِي الصُّوَرِ، كالحَسَنِ (وَالْقَبِيحِ) (9)، وَالطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ، وَلَا فِي الْأَلْوَانِ كَالْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ، وَلَا فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ كَالتَّامِّ الْخَلْقِ (وَالنَّاقِصِ الْخَلْقِ) (10)، وَالْأَعْمَى والبصير، والأصم
_________
(1) في (ط): "أن".
(2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "التثبت".
(3) سورة هود: الآيتان (118 ـ 119).
(4) زيادة من (غ) و (ر).
(5) ما بين القوسين ساقط من (ط) و (خ) و (ت).
(6) أخرجه ابن جرير في تفسيره (18742)، واللالكائي برقم (968).
(7) أخرجه أبو داود في سننه (4615)، وصححه الألباني، وبنحوه أخرجه عبد الله في السنة (2 430)، برقم (950)، والطبري في تفسيره (15 532، 536)، برقم (18706 و18729)، وابن أبي حاتم في تفسيره (6 2095)، برقم (11295 و11297 و11298)، والآجري في الشريعة (313 و314)، واللالكائي (968).
(8) في (غ) و (ر): "به".
(9) في (م) و (غ) و (ر): والقبح.
(10) ما بين القوسين ساقط من (ط) و (خ) و (ت).(3/88)
وَالسَّمِيعِ، وَلَا فِي/ الْخُلُقِ كَالشُّجَاعِ وَالْجَبَانِ، وَالْجَوَادِ وَالْبَخِيلِ، وَلَا فِيمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَوْصَافِ الَّتِي هُمْ مُخْتَلِفُونَ فِيهَا.
وَإِنَّمَا الْمُرَادُ اخْتِلَافٌ آخَرُ، وَهُوَ الِاخْتِلَافُ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ لِيَحْكُمُوا فِيهِ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى/: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً/ وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ} (1)، وَذَلِكَ الِاخْتِلَافُ فِي الْآرَاءِ وَالنِّحَلِ وَالْأَدْيَانِ وَالْمُعْتَقَدَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِمَا يَسْعَدُ الْإِنْسَانُ بِهِ أَوْ يَشْقَى في الآخرة والدنيا.
هَذَا هُوَ/ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي ذُكِرَ فيها الاختلاف الحاصل بين الخلق، (إلا) (2) أَنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ الْوَاقِعَ بَيْنَهُمْ عَلَى أَوْجُهٍ:
/أَحَدُهَا: الِاخْتِلَافُ فِي أَصْلِ النِّحْلَةِ، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، مِنْهُمْ عَطَاءٌ قَالَ: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ *إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (قَالَ) (3): "الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسُ، وَالْحَنِيفِيَّةُ، وَهُمُ الَّذِينَ رَحِمَ رَبُّكَ (الْحَنِيفِيَّةُ) " (4). خرَّجه ابْنُ وَهْبٍ (5).
/وَهُوَ الَّذِي يَظْهَرُ لِبَادِيِ الرَّأْيِ فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ.
وَأَصْلُ هَذَا الِاخْتِلَافِ هُوَ فِي التَّوْحِيدِ وَالتَّوَجُّهُ لِلْوَاحِدِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ، فَإِنَّ النَّاسَ فِي عَامَّةِ الْأَمْرِ لَمْ يَخْتَلِفُوا (فِي) (6) أَنَّ لَهُمْ مدبَّراً يدبِّرهم، وَخَالِقًا أَوَجَدَهُمْ، إِلَّا أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِهِ عَلَى آرَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ، مِنْ قَائِلٍ بِالِاثْنَيْنِ أو
_________
(1) سورة البقرة: الآية (213).
(2) ما بين القوسين ساقط من (ط).
(3) في (ط) و (خ): "قال ـ قال".
(4) ما بين القوسين ساقط من (ت). والأثر أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (11288)، وابن جرير في تفسيره (15 531 ـ 532)، برقم (18700 و18701)، ولم أجد الأثر في الجزء المطبوع من جامع ابن وهب ـ وهو في مجلدين ـ وتوجد منه قطعة مخطوطة، لكني لم أجد الأثر فيه، وباقي كتاب الجامع في حكم المفقود.
(5) هو: عبد الله بن وهب بن مسلم المصري، ولد سنة 125هـ. ومات سنة 197هـ، وهو إمام ثقة، وله عدة كتب منها الجامع، وهو الذي يكثر الشاطبي من النقل عنه انظر: طبقات ابن سعد (7 518)، والتاريخ الكبير (5 218)، والسير (9 223).
(6) في (م): "من".(3/89)
بالخمسة، أو بالطبيعة أو بالدهر، أَوْ بِالْكَوَاكِبِ، إِلَى أَنْ قَالُوا بِالْآدَمِيِّينَ (وَالشَّجَرِ وَالْحِجَارَةِ) (1) وَمَا يَنْحِتُونَ بِأَيْدِيهِمْ (2).
وَمِنْهُمْ مَنْ أَقَرَّ بِوَاجِبِ الْوُجُودِ الْحَقِّ لَكِنْ عَلَى آرَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ أَيْضًا، إِلَى أَنْ بَعْثَ اللَّهُ الْأَنْبِيَاءَ مُبَيِّنِينَ لِأُمَمِهِمْ حَقَّ مَا اخْتَلَفُوا (فِيهِ) (3) مِنْ بَاطِلِهِ، فَعَرَفُوا بِالْحَقِّ عَلَى مَا يَنْبَغِي، ونزَّهوا رَبَّ الْأَرْبَابِ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ مِنْ نِسْبَةِ الشُّرَكَاءِ وَالْأَنْدَادِ، وَإِضَافَةِ الصَّاحِبَةِ وَالْأَوْلَادِ، فَأَقَرَّ بِذَلِكَ مَنْ أَقَرَّ بِهِ، وَهُمُ الدَّاخِلُونَ تَحْتَ مُقْتَضَى قوله: {إِلاَّ مَنْ/ رَحِمَ رَبُّكَ} وَأَنْكَرَ مَنْ أَنْكَرَ، فَصَارَ إِلَى مُقْتَضَى قَوْلِهِ: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأََمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (4)، وَإِنَّمَا دَخَلَ الْأَوَّلُونَ تَحْتَ وَصْفِ الرَّحْمَةِ لِأَنَّهُمْ خَرَجُوا عَنْ وَصْفِ الِاخْتِلَافِ إِلَى وَصْفِ الْوِفَاقِ/ وَالْأُلْفَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا} (5)، وهو منقول عن جماعة من المفسرين.
_________
(1) في (خ) و (ت): "والشجر بالحجارة". وفي (ط): "وبالشجر والحجارة".
(2) القائلون في الربوبية بالاثنين هم الثنوية، وهم القائلون بأن النور والظلمة أزليان قديمان. وهم فرق، وهي المانوية: أصحاب ماني بن فاتك الحكيم الذي ظهر في زمن سابور بن أردشير. والمزدكية: أصحاب مزدك، وهو الذي ظهر في أيام قباذ والد أنوشروان. والديصانية: أصحاب ديصان، أثبتوا أصلين، نوراً وظلاماً. والمرقيونية: أصحاب مرقيون، أثبتوا أصلين متضادين، النور والظلمة، وأثبتوا أصلاً ثالثاً، وهو المعدل الجامع، وهو سبب المزاج، فإن المتنافرين المتضادين لا يمتزجان إلا بجامع.
والذين قالوا بخمسة آلهة هم الكينوية: فزعموا بالأصلين، النور والظلمة، وزعموا أن هناك أصولاً ثلاثة: النار والأرض والماء، وأن هذه الموجودات حدثت من هذه الأصول، دون الأصلين اللذين أثبتهما الثنوية، وهما النور والظلمة. انظر: الملل والنحل للشهرستاني (1 244 ـ 255)، والفصل لابن حزم (1 86 ـ 92).
والقائلون بعبادة الكواكب: هم أصحاب الهياكل، التي هي السيارات السبع، وهم من فرق الصابئة. انظر: الملل للشهرستاني (2 49 ـ 51).
وأما عباد الآدميين فهم كثير، فاليهود عبدوا عُزيراً، والنصارى عبدوا عيسى بن مريم، والباطنية عبدوا أئمتهم، وغيرهم من أهل الشرك.
(3) زيادة من (ط) و (غ) و (ر).
(4) سورة هود: الآية (119).
(5) سورة آل عمران: الآية (103).(3/90)
/وخرَّج ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}: خَلَقَ أَهْلَ الرَّحْمَةِ أَنْ لَا يَخْتَلِفُوا (1).
وَهُوَ معنى ما نقل عن مالك وطاووس فِي جَامِعِهِ (2).
وَبَقِيَ الْآخَرُونَ عَلَى وَصْفِ الِاخْتِلَافِ، إِذْ خَالَفُوا الْحَقَّ الصَّرِيحَ، وَنَبَذُوا الدِّينَ الصَّحِيحَ.
وَعَنْ مَالِكٍ أَيْضًا قَالَ: الَّذِينَ رَحِمَهُمْ لَمْ يَخْتَلِفُوا (3).
وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ}، إِلَى قَوْلِهِ: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ/ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} (4) (معنى) (5): كان الناس أمة واحدة فاختلفوا، (أنه تعالى أخبر) (6) فِي الْآيَةِ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا وَلَمْ يَتَّفِقُوا، فَبَعَثَ النَّبِيِّينَ لِيَحْكُمُوا بَيْنَهُمْ فِيمَا (اخْتَلَفُوا) (7) فِيهِ مِنَ الْحَقِّ، وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا هَدَاهُمُ (اللَّهُ) (8) لِلْحَقِّ مِنْ ذَلِكَ الِاخْتِلَافِ.
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "نَحْنُ الْآخَرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مَنْ قَبِلْنَا، وَأُوتِينَاهُ مَنْ بَعْدِهِمْ، هَذَا يَوْمُهُمُ الَّذِي فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ، فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ، فاليهود غداً والنصارى بعد غد" (9).
_________
(1) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (6/ 2095) برقم (11296)، وبنحوه أخرجه الفريابي في كتاب القدر (61).
(2) أثر مالك تقدم تخريجه (3/ 86)، وأما أثر طاووس فقد أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (6/ 2095) برقم (11293) من طريق ابن وهب.
(3) لم أجده عن الإمام مالك رحمه الله تعالى بهذا النص، ولكن ورد بنحوه كما تقدم في (3/ 88)، كما ورد بنحوه عن ابن المبارك، كما في تفسير ابن جرير (15 533)، برقم (18710).
(4) سورة البقرة: الآية (213).
(5) في (ط) و (م) و (خ): "ومعنى".
(6) في (ط) و (م) و (خ) و (غ) و (ر): "فبعث الله النبيين فأخبر".
(7) زيادة من (ط) و (غ) و (ر).
(8) زيادة من (م) و (غ) و (ر).
(9) أخرجه البخاري (7495، 7036، 6887، 6624، 3486، 6926، 896، 876، 238)، ومسلم برقم (855)، وفي صحيفة همام بن منبه (1)، وإسحاق بن راهويه في=(3/91)
وخرَّج ابْنُ وَهْبٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ (1) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً}، فَهَذَا يَوْمُ أَخَذَ مِيثَاقَهُمْ لَمْ يَكُونُوا أُمَّةً وَاحِدَةً غَيْرَ ذَلِكَ الْيَوْمِ.
فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مبشِّرين/ ومنذرين، فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ من الحق بإذنه.
وَاخْتَلَفُوا فِي يَوْمِ الْجُمْعَةَ، فَاتَّخَذَ الْيَهُودُ يَوْمَ السَّبْتِ، وَاتَّخَذَ النَّصَارَى يَوْمَ الْأَحَدِ، فَهَدَى اللَّهُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَوْمِ الْجُمْعَةِ.
وَاخْتَلَفُوا/ فِي الْقِبْلَةِ، فَاسْتَقْبَلَتِ النَّصَارَى الْمَشْرِقَ، وَاسْتَقْبَلَتِ الْيَهُودُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَهَدَى اللَّهُ أَمَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْقِبْلَةِ.
/وَاخْتَلَفُوا فِي الصَّلَاةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَرْكَعُ وَلَا/ يَسْجُدُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْجُدُ وَلَا يَرْكَعُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يصلي (وهو) (2) يَتَكَلَّمُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُصَلِّي وَهُوَ يَمْشِي، وَهَدَى الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم للحق من ذلك.
واختلفوا في الصيام، فمنهم من يصوم بعض النهار، ومنهم من يصوم (عن) (3) بعض الطعام، وهدى الله أمة محمد صلى الله عليه وَسَلَّمَ لِلْحَقِّ مِنْ ذَلِكَ.
وَاخْتَلَفُوا فِي إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَتِ الْيَهُودُ: كَانَ يَهُودِيًّا، وَقَالَتِ النصارى: (كان) (4) نَصْرَانِيًّا، وَجَعَلَهُ اللَّهُ حَنِيفًا/ مُسْلِمًا، فَهَدَى اللَّهُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْحَقِّ من ذلك.
_________
=مسنده (291)، وأحمد في مسنده (2 249 و274 و312 و341 و473، 502 و504)، والنسائي في المجتبى (1367)، وفي السنن الكبرى (1654)، وأبو يعلى في مسنده (6269)، والطبراني في مسند الشاميين (136)، والدارقطني في سننه (2 3)، والخطيب في تاريخ بغداد (2 160 و257)، والبيهقي في السنن الكبرى (1320 و5354 و5453)، وأخرجه بلفظ مقارب مسلم (856)، وابن ماجه (1083)، والنسائي في المجتبى (1368)، وفي الكبرى (1652)، وأبو يعلى في المسند (6216).
(1) هو أبو عبد الله زيد بن أسلم العدوي العمري، أحد فقهاء التابعين، توفي سنة 136هـ. انظر: الجرح والتعديل (3 554)، وتهذيب التهذيب (3 395).
(2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "ولا".
(3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "من".
(4) زيادة من (غ) و (ر).(3/92)
وَاخْتَلَفُوا فِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَكَفَرَتْ بِهِ الْيَهُودُ، وَقَالُوا لِأُمِّهِ بُهْتَانًا عَظِيمًا، وَجَعَلَتْهُ النَّصَارَى إِلَهًا وَوَلَدًا، وَجَعَلَهُ اللَّهُ رَوْحَهُ وَكَلِمَتَهُ، فَهَدَى الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم للحق من ذلك (1).
ثُمَّ إِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُتَّفِقِينَ قَدْ يَعْرِضُ لَهُمُ الاختلاف بحسب القصد الثاني (لا بالقصد) (2) الأول، فإن الله تعالى (حكم) (3) بِحِكْمَتِهِ أَنْ تَكُونَ فُرُوعُ هَذِهِ (الْمِلَّةِ) (4) قَابِلَةً لِلْأَنْظَارِ، وَمَجَالًا لِلظُّنُونِ، وَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَ النُّظَّارِ أن النظريات لا يمكن الاتفاق (عليها) (5) عَادَةً، فَالظَّنِّيَّاتُ/ عَرِيقَةٌ فِي إِمْكَانِ الِاخْتِلَافِ، لَكِنْ فِي الْفُرُوعِ دُونَ الْأُصُولِ، وَفِي الْجُزْئِيَّاتِ دُونَ الْكُلِّيَّاتِ، فَلِذَلِكَ (لَا يَضُرُّ) (6) هَذَا الِاخْتِلَافُ.
وَقَدْ نَقَلَ الْمُفَسِّرُونَ عَنِ الْحَسَنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ قَالَ: أَمَّا أَهْلُ رَحْمَةِ اللَّهِ، فَإِنَّهُمْ لَا يَخْتَلِفُونَ/ اخْتِلَافًا (يَضُرُّهُمْ) (7).
يَعْنِي لِأَنَّهُ فِي مسائل الاجتهاد التي لا نص/ فيها يقطع (8) الْعُذْرِ، بَلْ لَهُمْ فِيهِ أَعْظَمُ الْعُذْرِ، وَمَعَ أَنَّ الشَّارِعَ (لَمَّا عَلِمَ) (9) أَنَّ هَذَا (النَّوْعَ) (9) مِنَ الِاخْتِلَافِ وَاقِعٌ، أَتَى فِيهِ بِأَصْلٍ يُرْجَعُ إِلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (10)، فكل اختلاف من هذا القبيل
_________
(1) أخرجه ابن جرير في تفسيره (4/ 284) برقم (4061) ـ طبعة أحمد شاكر ـ قال: حدثني به يونس بن عبد الأعلى قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد ... إلخ، وهذا سند صحيح عن ابن زيد، لكن الأثر عن زيد وليس عن ابنه عبد الرحمن، والأثر أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (2/ 378) برقم (1994) عن يونس بن عبد الأعلى قال: أنبأ ابن وهب، أخبرني عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه ... إلخ، وهذا سند صحيح إن شاء الله.
(2) في (ط) و (خ): "لا بقصد".
(3) في (م): "حكيم".
(4) في (غ) و (ر): "الأمة".
(5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فيها".
(6) في (م): "لا يصير". وفي (غ) و (ر): "لا يضير".
(7) في (م) و (غ) و (ر): "يضيرهم، والأثر تقدم تخريجه (3/ 88) حاشية (7).
(8) في (ط) و (خ): "بقطع".
(9) ساقط من (غ) و (ر).
(10) سورة النساء: الآية (59).(3/93)
حُكْمُ اللَّهِ فِيهِ أَنْ يُرَدَّ إِلَى اللَّهِ، وَذَلِكَ رَدُّهُ إِلَى كِتَابِهِ، وَإِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ رَدُّهُ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ حَيًّا، وَإِلَى سُنَّتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ الْعُلَمَاءُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
إِلَّا أَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَلْ هُمْ دَاخِلُونَ تحت قوله تعالى: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} (1) أَمْ لَا؟
وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَدْخُلَ تَحْتَ مُقْتَضَاهَا أَهْلُ هَذَا الِاخْتِلَافِ مِنْ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْآيَةَ اقْتَضَتْ أَنَّ أَهْلَ الِاخْتِلَافِ الْمَذْكُورِينَ مُبَايِنُونَ لِأَهْلِ الرَّحْمَةِ لِقَوْلِهِ: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ/ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} (2) فإنها اقتضت قسمين: أهل الاختلاف ومرحومين، فَظَاهِرُ التَّقْسِيمِ أَنَّ أَهْلَ الرَّحْمَةِ لَيْسُوا مَنْ أَهْلِ الِاخْتِلَافِ، وَإِلَّا كَانَ قَسْمُ الشَّيْءِ قَسِيمًا لَهُ، وَلَمْ يَسْتَقِمْ مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ قال فيها: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ}، فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ وَصْفَ الِاخْتِلَافِ لَازِمٌ لَهُمْ حَتَّى أُطْلِقَ عَلَيْهِمْ لَفْظُ اسْمِ الْفَاعِلِ الْمُشْعِرِ بالثبوت، وأهل الرحمة مبرؤون مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ/ وَصْفَ الرَّحْمَةِ يُنَافِي الثُّبُوتَ عَلَى الْمُخَالَفَةِ، بَلْ إِنْ خَالَفَ أَحَدُهُمْ فِي مَسْأَلَةٍ/ فَإِنَّمَا يُخَالِفُ فِيهَا تَحَرِّيًا لِقَصْدِ الشَّارِعِ فِيهَا، حَتَّى إِذَا تَبَيَّنَ لَهُ الْخَطَأُ فِيهَا رَاجَعَ نَفْسَهُ وَتَلَافَى أَمْرَهُ، فَخِلَافُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ بِالْعَرْضِ لَا بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ، فَلَمْ يَكُنْ وَصْفُ الاختلاف لازماً (له) (3) وَلَا ثَابِتًا، فَكَانَ التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِالْفِعْلِ الَّذِي يَقْتَضِي الْعِلَاجَ وَالِانْقِطَاعَ أَلْيَقَ فِي الْمَوْضِعِ.
//وَالثَّالِثُ: أَنَا نَقْطَعُ بِأَنَّ الْخِلَافَ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ وَاقِعٌ مِمَّنْ حَصَلَ لَهُ مَحْضُ الرَّحْمَةِ/ وَهُمُ الصحابة رضي الله عنهم، وَمَنِ اتَّبَعَهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، بِحَيْثُ لَا يَصِحُّ إِدْخَالُهُمْ فِي قِسْمِ الْمُخْتَلِفِينَ بِوَجْهٍ،
_________
(1) سورة هود: الآية (118).
(2) سورة هود: الآيتان (118، 119).
(3) زيادة من (غ) و (ر).(3/94)
فَلَوْ كَانَ الْمُخَالِفُ مِنْهُمْ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ مَعْدُودًا مَنْ أَهْلِ الِاخْتِلَافِ ـ وَلَوْ بِوَجْهٍ مَا ـ لَمْ يَصِحَّ إِطْلَاقُ الْقَوْلِ فِي حَقِّهِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الرَّحْمَةِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ السُّنَّةِ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ جَعَلُوا اخْتِلَافَ الْأُمَّةِ فِي الْفُرُوعِ ضَرْبًا مِنْ ضُرُوبِ الرَّحْمَةِ (1)، وَإِذَا كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الرَّحْمَةِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهُ خَارِجًا مَنْ قِسْمِ أَهْلِ الرَّحْمَةِ.
وَبَيَانُ كَوْنِ الِاخْتِلَافِ الْمَذْكُورِ رَحْمَةً مَا رُوِيَ/ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ (2) قَالَ: لَقَدْ نَفَعَ اللَّهُ بِاخْتِلَافِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي (الْعَمَلِ) (3)، لا يعمل العامل بعلم رَجُلٍ مِنْهُمْ إِلَّا رَأَى أَنَّهُ فِي سَعَةٍ (4).
وعن (ضمرة عن رجاء بن جميل) (5) قَالَ: اجْتَمَعَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، فَجَعَلَا يَتَذَاكَرَانِ الْحَدِيثَ ـ قَالَ ـ: فَجَعَلَ عُمَرُ يَجِيءُ بِالشَّيْءِ يُخَالِفُ فِيهِ الْقَاسِمَ ـ قَالَ ـ: (وجعل ذلك يشق على القاسم) (6) حتى
_________
(1) سيذكر الشاطبي بعد قليل عدداً ممن جعل الاختلاف في الفروع ضرباً من ضروب الرحمة، وانظر كذلك ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى (30 79 ـ 81)، (37 24 ـ 25)، وانظر ما ذكره ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2 96 وما بعدها).
(2) هو القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ولد في خلافة علي رضي الله عنه، وتوفي سنة 105 وقيل 106هـ. انظر: طبقات ابن سعد (5 187)، وحلية الأولياء (2 183)، والسير (5 53).
(3) في جامع بيان العلم: (أعمالهم).
(4) خرَّجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2 900) برقم (1686).
(5) في سائر النسخ: "وعن ضمرة بن رجاء قال"، والتصحيح من جامع بيان العلم (2 901). وضمرة هو: ضمرة بن ربيعة الفلسطيني أبو عبد الله الرملي، وثقه ابن معين والنسائي وابن سعد، توفي سنة 202هـ. انظر: طبقات ابن سعد (7 471)، والتاريخ الكبير (4 337)، وتهذيب الكمال (13 316) ورجاء بن جميل هو الأيلي، روى عن القاسم بن محمد والزهري وربيعة، قال عنه أبو حاتم: "شيخ". انظر: التاريخ الكبير (3 313)، والجرح والتعديل (3 502)، والثقات لابن حبان (6 306).
(6) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "وجعل القاسم يشق ذلك عليه". والتصحيح من (غ) و (ر)، وهو موافق لرواية ابن عبد البر في جامع بيان العلم.(3/95)
تبين فِيهِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: لَا تَفْعَلُ، فَمَا يسرني (أن لي) (1) بِاخْتِلَافِهِمْ حُمُر النَّعَمِ (2).
وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنِ القاسم (عن أبيه) (3) أيضاً (أنه) (4) قَالَ: لَقَدْ أَعْجَبَنِي قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: مَا أَحِبُّ أَنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وسلّم (لم يختلفوا) (5)، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَوْلًا وَاحِدًا لَكَانَ النَّاسُ فِي ضِيقٍ، وَإِنَّهُمْ أَئِمَّةٌ يُقْتَدَى بِهِمْ، فَلَوْ أخذ رجل بقول أحدهم كان (في سِعَةً) (6).
وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُمْ فَتَحُوا لِلنَّاسِ بَابَ الِاجْتِهَادِ وَجَوَازَ الِاخْتِلَافِ فِيهِ، لِأَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَفْتَحُوهُ لَكَانَ الْمُجْتَهِدُونَ فِي ضِيقٍ، لِأَنَّ مَجَالَ الاجتهاد (مجالات) (7) الظنون،/ (والظنون) (8) لَا تَتَّفِقُ عَادَةً ـ كَمَا تَقَدَّمَ ـ فَيَصِيرُ أَهْلُ الِاجْتِهَادِ مَعَ (تَكْلِيفِهِمْ) (9) / بِاتِّبَاعِ مَا غَلَبَ عَلَى ظُنُونِهِمْ مُكَلَّفِينَ بِاتِّبَاعِ (خِلَافِهِ) (10)، وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الضِّيقِ، فَوَسَّعَ اللَّهُ عَلَى الْأُمَّةِ بِوُجُودِ الْخِلَافِ/ الْفُرُوعِي فِيهِمْ، فَكَانَ فَتْحُ بَابِ لِلْأُمَّةِ لِلدُّخُولِ فِي هَذِهِ الرَّحْمَةِ، فَكَيْفَ لَا يَدْخُلُونَ فِي قِسْمِ (مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) فَاخْتِلَافُهُمْ فِي الْفُرُوعِ كاتفاقهم فيها، والحمد لله.
_________
(1) زيادة من (غ) و (ر): "وجامع بيان العلم".
(2) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/ 901) برقم (1688).
(3) ساقط من جميع النسخ، والتصحيح من جامع بيان العلم، وأبو القاسم هو: محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ولد في حجة الوداع وقت الإحرام، ورواية ابنه عنه مرسلة على ما ذكر الذهبي في السير (3 481 ـ 482) وانظر: التاريخ الكبير (1 124) والكامل (3 352).
(4) زيادة من (غ) و (ر): "وجامع بيان العلم".
(5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "وجامع بيان العلم": لا يختلفون.
(6) في (ط): "سنة"، وفي (م) و (خ): "سعة"، والتصحيح من (غ) و (ر) وجامع بيان العلم، والأثر مخرج فيه (2 901) برقم (1689).
(7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "ومجالات".
(8) زيادة من (غ) و (ر).
(9) في (م): "تكليهم".
(10) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "خلافهم".(3/96)
وبين هذين (الطرفين) (1) واسطة أدنى من (المرتبة) (2) الأولى، وأعلى من (المرتبة) (2) الثَّانِيَةِ، وَهِيَ أَنْ يَقَعَ/ الِاتِّفَاقُ فِي أَصْلِ الدِّينِ، وَيَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي بَعْضِ قَوَاعِدِهِ الْكُلِّيَّةِ، وَهُوَ الْمُؤَدِّي إِلَى التَّفَرُّقِ شِيَعًا.
فَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ تَنْتَظِمُ هَذَا الْقِسْمَ مِنَ الِاخْتِلَافِ، وَلِذَلِكَ صَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أُمَّتَهُ تَفْتَرِقُ عَلَى بِضْعٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً (3)، وَأَخْبَرَ أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تَتَّبِعُ سَنن مَنْ كان (قبلها) (4) شبراً بشبر وذراعاً بذراع (5)، (ويشمل) (6) ذَلِكَ الِاخْتِلَافَ الْوَاقِعَ فِي الْأُمَمِ قَبِلْنَا، وَيُرَشِّحُهُ وَصْفُ أَهْلِ الْبِدَعِ بِالضَّلَالَةِ وَإِيعَادُهُمْ بِالنَّارِ، وَذَلِكَ بَعِيدٌ مِنْ تَمَامِ الرَّحْمَةِ.
وَلَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَرِيصًا عَلَى أُلْفَتِنَا وَهِدَايَتِنَا، حَتَّى (إنه) (7) ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ ـ لَمَّا حَضَرَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وسلّم (الوفاة) (8) قَالَ: وَفِي الْبَيْتِ رِجَالٌ فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الخطاب رضي الله عنهم فقال صلّى الله عليه وسلّم: "هلمَّ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ"، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَلَبَهُ الْوَجَعُ، وَعِنْدَكُمُ الْقُرْآنُ فَحَسْبُنَا كِتَابُ اللَّهِ، وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْبَيْتِ وَاخْتَصَمُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ يقول: قرِّبوا (دواة) (9) يَكْتُبْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ كَمَا قَالَ عُمَرُ، فَلَمَّا (كَثُرَ) (10) اللَّغَطُ وَالِاخْتِلَافُ/ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قُومُوا عَنِّي،/ فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: إن الرزيَّة كُلَّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُمْ ذَلِكَ الْكِتَابَ مِنِ اخْتِلَافِهِمْ وَلَغَطِهِمْ (11).
_________
(1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الطريقين".
(2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الرتبة".
(3) سيأتي تخريجه (ص122).
(4) في (غ) و (ر): "قبلنا".
(5) سيأتي تخريجه (ص122).
(6) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "وشمل".
(7) زيادة من (غ) و (ر).
(8) زيادة من (ت).
(9) زيادة من (ت).
(10) في (ت) و (غ) و (ر): "أكثروا".
(11) أخرجه البخاري (114) و (5669، 4432، 4431، 3168، 3053، 7366)، ومسلم (1637)، والحميدي في مسنده (526)، وأحمد في مسنده (1 222، 324، 330، 355)، والنسائي في السنن الكبرى (5854)، وأبو يعلى في مسنده (2409)، والطبراني في المعجم الكبير (12507)، والبيهقي في السنن الكبرى (18527).(3/97)
فَكَانَ ذَلِكَ ـ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ـ وَحْيًا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنَّهُ إِنْ كَتَبَ لَهُمْ ذَلِكَ الْكِتَابَ لَمْ يَضِلُّوا بَعْدَهُ الْبَتَّةَ، فَتَخْرُجُ الْأُمَّةُ عَنْ مقتضى قوله: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} بِدُخُولِهَا تَحْتَ قَوْلِهِ: {إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ}، فَأَبَى اللَّهُ إِلَّا مَا سَبَقَ بِهِ عِلْمَهُ مِنِ اخْتِلَافِهِمْ، كَمَا اخْتَلَفَ غَيْرُهُمْ، رَضِيَنَا بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، وَنَسْأَلُهُ أَنْ يُثَبِّتَنَا عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَيُمِيتَنَا عَلَى ذَلِكَ بِفَضْلِهِ.
(وَقَدْ ذَهَبَ) (1) جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُخْتَلِفِينَ فِي الْآيَةِ أَهْلُ الْبِدَعِ، وَأَنَّ مَنْ رَحِمَ ربك أهل السنة، ولكن لهذا (الاختلاف) (2) أَصْلٌ يَرْجِعُ إِلَى سَابِقِ الْقَدَرِ/ لَا مُطْلَقًا، بَلْ مَعَ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ مُحْتَمِلُ الْعِبَارَةِ لِلتَّأْوِيلِ، وهذا مما لَا بُدَّ مِنْ/ بَسْطِهِ.
فَاعْلَمُوا أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي بَعْضِ الْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّةِ/ لَا يَقَعُ فِي (العادة) (3) الْجَارِيَةِ بَيْنَ المتبحِّرين فِي عِلْمِ الشَّرِيعَةِ، الْخَائِضِينَ فِي لُجَّتِهَا الْعُظْمَى، (الْعَالِمَيْنِ) (4) (بِمَوَارِدِهَا وَمَصَادِرِهَا) (5).
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ اتِّفَاقُ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ، وَعَامَّةُ الْعَصْرِ الثَّانِي عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا وَقَعَ اخْتِلَافُهُمْ فِي القسم المفروغ منه آنفاً، بل كل خلاف عَلَى الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ وَقَعَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ أَسْبَابٌ ثَلَاثَةٌ قَدْ تَجْتَمِعُ وَقَدْ تَفْتَرِقُ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَعْتَقِدَ الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ أَوْ يُعْتَقَدَ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالِاجْتِهَادِ فِي الدِّينِ ـ وَلَمْ يَبْلُغْ/ تِلْكَ (الدَّرَجَةَ) (6) ـ فَيَعْمَلُ عَلَى ذَلِكَ، وَيَعُدُّ رَأْيَهُ رَأْيًا وَخِلَافُهُ خِلَافًا، وَلَكِنْ تَارَةً يَكُونُ ذَلِكَ فِي جُزْئِيٍّ وَفَرْعٍ مِنَ الفروع، وتارة (يكون) (7) / في كلي وأصل مِنْ أُصُولِ الدِّينِ ـ كَانَ مِنَ الْأُصُولِ الِاعْتِقَادِيَّةِ أو من الأصول العملية ـ فتراه آخذاً ببعض جزئيات الشريعة في
_________
(1) في (غ) و (ر): "فذهب".
(2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الكتاب" ومثلها في هامش (ت).
(3) في (ط) و (ت): "العاديات" وصححت في الهامش، وفي (خ): "العاديا".
(4) في (غ) و (ر): "العالم".
(5) في (ت): "بمصادرها ومواردها".
(6) ساقط من (غ) و (ر).
(7) ساقط من (غ) و (ر).(3/98)
هدم/ كلياتها، حتى يصير منها (إلى) (1) مَا ظَهَرَ لَهُ بَادِيَ رَأْيِهِ مِنْ غَيْرِ إِحَاطَةٍ بِمَعَانِيهَا وَلَا رُسُوخٍ فِي فَهْمِ مَقَاصِدِهَا، وَهَذَا هُوَ الْمُبْتَدَعُ، وَعَلَيْهِ نَبَّهَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " (إِنَّ الله لا يقبض العلم) (2) انتزاعاً يتنزعه مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ اتَّخَذَ النَّاسُ رؤساء جهالا فسئلوا، (فأفتوا) (3) بغير علم، فضلوا وأضلوا" (4).
قال بعض (أهل العلم) (5): (تدبروا) (6) هذا الحديث (فإنه) (7) يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُؤْتَى النَّاسُ قَطُّ مِنْ قِبَلِ عُلَمَائِهِمْ، وَإِنَّمَا يؤتَون مِنْ قِبل أَنَّهُ إِذَا مَاتَ عُلَمَاؤُهُمْ أَفْتَى مَنْ لَيْسَ بِعَالِمٍ، فَيُؤْتَى النَّاسُ مِنْ قِبَلِهِ، وَقَدْ صُرِّف (8) هَذَا الْمَعْنَى تَصْرِيفًا، (فَقِيلَ) (9): مَا خَانَ أَمِينٌ قَطُّ وَلَكِنَّهُ ائْتَمَنَ غَيْرَ أَمِينٍ فَخَانَ. قَالَ: وَنَحْنُ نَقُولُ: مَا ابْتَدَعَ عَالِمٌ قَطُّ، وَلَكِنَّهُ استفتي من ليس بعالم (فضل وأضل) (10).
قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: بَكَى رَبِيعَةُ يَوْمًا بُكَاءً شَدِيدًا، فَقِيلَ لَهُ: مُصِيبَةٌ نَزَلَتْ بِكَ؟ فَقَالَ: لَا، وَلَكِنِ اسْتُفْتِيَ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ (11).
وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلّم: "قِبل الساعة سنون (خدَّاعات) (12) يصدَّق فيهن الكاذب، (ويكذَّب) (13) فيهن/
_________
(1) زيادة من (م) و (غ) و (ر).
(2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "لا يقبض الله العلم".
(3) ساقطة من (م).
(4) تقدم تخريجه (1/ 117).
(5) في (م) و (غ) و (ر): "العلماء"، وهو أبو بكر الطرطوشي، كما في الباعث (ص174).
(6) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "تقدير". وفي الحوادث والبدع: فتدبروا.
(7) زيادة من (غ) و (ر): "والحوادث والبدع".
(8) في الباعث: "صرف عمر".
(9) في الباعث: "فقال".
(10) ما بين القوسين زيادة من (م) و (غ) و (ر): "والباعث"، وساقط من (ط) و (خ) وفي (ت): "فضل" فقط.
(11) ذكره الطرطوشي في الحوادث والبدع (ص175)، وبنحوه في جامع بيان العلم (2/ 1225) برقم (2410)، والتمهيد (3/ 5)، والكواكب النيرات (1/ 31).
(12) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "والحوادث والبدع": خداعاً.
(13) في (م): "ويذكر".(3/99)
الصَّادِقُ، وَيَخُونُ فِيهِنَّ الْأَمِينُ، وَيُؤْتَمَنُ الْخَائِنُ، وَيَنْطِقُ/ فِيهِنَّ الرُّوَيْبِضَةُ" (1).
قَالُوا: هُوَ الرَّجُلُ التَّافَةُ الْحَقِيرُ ينطق في أمور العامة، (لأنه) (2) لَيْسَ بِأَهْلٍ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي أُمُورِ الْعَامَّةِ، فَيَتَكَلَّمُ.
وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَدْ عَلِمْتُ (مَتَى) (3) يَهْلِكُ النَّاسُ، إِذَا جَاءَ الْفِقْهُ مِنْ قَبِلَ الصَّغِيرِ اسْتَعْصَى عَلَيْهِ الْكَبِيرُ، وَإِذَا جَاءَ الْفِقْهُ مِنْ قِبَلِ الْكَبِيرِ تَابَعَهُ الصَّغِيرُ فَاهْتَدَيَا (4).
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا أَخَذُوا الْعِلْمَ مِنْ (أَكَابِرِهِمْ) (5)، فَإِذَا أَخَذُوهُ عَنْ أَصَاغِرِهِمْ وَشِرَارِهِمْ هَلَكُوا (6).
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا أَرَادَ عُمَرُ بِالصِّغَارِ (7) / فَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: هُمْ أَهْلُ الْبِدَعِ (8) (وَهُوَ) (9) مُوَافِقٌ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْبِدَعِ أَصَاغِرُ فِي الْعِلْمِ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ صَارُوا أَهْلَ بدع.
_________
(1) الحديث لم يخرجه البخاري، بل هو في مسند أحمد (2 291 و338) و (3 220)، وقال أحمد شاكر (15 37)، برقم (7899): "إسناده حسن، ومتنه صحيح". وفي (16 194) برقم (8440)، وصحح سنده أحمد شاكر كما في تعليقه على حديث رقم (7899)، وأخرجه ابن ماجه (4036)، وأبو يعلى في مسنده (3715)، والطبراني في المعجم الكبير (18 67)، برقم (123 ـ 125)، وفي مسند الشاميين (47 ـ 48)، والحاكم في المستدرك (8439 و8564)، وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه". وقال الذهبي: "صحيح". وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة رقم (1887).
(2) في سائر النسخ ما عدا (ت): "كأنه".
(3) في (ط) و (خ): "من".
(4) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (1055 و1056)، وصححه ابن حجر في فتح الباري (13 301 ـ 302)، وعزاه إلى مصنف قاسم بن أصبغ.
(5) في (غ) و (ر): "كبرائهم".
(6) أخرجه معمر بن راشد في جامعه المطبوع مع مصنف عبد الرزاق (11/ 246) برقم (20446)، وابن المبارك في الزهد (815)، والطبراني في الكبير (1419) برقم (8589 ـ 8592)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (1/ 616) برقم (1057 ـ 1060)، وأبو نعيم في الحلية (8/ 49)، واللالكائي برقم (101)، وعزاه ابن حجر في الفتح (13/ 291) ليعقوب بن شيبة وأبي عبيد.
(7) وذكر الخلاف ابن عبد البر في جامع بيان العلم (1 610 وما بعدها).
(8) انظر: الزهد لابن المبارك (1 20)، حاشية رقم (2) و (2 281)، حاشية رقم (1)، وذكره ابن عبد البر في جامع بيان العلم (1 612)، واللالكائي برقم (102).
(9) في (غ) و (ر): "وهذا".(3/100)
وَقَالَ الْبَاجِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْأَصَاغِرُ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدِهِ ـ قَالَ ـ: وَقَدْ كَانَ عُمَرُ يستشير الصغار، وكان القراء (أصحاب) (1) مُشَاوَرَتِهِ كُهُولًا وَشُبَّانًا ـ قَالَ ـ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْأَصَاغِرِ مَنْ لَا قَدْرَ لَهُ وَلَا حَالَ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا بِنَبْذِ الدِّينِ وَالْمُرُوءَةِ، فَأَمَّا مَنِ الْتَزَمَهُمَا فَلَا بُدَّ أَنْ يَسْمُوَ أَمْرُهُ، وَيَعْظُمُ قَدْرُهُ.
/وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا التَّأْوِيلَ مَا خَرَّجَهُ ابْنُ وَهْبٍ بِسَنَدٍ مَقْطُوعٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: الْعَامِلُ عَلَى غَيْرِ عِلْمٍ كَالسَّائِرِ على غير الطريق، وَالْعَامِلُ عَلَى غَيْرِ عِلْمٍ مَا يُفْسِدُ/ أَكْثَرَ مِمَّا يُصْلِحُ، فَاطْلُبُوا الْعِلْمَ طَلَبًا (لَا يَضُرُّ بترك) (2) العبادة، واطلبوا الْعِبَادَةَ طَلَبًا (لَا يَضُرُّ بِتَرْكِ) (1) الْعِلْمِ، فَإِنَّ قَوْمًا طَلَبُوا الْعِبَادَةَ وَتَرَكُوا الْعِلْمَ حَتَّى خَرَجُوا بِأَسْيَافِهِمْ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَوْ طَلَبُوا الْعِلْمَ لَمْ يَدُلَّهُمْ عَلَى مَا فَعَلُوا (3).
يَعْنِي الْخَوَارِجَ ـ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ـ لِأَنَّهُمْ قرأوا القرآن ولم (يتفقّهوا) (4) حَسْبَمَا أَشَارَ/ إِلَيْهِ الْحَدِيثُ: "يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ" (5).
وَرُوِيَ عَنْ مَكْحُولٍ (6) أَنَّهُ قَالَ: تفقه الرعاع فساد (الدنيا) (7)، وتفقه السفلة فساد (الدين) (8).
_________
(1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "والحوادث والبدع": أهل.
(2) في جامع بيان العلم (1 164) ـ الطبعة القديمة ـ: لا يضر وفي طبعة الزهيري (905): "لا تضروا".
(3) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (905).
(4) في (م) و (خ) و (ت): "يتفهموا".
(5) سيأتي تخريجه (ص114).
(6) هو أبو عبد الله مكحول الدمشقي: عالم أهل الشام، وهو من أوساط التابعين وأقران الزهري، واختلفوا في وفاته، فقيل: سنة 112، وقيل 113، وقيل 114، وقيل 116هـ. انظر: طبقات ابن سعد (7 453) وحلية الأولياء (5 177)، وتهذيب التهذيب (10 289).
(7) في جميع النسخ ما عدا (غ) و (ر)، والحوادث للطرطوشي: (الدين والدنيا)، وفي جامع بيان العلم (الدين).
(8) في جامع بيان العلم (الدنيا). والأثر أخرجه ابن عبد البر في المصدر السابق برقم (1071).(3/101)
وَقَالَ (الْفِرْيَابِيُّ) (1): كَانَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ إِذَا رَأَى هَؤُلَاءِ النَّبْطَ يَكْتُبُونَ الْعِلْمَ تَغَيَّرَ وَجْهُهُ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَرَاكَ إِذَا رَأَيْتَ هؤلاء يكتبون العلم يشتد/ عليك، فقال: كَانَ الْعِلْمُ فِي الْعَرَبِ وَفِي سَادَاتِ النَّاسِ، وَإِذَا خَرَجَ عَنْهُمْ وَصَارَ إِلَى هَؤُلَاءِ النَّبْطِ وَالسَّفَلَةِ غُيِّر الدِّينُ (2).
وَهَذِهِ الْآثَارُ أَيْضًا إِذَا حملت على التأويل المتقدم (استدت) (3) وَاسْتَقَامَتْ، لِأَنَّ ظَوَاهِرَهَا مُشَكَّلَةٌ، وَلَعَلَّكَ إِذَا اسْتَقْرَيْتَ/ أَهْلَ الْبِدَعِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ أَوْ أَكْثَرَهُمْ وَجَدْتَهُمْ من أبناء سبايا الأمم، (وممن) (4) / لَيْسَ لَهُ أَصَالَةٌ فِي اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ، فَعَمَّا قَرِيبٍ يُفْهَمُ كِتَابُ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهِ، كَمَا أَنَّ مَنْ لَمْ يَتَفَقَّهْ فِي مَقَاصِدِ الشريعة فهمها على غير وجهها.
/وَالثَّانِي مِنْ أَسْبَابِ الْخِلَافِ: اتِّبَاعُ الْهَوَى، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ أَهْلُ الْبِدَعِ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ، لِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ فَلَمْ يَأْخُذُوا الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ مَأْخَذَ الِافْتِقَارِ إِلَيْهَا، وَالتَّعْوِيلِ عَلَيْهَا، حَتَّى يَصْدُرُوا عَنْهَا، بَلْ قَدَّمُوا أَهْوَاءَهُمْ، وَاعْتَمَدُوا عَلَى آرَائِهِمْ، ثُمَّ جَعَلُوا الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ مَنْظُورًا فِيهَا مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ، وَأَكْثَرُ هَؤُلَاءِ (هُمْ) (5) أَهْلُ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ، وَمِنْ مال (إلى جانبهم من) (6) الْفَلَاسِفَةِ وَغَيْرِهِمْ.
وَيَدْخُلُ فِي غِمَارِهِمْ مَنْ كَانَ منهم (يغشى) (7) السَّلَاطِينَ لِنَيْلِ مَا عِنْدَهُمْ، أَوْ طَلَبًا لِلرِّيَاسَةِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَمِيلَ مَعَ النَّاسِ بِهَوَاهُمْ، وَيَتَأَوَّلَ عَلَيْهِمْ فِيمَا أَرَادُوا، حَسْبَمَا ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ ونقله الثقات من مصاحبي السلاطين.
_________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت). والفريابي هو محمد بن يوسف بن واقد الفريابي، لأنه هو المشهور بالرواية عن سفيان الثوري، ولد سنة بضع وعشرين ومائة وهو من رجال الكتب الستة، وتوفي سنة 212هـ. انظر: التاريخ الكبير (1 264) والجرح والتعديل (8 119) وتهذيب التهذيب (9 335).
(2) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (1072).
(3) في (ط) و (خ) و (م): "اشتدت".
(4) في سائر النسخ ما عدا (ت): "ومن".
(5) ساقط من (غ) و (ر).
(6) في (م): "إلى ـ بياض ـ من الفلاسفة"، وفي (ط): "إلى من".
(7) في (ط): "يخشى". وفي (م): "غشى".(3/102)
فَالْأَوَّلُونَ ردُّوا كَثِيرًا مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ بِعُقُولِهِمِ، وأساءوا الظَّنَّ بِمَا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحسَّنوا ظَنَّهُمْ بِآرَائِهِمُ الْفَاسِدَةِ، حَتَّى رَدُّوا كَثِيرًا مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ وَأَحْوَالِهَا مِنَ الصراط والميزان، وحشر الأجساد، والنعيم والعذاب (الجسمي) (1)، وَأَنْكَرُوا رُؤْيَةَ الْبَارِي، وَأَشْبَاهَ ذَلِكَ، بَلْ صيُّروا الْعَقْلَ شَارِعًا جَاءَ الشَّرْعُ أَوْ لَا، بَلْ إِنْ جَاءَ فَهُوَ كَاشِفٌ لِمُقْتَضَى مَا حَكَمَ بِهِ الْعَقْلُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الشَّنَاعَاتِ.
وَالْآخَرُونَ خَرَجُوا عَنِ الْجَادَّةِ إِلَى الْبَنِيَّاتِ، وَإِنْ كانت مخالفة (لصلب) (2) الشَّرِيعَةِ، حِرْصًا عَلَى أَنْ يَغْلِبَ عَدْوُهُ، أَوْ يفيد وليه، أو يجر إلى (نفعه) (3).
/كَمَا ذَكَرُوا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ لبابة (4) ((ابن أَخِي) (5) الشَّيْخِ ابْنِ لُبَابَةَ) (6) الْمَشْهُورِ/ فَإِنَّهُ عُزِلَ عَنِ قَضَاءِ الْبِيرَةِ (7) ثُمَّ عُزِلَ عَنِ الشُّورَى لِأَشْيَاءَ نُقِمَتْ/ عَلَيْهِ ـ وَسَجَّلَ/ بِسَخْطَتِهِ الْقَاضِي حَبِيبُ بن زياد (8)، وَأَمَرَ بِإِسْقَاطِ عَدَالَتِهِ وَإِلْزَامِهِ بَيْتَهُ، وَأَنْ لَا يفتي أحداً.
_________
(1) في (م): "الجسيمين".
(2) ساقط من (غ) و (ر).
(3) في سائر النسخ (نفسه) وصححت في هامش (ت) بـ: "نفعه".
(4) هو محمد بن يحيى بن لبابة أبو عبد الله الملقب ببرجون، كان أحفظ أهل الزمان للمذهب، توفي سنة 336هـ. انظر: الديباج المذهب (2 200).
(5) في النسخ: أخي، والصواب من كتب التراجم، وسيأتي.
(6) ما بين () ساقط من (غ) و (ر): "وابن لبابة" هو محمد بن عمر بن لبابة القرطبي، انتهت إليه الإمامة في المذهب، وتوفي سنة 314هـ. (تنبيه): ذكر الذهبي اسمه: محمد بن يحيى بن عمر بن لبابة، والصواب محمد بن عمر وهو عم محمد بن يحيى الآنف الذكر، وهذا يظهر من سيرة الرجلين ووفاتهما بالمقارنة من خلال المصادر التالية: السير (14 495)، والديباج المذهب (2 189 و200)، وجذوة المقتبس (1 127)، وبغية الملتمس (1 147)، والله تعالى أعلم.
(7) ألبيرة: قرية كبيرة من قرى الأندلس، متصلة بأراضي قرية قبرة، قريبة من قرطبة. انظر: معجم البلدان (1 289).
(8) هو القاضي: أحمد بن محمد بن زياد بن عبد الرحمن اللخمي، من أهل قرطبة يكنى أبا القاسم، ويعرف بالحبيب، سمع من ابن وضاح وغيره، واستقضي في صدر أيام الإمام الناصر لدين الله، وتوفي سنة 312هـ. انظر ترجمته في: قضاة قرطبة (ص204)، وتاريخ علماء الأندلس (1 71).(3/103)
ثُمَّ إِنَّ النَّاصِرَ احْتَاجَ إِلَى شِرَاءِ مُجَشِّرٍ (1) مِنْ أَحْبَاسِ الْمَرْضَى بِقُرْطُبَةَ (بِعَدْوَةِ) (2) النَّهْرِ، فَشَكَا إلى القاضي ابن بقي (3) ضرورته إليه لمقابلته مَنْزَهَهُ، وَتَأَذِّيهِ بِرُؤْيَتِهِمْ (أَوَانَ) (4) تَطَلُّعِهِ مِنْ عَلَالِيهِ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ بَقِيٍّ: لَا حِيلَةَ عِنْدِي فِيهِ/ وَهُوَ أَوْلَى أَنْ يُحَاطَ بِحُرْمَةِ الْحَبْسِ. فَقَالَ لَهُ: (تَكَلَّمْ) (5) مَعَ الْفُقَهَاءِ فِيهِ وَعَرِّفْهُمْ رَغْبَتِي، وَمَا أَجْزَلَهُ مِنْ أَضْعَافِ الْقِيمَةِ فِيهِ، فَلَعَلَّهُمْ أَنْ يَجِدُوا لِي فِي ذَلِكَ رُخْصَةً.
فَتَكَلَّمَ ابْنُ بَقِيٍّ مَعَهُمْ فَلَمْ يَجِدُوا إِلَيْهِ سَبِيلًا، فَغَضِبَ النَّاصِرُ عَلَيْهِمْ، وَأَمَرَ (الْوُزَرَاءَ) (6) بِالتَّوْجِيهِ فِيهِمْ إِلَى الْقَصْرِ، وَتَوْبِيخِهِمْ، فَجَرَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ بَعْضِ الْوُزَرَاءِ مُكَالَمَةٌ، وَلَمْ يَصِلِ النَّاصِرُ مَعَهُمْ إِلَى مَقْصُودِهِ.
وَبَلَغَ ابْنَ لُبَابَةَ هَذَا الْخَبَرُ (فرفع إلى) (7) الناصر (يغضُّ) (8) من أصحابه الفقهاء، ويقول (له) (9): إِنَّهُمْ حَجَرُوا عَلَيْهِ وَاسِعًا، وَلَوْ كَانَ حَاضِرًا لأفتاه بجواز المعاوضة، وتقلد حقاً، وناظر أصحابه فيها، فوقع (هذا) (9) الْأَمْرُ بِنَفْسِ النَّاصِرِ، وَأَمَرَ بِإِعَادَةِ مُحَمَّدِ بْنِ لُبَابَةَ إِلَى الشُّورَى عَلَى حَالَتِهِ الْأَوْلَى، ثُمَّ أَمَرَ الْقَاضِي بِإِعَادَةِ الْمَشُورَةِ/ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَاجْتَمَعَ الْقَاضِي وَالْفُقَهَاءُ وَجَاءَ ابْنُ لَبَابَةَ آخِرَهُمْ، وَعَرَّفَهُمُ الْقَاضِي ابْنُ بَقِيٍّ بِالْمَسْأَلَةِ الَّتِي جَمَعَهُمْ (مِنْ أَجْلِهَا) (10) وَغِبْطَةِ الْمُعَاوَضَةِ (فِيهَا) (11)، فَقَالَ جَمِيعُهُمْ بِقَوْلِهِمُ الْأَوَّلِ مِنَ الْمَنْعِ مِنْ تَغْيِيرِ الْحَبْسِ عَنْ وَجْهِهِ ـ وَابْنِ لُبَابَةَ سَاكِتٌ ـ فَقَالَ لَهُ الْقَاضِي: ما
_________
(1) المجشر: هو حوض لا يستقى فيه لجشره، أي وسخه وقذره، انظر: المعجم الوسيط مادة جشر (1 724).
(2) في (م): "بفدوة".
(3) هو القاضي: أحمد بن بقي بن مخلد بن يزيد أبو عبد الله، كان بليغ اللسان، أنيس المجلس، له أخلاق كريمة، توفي سنة 344هـ. انظر ترجمته في: قضاة قرطبة (ص222)، وتاريخ علماء الأندلس (1 80)، والديباج المذهب (1 170).
(4) في (خ): "وأن".
(5) في (غ) و (ر): "فتكلم".
(6) في (م): "الازراء".
(7) في (ط): "فدفع". وكلمة (إلى) ساقطة من (م).
(8) في (خ) و (ط) و (ت): "بعضاً".
(9) ما بين القوسين زيادة من (ت).
(10) في (غ) و (ر): "لأجلها".
(11) زيادة من (م).(3/104)
تَقُولُ أَنْتَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ؟ قَالَ: أَمَّا قَوْلُ إِمَامِنَا مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، فَالَّذِي قَالَهُ أَصْحَابُنَا الْفُقَهَاءُ، وَأَمَّا أَهْلُ الْعِرَاقِ فَإِنَّهُمْ لَا يُجِيزُونَ الْحَبْسَ أَصْلًا، وَهُمْ عُلَمَاءُ/ أَعْلَامٌ (يَقْتَدِي) (1) بِهِمْ أَكْثَرُ الْأُمَّةِ، وَإِذَا بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْحَاجَةِ/ إِلَى هَذَا الْمُجَشِّرِ مَا بِهِ، فَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَرِدَ عَنْهُ، وَلَهُ فِي السنة فسحة، وأنا أقول (فيه) (2) بِقَوْلِ أَهَّلِ الْعِرَاقِ، وَأَتَقَلَّدُ ذَلِكَ رَأْيًا.
فَقَالَ لَهُ الْفُقَهَاءُ: سُبْحَانَ اللَّهِ! تَتْرُكُ قَوْلَ مَالِكٍ الَّذِي أَفْتَى بِهِ أَسْلَافَنَا وَمَضَوْا عَلَيْهِ وَاعْتَقَدْنَاهُ بعدهم، وأفتينا به لا نحيد (عنه) (3) بِوَجْهٍ، وَهُوَ رَأْيُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَرَأْيُ الْأَئِمَّةِ آبَائِهِ؟
فَقَالَ لَهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى: (نَاشَدْتُكُمُ) (4) اللَّهَ الْعَظِيمَ، أَلَمْ تَنْزِلْ/ بِأَحَدٍ مِنْكُمْ مَلَمَّةٌ بَلَغَتْ بِكُمْ أَنْ أَخَذْتُمْ فِيهَا بِغَيْرِ قَوْلِ مَالِكٍ فِي خَاصَّةِ أَنْفُسِكُمْ، وَأَرْخَصْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فِي ذَلِكَ؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: فَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَوْلَى بِذَلِكَ، فَخُذُوا بِهِ مَأْخَذَكُمْ، وَتَعَلَّقُوا بِقَوْلِ مَنْ يُوَافِقُهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ، فَكُلُّهُمْ قُدْوَةٌ، فَسَكَتُوا. فَقَالَ لِلْقَاضِي: أَنْهِ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فُتْيَايَ. فَكَتَبَ الْقَاضِي إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بِصُورَةِ الْمَجْلِسِ، وَبَقِيَ مَعَ أَصْحَابِهِ بِمَكَانِهِمْ إِلَى أَنْ أَتَى الْجَوَابُ/ بأن يؤخذ له بفتيا محمد بن يحيى بْنِ لُبَابَةَ/ وَيُنَفَّذَ ذَلِكَ وَيُعَوَّضَ الْمَرْضَى مِنْ هذا المجشر (بأملاكه بمِنْيَة عَجَب) (5)، وَكَانَتْ عَظِيمَةَ الْقَدْرِ جِدًّا، تَزِيدُ أَضْعَافًا عَلَى الْمِجْشَرِ.
ثُمَّ جِيءَ (بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ أمير المؤمنين) (6) منه إلى ابن لبابة (بولايته) (7) خُطَّةِ الْوَثَائِقِ لِيَكُونَ هُوَ الْمُتَوَلِّيَ لِعَقْدِ هَذِهِ المعاوضة، فهنئ
_________
(1) في (غ) و (ر): "يهتدي".
(2) زيادة من (غ) و (ر).
(3) في (ط) و (خ): "عنهم".
(4) في (خ): "أنشدتكم".
(5) في (ط) و (ت): "بأملاك ثمينة عجيبة". وفي (م): "بأملاك ثمينة عجب". ومِنْية عَجَب من أرباض قرطبة وهي القرى حولها، والنسبة إليها الميني، ومنها المحدّث محمد بن عبد الله الميني. انظر: التكملة لكتاب الصلة (1/ 296)، ونفح الطيب (1/ 465، 2/ 257)، ومعجم البلدان (5/ 218).
(6) في (غ) و (ر): "من عند أمير المؤمنين بكتاب".
(7) في جميع النسخ ما عدا (غ): "بولاية".(3/105)
بِالْوِلَايَةِ، وَأَمْضَى الْقَاضِي الْحُكْمَ بِفَتْوَاهُ وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ وَانْصَرَفُوا، فَلَمْ يَزَلِ ابْنُ لُبَابَةَ يَتَقَلَّدُ خُطَّةَ الْوَثَائِقِ وَالشُّورَى إِلَى أَنْ مَاتَ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ (1).
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: ذَاكَرْتُ بَعْضَ مَشَايِخِنَا مَرَّةً بِهَذَا الْخَبَرِ، فَقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يُضَافَ هَذَا الْخَبَرُ الَّذِي حَلَّ سِجِلَّ السُّخْطَةِ إِلَى سِجِلِّ السُّخْطَةِ، فَهُوَ أَوْلَى وَأَشَدُّ فِي السُّخْطَةِ مِمَّا تَضَمَّنَهُ ـ أَوْ كَمَا قَالَ (2) ـ.
فَتَأَمَّلُوا كيف اتباع الهوى (وإلى أين) (3) يَنْتَهِيَ بِصَاحِبِهِ.
فَشَأْنُ مِثْلِ هَذَا لَا يَحُلُّ أَصْلًا مِنْ وَجْهَيْنِ:
/أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمْ (يَتَحَقَّقِ) (4) الْمَذْهَبُ الَّذِي حَكَمَ بِهِ، لِأَنَّ أَهْلَ الْعِرَاقِ لَا يُبْطِلُونَ الْإِحْبَاسَ هَكَذَا عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَمَنْ حكى عنهم ذلك، فإما على غير تثبت، وَإِمَّا أَنَّهُ كَانَ قَوْلًا لَهُمْ رَجَعُوا عَنْهُ، بَلْ مَذْهَبُهُمْ يَقْرُبُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ حَسْبَمَا هو مذكور في كتب الحنفية (5).
والثاني: أَنَّهُ إِنْ سَلَّمَنَا صِحَّتَهُ فَلَا يَصِحُّ لِلْحَاكِمِ أن (يرجِّح) (6) في حكمه (أحد) (7) القولين (بالصحبة أو الإمارة) (8) أو قضاء الحاجة، وإنما التَّرْجِيحُ بِالْوُجُوهِ الْمُعْتَبَرَةِ شَرْعًا، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، فَكُلُّ مَنِ اعْتَمَدَ عَلَى تَقْلِيدِ قَوْلٍ غَيْرِ مُحَقَّقٍ، أَوْ رَجَّحَ بِغَيْرِ مَعْنَى مُعْتَبَرٍ، فَقَدْ خَلَعَ الرِّبْقَةَ، وَاسْتَنَدَ إِلَى غَيْرِ شَرْعٍ، عَافَانَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ بِفَضْلِهِ.
فَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ فِي الْفُتْيَا مِنْ جُمْلَةِ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَاتِ في دين الله تعالى،
_________
(1) في (ط) و (خ): "كتاب التاريخ أولاً بالأرقام ثم كتابة".
(2) انظر القصة بطولها في: ترتيب المدارك (2 398 ـ 402).
(3) في (ط) و (خ): "وأولى أن".
(4) في (غ) و (ر): "يحقق".
(5) لمعرفة الخلاف في الأحباس وأقوال العلماء فيه، انظر: الحجة، لمحمد بن الحسن 3 46 والهداية شرح البداية (3 13) والمبسوط (12 27) والأم (4 58) ومواهب الجليل (6 18) والمغني (6 185 ـ 186) والمبدع لابن مفلح (5 312).
(6) في (ط) و (خ) و (ت): "يرجع".
(7) في (ط) و (خ) و (ت): "في أحد".
(8) في (ط) و (خ) و (ت): "بالمحبة والإمارة".(3/106)
كَمَا أَنَّ تَحْكِيمَ/ الْعَقْلِ عَلَى الدِّينِ مُطْلَقًا مُحْدَثٌ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ بَعْدُ إِنْ شَاءَ الله.
وقد ثبت بهذا الوجه اتِّبَاعِ الْهَوَى، وَهُوَ أَصْلُ الزَّيْغِ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} ـ (أَيْ مَيْلٌ عَنِ الْحَقِّ) (1) ـ {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} (2)، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الْآيَةِ؛ فَمِنْ شَأْنِهِمْ أَنْ يَتْرُكُوا/ الْوَاضِحَ ويتَّبعوا الْمُتَشَابِهَ، عَكْسَ مَا عَلَيْهِ الْحَقُّ فِي نَفْسِهِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ـ وَذُكِرَتِ الْخَوَارِجُ (عِنْدَهُ) (3) وَمَا يُلْقُونَ فِي الْقُرْآنِ ـ فَقَالَ: يُؤْمِنُونَ بِمُحَكِّمِهِ، وَيَهْلِكُونَ عِنْدَ مُتَشَابِهِهِ. وَقَرَأَ ابْنِ عَبَّاسٍ الْآيَةَ. خرَّجه ابْنُ وَهْبٍ (4).
/وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذمِّه الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} (5) وَلَمْ يَأْتِ/ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ الْهَوَى إِلَّا فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ.
حَكَى ابْنُ وَهَبٍ عَنْ طاووس أَنَّهُ قَالَ: مَا ذَكَرَ اللَّهُ (هَوًى فِي الْقُرْآنِ) (6) إِلَّا ذَمَّهُ (7).
وَقَالَ: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} (8)، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
/وَحَكَى أَيْضًا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ أَنَّ رَجُلًا سأل إبراهيم
_________
(1) ساقطة من (ر).
(2) سورة آل عمران: الآية (7).
(3) زيادة من (م) و (غ) و (ر).
(4) تقدم تخريجه (3/ 76).
(5) سورة الجاثية: الآية (23).
(6) في (غ) و (ر): "الهوى".
(7) أخرجه اللالكائي برقم (228). وأخرجه الهروي في ذم الكلام ـ ت الأنصاري ـ برقم (471) من قول سليمان الأحوال، بينما رواية اللالكائي رفعها سليمان الأحول إلى طاووس.
(8) سورة القصص: الآية (50).(3/107)
النَّخَعِيَّ عَنِ الْأَهْوَاءِ، أَيُّهَا خَيْرٌ؟ فَقَالَ: مَا جَعَلَ اللَّهُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا مِثْقَالَ ذَرَّةٍ من خير، وما هي إلا زينة (من) (1) الشَّيْطَانِ وَمَا الْأَمْرُ إِلَّا الْأَمْرُ الْأَوَّلُ (2)، يَعْنِي: مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ (3).
وَخَرَّجَ عَنِ الثوري أن رجلاً أتى إلى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فقال (له) (4): أَنَا عَلَى هَوَاكَ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْهَوَى كُلُّهُ ضَلَالَةٌ، أَيُّ شَيْءٍ أَنَا عَلَى هواك (5).
والثالث مِنْ أَسْبَابِ الْخِلَافِ: (التَّصْمِيمُ عَلَى اتِّبَاعِ الْعَوَائِدِ وَإِنْ فَسَدَتْ أَوْ كَانَتْ مُخَالِفَةً لِلْحَقِّ) (6).
وَهُوَ اتِّبَاعُ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْآبَاءُ وَالْأَشْيَاخُ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ، وَهُوَ التَّقْلِيدُ الْمَذْمُومُ، فَإِنَّ اللَّهَ ذَمَّ بذلك في كتابه، كقوله: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} (7) ثُمَّ قَالَ: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ *} (8) وَقَوْلُهُ: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ *أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ *} (9) (فَنَبَّهَهُمْ) (10) عَلَى وَجْهِ الدَّلِيلِ الْوَاضِحِ فَاسْتَمْسَكُوا بِمُجَرَّدِ تَقْلِيدِ الْآبَاءِ/ فَقَالُوا: {بَلْ وَجَدْنَا/ آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} (11) وهو مقتضى
_________
(1) زيادة من (غ) و (ر).
(2) أخرجه الآجري في الشريعة برقم (125).
(3) بنحوه أخرجه عثمان بن سعيد الدارمي في نقضه على بشر ـ ت السماري ـ (214)، والآجري في الشريعة برقم (125)، وأخرجه الدارمي مختصراً في سننه (1/ 63) برقم (224).
(4) زيادة من (غ) و (ر).
(5) المصدر السابق برقم (126)، وصحح المحقق سنده، وعزاه إلى عبد الرزاق في المصنف (11 126)، برقم (20102)، وبنحوه في اللالكائي (1 130)، برقم (225)، والإبانة في الكبرى برقم (238)، والهروي في ذم الكلام (ق54 أ)، وهو في المطبوعة ـ ت الأنصاري ـ برقم (494).
(6) في هامش (ت) ما نصّه: "قلت: وهذا أقوى الأسباب في إقامة أهل الضلال على ضلالتهم وشدة التمسك بها من الكفر فما دونه عياذاً بالله".
(7) سورة الزخرف: الآية (23).
(8) سورة الزخرف: الآية (24).
(9) سورة الشعراء: الآيتان (72، 73).
(10) في (ت): "بياض بمقدار كلمة".
(11) سورة الشعراء: الآية (74).(3/108)
الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: "اتَّخَذَ النَّاسُ رؤوساً جُهَّالًا" (1) إِلَى آخِرِهِ، فَإِنَّهُ يُشِيرُ إِلَى الِاسْتِنَانِ بِالرِّجَالِ كَيْفَ كَانَ.
وَفِيمَا يُرْوَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِيَّاكُمْ وَالِاسْتِنَانَ بِالرِّجَالِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ يَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ/ الْجَنَّةِ ثُمَّ يَنْقَلِبُ لِعِلْمِ اللَّهِ فِيهِ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَمُوتُ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فَيَنْقَلِبُ لِعِلْمِ اللَّهِ فِيهِ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَمُوتُ وَهُوَ مِنْ/ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَإِنْ كُنْتُمْ لَا بُدَّ فَاعِلِينَ، فَبِالْأَمْوَاتِ لَا بِالْأَحْيَاءِ (2).
فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْأَخْذِ بِالِاحْتِيَاطِ فِي الدِّينِ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَعْتَمِدَ على عمل أحد البتة، حتى (يتثبت) (3) فيه ويسأل عن حكمه، إذ لعل (الرجل) (4) الْمُعْتَمِدَ عَلَى عَمَلِهِ يَعْمَلُ عَلَى خِلَافِ السُّنَّةِ.
وَلِذَلِكَ قِيلَ: لَا تَنْظُرْ إِلَى عَمَلِ الْعَالِمِ، ولكن سله يصدقك.
وقالوا: (أضعف العلم الرؤية) (5) أن يكون رأى فلاناً (يعمل فيعمل) (6) مِثْلَهُ. وَلَعَلَّهُ فَعَلَهُ سَاهِيًا (7). وَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ دَلِيلٌ ثَابِتٌ عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى وَجْهٍ لَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ.
وَقَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (فَإِنْ كُنْتُمْ لَا بُدَّ فَاعِلِينَ فَبِالْأَمْوَاتِ) نُكْتَةٌ فِي الْمَوْضِعِ. يَعْنِي الصحابة رضي الله عنه وَمَنْ جَرَى (مَجْرَاهُمْ) (8) مِمَّنْ يُؤْخَذُ بِقَوْلِهِ وَيُعْتَمَدُ عَلَى فَتْوَاهُ.
وَأَمَّا غَيْرُهُمْ مِمَّنْ لَمْ يَحُلَّ ذَلِكَ الْمَحَلَّ فَلَا، كَأَنْ يَرَى الْإِنْسَانُ رَجُلًا
_________
(1) سبق تخريجه (1/ 117).
(2) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (1881)، وابن حزم في الإحكام (6/ 318)، وابن بطة في الإبانة قسم القدر (1572).
(3) في (م): "يثبت". وفي (ر): ينتسب.
(4) زيادة من (غ) و (ر).
(5) في (ط) و (م) و (خ): "ضعف الرؤية".
(6) في (غ) و (ر): "يفعل فيفعل".
(7) أخرجه ابن حزم في الإحكام (6/ 219) من قول عطاء الخرساني.
(8) ساقطة من (م).(3/109)
يحسن اعتقاده فيه فيفعل فِعْلًا مُحْتَمَلًا أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا أَوْ غَيْرَ مَشْرُوعٍ فَيَقْتَدِي بِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَيَعْتَمِدُ عَلَيْهِ فِي التَّعَبُّدِ، وَيَجْعَلُهُ حُجَّةً فِي دِينِ اللَّهِ؛ فهذا هو الضلال/ بعينه، ما لَمْ يُتَثَبَّتْ بِالسُّؤَالِ وَالْبَحْثِ عَنْ حُكْمِ الْفِعْلِ ممن هو أهل (للفتوى) (1).
//وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الَّذِي مَالَ بِأَكْثَرِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ عَوَامِّ الْمُبْتَدِعَةِ، (إِذَا اتَّفَقَ أَنْ) (2) يَنْضَافَ إِلَى شَيْخٍ جَاهِلٍ أَوْ لَمْ يَبْلُغْ مَبْلَغَ الْعُلَمَاءِ، فَيَرَاهُ يَعْمَلُ عَمَلًا فَيَظُنُّهُ عِبَادَةً فَيَقْتَدِي بِهِ، كَائِنًا مَا كَانَ ذَلِكَ الْعَمَلُ، مُوَافِقًا لِلشَّرْعِ أَوْ مُخَالِفًا، وَيَحْتَجُّ بِهِ عَلَى مَنْ يُرْشِدُهُ/ وَيَقُولُ: كَانَ الشَّيْخُ فُلَانٌ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَكَانَ يَفْعَلُهُ، وَهُوَ أَوْلَى أَنْ يُقْتَدَى بِهِ من علماء الظَّاهِرِ، فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ (رَاجِعٌ) (3) إِلَى (تَقْلِيدِ) (4) مَنْ حَسُنَ ظَنُّهُ فِيهِ أَخْطَأَ أَوْ أَصَابَ، كالذين قلدوا/ آبائهم سَوَاءً، وَإِنَّمَا قُصَارَى هَؤُلَاءِ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّ آبَاءَنَا أَوْ شُيُوخَنَا لَمْ يَكُونُوا يَنْتَحِلُونَ مِثْلَ هذه الأمور سدى، وما هي إلا (معضودة) (5) بالدلائل (ومنصورة بالبراهين) (6) مَعَ أَنَّهُمْ (يَرون ويُرون) (7) أَنْ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا، وَلَا بُرْهَانَ يَقُودُ إِلَى الْقَوْلِ بِهَا.
_________
(1) في (ط) و (م) و (خ): "الفتوى".
(2) ساقطة من (م) و (غ) و (ر).
(3) في (غ) و (ر): "رجوع".
(4) في (م) و (خ) و (ت): "التقليد".
(5) في (ط) و (خ) و (ت) و (م): "مقصودة".
(6) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "والبراهين".
(7) في (ط) و (خ) و (ت): "يرون، وضبطها بالشكل" من (غ) و (ر).(3/110)
فصل
هَذِهِ الْأَسْبَابُ الثَّلَاثَةُ رَاجِعَةٌ فِي التَّحْصِيلِ إِلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ: وَهُوَ الْجَهْلُ بِمَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ، وَالتَّخَرُّصِ على معانيها بالظن من غير تثبت، (و) (1) الْأَخْذِ فِيهَا بِالنَّظَرِ الْأَوَّلِ، وَلَا يَكُونُ/ ذَلِكَ من راسخ في العلم، ألا ترى أَنَّ الْخَوَارِجَ (2) كَيْفَ خَرَجُوا عَنِ الدِّينِ كَمَا يَخْرُجُ السَّهْمُ مِنَ (الصَّيْدِ الْمَرْمِيِّ) (3) لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ يقرأون الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ (4)، يَعْنِي ـ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ـ أنهم لا يتفقهون فيه حَتَّى يَصِلَ إِلَى قُلُوبِهِمْ لِأَنَّ الْفَهْمَ رَاجِعٌ إِلَى الْقَلْبِ؛ فَإِذَا لَمْ يَصِلْ إِلَى الْقَلْبِ لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ فَهْمٌ عَلَى حَالٍ، وَإِنَّمَا يَقِفُ عِنْدَ مَحَلِّ الْأَصْوَاتِ وَالْحُرُوفِ (الْمَسْمُوعَةِ) (5) (فَقَطْ) (6)، وَهُوَ الَّذِي يَشْتَرِكُ فِيهِ مَنْ يَفْهَمُ وَمَنْ لَا يَفْهَمُ، وَمَا تَقَدَّمَ أَيْضًا مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعَلَمَ انْتِزَاعًا" إِلَى آخِرِهِ (7).
/وَقَدْ وَقَعَ لِابْنِ عَبَّاسٍ تَفْسِيرُ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَى مَا نَحْنُ فِيهِ، فخرَّج أَبُو عُبَيْدٍ (8) فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ (9) فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ إبراهيم التيمي (10) قَالَ: خَلَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَاتَ يوم، فجعل يحدث نفسه:
_________
(1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "أو".
(2) الخوارج: تقدم تعريفهم (1 15).
(3) في (ت): "يد الرامي".
(4) سيأتي تخريجه (3/ 114).
(5) زيادة من (م).
(6) في (م) و (غ) و (ر): "قط".
(7) سبق تخريجه (1/ 117).
(8) هو أبو عبيد القاسم بن سلام بن عبد الله البغدادي، تقدمت ترجمته.
(9) هو الحافظ سعيد بن منصور بن شعبة، شيخ الحرم أبو عثمان الخرساني المروزي، تقدمت ترجمته (1 94).
(10) هو إبراهيم بن يزيد بن شريك التيمي، تقدمت ترجمته (1/ 143).(3/111)
كَيْفَ تَخْتَلِفُ هَذِهِ الْأُمَّةُ وَنَبِيُّهَا وَاحِدٌ فَأَرْسَلَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ/ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَالَ: كَيْفَ تَخْتَلِفُ هَذِهِ الْأُمَّةُ وَنَبِيُّهَا وَاحِدٌ وَقِبْلَتُهَا وَاحِدَةٌ ـ زَادَ سَعِيدٌ وَكِتَابُهَا وَاحِدٌ ـ (قَالَ) (1): فَقَالَ: ابن عباس يا أمير المؤمنين: (إنّا) (2) أنزل علينا القرآن فقرأناه، وعلمنا (فِيمَ أنزل) (3) وأنه سيكون بعدنا أقوام يقرؤون القرآن ولا يدرون فيمَ نزل، فيكون (لهم) (4) فِيهِ رَأْيٌ فَإِذَا كَانَ (كَذَلِكَ) (5) اخْتَلَفُوا وَقَالَ سَعِيدٌ: فَيَكُونُ لِكُلِّ قَوْمٍ فِيهِ رَأْيٌ، فَإِذَا كان لَكُلِّ قَوْمٍ فِيهِ رَأْيٌ اخْتَلَفُوا، فَإِذَا اخْتَلَفُوا اقتتلوا. قال: (فزجره) (6) عمر، (وانتهره) (7).
فانصرف ابن عباس، ونظر عمر فيمَ قَالَ/ فَعَرَفَهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ وَقَالَ: (أَعِدْ) (8)، عَلَيَّ مَا قُلْتَهُ. فَأَعَادَ عَلَيْهِ؛ (فَعَرَفَ) (9) / عُمَرُ قَوْلَهُ وَأَعْجَبَهُ (10).
وَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا هُوَ الْحَقُّ، فَإِنَّهُ إِذَا عَرَفَ الرَّجُلَ فيمَ (نَزَلَتِ) (11) الْآيَةُ أَوِ السُّورَةُ عَرَفَ مَخْرَجَهَا وَتَأْوِيلَهَا وَمَا قُصِدَ بِهَا، فَلَمْ يَتَعَدَّ ذَلِكَ (فِيهَا) (12) وإذا جهل فيمَ (أُنْزِلَتِ) (13) احْتَمَلَ النَّظَرُ فِيهَا أَوْجُهًا، فَذَهَبَ كُلُّ إِنْسَانٍ مَذْهَبًا لَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ الْآخَرُ، وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ مِنَ الرُّسُوخِ فِي الْعِلْمِ مَا يَهْدِيهِمْ إِلَى الصَّوَابِ، أَوْ يَقِفُ بِهِمْ دُونَ اقْتِحَامِ حِمَى الْمُشْكِلَاتِ، فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنَ الْأَخْذِ بِبَادِيِ الرَّأْيِ، أَوِ التَّأْوِيلِ بِالتَّخَرُّصِ الَّذِي لَا يغني من
_________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت) و (غ) و (ر).
(2) في سائر النسخ ما عدا (غ): "إنما".
(3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فيما أنزل".
(4) في (ط): "لكل قوم".
(5) في (م) و (غ) و (ر): "لهم فيه رأي".
(6) في (غ) و (ر): "فزبره".
(7) في (ط): "وانتهره علي".
(8) في (ط): "أعده".
(9) في (ط) و (م) و (خ): "فعرفه".
(10) أخرجه أَبُو عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ (17 ـ 6) وَسَعِيدُ بْنُ منصور في سننه ـ تحقيق الحميد ـ برقم (42)، والبيهقي في شعب الإيمان (2086)، والخطيب البغدادي في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (1587) وهو منقطع لأن إبراهيم التيمي لم يدرك عمر بن الخطاب، لكن الأثر صحّ بسند صحيح أخرجه معمر بن راشد في جامعه (20368) عن علي بن بَذِيمة عن يزيد بن الأصم عن ابن عباس ..
(11) في (غ) و (ر): "أنزلت".
(12) ساقط من (غ) و (ر).
(13) في (غ) و (ر): "نزلت".(3/112)
الْحَقِّ شَيْئًا، إِذْ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ مِنَ الشَّرِيعَةِ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا.
وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ مَا خَرَّجَهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ بُكَيْرٍ (1) أَنَّهُ سَأَلَ نافعاً: كيف (كان) (2) رَأْيُ ابْنِ عُمَرَ فِي الْحَرُورِيَّةِ (3)؟ قَالَ: يَرَاهُمْ شِرَارَ خَلْقِ/ اللَّهِ، (إِنَّهُمُ) (4) انْطَلَقُوا إِلَى آيَاتٍ أنزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين (5). (وفسَّر) (6) سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: مِمَّا يَتَّبِعُ الْحَرُورِيَّةُ مِنَ الْمُتَشَابِهِ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (7) وَيَقْرِنُونَ مَعَهَا: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} (8)، فَإِذَا رَأَوُا الْإِمَامَ يَحْكُمُ بِغَيْرِ الْحَقِّ/ قَالُوا: قد كفر، ومن كفر عَدَلَ بِرَبِّهِ؛ فَقَدْ أَشْرَكَ، فَهَذِهِ/ الْأُمَّةُ مُشْرِكُونَ فَيَخْرُجُونَ (فَيَقْتُلُونَ) (9) مَا رَأَيْتُ، لِأَنَّهُمْ يَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ الْآيَةَ (10).
فَهَذَا مَعْنَى الرَّأْيِ الَّذِي نَبَّهَ عَلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَهُوَ النَّاشِئُ عَنِ الْجَهْلِ بِالْمَعْنَى الذي (نزل فيه) (11) القرآن.
وَقَالَ نَافِعٌ: إِنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنِ الْحَرُورِيَّةِ قَالَ: يُكَفِّرُونَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَسْتَحِلُّونَ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ؛ وَيَنْكِحُونَ النِّسَاءَ فِي عِدَدِهِنَّ، وَتَأْتِيهِمُ المرأة فينكحها الرجل منهم ولها زوج [فتكون المرأة عندهم لها زوجان] زيادة من الموطأ. فلا أعلم أحداً أحق بالقتال (والقتل) (12) (من الحرورية) (13).
_________
(1) هو بكير بن عبد الله الأشج الثقة الحافظ أبو عبد الله القرشي المدني، من صغار التابعين، توفي سنة 127هـ. انظر: التاريخ الكبير (2 113) والسير (6 170)، وتهذيب التهذيب (10 412).
(2) زيادة من (غ) و (ر).
(3) تقدم تعريفهم (1/ 15).
(4) في (ت): "لأنهم".
(5) أخرجه ابن وهب كما في كتاب المحاربة من الموطأ تحقيق موراني (ص42). وعلقه البخاري في صحيحه (12 295 مع الفتح)، وذكر ابن حجر أن الأثر أخرجه ابن جرير في تهذيب الأثار في مسند علي بسند صحيح، وأضاف في تغليق التعليق (5 259)، أن ابن عبد البر عزاه إلى ابن وهب في جامعه.
(6) في (ط) و (م) و (خ): "فسر".
(7) سورة المائدة: الآية (44).
(8) سورة الأنعام: الآية (1).
(9) في (غ) و (ر): "فيفعلون".
(10) أخرجه ابن المنذر كما في الدر المنثور (2/ 146).
(11) في (غ) و (ر): "فيه نزل".
(12) زيادة من (م) و (غ) و (ر).
(13) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "منهم". والأثر أخرجه ابن وهب كما في كتاب المحاربة من الموطأ تحقيق موراني (43).(3/113)
فَإِنْ قِيلَ: فَرَضْتُ الِاخْتِلَافَ الْمُتَكَلَّمَ (فِيهِ) (1) فِي وَاسِطَةٍ بَيْنَ طَرَفَيْنِ (2) فَكَانَ مِنَ الْوَاجِبِ أَنْ تردد النظر فيه عليهما (ولم) (3) تَفْعَلْ، بَلْ رَدَدْتُهُ إِلَى الطَّرَفِ الْأَوَّلِ فِي الذَّمِّ وَالضَّلَالِ، وَلَمْ تَعْتَبِرْهُ بِجَانِبِ الِاخْتِلَافِ الَّذِي لَا (يُضِيرُ) (4)، وَهُوَ الِاخْتِلَافُ فِي الْفُرُوعِ.
فَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ: أَنَّ كَوْنَ ذَلِكَ الْقِسْمِ وَاسِطَةً بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانِهِ إِلَّا مِنَ الْجِهَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا، أَمَّا الْجِهَةُ الْأُخْرَى فإن (ذِكْرِهِمْ) (5) فِي هَذِهِ/ الْأُمَّةِ وَإِدْخَالِهِمْ فِيهَا/ أَوْضَحَ أَنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ لَمْ يُلْحِقْهُمْ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ مُلْحِقًا لَهُمْ بِهِ لَمْ يَقَعْ فِي الْأُمَّةِ اخْتِلَافٌ وَلَا فُرْقَةَ، وَلَا أَخْبَرَ الشَّارِعَ بِهِ، وَلَا نَبَّهَ السَّلَفُ الصَّالِحُ عَلَيْهِ، فَكَمَا أَنَّهُ لَوْ فَرَضْنَا اتِّفَاقَ الْخَلْقِ على الملة بعد (أن) (6) كَانُوا مُفَارِقِينَ لَهَا لَمْ نَقُلْ: اتَّفَقَتِ الْأُمَّةُ بَعْدَ اخْتِلَافِهَا، كَذَلِكَ لَا نَقُولُ: اخْتَلَفَتِ الْأُمَّةُ، وافترقت الأمة بعد اتفاقها، (لو) (7) خَرَجَ بَعْضُهُمْ/ إِلَى الْكَفْرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، وَإِنَّمَا يقال: افترقت أو تفترق الْأُمَّةُ، إِذَا كَانَ الِافْتِرَاقُ وَاقِعًا فِيهَا مَعَ بَقَاءِ اسْمِ الْأُمَّةِ هَذَا/ هُوَ الْحَقِيقَةُ، وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَوَارِجِ: "يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ" (8)، ثُمَّ قَالَ: وَتَتَمَارَى فِي الفوق ـ وفي رواية ـ
_________
(1) زيادة من (م) و (غ) و (ر).
(2) الطرفان هما: الاختلاف في أصل الدين والنحلة كاليهودية والنصرانية والإسلام، والطرف الثاني الاختلاف في الفروع مع الاتفاق في أصل الدين كاختلاف الصحابة، والواسطة هو الاختلاف في بعض قواعد الدين الكلية مع الاتفاق في أصل النحلة. وانظر ما تقدم ذكره (ص97 ـ 98).
(3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فلم".
(4) في (ت): "يضر".
(5) في (ط) و (خ) وهامش (ت): "عدم ذكرهم".
(6) زيادة من (م) و (خ) و (غ) و (ر).
(7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "أو".
(8) حديث ذم الخوارج أخرجه جمع كبير من أهل العلم منهم مالك في الموطأ (478)، وأبو داود الطيالسي في مسنده (168 و448 و2687)، والحميدي في مسنده (749 و1271)، وابن الجعد في مسنده (2595)، وأحمد في مسنده (1 81 و88 و113 و131 و160 و404) و (3 4 و15 و33 و52 و56 و60 و64 و65 و183 و189=(3/114)
فَيَنْظُرُ الرَّامِي إِلَى سَهْمِهِ إِلَى نَصْلِهِ إِلَى رِصَافِهِ فَيَتَمَارَى فِي (الْفُوقَةِ) (1): هَلْ عَلِقَ بِهَا من الدم شيء/ والتماري في الفوق (هَلْ فِيهِ) (2) فَرْثٌ وَدَمٌ أَمْ لَا) شَكٌّ بِحَسَبِ التَّمْثِيلِ: هَلْ خَرَجُوا مِنَ الْإِسْلَامِ حَقِيقَةً (أم لا) (3) وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ لَا يُعَبَّرُ بِهَا عَمَّنْ خَرَجَ مِنَ الْإِسْلَامِ بِالِارْتِدَادِ مَثَلًا.
وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْأُمَّةُ فِي تَكْفِيرِ هَؤُلَاءِ الْفِرَقِ أَصْحَابِ الْبِدَعِ الْعُظْمَى، وَلَكِنَّ الَّذِي يَقْوَى فِي النَّظَرِ وَبِحَسَبِ الْأَثَرِ عَدَمُ الْقَطْعِ بِتَكْفِيرِهِمْ (4) وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ عَمَلُ/ السَّلَفِ الصالح فيهم.
_________
=و224 و353 و354 و486) و (4 145 و421 و424) و (5 42 و176)، والبخاري في صحيحه (6930، 5057، و3611، 3610)، وفي خلق أفعال العباد (ص53)، وفي الأدب المفرد (774)، ومسلم (1064 ـ 1068)، وابن ماجه (168 ـ 172)، والترمذي (2188)، وأبو داود (4765 ـ 4767)، والنسائي في المجتبى (4101 و4102)، وفي السنن الكبرى (3564 و3565 و8088 ـ 8090 و8558 ـ 8568 و11220)، وابن الجارود في المنتقى (1083)، وأبو يعلى في مسنده (261 و324 و478 و1022 و1193 و3117 و3908 و4066 و5402)، والطبراني في الصغير (1049)، وفي الكبير (1753 و5433 و5608 و7553 و8260)، وابن حبان في صحيحه (25 و5964 و6737 و6739)، والحاكم (2645 و2647 و2649 و2650 و2659)، والبيهقي في السنن الكبرى (5649 و12962 و16474 و16475 و16480 و16558).
(1) في (م) و (خ): "الفرقة".
(2) في (ط): "فيه هل فيه".
(3) زيادة من (غ) و (ر).
(4) مسألة تكفير أهل البدع، من المسائل المختلف فيها بين أهل العلم، وأذكر هنا المسألة مختصرة على النحو التالي:
(أ) يمكن إطلاق القول بتكفير بعض الفرق، كالجهمية والقدرية الذين نفوا العلم والكتابة، حيث كفرهم جمهور الأئمة والسلف، ولكن لا يستلزم ذلك كفر جميع أفراد هذه الفرق؛ لأن تكفير المعين لا بد فيه من ثبوت شروطه وانتفاء موانعه، وقد كفر الإمام أحمد من قال بخلق القرآن وأنه جهمي، وهو تكفير مطلق، ولكنه لم يكفر كل فرد بعينه ممن قال هذه المقالة، اعتماداً على قاعدة الفرق بين التكفير المطلق وتكفير المعين.
(ب) هناك فرق اتفق الأئمة والسلف على عدم تكفيرهم، كالشيعة المفضلة، ومرجئة الفقهاء، وأمثالهم.
(ج) وهناك فرق اختلف حكم الأئمة في تكفيرهم، كالخوارج والمعتزلة وغيرهم،=(3/115)
ألا ترى إلى صنع علي بن أبي طالب رضي الله عنه فِي الْخَوَارِجِ؟ (وَكَوْنِهِ) (1) عَامَلَهُمْ فِي قِتَالِهِمْ مُعَامَلَةَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ عَلَى مُقْتَضَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} (2)، فَإِنَّهُ لَمَّا اجْتَمَعَتِ الْحَرُورِيَّةُ وَفَارَقَتِ الْجَمَاعَةَ لَمْ يُهَيِّجْهُمْ عَلِيٌّ وَلَا قَاتَلَهُمْ، (وَلَوْ) (3) كَانُوا بِخُرُوجِهِمْ مرتدين لم يتركهم؛ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ" (4)، وَلِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَرَجَ لِقِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ وَلَمْ يَتْرُكْهُمْ، فَدَلَّ ذلك على اختلاف ما بين المسألتين.
_________
=وهو اختلاف في تكفيرهم بإطلاق، لكن الحكم على أفرادهم ـ وهو المهم ـ تجري عليه قاعدة الفرق بين التكفير المطلق وتكفير المعين.
(هـ) أن الفرق سواء قيل بكفرها أو عدم كفرها تكفيراً مطلقاً، أفرادها إما مؤمن ضال جاهل بالسنة وهذا لا يكفر، وإما منافق زنديق يريد هدم الإسلام، وهذا يكفر، والذي يدل على ذلك: أن من المنافقين وأعداء الإسلام من دخل في الإسلام ظاهراً، وبث فيه البدع ليهدم الدين، وهذا لا شك في كفره وردته، بينما من اتبعه قد يكون مسلماً جاهلاً غرر به، والله تعالى أعلم. راجع: مجموع فتاوى ابن تيمية (3 229 ـ 231 و351 ـ 254)، و (6 61) و (7 472 و618 ـ 619 و507 ـ 508) و (12 466 و487 ـ 501) و (28 500 و518)، والمسائل الماردينية (65 ـ 69)، والمعيار المعرب للونشريسي (2 339 ـ 341)، وشرح الطحاوية (358 ـ 359)، ومعارج القبول (2 616)، وضوابط التكفير عند أهل السنة والجماعة (252 ـ 266) والتكفير والمكفرات (581 ـ 593)، وحقيقة البدعة وأحكامها (2 223 ـ 309).
(1) في (غ) و (ر): وفي كونه.
(2) سورة الحجرات: الآية (9).
(3) في (م): "ولا".
(4) أخرجه البخاري (6922، 3017)، والطيالسي في مسنده (2689)، والحميدي في مسنده (533)، وأحمد في مسنده (1 217 و282 و322)، وابن ماجه (2535)، والترمذي (1458)، وأبو داود (4351)، والنسائي في المجتبى (4059 ـ 4065)، وفي السنن الكبرى (3522 ـ 3528)، والحارث في مسنده ـ بغية الباحث ـ (509)، وابن الجارود في المنتقى (843) وأبو يعلى في مسنده (2532 و2533)، والطبراني في المعجم الكبير (10638 و11835 و11850) و (19 419 برقم 1013)، والدارقطني (3 108 و113)، وابن حبان (4475)، والحاكم (6295)، والبيهقي في السنن الكبرى (16597 و16635 ـ 16637 و16654 و17841).(3/116)
وأيضاً حين ظَهَرَ مَعْبَدُ الْجُهَنِيُّ (1) وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْقَدَرِ (2) لم يكن (لهم من السلف الصالح) (3) إِلَّا الطَّرْدُ وَالْإِبْعَادُ وَالْعَدَاوَةُ وَالْهِجْرَانُ، وَلَوْ كَانُوا خَرَجُوا إِلَى كُفْرٍ مَحْضٍ لَأَقَامُوا عَلَيْهِمُ الْحَدَّ (بالقتل كالمرتدين) (4)، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَيْضًا لَمَّا خَرَجَ فِي زَمَانِهِ الْحَرُورِيَّةُ بِالْمَوْصِلِ/ أَمَرَ بِالْكَفِّ عَنْهُمْ (على مَا) (5) أَمَرَ بِهِ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ/ ولم يعاملهم معاملة المرتدين (6).
ومن جهة (النظر) (7) إِنَّا وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُمْ مُتَّبِعُونَ (لِلْهَوَى) (8)، وَلِمَا تَشَابَهَ مِنَ الْكِتَابِ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ، فَإِنَّهُمْ لَيْسُوا بِمُتَّبِعِينَ لِلْهَوَى بِإِطْلَاقٍ، وَلَا مُتَّبِعِينَ لِمَا تَشَابَهَ مِنَ الْكِتَابِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَلَوْ (فَرَضْنَا أَنَّهُمْ) (9) كَذَلِكَ لَكَانُوا كُفَّارًا، إِذْ لا يتأتى ذلك (إلا ممن أخذ به في الشريعة مَعَ) (10) رَدِّ مُحْكَمَاتِهَا عِنَادًا وَهُوَ كُفْرٌ، وَأَمَّا مَنْ صَدَّقَ (بِالشَّرِيعَةَ) (11) وَمَنْ جَاءَ بِهَا، وَبَلَغَ فِيهَا مَبْلَغًا يَظُنُّ بِهِ أَنَّهُ مُتَّبِعٌ لِلدَّلِيلِ (فمثله) (12)، لا يقال (فيه) (13): أَنَّهُ صَاحِبُ هَوًى بِإِطْلَاقٍ بَلْ هُوَ مُتَّبِعٌ للشرع في نظره، لكن
_________
(1) هو معبد بن عبد الله بن عويم الجهني البصري، أخذ عنه غيلان الدمشقي القول بالقدر، وخرج مع ابن الأشعث على الحجاج، فقتله الحجاج عام 80هـ. انظر: تهذيب التهذيب (10 225).
(2) تقدم تعريف القدرية (1 14).
(3) في (ط) و (م) و (خ): "من السلف الصالح لهم". وفي (غ) و (ر): "من السلف الصالح إليهم".
(4) في (ط) و (غ) و (ر): "المقام على المرتدين"، وفي (م) و (خ): "العظام على المرتدين".
(5) في (م) و (خ) و (غ) و (ر): "أخذ".
(6) انظر قصة خروج الخوارج على عمر في: الموطأ لابن وهب ـ كتاب المحاربة تحقيق موراني ـ ص 44 ـ 46 والمنتظم لابن الجوزي (7/ 53 ـ 54)، وطرفاً من معاملته لهم في سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي (ص76).
(7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "المعنى".
(8) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الهوى".
(9) في (غ) و (ر): "فرضناهم".
(10) في (م) و (خ) و (غ) و (ر): "من أخذ ـ في ط: أحد ـ في الشريعة إلا مع".
(11) في (ط) و (م) و (خ): "الشريعة".
(12) في (ط): "بمثله".
(13) زيادة من (م) و (خ).(3/117)
بِحَيْثُ (يُمَازِجُهُ) (1) الْهَوَى فِي (مَطَالِبِهِ) (2) / مِنْ جِهَةِ إِدْخَالِ الشَّبَهِ فِي الْمُحَكَّمَاتِ بِسَبَبِ اعْتِبَارِ الْمُتَشَابِهَاتِ، فَشَارَكَ أَهْلُ الْهَوَى فِي دُخُولِ الْهَوَى فِي نِحْلَتِهِ، وَشَارَكَ أَهْلُ الْحَقِّ فِي أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ إِلَّا مَا دَلَّ/ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ عَلَى الْجُمْلَةِ.
/وَأَيْضًا فَقَدْ ظَهَرَ مِنْهُمُ اتِّحَادُ الْقَصْدِ مع/ أهل السنة على (الجملة) (3) في مَطْلَبٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الِانْتِسَابُ إِلَى الشَّرِيعَةِ، وَمِنْ أَشَدِّ مَسَائِلِ الْخِلَافِ ـ مَثَلًا ـ مَسْأَلَةُ إِثْبَاتِ الصِّفَاتِ حَيْثُ نَفَاهَا مَنْ نَفَاهَا، فَإِنَّا إِذَا نَظَرْنَا إِلَى مَقَاصِدَ الْفَرِيقَيْنِ وَجَدْنَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَائِمًا حَوْلَ حِمَى التَّنْزِيهِ، وَنَفْيِ النَّقَائِصِ، وَسِمَاتِ الْحُدُوثِ، وَهُوَ مَطْلُوبُ الْأَدِلَّةِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ اخْتِلَافُهُمْ فِي الطَّرِيقِ، وَذَلِكَ لَا يُخِلُّ بِهَذَا الْقَصْدِ فِي الطَّرَفَيْنِ مَعًا، فَحَصَلَ فِي هَذَا الْخِلَافِ (الشبه) (4) الْوَاقِعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخِلَافِ الْوَاقِعِ فِي الْفُرُوعِ (5).
وَأَيْضًا فَقَدْ يُعْرَضُ الدَّلِيلُ عَلَى الْمُخَالِفِ مِنْهُمْ فَيَرْجِعُ إِلَى الْوِفَاقِ لِظُهُورِهِ عِنْدَهُ، كَمَا رَجَعَ مِنَ الْحَرُورِيَّةِ/ الْخَارِجِينَ عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَلْفَانِ، وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ عَدَمَ الرُّجُوعِ، كما تقدم في أن المبتدع ليس له توبة.
حكى ابن عبد البر بسند يرفعه إلى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا اجتمعت (الحرورية يخرجون على علي، قال) (6) جعل يأتيه الرجل فيقول: يا أمير المؤمنين (إن) (7) القوم خارجون عليك، قال: (دعهم) (8)
_________
(1) في (م): "بمزاجه". وفي (غ) و (ر): "يزاحمه".
(2) في (م): "مطالب".
(3) في (ط) و (خ): "الجماعة".
(4) في (ط): "أشبه".
(5) يرى الشاطبي أن نصوص الصفات من المتشابه، كما في هذا النص، وصرح به في كتاب الموافقات (3 94)، وهو خلاف مذهب السلف في اعتقادهم أن نصوص الصفات من المحكم، وقد فصل هذه المسألة شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب: الإكليل في المتشابه والتأويل وهي ضمن مجموع الفتاوى (13 270).
(6) في (ت): بعلي رضي الله عنه فت الذي يريد الخوارج أن يخرجوا عليه.
(7) ساقط من (غ) و (ر).
(8) في سائر النسخ ما عدا (ت): "دعوهم".(3/118)
حتى يخرجوا. فلما كان ذات (يوم) (1) قلت: يا أمير المؤمنين أبرد بالصلاة فلا تفتني حتى آتي القوم ـ قال ـ فدخلت عليهم وهم قائلون، فإذا هم مُسهمة (2) / وجوههم من السهر، قد أثر السجود في جباههم، كأن أيديهم ثفن (3) الإبل، عليهم قمص مرحَّضة (4) فقالوا: ما جاء بك يا ابن عباس؟ وما هذه الحلة عليك؟ (قال) (5): قلت: ما تعيبون من ذلك؟ فلقد رَأَيْتُ (رَسُولَ) (6) اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وعليه حلة) (7) أحسن ما يكون من (الثياب اليمنية) (8) ـ قال ـ/ ثم قرأت هذه الآية: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (9)، فقالوا: ما جاء بك؟ (قلت) (10): جئتكم من عند (أصحاب) (11) رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس فيكم منهم أحد، ومن عند ابن عم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعليهم نزل القرآن وهم أعلم بتأويله، (جئت) (12) لأبلغكم عنهم وأبلغهم عنكم، فقال بعضهم: لا تخاصموا قريشاً فإن الله يقول: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} (13) فقال بعضهم: بلى (فلنكلمه) (14). قال: فكلمني منهم رجلان، أو ثلاثة، قال: قلت: ماذا نقمتم عليه؟ قالوا: ثلاثاً.
فقلت: ما هن؟ قالوا: حكَّم الرجال في أمر الله وقال الله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} (15)، قال: (قلت) (16): هذه واحدة، وماذا أيضاً؟ / قالوا: فإنه قاتل فلم يَسْبِ ولم يغنم، (فلئن) (17) كانوا مؤمنين ما حل قتالهم، (ولئن) (18)
_________
(1) ساقطة من (خ).
(2) أي متغير لون وجوههم. انظر: لسان العرب، مادة سهم.
(3) هو ما يقع على الأرض من أعضاء الإبل إذا استناخ، كالركبتين، انظر لسان العرب، مادة ثفن.
(4) أي مغسولة. انظر لسان العرب، مادة رحض.
(5) ساقط من (غ) و (ر).
(6) في (غ) و (ر): "على رسول".
(7) ساقطة من (م) و (غ) و (ر). وفي (ط) و (خ): "وعليه".
(8) في (م) و (خ) و (غ) و (ر): "ثياب اليمنة".
(9) سورة الأعراف: الآية (32).
(10) في (غ) و (ر): "فقال".
(11) ساقطة من (م).
(12) في (م) و (ت): "حيث".
(13) سورة الزخرف: الآية (58).
(14) في (غ) و (ر): "فلنكلمنه".
(15) سورة يوسف: الآية (40).
(16) ساقطة من (ط).
(17) في (ت): "فإن".
(18) في (ت): "وإن".(3/119)
كانوا كافرين لقد حلَّ/ قتالهم (وسبيهم) (1)، قال: قلت: وماذا أيضاً؟ قالوا: ومحا نفسه من إمرة المؤمنين، فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين قال: قلت: أرأيتم إن أتيتكم من كتاب الله وسنة رسوله بما ينقض قولكم/ هذا، أترجعون؟ قالوا: وما لنا لا نرجع؟
قال: قلت: أما قولكم: حكم الرجال في أمر الله، فإن الله قال في كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} (2)، وقال في المرأة وزوجها: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} (3) فصيَّر الله ذلك إلى حكم الرجال، فناشدتكم (الله) (4) أتعلمون (أن) (5) حكم الرجال في (حقن) (6) دماء المسلمين وفي إصلاح ذات بينهم أفضل أو في (دم أرنب ثمنه) (7) ربع درهم؟ وفي (بضع) (8) امرأة؟ قالوا: (بل) (9)، هذا أفضل. قال: (أخرجتم) (10) من هذه؟ قالوا: نعم! قال: وأما/ قولكم: قاتل (ولم يسب) (11) ولم يغنم (أتسبون) (12) أمكم عائشة؟ فإن قلتم:/ نسبيها فنستحل منها ما نستحل من غيرها، فقد كفرتم، (وإن قلتم ليست بأمنا فقد كفرتم) (13)، فأنتم (ترددون) (14) بين/ ضلالتين، (أخرجتم) (15) من هذه؟ قالوا: بلى، (قال) (16): وأما قولكم: محا نفسه من إمرة المؤمنين، فأنا آتيكم بمن ترضون، إن نبي الله يوم الحديبية حين صالح أبا سفيان وسهيل بن
_________
(1) في (م): "وسباهم". وفي (غ) و (ر): "وسباوهم".
(2) سورة المائدة: الآية (95).
(3) سورة النساء: الآية (35).
(4) ساقطة من (م).
(5) ساقط من (غ) و (ر).
(6) زيادة من هامش (ت).
(7) في (م) و (خ) و (غ) و (ر): "دم أرنب ثمن". وفي جامع بيان العلم: حكم أرنب ثمن.
(8) في (م): "بعض".
(9) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "بلى".
(10) في (غ) و (ر): "أخرجت".
(11) زيادة من (ط). وفي (غ) و (ر): "فلم يسب".
(12) في (غ) و (ر): "أفتسبون".
(13) ما بين القوسين ساقط من (خ).
(14) في (ت): "تترددون".
(15) في (غ) و (ر): "أخرجت".
(16) ساقط من (غ) و (ر).(3/120)
عمرو، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اكْتُبْ يَا عَلِيُّ هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ وَسُهَيْلُ بْنُ (عَمْرٍو: مَا) (1) نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، وَلَوْ نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا قَاتَلْنَاكَ.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: اللهم إنك تعلم أني (رسولك) (2)، (امح يا علي واكتب) (3): هَذَا مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ/ وَأَبُو سُفْيَانَ وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو. قَالَ: فَرَجَعَ مِنْهُمْ أَلْفَانِ وَبَقِيَ بَقِيَّتُهُمْ فَخَرَجُوا فَقُتِلُوا أجمعون (4).
_________
(1) في (ط): "عمرو بن ما". وفي (م) و (خ): "عمرو وما". وفي (ت): "وما".
(2) في (ت) و (م): "رسول".
(3) في (م): "يا علي اكتب".
(4) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2 126 ـ 128)، وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه (18678) مطولاً بسند حسن، وأخرجه ابن سعد في الطبقات (93) مختصراً، وأبو داود (4037) مختصراً جداً، والنسائي في السنن الكبرى (8575)، والطبراني في الكبير (10598)، وبرقم (12884) مختصراً جداً، والحاكم (2656 و2657 و7368)، والبيهقي في السنن الكبرى (16517).(3/121)
فصل
صَحَّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ("تَفَرَّقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فرقة، والنصارى مثل ذلك وتتفرق/ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً" وَخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ هَكَذَا (1).
وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ قَالَ) (2): (افْتَرَقَ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى أَوِ (اثْنَتَيْنِ) (3) وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وتفرقت النَّصَارَى عَلَى إِحْدَى أَوِ (اثْنَتَيْنِ) (3) وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، (وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً) (4).
/وَفِي الترمذي تفسير هذا، لكن بِإِسْنَادٍ غَرِيبٍ عَنْ غَيْرِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عنه، فقال في (حديثه) (5): (وإن بني إسرائيل (افترقت) (6) على ثنتين وسبعين (ملة) (7) وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلَّا مِلَّةً وَاحِدَةً ـ قَالُوا: وَمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: مَا أَنَا عليه وأصحابي) (8).
_________
(1) تقدم تخريجه (1 12).
(2) ما بين () ساقط من (غ) و (ر).
(3) في (ت): "اثنين". وفي (غ) و (ر): "ثنتين".
(4) ما بين () ساقط من (غ) و (ر) والحديث سبق تخريجه (1 15).
(5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "حديث".
(6) في (غ) و (ر): "تفرقت".
(7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فرقة".
(8) أخرجه الترمذي برقم (2641) وقال: هذا حديث مفسر غريب لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه. اهـ، ومدار هذه الرواية على عبد الرحمن بن زياد الأفريقي، وهو ضعيف عند الجمهور. التقريب (3862).(3/122)
وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ: (وَأَنَّ هَذِهِ الْمِلَّةَ ستفترق على ثلاث وسبعين، ثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَهِيَ الْجَمَاعَةُ) (1) وَهِيَ بِمَعْنَى الرِّوَايَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، إِلَّا أَنَّ هُنَا زِيَادَةً فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: (وإنه سيخرج (في) (2) أمتي أقوام تجارى بهم تِلْكَ الْأَهْوَاءُ كَمَا يَتَجَارَى الْكَلْبُ بِصَاحِبِهِ، لَا يَبْقَى مِنْهُ عِرْقٌ وَلَا مَفْصِلٌ/ إِلَّا دَخَلَهُ) (3).
وفي رواية عن أَبِي غَالِبٍ (4) مَوْقُوفًا عَلَيْهِ: (إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَفَرَّقُوا عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تَزِيدُ عَلَيْهِمْ فِرْقَةً، كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا السَّوَادَ الْأَعْظَمَ) (5).
وَفِي رِوَايَةٍ مَرْفُوعًا: (سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى/ بِضْعٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، أَعْظَمُهَا/ فِتْنَةً الَّذِينَ (يَقِيسُونَ) (6) الْأُمُورَ بِرَأْيِهِمْ فَيُحِلُّونَ الْحَرَامَ وَيُحَرِّمُونَ الْحَلَالَ) (7).
وَهَذَا الْحَدِيثُ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ الْأَخِيرَةِ قَدَحَ فيه ابن عبد البر (8) لأن
_________
(1) أخرجه أبو داود برقم (4597).
(2) في (ط): "من".
(3) أخرجه أبو داود برقم (4597)، والزيادة ذكرها أبو داود ملحقة بالحديث السابق، وأخرجها أحمد في المسند (4 102)، والطبراني في المعجم الكبير (884)، وفي مسند الشاميين (1005)، والحاكم في المستدرك (443).
(4) في (ط) و (م) و (خ): "ابن أبي غالب"، وهو خطأ والصواب أبي غالب، واسمه: حزور، وهو من رواة الحديث، وثقه ابن معين والدارقطني وموسى بن هارون، وضعفه أبو حاتم والنسائي وابن حبان وقال ابن حجر: صدوق يخطئ، وقال الذهبي: صالح الحديث. انظر: الجرح والتعديل (3 316)، وتهذيب التهذيب (12 197)، والكاشف (3 322).
(5) تقدم تخريجه (1/ 74)، وهي رواية مرفوعة وليس موقوفة لأن في نهاية الحديث قال رجل لأبي أمامة ـ راوي الحديث: يا أبا أمامة من رأيك أو سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: إني إذاً لجريء، بل سمعت من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غير مرة ولا مرتين ولا ثلاثة.
في (خ) و (م) و (ت): "يقيمون". وصححت في هامش (ت) بـ:"يقيسون".
(6) تقدم تخريجه (1 88).
(7) جامع بيان العلم (2 891) برقم (1673) ـ طبعة الزهيري.(3/123)
ابْنَ مَعِينٍ قَالَ: إِنَّهُ حَدِيثٌ بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ، (شُبّه فِيهِ) (1) عَلَى نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ (2)، قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: إِنَّ الْحَدِيثَ قَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الثِّقَاتِ، ثُمَّ تُكُلِّمَ فِي إِسْنَادِهِ بِمَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَيْسَ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، ثُمَّ قَالَ: (وَفِي الْجُمْلَةِ) (3) فَإِسْنَادُهُ فِي الظَّاهِرِ جَيِّدٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ـ يَعْنِي ابْنَ مَعِينٍ ـ قَدِ اطَّلَعَ مِنْهُ عَلَى عِلَّةٍ خَفِيَّةٍ (4).
وَأَغْرَبُ مِنْ (هَذَا) (5) كُلِّهِ رِوَايَةٌ رَأَيْتُهَا فِي جَامِعِ ابْنِ وَهْبٍ: (إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ/ تَفَرَّقَتْ (إِحْدَى) (6) وَثَمَانِينَ مِلَّةً وَسَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ مِلَّةً، (كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً) (7)، قَالُوا: ((وَمَا هِيَ) (8) يَا رسول الله صلى الله عليه وسلم)؟ قال: الْجَمَاعَةُ) (9).
فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا، تَصَدَّى النَّظَرُ فِي الحديث في مسائل:
(إحداها) (10): في حقيقة هذا/ الافتراق.
_________
(1) في (ت): "بياض بمقدار كلمتين".
(2) هو نعيم بن حماد بن معاوية الخزاعي المروزي، توفي سنة 228هـ في السجن، وذلك بسبب فتنة خلق القرآن، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم في جهة الجرح والتعديل، وقد توسع المعلمي ـ رحمه الله تعالى ـ في ترجمته في التنكيل بكلام مهم (1 493 ـ 500)، وانظر كذلك: الجرح والتعديل (8 462)، وطبقات ابن سعد (7 519)، وتاريخ بغداد (13 306 ـ 314)، والسير (10 595)، وميزان الاعتدال (4 267 ـ 270)، وتهذيب التهذيب (10 458).
(3) في (غ) و (ر): "وبالجملة".
(4) هذا كلام ابن تيمية في بيان الدليل (ص295 ـ 296)، والفتاوى الكبرى (6/ 143). وانظر كلاماً مهماً للمعلمي في التنكيل (1/ 496 ـ 497) عن هذا الحديث، وانظر دراسة جيدة للحديث في كتاب "ذم الكلام وأهله" للهروي ـ ت الأنصاري ـ (2/ 188 ـ 193) تعليق رقم (5).
(5) في (غ) و (ر): "ذلك".
(6) في (غ) و (ر): "واحدة".
(7) في (غ) و (ر): "كلها واحدة إلا ملة في النار إلا ملة واحدة؟! ".
(8) في (غ) و (ر): "وأية ملّة".
(9) في (م): "وإنه ملة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم".
(10) لم أجده، في الجزء المطبوع، ولفظ الحديث مخالف للرواية المشهورة المتواترة وهي لفظ (السبعين).
(11) في (ط): "المسألة الأولى".(3/124)
وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ افْتِرَاقًا عَلَى مَا يُعْطِيهِ مُقْتَضَى اللَّفْظِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعَ زِيَادَةِ قَيْدٍ لَا يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ بِإِطْلَاقِهِ وَلَكِنْ يحتمله، كما كان لفظ الرقبة (يشعر) (1) بمطلقها ولا يُشْعِرُ بِكَوْنِهَا مُؤْمِنَةً أَوْ غَيْرَ مُؤْمِنَةٍ، لَكِنَّ اللَّفْظَ يَقْبَلُهُ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ مُطْلَقُ الافتراق، بحيث يطلق صور (هذا) (2) الِاخْتِلَافِ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ (الْمُخْتَلِفُونَ) (3) فِي مَسَائِلِ الْفُرُوعِ دَاخِلِينَ تَحْتَ إِطْلَاقِ اللَّفْظِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَإِنَّ الْخِلَافَ (من زَمَانِ) (4) الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إِلَى الْآنِ وَاقِعٌ فِي الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ، وَأَوَّلُ مَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي زَمَانِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، ثُمَّ في سائر/ الصحابة، ثم في التَّابِعِينَ وَلَمْ يَعِبْ أَحَدٌ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَبِالصَّحَابَةِ اقتدى من بعدهم في (تسويغ) (5) الخلاف، فكيف يمكن أَنْ يَكُونَ الِافْتِرَاقُ فِي الْمَذَاهِبِ مِمَّا يَقْتَضِيهِ (إطلاق) (6) الْحَدِيثُ؟ وَإِنَّمَا/ يُرَادُ افْتِرَاقٌ/ مُقَيَّدٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْحَدِيثِ نَصٌّ عَلَيْهِ، فَفِي الْآيَاتِ ما يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ({وَلاَ تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ *مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} (7)، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا (8) لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (9)، وما أشبه ذلك من/ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى التَّفَرُّقِ الَّذِي صَارُوا بِهِ شِيَعًا، وَمَعْنَى: صَارُوا شِيَعًا؛ أَيْ جَمَاعَاتٍ بَعْضُهُمْ قَدْ فَارَقَ الْبَعْضَ، لَيْسُوا عَلَى تَآلُفٍ (وَلَا تَعَاضُدٍ وَلَا تَنَاصُرٍ) (10)، بَلْ عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْإِسْلَامَ وَاحِدٌ وَأَمْرُهُ وَاحِدٌ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ عَلَى الِائْتِلَافِ التَّامِّ لَا عَلَى الِاخْتِلَافِ.
وَهَذِهِ الْفِرْقَةُ مُشْعِرَةٌ بِتَفَرُّقِ الْقُلُوبِ الْمُشْعِرِ بالعداوة والبغضاء، ولذلك
_________
(1) زيادة من (غ) و (ر).
(2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "لفظ".
(3) في (م): "المختلفين".
(4) في (ت): "مذ زمن". وفي (غ) و (ر): "مذ زمان".
(5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "توسيع".
(6) زيادة من (غ) و (ر).
(7) سورة الروم: الآيتان (31، 32).
(8) ما بين () ساقط من (خ).
(9) سورة الأنعام: الآية (159)
(10) في (غ) و (ر): "ولا على تعاضد وتناصر".(3/125)
قَالَ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا} (1)، فبين أن (التآلف) (2) إِنَّمَا/ يَحْصُلُ عِنْدَ الِائْتِلَافِ عَلَى التَّعَلُّقِ بِمَعْنًى واحد، وأما إذا تعلق كُلُّ شِيعَةٍ بِحَبْلٍ غَيْرِ مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ الْأُخْرَى فَلَا بُدَّ مِنَ التَّفَرُّقِ، وَهُوَ مَعْنَى قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (3).
وإذا (تبين هذا تنزل) (4) عَلَيْهِ لَفْظُ الْحَدِيثِ وَاسْتَقَامَ مَعْنَاهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:
إِنَّ هَذِهِ الْفِرَقَ إِنْ كَانَتِ/ افترقت بسببٍ مُوقِعٍ في العداوة وَالْبَغْضَاءِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا (إِلَى أَمْرٍ) (5) هُوَ مَعْصِيَةٌ غَيْرُ بِدْعَةٍ (وَمِثَالُهُ أَنْ يَقَعَ بين أهل الإسلام افتراق بسبب دنياوي) (6)، كَمَا يَخْتَلِفُ/ مَثَلًا أَهْلُ قَرْيَةٍ مَعَ قَرْيَةٍ أُخْرَى بِسَبَبِ تَعَدٍّ فِي مَالٍ أَوْ دَمٍ، حتى تقع بينهم العداوة فَيَصِيرُوا حِزْبَيْنِ، أَوْ يَخْتَلِفُونَ فِي تَقْدِيمِ والٍ (أو عزل وَالٍ) (7) أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ (فَيَفْتَرِقُونَ) (8)، وَمِثْلُ هَذَا مُحْتَمَلٌ، وَقَدْ يُشْعَرُ بِهِ (مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قِيد شبر (فمات) (9) فَمِيتَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ) (10)، وَفِي مِثْلِ (هَذَا) (11) جَاءَ فِي الحديث: (إذا بويع الخليفتين) (12) فَاقْتُلُوا الْآخَرَ مِنْهُمَا) (13)، وَجَاءَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ: {وَإِنْ
_________
(1) سورة آل عمران: الآية (103).
(2) في (م) و (خ): "التأليف".
(3) سورة الأنعام: الآية (153).
(4) في سائر النسخ ما عدا (غ): "ثبت هذا نزل".
(5) في (ت): "لأمر".
(6) ساقط من (غ) و (ر).
(7) زيادة من (غ) و (ر).
(8) في (ت) و (غ) و (ر): "فيتفرقون".
(9) زيادة من (غ) و (ر).
(10) أخرجه البخاري (7054 و7143)، ومسلم (1849)، وأبو داود الطيالسي في مسنده (1162)، وأحمد في مسنده (2 133) (3 445 و446) (5 180)، والدارمي (2519)، والترمذي (2862)، وأبو يعلى (1571 و7203)، وابن خزيمة في الصحيح (1895)، والطبراني في الكبير (3427)، وابن حبان في الصحيح (6233)، والحاكم (401 و408 و1534)، والقضاعي في المسند (448 و450)، والبيهقي في السنن الكبرى (16391).
(11) في (غ) و (ر): "ذلك".
(12) في (ط) و (خ) و (ت): "الخليفتان".
(13) أخرجه مسلم (1853)، والحاكم (2665)، والبيهقي في السنن الكبرى (16324).(3/126)
طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} (1) إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ.
/وَأَمَّا أَنْ يَرْجِعَ إِلَى أَمْرٍ هُوَ بِدْعَةٌ، كَمَا افْتَرَقَ الْخَوَارِجُ (مِنَ) (2) الْأُمَّةِ (بِبِدَعِهِمُ) (3) الَّتِي بَنَوْا عَلَيْهَا فِي الْفِرْقَةِ، وكالمهدي المغربي (4) الخارج (على) (5) الْأُمَّةِ نَصْرًا لِلْحَقِّ فِي زَعْمِهِ، فَابْتَدَعَ أُمُورًا سِيَاسِيَّةً وَغَيْرَهَا خَرَجَ بِهَا عَنِ السُّنَّةِ ـ كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ/ قَبْلُ ـ وَهَذَا هُوَ الَّذِي تُشِيرُ إِلَيْهِ الْآيَاتُ الْمُتَقَدِّمَةُ وَالْأَحَادِيثُ، لِمُطَابَقَتِهَا لِمَعْنَى الْحَدِيثِ، وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ الْمَعْنَيَانِ مَعًا.
فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَلَا أَعْلَمُ قَائِلًا بِهِ، وَإِنْ كَانَ (مُمْكِنًا فِي نَفْسِهِ) (6) إِذْ لَمْ أَرَ أَحَدًا خص هذه (الفرقة) (7) بِمَا إِذَا افْتَرَقَتِ الْأُمَّةُ بِسَبَبِ أَمْرٍ (دُنْيَوِيٍّ) (8) لَا بِسَبَبِ (بِدْعَةٍ) (9)، وَلَيْسَ ثَمَّ دَلِيلٌ يَدُلُّ على التخصيص، لأن قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قِيد شِبْرٍ" (10) الْحَدِيثَ، لَا يَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ، وكذلك (إذا بويع (لخليفتين) فاقتلوا الآخر منهما) (11)، وقد اختلف العلماء فِي الْمُرَادِ بِالْجَمَاعَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ حَسْبَمَا يَأْتِي، فَلَمْ يَكُنْ (مِنْهُمْ قَائِلٌ) (12) بِأَنَّ الْفِرْقَةَ الْمُضَادَّةَ لِلْجَمَاعَةِ هِيَ فِرْقَةُ الْمَعَاصِي غَيْرُ الْبِدَعِ على الخصوص.
وأما الثالث، وَهُوَ أَنْ يُرَادَ الْمَعْنَيَانِ مَعًا، فَذَلِكَ أَيْضًا مُمْكِنٌ، إِذِ الْفِرْقَةُ الْمُنَبَّهُ عَلَيْهَا قَدْ تَحْصُلُ بسبب (أمور دنيوية) (13) لَا مَدْخَلَ فِيهَا لِلْبِدَعِ وَإِنَّمَا (هِيَ) (14) مَعَاصٍ وَمُخَالَفَاتٌ/ كَسَائِرِ الْمَعَاصِي، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى يُرْشِدُ قول
_________
(1) سورة الحجرات: الآية (9).
(2) في (غ) و (ر): "عن".
(3) في (م) و (خ): "ببدعتهم". و (غ) و (ر).
(4) هو محمد بن عبد الله بن تومرت المصمودي، ادعى أنه هو المهدي المنتظر، وسمى أتباعه بالموحدين. تقدمت ترجمته 1 312.
(5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "عن".
(6) في (غ) و (ر): "في نفسه ممكناً".
(7) زيادة من (غ) و (ر).
(8) في (ط) و (م) و (خ): "دنياوي".
(9) في (غ) و (ر): "البدعة".
(10) تقدم تخريجه (3/ 126).
(11) في (خ) و (غ) و (ر): "الخليفتين".
(12) تقدم تخريجه (3/ 126).
(13) في (ت): "قائل منهم".
(14) في (ط) و (م) و (خ): "أمر دنياوي". وفي (ت): "أمر دينوي".
(15) في (ت): "هو".(3/127)
الطَّبَرِيِّ فِي تَفْسِيرِ الْجَمَاعَةِ ـ حَسْبَمَا يَأْتِي بِحَوْلِ اللَّهِ ـ وَيُعَضِّدُهُ حَدِيثُ التِّرْمِذِيِّ: (لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أُمَّتِي (ما أتى على بني إسرائيل إلى أن قال: حَتَّى إِنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ أَتَى أُمَّهُ عَلَانِيَةً لَكَانَ فِي أُمَّتِي) (1) مَنْ يَصْنَعُ ذَلِكَ) (2) فَجَعَلَ الْغَايَةَ فِي اتِّبَاعِهِمْ مَا هُوَ مَعْصِيَةٌ كما ترى.
/وكذلك (قوله) (3) فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: (لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ـ إِلَى قَوْلِهِ: ـ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ خَرِبٍ لَاتَّبَعْتُمُوهُمْ) (4)، فَجَعَلَ الْغَايَةَ مَا لَيْسَ بِبِدْعَةٍ.
/وَفِي مُعْجَمِ الْبَغَوِيِّ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ (5) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (أَعَاذَكَ اللَّهُ يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ (مِنْ) (6) إِمَارَةِ السُّفَهَاءِ ـ قَالَ: وَمَا إِمَارَةُ السُّفَهَاءِ؟ ـ قَالَ أُمَرَاءُ يَكُونُونَ بَعْدِي (لَا) (7) يَهْتَدُونَ بِهَدْيِي، وَلَا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي، فَمَنْ صدَّقهم بِكَذِبِهِمْ، وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ،/ فَأُولَئِكَ لَيْسُوا مِنِّي (وَلَسْتُ) (8) مِنْهُمْ، وَلَا يَرِدُونَ عَلَيَّ (الْحَوْضَ) (9)، وَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْهُمْ عَلَى كَذِبِهِمْ وَلَمْ يُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَأُولَئِكَ مني وأنا منهم، (وسيردون) (10) علي الحوض) (11) الحديث.
_________
(1) ما بين () زيادة من (غ) و (ر).
(2) تقدم تخريجه ص123 تعليق رقم (3).
(3) زيادة من (غ) و (ر).
(4) تقدم تخريجه (1 13).
(5) هو كعب بن عجرة الأنصاري السلمي رضي الله عنه، من أهل بيعة الرضوان، توفي سنة 52هـ. انظر: أسد الغابة (4 243)، والإصابة برقم (7421).
(6) في (غ) و (ر): "عن".
(7) ساقط من (غ) و (ر).
(8) في (م) و (خ) و (ت): "وأنا"، وهو خطأ معنى ورواية، والصواب من (غ) و (ر) و (ط) و (ر) وهو الموافق لما في كتب السنة.
(9) في (م) و (خ) و (ت): "الحوض الحديث".
(10) في (ط) و (خ): "ويردون".
(11) أخرجه في حديث جابر: أحمد في المسند (3 399)، والترمذي برقم (614 و2259)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (1 189)، والحاكم (6030 و8302)، وقال الذهبي: صحيح. وأخرجه من حديث كعب بن عجرة: عبد بن حميد في المنتخب (370)، والنسائي في المجتبى (4207)، وفي السنن الكبرى (8658)، والطبراني في الصغير (430 و625)، وفي الكبير في المجلد (19) برقم (212 و294=(3/128)
وكل من (لا يهتدي) (1) بِهَدْيِهِ وَلَا يَسْتَنُّ بسنَّته فَإِمَّا إِلَى بِدْعَةٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ، فَلَا اخْتِصَاصَ بِأَحَدِهِمَا، غَيْرَ أَنَّ الْأَكْثَرَ فِي نَقْلِ أَرْبَابِ الْكَلَامِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ الْفِرْقَةَ الْمَذْكُورَةَ إِنَّمَا هِيَ بِسَبَبِ الِابْتِدَاعِ/ فِي الشَّرْعِ عَلَى الْخُصُوصِ، وَعَلَى ذَلِكَ حُمِلَ الْحَدِيثُ مَنْ تَكَلَّمَ عَلَيْهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَلَمْ يعدُّوا منها المفترقين بسبب المعاصي التي ليست ببدع، وَعَلَى ذَلِكَ يَقَعُ التَّفْرِيعُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
المسألة الثالثة:
إن هذه الفرق (تحتمل) (2) مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَنْ يَكُونُوا خَارِجِينَ عَنِ الْمِلَّةِ بِسَبَبِ مَا أَحْدَثُوا، فَهُمْ قَدْ فَارَقُوا أهل الإسلام بإطلاق، وليس ذلك إلا (إلى) (3) الكفر، إِذْ لَيْسَ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ مَنْزِلَةٌ/ ثَالِثَةٌ تُتَصَوَّرُ.
/وَيَدُلُّ (عَلَى) (4) هَذَا الِاحْتِمَالِ ظَوَاهِرُ مِنَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (5)، وهي آية أنزلت ـ عند المفسرين ـ في أهل البدع، ويوضحه (قراءة) (6) من قرأ: "إن الذين فارقوا دينهم" (7)، وَالْمُفَارَقَةُ لِلدِّينِ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ إِنَّمَا هِيَ الْخُرُوجُ عَنْهُ، وَقَوْلُهُ: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (8) الآية، وهي عند
_________
=و298 و309 و310 و345 و354 و361)، وابن حبان في الصحيح (282 و283 و285)، وأخرجه من حديث ابن عمر: أحمد في المسند (2 95)، وأخرجه من حديث خباب بن الأرت: الطبراني في الكبير (3627)، وابن حبان (284)، وأخرجه من حديث أبي سعيد الخدري: الطيالسي (2223)، وأبو يعلى (1187 و1286)، وابن حبان (286)، وأخرجه من حديث عبد الرحمن بن سمرة: الحاكم (7162)، وأخرجه من حديث حذيفة بن اليمان: الطبراني في الكبير (3020).
(1) في (ط) و (خ) و (ت): "لم يهتد".
(2) في (غ) و (ر): "يحتمل".
(3) زيادة من (غ) و (ر).
(4) زيادة من (غ) و (ر).
(5) سورة الأنعام: الآية (159).
(6) زيادة من (غ) و (ر).
(7) قرأ حمزة والكسائي (فارقوا) وهي قراءة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقرأ الباقون بالتشديد، وهي قراءة ابن مسعود، وقرأ النخعي بالتخفيف. انظر: جامع البيان (12 268)، والقرطبي (7 97)، وفتح القدير (2 183).
(8) سورة آل عمران: الآية (106).(3/129)
الْعُلَمَاءِ مُنَزَّلَةٌ فِي أَهْلِ الْقِبْلَةِ وَهُمْ أَهْلُ البدع (1)، وهذا كالنص (في الكفر) (2)، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فقوله صلّى الله عليه وسلّم: "لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بعض" (3)، وهذا نص (أيضاً) (4) في كفر من قيل ذلك فيه (5).
_________
(1) اختلف المفسرون في تفسير هذه الآية على عدة أقوال:
(أ) فقيل أنها في اليهود والنصارى؛ وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي والضحاك.
(ب) وقيل أنها نزلت في أهل البدع من هذه الأمة، وهو قول أبي هريرة.
(ج) وقيل: أنها في المشركين عامة؛ عبد بعضهم الصنم وبعضهم الملائكة، قاله الحسن. انظر: تفسير ابن جرير (12 269 ـ 271)، والقرطبي (7 97)، وزاد المسير (3 158 ـ 159).
وقال ابن كثير: والظاهر أن الآية عامة في كل من فارق دين الله وكان مخالفاً له؛ فإن الله بعث رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وشرعه واحد لا اختلاف فيه ولا افتراق، فمن اختلف فيه وكانوا شيعاً؛ أي فرقاً، كأهل الملل والنحل والأهواء والضلالات، فإن الله تعالى قد برأ رسوله صلّى الله عليه وسلّم مما هم فيه. انظر: ابن كثير (2 197).
(2) زيادة من (غ) و (ر).
(3) أخرجه البخاري (7077، 6868، 6166، 4403)، ومسلم (66)، والطيالسي (664 و859)، وأحمد (1 402) و (2 85 و87 و104) و (4 351 و358 و363 و366) و (5 44 و45)، والدارمي في السنن (1921)، وابن ماجه (3943)، والترمذي (2193)، وأبو داود برقم (4686)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1567)، والنسائي في المجتبى (4125 ـ 4132)، وفي السنن الكبرى (3590 ـ 3597) و (5882)، وأبو يعلى (1452 و3946 و5326 و5592 و6832 و7366 و7490)، والطبراني في الصغير (428) وفي الكبير (2277 و2402 و7414 و7619 و10301 و13121 و135340) وفي مسند الشاميين (546)، وابن حبان (187 و5940) والبيهقي في السنن الكبرى (9397 و16568).
(4) زيادة من (غ) و (ر).
(5) الكفر هنا مفسراً بقوله: يضرب بعضكم رقاب بعض. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وروى مسلم في صحيحه ... عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "اثنتان في الناس هما بهم كفر؛ الطعن في النسب، والنياحة على الميت)، فقوله: (هما بهم كفر) أي هاتان الخصلتان هما كفر قائم بالناس فنفس الخصلتين كفر، حيث كانتا في أعمال الكفار، وهما قائمتان بالناس، لكن ليس كل من قام به شعبة من شعب الكفر=(3/130)
وفسره الحسن بما تقدم (1) في قوله: (يصبح مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَاَفِرًا، وَيُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَاَفِرًا) (2) الْحَدِيثَ، وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْخَوَارِجِ: (دَعْهُ/ فَإِنَّ لَهُ (أَصْحَابًا) (3) يُحَقِّرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، يقرأون الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنِ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرميَّة، يَنْظُرُ إِلَى نَصْلِهِ (4) فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يَنْظُرُ إِلَى رِصَافِهِ (4) فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يَنْظُرُ إِلَى نَضِيِّهِ (4) فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ ـ وَهُوَ القِدْح (4) ـ ثُمَّ يَنْظُرُ إِلَى قُذَذِهِ (4) فَلَا يوجد فيه
_________
=يصير كافراً الكفر المطلق؛ حتى تقوم به حقيقة الكفر، كما أنه ليس كل من قام به شعبة من شعب الإيمان يصير مؤمناً حتى يقوم به أصل الإيمان، وفرق بين الكفر المعرّف باللام، كما في قوله صلّى الله عليه وسلّم: "ليس بين العبد وبين الكفر أو الشرك إلا ترك الصلاة)، وبين كفر منكر في الإثبات.
وفرق أيضاً بين معنى الاسم المطلق إذا قيل: كافر أو مؤمن، وبين المعنى المطلق للاسم في جميع موارده، كما في قوله: (لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بعض)، فقوله: (يضرب بعضكم رقاب بعض) تفسير الكفار في هذا الموضع، وهؤلاء يسمون كفاراً تسمية مقيدة، ولا يدخلون في الاسم المطلق إذا قيل كافر ومؤمن. انظر: اقتضاء الصراط المستقيم (1 207 ـ 209). وقد ذكر ابن حجر في تفسير لفظة كفار في هذا الحديث عشرة أقوال. انظر: فتح الباري (12 201 ـ 202) (13 30)، وانظر: شرح النووي على صحيح مسلم (2 55)، وشرح السنة للبغوي (10 221 ـ 222).
(1) انظر: الاعتصام ـ طبعة رشيد رضا ـ (2 76).
(2) أخرجه مسلم (118)، وأبو داود الطيالسي (803)، وأحمد (2 303 و372 و390 و523) و (4 272 و416)، والدارمي (338)، وابن ماجه (2954 و3961)، والترمذي (2195 و2197)، وأبو داود (4259 و4262)، وأبو يعلى (1523 و4260)، والطبراني في الكبير (1724 و7910 و8135 و11075) و (17 352 برقم 703)، وفي مسند الشاميين (1236)، وابن حبان (5962 و6704)، والحاكم (6234 و6263 و8354 و8355 و8360)، والبيهقي في السنن الكبرى (16577).
(3) في (م): "أصحاب".
(4) النصل: حديدة السهم. والرصاف: عقب يلوى على موضع الفوق، وعلى مدخل النصل من السهم. والنضي: ما بين النصل والريش من القِدْح. والقدح بكسر القاف وسكون الدال. والقذذ: الريش يراش به السهم. انظر: فتح الباري (6 715) وشرح السنة (10/ 226).
واختلف أهل العلم في قوله صلّى الله عليه وسلّم: "يمرقون من الدين" هل المقصود به الخروج من=(3/131)
شيء (سبق) (1) الفرث والدم) (2)، فانظر إلى قوله: (سبق) (3) الْفَرْثِ وَالدَّمِ. فَهُوَ الشَّاهِدُ/ عَلَى أَنَّهُمْ دَخَلُوا في الإسلام (فلم) (4) يَتَعَلَّقُ بِهِمْ مِنْهُ شَيْءٌ.
وَفِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ((سَيَكُونُ) (5) بَعْدِي مِنْ أُمَّتِي قَوْمٌ يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَلَاقِيمَهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَخْرُجُ السَّهْمُ مِنَ الرميَّة ثُمَّ لَا يَعُودُونَ فِيهِ، هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ) (6)، إِلَى/ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ (التي ظاهرها الخروج من الإسلام جملة. ولا (تقولن) (7) (إن) (8) هذه الْأَحَادِيثِ) (9) إِنَّمَا هِيَ (فِي) (10) قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ/ فَلَا حُجَّةَ فِيهَا عَلَى غَيْرِهِمْ، لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ (اسْتَدَلُّوا/ بِهَا) (11) عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، كَمَا اسْتَدَلُّوا بِالْآيَاتِ.
وَأَيْضًا فَالْآيَاتُ إِنْ دَلَّتْ بِصِيَغِ عُمُومِهَا فَالْأَحَادِيثُ تَدُلُّ بِمَعَانِيهَا لِاجْتِمَاعِ الْجَمِيعِ فِي الْعِلَّةِ.
فَإِنْ قِيلَ: الْحُكْمُ بِالْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ رَاجِعٌ إِلَى (أحكام) (12) الْآخِرَةِ، وَالْقِيَاسُ لَا يَجْرِي فِيهَا. فَالْجَوَابُ: إِنَّ كَلَامَنَا فِي الْأَحْكَامِ (الدُّنْيَوِيَّةِ) (13) وَهَلْ (يُحكم) (14) لَهُمْ بِحُكْمِ الْمُرْتَدِّينَ أَمْ لَا؟ وَإِنَّمَا أَمْرُ الْآخِرَةِ لله، لقوله
_________
=الإسلام، أم المقصود الخروج عن طاعة الأئمة. انظر تفصيل ذلك في: فتح الباري (6 714 ـ 716) (8 718 ـ 719) (12 301)، وشرح السنة للبغوي (10 224 ـ 226).
(1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "من".
(2) تقدم تخريجه (3/ 114).
(3) في (ط) و (خ) و (ت): "من".
(4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فلا".
(5) في (غ) و (ر): "وتكون".
(6) تقدم تخريجه (3/ 114).
(7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "يقولن".
(8) زيادة من (غ) و (ر).
(9) ما بين القوسين زيادة من (م) و (غ) و (ر).
(10) ما بين القوسين ساقط من (ط).
(11) في (ت) و (غ) و (ر): "بها استدلوا".
(12) في (م): "أحدكم". وفي (ط) و (خ) و (ت): "حكم".
(13) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الدنياوية".
(14) في (غ) و (ر): "تحكم".(3/132)
تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ *} (1).
ويحتمل (ألا) (2) يَكُونُوا خَارِجِينَ عَنِ الْإِسْلَامِ جُمْلَةً، وَإِنْ كَانُوا قَدْ خَرَجُوا عَنْ جُمْلَةٍ مِنْ شَرَائِعِهِ وَأُصُولِهِ.
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ جَمِيعُ مَا تَقَدَّمَ فِيمَا قَبْلَ هَذَا الْفَصْلِ، فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ، وَيَحْتَمِلُ وَجْهًا ثَالِثًا، وَهُوَ أَنْ (يَكُونَ مِنْهُمْ من) (3) فارق الإسلام (لكون) (4) مقالته (كفراً) (5) (أو) (6) تؤدي معنى الكفر (الصراح) (7)، وَمِنْهُمْ مَنْ (لَمْ) (8) يُفَارِقْهُ، بَلِ انْسَحَبَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْإِسْلَامِ وَإِنْ عَظُمَ مَقَالُهُ وَشُنِّعَ مَذْهَبُهُ، لَكِنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ بِهِ مَبْلَغَ الْخُرُوجِ إِلَى الْكُفْرِ الْمَحْضِ وَالتَّبْدِيلِ/ الصَّرِيحِ.
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الدَّلِيلُ بِحَسْبِ كُلِّ نَازِلَةٍ، وَبِحَسْبِ كُلِّ بِدْعَةٍ، إِذْ لَا (شَكَّ) (9) فِي أَنَّ الْبِدَعَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا مَا هُوَ كُفْرٌ كَاتِّخَاذِ الْأَصْنَامِ لِتُقَرِّبَهُمْ إِلَى/ اللَّهِ زُلْفَى، وَمِنْهَا مَا لَيْسَ بِكُفْرٍ كَالْقَوْلِ بِالْجِهَةِ (10) عِنْدَ جَمَاعَةٍ، وَإِنْكَارِ (الإجماع وإنكار) (11) القياس (12) / وما أشبه ذلك.
_________
(1) سورة الأنعام: الآية (159).
(2) ما بين القوسين ساقط من (م) و (خ) و (ت)، وفي (ط): "أن ألا".
(3) في (ط) و (خ) و (ت): "يكونوا هم ممن". وفي (م): "يكونوا هم من".
(4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "لكن".
(5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "كفر".
(6) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "و".
(7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الصريح".
(8) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "لا".
(9) في (غ) و (ر): "يشك".
(10) لفظ الجهة من الألفاظ المجملة، فيقال لمن قال: إن الله في جهة، أتريد بذلك أن الله عز وجل فوق العالم، أو تريد به أن الله داخل في شيء من المخلوقات. فإن أراد الأول فهو حق، وإن أراد الثاني فهو باطل. انظر: التدمرية (ص65 ـ 67).
(11) ساقط من (غ) و (ر).
(12) الذين أنكروا الإجماع هم: الشيعة والخوارج والنظَّام من المعتزلة. انظر: نشر البنود=(3/133)
ولقد فصل بعض (متأخري الأصوليين) (1) فِي التَّكْفِيرِ تَفْصِيلًا فِي هَذِهِ الْفِرَقِ، فَقَالَ: مَا كَانَ مِنَ الْبِدَعِ رَاجِعًا إِلَى اعْتِقَادِ وجود إله مع الله، كقول السبائية (2) في علي رضي الله عنه: إنه (الإله) (3)، أو (حلول) (4) الْإِلَهِ فِي بَعْضِ أَشْخَاصِ النَّاسِ كَقَوْلِ (الْجَنَاحِيَّةِ) (5): إن (الإله تبارك وتعالى) (6) لَهُ رُوحٌ يَحُلُّ فِي بَعْضِ بَنِي آدَمَ وَيَتَوَارَثُ، أَوْ (إِنْكَارِ رِسَالَةِ) (7) /مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَقَوْلِ الْغُرَابِيَّةِ (8): إِنَّ جِبْرِيلَ غَلِطَ فِي الرِّسَالَةِ فَأَدَّاهَا إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم وعلي
_________
=لعبد الله الشنقيطي (2 101 ـ 102)، ومذكرة أصول الفقه للشنقيطي (ص151).
وأما إنكار القياس، فأول من أنكره إبراهيم بن سيار النظام المعتزلي، وتبعه على ذلك جعفر بن حرب، وجعفر بن مبشر، ومحمد بن عبد الله الإسكافي، وأنكره كذلك ابن حزم الظاهري، وأما داود الظاهري فهو لا ينكر القياس الجلي، وإنما ينكر القياس الخفي، انظر: جامع بيان العلم (2 77 ـ 78)، ورسالة: الإمام داود الظاهري وأثره في الفقه الإسلامي. لعارف أبو عيد (ص139 ـ 141).
(1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "المتأخرين".
(2) في (م) و (خ): "الينانية". وفي (ت): "الإمامية". والسبئية هم: أتباع عبد الله بن سبأ اليهودي، الذي غلا في علي رضي الله عنه، وادعى أن علياً كان نبياً ثم زعم أنه إله، وقال له: أنت أنت. يعني أنت الإله. وزعم أن علياً لم يمت وأنه يجيء في السحاب والرعد صوته، والبرق تبسمه، وأنه سيرجع إلى الأرض فيملؤها عدلاً كما ملئت جوراً. وهم أول فرقة قالت بالغيبة والرجعة، وبتناسخ الجزء الإلهي في الأئمة بعد علي رضي الله عنه. انظر: الفرق بين الفرق (ص233)، ومقالات الإسلاميين (ص15)، والملل والنحل (1 174).
(3) في (ط) و (خ): "إله".
(4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "خلق".
(5) في (م) و (خ) و (ت): "الحماحمة". والصواب الجناحية: وهم أصحاب عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر ذي الجناحين، من غلاة فرق الشيعة، يزعمون أن عبد الله بن معاوية كان يدعي أن العلم ينبت في قلبه كما تنبت الكمأة والعشب، وقالوا بالتناسخ، وهم يكفرون بالقيامة، ويستحلون المحارم. انظر: مقالات الإسلاميين (ص6)، والفرق بين الفرق (ص235 ـ 236).
(6) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الله تعالى".
(7) في (غ) و (ر): "إنكاراً لرسالة".
(8) الغرابية: هم القائلون بأن محمداً صلّى الله عليه وسلّم أشبه الناس بعلي من الغراب بالغراب، وهذه سبب تسميتهم بالغرابية، وأن جبريل بعث بالرسالة إلى علي فأخطأ بها إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم، ثم افترقت عدة فرق بعد ذلك. انظر: البرهان للسكسكي (ص71 ـ 72).(3/134)
كان صاحبها، أو استباحة (شيء من) (1) الْمُحَرَّمَاتِ وَإِسْقَاطِ الْوَاجِبَاتِ، وَإِنْكَارِ مَا جَاءَ بِهِ الرسول كأكثر الغلاة من/ الشيعة (2)، (فمما) (3) لَا يَخْتَلِفُ الْمُسْلِمُونَ فِي التَّكْفِيرِ بِهِ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْمَقَالَاتِ فَلَا يَبْعَدُ أَنْ يكون معتقدها (مبتدعاً) / غَيْرَ كَافِرٍ.
وَاسْتُدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ لَا حَاجَةَ إِلَى إِيرَادِهَا، وَلَكِنَّ الَّذِي كُنَّا نَسْمَعُهُ مِنَ الشُّيُوخِ أَنَّ (مَذْهَبَ) (4) الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ: أَنَّ الْكُفْرَ بِالْمَآلِ لَيْسَ بِكُفْرٍ فِي الْحَالِ (5). كَيْفَ (وَالْكَافِرُ) (6) يُنْكِرُ ذَلِكَ الْمَآلَ أشد الإنكار ويرمي مخالفه به، (فلو) (7) تَبَيَّنَ لَهُ وَجْهُ (لُزُومِ) (8) الْكُفْرِ مِنْ مَقَالَتِهِ لَمْ يَقُلْ بِهَا عَلَى حَالٍ.
/وَإِذَا تَقَرَّرَ نَقْلُ الْخِلَافِ فَلْنَرْجِعْ إِلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْحَدِيثُ الذي نحن (بصدد شرحه) (9) مِنْ هَذِهِ (الْمَقَالَاتِ) (10).
أَمَّا مَا صَحَّ مِنْهُ فلا دليل (فيه) (11) عَلَى شَيْءٍ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا تَعْدِيدُ الفرق خاصة. وَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ مَنْ قَالَ فِي حَدِيثِهِ: (كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً) (12)، فَإِنَّمَا يَقْتَضِي إِنْفَاذَ الْوَعِيدِ ظَاهِرًا، وَيَبْقَى الْخُلُودُ وَعَدَمُهُ مَسْكُوتًا
_________
(1) زيادة من (غ) و (ر).
(2) غلاة الشيعة: هم الذين غلوا في حق أئمتهم حتى أخرجوهم من حدود الخليقية، وحكموا فيهم بأحكام الإلهية، وأخذوا شبههم من اليهود والنصارى والتناسخية والحلولية، وبدع الفرق الغالية تنحصر في أربع: التشبيه، والبداء، والرجعة، والتناسخ. وعدها الشهرستاني أحد عشر فرقة، أشهرها: السبئية، والمغيرية، والمنصورية والخطابية، والنعمانية. انظر: الملل والنحل (1 173 ـ 190)، والفرق بين الفرق (53 ـ 71)، ودراسات عن الفرق للدكتور أحمد جلي (ص163 ـ 177).
(3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "مما".
(4) زيادة من (م) و (غ) و (ر).
(5) في (غ) و (ر): "مذاهب".
(6) انظر حاشية رقم (4) (ص115).
(7) في (م): "والكفر"، و (غ) و (ر): "المكفر".
(8) زيادة من (م) و (خ) و (غ) و (ر).
(9) ما بين القوسين ساقط من (ت).
(10) في (ط) و (خ): "بصدده".
(11) في (غ) و (ر): "المقالات الثلاث".
(12) زيادة من (غ) و (ر).
(13) تقدم تخريجه (3/ 122).(3/135)
عَنْهُ، فَلَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا أَرَدْنَا، إِذِ الْوَعِيدُ بِالنَّارِ قَدْ يَتَعَلَّقُ بِعُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ (كَمَا) (1) يَتَعَلَّقُ بِالْكُفَّارِ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَإِنْ تباينا في التخليد وعدمه.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ:
إِنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ الْمَذْكُورَةَ آنِفًا مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الْفِرَقَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْحَدِيثِ هِيَ الْمُبْتَدِعَةُ فِي قَوَاعِدِ الْعَقَائِدِ عَلَى الْخُصُوصِ، كَالْجَبْرِيَّةِ (2) وَالْقَدَرِيَّةِ (3) وَالْمُرْجِئَةِ (4) وَغَيْرِهَا وَهُوَ مِمَّا يُنْظَرُ فِيهِ، فَإِنَّ إِشَارَةَ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْخُصُوصِ، وَهُوَ رَأْيُ الطَّرْطُوشِيِّ (5)، أَفَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} (6)، و (ما) في قوله تعالى: {مَا تَشَابَهَ}، لَا تُعْطِي/ خُصُوصًا فِي اتِّبَاعِ الْمُتَشَابِهِ لَا فِي قَوَاعِدِ الْعَقَائِدِ، وَلَا فِي (غَيْرِهَا) (7)، بَلِ الصِّيغَةُ تَشْمَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ، فَالتَّخْصِيصُ تحكُّم.
وَكَذَلِكَ قوله/ تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (8)، فجعل ذلك (التفرق) (9) فِي الدِّينِ وَلَفْظُ الدِّينِ، يَشْمَلُ الْعَقَائِدَ وَغَيْرَهَا، وَقَوْلُهُ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (10)، فالصراط المستقيم هو الشريعة على العموم، (وبيانه) (11) مَا تَقَدَّمَ فِي السُّورَةِ مِنْ تَحْرِيمِ مَا ذُبِحَ لِغَيْرِ اللَّهِ وَتَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَغَيْرِهِ، وَإِيجَابِ الزَّكَاةِ/ كُلُّ ذَلِكَ عَلَى أبدع نظم وأحسن سياق.
_________
(1) في (م): "بما".
(2) الجبرية: انظر ملحق الفرق رقم (88).
(3) تقدم تعريفهم (ص1/ 14).
(4) المرجئة: انظر ملحق الفرق رقم (78).
(5) ذكر الطرطوشي رأيه هذا في أكثر من موضعٍ في كتابه الحوادث والبدع، حيث ذكر كثيراً من البدع العملية، والتي لا تختص بالعقائد.
(6) سورة آل عمران: الآية (7).
(7) في (غ) و (ر): "غيره".
(8) سورة الأنعام: الآية (159).
(9) في (ط) و (خ) و (غ) و (ر): "التفريق".
(10) سورة الأنعام: الآية (153).
(11) في (ط) و (م) و (خ): "وشبه". وفي (غ) و (ر): "وبينة".(3/136)
/ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} (1)، فَذَكَرَ (أَشْيَاءَ مِنَ) (2) الْقَوَاعِدِ وَغَيْرِهَا، فَابْتَدَأَ بِالنَّهْيِ عن الإشراك، ثُمَّ الْأَمْرِ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، ثُمَّ النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ الْأَوْلَادِ، ثُمَّ عَنِ الْفَوَاحِشِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، ثُمَّ عَنْ قَتْلِ النَّفْسِ بِإِطْلَاقٍ، ثُمَّ عَنْ أَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ، ثُمَّ الْأَمْرِ بِتَوْفِيَةِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ، ثُمَّ الْعَدْلِ فِي الْقَوْلِ، ثُمَّ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ.
ثُمَّ خَتَمَ ذَلِكَ (بِقَوْلِهِ) (3): {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا/ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (4)، فَأَشَارَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ/ وَقَوَاعِدِهَا الضَّرُورِيَّةِ، وَلَمْ يَخُصَّ ذَلِكَ بِالْعَقَائِدِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ إِشَارَةَ الْحَدِيثِ لَا تَخْتَصُّ بِهَا دُونَ غَيْرِهَا.
وَفِي حَدِيثِ الْخَوَارِجِ مَا يَدُلُّ (عَلَيْهِ) (5) أَيْضًا فَإِنَّهُ ذَمَّهُمْ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ أَعْمَالَهُمْ، وَقَالَ فِي جُمْلَةِ مَا ذَمَّهُمْ به: (يقرأون الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ) (6)، فَذَمَّهُمْ بِتَرْكِ التَّدَبُّرِ وَالْأَخْذِ بِظَوَاهِرِ الْمُتَشَابِهَاتِ، كَمَا قَالُوا: حكَّم (الرِّجَالَ) (7) فِي دِينِ اللَّهِ، وَاللَّهُ يَقُولُ: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} (8).
وقال أيضاً: (يقتلون أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ)، فَذَمَّهُمْ بِعَكْسِ مَا عَلَيْهِ الشَّرْعُ، لِأَنَّ الشَّرِيعَةَ جَاءَتْ بِقَتْلِ الْكُفَّارِ وَالْكَفِّ عَنِ الْمُسْلِمِينَ/ وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ غَيْرُ مَخْصُوصٍ بِالْعَقَائِدِ.
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى العموم لا على الخصوص، (وجاء) (9) فِيمَا رَوَاهُ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: (أَعْظَمُهَا فِتْنَةً الَّذِينَ (يَقِيسُونَ) (10) الْأُمُورَ بِرَأْيِهِمْ فَيُحِلُّونَ الْحَرَامَ وَيُحَرِّمُونَ الْحَلَالَ) (11)، وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ ذَلِكَ الْعَدَدَ لَا يَخْتَصُّ بِمَا قَالُوا من العقائد.
_________
(1) سورة الأنعام: الآية (151).
(2) في (غ) و (ر): "أشياء جملة من".
(3) ساقط من (م).
(4) سورة الأنعام: الآية (153).
(5) ساقط من (غ) و (ر).
(6) تقدم تخريجه (3/ 114).
(7) ساقط من (م) و (خ) و (غ) و (ر).
(8) سورة يوسف: الآية (40).
(9) زيادة من (غ) و (ر).
(10) في (م) و (خ): "ينسبون".
(11) تقدم تخريجه (3/ 123).(3/137)
وَاسْتَدَلَّ الطَّرْطُوشِيُّ عَلَى أَنَّ الْبِدَعَ لَا تَخْتَصُّ بالعقائد بما جاء عن الصحابة والتابعين وسائر الْعُلَمَاءُ مِنْ تَسْمِيَتِهِمُ الْأَقْوَالَ وَالْأَفْعَالَ بِدَعًا إِذَا خَالَفَتِ الشَّرِيعَةَ،/ ثُمَّ أَتَى بِآثَارٍ كَثِيرَةٍ كَالَّذِي رواه مالك عن عمه أبي/ سهيل (بن مالك) (1) عَنْ أَبِيهِ (2) أَنَّهُ قَالَ: مَا أَعْرِفُ شَيْئًا مِمَّا أَدْرَكْتُ عَلَيْهِ النَّاسَ إِلَّا النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ (3). يعني بالناس الصحابة رضي الله عنهم، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَنْكَرَ أَكْثَرَ أَفْعَالِ عَصْرِهِ، وَرَآهَا مخالفة لأفعال الصحابة رضي الله عنهم.
وَكَذَلِكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ (سَأَلَهُ) (4) رَجُلٌ فَقَالَ: رَحِمَكَ اللَّهُ لَوْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا هَلْ/ يُنْكِرُ شَيْئًا مِمَّا نَحْنُ عَلَيْهِ؟ فَغَضِبَ وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ، ثُمَّ قال: وهل (كان) (5) يَعْرِفُ شَيْئًا مِمَّا أَنْتُمْ عَلَيْهِ؟ (6).
وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ (7) قَالَتْ: دَخَلَ أَبُو الدَّرْدَاءِ مُغْضَبًا، فَقُلْتُ لَهُ: مَا لَكَ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَعْرِفُ (مِنْهُمْ مِنْ) (8) أَمْرِ مُحَمَّدٍ إِلَّا أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ جَمِيعًا (9). وَذَكَرَ جُمْلَةً مِنْ أَقَاوِيلِهِمْ فِي هَذَا الْمَعْنَى مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُخَالَفَةَ السُّنَّةِ فِي الْأَفْعَالِ قَدْ ظَهَرَتْ.
وَفِي مُسْلِمٍ قَالَ مُجَاهِدٌ (10): دَخَلْتُ أَنَا وَعُرْوَةُ بْنُ الزبير (11) المسجد
_________
(1) زيادة من (غ) و (ر).
(2) أبو سهيل اسمه: نافع بن مالك بن أبي عامر الأصبحي المدني.
وأما أبوه فهو: مالك بن أبي عامر الأصبحي جد الإمام مالك بن أنس، تقدمت ترجمتهما (1 23).
(3) تقدم تخريجه (1 23).
(4) في (م): "سأل".
(5) زيادة من (غ) و (ر).
(6) ذكره الطرطوشي في الحوادث والبدع (ص112).
(7) أم الدرداء: واسمها هجيمة، وقيل جهيمة الأوصابية الحميرية الدمشقية، تقدمت ترجمتها (1 21).
(8) في (غ) و (ر): "فيهم شيئاً من".
(9) تقدم تخريجه (1 21).
(10) هو: مجاهد بن جبر مولى السائب بن أبي السائب المخزومي، تقدمت ترجمته (1 83).
(11) هو عروة بن الزبير بن العوام بن خويلد الأسدي، أحد الفقهاء السبعة، ولد سنة 23هـ، واختلف في وفاته فقيل سنة 93، وقيل 94، وقيل 95هـ. انظر: طبقات ابن سعد (5 178)، والحلية (2 176)، والسير (4 421)، وتهذيب التهذيب (7 180)، وغير ذلك.(3/138)
فَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ (مُسْتَنِدٌ) (1) إِلَى حجرة عائشة رضي الله عنها، وَإِذَا (نَاسٌ) (2) فِي الْمَسْجِدِ يُصَلُّونَ الضُّحَى، فَقُلْنَا: مَا هَذِهِ الصَّلَاةُ؟ فَقَالَ: بِدْعَةٌ (3).
قَالَ الطَّرْطُوشِيُّ: (محمله عندنا) (4) على أحد وجهين: إما (إنهم) (5) (كانوا) (6) يُصَلُّونَهَا جَمَاعَةً، (وَإِمَّا أَفْذَاذًا) (7) عَلَى هَيْئَةِ النَّوَافِلِ فِي أَعْقَابِ الْفَرَائِضِ (8).
وَذَكَرَ أَشْيَاءَ مِنَ الْبِدَعِ القولية (والفعلية) (9) مِمَّا نَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى/ أَنَّهَا بِدَعٌ، فصحَّ أَنَّ الْبِدَعَ لَا تَخْتَصُّ بِالْعَقَائِدِ (10)، وَقَدْ تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ الْمُوَافَقَاتِ (11) بِنَوْعٍ آخَرَ من التقرير.
نَعَمْ ثَمَّ مَعْنًى آخَرُ يَنْبَغِي أَنْ يُذْكَرَ هنا، وهي:
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ:
وَذَلِكَ/ أَنَّ هَذِهِ الْفِرَقَ إِنَّمَا تَصِيرُ فِرَقًا بِخِلَافِهَا لِلْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ فِي مَعْنًى كُلِّيٍّ فِي الدِّينِ وَقَاعِدَةٍ مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ، لَا فِي جُزْئِيٍّ مِنَ الْجُزْئِيَّاتِ، إِذِ الْجُزْئِيُّ وَالْفَرْعُ الشَّاذُّ لَا يَنْشَأُ عَنْهُ مُخَالَفَةٌ يَقَعُ بِسَبَبِهَا التَّفَرُّقُ شِيَعًا، وَإِنَّمَا يَنْشَأُ التَّفَرُّقُ عِنْدَ/ وُقُوعِ الْمُخَالَفَةِ فِي الْأُمُورِ الْكُلِّيَّةِ، لِأَنَّ (الْكُلِّيَّاتِ) (12)
_________
(1) في (غ) و (ر): "مسند".
(2) في (غ) و (ر): "الناس".
(3) أخرجه البخاري (1775، 4253)، ومسلم (1255)، وأحمد في المسند (2 128، 155)، وإسحاق بن راهويه في مسنده (1187)، وابن خزيمة في صحيحه (3070)، وابن حبان في صحيحه (3945)، والبيهقي في السنن الكبرى (8618)، وبنحوه مختصراً أخرجه ابن الجعد في مسنده (2136)، والطبراني في الكبير (13524، 13563).
(4) في (ط): فحمله عندنا.
(5) في (غ) و (ر): لأنهم.
(6) زيادة من (م) و (غ) و (ر)، وهي كذلك في الحوادث والبدع ص118.
(7) في كتاب الحوادث والبدع: (وإما أنهم كانوا يصلونها معاً أفراداً).
(8) انظر: الحوادث والبدع (ص118).
(9) زيادة من (غ) و (ر).
(10) ذكر شيخ الإسلام رحمه الله تعالى أن البدع نوعان: نوع في الأقوال والاعتقادات، ونوع في الأفعال والعبادات. انظر: الفتاوى (20 195) و (22 306).
(11) انظر: الموافقات (2 234 ـ 238).
(12) في (م) و (غ) و (ر): "الكلية".(3/139)
(تضم) (1) من الجزئيات غير قليل، (وشأنها) (2) في الغالب أن لا (تختص) (3) بِمَحَلٍّ دُونَ (مَحَلٍّ) (4)، وَلَا بِبَابٍ دُونَ بَابٍ.
وَاعْتُبِرَ ذَلِكَ بِمَسْأَلَةِ التَّحْسِينِ الْعَقْلِيِّ، فَإِنَّ الْمُخَالَفَةَ فيها أنشأت بين المخالفين خلافاً في (الفروع) (5) لَا تَنْحَصِرُ، مَا بَيْنَ فُرُوعِ عَقَائِدَ وَفُرُوعِ أَعْمَالٍ.
وَيَجْرِي مَجْرَى الْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ كَثْرَةُ الْجُزْئِيَّاتِ، فَإِنَّ الْمُبْتَدِعَ إِذَا (أَكْثَرَ) (6) مِنْ إِنْشَاءِ الْفُرُوعِ الْمُخْتَرَعَةِ عَادَ ذَلِكَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الشَّرِيعَةِ بِالْمُعَارَضَةِ، كَمَا تَصِيرُ الْقَاعِدَةُ الْكُلِّيَّةُ مُعَارَضَةً أَيْضًا،/ وَأَمَّا الْجُزْئِيُّ فَبِخِلَافِ ذَلِكَ، بَلْ يُعَدُّ (وُقُوعُ) (7) ذَلِكَ مِنَ الْمُبْتَدِعِ لَهُ كَالزَّلَّةِ وَالْفَلْتَةِ، وَإِنْ كَانَتْ زَلَّةُ الْعَالِمِ مِمَّا يَهْدِمُ الدِّينَ، حَيْثُ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ/ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ثلاث (يهدمن) (8) الدين: زلة عالم، وَجِدَالُ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ، وَأَئِمَّةٌ مُضِلُّونَ (9).
وَلَكِنْ إِذَا قَرُبَ مُوقِعُ الزَّلَّةِ لَمْ يَحْصُلْ بِسَبَبِهَا تَفَرُّقٌ فِي الْغَالِبِ/ وَلَا هَدْمٌ لِلدِّينِ، بِخِلَافِ الْكُلِّيَّاتِ.
فَأَنْتَ تَرَى (مُوقِعُ) (10) اتِّبَاعِ الْمُتَشَابِهَاتِ كَيْفَ هُوَ في الدين إذا كان (اتباعها) (11) مُخِلًّا بِالْوَاضِحَاتِ ـ وَهِيَ أُمُّ الْكِتَابِ ـ وَكَذَلِكَ عَدَمُ تَفَهُّمِ الْقُرْآنِ مُوقِعٌ فِي الْإِخْلَالِ بِكُلِّيَّاتِهِ وَجُزْئِيَّاتِهِ (معاً) (12).
_________
(1) في (ت): "بياض بمقدار كلمة". وفي (ط) و (م) و (خ): "نص".
(2) في (ط) و (خ) و (ت): "وشاذها".
(3) في (ط) و (ت): "يختص".
(4) ساقطة من (م).
(5) في (غ) و (ر): "فروع".
(6) في (ر): "كثَّر".
(7) في (ت): "بياض بمقدار كلمة".
(8) في (م): "يهدم من". وفي (خ) و (ب): "تهدم من".
(9) أخرجه ابن المبارك في الزهد (1475)، والدارمي في السنن (214)، والفريابي في صفة المنافق (29 ـ 31)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (1867 و1869 و1870)، وأبو نعيم في الحلية (4 196)، والخطيب في الفقيه والمتفقه (1 234)، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (1 89).
(10) في (غ) و (ر): "موضع".
(11) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "اتباعاً".
(12) زيادة من (غ).(3/140)
/وَقَدْ ثَبَتَ أَيْضًا لِلْكُفَّارِ بِدَعٌ فَرْعِيَّةٌ، وَلَكِنَّهَا فِي الضَّرُورِيَّاتِ وَمَا (قَارَبَهَا) (1)، كَجَعْلِهِمْ لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا، وَلِشُرَكَائِهِمْ نَصِيبًا، ثُمَّ فرَّعوا عَلَيْهِ أَنَّ مَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ، وَمَا كَانَ لِلَّهِ وَصَلَ إِلَى شُرَكَائِهِمْ، وَتَحْرِيمِهِمُ البَحيرة وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ والحامي (2)، وَقَتْلِهِمْ أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَتَرْكِ/ الْعَدْلِ فِي الْقِصَاصِ وَالْمِيرَاثِ، وَالْحَيْفِ فِي النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ، وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ عَلَى نَوْعٍ مِنَ الْحِيَلِ، إِلَى أَشْبَاهِ ذَلِكَ مِمَّا نَبَّهَ عَلَيْهِ الشَّرْعُ وَذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ، حَتَّى صَارَ التَّشْرِيعُ دَيْدَنًا لَهُمْ، وَتَغْيِيرُ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَهْلًا عَلَيْهِمْ، فَأَنْشَأَ ذَلِكَ أَصْلًا مُضَافًا إِلَيْهِمْ وَقَاعِدَةً رَضُوا بها، وهي التشريع المطلق (بالهوى) (3)، ولذلك لما نبههم الله تعالى على (قيام) (4) الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ} (5)، قَالَ فِيهَا: {نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (6)، فَطَالَبَهُمْ بِالْعِلْمِ الَّذِي شَأْنُهُ أَنْ لَا يُشَرِّعَ إِلَّا حَقًّا، وَهُوَ عِلْمُ الشَّرِيعَةِ لَا غَيْرُهُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا} (7)، تَنْبِيهًا (لَهُمْ) (8) عَلَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِمَّا شَرَعَهُ فِي مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، (ثُمَّ) (9) قَالَ:/ {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ} (10)، (فثبت) (11) أن هذه الفرق إنما افترقت (بسبب) (12) أمور كلية اختلفوا فيها، والله أعلم.
_________
(1) في (م) و (ت): "درابها". وفي (غ) و (ر): "داربها".
(2) البحيرة: هي التي يمنع درها للطواغيت، فلا يحلبها أحد من الناس. والسائبة: هي التي يسيِّبونها لآلهتهم لا يحمل عليها شيء. والوصيلة: الناقة البكر تبكر في أول نتاج الإبل ثم تثني بعد بأنثى، وكانوا يسيبونها لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينهما ذكر. والحام: فحل الإبل يضرب الضراب المعدود فإذا قضى ضرابه تركوه للطواغيت، ولا يحملون عليه شيء، وسموه الحامي. انظر: تفسير ابن كثير (2 108).
(3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "لا الهوى".
(4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "إقامة".
(5) سورة الأنعام: الآية (144).
(6) سورة الأنعام: الآية (143).
(7) سورة الأنعام: الآية (144).
(8) ساقط من (غ) و (ر).
(9) ساقطة من (م) و (خ).
(10) سورة الأنعام: الآية (144).
(11) في (غ) و (ر): "فظهر".
(12) في (ط) و (خ) و (ت): "بحسب".(3/141)
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ:
إِنَّا إِذَا قُلْنَا بِأَنَّ هَذِهِ الفرق (كلها) (1) كُفَّارٌ ـ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ بِهِ ـ أَوْ يَنْقَسِمُونَ إِلَى كَافِرٍ وَغَيْرِهِ فَكَيْفَ يُعَدُّونَ مِنَ الْأُمَّةِ؟ وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ الِافْتِرَاقَ إِنَّمَا هُوَ مَعَ كَوْنِهِمْ مِنَ الْأُمَّةِ، وَإِلَّا فَلَوْ خَرَجُوا مِنَ الْأُمَّةِ/ إِلَى الْكُفْرِ لَمْ يُعَدُّوا مِنْهَا أَلْبَتَّةَ ـ كَمَا تَبَيَّنَ ـ وَكَذَلِكَ الظَّاهِرُ فِي فِرَقِ الْيَهُودِ/ وَالنَّصَارَى، أَنَّ التَّفَرُّقَ فِيهِمْ حَاصِلٌ مَعَ كَوْنِهِمْ هُودًا وَنَصَارَى؟
فَيُقَالُ فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ: إِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ:
أحدهما: (أن) (2) نَأْخُذُ الْحَدِيثَ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي كَوْنِ هَذِهِ الْفِرَقِ مِنَ الْأُمَّةِ، وَمِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، وَمَنْ قيل بكفره منهم، فإما أن (نسلم) (3) فيهم هذا القول فلا (نجعلهم) (4) مِنَ الْأُمَّةِ أَصْلًا وَلَا أَنَّهُمْ/ مِمَّا يُعَدُّونَ في الفرق، وإنما نعد منهم من (لم) (5) تُخْرِجُهُ بِدَعَتُهُ إِلَى كُفْرٍ، فَإِنْ قَالَ بِتَكْفِيرِهِمْ جميعاً، فلا (نسلم) (6) أَنَّهُمُ (الْمُرَادُونَ) (7) بِالْحَدِيثِ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ الْخَوَارِجِ نَصٌّ عَلَى أَنَّهُمْ مِنَ الْفِرَقِ (الدَّاخِلَةِ) (8) فِي الْحَدِيثِ، بَلْ نَقُولُ: الْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ فِرَقٌ لَا تُخْرِجُهُمْ بِدَعُهُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ، فَلْيُبْحَثْ عَنْهُمْ.
وَإِمَّا أَنْ (لَا نَتَّبِعَ) (9) الْمُكَفِّرَ فِي إِطْلَاقِ الْقَوْلِ بِالتَّكْفِيرِ، وَنُفَصِّلَ الْأَمْرَ إِلَى نحو مما فصله صاحب القول الثالث (ونخرج) (10) مِنَ الْعَدَدِ مِنْ حَكَمْنَا بِكُفْرِهِ، وَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ عُمُومِهِ إِلَّا مَا سَوَّاهُ مَعَ غَيْرِهِ ممن لم (يذكر) (11) في تلك العدة.
_________
(1) زيادة من (غ) و (ر).
(2) في (ط): "أنا".
(3) في (ط) و (م) و (خ): "يسلم".
(4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "يجعلهم".
(5) ساقطة من (م). وفي (ط) و (خ) و (ت): "لا".
(6) في (ط) و (م) و (خ): "يسلم".
(7) في (م): "المرودون".
(8) في (غ) و (ر): "الداخلين".
(9) في (م): "اتباع". وفي (غ) و (ر): "ننازع".
(10) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "ويخرج".
(11) في (غ) و (ر): "نذكر".(3/142)
وَالِاحْتِمَالُ الثَّانِي: أَنْ نَعُدَّهُمْ مِنَ الْأُمَّةِ عَلَى (طريقة) (1) لعلها تتمشى في الموضع، وذلك أن كل فرقة (من الفرق) (2) (تدعي) (3) الشريعة، (وأنها) (4) على صوبها وأنها (المتبعة لَهَا) (5) وَتَتَمَسَّكُ بِأَدِلَّتِهَا، وَتَعْمَلُ عَلَى مَا ظَهَرَ لها من (طريقها) (6)، و (هي) (7) تناصب العداوة من (نسبها) (8) إِلَى الْخُرُوجِ عَنْهَا، وَتُرْمَى بِالْجَهْلِ وَعَدَمِ الْعِلْمِ مِنْ نَاقِضِهَا، لِأَنَّهَا تَدَّعِي أَنَّ مَا ذَهَبَتْ إِلَيْهِ هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ دُونَ غَيْرِهِ، وَبِذَلِكَ يُخَالِفُونَ مَنْ خَرَجَ عَنِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ إِذَا نَسَبْتَهُ إِلَى الِارْتِدَادِ أقرَّ بهِ وَرَضِيَهُ ولم يسخطه، ولم يعادك (لِتِلْكَ) (9) (النِّسْبَةِ) (10)، كَسَائِرِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَأَرْبَابِ النِّحَلِ الْمُخَالِفَةِ لِلْإِسْلَامِ.
بِخِلَافِ هَؤُلَاءِ الْفِرَقِ فَإِنَّهُمْ مدَّعون// (المؤالفة) (11) للشارع والرسوخ في اتباع شريعة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّمَا وَقَعَتِ الْعَدَاوَةُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ بِسَبَبِ ادِّعَاءِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ الْخُرُوجَ عَنِ السُّنَّةِ، وَلِذَلِكَ تَجِدُهُمْ مبالغين في العمل والعبادة، حتى (قال بعض الناس) (12): أَشَدِّ النَّاسِ عِبَادَةً مَفتون.
وَالشَّاهِدُ لِهَذَا كُلِّهِ ـ مَعَ اعْتِبَارِ الْوَاقِعِ ـ حَدِيثُ الْخَوَارِجِ،/ فَإِنَّهُ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "تُحَقِّرُونَ صَلَاتَكُمْ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَكُمْ/ مَعَ صِيَامِهِمْ، وَأَعْمَالَكُمْ/ مَعَ أَعْمَالِهِمْ" (13)،/ وَفِي رواية: (يخرج من أمتي قوم يقرأون القرآن، ليس قِرَاءَتُكُمْ مِنْ قِرَاءَتِهِمْ بِشَيْءٍ وَلَا صَلَاتُكُمْ (مِنْ) (14) صلاتهم بشيء، (ولا صيامكم (من) (15) صيامهم بشيء) (16)، وهذه شدة
_________
(1) في (غ) و (ر): "طريقتهم".
(2) زيادة من (غ).
(3) في (غ) و (ر): "تعدى".
(4) في (غ) و (ر): "أنها".
(5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "المتبعة للمتبعة لها".
(6) في (غ) و (ر): "طريقها".
(7) ساقط من (غ) و (ر).
(8) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "نسبتها".
(9) في (غ) و (ر): "لأجل تلك".
(10) في (خ): "الشبه".
(11) في (م) و (غ) و (ر): "للموافقة".
(12) في (ت): "بياض بمقدار كلمة". وفي (ط) و (خ): "بعض". وفي (م): "بعض الناس".
(13) تقدم تخريجه ص114.
(14) في (غ) و (ر): "إلى".
(15) في (غ) و (ر): "إلى".
(16) ما بين القوسين زيادة من (م) (غ) و (ر).(3/143)
الْمُثَابَرَةِ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ كَيْفَ يُحَكِّمُ الرِّجَالَ وَاللَّهُ يَقُولُ: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} (1)، فَفِي ظَنِّهِمْ أَنَّ الرِّجَالَ لَا يُحَكَّمُونَ بِهَذَا الدَّلِيلِ، ثُمَّ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُ لَهُمْ وَهُوَ عَلَيْهِمْ لَا تجاوز (صلاتهم) (2) تراقيهم) (3).
فقوله صلّى الله عليه وسلّم: "يحسبون أنه لهم" واضح فيما قلنا، (من) (4) إِنَّهُمْ يَطْلُبُونَ اتِّبَاعَهُ بِتِلْكَ الْأَعْمَالِ لِيَكُونُوا مِنْ أهله، وليكون حجة (لهم) (5)، فحين (حرَّفوا) (6) تأويله وخرجوا عن الجادة (فيه) (7) كَانَ عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ.
وَفِي مَعْنَى ذَلِكَ من قول ابن مسعود رضي الله عنه قَالَ: (وَسَتَجِدُونَ أَقْوَامًا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَدْعُونَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَقَدْ نَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، عَلَيْكُمْ بالعلم وإياكم (والتبدع) (8) والتعمق، وعليكم بِالْعَتِيقِ) (9)، فَقَوْلُهُ: يَزْعُمُونَ كَذَا، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ عَلَى الشَّرْعِ فِيمَا يَزْعُمُونَ.
وَمِنَ الشَّوَاهِدِ أَيْضًا حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إِلَى الْمَقْبَرَةِ فَقَالَ: (السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ، وَدِدْتُ أَنِّي قَدْ رَأَيْتُ إِخْوَانَنَا ـ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ/ أَلَسْنَا (إِخْوَانَكَ) (10)؟ / قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ أَصْحَابِي وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ، وَأَنَا
_________
(1) سورة يوسف: الآية (40).
(2) في (ت): "بياض بمقدار كلمة".
(3) تقدم تخريجه (3/ 114).
(4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "ثم".
(5) ساقط من (م).
(6) في (ط) و (خ): "سرفوا". وفي (غ) و (ر): "تحرفوا".
(7) زيادة من (م) و (خ) و (غ) و (ر).
(8) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "والبدع".
(9) أخرجه معمر بن راشد في جامعه (20465)، والدارمي في سننه (142 و143)، وابن وضاح في البدع والنهي عنها (25)، وابن نصر في السنة (85)، والطبراني في الكبير (8845)، والخطيب في الفقيه والمتفقه (1 43)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (2363)، واللالكائي (108)، كلهم من طريق أبي قلابة عن ابن مسعود، وهو منقطع. وأخرجه البيهقي في المدخل (388)، بسند صحيح متصل من طريق عائذ الله الخولاني عن ابن مسعود.
(10) ساقطة من (م) و (خ) و (ت). وفي (غ) و (ر): "بإخوانك".(3/144)
(فرطهم) (1) عَلَى الْحَوْضِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ يَأْتِي بَعْدَكَ مِنْ أُمَّتِكَ؟ قَالَ: (أرأيت) (2) لو كان (لرجل) (3) خَيْلٌ غرٌّ مُحَجَّلَةٌ فِي خَيْلٍ دُهم بُهْمٍ، أَلَا يَعْرِفُ خَيْلَهُ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنَ الْوُضُوءِ، وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ، فليذادَنَّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ، أُنَادِيهِمْ: أَلَا هَلُمَّ أَلَا هَلُمَّ، فَيُقَالُ: (إِنَّهُمْ) (4) قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ، فَأَقُولُ: فَسُحْقًا فَسُحْقًا (5).
فَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ قَوْلَهُ: (فليذادَن رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي) إِلَى قَوْلِهِ: (أُنَادِيهِمْ أَلَا هَلُمَّ) مُشْعِرٌ بِأَنَّهُمْ مِنْ أُمَّتِهِ، وَأَنَّهُ عَرَفَهُمْ، وقد بين (أنه يعرفهم) (6) / بِالْغُرَرِ وَالتَّحْجِيلِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ دعاهم ـ وقد كانوا بدَّلوا ـ ذو غُرَرٍ وَتَحْجِيلٍ وَذَلِكَ مِنْ خَاصِّيَّةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ/ فَبَانَ أَنَّهُمْ مَعُدُودُونَ مِنَ الْأُمَّةِ، وَلَوْ حُكِمَ لَهُمْ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْأُمَّةِ لَمْ يَعْرِفْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغُرَّةٍ أَوْ تَحْجِيلٍ لِعَدَمِهِ عِنْدَهُمْ.
وَلَا عَلَيْنَا أَقُلْنَا: إِنَّهُمْ (قد) (7) خرجوا ببدعتهم عن الأمة أو لا، إذا أَثْبَتْنَا لَهُمْ وَصْفَ الِانْحِيَاشِ إِلَيْهَا.
وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: ((فَيُؤْخَذُ) (8) بِقَوْمٍ مِنْكُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ، فَأَقُولُ: يا رب أصحابي. قَالَ: فَيُقَالُ: (إِنَّكَ) (9) لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا (بَعْدَكَ) (10)، فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} إلى قوله:
_________
(1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فرطكم".
(2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "أرأيتم".
(3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "لأحدكم".
(4) زيادة من (غ) و (ر).
(5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فسحقاً فسحقاً فسحقاً"، والحديث تقدم تخريجه (1 124).
(6) في (ط) و (خ): "أنهم". وفي (ت): "أنه عرفهم".
(7) زيادة من (غ) و (ر).
(8) في (غ) و (ر): "ثم يؤخذ".
(9) زيادة من (غ) و (ر).
(10) في (م): "بعدك إنهم".(3/145)
{الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (1)، قَالَ: فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ منذ/ فارقتهم) (2).
/فإن كان المراد (بأصحابه) (3) الأمة، فالحديث موافق لما قبله (في المعنى) (4) (وهو) (5): (كذلك إن شاء الله، وإن كان اللفظ يعطي أن الأصحاب هم الذين لقوه صلّى الله عليه وسلّم لأجل قوله في الحديث قَبْلَهُ) (6): (بَلْ أَنْتُمْ أَصْحَابِي وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يأتوا بعد)، فلا بد مِنْ تَأْوِيلِهِ عَلَى أَنَّ الْأَصْحَابَ يَعْنِي بِهِمْ من آمن به فِي حَيَاتِهِ وَإِنْ لَمْ يَرَهُ، وَيَصْدُقُ لَفْظُ المرتدين على أعقابهم على (المرتدين) (7) / بَعْدَ مَوْتِهِ (أَوْ مَانِعِي) (8) الزَّكَاةِ تَأْوِيلًا عَلَى أَنَّ أَخْذَهَا/ إِنَّمَا كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْدَهُ، فَإِنَّ عَامَّةَ أَصْحَابِهِ (الذين) (9) رأوه وأخذوا عنه (برءاء) (10) من ذلك رضي الله عنهم.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: فِي تَعْيِينِ (هَذِهِ) (11) الْفِرَقِ:
وَهِيَ مَسْأَلَةٌ ـ كَمَا قَالَ الطَّرْطُوشِيُّ (12) ـ طَاشَتْ فِيهَا أَحْلَامُ الْخَلْقِ، فَكَثِيرٌ مِمَّنْ تَقَدَّمَ وَتَأَخَّرَ مِنَ الْعُلَمَاءِ عيَّنوها، (لَكِنْ فِي الطَّوَائِفِ الَّتِي خَالَفَتْ فِي مَسَائِلِ الْعَقَائِدِ، فَمِنْهُمْ مَنْ عَدَّ أُصُولَهَا ثَمَانِيَةً) (13)، فقال: كبار الفرق الإسلامية ثمانية ـ المعتزلة، والشيعة، والخوارج، والمرجئة، والنجارية، والجبرية، والمشبهة، والناجية.
/فَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَافْتَرَقُوا إِلَى عِشْرِينَ فِرْقَةً وَهُمُ: (الواصلية) (14)،
_________
(1) سورة المائدة: الآية (117 ـ 118).
(2) تقدم تخريجه (1 124).
(3) في سائر النسخ ما عدا (غ): "بالصحابة".
(4) زيادة من (غ) و (ر).
(5) وفي (ت): "وهو قوله".
(6) ما بين () زيادة من (غ) و (ر).
(7) في (غ) و (ر): "من أتوا".
(8) في (غ) و (ر): "ومنع". وفي (م): "أو منع". وفي (خ): "أو مانع".
(9) زيادة من (غ) و (ر) و (ت).
(10) في (ط) و (خ): "براءة". وفي (م): "براء".
(11) ساقط من (غ) و (ر).
(12) انظر: الحوادث والبدع (ص97).
(13) ما بين القوسين ساقط من (ت).
(14) في (غ): "الواصلة". وكتب فوق الكلمة في (ر): "واصل بن عطاء الغزال، وكذلك=(3/146)
وَالْعَمْرِيَّةُ (1)، وَالْهُذَيْلِيَّةُ (2)، (وَالنَّظَامِيَّةُ) (3)، وَالْأَسْوَارِيَّةُ (4)، وَالْإِسْكَافِيَّةُ (5)، وَالْجَعْفَرِيَّةُ (6) (وَالْبِشْرِيَّةُ) (7)، والمردارية (8)، والهشامية (9)، والصالحية (10)، (والخطَّابية) (11) (والحدثية) (12)، وَالْمَعْمَرِيَّةُ (13)، وَالثُّمَامِيَّةُ (14)، وَالْخَيَّاطِيَّةُ (15)، وَالْجَاحِظِيَّةُ (16)، وَالْكَعْبِيَّةُ (17)، والجبَّائية (18)، (وَالْبَهْشَمِيَّةُ) (19).
وَأَمَّا الشِّيعَةُ فَانْقَسَمُوا/ أَوَّلًا ثَلَاثَ فِرَقٍ: غُلَاةٌ، وَزَيْدِيَّةٌ، وَإِمَامِيَّةٌ.
فَالْغُلَاةُ ثَمَانَ عَشْرَةَ فِرْقَةً وَهُمْ: (السبائية) (20)، وَالْكَامِلِيَّةُ (21)، وَالْبَيَانِيَّةُ، وَالْمُغِيرِيَّةُ (22)، وَالْجَنَاحِيَّةُ (23)، وَالْمَنْصُورِيَّةُ (24)، وَالْخَطَّابِيَّةُ (25) (وَالْغُرَابِيَّةُ) (26)، والذمية (27)، (والهشامية) (28)، والزرارية (29)،
_________
=كتب فوق أكثر الفرق، ولذلك سأكتب في الهامش ما كُتب في نسخة (ر) دون الإشارة إلى أنها من نسخة (ر) اكتفاءً بما ذكر هنا"، والله الموفق.
(1) عمرو بن عبيد.
(2) أبو الهذيل.
(3) ساقط من (غ) و (ر).
(4) علي الأسواري.
(5) أبو جعفر الإسكافي.
(6) جعفر بن مبشر.
(7) في (م) و (خ) و (ت): "السرسية"؟ فوقها في (ر): "بشر بن المعتمر".
(8) عيسى بن صبيح المردار.
(9) في (م) و (خ) و (غ) و (ر): "والهاشمية". وفوقها في (ر): "أصحاب هشام بن عمر".
(10) في (م) و (خ) و (غ): "والمصالحية". وفوقها في (ر): "الصالحي".
(11) في (غ) و (ر): "والحاطبية" وفي باقي النسخ: والخطابية. ولعل الصواب: الخابطية وهي من فرق المعتزلة كما في الملل والنحل للشهرستاني (1 74).
(12) في (م) و (خ) و (ت): "والحدية". في (ط): "والحدبية".
(13) معمر بن عباد.
(14) ثمامة بن أشرس.
(15) الحسن بن خياط.
(16) عمرو بن بحر الجاحظ.
(17) أبو القاسم الكعبي.
(18) أبو علي الجبائي.
(19) في (م): "والنهشمية". وفي (خ) و (ت): "والنهشية". وفوقها في (ر): "أبو هاشم".
(20) في (ط): "السرسية"، وفي (م): "السسه". وفي (خ) و (ت): "الساسة". وفوقها في (ر): "عبد الله بن سبأ".
(21) شعيب بن أبي كامل.
(22) المغيرة بن سعد العجلي.
(23) عبد الله بن معاوية ذي الجناحين.
(24) ابن أبي منصور العجلي.
(25) لأبي الخطاب الأسدي.
(26) في (م) و (خ) و (ت): "والغوالية".
(27) ذموا الرسول.
(28) في (غ): "والهاشمية" هشام بن الحكم.
(29) زرارة بن أعين.(3/147)
وَالْيُونُسِيَّةُ (1)،/ وَالشَّيْطَانِيَّةُ (2)، وَالرِّزَامِيَّةُ، وَالْمُفَوِّضَةُ (3)، وَالْبَدَائِيَّةُ (4)، (وَالنُّصَيْرِيَّةُ) (5)، وَالْإِسْمَاعِيلِيَّةُ (6) وهم: الباطنية (7)، والقرمطية (8)، والخرمية، والسبعية (9)، والبابكية (10)، (والمحمرة) (11).
وَأَمَّا الزَّيْدِيَّةُ فَهُمْ ثَلَاثُ فِرَقٍ: الْجَارُودِيَّةُ (12)، وَالسُّلَيْمَانِيَّةُ، والبترية.
وأما الإمامية ففرقة واحدة، فالجميع ثنتان وَأَرْبَعُونَ فِرْقَةً.
وَأَمَّا الْخَوَارِجُ فَسَبْعُ فِرَقٍ، وَهُمُ: (المحكمة) (13)، والبيهسية، والأزارقة (14)، (والنجدات والصفرية) (15)، والأباضية (أربع فرق وهم) (16): الْحَفْصِيَّةُ (17)، وَالْيَزِيدِيَّةُ (18)، (وَالْحَارِثِيَّةُ) (19)، وَالْمُطِيعِيَّةُ (20).
//وَأَمَّا الْعَجَارِدَةُ فَإِحْدَى عشر فرقة وهم: الميمونية (21)،
_________
(1) يونس بن عبد الرحمن.
(2) شيطان الطاق.
(3) زعموا أن الله خلق محمداً ثم فوّض إليه خلق الدنيا.
(4) أجازوا البداء.
(5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "النصرية".
(6) إسماعيل بن جعفر.
(7) لدعواهم الباطن.
(8) أصحاب قرمط بن عبد الله بن ميمون.
(9) قولهم: سبعة أئمة في كل دور، أو تريد الكواكب السبعة.
(10) رجل يقال له: بابك.
(11) في (ط) و (خ) و (ت): "والحمدية". وفي (م): "والمحمدية" وانظر ملحق الفرق (ص356)، وفوقها في (ر): "للباسهم الحمرة في أيام بابك".
(12) لأبي الجارود.
(13) في (م) و (خ) و (غ) و (ر): "المحكمية". وفي (ت): "الحفصية بل المحكمية"، وهم الخارجون على عليّ.
(14) نافع بن الأزرق.
(15) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "والحراث والعبدية". ولا يوجد فرق بهذا الاسم في كتب الفرق وكتب فوقها في (ر): "نجدة بن عامر الحنفي".
(16) في (ط) و (خ) و (ت): "وهم أربع فرق".
(17) أبو الحفص بن أبي المقدام.
(18) في (ر): "البريدية.
(19) في (م) و (خ) و (ت): "والحاربية" وفوقها في (ر): "أبو الحارث الإباضي".
(20) أصحاب طاعة لا يراد بها الله.
(21) رجل اسمه ميمون.(3/148)
وَالشُّعَيْبِيَّةُ (1)، (وَالْحَازِمِيَّةُ) (2)، (وَالْحَمْزِيَّةُ) (3)، وَالْمَعْلُومِيَّةُ، (وَالْمَجْهُولِيَّةُ، وَالصَّلْتِيَّةُ) (4)، وَالثَّعْلَبِيَّةُ (5) أَرْبَعُ فِرَقٍ وَهُمُ: الْأَخْنَسِيَّةُ، وَالْمَعْبَدِيَّةُ (6)، وَالشَّيْبَانِيَّةُ،/ وَالْمُكْرَمِيَّةُ، (فالجميع اثنان وستون) (7).
وأما المرجئة فخمس (فرق) (8) وَهُمُ: الْعُبَيْدِيَّةُ، وَالْيُونُسِيَّةُ، وَالْغَسَّانِيَّةُ،/ وَالثَّوْبَانِيَّةُ (9)، (وَالتُّومَنِيَّةُ) (10).
وَأَمَّا النَّجَّارِيَّةُ فَثَلَاثُ فِرَقٍ وَهُمُ: (الْبُرْغُوثِيَّةُ) (11)، وَالزَّعْفَرَانِيَّةُ (12)، (وَالْمُسْتَدْرِكَةُ) (13).
وَأَمَّا الْجَبْرِيَّةُ فَفِرْقَةٌ وَاحِدَةٌ، وَكَذَلِكَ الْمُشَبِّهَةُ.
فَالْجَمِيعُ اثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ فِرْقَةً، فَإِذَا أَضِيفَتِ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ إِلَى عَدَدِ الْفِرَقِ صَارَ الْجَمِيعُ ثَلَاثًا وَسَبْعِينَ فِرْقَةً.
وَهَذَا التَّعْدِيدُ بِحَسَبِ مَا أَعْطَتْهُ الْمِنَّةُ في تكلف الْمُطَابَقَةِ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، لَا عَلَى الْقَطْعِ بِأَنَّهُ الْمُرَادُ، إِذْ لَيْسَ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ، وَلَا دَلَّ الْعَقْلُ أَيْضًا عَلَى انْحِصَارِ مَا (ذكروه) (14) فِي تِلْكَ الْعِدَّةِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ، كَمَا أَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى اخْتِصَاصِ تلك البدع بالعقائد (15).
_________
(1) رجل اسمه شعيب.
(2) في (غ): "الخازمية"، بالخاء المعجمة، وانظر ملحق الفرق (ص362).
(3) ساقط من (غ) وفي (ر) ذُكرت بعد الميمونية. وفوقها: رجل اسمه حمزة.
(4) وفي (م) و (خ) و (ت): "والمحمولية والصليبية"، وفوقها في (ر): "عثمان بن أبي الصلت".
(5) أصحاب ثعلبة.
(6) معبد.
(7) ساقط من (غ) و (ر).
(8) ما بين القوسين زيادة من (غ) و (ر).
(9) أبو ثوبان المرجئ.
(10) في (م) و (خ) و (ت): "والتومية". وفي (غ): "والتوأمية"، وفوقها في (ر): "أبو معاذ التومني".
(11) في (م) و (خ) و (ت): "البزغوبية؟ ".
(12) رجل يقال له: الزعفراني.
(13) في (م) و (خ) و (ت): "والمستدركية"، وفوقها في (ر): "استدرك على الزعفراني.
(14) في (ط) و (خ): "ذكر".
(15) ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، أن أقدم من تكلم في هذه المسألة يوسف بن=(3/149)
وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: أُصُولُ الْبِدَعِ أَرْبَعَةٌ، وَسَائِرُ الثِّنْتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ فِرْقَةً عَنْ هَؤُلَاءِ (تَفَرَّقُوا) (1)، وَهُمُ: الْخَوَارِجُ، وَالرَّوَافِضُ،/ وَالْقَدَرِيَّةُ، وَالْمُرْجِئَةُ (2).
/قَالَ يُوسُفُ بْنُ أَسْبَاطٍ (3): ثُمَّ تَشَعَّبَتْ كُلُّ فِرْقَةٍ ثَمَانَ عشرة فرقة: فتلك ثنتان وَسَبْعُونَ فِرْقَةً، وَالثَّالِثَةُ وَالسَّبْعُونَ هِيَ النَّاجِيَةُ (4).
وَهَذَا التقدير نحو من الْأَوَّلِ، وَيَرِدُ عَلَيْهِ مِنَ الْإِشْكَالِ مَا وَرَدَ عَلَى الْأَوَّلِ.
فَشَرَحَ ذَلِكَ الشَّيْخُ (أَبُو بَكْرٍ) (5) الطَّرْطُوشِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ شَرْحًا يُقَرِّبُ الْأَمْرَ، فَقَالَ (6): لَمْ يُرِدْ عُلَمَاؤُنَا بِهَذَا التَّقْدِيرِ أَنَّ أَصْلَ كُلِّ بِدْعَةٍ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعِ (تَفَرَّقَتْ) (7) وَتَشَعَّبَتْ على مقتضى أصل البدع// حتى (كملت) (8)
_________
=أسباط، ثم عبد الله بن المبارك، حيث قالا: أصول أهل البدع أربعة: الروافض، والخوارج، والقدرية، والمرجئة. ثم قال رحمه الله: ولكن الجزم بأن هذه الفرق الموصوفة في إحدى الاثنتين والسبعين لا بد له من دليل، فإن الله حرم القول بلا علم عموماً، وحرم القول عليه بلا علم خصوصاً. انظر: الفتاوى (3 346).
(1) في هامش (ت): "تفرعوا".
(2) ذكر هذا القول عن يوسف بن أسباط، وعبد الله بن المبارك، كما تقدم في التعليق السابق.
(3) هو يوسف بن أسباط بن واصل الشيباني الكوفي، وثقه يحيى بن معين، وقال البخاري: كان قد دفن كتبه، فصار لا يجيء بحديثه كما ينبغي. توفي سنة 195هـ. انظر: تهذيب التهذيب (11 407)، والسير (9 160).
(4) بنحوه في السنة لابن أبي عاصم (2 463) برقم (953)، والآجري في الشريعة برقم (20)، والإبانة الكبرى (1 377)، برقم (277)، وروي قريباً منه عن ابن المبارك في الإبانة الكبرى (1 379)، برقم (278).
(5) في (غ) و (ر): "أبو الوليد".
(6) انظر: الحوادث والبدع (ص97 وما بعدها).
(7) في (ت): "تفرعت".
(8) هكذا في (م) و (غ) و (ر): "ونسخة من الحوادث والبدع. وفي (ط) و (خ) و (ت): "تحملت".(3/150)
(تِلْكَ الْعِدَّةُ، لِأَنَّ) (1) ذَلِكَ لَعَلَّهُ (لَمْ) (2) يَدْخُلْ فِي الْوُجُودِ إِلَى الْآنِ، قَالَ: وَإِنَّمَا أَرَادُوا أن كل بدعة (وضلالة) (3) لَا تَكَادُ تُوجَدُ إِلَّا فِي هَذِهِ الْفِرَقِ الْأَرْبَعِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْبِدْعَةُ الثَّانِيَةُ فَرْعًا لِلْأُولَى وَلَا شُعْبَةً مِنْ شُعَبِهَا، بَلْ هِيَ بِدْعَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ بِنَفْسِهَا لَيْسَتْ مِنَ الْأُولَى بِسَبِيلٍ.
ثم بين ذلك بالمثال بأن القدر أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الْبِدَعِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُهُ فِي مَسَائِلَ مِنْ شُعَبِ الْقَدَرِ، وَفِي مَسَائِلَ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْقَدَرِ، فَجَمِيعُهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي فَرْعٍ مِنْ فُرُوعِ الْقَدَرِ، فَقَالَ أَكْثَرُهُمْ: لَا يَكُونُ فِعْلٌ بين فاعلين.
(وقال بعضهم) (4): يجوز فعل بين فاعلين) (5) مَخْلُوقَيْنِ عَلَى التَّوَلُّدِ (6). وَأَحَالَ مِثْلَهُ بَيْنَ الْقَدِيمِ وَالْمُحْدَثِ (7).
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيمَا لَا يَعُودُ إِلَى الْقَدَرِ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ، كَاخْتِلَافِهِمْ فِي الصَّلَاحِ وَالْأَصْلَحِ (8)، فَقَالَ الْبَغْدَادِيُّونَ مِنْهُمْ: يَجِبُ عَلَى اللَّهِ
_________
(1) في (م) و (غ) و (ر): "تلك العدة فإن".
(2) ساقط من (غ) و (ر).
(3) في (ط) و (م) و (ت): "ضلالة".
(4) في الحوادث والبدع: "وهو المردار"، واسمه عيسى بن صبيح المردار، من تلاميذ بشر بن المعتمر، وكان يسمى راهب المعتزلة، وله فرقة من المعتزلة ـ من معتزلة بغداد ـ تسمى المردارية. انظر: الملل والنحل (1 48 ـ 70) وطبقات المعتزلة (70 ـ 71).
(5) ما بين القوسين زيادة من الحوادث و (غ) و (ر).
(6) التولد: هو أن يحصل الفعل من فاعله بتوسط فعل آخر، كحركة المفتاح بحركة اليد، وحدوث جرح بسبب الإصابة بحجر أو بسهم أطلقه إنسان. وقد اختلفوا في التولد هل فعل الإنسان أم الجماد. انظر: مذاهب الإسلاميين لبدوي (1 192 ـ 197). وقول المردار في التولد ذكره عبد القاهر البغدادي في الفرق بين الفرق (ص166)، والشهرستاني في الملل والنحل (1 69).
(7) القديم ـ عند المعتزلة ـ يعنون به الله عز وجل، والوارد في القرآن تسميته سبحانه بالأول. والمحدث هو المخلوق، فالمردار جوز وقوع فعلاً بين فاعلين مخلوقين، ومنع ذلك بين الخالق والمخلوق.
(8) يريد المعتزلة بالصلاح والأصلح، أنه يجب على الله ـ تعالى الله عن قولهم ـ رعاية=(3/151)
(تعالى) (1) (ـ تعالى الله عن قولهم ـ) (2) فعل (الأصلح) (3) لعباده في دينهم (ودنياهم) (4). (قالوا: وواجب على الله تعالى) (5) ابْتِدَاءَ الْخَلْقِ الَّذِينَ عَلِمَ أَنَّهُ يُكَلِّفُهُمْ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ إِكْمَالُ عُقُولِهِمْ وَأَقْدَارِهِمْ وَإِزَاحَةُ عِلَلِهِمْ.
وَقَالَ (البصريون) (6) منهم: لا يجب على الله تعالى إِكْمَالُ عُقُولِهِمْ وَلَا أَنْ يُؤْتِيَهُمْ أَسْبَابَ التَّكْلِيفِ.
/وَقَالَ الْبَغْدَادِيُّونَ مِنْهُمْ: يَجِبُ عَلَى اللَّهِ (تَعَالَى الله عَنْ قَوْلِهِمْ) (7) عِقَابُ الْعُصَاةِ/ إِذَا لَمْ يَتُوبُوا. وَالْمَغْفِرَةُ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ سَفَهٌ مِنَ الْغَافِرِ (8).
_________
=مصالح العباد وفعلها لهم، واختلفوا في وجوب الأصلح لهم، ويقصدون بالأصلح: الأفضل في العاجلة والعاقبة. انظر تفصيل المسألة في كتاب (المعتزلة) للدكتور عواد المعتق (ص97 ـ ص202).
(1) ساقط من (غ) و (ر).
(2) ما بين القوسين زيادة من الحوادث و (غ) و (ر).
(3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الصلاح".
(4) زيادة من (غ) و (ر) وبعدها نص ساقط من جميع النسخ وهو في الحوادث والبدع ونصه ص99: (ولا يجوز في حكمته تبقية وجه ممكن في الصلاح العاجل والآجل إلا وعليه فعل أقصى ما يقدر عليه في استصلاح عباده).
(5) في (ط) و (م) و (ت) و (غ) و (ر): "ويجب عليه".
(6) في (ط) و (م) و (ت) و (غ) و (ر): "المصريون". وفي (م): "المضريون". وقد نشأت المعتزلة أولاً بالبصرة ثم ظهرت معتزلة بغداد، وأشهر رؤساء معتزلة البصرة هم: عمرو بن عبيد، وواصل بن عطاء، ومعمر بن عباد، وأبو بكر الأصم، وأبو الهذيل العلاف، وبشر بن المعتمر ـ الذي أسس بعد ذلك معتزلة بغداد ـ والفوطي، والنظام، والشحام، وأبو علي الجبائي، والجاحظ، وأبو هاشم الجبائي، وأبو الحسن الأشعري الذي انتقل بعد ذلك من مذهب المعتزلة إلى المذهب الكلابي، ثم إلى مجمل مذهب السلف.
وأما معتزلة بغداد فقد أسسها بشر بن المعتمر، وأشهر رؤسائهم: ثمامة بن أشرس، وأحمد بن أبي دؤاد، وأبو موسى المردار، وجعفر بن مبشر، وجعفر بن حرب، وأبو الحسين الخياط، والإسكافي، وأبو القاسم البلخي الكلبي. انظر: مذاهب الإسلاميين لبدوي (1 45 ـ 46) بتصرف يسير.
(7) في (ت): "بياض بمقدار كلمة".
(8) انظر الآراء في هذه المسألة في كتاب المعتزلة للدكتور عواد المعتق (ص218).(3/152)
(وأبى البصريون ذلك) (1).
وابتدع جعفر بن (مبشر) (2) (فقال) (3): (من) (4) (استحضر) (5) امْرَأَةً لِيَتَزَوَّجَهَا فَوَثَبَ عَلَيْهَا فَوَطِئَهَا بِلَا وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ وَلَا رِضًى/ وَلَا عَقْدٍ حَلَّ لَهُ ذَلِكَ، وَخَالَفَهُ فِي ذَلِكَ سَلَفُهُ.
وَقَالَ ثمامة بن أشرس (6): إن الله تعالى يصيِّر الكفَّار وَالْمُلْحِدِينَ وَأَطْفَالَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمَجَانِينَ تراباً يوم القيامة لا يعذبهم ولا (يعرضهم) (7).
وَهَكَذَا (8) ابْتَدَعَتْ كُلُّ فِرْقَةٍ مِنْ هَذِهِ الْفِرَقِ بِدَعًا تَتَعَلَّقُ بِأَصْلِ بِدْعَتِهَا الَّتِي هِيَ مَعْرُوفَةٌ بِهَا، وَبِدَعًا لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِهَا.
فَإِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ بِتَفَرُّقِ أُمَّتِهِ أُصُولَ (الْبِدَعِ) (9) الَّتِي تَجْرِي مجرى الأجناس للأنواع، والمعاقد للفروع (فلعلهم) (10) ـ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ ـ مَا (بَلَغُوا) (11) هَذَا/ الْعَدَدَ إِلَى الْآنَ، غَيْرَ أَنَّ الزَّمَانَ بَاقٍ وَالتَّكْلِيفَ (قائم) (12)
_________
(1) في (ط) و (خ) و (ت) و (غ) و (ر): "وأما المصريون منهم ذلك". وفي (م): "المضريون".
(2) في (ط) و (خ) و (ت): "بشر". وهو جعفر بن مبشر الثقفي، من رؤساء المعتزلة، كان يضرب به المثل هو وجعفر بن حرب، فيقال: علم الجعفرين وزهدهما، انظر: طبقات المعتزلة (ص76 ـ 77).
(3) ساقط من سائر النسخ وفي (غ) و (ر): "الحوادث والبدع": من القدرية بدعة فقال.
(4) في (غ) و (ر): "إن".
(5) في (ط) و (م) و (خ): "استصر".
(6) هو ثمامة بن أشرس النميري البصري، وله بدع عظيمة، وفسق وفجور، وله فرقة تنسب إليه اسمها الثمامية. انظر: الفرق بين الفرق (ص172 ـ 175)، والسير (10 203).
(7) جميع النسخ: (يعرضهم). وفي "الحوادث والبدع": (يعوضهم). وانظر قول ثمامة في الملل والنحل (1 71).
(8) في كتاب الحوادث والبدع للطرطوشي زيادة قبل هذه الفقرة وهي: "وقوله هذا في الكفار والملحدين خرق لإجماع الأمة من أهل الإثبات، وأهل القدر وغيرهم".
(9) في (ط) و (م) و (خ): "بياض".
(10) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "لعلهم".
(11) في (ط) و (خ): "بلغن".
(12) في (غ) و (ر): "باق قائم".(3/153)
وَالْخَطَرَاتِ مُتَوَقَّعَةٌ، وَهَلْ قَرْنٌ أَوْ عَصْرٌ يَخْلُو إِلَّا وَتَحْدُثُ فِيهِ الْبِدَعُ؟.
وَإِنْ كَانَ أَرَادَ/ بالفرق كُلَّ بِدْعَةٍ حَدَثَتْ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ مِمَّا لَا يُلَائِمُ أُصُولَ الْإِسْلَامِ وَلَا تَقْبَلُهَا قَوَاعِدُهُ مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إِلَى التَّقْسِيمِ الَّذِي ذَكَرْنَا، كانت البدع أنواعاً لأجناس، (ولو) (1) كَانَتْ مُتَغَايِرَةَ الْأُصُولِ وَالْمَبَانِي.
فَهَذَا هُوَ الَّذِي أَرَادَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ـ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تعالى ـ فقد وجد من ذلك (عدَّة) (2) (أكثر من اثنين وَسَبْعِينَ) (3).
/وَوَجْهُ (تَصْحِيحِ الْحَدِيثِ) (4) عَلَى هَذَا، أَنْ (يَخْرُجَ) (5) مِنَ الْحِسَابِ غُلَاةُ أَهْلِ الْبِدَعِ، وَلَا يُعَدُّونَ مِنَ الْأُمَّةِ، وَلَا فِي أَهْلِ الْقِبْلَةِ، كَنُفَاةِ الْأَعْرَاضِ (6) مِنَ الْقَدَرِيَّةِ لِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ (إِلَى مَعْرِفَةِ حُدُوثِ) (7) الْعَالَمِ وَإِثْبَاتِ الصَّانِعِ إِلَّا بِثُبُوتِ الْأَعْرَاضِ (8)، وَكَالْحُلُولِيَّةِ (9) (وَالنُّصَيْرِيَّةِ) (10) وَأَشْبَاهِهِمْ مِنَ الْغُلَاةِ.
_________
(1) في (ط) و (م) و (خ) و (غ) و (ر): "أو".
(2) في سائر النسخ: ما عدا (غ) و (ر): "عدد".
(3) في (م) و (ت): "كثير من اثنين وسبعين". وفي (خ): "عدداً كثير من اثنين وسبعين".
(4) في (م): "صحيح الحديث). وفي الحوادث: (تصحيح هذا الحديث). وفي نسخة أخرى توافق (ط).
(5) في (ط) و (خ): "تخرج".
(6) الأعراض: جمع عرض؛ وهو ـ عند المناطقة ـ: الموجود الذي يحتاج في وجوده إلى موضع، أي محل يقوم به، كاللون المحتاج في وجوده إلى جسم يحله، ويقوم به. وقد قسم المناطقة العرض إلى عدة أقسام، واختلفوا في سبب تسمية أحوال الأجسام أعراضاً، وهل تبقى أم لا. انظر: التعريفات للجرجاني (ص148 ـ 149)، ومذاهب الإسلاميين لبدوي (1 88 ـ 191).
(7) في الحوادث: لحدوث.
(8) سلك الطرطوشي هنا مسلك المتكلمين في هذه المسألة، وقد فصَّل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بيان سبب سلوكهم لهذه الطريقة، ثم بيَّن بطلانها والرد عليها. انظر مواضع المسألة في: الفتاوى في الفهرس (36 24 ـ 25).
(9) الحلولية: تقدم تعريفهم (1 223).
(10) في (م) و (خ): "النصرية". وانظر تعريفهم في ملحق الفرق برقم (39).(3/154)
هَذَا مَا قَالَ الطَّرْطُوشِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ حَسَنٌ مِنَ التَّقْرِيرِ، غَيْرَ أَنَّهُ يَبْقَى لِلنَّظَرِ فِي كَلَامِهِ مَجَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا (اختاره) (1) من أنه ليس المراد الأجناس (وإنما) (2) مراده (مجرد) (3) أَعْيَانَ الْبِدَعِ وَقَدِ ارْتَضَى اعْتِبَارَ الْبِدَعِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ فَمُشْكِلٌ، لِأَنَّا إِذَا اعْتَبَرْنَا كُلَّ بِدْعَةٍ دقت أو جلت فكل من ابتدع (بدعة) (4) كيف (ما كانت بدعته) (5) لَزِمَ أَنْ يَكُونَ هُوَ وَمَنْ تَابَعَهُ عَلَيْهَا فرقة، فلا (يقف العدد) (6) في مائة ولا (في) (7) مائتين، فضلاً عن (وقوفها) (8) في اثنتين وسبعين (فرقة) (9)، (فإن) (10) الْبِدَعَ ـ كَمَا قَالَ ـ لَا تَزَالُ تَحْدُثُ مَعَ مُرُورِ الْأَزْمِنَةِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ.
وَقَدْ مَرَّ مِنَ النَّقْلِ مَا يُشْعِرُ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: "مَا مِنْ عَامٍ إِلَّا وَالنَّاسُ يُحْيُونَ فِيهِ/ بِدْعَةً وَيُمِيتُونَ فِيهِ سُنَّةً، حتى تحيى الْبِدَعُ وَتَمُوتَ السُّنَنُ" (11).
وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي الْوَاقِعِ، فإن البدع (مذ) (12) نشأت إلى الآن (لا) (13) تَزَالُ تَكْثُرُ، وَإِنْ فَرَضْنَا إِزَالَةَ/ بِدَعِ الزَّائِغِينَ فِي الْعَقَائِدِ كُلِّهَا، لَكَانَ الَّذِي يَبْقَى أَكْثَرَ مِنِ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فَمَا قَالَهُ ـ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ـ غير مخلص.
والثاني: أَنَّ حَاصِلَ كَلَامِهِ أَنَّ هَذِهِ الْفِرَقَ لَمْ تتعين بعد، بخلاف القول
_________
(1) في (ط): "اختار".
(2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فإن كان".
(3) زيادة من (م) و (خ) و (غ) و (ر).
(4) ساقط من (م) و (خ) و (ت).
(5) في (ط) و (م) و (خ) و (غ) و (ر): "كانت".
(6) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "تقف".
(7) زيادة من (غ) و (ر).
(8) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "وقوعها".
(9) زيادة من (غ) و (ر).
(10) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "وأن".
(11) تقدم تخريجه (1 33).
(12) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "قد".
(13) في (ط) و (خ): "ولا".(3/155)
الْمُتَقَدِّمِ، وَهُوَ أَصَحُّ فِي النَّظَرِ، لِأَنَّ ذَلِكَ التَّعْيِينَ لَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، وَالْعَقْلُ لَا يَقْتَضِيهِ، وأيضاً (فللمنازع) (1) أَنْ يَتَكَلَّفَ مِنْ مَسَائِلِ الْخِلَافِ الَّتِي بَيْنَ الْأَشْعَرِيَّةِ (2) فِي قَوَاعِدِ الْعَقَائِدِ فِرَقًا يُسَمِّيهَا وَيُبَرِّئُ نَفْسَهُ وَفِرْقَتَهُ عَنْ ذَلِكَ الْمَحْظُورِ. فَالْأَوْلَى/ مَا قَالَهُ مِنْ عَدَمِ (التَّعْيِينِ) (3)، وَإِنْ سلَّمنا (أَنَّ) (4) الدَّلِيلَ قَامَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ فَلَا يَنْبَغِي (أيضاً) (5) التَّعْيِينُ.
أَمَّا أَوَّلًا: فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ قَدْ فَهِمْنَا مِنْهَا أَنَّهَا تُشِيرُ إِلَى/ أَوْصَافِهِمْ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ لِيُحْذَرَ مِنْهَا، وَيَبْقَى الْأَمْرُ فِي تَعْيِينِ الدَّاخِلِينَ فِي مُقْتَضَى الْحَدِيثِ مُرَجَّى، وَإِنَّمَا وَرَدَ التعيين في النادر كما قال صلّى الله عليه وسلّم في الخوارج (إن من ضئضئ هذا قوما يقرؤون القرآن لا يجاوز حَنَاجِرَهُمْ، (يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدْعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ) (6)) (7) الْحَدِيثَ، مَعَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَعْرِفْ أَنَّهُمْ مِمَّنْ شَمِلَهُمْ حَدِيثُ الْفِرَقِ. وَهَذَا الْفَصْلُ مَبْسُوطٌ فِي كِتَابِ الْمُوَافَقَاتِ (8) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.
وَأَمَّا ثَانِيًا: فَلِأَنَّ عَدَمَ التَّعْيِينِ هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُلْتَزَمَ/ لِيَكُونَ سِتْرًا عَلَى الْأُمَّةِ كَمَا سُتِرَتْ عَلَيْهِمْ قَبَائِحُهُمْ فَلَمْ يُفْضَحُوا فِي الدنيا (بها) (9) في الغالب، وأمرنا بالستر على (المذنبين) (10) ما لم (يبدوا) (11) لَنَا صَفْحَةُ الْخِلَافِ، لَيْسَ كَمَا ذَكَرَ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَذْنَبَ أَحَدُهُمْ ليلاً أصبح وعلى بابه معصيته مَكْتُوبَةٌ (12)، وَكَذَلِكَ فِي شَأْنِ قُرْبَانِهِمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قَرَّبُوا لِلَّهِ قُرْبَانًا فَإِنْ كَانَ مَقْبُولًا عِنْدَ اللَّهِ نَزَلَتْ (نَارٌ) (13) مِنَ السَّمَاءِ فَأَكَلَتْهُ،
_________
(1) في (ط) و (خ): "فالمنازع". وفي (غ) و (ر): "فللمنازع أيضاً".
(2) الأشعرية: تقدم تعريفهم 1 30.
(3) في (غ) و (ر): "التعليل".
(4) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (غ) و (ر).
(5) زيادة من (غ) و (ر).
(6) ما بين القوسين زيادة من (غ) و (ر).
(7) تقدم تخريجه (3/ 114).
(8) انظر: الموافقات (4 100 وما بعدها).
(9) زيادة من (م) و (غ) و (ر).
(10) في (ط) و (ت): "المؤمنين".
(11) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "تبد".
(12) انظر الحديث في تفسير ابن جرير الطبري (2 491)، وذكر أحمد شاكر أنه حديث مرسل من مراسيل أبي العالية وأنه لا حجة فيه.
(13) في (م): "نارا".(3/156)
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْبُولًا لَمْ تَأْكُلْهُ النَّارُ (1)، وَفِي ذَلِكَ افْتِضَاحُ الْمُذْنِبِ. وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي الْغَنَائِمِ (2) أَيْضًا، فَكَثِيرٌ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ خُصَّتْ (هَذِهِ) (3) الْأُمَّةُ/ بِالسَّتْرِ فِيهَا.
وَأَيْضًا فَلِلسَّتْرِ حِكْمَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّهَا لَوْ أُظْهِرَتْ مَعَ أَنَّ أَصْحَابَهَا مِنَ الْأُمَّةِ لَكَانَ فِي ذَلِكَ دَاعٍ إِلَى الْفُرْقَةِ وَعَدَمِ الْأُلْفَةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِهَا، حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ/ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا} (4)، وَقَالَ تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} (5)، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} (6)، وَفِي الْحَدِيثِ: (لَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَلَا تباغضوا وكونوا عباد الله إخواناً) (7) وأمر صلّى الله عليه وسلّم بِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ فَسَادَ ذَاتِ البين هي الحالقة التي تحلق الدين (8).
_________
(1) انظر: ما ذكره ابن جرير في تفسيره (7 448 ـ 450).
(2) أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة، وفيه: ( ... ثم أحل الله لنا الغنائم، رأى ضعفنا وعجزنا فأحلها لنا) وهو برقم (3124 و5157)، ومسلم (1747)، وفي صحيفة همام بن منبه (123)، وأحمد (3 318)، والنسائي في السنن الكبرى (8878)، وابن حبان (4807 و4808)، والبيهقي في السنن الكبرى (12487)، وبنحوه في مسند أحمد (2 252)، بلفظ: (لم تحل الغنائم لقوم سود الرؤوس قبلكم .. الحديث)، وفي الترمذي (3085)، والنسائي في الكبرى (11209)، وابن الجارود في المنتقى (1071)، والطحاوي في معاني الآثار (3 77)، وابن حبان (4806)، والبيهقي في السنن الكبرى (12488).
(3) ساقط من (ط).
(4) سورة آل عمران: الآية (103).
(5) سورة الأنفال: الآية (1).
(6) سورة آل عمران: الآية (105).
(7) أخرجه البخاري في الصحيح (6064 و6066 و6076)، وفي الأدب المفرد (408)، ومسلم (2559 و2563 و2564)، وأبو داود الطيالسي (2091)، وأحمد (2 277 و469) و (3 165 و209)، والترمذي (1935)، وأبو يعلى (3612)، والقضاعي في مسنده (939)، والطبراني في الصغير (280)، والبيهقي في السنن الكبرى (11276 و14550 و16906).
(8) أخرجه أحمد (6 444)، والبخاري في الأدب المفرد (391 و412)، والترمذي (5208 و2509)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، وأبو داود (4919)، وعبد بن حميد في المنتخب (335)، وابن حبان (5092).(3/157)
/فَإِذَا كَانَ مِنْ مُقْتَضَى الْعَادَةِ أَنَّ التَّعْرِيفَ بِهِمْ عَلَى التَّعْيِينِ يُورِثُ الْعَدَاوَةَ (بَيْنَهُمْ) (1) وَالْفُرْقَةَ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَنْهِيًّا عَنْهُ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْبِدْعَةُ فَاحِشَةً (جِدًّا) (2) كَبِدْعَةِ الخوارج (فلا إشكال في جواز إبدائها وتعيين أهلها، لكن كما عين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الْخَوَارِجِ) (3) / وَذَكَرَهُمْ بِعَلَامَتِهِمْ حَتَّى يُعْرَفُوا، وَيُلْحَقُ بِذَلِكَ مَا هُوَ مِثْلُهُ فِي الشَّنَاعَةِ أَوْ قَرِيبٌ مِنْهُ بِحَسْبِ نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ فالسكوت (عن تعيينه) (4) أَوْلَى.
وخرَّج أَبُو دَاوُدَ عَنْ (عَمْرِو بْنِ أَبِي قُرَّةَ) (5) قَالَ: كَانَ حُذَيْفَةُ بِالْمَدَائِنِ/ فَكَانَ يذكر أشياء قالها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لِأُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي الْغَضَبِ/ فَيَنْطَلِقُ نَاسٌ مِمَّنْ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ حُذَيْفَةَ فَيَأْتُونَ سَلْمَانَ فَيَذْكُرُونَ لَهُ قَوْلَ حُذَيْفَةَ، فَيَقُولُ سَلْمَانُ: حُذَيْفَةُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُ، فَيَرْجِعُونَ إِلَى حُذَيْفَةَ فَيَقُولُونَ (له) (6): قد ذكرنا قولك (لسلمان) (7) فَمَا صَدَّقَكَ وَلَا كَذَّبَكَ. فَأَتَى حُذَيْفَةُ سَلْمَانَ وَهُوَ فِي مَبْقَلَةٍ فَقَالَ: يَا سَلْمَانُ، مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تُصَدِّقَنِي بِمَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: إِنَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يغضب فيقول (في الغضب) (8) لِنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَيَرْضَى فَيَقُولُ فِي الرِّضَى (لناس من أصحابه) (9)، أَمَا تَنْتَهِي حَتَّى تُورِثَ رِجَالًا حُبَّ رِجَالٍ وَرِجَالًا بُغْضَ رِجَالٍ، وَحَتَّى تُوقِعَ اخْتِلَافًا وَفُرْقَةً؟ وَلَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم خطب (الناس) (10) فقال: (أيما رجل (من أمتي) (11) سَبَبْتُهُ سُبَّةً أَوْ لَعَنْتُهُ لَعْنَةً (فِي غَضَبِي" (12) فإنما أنا
_________
(1) ساقط من (غ) و (ر).
(2) ساقط من (غ) و (ر).
(3) زيادة من (غ) و (ر).
(4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "عنه".
(5) في (ط) و (م) و (خ): "عمر بن أبي مرة"، وهو خطأ، والمثبت من (غ) و (ر): وهو الصواب كما في سنن أبي داود ومسند أحمد، وهو عمرو بن أبي قرة سلمة بن معاوية بن وهب الكندي الكوفي، ثقة مخضرم. انظر: التقريب رقم (5097).
(6) زيادة من (م) و (غ) و (ر).
(7) في (ط): "إلى سلمان". والصواب لسلمان كما في (م) و (خ) و (غ) و (ر): وهو الموافق لما في سنن أبي داود.
(8) زيادة من (غ) و (ر).
(9) زيادة من (غ) و (ر).
(10) زيادة من (غ) و (ر).
(11) زيادة من (غ) و (ر).
(12) ساقط من (غ) و (ر).(3/158)
مِنْ وَلَدِ آدَمَ أَغْضَبُ/ كَمَا يَغْضَبُونَ، وَإِنَّمَا بعثني الله رحمة للعالمين فاجعلها عَلَيْهِمْ صَلَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) فَوَاللَّهِ (لَتَنْتَهِيَنَّ) (1) أَوْ لأكتبن إِلَى عُمَرَ (2).
فَتَأَمَّلُوا مَا أَحْسَنَ هَذَا الْفِقْهَ مِنْ سَلْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهُوَ جَارٍ فِي مَسْأَلَتِنَا، فَمِنْ هُنَا لَا يَنْبَغِي لِلرَّاسِخِ فِي الْعِلْمِ أَنْ يَقُولَ: هَؤُلَاءِ الْفِرَقُ هُمْ بَنُو فُلَانٍ وَبَنُو فُلَانٍ، وَإِنْ كَانَ يَعْرِفُهُمْ بِعَلَامَتِهِمْ بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِ، اللَّهُمَّ إِلَّا فِي مَوْطِنَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: حَيْثُ/ نَبَّهَ الشَّرْعُ عَلَى تَعْيِينِهِمْ كَالْخَوَارِجِ، فإنه ظهر من استقرائه أنهم متمكنون (في الدخول) (3) تَحْتَ حَدِيثِ الْفِرَقِ، وَيَجْرِي مَجْرَاهُمْ مَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ، فَإِنَّ أَقْرَبَ النَّاسِ إِلَيْهِمْ شِيعَةُ الْمَهْدِيِّ الْمَغْرِبِيِّ، فَإِنَّهُ ظَهَرَ فِيهِمُ الْأَمْرَانِ اللَّذَانِ عَرَّفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِمَا (فِي) (4) الْخَوَارِجِ مِنْ أَنَّهُمْ يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، وَأَنَّهُمْ يَقْتُلُونَ (أَهْلَ) (5) الْإِسْلَامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ، فَإِنَّهُمْ أَخَذُوا أَنْفُسَهُمْ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَإِقْرَائِهِ حتى ابتدعوا فيه ثم لم يتفقوا فيه، ولا عرفوا مقاصده، ولذلك (اطرحوا) (6) كُتُبَ الْعُلَمَاءِ وَسَمَّوْهَا/ كُتُبَ الرَّأْيِ وَخَرَقُوهَا وَمَزَّقُوا أُدُمَهَا، مَعَ أَنَّ الْفُقَهَاءَ هُمُ الَّذِينَ بَيَّنُوا فِي كُتُبِهِمْ مَعَانِيَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَنْبَغِي، وَأَخَذُوا فِي قِتَالِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ بِتَأْوِيلٍ/ فَاسِدٍ، زَعَمُوا عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ مُجَسِّمُونَ وَأَنَّهُمْ غَيْرُ مُوَحِّدِينَ، وَتَرَكُوا الِانْفِرَادَ بِقِتَالِ أَهْلِ الْكُفْرِ من النصارى المجاورين لَهُمْ وَغَيْرِهِمْ.
فَقَدِ اشْتُهِرَ فِي الْأَخْبَارِ/ وَالْآثَارِ مَا كَانَ مِنْ خُرُوجِهِمْ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ/ وَعَلَى مَنْ بَعْدَهُ كَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ وغيره،
_________
(1) في (م): "لتتبين".
(2) أخرجه أبو داود برقم (4659) والطبراني في المعجم الكبير (6156 و6157)، وأصل الحديث في البخاري في الدعوات برقم (6361)، ومسلم في البر والصلة، باب من لعنه النبي صلّى الله عليه وسلّم أو سبه برقم (2600).
(3) زيادة من (غ) و (ر).
(4) زيادة من (غ) و (ر)
(5) ساقط من (م).
(6) في (ط) و (خ) و (ت): "طرحوا".(3/159)
حَتَّى لَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثٍ خَرَّجَهُ الْبَغَوِيُّ فِي مُعْجَمِهِ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ (1) أَنَّ عبادة بن قرط (2) غزا (مرّة) (3) فَمَكَثَ فِي غَزَاتِهِ تِلْكَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثم رجع (حتى إذا كان قريباً من الأهواز سمع صوت أذان، فقال: والله ما لي عهد بالصلاة) (4) مع (جماعة) (5) الْمُسْلِمِينَ مُنْذُ زَمَانٍ، فَقَصَدَ نَحْوَ الْأَذَانِ يُرِيدُ الصلاة فإذا هو بالأزارقة ـ (وهم) (6) صنف من الخوارج ـ فلما رأوه قالوا (له) (7): مَا جَاءَ بِكَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ؟ قَالَ: مَا أَنْتُمْ يَا إِخْوَتِي؟ قَالُوا: أَنْتَ أَخُو الشيطان/ لنقتلك، قال: أما تَرْضَوْنَ مِنِّي بِمَا رَضِيَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم (مني) (8)، قَالُوا: وَأَيُّ شَيْءٍ رَضِيَ بِهِ مِنْكَ؟ قَالَ: أتيته وأنا كافر (فشهدني) (9) أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّهُ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم، فخلَّى عَنِّي ـ قَالَ ـ فَأَخَذُوهُ فَقَتَلُوهُ (10).
وَأَمَّا عَدَمُ فَهْمِهِمْ لِلْقُرْآنِ فَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْقَدَرِيَّةِ حَدِيثٌ خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ عَنِ ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (الْقَدَرِيَّةُ مَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، إِنْ مَرِضُوا فَلَا تَعُودُوهُمْ، وَإِنْ مَاتُوا فلا تشهدوهم) (11).
_________
(1) هو حميد بن هلال بن سويد العدوي، وثقه ابن معين والنسائي، وهو من رواة الكتب الستة، توفي في ولاية خالد بن عبد الله على العراق. انظر: طبقات ابن سعد (7 456) والجرح والتعديل (4 105).
(2) هو عبادة بن قرط أو قرص بن عروة بن بجير الضبي، نزل البصرة وقتلته الخوارج سنة 41هـ. انظر: الإصابة لابن حجر رقم (4501).
(3) زيادة من (غ) و (ر).
(4) زيادة من (غ) و (ر).
(5) زيادة من (غ) و (ر).
(6) زيادة من (غ) و (ر).
(7) زيادة من (غ) و (ر).
(8) زيادة من (غ) و (ر).
(9) في (ط): "فشهدت".
(10) القصة أخرجها البخاري في التاريخ الكبير (6 93)، وذكرها ابن حجر في الإصابة (2 270).
(11) أخرجه أبو داود (4691)، والحاكم (286)، والبيهقي في السنن الكبرى (20658)، وبنحوه أخرجه أحمد في المسند (8 4)، برقم (5584)، وابن أبي عاصم في السنن (339)، وغيرهما، وقال أحمد شاكر: إسناده ضعيف لانقطاعه ... ـ ثم تكلم عليه باستفاضة ـ وأخرجه أيضاً برقم (6077)، وقال أحمد شاكر: في إسناده بحث دقيق وأنا=(3/160)
وَعَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ) (1): (لِكُلِّ أُمَّةٍ مَجُوسٌ، وَمَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: لَا قَدَرَ، مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ فَلَا تَشْهَدُوا (جِنَازَتَهُ) (2)، وَمَنْ مَرِضَ مِنْهُمْ فَلَا (تَعُودُوهُ) (3)،/ وَهُمْ شِيعَةُ الدَّجَّالِ، وَحَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُلْحِقَهُمْ بِالدَّجَّالِ) (4). وَهَذَا الْحَدِيثُ غَيْرُ صَحِيحٍ عِنْدَ أَهْلِ النَّقْلِ، قَالَ صَاحِبُ المغني: (إنه) (5) لَمْ يَصِحَّ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ (6).
نَعَمْ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ لِيَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ حِينَ أَخْبَرَهُ أَنَّ الْقَوْلَ بِالْقَدَرِ قَدْ ظَهَرَ: إِذَا لَقِيتَ أُولَئِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُمْ وَهُمْ بُرَآءُ مِنِّي، ثُمَّ اسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ جِبْرِيلَ (7)، صَحِيحٌ لَا إشكال في صحته.
_________
=أرجح صحته ... ـ ثم استفاض في الكلام عليه ـ وحسنه الألباني في ظلال الجنة (339)، واستفاض في تخريج الحديث الحويني في جنة المرتاب (ص30 وما بعدها).
(1) ما بين () ساقط من (غ) و (ر).
(2) في (ط): "جنازتهم".
(3) في (غ) و (ر): "تعودوهم".
(4) أخرجه أبو داود (4692)، من طريق عمر مولى غفرة عن رجل عن حذيفة. قال الألباني في السنة لابن أبي عاصم (1 144): إسناده ضعيف، لجهالة الرجل الذي لم يسم، وعمر مولى غفرة ضعيف، وقد اضطرب في إسناده، وراجع كلام الحويني في جنة المرتاب (ص46).
(5) زيادة من (غ) و (ر).
(6) انظر: المغني عن الحفظ والكتاب لأبي حفص عمر بن بدر الموصلي (ص29) بتحقيق الحويني.
(7) أخرجه معمر بن راشد في جامعه (20072)، مختصراً دون ذكر حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وابن أبي شيبة في الإيمان (119)، والمصنف (10478)، وأحمد في مسنده (185 و192 و369 و376 و5823)، وأخرجه مسلم في صحيحه (8) من عدة طرق، وابن ماجه (63)، وأبو داود (4695)، والترمذي (2610)، وعبد الله في السنة (926)، والنسائي (4990)، والآجري في الشريعة (205 و206 و378 و379 و427 و429)، ومحمد بن منده في الإيمان (1 و2 و4 و5 و7 و8 و9 و10 و11 و13 و14)، والبيهقي في السنن الكبرى (10 203)، وفي الاعتقاد (ص84)، وورد بلفظ: (أنا بريء ممن لم يؤمن بالقدر)، وهو جزء من قوله في الرواية المتقدمة، أخرجه الفريابي في القدر (230)، وابن بطة في الإبانة (1606)، ونحوه برقم (1613)، واللالكائي (1164)، وبنحوه (1163).(3/161)
وخرَّج أبو داود أيضاً من حديث عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم (قال) (1): (لَا تُجَالِسُوا أَهْلَ الْقَدَرِ وَلَا تُفَاتِحُوهُمْ) (2)، وَلَمْ يَصِحَّ أَيْضًا.
وخرَّج ابْنُ وَهْبٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ (3) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صِنْفَانِ مِنْ أُمَّتِي لَا سَهْمَ (لَهُمْ) (4) فِي الْإِسْلَامِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الْمُرْجِئَةُ والقدرية) (5).
وعن مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَغَيْرِهِ يَرْفَعُهُ قَالَ: (لُعِنَتِ القدرية والمرجئة على
_________
(1) زيادة من (غ) و (ر).
(2) أخرجه أبو داود (4710 و4720)، والإمام أحمد في المسند (1 243) برقم (206) وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح، اعتماداً على توثيق ابن حبان لحكيم بن شريك الهذلي. وأخرجه ابن أبي عاصم في السنة (330)، وضعفه الألباني في ظلال الجنة. وفي مشكاة المصابيح (1 38)، لجهالة حكيم بن شريك الهذلي، وجهله أيضاً أبو حاتم وابن حجر. انظر: تهذيب التهذيب (2 450)، والتقريب برقم (1475)، وأخرجه البخاري في التاريخ الكبير (3 15) في ترجمة حكيم بن شريك، وأخرجه عبد الله في السنة (841)، وأبو يعلى في المسند (245)، والآجري في الشريعة (543 و544)، وابن حبان في الصحيح (79)، وابن بطة في الإبانة (1274 و1520 و1997)، والحاكم (287)، واللالكائي (186 و1124)، والبيهقي في السنن الكبرى (20662)، والمزي في تهذيب الكمال (1459)، جميعهم من طريق حكيم بن شريك.
(3) هو زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أمه أو ولد، كان صاحب علم وصلاح، خرج على بني أمية فقتل رحمه الله سنة 125هـ. انظر: السير (5 389)، وطبقات ابن سعد (5 325).
(4) في (غ) و (ر): "لهما".
(5) لم أجد هذه الرواية عن زيد بن علي في المصادر المتوفرة لدي، ولكن روي بنحوه عن ابن عباس: أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (4 133)، وابن ماجه (62 و73)، والترمذي (2149)، وعبد بن حميد في المنتخب (579)، وابن أبي عاصم في السنة (334 و335 و344 و946 و947 و948 و951)، وضعفه الألباني. والطبراني في الكبير (11682)، وابن عدي في الكامل (3 309) و (5 194)، واللالكائي (1156)، والخطيب في تاريخ بغداد (5 368)، والمزي في تهذيب الكمال ترجمة رقم (4143)، وبنحوه من ابن عمر وأبي بكر وجابر بن عبد الله وابن مسعود ـ انظر رواياتهم في: جنة المرتاب (ص30 ـ 52)، وعن واثلة بن الأسقع، أخرجه الطبراني في الأوسط (1648).(3/162)
لِسَانِ سَبْعِينَ نَبِيًّا آخِرُهُمْ مُحَمَّدٌ/ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) (1).
وَعَنْ مُجَاهِدِ بْنِ (جَبْرٍ) (2) أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سَيَكُونُ مِنْ أُمَّتِي قَدَرِيَّةٌ وَزِنْدِيقِيَّةٌ أُولَئِكَ مَجُوسٌ" (3).
/وَعَنْ نَافِعٍ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ عَبْدِ الله بن عمر (نعوده) (4) إذ (جاءه) (5) رَجُلٌ فَقَالَ: إِنَّ فُلَانًا يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ ـ لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ ـ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: بَلَغَنِي أَنَّهُ قَدْ أَحْدَثَ حَدَثًا، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَلَا تقرأنَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ ـ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي مَسْخٌ وَخَسْفٌ وَهُوَ/ فِي الزِّنْدِيقِيَّةِ (والقدرية)) (6).
وَعَنِ ابْنِ الدَّيْلَمِيِّ (7) قَالَ: أَتَيْنَا أُبي بْنَ كَعْبٍ فَقُلْتُ لَهُ: وَقَعَ فِي نَفْسِي شَيْءٌ من القدر فحدثني (بشيء) (8) لعل الله (أن) (9) يُذْهِبُهُ مِنْ قَلْبِي، فَقَالَ: لَوْ أَنَّ اللَّهَ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ عَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ كَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَلَوْ أَنْفَقْتَ مِثْلَ أُحد ذهباً في
_________
(1) حديث معاذ أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (325 و952) ـ وضعفهما الألباني ـ والطبراني في المعجم الكبير (20 117 برقم 232)، وفي مسند الشاميين (400).
(2) في (ط) و (م): "مجاهد بن جبير"، ولم أعرفه من هو بالتحديد، ففي الإصابة مجاهد بن جبر مولى ابنة غزوان أخت عتبة بن غزوان، وهناك أيضاً مجاهد بن جبر المكي التابعي المشهور، والله أعلم بالصواب. انظر: الإصابة (3 485)، برقم (8363).
(3) لم أقف عليه من رواية مجاهد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم بهذا اللفظ.
(4) في (غ) و (ر): "قعود".
(5) في (ط) و (خ): "جاء".
(6) ما بين القوسين ساقط من (ط) و (خ). والحديث أخرجه الإمام أحمد في المسند (9 73)، برقم (6208)، وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح. وبنحوه أخرجه الترمذي برقم (2152 و2153)، وأبو داود برقم (4613)، وابن ماجه (4061)، وحسنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، وأخرجه الحاكم (285)، واللالكائي (1135).
(7) هو عبد الله بن فيروز الديلمي، أبو بشر ويقال أبو بسر، وهو من الرواة عن أبي بن كعب وابن مسعود وحذيفة رضي الله عنهم وثقه ابن معين والعجلي وابن حبان. انظر: تهذيب التهذيب (5 358).
(8) زيادة من (غ) و (ر).
(9) زيادة من (غ) و (ر).(3/163)
سبيل الله ما قبله (الله) (1) مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ وَتَعْلَمَ/ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَلَوْ مِتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا لَدَخَلْتَ النَّارَ، قَالَ: ثُمَّ أَتَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ فَقَالَ لِي مِثْلَ ذَلِكَ.
قَالَ: ثم أتيت حذيفة بن اليمان فقال (لي) (2) مثل ذلك، (ثم أتيت زيد بن ثابت فحدثني عن النبي صلّى الله عليه وسلّم مِثْلَ ذَلِكَ) (3).
وَفِي بَعْضِ الْحَدِيثِ: (لَا تَكَلَّمُوا فِي الْقَدَرِ فَإِنَّهُ سِرُّ اللَّهِ) (4)، وَهَذَا كُلُّهُ أَيْضًا غَيْرُ صَحِيحٍ.
وَجَاءَ فِي الْمُرْجِئَةِ (5) وَالْجَهْمِيَّةِ (6) (والأشعرية) (7) شَيْءٌ لَا يَصِحُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ/ صَلَّى الله عليه وسلّم، فلا تعويل (عَلَيْهِ) (8).
نَعَمْ نَقَلَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وَجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ *إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ *} (9) نَزَلَ فِي أَهْلِ الْقَدَرِ.
فَرَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ/ قال: (جاء) (10)
_________
(1) زيادة من (غ) و (ر).
(2) زيادة من (غ) و (ر).
(3) ما بين () زيادة من (غ) و (ر) والحديث أخرجه أحمد (5 182 و189)، وابن ماجه (77)، وأبو داود (4699)، وابن حبان (505)، والبيهقي في السنن الكبرى (204)، وصححه الألباني في المشكاة (1 41).
(4) ورد بنحوه عن عائشة رضي الله عنها مرفوعاً، أخرجه ابن عدي في الكامل (7 186)، في ترجمة يحيى بن أبي أنيسة، وهو ضعيف، وأخرجه بنحوه عن أنس رضي الله عنه مرفوعاً الخطيب البغدادي في تاريخه (2 386)، في ترجمة محمد بن عبد بن عامر السمرقندي، وقال عنه: يحدث المناكير على الثقات، يتهم بالكذب. وأخرجه بنحوه عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً اللالكائي (1122)، وفيه الهيثم بن جماز الحنفي البصري، متروك الحديث، ترجمه ابن حجر في اللسان (6 204)، وذكر الحديث من روايته، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع برقم (4131).
(5) انظر ملحق الفرق برقم (78).
(6) انظر تعريفهم في ملحق الفرق.
(7) زيادة من (غ) و (ر).
(8) ساقط من (م).
(9) سورة القمر: الآيتان (48، 49).
(10) في (ط) و (خ) و (ت): "أتى". وهو ساقط من (م).(3/164)
مشركو قُرَيْشٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَاصِمُونَهُ فِي الْقَدَرِ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ (1). وَرَوَى مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُكَذِّبِينَ بِالْقَدَرِ (2)، وَلَكِنْ إِنْ صَحَّ فَفِيهِ دَلِيلٌ، وَإِلَّا فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يُعَيِّنُ أَنَّهُمْ مِنَ الْفِرَقِ، وَكَلَامُنَا فيه.
والثاني (3): حيث تكون الفرقة تدعو إلى ضلالتها وتزينها فِي قُلُوبِ الْعَوَامِّ/ وَمَنْ لَا عِلْمَ عِنْدِهِ، فَإِنَّ ضَرَرَ هَؤُلَاءِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَضَرَرِ إِبْلِيسَ، وهم من شياطين الإنس، فلا بد مِنَ التَّصْرِيحِ بِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدْعَةِ وَالضَّلَالَةِ، ونسبتهم إلى الفرق إذا قامت له (الشواهد) (4) عَلَى أَنَّهُمْ مِنْهُمْ، كَمَا اشْتُهِرَ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ (5) وَغَيْرِهِ. فَرَوَى عَاصِمٌ الْأَحْوَلُ (6) قَالَ: جَلَسْتُ إِلَى قَتَادَةَ فَذَكَرَ/ عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ فَوَقَعَ فِيهِ وَنَالَ مِنْهُ، فَقُلْتُ: أَبَا الْخَطَّابِ، أَلَا أَرَى الْعُلَمَاءَ يَقَعُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ؟ فقال: (يا أحول) (7) أوَ لا تَدْرِي أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا ابْتَدَعَ بِدَعَةً فَيَنْبَغِي لها أن تذكر حتى (يُحذر) (8)؟
_________
(1) أخرجه مسلم برقم (2656)، وأحمد في المسند (2 444 و476)، والبخاري في خلق أفعال العباد (ص49)، وابن ماجه (83)، والترمذي (2157)، وابن حبان (6139)، وتفسير عبد بن حميد غير مطبوع، ولكن ذكره الشوكاني في فتح القدير (5 129 ـ 130) وعزاه إلى عبد بن حميد وغيره.
(2) وهو مروي من حديث زرارة الأنصاري مرفوعاً، أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (18714)، والطبراني في المعجم الكبير (5316)، وذكره ابن حجر في الإصابة (2 562)، و (5 291)، وعزاه لابن شاهين وابن مردويه وابن منده، وذكر أن مداره على حفص بن سليمان اضطرب فيه وهو ضعيف، وبنحوه عن ابن عباس موقوفاً أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (18715)، واللالكائي (1162 و1388)، وبنحوه في المعجم الكبير للطبراني (11163).
(3) أي: الثاني من أوجه جواز تعيين الفرقة بأعيانها. انظر ما سبق (ص159).
(4) في (ط) و (خ) و (ت): "الشهود".
(5) تقدمت ترجمته.
(6) هو عاصم بن سليمان البصري، أبو عبد الرحمن، إمام حافظ محدث البصرة، وثقه الإمام أحمد بن حنبل، وابن معين، وأبو زرعة، وغيرهم، توفي سنة 142، وقيل 143هـ. انظر: السير (6 13).
(7) في (م): "ما خول". وفي (خ): "ما حول". وفي أصل (ط): "ما أحول" في (ت): "بياض بمقدار كلمة. والتصحيح من (غ) و (ر) وتاريخ بغداد (12 179).
(8) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "تحذر".(3/165)
فَجِئْتُ مِنْ عِنْدِ قَتَادَةَ وَأَنَا مُغْتَمٌّ بِمَا سَمِعْتُ مِنْ قَتَادَةَ فِي عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ، وَمَا رَأَيْتُ مَنْ نَسُكِهِ وَهَدْيِهِ،/ فَوَضَعْتُ رَأْسِي نِصْفَ النَّهَارِ وَإِذَا عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ وَالْمُصْحَفُ فِي حِجْرِهِ وَهُوَ يَحُكُّ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، (فَقُلْتُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، تَحُكُّ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ؟) (1)، قَالَ: إِنِّي سَأُعِيدُهَا. قَالَ: فَتَرَكْتُهُ حَتَّى حَكَّهَا، فَقُلْتُ لَهُ: أَعِدْهَا، فَقَالَ: لَا أستطيع (2).
فمثل هؤلاء لا بد مِنْ ذِكْرِهِمْ وَالتَّشْرِيدِ بِهِمْ، لِأَنَّ مَا يَعُودُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ ضَرَرِهِمْ إِذَا (تُرِكُوا) (3) أَعْظَمُ مِنَ الضَّرَرِ الْحَاصِلِ بِذِكْرِهِمْ وَالتَّنْفِيرِ عَنْهُمْ إِذَا كَانَ/ سَبَبُ تَرْكِ (التَّعْيِينِ) (4) الْخَوْفُ مِنَ التَّفَرُّقِ والعداوة، ولا شك أن التفرق بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ الدَّاعِينَ لِلْبِدْعَةِ وَحْدَهُمْ إِذَا أُقِيمَ عَلَيْهِمْ أَسْهَلُ مِنَ التَّفَرُّقِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ الدَّاعِينَ وَمَنْ شَايَعَهُمْ وَاتَّبَعَهُمْ، وَإِذَا تَعَارَضَ الضرران فالمرتكب أَخَفُّهُمَا وَأَسْهَلُهُمَا، وَبَعْضُ الشَّرِّ أَهْوَنُ مِنْ جَمِيعِهِ، كَقَطْعِ الْيَدِ الْمُتَآكِلَةِ، إِتْلَافُهَا/ أَسْهَلُ مِنْ إِتْلَافِ النفس. وهذا شأن الشرع أبداً: (أن يَطْرَحُ) (5) حُكْمَ الْأَخَفِّ وِقَايَةً مِنَ الْأَثْقَلِ.
/فَإِذَا فُقِدَ الْأَمْرَانِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُذْكَرُوا (وَلَا أن) (6) يعيَّنوا وإن وُجِدُوا، لِأَنَّ ذَلِكَ أَوَّلُ مُثِيرٍ (لِلشَّرِّ) (7) وَإِلْقَاءِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، (وَمَتَى) (8) حَصَلَ بِالْيَدِ مِنْهُمْ أَحَدٌ ذَاكَرَهُ بِرِفْقٍ، وَلَمْ (يُرِهِ) (9) أَنَّهُ خَارِجٌ (مِنَ) (10) السُّنَّةِ، بَلْ يُرِيهِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ، وَأَنَّ الصَّوَابَ الْمُوَافِقَ لِلسُّنَّةِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَعَصُّبٍ وَلَا إِظْهَارِ غلبه فهو (أنجح وأنفع) (11)، وَبِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ دُعي الْخَلْقُ أَوَّلًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، حَتَّى (إِذَا) (12) عَانَدُوا وَأَشَاعُوا الْخِلَافَ وَأَظْهَرُوا الفرقة قوبلوا بحسب ذلك.
_________
(1) ساقط من (غ) و (ر).
(2) انظر: تاريخ بغداد (12 179).
(3) ساقط من (غ) و (ر).
(4) في (غ) و (ر): "التغيير".
(5) في (م) و (خ) و (ت): "ويطرح"، وفي (ط): "يطرع".
(6) في (ط): "لأن".
(7) في (غ) و (ر): "للشحناء".
(8) في (ط) و (خ) و (ت): "ومن".
(9) في (م) و (غ) و (ر): "ير".
(10) في (ط): "الحج"، وفي (خ): "أنجح".
(11) في (غ) و (ر): "عن".
(12) زيادة من (غ) و (ر).(3/166)
قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ: أَكْثَرُ الْجَهَالَاتِ إِنَّمَا رَسَخَتْ فِي قُلُوبِ الْعَوَامِّ بِتَعَصُّبِ جَمَاعَةٍ مِنْ (جُهَّالِ) (1) أَهْلِ الْحَقِّ، أَظْهَرُوا الْحَقَّ فِي معرض التحدي (والإدلاء) (2) وَنَظَرُوا إِلَى ضُعَفَاءِ الْخُصُومِ بِعَيْنِ التَّحْقِيرِ وَالِازْدِرَاءِ، فَثَارَتْ/ مِنْ بَوَاطِنِهِمْ دَوَاعِي الْمُعَانَدَةِ وَالْمُخَالَفَةِ، وَرَسَخَتْ فِي قُلُوبِهِمُ الِاعْتِقَادَاتُ الْبَاطِلَةُ، وَتَعَذَّرَ عَلَى الْعُلَمَاءِ الْمُتَلَطِّفِينَ مَحْوُهَا/ مَعَ ظُهُورِ فَسَادِهَا، حَتَّى انْتَهَى التَّعَصُّبُ بِطَائِفَةٍ إِلَى أَنِ اعْتَقَدُوا أَنَّ الْحُرُوفَ الَّتِي نَطَقُوا بِهَا فِي الْحَالِ بَعْدَ السُّكُوتِ عَنْهَا طُولَ الْعُمُرِ قَدِيمَةٌ، وَلَوْلَا اسْتِيلَاءُ الشَّيْطَانِ بِوَاسِطَةِ الْعِنَادِ وَالتَّعَصُّبِ لِلْأَهْوَاءِ، لَمَا وُجِدَ مِثْلُ هذا الاعتقاد (مستقراً) (3) فِي قَلْبِ مَجْنُونٍ فَضْلًا عَنْ قَلْبِ عَاقِلٍ.
هَذَا مَا قَالَ، وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي تَشْهَدُ لَهُ الْعَوَائِدُ الْجَارِيَةُ، فَالْوَاجِبُ تَسْكِينُ الثَّائِرَةِ مَا قدر على ذلك، والله أعلم.
/الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ:
أَنَّهُ لَمَّا تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَا يَتَعَيَّنُونَ فَلَهُمْ خَوَاصُّ وَعَلَامَاتٌ يُعْرَفُونَ بِهَا، وَهِيَ عَلَى قِسْمَيْنِ: عَلَامَاتٌ إِجْمَالِيَّةٌ، وَعَلَامَاتٌ تَفْصِيلِيَّةٌ.
فَأَمَّا العلامات/ الإجمالية فثلاثة (4):
أحدها: الْفُرْقَةُ الَّتِي نَبَّهَ عَلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} (5)، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} (6)، رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: هِيَ الْجِدَالُ وَالْخُصُومَاتُ/ فِي الدِّينِ (7).
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا} (8)، وفي
_________
(1) في (ط) و (خ): "جهل".
(2) في (ط): "والإدلال".
(3) في (ط) و (خ): "مستفزا".
(4) انظر ما ذكره أيضاً في: الموافقات (4 104).
(5) سورة آل عمران: الآية (105).
(6) سورة المائدة: الآية (64).
(7) تقدم تخريجه (2/).
(8) سورة آل عمران: الآية (103).(3/167)
الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ/ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلَاثًا، فَيَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جميعاً ولا تفرقوا ... (الْحَدِيثِ) (1) " (2).
وَهَذَا التَّفْرِيقُ ـ كَمَا تَقَدَّمَ ـ إِنَّمَا هُوَ الَّذِي يُصَيِّرُ الْفِرْقَةَ الْوَاحِدَةَ فِرَقًا وَالشِّيعَةَ (الْوَاحِدَةَ) (3) شِيَعًا.
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: صَارُوا فِرَقًا لِاتِّبَاعِ أهوائهم، وبمفارقة الدين/ تشتتت أَهْوَاؤُهُمْ فَافْتَرَقُوا، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} ـ ثُمَّ بَرَّأَهُ اللَّهُ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ ـ: {لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (4)، وَهُمْ أَصْحَابُ الْبِدَعِ وَأَصْحَابُ الضَّلَالَاتِ، وَالْكَلَامُ فِيمَا لَمْ يَأْذَنِ اللَّهُ فِيهِ وَلَا رَسُولُهُ.
قَالَ: وَوَجَدْنَا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَعْدِهِ قَدِ اخْتَلَفُوا فِي أَحْكَامِ الدِّينِ وَلَمْ (يَتَفَرَّقُوا) (5) وَلَا صَارُوا شِيَعًا لِأَنَّهُمْ لَمْ يُفَارِقُوا الدِّينَ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِيمَا أُذِنَ لَهُمْ مِنِ (اجْتِهَادِ الرَّأْيِ) (6)، وَالِاسْتِنْبَاطِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِيمَا لَمْ يَجِدُوا/ فِيهِ نَصًّا (وَاخْتَلَفَتْ) (7) فِي ذَلِكَ أَقْوَالُهُمْ فَصَارُوا مَحْمُودِينَ، لِأَنَّهُمُ اجْتَهَدُوا فِيمَا أُمِرُوا بِهِ كَاخْتِلَافِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ وَزَيْدٍ فِي الْجَدِّ مَعَ الْأُمِّ/ وَقَوْلِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ فِي أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ، وَخِلَافِهِمْ فِي الْفَرِيضَةِ الْمُشْتَرَكَةِ وَخِلَافِهِمْ فِي الطَّلَاقِ قَبْلَ النِّكَاحِ، وفي البيوع وغير ذلك، (مما) (8) اخْتَلَفُوا فِيهِ وَكَانُوا مَعَ هَذَا أَهْلَ مَوَدَّةٍ وتناصح، وأخوة الإسلام فيما بينهم
_________
(1) في (ط) و (خ): "وصدق الحديث".
(2) أخرجه مسلم (1715)، ومالك في الموطأ (1796)، وأحمد (2 367)، والبخاري في الأدب المفرد (442)، وابن حبان (3388)، والبيهقي في السنن الكبرى (16433).
(3) في (غ) و (ر): "المنفردة".
(4) سورة الأنعام: الآية (159).
(5) في (غ) و (ر): "يفترقوا".
(6) في (ط) و (خ) و (ت): "اجتهاد إلى الرأي".
(7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "واختلف".
(8) في (ط): "فما".(3/168)
قَائِمَةٌ، فَلَمَّا حَدَثَتِ الْأَهْوَاءُ الْمُرْدِيَةُ، الَّتِي حَذَّرَ مِنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَظَهَرَتِ الْعَدَاوَاتُ وَتَحَزَّبَ أَهْلُهَا فَصَارُوا شِيَعًا، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا حَدَثَ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَائِلِ الْمُحْدَثَةِ الَّتِي أَلْقَاهَا الشَّيْطَانُ عَلَى أَفْوَاهِ أَوْلِيَائِهِ.
(قَالَ) (1): (كُلُّ) (2) مَسْأَلَةٍ حَدَثَتْ فِي الْإِسْلَامِ (وَاخْتَلَفَ) (3) النَّاسُ فِيهَا وَلَمْ يُورِثْ ذَلِكَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمْ عَدَاوَةً وَلَا بَغْضَاءَ وَلَا فُرْقَةً، عَلِمْنَا أَنَّهَا مِنْ مَسَائِلِ الْإِسْلَامِ، وَكُلُّ مَسْأَلَةٍ (حَدَثَتْ) (4) (وَطَرَأَتْ) (5) فَأَوْجَبَتِ الْعَدَاوَةَ (وَالْبَغْضَاءَ) (6) (وَالتَّدَابُرَ) (7) وَالْقَطِيعَةَ عَلِمْنَا أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ/ فِي شَيْءٍ، وَأَنَّهَا الَّتِي عَنَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَفْسِيرِ الْآيَةِ.
وَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ/ وَسَلَّمَ: "يَا عَائِشَةُ، إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً، مَنْ هُمْ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: هُمْ أَصْحَابُ الْأَهْوَاءِ وَأَصْحَابُ الْبِدَعِ وَأَصْحَابُ الضَّلَالَةِ من هذه الأمة" الحديث (وقد) (8) تَقَدَّمُ ذِكْرُهُ (9).
قَالَ: فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ ذِي عَقْلٍ وَدِينٍ أَنْ يَجْتَنِبَهَا، وَدَلِيلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ
_________
(1) في (م) و (خ) و (ت): "فقال".
(2) في (غ) و (ر): "فكل".
(3) في (م) و (غ) و (ر): "فاختلف".
(4) ساقط من (غ) و (ر).
(5) في (م) و (غ) و (ر): "طرأت".
(6) ساقط من (غ) و (ر).
(7) في (غ) و (ر): "والتنافر".
(8) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الذي".
(9) أخرجه ابن أبي عاصم في السنة برقم (4)، والطبراني في المعجم الصغير (560)، وأبو نعيم في الحلية (4 138)، والبيهقي في شعب الإيمان (7239 و7240)، كلهم من حديث عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنَّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لعائشة: (يا عائشة ... ) والحديث أعله أبو حاتم كما في العلل لابنه (2 77)، وأعله الدارقطني في العلل (2 163 برقم 191)، وضعفه الألباني في ظلال الجنة (4)، ونقل عن الهيثمي تضعيفه للحديث في المجمع (1 188)، وتضعيف ابن كثير للحديث في التفسير (2 196)، وروي بنحوه مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مرفوعاً أخرجه ابن جرير في التفسير (14266)، وفيه عباد بن كثير وليث بن أبي سليم وكلاهما ضعيف، وأخرجه بنحوه الطبراني في الأوسط (668) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً، وقال: تفرد به معلل. اهـ. ومعلل هو ابن نفيل الحراني، ذكره ابن حبان في الثقات (9 201) والله أعلم.(3/169)
تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} (1)، فإذا اختلفوا (وتقاطعوا كان ذلك) (2) لِحَدَثٍ أَحْدَثُوهُ مِنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى.
//هَذَا مَا قَالَهُ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْإِسْلَامَ يَدْعُو إِلَى الْأُلْفَةِ والتَّحاب وَالتَّرَاحُمِ وَالتَّعَاطُفِ، فَكُلُّ رَأْيٍ أَدَّى إِلَى خِلَافِ ذَلِكَ فَخَارِجٌ عَنِ الدِّينِ، وَهَذِهِ الْخَاصِّيَّةُ قَدْ دَلَّ عَلَيْهَا الْحَدِيثُ الْمُتَكَلَّمُ (عَلَيْهِ) (3)، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي كُلِّ فِرْقَةٍ مِنَ الفرق (المُضَمَّنَة) (4) فِي الْحَدِيثِ.
أَلَا تَرَى كَيْفَ كَانَتْ ظَاهِرَةً فِي الْخَوَارِجِ الَّذِينَ أَخْبَرَ بِهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: "يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ" (5)،/ وَأَيُّ فُرْقَةٍ تُوَازِي هذه (إلا) (6) الْفُرْقَةَ الَّتِي بَيْنَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِ الْكُفْرِ؟ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي سَائِرِ مَنْ عُرِفَ مِنَ الفرق أو (من) (7) ادُّعِيَ/ ذَلِكَ (فِيهِمْ) (8)، إِلَّا أَنَّ الْفِرْقَةَ (لَا) (9) تَعْتَبِرُ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَتْ، لِأَنَّهَا تَخْتَلِفُ بالقوة والضعف.
وحين ثبت أن مخالفة (بعض) (10) هذه الفرق (إنما هي في القواعد الكلية كانت الفرقة أقوى بخلاف ما إذا خولف) (11) (في) (12) الفروع الجزئية (دون الكلية) (13)، (فإن الفرقة لا بد) (14) (أضعف) (15) (فيجب) (16) النظر في هذا كله.
_________
(1) سورة آل عمران: الآية (103).
(2) في (ط): "وتعاطوا" ذلك كان. وفي (خ): "وتعاطوا كان ذلك".
(3) في (م): "عليها".
(4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "المتضمنة".
(5) تقدم تخريجه (3/ 114).
(6) زيادة من (غ) و (ر).
(7) زيادة من (م) و (خ) و (غ) و (ر).
(8) في (غ) و (ر): "فيه".
(9) ساقطة من (غ) و (ر).
(10) ما بين القوسين زيادة من (ت) و (غ) و (ر).
(11) ما بين () زيادة من (غ) و (ر).
(12) في (ط): "من".
(13) ما بين القوسين زيادة من (ت).
(14) في (م): "فإن الفرقة فلا بد". وفي (ط) و (خ): "باب الفرقة فلا بد". وفي (ت): "فالفرقة بلا بد".
(15) ما بين القوسين ساقط من (ط) و (خ).
(16) في (ط) و (خ): "يجب".(3/170)
وَالْخَاصِّيَّةُ الثَّانِيَةُ: هِيَ الَّتِي نَبَّهَ عَلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} الْآيَةَ. فَبَيَّنَتِ الْآيَةُ أَنَّ أَهْلَ الزَّيْغِ يَتَّبِعُونَ مُتَشَابِهَاتِ الْقُرْآنِ، وَجَعَلُوا مِمَّنْ شَأْنُهُ أَنْ يَتَّبِعَ الْمُتَشَابِهَ لَا الْمُحْكَمَ. وَمَعْنَى الْمُتَشَابِهِ: مَا أُشْكِلَ معناه، ولم (يتبين) (1) مغزاه، كَانَ مِنَ الْمُتَشَابِهِ الْحَقِيقِيِّ (2) ـ كَالْمُجْمَلِ مِنَ الْأَلْفَاظِ وما يظهر (منه) (3) التَّشْبِيهِ (4) ـ أَوْ مِنَ/ الْمُتَشَابِهِ الْإِضَافِيِّ ـ وَهُوَ (مَا يَحْتَاجُ) (5) فِي بَيَانِ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ إِلَى دَلِيلٍ خَارِجِيٍّ ـ وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ ظَاهِرَ الْمَعْنَى لِبَادِي الرَّأْيِ/ كَاسْتِشْهَادِ الْخَوَارِجِ عَلَى إِبْطَالِ/ التَّحْكِيمِ بقوله: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} (6) فَإِنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ صَحِيحٌ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَأَمَّا عَلَى التَّفْصِيلِ فَمُحْتَاجٌ إِلَى الْبَيَانِ، وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ لِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (7)، لِأَنَّهُ بَيَّنَ أَنَّ الْحُكْمَ (لِلَّهِ) (8) تَارَةً بِغَيْرِ تحكيم (وتارة بتحكيم) (9)، لِأَنَّهُ إِذَا أَمَرَنَا بِالتَّحْكِيمِ فَالْحُكْمُ بِهِ حُكْمُ اللَّهِ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ: قَاتَلَ وَلَمْ يَسْبِ. (فَإِنَّهُمْ حصروا (الحكم في قسمين) (10) وَتَرَكُوا قِسْمًا ثَالِثًا) (11) وَهُوَ الَّذِي نَبَّهَ (عَلَيْهِ) (12) قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} (13) الْآيَةَ فَهَذَا قِتَالٌ مِنْ غَيْرِ سَبْيٍ، لَكِنَّ ابن عباس رضي الله عنه (نبههم) (14) على وجه أظهر وهو (أن) (15)
_________
(1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "يبين".
(2) انظر: ما ذكره الشاطبي عن المتشابه الحقيقي والإضافي في الموافقات (3 54 ـ 58).
(3) في (ط): "من".
(4) يظهر أن الشاطبي يرى أن نصوص الصفات من المتشابه وتقدم التعليق على هذه المسألة (3/ 118).
(5) في (غ) و (ر): "مما احتاج".
(6) سورة يوسف: الآية (40).
(7) تقدم (3/ 118).
(8) في (غ) و (ر): "إلا لله".
(9) ما بين القوسين ساقط من (ط) و (خ). وفي (غ) و (ر): و"تارة بالتحكيم".
(10) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "التحكيم في القسمين".
(11) في (ت): "بياض بمقدار سطر".
(12) زيادة من (خ) و (غ) و (ر).
(13) سورة الحجرات: الآية (9).
(14) في (ط): "نبهم".
(15) ساقط من (م) و (خ) و (غ) و (ر).(3/171)
السباء إذا حصل فلا بد من وقوع بعض (السهمان) (1) عَلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ حُكْمُهَا حُكْمُ السَّبَايَا فِي الِانْتِفَاعِ بِهَا كَالسَّبَايَا، فَيُخَالِفُونَ الْقُرْآنَ الَّذِي ادَّعَوُا التَّمَسُّكَ بِهِ.
وَكَذَلِكَ فِي مَحْوِ الِاسْمِ مِنْ إِمَارَةِ الْمُؤْمِنِينَ،/ اقْتَضَى عِنْدَهُمْ أَنَّهُ إِثْبَاتٌ (لِإِمَارَةِ) (2) الْكَافِرِينَ، وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ نَفْيَ الِاسْمِ (مِنْهَا) (3) لَا يَقْتَضِي نَفْيَ الْمُسَمَّى.
وَأَيْضًا فَإِنْ فَرَضْنَا أَنَّهُ يَقْتَضِي نَفْيَ الْمُسَمَّى لَمْ يَقْتَضِ إِثْبَاتَ إِمَارَةٍ أُخْرَى. فَعَارَضَهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ بِمَحْوِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم (اسم) (4) الرسالة من الصحيفة، (وهي مُعَارَضَةً) (5) لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا. وَلِذَلِكَ رَجَعَ مِنْهُمْ أَلْفَانِ، أَوْ مَنْ رَجَعَ مِنْهُمْ.
فَتَأَمَّلُوا وَجْهَ اتِّبَاعِ الْمُتَشَابِهَاتِ، وَكَيْفَ/ أَدَّى (إِلَى) (6) الضَّلَالِ وَالْخُرُوجِ عَنِ الْجَمَاعَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: "فإذا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الذين سمى الله، فاحذروهم" (7).
و/الخاصية الثَّالِثَةُ: اتِّبَاعُ الْهَوَى، وَهُوَ الَّذِي نَبَّهَ عَلَيْهِ قوله تعالى:
{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي/ قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} (8)، (وَالزَّيْغُ) (9) هُوَ الْمَيْلُ عَنِ الْحَقِّ اتِّبَاعًا لِلْهَوَى، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} (10) وَقَوْلُهُ: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} (11).
وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ الْفِرَقِ مَا يَدُلُّ عَلَى هذه الخاصية ولا على التي قبلها
_________
(1) زيادة من (غ) و (ر).
(2) في (غ) و (ر): "إمارة".
(3) ساقط من (غ) و (ر).
(4) ساقط من (غ) و (ر).
(5) في (ط) و (خ) و (ت): "وهي معارض".
(6) ساقط من (غ) و (ر).
(7) تقدم تخريجه (1 72).
(8) سورة آل عمران: الآية (7).
(9) ساقط من (غ) و (ر).
(10) سورة القصص: الآية (50).
(11) سورة الجاثية: الآية (23).(3/172)
إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الْخَاصِّيَّةَ رَاجِعَةٌ فِي الْمَعْرِفَةِ بِهَا إِلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ، لِأَنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى أَمْرٌ (بَاطِنِيٌّ) (1) فَلَا يَعْرِفُهُ غَيْرُ صَاحِبِهِ إِذَا لَمْ يُغَالِطْ نَفْسَهُ، إِلَّا/ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهَا دَلِيلٌ خَارِجِيٌّ.
وَقَدْ مَرَّ أَنَّ أَصْلَ حُدُوثِ الْفِرَقِ إِنَّمَا هُوَ الْجَهْلُ بِمَوَاقِعِ السُّنَّةِ، وَهُوَ الَّذِي نَبَّهَ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ بقوله: "اتخذ الناس رؤساء جهالاً" (2) فكل (واحد) (3) عَالِمٌ بِنَفْسِهِ هَلْ بَلَغَ فِي الْعِلْمِ مَبْلَغَ الْمُفْتِينَ أَمْ لَا؟ وَعَالِمٌ (إِذَا) (4) رَاجَعَ النَّظَرَ فِيمَا سُئِلَ عَنْهُ: هَلْ هُوَ قَائِلٌ بِعِلْمٍ وَاضِحٍ مِنْ غَيْرِ إِشْكَالٍ أَمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ؟ أَمْ هُوَ عَلَى شَكٍّ فِيهِ؟ وَالْعَالِمُ إِذَا لَمْ يَشْهَدْ لَهُ الْعُلَمَاءُ فَهُوَ فِي الْحُكْمِ بَاقٍ عَلَى الْأَصْلِ مِنْ عَدَمِ الْعِلْمِ حَتَّى يَشْهَدَ فِيهِ غَيْرُهُ وَيَعْلَمَ (هُوَ) (5) مِنْ نَفْسِهِ مَا شَهِدَ لَهُ/ بِهِ، وَإِلَّا فَهُوَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ عَدَمِ الْعِلْمِ أَوْ عَلَى شَكٍّ، فَاخْتِيَارُ الْإِقْدَامِ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ عَلَى الْإِحْجَامِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِاتِّبَاعِ الْهَوَى. إِذْ كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْتَفْتِيَ فِي نَفْسِهِ غَيْرَهُ ولم يفعل، (وكان) (6) (حَقِّهِ) (7) أَنْ لَا يُقَدَّمَ إِلَّا أَنْ يُقَدِّمَهُ غيره، ولم يفعل (هذا) (8).
(وقد) (9) قال العقلاء: إن رَأْيُ الْمُسْتَشَارِ أَنْفَعُ لِأَنَّهُ بَرِيءٌ مِنَ الْهَوَى، بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يُسْتَشَرْ فَإِنَّهُ غَيْرُ بَرِيءٍ، ولا سيما في الدخول في المناصب العلية والرتب (الشريفة كمرتبة) (10) الْعِلْمِ.
/فَهَذَا أُنْمُوذَجٌ (يُنَبِّهُ) (11) صَاحِبَ الْهَوَى فِي هَوَاهُ وَيَضْبِطُهُ إِلَى أَصْلٍ يَعْرِفُ بِهِ، هَلْ هو في تصدره (لفتيا) (12) النَّاسِ مُتَّبِعٌ لِلْهَوَى، أَمْ هُوَ مُتَّبِعٌ لِلشَّرْعِ؟
_________
(1) في (م) و (غ) و (ر): "باطن".
(2) تقدم تخريجه (1/ 117).
(3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "أحد".
(4) زيادة من (غ) و (ر).
(5) ساقط من (غ) و (ر).
(6) في (ط): "وكل". وفي (غ) و (ر): "أو كان".
(7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "من حقه".
(8) ساقط من (غ) و (ر).
(9) زيادة من (غ) و (ر).
(10) في (ط) و (خ) و (ت): "الشرعية كرتب".
(11) في (م): "يتيه".
(12) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "إلى فتوى".(3/173)
وَأَمَّا الْخَاصِّيَّةُ الثَّانِيَةُ (1) فَرَاجِعَةٌ (إِلَى) (2) الْعُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ، لِأَنَّ مَعْرِفَةَ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ رَاجِعٌ إليهم، فهم يعرفونها ويعرفون أهلها (بمعرفتهم بها) (3) // فَهُمُ الْمَرْجُوعُ/ إِلَيْهِمْ فِي بَيَانِ مَنْ هُوَ مُتَّبِعٌ لِلْمُحْكَمِ فَيُقَلَّدُ فِي الدِّينِ، وَمَنْ هُوَ (متبع) (4) للمتشابه فلا يقلد أصلاً.
ولكن له (علامات) (5) ظاهرة أيضاً نبه عليها الحديث وهو الَّذِي فُسِّرَتِ الْآيَةُ بِهِ، قَالَ فِيهِ: "فَإِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيهِ، فَهُمُ الَّذِينَ عَنَى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ"، خرَّجه الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ (6).
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَوَّلَ الْكِتَابِ (7).
فَجَعَلَ مِنْ شَأْنِ الْمُتَّبِعِ لِلْمُتَشَابِهِ أَنَّهُ يُجَادِلُ فِيهِ وَيُقِيمُ النِّزَاعَ عَلَى (الْإِيمَانِ) (8)، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الزَّائِغَ الْمُتَّبِعَ لِمَا تَشَابَهَ مِنَ الدَّلِيلِ لَا يَزَالُ فِي رَيْبٍ وَشَكٍّ، إِذِ الْمُتَشَابِهُ لَا يُعْطَى بَيَانًا شَافِيًا، وَلَا يَقِفُ مِنْهُ مُتَّبِعُهُ عَلَى حَقِيقَةٍ، فَاتِّبَاعُ الْهَوَى يُلْجِئُهُ إِلَى التَّمَسُّكِ بِهِ، وَالنَّظَرُ فيه لا يتخلص له، فهو (في) (9) شَكٍّ أَبَدًا، وَبِذَلِكَ يُفَارِقُ الرَّاسِخَ فِي الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ جِدَالَهُ إِنِ افْتُقِرَ إِلَيْهِ (فَهُوَ فِي مَوَاقِعِ) (10) / الْإِشْكَالِ الْعَارِضِ طَلَبًا لِإِزَالَتِهِ، فَسُرْعَانَ مَا يَزُولُ إِذَا بَيَّنَ لَهُ مَوْضِعَ النَّظَرِ.
وَأَمَّا ذُو الزَّيْغِ فَإِنَّ هَوَاهُ لَا يُخَلِّيهِ إِلَى طَرْحِ الْمُتَشَابِهِ، فَلَا يَزَالُ فِي جِدَالٍ عَلَيْهِ وطلب لتأويله.
_________
(1) وهي اتباع المتشابهات ومرت (3/ 171).
(2) في (غ) و (ر): "عند".
(3) ساقط من (ط) و (خ) و (ت)، وفي (م): "بمعرفتهم".
(4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "المتبع".
(5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "علامة".
(6) هو القاضي: إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد الأزدي، قاضي بغداد تقدمت ترجمته.
(7) انظر: الاعتصام ـ طبعة رشيد رضا ـ (1 54).
(8) في (م): "الأحيان". و (غ) و (ر).
(9) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "على".
(10) في (غ) و (ر): "ففي مواضع".(3/174)
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ نَصَارَى نَجْرَانَ (1)، وَقَصْدِهِمْ أَنْ يُنَاظِرُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عِيسَى بن مريم عليهما السلام، وأنه (الإله) (2)، أَوْ أَنَّهُ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، مُسْتَدِلِّينَ بِأُمُورٍ مُتَشَابِهَاتٍ من قوله: (جعلنا) (3)، وَخَلَقْنَا، وَهَذَا/ كَلَامُ جَمَاعَةٍ، وَمِنْ أَنَّهُ يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَيُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ كَلَامُ طَائِفَةٍ أخرى (منهم) (4)، وَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى أَصْلِهِ وَنَشْأَتِهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، وَكَوْنِهِ كَسَائِرِ بَنِي آدَمَ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ وَتَلْحَقُهُ الْآفَاتُ وَالْأَمْرَاضُ. وَالْخَبَرُ مَذْكُورٌ فِي السِّيَرِ (5).
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمْ إِنَّمَا أَتَوْا لِمُنَاظَرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُجَادَلَتِهِ لَا (بقصد) (6) اتِّبَاعَ الْحَقِّ. وَالْجِدَالُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يَنْقَطِعُ، وَلِذَلِكَ لَمَّا بيَّن لَهُمُ/ الْحَقَّ (وَلَمْ) (7) يَرْجِعُوا (عَنْهُ) (8) دُعُوا إِلَى أَمْرٍ آخَرَ خَافُوا مِنْهُ الْهِلْكَةَ فَكَفُّوا عَنْهُ، وَهُوَ الْمُبَاهَلَةُ (9)، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ} (10)، وَشَأْنُ هَذَا الْجِدَالِ أَنَّهُ شَاغِلٌ عَنْ ذِكْرِ الله وعن الصلاة، كالنرد، والشطرنج (ونحوهما) (11).
وَقَدْ نُقِلَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ (12) أَنَّهُ قال: جلس/ عمرو بن عبيد
_________
(1) انظر: تفسير ابن جرير (6 467 ـ 475).
(2) في (ط) و (خ): "الله".
(3) في (ط) و (خ) و (غ) و (ر): "فقلنا".
(4) زيادة من (غ) و (ر).
(5) انظر: طبقات ابن سعد (1 357)، وتهذيب السير لابن هشام (1 573). وتفسير ابن جرير (6 151).
(6) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "يقصدوا".
(7) في (غ) و (ر): "لم".
(8) في (غ) و (ر): "حتى".
(9) المباهلة: هي الملاعنة، وهي أن يجتمع القوم إذا اختلفوا في شيء، فيقولون: لعنة الله على الظالم منا. انظر لسان العرب، مادة: بهل.
(10) سورة آل عمران: الآية (61).
(11) في (ط): "وغيرهما".
(12) هو حماد بن زيد بن درهم الأزدي، تقدمت ترجمته.(3/175)
وشبيب بن شيبة (1) ليلة (يتخاصمان) (2) إلى طلوع الفجر، قال: (فما صلُّوا وجعل عَمْرٌو) (3) يَقُولُ: هِيهِ أَبَا مَعْمَرٍ، هِيهِ أَبَا مَعْمَرٍ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ أَحَدًا شَأْنُهُ أَبَدًا الْجِدَالُ فِي الْمَسَائِلِ مَعَ كُلِّ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، ثُمَّ لَا يَرْجِعُ وَلَا يَرْعَوِي، فَاعْلَمُوا أَنَّهُ زَائِغُ الْقَلْبِ مُتَّبِعٌ لِلْمُتَشَابِهِ فَاحْذَرُوهُ.
/وَأَمَّا (الخاصية الأولى) (4) فَعَامَّةٌ لِجَمِيعِ الْعُقَلَاءِ مِنْ (أَهْلِ) (5) الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ التَّوَاصُلَ وَالتَّقَاطُعَ/ مَعْرُوفٌ عِنْدَ النَّاسِ كُلِّهِمْ، وَبِمَعْرِفَتِهِ يُعْرَفُ أَهْلُهُ، وَهُوَ الَّذِي نَبَّهَ عَلَيْهِ (حَدِيثُ) (6) الْفِرَقِ، إِذْ أَشَارَ إِلَى الِافْتِرَاقِ شِيَعًا (بِقَوْلِهِ) (7): "وَسَتَفْتَرِقُ هَذِهِ الْأُمَّةُ عَلَى كَذَا"، وَلَكِنَّ هَذَا الِافْتِرَاقَ إِنَّمَا يُعْرَفُ بَعْدَ (الْمُلَابَسَةِ) (8) / وَالْمُدَاخَلَةِ، وَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَلَا يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ، فَلَهُ (علامات) (9) تتضمن الدلالة/ على (التفرق) (10) (أول) (11) مُفَاتَحَةُ الْكَلَامِ، وَذَلِكَ إِلْقَاءُ الْمُخَالِفِ لِمَنْ لَقِيَهُ ذم (سلفه) (12) المتقدمين (الذين) (13) اشْتَهَرَ عِلْمُهُمْ وَصَلَاحُهُمْ وَاقْتِدَاءُ الْخَلَفِ بِهِمْ، (وَيَخْتَصُّ) (14) بِالْمَدْحِ مَنْ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ ذَلِكَ مِنْ شَاذٍّ مُخَالِفٍ لَهُمْ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
وَأَصْلُ هَذِهِ الْعَلَامَةِ فِي الِاعْتِبَارِ تَكْفِيرُ الْخَوَارِجِ ـ لَعَنَهُمُ اللَّهُ ـ الصَّحَابَةَ الْكِرَامَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَإِنَّهُمْ ذَمُّوا مَنْ مدَحه اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَاتَّفَقَ السَّلَفُ الصَّالِحُ عَلَى مَدْحِهِمْ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ، وَمَدَحُوا مَنِ اتفق السلف الصالح على
_________
(1) هو: شبيب بن شيبة أبو معمر المنقري البصري، قال عنه ابن معين: لم يكن بثقة. وقال أبو زرعة: ليس بالقوي. انظر: تاريخ بغداد (9 274).
(2) في (غ) و (ر): "يتخاصمون".
(3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فلما صلوا جعل عمرو". وفي تاريخ بغداد (9 277) (12 174): "فما صلوا ليلتئذ ركعتين. قال: وجعلوا عمرو".
(4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "ما يرجع للأول".
(5) زيادة من (م) و (غ) و (ر).
(6) في (غ) و (ر): "الحديث".
(7) في (م) و (غ) و (ر): "لقوله".
(8) في (م): "الملامسة".
(9) في (غ) و (ر): "علامة".
(10) في (ت): "المفارقة".
(11) في (ط) و (خ): "أولا".
(12) زيادة من (غ) و (ر).
(13) في (ط): "ممن".
(14) في (م) و (غ) و (ر): "ويختصون".(3/176)
ذَمِّهِ (كَعَبْدِ الرَّحْمَنِ) (1) بْنِ مُلْجِمٍ قَاتِلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وصوَّبوا قَتْلَهُ إِيَّاهُ، وَقَالُوا: إِنَّ/ فِي (شَأْنِهِ) (2) نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} (3)، وَأَمَّا الَّتِي قَبْلَهَا وَهِيَ قَوْلُهُ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (4)، فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَذَبُوا ـ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ـ، وَقَالَ عِمْرَانُ بْنُ حِطَّانَ فِي مَدْحِهِ لِابْنِ مُلْجِمٍ:
يَا ضَرْبَةً مِنْ تَقِيٍّ مَا أَرَادَ بِهَا ... إِلَّا لِيَبْلُغَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ رِضْوَانًا
إِنِّي لَأَذْكُرُهُ يَوْمًا فَأَحْسَبُهُ ... أَوْفَى الْبَرِّيَّةِ عِنْدَ اللَّهِ مِيزَانًا (5)
وَكَذَبَ ـ (لَعَنَهُ اللَّهُ) (6) ـ (فَإِذَا) (7) رَأَيْتَ مَنْ يَجْرِي عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ، فَهُوَ مِنَ الْفِرَقِ الْمُخَالَفَةِ، وَبِاللَّهِ التوفيق.
/ وروي عن إسماعيل بن عُلَيَّةَ (8)، قَالَ: حَدَّثَنِي الْيَسَعَ (9)، قَالَ: تَكَلَّمَ وَاصِلُ بْنُ عَطَاءٍ (10) يَوْمًا ـ يَعْنِي الْمُعْتَزِلِيَّ ـ فَقَالَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ: أَلَا تَسْمَعُونَ؟ مَا كَلَامُ الْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ ـ عِنْدَمَا تَسْمَعُونَ ـ/ إِلَّا خِرْقَةُ حَيْضٍ ملقاة (11).
روي أَنَّ زَعِيمًا مِنْ زُعَمَاءِ أَهْلِ الْبِدْعَةِ كَانَ يُرِيدُ تَفْضِيلَ الْكَلَامِ عَلَى الْفِقْهِ، فَكَانَ يَقُولُ: إِنَّ عِلْمَ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ، جُمْلَتُهُ لَا يَخْرُجُ مِنْ سَرَاوِيلِ امْرَأَةٍ.
هَذَا كَلَامُ هَؤُلَاءِ الزَّائِغِينَ، قَاتَلَهُمُ اللَّهُ.
وَ (أَمَّا) (12) الْعَلَامَةُ التَّفْصِيلِيَّةُ فِي كُلِّ فِرْقَةٍ (فَقَدْ) (13) نبِّه عَلَيْهَا وَأُشِيرَ
_________
(1) في (م): "وكعبد الله".
(2) في (غ) و (ر): "قتله".
(3) سورة البقرة: الآية (207).
(4) سورة البقرة: الآية (204).
(5) انظر: أخبار الخوارج من الكامل للمبرد (ص9).
(6) ساقط من (غ) و (ر).
(7) ساقط من (م) و (خ) و (ت).
(8) هو إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم المشهور بابن علية، تقدمت ترجمته.
(9) لم أعرف من هو؟.
(10) هو واصل بن عطاء الغزال رأس المعتزلة، تقدمت ترجمته.
(11) انظر: الكامل لابن عدي (5/ 103).
(12) زيادة من (غ) و (ر).
(13) في (ت): "قد".(3/177)
إِلَى جُمْلَةٍ مِنْهَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، (وَفِي) (1) ظَنِّي أَنَّ مَنْ تَأَمَّلَهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ وَجَدَهَا منبَّهاً عَلَيْهَا وَمُشَارًا إِلَيْهَا، وَلَوْلَا أَنَّا فهمنا من الشرع الستر (عليها) (2) لكان (للكلام) (3) فِي تَعْيِينِهَا مَجَالٌ مُتَّسِعٌ مَدْلُولٌ عَلَيْهِ بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ، وَقَدْ كُنَّا هَمَمْنَا بِذَلِكَ فِي مَاضِي الزَّمَانِ، فَغَلَبَنَا عَلَيْهِ مَا (دَلَّنَا) (4) عَلَى أَنَّ الأَوْلى خِلَافُ/ ذَلِكَ (5).
فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي تعرَّضنا لِشَرْحِهِ لَمْ يعيِّن فِي الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ وَاحِدَةً/ مِنْهَا، لِهَذَا الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ ـ وَاللَّهُ أعلم ـ وإنما نبه عليها فِي الْجُمْلَةِ لِتُحْذَرَ مَظَانُّهَا، وعيَّن فِي الْحَدِيثِ المحتاج (إليها) (6) / مِنْهَا وَهِيَ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ ليتحرَّاها الْمُكَلَّفُ، وَسَكَتَ عَنْ ذَلِكَ فِي الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ، لِأَنَّ ذِكْرَهَا فِي الْجُمْلَةِ يُفِيدُ الْأُمَّةَ الْخَوْفَ مِنَ الْوُقُوعِ فِيهَا، وَذَكَرَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فِرْقَةً مِنِ الْفِرَقِ الْهَالِكَةِ لِأَنَّهَا ـ كَمَا قَالَ ـ أَشَدُّ (الْفِرَقِ) (7) فتنة عَلَى الْأُمَّةِ، وَبَيَانُ كَوْنِهَا أَشَدَّ فِتْنَةً مِنْ غيرها سيأتي (بيانه) (8) آخراً إن شاء الله تعالى.
/الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ:
إِنَّ الرِّوَايَةَ الصَّحِيحَةَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ افْتِرَاقَ الْيَهُودِ كَافْتِرَاقِ النَّصَارَى عَلَى إِحْدَى وسبعين (فرقة) (9)، وَهِيَ (فِي) (10) رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ عَلَى الشَّكِّ، إحدى وسبعين، أو (اثنتين) (11) وسبعين (12).
_________
(1) في (ط) و (خ): "في".
(2) في (غ) و (ر): "فيها".
(3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "في الكلام".
(4) في (غ) و (ر): "دلت".
(5) وقد ذكر بعضاً من العلامات التفصيلية في الموافقات (4 107).
(6) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "إليه".
(7) ساقط من (غ) و (ر).
(8) زيادة من (غ) و (ر).
(9) زيادة من (غ) و (ر).
(10) زيادة من (غ) و (ر).
(11) في (م): "اثنين". وفي (غ) و (ر) وسنن أبي داود (4569): "ثنتين".
(12) تقدم تخريجه (3/ 122).(3/178)
وَأُثْبِتَ فِي التِّرْمِذِيِّ فِي الرِّوَايَةِ الْغَرِيبَةِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ الثِّنْتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِي الْحَدِيثِ افْتِرَاقَ النَّصَارَى، وَذَلِكَ ـ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ـ لِأَجْلِ أَنَّهُ إِنَّمَا أَجْرَى فِي الْحَدِيثِ ذِكْرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَطْ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أُمَّتِي مَا أَتَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ حذوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ، حَتَّى إِنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ أَتَى أُمَّهُ عَلَانِيَةً لَكَانَ فِي أُمَّتِي مَنْ يَصْنَعُ ذَلِكَ، وَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تفرقت على ثنتين وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي ... " الْحَدِيثَ (1).
/وَفِي أَبِي دَاوُدَ، (الْيَهُودُ) (2) وَالنَّصَارَى مَعًا إِثْبَاتُ الثِّنْتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ/ (جزماً) (3) من غير شك (4) (كما أثبتت الرواية الصحيحة في الترمذي الإحدى وَالسَّبْعِينَ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ) (5).
وخرَّج الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ افْتَرَقَتْ عَلَى إحدى وسبعين (ملة) (6)، (وأن افتراق) (7) هَذِهِ الْأُمَّةُ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً (8).
فَإِنْ بَنِينَا عَلَى إِثْبَاتِ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فَلَا إِشْكَالَ، لَكِنْ فِي رِوَايَةِ الْإِحْدَى وَالسَّبْعِينَ تَزِيدُ هَذِهِ الْأُمَّةَ فِرْقَتَيْنِ، وعلى رواية الثنتين وَالسَّبْعِينَ تَزِيدُ فِرْقَةً وَاحِدَةً، وَثَبَتَ فِي بَعْضِ كُتُبِ/ الْكَلَامِ فِي نَقْلِ الْحَدِيثِ أَنَّ الْيَهُودَ افْتَرَقَتْ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ، وَأَنَّ النَّصَارَى افْتَرَقَتْ على ثنتين وَسَبْعِيْنَ فِرْقَةً، وَوَافَقَتْ سَائِرَ الرِّوَايَاتِ فِي افْتِرَاقِ (الأمة) (9) على ثلاث وسبعين فرقة/ ولم
_________
(1) تقدم تخريجه (3/ 122).
(2) في (غ) و (ر): "لليهود".
(3) زيادة من (غ) و (ر).
(4) تقدم تخريجه (3/ 122).
(5) ما بين () زيادة من (غ) و (ر).
(6) ساقط من (غ) و (ر).
(7) في (م) و (ت): "وافتراق". وفي (ط) و (خ): "وافترقت".
(8) لم أقف عليه عند الطبري، وأخرجه نحوه أبو يعلى في المسند (7 155)، برقم (4127)، وفيه: يزيد بن أبان الرقاشي، ضعيف كما في التقريب (7683)، وبنحوه أخرجه أبو نعيم في الحلية (3 52)، وفيه أيضاً: يزيد الرقاشي، ويحيى بن عبد الله بن الضحاك البابلُتّي الحراني، ضعيف، كما في التقريب (7585).
(9) في (ط): "هذه الأمة".(3/179)
أرَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ هَكَذَا فِيْمَا رَأَيْتُهُ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيْثِ إِلَّا مَا وَقَعَ فِي جَامِعِ ابن وهب من حديث علي رضي الله عَنْهُ، وَسَيَأْتِي.
وَإِنْ بَنَيْنَا عَلَى إِعْمَالِ الرِّوَايَاتِ، فَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ رِوَايَةُ الْإِحْدَى وَالسَّبْعِينَ (وَقْتَ) (1) أُعْلِمَ بِذَلِكَ ثُمُّ أُعلم (بِزِيَادَةِ) (2) فِرْقَةٍ، (إِمَّا) (3) أَنَّهَا كَانَتْ فِيهِمْ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهَا النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم في وقت (ثم أعلم بها فِي وَقْتٍ) (4) آخَرَ، وَإِمَّا أَنْ تَكُوْنَ جُمْلَةُ الْفِرَقِ فِي الملَّتين ذَلِكَ الْمِقْدَارَ فَأُخْبِرَ/ بِهِ، ثُمَّ حَدَثَتِ الثَّانِيَةُ (وَالسَّبْعُونَ) (5) فِيهِمَا فَأُخْبِرَ (بِذَلِكَ) (6) صلّى الله عليه وسلّم، (وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الِاخْتِلَافُ بِحَسَبِ التَّعْرِيفِ بِهَا أَوِ الْحُدُوثِ) (7) وَاللَّهُ (أَعْلَمُ) (8) بِحَقِيقَةِ الأمر.
المسألة العاشرة:
(هذه) (9) الأمة ظهر (فيها) (10) فرقة زائدة على الفرق (الأخرى) (11) (لليهود) (12) وَالنَّصَارَى، فَالثِّنْتَانِ (وَالسَّبْعُونَ) (13) مِنَ الْهَالِكِينَ المتوعَّدين بِالنَّارِ، والواحدة في الجنة، فإذاً (قد) (14) انقسمت هذه الأمة بحسب هذا الافتراق (إلى) (15) قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ فِي النَّارِ وَقِسْمٌ فِي الْجَنَّةِ، وَلَمْ (يُبَيَّنْ) (16) ذَلِكَ فِي فِرَقِ الْيَهُودِ وَلَا فِي فِرَقِ النَّصَارَى، إِذْ لَمْ يُبَيِّنِ الْحَدِيثُ (إلا تقسيم
_________
(1) في (غ) و (ر): "في وقت".
(2) في (م): "بالزيادة".
(3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "إما".
(4) ما بين () زياد من (غ) و (ر).
(5) في (ط) و (خ) و (ت): "السبعين".
(6) في (ط): "ذلك".
(7) ما بين () ساقط من (غ) و (ر).
(8) زيادة من (م) و (خ) و (غ) و (ر).
(9) في (م): "المسألة هذه". وفي (غ) و (ر): "إن هذه".
(10) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "أن فيها".
(11) في (غ) و (ر): "الأخر".
(12) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "اليهود".
(13) في (م): "والسبعين".
(14) زيادة من (غ) و (ر).
(15) زيادة من (غ) و (ر).
(16) في (غ) و (ر): "يتبين".(3/180)
هذه الْأُمَّةِ) (1) (فَيَبْقَى) (2) النَّظَرُ: هَلْ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِرْقَةٌ نَاجِيَةٌ أَمْ لَا؟ وَيَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ (نظر ثان) (3): هَلْ زَادَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ فِرْقَةً هَالِكَةً أَمْ لَا؟ وَهَذَا النَّظَرُ وَإِنْ كَانَ لَا يَنْبَنِي عليه (فقه) (4) (وَلَكِنَّهُ) (5) مِنْ تَمَامِ الْكَلَامِ فِي الْحَدِيثِ.
فَظَاهِرُ النَّقْلِ فِي (مَوَاضِعَ مِنَ/ الشَّرِيعَةِ) (6) أَنَّ كُلَّ طائفة/ من اليهود والنصارى لا بد أَنْ (يُوجَدَ) (7) فِيهَا مَنْ آمَنَ بِكِتَابِهِ وَعَمِلَ (بِسُنَّتِهِ) (8)، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} (9)، فَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يفسق، وقال تعالى (في النصارى) (10): {فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} (11)، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ *} (12)، وقال تعالى: {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ} (13) وَهَذَا كَالنَّصِّ.
/ (وَفِي) (14) الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ وَآمَنَ بِي فَلَهُ أَجْرَانِ" (15)، فَهَذَا يدل
_________
(1) في (ت): "أن لا تقسيم لهذين الأمتين". وفي (ط) و (م) و (خ): "أن لا تقسيم لهذه الأمة".
(2) في (ت): "فينبغي".
(3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "نظران".
(4) زيادة من (غ) و (ر).
(5) في (ط): "لكنه".
(6) في (ت): "مواطن من مواضع من الشريعة".
(7) في (م) و (غ) و (ر): "وجد".
(8) في (غ) و (ر): "به".
(9) سورة الحديد: الآية (16).
(10) زيادة من (غ) و (ر).
(11) سورة الحديد: الآية (27).
(12) سورة الأعراف: الآية (159).
(13) سورة المائدة: الآية (66).
(14) في (م): "في".
(15) أخرجه البخاري في الصحيح (3446، 3011، 2551، 2547، 2544، 508397)، وفي الأدب المفرد (203)، ومسلم (154 و1666)، وأبو داود الطيالسي في المسند (502)، والحميدي في المسند (768)، وأحمد في المسند (4 395 و414)، والدارمي (2244)، وابن ماجه (1956)، وأبو داود (2053)، والترمذي (1116)، والنسائي (3344)، وأبي يعلى (7256)، وابن حبان (227 و4053)، والطبراني في الصغير (113) وفي الأوسط (1889)، والبيهقي في السنن الكبرى (13516 و1517).(3/181)
(بِإِشَارَتِهِ) (1) عَلَى الْعَمَلِ بِمَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّهُ.
/وخرَّج (عبد بن حميد) (2) عن ابن مسعود قَالَ: قَالَ (لِي) (3) رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ، قلت: لبيك رسول الله، قَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ، قُلْتُ: لبيك يا رسول الله، قَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ، قُلْتُ: لبيك يا رَسُولَ اللَّهِ) (4)، قَالَ: أَتَدْرِي أَيُّ عُرَى الْإِيمَانِ أَوْثَقُ؟ ـ قَالَ ـ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: الْوِلَايَةُ فِي اللَّهِ وَالْحُبُّ فِي اللَّهِ، وَالْبُغْضُ (في الله) (5) ـ ثُمَّ قَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ ـ قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ ـ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ـ قَالَ: أَتَدْرِي أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَإِنَّ أَفْضَلَ النَّاسِ أَفْضَلُهُمْ عَمَلًا إِذَا فقِهوا فِي دِينِهِمْ.
ثُمَّ قَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ـ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ـ قَالَ: هَلْ تَدْرِي أي الناس أعلم؟ قلت: الله ورسوله/ أعلم، قَالَ: أَعْلَمُ النَّاسِ أَبْصَرُهُمْ (لِلْحَقِّ) (6) إِذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ، وَإِنْ كَانَ مُقَصِّرًا فِي الْعَمَلِ، وَإِنْ كان يزحف على استه، وَاخْتَلَفَ مَنْ (كَانَ) (7) قَبْلَنَا عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً نَجَا (مِنْهُمْ) (8) ثَلَاثٌ وَهَلَكَ سَائِرُهَا، فِرْقَةٌ (أزَّت) (9) الْمُلُوكَ وَقَاتَلَتْهُمْ عَلَى دِينِ (اللَّهِ وَدِينِ) (10) عيسى بن مريم حتى قتلوا، وفرقة لم يكن لها طاقة/ (بمؤازاة) (11) الْمُلُوكِ، فَأَقَامُوا بَيْنَ ظَهْرَانَيْ قَوْمِهِمْ فَدَعَوْهُمْ إِلَى دين الله ودين
_________
(1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "بإشارة".
(2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "عبد الله بن عمر".
(3) زيادة من (غ) و (ر).
(4) ما بين () زيادة من (غ) و (ر).
(5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فيه".
(6) في (غ) و (ر): "بالحق".
(7) زيادة من (غ) و (ر).
(8) في (غ) و (ر): منها.
(9) في (ط): "آذت" وهو خطأ، والصواب كما في بقية النسخ وروايات الحديث "أَزَّت" يعني بمقاومة، أصلها من أزز. انظر لسان العرب مادة: "أزا".
(10) زيادة من (م) و (خ) و (غ) و (ر).
(11) في (ط): "بمؤاذاة" والصواب كما في بقية النسخ وروايات الحديث: "بمؤازاة" أي: بمقاومة. انظر لسان العرب مادة: "أزا".(3/182)
عيسى/ (بن مَرْيَمَ) (1) فَأَخَذَتْهُمُ الْمُلُوكُ (فَقَتَلَتْهُمْ) (2) وَقَطَّعَتْهُمْ بِالْمَنَاشِيرِ، وَفِرْقَةٌ لم يكن لها طَاقَةٌ (بِمُؤَازَاةِ) (3) الْمُلُوكِ وَلَا بِأَنْ يُقِيمُوا بَيْنَ ظَهَرَانَيْ قَوْمِهِمْ فَيَدْعُوهُمْ إِلَى دِينِ اللَّهِ وَدِينِ عيسى بن مريم، فساحوا في الجبال (وترهَّبوا) (4) فِيهَا، (فَهُمُ) (5) الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (فِيهِمْ) (6): {وَرَهْبَانِيَّةً/ ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} (7)، فَالْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِي وصدَّقوا بِي، وَالْفَاسِقُونَ الذين كذَّبوا بي وجحدوا بي) (8). فأخبر (في هذا الخبر) (9) أَنْ فِرَقًا ثَلَاثًا نَجَتْ مِنْ تِلْكَ الْفِرَقِ الْمَعْدُودَةِ وَالْبَاقِيَةُ هَلَكَتْ.
وخرَّج ابْنُ وَهْبٍ مِنْ حديث علي بن أبي طالب رضي الله عَنْهُ أَنَّهُ دَعَا رَأْسَ (الْجَالُوتِ) (10) وَأَسْقُفَ/ النَّصَارَى فَقَالَ: إِنِّي سَائِلُكُمَا عَنْ أَمْرٍ وَأَنَا أَعْلَمُ به منكما فلا (تكتماني) (11)، يا رأس الجالوت، أَنْشُدُكَ اللَّهَ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، وَأَطْعَمَكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى، وَضَرَبَ لَكُمْ فِي الْبَحْرِ طَرِيقًا يَبَسًا، وَجَعَلَ لَكُمُ الْحَجَرَ الطُّورِيَّ يَخْرُجُ لكم منه (اثنتا) (12) عَشْرَةَ عَيْنًا لِكُلِّ سِبْطٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَيْنٌ، إِلَّا مَا أَخْبَرْتَنِي عَلَى كَمِ (افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ) (13) مِنْ فِرْقَةٍ/ بَعْدَ مُوسَى؟ فَقَالَ لَهُ: ولا فرقة واحدة، فقال له علي (ثلاث مرات) (14): كَذَبْتَ وَالَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، لَقَدِ افترقت على إحدى وسبعين
_________
(1) ساقط من (غ) و (ر).
(2) زيادة من (غ) و (ر).
(3) في (ط): "بمؤاذاة".
(4) في سائر النسخ ما عدا (غ): "وهربوا".
(5) في (غ) و (ر): "هم".
(6) ساقط من (غ) و (ر).
(7) سورة الحديد: الآية (27).
(8) تقدم تخريجه (1 317).
(9) زيادة من (غ) و (ر).
(10) في (م): "الجلوت". ورأس الجالوت لقب يطلق على ملك اليهود، وكان يُسمى من قبل بالقطنون. فتح الباري (10 593).
(11) في (ط) و (خ): "تكتما". وفي (م): "تكتموني".
(12) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "اثنتي".
(13) ما بين القوسين ساقط من (م). وفي (غ) و (ر): "افترقت بنو إسرائيل".
(14) زيادة من (غ) و (ر).(3/183)
فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا (فِرْقَةً وَاحِدَةً) (1).
ثُمَّ دَعَا الْأَسْقُفَ (2) فَقَالَ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ الَّذِي أَنْزَلَ الْإِنْجِيلَ عَلَى عِيسَى، وَجَعَلَ عَلَى رِجْلِهِ الْبَرَكَةَ، وَأَرَاكُمُ الْعِبْرَةَ، فَأَبْرَأَ الْأَكْمَهَ (وَالْأَبْرَصَ) (3) وَأَحْيَا (الْمَوْتَى) (4)، وَصَنَعَ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ طُيُورًا، وَأَنْبَأَكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تدَّخرون فِي بُيُوتِكُمْ، فَقَالَ: دُونَ هَذَا (الصِّدْقُ) (5) يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ له علي رضي الله عنه: (على) (6) كم افترقت (النصارى) (7) بعد عيسى بن مَرْيَمَ مِنْ فِرْقَةٍ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ وَلَا فِرْقَةً، فَقَالَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: كَذَبْتَ،/ وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، لَقَدِ افْتَرَقَتْ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا (فرقة) (8) واحدة، (ثم قال) (9): (أَمَّا) (10) أَنْتَ يَا يَهُودِيُّ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ *} (11) فهي التي تنجو، (وأما أنت يا نصراني، فيقول: {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ} (12) الآية، فهذه التي تنجو) (13)، وأما نحن فيقول الله: {وَمِمَنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ *} (14).
_________
(1) في (ت) و (م): "فرقة".
(2) المراتب الدينية عند النصارى هي: البطرك (وهو البابا) والأسقف، والقسيس والراهب.
أما البطرك: فهو رئيس الملة عندهم، وخليفة المسيح فيهم، وكان الأساقفة يدعون البطرك بالأب تعظيماً له، فصار الأقِسَّة يدعون الأسقف فيما غاب عن البطرك بالأب أيضاً تعظيماً له، فاشتبه الاسم في أعصار متطاولة، فأرادوا أن يميزوا البطرك من الأسقف في التعظيم، فدعوه البابا، ومعناه أبو الآباء.
وأما الأسقف: فهو نائب البطرك حيث يبعث البطرك الأسقف إلى ما بعد عن البطرك من أمم النصرانية.
والقسيس: هو الإمام الذي يقيم الصلوات فيهم، ويفتيهم في الدين.
والراهب: هو المنقطع في الخلوة للعبادة، وأكثر خلواتهم في الصوامع. انظر: مقدمة ابن خلدون (1 289).
(3) ساقط من (غ) و (ر).
(4) في (غ) و (ر): "الميتة".
(5) في (ر): "أصدق".
(6) زيادة من (غ) و (ر).
(7) في (غ) و (ر): "النصرانية".
(8) زيادة من (غ) و (ر).
(9) في (ط): "فقال". في (م) و (خ): "قال". وهي ساقطة من (غ) و (ر).
(10) في (غ) و (ر): "فأما".
(11) سورة الأعراف: الآية (159).
(12) سورة المائدة: الآية (120).
(13) ما بين () زيادة من (غ) و (ر).
(14) سورة الأعراف: الآية (181).(3/184)
فَهَذِهِ الَّتِي تَنْجُو مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ (1). فَفِي هَذَا أَيْضًا دَلِيلٌ.
وَخَرَجَّهُ الْآجُرِّيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَنَسٍ بِمَعْنَى حَدِيثِ (عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ) (2) عَنْهُ: إِنَّ وَاحِدَةً مِنْ فِرَقِ الْيَهُودِ وَمِنْ فِرَقِ النَّصَارَى فِي الْجَنَّةِ (3).
وخرَّج سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ/ لَمَّا طَالَ عَلَيْهِمُ/ الْأَمَدُ (فَقَسَتْ) (4) قُلُوبُهُمُ اخْتَرَعُوا كِتَابًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمُ اسْتَهْوَتْهُ قُلُوبُهُمْ وَاسْتَحَلَّتْهُ أَلْسِنَتُهُمْ، وَكَانَ الْحَقُّ يَحُولُ (بينهم و) (5) بَيْنَ كَثِيرٍ مِنْ شَهَوَاتِهِمْ، حَتَّى نَبَذُوا/ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، فَقَالُوا: اعْرِضُوا هَذَا الْكِتَابَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَإِنْ تابعوكم فاتركوهم، وإن خالفوكم فاقتلوهم، (ثم) (6) قَالُوا: لَا، بَلْ أَرْسِلُوا إِلَى فُلَانٍ ـ رَجُلٍ مِنْ عُلَمَائِهِمْ ـ فَاعْرِضُوا عَلَيْهِ هَذَا الْكِتَابَ، فَإِنْ (تَابَعَكُمْ) (7) فَلَنْ يُخَالِفَكُمْ أَحَدٌ بَعْدَهُ، وَإِنْ خَالَفَكُمْ فَاقْتُلُوهُ فَلَنْ يَخْتَلِفَ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَحَدٌ، فَأَرْسَلُوا إليه (فأخذ) (8) ورقة فكتب فيها (كتاب الله) (9) ثم/ جعلها في قرن، ثُمَّ عَلَّقَهَا فِي عُنُقِهِ، ثُمَّ لَبِسَ عَلَيْهَا الثِّيَابَ، ثُمَّ أَتَاهُمْ فَعَرَضُوا عَلَيْهِ الْكِتَابَ، فَقَالُوا: أتؤمن بهذا؟ (قال) (10) فَأَوْمَأَ إِلَى صَدْرِهِ فَقَالَ: آمَنْتُ بِهَذَا، وَمَا لي لا أؤمن بِهَذَا؟ ـ يَعْنِي الْكِتَابَ الَّذِي فِي (الْقَرْنِ) (11) ـ فَخَلُّوا سَبِيلَهُ، وَكَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَغْشَونه، فَلَمَّا مَاتَ نبشوه فوجدوا القرن ووجدوا (فيه) (12) الْكِتَابَ، فَقَالُوا:/ أَلَا تَرَوْنَ قَوْلَهُ: آمَنْتُ بِهَذَا، وما لي لا أؤمن بهذا؟ وإنما عنى
_________
(1) أخرجه ابن نصر في السنة برقم (60) من طريق ابن وهب.
(2) ما بين القوسين ساقط من (م).
(3) أخرجه الآجري في الشريعة (25)، وبنحوه في مسند أحمد (3 135)، ويشهد لمعناه حديث عوف بن مالك رضي الله عنه، أخرجه ابن ماجه (3992)، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه.
(4) في (غ) و (ر): "قست".
(5) زيادة من (غ) و (ر).
(6) زيادة من (غ) و (ر).
(7) في (م): "بايعكم".
(8) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فأخذوا".
(9) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الكتاب".
(10) زيادة من (غ) و (ر).
(11) في (غ) و (ر): "القرآن".
(12) زيادة من (غ) و (ر).(3/185)
(هذا) (1) الكتاب (فاختلفت) (2) بَنُو إِسْرَائِيلَ عَلَى بِضْعٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَخَيْرُ مِلَلِهِمْ أَصْحَابُ ذَلِكَ الْقَرْنِ ـ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ ـ: (وإن من/ بقي منكم سيرى منكراً، (وبحسب أمرئ، يَرَى مُنْكَرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُغَيِّرَهُ، إِنْ يعلم الله من قلبه أنه له كاره) (3).
فهذا الخبر أيضاً يَدُلُّ عَلَى أَنَّ (فِي) (4) بَنِي إِسْرَائِيلَ فِرْقَةً كَانَتْ عَلَى الْحَقِّ الصَّرِيحِ فِي زَمَانِهِمْ، لَكِنْ لَا (أَضْمَنُ) (5) عُهْدَةَ صِحَّتِهِ وَلَا صِحَّةَ مَا قَبْلَهُ.
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَرِقَّةٌ نَاجِيَةٌ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ في هذه (الأمة) (6) فرقة (هالكة) (7) زائدة (بناءً) (8) عَلَى رِوَايَةِ الثِّنْتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ، أَوْ فِرْقَتَيْنِ بِنَاءً عَلَى رِوَايَةِ الْإِحْدَى وَالسَّبْعِينَ، فَيَكُونُ لَهَا نَوْعٌ مِنَ التَّفَرُّقِ لَمْ يَكُنْ لِمَنْ تَقَدَّمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ،/ لِأَنَّ الْحَدِيثَ الْمُتَقَدِّمَ أَثْبَتَ أَنَّ هذه الأمة (تبعت) (9) مَنْ قَبْلَهَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ فِي أَعْيَانِ مخالفتها، فثبت أنها تبعتها في أمثال (بدعها) (10)، وهذه هي:
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ (عَشْرَةَ) (11):
فَإِنَّ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ قَالَ: (لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ
_________
(1) زيادة من (غ) و (ر).
(2) سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فاختلف".
(3) هكذا في (ط) و (م) و (خ)، (بِحَسَبِ أَمْرِهِ، يَرَى مُنْكَرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُغَيِّرَهُ، إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ مِنْ قَلْبِهِ خَيْرًا كاره) والتصحيح من (غ) و (ر) ومن ابن جرير، وما بين القوسين () بياض في (ت) بمقدار سطر، والأثر أخرجه ـ مختصراً ـ ابن جرير في تفسير سورة الحديد: الآية (16)، وابن أبي حاتم في تفسيره (10 3339) برقم (18829)، والبيهقي في شعب الإيمان (6/ 95).
(4) ساقط من (م). وفي (ت) و (غ) و (ر): "من".
(5) في (م) و (غ) و (ر): "أتضمن".
(6) ساقط من (غ) و (ر).
(7) في (خ) و (ط) و (ت): "ناجية".
(8) زيادة من (غ) و (ر).
(9) في (ط): "تبعث".
(10) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "بدعتها".
(11) في (ت) و (خ) و (م): "عشر".(3/186)
وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ (ضب) (1) / لاتبعتموهم، قلنا: يا رسول الله، اليهود وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: فَمَنْ؟) (2)، زِيَادَةٌ إِلَى حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ الْغَرِيبِ، فَدَلَّ ضَرْبُ الْمِثَالِ فِي التَّعْيِينِ عَلَى أَنَّ الِاتِّبَاعَ فِي أَعْيَانِ أَفْعَالِهِمْ.
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللِّيثِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبل خَيْبَرَ (3) وَنَحْنُ حَدِيثُو عَهْدٍ بِكُفْرٍ، وَلِلْمُشْرِكِينَ سِدْرَةٌ يَعْكُفُونَ حَوْلَهَا وَيَنُوطُونَ بِهَا أَسْلِحَتَهُمْ، يُقَالُ لَهَا ذَاتُ أَنْوَاطٍ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللَّهُ أَكْبَرُ (هَذَا) (4) كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلهة، (قال: إنكم قوم تجهلون) (5) لتركبن سنن من كان قبلكم ... " (6).
_________
(1) في (م): "ضب خرب". وهي ليست في الصحيحين.
(2) أخرجه البخاري (7320، 3456)، ومسلم (2669)، وأبو داود الطيالسي (2178)، وأحمد في المسند (2 325 و327 و336 و450 و511 و527) و (3 84 و89 و94) و (5 340)، وابن ماجه (3994)، والحارث بن أبي أسامة ـ بغية الباحث ـ (754)، وأبو يعلى (6292)، وابن حبان (6703)، والطبراني في المعجم الكبير (5943 و6017) و (17 13 برقم3)، وفي مسند الشاميين (987)، والحاكم (106 و445 و8404).
(3) هكذا في جميع النسخ، وهكذا وقعت الرواية في سنن الترمذي (4/ 412) برقم (2180) التي حققها كمال يوسف الحوت، إكمالاً لتحقيق أحمد شاكر، وهكذا وقعت الرواية في مسند أبي يعلى (3/ 30) برقم (1441)، ومعجم الصحابة لابن قانع (1/ 172) برقم (185).
وجاءت بلفظ: "حنين" وهو الصواب، أخرجها بهذا اللفظ كل من أخرج الحديث سوى من ذكر قبل، إلا ابن حبان، فروى الحديث في صحيحه (15/ 94) بلفظ: "هوازن" وهو معنى رواية "حنين"، ويظهر أن الشاطبي رحمه الله نقل الحديث من بعض نسخ الترمذي، لأن في نسخة الترمذي برواية الكَرُوخي (143ل) بلفظ: "حنين" ولا يبعد التصحيف بين "حنين" و"خيبر" لما بينهما من المشابهة في الرسم.
(4) زيادة من (م) و (غ) و (ر).
(5) زيادة من (غ) و (ر).
(6) الحديث ليس في أحد الصحيحين، ولعل المؤلف يقصد صحيح ابن حبان أو الترمذي، والحديث أخرجه أبو داود الطيالسي (1346)، والحميدي في المسند (848)، وأحمد في المسند (2185)، وابن أبي عاصم في السنة (76)، وحسنه الألباني، والترمذي (2180) وأبو يعلى (1441)، وابن حبان (6702)، والطبراني في الكبير (3291 و3294) وغيرهم.(3/187)
وَصَارَ حَدِيثُ الْفِرَقِ بِهَذَا التَّفْسِيرِ صَادِقًا عَلَى أَمْثَالِ الْبِدَعِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَأَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ/ تَبْتَدِعُ فِي دِينِ (اللَّهِ) (1) مِثْلَ تِلْكَ الْبِدَعِ وَتَزِيدُ عَلَيْهَا بِبِدْعَةٍ لَمْ تَتَقَدَّمْهَا (فيها) (2) وَاحِدَةٌ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الْبِدْعَةَ الزَّائِدَةَ (إِنَّمَا تُعْرَفُ بَعْدَ) (3) مَعْرِفَةِ الْبِدَعِ الْأُخَرِ، وَقَدْ مَرَّ أَنَّ/ ذَلِكَ لَا يُعْرَفُ، أَوْ لَا يسوغ التعريف به وإن عرف، (فلذلك) (4) لَا تَتَعَيَّنُ الْبِدْعَةُ الزَّائِدَةُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي (الْحَدِيثِ) (5) أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَأْخُذَ أُمَّتِي بِمَا أَخَذَ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِهَا شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ"، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَمَا فَعَلَتْ فَارِسُ وَالرُّومُ؟ قَالَ: "وَهَلِ النَّاسُ إِلَّا أُولَئِكَ" (6)، وَهُوَ بِمَعْنَى الْأَوَّلِ، إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ ضَرْبُ مَثَلٍ، فَقَوْلُهُ: "حَتَّى تأخذ أمتي بما أخذ القرون من قبلها"، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا تَأْخُذُ بِمِثْلِ مَا أَخَذُوا/ بِهِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ فِي الِاتِّبَاعِ لَهُمْ أَعْيَانُ بِدَعِهِمْ، بَلْ قَدْ تَتَّبِعُهَا فِي أعيانها (وقد تتبعها) (7) فِي أَشْبَاهِهَا، فَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْأَوَّلِ قَوْلُهُ: "لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ" الْحَدِيثَ، فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ: "حَتَّى لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضب (خرب) (8) لاتبعتموهم".
_________
(1) في (غ) و (ر): "الإسلام".
(2) في (م) و (غ) و (ر).
(3) في (ت): "لا تعرف إلا بعد".
(4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فكذلك".
(5) في (غ) و (ر): "الصحيح".
(6) أخرجه من حديث أبي هريرة أحمد في المسند (2 325، 327، 336، 367، 511)، وابن أبي عاصم في السنة (1 36)، ونعيم بن حماد في الفتن (2 711)، وأبو عمرو الداني في السنن الواردة في الفتن (3 533). وأخرجه من حديث أبي سعيد الخدري البخاري في الصحيح (7319)، ومسلم (2669)، وأحمد (3 84، 89، 94)، وابن أبي عاصم في السنة (1 37)، وابن حبان في الصحيح (6703) وللحديث روايات متقاربة من حديث ابن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص وسهل بن سعد وشداد بن أوس.
(7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "وتتبعها".
(8) ساقطة من (غ) و (ر).(3/188)
وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى الثَّانِي قَوْلُهُ: فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ. فَقَالَ صلّى الله عليه وسلّم: "هَذَا كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا" الْحَدِيثَ، فَإِنَّ اتِّخَاذَ ذَاتِ أَنْوَاطٍ يُشْبِهُ اتِّخَاذَ الْآلِهَةِ مِنْ دُونِ اللَّهِ، لَا أَنَّهُ هو (بعينه) (1) فلذلك/ لا يلزم (في) (2) الاعتبار (بالمنصوص) (3) عليه (أن يكون) (4) مَا لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ/ مِثْلُهُ مِنْ كُلِّ وجه، والله أعلم.
المسألة الثانية عشرة (5):
أنه صلّى الله عليه وسلّم أَخْبَرَ أَنَّهَا كُلَّهَا فِي النَّارِ، وَهَذَا وَعِيدٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْفِرَقَ قَدِ ارْتَكَبَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا مَعْصِيَةً كَبِيرَةً أَوْ ذَنْبًا عَظِيمًا، إِذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ ما يتوعد (الشرع) (6) عليه (لخصوصه) (7) (فهو) (8) كَبِيرَةٌ، إِذْ لَمْ يَقُلْ: كُلُّهَا فِي النَّارِ، إِلَّا مِنْ جِهَةِ الْوَصْفِ (الَّذِي) (9) افْتَرَقَتْ بِسَبَبِهِ عَنِ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ وَعَنْ (جَمَاعَتِهِ) (10) وَلَيْسَ ذَلِكَ إلا البدعة الْمُفَرِّقَةِ، إِلَّا أَنَّهُ يُنْظَرُ فِي هَذَا الْوَعِيدِ هَلْ هُوَ أَبَدِيٌّ أَمْ لَا؟ وَإِذَا قُلْنَا إِنَّهُ غَيْرُ أَبَدِيٍّ: هَلْ هُوَ نَافِذٌ أَمْ فِي الْمَشِيئَةِ.
أَمَّا الْمَطْلَبُ الْأَوَّلُ فَيَنْبَنِي عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْبِدَعِ مُخْرِجَةٌ مِنَ الْإِسْلَامِ، أَوْ ليست (بمخرجة) (11)، وَالْخِلَافُ فِي الْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُخَالِفِينَ فِي الْعَقَائِدِ مَوْجُودٌ ـ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ قَبْلَ هَذِهِ ـ فحيث نقول بالتكفير (يلزم) (12)
_________
(1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "بنفسه".
(2) زيادة من (م) و (غ) و (ر).
(3) في (غ) و (ر): "المنصوص".
(4) زيادة من (م) و (غ) و (ر).
(5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "عشر".
(6) في (ط) و (ت): "الشر".
(7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فخصوصيته".
(8) زيادة من (غ) و (ر).
(9) ما بين القوسين ساقط من (م).
(10) في (غ) و (ر): "الجماعة".
(11) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "مخرجة".
(12) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "لزم".(3/189)
منه تأبيد (التعذيب بناءً) (1) عَلَى الْقَاعِدَةِ (إِنَّ الْكُفْرَ وَالشِّرْكَ) (2) لَا يَغْفِرُهُ الله سبحانه.
//وَإِذَا قُلْنَا بِعَدَمِ التَّكْفِيرِ فَيَحْتَمِلُ ـ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ ـ أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: نُفُوذُ الْوَعِيدِ مِنْ غَيْرِ غُفْرَانٍ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ظَوَاهِرُ الْأَحَادِيثِ، وَقَوْلُهُ هُنَا: "كُلُّهَا فِي النَّارِ" أَيْ مُسْتَقِرَّةٌ ثابتة فيها.
فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ إِنْفَاذُ الْوَعِيدِ بِمَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ. قِيلَ: بَلَى قَدْ قَالَ بِهِ طَائِفَةٌ منهم في بعض الكبائر (كقتل النفس عمداً، وأشياء أُخر وإن كانوا قائلين بأن أهل الْكَبَائِرِ) (3) فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، لَكِنْ/ دَلَّهُمُ الدَّلِيلُ فِي خُصُوصِ كَبَائِرَ عَلَى أَنَّهَا خَارِجَةٌ عن ذلك الحكم (4)، ولا (بُعْدَ) (5) (في) (6) ذَلِكَ، فَإِنَّ الْمُتَّبَعَ هُوَ الدَّلِيلُ، فَكَمَا دَلَّهُمْ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْكَبَائِرِ عَلَى الْجُمْلَةِ فِي الْمَشِيئَةِ كَذَلِكَ دَلَّهُمْ عَلَى تَخْصِيصِ ذَلِكَ الْعُمُومِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (7) فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} (8) فأخبر أولاً أن جزاؤه جهنم، وبالغ في ذلك بقوله تعالى:
_________
(1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "التحريم".
(2) في (غ) و (ر): "على أن الشرك والكفر".
(3) ما بين () زيادة من (غ) و (ر).
(4) مسألة القاتل عمداً، ذهب فيها بعض السلف إلى أن القاتل عمداً لا توبة له، وممن ذهب إلى هذا القول: زيد بن ثابت وأبو هريرة وعبد الله بن عمر وأبو سلمة بن عبد الرحمن والحسن وقتادة والضحاك بن مزاحم، والذي عليه الجمهور أن القاتل له توبة فيما بينه وبين الله عز وجل، والأدلة على ذلك كثيرة، ومنها عموم قوله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} وهذا الذي رجحه ابن جرير وابن تيمية وابن كثير وغيرهم من أهل العلم. انظر: تفسير ابن جرير (9 57 ـ 70)، وتفسير ابن كثير (1 535 ـ 539)، وفتح القدير للشوكاني (1 497 ـ 499)، وزاد المسير لابن الجوزي (2 93)، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (5 213 ـ 215)، ومجموع الفتاوى (16 25).
(5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "بد".
(6) في (ط): "من".
(7) سورة النساء: الآية (48).
(8) سورة النساء: الآية (93).(3/190)
{خَالِدًا فِيهَا} عِبَارَةٌ عَنْ طُولِ الْمُكْثِ فِيهَا، ثُمَّ عَطَفَ بالغضب (عليه) (1)، ثُمَّ بِلَعْنَتِهِ، ثُمَّ خَتَمَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}، وَالْإِعْدَادُ قَبْلَ الْبُلُوغِ إِلَى المُعد مِمَّا يَدُلُّ عَلَى حُصُولِهِ لِلْمُعَدِّ لَهُ، وَلِأَنَّ الْقَتْلَ اجْتَمَعَ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ وَحَقُّ الْمَخْلُوقِ وَهُوَ الْمَقْتُولُ.
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَمِنْ شَرْطِ صِحَّةِ/ التَّوْبَةِ من مظالم العباد تحللهم أو رد/ (التبعات) (2) إليهم. وهذا (مما لا سبيل) (3) (للقاتل) (4) إِلَيْهِ إِلَّا بِأَنْ يُدْرِكَ الْمَقْتُولَ حَيًّا فَيَعْفُوَ عنه (بطيب) (5) نفسه، (كذلك قال) (6).
وَأَوْلَى مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ أَنْ نَقُولَ: وَمِنْ شَرْطِ خُرُوجِهِ مِنْ تِبَاعَةِ الْقَتْلِ مَعَ التَّوْبَةِ (لله) (7) استدراك ما (فوّت) (8) على المجني عليه (إما بالتحلل منه) (9)، وإما بِبَذْلِ الْقِيمَةِ لَهُ، وَهُوَ أَمْرٌ لَا يُمْكِنُ (بعد) (10) فوت المقتول. فكذلك (يُمْكِنُ) (11) فِي صَاحِبِ الْبِدْعَةِ مِنْ جِهَةِ الْأَدِلَّةِ، فَرَاجِعْ مَا تَقَدَّمَ فِي الْبَابِ الثَّانِي تَجِدُ فِيهِ كَثِيرًا مِنَ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ الْمُخَوِّفِ جِدًّا.
/وَانْظُرْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ *} فَهَذَا وَعِيدٌ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} وَتَسْوِيدُ الْوُجُوهِ عَلَامَةُ الْخِزْيِ وَدُخُولِ (النَّارِ) (12)، ثُمَّ قال تعالى: {أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} وَهُوَ تَقْرِيعٌ وَتَوْبِيخٌ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَذُوقُوا الْعَذَابَ} (13)، وهو تأكيد آخر.
_________
(1) زيادة من (غ) و (ر).
(2) في (ت) و (غ) و (ر): "التباعات".
(3) في (م): "ما لسبيل".
(4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "إلى القاتل".
(5) زيادة من (م) و (غ) و (ر).
(6) زيادة من (غ) و (ر).
(7) زيادة من (غ) و (ر).
(8) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فات".
(9) ما بين القوسين ساقط من (ط) و (خ).
(10) ساقط من (غ) و (ر).
(11) هكذا في سائر النسخ ولعل الصواب: (لا يمكن).
(12) في (ط): "النار النار".
(13) سورة آل عمران: الآية (106).(3/191)
وَكُلُّ هَذَا التَّقْرِيرِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَاتِ أَهْلُ (الْقِبْلَةِ) (1) مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ؛ لِأَنَّ الْمُبْتَدِعَ إِذَا اتُّبع فِي بِدْعَتِهِ لَمْ/ يُمْكِنْهُ التَّلَافِي ـ غَالِبًا ـ فِيهَا، وَلَمْ يَزَلْ أَثَرُهَا فِي الأرض (مستطيراً) (2) إلى (يوم القيامة) (3) قِيَامِ السَّاعَةِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ بِسَبَبِهِ، فَهِيَ أَدْهَى مِنْ قَتْلِ النَّفْسِ.
قَالَ مَالِكٌ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ: إِنَّ الْعَبْدَ لَوِ ارْتَكَبَ جَمِيعَ الْكَبَائِرِ بعد أن لا يشرك بالله شيئاً (رجوت) (4) لَهُ أَرْفَعُ الْمَنَازِلِ، لِأَنَّ كُلَّ ذَنَبٍ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ هُوَ/ مِنْهُ عَلَى رَجَاءٍ، (وَصَاحِبُ الْبِدْعَةِ لَيْسَ هُوَ مِنْهَا عَلَى رَجَاءٍ) (5)، (إِنَّمَا) (6) يُهوى (بِهِ) (7) فِي نَارِ جَهَنَّمَ (8). فَهَذَا مِنْهُ نص (في إنفاذ) (9) الوعيد.
(والمطلب) (10) الثاني: أَنْ يَكُونَ مُقَيَّدًا بِأَنْ يَشَاءَ اللَّهُ تَعَالَى إصلاءهم (النَّارِ) (11)، وَإِنَّمَا (حُمِلَ) (12) قَوْلُهُ: (كُلُّهَا فِي النَّارِ)، أَيْ هِيَ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ النَّارَ، كَمَا قَالَتِ الطَّائِفَةُ الْأُخْرَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} (13) / أي ذلك جزاؤه (إن جازاه) (14)، فَإِنْ عَفَا عَنْهُ فَلَهُ الْعَفْوُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ/ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (15)، فَكَمَا ذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ إِلَى أَنَّ الْقَاتِلَ فِي الْمَشِيئَةِ (16) ـ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الِاسْتِدْرَاكُ كَذَلِكَ ـ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ هُنَا بمثله.
_________
(1) في (غ) و (ر): "الغفلة".
(2) في (ط): "مستطيل".
(3) زيادة من (م).
(4) في (ط) و (ت): "وجبت". وفي (ت) و (م): "رجيت".
(5) ساقط من (غ) و (ر).
(6) في (غ) و (ر): "إما".
(7) في (غ) و (ر): "بها".
(8) بنحوه في حلية الأولياء (6 325).
(9) في (غ) و (ر): "بإنفاذ".
(10) ما بين القوسين زيادة من (ت).
(11) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "في النار".
(12) في (غ) و (ر): "يحمل".
(13) سورة النساء: الآية (93).
(14) ساقط من (ط).
(15) سورة النساء: الآية (48).
(16) تقدم الكلام على هذه المسألة (3/ 189).(3/192)
المسألة/ الثالثة/ عشرة (1):
إن قوله صلّى الله عليه وسلّم: "إِلَّا وَاحِدَةً"، قَدْ أَعْطَى بِنَصِّهِ أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ لَا (يَخْتَلِفُ) (2)، إِذْ لَوْ كَانَ لِلْحَقِّ فِرَق أَيْضًا لَمْ يَقُلْ: "إِلَّا وَاحِدَةً"، وَلِأَنَّ الِاخْتِلَافَ مَنْفِيٌّ عَنِ الشَّرِيعَةِ بِإِطْلَاقٍ، لِأَنَّهَا الْحَاكِمَةُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (3) الآية، (فردَّ) (4) (التَّنَازُعِ) (5) إِلَى الشَّرِيعَةِ، فَلَوْ كَانَتِ الشَّرِيعَةُ تَقْتَضِي الْخِلَافَ لَمْ يَكُنْ فِي الرَّدِّ إِلَيْهَا فَائِدَةٌ، وَقَوْلُهُ: (فِي شَيْءٍ)، نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ، فَهِيَ صِيغَةٌ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، فَتَنْتَظِمُ كُلُّ تَنَازُعٍ عَلَى الْعُمُومِ، فَالرَّدُّ فِيهَا لَا يَكُونُ إلا (إلى أمر) (6) وَاحِدٍ فَلَا يَسَعُ أَنْ يَكُونَ أَهْلُ الْحَقِّ فِرقاً.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} (7)، وَهُوَ نَصٌّ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، فَإِنَّ السَّبِيلَ الْوَاحِدَ لَا يَقْتَضِي الِافْتِرَاقَ، بِخِلَافِ السُّبُلِ الْمُخْتَلِفَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْعَاشِرَةِ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ: (وَاخْتَلَفَ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، نَجَا مِنْهَا ثَلَاثٌ وَهَلَكَ سَائِرُهَا) (8) إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ، فَلَوْ لَزِمَ مَا قُلْتَ لَمْ يَجْعَلْ أُولَئِكَ الْفِرَقَ ثَلَاثًا، وَكَانُوا فِرْقَةً وَاحِدَةً، وَحِينَ (بُيِّنُوا) (9) ظَهَرَ أنهم كُلُّهُمْ عَلَى الْحَقِّ وَالصَّوَابِ، فَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْفِرَقُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، لَوْلَا أَنَّ الْحَدِيثَ/ أَخْبَرَ أَنَّ النَّاجِيَةَ وَاحِدَةٌ.
فَالْجَوَابُ: / أَوَّلًا: أَنَّ ذَلِكَ الْحَدِيثَ لَمْ نَشْتَرِطِ الصِّحَّةَ فِي نقله، إذ لم
_________
(1) في (ت) و (خ) و (م): "عشر".
(2) في (غ) و (ر): "مختلف".
(3) سورة النساء: الآية (59).
(4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "إذ رد".
(5) في (ت): "المتنازع".
(6) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "لأمر".
(7) سورة الأنعام: الآية (153).
(8) تقدم تخريجه (3/ 182).
(9) في (خ): "ينيوا".(3/193)
نَجِدُهُ فِي الْكُتُبِ الَّتِي لَدَيْنَا الْمُشْتَرَطُ فِيهَا الصِّحَّةُ (1).
/وَثَانِيًا: أَنَّ تِلْكَ الْفِرَقَ إِنْ عُدَّتْ (هنالك ثلاثاً فإنما عدت هنا) (2) وَاحِدَةً لِعَدَمِ الِاخْتِلَافِ بَيْنَهُمْ فِي أَصْلِ الِاتِّبَاعِ، وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ فِي الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ أَوْ (عَدَمِهَا) (3)، وَفِي كَيْفِيَّةِ الأمر والنهي خاصة.
فهذه الفرق لا (تتنافى لصحة) (4) الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، فَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ فِي مِلَّتِنَا بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ عَلَى مَرَاتِبَ: فَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ بِالْيَدِ وَهُمُ الْمُلُوكُ (وَالْحُكَّامُ) (5) وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدِرُ بِاللِّسَانِ كَالْعُلَمَاءِ وَمَنْ قَامَ مَقَامَهُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَقْدِرُ إِلَّا بِالْقَلْبِ، إِمَّا مَعَ الْبَقَاءِ بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ (إِذْ لَمْ يَقْدِرْ) (6) عَلَى الْهِجْرَةِ أَوْ مَعَ الْهِجْرَةِ إِنْ (قَدَرَ) (7) /عَلَيْهَا، وجميع ذلك (خصلة) (8) وَاحِدَةٌ مِنْ خِصَالِ الْإِيمَانِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي الحديث قوله صلّى الله عليه وسلّم: "لَيْسَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنِ الْإِيمَانِ حَبَّةَ خَرْدَلٍ" (9).
فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَضُرُّنَا عدُّ النَّاجِيَةِ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ ثَلَاثًا بِاعْتِبَارٍ، وَعَدُّهَا وَاحِدَةً بِاعْتِبَارٍ آخَرَ، وَإِنَّمَا يَبْقَى النَّظَرُ فِي عَدِّهَا اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فَتَصِيرُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ سَبْعِينَ، وَهُوَ مُعَارِضٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ جِهَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ فِرَقِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَفِرَقِ غَيْرِهَا، مَعَ قَوْلِهِ: (لتركبن سنن من كان قبلكم
_________
(1) لا يلزم عدم ورود الحديث في الكتب التي اشترط أصحابها الصحة عدم صحة الحديث، بل هناك أحاديث صحيحة كثيرة في كتب لم يلتزم أصحابها صحة كل ما فيها.
(2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "هنا ثلاثاً فإنما عدت هناك".
(3) في (غ) و (ر): "في عدمها".
(4) في (ط) و (خ) و (ت): "لا تنافي الصحة".
(5) في (ط) و (خ): "والحكماء".
(6) في (غ) و (ر): "إذا لم يقدروا".
(7) في (غ) و (ر): "قدروا".
(8) في (ط): "خطة".
(9) أخرجه مسلم (49)، وأحمد في المسند (3 10 و20 و49 و54)، وابن ماجه (1275 و4013)، وأبو داود (1140 و4340)، والنسائي في المجتبى (5008)، وفي السنن الكبرى (11739)، وأبو يعلى (1009)، وابن حبان (306 و307)، والبيهقي في السنن الكبرى (11293 و14325 و19966).(3/194)
شبراً بشبر وذراعاً بذراع) (1).
(ويمكن) (2) فِي الْجَوَابِ أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُتْرَكَ الكلام في (هذا) (3) رأساً (إذ) (4) خَالَفَ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ، لِأَنَّهُ ثَبَتَ فِيهِ (إِحْدَى وَسَبْعِينَ) وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ (ثِنْتَيْنِ/ وَسَبْعَيْنِ).
/وإما أن (يتأول) (5) أن (الثلاث) (6) الَّتِي نَجَتْ لَيْسَتْ فِرَقًا ثَلَاثًا، وَإِنَّمَا هِيَ فِرْقَةٌ وَاحِدَةٌ انْقَسَمَتْ إِلَى الْمَرَاتِبِ/ الثَّلَاثِ، لِأَنَّ الرِّوَايَةَ الْوَاقِعَةَ/ فِي تَفْسِيرِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ هِيَ قَوْلُهُ: (نَجَا مِنْهَا ثَلَاثٌ) وَلَمْ يُفَسِّرْهَا بِثَلَاثِ فِرَقٍ وَإِنْ كَانَ هُوَ ظَاهِرَ الْمَسَاقِ، ولكن قَصْدَ الجمع بين الروايات ومعاني (الأحاديث) (7) أَلْجَأَ إِلَى ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا أَرَادَ رسوله من ذلك. وقوله صلّى الله عليه وسلّم: "كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً" ظَاهِرٌ فِي الْعُمُومِ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، وفسَّره الْحَدِيثُ الْآخَرُ: "ثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ"، وَهَذَا/ نَصٌّ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ (8):
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم لم يعيِّن من الفرق (فِرْقَةً) (9) وَاحِدَةً، وَإِنَّمَا تَعَرَّضَ لِعَدِّهَا خَاصَّةً، وَأَشَارَ إلى الفرقة النَّاجِيَةِ حِينَ سُئِلَ عَنْهَا، وَإِنَّمَا وَقَعَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَلَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ لِأُمُورٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ تَعْيِينَ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ هُوَ الْآكَدُ فِي الْبَيَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَعَبُّدِ الْمُكَلَّفِ وَالْأَحَقِّ بِالذِّكْرِ، إِذْ لَا يَلْزَمُ تَعْيِينُ الْفِرَقِ الْبَاقِيَةِ إِذَا عينت الواحدة،
_________
(1) تقدم تخريجه (3/ 187).
(2) في (ط): "ويمكن أن يكون في الجواب".
(3) في (غ) و (ر): "ذلك".
(4) في (ط): "إذا".
(5) في (غ) و (ر): "نتأول".
(6) في (ط) و (خ): "الثلاثة".
(7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الحديث".
(8) في (ت) و (خ) و (م): "عشر".
(9) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "إلا فرقة".(3/195)
وأيضاً فلو عينت الفرق كلها إلا هذه (الواحدة) (1) لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ بَيَانِهَا، لَأَنَّ الْكَلَامَ فيها يقتضي ترك أمور (هي) (2) بدع، وَالتَّرْكُ لِلشَّيْءِ لَا يَقْتَضِي فِعْلَ شَيْءٍ آخَرَ لَا ضِدًّا وَلَا خِلَافًا، فَذِكْرُ الْوَاحِدَةِ هُوَ المفيد على الإطلاق.
والثاني: أَنَّ ذَلِكَ أَوْجَزُ لِأَنَّهُ إِذَا ذُكِرَتْ نِحْلَةُ (الْفِرْقَةِ) (3) النَّاجِيَةِ عُلِمَ عَلَى الْبَدِيهَةِ أَنَّ مَا سِوَاهَا/ (مِمَّا) (4) يُخَالِفُهَا لَيْسَ بِنَاجٍ وَحَصَلَ التَّعْيِينُ بِالِاجْتِهَادِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا ذُكِرَتِ الْفِرَقُ إِلَّا النَّاجِيَةَ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي شَرْحًا كَثِيرًا، وَلَا يَقْتَضِي في الفرقة الناجية اجتهاداً، لِأَنَّ إِثْبَاتَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي تَكُونُ مُخَالَفَتُهَا بِدَعًا لا حظَّ للعقل في الاجتهاد فيها.
/وَالثَّالِثُ: أَنَّ ذَلِكَ أَحْرَى بِالسَّتْرِ، كَمَا تَقَدَّمَ بيانه (5) في مسألة (تعيين) (6) الْفِرَقِ، وَلَوْ فُسِّرت لَنَاقَضَ ذَلِكَ قَصْدَ السَّتْرِ،/ فَفَسَّرَ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ وَتَرَكَ مَا لَا يحتاج إليه إلا من جهة المخالفة، فالعقل وَرَاءَ ذَلِكَ مَرْمَى تَحْتَ أَذْيَالِ السَّتْرِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، فبيَّن النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: "مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي" (7)، وَوَقَعَ ذَلِكَ جَوَابًا لِلسُّؤَالِ الَّذِي سَأَلُوهُ إِذْ قَالُوا: مَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَأَجَابَ بِأَنَّ الفرقة الناجية من (اتصفت) (8) بأوصافه صلّى الله عليه وسلّم وَأَوْصَافِ أَصْحَابِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ غَيْرَ خفي فاكتفوا به، وربما يحتاج إلى تفسيره بالنسبة إلى من بعُد (عن) (9) (تِلْكَ) (10) الْأَزْمَانِ.
وَحَاصِلُ الْأَمْرِ أَنَّ أَصْحَابَهُ كَانُوا مُقْتَدِينَ بِهِ مُهْتَدِينَ بِهَدْيِهِ، وَقَدْ جَاءَ مَدْحُهُمْ في القرآن الكريم وأثنى عليهم مَتْبوعُهم مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا (كان) (11) خُلُقه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنُ، فَقَالَ تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ *} (12)، فالقرآن
_________
(1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الأمة".
(2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "وهي".
(3) ساقط من (غ) و (ر).
(4) في (م): "إنما".
(5) انظر: (3/ 158).
(6) زيادة من (غ) و (ر).
(7) سبق تخريجه (3/ 122).
(8) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "اتصف".
(9) زيادة من (غ) و (ر) و (ت).
(10) في (ت): "ذلك".
(11) زيادة من (غ) و (ر).
(12) سورة القلم: الآية (4).(3/196)
(إذاً) (1) هُوَ الْمَتْبُوعُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَجَاءَتِ السُّنَّةُ مُبَيِّنَةً/ لَهُ، فَالْمُتَّبِعُ لِلسُّنَّةِ مُتَّبِعٌ لِلْقُرْآنِ، وَالصَّحَابَةُ كَانُوا أَوْلَى النَّاسِ/ بِذَلِكَ، فَكُلُّ مَنِ اقْتَدَى بِهِمْ فَهُوَ مِنَ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ الدَّاخِلَةِ (لِلْجَنَّةِ) (2) بِفَضْلِ اللَّهِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "ما أنا عليه وأصحابي" فَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ هُوَ الطَّرِيقُ الْمُسْتَقِيمُ، وَمَا سِوَاهُمَا مِنَ الْإِجْمَاعِ وَغَيْرِهِ فَنَاشِئٌ عَنْهُمَا، هَذَا هُوَ الْوَصْفُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ، وَهُوَ مَعْنَى مَا جَاءَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى مِنْ قَوْلِهِ: (وَهِيَ الْجَمَاعَةُ) لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ فِي وَقْتِ الْإِخْبَارِ كَانُوا عَلَى ذَلِكَ الْوَصْفِ، إِلَّا أَنَّ فِي لَفْظِ الْجَمَاعَةِ معنى (آخر) (3) (تَرَاهُ) (4) بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
/ثُمَّ إِنَّ في هذا التعريف نظراً لا بد من الكلام (عليه) (5) وذلك أن كل داخل تحت ترجمة الْإِسْلَامِ مِنْ سُنِّيٍّ أَوْ مُبْتَدِعٍ مُدَّعٍ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي نَالَ رُتْبَةَ النَّجَاةِ وَدَخَلَ فِي غِمَارِ/ تِلْكَ الْفِرْقَةِ، إِذْ لَا يَدَّعِي/ (خِلَافَ) (6) ذَلِكَ إِلَّا مَنْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ، وَانْحَازَ إِلَى فِئَةِ الْكُفْرِ، كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَفِي مَعْنَاهُمْ من دخل بظاهره في الإسلام وَهُوَ/ مُعْتَقِدٌ غَيْرَهُ كَالْمُنَافِقِينَ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَرْضَ لِنَفْسِهِ إِلَّا بِوَصْفِ الْإِسْلَامِ وَقَاتَلَ سَائِرَ الْمِلَلِ عَلَى هَذِهِ الْمِلَّةِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَرْضَى لِنَفْسِهِ (بِأَخَسِّ) (7) مَرَاتِبِهَا وَهُوَ (مُدَّعٍ أَحْسَنَهَا) (8)، وهو (العلم) (9) فَلَوْ عَلِمَ الْمُبْتَدِعُ أَنَّهُ مُبْتَدِعٌ لَمْ يَبْقَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ وَلَمْ يُصَاحِبْ أَهْلَهَا، فَضْلًا عن أن يتخذها ديناً يدين به الله، وَهُوَ أَمْرٌ مَرْكُوزٌ فِي الْفِطْرَةِ لَا يُخَالِفُ فيه عاقل.
فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكُلُّ فِرْقَةٍ تُنَازِعُ صَاحِبَتَهَا في فرقة النجاة. ألا ترى أن
_________
(1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "إنما".
(2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "إلى الجنة".
(3) زيادة من (غ) و (ر).
(4) في (غ) و (ر): "نذكره".
(5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "عليه فيه".
(6) ما بين القوسين ساقط من (م). وفي (غ) و (ر): "غير".
(7) في (غ) و (ر): "بأخص".
(8) في (م): "مدح أخصها". وفي (غ) و (ر): "مدع أخصها".
(9) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "المعلم".(3/197)
المبتدع آخذ أبداً في تحسين حالته شرعاً وتقبيح حالة غيره.
(فالظاهري) (1) يدَّعي أنه (هو) (2) المتبع للسنة، (والقايس) (3) يدَّعي أَنَّهُ الَّذِي فَهِمَ الشَّرِيعَةَ، وَصَاحِبُ نَفْيِ الصفات يدعي أنه الموحد.
والقائل باستقلال (قدرة) (4) العبد (يدَّعي) (5) أنه صاحب العدل، (ولذلك) (6) سَمَّى الْمُعْتَزِلَةُ أَنْفُسَهُمْ أَهْلَ الْعَدْلِ وَالتَّوْحِيدِ، والمشبِّه يَدَّعِي أَنَّهُ الْمُثْبِتُ لِذَاتِ الْبَارِي وَصِفَاتِهِ، لِأَنَّ نَفْيَ التَّشْبِيهِ عِنْدَهُ نَفْيٌ مَحْضٌ، وَهُوَ الْعَدَمُ.
(وَكَذَلِكَ) (7) كَلُّ طَائِفَةٍ مِنَ الطَّوَائِفِ (الَّتِي) (8) ثَبَتَ لَهَا اتِّبَاعُ الشَّرِيعَةِ أَوْ لَمْ يَثْبُتْ لَهَا.
وَإِذَا رَجَعْنَا إِلَى الِاسْتِدْلَالَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ أَوِ السُّنِّيَّةِ عَلَى الْخُصُوصِ، فَكُلُّ طَائِفَةٍ تَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ أَيْضًا.
فالخوارج تحتج بقوله صلّى الله عليه وسلّم: "لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي/ ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ" (9)، وَفِي رِوَايَةٍ: "لا يضرهم/ خلاف من خالفهم"،
_________
(1) في (ط): "فالظاهر".
(2) ساقطة من (ط).
(3) في (ط) و (خ): "والغاش". وفي (م): "والقاصر".
(4) زيادة من (غ) و (ر).
(5) ما بين القوسين ساقط من (م) و (خ) و (ت).
(6) في (ط) و (خ): "كذلك".
(7) في (م): "ولذلك".
(8) في (م) و (خ): "الذي".
(9) هذا حديث متواتر روي عن عدد كبير من الصحابة، وأخرجه أكثر المحدثين في تصانيفهم منهم البخاري (3640، 7459، 7311، 3641)، ومسلم (1924، 1923، 1920، 1037، 174)، وأحمد (2 321 و340 و379) و (3 436) و (4 97 و101) و (5 35 و279)، وابن الجعد في مسنده (1076)، وأبو داود (2484)، وابن ماجه (6 ـ 10)، والترمذي (2192 و2229)، وأبو يعلى (6417 و7383)، وابن حبان (61 و6834 و6835)، والطبراني في الأوسط (74)، وفي الكبير (2001 و6357 و7643) و (17 314 برقم 869 و870) و (19 برقم 801 و870 و893)، و (20 برقم 960 ـ 962)، وفي مسند الشاميين (57 و860 و1563)، والحاكم (8389) والشهاب في مسنده (913 و914)، والبيهقي في السنن الكبرى (18605)، وغيرهم.(3/198)
و"من قتل دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ" (1).
(وَالْقَاعِدُ) (2) يَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ: "عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ، فَإِنَّ يَدَ اللَّهِ (مَعَ الْجَمَاعَةِ) (3) " (4)، و"مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قِيدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ" (5)، وَقَوْلِهِ: "كُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْمَقْتُولَ وَلَا تَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْقَاتِلَ" (6).
وَالْمُرْجِئُ يَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ: "مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُخْلِصًا (مِنْ قَلْبِهِ) (7) فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ/ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ" (8)، وَالْمُخَالِفُ لَهُ (مُحْتَجٌّ) (9) بِقَوْلِهِ: "لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي/ وهو مؤمن" (10).
_________
(1) أخرجه البخاري (2452 و3198)، ومسلم (1610)، والطيالسي (233 و2392 و2294)، والحميدي (83)، وأحمد (1 78 و187 و188 و190) و (2 223 و163 و209 و215 و216 و221)، وعبد بن حميد في المنتخب (106)، وابن الجعد (1698)، والحارث بن أبي أسامة ـ بغية الباحث ـ (636)، وأبو داود (4772)، وابن ماجه (2580 ـ 2582)، والترمذي (1418)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (567 و764)، والنسائي في المجتبى (4084 ـ 4095)، وفي الكبرى (3547 ـ 3558)، وأبو يعلى (6776 و949 و950 و953 و2061)، وابن حبان (3194 و4790)، والطبراني في الصغير (223 و428)، وفي الأوسط (793 و1422 و1652)، وفي الكبير (352 ـ 354 و7170 و10463 و12641)، والحاكم (6697)، والبيهقي في السنن الكبرى (17412 و5857 و5858 و16553 و16554 و17411)، وغيرهم.
(2) في (غ) و (ر): "والقايد".
(3) في (غ) و (ر): "عليها".
(4) (5) تقدم تخريجه (3/ 127).
(6) أخرجه ابن سعد في الطبقات (5 245)، وأحمد (5 110 و292)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (263)، وأبو يعلى (1523 و7215)، والطبراني في الكبير (1724 و3629 و3631) والحاكم (8578) وانظر: التلخيص الحبير (4 84).
(7) ما بين القوسين ساقط من (ت) و (م) و (غ).
(8) أخرجه بنحوه البخاري (1237، 6444، 6443، 6268، 5827، 3222، 2388، 7487)، ومسلم (94)، وأحمد (4 260) و (5 159 و161)، والترمذي (2644)، والنسائي في السنن الكبرى (10955 و10958 و10962)، وابن حبان (213)، والبيهقي في السنن الكبرى (20559).
(9) في (غ) و (ر): "يحتج".
(10) أخرجه البخاري (2475، 6810، 6772، 5578)، ومسلم (57)، والطيالسي=(3/199)
وَالْقَدَرِيُّ يَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} (1)، وبحديث: "كل مولود يولد على الفطرة (حتى يكون أبواه هما اللذان يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه) (2) " (3).
والمفوِّض يَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا *فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا *} (4)، وفي الحديث: "اعْمَلُوا فَكُلٌّ ميسَّر لِمَا خُلِقَ لَهُ" (5).
وَالرَّافِضَةُ (6) تحتج بقوله صلّى الله عليه وسلّم: "لَيَرِدَنَّ الحوض أقوام ثم (ليختلجنَّ) (7) دوني، فأقول: يا رب أصحابي (أَصْحَابِي) (8)، فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، (إِنَّهُمْ) (9) لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ" (10) وَيَحْتَجُّونَ فِي تَقْدِيمِ عَلِيٍّ رَضِيَ الله عنه (بقوله) (11): (أنت مني بمنزلة هارون
_________
= (823)، والحميدي في مسنده (1128)، وابن راهويه (416 ـ 418) وابن الجعد (265 و736)، وأحمد (2 243 و317 و376 و386 و469) و (3 346 و352) و (6 139)، وعبد بن حميد (525 و919)، والدارمي (2106)، وابن ماجه (3936)، وأبو داود (4689)، والترمذي (2625)، والنسائي (4869 ـ 4873 و5660)، وغيرهم كثير.
(1) سورة الروم: الآية (30).
(2) زيادة من (غ) و (ر).
(3) أخرجه البخاري (1358، 6599، 4775، 1385، 1359، 1359)، ومسلم (2658)، ومالك (571)، والطيالسي (2359 و2433)، والحميدي (1113)، وأحمد (2 233 و253 و275 و282 و315 و346 و393 و410 و481) و (3 353)، وأبو داود (4714)، والترمذي (2138)، وأبو يعلى (942 و6306 و6394 و6593)، وغيرهم كثير.
(4) سورة الشمس: الآيتان (7، 8).
(5) أخرجه البخاري (1362 و4945 ـ 7552، 6605، 6217، 4949)، ومسلم (2647 ـ 2649)، وأحمد (1 132 و140)، وابن ماجه (78)، وأبو داود (4694)، والترمذي (2136)، والنسائي في الكبرى (11679) وأبو يعلى (375 و610)، والطبراني في الصغير (950)، وابن حبان (335).
(6) انظر: تعريفهم في الملحق رقم (1).
(7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "ليتخلفن".
(8) زيادة من (غ) و (ر).
(9) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "ثم".
(10) تقدم تخريجه (1 116).
(11) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "ب".(3/200)
مِنْ مُوسَى، غَيْرَ أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي) (1)، وَ (مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ) (2).
وَمُخَالِفُوهُمْ يَحْتَجُّونَ فِي تَقْدِيمِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِقَوْلِهِ: (اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أبي بكر وعمر) (3) و (يأبى اللَّهُ وَالْمُسْلِمُونَ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ) (4) إِلَى أَشْبَاهِ ذَلِكَ، مِمَّا يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَاهُ.
وَالْجَمِيعُ مَحُومُونَ ـ فِي زَعْمِهِمْ ـ عَلَى الِانْتِظَامِ فِي سِلْكِ الْفِرْقَةِ الناجية، وإذا كان كذلك أشكل على (المبتدي) (5) فِي النَّظَرِ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ/ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبُهُمْ مُقْتَضَى هَذِهِ الظَّوَاهِرِ، فَإِنَّهَا مُتَدَافِعَةٌ مُتَنَاقِضَةٌ، وَإِنَّمَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ فِيهَا إِذَا جُعِلَ بَعْضُهَا أَصْلًا، فَيَرُدُّ الْبَعْضَ الْآخَرَ إِلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ بِالتَّأْوِيلِ.
وَكَذَلِكَ (فِعْل كُلُّ) (6) وَاحِدَةٍ مِنْ تِلْكَ الْفِرَقِ تَسْتَمْسِكُ بِبَعْضِ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ وَتَرُدُّ مَا سِوَاهَا إِلَيْهَا، أَوْ تُهْمِلُ اعْتِبَارَهَا بِالتَّرْجِيحِ، إن كان الموضع
_________
(1) أخرجه البخاري (3706 و4416)، ومسلم (2404)، وأحمد (1 179) و (3 32) و (6 319)، وفي الفضائل (1079)، وابن ماجه (115 و121)، والترمذي (3724)، والنسائي في الكبرى (8139 و8399 و8435 و8511 و8143 و8430 و8433 و8436 و8445، 8447 و8449)، وأبو يعلى (739 و755)، والطبراني في الصغير (918)، وفي الأوسط (1488)، وفي الكبير (328 و333 و334 و2035 و3515 و4087 و11087) و (24 146 برقم 384 ـ 388).
(2) أخرجه أحمد (1 152) و (5 361 و366)، وفي الفضائل (947 و959 و1021 و1048)، والترمذي (3713)، والنسائي في الكبرى (8470 و8468 و8471 و8472 8144 و8484)، والطبراني في الصغير (191)، وفي الأوسط (348 و1115)، وفي الكبير (4996 و5071 و5096) و (19 291 برقم 646)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (6523 و6524).
(3) أخرجه الحميدي في مسنده (449)، وأحمد (5 399 و302)، وفي الفضائل (198 و478 و479)، وابن ماجه (97)، والترمذي (3662 ـ 3663)، والحاكم (4453)، والبيهقي في السنن الكبرى (16367)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1142 و1143).
(4) أخرجه البخاري (7217)، ومسلم (2387)، وابن سعد في الطبقات الكبرى (2 218 و225)، والدارمي (82)، وابن حبان (6598)، والبيهقي في السنن الكبرى (16365).
(5) في (ط) و (خ): "المبتدع".
(6) في (م) و (غ) و (ر): "فعلوا بكل".(3/201)
مِنَ الظَّنِّيَّاتِ الَّتِي يَسُوغُ فِيهَا التَّرْجِيحُ، أَوْ تدَّعي أَنَّ أَصْلَهَا الَّذِي تَرْجِعُ إِلَيْهِ قَطْعِيٌّ وَالْمُعَارِضَ لَهُ (ظَنِّيٌّ) (1) فَلَا يَتَعَارَضَانِ.
وَإِنَّمَا كَانَتْ طريقة الصحابة رضي الله عنهم ظَاهِرَةٌ فِي الْأَزْمِنَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، أَمَا وَقَدِ اسْتَقَرَّتْ مآخذ الخلاف (في كل نوع من أنواع العلوم الشرعية فلا يمكن الرجوع (إلى طريقة) (2) يتفق الجميع على أنها طريقة الصحابة؛ لأن الاتفاق على ذلك مع القصد إلى الخلاف) (3) / (محال) (4)،/ وَهَذَا الْمَوْضِعُ مِمَّا (يَتَضَمَّنُهُ) (5) قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى:/ {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ *إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (6).
فَتَأَمَّلُوا ـ رَحِمَكُمُ اللَّهُ ـ كَيْفَ صَارَ الِاتِّفَاقُ مُحَالًا فِي الْعَادَةِ لِيُصَدِّقَ الْعَقْلُ بِصِحَّةِ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ تَعْيِينَ هَذِهِ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ فِي (مِثْلِ) (7) زَمَانِنَا صَعْبٌ، وَمَعَ ذَلِكَ فلا بد مِنَ النَّظَرِ فِيهِ، وَهُوَ نُكْتَةُ هَذَا الْكِتَابِ، فليقع به فضل اعتناء بحسب ما هيأه الله تعالى، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ يَقْتَضِي كَلَامًا كَثِيرًا أَرْجَأْنَا الْقَوْلَ فِيهِ إِلَى بَابٍ آخَرَ، (نذكره) (8) فِيهِ عَلَى حِدَتِهِ، إِذْ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ ذكره، والله المستعان.
/المسألة الخامسة عشرة (9):
(أنه صلَّى) (10) الله عليه وسلم (قال) (11): "كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً" (وحَتَّم) (12) ذَلِكَ، (وقُدِّمَ) (13) أَنَّهُ لَا يُعَدُّ مِنَ الْفِرَقِ إِلَّا الْمُخَالِفَ/ في أمر
_________
(1) ما بين القوسين ساقط من (م).
(2) زيادة من (ر).
(3) ما بين () زيادة من (غ).
(4) في (ط) و (ت) و (خ): "فمحال".
(5) في (غ) و (ر): "ينتظمه".
(6) سورة هود: الآية (118 ـ 119).
(7) زيادة من (غ) و (ر).
(8) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "وذكره".
(9) في (ت) و (خ) و (م): "عشر".
(10) في (غ) و (ر): "أنه لما قال صلى".
(11) ساقط من (غ) و (ر).
(12) في (غ) و (ر): "وختم".
(13) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "وقد تقدم".(3/202)
كلي وقاعدة عامة، (لم) (1) يَنْتَظِمِ/ الْحَدِيثُ ـ عَلَى الْخُصُوصِ ـ إِلَّا أَهْلَ الْبِدَعِ الْمُخَالِفِينَ لِلْقَوَاعِدِ، وَأَمَّا مَنِ ابْتَدَعَ فِي الدِّينِ لَكِنَّهُ لَمْ يَبْتَدِعْ (مَا) (2) (يَنْقُضُ) (3) أَمْرًا كُلِّيًّا، أَوْ يَخْرِمُ أَصْلًا مِنَ الشَّرْعِ عَامًّا، فَلَا دُخُولَ لَهُ فِي النَّصِّ الْمَذْكُورِ، فَيُنْظَرُ فِي حكمه: هل (يلحق) (4) بمن ذكر، أم لَا؟
وَالَّذِي يَظْهَرُ فِي الْمَسْأَلَةِ أَحَدُ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ نَقُولَ: إِنَّ الْحَدِيثَ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِتِلْكَ الْوَاسِطَةِ بِلَفْظٍ وَلَا مَعْنًى، إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ يُؤْخَذُ مِنْ عُمُومِ الْأَدِلَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، كَقَوْلِهِ: "كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ" وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَإِمَّا أَنْ نَقُولَ: إِنَّ الْحَدِيثَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي لَفْظِهِ دَلَالَةٌ فَفِي مَعْنَاهُ مَا يَدُلُّ على قصده في الجملة، وبيانه: (أَنَّهُ) (5) تَعَرَّضَ لِذِكْرِ الطَّرَفَيْنِ الْوَاضِحَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: طَرَفُ السلامة والنجاة من غير داخلة شبهة ولا إلمام (ببدعة) (6)، وهو قوله: (ما أنا عليه وأصحابي).
والثاني: طَرَفُ الْإِغْرَاقِ فِي الْبِدْعَةِ/ وَهُوَ الَّذِي تَكُونُ فِيهِ الْبِدْعَةُ كُلِّيَّةً أَوْ تَخْرِمُ أَصْلًا كُلِّيًّا، جَرْيًا عَلَى عَادَةِ اللَّهِ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَهْلَ الْخَيْرِ وَأَهْلَ الشَّرِّ ذَكَرَ كُلَّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ (بِأَعْلَى) (7) مَا (عمل) (8) مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، لِيَبْقَى الْمُؤْمِنُ فِيهَا بين الطرفين خائفاً راجياً، إذ (حصل) (9) التَّنْبِيهَ بِالطَّرَفَيْنِ الْوَاضِحَيْنِ، فَإِنَّ الْخَيْرَ عَلَى مَرَاتِبَ بَعْضُهَا أَعْلَى مِنْ بَعْضٍ، وَالشَّرُّ عَلَى مَرَاتِبَ بَعْضُهَا أَشَدُّ مِنْ بَعْضٍ، فَإِذَا ذُكِرَ أَهْلُ الْخَيْرِ الَّذِينَ فِي أَعْلَى الدَّرَجَاتِ خَافَ أَهْلُ الْخَيْرِ الَّذِينَ دُونَهُمْ أَنْ لَا يَلْحَقُوا بِهِمْ، (أَوْ رَجَوْا أَنْ يَلْحَقُوا بِهِمْ) (10)،/ وَإِذَا ذُكِرَ أهل الشر الذين/ في (أشد) (11) المراتب
_________
(1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "ولم".
(2) في (غ) و (ر): "بما".
(3) في (م) و (خ) و (غ) و (ر): "يقتضي".
(4) ساقط من (غ) و (ر).
(5) زيادة من (م) و (غ) و (ر).
(6) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "بدعة".
(7) في (ط): "بأهلى".
(8) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "يحمل".
(9) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "جعل".
(10) ساقط من (غ) و (ر).
(11) في (ط) و (خ) و (ت): "أشر".(3/203)
خَافَ أَهْلُ الشَّرِّ الَّذِينَ دُونَهُمْ أَنْ يَلْحَقُوا بِهِمْ، أَوْ رَجَوْا أَنْ (لَا) (1) يَلْحَقُوا بِهِمْ.
وهذا المعنى معلوم بالاستقراء، وذلك الاستقراء ـ إذا تَمَّ ـ يَدُلُّ عَلَى قَصْدِ الشَّارِعِ إِلَى ذَلِكَ المعنى، ويقويه ما روي (عن) (2) سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ (3) قَالَ: لَمَّا بَلَغَ النَّاسُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالُوا: مَاذَا يَقُولُ لِرَبِّهِ إِذَا لَقِيَهُ؟ اسْتَخْلَفَ عَلَيْنَا فَظًّا غَلِيظًا ـ وَهُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ ـ فَكَيْفَ لَوْ قَدَرَ؟ فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا بكر رضي الله عنه فقال: أبربي تخوِّفوني؟ أقول: استخلفت خير (أهلك) (4)، ثم أرسل إلى عمر رضي الله عنه فَقَالَ: إِنَّ لِلَّهِ عَمَلًا بِاللَّيْلِ لَا يَقْبَلُهُ بِالنَّهَارِ، وَعَمَلًا بِالنَّهَارِ لَا يَقْبَلُهُ (بِاللَّيْلِ) (5)، وَاعْلَمْ أَنَّهُ (لَا يَقْبَلُ) (6) نَافِلَةً حَتَّى تُؤَدَّى الْفَرِيضَةُ، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ أَهْلَ الْجَنَّةِ (فذكرهم) (7) بأحسن أعمالهم، وذلك أنه (تجاوز عن سيئة حتى يقول القائل: أنى يبلغ عملي مثل هذا ألم ترَ أن الله حين ذكر أهل النار، فذكرهم بأسوء أَعْمَالِهِمْ وَذَلِكَ أَنَّهُ) (8) رَدَّ عَلَيْهِمْ حَسَنَةً فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُمْ حَتَّى يَقُولَ الْقَائِلُ: عَمَلِي خَيْرٌ مِنْ هَذَا؛ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الرَّغْبَةَ وَالرَّهْبَةَ لِكَيْ (يَرْغَبَ) (9) الْمُؤْمِنُ فَيَعْمَلُ، (وَيَرْهَبُ) (10) فَلَا يُلْقِي بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، أَلَمْ تَرَ أَنَّمَا ثَقُلَتْ مَوَازِينُ مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ بِاتِّبَاعِهِمُ/ الحق وتركهم الباطل فثقَّل (ذلك) (11) (عملَهم) (12)، وحق لميزان لَا يُوضَعُ فِيهِ إِلَّا حُقَّ أَنْ يَثْقُلَ، ألم تر أنما خفَّت/ موازين من خفت موازينه باتباعهم الباطل
_________
(1) زيادة من (غ) و (ر).
(2) زيادة من (غ) و (ر).
(3) عبد الرحمن بن سابط الجمحي المكي، ثقة، روى عن أبي بكر وعمر مرسلاً، انظر: الجرح والتعديل (5 240)، تهذيب الكمال (17 123).
(4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "خلقك".
(5) في (م) و (خ) و (ت): "إلا بالليل".
(6) في (غ) و (ر): "لن تقبل".
(7) زيادة من (غ) و (ر).
(8) زيادة من (غ) و (ر).
(9) في (م) و (غ) و (ر): "يرهب".
(10) في (م): و"يرغب". وفي (غ) و (ر): "كي يرغب".
(11) زيادة من (غ) و (ر).
(12) في (غ) و (ر): "عليهم".(3/204)
وتركهم الحق، وحق (لميزان) (1) لا يوضع فيه إلا (باطل) (2) أَنْ يَخِفَّ ـ ثُمَّ قَالَ ـ: (أَمَا) (3) إِنْ حَفِظْتَ وَصِيَّتِي لَمْ يَكُنْ غَائِبٌ أَحَبُّ إِلَيْكَ مِنَ الموت، وأنت لا بد لَاقِيهِ ـ وَإِنْ ضَيَّعْتَ وَصِيَّتِي لَمْ يَكُنْ غَائِبٌ أَبْغَضُ إِلَيْكَ مِنَ الْمَوْتِ وَلَا تُعْجِزُهُ (4).
/وَهَذَا الحديث وإن لم يكن (في الصحة) (5) / هُنَالِكَ، وَلَكِنَّ مَعْنَاهُ صَحِيحٌ يَشْهَدُ لَهُ الِاسْتِقْرَاءُ لِمَنْ تَتَبَّعَ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَيَشْهَدُ لِمَا (تَقَدَّمَ) (6) مِنْ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى مَقْصُودُ اسْتِشْهَادِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمِثْلِهِ، إِذْ رَأَى بَعْضَ أَصْحَابِهِ وَقَدِ اشْتَرَى لَحْمًا بِدِرْهَمٍ: أَيْنَ تَذْهَبُ بِكُمْ هَذِهِ الْآيَةُ: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} (7) (8).
_________
(1) في (م) و (خ): "الميزان".
(2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الباطل".
(3) ساقط من (غ) و (ر).
(4) أخرجه ـ مختصراً ـ عبد الرازق في المصنف (5 449)، (9764) بإسناد صحيح عن معمر عن الزهري عن القاسم بن محمد عن أسماء بنت عميس قالت: دخل رجل من المهاجرين على أبي بكر ... إلخ. وهذا الرجل هو: طلحة بن عبيد الله، كما فى رواية ابن جرير في تهذيب الآثار ـ مسند عمر ـ (2 925)، وفي التاريخ (3 433).
ومن طريق عبد الرزاق أخرجه الفاكهي في أخبار مكة (3 67)، (1808).
أما رواية ابن سابط التي ذكرها المصنف، فأخرجها سعيد بن منصور في سننه (942)، وأبو نعيم في الحلية (1 36)، وابن سابط روايته عن أبي بكر مرسلة.
وأخرجه ابن المبارك في الزهد (319)، وهناد في الزهد (1 284)، (496)، وابن أبي شيبة في المصنف (14 572) (18902)، والخلال في السنة (1 275)، (337)، وجميعهم من طريق زبيد اليامي عن أبي بكر وزبيد روايته عن أبي بكر مرسلة.
وأخرجه ابن سعد في الطبقات (3 199)، من طريق الواقدي، وهو ضعيف.
وأخرجه أيضاً (3 274)، من طريق صالح بن رستم عن ابن أبي مليكة عن عائشة، وصالح بن رستم صدوق كثير الخطأ، كما في التقريب (2861).
(5) زيادة من (م) و (غ) و (ر).
(6) في (غ) و (ر): "تقرر".
(7) سورة الأحقاف: الآية (20).
(8) أخرجه مالك في الموطأ (1674)، عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن عمر، ويحيى لم يدرك عمر وأخرجه الحاكم في المستدرك (3698)، من طريق القاسم بن عبد الله بن=(3/205)
وَالْآيَةُ إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي الْكُفَّارِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ} الآية إلى أن قال: {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} (1) وَلَمْ يَمْنَعْهُ/ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنْزَالُهَا فِي الْكُفَّارِ مِنَ الِاسْتِشْهَادِ بِهَا فِي مَوَاضِعَ اعْتِبَارًا بِمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ أَصْلٌ شَرْعِيٌّ تَبَيَّنَ فِي كتاب الموافقات (2).
فالحاصل أن من عدا الْفِرَقَ مِنَ الْمُبْتَدِعَةِ الِابْتِدَاعَ الْجُزْئِيَّ لَا يَبْلُغُ مَبْلَغَ أَهْلِ الْبِدَعِ (فِي) (3) الْكُلِّيَّاتِ، فِي الذَّمِّ وَالتَّصْرِيحِ بِالْوَعِيدِ بِالنَّارِ، وَلَكِنَّهُمُ اشْتَرَكُوا فِي الْمَعْنَى الْمُقْتَضِي لِلذَّمِّ وَالْوَعِيدِ، كَمَا اشْتَرَكَ فِي اللَّفْظِ صَاحِبُ اللَّحْمِ ـ حِينَ تَنَاوَلَ بَعْضَ الطَّيِّبَاتِ عَلَى وَجْهٍ فِيهِ كَرَاهِيَةُ مَا، فِي اجْتِهَادِ عُمَرَ ـ مَعَ مَنْ أَذْهَبَ طَيِّبَاتِهِ فِي حَيَاتِهِ الدُّنْيَا من الكفار، وإن كان (بينهما) (4) مَا (بَيْنَهُمَا) (5) مِنَ الْبَوْنِ الْبَعِيدِ، وَالْقُرْبُ وَالْبُعْدُ (من الطرف) (6) الْمَذْمُومِ بِحَسَبِ مَا يَظْهَرُ مِنَ الْأَدِلَّةِ لِلْمُجْتَهِدِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَسْطُ ذَلِكَ فِي بَابِهِ، وَالْحَمْدُ لله.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ (7):
/أَنَّ رِوَايَةَ مَنْ/ رَوَى في تفسير الفرقة النَّاجِيَةِ: (وَهِيَ الْجَمَاعَةُ) مُحْتَاجَةٌ إِلَى التَّفْسِيرِ لِأَنَّهُ إن كان (معناها) (8) بَيِّناً مِنْ جِهَةِ تَفْسِيرِ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى ـ وَهِيَ قَوْلُهُ: (مَا أَنَا/ عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي) ـ فَمَعْنَى لَفْظِ (الْجَمَاعَةِ) مِنْ حَيْثُ الْمُرَادُ بِهِ فِي إِطْلَاقِ الشَّرْعِ مُحْتَاجٌ إِلَى التَّفْسِيرِ.
فَقَدْ جَاءَ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ مِنْهَا الْحَدِيثُ الَّذِي نَحْنُ فِي تفسيره، ومنها
_________
=عمر عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن عمر بن الخطاب، والقاسم قال عنه الذهبي: "واهٍ".
(1) سورة الأحقاف: الآية (20).
(2) انظر: الموافقات (3 239).
(3) في (م): "وهو ساقط من (غ) و (ر) ".
(4) زيادة من (غ) و (ر).
(5) ساقط من (ط). في (ت): "ما بينهما ما بينهما".
(6) في (ت): "بياض بمقدار كلمتين. وفي (ط) و (م) و (خ): "من العارف".
(7) في (ت) و (خ) و (م): "عشر".
(8) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "معناه".(3/206)
مَا صَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ، (فَإِنَّهُ) (1) مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ (شِبْرًا) (2) فَمَاتَ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً) (3).
وَصَحَّ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ، فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: (نَعَمْ، قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَن، (قُلْتُ) (4): وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ: قوم (يستنُّون بغير سنتي و) (5) يهدون/ بغير هديي تعرف منهم وتنكر. (وفي رواية: قوم يهدون بغير هديي ويستنون بغير سنتي تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ) (6).
قُلْتُ: فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: نَعَمْ، دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا، قَالَ: هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا، قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟ قَالَ: تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ، قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ (لَهُمْ) (7) جَمَاعَةٌ وَلَا إِمَامٌ؟ قَالَ: فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى (يُدْرِكَكَ) (8) الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ) (9).
وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ وَالطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ/ عُمَرَ قَالَ: خَطَبَنَا عُمَرُ بن الخطاب
_________
(1) في (غ) و (ر): "فإن".
(2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "شيئاً".
(3) أخرجه البخاري في الأحكام، باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية، برقم (7143)، ومسلم (3 1477 ـ 1478)، برقم (1849)، وأحمد في المسند (1 275، 297)، والدارمي في السنن (2 314)، وابن أبي عاصم في السنة (1101)، وأبو يعلى في المسند (4 234)، والبيهقي في السنن الكبرى (8 157)، وفي شعب الإيمان (6 60)، جميعهم من حديث ابن عباس.
(4) في (م) و (خ): "قال".
(5) زيادة من (ط).
(6) ما بين () زيادة من (غ) و (ر).
(7) زيادة من (ط) و (غ) و (ر).
(8) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "يدرك".
(9) تقدم تخريجه (1 112).(3/207)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْجَابِيَةِ (1) فَقَالَ: إِنِّي قُمْتُ فِيكُمْ كَمَقَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِينَا، فَقَالَ: (أُوصِيكُمْ بِأَصْحَابِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ (يَفْشُو) (2) الْكَذِبُ حَتَّى يَحْلِفَ الرَّجُلُ وَلَا يُستحلف، وَيَشْهَدَ وَلَا يُستشهد، عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ، وَإِيَّاكُمْ/ وَالْفُرْقَةَ، لَا يخلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ، فَإِنَّهُ لَا (يخلُونَّ) (3) رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا كَانَ ثَالِثُهُمَا/ الشَّيْطَانُ، الشَّيْطَانُ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنَ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ، وَمَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمِ الْجَمَاعَةَ، وَمَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَذَلِكَ هُوَ الْمُؤْمِنُ) (4).
وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ("يد الله مع الجماعة" (5)، حديث غريب.
ومثله عن ابن عمر قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم) (6): "إن الله لا يجمع أمتي (أو قال: أمة محمد) (7) عَلَى ضَلَالَةٍ، وَيَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ، وَمَنْ شَذَّ شذَّ إِلَى النَّارِ" (8).
وخرَّج أَبُو دَاوُدَ/ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ:/ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قِيد شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عنقه" (9).
_________
(1) الجابية: منطقة تقع شمال بلدة الصنمين في سوريا، ولها تل يعرف بتل الجابية، وهي قريبة من الجولان. انظر: معجم المعالم الجغرافية، لعاتق البلادي. (ص77).
(2) في (غ) و (ر): "يفتروا".
(3) في (غ) و (ر): "يخلو".
(4) أخرجه الترمذي (2165)، وأحمد في المسند (114) و (177)، وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح. وأخرجه ابن ماجه (2363)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (2 43)، وأخرجه ابن أبي عاصم في السنة (1490)، والنسائي في السنن الكبرى (9224)، والحاكم في المستدرك (387)، والضياء في المختارة (185).
(5) أخرجه الترمذي (2166)، وقال: هذا حديث حسن غريب.
(6) ما بين () زيادة من (غ) و (ر).
(7) زيادة من (غ) و (ر).
(8) أخرجه الترمذي (2167)، وقال الألباني في صحيح سنن الترمذي (2 232): صحيح دون قوله: "ومن شذ". وأخرجه ابن أبي عاصم في السنة (80)، والحاكم في المستدرك (391 ـ 397).
(9) أخرجه أبو داود برقم (4758)، وأحمد في المسند (5 180)، وابن أبي عاصم في السنة برقم (892) و (1035)، وصححه الألباني في ظلال الجنة (2 434)، وأخرجه=(3/208)
وَعَنْ عَرْفَجَةَ (1) قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلّم يقول: "ستكون فِي أُمَّتِي (هَنَاتٌ وَهَنَاتٌ) (2)، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ (يُفَرِّقَ) (3) أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ جَمِيعٌ فَاضْرِبُوهُ بِالسَّيْفِ كَائِنًا مَنْ كَانَ) (4).
فَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مَعْنَى الْجَمَاعَةِ الْمُرَادَةِ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ عَلَى خَمْسَةِ أقوال:
أَحَدُهَا: (أَنَّهَا) (5) السَّوَادُ الْأَعْظَمُ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ (الَّذِي) (6) يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُ أَبِي غَالِبٍ (7): إِنَّ السَّوَادَ الْأَعْظَمَ (هُمُ) (8) النَّاجُونَ مِنَ الْفِرَقِ، فَمَا كَانُوا عَلَيْهِ مَنْ أَمْرِ دِينِهِمْ فَهُوَ الْحَقُّ، وَمَنْ خَالَفَهُمْ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً، سَوَاءٌ خَالَفَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنَ الشَّرِيعَةِ أَوْ فِي إِمَامِهِمْ وَسُلْطَانِهِمْ، فَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْحَقِّ.
وَمِمَّنْ قَالَ بهذا أبو مسعود الأنصاري (9) وعبد الله بن مَسْعُودٍ، فَرَوَى أَنَّهُ لَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ سُئل أَبُو مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيُّ عَنِ الْفِتْنَةِ، فَقَالَ: عَلَيْكَ بِالْجَمَاعَةِ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُنْ لِيَجْمَعَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ضَلَالَةٍ، واصبر حتى (يستريح برٌّ) (10)، أو يستراح من فاجر (11).
_________
=الحاكم في المستدرك (401 و402)، والشهاب في المسند (448)، وذكر له روايات أخر ابن حجر في التلخيص الحبير (4 41).
(1) هو عرفجة بن شريح الكندي، روى عنه أبو حازم الأشجعي، وزياد بن علامة ووقدان العبدي. انظر: الجرح والتعديل (7 17)، والإصابة (2 474).
(2) في (ط): "هنيات وهنيات".
(3) في (غ) و (ر): "يفارق".
(4) أخرجه مسلم (1852)، وأبو داود الطيالسي (1224)، وأحمد (4 261 و341) و (6 23)، وأبو داود (4762)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (2852)، والنسائي في المجتبى (4020 ـ 4023)، وفي الكبرى (3483 ـ 3486)، وابن حبان (4577)، والطبراني في الكبير (487 و488) و (17 برقم 353 ـ 367)، والحاكم (2665)، والبيهقي في السنن الكبرى (16466 ـ 16468).
(5) في (غ) و (ر): "أنه".
(6) ساقط من (غ) و (ر).
(7) تقدمت ترجمته (ص123).
(8) في (م) و (خ) و (غ) و (ر): "هو".
(9) هو عقبة بن عمرو بن ثعلبة الأنصاري، روى أحاديث كثيرة، ومعدود في علماء الصحابة، نزل الكوفة، وتوفي 39هـ، وقيل 40هـ. انظر: طبقات ابن سعد (6 16)، والجرح والتعديل (6 313).
(10) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "تستريح".
(11) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (19461)، والحاكم (8545)، وبنحوه في السنة=(3/209)
وَقَالَ: إِيَّاكَ وَالْفُرْقَةَ فَإِنَّ الْفُرْقَةَ هِيَ الضَّلَالَةُ (1).
وقال/ ابن مسعود رضي الله عنه: عليكم بالسمع والطاعة (والجماعة) (2) فَإِنَّهَا حَبْلُ اللَّهِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ، ثُمَّ قَبَضَ يَدَهُ وَقَالَ: إِنَّ الَّذِي تَكْرَهُونَ فِي/ الجماعة خير من الذي تُحِبُّونَ فِي الْفُرْقَةِ (3).
وَعَنِ الْحُسَيْنِ (4) قِيلَ لَهُ: أَبُو بَكْرٍ خَلِيفَةُ رَسُولِ/ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم؟ فقال: إي و (الله) (5) الذي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، مَا كَانَ اللَّهُ لِيَجْمَعَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ عَلَى ضَلَالَةٍ.
فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَدْخُلُ فِي الْجَمَاعَةِ مُجْتَهِدُو الْأُمَّةِ وَعُلَمَاؤُهَا وَأَهْلُ الشَّرِيعَةِ (الْعَامِلُونَ) (6) بِهَا، وَمَنْ سِوَاهُمْ دَاخِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ، لِأَنَّهُمْ تَابِعُونَ لَهُمْ وَمُقْتَدُونَ بِهِمْ، (فَكُلُّ) (7) مَنْ خَرَجَ عَنْ جَمَاعَتِهِمْ فَهُمُ الَّذِينَ شذُّوا وَهُمْ (نُهْبَةُ) (8) الشَّيْطَانِ، وَيَدْخُلُ فِي هَؤُلَاءِ جَمِيعُ أَهْلِ الْبِدَعِ لِأَنَّهُمْ مُخَالِفُونَ لِمَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأُمَّةِ، لَمْ يَدْخُلُوا فِي سَوَادِهِمْ بِحَالٍ.
والثاني: أَنَّهَا جَمَاعَةُ أَئِمَّةِ الْعُلَمَاءِ الْمُجْتَهِدِينَ، فَمَنْ خَرَجَ (عمّا) (9) عليه
_________
=لابن أبي عاصم (85)، وقال الألباني: إسناده جيد موقوف، رجاله رجال الشيخين، والحديث رواه الطبراني في الكبير (17 239 ـ 240)، من طريقين أحدهما رجاله ثقات، كما في المجمع (5 219).
(1) أخرجه الطبراني في الكبير (17 239).
(2) زيادة من (غ) و (ر).
(3) في (م) و (ت): "إن الذين تكرهون ... من الذين تحبون في الفرقة". وفي (ط): "إن الذي تكرهون ... من الذين تحبون في الفرقة". أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (19184)، والطبراني في الكبير (8973)، والحاكم في المستدرك (8663) وقال: صحيح على شرط الشيخين. ووافقه الذهبي! والأثر من طريق ثابت بن قطبة عن ابن مسعود، وثابت بن قطبة لم يخرج له أحد من أصحاب الكتب الستة، وأخرجه مختصراً ابن جرير في تفسيره (7579 ـ 7581)، والآجري في الشريعة (17)، واللالكائي (158 و159).
(4) لم أعرف من هو، ولعله الحسين بن واقد، وستأتي ترجمته، وفي (غ) و (ر): "الحسن".
(5) زيادة من (غ) و (ر).
(6) في (م) و (خ): "العاملين".
(7) في (غ) و (ر): "في كل".
(8) في (من): "نهمة".
(9) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فما".(3/210)
(جماعة) (1) علماء الأمة مات ميتة جاهلية، (لأن الله تعالى، جعلهم حُجَّةً عَلَى الْعَالَمِينَ) (2)، وَهُمُ الْمَعْنِيُّونَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "إِنَّ اللَّهَ لَنْ يَجْمَعَ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ" (3)، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَامَّةَ عَنْهَا/ تَأْخُذُ دينها، وإليها تفزع (في) (4) النَّوَازِلِ، وَهِيَ تَبَعٌ لَهَا، فَمَعْنَى قَوْلِهِ: "لَنْ تجتمع أمتي (على ضلالة) (5) ": لَنْ يَجْتَمِعَ عُلَمَاءُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ.
(وَمِمَّنْ) (6) قَالَ بِهَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ وَجَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ وَهُوَ رَأْيُ الأصوليين، فقيل لعبد اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ: مَنِ الْجَمَاعَةُ الَّذِينَ يَنْبَغِي/ أَنْ يُقْتَدَى بِهِمْ؟ قَالَ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ ـ فَلَمْ يَزَلْ (يَحْسِبُ) (7) حَتَّى انْتَهَى إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ ثَابِتٍ (8) (وَالْحُسَيْنِ) (9) بْنِ وَاقِدٍ (10) ـ (فَقِيلَ) (11): هَؤُلَاءِ مَاتُوا، فَمَنِ الْأَحْيَاءُ؟ قَالَ: أَبُو حَمْزَةَ السُّكَّرِيُّ (12).
_________
(1) زيادة من (غ) و (ر).
(2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): لِأَنَّ جَمَاعَةَ اللَّهِ الْعُلَمَاءُ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ حُجَّةً على العالمين.
(3) تقدم تخريجه (3/ 208).
(4) في (ط): "من".
(5) زيادة من (غ) و (ر).
(6) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "ومن".
(7) في (غ) و (ر): "يحسر".
(8) هو محمد بن ثابت المروزي البصري، روى عنه ابن المبارك، وقال عنه يحيى بن معين: ثقة مأمون، انظر: الجرح والتعديل (7 216).
(9) في (غ) و (ر): "والحسن".
(10) هو حسين بن واقد أبو عبد الله القرشي، قاضي مرو وشيخها أخرج له مسلم والأربعة، وتوفي سنة 157هـ، وقيل 159هـ. انظر: الجرح والتعديل (3 66)، وطبقات ابن سعد (7 371)، والسير (7 104).
(11) في (غ) و (ر): "ولقد قيل".
(12) هو الإمام الحافظ محمد بن ميمون المروزي أبو حمزة السكري عالم مرو، من شيوخ ابن المبارك، وأقران حسين بن واقد، وسمي بالسكري لحلاوة كلامه، توفي سنة 167هـ. انظر: الجرح والتعديل (8 81)، وطبقات ابن سعد (7 373)، وتاريخ بغداد (3 266 ـ 269)، والسير (7 385).
والأثر أخرجه الترمذي (4 404)، وقال: وأبو حمزة هو محمد بن ميمون، وكان شيخاً صالحاً، وإنما قال هذا في حياته عندنا، وأخرجه بنحوه اللالكائي برقم (2326).(3/211)
وَعَنِ الْمُسَيَّبِ بْنِ رَافِعٍ (1) قَالَ: كَانُوا إِذَا جَاءَهُمْ شَيْءٌ مِنَ الْقَضَاءِ لَيْسَ فِي كِتَابِ الله ولا سنة رسوله ((ص)) سَمَّوْهُ: صَوَافِي الْأُمَرَاءِ، فَجَمَعُوا لَهُ أَهْلَ الْعِلْمِ، فَمَا أَجْمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَيْهِ فَهُوَ الْحَقُّ (2).
وَعَنْ إِسْحَاقَ/ بْنِ رَاهَوَيْهِ نَحْوٌ مِمَّا قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ (3).
فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا مَدْخَلَ فِي (هذا) (4) (السواد) (5) لِمَنْ لَيْسَ بِعَالِمٍ مُجْتَهِدٍ، لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي أَهْلِ التَّقْلِيدِ، فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ بِمَا يُخَالِفُهُمْ فهو صاحب الميتة الجاهلية، ولا يدخل (فيهم) (6) (أَيْضًا) (7) أَحَدٌ مِنَ الْمُبْتَدِعِينَ، لِأَنَّ الْعَالِمَ أَوَّلًا لَا يَبْتَدِعُ، وَإِنَّمَا يَبْتَدِعُ مَنِ ادَّعَى لِنَفْسِهِ الْعِلْمَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْبِدْعَةَ قَدْ أَخْرَجَتْهُ عَنْ نَمَطِ مَنْ يُعْتَدُّ بِأَقْوَالِهِ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُبْتَدِعَ لَا يُعْتَدُّ بِهِ في الإجماع، وإن قيل بالاعتداد بهم فيه ففي غير المسألة الَّتِي ابْتَدَعَ فِيهَا؛ لِأَنَّهُمْ فِي نَفْسِ الْبِدْعَةِ مخالفون للإجماع: فعلى كل تقدير لا يدخلون في السواد/ الأعظم (أصلاً) (8).
والثالث: إن الجماعة هي (جماعة) (9) الصَّحَابَةُ عَلَى الْخُصُوصِ، فَإِنَّهُمُ الَّذِينَ أَقَامُوا عِمَادَ الدِّينِ وَأَرْسَوْا أَوْتَادَهُ، وَهُمُ الَّذِينَ لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى ضَلَالَةٍ أَصْلًا، وَقَدْ يُمْكِنُ/ فِيمَنْ/ سِوَاهُمْ ذلك، ألا ترى قوله صلّى الله عليه وسلّم: "لا تَقُومُ السَّاعَةُ عَلَى أَحَدٍ يَقُولُ اللَّهُ اللَّهُ" (10).
_________
(1) هو المسيب بن رافع أبو العلاء الأسدي الكاهلي، كوفي ثبت، حدث عن جابر بن سمرة، وأبي سعيد الخدري، وغيرهما، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وتوفي سنة 105هـ. انظر: السير (5 102)، والجرح والتعديل، (8 293)، وطبقات ابن سعد (6 293).
(2) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2071).
(3) سيذكره المؤلف في (3/ 218).
(4) زيادة من (م) و (غ) و (ر).
(5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "السؤال".
(6) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فيها".
(7) ساقط من (غ) و (ر).
(8) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "رأساً".
(9) زيادة من (غ) و (ر).
(10) أخرجه مسلم (148)، وعبد بن حميد في المنتخب (1247 و1412)، وابن راهويه في=(3/212)
وَقَوْلَهُ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا عَلَى شَرَارِ الناس" (1)، فقد أخبر عليه الصلاة/ والسلام أَنَّ مِنَ الْأَزْمَانِ أَزْمَانًا يَجْتَمِعُونَ فِيهَا عَلَى ضَلَالَةٍ وَكُفْرٍ.
قَالُوا: وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَقُولُ: سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوُلَاةُ الْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ سُنَنًا، الْأَخْذُ بِهَا تَصْدِيقٌ لِكِتَابِ اللَّهِ، وَاسْتِكْمَالٌ (لِطَاعَةِ) (2) اللَّهِ، وَقُوَّةٌ عَلَى دِينِ/ اللَّهِ، لَيْسَ لِأَحَدٍ (تبديلها ولا) (3) تغييرها ولا النظر فيما خالفها، مَنِ اهْتَدَى بِهَا مُهْتَدٍ، وَمَنِ اسْتَنْصَرَ بِهَا مَنْصُورٌ، وَمَنْ خَالَفَهَا اتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَوَلَّاهُ اللَّهُ مَا تَوَلَّى، وَأَصْلَاهُ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ (مَصِيرًا) (4)، فَقَالَ مَالِكٌ ـ: فَأَعْجَبَنِي/ عَزْمُ عُمَرَ عَلَى ذلك (5).
فعلى هذا القول (لفظ) (6) الجماعة مطابق للرواية الأخرى في قوله صلّى الله عليه وسلّم: "مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي"، فَكَأَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى (أن) (7) مَا قَالُوهُ وَمَا سَنُّوهُ، وَمَا اجْتَهَدُوا فِيهِ حجة على الإطلاق، (لشهادة) (8) رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ بِذَلِكَ خُصُوصًا فِي قَوْلِهِ: ((فَعَلَيْكُمْ) (9) بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخلفاء
_________
=المسند (387)، وأحمد (3 162)، و (3 107 و201 و268)، والترمذي (2207)، وأبو يعلى (3526)، وابن حبان (6848 و6849)، والحاكم (8511 ـ 8516).
(1) أخرجه مسلم (2949)، وأبو داود الطيالسي في مسنده (311)، وابن راهويه (386)، وأحمد (1 394 و435)، و (3 499)، وابن ماجه (4039)، وأبو يعلى (5248)، وابن حبان (6850)، والطبراني في الصغير (485)، وفي الكبير (7757 و7894 و10097) و (18 84 برقم 835)، والقضاعي (898 و901 و902)، والحاكم (8359 و8363 و8364 و8517).
(2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الطاعة".
(3) ساقط من (غ) و (ر).
(4) في (م): "سعيرا".
(5) أخرجه عبد الله في السنة (766)، والآجري برقم (92 و139)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (2326)، وابن بطة في الكبرى (230 و231)، وأبو نعيم في الحلية (6 324)، واللالكائي برقم (134).
(6) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فلفظ".
(7) زيادة من (غ) و (ر).
(8) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "وبشهادة".
(9) في (غ) و (ر): "عليكم".(3/213)
الراشدين) (1) وأشباهه، (ولأنهم) (2) (المتلقون) (3) لكلام النبوة، (المهتدون بالشريعة) (4)، الذين فهموا (مراد) (5) اللَّهِ بِالتَّلَقِّي مِنْ نَبِيِّهِ مُشَافَهَةً، عَلَى عِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ بِمَوَاطِنِ التَّشْرِيعِ وَقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ، فَإِذًا كُلُّ مَا سنُّوه فَهُوَ سُنَّةٌ مِنْ غير (نظرٍ) (6) (فِيهِ) (7) بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ، فَإِنَّ فِيهِ لِأَهْلِ الِاجْتِهَادِ مجالاً للنظر رداً أو قبولاً، فَأَهْلُ الْبِدَعِ إِذًا غَيْرُ دَاخِلِينَ فِي الْجَمَاعَةِ قطعاً على هذا القول.
والرابع: أَنَّ الْجَمَاعَةَ هِيَ جَمَاعَةُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، إِذَا أَجْمَعُوا عَلَى أَمْرٍ فَوَاجِبٌ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ اتِّبَاعُهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ ضَمِنَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ لَا يَجْمَعَهُمْ عَلَى ضَلَالَةٍ، فَإِنْ وَقَعَ بَيْنَهُمُ اخْتِلَافٌ فَوَاجِبٌ تَعَرُّفُ الصَّوَابِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ:/ الْجَمَاعَةُ لَا تَكُونُ فِيهَا غَفْلَةٌ عَنْ مَعْنَى كِتَابِ اللَّهِ، وَلَا سُنَّةٍ وَلَا قِيَاسٍ، وَإِنَّمَا تَكُونُ الْغَفْلَةُ فِي الْفُرْقَةِ (8).
/وَكَأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ راجع إِلَى الثَّانِي وَهُوَ يَقْتَضِي أَيْضًا مَا يَقْتَضِيهِ، أَوْ يَرْجِعُ إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَفِيهِ مِنَ الْمَعْنَى مَا فِي الْأَوَّلِ مِنْ أنه لا بد مِنْ كَوْنِ الْمُجْتَهِدِينَ فِيهِمْ، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ مَعَ اجْتِمَاعِهِمْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ بِدْعَةٌ أصلاً، فهم ـ إذاً ـ الفرقة الناجية.
والخامس: مَا اخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ الْإِمَامُ مِنْ أَنَّ الْجَمَاعَةَ جماعة المسلمين
_________
(1) أخرجه أحمد (4 126 و127)، والدارمي (95)، وأبو داود (4607)، وابن ماجه (42 ـ 44)، والترمذي (2676)، والحارث بن أبي أسامة ـ بغية الباحث ـ (55 و56)، والطبراني في الأوسط (66)، وفي الكبير (18 245 برقم 617 ـ 624 و642)، والحاكم (329 ـ 333)، والبيهقي في السنن الكبرى (20125).
(2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "أو لأنهم".
(3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "المتقلدون".
(4) في (غ) و (ر): "الممهدون للشريعة".
(5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "أمر دين".
(6) في (ط): "نظير".
(7) زيادة من (غ) و (ر).
(8) انظر: "الرسالة" للشافعي (ص475).(3/214)
إذا/ اجتمعوا على (أمير) (1)، فأمر صلّى الله عليه وسلّم بِلُزُومِهِ وَنَهَى عَنْ فِرَاقِ الْأُمَّةِ فِيمَا اجْتَمَعُوا/ عليه من تقديمه عليهم لأن فراقهم (إياه) (2) لَا يَعْدُو إِحْدَى (حَالَتَيْنِ) (3) ـ إِمَّا (لِلنَّكِيرِ) (4) عَلَيْهِمْ فِي طَاعَةِ أَمِيرِهِمْ وَالطَّعْنِ عَلَيْهِ/ فِي سِيرَتِهِ المَرْضِيَّة لِغَيْرِ مُوجِبٍ، بَلْ (بِالتَّأْوِيلِ) (5) فِي إِحْدَاثِ بِدْعَةٍ فِي الدِّينِ، كَالْحَرُورِيَّةِ الَّتِي أُمِرَتِ الْأُمَّةُ بِقِتَالِهَا وَسَمَّاهَا (النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) (6): مَارِقَةً مِنَ الدِّينِ، وَإِمَّا (لِطَلَبِ) (7) إِمَارَةٍ مِنِ بعد انْعِقَادِ الْبَيْعَةِ لِأَمِيرِ الْجَمَاعَةِ، فَإِنَّهُ نَكْثُ عَهْدٍ ونقض (عقد) (8) بَعْدَ وُجُوبِهِ.
وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ جَاءَ إِلَى أُمَّتِي لِيُفَرِّقَ جَمَاعَتَهُمْ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ" (9)، قَالَ الطَّبَرِيُّ فَهَذَا مَعْنَى الْأَمْرِ بِلُزُومِ الْجَمَاعَةِ.
قَالَ: وَأَمَّا الْجَمَاعَةُ الَّتِي إِذَا اجْتَمَعَتْ عَلَى الرِّضَى بِتَقْدِيمِ أَمِيرٍ كَانَ الْمُفَارِقُ لَهَا (مَيِّتًا مِيتَةً) (10) جَاهِلِيَّةً، فَهِيَ الْجَمَاعَةُ الَّتِي وَصَفَهَا أَبُو مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيُّ رضي الله عنه (وغيره) (11)، (وَهُمْ) (12) مُعْظَمُ النَّاسِ وَكَافَّتُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَغَيْرِهِمْ، وَهُمُ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ.
قَالَ: وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عنه، فروى عن عمرو بْنِ مَيْمُونٍ الْأَوْدِيِّ (13) قَالَ: قَالَ: عُمَرُ ـ حِينَ طُعِنَ ـ لِصُهَيْبٍ صلِّ بِالنَّاسِ ثَلَاثًا وَلْيَدْخُلْ عليَّ عثمانُ وعليٌّ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَسَعْدٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ،
_________
(1) في (م): "أمر".
(2) زيادة من (غ) و (ر).
(3) في (غ) و (ر): "خلتين".
(4) في (م): "النكير".
(5) في (غ) و (ر): "لتأويل".
(6) ما بين القوسين ساقط من (ت) و (غ) و (ر).
(7) في (م): "الطلب".
(8) في (ط) و (م) و (خ): "عهد".
(9) تقدم تخريجه (3/ 209).
(10) في (غ) و (ر): "ميتته".
(11) زيادة من (غ) و (ر).
(12) في (غ) و (ر): "وهو".
(13) هو أبو عبد الله عمرو بن ميمون الأودي الكوفي، الإمام الحجة، أدرك الجاهلية، وأسلم في زمن الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وقدم الشام مع معاذ بن جبل، وتفقه عليه، توفي سنة 74، وقيل 75، وقيل 76هـ. انظر: طبقات ابن سعد (6 117)، والسير (4 158).(3/215)
وَلْيَدْخُلِ (ابْنُ عُمَرَ) (1) فِي جَانِبِ الْبَيْتِ وَلَيْسَ لَهُ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، فَقُمْ يَا صُهَيْبُ عَلَى رُؤُوسِهِمْ بِالسَّيْفِ/ فَإِنْ بَايَعَ/ خَمْسَةٌ وَنَكَصَ (رجل) (2) وَاحِدٌ فَاجْلِدْ رَأْسَهُ بِالسَّيْفِ، وَإِنْ بَايَعَ أَرْبَعَةٌ ونكص رجلان فاجلد رؤوسهما حَتَّى يَسْتَوْثِقُوا عَلَى رَجُلٍ (3).
قَالَ: فَالْجَمَاعَةُ الَّتِي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بِلُزُومِهَا وَسَمَّى الْمُنْفَرِدَ عَنْهَا مُفَارِقًا لَهَا نَظِيرُ الْجَمَاعَةِ الَّتِي أَوْجَبَ عُمَرُ الْخِلَافَةَ لِمَنِ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ، وَأَمَرَ صُهَيْبًا بِضَرْبِ رَأْسِ الْمُنْفَرِدِ عَنْهُمْ بِالسَّيْفِ، (فَهُمْ) (4) فِي مَعْنَى/ كَثْرَةِ/ الْعَدَدِ الْمُجْتَمِعِ عَلَى بَيْعَتِهِ وَقِلَّةِ الْعَدَدِ الْمُنْفَرِدِ عَنْهُمْ.
قَالَ: وَأَمَّا الْخَبَرُ الَّذِي ذُكِرَ فِيهِ أَنْ لَا تَجْتَمِعَ الْأُمَّةُ عَلَى ضَلَالَةٍ فَمَعْنَاهُ أَنْ لَا يَجْمَعَهُمْ عَلَى إِضْلَالِ الْحَقِّ فِيمَا (نَابَهُمْ) (5) مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ حَتَّى يَضِلَّ جَمِيعُهُمْ (عَنِ) (6) الْعِلْمِ وَيُخْطِئُوهُ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ فِي الْأُمَّةِ (7).
هَذَا تَمَامُ كَلَامِهِ وَهُوَ مَنْقُولٌ بِالْمَعْنَى وَتَحَرٍّ (فِي) (8) أَكْثَرِ اللَّفْظِ.
وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْجَمَاعَةَ رَاجِعَةٌ إِلَى الِاجْتِمَاعِ عَلَى الْإِمَامِ الْمُوَافِقِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الِاجْتِمَاعَ عَلَى غَيْرِ سُنَّةٍ خارج عن معنى الجماعة المذكورة فِي الْأَحَادِيثِ (الْمَذْكُورَةِ) (9) كَالْخَوَارِجِ وَمَنْ جَرَى مُجْرَاهُمْ.
فَهَذِهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ/ دَائِرَةٌ عَلَى اعْتِبَارِ أَهْلِ السنة والاتباع، وأنهم
_________
(1) في (م): "عمر".
(2) زيادة من (غ) و (ر).
(3) قصة تولية عثمان الخلافة أخرجها البخاري مطولة (3700)، وابن أبي شيبة في المصنف (18905 و18906 و11921)، وابن سعد في الطبقات الكبرى (3 337 ـ 355)، وابن جرير في تهذيب الآثار، مسند عمر (2 922).
(4) ما بين القوسين ساقط من (م) و (ت) و (غ) و (ر)، وفي (خ): "عنهم".
(5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "أنابهم".
(6) ساقط من (غ) و (ر).
(7) لم أجد كلام ابن جرير في مظانه من كتبه المطبوعة، ولعله في القسم المفقود من تهذيب الآثار.
(8) ساقط من (غ) و (ر).
(9) ساقط من (غ) و (ر).(3/216)
المرادون بالأحاديث، فلنأخذ ذلك أصلاً ونبني عَلَيْهِ مَعْنًى آخَرُ، وَهِيَ:
/الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ (1):
وَذَلِكَ أَنَّ الْجَمِيعَ اتَّفَقُوا عَلَى اعْتِبَارِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالِاجْتِهَادِ سَوَاءٌ ضَمُّوا إِلَيْهِمُ الْعَوَامَّ أَمْ لا، فإن لم يضموا إليهم (العوام) (2) فَلَا إِشْكَالَ أَنَّ الِاعْتِبَارَ إِنَّمَا هُوَ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ مِنَ الْعُلَمَاءِ/ الْمُعْتَبَرِ اجْتِهَادُهُمْ، فَمَنْ شَذَّ عَنْهُمْ فَمَاتَ فَمِيتَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ، وَإِنْ ضَمُّوا إِلَيْهِمُ الْعَوَامَّ فَبِحُكْمِ التَّبَعِ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ عَارِفِينَ بِالشَّرِيعَةِ، فلا بد مِنْ رُجُوعِهِمْ فِي دِينِهِمْ إِلَى الْعُلَمَاءِ، فَإِنَّهُمْ لَوْ تَمَالَئُوا عَلَى مُخَالَفَةِ الْعُلَمَاءِ فِيمَا حَدُّوا لَهُمْ لَكَانُوا هُمُ الْغَالِبَ وَالسَّوَادَ الْأَعْظَمَ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ، لِقِلَّةِ الْعُلَمَاءِ وَكَثْرَةِ الْجُهَّالِ، فَلَا يَقُولُ أَحَدٌ: إِنَّ اتِّبَاعَ جَمَاعَةِ الْعَوَامِّ هُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ هُمُ الْمُفَارِقُونَ لِلْجَمَاعَةِ وَالْمَذْمُومُونَ فِي الْحَدِيثِ. بَلِ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ، وَأَنَّ الْعُلَمَاءَ هُمُ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ وَإِنْ قَلُّوا، وَالْعَوَامُّ هُمُ الْمُفَارِقُونَ لِلْجَمَاعَةِ إِنْ خَالَفُوا، فَإِنْ وَافَقُوا فَهُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ.
/وَمِنْ هُنَا لَمَّا سُئِلَ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنِ الْجَمَاعَةِ الَّذِينَ يُقْتَدَى بِهِمْ أَجَابَ بِأَنْ قَالَ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ ـ قَالَ ـ فَلَمْ (يَزَلْ يَحْسِبُ) (3) حَتَّى انْتَهَى إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ ثَابِتٍ وَالْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، قِيلَ: فَهَؤُلَاءِ مَاتُوا، فَمَنِ الْأَحْيَاءُ؟ قَالَ: أَبُو حَمْزَةَ السُّكَّرِيُّ وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ مَيْمُونٍ الْمَرْوَزِيُّ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْتَبَرَ الْعَوَامُّ فِي هَذِهِ الْمَعَانِي بِإِطْلَاقٍ، وَعَلَى هَذَا لَوْ فَرَضْنَا خُلُوَّ الزَّمَانِ (عَنْ) (4) مُجْتَهِدٍ لم يمكن اتِّبَاعُ الْعَوَامِّ لِأَمْثَالِهِمْ، وَلَا عَدُّ سَوَادِهِمْ/ أَنَّهُ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ الْمُنَبَّهُ عَلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي مَنْ خَالَفَهُ فَمِيتَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ، بَلْ يَتَنَزَّلُ النَّقْلُ عَنِ الْمُجْتَهِدِينَ مَنْزِلَةَ وُجُودِ الْمُجْتَهِدِينَ، فَالَّذِي يَلْزَمُ (الْعَوَامُّ) (5) مَعَ وُجُودِ الْمُجْتَهِدِينَ هُوَ الَّذِي يَلْزَمُ أهل الزمان المفروض الخالي عن (المجتهدين) (6).
_________
(1) في (ت) و (م) و (خ): "عشر".
(2) زيادة من (غ) و (ر).
(3) في (غ) مكان كلمة يزل يوجد طمس، وبدل: "يحسب": "يحسر".
(4) في (غ) و (ر): "من".
(5) ساقط من (غ) و (ر)
(6) في (ط) و (خ): "المجتهد".(3/217)
وَأَيْضًا فَاتِّبَاعُ نَظَرِ مَنْ لَا نَظَرَ (لَهُ) (1) وَاجْتِهَادِ مَنْ لَا اجْتِهَادَ (لَهُ) (1) مَحْضُ ضَلَالَةٍ، وَرَمْيٌ فِي عَمَايَةٍ، وَهُوَ مُقْتَضَى الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا (يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ اتَّخَذَ النَّاسُ رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا) (2) " (1).
/رَوَى (أَبُو نُعَيْمٍ) (3) عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْقَاسِمِ الطوسي (4) (ـ خديم محمد بن أسلم الطُّوسِيِّ ـ) (5) قَالَ: سَمِعْتُ إِسْحَاقَ بْنَ رَاهَوَيْهِ (وَذَكَرَ) (6) فِي حَدِيثٍ رَفَعَهُ/ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُنْ لِيَجْمَعَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ عَلَى ضَلَالَةٍ، فَإِذَا رَأَيْتُمُ الِاخْتِلَافَ فَعَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ" (7)، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا أَبَا يَعْقُوبَ، مَنِ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ؟ فَقَالَ: مُحَمَّدُ بن أسلم (8) وأصحابه ومن (تبعه) (9)، ثُمَّ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ الْمُبَارَكِ: مَنِ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ؟ قَالَ: أَبُو حَمْزَةَ السُّكَّرِيُّ. ثُمَّ قَالَ إِسْحَاقُ: فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ ـ يَعْنِي أَبَا حَمْزَةَ ـ وَفِي زَمَانِنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَمَنْ تَبِعَهُ،/ ثُمَّ قَالَ إِسْحَاقُ: لَوْ سَأَلْتَ الْجُهَّالَ عَنِ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ لَقَالُوا: جَمَاعَةُ النَّاسِ، وَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ الْجَمَاعَةَ عَالِمٌ مُتَمَسِّكٌ بِأَثَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَرِيقِهِ، فَمَنْ كَانَ مَعَهُ وَتَبِعَهُ فَهُوَ الْجَمَاعَةُ (10). ثُمَّ قَالَ إِسْحَاقُ: لَمْ أَسْمَعْ عَالِمًا// مُنْذُ خَمْسِينَ سَنَةً (كَانَ أشد تمسكاً بأثر
_________
(1) ما بين القوسين ساقط من (م)
(2) ما بين () زيادة من (غ) و (ر) والحديث. تقدم تخريجه (1/ 117).
(3) في (غ) و (ر): "نعيم" هو أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني، صاحب كتاب الحلية، ولد سنة 336هـ، وكان من الحفاظ الأعلام والمتفردين في عصره بعلو الإسناد، توفي 403هـ. انظر: السير (17 453).
(4) هو خادم محمد بن أسلم الطوسي، انظر: تذكرة الحفاظ (2 532).
(5) زيادة من (غ) و (ر).
(6) في (غ) و (ر): واذكر.
(7) تقدم تخريجه (3/ 123).
(8) هو محمد بن أسلم بن سالم الطوسي أبو الحسن، تقدمت ترجمته (2 583).
(9) في (ط) و (ت): "تبعهم".
(10) في الحلية بعد الجملة المذكورة قال: "ومن خالفه فيه، ترك الجماعة ثم قال إسحاق ... إلخ".(3/218)
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْلَمَ) (1).
فَانْظُرْ فِي (حِكَايَتِهِ تَتَبَيَّنْ) (2) غَلَطَ مَنْ ظَنَّ أَنَّ الْجَمَاعَةَ هِيَ جَمَاعَةُ النَّاسِ وإن لم يكن فيهم عالم، وهو (فهم) (3) العوام، لا فهم العلماء (الأعلام) (4) فَلْيَثْبُتِ الْمُوَفَّقُ فِي هَذِهِ الْمَزَلَّةِ قَدَمَهُ لِئَلَّا يَضِلَّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ، وَلَا تَوْفِيقَ إِلَّا بالله.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ (5):
فِي بَيَانِ مَعْنَى رِوَايَةِ أبي داود وهي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَإِنَّهُ سَيَخْرُجُ في أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كَمَا يَتَجَارَى الْكَلْبُ بِصَاحِبِهِ، لَا يَبْقَى مِنْهُ عِرْقٌ وَلَا مَفْصِلٌ إِلَّا دَخَلَهُ" (6).
وَذَلِكَ أَنَّ معنى هذه الرواية أنه صلّى الله عليه وسلّم أَخْبَرَ بِمَا سَيَكُونُ فِي أُمَّتِهِ مِنْ هَذِهِ الأهواء التي افترقوا (بسببها) (7) إِلَى تِلْكَ الْفِرَقِ، وَأَنَّهُ يَكُونُ فِيهِمْ أَقْوَامٌ تُدَاخِلُ تِلْكَ الْأَهْوَاءُ قُلُوبَهُمْ حَتَّى لَا يُمْكِنَ في العادة (انفصالهم) (8) عنها و (لا) (9) توبتهم مِنْهَا، عَلَى حَدِّ مَا يُدَاخِلُ دَاءُ الْكَلْبِ جِسْمَ صَاحِبِهِ فَلَا يَبْقَى مِنْ ذَلِكَ الْجِسْمِ جزء من أجزائه/ (لا عرق) (10) / ولا مفصل ولا غيرهما إلا (داخله) (11) ذَلِكَ الدَّاءُ، وَهُوَ جَرَيَانٌ لَا يَقْبَلُ الْعِلَاجَ وَلَا يَنْفَعُ فِيهِ الدَّوَاءُ، فَكَذَلِكَ صَاحِبُ الْهَوَى إِذَا دَخَلَ قَلْبَهُ، وَأُشْرِبَ حُبَّهُ، لَا تَعْمَلُ فيه الموعظة
_________
(1) ما بين القوسين ليس في الحلية، ولكن ذكر هذا الأثر مختصراً الذهبي في السير (12 196 ـ 197) وفيها هذه الجملة. والأثر مخرج في الحلية (9 238 ـ 239).
(2) في (غ) و (ر): "حكاية بينت".
(3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "وهم".
(4) ما بين القوسين زيادة من (ت).
(5) في (ت) و (م) و (خ): "عشر".
(6) تقدم تخريجه (3/ 123).
(7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فيها".
(8) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "انفصالها".
(9) زيادة من (غ) و (ر).
(10) زيادة من (م) و (غ) و (ر).
(11) في (ت) و (خ) و (ط): "دخله".(3/219)
وَلَا يَقْبَلُ الْبُرْهَانَ، وَلَا يَكْتَرِثُ بِمَنْ خَالَفَهُ، وَاعْتَبِرْ ذَلِكَ بِالْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ كَمَعْبَدٍ الْجُهَنِيِّ (1) وَعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ (2) وَسِوَاهُمَا، فَإِنَّهُمْ كَانُوا (حيث لقوا) (3) مطرودين من كل جهة، (محجوجين على) (4) كُلِّ لِسَانٍ،/ مُبْعَدِينَ عِنْدَ كُلِّ مُسْلِمٍ، ثُمَّ مع ذلك لم يزدادوا إلا تمادياً (في) (5) ضَلَالِهِمْ، وَمُدَاوَمَةً عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} (6).
وحاصل ما عوَّلوا/ عليه تحكيم العقول مجردة، فَشَرَّكُوهَا مَعَ الشَّرْعِ فِي التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ، ثُمَّ قَصَرُوا أَفْعَالَ اللَّهِ عَلَى مَا ظَهَرَ لَهُمْ وَوَجَّهُوا عَلَيْهَا أَحْكَامَ الْعَقْلِ فَقَالُوا: يَجِبُ عَلَى اللَّهِ كَذَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ كَذَا، فَجَعَلُوهُ مَحْكُومًا عَلَيْهِ كَسَائِرِ الْمُكَلَّفِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لم يبلغ هذا المقدار، بل استحسن (بعقله أشياء) (7) وَاسْتَقْبَحَ آخَرَ وَأَلْحَقَهَا بِالْمَشْرُوعَاتِ، وَلَكِنَّ الْجَمِيعَ (بَقُوا) (8) على تحكيم العقول، ولو وقفوا (هنا) (9) لَكَانَتِ الدَّاهِيَةُ عَلَى عِظَمِهَا أَيْسَرَ، وَلَكِنَّهُمْ تَجَاوَزُوا هَذِهِ الْحُدُودَ كُلَّهَا إِلَى أَنْ نَصَبُوا الْمُحَارَبَةَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، بِاعْتِرَاضِهِمْ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَادِّعَائِهِمْ عَلَيْهِمَا من التناقض والاختلاف ومنافاة العقول وفساد (النظر) (10) ما هم له أهل.
قال (القتبي) (11): وَقَدْ اعْتَرَضَ (عَلَى) (12) كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى بِالطَّعْنِ
_________
(1) تقدمت ترجمته (3/ 117).
(2) تقدمت ترجمته (ص167).
(3) في (غ) و (ر): "حين نبغوا".
(4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "محجوبين عن".
(5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "على".
(6) سورة المائدة: الآية (41).
(7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "شيئاً يفعله".
(8) في (غ) و (ر): "بنو".
(9) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "هنالك".
(10) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "النظم".
(11) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "العتبي"، وهو عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري (ت276هـ) له ترجمة في تاريخ بغداد (10/ 170)، والسير للذهبي (13/ 296)، والنص الذي ذكره الشاطبي موجود في تأويل مشكل القرآن (ص22 ـ 23).
(12) ساقطة من (غ) و (ر).(3/220)
ملحدون، ولغوا (فيه) (1) وَهَجَرُوا، وَاتَّبَعُوا مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ، بِأَفْهَامٍ كَلَيْلَةٍ، وَأَبْصَارٍ عَلِيلَةٍ، وَنَظَرٍ مَدْخُولٍ/، فَحَرَّفُوا الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَعَدَلُوا بِهِ عَنْ (سَبِيلِهِ) (2)، ثُمَّ قَضُوا عَلَيْهِ بِالتَّنَاقُضِ، وَالِاسْتِحَالَةِ واللحن، وفساد النظم والاختلاف، وأدلوا (في ذلك) (3) بعلل ربما أمالت الضعيف (الفكر) (4)، و (الحدث) (5) الغر، واعترضت بالشبة فِي الْقُلُوبِ وَقَدَحَتْ بِالشُّكُوكِ فِي الصُّدُورِ، قَالَ: ولو كان ما لحنوا إليه، على/ (تقديرهم) (6) وتأولهم لَسَبَقَ إِلَى الطَّعْنِ فِيهِ مَنْ لَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْتَجُّ بِالْقُرْآنِ (عَلَيْهِمْ) (7)، وَيَجْعَلُهُ (عَلَمَ) (8) (نَبُّوتِهِ) (9) وَالدَّلِيلَ عَلَى صدقه، (ويتحداهم) (10) في (موطن بعد موطن) (11) عَلَى أَنْ (يَأْتُوا) (12) بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، وَهُمُ الْفُصَحَاءُ وَالْبُلَغَاءُ، وَالْخُطَبَاءُ وَالشُّعَرَاءُ، وَالْمَخْصُوصُونَ مِنْ بَيْنِ جميع الأنام، (بالألسنة) (13) الْحِدَادِ وَاللَّدَدِ فِي الْخِصَامِ،/ مَعَ اللُّبِّ/ وَالنُّهَى وَأَصَالَةِ الرَّأْيِ، فَقَدْ وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنَ الْكِتَابِ/ وَكَانُوا يَقُولُونَ مَرَّةً هُوَ سِحْرٌ، وَمَرَّةً هُوَ شِعْرٌ، وَمَرَّةً هُوَ قَوْلُ الْكَهَنَةِ، وَمَرَّةً أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَلَمْ يَحْكِ الله عنهم (ولا بلغنا في شيء من الروايات أنهم جذبوه من الجهة التي جذبه منها الطاعنون، هذا ما قال، وهو صحيح من الاستدلال، وكذلك حكى عَنْهُمُ) (14) الِاعْتِرَاضَ عَلَى الْأَحَادِيثِ وَدَعْوَى التَّنَاقُضِ وَالِاخْتِلَافِ/ فِيهَا، وَحُكِيَ عَنْهُمْ، لِأَجْلِ ذَلِكَ الْقَدْحُ فِي خير أمة
_________
(1) زيادة من (م) و (غ) و (ر).
(2) في (غ) و (ر): "سبله".
(3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "بذلك".
(4) في (ط) و (خ) و (غ) و (ر): "الغمر". وفي (م): "الغر".
(5) في (ط): "الحديث".
(6) في (ط) و (ت): تقريرهم.
(7) في (م) و (غ) و (ر): "عليه".
(8) في (م): "لعلم" وفي (غ) و (ر): "العلم".
(9) في (غ) و (ر): "لنبوته".
(10) في (م) و (غ) و (ر): "ويتحداه".
(11) في (ط) و (خ) و (ت): "مواطن".
(12) في (م) و (غ) و (ر): "يأتي". وفي (خ): "يأت".
(13) في (غ) و (ر): "بألسنة".
(14) ما بين () زيادة من (غ) و (ر).(3/221)
أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ وَهُمُ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، (واتبعوهم) (1) (بالمحدثين وقالوا ما شاؤوا وجروا) (2) فِي الطَّعْنِ عَلَى الْحَدِيثِ جَرْيَ مَنْ لَا يرى عليه محتسباً في الدنيا ولا محسباً فِي الْآخِرَةِ.
وَقَدْ بَسَطَ الْكَلَامَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ وَالْجَوَابِ عَمَّا اعْتَرَضُوا فِيهِ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ قُتَيْبَةَ فِي كِتَابَيْنِ (3) صَنَّفَهُمَا لِهَذَا الْمَعْنَى، وَهُمَا مِنْ مَحَاسِنِ كُتُبِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَلَمْ (أرد) (4) (قصَّ بعض تلك الاعتراضات تنزيهاً للمُعْتَرَض فيه) (5)، ولأن غَيْرِي ـ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ ـ قَدْ تَجَرَّدَ لَهُ، وَلَكِنْ أَرَدْتُ بِالْحِكَايَةِ عَنْهُمْ عَلَى الْجُمْلَةِ بَيَانَ مَعْنَى قَوْلِهِ: (تُجَارَى بِهِمْ تِلْكَ الْأَهْوَاءُ كَمَا يَتَجَارَى الْكَلْبُ بِصَاحِبِهِ) وَقَبْلُ وَبَعْدُ فَأَهْلُ الْأَهْوَاءِ إِذَا اسْتَحْكَمَتْ فِيهِمْ أَهْوَاؤُهُمْ لَمْ يُبَالُوا بِشَيْءٍ، وَلَمْ يُعِدُّوا خِلَافَ أَنْظَارِهِمْ شَيْئًا، وَلَا رَاجَعُوا عُقُولَهُمْ مُرَاجَعَةَ مَنْ يَتَّهِمُ نَفْسَهُ وَيَتَوَقَّفُ فِي مَوَارِدِ الْإِشْكَالِ ـ وَهُوَ شَأْنُ الْمُعْتَبَرِينَ مِنْ أَهْلِ الْعُقُولِ ـ وَهَؤُلَاءِ صِنْفٌ مِنْ أَصْنَافِ مَنِ اتَّبَعَ (هَوَاهُ) (6) / ولم يعبأ بعذل العاذل فيه، (وثمَّ) (7) أصناف أخر يجمعهم مَعَ هَؤُلَاءِ إِشْرَابُ الْهَوَى فِي قُلُوبِهِمْ، حَتَّى لا يبالوا بغير ما هم عَلَيْهِ.
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَعْنَى الرِّوَايَةِ بِالتَّمْثِيلِ، صِرْنَا منه إلى معنى آخر، وهي:
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ (8):
إِنَّ قَوْلَهُ: (تَتَجَارَى بِهِمْ تِلْكَ الْأَهْوَاءُ) فِيهِ الْإِشَارَةُ بِـ (تِلْكَ) فَلَا تكون
_________
(1) في (غ) و (ر): "وأتبعوه".
(2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "بالحدس قالوا ما شان أو جروا".
(3) كتابا ابن قتيبة هما: تأويل مشكل القرآن، وتأويل مختلف الحديث.
(4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "أرى".
(5) في (ط) و (خ) و (م): "قط تلك الاعتراضات تعزيلها للمعترض فيه". وفي (ت): بياض بمقدار سطر ونص.
(6) في (غ) و (ر): "هويه".
(7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "ثم".
(8) في (ت) و (خ) و (م): "عشر".(3/222)
(الإشارة) (1) إلى غير/ مذكور، ولا محال بها على غير معلوم، بل لا بد لَهَا مِنْ مُتَقَدِّمٍ تَرْجِعُ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ إِلَّا الأحوال التي كانت/ السبب في الافتراق، (إذ لو كانوا على حال واحد لم يفترقوا، فلما اختلفت أحوالهم ظهر الِافْتِرَاقِ) (2)، فَجَاءَتِ الزِّيَادَةُ فِي الْحَدِيثِ مُبَيِّنَةً أَنَّهَا الْأَهْوَاءُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: (تَتَجَارَى بِهِمْ (تِلْكَ) (3) الْأَهْوَاءُ)، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ كُلَّ خَارِجٍ عَمَّا هُوَ عليه وأصحابه إنما خرج باتباع الهوى (لا بالشرع) (4)، (وإن أبدى أنه متبع للشرع) (5) وقد مرَّ بيان هذا (المعنى) (6) قبل فلا نعيده (7).
المسألة العشرون:
أن قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَإِنَّهُ سَيَخْرُجُ فِي أُمَّتِي أَقْوَامٌ عَلَى وَصْفِ كَذَا، يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُرِيدَ أَنَّ كُلَّ مَنْ دَخَلَ مِنْ أُمَّتِهِ فِي هَوًى مِنْ تِلْكَ الْأَهْوَاءِ/ وَرَآهَا وَذَهَبَ إِلَيْهَا، فَإِنَّ هَوَاهُ يَجْرِي فِيهِ مَجْرَى الْكَلْبِ بِصَاحِبِهِ فَلَا يَرْجِعُ أَبَدًا عن هواه ولا يتوب من بدعته.
والثاني: أن يريد أن من أُمَّتَهُ مَنْ يَكُونُ عِنْدَ دُخُولِهِ فِي الْبِدْعَةِ مشرب القلب بها، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَكُونُ/ كَذَلِكَ، فَيُمْكِنُهُ التَّوْبَةُ مِنْهَا وَالرُّجُوعُ عَنْهَا.
/وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى (صِحَّةِ) (8) الأول (ما تقدم من) (9) النقل المقتضي (بحجز التوبة) (10) عن صاحب البدعة على العموم، كقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فِي الْخَوَارِجِ) (11): (يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ ثُمَّ لَا يَعُودُونَ حَتَّى يَعُودَ السهم على
_________
(1) في (غ) و (ر): "إشارة".
(2) ما بين () زيادة من (غ) و (ر).
(3) ساقط من (غ) و (ر).
(4) في (ط): "عن الشرع".
(5) ما بين () زيادة من (غ) و (ر).
(6) زيادة من (غ) و (ر).
(7) انظر (ص172).
(8) في (م): "الصحة".
(9) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "هو".
(10) في (ط) و (خ): الحجر للتوبة، وفي (ت) و (غ) و (ر): "بحجر التوبة".
(11) ما بين () زيادة من (غ) و (ر).(3/223)
فوقه) (1) وقولهم: (إِنَّ اللَّهَ حَجَرَ التَّوْبَةَ عَنْ صَاحِبِ الْبِدْعَةِ) (2).
وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَيَشْهَدُ لَهُ الْوَاقِعُ، فَإِنَّهُ قَلَّمَا تَجِدُ صَاحِبَ بِدْعَةٍ ارْتَضَاهَا لِنَفْسِهِ (يَخْرُجُ) (3) عَنْهَا أَوْ يَتُوبُ مِنْهَا، بَلْ هُوَ يَزْدَادُ بضلالتها بصيرة.
روى عن الشافعي رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: مَثَلُ الَّذِي يَنْظُرُ فِي الرَّأْيِ ثُمَّ يَتُوبُ مِنْهُ (مَثَلُ) (4) الْمَجْنُونِ الَّذِي عُولج حَتَّى بَرِئَ، (فَأَعْقَلَ) (5) مَا يَكُونُ (قَدْ) (6) هَاجَ (به) (7).
وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الثَّانِي أَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ النَّقْلِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنْ لَا تَوْبَةَ لَهُ أَصْلًا، لِأَنَّ/ الْعَقْلَ يجوِّز ذَلِكَ، والشرع إن (جاء) (8) عَلَى مَا ظَاهِرُهُ الْعُمُومُ فَعُمُومُهُ إِنَّمَا يُعْتَبَرُ عَادِيًّا، وَالْعَادَةُ إِنَّمَا تَقْتَضِي فِي الْعُمُومِ الْأَكْثَرِيَّةَ، لا (انحتام) (9) الشُّمُولَ الَّذِي يَجْزِمُ بِهِ الْعَقْلُ إِلَّا بِحُكْمِ الِاتِّفَاقِ، وَهَذَا مُبَيَّنٌ فِي الْأُصُولِ.
وَالدَّلِيلُ/ عَلَى ذلك أنا (قد) (10) وَجَدْنَا مَنْ كَانَ (عَامِلًا) (11) بِبِدَعٍ ثُمَّ تَابَ مِنْهَا وَرَاجَعَ نَفْسَهُ بِالرُّجُوعِ عَنْهَا، كَمَا رَجَعَ من الخوارج من رجع حين
_________
(1) تقدم تخريجه (1/ 111).
(2) روي هذا الأثر حديثاً مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلفظ: (إن الله حجز ـ أو قال: حجب ـ التوبة عن كل صاحب بدعة)، أخرجه ابن أبي عاصم في السنة برقم (37)، وقال الألباني: حديث صحيح، وإسناده ضعيف جداً. وصححه في السلسلة الصحيحة (4 154)، برقم (1620)، وبنحوه في مسند إسحاق بن راهويه (398)، والبدع والنهي عنها لابن وضاح (157)، والطبراني في الأوسط (4360)، والبيهقي في شعب الإيمان (9456 و9457)، والضياء في المختارة (2054 و2055).
(3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): قلما يخرج. وصححت في هامش (ت).
(4) في (م): "من".
(5) في (غ) و (ر): "فأغفل".
(6) ساقط من (غ) و (ر).
(7) زيادة من (غ) و (ر)، والأثر أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2034).
(8) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "يشا".
(9) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "نحتاج".
(10) زيادة من (غ) و (ر).
(11) في (غ) و (ر): "عالماً".(3/224)
ناظرهم عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَكَمَا رَجَعَ الْمُهْتَدِي (1) وَالْوَاثِقُ (2) وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ كَانَ قَدْ خَرَجَ عَنِ السُّنَّةِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهَا، وإذا حصل تخصيص العموم (بِفَرْدٍ) (3) لَمْ يَبْقَ اللَّفْظُّ عَامًّا وَحَصَلَ الِانْقِسَامُ.
وَهَذَا الثَّانِي هُوَ الظَّاهِرُ، لِأَنَّ الْحَدِيثَ أَعْطَى أَوَّلُهُ أَنَّ الْأُمَّةَ تَفْتَرِقُ ذَلِكَ الِافْتِرَاقَ/ مِنْ غَيْرِ إِشْعَارٍ بِإِشْرَابٍ أَوْ عَدَمِهِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ فِي أُمَّتِهِ الْمُفْتَرِقِينِ عَنِ الْجَمَاعَةِ مِنْ يُشْرَبُ تِلْكَ الْأَهْوَاءَ، فَدَلَّ أَنَّ فِيهِمْ مَنْ لَا يُشْرَبُهَا، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِهَا، وَيَبْعَدُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّ فِي مُطْلَقِ الْأُمَّةِ مَنْ يشرب تلك الأهواء، (إذاً) (4) كَانَ يَكُونُ فِي الْكَلَامِ نَوْعٌ مِنَ التَّدَاخُلِ الذي لا فائدة فيه، فإذا (تبين) (5) أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ يَخْرُجُ فِي الْأُمَّةِ الْمُفْتَرِقَةِ/ بِسَبَبِ الْهَوَى مَنْ يَتَجَارَى بِهِ ذَلِكَ الْهَوَى اسْتَقَامَ الْكَلَامُ وَاتَّسَقَ، وَعِنْدَ/ ذَلِكَ يُتَصَوَّرُ الِانْقِسَامُ، وذلك بأن يكون في الفرقة (الواحدة) (6) مَنْ يَتَجَارَى بِهِ الْهَوَى كَتَجَارِي الْكَلْبِ، وَمَنْ لَا يَتَجَارَى بِهِ ذَلِكَ الْمِقْدَارُ، لِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَخْتَلِفَ التَّجَارِي، فَمِنْهُ مَا يَكُونُ فِي الغاية حتى يخرج (به) (7) إِلَى الْكُفْرِ أَوْ يَكَادُ، وَمِنْهُ مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ.
فَمِنَ الْقَسَمِ الْأَوَّلِ الْخَوَارِجُ/ بِشَهَادَةِ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ (رَسُولِ اللَّهِ) (8) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ: "يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرميَّة)، وَمِنْهُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ (أُغِرِقُوا) (9) فِي الْبِدْعَةِ حَتَّى اعْتَرَضُوا عَلَى كِتَابِ الله وسنة نبيه، وهم
_________
(1) هو المهتدي بالله محمد بن الواثق بن هارون الرشيد الخليفة العباسي، بويع بالخلافة سنة 255هـ. انظر ترجمته في: السير (12 535)، وأما رجوعه عن القول بخلق القرآن، فذكره الذهبي في السير (12 537).
(2) هو الواثق بالله هارون بن المعتصم محمد بن هارون الرشيد، تولى الخلافة سنة 227هـ، وقال الذهبي: قيل إنه رجع عن ذلك ـ يعني القول بخلق القرآن ـ قبيل موته، ثم ذكر القصة التي فيها توبته. انظر: السير (10 306 ـ 310).
(3) في (غ) و (ر): "بمفرد".
(4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "إذ".
(5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "بين".
(6) زيادة من (غ) و (ر).
(7) زيادة من (غ) و (ر).
(8) ساقط من (غ) و (ر).
(9) في (ط) و (خ): "أعرقوا".(3/225)
بِالتَّكْفِيرِ أَحَقُّ مِنْ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يَبْلُغْ (مبالغهم) (1).
وَمِنَ الْقِسْمِ الثَّانِي أَهْلُ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ عَلَى الجملة، إذ لم يؤدهم عقلهم إلى (مثل) (2) مَا تَقَدَّمَ.
وَمِنْهُ (مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ) (3) الظَّاهِرِيَّةُ ـ عَلَى رَأْيِ مَنْ عَدَّهَا مِنِ الْبِدَعِ (4) ـ وَمَا أشبه ذلك، و (على) (5) ذلك (نقول إن) (6): من خرج/ (من الفرق ببدعة) (7) وَإِنْ كَانَتْ جُزْئِيَّةً فَلَا يَخْلُو صَاحِبُهَا مِنْ تَجَارِيهَا فِي قَلْبِهِ وَإِشْرَابِهَا لَهُ، لَكِنْ عَلَى قَدْرِهَا، وَبِذَلِكَ أَيْضًا تَدْخُلُ تَحْتَ مَا تَقَدَّمَ من الأدلة (أَنْ) (8) لَا تَوْبَةَ لَهُ، لَكِنَّ التَّجَارِيَ الْمُشَبَّهَ بِالْكَلْبِ لَا يَبْلُغُهُ كُلُّ صَاحِبِ بِدْعَةٍ، إِلَّا أَنَّهُ يَبْقَى وَجْهُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ مَنْ أُشْرِبَ قَلْبُهُ بِدْعَةً مِنِ الْبِدَعِ/ ذَلِكَ الْإِشْرَابَ، وَبَيْنَ من لم (يبلغه) (9) مِمَّنْ هُوَ مَعْدُودٌ فِي الْفِرَقِ، فَإِنَّ الْجَمِيعَ مُتَّصِفُونَ بِوَصْفِ الْفِرْقَةِ الَّتِي هِيَ نَتِيجَةُ الْعَدَاوَةِ والبغضاء.
(والفرق بينهما) (10) ـ والله أعلم ـ (أحد أمرين) (11): إِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الَّذِي أُشْرِبَهَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَدْعُوَ إِلَى بِدْعَتِهِ فَيُظْهِرُ بِسَبَبِهَا (الموالاة و) (12) الْمُعَادَاةَ، وَالَّذِي لَمْ يُشْرِبْهَا لَا يَدْعُو إِلَيْهَا أو لا يَنْتَصِبُ لِلدُّعَاءِ إِلَيْهَا، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَوَّلَ لم يدعُ إليها إلا وهي قد بَلَغَتْ مِنْ قَلْبِهِ مَبْلَغًا عَظِيمًا بِحَيْثُ يَطْرَحُ مَا سِوَاهَا فِي جَنْبِهَا، حَتَّى صَارَ ذَا بصيرة فيها لا ينثني عنها، وقد
_________
(1) في (ط): "مبلغهم".
(2) زيادة من (غ) و (ر).
(3) في (غ) و (ر): مذهب.
(4) سئل ابن رشد عن الظاهرية فقال: إبطال القياس في أحكام شرائع الدين جملة عند جميع العلماء بدعة ... انظر: المعيار المعرب (2 341 ـ 344).
(5) زيادة من (غ) و (ر).
(6) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "أنه يقول".
(7) في (ط) و (م) و (خ): عن الفرق ببدعته، وفي (ت): "من الفرق فبدعته".
(8) في (ط) و (خ): "على أن".
(9) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "يبلغ".
(10) ما بين () ساقط من (م)، وفي (ت): والتفريق بينهما سببه، وفي (ط) و (خ): "وسبب التفريق بينهما".
(11) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "أمران".
(12) زيادة من (غ) و (ر).(3/226)
أَعْمَتْ بَصَرَهُ وأصمَّت سَمْعَهُ وَاسْتَوْلَتْ عَلَى كُلِّيَّتِهِ، وَهِيَ غَايَةُ الْمَحَبَّةِ، وَمَنْ أَحَبَّ شَيْئًا (مِنْ) (1) هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْمَحَبَّةِ وَالَى بِسَبَبِهِ وَعَادَى، وَلَمْ يُبَالِ بِمَا لَقِيَ فِي طَرِيقِهِ، بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ الْمَبْلَغَ، فَإِنَّمَا هِيَ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ مَسْأَلَةٍ عِلْمِيَّةٍ حصَّلها، وَنُكْتَةٍ اهْتَدَى إِلَيْهَا، فَهِيَ مدَّخرة فِي خِزَانَةِ حِفْظِهِ يَحْكُمُ بها على من وافق أو خالف، لَكِنْ بِحَيْثُ يَقْدِرُ عَلَى إِمْسَاكِ نَفْسِهِ عَنِ الإظهار مخافة (النكال) (2) / أو القيام عَلَيْهِ بِأَنْوَاعِ الْإِضْرَارِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ مَنْ دَاهَنَ عَلَى نَفْسِهِ فِي شَيْءٍ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إِظْهَارِهِ لَمْ يَبْلُغْ مِنْهُ ذَلِكَ الشَّيْءُ مَبْلَغَ الِاسْتِيلَاءِ، فَكَذَلِكَ الْبِدْعَةُ إِذَا اسْتَخْفَى بِهَا صَاحِبُهَا.
وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مَنْ أُشربها نَاصِبٌ عَلَيْهَا/// بِالدَّعْوَةِ (الْمُقْتَرِنَةِ بِالْخُرُوجِ عَنِ) (3) الْجَمَاعَةِ وَالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ، وَهِيَ الْخَاصِّيَّةُ الَّتِي ظَهَرَتْ فِي الْخَوَارِجِ وَسَائِرِ/ مَنْ كَانَ عَلَى رَأْيِهِمْ.
وَمِثْلُ مَا حَكَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْعَوَاصِمِ قَالَ: أَخْبَرَنِي جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ (4) بِمَدِينَةِ السَّلَامِ: أَنَّهُ وَرَدَ بِهَا الْأُسْتَاذُ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الكريم بن هوازن الْقُشَيْرِيُّ (5) الصُّوفِيُّ مِنْ (نَيْسَابُورَ) (6) فَعَقَدَ مَجْلِسًا لِلذِّكْرِ، وحضر فيه
_________
(1) ساقط من (م) و (غ) و (ر).
(2) في (م): "الاتكال". وفي (ت): "التنكيل". وفي (غ) و (ر): "الإنكار".
(3) في (غ) و (ر): "المفترقة بالخروج علي".
(4) ليسوا من أهل السنة بل هم أشاعرة أصحاب القشيري المذكور في هذه القصة.
(5) هو أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك القشيري النيسابوري الصوفي الأشعري، صاحب الرسالة المشهورة باسم (الرسالة القشيرية)، ولد سنة 375هـ، وتفقه على مذهب الشافعي، وكان صاحب مجالس وعظ مشهورة، توفي سنة 465هـ. انظر: تاريخ بغداد (11 83)، وطبقات الشافعية الكبرى للسبكي (5 153)، والسير للذهبي (18 227). ولم أقف على هذه الحادثة في سيرة أبي القاسم القشيري، وإنما ذكرت قصة مشابهة لها في ترجمة أبي جعفر عبد الخالق بن عيسى الهاشمي شيخ الحنابلة في عصره، والذي قرر مذهب الأشاعرة هو أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم القشيري، راجع المنتظم لابن الجوزي (16/ 181)، وذيل طبقات الحنابلة (1/ 19)، والبداية والنهاية (16/ 59).
(6) في (خ) و (م) و (ت) و (غ): "يشاغور"، والصحيح: نيسابور. وذكر ياقوت الحموي في معجم البلدان (5/ 331) أن العامة تسميها "نشاوور". والقصة مذكورة في العواصم والقواصم لابن العربي (2/ 282) بلفظ: "نيسابور".(3/227)
كافة (الخلق) (1)، وقرأ القارئ: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} (2) قال لي أخصهم: (فرأيت) (3) ـ يَعْنِي الْحَنَابِلَةَ ـ يَقُومُونَ فِي أَثْنَاءِ الْمَجْلِسِ وَيَقُولُونَ قاعد، قَاعِدٌ (قَاعِدٌ) (4) بِأَرْفَعِ صَوْتٍ وَأَبْعَدِهِ مَدًى، وَثَارَ إِلَيْهِمْ أَهْلُ السُّنَّةِ مِنْ أَصْحَابِ الْقُشَيْرِيِّ وَمِنْ أهل الحضرة، وتثاور الفئتان وغلبت العامة، فأجحروهم (إلى) (5) المدرسة النِّظَامِيَّةِ وَحَصَرُوهُمْ فِيهَا وَرَمَوْهُمْ بِالنِّشَابِ، فَمَاتَ مِنْهُمْ قَوْمٌ، وَرَكِبَ زَعِيمُ الْكُفَاةِ (6) وَبَعْضُ (الدَّارِيَّةِ) (7) فسكَّنوا (ثورانهم) (8).
فهذا أيضاً (من قبيل) (9) من أُشْرِبَ قَلْبُهُ حُبَّ الْبِدْعَةِ حَتَّى (أَدَّاهُ) (10) ذَلِكَ إلى (القتال) (11)، فكل من بلغ هذا المبلغ حقيق (بأن) (12) يُوصَفَ بِالْوَصْفِ الَّذِي (وُصِفَ بِهِ) (13) رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم، وأن (يُعدّ) (14) من ذلك الحزب.
وَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ دَاخَلُوا الْمُلُوكَ فَأَدْلَوْا إِلَيْهِمْ بالحجة الواهية، وصغروا في (أعينهم) (15) حَمَلَةَ السُّنَّةِ وَحُمَاةَ الْمِلَّةِ، حَتَّى وَقَفُوهُمْ مَوَاقِفَ الْبَلْوَى، وَأَذَاقُوهُمْ مَرَارَةَ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَانْتَهَى بِأَقْوَامٍ إلى القتل، حسبما
_________
(1) ساقط من (غ) و (ر).
(2) سورة طه: الآية (5).
(3) في جميع النسخ: (من أنت)، والتصحيح من (غ) و (ر) والعواصم لابن العربي (2 282).
(4) زيادة من (غ) و (ر).
(5) ساقط من (غ) و (ر).
(6) يظهر من السياق أنه يقصد رئيس الشرط، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(7) في (ط): "الدادية".
(8) في (غ) و (ر): "ثورتهم" وانظر القصة في العواصم ـ تحقيق الطالبي ـ (2 282). وانظر التعليق رقم (5) في الصفحة (3/ 227).
(9) زيادة من (غ) و (ر).
(10) في (غ) و (ر): "أداهم".
(11) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "القتل".
(12) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "أن".
(13) في سائر النسخ ما عدا (غ): "وصف".
(14) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "بلغ".
(15) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "أنفسهم".(3/228)
وَقَعَتِ الْمِحْنَةُ بِهِ زَمَانَ بِشْرٍ الْمَرِّيسِيِّ (1) فِي حضرة المأمون وابن أبي داود (2) وغيرهما.
فإن لم تبلغ البدعة بصاحبها (أن يناصب) (3) هَذِهِ الْمُنَاصَبَةَ فَهُوَ غَيْرُ مُشْرَبٍ حُبَّهَا فِي قَلْبِهِ كَالْمِثَالِ فِي الْحَدِيثِ، وَكَمْ مِنْ أَهْلِ (البدع) (4) لَمْ يَقُومُوا بِبِدْعَتِهِمْ قِيَامَ الْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ، بَلِ اسْتَتَرُوا بِهَا جِدًّا، وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِلدُّعَاءِ إِلَيْهَا جِهَارًا، كَمَا فَعَلَ غَيْرُهُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَدُّ فِي الْعُلَمَاءِ وَالرُّوَاةِ وَأَهْلِ الْعَدَالَةِ بِسَبَبِ (عَدَمِ) (5) شُهْرَتِهِمْ بِمَا انْتَحَلُوهُ.
فَهَذَا الْوَجْهُ يَظْهَرُ أَنَّهُ أولى الوجوه بالصواب،/ وبالله التوفيق.
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ:
أَنَّ هَذَا الْإِشْرَابَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ هَلْ يَخْتَصُّ بِبَعْضِ الْبِدَعِ دُونَ بَعْضٍ، أَمْ لَا يَخْتَصُّ؟ وَذَلِكَ (أَنَّهُ) (6) / يُمْكِنُ أَنَّ (تكون) (7) بَعْضَ الْبِدَعِ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُشْرِبَ قَلْبَ/ صَاحِبِهَا جِدًّا، وَمِنْهَا مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، فَالْبِدْعَةُ الْفُلَانِيَّةُ مَثَلًا مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَتَجَارَى بِصَاحِبِهَا كَمَا يَتَجَارَى الْكَلْبُ بِصَاحِبِهِ، وَالْبِدْعَةُ الْفُلَانِيَّةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، فَبِدْعَةُ الْخَوَارِجِ مَثَلًا فِي طَرَفِ الْإِشْرَابِ كَبِدْعَةِ الْمُنْكِرِينَ لِلْقِيَاسِ فِي الْفُرُوعِ الْمُلْتَزِمِينَ (للظاهر) (8) فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ، وَيُمْكِنُ أَنْ (يَتَجَارَى) (9) ذَلِكَ فِي كُلِّ بِدْعَةٍ عَلَى الْعُمُومِ فَيَكُونُ مِنْ أهلها من (أشربت قلبه، ومنهم من لم تشرب قلبه ذلك الإشراب، وهذا الثاني هو الأظهر،
_________
(1) تقدمت ترجمته (ص40).
(2) هو أحمد بن فرج بن حريز الجهمي، رأس فتنة القول بخلق القرآن، مات سنة 240هـ. انظر: تاريخ بغداد (4 141)، والسير (11 169).
(3) زيادة من (غ) و (ر).
(4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "البدعة".
(5) ساقط من (غ) و (ر).
(6) في (غ) و (ر): "إنما".
(7) زيادة من (غ) و (ر).
(8) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الظاهر".
(9) في (غ) و (ر): "يجري".(3/229)
والله أعلم، ويتبيّن بأمثلة،/ أحدها: بدعة القدر فإن مِنْ أَهْلِهَا مَنْ) (1) تَجَارَتْ بِهِ كَمَا يَتَجَارَى الْكَلْبُ بِصَاحِبِهِ، كَعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ (2)، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ النَّقْلُ عَنْهُ أَنَّهُ أَنْكَرَ بِسَبَبِ الْقَوْلِ بِهِ سورة {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} (3)، وقوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا *} (4) وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ بِهِ الْحَالُ إِلَى هَذَا النَّحْوِ كَجُمْلَةٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، كَالْفَارِسِيِّ النحوي (5) وابن جني (6).
والثاني: بِدْعَةُ (الظَّاهِرِيَّةِ) (7)، فَإِنَّهَا تَجَارَتْ بِقَوْمٍ حَتَّى قَالُوا عِنْدَ ذِكْرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (8) قاعد، قَاعِدٌ (قَاعِدٌ) (9)، وَأَعْلَنُوا بِذَلِكَ وَتَقَاتَلُوا عَلَيْهِ، وَلَمْ (تبلغ) (10) بِقَوْمٍ آخَرِينَ ذَلِكَ الْمِقْدَارَ، كَدَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ في الفروع وأشباهه (11).
_________
(1) ما بين () زيادة من (غ) و (ر).
(2) قال عمرو بن عبيد ـ كما في تاريخ بغداد (12 170) سير أعلام النبلاء (6 104) ـ: "إن كانت {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} في اللوح المحفوظ فما لله على ابن آدم حجة"، وهذا يبيِّن أن سبب إنكاره لسورة تبت وما في معناه هو إنكار القدر.
(3) سورة المسد: الآية (1).
(4) سورة المدثر: الآية (11).
(5) هو أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسي النحوي المشهور، تتلمذ على الزجاج، ومن تلاميذه أبو الفتح ابن جني، وكان الفارسي معتزلياً، توفي سنة 377هـ. انظر: تاريخ بغداد (7 275)، والسير (16 379).
(6) هو أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي، أخذ عن الفارسي النحوي اللغة والاعتزال، توفي سنة 392هـ. انظر: تاريخ بغداد (11 311)، والسير (17 17).
(7) في (م) و (غ) و (ر): "الظاهر".
(8) سورة طه: الآية (5).
(9) زيادة من (غ) و (ر).
(10) في سائر النسخ ما عدا (غ): "يبلغ".
(11) بدعة الظاهرية عند الشاطبي قسمان؛ الأول: الظاهرية في نصوص الصفات أي الذين يجرون نصوص الصفات على ظاهرها، ويعتقدون معناها المعروف في لغة العرب دون تأويلٍ لها، وهذا مذهب السلف.
القسم الثاني: ظاهرية الفقهاء كداود الظاهري وابن حزم، فجعل الشاطبي كلا القسمين من أهل البدع، وجعل القسم الأول ـ وهو مذهب السلف في الصفات ـ من أهل الإغراق في البدعة، ولا شك في خطأ الشاطبي في مسلكه هذا حيث ذهب في تفسير مذهب السلف في نصوص الصفات إلى تفسيره بمذهب المفوضة الذين يفوضون المعاني، وقد فصّل هذه المسألة الباحث: ناصر الفهد، في كتابه "الإعلام بمخالفات الموافقات والاعتصام" ص30 وص55، فليراجع لأهميته.(3/230)
والثالث: بِدْعَةُ الْتِزَامِ الدُّعَاءِ بِإِثْرِ الصَّلَوَاتِ دَائِمًا عَلَى الهيئة الاجتماعية، فإنها بلغت (ببعض أصحابها) (1) إِلَى أَنْ كَانَ (التَّرْكُ) (2) لَهَا مُوجِبًا لِلْقَتْلِ عِنْدَهُ؛ فَحَكَى الْقَاضِي أَبُو الْخَطَّابِ بْنُ خَلِيلٍ حِكَايَةً عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُجَاهِدٍ الْعَابِدِ (3): أَنَّ رَجُلًا مِنْ عُظَمَاءِ الدَّوْلَةِ/ وَأَهْلِ الوجاهة فيها ـ وكان موصوفاً بشدة السطوة وَبَسْطِ الْيَدِ ـ نَزَلَ فِي جِوَارِ ابْنِ مُجَاهِدٍ وصلى (خلفه) (4) فِي مَسْجِدِهِ الَّذِي كَانَ يَؤُمُّ فِيهِ، وَكَانَ لَا يَدْعُو فِي أُخْرَيَاتِ الصَّلَوَاتِ تَصْمِيمًا فِي ذَلِكَ عَلَى الْمَذْهَبِ ـ يَعْنِي مَذْهَبَ مَالِكٍ ـ لِأَنَّهُ مَكْرُوهٌ فِي مَذْهَبِهِ/ وَكَانَ ابْنُ مُجَاهِدٍ مُحَافِظًا عَلَيْهِ، فَكَرِهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ مِنْهُ تَرْكَ/ الدُّعَاءِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَ فَأَبَى، وَبَقِيَ عَلَى عَادَتِهِ فِي تَرْكِهِ فِي أَعْقَابِ الصَّلَوَاتِ، فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي صَلَّى ذَلِكَ الرَّجُلُ الْعَتَمَةَ فِي الْمَسْجِدِ، (فَلَمَّا انْقَضَتْ) (5) وَخَرَجَ ذَلِكَ الرَّجُلُ إِلَى دَارِهِ قَالَ لِمَنْ حَضَرَهُ مِنْ أَهْلِ الْمَسْجِدِ: قَدْ قُلْنَا لِهَذَا الرَّجُلِ يَدْعُو (إِثْرَ) (6) الصَّلَوَاتِ فَأَبَى، فَإِذَا كَانَ فِي غَدْوَةِ غَدٍ (لم يفعل) (7) أضرب رقبته بهذا السيف وأشار إلى سيف فِي يَدِهِ فَخَافُوا عَلَى ابْنِ مُجَاهِدٍ مِنْ قَوْلِهِ لَمَّا عَلِمُوا مِنْهُ، فَرَجَعَتِ الْجَمَاعَةُ بِجُمْلَتِهَا إِلَى دَارِ ابْنِ مُجَاهِدٍ.
فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ وَقَالَ: ما شأنكم؟ / فقالوا: والله لقد خفنا (عليك) (8) مِنْ هَذَا الرَّجُلِ / وَقَدِ اشْتَدَّ الْآنَ غَضَبُهُ عَلَيْكَ فِي تَرْكِكَ الدُّعَاءَ. فَقَالَ لَهُمْ: لَا أَخْرُجُ عَنْ عَادَتِي، فَأَخْبَرُوهُ بِالْقِصَّةِ. فَقَالَ لَهُمْ ـ وهو متبسم ـ: انْصَرِفُوا وَلَا تَخَافُوا فَهُوَ الَّذِي (تُضْرَبُ) (9) رَقَبَتُهُ (في) (10) غدوة غد بذلك السيف
_________
(1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "بأصحابها".
(2) في (م): "القتل".
(3) تقدمت ترجمته (2 270).
(4) زيادة من (غ) و (ر).
(5) ساقط من (غ) و (ر).
(6) ما بين القوسين ساقط من (م). وفي (غ) و (ر): "بعد".
(7) ما بين القوسين زيادة من (ت).
(8) زيادة من (غ) و (ر).
(9) في (ط) و (خ) و (ت): "ضربت". وفي (م): "ضرب".
(10) ساقط من (غ) و (ر).(3/231)
بحول الله، ودخل (إلى) (1) دَارَهُ، وَانْصَرَفَتِ الْجَمَاعَةُ عَلَى ذُعْرٍ مِنْ قَوْلِ ذلك الرجل، فلما كان مع (الصبح) (2) (من الغد) (3) وصل إلى دار الرجل قوم من (صنفه مع عبيد المخزن، وحملوه حمل المغضوب عليه، فتبعه قَوْمٌ مِنْ) (4) أَهْلِ الْمَسْجِدِ وَمَنْ عَلِمَ حَالَ البارحة حتى وصلوا (به) (5) إلى دار (الإمارة) (6) بِبَابِ جَوْهَرٍ مِنْ إِشْبِيلِيَّةَ (7)، وَهُنَاكَ أَمَرَ بِضَرْبِ رقبته (فضربت بسيفه) (8) ذَلِكَ، تَحْقِيقًا لِلْإِجَابَةِ وَإِثْبَاتًا لِلْكَرَامَةِ.
(وَقَدْ رَوَى بعض الإشبيليين الحكاية بمعنى هذه (لكن نَحْوٍ) (9) آخَرَ) (10).
وَلَمَّا رَدَّ وَلَدُ ابْنِ الصَّقْرِ (11) على الخطيب في خطبته (وكذَّبه حِينَ فَاهَ) (12) بِاسْمِ الْمَهْدِيِّ (13) وَعِصْمَتِهِ، أَرَادَ الْمُرْتَضَى (14) ـ مِنْ ذُرِّيَّةِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ (15) وَهُوَ إِذْ ذَاكَ خَلِيفَةٌ ـ أَنْ يَسْجُنَهُ عَلَى قَوْلِهِ، فَأَبَى الْأَشْيَاخُ
_________
(1) زيادة من (غ) و (ر).
(2) في (غ) و (ر): "الصحب".
(3) زيادة من (غ) و (ر).
(4) ما بين () زيادة من (غ) و (ر).
(5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "إليه".
(6) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الإمامة".
(7) إشبيلية من أهم مدن الأندلس، وهي تقع في الجنوب الغربي لقرطبة. انظر: معجم البلدان (1 195).
(8) في (ط) و (خ): "بسيف".
(9) هكذا في (ط) و (م): "لعل الصواب": (لكن على نحو آخر).
(10) ما بين () ساقط من (غ) و (ر).
(11) هو أحمد بن عبد الرحمن بن محمد بن الصقر الأنصاري الخزرجي أبو العباس، كان محدثاً ثقة ضابطاً مقرءاً، ولد سنة 492هـ. وتوفي سنة 569هـ. انظر: الديباج المذهب (1 211).
(12) في (ط) و (م) و (خ): "وكذلك خبر فاه"، وفي ت بياض بمقدار نصف سطر وهي تشبه في الرسم كلمة (وذلك حين).
(13) هو ابن تومرت، تقدمت ترجمته (ص127).
(14) هو أبو جعفر المرتضى عمر بن إبراهيم بن يوسف بن عبد المؤمن، من أمراء الموحدين، قتل سنة 665هـ. انظر: كتاب "المهدي ابن تومرت" للدكتور عبد المجيد النجار (ص406)، ونفح الطيب (4 384).
(15) هو عبد المؤمن بن علي بن القيسي، وهو خليفة ابن تومرت، ولدت سنة 487هـ، وتوفي سنة 558هـ. انظر: السير (20 366)، ونفح الطيب (1 442).(3/232)
وَالْوُزَرَاءُ مِنْ فِرْقَةِ الْمُوَحِّدِينَ إِلَّا قَتْلَهُ،/ فَغَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِ فَقَتَلُوهُ خَوْفًا أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ غَيْرُهُ، فَتَخْتَلُّ عَلَيْهِمُ الْقَاعِدَةُ الَّتِي بَنَوْا دِينَهُمْ عَلَيْهَا.
/وَقَدْ لَا تَبْلُغُ الْبِدْعَةُ فِي الْإِشْرَابِ ذلك المقدار فلا يتفق (في) (1) الخلاف فيها (ما) (2) يُؤَدِّي إِلَى مِثْلِ ذَلِكَ.
فَهَذِهِ الْأَمْثِلَةُ بَيَّنَتْ بِالْوَاقِعِ مُرَادَ الْحَدِيثِ (3) ـ/ عَلَى فَرْضِ صِحَّتِهِ ـ فَإِنَّ أَخْبَارَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا تكون (أبداً) (4) على وفق (المخبر عنه) (5) مِنْ (غَيْرِ تَخَلُّفٍ أَلْبَتَّةَ) (6).
وَيَشْهَدُ لِهَذَا التَّفْسِيرِ اسْتِقْرَاءُ أَحْوَالِ الْخَلْقِ مِنِ انْقِسَامِهَا إِلَى الْأَعْلَى وَالْأَدْنَى وَالْأَوْسَطِ، كَالْعِلْمِ وَالْجَهْلِ وَالشَّجَاعَةِ (وَالْجُبْنِ) (7) وَالْعَدْلِ وَالْجَوْرِ، وَالْجُودِ وَالْبُخْلِ، وَالْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَالْعِزِّ وَالذُّلِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْوَالِ وَالْأَوْصَافِ، فَإِنَّهَا تَتَرَدَّدُ مَا بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ، فَعَالِمٌ فِي أَعْلَى دَرَجَاتِ الْعِلْمِ، وَآخَرُ فِي أَدْنَى دَرَجَاتِهِ، وَجَاهِلٌ كَذَلِكَ، وَشُجَاعٌ كَذَلِكَ، إِلَى سَائِرِهَا.
فَكَذَلِكَ سُقُوطُ الْبِدَعِ بِالنُّفُوسِ، إِلَّا أَنَّ فِي ذِكْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا فَائِدَةً أُخْرَى، وَهِيَ التحذير من مقاربتها ومقاربة أصحابها وهي:
المسألة الثانية والعشرون:
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ دَاءَ الْكَلْبِ فِيهِ مَا يُشْبِهُ الْعَدْوَى، فَإِنَّ أَصْلَ الْكَلْبِ وَاقِعٌ بِالْكَلْبِ، ثُمَّ إِذَا عَضَّ ذَلِكَ الْكَلْبُ أَحَدًا/ صَارَ مثله ولم يقدر على الانفصال (عنه) (8) فِي الْغَالِبِ إِلَّا بِالْهَلَكَةِ، فَكَذَلِكَ الْمُبْتَدِعُ إِذَا أورد على أحد رأيه/
_________
(1) زيادة من (غ) و (ر).
(2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "بما".
(3) يقصد حديث: تتجارى بهم الأهواء ... إلخ، انظر: (3/ 123).
(4) في (ط) و (ت): "ابتناء". وفي (خ) و (م): "ابتداء".
(5) في سائر النسخ: "مخبره" والتصحيح من هامش (ت).
(6) في (م): "غيره تخلف إليه".
(7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "والخير".
(8) في (ط) و (ت): "منه".(3/233)
وَإِشْكَالَهُ فَقَلَّمَا يَسْلَمُ مِنْ غَائِلَتِهِ، بَلْ إِمَّا أَنْ يَقَعَ مَعَهُ فِي مَذْهَبِهِ وَيَصِيرَ مِنْ شيعته، وإما أن (ينبت) (1) فِي قَلْبِهِ شَكًّا يَطْمَعُ فِي الِانْفِصَالِ عَنْهُ فلا يقدر (عليه) (2).
وهذا بخلاف سائر المعاصي، فإن صاحبها (لا يضر من صاحبه) (3) وَلَا يُدْخِلُهُ فِيهَا غَالِبًا إِلَّا مَعَ طُولِ الصُّحْبَةِ وَالْأُنْسِ بِهِ، وَالِاعْتِيَادِ لِحُضُورِ مَعْصِيَتِهِ، وَقَدْ أَتَى/ فِي الْآثَارِ مَا يَدُلُّ/ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى. فَإِنَّ السَّلَفَ الصَّالِحَ نَهَوْا عَنْ مُجَالَسَتِهِمْ ومكالمتهم (وسماع) (4) (كلامهم) (5) وَأَغْلَظُوا فِي ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْهُ فِي الْبَابِ الثَّانِي آثَارٌ (جَمَّةٌ) (6).
وَمِنْ ذَلِكَ مَا روي عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُكْرِمَ دِينَهُ فَلْيَعْتَزِلْ مُخَالَطَةَ (السلطان) (7) وَمُجَالَسَةَ أَصْحَابِ الْأَهْوَاءِ، فَإِنَّ مُجَالَسَتَهُمْ أَلْصَقُ مِنَ الْجَرَبِ (8).
وَعَنْ حُمَيْدٍ الْأَعْرَجِ (9) (قَالَ) (10): (قَدِمَ) (11) غَيْلَانُ (12) مَكَّةَ/ (يُجَاوِرُ) (13) بِهَا، فَأَتَى غَيْلَانُ مُجَاهِدًا فَقَالَ: يَا أَبَا الْحَجَّاجِ، بَلَغَنِي أَنَّكَ تَنْهَى النَّاسَ عني، وتذكرني (لشيء بلغك عني) (14) لا أقوله، (إنما أقول
_________
(1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "يثبت".
(2) زيادة من (ط).
(3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "يضاره".
(4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "وكلام".
(5) في (ط) و (خ) و (ت): "مكالمهم".
(6) في (غ) و (ر): "جملة".
(7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الشيطان".
(8) أخرجه ابن وضاح في البدع والنهي عنها (137) وبنحوه في سنن الدارمي (301).
(9) هو حميد بن عطاء الكوفي، ضعفه الإمام أحمد وابن معين، وقد روى عنه خلف بن خليفة، وعيسى بن يونس. انظر: الجرح والتعديل (3 226).
(10) في (ط) و (خ): "نهى". وفي (م): "تنهى". وفي (ت): بياض بمقدار كلمة والتصحيح من (غ) و (ر) والبدع لابن وضاح القرطبي.
(11) في (م): "قدوم".
(12) هو غيلان القدري، تقدمت ترجمته 1 102.
(13) في البدع لابن وضاح: فجاور.
(14) في (ط) و (م) و (خ) و (غ) و (ر): "بلغك عني شيء".(3/234)
كذا) (1)، فجاء بشيء لا (ننكره) (2)، (قال حميد) (3): فَلَمَّا (قَامَ) (4) قَالَ مُجَاهِدٌ: لَا (تُجَالِسُوهُ) (5) فَإِنَّهُ (قدري) (6). قال حميد: (فإني يوماً) (7) في الطواف لحقني غيلان من خلفي (فجبذ) (8) ردائي، فالتفت فقال: كيف (يقرأ) (9) مجاهد (حرف كذا وكذا) (10) فأخبرته، فمشى معي (فبصرني) (11) مُجَاهِدٌ مَعَهُ، فَأَتَيْتُهُ فَجَعَلْتُ أُكَلِّمُهُ فَلَا يَرُدُّ علي، وأسأله فلا يجيبني، قال: فَغَدَوْتُ إِلَيْهِ فَوَجَدْتُهُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، فَقُلْتُ: يا أبا الحجاج، أبلغك عني شيء؟ (أأحدثت) (12) حَدَثًا/، مَا لِي؟ قَالَ: أَلَمْ أَرَكَ مَعَ غَيْلَانَ وَقَدْ نَهَيْتُكُمْ أَنْ تُكَلِّمُوهُ أَوْ تُجَالِسُوهُ؟ قال: قلت: (والله) (13) يَا أَبَا الْحَجَّاجِ مَا أَنْكَرْتُ قَوْلَكَ، وَمَا بدأته، هو بَدَأَنِي. قَالَ: وَاللَّهِ يَا حُمَيْدُ لَوْلَا أَنَّكَ عِنْدِي مُصَدَّقٌ مَا نَظَرْتَ لِي فِي (وَجْهٍ) (14) مُنْبَسِطٍ مَا عِشْتُ، (وَلَئِنْ عُدْتَ لَا تَنْظُرُ لِي فِي وَجْهٍ مُنْبَسِطٍ مَا عِشْتُ) (15).
/وَعَنْ أَيُّوبَ (16) قَالَ: كُنْتُ يَوْمًا عِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ إِذْ جَاءَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ فَدَخَلَ، فَلَمَّا جَلَسَ وَضَعَ مُحَمَّدٌ يَدَهُ فِي بَطْنِهِ وَقَامَ، فَقُلْتُ لِعَمْرٍو: انْطَلِقْ بِنَا ـ قَالَ ـ فَخَرَجْنَا، فلما مضى عمرو رجعت فقلت:
_________
(1) في البدع لابن وضاح: إنما أقول كذا (مرتين).
(2) في جميع النسخ ما عدا (غ) و (ر): "لا ينكر".
(3) ما بين القوسين زيادة من (ت).
(4) زيادة من (غ) و (ر): "والبدع لابن وضاح".
(5) في (غ) و (ر): "تجالسه".
(6) في (م): "قدروي".
(7) في (ط) و (م) و (خ): "فإنه يوم". وفي (ت): "فإني يوم".
(8) في (ط) و (خ) و (ت): "يجذب"، وفي (م): "فجذب".
(9) في (ط) و (م) و (خ): "يقول".
(10) في (ط) و (م) و (ت): "خرف وكذا".
(11) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فبصر بي".
(12) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "ما أحدثت".
(13) زيادة من (غ) و (ر): "والبدع".
(14) ما بين القوسين ساقط من (م).
(15) ما بين القوسين ساقط من (غ) و (ر) والبدع، والأثر أخرجه ابن وضاح في البدع والنهي عنها (139).
(16) هو أبو بكر أيوب بن أبي تميمة البصري السختياني، تقدمت ترجمته (1 147).(3/235)
يَا أَبَا بَكْرٍ، قَدْ فَطِنْتُ إِلَى مَا صنعت، قال: (أوقد) (1) فَطِنْتَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: أَمَا إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَضُمَّنِي (مَعَهُ) (2) سَقْفُ بَيْتٍ (3).
/وَعَنْ بَعْضِهِمْ قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ فرآني ابن عون (4) فأعرض عني (شهرين) (5).
وقيل: دخل (عمرو بن عبيد على) (6) ابْنِ عَوْنٍ فَسَكَتَ ابْنُ عَوْنٍ لَمَّا رَآهُ، وَسَكَتَ عَمْرٌو عَنْهُ فَلَمْ يَسْأَلْهُ/ عَنْ شَيْءٍ، فمكث (هنيهة) (7) ثم (قام فخرج) (8)، فقال ابن عون: بما اسْتَحَلَّ أَنْ دَخَلَ دَارِي بِغَيْرِ إِذْنِي؟ مِرَارًا يرددها، أما إنه لو تكلم، (أَمَا إِنَّهُ لَوْ تَكَلَّمَ) (9).
وَعَنْ مُؤَمَّلِ بْنِ إسماعيل (10) قَالَ: قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا لِحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ: مَا لَكَ لَمْ تَرْوِ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ (11) إِلَّا حَدِيثًا وَاحِدًا؟ قَالَ: مَا أَتَيْتُهُ إِلَّا مرة واحدة لمساقه فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَمَا أُحِبُّ أَنَّ أَيُّوبَ علم (بإتياني إياه) (12) إِلَيْهِ وَأَنَّ لِي كَذَا وَكَذَا، وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ لو علم لكانت (الفيصل فيما بيني وبينه (13).
_________
(1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "أقد".
(2) في (غ) و (ر): "وإياه".
(3) أخرجه ابن وضاح في البدع (140).
(4) هو عبد الله بن عون بن أرطبان المزني البصري، تقدمت ترجمته ـ حامد ـ 1 207.
(5) زيادة من (غ) و (ر) والبدع لابن وضاح، والأثر مخرج فيه (141).
(6) زيادة من (غ) و (ر) والبدع لابن وضاح.
(7) في البدع: هنية. وفي (ت): هنيئة.
(8) زيادة من (غ) والبدع لابن وضاح.
(9) زيادة من (غ) و (ر) والبدع لابن وضاح، والأثر مخرج فيه (142).
(10) هو مؤمل بن إسماعيل أبو عبد الرحمن البصري، وثقه ابن معين، وقال عنه أبو حاتم: صدوق، شديد في السنة كثير الخطأ، يكتب حديثه. توفي سنة 206هـ. انظر: تهذيب التهذيب (10 380) والجرح والتعديل (8 374).
(11) هو عبد الكريم بن أبي المخارق أبو أمية، كان مع تعبده مرجئاً، قال عنه النسائي والدارقطني: متروك. وقال معمر: قال لي أيوب: لا تحمل عن عبد الكريم أبي أمية فإنه ليس بشيء، انظر: السير (6 83)، وميزان الاعتدال (2 646).
(12) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "بإتياني إليه".
(13) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الفيصلة بيني وبينه". والأثر أخرجه ابن وضاح في البدع (143).(3/236)
/ (وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ قَالَ) (1) لِمُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ (2): لَا تَقْرَبَنَّا مَا دُمْتَ عَلَى رَأْيِكَ هَذَا. وَكَانَ مُرْجِئًا (3).
وَعَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ (4) قَالَ: لَقِيَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فَقَالَ: أَلَمْ أَرَكَ مَعَ طَلْقٍ (5)؟ قُلْتُ: بَلَى، فَمَا لَهُ؟ قَالَ: لَا تُجَالِسْهُ فَإِنَّهُ مُرْجِئٌ (6).
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ وَاسِعٍ (7) قَالَ: رَأَيْتُ صَفْوَانَ بْنَ مُحْرِزٍ (8) وَقَرِيبٌ منه (شببة) (9)، (فرآهم) (10) (يتجادلون) (11)، فَرَأَيْتُهُ قَائِمًا يَنْفُضُ ثِيَابَهُ وَيَقُولُ: (إِنَّمَا أَنْتُمْ جرب، إِنَّمَا أَنْتُمْ جُرْبٌ) (12).
/وَعَنْ أَيُّوبَ قَالَ: دَخَلَ رجل على محمد بن سِيرِينَ فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ أَقْرَأُ عَلَيْكَ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ لَا أَزِيدُ أَنْ أقرأها ثم أخرج؟ فوضع إصبعيه في
_________
(1) في (م) و (غ) و (ر): وعن إبراهيم قال، وهو إبراهيم بن يزيد النخعي الإمام المشهور، وكان شديداً على المرجئة، توفي سنة 96هـ. انظر: السير (4 520)، وطبقات ابن سعد (6 270).
(2) لعله محمد بن السائب التيمي، فقد روى عن إبراهيم النخعي، وروى عنه مغيرة بن مقسم. انظر: الجرح والتعديل (7 271).
(3) أخرج ابن وضاح في البدع (144)، وابن سعد في الطبقات (6 273).
(4) سقط من جميع النسخ: (عن أيوب) وهو مذكور في الأثر كما في البدع لابن وضاح (145)، والدارمي (392)، وابن سعد في الطبقات (7/ 228).
(5) هو طلق بن حبيب العنزي، من صغار التابعين، قال عنه أبو حاتم: طلق صدوق، يرى الإرجاء. توفي قبل المائة. انظر: طبقات ابن سعد (7 277)، والسير (4 601).
(6) أخرجه ابن وضاح في البدع (145)، والدارمي في السنن (392)، وابن سعد في الطبقات (7/ 228).
(7) هو محمد بن واسع بن جابر الأزدي، من صغار التابعين، قال عنه الدارقطني: ثقة بلي برواة ضعفاء، توفي سنة 127هـ. انظر: الجرح والتعديل (8 113)، وتهذيب التهذيب (9 499).
(8) هو صفوان بن محرز المازني البصري، من التابعين، أخرج له البخاري ومسلم، توفي سنة 74هـ. انظر: طبقات ابن سعد (7 147)، والسير (4 286).
(9) في جميع النسخ: شيبة. والتصحيح من (غ) و (ر) وابن وضاح.
(10) في (ط) و (خ): "فرآهما".
(11) في جميع النسخ ما عدا (غ) و (ر): يتجادلان.
(12) ما بين () زيادة من (غ) و (ر) والبدع، والأثر أخرجه ابن وضاح (149).(3/237)
أذنيه ثم قال: (أحرج) (1) عَلَيْكَ إِنْ كُنْتَ مُسْلِمًا (إِلَّا) (2) خَرَجْتَ مِنْ بَيْتِي ـ قَالَ ـ فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، لَا أزيد على أن أقرأ ثم أخرج، (فقال بإزاره يشده عليه) (3) وَتَهَيَّأَ لِلْقِيَامِ فَأَقْبَلْنَا عَلَى الرَّجُلِ، فَقُلْنَا: قَدْ (حرَّج) (4) عَلَيْكَ إِلَّا خَرَجْتَ (أَفَيَحِلُّ) (5) لَكَ أَنْ تُخْرِجَ رجل مِنْ بَيْتِهِ؟ قَالَ: فَخَرَجَ، فَقُلْنَا: يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا عَلَيْكَ لَوْ قَرَأَ آيَةً (ثُمَّ خَرَجَ) (6)؟ قَالَ: إِنِّي وَاللَّهِ لَوْ ظَنَنْتُ أَنَّ قَلْبِي (يَثْبُتُ) (7) عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مَا بَالَيْتُ أَنْ يَقْرَأَ، وَلَكِنْ (خِفْتُ) (8) أَنْ يُلْقِي فِي قَلْبِي شَيْئًا أَجْهَدُ فِي إِخْرَاجِهِ مِنْ قَلْبِي فَلَا أَسْتَطِيعُ (9).
وَعَنِ الْأَوْزَاعِيِّ قَالَ: (لَا تمكنوا) (10) صَاحِبَ/ بِدْعَةٍ مِنْ جَدَلٍ فَيُورِثَ قُلُوبَكُمْ مِنْ فِتْنَتِهِ (11).
فَهَذِهِ آثَارٌ تُنَبِّهُكَ عَلَى مَا تَقَدَّمَتْ إِشَارَةُ الْحَدِيثِ إِلَيْهِ إِنْ كَانَ مَقْصُودًا وَاللَّهُ أعلم.
(نعم) (12) تَأْثِيرُ كَلَامِ صَاحِبِ الْبِدْعَةِ فِي الْقُلُوبِ مَعْلُومٌ، وَثَمَّ مَعْنًى آخَرُ قَدْ يَكُونُ مِنْ فَوَائِدِ تَنْبِيهِ الْحَدِيثِ بِمِثَالِ دَاءِ الْكَلْبِ/ وَهِيَ:
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ:
وَهُوَ التَّنْبِيهُ عَلَى السَّبَبِ فِي بُعْدِ صَاحِبِ الْبِدْعَةِ عَنِ التَّوْبَةِ، إِذْ كَانَ/
_________
(1) في (ط) و (خ): أعزم.
(2) في (غ) و (ر): لما.
(3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فقام لإزاره يشده".
(4) في (ط) و (خ): عزم.
(5) في (م) و (غ) و (ر): فيحل.
(6) ساقط من (غ) و (ر).
(7) في (ط) و (م) و (خ) و (غ) و (ر): ثبت.
(8) ساقط من (غ) و (ر).
(9) أخرجه ابن وضاح في البدع (150)، وبنحوه في الدارمي (397)، وعبد الله في السنة (100)، والآجري في الشريعة (120)، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (242)، وابن بطة في الإبانة الكبرى (377).
(10) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "تكلموا".
(11) أخرجه ابن وضاح في البدع والنهي عنها (151).
(12) زيادة من (غ) و (ر).(3/238)
مَثَلُ الْمَعَاصِي الْوَاقِعَةِ بِأَعْمَالِ الْعِبَادِ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا أَوِ اعْتِقَادًا، كَمَثَلِ الْأَمْرَاضِ النَّازِلَةِ بِجِسْمِهِ أَوْ رُوحِهِ، فَأَدْوِيَةُ الْأَمْرَاضِ/ الْبَدَنِيَّةِ/ مَعْلُومَةٌ، وَأَدْوِيَةُ الْأَمْرَاضِ الْعَمَلِيَّةِ التَّوْبَةُ وَالْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ، وَكَمَا أَنَّ مِنَ الْأَمْرَاضِ الْبَدَنِيَّةِ مَا يُمْكِنُ فِيهِ التَّدَاوِي وَمِنْهُ مَا لَا يُمْكِنُ فِيهِ التَّدَاوِي أَوْ يعسر (كالكَلَبِ، كذلك) (1) (في) (2) أمراض الأعمال، (منها) (3) مَا يُمْكِنُ فِيهِ التَّوْبَةُ عَادَةً، (وَمِنْهَا) (4) مَا لَا يُمْكِنُ.
/فَالْمَعَاصِي كُلُّهَا غَيْرُ الْبِدَعِ يُمْكِنُ فِيهَا التَّوْبَةُ مِنْ أَعْلَاهَا وَهِيَ الْكَبَائِرُ إِلَى أَدْنَاهَا (وَهِيَ) (5) اللَّمَمُ، وَالْبِدَعُ أَخْبَرْنَا فِيهَا إِخْبَارَيْنِ كِلَاهُمَا يُفِيدُ أَنْ لَا تَوْبَةَ مِنْهَا:
الْإِخْبَارُ الْأَوَّلُ: مَا تَقَدَّمَ فِي ذَمِّ الْبِدَعِ مِنْ أَنَّ الْمُبْتَدِعَ لَا تَوْبَةَ لَهُ، مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ.
وَالْآخَرُ: مَا نَحْنُ فِي تَفْسِيرِهِ، وَهُوَ تَشْبِيهُ الْبِدَعِ بِمَا لَا نُجْحَ فِيهِ مِنَ الْأَمْرَاضِ كَالْكَلْبِ، فَأَفَادَ أَنْ لَا نُجْحَ مِنْ ذَنْبِ الْبِدَعِ فِي الْجُمْلَةِ مِنْ غَيْرِ اقْتِضَاءِ عُمُومٍ، بَلِ اقْتَضَى أَنَّ عَدَمَ التَّوْبَةِ مَخْصُوصٌ بِمَنْ تُجَارَى بِهِ الْهَوَى كَمَا يَتَجَارَى الْكَلْبُ بِصَاحِبِهِ، وَقَدْ مَرَّ أَنَّ مِنْ أُولَئِكَ مَنْ (لا) (6) يَتَجَارَى بِهِ الْهَوَى عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ وَتَبَيَّنَ الشاهد عليه، ونشأ من ذلك معنى (آخر) (7) زائد هو من فوائد الحديث ـ وهي:
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ:
وَهُوَ أَنَّ مِنْ تِلْكَ الْفِرَقِ مَنْ لَا يُشْرَبُ (هَوَى) (8) الْبِدْعَةِ ذَلِكَ الْإِشْرَابَ، فَإِذًا يُمْكِنُ فِيهِ التَّوْبَةُ، وَإِذَا أَمْكَنَ فِي أَهْلِ الْفِرَقِ أَمْكَنَ فِيمَنْ خَرَجَ عَنْهُمْ، وهم أهل البدع الجزئية.
_________
(1) في (م): كالكلب لذي. وفي (ط) و (خ) و (ت): كذلك الكلب.
(2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الذي في".
(3) في (ت): فمنه.
(4) في (ت): فمنه.
(5) في (م) و (غ) و (ر): وهو.
(6) زيادة من (غ) و (ر).
(7) زيادة من (غ) و (ر).
(8) في (م): "هو".(3/239)
فَإِمَّا أَنْ (يُرَجَّحَ) (1) مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَخْبَارِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ، لِأَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ فِي إسنادها شيء، (وأعلى) (2) ما (تجري) (3) فِي الْحِسَانِ، وَفِي الْأَحَادِيثِ الْأُخَرِ مَا هُوَ صَحِيحٌ، كَقَوْلِهِ: "يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السهم من الرمية ثُمَّ لَا يَعُودُونَ (حَتَّى يَعُودَ) (4) السَّهْمُ عَلَى فوقه" (5) وما (أشبهه) (6).
وإما أن يجمع بينهما، (فيُجعل) (7) النَّقْلَ الْأَوَّلَ عُمْدَةً فِي (عُمُومِ) (8) قَبُولِ التَّوْبَةِ، ويكون هذا الإخبار أمراً آخر زَائِدًا عَلَى ذَلِكَ، إِذْ لَا يَتَنَافَيَانِ، بِسَبَبِ أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْبِدَعِ مُصَاحِبَةَ الْهَوَى، وَغَلَبَةُ الْهَوَى/ لِلْإِنْسَانِ فِي الشَّيْءِ الْمَفْعُولِ أَوِ الْمَتْرُوكِ لَهُ أَبَدًا أَثَرٌ فِيهِ، وَالْبِدَعُ كُلُّهَا تُصَاحِبُ الْهَوَى، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ أَصْحَابُهَا أَهْلَ الْأَهْوَاءِ/ فَوَقَعَتِ التسمية (بها، وهو) (9) الغالب عليهم إذ العمل المبتدع إِنَّمَا نَشَأَ عَنِ الْهَوَى مَعَ شُبْهَةِ/ دَلِيلٍ، لَا عَنِ الدَّلِيلِ بِالْعَرْضِ فَصَارَ هَوًى (يُصَاحِبُهُ) (10) دليل شرعي في الظاهر، فكان (أحرى) (11) في (الوقوع) (12) مِنَ الْقَلْبِ مَوْقِعَ السُّوَيْدَاءِ فَأُشْرِبَ حُبَّهُ، ثُمَّ إِنَّهُ يَتَفَاوَتُ، إِذْ لَيْسَ فِي رُتْبَةٍ وَاحِدَةٍ ولكنه/ تشريع كله، فاستحق صَاحِبُهُ أَنْ لَا تَوْبَةَ لَهُ، عَافَانَا اللَّهُ مِنَ النَّارِ بِفَضْلِهِ (وَمَنِّهِ) (13).
وَإِمَّا أَنَّ (يَعْمَلَ) (14) هَذَا الْحَدِيثَ مَعَ الْأَحَادِيثِ الْأُوَلِ ـ عَلَى فَرْضِ
_________
(1) في (غ) و (ر): "نرجح".
(2) في (ت): "على".
(3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "يجري".
(4) في (ط) و (م) و (خ): كما يعود وفي (ت): "كما لا يعود".
(5) تقدم تخريجه (1/ 111).
(6) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "أشبه".
(7) في (غ) و (ر): "فنجعل".
(8) في (غ) و (ر): بياض بمقدار كلمة، ولعل الصواب: "عدم".
(9) في (غ) و (ر): "بما هو".
(10) في (غ) و (ر): "مصاحبه".
(11) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "أجرى".
(12) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "البدع".
(13) ساقط من (غ) و (ر).
(14) ساقط من (غ) و (ر).(3/240)
الْعَمَلِ (بِهِ) (1) ـ وَنَقُولُ: إِنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الأخبار (عام) (2)، وهذا يفيد الخصوص كما (تقدم تفسيره) (3) أَوْ يُفِيدُ/ مَعْنًى يُفْهَمُ مِنْهُ الْخُصُوصُ، وَهُوَ الإشراب في أعلى المراتب مسوقاً مساق (التبعيض) (4)، لِقَوْلِهِ: "وَإِنَّهُ سَيَخْرُجُ فِي أُمَّتِي أَقْوَامٌ" إِلَى آخره، فدل (على) (5) أَنَّ ثَمَّ أَقْوَامًا أُخَرَ لَا تَتَجَارَى بِهِمْ تلك الأهواء على ما قال، بل (على) (6) أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ لَا تَتَجَارَى بِهِمْ ذَلِكَ.
وَهَذَا التَّفْسِيرُ بِحَسَبِ مَا أَعْطَاهُ/ الْمَوْضِعُ، وَتَمَامُ الْمَسْأَلَةِ قَدْ مَرَّ فِي الْبَابِ الثَّانِي وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ لَا يَكُونُ في الأحاديث كلها تخصيص، وبالله التوفيق.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ:
أَنَّهُ جَاءَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ: (أَعْظَمُهَا فِتْنَةً الَّذِينَ يَقِيسُونَ الْأُمُورَ بِرَأْيِهِمْ، فَيُحِلُّونَ الْحَرَامَ وَيُحَرِّمُونَ الْحَلَالَ) (7)، فَجَعَلَ أَعْظَمَ تِلْكَ الْفِرَقِ فِتْنَةً عَلَى الْأُمَّةِ أَهْلَ الْقِيَاسِ، وَلَا كُلَّ قِيَاسٍ، بَلِ الْقِيَاسُ عَلَى غَيْرِ أَصْلٍ، (فَإِنَّ أَهْلَ الْقِيَاسِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ على غير أصل لا يَصِحُّ، وَإِنَّمَا يَكُونُ عَلَى أَصْلٍ) (8) مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ/ صَحِيحَةٍ أَوْ إِجْمَاعٍ مُعْتَبَرٍ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْقِيَاسِ أَصْلٌ ـ وَهُوَ الْقِيَاسُ الْفَاسِدُ ـ/ فَهُوَ الَّذِي لَا يَصِحُّ أَنْ يُوضَعَ فِي الدِّينِ، فَإِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ، وَأَنْ يَصِيرَ الْحَلَالُ بِالشَّرْعِ حَرَامًا بِذَلِكَ الْقِيَاسِ، وَالْحَرَامُ حَلَالًا، فَإِنَّ الرَّأْيَ مِنْ حَيْثُ هُوَ رَأْيٌ لَا يَنْضَبِطُ إِلَى قَانُونٍ شَرْعِيٍّ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ شَرْعِيٌّ، فَإِنَّ الْعُقُولَ تَسْتَحْسِنُ ما لا يستحسن شرعاً،
_________
(1) ساقط من (غ) و (ر).
(2) في (ط) و (م) و (خ) و (غ) و (ر): "عامة".
(3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): تفيده.
(4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "التبغيض".
(5) زيادة من (غ) و (ر).
(6) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "هي".
(7) تقدم تخريجه (3/ 123).
(8) ما بين () ساقط من (غ) و (ر).(3/241)
وَتَسْتَقْبِحُ مَا لَا يُسْتَقْبَحُ شَرْعًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ صَارَ الْقِيَاسُ عَلَى غَيْرِ أَصْلِ فِتْنَةً عَلَى النَّاسِ.
ثُمَّ أَخْبَرَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ (المُعْمِلين) (1) لِهَذَا الْقِيَاسِ أَضَرُّ عَلَى النَّاسِ مِنْ سَائِرِ أَهْلِ الْفِرَقِ، وَأَشَدُّ فِتْنَةً، وَبَيَانُهُ: ((2) أَنَّ مَذَاهِبَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ قَدِ اشْتَهَرَتِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي تَرُدُّهَا وَاسْتَفَاضَتْ، وَأَهْلُ الْأَهْوَاءِ مَقْمُوعُونَ فِي الْأَمْرِ الْغَالِبِ عِنْدَ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ، بِخِلَافِ/ الْفُتْيَا، فَإِنَّ أَدِلَّتَهَا من الكتاب والسنة (قد) (3) لَا يَعْرِفُهَا إِلَّا الْأَفْرَادُ، وَلَا يُمَيِّزُ (ضَعِيفَهَا مِنْ قَوِيِّهَا) (4) إِلَّا الْخَاصَّةُ، وَقَدْ يَنْتَصِبُ لَلْفُتْيَا وَالْقَضَاءِ (مِمَّنْ) (5) يُخَالِفُهَا كَثِيرٌ.
وَقَدْ جَاءَ مِثْلُ مَعْنَاهُ مَحْفُوظًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ عَامٌ إِلَّا وَالَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ، لَا أَقُولُ: عَامٌ أَمْطَرُ مِنْ عَامٍ، وَلَا عَامٌ/ أَخْصَبُ مِنْ عَامٍ، وَلَا أَمِيرٌ/ خير من أمير، ولكن: ذهاب خياركم وعلماؤكم، ثُمَّ يُحْدِثُ قَوْمٌ يَقِيسُونَ الْأُمُورَ بِرَأْيِهِمْ، فَيُهْدَمُ الْإِسْلَامُ وَيُثْلَمُ (6).
وَهَذَا الَّذِي فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْجُودٌ فِي (الْحَدِيثِ) (7) الصَّحِيحِ، حَيْثُ قَالَ عليه الصلاة والسلام: "وَلَكِنْ يَنْتَزِعُهُ مِنْهُمْ مَعَ قَبْضِ الْعُلَمَاءِ بِعِلْمِهِمْ فَيَبْقَى نَاسٌ جُهَّالٌ يُستفتون (فَيُفْتُونَ) (8) بِرَأْيِهِمْ، فَيَضِلُّونَ وَيُضِلُّونَ" (9).
/وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي ذَمِّ الرَّأْيِ آثَارٌ مَشْهُورَةٌ عَنِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَالتَّابِعِينَ تَبَيَّنَ فِيهَا أَنَّ الْأَخْذَ بِالرَّأْيِ يُحِلُّ الْحَرَامَ ويحرم الحلال.
_________
(1) في (غ) و (ر): "المعلمين".
(2) من بداية هذا القوس إلى قوله: ( .. بنوع تأويل وهذا بينٌ) من (3/ 234)، نقله الشاطبي من شيخ الإسلام ابن تيمية من كتاب بيان الدليل على بطلان التحليل (ص296 ـ 299) بنصه، إلا أنه تصرّف في بعض المواطن ببعض الاختصار، وهناك اختلاف يسير في بعض الألفاظ، يظهر أنه ناشئ من اختلاف النسخة التي نقل منها الشاطبي.
(3) زيادة من (غ) و (ر).
(4) في (ت): "قويها من ضعيفها".
(5) في (ت): "من".
(6) تقدم تخريجه (1 130).
(7) ساقط من (غ) و (ر).
(8) زيادة من (غ) و (ر).
(9) تقدم تخريجه (3/ 99).(3/242)
وَمَعْلُومٌ/ أَنَّ هَذِهِ الْآثَارَ الذامَّة لِلرَّأْيِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ بِهَا ذَمَّ الِاجْتِهَادِ عَلَى الْأُصُولِ فِي نَازِلَةٍ لَمْ تُوجَدْ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا إِجْمَاعٍ، مِمَّنْ يَعْرِفُ الْأَشْبَاهَ وَالنَّظَائِرَ، وَيَفْهَمُ مَعَانِيَ/ الْأَحْكَامِ فَيَقِيسُ قِيَاسَ تشبيه أو تعليل (1)، قَيِاسًا لَمْ يُعَارِضْهُ مَا هُوَ أَوْلَى مِنْهُ، فإن هذا ليس فيه تحليل (الحرام) (2) (ولا العكس) (3)، وإنما القياس الهادم للإسلام ما عارض الكتاب والسنة، أو ما كان عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ، أَوْ مَعَانِيهَا الْمُعْتَبَرَةَ.
ثُمَّ إِنَّ مُخَالَفَةَ هَذِهِ الْأُصُولِ عَلَى قِسْمَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُخَالِفَ أَصْلًا مُخَالَفَةً ظَاهِرَةً مِنْ غَيْرِ اسْتِمْسَاكٍ بِأَصْلٍ آخَرَ، فَهَذَا لَا يَقَعُ مِنْ مُفْتٍ مَشْهُورٍ إِلَّا إِذَا كَانَ الْأَصْلُ لَمْ يَبْلُغْهُ، كَمَا وَقَعَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ حَيْثُ لم (تبلغهم) (4) بَعْضُ السُّنَنِ فَخَالَفُوهَا خَطَأً، وَأَمَّا الْأُصُولُ الْمَشْهُورَةُ فَلَا يُخَالِفُهَا مُسْلِمٌ خِلَافًا ظَاهِرًا مِنْ غَيْرِ مُعَارَضَةٍ بِأَصْلٍ آخَرَ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يُخَالِفَهَا بعض المشهورين بالفتيا.
/وَالثَّانِي: أَنْ يُخَالِفَ الْأَصْلَ بِنَوْعٍ مِنَ التَّأْوِيلِ هو فيه مخطئ، بأن
_________
(1) القياس ينقسم عند الأصوليين إلى ثلاثة أقسام:
أـ قياس العلة: وهو ما كان الجمع فيه بين الأصل والفرع بنفس العلة كالإسكار.
ب ـ قياس الشبه ـ ويسمى قياس الدلالة ـ: وهو ما كان الجمع فيه بين الأصل والفرع بدليل العلة، كملزومها أو حكمها أو أثرها، ومثال ملزوم العلة: إلحاق النبيذ بالخمر في المنع بجامع الشدة المطربة؛ لأنها ملزومة الإسكار الذي هو العلة. ومثال أثر العلة: إلحاق القتل بالمثقل بالقتل بمحدد في القصاص بجامع الإثم، لأن الإثم أثر العلة التي هي القتل والعمد والعدوان، والمثال بحكم العلة: جواز رهن المشاع قياساً على جواز بيعه بجامع جواز البيع.
ج ـ وهو ما جمع فيه بنفي الفارق، وهو القياس في معنى الأصل، وهو مفهوم الموافقة، وتنقيح المناط، والأكثر على أنه ليس من القياس. انظر: مذكرة أصول الفقه للشنقيطي (ص270، 271)، ونزهة الخاطر العاطر (2 301، 302)،
(2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "وتحريم".
(3) ما بين القوسين ساقط من ت.
(4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "يبلغهم".(3/243)
يَضَعَ الِاسْمَ عَلَى غَيْرِ (مَوْضِعِهِ) (1) أَوْ عَلَى بَعْضِ (مَوَاضِعِهِ) (2) أَوْ يُرَاعِيَ فِيهِ مُجَرَّدَ اللَّفْظِ دُونَ اعْتِبَارِ الْمَقْصُودِ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ التَّأْوِيلِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ أَنَّ تَحْلِيلَ الشَّيْءِ إِذَا كَانَ مَشْهُورًا فحرَّمه بِغَيْرِ تَأْوِيلِ، أَوِ التَّحْرِيمَ/ مَشْهُورًا فحلَّله بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ، كَانَ كُفْرًا وَعِنَادًا، وَمِثْلُ هَذَا لَا/ تَتَّخِذُهُ الْأُمَّةُ رَأْسًا قَطُّ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْأُمَّةُ قَدْ كَفَرَتْ، وَالْأُمَّةُ لَا تَكْفُرُ أَبَدًا. وَإِذَا بَعَثَ اللَّهُ رِيحًا تَقْبِضُ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَبْقَ حِينَئِذٍ مَنْ يَسْأَلُ عَنْ حَرَامٍ أَوْ حَلَالٍ. وَإِذَا كَانَ التَّحْلِيلُ أَوِ التَّحْرِيمُ غَيْرَ مَشْهُورٍ فَخَالَفَهُ/ مُخَالِفٌ لَمْ يَبْلُغْهُ دَلِيلُهُ، فَمِثْلُ هَذَا/ لَمْ يَزَلْ مَوْجُودًا مِنْ لَدُنْ زَمَانِ أَصْحَابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، (ثم هَذَا) (3) إِنَّمَا يَكُونُ فِي آحَادِ الْمَسَائِلِ، فَلَا تَضِلُّ الْأُمَّةُ وَلَا يَنْهَدِمُ الْإِسْلَامُ وَلَا يُقَالُ (لمثل هذا) (4) إِنَّهُ مُحْدَثٌ عِنْدَ قَبْضِ الْعُلَمَاءِ.
فَظَهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ إِنَّمَا هُوَ اسْتِحْلَالُ الْمُحَرَّمَاتِ الظَّاهِرَةِ أَوِ الْمَعْلُومَةِ عِنْدَهُ بِنَوْعِ تَأْوِيلٍ، وَهَذَا بيِّن) (5) فِي المبتدعة الذين تركوا معظم الكتاب والذي تظافرت عَلَيْهِ أَدِلَّتُهُ، وَتَوَاطَأَتْ عَلَى مَعْنَاهُ شَوَاهِدُهُ، وَأَخَذُوا فِي اتِّبَاعِ بَعْضِ الْمُتَشَابِهَاتِ وَتَرْكِ أُمِّ الْكِتَابِ.
(فإن) (6) هَذَا ـ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ـ زَيْغٌ وَمَيْلٌ عن الصراط المستقيم، فإن تقدموا أئمةَ (7) يفتون ويقتدى (بأقوالهم وأفعالهم) (8) سَكَنَتْ إِلَيْهِمُ الدَّهْمَاءُ ظَنًّا أَنَّهُمْ بَالَغُوا لَهُمْ في الاحتياط على الدين، وهم يضلونهم بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَلَا شَيْءَ (أَعْظَمُ) (9) عَلَى (الْإِنْسَانِ) (10) مِنْ دَاهِيَةٍ تَقَعُ بِهِ مِنْ حَيْثُ لَا
_________
(1) في ط: مواضعه.
(2) في (غ) و (ر): موضعه.
(3) في (ت): وهذا.
(4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): لهذا.
(5) هنا ينتهي نقل الشاطبي من ابن تيمية.
(6) في (م) و (خ) و (ت): "فإذا". وفي (ر): "فإنما".
(7) (أئمة) حال منصوب، أي تقدموا حال كونهم أئمة، حيث جعلوا أنفسهم أئمة (نبه على ذلك رشيد رضا).
(8) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): بهم بأقوالهم وأعمالهم.
(9) ما بين القوسين ساقط من (م). وفي (غ) و (ر): أعز.
(10) في (غ) و (ر): الناس.(3/244)
يَحْتَسِبُ، فَإِنَّهُ لَوْ عَلِمَ طَرِيقَهَا لَتَوَقَّاهَا مَا اسْتَطَاعَ، فَإِذَا جَاءَتْهُ عَلَى غِرَّة فَهِيَ أَدْهَى وَأَعْظَمُ عَلَى مَنْ وَقَعَتْ بِهِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، فَكَذَلِكَ الْبِدْعَةُ إِذَا جَاءَتِ الْعَامِّيَّ مِنْ طَرِيقِ الفتيا، لأنه (استند) (1) فِي دِينِهِ إِلَى مَنْ ظَهَرَ فِي رُتْبَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَيَضِلُّ مِنْ حَيْثُ يَطْلُبُ الْهِدَايَةَ: اللَّهُمَّ اهْدِنَا الصِّرَاطَ/ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عليهم.
المسألة السادسة والعشرون:
إن ها هنا نَظَرًا لَفْظِيًّا فِي الْحَدِيثِ هُوَ مِنْ تَمَامِ الكلام فيه، وذلك أنه لما أخبر صلّى الله عليه وسلّم أَنَّ جَمِيعَ الْفِرَقِ فِي النَّارِ إِلَّا فِرْقَةً وَاحِدَةً، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ الْمُفَسِّرَةُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ، فَجَاءَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى السُّؤَالُ عَنْهَا ـ سُؤَالُ التَّعْيِينِ ـ فَقَالُوا: مَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَأَصْلُ الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ: أَنَا وَأَصْحَابِي، وَمَنْ عَمِلَ مِثْلَ عَمَلِنَا، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مما يعطي تعيين الفرقة، إما بالإشارة إليها أَوْ بِوَصْفٍ مِنْ أَوْصَافِهَا/ إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ/ لَمْ يَقَعْ، وَإِنَّمَا وَقَعَ فِي الْجَوَابِ تَعْيِينُ الوصف لا تعيين الموصوف، فلذلك أتى بـ"ما" (التي تقتضي بظاهرها) (2) الْوُقُوعُ عَلَى غَيْرِ الْعَاقِلِ مِنَ الْأَوْصَافِ وَغَيْرِهَا، وَالْمُرَادُ هُنَا الْأَوْصَافُ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَلَمْ يُطَابِقِ السُّؤَالُ الْجَوَابَ فِي اللَّفْظِ. وَالْعُذْرُ عَنْ هَذَا أَنَّ الْعَرَبَ لَا تَلْتَزِمُ ذَلِكَ النَّوْعَ/ إِذَا فُهِمَ الْمَعْنَى، لِأَنَّهُمْ لَمَّا سَأَلُوا عَنْ تَعْيِينِ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ بيَّن لَهُمُ الْوَصْفَ الَّذِي بِهِ صَارَتْ نَاجِيَةً، فَقَالَ: "مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي".
/وَمِمَّا جَاءَ غَيْرَ مُطَابِقٍ فِي الظَّاهِرِ وَهُوَ فِي الْمَعْنَى مُطَابِقٌ قَوْلُ اللَّهِ تعالى: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ} (3)، فَإِنَّ هَذَا الْكَلَامَ مَعْنَاهُ: هَلْ أُخْبِرُكُمْ بِمَا هو أفضل من متاع (الحياة) (4) الدُّنْيَا؟ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: نَعَمْ! أَخْبِرْنَا، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} (5)
_________
(1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): يستند.
(2) في (ط): أتى فظاهرها.
(3) سورة آل عمران: الآية (15).
(4) زيادة من (غ) و (ر).
(5) سورة آل عمران: الآية (15).(3/245)
الْآيَةَ، أَيْ لِلَّذِينِ اتَّقَوُا اسْتَقَرَّ لَهُمْ عِنْدَ ربهم جنات تجري (من تحتها الأنهار. الْآيَةَ) (1).
فَأَعْطَى مَضْمُونُ الْكَلَامِ مَعْنَى الْجَوَابِ عَلَى غَيْرِ لَفْظِهِ. وَهَذَا التَّقْرِيرُ عَلَى قَوْلِ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ.
وَقَالَ تَعَالَى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} (2) الْآيَةَ، فَقَوْلُهُ: (مَثَلُ الْجَنَّةِ) يَقْتَضِي الْمَثَلَ لَا الْمُمَثَّلُ ـ (كَمَا قَالَ تَعَالَى) (3): {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اُسْتَوْقَدَ نَارًا} (4) (ولكن) (5) (لما) (6) كَانَ الْمَقْصُودُ الْمُمَثَّلَ جَاءَ بِهِ بِعَيْنِهِ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا ذَكَرَ الْفِرَقَ وَذَكَرَ أَنَّ فِيهَا فِرْقَةً نَاجِيَةً كَانَ الْأَوْلَى السُّؤَالَ عَنْ أَعْمَالِ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ، لَا عَنْ نَفْسِ الْفِرْقَةِ. لِأَنَّ التعريف (بها) (7) مِنْ حَيْثُ هِيَ لَا فَائِدَةَ فِيهِ إِلَّا من جهة/ أعمالها التي نجت بها. فالمقدم فِي الِاعْتِبَارِ هُوَ الْعَمَلُ لَا الْعَامِلُ، فَلَوْ سألوا (فقالوا) (8): مَا وَصْفُهَا؟ أَوْ مَا عَمَلُهَا؟ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ لَكَانَ أَشَدَّ مُطَابَقَةً فِي اللَّفْظِ والمعنى، فلما فهم صلّى الله عليه وسلّم (منهم) (9) ما قصدوا/ أجابهم (على) (10) ذلك.
أو نقول: لَمَّا تَرَكُوا السُّؤَالَ عَمَّا كَانَ الْأَوْلَى فِي حَقِّهِمْ، أَتَى بِهِ جَوَابًا عَنْ سُؤَالِهِمْ، حِرْصًا منه صلّى الله عليه وسلّم عَلَى تَعْلِيمِهِمْ مَا يَنْبَغِي لَهُمْ تَعَلُّمُهُ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ.
/وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مَا سَأَلُوا عنه لا يتعين، (إذ) (11) لا تختص
_________
(1) في (غ): الآية، وفي (ت): "من تحتها الأنهار".
(2) سورة محمد: الآية (15).
(3) في (غ) و (ر): "فقال".
(4) سورة البقرة: الآية (17).
(5) في (م): "ولأن". وفي (ط) و (خ) و (ت): "ولأنه".
(6) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "كلما".
(7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فيها".
(8) زيادة من (غ) و (ر).
(9) ساقط من (غ) و (ر).
(10) ساقط من (غ) و (ر).
(11) في (م): "إذا".(3/246)
النَّجَاةُ بِمَنْ تَقَدَّمَ دُونَ مَنْ تَأَخَّرَ، إِذْ كانوا قد اتصفوا/ بوصف (الناجين) (1).
وَمِنْ شَأْنِ هَذَا السُّؤَالِ التَّعْيِينُ وَعَدَمُ انْحِصَارِهِمْ بزمان أو مكان لا يقتضي التعيين، (فانصرف) (2) القصد إلى/ تعيين الوصف الضابط للجميع، وهو ما كان عليه صلّى الله عليه وسلّم هو وأصحابه رضي الله عنهم.
وَهَذَا الْجَوَابُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا كَالْمُبْهَمِ، وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى السَّائِلِ مُعَيَّنٌ، لِأَنَّ أَعْمَالَهُمْ كَانَتْ لِلْحَاضِرِينَ مَعَهُمْ رَأْيَ عَيْنٍ، فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى أَكْثَرِ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ غَايَةُ التَّعْيِينِ اللَّائِقِ بِمَنْ حَضَرَ، فَأَمَّا غَيْرُهُمْ مِمَّنْ لَمْ يُشَاهِدْ أَحْوَالَهُمْ ولم (يبصر) (3) أَعْمَالَهُمْ فَلَيْسَ مِثْلَهُمْ، وَلَا يَخْرُجُ الْجَوَابُ بِذَلِكَ عن التعيين المقصود، والله أعلم (انتهى) (4).
_________
(1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "التأخير".
(2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "وانصرف".
(3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "ينظر".
(4) ما بين القوسين ساقط من (م) و (غ) و (ر).(3/247)
/الباب العاشر
فِي بَيَانِ مَعْنَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي انْحَرَفَتْ عنه سبل أَهْلِ الِابْتِدَاعِ فضلَّت عَنِ الْهُدَى بَعْدَ الْبَيَانِ
قَدْ تَقَدَّمَ قَبْلَ هَذَا أَنَّ كُلَّ فِرْقَةٍ وَكُلَّ طَائِفَةٍ تَدَّعِي أَنَّهَا عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَأَنَّ مَا سِوَاهَا مُنْحَرِفٌ عَنِ الْجَادَّةِ وَرَاكِبٌ بنيات الطريق، فوقع (الاختلاف بينهم إِذًا) (1) فِي تَعْيِينِهِ وَبَيَانِهِ، حَتَّى أَشْكَلَتِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى كُلِّ مَنْ نَظَرَ فِيهَا، حَتَّى قَالَ مَنْ قَالَ: كُلُّ مُجْتَهِدٍ فِي الْعَقْلِيَّاتِ أَوِ النقليات مصيب. فعدد الأقوال (إذاً) (2) فِي تَعْيِينِ هَذَا الْمَطْلَبِ عَلَى عَدَدِ الْفِرَقِ، وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الِاخْتِلَافِ، إِذْ لَا (تَكَادُ) (3) تَجِدُ فِي الشَّرِيعَةِ مَسْأَلَةً/ يَخْتَلِفُ الْعُلَمَاءُ (فِيهَا) (4) عَلَى بِضْعٍ وَسَبْعِينَ قَوْلًا إِلَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ، فَتَحْرِيرُ النَّظَرِ حَتَّى تَتَّضِحَ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ الَّتِي كان (عليها) (5) النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَأَصْحَابُهُ) (6) مِنْ أغمض المسائل.
ووجه ثان (7): أن الطريق الْمُسْتَقِيمَ لَوْ تعيَّن بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ بَعْدَ الصحابة رضي الله عنهم لَمْ يَقَعِ اخْتِلَافٌ أَصْلًا، لَأَنَّ الِاخْتِلَافَ مَعَ تَعْيِينِ مَحَلِّهِ مُحال، وَالْفَرْضُ أَنَّ الْخِلَافَ لَيْسَ بِقَصْدِ الْعِنَادِ، لِأَنَّهُ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ مُخْرِجٌ عن الإسلام، وكلامنا في الفرق (الإسلامية) (8).
_________
(1) في (ط) و (م) و (خ): "بينهم الاختلاف هذا"، وفي (غ) و (ر): "بينهم الاختلاف إذاً".
(2) زيادة من (غ) و (ر).
(3) ساقط من (غ) و (ر).
(4) ساقط من (غ) و (ر).
(5) في (ط) و (م) و (خ): عليه.
(6) ما بين القوسين زيادة من (ت).
(7) الوجه الأول هو ما سبق من الكلام قبل قوله (ووجه ثان).
(8) زيادة من (غ) و (ر).(3/249)
وَوَجْهٌ ثَالِثٌ: أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْبِدَعَ لَا تَقَعُ مِنْ رَاسِخٍ فِي الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا تَقَعُ مِمَّنْ لَمْ يَبْلُغْ مَبْلَغَ أَهْلِ الشَّرِيعَةِ الْمُتَصَرِّفِينَ فِي أَدِلَّتِهَا، وَالشَّهَادَةُ بِأَنَّ فُلَانًا رَاسِخٌ فِي الْعِلْمِ وَفُلَانًا غَيْرُ رَاسِخٍ، فِي غَايَةِ الصُّعُوبَةِ، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ خَالَفَ وَانْحَازَ (إِلَى فرقة) (1) يزعم أنه الراسخ، (وغيره) (2) قاصر النظر (لم ترسخ قدمه في العلم) (3)، فَإِنْ فُرِضَ عَلَى ذَلِكَ الْمَطْلَبِ عَلَامَةٌ وَقَعَ النِّزَاعُ إِمَّا فِي الْعَلَامَةِ، وَإِمَّا فِي مَنَاطِهَا.
/ومثال ذلك أن (من علامات) (4) الخروج/ (عن) (5) الْجَمَاعَةِ الْفُرْقَةُ الْمُنَبِّهُ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} (6).
/والفرقة بشهادة الجميع (إضافية) (7) فَكُلُّ طَائِفَةٍ تَزْعُمُ أَنَّهَا هِيَ الْجَمَاعَةُ وَمَنْ سِوَاهَا مُفَارِقٌ لِلْجَمَاعَةِ.
وَمِنَ الْعَلَامَاتِ/ اتِّبَاعُ مَا تشابه من الأدلة، وكل (فرقة) (8) تَرْمِي صَاحِبَتَهَا بِذَلِكَ (وَأَنَّهَا) (9) هِيَ الَّتِي اتَّبَعَتْ أُمَّ الْكِتَابِ دُونَ الْأُخْرَى فَتَجْعَلُ دَلِيلَهَا عُمْدَةً (وَتَرُدُّ) (10) إِلَيْهِ سَائِرَ الْمَوَاضِعِ بِالتَّأْوِيلِ عَلَى عَكْسِ/ الأخرى.
ومنها اتباع الهوى (وهو) (11) الَّذِي تَرْمِي بِهِ كُلُّ فِرْقَةٍ صَاحِبَتَهَا وَتُبَرِّئُ نَفْسَهَا مِنْهُ، فَلَا يُمْكِنُ فِي الظَّاهِرِ مَعَ هَذَا أَنَّ يَتَّفِقُوا عَلَى مَنَاطِ هَذِهِ الْعَلَامَاتِ، وَإِذَا لَمْ يَتَّفِقُوا عَلَيْهَا لَمْ يُمْكِنْ ضَبْطُهُمْ بها بحيث (يشار) (12) (إليهم) (13) بتلك
_________
(1) في (غ) و (ر): "لفرقة".
(2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "وغير".
(3) زيادة من (غ) و (ر).
(4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "علامة".
(5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "من".
(6) سورة آل عمران: الآية (105).
(7) في (ط) و (خ): وإضافية.
(8) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "طائفة".
(9) في (غ) و (ر): "وإنما".
(10) في (م) و (غ) و (ر): وإما ترد.
(11) زيادة من (م) و (غ) و (ر).
(12) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "يشير".
(13) في (غ) و (ر): "إليها".(3/250)
العلامات، (نعم هم) (1) فِي التَّحْصِيلِ/ مُتَّفِقُونَ عَلَيْهَا، وَبِذَلِكَ صَارَتْ عَلَامَاتٌ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ (مَعَ) (2) اخْتِلَافِهِمْ فِي الْمَنَاطِ (الضَّبْطُ) (3) بِالْعَلَامَاتِ.
وَوَجْهٌ رَابِعٌ: وَهُوَ مَا تَقْدَمُ مِنْ فَهْمِنَا مِنْ مَقَاصِدِ الشَّرْعِ فِي السَّتْرِ عَلَى هذه الأمة (فإنه) (4) وَإِنْ حَصَلَ التَّعْيِينُ بِالِاجْتِهَادِ، فَالِاجْتِهَادُ لَا يَقْتَضِي الاتفاق على محله.
ألا ترى أن (العقلاء) (5) جزموا القول بأن (النظريات) (6) لا يمكن الاتفاق (عليها) (7) عَادَةً، فَلَوْ تَعَيَّنُوا بِالنَّصِّ لَمْ يَبْقَ إِشْكَالٌ. بل (قد) (8) (أصرَّ) (9) الْخَوَارِجِ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ عَيَّنَهُمْ، وعين علامتهم في المخدج حيث قال ـ (مثلاً) (10) ـ: "آيَتُهُمْ/ رَجُلٌ أَسْوَدُ إِحْدَى عَضُدَيْهِ مِثْلُ ثَدْيِ المرأة، أو مثل الْبَضْعَةِ تَدَرْدَرُ" (11) الْحَدِيثَ (12). وَهُمُ الَّذِينَ قَاتَلَهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، إِذْ لَمْ يَرْجِعُوا عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ وَلَمْ يَنْتَهُوا، فما الظن بمن ليس له في النقل تَعْيِينٌ؟
وَوَجْهٌ خَامِسٌ: وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ *إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (13) (فالآية) (14) (تشعر) (15) في هذا المطلوب أن الخلاف
_________
(1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "وأنهم".
(2) زيادة من (غ) و (ر).
(3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "المنضبط".
(4) زيادة من (ر).
(5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "العلماء".
(6) في (ط) و (خ) و (ت): النظريات وفي (م): النظريان.
(7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): عليهما.
(8) زيادة من (م) و (غ) و (ر).
(9) في (ط) و (خ): أمر وفي (م) و (ت): أقر.
(10) زيادة من (غ) و (ر).
(11) تدردر: أي تضطرب وتترجرج. انظر: المعجم الوسيط، مادة (تدردر).
(12) تقدم تخريجه (ص114).
(13) سورة هود: الآية (118).
(14) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الآية".
(15) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "يشعر".(3/251)
لا يرتفع، مع ما يعضده من (الجواب) (1) الَّذِي فَرَغْنَا مِنْ بَيَانِهِ، وَهُوَ حَدِيثُ الْفِرَقِ، إِذِ الْآيَةُ لَا تُشْعِرُ بِخُصُوصِ مَوَاضِعِ الْخِلَافِ، لِإِمْكَانِ أَنْ يَبْقَى الْخِلَافُ فِي الْأَدْيَانِ دُونَ دِينِ الْإِسْلَامِ، لَكِنَّ الْحَدِيثَ بَيَّنَ أَنَّهُ وَاقِعٌ فِي الْأُمَّةِ أَيْضًا، فَانْتَظَمَتْهُ الْآيَةُ بِلَا إِشْكَالٍ.
فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا ظَهَرَ بِهِ أَنَّ التَّعْيِينَ للفرقة الناجية بالنسبة (إلينا) (2) اجْتِهَادِيٌّ لَا/ يَنْقَطِعُ الْخِلَافُ فِيهِ، وَإِنِ ادُّعِيَ فِيهِ الْقَطْعُ دُونَ الظَّنِّ فَهُوَ نَظَرِيٌّ لَا ضَرُورِيٌّ، وَلَكُنَّا مَعَ ذَلِكَ نَسْلُكُ فِي الْمَسْأَلَةِ ـ بحول الله تعالى ـ مسلكاً وسطاً يذعن إلى قبوله (عقل) (3) (المنصف) (4) ويقر بصحته الْعَالِمُ/ بِكُلِّيَّاتِ الشَّرِيعَةِ وَجُزْئِيَّاتِهَا، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ (لِلصَّوَابِ) (5).
فنقول:/ لا بد مِنْ تَقْدِيمِ مُقَدِّمَةٍ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْمَطْلُوبِ، وذلك أن الإحداث في الشريعة يقع إما مِنْ جِهَةِ الْجَهْلِ وَإِمَّا مِنْ جِهَةِ تَحْسِينِ/ الظَّنِّ (بِالْعَقْلِ) (6)، وَإِمَّا مِنْ جِهَةِ اتِّبَاعِ الْهَوَى فِي طَلَبِ الْحَقِّ وَهَذَا الْحَصْرُ بِحَسَبِ الِاسْتِقْرَاءِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَقَدْ مَرَّ فِي ذَلِكَ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ/ شَوَاهِدُ الْمَسْأَلَةِ، إِلَّا أَنَّ الجهات الثلاث قد تنفرد وقد تجتمع، (وإذا) (7) اجْتَمَعَتْ فَتَارَةً تَجْتَمِعُ مِنْهَا (اثْنَتَانِ) (8) وَتَارَةً تَجْتَمِعُ (الثَّلَاثُ) (9) فَأَمَّا جِهَةُ الْجَهْلِ فَتَارَةً تَتَعَلَّقُ بِالْأَدَوَاتِ الَّتِي بِهَا تُفْهَمُ الْمَقَاصِدُ، وَتَارَةً تَتَعَلَّقُ بِالْمَقَاصِدِ، وأما جهة تحسين الظن (بالعقل) (10) فَتَارَةً يُشْرَكُ فِي التَّشْرِيعِ مَعَ الشَّرْعِ، وَتَارَةً يُقَدَّمُ عَلَيْهِ، وَهَذَانَ النَّوْعَانِ يَرْجِعَانِ إِلَى نَوْعٍ وَاحِدٍ، وَأَمَّا جِهَةُ اتِّبَاعِ الْهَوَى، فَمِنْ شَأْنِهِ أن يغلب الفهم حتى (يغالب) (11) صاحبه الأدلة أو يستند إلى غير/
_________
(1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الحديث".
(2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "إليها".
(3) ساقط من (غ) و (ر).
(4) في (ط) و (خ): النمو.
(5) ساقط من (غ) و (ر).
(6) ساقط من (غ) و (ر).
(7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فإذا".
(8) في (غ) و (ر): اثنان.
(9) في (م) و (ت): الثلاثة.
(10) زيادة من (غ) و (ر).
(11) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "يقلب".(3/252)
دليل وهذان النوعان (أيضاً) (1) يَرْجِعَانِ إِلَى نَوْعٍ وَاحِدٍ، فَالْجَمِيعُ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ؛ وَهِيَ: الْجَهْلُ بِأَدَوَاتِ الْفَهْمِ، وَالْجَهْلُ بِالْمَقَاصِدِ، وَتَحْسِينُ الظَّنِّ بِالْعَقْلِ، وَاتِّبَاعُ الْهَوَى. فَلْنَتَكَلَّمْ عَلَى كُلِّ واحد منها وبالله التوفيق.
(النوع) (2) الأول: (3) (الجهل بأدوات الفهم، اعلم) (4) إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ عَرَبِيًّا لا عُجمة فيه، بمعنى أنه جار فِي أَلْفَاظِهِ وَمَعَانِيهِ وَأَسَالِيبِهِ عَلَى لِسَانِ الْعَرَبِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا} (5)، وَقَالَ تَعَالَى: {قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} (6)، وَقَالَ تَعَالَى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ *عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ *بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ *} (7)، وَكَانَ/ الْمُنَزَّلُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ عَرَبِيًّا أَفْصَحَ مَنْ نَطَقَ بِالضَّادِ وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ الَّذِينَ بُعِثَ فِيهِمْ عَرَبًا أَيْضًا، فَجَرَى الْخِطَابُ بِهِ عَلَى مُعْتَادِهِمْ فِي لِسَانِهِمْ، فَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْأَلْفَاظِ وَالْمَعَانِي إِلَّا وَهُوَ جَارٍ عَلَى مَا اعْتَادُوهُ، وَلَمْ يُدَاخِلْهُ (شَيْءٌ) (8) بَلْ نَفَى عَنْهُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ شَيْءٌ أَعْجَمِيٌّ فَقَالَ تَعَالَى/: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ *} (9).
وَقَالَ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} (10).
/هذا وإن كان (قد) (11) بُعث لِلنَّاسِ كَافَّةً فَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ جَمِيعَ الْأُمَمِ وَعَامَّةَ الْأَلْسِنَةِ فِي هَذَا الْأَمْرِ تَبَعًا لِلِسَانِ الْعَرَبِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يُفْهَمُ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا مِنَ الطَّرِيقِ الَّذِي أنزل عليه وهو اعتبار ألفاظها ومعانيها وأساليبها.
_________
(1) زيادة من (غ) و (ر).
(2) في (غ): قبل كلمة: (النوع) كتب: فصل".
(3) النوع الأول من أسباب الإحداث في الدين.
(4) ما بين القوسين زيادة من (ت).
(5) سورة الزخرف: الآية (3).
(6) سورة الزمر: الآية (28).
(7) سورة الشعراء: الآية (193 ـ 195).
(8) في (غ) و (ر): "غيره".
(9) سورة النحل: الآية (103).
(10) سورة فصلت: الآية (44).
(11) زيادة من (غ) و (ر).(3/253)
أَمَّا أَلْفَاظُهَا فَظَاهِرَةٌ لِلْعِيَانِ، وَأَمَّا مَعَانِيهَا وَأَسَالِيبُهَا فَكَانَ مِمَّا/ يُعْرَفُ مِنْ مَعَانِيهَا اتِّسَاعُ لِسَانِهَا، وَأَنْ تُخَاطِبَ بِالشَّيْءِ مِنْهُ عَامًّا ظَاهِرًا يُرَادُ به (العام) (1) الظَّاهِرُ، (وَيُسْتَغْنَى بِأَوَّلِهِ عَنْ آخِرِهِ، وَعَامًّا ظَاهِرًّا يراد به العام ويدخله الخاص، ويستدل على هَذَا بِبَعْضِ الْكَلَامِ، وَعَامًّا ظَاهِرًا يُرَادُ بِهِ الْخَاصُّ) (2) وَظَاهِرًا (يُعْرَفُ) (3) فِي سِيَاقِهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ غَيْرُ ذَلِكَ الظَّاهِرِ، وَالْعِلْمُ بِهَذَا كُلِّهِ مَوْجُودٌ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ أَوْ وَسَطِهِ أَوْ آخره.
وتبتدئ الشيء من كلامها يبين أول اللفظ فيه عن آخره، أو (يبين) (4) / آخره عن أوله، وتتكلم بِالشَّيْءِ تَعْرِفُهُ بِالْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ كَمَا تَعْرِفُ (بِالْإِشَارَةِ) (5)، وَهَذَا عِنْدَهَا مِنْ أَفْصَحِ كَلَامِهَا، لِانْفِرَادِهَا بِعِلْمِهِ دُونَ غَيْرِهَا مِمَّنْ يَجْهَلُهُ، وَتُسَمِّي الشَّيْءَ (الواحد) (6) (بالأسماء) (7) الكثيرة، (وتضع) (8) اللَّفْظَ الْوَاحِدَ لِلْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ.
فَهَذِهِ كُلُّهَا مَعْرُوفَةٌ (عِنْدَهَا) (9) وَتُسْتَنْكَرُ عِنْدَ غَيْرِهَا،/ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يَعْرِفُهَا مَنْ زَاوَلَ كَلَامَهُمْ وَكَانَتْ لَهُ بِهِ مَعْرِفَةٌ وَثَبَتَ رُسُوخُهُ فِي عِلْمِ ذَلِكَ.
فَمِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءِ (وَكِيلٌ) (10)، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا مِنْ دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (11) فَهَذَا مِنَ الْعَامِّ الظَّاهِرِ الَّذِي لَا خُصُوصَ (فِيهِ) (12) فَإِنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ سَمَاءٍ وَأَرْضٍ وَذِي رُوحٍ وَشَجَرٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَاللَّهُ خَالِقُهُ، وكل دابة على الله رزقها،
_________
(1) زيادة من (غ) و (ر).
(2) ما بين () ساقط من (غ) و (ر).
(3) ساقط من (غ) و (ر).
(4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): بين.
(5) في (م) و (غ) و (ر): "الإشارة".
(6) ساقط من (غ) و (ر).
(7) في (م): "الأشياء".
(8) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "وتوقع".
(9) ما بين القوسين زيادة من (ط) و (غ) و (ر).
(10) في (ت): "قدير".
(11) سورة هود: الآية (6).
(12) ساقط من (غ) و (ر).(3/254)
ويعلم مستقرها (ومستودعها) (1).
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا كَانَ لأَِهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} (2)، فَقَوْلُهُ: {مَا كَانَ لأَِهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} إنما أريد به من (أطاق الجهاد دون من/ لم يطقه فهو خاص) (3) الْمَعْنَى، وَقَوْلُهُ: {وَلاَ يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} عَامٌّ فِيمَنْ أَطَاقَ وَمَنْ لَمْ يُطِقْ، فَهُوَ عَامُّ الْمَعْنَى.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا} (4)، فَهَذَا مِنَ الْعَامِّ الْمُرَادِ بِهِ الْخَاصُّ، لِأَنَّهُمَا لَمْ يَسْتَطْعَمَا جَمِيعَ أَهْلِ الْقَرْيَةِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} (5)، فَهَذَا عَامٌّ لَمْ يَخْرُجْ عَنْهُ أَحَدٌ/ مِنَ الناس. وقال إثر هذا: {أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} فَهَذَا خَاصٌّ، لِأَنَّ التَّقْوَى إِنَّمَا تَكُونُ عَلَى مَنْ عَقَلَهَا مِنَ الْبَالِغِينَ.
وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} (6) فَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ الثَّانِي الْخُصُوصُ لَا الْعُمُومُ، وَإِلَّا/ فَالْمَجْمُوعُ لَهُمُ النَّاسُ نَاسٌ أَيْضًا وَهُمْ قَدْ خرجوا (منهم) (7)، لَكِنَّ لَفْظَ النَّاسِ يَقَعُ عَلَى ثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ، وَعَلَى جَمِيعِ النَّاسِ، وَعَلَى مَا بَيْنَ ذَلِكَ، (فصح) (8) أنْ يُقَالُ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا (لَكُمْ) (9)، والناس الأول القائلون كانوا أربعة نفر (10).
_________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت).
(2) سورة التوبة: الآية (120).
(3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "أطاق ومن لم يطق فهو عام".
(4) سورة الكهف: الآية (77).
(5) سورة الحجرات: الآية (13).
(6) سورة آل عمران: الآية (173).
(7) زيادة من (غ) و (ر).
(8) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): فيصح.
(9) ساقط من (غ) و (ر).
(10) لم أعرف من هم هؤلاء الأربعة، لكن ذكر المفسرون في المراد بالناس هنا ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم ركب لقيهم أبو سفيان من بني عبد القيس، والثاني: أن المقصود هو=(3/255)
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} (1)، فَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ هُنَا الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَنْ دُونِ اللَّهِ إِلَهًا، دُونَ الْأَطْفَالِ وَالْمَجَانِينِ وَالْمُؤْمِنِينَ.
/وَقَالَ تَعَالَى: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ} (2)، فَظَاهِرُ السُّؤَالِ عَنِ/ الْقَرْيَةِ نَفْسِهَا، وَسِيَاقُ قَوْلِهِ تعالى: {إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَهْلُهَا لِأَنَّ الْقَرْيَةَ لَا تَعْدُو وَلَا تَفْسُقُ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً} (3) الْآيَةَ، فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ: {كَانَتْ ظَالِمَةً} دَلَّ (عَلَى) (4) أَنَّ الْمُرَادَ أَهْلُهَا.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} (5) الْآيَةَ، فَالْمَعْنَى بيَّن أَنَّ الْمُرَادَ أَهْلُ الْقَرْيَةِ، وَلَا يَخْتَلِفُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِاللِّسَانِ فِي ذَلِكَ، لِأَنَّ الْقَرْيَةَ وَالْعِيرَ لَا يُخْبِرَانِ بِصِدْقِهِمْ.
هَذَا كُلُّهُ مَعْنَى تَقْرِيرِ/ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ (6) فِي هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ الثَّابِتَةِ لِلْعَرَبِ، وَهُوَ بِالْجُمْلَةِ مبيِّن أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يُفْهَمُ إِلَّا عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا أَتَى الشَّافِعِيُّ بِالنَّوْعِ الْأَغْمَضِ مِنْ طَرَائِقِ الْعَرَبِ، لِأَنَّ سَائِرَ أَنْوَاعِ التَّصَرُّفَاتِ الْعَرَبِيَّةِ قَدْ بَسَطَهَا أَهْلُهَا، وَهُمْ أَهْلُ النَّحْوِ وَالتَّصْرِيفِ، وَأَهْلُ الْمَعَانِي وَالْبَيَانِ، وَأَهْلُ الِاشْتِقَاقِ وَشَرْحِ مُفْرَدَاتِ اللُّغَةِ، وَأَهْلُ الأخبار المنقولة عن العرب (المبينة) (7) لِمُقْتَضَيَاتِ الْأَحْوَالِ، فَجَمِيعُهُ نَزَلَ (بِهِ) (8) الْقُرْآنُ، وَلِذَلِكَ أطلق عليه عبارة (العربي).
_________
=نعيم بن مسعود الأشجعي، والثالث: أنهم المنافقون. انظر تفصيل الأقوال في: تفسير ابن جرير (7 404 ـ 413)، وابن كثير (1 431)، وزاد المسير (1 504 ـ 505)، والرسالة للشافعي (ص58 ـ 60)، والله تعالى أعلم.
(1) سورة الحج: الآية (73).
(2) سورة الأعراف: الآية (163).
(3) سورة الأنبياء: الآية (11).
(4) ساقط من (غ) و (ر).
(5) سورة يوسف: الآية (82).
(6) انظر: الرسالة للشافعي (ص41 ـ 64).
(7) زيادة من (غ) و (ر).
(8) ساقط من (غ) و (ر).(3/256)
فَإِذَا ثَبَتَ/ هَذَا فَعَلَى النَّاظِرِ فِي الشَّرِيعَةِ وَالْمُتَكَلِّمِ فِيهَا أُصُولًا وَفُرُوعًا أَمْرَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ عَرَبِيًّا، أَوْ كَالْعَرَبِيِّ فِي كَوْنِهِ عَارِفًا بِلِسَانِ الْعَرَبِ، بَالِغًا فِيهِ مَبَالِغَ الْعَرَبِ، أَوْ مَبَالِغَ الْأَئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ كَالْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ وَالْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ وَدَانَاهُمْ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنْ يَكُونَ حَافِظًا كَحِفْظِهِمْ وَجَامِعًا كَجَمْعِهِمْ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنْ يَصِيرَ فَهْمُهُ عَرَبِيًّا فِي الْجُمْلَةِ/ وَبِذَلِكَ امْتَازَ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى الْمُتَأَخِّرِينَ، إِذْ بِهَذَا الْمَعْنَى أَخَذُوا أَنْفُسَهُمْ حَتَّى صَارُوا أَئِمَّةً، فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ فَحَسْبُهُ فِي فَهْمِ مَعَانِي الْقُرْآنِ التَّقْلِيدُ، (وَلَا يَحْسُنُ) (1) ظَنُّهُ بِفَهْمِهِ دُونَ أَنْ يَسْأَلَ فِيهِ أَهْلَ الْعِلْمِ/ بِهِ.
قال الشافعي رحمه الله (2) لَمَّا قَرَّرَ مَعْنَى مَا تَقَدَّمَ: ... (فَمَنْ) (3) جَهِلَ/ هَذَا مِنْ لِسَانِهَا ـ يَعْنِي لِسَانَ الْعَرَبِ ـ وَبِلِسَانِهَا نَزَلَ (الْقُرْآنُ) (4) وَجَاءَتِ (السُّنَّةُ بِهِ) (5) فَتَكَلَّفَ الْقَوْلَ في علمها تكلف ما يجهل (بعضه) (6)، ومن تكلف ما جهل وما لم (تثبته معرفته) (7) كَانَتْ مُوَافَقَتُهُ لِلصَّوَابِ ـ إِنْ وَافَقَهُ مِنْ حَيْثُ لا يعرفه ـ غير محمودة، وكان (بخطئه) (8) غير معذور، (إذا نطق) (9) فِيمَا لَا يُحِيطُ عِلْمُهُ بِالْفَرْقِ (بَيْنَ) (10) الصَّوَابِ وَالْخَطَإِ فِيهِ.
وَمَا قَالَهُ حَقٌّ، فَإِنَّ الْقَوْلَ في القرآن أو السنة بغير علم تكلف ـ وقد
_________
(1) في (م): "ويحسن" وفي (غ) و (ر): "وأن لا يحسن".
(2) انظر: الرسالة (ص53).
(3) هكذا في جميع النسخ: وفي المطبوع من الرسالة: "ممن".
(4) في (غ) و (ر): "الكتاب".
(5) هكذا في جميع النسخ وفي الرسالة: "السنة".
(6) في (ط) و (خ): لفظه.
(7) في (ط) و (م) و (خ) و (غ) و (ر): يثبته معرفة.
(8) في (ط) و (خ) و (ت): "في تخطئته". وفي (م): "في تخطيه".
(9) في (ط) و (م) و (خ): "إذا نظر". وفي (ت) والرسالة: "إذا ما نطق".
(10) في (م): "من".(3/257)
نُهِينَا عَنِ التَّكَلُّفِ ـ وَدُخُولٌ تَحْتَ مَعْنَى الْحَدِيثِ، حَيْثُ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا (فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلُّوا وأضلوا) (1) " (2) الْحَدِيثَ، لِأَنَّهُمْ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ لِسَانٌ عَرَبِيٌّ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نبيه رجع إلى فهمه الأعجمي وعقله المجرد عن التمسك بدليل، (فيضل) (3) عَنِ الْجَادَّةِ.
/وَقَدْ خرَّج ابْنُ وَهْبٍ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: أَرَأَيْتَ (الرَّجُلَ) (4) (يَتَعَلَّمُ الْعَرَبِيَّةَ) (5) (لِيُقِيمَ بِهَا) (6) لِسَانَهُ،/ وَيُصْلِحَ بِهَا مَنْطِقَهُ؟ قال: نعم فليتعلمها، فإن الرجل يقرأ (الآية) (7) فَيَعِيَا بِوَجْهِهَا فَيَهْلِكُ (8).
وَعَنِ الْحَسَنِ قَالَ: (أَهْلَكَتْهُمُ) (9) (العجمة) (10)، يتأولون (القرآن) (11) على غير تأويله (12).
والأمر الثاني: (مما على الناظر في الشريعة والمتكلم فيها) (13): أَنَّهُ إِذَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ أَوْ فِي السُّنَّةِ لَفْظٌ أَوْ مَعْنًى فَلَا يُقْدِمُ عَلَى الْقَوْلِ فِيهِ دُونَ أَنْ يَسْتَظْهِرَ بِغَيْرِهِ مِمَّنْ لَهُ عِلْمٌ بِالْعَرَبِيَّةِ فَقَدْ يَكُونُ إِمَامًا فِيهَا، وَلَكِنَّهُ يَخْفَى عَلَيْهِ الْأَمْرُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ. فَالْأَوْلَى/ فِي حَقِّهِ الِاحْتِيَاطُ، إِذْ قَدْ يَذْهَبُ/ عَلَى الْعَرَبِيِّ الْمَحْضِ بَعْضُ الْمَعَانِي الْخَاصَّةِ حتى يسأل عنها، وقد
_________
(1) ما بين () زيادة من (غ) و (ر).
(2) تقدم تخريجه (1/ 117).
(3) في (ط) و (م) و (خ): "يضل"، وفي (غ) و (ر): "فضل" ..
(4) ساقط من (غ) و (ر).
(5) في (غ) و (ر): "يتكلم بالعربية".
(6) في (ط) و (م) و (خ): "بها ليقيم". وفي هامش (ت): "ليقوّم بها".
(7) زيادة من (م). وفي (غ) و (ر): بالآية.
(8) أخرجه سعيد بن منصور في سننه (1/ 167) برقم (38)، والبيهقي في شعب الإيمان (2/ 260) برقم (1691).
(9) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): أهلكتكم.
(10) في (غ) و (ر): العجمية.
(11) زيادة من (غ) و (ر).
(12) أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (5/ 93)، وذكره في خلق أفعال العباد (ص75 و109)، وذكره الحكيم الترمذي في نوادر الأصول (4/ 26)، والمزي في تهذيب الكمال (10/ 122).
(13) ما بين القوسين زيادة من (ت).(3/258)
نقل من هذا عن الصحابة رضي الله عنهم ـ وَهُمُ الْعَرَبُ ـ فَكَيْفَ بِغَيْرِهِمْ.
نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ لَا أَدْرِي مَا: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} (1) حَتَّى أَتَانِي أَعْرَابِيَّانِ/ يَخْتَصِمَانِ فِي بِئْرٍ. فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَنَا فَطَرْتُهَا أَيْ: أَنَا ابْتَدَأْتُهَا (2).
/وَفِيمَا يُرْوَى عَنْ عُمَرَ (بْنِ الْخَطَّابِ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَأَلَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ عَنْ مَعْنَى قوله تعالى: {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} (3) فَأَخْبَرَهُ رَجُلٌ مِنْ هُذَيْلٍ أَنَّ التَّخَوُّفَ عِنْدَهُمْ (هو) (4) التنقص (5) وأشباه ذلك كثير.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: لِسَانُ الْعَرَبِ أَوْسَعُ الْأَلْسِنَةِ مَذْهَبًا، وَأَكْثَرُهَا أَلْفَاظًا، قَالَ: وَلَا نَعْلَمُهُ يُحِيطُ بِجَمِيعِ عِلْمِهِ إِنْسَانٌ غَيْرُ نَبِيٍّ وَلَكِنَّهُ لَا يَذْهَبُ منه شيء على عامتها حَتَّى (لَا) (6) يَكُونَ مَوْجُودًا/ فِيهَا مَنْ يَعْرِفُهُ، قَالَ: وَالْعِلْمُ بِهِ عِنْدَ الْعَرَبِ كَالْعِلْمِ بِالسُّنَّةِ عِنْدَ أَهْلِ (الْعِلْمِ) (7) لَا نَعْلَمُ رَجُلًا جَمَعَ السُّنَنَ فَلَمْ يَذْهَبْ مِنْهَا عَلَيْهِ شَيْءٌ، فَإِذَا جَمَعَ (عِلْمَ) (8) عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهَا أَتَى على السنن (كلها) (9)، وإذا فرق (علم) (10) كُلَّ وَاحِدٍ (مِنْهُمْ) (11) ذَهَبَ عَلَيْهِ الشَّيْءُ مِنْهَا، ثُمَّ كَانَ مَا ذَهَبَ عَلَيْهِ مِنْهَا مَوْجُودًا عِنْدَ غَيْرِهِ (مِمَّنْ كَانَ فِي طَبَقَتِهِ وَأَهْلِ عِلْمِهِ، قَالَ:) (12) وَهَكَذَا لِسَانُ الْعَرَبِ عِنْدَ خَاصَّتِهَا وعامتها، لا
_________
(1) سورة يوسف: الآية (101).
(2) أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن (ص206).
(3) سورة النحل: الآية (47).
(4) ما بين القوسين ساقط من (م) و (غ) و (ر).
(5) انظر: معاني القرآن للفراء (2 101).
(6) ساقط من (غ) و (ر).
(7) في المطبوع من الرسالة: الفقه.
(8) ما بين القوسين ساقط من (ط) و (م) و (ت) و (غ) و (ر).
(9) ما بين القوسين زيادة من (ت).
(10) زيادة من (غ) و (ر).
(11) ساقط من (غ) و (ر).
(12) في المطبوع من الرسالة بدلاً من الجملة التي بين القوسين، النص التالي: (وهم في العلم طبقات: منهم الجامع لأكثره، وإن ذهب عليه بعضه، ومنهم الجامع لأقل مما جمع غيره، وليس قليل ما ذهب من السنن على من جمع أكثرها دليلاً على أن يطلب علمه عند غير طبقته من أهل العلم، بل يطلب عند نظرائه ما ذهب عليه، حتى يؤتى على جميع سنن رسول الله، بأبي هو وأمي، فيتفرد جملة العلماء بجمعها، وهم درجات فيما وعوا منها).(3/259)
يَذْهَبُ مِنْهُ شَيْءٌ عَلَيْهَا، وَلَا يُطْلَبُ عِنْدَ غَيْرِهَا (وَلَا يَعْلَمُهُ) (1) إِلَّا مَنْ (نَقَلَهُ) (2) عَنْهَا، وَلَا يُشْرِكُهَا فِيهِ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَهَا فِي تَعَلُّمِهِ مِنْهَا، وَمَنْ قَبِلَهُ مِنْهَا فَهُوَ مِنْ أَهْلِ لِسَانِهَا، وَإِنَّمَا صَارَ غَيْرُهُمْ مِنْ غَيْرِ أهله (بتركه) (3) فَإِذَا صَارَ إِلَيْهِ صَارَ مِنْ أَهْلِهِ) (4).
/هَذَا مَا قَالَ وَلَا يُخَالِفُ فِيهِ أَحَدٌ، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى هَذَا لَزِمَ كُلُّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنْ يَتَعَلَّمَ الْكَلَامَ الَّذِي بِهِ أُدِّيَتْ، وَأَنْ لَا يَحْسُنَ ظَنُّهُ بِنَفْسِهِ قَبْلَ الشَّهَادَةِ لَهُ مِنْ أهل علم العربية بأنه ممن يَسْتَحِقُّ النَّظَرَ، وَأَنْ لَا يَسْتَقِلَّ بِنَفْسِهِ فِي الْمَسَائِلِ الْمُشْكِلَةِ الَّتِي لَمْ يُحِطْ بِهَا عِلْمُهُ دُونَ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهَا مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِهَا، فَإِنْ ثَبَتَ عَلَى هَذِهِ الْوَصَاةِ كَانَ ـ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ـ مُوَافِقًا لِمَا كَانَ عَلَيْهِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام.
روي عن عبد الله بن عمرو رضي الله/ عنهما أَنَّهُ قَالَ: قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ خير الناس؟ قال: (ذو القلب (المخموم) (5)، وَاللِّسَانِ الصَّادِقِ. قُلْنَا: قَدْ عَرَفْنَا اللِّسَانَ الصَّادِقَ، فما ذو القلب/ (المخموم) (6)؟ قَالَ: هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ الَّذِي لَا إِثْمَ فِيهِ وَلَا حَسَدَ، قُلْنَا: فَمَنْ عَلَى أَثَرِهِ؟ قال: الذي (يشنأ) (7) الدُّنْيَا وَيُحِبُّ الْآخِرَةَ، قُلْنَا: مَا نَعْرِفُ هَذَا فِينَا إِلَّا رَافِعًا مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، (قُلْنَا) (8): فَمَنْ عَلَى أَثَرِهِ؟ قَالَ: مُؤْمِنٌ فِي خُلُقٍ حَسَنٍ، قُلْنَا: أَمَّا هذا فإنه فينا) (9).
_________
(1) ساقط من (غ) و (ر).
(2) في (م) و (ت) و (غ) و (ر): "قبله".
(3) في (ط) و (م) و (ت): "لتركه".
(4) انظر: الرسالة (ص42 ـ 44).
(5) (6) في (ط) و (خ): "المهموم"، وفي (ت): "المحموم"، وما أثبته هو الموافق لنص الحديث.
(7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "ينسى".
(8) ساقط من (غ) و (ر).
(9) أخرجه ابن ماجه (4216)، والطبراني في مسند الشاميين (1218)، وأبو نعيم في الحلية (1 183)، و (6 69)، والبيهقي في شعب الإيمان (6604)، وذكر ابن حجر في الإصابة (2 447)، الخلاف في اسم الصحابي المذكور في الحديث، هل هو رافع أو أبو رافع؟ ورجح الأول، والحديث صححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (948).(3/260)
وَيُرْوَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُدَالِكُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ؟ قَالَ: "نَعَمْ إِذَا كَانَ مُلْفَجاً (1)، فَقَالَ لَهُ/ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا قُلْتُ وَمَا قَالَ لَكَ (يَا رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ وَسَلَّمَ) (2)؟ فَقَالَ: قَالَ: أَيُمَاطِلُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ إِذَا كَانَ فَقِيرًا"، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا رَأَيْتُ (الَّذِي هُوَ) (3) أَفْصَحُ مِنْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فقال: وكيف لَا وَأَنَا مِنْ قُرَيْشٍ، وَأُرْضِعْتُ فِي بَنِي/ سَعْدٍ (4).
فَهَذِهِ أَدِلَّةٌ تَدَلُّ عَلَى أَنَّ بَعْضَ اللُّغَةِ يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِ بَعْضِ الْعَرَبِ، فَالْوَاجِبُ السُّؤَالُ كَمَا سَأَلُوا فَيَكُونُ/ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ، (وَإِلَّا زَلَّ) (5) فَقَالَ فِي الشَّرِيعَةِ بِرَأْيِهِ لَا (بِلِسَانِهَا) (6) وَلْنَذْكُرْ لِذَلِكَ سِتَّةَ أَمْثِلَةٍ:
أَحَدُهَا: قَوْلُ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ (7) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} (8) أَنَّ تَأْوِيلَ هَذِهِ الْآيَةِ لَمْ يَجِئْ بَعْدُ، وَكَذَبَ فَإِنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ مَذْهَبَ الرَّافِضَةِ، فَإِنَّهَا تَقُولُ: إِنَّ عَلِيًّا فِي السَّحَابِ فَلَا يَخْرُجُ مَعَ مَنْ خَرَجَ مِنْ وَلَدِهِ حَتَّى يُنَادِيَ عَلِيٌّ مِنَ السَّمَاءِ: اخْرُجُوا مَعَ فُلَانٍ، فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} الْآيَةَ، عِنْدَ جَابِرٍ حَسْبَمَا فَسَّرَهُ سُفْيَانُ مِنْ قوله: لم يجئ (تأويل هذه) (9)، (قال سفيان: وكذب) (10) كانت
_________
(1) مُلْفَجاً بضم الميم وسكون اللام وفتح الفاء، هكذا ضبطه ابن منظور في لسان العرب، وهو هنا بمعنى: أن للرجل أن يماطل زوجته في المهر إذا كان فقيراً. انظر: لسان العرب لابن منظور، مادة (لفج).
(2) ساقط من (غ) و (ر).
(3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): هو الذي.
(4) أخرجه بنحوه الجرجاني في تاريخه (1 187)، برقم (255)، وذكر العجلوني في كشف الخفاء (1 72)، أن ثابتاً السرقسطي أخرجه في الدلائل بسندٍ واهٍ، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (2185).
(5) في (م): "وإذ لا زال".
(6) في (م): "بلسانه".
(7) هو جابر بن يزيد بن الحارث الجعفي الكوفي، ضعيف رافضي، التقريب (878).
(8) سورة يوسف: الآية (80).
(9) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "بعد بل هذه الآية".
(10) زيادة من (م) و (غ) و (ر)، وهي كذلك في صحيح مسلم.(3/261)
الآية فِي إِخْوَةِ يُوسُفَ، وَقَعَ ذَلِكَ فِي مُقَدِّمَةِ كِتَابِ مُسْلِمٍ (1).
وَمَنْ كَانَ ذَا عَقْلٍ فَلَا يَرْتَابُ فِي أَنَّ سِيَاقَ الْقُرْآنِ دَالٌّ عَلَى مَا قَالَ سُفْيَانُ، وَأَنَّ مَا قَالَهُ جَابِرٌ لَا يَنْسَاقُ.
وَالثَّانِي: / قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يجوز للرجل نكاح تسع من (الحرائر) (2) مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} (3) لِأَنَّ أَرْبَعًا إِلَى ثَلَاثٍ إِلَى اثْنَتَيْنِ تِسْعٌ (4)، وَلَمْ يَشْعُرْ بِمَعْنَى فُعَالٍ وَمَفْعَلٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَأَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ، فَانْكِحُوا إِنْ شِئْتُمُ اثْنَتَيْنِ اثْنَتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا (ثَلَاثًا) (5)، أَوْ أَرْبَعًا أَرْبَعًا عَلَى التَّفْصِيلِ لَا عَلَى مَا قَالُوا.
وَالثَّالِثُ: قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمُحَرَّمَ مِنَ الْخِنْزِيرِ إِنَّمَا هُوَ اللَّحْمُ (6)، وَأَمَّا الشَّحْمُ/ فَحَلَالٌ لِأَنَّ الْقُرْآنَ إِنَّمَا حرَّم اللَّحْمَ دُونَ الشَّحْمِ، وَلَوْ عَرَفَ أَنَّ اللَّحْمَ يُطْلَقُ عَلَى الشَّحْمِ أَيْضًا ـ بِخِلَافِ الشَّحْمِ فَإِنَّهُ لَا يُطْلَقُ عَلَى اللَّحْمِ ـ لَمْ يَقُلْ مَا قَالَ.
وَالرَّابِعُ: قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ كُلَّ شَيْءً فَانٍ حَتَّى ذَاتِ الْبَارِي ـ تَعَالَى اللَّهُ/ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا ـ مَا عَدَا الْوَجْهَ (7) بِدَلِيلِ: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ
_________
(1) انظر: صحيح مسلم (1 20 ـ 21).
(2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الحلائل".
(3) سورة النساء: الآية (3).
(4) الذين قالوا بجواز نكاح تسعة نساء هم الرافضة، وقد رد عليهم العلماء في تفسيرهم لهذه الآية وأن الإجماع منعقد على حرمة الجمع بين أكثر من أربع نساء. انظر: تفسير ابن جرير (7 546)، وابن كثير (1 451)، والقرطبي (5 13)، والشوكاني (1 420، 421)، وزاد المسير (2 7 ـ 8)، وأحكام القرآن للجصاص (2 55)، والمحلى لابن حزم (10 441).
(5) ما بين القوسين ساقط من (ط).
(6) ذكر ابن كثير أن الذين أباحوا شحم الخنزير دون لحمه هم بعض أهل الظاهر، وقد رد عليهم في تفسيره (2 8 ـ 9)، والشوكاني في فتح القدير (1 169)، وذكر القرطبي في الجامع لأحكام القرآن (2 150)، الإجماع على تحريم شحم الخنزير، وأطال ابن حزم في الرد على من أباح شيئاً من الخنزير في المحلى (7 388 ـ 392).
(7) الذي قال هذه المقولة هو بيان بن سمعان، انظر: مقالات الإسلاميين (ص5)، والملل والنحل (1 152)، والفرق بين الفرق (ص236).(3/262)
وَجْهَهُ} (1)، وإنما المراد بالوجه (ها) (2) هُنَا غَيْرُ مَا قَالَ، فَإِنَّ لِلْمُفَسِّرِينَ فِيهِ تأويلات، (وقصدُ) (3) هذا القائل لَا يَتَّجِهُ لُغَةً وَلَا (مَعْنًى) (4)، وَأَقْرَبُ قَوْلٍ لِقَصْدِ هَذَا الْمِسْكِينِ أَنْ يُرَادَ بِهِ ذُو الْوَجْهِ كَمَا تَقُولُ: فَعَلْتُ هَذَا لِوَجْهِ فُلَانٍ، أَيْ لِفُلَانٍ، فَكَانَ مَعْنَى الْآيَةِ: كُلُّ شَيْءٍ هالك إلا هو، و (نحوه) (5) قوله تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} (6)، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ *ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ} (7).
وَالْخَامِسُ: قَوْلُ مَنْ زَعَمَ، أَنَّ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَنْبًا (8) مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} (9)، وَهَذَا لَا مَعْنَى لِلْجَنْبِ فِيهِ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا، لِأَنَّ الْعَرَبَ/ تَقُولُ: هَذَا الْأَمْرُ يصغر في جنب هذا، أي (هذا) (10) يصغر بالإضافة إلى (هذا) (11) الآخر، فكذلك
_________
(1) سورة القصص: الآية (88).
(2) زيادة من (غ) و (ر).
(3) في (غ) و (ر): "والذي قصد".
(4) في (ط): "يعني".
(5) زيادة من (غ) و (ر).
(6) سورة الإنسان: الآية (9).
(7) سورة الرحمن: الآيتان: (26، 27).
(8) الصحيح في تفسير هذه الآية هو ما ذكره الشاطبي ـ رحمه الله ـ قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ... من أين في ظاهر القرآن إثبات جنب واحد صفة لله ومن المعلوم أن هذا لا يثبته جميع مثبتة الصفات الخبرية، بل كثير منهم ينفون ذلك بل ينفون قول أحد منهم بذلك ... والتفريط فعل أو ترك فعل، وهذا لا يكون قائماً بذات الله لا في جنب، ولا في غيره، بل يكون منفصلاً عن الله، وهذا معلوم بالحس والمشاهدة، فظاهر القرآن يدل على أن قول القائل يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ الله ليس أنه جعل فعله أو تركه في جنب يكون من صفات الله تعالى ... والصحيح أن المراد التقصير في طاعة الله تعالى، لأن التفريط لا يقع في جنب الصفة، وإنما يقع في الطاعة والعبادة، هذا مستعمل في كلامهم، فلان في جنب فلان، يريدون بذلك في طاعته وخدمته والتقرب منه، ويبين صحة هذا التأويل ما في سياق الآية: فأكون من المحسنين، فأكون من المتقين، وهذا كله راجع إلى الطاعات ... وقد اعتبر أحمد القرائن في مثل هذا فقال في قوله: (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم) قال: المراد به علم الله، لأن الله افتتح الآية بالعلم، وختمها بالعلم ... ) انظر: مخطوط نقض أساس التقديس (3 لوحة 6 ـ لوحة 9) باختصار.
(9) سورة الزمر: الآية (56).
(10) زيادة من (غ) و (ر).
(11) ما بين القوسين زيادة من (ت).(3/263)
الْآيَةُ مَعْنَاهَا يَا حَسْرَتَا عَلَى (مَا فَرَّطْتُ) (1) فيما بيني وبين الله، إذا أضفت تفريطي إلى أمره (لي) (2) وَنَهْيِهِ إِيَّايَ.
/وَالسَّادِسُ: قَوْلُ مَنْ قَالَ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ" (3) إِنَّ هَذَا/ الَّذِي فِي الْحَدِيثِ هُوَ مَذْهَبُ الدَّهْرِيَّةِ، وَلَمْ يَعْرِفْ أَنَّ الْمَعْنَى: لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ (إِذَا أَصَابَتْكُمُ الْمَصَائِبَ، وَلَا تَنْسُبُوهَا إِلَيْهِ، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي أَصَابَكُمْ بِذَلِكَ لَا الدَّهْرُ) (4)، فَإِنَّكُمْ إِذَا سَبَبْتُمُ الدَّهْرَ وَقَعَ السَّبُّ عَلَى الفاعل (في الحقيقة) (5) لَا عَلَى الدَّهْرِ، لِأَنَّ الْعَرَبَ (كَانَ) (6) مِنْ عَادَتِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ تَنْسُبَ الْأَفْعَالَ إِلَى الدَّهْرِ فَتَقُولُ: أَصَابَهُ الدَّهْرُ فِي مَالِهِ، وَنَابَتْهُ قوارع الدهر ومصائبه. فينسبون (كُلِّ) (7) شَيْءٍ تَجْرِي بِهِ أَقْدَارُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ إِلَى الدَّهْرِ، فَيَقُولُونَ: لَعَنَ اللَّهُ الدَّهْرَ، (ومحق) (8) اللَّهُ الدَّهْرَ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ وَإِنَّمَا يَسُبُّونَهُ لِأَجْلِ (الْفِعَالِ الْمَنْسُوبَةِ) (9) إِلَيْهِ، فَكَأَنَّهُمْ إِنَّمَا سَبُّوا الْفَاعِلَ، و (إنما) (10) الفاعل هُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ، فَكَأَنَّهُمْ يَسُبُّونَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
فَقَدْ ظَهَرَ بِهَذِهِ الْأَمْثِلَةِ كَيْفَ يَقَعُ الْخَطَأُ فِي الْعَرَبِيَّةِ فِي كَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وسنة نبيه (محمد) (11) صلّى الله عليه وسلّم، وأن ذلك (قد) (12) يُؤَدِّي إِلَى تَحْرِيفِ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ،/ وَالصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بُرَآءٌ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ
_________
(1) في (ط) و (خ): ما فرطت في جنب الله أي.
(2) زيادة من (ت) و (غ) و (ر).
(3) أخرجه البخاري (4826 و6181 و6182 و7491)، وفي الأدب المفرد (769)، ومسلم (2246)، والحميدي في مسنده (1096)، وأحمد (2 238 و272 و275)، وأبو داود (5274)، والنسائي في السنن الكبرى (11486 و11487)، وابن حبان (5715)، والحاكم (3690 و3692)، ومسند الشهاب (920 و921)، والبيهقي في السنن الكبرى (6285 و6286).
(4) ما بين () ساقط من (غ) و (ر).
(5) زيادة من (ت).
(6) ساقط من (غ) و (ر).
(7) في (ط) و (خ) و (ت): "إلى كل".
(8) في (ط) و (م) و (خ): ومحا وفي (غ) و (ر): "ولحى".
(9) في (غ) و (ر): "الفعل المنسوب".
(10) زيادة من (غ) و (ر).
(11) ما بين القوسين ساقط من (م) و (غ) و (ر).
(12) زيادة من (غ) و (ر).(3/264)
عَرَبٌ لَمْ يَحْتَاجُوا فِي فَهْمِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى أَدَوَاتٍ وَلَا تَعَلُّمٍ، ثُمَّ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ مِمَّنْ لَيْسَ بِعَرَبِيِّ اللِّسَانِ تَكَلَّفَ ذَلِكَ حَتَّى عَلِمَهُ، وَحِينَئِذٍ دَاخَلَ الْقَوْمَ فِي فَهْمِ الشَّرِيعَةِ/ (وَتَنْزِيلِهَا) (1) عَلَى مَا يَنْبَغِي فِيهَا كسلمان الفارسي رضي الله عنه وَغَيْرِهِ، فَكُلُّ مَنِ اقْتَدَى بِهِمْ فِي تَنْزِيلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ ـ إِنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ ـ فَهُوَ ـ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ـ دَاخِلٌ فِي سَوَادِهِمُ الْأَعْظَمِ، كَائِنٌ عَلَى ما كانوا عليه، فانتظم في سلك (الفرقة) (2) الناجية.
_________
(1) في (غ) و (ر): "وتنزلها".
(2) زيادة من (غ) و (ر).(3/265)
فصل
/النوع الثاني: (1) (الجهل بمقاصد الشرع، اعلم) (2) إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ الشَّرِيعَةَ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْخَلْقُ فِي تَكَالِيفِهِمُ الَّتِي أُمِرُوا بِهَا/ وَتَعَبُّدَاتِهِمُ الَّتِي طَوَّقُوهَا فِي أَعْنَاقِهِمْ، وَلَمْ يَمُتْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى كَمُلَ/ الدِّينُ بِشَهَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} (3) فَكُلُّ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ بَقِيَ (فِي) (4) الدِّينِ شَيْءٌ لَمْ يَكْمُلْ فَقَدْ كَذَبَ بِقَوْلِهِ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}.
ولا يُقَالُ: قَدْ وَجَدْنَا مِنَ النَّوَازِلِ وَالْوَقَائِعِ الْمُتَجَدِّدَةِ ما لم يكن في الكتاب و (لا فِي) (5) السُّنَّةِ نَصٌّ عَلَيْهِ، وَلَا عُمُومٌ يَنْتَظِمُهُ، (كمسائل) (6) الْجَدِّ فِي الْفَرَائِضِ، وَالْحَرَامِ فِي الطَّلَاقِ، وَمَسْأَلَةَ السَّاقِطِ عَلَى جَرِيحٍ مَحْفُوفٍ بِجَرْحَى، وَسَائِرَ الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ الَّتِي لَا نَصَّ فِيهَا مِنْ كِتَابٍ ولا سنة: فأين (الكمال) (7) فيها؟
(لأنا نقول) (8) / فِي الْجَوَابِ: أَوَّلًا إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} إِنِ اعْتُبِرَتْ (فِيهَا) (9) الْجُزْئِيَّاتُ مِنَ الْمَسَائِلِ وَالنَّوَازِلِ فهو كما
_________
(1) النوع الثاني من أسباب الإحداث في الشريعة.
(2) ما بين القوسين زيادة من (ت).
(3) سورة المائدة: الآية (3).
(4) في (غ) و (ر): "من".
(5) ساقط من (غ) و (ر).
(6) في (ط) و (م) و (خ) و (غ) و (ر): "وأن مسائل" والتصحيح من هامش (ت).
(7) في (ط): "الكلام".
(8) في (ط) و (م) و (خ) و (غ) و (ر): "فيقال".
(9) في (غ) و (ر): "فيه".(3/266)
أَوْرَدْتُمْ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ كُلِّيَّاتُهَا، فَلَمْ يَبْقَ لِلدِّينِ قَاعِدَةٌ يُحْتَاجُ إِلَيْهَا فِي الضَّرُورِيَّاتِ وَالْحَاجِيَّاتِ أَوِ التَّكْمِيلِيَّاتِ إِلَّا وَقَدْ بُيِّنَتْ غَايَةَ الْبَيَانِ، نَعَمْ يَبْقَى تَنْزِيلُ الْجُزْئِيَّاتِ عَلَى تِلْكَ الْكُلِّيَّاتِ مَوْكُولًا إِلَى نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ، فَإِنَّ قَاعِدَةَ الِاجْتِهَادِ (أَيْضًا ثابتة) (1) في الكتاب والسنة، فلا بد من إعمالها. ولا يسع تركها، وإذا (ثبتت) (2) فِي الشَّرِيعَةِ أَشْعَرَتْ بِأَنَّ ثَمَّ مَجَالًا لِلِاجْتِهَادِ، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ إِلَّا فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ الْكَمَالَ بِحَسَبِ تَحْصِيلِ الْجُزْئِيَّاتِ بِالْفِعْلِ، فَالْجُزْئِيَّاتُ لَا نِهَايَةَ لَهَا، فَلَا تَنْحَصِرُ بِمَرْسُومٍ، وَقَدْ نَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، فَإِنَّمَا الْمُرَادُ الْكَمَالُ بِحَسَبِ مَا يحتاج إليه من القواعد الكلية الَّتِي يَجْرِي عَلَيْهَا مَا لَا نِهَايَةَ (لَهُ) (3) مِنَ النَّوَازِلِ.
ثُمَّ نَقُولُ ثَانِيًا: إِنَّ النَّظَرَ فِي كَمَالِهَا بِحَسَبِ خُصُوصِ الْجُزْئِيَّاتِ يُؤَدِّي إِلَى// الْإِشْكَالِ وَالِالْتِبَاسِ/ وَإِلَّا فَهُوَ الَّذِي أَدَّى إِلَى إِيرَادِ هَذَا السُّؤَالِ، إِذْ لَوْ نَظَرَ السَّائِلُ إِلَى (الْحَالَةِ) (4) الَّتِي وُضِعَتْ عَلَيْهَا الشَّرِيعَةُ، وَهِيَ حَالَةُ الْكُلِّيَّةِ، لَمْ يُورِدْ سُؤَالَهُ، لِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ عَلَى الْأَبَدِيَّةِ، وَإِنْ وُضِعَتِ الدُّنْيَا عَلَى الزَّوَالِ وَالنِّهَايَةِ.
وَأَمَّا الْجُزْئِيَّةُ فَمَوْضُوعَةٌ عَلَى النِّهَايَةِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى/ الْحَصْرِ فِي التَّفْصِيلِ، وَإِذْ ذَاكَ قَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّهَا لَمْ تَكْمُلْ فَيَكُونُ خِلَافًا لِقَوْلِهِ تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (5) الْآيَةَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ هُوَ الصَّادِقُ، وَمَا خَالَفَهُ فَهُوَ الْمُخَالِفُ، فَظَاهِرٌ إِذْ ذاك أن الآية على عمومها وإطلاقها (صحيحة) (6)، وَأَنَّ النَّوَازِلَ الَّتِي لَا عَهْدَ بِهَا لَا تُؤَثِّرُ فِي صِحَّةِ هَذَا الْكَمَالِ، (لِأَنَّهَا) (7) إِمَّا مُحْتَاجٌ إِلَيْهَا وَإِمَّا غَيْرُ مُحْتَاجٍ (إِلَيْهَا) (8) فَإِنْ كانت محتاجاً إليها
_________
(1) في (ت): "ثابتة أيضاً".
(2) في (م): "ثبت".
(3) ساقط من (غ) و (ر).
(4) في (غ) و (ر): "الحاجة".
(5) سورة النحل: الآية (89).
(6) زيادة من (م) و (غ) و (ر).
(7) في (ت): "وهي" وساقطة من (خ) و (م) و (ط).
(8) في (غ) و (ر): "إليه".(3/267)
فَهِيَ مَسَائِلُ الِاجْتِهَادِ الْجَارِيَةُ عَلَى الْأُصُولِ الشَّرْعِيَّةِ فأحكامها قد تقدمت، ولم يبق إلا نظر المجتهد إلى أي دليل (تستند) (1) خاصة، وإما غَيْرَ (مُحْتَاجٍ) (2) إِلَيْهَا، فَهِيَ الْبِدَعُ الْمُحْدَثَاتُ، إِذْ لَوْ كَانَتْ مُحْتَاجًا إِلَيْهَا لَمَا سَكَتَ عَنْهَا فِي الشَّرْعِ، لَكِنَّهَا مَسْكُوتٌ عَنْهَا بِالْفَرْضِ وَلَا دَلِيلَ/ عَلَيْهَا فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَلَيْسَتْ بِمُحْتَاجٍ إِلَيْهَا، فَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ (قَدْ كَمُلَ الدِّينُ) (3) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.
وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي فَهِمَهُ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، أَنَّهُمْ لَمْ يُسْمَعْ عَنْهُمْ قَطُّ إِيرَادُ ذَلِكَ السُّؤَالِ، وَلَا قَالَ أَحَدٌ مِنْهُمْ: لِمَ لَمْ يَنُصَّ عَلَى حُكْمِ الْجَدِّ مَعَ الْإِخْوَةِ؟ وَعَلَى حُكْمِ مَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عليَّ حَرَامٌ؟ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَجِدُوا فِيهِ عَنِ الشَّارِعِ نَصًّا، بَلْ قَالُوا فِيهَا وَحَكَمُوا بالاجتهاد/ واعتبروا (فيها) (4) بِمَعَانٍ شَرْعِيَّةٍ تَرْجِعُ فِي التَّحْصِيلِ إِلَى الْكِتَابِ/ والسنة، وإن لم يكن (ذلك) (5) بِالنَّصِّ فَإِنَّهُ بِالْمَعْنَى، فَقَدْ ظَهَرَ إِذًا/ وَجْهُ كمال الدين على أتم الوجوه.
(ثم ننتقل) (6) مِنْهُ إِلَى مَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى أنزل القرآن مبرءاً عَنِ الِاخْتِلَافِ وَالتَّضَادِّ، لِيَحْصُلَ فِيهِ كَمَالُ التَّدَبُّرِ وَالِاعْتِبَارِ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا *} (7)، فَدَلَّ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ بَرِيءٌ مِنَ الِاخْتِلَافِ، فَهُوَ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَيُعَضِّدُ بَعْضُهُ بَعْضًا، مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى.
فأما جهة اللفظ فإن الفصاحة فيه (متوازرة) (8) / مُطَّرِدَةٌ، بِخِلَافِ كَلَامِ الْمَخْلُوقِ، فَإِنَّكَ تَرَاهُ إِلَى الِاخْتِلَافِ مَا هُوَ، فَيَأْتِي بِالْفَصْلِ مِنَ الْكَلَامِ الجزل
_________
(1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): يستند.
(2) في (م): "مستند".
(3) في (غ) و (ر): "كررة الجملة".
(4) زيادة من (غ) و (ر).
(5) ساقط من (غ) و (ر).
(6) في (م): "ننتقل". وفي (ط) و (خ) و (ت): "وننتقل".
(7) سورة النساء: الآية (82).
(8) في (ط): "متواترة".(3/268)
الْفَصِيحِ فَلَا يَكَادُ يَخْتِمُهُ إِلَّا وَقَدْ عَرَضَ له في أثنائه ما (يغض عليه) (1) مِنْ مَنْصِبِ فَصَاحَتِهِ، وَهَكَذَا تَجِدُ الْقَصِيدَةَ الْوَاحِدَةَ مِنْهَا مَا يَكُونُ عَلَى نَسَقِ الْفَصَاحَةِ اللَّائِقَةِ، وَمِنْهَا مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ.
وَأَمَّا/ جِهَةُ الْمَعْنَى، فَإِنَّ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ عَلَى كَثْرَتِهَا أَوْ على تكرارها بحسب مقتضيات الأحوال على (نمط) (2) وبلوغ غاية في (اتصالها) (3) إِلَى غَايَتِهَا، مِنْ غَيْرِ إِخْلَالٍ بِشَيْءٍ مِنْهَا، وَلَا تَضَادٍّ وَلَا تَعَارُضٍ، عَلَى وَجْهٍ لَا سَبِيلَ إِلَى الْبَشَرِ أَنْ يُدَانُوهُ، وَلِذَلِكَ لَمَّا سَمِعَتْهُ أَهْلُ الْبَلَاغَةِ الْأُولَى وَالْفَصَاحَةِ (الْأَصْلِيَّةِ) (4) ـ وَهُمُ الْعَرَبُ ـ لَمْ يُعَارِضُوهُ، وَلَمْ يُغَيِّرُوا فِي وَجْهِ إِعْجَازِهِ بِشَيْءٍ مِمَّا نَفَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، (وَهُمْ) (5) أَحْرَصُ مَا كَانُوا عَلَى الِاعْتِرَاضِ فِيهِ وَالْغَضِّ مِنْ جَانِبِهِ، ثُمَّ لَمَّا أَسْلَمُوا (وَعَايَنُوا) (6) مَعَانِيَهُ وَتَفَكَّرُوا فِي غَرَائِبِهِ، لَمْ يَزِدْهُمُ الْبَحْثُ إِلَّا بَصِيرَةً فِي أَنَّهُ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ وَلَا تَعَارُضَ، وَالَّذِي نُقِلَ مِنْ ذَلِكَ يَسِيرٌ تَوَقَّفُوا فِيهِ تَوَقُّفَ الْمُسْتَرْشِدِ حَتَّى يُرْشَدُوا إِلَى وَجْهِ الصَّوَابِ، أَوْ تَوَقُّفَ الْمُتَثَبِّتِ فِي الطَّرِيقِ.
/وَقَدْ صَحَّ أَنَّ سَهْلَ/ بْنِ حُنَيْفٍ (7) قَالَ يَوْمَ صفِّين وَحُكْمِ (الْحَكَمَيْنِ) (8): يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ، فَلَقَدْ رَأَيْتُنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ (9) وَلَوْ نَسْتَطِيعُ أَنْ نَرُدَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَهُ لَرَدَدْنَاهُ، وَايْمُ اللَّهِ مَا وَضَعْنَا سُيُوفَنَا مِنْ (عَلَى) (10) عَوَاتِقِنَا منذ أسلمنا لأمر يفظعنا إلا
_________
(1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): نقص.
(2) في سائر النسخ وهامش (ت): "حفظ".
(3) في سائر النسخ وهامش (ت): "إيصالها".
(4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الأصلية".
(5) ساقط من (غ) و (ر).
(6) في (غ) و (ر): "وعانوا".
(7) هو سهل بن حنيف الأنصاري البدري، كان من أمراء علي رضي الله عنه في صفِّين، توفي بالكوفة سنة 38هـ، انظر: طبقات ابن سعد (3 471)، والسير (2 325).
(8) في (غ) و (ر): "الحكمان".
(9) هو العاص بن سهيل بن عمرو العامري القرشي، أسلم في مكة فقيده أبوه، ثم هرب بعد صلح الحديبية، وتوفي شهيداً في الشام سنة 18هـ، انظر: السير (1 192).
(10) ما بين القوسين ساقط من (م) وفي (غ) و (ر): عن، بدون حرف من السابق.(3/269)
(أسهلن) (1) بنا إلى أَمْرٌ نَعْرِفُهُ ـ الْحَدِيثَ (2).
فَوَجْهُ الشَّاهِدِ مِنْهُ أَمْرَانِ: قَوْلُهُ: (اتَّهِمُوا الرَّأْيَ) فَإِنَّ مُعَارَضَةُ (الظَّوَاهِرِ) (3) فِي غَالِبِ الْأَمْرِ رَأْيٌ غَيْرُ مَبْنِيٍّ عَلَى (أَصْلٍ) (4) يُرْجَعُ إِلَيْهِ، وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ وَهُوَ النُّكْتَةُ فِي الْبَابِ: وَاللَّهِ مَا وَضَعْنَا سُيُوفَنَا إِلَى آخِرِهِ، فَإِنَّ مَعْنَاهُ: أَنَّ كُلَّ مَا وَرَدَ عَلَيْهِمْ فِي شَرْعِ اللَّهِ مِمَّا يُصَادِمُ الرَّأْيَ فَإِنَّهُ حَقٌّ يَتَبَيَّنُ عَلَى التَّدْرِيجِ حَتَّى يَظْهَرَ فَسَادُ ذَلِكَ الرَّأْيِ، وَأَنَّهُ كَانَ شُبْهَةً عَرَضَتْ وَإِشْكَالًا يَنْبَغِي أَنْ لَا يُلْتَفَتَ إِلَيْهِ، بَلْ يُتَّهَمُ أَوَّلًا وَيُعْتَمَدُ عَلَى مَا جَاءَ فِي الشَّرْعِ، فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يَتَبَيَّنِ الْيَوْمَ تَبَيَّنَ غَدًا/، وَلَوْ فُرِضَ أَنَّهُ لَا يَتَبَيَّنُ أَبَدًا فَلَا حَرَجَ، فَإِنَّهُ مُتَمَسِّكٌ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى.
وَفِي الصحيح عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ/ (هِشَامَ) (5) بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاسْتَمَعْتُ لِقِرَاءَتِهِ، فَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكِدْتُ/ أَسَاوِرُهُ فِي الصَّلَاةِ، فَصَبَرْتُ حَتَّى سَلَّمَ، (فَلَبَّبَتْهُ) (6) بِرِدَائِهِ، فَقُلْتُ: مَنْ أَقْرَأَكَ هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِي سَمِعْتُكَ تَقْرَأُ. فَقَالَ: أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقُلْتُ: كَذَبْتَ، فَإِنَّ/ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَقْرَأَنِيهَا عَلَى غَيْرِ مَا قَرَأْتَ فَانْطَلَقْتُ بِهِ أَقُودُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا/ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ
_________
(1) في (ت): انتهى.
(2) أخرجه بنصه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2 38)، وأصل الحديث أخرجه البخاري (7308 و3182، و4189 و4844 و3181)، وسعيد بن منصور في سننه ـ تحقيق الأعظمي ـ (2969)، ومسلم (1785)، والحميدي في مسنده (404) وابن أبي شيبة في المصنف (19717)، وأحمد في المسند، (3 485)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1911 و1912) والطبراني في المعجم الصغير (775)، وفي الكبير (5598 ـ5605)، والبيهقي في السنن الكبرى (18593).
(3) في (غ) و (ر): "الظاهر".
(4) في (غ) و (ر): "شيء أصل".
(5) في (ت): همام، والصواب هشام، هو هشام بن حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد القرشي، له صحبة ورواية في مسلم وأبي داود والنسائي، توفي في آخر خلافة معاوية رضي الله عنه، انظر: الجرح والتعديل (9 53)، والسير (3 51).
(6) في (م): "فلتفته".(3/270)
عَلَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَرْسِلْهُ (1) اقْرَأْ يَا (هِشَامُ) (2). فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ، (ثُمَّ قَالَ) (3): اقْرَأْ يَا عُمَرُ ـ فقرأت القراءة التي أقرأني ـ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (4): كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سبعة أحرف، فاقرأوا (مَا) (5) تَيَسَّرَ مِنْهُ" (6).
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ إِنَّمَا هِيَ إشكال وقع لبعض الصحابة رضي الله عنهم فِي نَقْلِ الشَّرْعِ، بيَّن لَهُمْ جَوَابَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ فِيهِ اخْتِلَافًا، فَإِنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ الْمُكَلَّفِينَ فِي بَعْضِ مَعَانِيهِ أَوْ مَسَائِلِهِ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ نَفْسُهُ اخْتِلَافٌ، فَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْأُمَمُ فِي النُّبُوَّاتِ وَلَمْ يَكُنْ (ذَلِكَ) (7) دَلِيلًا عَلَى وُقُوعِ الِاخْتِلَافِ فِي نَفْسِ النُّبُوَّاتِ، وَاخْتَلَفَتْ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ مِنْ عُلُومِ التَّوْحِيدِ وَلَمْ يَكُنِ اخْتِلَافُهُمْ دَلِيلًا عَلَى وُقُوعِ الِاخْتِلَافِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَكَذَلِكَ مَا نَحْنُ فِيهِ.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا صَحَّ مِنْهُ أَنَّ الْقُرْآنَ فِي نَفْسِهِ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ.
ثُمَّ نَبْنِي عَلَى هَذَا مَعْنًى آخَرَ وَهُوَ: أَنَّهُ لَمَّا تَبَيَّنَ تَنَزُّهُهُ عَنِ الِاخْتِلَافِ، صَحَّ أَنْ يَكُونَ حَكَمًا بَيْنَ جَمِيعِ الْمُخْتَلِفِينَ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُقَرِّرُ مَعْنًى هُوَ الْحَقُّ، وَالْحَقُّ لَا يَخْتَلِفُ فِي نَفْسِهِ، فَكُلُّ اخْتِلَافٍ صَدَرَ مِنْ مُكَلَّفٍ فَالْقُرْآنُ هُوَ الْمُهَيْمِنُ عَلَيْهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} (8) وأعم من هذا قوله تعالى: {كَانَ
_________
(1) ساقط من (غ) و (ر).
(2) في (ت): "همام". وفي (غ) و (ر): "هاشم".
(3) في (غ) و (ر): "فقال".
(4) زيادة من (غ) و (ر).
(5) في (غ) و (ر): "بما" والصواب: "ما" وهو الموافق لرواية البخاري.
(6) أخرجه البخاري (4992)، ومسلم (818)، ومالك في الموطأ (473)، وأحمد (1 24 و40 و42 و43 و263)، وأبو داود (1475)، والترمذي (2943)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (598)، والنسائي في المجتبى (936 ـ 938) وفي الكبرى (1008 ـ 1010 و7985 و11366)، وابن حبان (741)، والبيهقي في السنن الكبرى (3799).
(7) ساقط من (غ) و (ر).
(8) سورة المائدة: الآية (48).(3/271)
النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} (1)، ثم قال: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ}، وَقَالَ تَعَالَى) (2): {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (3)./ فهذه الآي وَمَا أَشْبَهَهَا صَرِيحَةٌ فِي الرَّدِّ إِلَى كِتَابِ الله تعالى وإلى سنة نبيه صلّى الله عليه وسلّم/ لِأَنَّ السُّنَّةَ بَيَانُ الْكِتَابِ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ فِيهِ وَاضِحٌ، وَأَنَّ الْبَيَانَ فِيهِ شَافٍ، لَا شَيْءَ بَعْدَهُ يَقُومُ مَقَامَهُ، وَهَكَذَا فَعَلَ/ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا اخْتَلَفُوا فِي مَسْأَلَةٍ ردُّوها إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَقَضَايَاهُمْ/ شَاهِدَةٌ بِهَذَا الْمَعْنَى، لَا يَجْهَلُهَا مَنْ زَاوَلَ الْفِقْهَ، فَلَا فَائِدَةَ فِي جَلْبِهَا إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ لِشُهْرَتِهَا، فَهُوَ إِذًا مِمَّا كان عليه الصحابة رضي الله عنهم.
فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَعَلَى النَّاظِرِ فِي الشَّرِيعَةِ بِحَسَبِ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ أَمْرَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهَا بِعَيْنِ الْكَمَالِ لَا بِعَيْنِ النُّقْصَانِ، وَيَعْتَبِرَهَا اعْتِبَارًا كُلِّيًّا فِي الْعِبَادَاتِ وَالْعَادَاتِ، وَلَا يَخْرُجَ عَنْهَا الْبَتَّةَ، لِأَنَّ الْخُرُوجَ/ عَنْهَا تِيهٌ وَضَلَالٌ وَرَمْيٌ فِي عَمَايَةٍ، كَيْفَ وَقَدْ ثَبَتَ كَمَالُهَا وَتَمَامُهَا؟ فَالزَّائِدُ (وَالنَّاقِصُ) (4) فِي جِهَتِهَا هُوَ الْمُبْتَدِعُ بِإِطْلَاقٍ، وَالْمُنْحَرِفُ عَنِ الْجَادَّةِ إِلَى بُنَيَّاتِ الطُّرُقِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يُوقِنَ أَنَّهُ لَا تَضَادَّ بَيْنَ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَلَا بَيْنَ الْأَخْبَارِ النَّبَوِيَّةِ وَلَا بَيْنَ أَحَدِهِمَا مَعَ الْآخَرِ، بَلِ الْجَمِيعُ جَارٍ عَلَى مهْيَع وَاحِدٍ، وَمُنْتَظِمٍ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، فَإِذَا أَدَّاهُ بَادِئَ الرَّأْيِ إِلَى ظَاهِرِ اخْتِلَافٍ فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَقِدَ انْتِفَاءَ الِاخْتِلَافِ، لِأَنَّ الله تعالى قَدْ شَهِدَ لَهُ أَنْ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ، فَلْيَقِفْ وُقُوفَ الْمُضْطَرِّ السَّائِلِ عَنْ وَجْهِ الْجَمْعِ، أو المسلم من غير اعتراض، (إن) (5) كان الموضع مما (لا) (6) يتعلق به حكم عملي، (فإن تعلق به حكم
_________
(1) سورة البقرة: الآية (213).
(2) من بين () زيادة من (غ) و (ر).
(3) سورة النساء: الآية (59).
(4) في (ط) و (خ) و (ت): "والمنقص".
(5) في (ط) و (خ): فإن.
(6) زيادة من (غ) و (ر).(3/272)
عملي) (1) (التمس) (2) الْمَخْرَجَ/ حَتَّى يَقِفَ عَلَى الْحَقِّ الْيَقِينِ، أَوْ يبقى بَاحِثًا إِلَى الْمَوْتِ (وَلَا) (3) عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، فَإِذَا اتَّضَحَ لَهُ الْمَغْزَى وَتَبَيَّنَتْ لَهُ الْوَاضِحَةُ، فلا بد (لَهُ) (4) مِنْ أَنْ يَجْعَلَهَا حَاكِمَةً فِي كُلِّ مَا يَعْرِضُ لَهُ (مِنَ) (5) النَّظَرِ فِيهَا. وَيَضَعَهَا نُصْبَ عَيْنَيْهِ فِي كُلِّ مَطْلَبٍ دِينِيٍّ، كَمَا فعل من تقدمنا ممن أثنى الله (ورسوله) (6) عَلَيْهِمْ.
/فَأَمَّا الْأَمْرُ الْأَوَّلُ: فَهُوَ الَّذِي أَغْفَلَهُ الْمُبْتَدِعُونَ فَدَخَلَ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ الِاسْتِدْرَاكُ عَلَى الشَّرْعِ، وَإِلَيْهِ مَالَ (كُلُّ) (7) مَنْ كَانَ يَكْذِبُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُقَالُ له (في) (8) ذَلِكَ وَيَحْذَرُ مَا فِي الْكَذِبِ عَلَيْهِ مِنَ الْوَعِيدِ، فَيَقُولُ لَمْ أَكْذِبْ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا كَذَبْتُ لَهُ.
وَحُكِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ الْمَعْرُوفِ بالأردُنِّي (9) أَنَّهُ قَالَ: إِذَا كَانَ/ الْكَلَامُ حَسَنًا لَمْ أَرَ بَأْسًا أَنْ أَجْعَلَ لَهُ إِسْنَادًا (10). فَلِذَلِكَ/ كَانَ يُحَدِّثُ بِالْمَوْضُوعَاتِ، وَقَدْ قُتِلَ فِي الزَّنْدَقَةِ وَصُلِبَ، (وَقَدْ تَقَدَّمَ لِهَذَا الْقِسْمِ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ) (11).
وَأَمَّا الْأَمْرُ الثَّانِي: فَإِنَّ قَوْمًا أَغْفَلُوهُ أيضاً ولم (يُنعموا) (12) النَّظَرَ حَتَّى اخْتَلَفَ عَلَيْهِمُ الْفَهْمُ فِي الْقُرْآنِ والسنة، فأحالوا بالاختلاف (عليهما) (13)
_________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ط) و (ت).
(2) في (ط): "فليلتمس".
(3) في (م) و (غ) و (ر): "فلا".
(4) زيادة من (ط) و (غ) و (ر).
(5) في (غ) و (ر): "في".
(6) زيادة من (غ) و (ر).
(7) ساقط من (غ) و (ر).
(8) زيادة من (غ) و (ر).
(9) هو محمد بن سعيد بن حسان الأسدي الأردني المصلوب، قال عنه الإمام أحمد: قتله أبو جعفر المنصور في الزندقة، حديثه حديث موضوع، وقد غيَّر اسمه على عدة أسماء تدليساً له، فينسب مرة إلى جده ومرة إلى بلده ... إلخ، أجمع علماء الجرح على ترك حديثه، والتحذير منه، انظر: تهذيب التهذيب (9 184 ـ 186)، وميزان الاعتدال (3 561 ـ 563).
(10) انظر: تهذيب التهذيب (9 185).
(11) ما بين () ساقط من (غ) و (ر).
(12) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "بمعنوا".
(13) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "عليها".(3/273)
تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِالنَّظَرِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي عَابَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من حال الخوارج حيث قال: "يقرأون الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ" (1)، فَوَصَفَهُمْ بِعَدَمِ الْفَهْمِ لِلْقُرْآنِ/، وَعِنْدَ ذَلِكَ خَرَجُوا عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ، إِذْ قَالُوا: لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ، وَقَدْ حَكَّمَ الرِّجَالَ فِي دِينِ اللَّهِ، حَتَّى بيَّن لهم حبر (الإسلام) (2) عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} (3) عَلَى وَجْهٍ أَذْعَنَ بِسَبَبِهِ مِنْهُمْ أَلْفَانِ، أَوْ مَنْ رَجَعَ مِنْهُمْ إِلَى الْحَقِّ، وَتَمَادَى الْبَاقُونَ على ما كانوا عليه، اعتماداً ـ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ـ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنْهُمْ: لَا تُنَاظِرُوهُ وَلَا تُخَاصِمُوهُ فَإِنَّهُ مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ} / {خَصِمُونَ} (4).
فَتَأَمَّلُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ كَيْفَ كَانَ فَهْمُهُمْ فِي الْقُرْآنِ. ثُمَّ لَمْ يَزَلْ هَذَا الْإِشْكَالُ يَعْتَرِي أَقْوَامًا حَتَّى اخْتَلَفَتْ عَلَيْهِمُ الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ، وَتَدَافَعَتْ على أفهامهم (فحجوا) (5) به قبل (إنعام) (6) النظر.
/وَلْنَذْكُرْ مِنْ ذَلِكَ عَشَرَةَ أَمْثِلَةٍ:
أَحَدُهَا: قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ *} (7) يَتَنَاقَضُ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ *} (8).
وَالثَّانِي: قَوْلُ مَنْ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَيَوْمَئِذٍ لاَ يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلاَ جَآنٌّ *} (9) مُضَادٌّ لِقَوْلِهِ: {وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} (10)، وقوله تعالى: {وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (11).
_________
(1) تقدم تخريجه (3/ 114).
(2) في (ت) و (غ) و (ر): "القرآن".
(3) سورة يوسف: الآية: (40).
(4) سورة الزخرف: الآية (58).
(5) في (ط): "فجعجعوا". وفي (خ): "فعججوا". وفي (غ) و (ر): "فتبجحوا".
(6) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "إمعان".
(7) سورة الصافات: الآية (27).
(8) سورة المؤمنون: الآية (101).
(9) سورة الرحمن: الآية (39).
(10) سورة العنكبوت: الآية (13).
(11) سورة النحل: الآية (93).(3/274)
وَالثَّالِثُ: قَوْلُ مَنْ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ *} / إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ *فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} (1): إِنَّ هَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْأَرْضَ مَخْلُوقَةٌ قَبْلَ السَّمَاءِ، وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا *رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا *وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا *وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا *} (2)، فَصَرَّحَ/ بِأَنَّ الْأَرْضَ مَخْلُوقَةٌ بَعْدَ السَّمَاءِ.
وَمِنْ هَذِهِ الْأَسْئِلَةِ مَا أَوْرَدَهُ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ ـ أَوْ غَيْرُهُ ـ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَخَرَّجَ الْبُخَارِيُّ (3) فِي الْمُعَلَّقَاتِ (4) عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنِّي أَجِدُ فِي الْقُرْآنِ أَشْيَاءَ تَخْتَلِفُ عَلَيَّ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلاَ أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ} (5)، {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ *} (6)،/ {وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} (7)، {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} (8)، فَقَدْ كَتَمُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، {أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا *} إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا *} (9)، فَذَكَرَ خَلْقَ السَّمَاءِ قَبْلَ الْأَرْضِ ثُمَّ قَالَ: {أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} ـ إِلَى قَوْلِهِ ـ {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} ـ إلى قوله ـ {طَائِعِينَ} (10)، فَذَكَرَ فِي هَذِهِ خَلْقَ الْأَرْضِ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاءِ، وَقَالَ: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}، {عَزِيزًا حَكِيمًا}
_________
(1) سورة فصلت: الآيات (9 ـ 12).
(2) سورة النازعات: الآيات (27 ـ 30).
(3) أخرجه البخاري في كتاب التفسير، في تفسير سورة السجدة، انظر: فتح الباري (8 417 ـ 418). وبين ما ذكره الشاطبي وما في صحيح البخاري اختلاف في ألفاظ كثيرة، ولكني لم أثبتها، لاحتمال أن يكون الشاطبي اعتمد على نسخة للبخاري غير النسخة المطبوعة لدينا، خاصة وأن لصحيح البخاري نسخاً كثيرة، والله تعالى أعلم.
(4) ذكره البخاري في البداية معلقاً بقوله: قال المنهال عن سعيد، ثم وصله في نهاية الأثر، حيث قال: حدثنيه يوسف بن عدي حدثنا عبيد الله بن عمرو عن زيد بن أبي أنيسة عن المنهال بهذا.
(5) سورة المؤمنون: الآية (101).
(6) سورة الصافات: الآية (27).
(7) سورة النساء: الآية (42).
(8) سورة الأنعام: الآية (23).
(9) سورة النازعات: الآيات (27 ـ 30).
(10) سورة فصلت: الآيات (9 ـ 12).(3/275)
{سَمِيعًا بَصِيرًا} فَكَأَنَّهُ كَانَ ثُمَّ مَضَى فَقَالَ يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ: {فَلاَ أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ} في النفخة الأولى (يوم ينفخ) (1) في الصور فصعق من في السموات وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ/ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ، ثُمَّ فِي النَّفْخَةِ الْأُخْرَى أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} {وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَغْفِرُ لِأَهْلِ الْإِخْلَاصِ ذُنُوبَهُمْ، وَقَالَ الْمُشْرِكُونَ تَعَالَوْا نَقُولُ: لَمْ نَكُنْ مشركين. (فيختم) (2) عَلَى أَفْوَاهِهِمْ فَتَنْطِقُ أَيْدِيَهُمْ فَعِنْدَ ذَلِكَ/ عَرَفُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يُكْتَمُ حَدِيثًا، وَعِنْدَهُ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأرض.
/وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ}، {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ ثُمَّ دَحَا الْأَرْضَ، (وَدَحْوُهَا) (3) أَنْ أَخْرَجَ مِنْهَا الْمَاءَ وَالْمَرْعَى، وَخَلَقَ الْجِبَالَ وَالْآكَامَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي يَوْمَيْنِ (آخَرَيْنِ) (4)، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: (دَحَاهَا) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} فَخُلِقَتِ الْأَرْضُ وَمَا فِيهَا مِنْ شَيْءٍ فِي أربعة أيام، وخلقت السموات في يومين.
(وقوله) (5): {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} سَمَّى نَفْسَهُ بِذَلِكَ، وَذَلِكَ (قَوْلُهُ) (6)؛ أَيْ لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُرِدْ شَيْئًا إِلَّا أَصَابَ بِهِ الَّذِي أَرَادَ، فَلَا يَخْتَلِفُ عَلَيْكَ الْقُرْآنُ فَإِنَّ كُلًّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
وَالرَّابِعُ: قَوْلُ مَنْ قَالَ:/ إِنَّ قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: "إِنَّ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ فَأَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّتَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وأشهدهم على أنفسهم:
_________
(1) في (ط): ونفخ. وفي (خ) و (م) و (غ) و (ر): ينفخ.
(2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فختم".
(3) في (م) و (غ) و (ر): "ودحيها".
(4) زيادة من (غ) و (ر).
(5) ما بين القوسين زيادة من (ت).
(6) زيادة من (غ) و (ر).(3/276)
ألست بربكم؟ قالوا بلى ... " (1)، الحديث (وَقَعَ) (2) مُخَالِفٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} (3) فالحديث يخبر أَنَّهُ أَخَذَهُمْ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ وَالْكِتَابُ يُخْبِرُ أَنَّهُ أَخَذَ مِنْ ظُهُورِ (بَنِي) (4) آدَمَ، وَهَذَا إذا تؤمل لا (اختلاف) (5) فِيهِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، بِأَنْ يَخْرُجُوا مِنْ صُلْبِ آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دَفْعَةً وَاحِدَةً عَلَى وَجْهٍ لَوْ خَرَجُوا عَلَى التَّرْتِيبِ (لخرجوا) (6)، كَمَا أُخْرِجُوا إِلَى الدُّنْيَا، وَلَا مُحَالَ فِي هذا بأن (ينفطر) (7) فِي تِلْكَ الْآخِذَةِ الْأَبْنَاءُ عَنِ الْأَبْنَاءِ مِنْ غَيْرِ تَرْتِيبِ زَمَانٍ وَتَكُونُ النِّسْبَتَانِ مَعًا صَحِيحَتَيْنِ (على) (8) الْحَقِيقَةِ لَا عَلَى الْمَجَازِ.
/وَالْخَامِسُ: قَوْلُ مَنْ قَالَ ـ فِيمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ ـ أَنْ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَشَدْتُكَ اللَّهَ إِلَّا مَا قَضَيْتَ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ، (فَقَالَ خَصْمُهُ وَكَانَ أَفْقَهَ مِنْهُ صَدَقَ: اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ) (9)، وَائْذَنْ لِي فِي أَنْ أَتَكَلَّمَ، ثُمَّ أَتَى بِالْحَدِيثِ، فَقَالَ/ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ، أَمَّا الْوَلِيدَةُ (وَالْغَنَمُ) (10) فَرَدٌّ عَلَيْكَ، وَعَلَى ابْنِكَ هَذَا جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَعَلَى امْرَأَةِ هَذَا/ الرَّجْمُ" إِلَى آخَرِ الْحَدِيثِ (11)، هو مخالف
_________
(1) هذا حديث صحيح مشهور مروي مرفوعاً وموقوفاً، وأخرجه جمع كبير من أهل العلم منهم: مالك (1593)، وأحمد (1 272 و5 135)، وأبو داود (4703 و4704)، والترمذي (3075)، والنسائي في السنن الكبرى (11190 و11191)، وابن جرير في التفسير (15338)، والحاكم (74 و75 و3255 و3256 و4000 و4001)، وغيرهم.
(2) في (ط) و (م) و (خ) و (غ) و (ر): كما وقع.
(3) سورة الأعراف: الآية (172).
(4) ما بين القوسين ساقط من (ط).
(5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "خلاف".
(6) زيادة من (غ) و (ر).
(7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "يتفطر".
(8) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "في".
(9) ساقط من (غ) و (ر).
(10) في (ت): "الغرم".
(11) أخرجه البخاري (2314 و2315 و2649 و2696 و2725، و6634 و6828 و6831 و6836 و6843 و6860 و7194 و7259 و7279 و2695 و2724 و6633 و6827=(3/277)
لِكِتَابِ اللَّهِ، لِأَنَّهُ قَدْ قَالَ: "لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ" حَسْبَمَا سَأَلَهُ السَّائِلُ، ثُمَّ قَضَى بِالرَّجْمِ وَالتَّغْرِيبِ، وَلَيْسَ لَهُمَا ذِكْرٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ.
الْجَوَابُ: إِنَّ الَّذِي أَوْجَبَ الْإِشْكَالَ فِي المسألة اللفظ المشترك (فإن كتاب الله، كما) (1) يُطْلَقُ عَلَى الْقُرْآنِ يُطْلَقُ عَلَى مَا كَتَبَ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَهُ مِمَّا هُوَ حُكْمُهُ وَفَرْضُهُ على العباد، كان/ مسطوراً في القرآن أو لا، كما قال تعالى: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} (2) أي (حكم الله) (3) وفرضه، وَكُلُّ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلِهِ: ({كتبَ عليكم}) (4) فمعناه فرض وَحَكَمَ بِهِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنَّ يُوجَدَ هَذَا الْحُكْمُ فِي الْقُرْآنِ.
وَالسَّادِسُ: قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي الْإِمَاءِ: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} (5) / لَا يُعْقَلُ مَعَ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَمَ وَرَجَمَتِ (الْأَئِمَّةُ) (6) بَعْدَهُ، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ الرَّجْمَ يَنْتَصِفُ وَهَذَا غَيْرُ مَعْقُولٍ، فَكَيْفَ يَكُونُ نِصْفُهُ عَلَى الْإِمَاءِ؟ ذَهَابًا مِنْهُمْ/ إِلَى أَنَّ الْمُحْصَنَاتِ (هنا) (7) ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ الْمُحْصَنَاتُ هُنَا الْمُرَادُ بِهِنَّ الْحَرَائِرُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ أَوَّلَ الْآيَةِ: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً/ أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} (8)
_________
=و6833 و6835 و6842 و6859 و7193 و7258 و7260 و7278)، ومسلم (1697)، ومالك (1502)، والطيالسي (953 و1333 و2514)، والحميدي (811)، وأبو داود (4445)، وابن ماجه (2549)، والترمذي (1433)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1213)، والنسائي في المجتبى (5410 و5411)، وفي السنن الكبرى (5970 ـ5973 و7193 و11356)، وابن الجارود في المنتقى (811)، وابن حبان (4437)، والطبراني في الكبير (5188 و5190 ـ5200)، والبيهقي في السنن الكبرى (16694 و16701 و16736 و16746 و16765)، وغيرهم.
(1) في (ط) و (خ) و (ت): "في كتاب الله فكما".
(2) سورة النساء: الآية (24).
(3) في (غ) و (ر): "حكمه".
(4) في سائر النسخ ما عدا (غ): "كتاب الله عليكم".
(5) سورة النساء: الآية (25).
(6) في (غ) و (ر): "الأمة".
(7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "هنّ".
(8) سورة النساء: الآية (25).(3/278)
وَلَيْسَ الْمُرَادُ هُنَا إِلَّا الْحَرَائِرَ، لِأَنَّ ذَوَاتِ الْأَزْوَاجِ لَا تُنْكَحُ.
وَالسَّابِعُ: قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْحَدِيثَ جَاءَ بِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُنْكَحُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا عَلَى خَالَتِهَا (1) وَأَنَّهُ يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ (2)، وَاللَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْمُحَرَّمَاتِ لَمْ يَذْكُرْ مِنَ الرِّضَاعِ إِلَّا الْأُمَّ وَالْأُخْتَ، وَمِنَ الْجَمْعِ إِلَّا الْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ/: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (3) (فَاقْتَضَى) (4) أَنَّ الْمَرْأَةَ تُنْكَحُ عَلَى عَمَّتِهَا وَعَلَى خالتها، (وكل رضاعة) (5) سوى الأم والأخت (حلال) (6).
وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ مِنْ بَابِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ لَا تَعَارُضَ فِيهِ عَلَى حَالٍ.
وَالثَّامِنُ: قَوْلُ مَنْ قال: إن قوله صلّى الله عليه وسلّم: "غُسْلُ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ" (7) مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ: "مَنْ تَوَضَّأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَبِهَا وَنِعْمَتْ ومن اغتسل
_________
(1) أخرجه البخاري (5108 ـ5110)، ومسلم (1408)، ومالك (1108)، وابن الجعد (1607)، وأحمد (2 401 و423 و452 و462 و465 و516 و518 و529 و532)، والدارمي (2179)، وابن ماجه (1929 ـ 1931)، وأبو داود (2066)، والترمذي (1125 ـ 1126)، والنسائي في المجتبى (3288 ـ 3291)، وفي الكبرى: (5420 ـ5427)، وابن حبان (4113 ـ 4115)، والطبراني في الكبير (5420 ـ 5427)، والبيهقي في السنن الكبرى (13719 ـ 13723).
(2) أخرجه البخاري (2645 و2646 و3105 و5099 و5100)، ومسلم (1444)، ومالك (1254)، وإسحاق بن راهويه (1010)، وأحمد (6 178 و214)، والدارمي (2247)، وأبو داود (2055)، والترمذي (1146 ـ 1147)، والنسائي في المجتبى (3313)، وفي الكبرى (5470).
(3) سورة النساء: الآية (24).
(4) في (غ) و (ر): "فاقتضى علي".
(5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "وإن كان رضاع".
(6) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "حلالاً".
(7) أخرجه البخاري (858 و879 و 895 و2665)، ومسلم (846)، ومالك (228 ـ 230)، والطيالسي (216 و2570)، والحميدي (736)، وأحمد (3 6 و30 و60 و65 و69 و304) و (4 34)، والدارمي (1537)، وأبو داود (341 و344)، وابن ماجه (1089)، والنسائي في المجتبى (1375 ـ1377 و1383)، وفي الكبرى (1667 و1668 و1688)، وابن الجارود في المنتقى (284 و287)، وأبو يعلى (978 و1100 و1127 و1868)، وابن خزيمة (1721 و1742 ـ 1746)، وابن حبان (1220=(3/279)
فَالْغُسْلُ أَفْضَلُ" (1).
وَالْمُرَادُ بِالْوُجُوبِ هُنَا التَّأْكِيدُ خَاصَّةً، بحيث لا يكون تركه تَرْكًا (لِلْفَرْضِ) (2)، وَبِهِ يَتَّفِقُ مَعْنَى الْحَدِيثَيْنِ فَلَا اخْتِلَافَ (3).
وَالتَّاسِعُ: / قَوْلُهُمْ: جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: (صِلَةُ الرحم تزيد (في) (4) العمر) (5)، والله تعالى يقول: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} (6) فَكَيْفَ تَزِيدُ صِلَةُ الرَّحِمِ فِي أَجْلٍ لَا يُؤَخَّرُ وَلَا يُقَدَّمُ أَلْبَتَّةَ.
وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَجْوِبَةٍ منها أن يكون في علم الله تعالى أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ إِنْ وَصَلَ رَحِمَهُ عَاشَ مِائَةَ سَنَةٍ، وَإِلَّا عَاشَ ثَمَانِينَ سَنَةً، مَعَ أَنَّ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ بِلَا بُدٍّ، (أَوْ) (7) أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ أَصْلًا.
/وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُ لَا يَسْتَأْخِرُ (سَاعَةً) (8) ولا يستقدم.
_________
=و1227 ـ 1233)، والطبراني في الصغير (1155)، وفي الأوسط (309 و621)، وفي الكبير (23 195 برقم 334)، والبيهقي في السنن الكبرى (1304 و5367 و5443 و5452 و5747 و5748).
(1) أخرجه الطيالسي (1350 و2110)، وعبد بن حميد (1077)، وابن الجعد (986 و1750)، وأحمد (5 8 و11 و15 و16 و22)، والدارمي (1540)، وابن ماجه (1091)، وأبو داود (354)، والترمذي (497)، والنسائي في المجتبى (1380)، وفي الكبرى (1684)، وأبو يعلى (4086)، وابن الجارود (285)، وابن خزيمة (1757)، والطبراني في الكبير (6817 ـ 6820 و6926)، والبيهقي في الكبرى (1310 ـ 1316 و5459) وغيرهم، وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (6180).
(2) في (ت): لفرض.
(3) انظر: تفصيل الخلاف في هذه المسألة فتح الباري (2 420 ـ 432)، وتأويل مشكل الحديث (ص134).
(4) ما بين القوسين زيادة من (م) و (غ) و (ر).
(5) أخرجه الحارث بن أبي أسامة في مسنده ـ بغية الباحث ـ (302)، والطبراني في الأوسط (947)، وفي الكبير (8014)، والقضاعي في مسنده (100 و102)، وبنحوه في مسند أبي يعلى (3609 و6620)، وابن حبان (438).
(6) سورة الأعراف: الآية (34).
(7) في (م): "و".
(8) ساقط من (غ) و (ر).(3/280)
قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ (1) وَتَبِعَهُ عَلَيْهِ الْقِرَافِيُّ (2).
وَالْعَاشِرُ: قالوا في الحديث: أنه صلّى الله عليه وسلّم كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ وَهُوَ جُنُبٌ توضأ وضوءه للصلاة (3)، ثم فيه: كان صلّى الله عليه وسلّم يَنَامُ وَهُوَ جُنُبٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمَسَّ مَاءً (4)، وَهَذَا تَدَافُعٌ. وَالْحَدِيثَانِ مَعًا لِعَائِشَةَ رَضِيَ/ اللَّهُ عَنْهَا.
وَالْجَوَابُ سَهْلٌ: فَالْحَدِيثَانِ يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَيْنِ مُوَسَّعٌ فِيهِمَا، لِأَنَّهُ إِذَا فَعَلَ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ وَأَكْثَرَ مِنْهُ، وَفَعَلَ الْآخَرَ أَيْضًا وَأَكْثَرَ مِنْهُ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ: كَانَ يَفْعَلُ، حَصَلَ مِنْهُمَا/ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ وَيَتْرُكُ، وَهَذَا شَأْنُ الْمُسْتَحَبِّ فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا (5).
فَهَذِهِ عَشَرَةُ أمثلة تبين لك مواقع الإشكال، (وأين رَتَّبْتُهَا) (6) مَعَ ثَلْجِ الْيَقِينِ، فَإِنَّ الَّذِي عَلَيْهِ/ كُلُّ (مُوقِنٍ) (7) بِالشَّرِيعَةِ أَنَّهُ لَا تَنَاقُضَ فِيهَا ولا اختلاف، فمن توهم ذلك فيها فلم (ينعم) (8) النَّظَرَ وَلَا أَعْطَى وَحْيَ اللَّهِ حَقَّهُ، وَلِذَلِكَ قال الله تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} (9) فَحَضَّهُمْ عَلَى التَّدَبُّرِ أَوَّلًا، ثُمَّ أَعْقَبَهُ: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا}، فبين أنه لا اختلاف فيه، والتدبر يعين على تصديق ما أخبر به.
_________
(1) الشاطبي نقله عن ابن قتيبة بالمعنى، انظر: تأويل مشكل الحديث (ص136 ـ 137).
(2) أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن الصنهاجي القرافي، أحد تلاميذ العز بن عبد السلام من أشهر علماء المالكية توفي سنة 684هـ، انظر: الأعلام للزركلي (1 94).
(3) أخرجه البخاري (286، 288)، ومسلم (305)، وأحمد في المسند (6/ 36، 91، 102)، وأبو داود (222)، والنسائي (255، 256)، وابن ماجه (584) وغيرهم.
(4) أخرجه أحمد في المسند (6/ 43، 102، 106)، وأبو داود (228)، والترمذي (118)، والنسائي في الكبرى (9052)، وابن ماجه (581)، وصححه الألباني في آداب الزفاف (ص39)، وتكلم على المسألة ابن عبد البر في التمهيد (17/ 39)، وابن القيم في حاشيته على سنن أبي داود (1/ 261)، وابن حجر في الفتح (1/ 394) و (3/ 32).
(5) انظر تفصيل الخلاف في هذه المسألة في: فتح الباري لابن حجر (1 467 ـ 470).
(6) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "وإني رتبتها".
(7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "موفق".
(8) في (ت): "يمعن".
(9) سورة النساء: الآية (82).(3/281)
/فصل
النوع الثالث (1): (تحكيم العقل وتحسين الظن به، اعلم) (2) أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِلْعُقُولِ فِي إِدْرَاكِهَا حَدًّا تَنْتَهِي إِلَيْهِ لَا تَتَعَدَّاهُ، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهَا (سَبِيلًا) (2) إِلَى الْإِدْرَاكِ فِي كُلِّ مَطْلُوبٍ، وَلَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ لَاسْتَوَتْ مَعَ الْبَارِي تَعَالَى فِي إِدْرَاكِ جَمِيعِ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ وَمَا لَا يَكُونُ، إِذْ لَوْ كَانَ كَيْفَ كَانَ يَكُونُ؟ فَمَعْلُومَاتُ اللَّهِ لَا تَتَنَاهَى، وَمَعْلُومَاتُ الْعَبْدِ مُتَنَاهِيَةٌ، وَالْمُتَنَاهِي لَا يُسَاوِي مَا لَا يَتَنَاهَى.
وَقَدْ دَخَلَ فِي هَذِهِ الْكُلِّيَّةِ (ذَوَاتُ) (3) الْأَشْيَاءِ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، وَصِفَاتُهَا وَأَحْوَالُهَا وَأَفْعَالُهَا وَأَحْكَامُهَا جُمْلَةً وتفصيلاً، (وأيضاً) (4) فَالشَّيْءُ الْوَاحِدُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَشْيَاءِ يَعْلَمُهُ الْبَارِي تَعَالَى عَلَى التَّمَامِ وَالْكَمَالِ، بِحَيْثُ لَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ لَا فِي/ ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَحْوَالِهِ وَلَا فِي أَحْكَامِهِ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ فَإِنَّ عِلْمَهُ بِذَلِكَ الشيء قاصر ناقص، (تعلق بذاته) (5) أو صفاته (أو أفعاله) (6) أَوْ (أَحْوَالِهِ) (7) أَوْ أَحْكَامِهِ، وَهُوَ فِي الْإِنْسَانِ (أَمْرٌ) (8) مُشَاهَدٌ مَحْسُوسٌ لَا يَرْتَابُ فِيهِ عَاقِلٌ (تُخْرِجُهُ) (9) التَّجْرِبَةُ إِذَا اعْتَبَرَهَا الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ.
_________
(1) النوع الثالث من أسباب الإحداث في الشريعة.
(2) ما بين القوسين زيادة من (ت) و (غ) و (ر).
(3) في (م): "سبيل".
(4) في (م): "دول".
(5) في (م): "تعقل في ذاته". وهو ساقط من (ت) و (خ) و (ط).
(6) في (م): "تعلق". وفي (خ) و (ط): "تعقل".
(7) ما بين القوسين زيادة من (م) و (ت).
(8) ما بين القوسين ساقط من (ت).
(9) في (ت) بياض بمقدار كلمة.(3/282)
(وأيضاً) (1) فأنت ترى المعلومات/ عند (العقلاء) (2) تَنْقَسِمُ (إِلَى) (3) ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
قِسْمٌ ضَرُورِيٌّ: لَا يُمْكِنُ التَّشْكِيكُ فِيهِ، كَعِلْمِ/ الْإِنْسَانِ بِوُجُودِهِ، وَعِلْمِهِ بِأَنَّ الِاثْنَيْنِ أَكْثَرُ مِنَ الْوَاحِدِ، وَأَنَّ الضِّدَّيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ.
وَقِسْمٌ: لَا يَعْلَمُهُ أَلْبَتَّةَ إِلَّا أَنْ يُعْلَمَ بِهِ أَوْ يُجْعَلَ لَهُ طَرِيقٌ إِلَى الْعِلْمِ بِهِ، وَذَلِكَ كَعِلْمِ الْمُغَيَّبَاتِ عَنْهُ، كَانَتْ مِنْ قَبِيلِ مَا يُعْتَادُ عَلِمَ الْعَبْدُ بِهِ أَوْ لَا، كَعِلْمِهِ بِمَا تَحْتَ رِجْلَيْهِ/ (الآن مُغَيَّبٌ) (4) عَنْهُ تَحْتَ/ الْأَرْضِ بِمِقْدَارِ شِبْرٍ، وَعِلْمِهِ بِالْبَلَدِ الْقَاصِي عَنْهُ الَّذِي لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ بِهِ عَهْدٌ، فَضْلًا عَنْ عِلْمِهِ بِمَا فِي السموات وَمَا فِي الْبِحَارِ وَمَا فِي الْجَنَّةِ أَوِ النار على التفصيل، فعلمه بما لَمْ يُجْعَلْ لَهُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ غَيْرُ مُمْكِنٍ.
وَقَسَمٌ نَظَرِيٌّ: يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِهِ وَيُمْكِنُ أَنْ لا يعلم (به) (5) ـ وهي النظريات ـ وذلك الْمُمْكِنَاتُ الَّتِي تُعْلَمُ بِوَاسِطَةٍ لَا بِأَنْفُسِهَا، إِلَّا أَنْ يَعْلَمَ بِهَا إِخْبَارًا.
وَقَدْ زَعَمَ أَهْلُ العقول أن النظريات لا يمكن الاتفاق (عليها) (6) عَادَةً لِاخْتِلَافِ الْقَرَائِحِ وَالْأَنْظَارِ، فَإِذَا/ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِيهَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ مُخْبِرٍ بِحَقِيقَتِهَا في أنفسها إن احتيج إليها، لأنها لَوْ لَمْ تَفْتَقِرْ إِلَى الْإِخْبَارِ لَمْ يَصِحَّ الْعِلْمُ بِهَا، لَأَنَّ الْمَعْلُومَاتِ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَنْظَارِ، لِأَنِّهَا حَقَائِقُ فِي أَنْفُسِهَا، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ فِيهَا مُصِيبًا ـ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي الْأُصُولِ ـ وَإِنَّمَا الْمُصِيبُ فِيهَا وَاحِدٌ، وَهُوَ لَا يَتَعَيَّنُ إِلَّا بِالدَّلِيلِ.
وَقَدْ تَعَارَضَتِ الْأَدِلَّةُ فِي نَظَرِ النَّاظِرِ، فَنَحْنُ نَقْطَعُ بأن أحد الدليلين
_________
(1) ساقط من (غ) و (ر).
(2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "العلماء".
(3) ساقط من (غ) و (ر).
(4) في (ط) و (خ): إلا أن مغيبه. وفي (غ) و (ر): لأن مغيباً.
(5) ساقط من (غ) و (ر).
(6) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فيها".(3/283)
دليل حقيقة، والآخر شبهة، ولا (تعيين) (1)، فلا بد مِنْ إِخْبَارٍ بِالتَّعْيِينِ.
وَلَا يُقَالُ: إِنَّ هَذَا قول الإمامية، لأنا نقول: بل هو (مما) (2) يُلْزِمُ الْجَمِيعَ، فَإِنَّ الْقَوْلَ بِالْمَعْصُومِ غَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْتَقِرُ إِلَى دَلِيلٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ الشَّارِعُ نَصًّا يَقْطَعُ الْعُذْرَ.
فَالْقَوْلُ بِإِثْبَاتِهِ نَظَرِيٌّ، فَهُوَ مِمَّا وَقَعَ الْخِلَافُ فِيهِ. فَكَيْفَ يَخْرُجُ عَنِ الْخِلَافِ بِأَمْرٍ فِيهِ خِلَافٌ؟ هَذَا لَا يُمْكِنُ (3).
فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا/ رَجَعْنَا إِلَى مَسْأَلَتِنَا فَنَقُولُ:/ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ من حيث تقع على أفعال المكلفين (ليست) (4) مِنْ قَبِيلِ الضَّرُورِيَّاتِ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا في بعض التفاصيل (فلتماسها) (5).
/وَنَرْجِعُ إِلَى مَا بَقِيَ مِنَ الْأَقْسَامِ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَقَرُّوا فِي الْجُمْلَةِ ـ أَعْنِي الْقَائِلِينَ بِالتَّشْرِيعِ الْعَقْلِيِّ ـ أَنَّ مِنْهُ نَظَرِيًّا، وَمِنْهُ مَا لَا يعلم (لا) (6) بضرورة ولا بنظر، وهما القسمان الباقيان (فما لا يعلم أصلاً) (7) إلا من جهة الإخبار، فلا بد فِيهِ مِنِ الْإِخْبَارِ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ فِيهِ. وَهَذَا إِذَا رَاعَيْنَا قَوْلَهُمْ وَسَاعَدْنَاهُمْ عَلَيْهِ، فَإِنَّا إِنْ لَمْ نَلْتَزِمْ ذَلِكَ عَلَى مَذَاهِبِ أهل السنة فعندنا أن لا (حكم للعقل) (8) أَصْلًا، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ قِسْمٌ لا حكم له وعندهم أنه لا بد من حكم، فلأجل ذلك نقول: لا بد من الافتقار إلى
_________
(1) في (ط) و (م) و (خ): يعين. وفي (غ) و (ر): "نعين".
(2) زيادة من (غ) و (ر).
(3) لا خلاف في عدم عصمة غير الأنبياء بين العقلاء من المسلمين، وإنما ادعى العصمة لغير الأنبياء بعض الفرق الغالية كالرافضة والصوفية، وهؤلاء لا عبرة بخلافهم.
(4) ما بين القوسين ساقط من (ت) و (ط) و (خ).
(5) في (م) و (غ) و (ر): فلنحاشِها؟؟ يظهر ـ والله تعالى أعلم ـ أن هنا سقط. وقد تكون الكلمة: "فلالتباسها".
(6) زيادة من (غ) و (ر).
(7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "مما لا يعلم له أصلاً".
(8) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "نحكم العقل".(3/284)
الخبر، وحينئذ يكون العقل غير/ مستقل (بالتشريع) (1).
فَإِنْ قَالُوا: بَلْ هُوَ مُسْتَقِلٌّ، لِأَنَّ مَا لم يقض فيه إما أَنْ يَقُولُوا فِيهِ بِالْوَقْفِ ـ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ بَعْضِهِمْ ـ أَوْ بِأَنَّهُ عَلَى الْحَظْرِ أَوِ الْإِبَاحَةِ ـ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ آخَرُونَ.
فَإِنْ (قَالُوا) (2) (بِالثَّانِي) (3)، فَهُوَ مُسْتَقِلٌّ، وَإِنْ (قَالُوا) (4) بِالْأَوَّلِ فَكَذَلِكَ أَيْضًا، لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ اسْتِقْلَالُهُ بِالْبَعْضِ فَافْتِقَارُهُ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ لَا يَدُلُّ عَلَى افْتِقَارِهِ مُطْلَقًا. قُلْنَا: بَلْ هُوَ مُفْتَقِرٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ: لِأَنَّ القائلين بالوقف (قد) (5) اعْتَرَفُوا بِعَدَمِ اسْتِقْلَالِهِ فِي الْبَعْضِ، وَإِذَا ثَبَتَ الِافْتِقَارُ فِي صُورَةٍ ثَبَتَ مُطْلَقًا إِذْ مَا وقف فيه العقل قد ثبتت فِيهِ ذَلِكَ، وَمَا لَمْ يَقِفْ فِيهِ فَإِنَّهُ نَظَرِيٌّ، فَيُرْجَعُ (إِلَى) (6) مَا تَقَدَّمَ فِي النَّظَرِ، وقد مر أنه لا بد مِنْ حُكْمٍ وَلَا يُمْكِنُ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الْإِخْبَارِ.
(وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ الْوَقْفِ فَرَاجِعَةٌ (أَقْوَالُهُمْ) (7) أيضاً إلى أن المسألة نظرية فلا بد مِنِ الْإِخْبَارِ) (8)، وَذَلِكَ مَعْنَى كَوْنِ الْعَقْلِ لَا يَسْتَقِلُّ بِإِدْرَاكِ الْأَحْكَامِ حَتَّى يَأْتِيَ الْمُصَدِّقُ لِلْعَقْلِ أَوِ الْمُكَذِّبُ لَهُ.
/فَإِنْ قَالُوا: فَقَدْ ثَبَتَ فيها قِسْمٌ ضَرُورِيٌّ فَيَثْبُتُ الِاسْتِقْلَالُ.
/قُلْنَا: إِنْ سَاعَدْنَاكُمْ عَلَى ذَلِكَ فَلَا يَضُرُّنَا فِي دَعْوَى الِافْتِقَارِ، لِأَنَّ الْأَخْبَارَ قَدْ تَأْتِي/ بِمَا يُدْرِكُهُ/ الْإِنْسَانُ بِعَقْلِهِ تَنْبِيهًا لِغَافِلٍ أَوْ إِرْشَادًا لِقَاصِرٍ، أَوْ إيقاظاً لمغمور بالعوائد يغفل عن كونه (مطلوباً فضلاً عَنْ كَوْنِهِ) (9) ضَرُورِيًّا، فَهُوَ إِذًا مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ، ولا بد للعقل من التنبيه من خارج، وهي
_________
(1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "بالتفريع".
(2) في (ت): "قلنا".
(3) ساقط من (خ).
(4) في (ت): "قلنا".
(5) زيادة من (غ) و (ر).
(6) زيادة من (غ) و (ر).
(7) ما بين القوسين زيادة من مصحح (ط)، لا يستقيم المعنى إلا بها.
(8) ما بين () ساقط من (غ) و (ر).
(9) ما بين القوسين زيادة من (م) و (غ) و (ر).(3/285)
فَائِدَةُ بَعْثِ الرُّسُلِ، فَإِنَّكُمْ تَقُولُونَ: إِنَّ حُسْنَ الصدق النافع والإيمان، وقبح الكذب (الضار) (1) وَالْكُفْرَانِ، مَعْلُومٌ ضَرُورَةً، وَقَدْ جَاءَ الشَّرْعُ بِمَدْحِ هَذَا وَذَمِّ ذَلِكَ، وَأَمَرَ بِهَذَا وَنَهَى عَنْ ذَلِكَ.
/فَلَوْ كَانَ الْعَقْلُ غَيْرَ مُفْتَقِرٍ إِلَى التنبيه لزم منه الْمُحَالُ وَهُوَ الْإِخْبَارُ بِمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، لَكِنَّهُ أَتَى بِذَلِكَ فَدَلَّنَا عَلَى أَنَّهُ نَبَّهَ عَلَى أَمْرٍ يَفْتَقِرُ الْعَقْلُ إِلَى التَّنْبِيهِ عَلَيْهِ. هَذَا وَجْهٌ.
وَوَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ الْعَقْلَ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ قَاصِرُ الْإِدْرَاكِ فِي عِلْمِهِ، (فَمَا) (2) ادَّعَى عِلْمَهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ (تِلْكَ) (3) الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي زَعَمَ أَنَّهُ أَدْرَكَهَا، لِإِمْكَانِ أَنْ يُدْرِكَهَا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، وَعَلَى حَالٍ دُونَ حَالٍ، وَالْبُرْهَانُ عَلَى ذَلِكَ أَحْوَالُ أَهْلِ الْفَتَرَاتِ، فَإِنَّهُمْ وَضَعُوا أَحْكَامًا عَلَى الْعِبَادِ بِمُقْتَضَى السِّيَاسَاتِ لَا تَجِدُ فِيهَا أَصْلًا مُنْتَظِمًا (ولا) (4) قاعدة مطردة (مع) (5) الشَّرْعِ بَعْدَ مَا جَاءَ، بَلِ اسْتَحْسَنُوا أُمُورًا تَجِدُ الْعُقُولَ بَعْدَ/ تَنْوِيرِهَا بِالشَّرْعِ تُنْكِرُهَا، وَتَرْمِيهَا بِالْجَهْلِ وَالضَّلَالِ (وَالْبُهْتَانِ) (6) وَالْحُمْقِ، مَعَ الِاعْتِرَافِ بِأَنَّهُمْ أَدْرَكُوا بِعُقُولِهِمْ أَشْيَاءَ قَدْ وَافَقَتْ وَجَاءَ الشَّرْعُ بِإِقْرَارِهَا وَتَصْحِيحِهَا، وَمَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ عُقُولٍ (وافرة) (7)، وأنظار (صائبة) (8)، وَتَدْبِيرَاتٍ لِدُنْيَاهُمْ غَامِضَةٍ، لَكِنَّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا لم يُصِيبُوا فِيهِ قَلِيلَةٌ، فَلِأَجْلِ هَذَا كُلِّهِ وَقَعَ الْإِعْذَارُ وَالْإِنْذَارُ، وَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ/ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ، وَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ، وَالنِّعْمَةُ السَّابِغَةُ.
/فَالْإِنْسَانُ ـ وَإِنْ زَعَمَ فِي الْأَمْرِ أَنَّهُ أَدْرَكَهُ وَقَتَلَهُ عِلْمًا ـ لَا يَأْتِي عَلَيْهِ الزَّمَانُ إِلَّا وَقَدْ عَقَلَ فِيهِ مَا لَمْ يَكُنْ عَقَلَ، وَأَدْرَكَ من علمه ما لم (يكن
_________
(1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "أيضاً".
(2) في (غ) و (ر): "بما".
(3) في (م) و (غ) و (ر): "ذلك".
(4) زيادة من (غ) و (ر).
(5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "على".
(6) في (غ) و (ر): "وبالبهتان".
(7) في (ط) و (خ): "باهرة".
(8) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "صافية".(3/286)
أَدْرَكَ) (1) قَبْلَ ذَلِكَ، كُلُّ أَحَدٍ يُشَاهِدُ (ذَلِكَ) (2) مِنْ نَفْسِهِ عِيَانًا، وَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ عِنْدَهُ بمعلوم دون معلوم، ولا بذات دُونَ صِفَةٍ، وَلَا فِعْلٍ دُونَ حُكْمٍ، فَكَيْفَ يَصِحُّ دَعْوَى الِاسْتِقْلَالِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ ـ وَهِيَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ عِلْمُ الْعَبْدِ، لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى دَعْوَى الِاسْتِقْلَالِ أَلْبَتَّةَ حَتَّى يَسْتَظْهِرَ فِي مَسْأَلَتِهِ بِالشَّرْعِ ـ إِنَّ كانت شرعية ـ لأن (أوضاع) (3) الشارع (لا تخلّف) (4) فِيهَا أَلْبَتَّةَ، وَلَا قُصُورَ وَلَا نَقْصَ، بَلْ مباديها موضوعة على وفق الغايات، وهي (معنى) (5) الْحِكْمَةِ.
وَوَجْهٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّ مَا نَدَّعِي علمه في الحياة (الدنيا) (6) يَنْقَسِمُ كَمَا تَقَدَّمَ إِلَى الْبَدِيهِيِّ الضَّرُورِيِّ (7) وَغَيْرِهِ (فالضروري قد عرفناه، بحيث لا يسعنا إنكاره، وغير الضروري لا يمكننا أن نعرفه) (8) إِلَّا مِنْ طَرِيقٍ ضَرُورِيٍّ إِمَّا بِوَاسِطَةٍ أَوْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، إِذْ قَدِ اعْتَرَفَ الْجَمِيعُ أَنَّ العلوم/ المكتسبة لا بد في تحصيلها من توسط مُقَدِّمَتَيْنِ مُعْتَرَفٍ بِهِمَا (9)، فَإِنْ كَانَتَا ضَرُورِيَّتَيْنِ فَذَاكَ، وإن كانتا مكتسبتين فلا بد فِي/ اكْتِسَابِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِنْ مُقَدِّمَتَيْنِ،
_________
(1) في (غ) و (ر): "يدركه".
(2) ما بين القوسين زيادة من (غ) و (ر) ومن مصحح (ط).
(3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "أوصاف".
(4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "تختلف".
(5) في (ط) و (خ) و (ت): "من".
(6) زيادة من (غ) و (ر).
(7) قسم أهل المنطق العلم إلى قسمين: تصور وتصديق، وكل منهما ينقسم إلى بدهي ضروري، ونظري كسبي، وعرفوا التصور: بأنه الإدراك الخالي عن الحكم. والتصديق: بأنه الإدراك الذي معه حكم. والعلم البدهي الضروري: هو الحاصل بلا نظر ولا كسب. والعلم النظري الكسبي: هو ما يحتاج إلى نظر وكسب. انظر: آداب البحث والمناظرة للشنقيطي (1 8 ـ 9) وتسهيل المنطق لعبد الكريم الأثري (ص9).
(8) ما بين القوسين زيادة من (م) و (غ) و (ر).
(9) قوله بضرورة توسط مقدمتين معترف بهما لحصول العلوم المكتسبة، هو من قول المناطقة، وهو قول مرجوح، وقد رد عليهم شيخ الإسلام ابن تيمية في كثير من كتبه، انظر ـ على سبيل المثال ـ: الرد على المنطقيين (ص110 و167 و187 و193 و250 و339).(3/287)
وَيُنْظَرُ فِيهِمَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَتْ واحدة ضرورية (والأخرى) (1) مكتسبة فلا بد لِلْمُكْتَسَبَةِ مِنْ مُقَدِّمَتَيْنِ، فَإِنِ انْتَهَيْنَا إِلَى ضَرُورِيَّتَيْنِ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِلَّا لَزِمَ التَّسَلْسُلُ أَوِ الدَّوْرُ (2)، وَكِلَاهُمَا مُحَالٌ، فَإِذًا لَا يُمْكِنُ أَنْ نَعْرِفَ غير الضروري إلا (بواسطة) (3) الضروري.
وحاصل (الأمر أنه) (4) لا بد من (معرفتنا) (5) بِمُقَدِّمَتَيْنِ حَصَلَتْ لَنَا كُلُّ وَاحِدَةٍ/ مِنْهُمَا مِمَّا عقلناه وعلمناه من مشاهدة بَاطِنَةٍ، كَالْأَلَمِ وَاللَّذَّةِ أَوْ بِدِيهِيٍّ لِلْعَقْلِ كَعِلْمِنَا بِوُجُودِنَا/ وَبِأَنَّ الِاثْنَيْنِ أَكْثَرُ مِنَ الْوَاحِدِ، وَبِأَنَّ الضِّدَّيْنِ/ لَا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُهُمَا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ لَنَا مُعْتَادٌ فِي هَذِهِ الدَّارِ، فَإِنَّا لَمْ يَتَقَدَّمْ لَنَا عِلْمٌ إِلَّا بِمَا هو معتاد في هذه الدَّارِ، وَأَمَّا مَا لَيْسَ بِمُعْتَادٍ فَقَبْلَ النُّبُوَّاتِ/ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَنَا بِهِ مَعْرِفَةٌ، فَلَوْ بَقِينَا (وذاك) (6) لم (نحمل) (7) مَا لَمْ نَعْرِفْ إِلَّا عَلَى مَا عَرَفْنَا، ولأنكرنا (دعوى) (8) مَنِ ادَّعَى جَوَازَ قَلْبِ الشَّجَرِ حَيَوَانًا وَالْحَيَوَانِ حجراً، (وأشباه) (9) ذَلِكَ، لِأَنَّ الَّذِي نَعْرِفُهُ مِنَ الْمُعْتَادَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ خِلَافُ هَذِهِ الدَّعْوَى.
فَلِمَا جَاءَتِ النُّبُوَّاتُ بِخَوَارِقِ الْعَادَاتِ أَنْكَرَهَا مَنْ أصرَّ عَلَى الْأُمُورِ الْعَادِيَّةِ وَاعْتَقَدَهَا سِحْرًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، كَقَلْبِ الْعَصَا ثُعْبَانًا، وَفَرْقِ الْبَحْرِ، وَإِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَإِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ، وَنَبْعِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِ الْيَدِ، وَتَكْلِيمِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ، وَانْشِقَاقِ الْقَمَرِ، إِلَى غَيْرِ ذلك مما (تبين) (10) به أن
_________
(1) في (ط): وأخرى.
(2) التسلسل: هو ترتب أمور على أمور غير متناهية: وأما الدور: فهو توقف الشيء على ما يتوقف عليه. انظر: التعريفات للجرجاني (ص57 و105)، والفتاوى (8 380 و153).
(3) ما بين القوسين زيادة من (م) و (غ) و (ر).
(4) في (م) و (خ): الأمرين. وفي (غ) و (ر): "الأمر أن".
(5) في (ت) بياض بمقدار نصف سطر. وفي (ط) و (خ) و (م): "معرفتهما".
(6) في (ط) و (خ) و (ت): "وذلك".
(7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "نحل".
(8) ما بين القوسين زيادة من (م) و (غ) و (ر).
(9) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "وما أشبه".
(10) في (م): "بين".(3/288)
تِلْكَ الْعَوَائِدَ اللَّازِمَةَ فِي الْعَادَاتِ لَيْسَتْ بِعَقْلِيَّةٍ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ تَخَلُّفُهَا، بَلْ يُمْكِنُ أَنْ (تَتَخَلَّفَ) (1) كَمَا يَجُوزُ عَلَى كُلِّ مَخْلُوقٍ أَنْ يَصِيرَ مِنَ الْوُجُودِ إِلَى الْعَدَمِ، كَمَا خَرَجَ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ.
(فَمَجَارِي) (2) الْعَادَاتِ إِذًا يُمْكِنُ (عَقْلًا تَخَلُّفِهَا) (3). إِذْ لَوْ كَانَ عَدَمُ التَّخَلُّفِ لَهَا عَقْلِيًّا لَمْ يُمْكِنْ أَنْ (تَتَخَلَّفَ) (4) لَا لِنَبِيٍّ وَلَا لِغَيْرِهِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَدَّعِ أَحَدُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْجَمْعَ بين النقيضين، ولا تحدى أحد بكون (الواحد أكثر من اثنين) (5)، مَعَ أَنَّ الْجَمِيعَ فَعْلُ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ/ وَإِذَا أَمْكَنَ فِي الْعَصَا وَالْبَحْرِ وَالْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ وَالْأَصَابِعِ وَالشَّجَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ أَمْكَنَ فِي جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ، لِأَنَّ مَا وَجَبَ لِلشَّيْءِ وَجَبَ لِمِثْلِهِ.
وَأَيْضًا فَقَدْ جاءنا الشرع بأوصاف (في) (6) أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ خَارِجَةٍ عَنِ الْمُعْتَادِ الذي (عهدنا) (7)، فَإِنَّ (كَوْنَ) (8) / الْإِنْسَانِ فِي الْجَنَّةِ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ ثُمَّ لَا يَغُوطُ وَلَا يَبُولُ غَيْرُ مُعْتَادٍ، وَكَوْنَ عَرَقِهِ كَرَائِحَةِ الْمِسْكِ غَيْرُ/ مُعْتَادٍ وَكَوْنَ الْأَزْوَاجِ مُطَهَّرَةً مِنَ الْحَيْضِ مَعَ كَوْنِهِنَّ فِي حالة الصبا وسن من (تحيض) (9) غَيْرُ مُعْتَادٍ، وَكَوْنَ الْإِنْسَانِ فِيهَا لَا/ يَنَامُ (أصلاً) (10) وَلَا يُصِيبُهُ جُوعٌ وَلَا عَطَشٌ وَإِنْ فُرِضَ أَنَّهُ لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ أَبَدَ الدَّهْرِ غَيْرُ مُعْتَادٍ، وَكَوْنَ الثَّمَرِ فِيهَا إِذَا (قُطِفَ) (11) أخلف في الحال (وتدانى) (12) إِلَى يَدِ الْقَاطِفِ إِذَا اشْتَهَاهُ غَيْرُ مُعْتَادٍ، وَكَوْنَ اللَّبَنِ وَالْخَمْرِ وَالْعَسَلِ فِيهَا أَنْهَارًا مِنْ غَيْرِ/ حُلَابٍ وَلَا عَصْرٍ وَلَا نَحْلٍ، وَكَوْنَ الخمر لا تسكر غير معتاد، وكون
_________
(1) في (م): "يتخلف".
(2) في (ط): "فمبادي".
(3) في (ت): "تخلفها عقلاً".
(4) في (م): "يتخلف".
(5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الاثنين أكثر من الواحد".
(6) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "من".
(7) في (ط): "عندنا".
(8) في (غ) و (ر): "كان".
(9) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "يحيض".
(10) زيادة من (غ) و (ر).
(11) في (غ) و (ر): "قطعت".
(12) في (ط) و (ت): "ويتدانى".(3/289)
ذلك كله بحيث لو استعمله دَائِمًا (لَا يَمْتَلِئُ وَلَا يُصِيبُهُ كِظَّةٌ) (1) وَلَا تخمة ولا يخرج من جسده لا في أذنه ولا (في) (2) أَنْفِهِ وَلَا (أَرْفَاغِهِ) (3) وَلَا سَائِرِ جَسَدِهِ أَوْسَاخٌ وَلَا أَقْذَارٌ (غَيْرُ مُعْتَادٍ) (4)، وَكَوْنَ أَحَدٍ مِنْ (أَهْلِ الْجَنَّةِ) (5) لَا يَهْرَمُ وَلَا يَشِيخُ وَلَا يموت ولا يمرض (غير) (6) معتاد.
كذلك إذا (نظرت) (7) (إلى) (8) أَهْلَ النَّارِ عِيَاذًا بِاللَّهِ وَجَدْتَ مِنْ ذَلِكَ كَثِيرًا، كَكَوْنِ النَّارِ لَا تَأْتِي عَلَيْهِ حَتَّى يَمُوتَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا} (9)، وَسَائِرُ أَنْوَاعِ الْأَحْوَالِ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا، كُلُّهَا خَارِقٌ لِلْعَادَةِ.
فَهَذَانَ نَوْعَانِ شَاهِدَانِ لِتِلْكَ الْعَوَائِدِ وَأَشْبَاهِهَا (بِأَنَّهَا) (10) لَيْسَتْ بِعَقْلِيَّةٍ، وَإِنَّمَا هِيَ وَضْعِيَّةٌ يُمْكِنُ تَخَلُّفُهَا، وَإِنَّمَا لَمْ نَحْتَجَّ بِالْكَرَامَاتِ لِأَنَّ أَكْثَرَ الْمُعْتَزِلَةِ يُنْكِرُونَهَا رَأْسًا/ وَقَدْ أَقَرَّ بِهَا بعضهم (11).
وإن ملنا إلى (التقريب) (12)، فَلَوِ اعْتَبَرَ النَّاظِرُ فِي هَذَا الْعَالَمِ لَوَجَدَ لذلك نظائر جارية على (غير) (13) المعتاد.
وَاسْمَعْ فِي ذَلِكَ أَثَرًا غَرِيبًا حَكَاهُ ابْنُ وهب من طريق إبراهيم بن نشيط (14)
_________
(1) في (غ) و (ر): "لا يتملا ولا يصيبه كظمة".
(2) زيادة من (غ) و (ر).
(3) الأرفاغ: المغابن من الآباط وأصول الفخذين والحوالب وغيرها من مطاوي الأعضاء، وما يجتمع فيه الوسخ والعرق. انظر مادة رفغ من لسان العرب.
(4) ما بين القوسين ساقط من (ت).
(5) في (م): أهل السنة بل الجنة.
(6) في (ط): ولا غير.
(7) في (م): "نظر".
(8) زيادة من (غ) و (ر).
(9) سورة طه: الآية (74).
(10) في (م): لأنها. وفي (غ) و (ر): (أنها).
(11) انظر مناقشة شيخ الإسلام ابن تيمية لهم في هذه المسألة في كتاب النبوات (ص 150 وما بعدها).
(12) في (ط) و (خ) و (ت): "التعريف".
(13) ما بين القوسين ساقط من (م) و (غ) و (ر).
(14) هو إبراهيم بن نشيط بن يوسف الوعلاني أبو بكر المصري، وثقه أبو حاتم وأبو زرعة والدارقطني وغيرهم، توفي سنة 163هـ. انظر: المنتظم (8 167)، وتهذيب التهذيب (1 175).(3/290)
قَالَ: سَمِعْتُ شُعَيْبَ بْنَ أَبِي سَعِيدٍ (1) يُحَدِّثُ: أَنَّ رَاهِبًا كَانَ بِالشَّامِ مِنْ (عُلَمَائِهِمْ) (2) وَكَانَ يَنْزِلُ مَرَّةً فِي السَّنَةِ فَتَجْتَمِعُ/ إِلَيْهِ الرُّهْبَانُ (لِيُعَلِّمَهُمْ) (3) مَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ دِينِهِمْ، فَأَتَاهُ خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ (4) فِيمَنْ جَاءَهُ، فقال له الراهب: أمن أهل هذه الملة أنت؟ يريد النصرانية، قال خالد: لا ولكني من أمة محمد، قال الرَّاهِبُ (5): أَمِنْ عُلَمَائِهِمْ أَنْتَ؟
قَالَ خَالِدٌ: إِنَّ فِيهِمْ لَمَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنِّي. قَالَ الرَّاهِبُ: أَلَيْسَ تَقُولُونَ: إِنَّكُمْ تَأْكُلُونَ فِي الْجَنَّةِ وَتَشْرَبُونَ ثُمَّ لَا يَخْرُجُ مِنْكُمْ أَذًى؟ قَالَ خَالِدٌ: بَلَى، قَالَ الرَّاهِبُ: أَفَلِهَذَا مَثَلٌ تَعْرِفُونَهُ فِي الدُّنْيَا؟ قَالَ: نَعَمْ، الصَّبِيُّ يَأْكُلُ فِي بَطْنِ/ أُمِّهِ مِنْ طَعَامِهَا، وَيَشْرَبُ مِنْ شَرَابِهَا ثُمَّ لَا يَخْرُجُ مِنْهُ أَذًى، قَالَ الرَّاهِبُ لِخَالِدٍ: (أَلَيْسَ) (6) تَقُولُ إِنَّكَ لَسْتَ مِنْ عُلَمَائِهِمْ؟ قَالَ خَالِدٌ: إِنَّ فِيهِمْ لَمَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنِّي، قَالَ: أَفَلَيْسَ تَقُولُونَ: إِنَّ فِي الْجَنَّةِ فَوَاكِهَ تأكلون منها ولا ينقص منها شيء؟ قال خالد: بلى، قال: أَفَلِهَذَا مَثَلٌ فِي الدُّنْيَا تَعْرِفُونَهُ؟ قَالَ خَالِدٌ: نعم، الكتاب يكتب منه كل (أَحَدٌ) (7) ثُمَّ لَا يَنْقُصُ مِنْهُ شَيْءٌ، قَالَ الرَّاهِبُ: (أَلَيْسَ) (8) تَقُولُ:/ إِنَّكَ لَسْتَ مِنْ عُلَمَائِهِمْ؟ قَالَ خَالِدٌ: إِنَّ فِيهِمْ لَمَنْ هُوَ أَعْلَمُ مِنِّي،/ قَالَ خَالِدٌ: فَتَمَعَّرَ وَجْهُهُ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ هَذَا مِنْ أُمَّةٍ بُسِطَ لَهَا فِي الْحَسَنَاتِ/ مَا لَمْ يُبْسَطْ لِأَحَدٍ. انْتَهَى الْمَقْصُودُ مِنَ الْخَبَرِ.
وَهُوَ/ يُنَبِّهُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْأَصْلَ الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ أَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَادٍ، لَهُ أَصْلٌ فِي الْمُعْتَادِ، وَهُوَ تنزل (للممكن) (9) غير لازم، ولكنه مقرب
_________
(1) شعيب بن أبي سعيد أبو يونس، ذكره البخاري في التاريخ الكبير (4 218)، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (4 347)، ولم يذكراه بجرح ولا تعديل وذكره ابن حبان في الثقات (4 356).
(2) في (ط): "أعمالهم". وفي (م) و (خ): "عمالهم".
(3) في (م) و (غ) و (ر): "يعلمهم".
(4) هو خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان الأموي، كان موصوفاً بالعلم، وقول الشعر، أخرج له أبو داود، توفي سنة 84، وقيل 85هـ. انظر: السير (4 382)، وتهذيب التهذيب (1 194).
(5) ما بين () زيادة من (غ) و (ر).
(6) في (غ) و (ر): "ألست".
(7) في (ط): "شيء أحد".
(8) في (غ) و (ر): "أفليس".
(9) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "للمنكر".(3/291)
لفهم من قصر فهمه عن إدراك (هذه) (1) الْحَقَائِقِ الْوَاضِحَاتِ.
فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ قَضَاءُ الْعَقْلِ في (كل) (2) عَادِيٍّ بِانْخِرَاقِهِ مَعَ أَنَّ كَوْنَ الْعَادِيِّ عَادِيًّا مُطَّرِدًا (غَيْرَ) (3) صَحِيحٍ أَيْضًا، فَكُلُّ عَادِيٍّ يَفْرِضُ العقل فيه خرق العادة فليس للعقل (إنكاره) (4)، إِذْ قَدْ ثَبَتَ فِي بَعْضِ الْأَنْوَاعِ الَّتِي اخْتُصَّ الْبَارِي بِاخْتِرَاعِهَا، وَالْعَقْلُ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ خَلْقٍ وَخَلْقٍ، فَلَا يُمْكِنُ إِلَّا الْحُكْمُ بِذَلِكَ الْإِمْكَانِ عَلَى كُلِّ مَخْلُوقٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَهْلِ الِاعْتِبَارِ: سُبْحَانَ مَنْ رَبَطَ الْأَسْبَابَ بِمُسَبَّبَاتِهَا وَخَرَقَ الْعَوَائِدَ لِيَتَفَطَّنَ الْعَارِفُونَ. تَنْبِيهًا عَلَى/ هَذَا الْمَعْنَى الْمُقَرَّرِ.
فَهُوَ أَصْلٌ اقْتَضَى لِلْعَاقِلِ أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يُجْعَلَ الْعَقْلُ حَاكِمًا بِإِطْلَاقٍ، وَقَدْ ثَبَتَ عَلَيْهِ حَاكِمٌ بِإِطْلَاقٍ وَهُوَ الشَّرْعُ، بَلِ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُقَدَّمَ مَا حَقُّهُ التَّقْدِيمُ ـ وَهُوَ الشَّرْعُ ـ وَيُؤَخِّرُ مَا حَقُّهُ (التَّأْخِيرُ) (5) ـ وَهُوَ نَظَرُ الْعَقْلِ ـ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَقْدِيمُ النَّاقِصِ (حَاكِمًا) (6) عَلَى الْكَامِلِ، لِأَنَّهُ خِلَافُ الْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ، بَلْ ضِدُّ الْقَضِيَّةِ هُوَ الْمُوَافِقُ لِلْأَدِلَّةِ/ فَلَا مَعْدِلَ عَنْهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ (من قَالَ) (7): اجْعَلِ الشَّرْعَ فِي يَمِينِكَ وَالْعَقْلَ فِي يَسَارِكَ، تَنْبِيهًا عَلَى تَقَدُّمِ الشَّرْعِ عَلَى الْعَقْلِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا وَجَدَ فِي الشَّرْعِ أَخْبَارًا (تَقْتَضِي ظَاهِرًا) (8) خَرْقَ الْعَادَةِ الْجَارِيَةِ الْمُعْتَادَةِ، فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُقَدِّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ (الْإِنْكَارَ) (9) بِإِطْلَاقٍ، بَلْ لَهُ سَعَةٌ فِي أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ (يُصَدِّقَ) (10) بِهِ عَلَى حَسَبِ مَا جَاءَ وَيَكِلُ عِلْمَهُ إِلَى عَالِمِهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ
_________
(1) زيادة من (غ) و (ر).
(2) زيادة من (غ) و (ر).
(3) ساقط من (غ) و (ر).
(4) في (ط) و (خ) و (ت): فيه إنكار. وفي (م): إنكار.
(5) في (غ) و (ر): "أن يؤخر".
(6) في (ط) و (غ) و (ر): "حكما".
(7) ما بين القوسين زيادة من (م) و (غ) و (ر).
(8) في (غ) و (ر): "يقتضي ظاهره".
(9) في (غ) و (ر): "بالإنكار".
(10) في (غ) و (ر): "يقصد".(3/292)
عِنْدِ رَبِّنَا} (1) يَعْنِي الْوَاضِحَ الْمُحْكَمَ، وَالْمُتَشَابِهَ الْمُجْمَلَ، إِذْ لَا يَلْزَمُهُ الْعِلْمُ بِهِ، وَلَوْ لَزِمَ الْعِلْمُ بِهِ (لَجُعِلَ) (2) لَهُ طَرِيقٌ إِلَى مَعْرِفَتِهِ، وَإِلَّا كَانَ تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ. وَإِمَّا أَنْ يَتَأَوَّلَهُ عَلَى مَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ مَعَ الْإِقْرَارِ بِمُقْتَضَى الظَّاهِرِ، لِأَنَّ إِنْكَارَهُ إِنْكَارٌ لِخَرْقِ الْعَادَةِ فِيهِ.
وَعَلَى هَذَا السَّبِيلِ يَجْرِي حُكْمُ الصِّفَاتِ الَّتِي وَصَفَ الْبَارِي بِهَا نَفْسَهُ، لِأَنَّ مَنْ نَفَاهَا نَفَى شِبْهَ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ، وَهَذَا مَنْفِيٌّ عند (الجميع) (3)، فَبَقِيَ الْخِلَافُ/ فِي نَفْيِ (عَيْنِ) (4) / الصِّفَةِ أَوْ إثباتها، (فالمثبت) (5) أثبتها صفة عَلَى شَرْطِ (نَفْيِ) (6) التَّشْبِيهِ، وَالْمُنْكِرُ لِأَنْ يَكُونَ ثَمَّ صِفَةٌ غَيْرُ شَبِيهَةٍ بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ مُنْكِرٌ لِأَنْ يَثْبُتَ أَمْرٌ إِلَّا عَلَى وَفْقِ الْمُعْتَادِ.
فَإِنْ قَالُوا: هَذَا لَازِمٌ فِيمَا تُنْكِرُهُ الْعُقُولُ بَدِيهَةً، كَقَوْلِهِ: (رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتَكْرَهُوا عَلَيْهِ) (7) فَإِنَّ الْجَمِيعَ أَنْكَرُوا ظَاهِرَهُ، إذ العقل/ (والمحسوس) (8) يَشْهَدَانِ بِأَنَّهَا غَيْرُ مَرْفُوعَةٍ، وَأَنْتَ تَقُولُ: اعْتَقَدُوا أَنَّهَا مَرْفُوعَةٌ، وَتَأَوَّلُوا الْكَلَامَ.
/قِيلَ: لَمْ نَعْنِ مَا هُوَ (مُنْكَرٌ بِبَدَاهَةِ) (9) الْعُقُولِ، وَإِنَّمَا عَنَيْنَا ما للنظر
_________
(1) سورة آل عمران: الآية (7).
(2) ما بين القوسين ساقط من (م).
(3) في سائر النسخ ما عدا (غ): "الجمهور".
(4) في (م) و (غ) و (ر): "غير".
(5) في (م): "فالمثال". وفي (غ) و (ر): فالمتأول.
(6) في (م): "يعني".
(7) قال الألباني في إرواء الغليل: صحيح ... والمشهور في كتب الفقه بلفظ: ": (رفع عن أمتي ... ) ولكنه منكر ... والمعروف ما أخرجه ابن ماجه (1 630)، من طريق الوليد بن مسلم ... عن ابن عباس مرفوعاً بلفظ: (إن الله وضع عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتَكْرَهُوا عَلَيْهِ) ... إلخ. انظر: الإرواء (1 123) برقم (82) ففيه تفصيل مطول للحديث.
(8) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: (والحس) نبه عليه رشيد رضا، والله تعالى أعلم.
(9) في (م): من بدائه، وفي (غ) و (ر): بدائه.(3/293)
فِيهِ شَكٌّ وَارْتِيَابٌ/، كَمَا نَقُولُ: إِنَّ الصِّرَاطَ ثَابِتٌ، وَالْجَوَازَ عَلَيْهِ قَدْ أَخْبَرَ الشَّارِعُ بِهِ، فنحن نصدق به لأنه وإن كان (حدّ) (1) السَّيْفِ وَشِبْهِهِ لَا يُمْكِنُ اسْتِقْرَارُ الْإِنْسَانِ فَوْقَهُ عادة فكيف يمشي عليه؟ فالعادة قد (تنخرق) (2) حَتَّى يُمْكِنَ الْمَشْيُ وَالِاسْتِقْرَارُ،/ (وَالَّذِينَ) (3) يُنْكِرُونَهُ (4) يَقِفُونَ مَعَ الْعَوَائِدِ وَيُنْكِرُونَ أَصْلَ الصِّرَاطِ وَلَا يَلْتَفِتُونَ إلى إمكان انخراق العوائد، (فيردون ما جاء فيه أو يتأولونه حتى لا يثبتوا معنى الصراط أصلاً فإن أصروا على هذا ظهر التدافع في قولهم في إجازة انْخِرَاقِ الْعَوَائِدِ) (5)، فَإِنْ فَرَّقُوا صَارَ ذَلِكَ تَحَكُّمًا، لِأَنَّهُ تَرْجِيحٌ فِي أَحَدِ الْمَثَلَيْنِ دُونَ الْآخَرِ من غير مرجح عقلي، وقد صادمهم النَّقْلُ، فَالْحَقُّ الْإِقْرَارُ دُونَ الْإِنْكَارِ.
(وَلْنَشْرَحْ) (6) هَذَا الْمَطْلَبَ بِأَمْثِلَةٍ عَشْرَةٍ:
أَحَدُهَا: مَسْأَلَةُ الصِّرَاطِ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ.
وَالثَّانِي: مَسْأَلَةُ الْمِيزَانِ (7)، إِذْ يُمْكِنُ إِثْبَاتُهُ مِيزَانًا صَحِيحًا عَلَى مَا يَلِيقُ بِالدَّارِ الْآخِرَةِ، وَتُوزَنُ فِيهِ الْأَعْمَالُ عَلَى وَجْهٍ غَيْرِ عَادِيٍّ، نَعَمْ يُقِرُّ الْعَقْلُ بِأَنَّ أَنْفُسَ الْأَعْرَاضِ ـ وَهِيَ الْأَعْمَالُ ـ لَا تُوزَنُ وَزْنَ الْمَوْزُونَاتِ عِنْدَنَا فِي
_________
(1) في (ط) و (خ) و (ت): "كحد".
(2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "تخرق".
(3) في (م): "والذي".
(4) الذين أنكروا كون الصراط أحدّ من السيف وأدق من الشعر: القاضي عبد الجبار المعتزلي، انظر: شرح الأصول الخمسة (737).
(5) ما بين () زيادة من (غ) و (ر).
(6) في (غ) و (ر): "ولنرشح".
(7) المنكرون للميزان هم جمهور المعتزلة، وخالفهم القاضي عبد الجبار حيث أثبت الميزان، وأنه حقيقي توزن به الأعمال كما في شرح الأصول الخمسة (735)، والذي عليه أهل السنة أن الميزان له كفتان حسيَّتان مشاهدتان، وأن الإنسان يوزن مع عمله، وأن الأعمال توزن في الميزان، خلافاً لما ذكر المؤلف، انظر تفصيل هذه المسألة في: مقالات الإسلاميين (2 164)، وفتح الباري (13 547 ـ549)، وشرح الطحاوية (ص409 ـ 413)، ولوامع الأنوار (2 184 ـ189)، وشرح نونية ابن القيم لابن عيسى (2 593)، ولمعة الاعتقاد ص26، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1 177).(3/294)
الْعَادَاتِ وَهِيَ الْأَجْسَامُ، وَلَمْ يَأْتِ فِي النَّقْلِ مَا يُعَيِّنَ أَنَّهُ كَمِيزَانِنَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، أو أنه (عبارة عن العدل) (1) أو (أن) (2) أَنْفُسُ الْأَعْمَالِ تُوزَنُ (بِعَيْنِهَا) (3)، فَالْأَخْلَقُ الْحَمْلُ إِمَّا عَلَى التَّسْلِيمِ ـ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، إِذْ لَمْ يَثْبُتُ عَنْهُمْ إِلَّا مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ عَنْ نَفْسِ الْمِيزَانِ أو (كيفيته أَوْ) (4) كَيْفِيَّةِ الْوَزْنِ، كَمَا أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عنهم في الصراط/ إلا (مثل) (5) مَا ثَبَتَ عَنْهُمْ فِي الْمِيزَانِ، فَعَلَيْكَ بِهِ فَهُوَ مَذْهَبُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَإِنْ قِيلَ: فَالتَّأْوِيلُ إِذًا خَارِجٌ عَنْ طَرِيقَتِهِمْ، فَأَصْحَابُ التَّأْوِيلِ عَلَى هَذَا مِنَ الْفِرَقِ (الْخَارِجَةِ) (6)؟ قِيلَ: لَا، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي ذَلِكَ التَّصْدِيقِ بِمَا جاء (ثم) (7) التسليم محضاً/ أو مع التأويل، (فيكون التأويل من التوابع والذي جرى عليه الصحابة من الوجهين التسليم وهو الأولى إذ هم أحق بالصواب، والتأويل) (8) (نَظَرٌ) (9) لَا يَبْعُدُ، إِذْ قَدْ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي بَعْضِ/ الْمَوَاضِعِ، بِخِلَافِ مَنْ جَعَلَ أَصْلَهُ فِي تِلْكَ الْأُمُورِ التَّكْذِيبَ/ بِهَا، فَإِنَّهُ مُخَالِفٌ لهم، (سلك) (10) في الأحاديث مسلك التأويل (أو لا، فَالتَّأْوِيلُ) (11) أَوْ عَدَمُهُ لَا أَثَرَ لَهُ لِأَنَّهُ تابع على كلتا الطريقتين، (لكن) (12) التَّسْلِيمَ أَسْلَمُ.
وَالثَّالِثُ: مَسْأَلَةُ عَذَابِ الْقَبْرِ (13)، وَهِيَ أسهل، ولا بعد ولا نكير في
_________
(1) في (م): "اعتباره عن النقل". وفي (خ): "عبارة عن النقل"، وفي (ت) و (ط): "عبارة عن الثقل".
(2) ما بين القوسين زيادة من (م) و (غ) و (ر).
(3) في (غ) و (ر): "به بعينه".
(4) زيادة من (غ) و (ر).
(5) زيادة من (غ) و (ر).
(6) في (ط): "الخارج".
(7) زيادة من (غ) و (ر).
(8) ما بين () زيادة من (غ) و (ر).
(9) في (ت): "بنظر".
(10) في (ط) و (خ): لسلك.
(11) ما بين القوسين ساقط من (خ) و (ط).
(12) في (غ) و (ر): "إلا أن".
(13) يقول ابن حزم في الفصل (4 117): ذهب ضرار بن عمرو الغطفاني أحد شيوخ المعتزلة إلى إنكار عذاب القبر، وهو قول من لقينا من الخوارج.
وانظر تفصيل مسألة نعيم القبر وعذابه، وهل يقع على الجسد والروح معاً، وغير ذلك في: الروح لابن القيم (ص75 وما بعدها)، ولوامع الأنوار (2 23 ـ 26)، ومقالات الإسلاميين (2 116).(3/295)
كَوْنِ الْمَيِّتِ يُعَذَّبُ بِرَدِّ الرُّوحِ إِلَيْهِ عَارِيَةً، ثُمَّ تَعْذِيبُهُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَقْدِرُ الْبَشَرُ عَلَى رُؤْيَتِهِ (كَذَلِكَ) (1) وَلَا سَمَاعِهِ، فَنَحْنُ نَرَى الْمَيِّتَ يُعَالِجُ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ وَيُخْبِرُ بِآلَامٍ لَا مَزِيدَ عَلَيْهَا، وَلَا نَرَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ أَثَرًا، وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْأَمْرَاضِ الْمُؤْلِمَةِ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ (فما) (2) نَحْنُ فِيهِ مِثْلُهَا، فَلِمَاذَا يُجْعَلُ اسْتِبْعَادُ الْعَقْلِ صادّاً في وجه التصديق بأقوال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟.
/وَالرَّابِعُ: مَسْأَلَةُ سُؤَالِ الْمَلَكَيْنِ/ لِلْمَيِّتِ وَإِقْعَادِهِ فِي قَبْرِهِ (3)، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يشكل إذا حكمنا (العقل) (4) الْمُعْتَادَ فِي الدُّنْيَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ تَحْكِيمَهُ بِإِطْلَاقٍ غَيْرُ صَحِيحٍ لِقُصُورِهِ، وَإِمْكَانِ خَرْقِ الْعَوَائِدِ، إما (بفسح) (5) الْقَبْرِ حَتَّى يُمْكِنَ إِقْعَادُهُ، أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَا تُحِيطُ بِمَعْرِفَتِهَا الْعُقُولُ.
وَالْخَامِسُ: مَسْأَلَةُ تَطَايُرِ الصُّحُفِ وَقِرَاءَةِ مَنْ لَمْ يَقْرَأْ قَطُّ، وَقِرَاءَتِهِ إِيَّاهُ وَهُوَ خَلْفَ (ظَهْرِهِ) (6)، كُلُّ ذَلِكَ يُمْكِنُ فِيهِ خَرْقُ الْعَوَائِدِ فَيَتَصَوَّرُهُ الْعَقْلُ عَلَى وَجْهٍ مِنْهَا.
وَالسَّادِسُ: (مَسْأَلَةُ) (7) إِنْطَاقِ الْجَوَارِحِ (8) شَاهِدَةً عَلَى صَاحِبِهَا لَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأَحْجَارِ وَالْأَشْجَارِ الَّتِي شَهِدَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرِّسَالَةِ.
وَالسَّابِعُ: رُؤْيَةُ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ جَائِزَةٌ (9)، إِذْ لَا دَلِيلَ في العقل يدل
_________
(1) في (ط) و (ت): "لذلك".
(2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "مما".
(3) سؤال الملكين للميت في القبر وإقعاده فصَّلها ابن أبي العز في شرح الطحاوية (ص389 ـ 396)، والسفاريني في لوامع الأنوار (2 4 ـ 16).
(4) زيادة من (ت).
(5) في سائر النسخ: "بفتح" والتصحيح من هامش (ت).
(6) في (م): "ظاهره".
(7) ساقط من (غ) و (ر).
(8) انظر: تفسير ابن كثير (4 96)، عند تفسير سورة فصلت الآية (21)، وفتح القدير للشوكاني (4 510).
(9) ذهبت المعتزلة والجهمية ومن تبعهم من الخوارج والإمامية وبعض الزيدية وبعض المرجئة إلى نفي رؤية الله تعالى عياناً في الدنيا والآخرة، ومذهب الأشاعرة ومن تبعهم أن الله تعالى يرى في الآخرة في غير جهة. انظر تفصيل المسألة في كتاب: رؤية الله تعالى وتحقيق الكلام فيها، للدكتور أحمد آل حمد.(3/296)
عَلَى أَنَّهُ لَا رُؤْيَةَ إِلَّا عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ عِنْدَنَا، إِذْ يُمْكِنُ أَنْ تَصِحَّ الرُّؤْيَةُ عَلَى أَوْجُهٍ صَحِيحَةٍ لَيْسَ فِيهَا اتِّصَالُ أَشِعَّةٍ ولا مقابلة ولا تصور جهة ولا (فصل) (1) جِسْمٍ/ شَفَّافٍ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ (2)، وَالْعَقْلُ لَا يَجْزِمُ بِامْتِنَاعِ ذَلِكَ بَدِيهَةً، وَهُوَ إِلَى الْقُصُورِ فِي النَّظَرِ أَمْيَلُ، وَالشَّرْعُ قَدْ جَاءَ بِإِثْبَاتِهَا فَلَا مَعْدِلَ عَنِ التَّصْدِيقِ.
وَالثَّامِنُ: كَلَامُ الْبَارِي تَعَالَى إِنَّمَا نَفَاهُ مَنْ/ نَفَاهُ وُقُوفًا مَعَ الكلام (المعتاد) (3) الْمُلَازِمِ لِلصَّوْتِ وَالْحَرْفِ، وَهُوَ فِي حَقِّ الْبَارِي مُحَالٌ (4)، وَلَمْ (يَقِفْ) (5) مَعَ إِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُ تَعَالَى خَارِجًا عَنْ مُشَابَهَةِ الْمُعْتَادِ عَلَى وَجْهٍ صَحِيحٍ/ لَائِقٍ بِالرَّبِّ، إِذْ لَا يَنْحَصِرُ الْكَلَامُ فِيهِ عَقْلًا، وَلَا يَجْزِمُ الْعَقْلُ بِأَنَّ الْكَلَامَ إِذَا كَانَ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ مُحَالٌ، فَكَانَ مِنْ حَقِّهِ الْوُقُوفُ مَعَ ظَاهِرِ الْأَخْبَارِ مُجَرَّدًا.
وَالتَّاسِعُ: / إِثْبَاتُ الصِّفَاتِ كَالْكَلَامِ، إِنَّمَا نَفَاهُ (مَنْ نَفَاهُ) (6) لِلُزُومِ التَّرْكِيبِ (7) عِنْدَهُ فِي ذَاتِ الْبَارِي تَعَالَى عَلَى الْقَوْلِ بِإِثْبَاتِهَا فَلَا يمكن أن
_________
(1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فضل".
(2) هذه اللوازم التي نفاها هنا الشاطبي في رؤية الله تعالى، هي من اللوازم التي ذكرها بعض المتكلمين، وهي مما استدلوا به على نفي الرؤية، وتأويلها بمعان أخرى، ويظهر هنا ميل الشاطبي إلى رأي الأشاعرة في إثبات الرؤية. انظر تفصيل المسألة في المصدر السابق (ص16 وما بعدها).
(3) زيادة من (غ) و (ر).
(4) مذهب أهل السنة أن الله تعالى يتكلم على الحقيقة، وكلامه بحرف وصوت، وأنه سبحانه وتعالى يتكلم كيف شاء متى شاء إذا شاء. والخلاف في مسألة الكلام من المسائل التي كثر الخلاف فيها، وتفصيل المسألة مبسوط في الفتاوى الجزء 12، وانظر كذلك العقيدة السلفية في كلام رب البرية، لعبد الله الجديع.
(5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "يقل"،
(6) ساقط من (غ) و (ر).
(7) القائلون بأن إثبات الصفات يستلزم التركيب هم المعتزلة وبعض الفلاسفة، وقد فصل شيخ الإسلام الرد عليهم في هذه المسألة في كثير من كتبه، وخاصة في نقض أساس التقديس (1 605 ـ 606) وفي درء تعارض العقل والنقل (1 280 ـ 281) (3 15 ـ 17 و389 ـ 390 و395 ـ 407 و419 ـ 438) و (4 148 ـ 149 و183 ـ 188=(3/297)
يَكُونَ وَاحِدًا مَعَ إِثْبَاتِهَا، وَهَذَا قَطْعٌ مِنَ الْعَقْلِ الَّذِي ثَبَتَ (قُصُورُ) (1) إِدْرَاكِهِ (فِي الْمَخْلُوقَاتِ، فكيف لا يثبت/ قصوره في (إدراك) (2)) (3) (ما ادعى) (4) مِنَ التَّرْكِيبِ (بِالنِّسْبَةِ) (5) إِلَى صِفَاتِ الْبَارِي؟ فَكَانَ مِنَ الصَّوَابِ فِي حَقِّهِ أَنْ يُثْبِتَ مِنَ الصِّفَاتِ مَا أَثْبَتَهُ اللَّهُ لِنَفْسِهِ، وَيُقِرُّ مَعَ ذَلِكَ بِالْوَحْدَانِيَّةِ لَهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ.
وَالْعَاشِرُ: تَحْكِيمُ الْعَقْلِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، بِحَيْثُ يَقُولُ: يجب عليه بعثة الرسل، ويجب عليه (رعاية) (6) الصَّلَاحُ وَالْأَصْلَحُ (7)، وَيَجِبُ عَلَيْهِ اللُّطْفُ (8)، وَيَجِبُ عَلَيْهِ كذا (9)، إلى آخر ما ينطق به (اللسان) (10) فِي تِلْكَ الْأَشْيَاءِ، وَهَذَا إِنَّمَا نَشَأَ مِنْ ذَلِكَ الْأَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ، وَهُوَ الِاعْتِيَادُ فِي الْإِيجَابِ عَلَى الْعِبَادِ، وَمَنْ أَجَلَّ الْبَارِي وعظَّمَهُ لَمْ (يَجْتَرِئْ) (11) عَلَى إِطْلَاقِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ، وَلَا أَلَمَّ بِمَعْنَاهَا فِي حَقِّهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْمُعْتَادَ إِنَّمَا حَسَنٌ فِي الْمَخْلُوقِ مِنْ حَيْثُ هُوَ عَبْدٌ مقصور مَحْصُورٌ مَمْنُوعٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى مَا يَمْنَعُهُ شَيْءٌ، وَلَا يُعَارِضُ أَحْكَامَهُ حُكْمٌ، فَالْوَاجِبُ الْوُقُوفُ مَعَ قوله: {قُلْ فَلِلَّهِ} / ي ً ٌ ٍ َ ُ {الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ
_________
=و149 ـ 234 و245 ـ 273) و (5 140 ـ 147 و246 ـ 247) و (7 141 ـ 144 و225 ـ 230) و (10 251 ـ 254 و300 ـ 313).
(1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "قصور في".
(2) في (ط) و (خ) و (م): إدراكها.
(3) ما بين القوسين ساقط من (ت).
(4) في (ت): ادعى ما ادعى. وفي (م): ادعى وفي (ت) و (خ): "إذا ادعى".
(5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "بالرب بالنسبة".
(6) زيادة من (غ) و (ر).
(7) تقدم الكلام على هذه المسألة (ص151).
(8) اللطف عن المتكلمين: هو أن يختار المرء الواجب ويتجنب القبيح، ويسمى توفيقاً وعصمة، وذهب بشر بن المعتمر ومن تبعه إلى أن اللطف غير واجب على الله تعالى، وذهب فريق آخر إلى إيجاب اللطف على الله تعالى. انظر تفصيل المسألة في: مذاهب الإسلاميين لبدوي، وأحال على شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار (520)، ومقالات الإسلاميين (1 287).
(9) المعتزلة هم القائلون بإيجاب بعض الأمور على الله، انظر ما تقدم ذكره عنهم (3/ 151).
(10) زيادة من (غ) و (ر).
(11) في (غ) و (ر): "يجسر".(3/298)
فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (1)، وقوله تعالى: {يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} (2)، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} (3)، {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} (4)، {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ *فَعَّالٌ/ لِمَا يُرِيدُ} (5).
(فالحاصل) (6) من هذه القضية أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْعَقْلِ أَنْ يَتَقَدَّمَ بَيْنَ يدي الشرع، فإنه من (التقديم) (7) بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، بَلْ يَكُونُ مُلَبِّيًا مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ.
ثُمَّ نَقُولُ: إِنَّ هَذَا هو (مذهب الصحابة) (8) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَعَلَيْهِ دَأَبُوا، وَإِيَّاهُ اتَّخَذُوا طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ فَوَصَلُوا، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ سَيْرِهِمْ أَشْيَاءُ:
مِنْهَا: أَنَّهُ لَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ مَا جَاءَ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ أَقَرُّوا وَأَذْعَنُوا لِكَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ صَلَّى الله عليه وسلّم، ولم يصادموه (بمعقول) (9) وَلَا عَارَضُوهُ بِإِشْكَالٍ، وَلَوْ/ كَانَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَنُقِلَ إِلَيْنَا كَمَا نُقِلَ إِلَيْنَا سَائِرُ سِيَرِهِمْ وَمَا جَرَى بَيْنَهُمْ مِنَ الْقَضَايَا وَالْمُنَاظَرَاتِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، فَلَمَّا لَمْ يُنْقَلْ إِلَيْنَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ/ دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ آمَنُوا (به) (10) (وأمرّوه) (11)، كَمَا جَاءَ مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ وَلَا نَظَرٍ.
كان مالك بن أنس رحمه الله يَقُولُ: الْكَلَامُ فِي الدِّينِ أَكْرَهُهُ، وَلَمْ يَزَلْ أَهْلُ بَلَدِنَا يَكْرَهُونَهُ وَيَنْهَوْنَ عَنْهُ، نَحْوَ الْكَلَامِ فِي رَأْيٍ جَهْمٍ وَالْقَدَرِ، وَكُلِّ مَا/ أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَلَا أُحِبُّ الْكَلَامَ إِلَّا فِيمَا تَحْتَهُ عَمَلٌ، فَأَمَّا الْكَلَامُ فِي الدِّينِ وَفِي اللَّهِ عز وجل فالسكوت أحب إلي (منه) (12)، لأني رأيت أهل بلدنا
_________
(1) سورة الأنعام: الآية (149).
(2) سورة آل عمران: الآية (40).
(3) سورة المائدة: الآية (1).
(4) سورة الرعد: الآية (41).
(5) سورة البروج: الآية (15 ـ 16).
(6) في (ت): "والحاصل".
(7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "التقدم".
(8) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "المذهب للصحابة".
(9) زيادة من (غ) و (ر).
(10) ساقط من (غ) و (ر).
(11) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "وأقرّوه".
(12) زيادة من (غ) و (ر).(3/299)
يَنْهَوْنَ عَنِ الْكَلَامِ فِي الدِّينِ إِلَّا فِيمَا تَحْتَهُ عَمَلٌ (1).
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قَدْ بَيَّنَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا تحته عمل هو المباح عِنْدَهُ، وَعِنْدَ أَهْلِ بَلَدِهِ ـ يَعْنِي الْعُلَمَاءَ مِنْهُمْ ـ، وَأَخْبَرَ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الدِّينِ نَحْوَ الْقَوْلِ في صفات الله وأسمائه، وضرب مثلاً (فقال) (2) نَحْوَ رَأْيِ جَهْمٍ وَالْقَدَرِ، قَالَ: وَالَّذِي قَالَهُ مالك عليه جماعة الفقهاء (والعلماء) (3) قَدِيمًا وَحَدِيثًا مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفَتْوَى، وَإِنَّمَا خالف في ذلك أهل البدع، (قال) (4): وَأَمَّا/ الْجَمَاعَةُ فَعَلَى مَا قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ، إِلَّا أَنْ يُضْطَرَّ أَحَدٌ إِلَى الْكَلَامِ، فلا يسعه السكوت إذا طمع في رد الباطل وصرف صاحبه عن مذهبه، (أو خشي ضلال) (5) عَامَّةً، أَوْ نَحْوَ هَذَا (6).
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ (عَبْدِ الْأَعْلَى) (7): سَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ يَوْمَ نَاظَرَهُ/ حَفْصٌ الْفَرْدُ (8) قَالَ لِي: يَا أَبَا مُوسَى، لِأَنْ يَلْقَى اللَّهَ الْعَبْدُ بِكُلِّ ذَنْبٍ مَا خَلَا الشِّرْكَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَلْقَاهُ بِشَيْءٍ مِنَ الْكَلَامِ، لَقَدْ سَمِعْتُ مِنْ حَفْصٍ كَلَامًا لَا أَقْدِرُ أَنْ أَحْكِيَهُ (9).
/وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: لَا يُفْلِحُ صَاحِبُ الْكَلَامِ أَبَدًا، وَلَا تَكَادُ ترى أحداً نظر في (الكلام) (10) إلا وفي قلبه دغل (11).
_________
(1) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (1786)، واللالكائي (309)
(2) زيادة من (غ) و (ر).
(3) زيادة من (غ) و (ر).
(4) زيادة من (غ) و (ر).
(5) في (ط): "وخشي ضلالة".
(6) انظر كلامه في: جامع بيان العلم (2/ 938).
(7) في (م) و (ت): عبد الله. وهو يونس بن عبد الأعلى بن ميسرة أبو موسى المصري، ولد سنة 170هـ، وكان من كبار العلماء في زمانه، وثقه النسائي وابن أبي حاتم، توفي 264هـ. انظر: الجرح والتعديل (9 243)، والسير (12 348).
(8) قال ابن حجر: حفص الفرد، مبتدع، قال النسائي: صاحب كلام، لا يكتب حديثه، وكفره الشافعي في مناظرته. انظر: لسان الميزان (1 330 ـ 331).
(9) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (1788).
(10) في (م) وأصل (ط) و (خ) و (ت): "المسائل".
(11) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (1796).(3/300)
وقال: عن الحسن بن زياد اللؤلؤي (1)، قال لَهُ رَجُلٌ فِي زُفَرَ بْنِ الْهُذَيْلِ (2): أَكَانَ يَنْظُرُ فِي الْكَلَامِ؟ فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ مَا أَحْمَقَكَ، مَا أَدْرَكْتُ مَشْيَخَتَنَا زُفَرَ وَأَبَا يُوسُفَ وَأَبَا حَنِيفَةَ وَمَنْ جَالَسْنَا وَأَخَذْنَا (عَنْهُمْ هَمَّهُمْ) (3) غَيْرُ الْفِقْهِ وَالِاقْتِدَاءِ بِمَنْ تَقَدَّمَهُمْ (4).
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: أَجْمَعَ أَهْلُ الْفِقْهِ وَالْآثَارِ فِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ أَنَّ أَهْلَ الْكَلَامِ أَهْلُ بِدَعٍ وزيغ، ولا يعدون عند الجميع (في (جميع الأمصار)) (5) في طَبَقَاتِ الْعُلَمَاءِ (وَإِنَّمَا) (6) الْعُلَمَاءُ، أَهْلُ الْأَثَرِ وَالتَّفَقُّهِ فيه ويتفاضلون فيه بالإتقان/ وَالْمَيْزِ وَالْفَهْمِ (7).
وَعَنْ أَبِي الزِّنَادِ (8) أَنَّهُ قَالَ: وَايْمُ اللَّهِ إِنْ كُنَّا (لَنَلْتَقِطُ) (9) السُّنَنَ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ (وَالثِّقَةِ، وَنَتَعَلَّمُهَا شَبِيهًا بِتَعَلُّمِنَا آيَ الْقُرْآنِ، (وَمَا بَرِحَ) (10) مَنْ أَدْرَكْنَا مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ) (11)، وَالْفَضْلِ مِنْ (خِيَارِ/ أَوَّلِيَّةِ) (12) النَّاسِ، يَعِيبُونَ أَهْلَ الْجَدَلِ وَالتَّنْقِيبِ وَالْأَخْذِ بِالرَّأْيِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ لِقَائِهِمْ وَمُجَالَسَتِهِمْ، وَيُحَذِّرُونَنَا مُقَارَبَتَهُمْ أَشَدَّ التَّحْذِيرِ، وَيُخْبِرُونَ أَنَّهُمْ أَهْلُ ضَلَالٍ وَتَحْرِيفٍ لِتَأْوِيلِ كِتَابِ اللَّهِ وسنن رسوله صلّى الله عليه وسلّم، وَمَا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى كَرِهَ الْمَسَائِلَ وَنَاحِيَةَ التَّنْقِيبِ/ وَالْبَحْثِ (وَزَجَرَ) (13) عَنْ ذَلِكَ، وَحَذَّرَهُ الْمُسْلِمِينَ فِي غَيْرِ موطن،
_________
(1) هو الحسن بن زياد اللؤلؤي أبو علي الأنصاري، صاحب أبي حنيفة، توفي سنة 204هـ، انظر: تاريخ بغداد (7 314)، والسير (9 543)، وميزان الاعتدال (1 419).
(2) هو زفر بن الهذيل العنبري، ولد سنة 110هـ، قال عنه يحيى بن معين: ثقة مأمون. كان من كبار تلاميذ أبي حنيفة، توفي سنة 158هـ. انظر: طبقات ابن سعد (6 387)، والسير (8 38).
(3) في (غ) و (ر): "عنه يهمهم".
(4) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (1798).
(5) في (ت): "الجميع". وما بين () ساقط من (غ) و (ر).
(6) في (م) و (غ) و (ر): "قال وإنما".
(7) انظر: جامع بيان العلم (2 942).
(8) هو أبو الزناد عبد الله بن ذكوان القرشي المدني، وثقه الإمام أحمد وابن معين، توفي سنة 131هـ. انظر: الجرح والتعديل (5 49)، وتهذيب التهذيب (5 203).
(9) في (م): "لنتلقط".
(10) في (غ) و (ر): "وما قال ودرج".
(11) ما بين القوسين ساقط من (م) و (ت).
(12) في (غ) و (ر): "أخيار لأمة".
(13) في (م) و (خ): "والجزر".(3/301)
حَتَّى كَانَ مِنْ قَوْلِهِ كَرَاهِيَةً لِذَلِكَ: "ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِسُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ (بِشَيْءٍ) (1) فَخُذُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ" (2).
//وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ الله عنه قال: اتقوا (الرأي) (3) في دينكم، قال سحنون: يعني (البدع) (4).
(وَخَرَّجَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عُمَرَ أَيْضًا إِنَّ أَصْحَابَ الرَّأْيِ أَعْدَاءُ السُّنَنِ، أَعْيَتْهُمْ أَنْ يَحْفَظُوهَا) (5) وَتَفَلَّتَتْ مِنْهُمْ أَنْ يَعُوهَا، وَاسْتَحْيَوْا حِينَ سُئلوا أَنْ يَقُولُوا لَا نَعْلَمُ، فَعَارَضُوا السُّنَنَ بِرَأْيِهِمْ، فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاهُمْ (6).
قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ: أَهْلُ الرَّأْيِ هُمْ أَهْلُ الْبِدَعِ (7)، وَهُوَ الْقَائِلُ فِي قَصِيدَتِهِ فِي السُّنَّةِ (8):
وَدَعْ عَنْكَ آرَاءَ الرِّجَالِ وَقَوْلَهُمْ ... فَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ أَزْكَى وَأَشْرَحُ
وَعَنِ الْحَسَنِ قَالَ: إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حِينَ تَشَعَّبَتْ بِهِمُ السُّبُلُ، وَحَادُوا عَنِ الطَّرِيقِ، فَتَرَكُوا الْآثَارَ وَقَالُوا فِي الدِّينِ بِرَأْيِهِمْ فضلُّوا وَأَضَلُّوا (9).
وَعَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: مَنْ (يرغب) (10) برأيه عن أمر الله يضل (11).
_________
(1) في (غ) و (ر): "بأمر".
(2) أخرجه البخاري (7288)، ومسلم (1337)، وابن راهويه في مسنده (60)، وأحمد (2 508)، وابن ماجه (2)، والنسائي في المجتبى (2619)، وفي الكبرى (3598)، والدارقطني في السنن (2 281)، وابن حبان (3707 و3705)، والبيهقي في الكبرى (8398). وقول أبي الزناد في جامع بيان العلم (2/ 949).
(3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الله".
(4) ساقط من (م). وفي (ت) و (خ) و (ط): "الانتهاء عن الجدل فيه"، والأثر أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2002).
(5) ساقط من (غ) و (ر).
(6) تقدم تخريجه (1 176).
(7) انظر: جامع بيان العلم لابن عبد البر (2/ 1042).
(8) انظر: قصيدة الإمام أبي بكر (ص20).
(9) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2026)، وذكر المحقق نسبة القول للشعبي، وبيّن أن في نسخة كُتب الحسن بدلاً من الشعبي.
(10) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "رغب".
(11) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2027).(3/302)
وَعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كان يقول: السنن السنن، (فإن) (1) (السُّنَنَ) (2) قِوَامُ الدِّينِ (3).
وَعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ (عن أبيه) (4) قَالَ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ يَزَلْ أَمْرُهُمْ مُعْتَدِلًا حَتَّى نَشَأَ فِيهِمْ مولَّدون أَبْنَاءُ سَبَايَا الْأُمَمِ، فَأَخَذُوا فِيهِمْ بِالرَّأْيِ فضلُّوا وَأَضَلُّوا (5).
فَهَذِهِ الْآثَارُ وَأَشْبَاهُهَا تُشِيرُ إِلَى ذَمِّ إِيثَارِ نَظَرِ الْعَقْلِ عَلَى آثَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّأْيِ الْمَذْمُومِ فِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ، الْبِدَعُ الْمُحْدَثَةُ فِي الِاعْتِقَادِ، كَرَأْيِ (جَهْمٍ) (6) وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ، لِأَنَّهُمْ قَوْمٌ اسْتَعْمَلُوا قِيَاسَهُمْ وَآرَاءَهُمْ فِي رَدِّ الْأَحَادِيثِ، فَقَالُوا: لَا يَجُوزُ أَنْ يُرَى اللَّهُ/ فِي الْآخِرَةِ (لِأَنَّهُ) (7) تَعَالَى يَقُولُ: {لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ (وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ)} (8) (9) الْآيَةَ، فَرَدُّوا قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "إِنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (10)، وَتَأَوَّلُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ *إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ *} (11)، وَقَالُوا: لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْأَلَ الْمَيِّتُ فِي قَبْرِهِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا/ اثْنَتَيْنِ} (12)، فرُّدوا الْأَحَادِيثَ الْمُتَوَاتِرَةَ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ وَفِتْنَتِهِ (13)، وردوا الأحاديث/ في
_________
(1) في (ط): "إن".
(2) في (غ) و (ر): "السنة".
(3) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2028).
(4) ما بين القوسين زيادة من جامع بيان العلم.
(5) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2015) و (2031).
(6) في جميع النسخ: أبي جهم.
(7) في (م): "فإنه".
(8) ما بين القوسين ساقط من (م).
(9) سورة الأنعام: الآية (103).
(10) أحاديث رؤية الله عز وجل يوم القيامة، من الأحاديث المتواترة، وله عدة روايات، انظر: صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب تفاضل أهل الإيمان في الأعمال، برقم (22 و4581 و4919 و6560 و6574 و7438 و7439)، وفي مسلم (183 ـ 184)، والنسائي (8 112)، وابن ماجه (1 63)، برقم (177 ـ 180). وقد جمع أغلب الروايات الواردة في المسألة الدارقطني في كتاب "رؤية الله".
(11) سورة القيامة: الآيتان (22، 23).
(12) سورة غافر: الآية (11).
(13) انظر طائفة من الأحاديث المتواترة في عذاب القبر وفتنته في كتاب قطف الأزهار المتناثرة للسيوطي (ص294).(3/303)
الشَّفَاعَةِ/ عَلَى تَوَاتُرِهَا (1)،/ وَقَالُوا: لَنْ يَخْرُجَ مِنَ النَّارِ مَنْ دَخَلَ فِيهَا. وَقَالُوا: لَا نَعْرِفُ حَوْضًا وَلَا مِيزَانًا، وَلَا نَعْقِلُ مَا هَذَا، وَرَدُّوا السُّنَنَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ بِرَأْيِهِمْ وَقِيَاسِهِمْ إِلَى أَشْيَاءَ يَطُولُ/ ذِكْرُهَا مِنْ كَلَامِهِمْ فِي (صفات) (2) الْبَارِي، وَقَالُوا: الْعِلْمُ مُحْدَثٌ فِي حَالِ حُدُوثِ الْمَعْلُومِ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ عِلْمٌ إِلَّا عَلَى مَعْلُومٍ، فِرَارًا مِنْ قِدَمِ الْعَالَمِ فِي زَعْمِهِمْ.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ: الرَّأْيُ الْمَذْمُومُ الْمُرَادُ بِهِ الرَّأْيُ الْمُبْتَدَعُ وَشِبْهُهُ مِنْ ضُرُوبِ الْبِدَعِ. وَهَذَا الْقَوْلُ أَعَمُّ مِنَ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ خَاصٌّ (بِالِاعْتِقَادِ) (3)، وَهَذَا عَامٌّ فِي الْعَمَلِيَّاتِ وَغَيْرِهَا.
وَقَالَ آخَرُونَ ـ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهُمُ الْجُمْهُورُ ـ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْقَوْلُ فِي الشَّرْعِ بِالِاسْتِحْسَانِ وَالظُّنُونِ، وَالِاشْتِغَالِ بِحِفْظِ الْمُعْضِلَاتِ، وَرَدِّ الْفُرُوعِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ دُونِ رَدِّهَا إِلَى أُصُولِهَا، فَاسْتُعْمِلَ فِيهَا الرَّأْيُ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ، قَالُوا: وَفِي الِاشْتِغَالِ بِهَذَا تَعْطِيلُ السُّنَنِ وَالتَّذَرُّعُ إِلَى جَهْلِهَا (4).
وَهَذَا الْقَوْلُ غَيْرُ خَارِجٍ عَمَّا تَقَدَّمَ، وَإِنَّمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ هَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ لِلذَّرِيعَةِ إِلَى الرَّأْيِ الْمَذْمُومِ، وَهُوَ مُعَارَضَةُ الْمَنْصُوصِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَبْحَثْ عَنِ السُّنَنِ جَهِلَهَا فَاحْتَاجَ إِلَى الرَّأْيِ، فَلَحِقَ بِالْأَوَّلِينَ الَّذِينَ عَارَضُوا السُّنَنَ حَقِيقَةً، فَجَمِيعُ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ إِعْمَالُ النَّظَرِ الْعَقْلِيِّ مَعَ طَرْحِ السُّنَنِ، إِمَّا قَصْدًا أَوْ غَلَطًا وَجَهْلًا، وَالرَّأْيُ إِذَا عَارَضَ السُّنَّةَ فَهُوَ بِدْعَةٌ وَضَلَالَةٌ.
/فَالْحَاصِلُ مِنْ مَجْمُوعِ ما تقدم أن الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم رضي الله عنهم لم يعارضوا ما جاء في (السنة) (5) بِآرَائِهِمْ، عَلِمُوا مَعْنَاهُ أَوْ جَهِلُوهُ، جَرَى لَهُمْ عَلَى مَعْهُودِهِمْ أَوْ لَا وَهُوَ الْمَطْلُوبُ مِنْ نقله،
_________
(1) المرجع السابق (ص301).
(2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): صفة.
(3) في (غ) و (ر): بالاعتقاديات.
(4) نقله المصنف عن جامع بيان العلم (2/ 1054) متصرفاً مختصراً.
(5) في (غ) و (ر): "السنن".(3/304)
(ليعتبر به) (1) مَنْ قَدَّمَ النَّاقِصَ ـ وَهُوَ الْعَقْلُ ـ عَلَى الْكَامِلِ ـ وَهُوَ الشَّرْعُ ـ وَرَحِمَ اللَّهُ الرَّبِيعَ بْنَ خُثَيْمٍ حَيْثُ يَقُولُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، مَا عَلَّمَكَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ عِلْمٍ فَاحْمَدِ اللَّهَ، وَمَا/ اسْتَأْثَرَ عَلَيْكَ بِهِ مِنْ عِلْمٍ فكِلْه إلى عالمه، ولا تتكلف، فإن الله يقول لنبيه صلّى الله عليه وسلّم: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ *} (2)، إلى آخرها (3).
وعن معتمر بْنِ سُلَيْمَانَ (4) عَنْ جَعْفَرٍ (5) عَنْ رَجُلٍ مِنْ علماء أهل المدينة، قال: إن الله تعالى عَلِمَ عِلْمًا علَّمه الْعِبَادَ، وعَلِمَ عِلْمًا لَمْ يعلِّمه الْعِبَادَ، فَمَنْ تَكَلَّفَ الْعِلْمَ الَّذِي (لَمْ) (6) يعلِّمه الْعِبَادَ لَمْ يَزْدَدْ مِنْهُ إِلَّا بُعْدًا. قَالَ: وَالْقَدَرُ/ مِنْهُ (7).
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: كَانَ مَكْحُولٌ وَالزُّهْرِيُّ يَقُولَانِ: أمِرُّوا هَذِهِ/ الْأَحَادِيثَ كَمَا جَاءَتْ وَلَا تَتَنَاظَرُوا فِيهَا (8).
وَمِثْلُهُ عَنْ مَالِكٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَسُفْيَانَ بْنِ سَعِيدٍ، وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَمَعْمَرِ بْنِ رَاشِدٍ، فِي الْأَحَادِيثِ فِي الصِّفَاتِ أَنَّهُمْ (كلهم قالوا) (9): أمِرُّوها كما جاءت، نحو حديث التنزل، وخلق آدم على صورته، وشبههما،
_________
(1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "وليعتبر فيه".
(2) سورة ص: الآية (86).
(3) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2011).
(4) معتمر بن سليمان التيمي أبو محمد البصري، ثقة من كبار التاسعة، مات سنة سبع وثمانين وقد جاوز الثمانين. انظر: التاريخ الكبير (8 49)، تهذيب التهذيب (10 204)، التقريب (6785).
(5) جعفر بن حيان السعدي، أبو الأشهب العطاردي البصري، مشهور بكنيته، ثقة من السادسة، مات سنة خمس وستين وله خمس وتسعون سنة. انظر: التاريخ الكبير (2 189)، تهذيب التهذيب (2 75)، التقريب (935).
(6) ما بين القوسين ساقط من (م). وفي (خ): "لا".
(7) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (1804).
(8) أخرجه اللالكائي (735)، وفي جامع بيان العلم (1801).
(9) ما بين القوسين ساقط من (ط) و (خ).(3/305)
وَحَدِيثُ مَالِكٍ فِي السُّؤَالِ عَنِ الِاسْتِوَاءِ/ مَشْهُورٌ (1).
وَجَمِيعُ مَا قَالُوهُ مُسْتَمَدٌّ مِنْ مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} (2) الْآيَةَ، ثُمَّ قَالَ: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}، فإنها صريحة في هذا (المعنى) (3) الَّذِي قَرَّرْنَاهُ، فَإِنَّ كُلَّ (مَا لَمْ) (4) يَجْرِ عَلَى الْمُعْتَادِ فِي الْفَهْمِ مُتَشَابِهٌ، (فَالْوُقُوفُ) (5) عَنْهُ هُوَ الْأَحْرَى بِمَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ الْمُتَّبِعُونَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ لَوْ كَانَ مِنْ شَأْنِهِمُ اتِّبَاعُ الرَّأْيِ لَمْ يَذُمُّوهُ وَلَمْ يَنْهَوْا عَنْهُ لَأَنَّ أَحَدًا لَا يَرْتَضِي طَرِيقًا ثُمَّ يَنْهَى عَنْ سُلُوكِهِ، كَيْفَ وَهَمَ قُدْوَةُ الْأُمَّةِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ.
/وَرُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ كَانَ فِي مَجْلِسٍ فَذُكِرَ (فِيهِ أَصْحَابُ) (6) مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّهُمْ كَانُوا أبرَّ هَذِهِ الْأُمَّةِ قُلُوبًا، وَأَعْمَقُهَا عِلْمًا، وَأَقَلُّهَا تَكَلُّفًا، قَوْمٌ اخْتَارَهُمُ اللَّهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَشَبَّهُوا بِأَخْلَاقِهِمْ وَطَرَائِقِهِمْ، فَإِنَّهُمْ ـ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ ـ عَلَى الْهُدَى الْمُسْتَقِيمِ (7).
وَعَنْ/ حذيفة رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: اتَّقُوا اللَّهَ يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ وَخُذُوا طَرِيقَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَلَعَمْرِي لَئِنِ (اتَّبَعْتُمُوهُ) (8) لَقَدْ سَبَقْتُمْ سَبْقًا بَعِيدًا، وَلَئِنْ تَرَكْتُمُوهُ يِمِينًا أَوْ شِمَالًا لَقَدْ ضَلَلْتُمْ ضَلَالًا بعيداً (9).
_________
(1) الآثار الواردة عن قول السلف: (أمرّوها كما جاءت بلا كيف) ونحوها، أخرجها ابن عبد البر في جامع بيان العلم (1802)، والآجري في الشريعة (720)، والحلية (6 325)، واللالكائي (735 و875 و877 و930)، والبيهقي في الأسماء والصفات (2 198) وفي الاعتقاد (ص44)، والصابوني في عقيدة السلف (90)، وقول الإمام مالك في الاستواء أخرجه اللالكائي (664)، وروى بنحوه عن أم سلمة (663)، وربيعة الرأي (665)، وانظر: شرح السنة للبغوي (1 171)، وحلية الأولياء (6 325 ـ 326).
(2) سورة آل عمران: الآية (7).
(3) ما بين القوسين ساقط من (ط).
(4) في (م) و (خ) و (ت): "من لم".
(5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فالوقف".
(6) ما بين القوسين ساقط من (م)، وفي (غ) و (ر): "أصحاب".
(7) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (1807).
(8) في (ت): "اتبعتم"، وفي (غ) و (ر): "اتبعتموهم".
(9) تقدم تخريجه (1 127).(3/306)
وعن ابن مسعود رضي الله عنه: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُتَأَسِّيًا فليتأسَّ/ بِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَبَرَّ هَذِهِ الْأُمَّةِ قُلُوبًا، وَأَعْمَقُهَا عِلْمًا، وَأَقَلُّهَا تَكَلُّفًا، وأقومها هدياً، وأحسنها (حالاً) (1)، (قَوْمٌ) (2) اخْتَارَهُمُ اللَّهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِقَامَةِ دِينِهِ، فَاعْرِفُوا لَهُمْ فَضْلَهُمْ، وَاتَّبِعُوهُمْ فِي آثَارِهِمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْهُدَى الْمُسْتَقِيمِ (3).
وَالْآثَارُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ جَمِيعُهَا يَدُلُّ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ وَالِاتِّبَاعِ لِطَرِيقِهِمْ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَهُوَ طَرِيقُ النَّجَاةِ حَسْبَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ حَدِيثُ الْفِرَقِ فِي قَوْلِهِ: "مَا أَنَا عليه وأصحابي" (4).
_________
(1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر) وجامع بيان العلم: "خلالاً".
(2) في (غ) و (ر): "قوماً".
(3) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (1810).
(4) تقدم تخريجه (3/ 122).(3/307)
فصل
النوع الرابع (1): (اتباع الهوى، اعلم) (2) إِنَّ الشَّرِيعَةَ مَوْضُوعَةٌ لِإِخْرَاجِ الْمُكَلَّفِ عَنْ دَاعِيَةِ هَوَاهُ/ حَتَّى يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ (3)، وَهَذَا/ أَصْلٌ قَدْ تَقَرَّرَ فِي قِسْمِ الْمَقَاصِدِ مِنْ كِتَابِ الْمُوَافَقَاتِ (4)، لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ كلِّي يَلِيقُ بِالْأُصُولِ، فَمَنْ أَرَادَ الْإِطْلَاعَ عَلَيْهِ فَلْيُطَالِعْهُ مِنْ هُنَالِكَ.
ولما كانت طرق (الهوى) (5) (مُتَشَعِّبَةً) (6) لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُؤْتَى عَلَيْهَا بِالِاسْتِيفَاءِ، فَلْنَذْكُرْ مِنْهَا شُعْبَةً وَاحِدَةً تَكُونُ كَالطَّرِيقِ لِمَعْرِفَةِ مَا سِوَاهَا.
/فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَضَعَ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ حُجَّةً عَلَى الْخَلْقِ كَبِيرِهِمْ وَصَغِيرِهِمْ مطيعهم وعاصيهم، برهم وفاجرهم، لم (يختص) (7) الحجة بِهَا أَحَدًا دُونَ أَحَدٍ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الشَّرَائِعِ إِنَّمَا وُضِعَتْ لِتَكُونَ حُجَّةً عَلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ الَّتِي تَنْزِلُ فِيهِمْ تِلْكَ الشَّرِيعَةُ، حَتَّى إِنَّ (الْمُرْسَلِينَ) (8) (بِهَا) (9) صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ دَاخِلُونَ تَحْتَ أَحْكَامِهَا.
فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ/ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخَاطَبٌ بِهَا فِي جَمِيعِ/ أحواله
_________
(1) النوع الرابع من الإحداث في الشريعة.
(2) ما بين القوسين زيادة من (ت).
(3) في الموافقات (2 114): (حتى يكون عبداً لله اختياراً، كما هو عبد لله اضطراراً). وهي أتم في المعنى.
(4) انظر: الموافقات (2 114).
(5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الحق".
(6) ما بين القوسين ساقط من (ت).
(7) في (غ) و (ر): "تختص".
(8) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الشريعة المرسلين".
(9) ساقط من (ت).(3/308)
وَتَقَلُّبَاتِهِ، مِمَّا اخْتُصَّ بِهِ دُونَ أُمَّتِهِ، أَوْ كان عاماً له ولأمته، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} (إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى) (1) خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} (2)، ثم قال تَعَالَى: {لاَ يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلاَ أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} (3)، وقوله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ *} (4)، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (5)، إِلَى سَائِرِ التَّكَالِيفِ الَّتِي وَرَدَتْ عَلَى كُلِّ مكلف، والنبي صلّى الله عليه وسلّم فِيهِمْ، فَالشَّرِيعَةُ هِيَ الْحَاكِمَةُ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ عَلَيْهِ وَعَلَى جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ، وَهِيَ الطَّرِيقُ الْمُوصِلُ وَالْهَادِي الْأَعْظَمُ.
أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} (6)، فهو صلّى الله عليه وسلّم أَوَّلُ مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ بِالْكِتَابِ وَالْإِيمَانِ، ثُمَّ مَنِ اتَّبَعَهُ فِيهِ وَالْكِتَابُ هُوَ الْهَادِي، وَالْوَحْيُ الْمُنَزَّلُ عَلَيْهِ مُرْشِدٌ وَمُبَيِّنٌ لِذَلِكَ الْهَدْيِ وَالْخَلْقُ مهتدون بالجميع، ولما استنار قلبه وجوارحه صلّى الله عليه وسلّم وَبَاطِنُهُ/ وَظَاهِرُهُ بِنُورِ الْحَقِّ عِلْمًا وَعَمَلًا، صَارَ هُوَ الْهَادِيَ الْأَوَّلَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ وَالْمُرْشِدَ (الْأَعْظَمَ) (7)، حَيْثُ (خصَّه) (8) اللَّهُ دُونَ الْخَلْقِ بِإِنْزَالِ ذَلِكَ النُّورِ عَلَيْهِ، وَاصْطَفَاهُ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ كَانَ مثله في الخلقة البشرية اصطفاءً (أزلياً) (9)، لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ بَشَرًا عَاقِلًا ـ مَثَلًا ـ لِاشْتِرَاكِهِ مَعَ غَيْرِهِ فِي هَذِهِ// الْأَوْصَافِ، وَلَا لِكَوْنِهِ مِنْ قُرَيْشٍ ـ مَثَلًا ـ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَإِلَّا لَزِمَ ذَلِكَ فِي كُلِّ قُرَشِيٍّ، وَلَا لِكَوْنِهِ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ/ وَلَا لِكَوْنِهِ عَرَبِيًّا، وَلَا لِغَيْرِ ذَلِكَ، بَلْ مِنْ جِهَةِ اخْتِصَاصِهِ بِالْوَحْيِ الَّذِي اسْتَنَارَ بِهِ قَلْبُهُ وَجَوَارِحُهُ فَصَارَ خُلَقه القرآن، حتى قيل فيه:
_________
(1) ما بين القوسين ساقط من (م).
(2) سورة الأحزاب: الآية (50).
(3) سورة الأحزاب: الآية (52).
(4) سورة التحريم: الآية (1).
(5) سورة الطلاق: الآية (1).
(6) سورة الشورى: الآية (52).
(7) في (غ) و (ر): "الأول".
(8) في (غ) و (ر): "اختصه".
(9) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): أولياً. وفي (ر): "اصطفاه أزلياً".(3/309)
{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ *} (1)، وإنما ذلك لِأَنَّهُ حَكَّم الْوَحْيَ (عَلَى نَفْسِهِ، حَتَّى صَارَ فِي عِلْمِهِ وَعَمَلِهِ عَلَى وَفْقِهِ، فَكَانَ الْوَحْيُ حاكماً (وافق) (2) قابلاً مُذْعِنًا) (3) مُلَبِّيًا نِدَاءَهُ، وَاقِفًا عِنْدَ حُكْمِهِ، وَهَذِهِ الْخَاصِّيَّةُ كَانَتْ مِنْ أَعْظَمِ الْأَدِلَّةِ عَلَى صِدْقِهِ فِيمَا جَاءَ بِهِ، إِذْ قَدْ جَاءَ بِالْأَمْرِ وَهُوَ مُؤْتَمَرٌ، وَبِالنَّهْيِ وَهُوَ مُنْتَهٍ، وَبِالْوَعْظِ وَهُوَ مُتَّعِظٌ، وَبِالتَّخْوِيفِ وَهُوَ أَوَّلُ الْخَائِفِينَ، وَبِالتَّرْجِيَةِ وَهُوَ (سَائِقٌ دَابَّةَ الرَّاجِينَ) (4).
وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ (كُلِّهِ) (5) جَعْلُهُ الشَّرِيعَةَ الْمُنَزَّلَةَ عَلَيْهِ حُجَّةً (حَاكِمَةً) (6) عَلَيْهِ، وَدَلَالَةً لَهُ/ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي سَارَ عَلَيْهِ صلّى الله عليه وسلّم، وبذلك صار عبداً لله حَقًّا، وَهُوَ أَشْرَفُ اسْمٍ تَسَمَّى بِهِ الْعِبَادُ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ/ لَيْلاً} (7)، {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} (8)، {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} (9)، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ/ الْآيَاتِ الَّتِي وَقَعَ مدحه فيها (بصفة) (10) العبودية.
وإذا كان (ذلك) (11) كَذَلِكَ فَسَائِرُ الْخَلْقِ حَرِيُّونَ بِأَنْ تَكُونَ الشَّرِيعَةُ حُجَّةً حَاكِمَةً عَلَيْهِمْ وَمَنَارًا يَهْتَدُونَ بِهَا إِلَى الْحَقِّ، وَشَرَفُهُمْ إِنَّمَا يَثْبُتُ بِحَسَبِ مَا اتَّصَفُوا بِهِ مِنَ الدُّخُولِ تَحْتَ أَحْكَامِهَا وَالْعَمَلِ بِهَا قَوْلًا وَاعْتِقَادًا وَعَمَلًا، لَا بِحَسَبِ عُقُولِهِمْ فَقَطْ، وَلَا بِحَسَبِ شَرَفِهِمْ (فِي قَوْمِهِمْ) (12) فَقَطْ، لِأَنَّ الله تعالى إنما أثبت الشرف بالتقوى لا غيرها لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (13)، فَمَنْ كَانَ أَشَدَّ مُحَافَظَةً عَلَى اتِّبَاعِ الشَّرِيعَةِ فهو أولى
_________
(1) سورة القلم: الآية (4).
(2) في (ط) و (خ): "وافقا".
(3) ما بين () ساقط من (غ) و (ر).
(4) في (غ) و (ر): "سابق حلبة الراجلين".
(5) ساقط من (غ) و (ر).
(6) ساقط من (غ) و (ر).
(7) سورة الإسراء: الآية (1).
(8) سورة الفرقان: الآية (1).
(9) سورة البقرة: الآية (23).
(10) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "بصحة".
(11) زيادة من (غ) و (ر).
(12) ساقط من (غ) و (ر).
(13) سورة الحجرات: الآية (13).(3/310)
بِالشَّرَفِ وَالْكَرَمِ، وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يَبْلُغَ فِي الشَّرَفِ مَبْلَغَ الْأَعْلَى فِي اتِّبَاعِهَا، فَالشَّرَفُ إِذًا إِنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ المبالغة في تحكيم الشريعة.
/ثُمَّ نَقُولُ بَعْدَ هَذَا: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ شَرَّفَ أَهْلَ الْعِلْمِ وَرَفَعَ أَقْدَارَهُمْ، وَعَظَّمَ مِقْدَارَهُمْ، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ، بَلْ قَدِ اتَّفَقَ الْعُقَلَاءُ عَلَى فَضِيلَةِ الْعِلْمِ وَأَهْلِهِ، وأنهم المستحقون (لأشرف) (1) الْمَنَازِلِ، وَهُوَ مِمَّا لَا يُنَازِعُ فِيهِ عَاقِلٌ.
وَاتَّفَقَ أَهْلُ الشَّرَائِعِ عَلَى أَنَّ عُلُومَ الشَّرِيعَةِ أَفْضَلُ الْعُلُومِ وَأَعْظَمُهَا أَجْرًا عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا عَلَيْنَا/ أَسَامَحَنَا بَعْضُ الْفِرَقِ فِي تعيين/ العلوم (الشرعية) (2) ـ أَعْنِي الْعُلُومَ الَّتِي نَبَّهَ الشَّارِعُ عَلَى مَزِيَّتِهَا وفضيلتها ـ أم لم نسامحهم، بعد الاتفاق من الجميع على الأفضلية، وإثبات (المزية) (3).
وَأَيْضًا فَإِنَّ عُلُومَ الشَّرِيعَةِ مِنْهَا مَا يَجْرِي مَجْرَى الْوَسَائِلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى السَّعَادَةِ الْأُخْرَوِيَّةِ، وَمِنْهَا مَا يَجْرِي مَجْرَى الْمَقَاصِدِ، وَالَّذِي يَجْرِي (مِنْهَا) (4) مَجْرَى الْمَقَاصِدِ أَعْلَى/ مِمَّا لَيْسَ كَذَلِكَ ـ بِلَا نزاع بين العقلاء (في ذلك) (5) ـ كَعِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْمِ الْفِقْهِ، فَإِنَّهُ كَالْوَسِيلَةِ، فَعِلْمُ الْفِقْهِ (أَعْلَى) (6).
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فأهل العلم أشرف الناس (وأعظمهم) (7) منزلة بلا إشكال (فلا) (8) نِزَاعٍ وَإِنَّمَا وَقَعَ الثَّنَاءُ فِي الشَّرِيعَةِ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ حَيْثُ اتِّصَافِهِمْ بِالْعِلْمِ لَا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ وُقُوعُ الثناء عليهم مقيداً
_________
(1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "لشرف".
(2) زيادة من (غ) و (ر).
(3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الحرية".
(4) زيادة من (غ) و (ر).
(5) في سائر النسخ ما عدا (ت): "أيضاً".
(6) في (غ) و (ر): "أولى".
(7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "وأعظم".
(8) في (غ) و (ر): "ولا".(3/311)
بِالِاتِّصَافِ بِهِ، فَهُوَ إِذًا الْعِلَّةُ فِي الثَّنَاءِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ الِاتِّصَافُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَزِيَّةٌ على غيرهم، ومن (ثَمَّ) (1) صار العلماء حكاماً على الخلائق أجمعين قضاءاً أَوْ فُتْيَا أَوْ إِرْشَادًا؛ لِأَنَّهُمُ اتَّصَفُوا بِالْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ الَّذِي هُوَ حَاكِمٌ بِإِطْلَاقٍ فَلَيْسُوا بِحُكَّامٍ مِنْ جِهَةِ مَا اتَّصَفُوا بِوَصْفٍ يَشْتَرِكُونَ فِيهِ مَعَ غَيْرِهِمْ كَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالْعَقْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، إِذْ لَا مَزِيَّةَ فِي ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ، لِاشْتِرَاكِ الْجَمِيعِ فِيهَا، وَإِنَّمَا صَارُوا حكاماً (من جهة ما اتصفوا بالوصف الحاكم وهو العلم، وهذا التقرير غير محتاج إلى برهانٍ لوضوحه، ثم نقول بعد هذا لما صار أهل العلم حكاماً) (2) على الخلق (ومرجوعاً) (3) إليهم بسبب/ حملهم/ للعلم الحاكم، (لزم) (4) مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يَكُونُونَ (حُكَّامًا) (5) عَلَى الخلق إلا من ذلك الوجه، كَمَا أَنَّهُمْ مَمْدُوحُونَ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ أَيْضًا، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَّصِفُوا بِوَصْفِ الْحُكْمِ مَعَ فرض خروجهم عن صوب الْعِلْمِ الْحَاكِمِ، إِذْ لَيْسُوا حُجَّةً إِلَّا مِنْ جِهَتِهِ، فَإِذَا خَرَجُوا عَنْ جِهَتِهِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونُوا حُكَّامًا؟ هَذَا مُحَالٌ.
وَكَمَا أَنَّهُ لَا يُقَالُ فِي الْعَالِمِ بِالْعَرَبِيَّةِ مُهَنْدِسٌ، وَلَا فِي الْعَالِمِ بِالْهَنْدَسَةِ عَرَبِيٌّ، فَكَذَلِكَ لَا يُقَالُ في الزائغ عن الحكم (بأحكام/ الشرع) (6) حَاكِمٌ بِالشَّرْعِ، بَلْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ حَاكِمٌ بِعَقْلِهِ أَوْ بِرَأْيِهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، (فَلَا) (7) يَصِحُّ أَنْ يُجْعَلَ حُجَّةً فِي الْعِلْمِ الْحَاكِمِ/ لِأَنَّ الْعِلْمَ (الْحَاكِمَ) (8) يُكَذِّبُهُ وَيَرُدُّ عَلَيْهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا فِي الْجُمْلَةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ لَا يُخَالِفُ فِيهِ أَحَدٌ مِنَ الْعُقَلَاءِ.
ثُمَّ نَصِيرُ مِنْ هَذَا إِلَى (مَعْنًى) (9) آخَرَ مُرتب عَلَيْهِ، وَهُوَ أَنَّ الْعَالِمَ بِالشَّرِيعَةِ إِذَا اتُّبِعَ فِي قَوْلِهِ، وَانْقَادَ إِلَيْهِ النَّاسُ فِي حُكْمِهِ، فَإِنَّمَا اتُّبِعَ من حيث
_________
(1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "ذلك".
(2) ما بين () زيادة من (غ) و (ر).
(3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "مرجوعاً".
(4) في (ط) و (خ) و (ت): "فلزم".
(5) ما بين القوسين ساقط من (ط).
(6) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الشرعي".
(7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فهنا".
(8) زيادة من (غ) و (ر).
(9) في (غ) و (ر): "نوع".(3/312)
هو (عالم بِهَا) (1) وَحَاكِمٌ/ بِمُقْتَضَاهَا، لَا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، فَهُوَ/ فِي الْحَقِيقَةِ مُبَلِّغٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الْمُبَلِّغِ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَتَلَقَّى مِنْهُ مَا بَلَّغَ عَلَى الْعِلْمِ بِأَنَّهُ بَلَّغَ، أَوْ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ بأنه بلغ لا من جهة (أنه) (2) مُنْتَصِبٌ لِلْحُكْمِ مُطْلَقًا، إِذْ لَا يَثْبُتُ ذَلِكَ لِأَحَدٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ ثَابِتٌ لِلشَّرِيعَةِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم، وثبت ذلك له صلّى الله عليه وسلّم وَحْدَهُ دُونَ الْخَلْقِ مِنْ جِهَةِ دَلِيلِ الْعِصْمَةِ وَالْبُرْهَانُ أَنَّ جَمِيعَ مَا يَقُولُهُ أَوْ يَفْعَلُهُ حَقٌّ. فَإِنَّ الرِّسَالَةَ الْمُقْتَرِنَةَ بِالْمُعْجِزَةِ عَلَى ذَلِكَ دلت، فغيره لم (تثبت) (3) لَهُ عِصْمَةٌ (بِالْمُعْجِزَةِ) (4) (بِحَيْثُ) (5) (يَحْكُمُ بِمُقْتَضَاهَا) (6) حَتَّى يساوي النبي فِي الِانْتِصَابِ لِلْحُكْمِ بِإِطْلَاقٍ بَلْ إِنَّمَا يَكُونُ مَنْتَصِبًا عَلَى شَرْطِ الْحُكْمِ/ (بِمُقْتَضَى الشَّرِيعَةِ) (7)، بِحَيْثُ إِذَا وُجِدَ الْحُكْمُ فِي الشَّرْعِ بِخِلَافِ مَا حَكَمَ لَمْ يَكُنْ حَاكِمًا، (إِذَ) (8) كَانَ ـ بِالْفَرْضِ ـ خَارِجًا عَنْ مُقْتَضَى الشَّرِيعَةِ الْحَاكِمَةِ، وَهُوَ أَمْرٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَلِذَلِكَ إِذَا وَقَعَ النِّزَاعُ فِي مَسْأَلَةٍ شَرْعِيَّةٍ وَجَبَ رَدُّهَا إِلَى الشريعة (حتى) (9) يَثْبُتُ الْحَقُّ فِيهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ} (10) الْآيَةَ.
فَإِذًا الْمُكَلَّفُ بِأَحْكَامِهَا لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا فِيهَا، فَحُكْمُهُ مَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ فِيهَا، لِأَنَّ اجْتِهَادَهُ فِي الْأُمُورِ الَّتِي (لَيْسَتْ دَلَالَتُهَا) (11) واضحة إنما يقع موقعه على
_________
(1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "عالم وحاكم بها".
(2) في (ط): "كونه".
(3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "يثبت".
(4) في (م): "بالمعجزة بمقتضاها".
(5) ساقط من (غ) و (ر).
(6) ما بين القوسين ساقط من (م) و (غ) و (ر).
(7) في (م) و (غ) و (ر): "بمقتضاها".
(8) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "إذا".
(9) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "حيث".
(10) سورة النساء: الآية (59).
(11) في (م): "ليس دلالة". وفي (غ) و (ر): "ليس فيها دلالة".(3/313)
فَرْضِ أَنْ يَكُونَ مَا ظَهَرَ لَهُ هُوَ الْأَقْرَبُ إِلَى قَصْدِ الشَّارِعِ وَالْأَوْلَى بِأَدِلَّةِ الشَّرِيعَةِ، دُونَ مَا ظَهَرَ لِغَيْرِهِ/ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ اتِّبَاعُ مَا هُوَ الْأَقْرَبُ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَسَعُهُ فِيمَا اتَّضَحَ فِيهِ الدَّلِيلُ (إِلَّا اتِّبَاعُ الدَّلِيلِ) (1)، دُونَ مَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَيُعَدُّ مَا ظَهَرَ لَهُ لَغْوًا كَالْعَدَمِ، لِأَنَّهُ عَلَى غَيْرِ صَوْبِ الشَّرِيعَةِ الْحَاكِمَةِ، فَإِذًا (لَيْسَ قَوْلُهُ) (2) بِشَيْءٍ يُعْتَدُّ بِهِ فِي الْحُكْمِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ/ مُقَلِّدًا صِرْفًا، خَلِيًّا مِنَ الْعِلْمِ الحاكم جملة، فلا بد لَهُ مِنْ قَائِدٍ يَقُودُهُ، وَحَاكِمٍ يَحْكُمُ عَلَيْهِ، وَعَالِمٍ يَقْتَدِي بِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُقْتَدَى بِهِ إِلَّا مِنْ حَيْثُ هُوَ عَالِمٌ بِالْعِلْمِ الْحَاكِمِ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ عَلِمَ أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْعِلْمِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ اتِّبَاعُهُ وَلَا الِانْقِيَادُ (لِحُكْمِهِ) (3)، بَلْ لَا يَصِحُّ أَنْ يَخْطُرَ بِخَاطِرِ الْعَامِّيِّ وَلَا غَيْرِهِ تَقْلِيدُ الْغَيْرِ فِي أَمْرٍ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْأَمْرِ، كَمَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُسَلِّمَ الْمَرِيضُ نَفْسَهُ إِلَى أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِطَبِيبٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ/ فَاقِدَ الْعَقْلِ، وَإِذَا/ كَانَ كَذَلِكَ/ فَإِنَّمَا يَنْقَادُ إِلَى الْمُفْتِي مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ عَالِمٌ بِالْعِلْمِ الَّذِي يَجِبُ الِانْقِيَادُ إِلَيْهِ، لَا مِنْ جِهَةِ كونه فلاناً (أو فلاناً) (4)، (وَهَذِهِ) (5) الْجُمْلَةُ أَيْضًا لَا يَسْعُ الْخِلَافُ فِيهَا عَقْلًا وَلَا شَرْعًا.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ بَالِغٍ مَبْلَغَ الْمُجْتَهِدِينَ، لَكِنَّهُ يَفْهَمُ الدَّلِيلَ وَمَوْقِعَهُ، وَيَصْلُحُ فَهْمُهُ لِلتَّرْجِيحِ بِالْمُرَجِّحَاتِ الْمُعْتَبَرَةِ (فِي) (6) تَحْقِيقِ المناط ونحوه، فلا يخلو (أن) (7) يعتبر ترجيحه ونظره، أَوْ لَا؟ فَإِنِ اعْتَبَرْنَاهُ صَارَ مِثْلَ الْمُجْتَهِدِ فِي ذَلِكَ الْوَجْهِ، وَالْمُجْتَهِدُ إِنَّمَا هُوَ تَابِعٌ لِلْعِلْمِ الْحَاكِمِ نَاظِرٌ نَحْوَهُ، مُتَوَجِّهٌ شَطْرَهُ: فَالَّذِي يشبهه كذلك، وإن لم نعتبره فلا بد من
_________
(1) ما بين القوسين زيادة من (ت) و (غ) و (ر).
(2) في (ت): "قوله ليس".
(3) في (ت): "إلى حكمه".
(4) ما بين القوسين ساقط من (ط).
(5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "أيضاً وهذه".
(6) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فيه".
(7) في (ت) و (ط) و (خ): "إما أن".(3/314)
(رُجُوعِهِ) (1) إِلَى دَرَجَةِ الْعَامِّيِّ، وَالْعَامِّيُّ إِنَّمَا اتَّبَعَ الْمُجْتَهِدَ مِنْ جِهَةِ تَوَجُّهِهِ/ إِلَى صَوْبِ الْعِلْمِ الْحَاكِمِ، فَكَذَلِكَ مَنْ نَزَلَ مَنْزِلَتَهُ.
ثُمَّ نَقُولُ: إن هذا مذهب الصحابة رضي الله عنهم، أَمَّا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاتِّبَاعُهُ لِلْوَحْيِ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ، وَأَمَّا أَصْحَابُهُ فَاتِّبَاعُهُمْ لَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ بِمُؤَالِفٍ أَوْ مُخَالِفٍ شَهِيرٍ عَنْهُمْ، فَلَا (نُطِيلُ الِاسْتِدْلَالَ) (2) عَلَيْهِ.
/فَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ لَا يَتَّبِعُ أَحَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَّا مِنْ حَيْثُ هُوَ مُتَوَجِّهٌ نَحْوَ الشَّرِيعَةِ قَائِمٌ بِحُجَّتِهَا، حَاكِمٌ بِأَحْكَامِهَا جملة وتفصيلاً، وإنه (متى) (3) وُجِدَ مُتَوَجِّهًا غَيْرَ تِلْكَ الْوُجْهَةِ فِي جُزْئِيَّةٍ مِنَ الْجُزْئِيَّاتِ أَوْ فَرْعٍ مِنَ الْفُرُوعِ لَمْ يَكُنْ حَاكِمًا وَلَا اسْتَقَامَ أَنْ يَكُونَ مُقْتَدًى بِهِ فِيمَا حَادَ فِيهِ عَنْ صَوْبِ الشَّرِيعَةِ أَلْبَتَّةَ.
فَيَجِبُ إِذًا عَلَى النَّاظِرِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَمْرَانِ إِذَا كَانَ غَيْرَ مُجْتَهِدٍ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَتَّبِعَ الْعَالِمَ إِلَّا مِنْ جِهَةِ ما هو عالم بالعلم المحتاج إليه (من) (4) حَيْثُ هُوَ طَرِيقٌ إِلَى اسْتِفَادَةِ ذَلِكَ الْعِلْمِ، إِذْ لَيْسَ لِصَاحِبِهِ مِنْهُ إِلَّا كَوْنُهُ مُودَعًا لَهُ، وَمَأْخُوذًا/ (بِأَدَاءِ) (5) تِلْكَ الْأَمَانَةِ، حَتَّى إِذَا علم أو غلب على ظنه أَنَّهُ مُخْطِئٌ فِيمَا يُلْقِي، أَوْ تَارِكٌ لِإِلْقَاءِ تِلْكَ الْوَدِيعَةِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، أَوْ مُنْحَرِفٌ عَنْ صَوْبِهَا بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الِانْحِرَافِ، تَوَقَّفَ وَلَمْ يُصِرَّ عَلَى الِاتِّبَاعِ إِلَّا بَعْدَ التَّبْيِينِ، إِذْ لَيْسَ كُلُّ مَا يُلْقِيهِ الْعَالِمُ يَكُونُ حَقًّا عَلَى الْإِطْلَاقِ، لِإِمْكَانِ الزَّلَلِ وَالْخَطَإِ وغلبة (الهوى) (6) فِي بَعْضِ الْأُمُورِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. أَمَّا إذا كان هذا المتبع (ماهراً) (7) فِي الْعِلْمِ وَمُتَبَصِّرًا فِيمَا يُلْقِي إِلَيْهِ كَأَهْلِ الْعِلْمِ فِي زَمَانِنَا، فَإِنَّ تَوَصُّلَهُ/ إِلَى/ الْحَقِّ سَهْلٌ، لِأَنَّ الْمَنْقُولَاتِ فِي الْكُتُبِ إِمَّا تَحْتَ حِفْظِهِ، وَإِمَّا مُعَدَّةٌ لِأَنْ يُحَقِّقَهَا بِالْمُطَالَعَةِ أَوِ المذاكرة.
_________
(1) في (ر): "رجوعها".
(2) في (غ) و (ر): "نطول بالاستدلال".
(3) في (ط) و (خ): "من".
(4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "ومن".
(5) في (م) و (خ) و (ن): "به". وفي (غ) و (ر): "به في".
(6) في (ط) و (خ) و (ت): الظن.
(7) في سائر النسخ: "ناظراً" والتصحيح من هامش (ت).(3/315)
وَأَمَّا إِنْ كَانَ عَامِّيًّا صِرْفًا، فَيَظْهَرُ لَهُ الْإِشْكَالُ عِنْدَمَا يَرَى الِاخْتِلَافَ/ بَيْنَ النَّاقِلِينَ لِلشَّرِيعَةِ، فلا بد له ها هنا مِنَ الرُّجُوعِ آخِرًا إِلَى تَقْلِيدِ بَعْضِهِمْ، إِذْ لَا يُمْكِنُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْوَاحِدَةِ تَقْلِيدُ مُخْتَلِفِينَ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّهُ مُحَالٌ (وَخَرْقٌ) (1) لِلْإِجْمَاعِ ألا ترى أن القولين إذا وردا على المقلد (2) فَلَا يَخْلُو أَنْ يُمْكِنَهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْعَمَلِ أَوْ لَا يُمْكِنُهُ، فَإِنْ لَمْ (يُمْكِنْهُ) (3) كَانَ عَمَلُهُ بِهِمَا (مَعًا) (4) مُحَالًا، وَإِنْ أَمْكَنَهُ صَارَ عَمَلُهُ لَيْسَ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، بَلْ هُوَ قَوْلٌ ثَالِثٌ لَا قَائِلَ بِهِ، وَيُعَضِّدُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا نَجِدُ صُورَةَ ذَلِكَ الْعَمَلِ مَعُمُولًا بِهَا فِي الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ فَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ.
/وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُقَلِّدُ إِلَّا وَاحِدًا، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي أَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْحَقِّ مِنْ صَاحِبِهِ، وَلِذَلِكَ خَالَفَهُ، وَإِلَّا لَمْ يُخَالِفْهُ، وَالْعَامِّيُّ جَاهِلٌ بمواقع الاجتهاد، فلا بد لَهُ مِمَّنْ يُرْشِدُهُ إِلَى مَنْ هُوَ أَقْرَبُ إلى الحق منهما، وذلك إنما يثبت للعامي بطريق جملي، وَهُوَ تَرْجِيحُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ بِالْأَعْلَمِيَّةِ وَالْأَفْضَلِيَّةِ، ويظهر ذلك من جمهور العلماء والطالبين الذين لَا يَخْفَى عَلَيْهِمْ مِثْلُ ذَلِكَ. لِأَنَّ الْأَعْلَمِيَّةَ تَغْلِبُ عَلَى ظَنِّ الْعَامِّيِّ أَنَّ صَاحِبَهَا أَقْرَبُ إلى صوب (الصواب في) (5) الْعِلْمِ الْحَاكِمِ لَا مِنْ/ جِهَةٍ أُخْرَى، فَإِذًا لَا يُقَلِّدُ إِلَّا بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ حَاكِمًا بِالْعِلْمِ الْحَاكِمِ.
وَالْأَمْرُ الثَّانِي: أَنْ لَا يُصَمِّمَ عَلَى تَقْلِيدِ مَنْ تَبَيَّنَ لَهُ فِي تَقْلِيدِهِ الْخَطَأُ شَرْعًا وَذَلِكَ أَنَّ الْعَامِّيَّ وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُ قَدْ يَكُونُ مُتَّبِعًا لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ ـ إِمَّا لِكَوْنِهِ أرجح من غيره (عنده) (6)، أَوْ عِنْدَ أَهْلِ قُطْرِهِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي اعْتَمَدَهُ أَهْلُ قُطْرِهِ فِي التَّفَقُّهِ فِي مَذْهَبِهِ دُونَ مَذْهَبِ غَيْرِهِ. وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فإذا تبين له في بعض مسائل (متبوعه) (7) الْخَطَأُ وَالْخُرُوجُ عَنْ صَوْبِ الْعِلْمِ الْحَاكِمِ فَلَا يَتَعَصَّبُ لِمَتْبُوعِهِ بِالتَّمَادِي عَلَى اتِّبَاعِهِ فِيمَا ظَهَرَ فيه خطؤه، لأن
_________
(1) في سائر النسخ ما عدا (ط): "أو خرق".
(2) ما بين () زيادة من (غ) و (ر).
(3) في (ط): "يمكنه بهما".
(4) زيادة من (خ) و (ت) و (غ) و (ر).
(5) ما بين القوسين زيادة من (ت).
(6) ما بين القوسين زيادة من (ت).
(7) في (ط): متنوعة.(3/316)
تَعَصُّبَهُ يُؤَدِّي إِلَى مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ أَوَّلًا، ثُمَّ إِلَى مُخَالَفَةِ مَتْبُوعِهِ، أَمَّا خِلَافُهُ لِلشَّرْعِ فَبِالْعَرْضِ، وَأَمَّا خِلَافُهُ لِمَتْبُوعِهِ فَلِخُرُوجِهِ عَنْ شَرْطِ الِاتِّبَاعِ، لِأَنَّ كُلَّ عَالِمٍ يُصَرِّحُ أَوْ يُعَرِّضُ بِأَنَّ اتِّبَاعَهُ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى شَرْطِ أَنَّهُ حَاكِمٌ بِالشَّرِيعَةِ لَا/ بِغَيْرِهَا، فَإِذَا ظَهَرَ أَنَّهُ حَاكِمٌ بخلاف الشريعة خرج عن شرط متبوعه (فلم يكن تابعاً له، فتأملوا كيف يخرج عن تقليد مَتْبُوعِهِ) (1) بِالتَّصْمِيمِ عَلَى تَقْلِيدِهِ.
//وَمِنْ مَعْنَى كَلَامِ مالك بن أنس رَحِمَهُ اللَّهُ: مَا كَانَ مِنْ كَلَامِي مُوَافِقًا للكتاب والسنة فخذوا به، وما لم (يوافقه) (2) فَاتْرُكُوهُ (3). هَذَا مَعْنَى كَلَامِهِ دُونَ لَفْظِهِ.
وَمِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْحَدِيثُ مَذْهَبِي فَمَا خَالَفَهُ فَاضْرِبُوا بِهِ الْحَائِطَ (4)، أَوْ كَمَا قَالَ.
قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَهَذَا لِسَانُ/ حَالِ الْجَمِيعِ.
وَمَعْنَاهُ/ أن كل ما يتكلمون به (فإنما يقولون به) (5) على (تحري) (6) أنه مطابق للشريعة الْحَاكِمَةَ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَمَا لَا فَلَيْسَ بِمَنْسُوبٍ إِلَى الشَّرِيعَةِ، وَلَا هُمْ أَيْضًا مِمَّنْ يُرْضَى أَنْ تُنْسَبَ إِلَيْهِمْ مُخَالَفَتُهَا.
لَكِنْ يُتَصَوَّرُ فِي هَذَا الْمَقَامِ وَجْهَانِ: أَنْ يَكُونَ الْمَتْبُوعُ مُجْتَهِدًا، فَالرُّجُوعُ فِي التَّخْطِئَةِ وَالتَّصْوِيبِ إِلَى مَا اجْتَهَدَ فِيهِ، وَهُوَ الشَّرِيعَةُ وَأَنْ يَكُونَ مُقَلِّدًا لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ، كَالْمُتَأَخِّرِينَ الَّذِينَ مِنْ شَأْنِهِمْ تَقْلِيدُ الْمُتَقَدِّمِينَ بِالنَّقْلِ مِنْ كُتُبِهِمْ وَالتَّفَقُّهِ فِي مَذَاهِبِهِمْ، فَالرُّجُوعُ فِي التَّخْطِئَةِ/ وَالتَّصْوِيبُ إِلَى صِحَّةِ النَّقْلِ عَمَّنْ نَقَلُوا عَنْهُ وَمُوَافَقَتُهُمْ لِمَنْ قَلَّدُوا، أَوْ خِلَافَ ذَلِكَ، لِأَنَّ هَذَا الْقِسْمَ
_________
(1) ما بين () زيادة من (غ) و (ر).
(2) في (ت) و (م) و (غ) و (ر): "يوافق".
(3) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم برقم (1435، 1436).
(4) انظر: مختصر المؤمل (57 ـ 61)، وتعليق المحقق (ص61 ت219).
(5) زيادة من (غ) و (ر).
(6) في (ط) و (خ) و (ت): "ما تحرى".(3/317)
مقلدون (بالفرض) (1)، فَلَا يَسَعُهُمُ الِاجْتِهَادُ فِي اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ، إِذْ لَمْ يَبْلُغُوا دَرَجَتَهُ، فَلَا يَصِحُّ تَعَرُّضُهُمْ لِلِاجْتِهَادِ فِي الشَّرِيعَةِ مَعَ قُصُورِهِمْ عَنْ دَرَجَتِهِ، فَإِنْ فُرِضَ انْتِصَابُهُ لِلِاجْتِهَادِ، فَهُوَ مُخْطِئٌ آثِمٌ أَصَابَ أَمْ لَمْ يُصِبْ، لِأَنَّهُ أَتَى الْأَمْرَ مِنْ (غَيْرِ بَابِهِ) (2)، وَانْتَهَكَ حُرْمَةَ (الدَّرَجَةِ) (3) وقَفا مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ، فَإِصَابَتُهُ ـ إِنْ أَصَابَ ـ مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي، وَخَطَؤُهُ هُوَ الْمُعْتَادُ، فَلَا يَصِحُّ اتِّبَاعُهُ كَسَائِرِ الْعَوَامِّ إِذَا رَامُوا الاجتهاد في أحكام الله، ولا خلاف (أَنَّ) (4) مِثْلَ هَذَا الِاجْتِهَادِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، وَأَنَّ مُخَالَفَةَ الْعَامِّيِّ كَالْعَدَمِ/ وَأَنَّهُ فِي مُخَالَفَتِهِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ آثِمٌ مُخْطِئٌ، فَكَيْفَ يَصِحُّ ـ مَعَ هَذَا التقرير ـ تقليد غير مجتهد في مسألة (أفتى) (5) فِيهَا بِاجْتِهَادِهِ؟
وَلَقَدْ زلَّ بِسَبَبِ الْإِعْرَاضِ عَنِ (أصل) (6) الدَّلِيلِ وَالِاعْتِمَادِ عَلَى الرِّجَالِ أَقْوَامٌ خَرَجُوا بِسَبَبِ ذلك عن جادة الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين، وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فضلُّوا عَنْ سَوَاءِ السبيل.
ولنذكر لذلك عَشَرَةَ أَمْثِلَةً:
أَحَدُهَا: وَهُوَ (أَشَدُّهَا) (7)، قَوْلُ مَنْ جَعَلَ اتِّبَاعَ الْآبَاءِ فِي أَصْلِ الدِّينِ هُوَ الْمَرْجُوعُ (إِلَيْهِ) (8) دُونَ غَيْرِهِ، حَتَّى رَدُّوا بِذَلِكَ بَرَاهِينَ الرِّسَالَةِ، وَحُجَّةَ الْقُرْآنِ وَدَلِيلَ الْعَقْلِ فَقَالُوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} (9) الآية، فَحِينَ نُبِّهُوا عَلَى وَجْهِ الْحُجَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} (10)، لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَوَابٌ إِلَّا الْإِنْكَارُ، اعْتِمَادًا عَلَى اتِّبَاعِ الْآبَاءِ وَاطِّرَاحًا لِمَا سِوَاهُ، وَلَمْ يَزَلْ مِثْلُ هَذَا مَذْمُومًا فِي الشَّرَائِعِ، كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْ قَوْمِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ بقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ
_________
(1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "بالعرض".
(2) في (ط) و (م) و (خ): "غيره".
(3) ساقط من (غ) و (ر).
(4) في (غ) و (ر): "في أن".
(5) في (ط) و (خ) و (م): "أتى".
(6) زيادة من (غ) و (ر).
(7) في هامش (ت): "أشرها أو أفسدها".
(8) ساقط من (غ) و (ر).
(9) سورة الزخرف: الآية (22).
(10) سورة الزخرف: الآية (24).(3/318)
اللَّهُ لأَنْزَلَ مَلاَئِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ} (1)، وَعَنْ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ/ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِقَوْلِهِ تعالى: {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ *} / أؤ إ ئء ف (ص)!! {أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ *قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ *} (2)، إلى (غير) (3) ذَلِكَ مِمَّا فِي مَعْنَاهُ، فَكَانَ الْجَمِيعُ مَذْمُومِينَ حين اعتبروا (الرجال) (4) وَاعْتَقَدُوا أَنَّ الْحَقَّ تَابِعٌ لَهُمْ وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إلى أن الحق هو المقدم (على الرجال) (5).
وَالثَّانِي: رَأْيُ الْإِمَامِيَّةِ (6) فِي اتِّبَاعِ الْإِمَامِ الْمَعْصُومِ ـ فِي زَعْمِهِمْ ـ وَإِنْ خَالَفَ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ الْمَعْصُومُ حَقًّا، وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ/ فَحَكَّمُوا الرِّجَالَ عَلَى الشَّرِيعَةِ وَلَمْ يُحَكِّمُوا الشَّرِيعَةَ عَلَى الرِّجَالِ، وَإِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ لِيَكُونَ حَكَمًا عَلَى الْخَلْقِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ.
/وَالثَّالِثُ: لَاحِقٌ بِالثَّانِي، وَهُوَ مَذْهَبُ الْفِرْقَةِ الْمَهْدَوِيَّةِ (7) الَّتِي جَعَلَتْ أَفْعَالَ مَهْدِيِّهِمْ حُجَّةً، وَافَقَتْ حُكْمَ الشَّرِيعَةِ أَوْ خَالَفَتْ، بَلْ جَعَلُوا أَكْثَرَ ذَلِكَ أَنْفِحَةً فِي عَقْدِ إِيمَانِهِمْ، مَنْ خَالَفَهَا كَفَّرُوهُ وَجَعَلُوا حُكْمَهُ حُكْمَ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ،/ وَقَدْ تَقَدَّمَ من ذلك أمثلة.
والرابع: رأي بعض الْمُقَلِّدَةِ لِمَذْهَبِ إِمَامٍ يَزْعُمُونَ أَنَّ إِمَامَهُمْ هُوَ الشَّرِيعَةُ، بِحَيْثُ يَأْنَفُونَ أَنْ تُنْسَبَ إِلَى أَحَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ فَضِيلَةٌ دُونَ إِمَامِهِمْ، حَتَّى إِذَا جاءهم (أحد ممن) (8) بلغ درجة الاجتهاد وتكلم في المسائل
_________
(1) سورة المؤمنون: الآية (24).
(2) سورة الشعراء: الآيات (72 ـ 74).
(3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "آخر".
(4) زيادة من (غ) و (ر).
(5) زيادة من (غ) و (ر).
(6) انظر الملحق رقم (1).
(7) الظاهر أنه يقصد بذلك الموحدين أتباع المهدي ـ المزعوم ـ محمد بن تومرت، والذي ظهر سنة بضع وخمسمائة، وتوفي سنة 524هـ، وكان ينتسب إلى الحسن رضي الله عنه، وقد ادعى المهدية غيره كثير منهم عبيد الله بن ميمون القداح الباطني. انظر ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (4 98 ـ 102).
(8) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "من".(3/319)
(باجتهاده) (1) وَلَمْ يَرْتَبِطْ إِلَى إِمَامِهِمْ رَمَوْهُ بِالنَّكِيرِ، وَفَوَّقُوا إِلَيْهِ سِهَامَ النَّقْدِ، وَعَدُّوهُ مِنَ الْخَارِجِينَ عَنِ الْجَادَّةِ، وَالْمُفَارِقِينَ لِلْجَمَاعَةِ، مِنْ غَيْرِ اسْتِدْلَالٍ مِنْهُمْ بِدَلِيلٍ، بَلْ (بِمُجَرَّدِ) (2) الِاعْتِيَادِ الْعَامِّيِّ.
وَلَقَدْ لَقِيَ الْإِمَامُ بَقِيُّ بْنُ مَخْلَدٍ حِينَ دَخَلَ الْأَنْدَلُسَ آتِيًا مِنَ الْمَشْرِقِ مِنْ هَذَا الصِّنْفِ الأمرَّيْن، حَتَّى أَصَارُوهُ مَهْجُورَ الْفَنَاءِ، مُهْتَضَمَ الْجَانِبِ، لِأَنَّهُ (جاءهم) (3) مِنِ الْعِلْمِ بِمَا لَا (يَدَيْ) (4) لَهُمْ بِهِ، إِذْ لَقِيَ بِالْمَشْرِقِ الْإِمَامَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ وَأَخَذَ عَنْهُ مُصَنَّفَهُ وَتَفَقَّهَ عَلَيْهِ، وَلَقِيَ أَيْضًا غَيْرُهُ، حَتَّى صَنَّفَ الْمُسْنَدَ الْمُصَنَّفَ الَّذِي لَمْ يُصَنَّفْ فِي الْإِسْلَامِ مِثْلُهُ، وَكَانَ هَؤُلَاءِ الْمُقَلِّدَةُ قَدْ صَمَّمُوا عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ، بِحَيْثُ أَنْكَرُوا/ ما عداه/ وهذا (هو) (5) تَحْكِيمُ الرِّجَالِ عَلَى الْحَقِّ، وَالْغُلُوُّ فِي مَحَبَّةِ الْمَذْهَبِ، وَعَيْنُ الْإِنْصَافِ (تَرَى) (6) أَنَّ الْجَمِيعَ أَئِمَّةٌ فُضَلَاءُ، فَمَنْ كَانَ مُتَّبِعًا لِمَذْهَبِ مُجْتَهِدٍ لِكَوْنِهِ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ الِاجْتِهَادِ فَلَا (يَضُرُّهُ مُخَالَفَةُ غَيْرِ إِمَامِهِ لِإِمَامِهِ) (7)، لِأَنَّ الْجَمِيعَ سَالِكٌ عَلَى الطَّرِيقِ الْمُكَلَّفِ بِهِ، فَقَدْ يُؤَدِّي التَّغَالِي فِي التقليد إلى إنكار (ما) (8) أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى تَرْكِ إِنْكَارِهِ.
وَالْخَامِسُ: رَأْيُ (نابغة) (9) مُتَأَخِّرَةِ الزَّمَانِ مِمَّنْ يَدَّعِي التَّخَلُّقَ بِخُلُقِ أَهْلِ التَّصَوُّفِ الْمُتَقَدِّمِينَ، أَوْ يَرُومُ الدُّخُولَ فِيهِمْ، يَعْمِدُونَ إِلَى مَا نُقِلَ عَنْهُمْ فِي الْكُتُبِ/ مِنَ/ الْأَحْوَالِ الْجَارِيَةِ عَلَيْهِمْ أَوِ الْأَقْوَالِ الصَّادِرَةِ عَنْهُمْ، فَيَتَّخِذُونَهَا دِينًا وَشَرِيعَةً لِأَهْلِ الطَّرِيقَةِ، وَإِنْ كَانَتْ مُخَالِفَةً لِلنُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، أَوْ مُخَالِفَةً لِمَا جَاءَ عَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ، لَا يلتفتون معها إلى فتيا
_________
(1) زيادة من (غ) و (ر).
(2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "مجرد".
(3) ما بين القوسين زيادة من "ت" و (غ) و (ر).
(4) في (ت): "علم".
(5) زيادة من (غ) و (ر).
(6) ما بين القوسين ساقط من (م) و (غ) و (ر).
(7) في (غ) و (ر): "يضيره مخالفة إمامه".
(8) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "لما".
(9) في (ط): "نابتة".(3/320)
(فقيه) (1) وَلَا نَظَرِ عَالِمٍ، بَلْ يَقُولُونَ: إِنَّ صَاحِبَ هَذَا الْكَلَامِ ثَبَتَتْ وِلَايَتُهُ، فَكُلُّ مَا يَفْعَلُهُ أو يقوله حق، وإن كان مخالفاً (للفقه) (2) فَهُوَ أَيْضًا مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ، وَالْفِقْهُ لِلْعُمُومِ. وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْخُصُوصِ.
فَتَرَاهُمْ يُحْسِنُونَ الظَّنَّ بِتِلْكَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ وَلَا يُحْسِنُونَ الظَّنَّ بِشَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ عَيْنُ اتِّبَاعِ الرِّجَالِ وَتَرْكِ الْحَقِّ، مَعَ أَنَّ أُولَئِكَ الْمُتَصَوِّفَةَ الَّذِينَ يُنْقَلُ عَنْهُمْ، لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ مَا نُقِلَ عَنْهُمْ كَانَ فِي النِّهَايَةِ دُونَ الْبِدَايَةِ، وَلَا عُلِمَ أَنَّهُمْ كَانُوا/ مُقِرِّينَ بِصِحَّةِ مَا صَدَرَ عَنْهُمْ أَمْ لَا، وَأَيْضًا فَقَدْ يَكُونُ (مِنْ أَئِمَّةِ التَّصَوُّفِ وَغَيْرِهِمْ) (3) مَنْ (زَلَّ) (4) زَلَّةً يَجِبُ سَتْرُهَا عَلَيْهِ، فَيَنْقُلُهَا عَنْهُ مَنْ لَا يَعْلَمُ حَالَهُ مِمَّنْ لَمْ يَتَأَدَّبْ بِطَرِيقِ الْقَوْمِ كُلَّ التَّأَدُّبِ.
وَقَدْ حَذَّرَ السَّلَفُ الصَّالِحُ مِنْ زَلَّةِ الْعَالِمِ، وَجَعَلُوهَا مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تَهْدِمُ الدِّينَ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا ظَهَرَتْ فَتَطِيرُ فِي النَّاسِ كُلَّ مَطَارٍ، فَيَعُدُّونَهَا دِينًا، وَهِيَ ضِدُّ الدِّينِ، فَتَكُونُ الزَّلَّةُ حُجَّةً فِي الدِّينِ.
فَكَذَلِكَ أَهْلُ/ التصوف لا بد (من وقوع الزلل فيهم في الجملة إذ ليسوا بمعصومين وقد أقر القوم بوقوع المعاصي منهم وليس من محققيهم من ينفيها فإذاً لا بد) (5) فِي الِاقْتِدَاءِ بِالصُّوفِيِّ مِنْ عَرْضِ أَقْوَالِهِ (وَأَفْعَالِهِ) (6) عَلَى حَاكِمٍ يَحْكُمُ عَلَيْهَا: هَلْ هِيَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يُتَّخَذُ دِينًا أَمْ لَا؟ وَالْحَاكِمُ (الحق) (7) هو الشرع (كما نعرض) (8) أقوال العالم (عَلَى) (9) الشَّرْعِ أَيْضًا، وَأَقَلُّ ذَلِكَ فِي الصُّوفِيِّ أَنْ نَسْأَلَهُ عَنْ تِلْكَ الْأَعْمَالِ إِنْ كَانَ عَالِمًا بِالْفِقْهِ، كَالْجُنَيْدِ وَغَيْرِهِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
وَلَكِنَّ هؤلاء (النابغة) (10) لا يفعلون ذلك، فصاروا متبعين للرجال من
_________
(1) في (ط): "مفت". وفي (م) و (خ) و (ت): "مفتي".
(2) زيادة من (غ) و (ر).
(3) في (ت) بياض بمقدار نصف سطر.
(4) في (غ) و (ر): "يزل".
(5) ما بين () زيادة من (غ) و (ر).
(6) ساقط من (غ) و (ر).
(7) زيادة من (غ) و (ر).
(8) زيادة من (غ) و (ر).
(9) في (ط): "تعرض على".
(10) في (م) و (خ) و (ت): "التابعة". وفي (ط): "النابتة".(3/321)
حَيْثُ هُمْ رِجَالٌ لَا مِنْ حَيْثُ هُمْ (حاكمون) (1) بِالْحَاكِمِ الْحَقِّ، وَهُوَ خِلَافُ مَا عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ وَمَا عَلَيْهِ الْمُتَصَوِّفَةُ أَيْضًا، (إِذْ) (2) قَالَ إِمَامُهُمْ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التُّسْتَرِيُّ: مَذْهَبُنَا (مَبْنِيٌّ عَلَى) (3) ثَلَاثَةِ (أُصُولٍ) (4): الِاقْتِدَاءِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَخْلَاقِ/ وَالْأَفْعَالِ،/ وَالْأَكْلِ مِنَ الْحَلَالِ، وَإِخْلَاصِ النِّيَّةِ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ (5). وَلَمْ يَثْبُتْ فِي طَرِيقِهِمُ اتِّبَاعُ الرِّجَالِ عَلَى (انْحِرَافٍ) (6)، وَحَاشَاهُمْ مِنْ ذَلِكَ، بَلِ اتِّبَاعُ الرِّجَالِ، شأن أهل الضلال.
والسادس: رأي (نابغة) (7) فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ أَعْرَضُوا عَنِ النَّظَرِ فِي العلم الذي (أَرَادُوا) (8) الْكَلَامَ فِيهِ وَالْعَمَلَ بِحَسْبِهِ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى تَقْلِيدِ بَعْضِ الشُّيُوخِ (الَّذِينَ) (9) (أَخَذُوا) (10) عَنْهُمْ فِي زَمَانِ الصِّبَا الَّذِي هُوَ/ مَظِنَّةٌ لِعَدَمِ التَّثَبُّتِ مِنَ الْآخِذِ، أَوِ التَّغَافُلِ مِنَ الْمَأْخُوذِ (عنهم) (11)، ثُمَّ جَعَلُوا أُولَئِكَ الشُّيُوخَ فِي أَعْلَى دَرَجَاتِ الكمال، ونسبوا إليهم ما (أنِسوا) (12) به من الخطأ، أو (ما) (13) فَهِمُوا عَنْهُمْ عَلَى غَيْرِ تَثَبُّتٍ وَلَا سُؤَالٍ عَنْ تَحْقِيقِ الْمَسْأَلَةِ الْمَرْوِيَّةِ، وردُّوا جَمِيعَ مَا نُقِلَ عَنِ الْأَوَّلِينَ مِمَّا هُوَ الْحَقُّ وَالصَّوَابُ، كَمَسْأَلَةِ الْبَاءِ الْوَاقِعَةِ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ، فَإِنَّ طَائِفَةً مِمَّنْ تَظَاهَرَ بِالِانْتِصَابِ لِلْإِقْرَاءِ زَعَمَ أَنَّهَا (الباء) (14) الرَّخْوَةُ (15) الَّتِي اتَّفَقَ الْقُرَّاءُ ـ وَهُمْ أَهْلُ صِنَاعَةِ الأداء، والنحويون أيضاً ـ وهم الناقلون (حقيقة النطق بها) (16) عن العرب ـ
_________
(1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "راجحون".
(2) ساقط من (غ) و (ر).
(3) ساقط من (غ) و (ر).
(4) في (غ) و (ر): "أوصاف".
(5) بنحوه في الحلية (10 190)، والطبقات الكبرى للشعراني (1 78).
(6) في (غ) و (ر): "الجزاف".
(7) في (خ): "تابعة". وفي (ط): "نابتة".
(8) في (م): "هو أرادوا". وفي (ط) و (خ) و (ت): "هم أرادوا".
(9) ساقط من (غ) و (ر).
(10) في (م) و (غ) و (ر): "أخذاً".
(11) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "عنه".
(12) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "نسبوا".
(13) زيادة من (غ) و (ر).
(14) زيادة من (غ) و (ر).
(15) الباء من صفاتها الشدة والجهر، وليست من الحروف الرخوة، كما قرأها هذا المقرئ المشار إليه. انظر: هداية القاري (ص99).
(16) ما بين القوسين ساقط من (خ) و (ط).(3/322)
عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَأْتِ إِلَّا فِي لُغَةٍ مَرْذُولَةٍ لَا يُؤْخَذُ بِهَا وَلَا يُقْرَأُ بِهَا الْقُرْآنُ، وَلَا نُقِلَتِ الْقِرَاءَةُ بِهَا/ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِذَلِكَ الشَّأْنِ، وَإِنَّمَا الْبَاءُ الَّتِي يَقْرَأُ بِهَا ـ وَهِيَ الْمَوْجُودَةُ فِي كُلِّ لُغَةٍ فَصِيحَةٍ ـ الْبَاءُ الشَّدِيدَةُ، فَأَبَى هَؤُلَاءِ مِنِ الْقِرَاءَةِ والإقراء بها، بناء على أن (التي) (1) قرأوا (بِهَا) (2) عَلَى الشُّيُوخِ الَّذِينَ لَقُوهُمْ هِيَ تِلْكَ لَا هَذِهِ، مُحْتَجِّينَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا/ عُلَمَاءَ وَفُضَلَاءَ، فَلَوْ كَانَتْ خَطَأً (لَرَدُّوهَا) (3) عَلَيْنَا، وَأَسْقَطُوا النَّظَرَ وَالْبَحْثَ عَنْ أَقْوَالِ الْمُتَقَدِّمِينَ فِيهَا رَأْسًا تَحْسِينَ ظَنٍّ بِالرِّجَالِ، وَتُهَمَةً لِلْعِلْمِ، فَصَارَتْ بِدْعَةً جَارِيَةً (في الناس) (4) ـ أَعْنِي الْقِرَاءَةَ بِالْبَاءِ الرَّخْوَةِ ـ مُصَرَّحًا بِأَنَّهَا الْحَقُّ الصَّرِيحُ، فَنُعَوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْمُخَالَفَةِ.
وَلَقَدْ لَجَّ بَعْضُهُمْ حِينَ وُجِّهُوا بِالنَّصِيحَةِ فَلَمْ يَرْجِعُوا، فَكَانَ القرشي (المغربي) (5) أَقْرَبَ مَرَامًا مِنْهُمْ.
حُكِيَ/ عَنْ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغِيثٍ (6) أَنَّهُ قَالَ: أَدْرَكْتُ/ بِقُرْطُبَةَ (7) مُقْرِئًا يُعْرَفُ بِالْقُرَشِيِّ، وَكَانَ لَا يُحْسِنُ النَّحْوَ فَقَرَأَ عَلَيْهِ قَارِئٌ يَوْمًا: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ *} (8) فردَّ عَلَيْهِ الْقُرَشِيُّ: تحيدٌ بِالتَّنْوِينِ، فَرَاجَعَهُ الْقَارِئُ ـ وَكَانَ يُحْسِنُ النَّحْوَ ـ (فلجَّ) (9) عَلَيْهِ الْمُقْرِئُ وَثَبَتَ عَلَى التَّنْوِينِ، فَانْتَشَرَ الْخَبَرُ إِلَى أَنْ بَلَغَ يَحْيَى بْنَ مُجَاهِدٍ الْأَلْبِيرِيَّ الزَّاهِدَ (10) وَكَانَ صَدِيقًا لهذا المقري، فَنَهَضَ إِلَيْهِ، فَلَمَّا سلَّم عَلَيْهِ وَسَأَلَهُ عَنْ
_________
(1) في (م) و (خ) و (غ) و (ر): "الذي".
(2) في (غ) و (ر): "به".
(3) في (غ) و (ر): "يردونا".
(4) زيادة من (غ) و (ر).
(5) في (غ) و (ر): "المقري".
(6) لم أجد له ترجمة فيما اطلعت عليه من مصادر، وفي تراجم الأندلسيين من اسمه: يونس بن عبد الله بن محمد بن مغيث أبو الوليد ويعرف بابن القصار القرطبي (ت429هـ) له ترجمة في الديباج المذهب (2 374)، لكن ليس هو المقصود، لأن القصة حدثت مع يحيى بن مجاهد ـ تقدمت ترجمته ـ وتوفي يحيى بن مجاهد (336هـ).
(7) هي عاصمة بني أمية في الأندلس، وهي تقع ـ تقريباً ـ في وسط الأندلس. انظر: معجم البلدان (4 324).
(8) سورة ق: الآية (19).
(9) في (ت) و (م) و (غ) و (ر): "فلح".
(10) تقدمت ترجمته (2 441).(3/323)
حَالِهِ قَالَ لَهُ ابْنُ مُجَاهِدٍ: أَنَّهُ بعُد عَهْدِي بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عَلَى مُقْرِئٍ فَأَرَدْتُ تَجْدِيدَ ذَلِكَ عَلَيْكَ فَأَجَابَهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: أُرِيدُ (أَنْ) (1) أَبْتَدِئَ بِالْمُفَصَّلِ فَهُوَ الَّذِي يَتَرَدَّدُ فِي الصَّلَوَاتِ، فقال (له) (2) الْمُقْرِئُ: مَا شِئْتَ. فَقَرَأَ عَلَيْهِ مِنْ أَوَّلِ الْمُفَصَّلِ، فَلَمَّا بَلَغَ الْآيَةَ الْمَذْكُورَةَ رَدَّهَا عَلَيْهِ الْمُقْرِئُ بِالتَّنْوِينِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ مُجَاهِدٍ: لَا تَفْعَلْ، مَا هِيَ إِلَّا غَيْرُ مُنَوَّنَةٍ بِلَا شَكٍّ، (فلجَّ) (3) الْمُقْرِئُ، فَلَمَّا رَأَى ابْنُ مُجَاهِدٍ تَصْمِيمَهُ/ قَالَ لَهُ: يَا أَخِي إِنِّي لَمْ يَحْمِلْنِي عَلَى الْقِرَاءَةِ عَلَيْكَ إِلَّا لِتُرَاجِعَ الْحَقَّ فِي لُطْفٍ، وَهَذِهِ عَظِيمَةٌ أَوْقَعَكَ فِيهَا قِلَّةُ عِلْمِكَ بِالنَّحْوِ، فَإِنَّ الْأَفْعَالَ لَا يَدْخُلُهَا التَّنْوِينُ، فَتَحَيَّرَ الْمُقْرِئُ، إِلَّا أَنَّهُ/ لَمْ يَقْنَعْ بِهَذَا، فقال له ابن مجاهد: بيني وبينك المصاحف، فأحضر منها جُمْلَةً فَوَجَدُوهَا مَشْكُولَةً بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، فَرَجَعَ الْمُقْرِئُ إِلَى الْحَقِّ. انْتَهَتِ الْحِكَايَةُ.
وَيَا لَيْتَ مَسْأَلَتَنَا مِثْلُ هَذِهِ، وَلَكِنَّهُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ أَبَوُا الانقياد إلى الصواب.
والسابع: رأي (نابغة) (4) أَيْضًا يَرَوْنَ أَنَّ عَمَلَ الْجُمْهُورِ الْيَوْمَ، مِنِ الْتِزَامِ الدُّعَاءِ بِهَيْئَةِ الْاجْتِمَاعِ بِإِثْرِ الصَّلَوَاتِ، وَالْتِزَامِ المؤذنين التثويب (المكروه) (5) (بَعْدَ) (6) الْآذَانِ، صَحِيحٌ بِإِطْلَاقٍ، مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ بِمُخَالَفَةِ الشَّرِيعَةِ أَوْ مُوَافَقَتِهَا، وَأَنَّ مَنْ خَالَفَهُمْ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ اجْتِهَادِيٍّ أَوْ تَقْلِيدِيٍّ خَارِجٌ عَنْ سُنَّةِ الْمُسْلِمِينَ، بِنَاءً مِنْهُمْ عَلَى أُمُورٍ تَخَبَّطُوا فِيهَا مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ مُعْتَبَرٍ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَمِيلُ إِلَى أَنَّ هَذَا الْعَمَلَ الْمَعْمُولَ بِهِ/ في الجمهور ثابت
_________
(1) ما بين القوسين زيادة من (ط) و (غ) و (ر).
(2) زيادة من (غ) و (ر).
(3) في (م) و (ت): "فلح".
(4) في (ط): "نابتة".
(5) ما بين القوسين زيادة من (غ) و (ر) والتثويب بالأذان ذكره الشاطبي في الاعتصام (2 70) قال: وَقَدْ فَسَّرَ التَّثْوِيبَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ مَالِكٌ بأن المؤذن كان إذا أبطأ النَّاسُ قَالَ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَّاحِ، وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِمْ عِنْدَنَا: الصَّلَاةُ رَحِمَكُمُ اللَّهُ. وقول الإمام مالك عن التثويب أنه بدعة، أخرجه ابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص39).
(6) في (م) و (غ) و (ر): "عند".(3/324)
عَنْ فُضَلَاءَ وَصَالِحِينَ عُلَمَاءَ، فَلَوْ كَانَ خَطَأً لَمْ يَعْمَلُوا بِهِ.
/وَهَذَا مِمَّا نَحْنُ فِيهِ (الْيَوْمَ، تُتَّهَمُ) (1) الْأَدِلَّةُ وَأَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَيُحْسَنُ الظَّنُّ بِمَنْ تَأَخَّرَ، وَرُبَّمَا نُوزِعَ بِأَقْوَالِ مَنْ تقدم، فيرميها بِالظُّنُونِ وَاحْتِمَالِ الْخَطَإِ، وَلَا يَرْمِي بِذَلِكَ الْمُتَأَخِّرِينَ، الَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهِ/ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِذَا سُئِلَ عَنْ أَصْلِ هَذَا الْعَمَلِ الْمُتَأَخِّرِ: (هَلْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ) (2) مِنَ/ الشَّرِيعَةِ؟ لَمْ يأتِ بِشَيْءٍ، أو يأتي بأدلة (مجملة) (3) لا علم له (بتفاصيلها) (4)، كَقَوْلِهِ هَذَا خَيْرٌ أَوْ حَسَنٌ، وَقَدْ قَالَ تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} (5)، أَوْ يَقُولُ: هَذَا (بَرٌّ) (6)، وَقَالَ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِّرِّ وَالتَّقْوَى} (7)، فَإِذَا سُئِلَ عَنْ أَصْلِ كَوْنِهِ خَيْرًا أَوْ بِرًّا وَقَفَ، (وَمَيْلُهُ) (8) إِلَى أَنَّهُ ظَهَرَ لَهُ بِعَقْلِهِ أَنَّهُ خَيْرٌ وَبِرٌّ، فَجَعَلَ التَّحْسِينَ عَقْلِيًّا، وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الزَّيْغِ، (وَثَابِتٌ) (9) عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ (أَنَّهُ) (10) مِنِ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَاتِ (11).
وَمِنْهُمْ مَنْ طَالَعَ كَلَامَ الْقَرَافِيِّ (12) وَابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ (13) فِي أن البدع خمسة أقسام.
فيقول: هَذَا مِنَ (الْمُحْدَثِ) (14) الْمُسْتَحْسَنِ، وَرُبَّمَا رُشِّحَ ذَلِكَ بِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: (مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا/ فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ) (15) (وَقَدْ مَرَّ مَا فِيهِ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَإِنَّمَا مَعْنَاهُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ عُلَمَاءَ الْإِسْلَامِ إِذَا نَظَرُوا فِي مسألة مجتهد فيها/ فما رأوه حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ) (16) لِأَنَّهُ جَارٍ على
_________
(1) في (غ) و (ر): "فإنه يتهم".
(2) ساقط من (غ) و (ر).
(3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "محتملة".
(4) في (ط) و (خ) و (ت): "بتفصيلها".
(5) سورة الزمر: الآية (18).
(6) في (م): "أبر".
(7) سورة المائدة: الآية (2).
(8) في (ت) بياض بمقدار كلمة.
(9) في (م): "ثابتاً" و (غ) و (ر).
(10) ساقط من (غ) و (ر).
(11) تقدم الكلام عن التحسين والتقبيح العقليين (3/ 8).
(12) انظر كلامه عن تقسيم البدع في الفروق (4 205).
(13) انظر: قواعد الأحكام (2 172).
(14) ساقط من (غ) و (ر).
(15) تقدم تخريجه (ص45).
(16) ما بين القوسين ساقط من (ت).(3/325)
أُصُولِ الشَّرِيعَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ الْعَوَامَّ لَوْ نَظَرُوا فَأَدَّاهُمُ اجْتِهَادُهُمْ إِلَى اسْتِحْسَانِ/ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنًا حَتَّى يُوَافِقَ الشَّرِيعَةَ، وَالَّذِينَ نَتَكَلَّمُ مَعَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَيْسُوا مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ بِاتِّفَاقٍ منا ومنهم، فلا اعتبار بالاحتجاج (بهذا الحديث) (1) على استحسان شيء أو استقباحه (بِغَيْرِ) (2) دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ.
وَمِنْهُمْ مَنْ تَرَقَّى فِي الدَّعْوَى حَتَّى يَدَّعِيَ فِيهَا الْإِجْمَاعَ مِنْ أَهْلِ الْأَقْطَارِ، وَهُوَ لَمْ يَبْرَحْ مِنْ قُطْرِهِ، وَلَا بَحَثَ عَنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْأَقْطَارِ، وَلَا عَنْ (فتياهم) (3) فِيمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَلَا عَرَفَ (مِنْ) (4) أَخْبَارِ الْأَقْطَارِ خَبَرًا، فَهُوَ مِمَّنْ يُسْأَلُ عَنْ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَهَذَا الِاضْطِرَابُ كُلُّهُ مَنْشَؤُهُ تَحْسِينُ الظَّنِّ بِأَعْمَالِ الْمُتَأَخِّرِينَ ـ وَإِنْ جَاءَتِ الشَّرِيعَةُ (بِخِلَافِ) (5) (ذَلِكَ) (6) ـ وَالْوُقُوفِ مَعَ الرِّجَالِ دُونَ التَّحَرِّي لِلْحَقِّ.
(وَالثَّامِنُ) (7): رَأْيُ قَوْمٍ مِمَّنْ تَقَدَّمَ زَمَانَنَا هَذَا ـ فَضْلًا عَنْ زَمَانِنَا ـ اتَّخَذُوا الرِّجَالَ ذَرِيعَةً لِأَهْوَائِهِمْ وأهواء من داناهم، أو من رَغِبَ إِلَيْهِمْ (فِي ذَلِكَ) (8)، فَإِذَا عَرَفُوا غَرَضَ بَعْضِ هَؤُلَاءِ فِي حُكْمِ حَاكِمٍ أَوْ فُتْيَا (تعبداً وَغَيْرِ) (9) ذَلِكَ، بَحَثُوا عَنْ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَسْؤُولِ عَنْهَا حَتَّى يَجِدُوا الْقَوْلَ الْمُوَافِقَ للسائل فأفتوا به، زاعمين أن الحجة (لهم في ذلك) (10) قَوْلُ مَنْ قَالَ: اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ رَحْمَةٌ، ثُمَّ ما زال/ هذا الشر
_________
(1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "بالحديث".
(2) في (غ) و (ر): "لغير".
(3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "تبيانهم".
(4) ساقط من (غ) و (ر).
(5) في (غ) و (ر): "بخلافه".
(6) ما بين القوسين ساقط من (م) و (غ) و (ر).
(7) في (م): "والثامنة".
(8) ساقط من (غ) و (ر).
(9) في (م) و (ت): "تعبدوا غير".
(10) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "في ذلك لهم".(3/326)
يَسْتَطِيرُ (فِي الْأَتْبَاعِ) (1) وَأَتْبَاعِهِمْ، حَتَّى لَقَدْ حَكَى الْخَطَابِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ يَقُولُ:/ كُلُّ مَسْأَلَةٍ ثَبَتَ لِأَحَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ (فِيهَا) (2) الْقَوْلُ بِالْجَوَازِ ـ شذَّ عَنِ الْجَمَاعَةِ أَوْ لَا ـ فَالْمَسْأَلَةُ جَائِزَةٌ.
وَقَدْ تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى وَجْهِهَا فِي كِتَابِ الْمُوَافَقَاتِ (3)، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.
وَالتَّاسِعُ: مَا حَكَى الله تعالى عن الأحبار والرهبان (في) (4) قوله تَعَالَى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا/ مِنْ دُونِ اللَّهِ} (5)، فخرَّج أبو عيسى الترمذي عن عَدي بن/ حاتم رضي الله عنه قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ: (يَا عَدِيُّ، اطْرَحْ عَنْكَ (هَذَا) (6) الْوَثَنَ. وَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ (في سورة براءة) (7): {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}، قال: أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، (ولكنهم كانوا) (8) إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ، وَإِذَا حرَّموا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ) (9)، حَدِيثٌ غَرِيبٌ.
وَفِي تَفْسِيرِ سعيد بن منصور قيل لحذيفة رضي الله عنه: أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}، قَالَ حُذَيْفَةُ: أَمَا إِنَّهُمْ لَمْ يُصَلُّوا لَهُمْ/ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا مَا أحلُّوا لَهُمْ مِنْ حَرَامٍ استحلُّوه، وما
_________
(1) ساقط من (غ) و (ر).
(2) ساقط من (غ) و (ر).
(3) انظر: الموافقات (4 78).
(4) زيادة من (غ) و (ر).
(5) سورة التوبة: الآية (31).
(6) زيادة من (غ) و (ر).
(7) ساقط من (غ) و (ر).
(8) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "ولكن".
(9) أخرجه الترمذي (3095) وقال عقبه: (هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب، وغطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث). وأخرجه البخاري في التاريخ الكبير (7 160)، وابن جرير في تفسيره (16631 ـ 16633)، وابن أبي حاتم في التفسير (10057)، والطبراني في المعجم الكبير (17 92 برقم 218)، والجرجاني في تاريخه (1 541)، والبيهقي في السنن الكبرى (20137)، والمزي في تهذيب الكمال (23 117) في ترجمة غطيف بن أعين، كلهم من طريق عبد السلام بن حرب عن غطيف بن أعين، فمدار الحديث على غطيف، وهو ضعيف، كما في التقريب (5364)، والحديث حسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي!(3/327)
حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ مِنْ حَلَالٍ حَرَّمُوهُ، فَتِلْكَ رُبُوبِيَّتُهُمْ (1).
وحكى (نحوه) (2) الطَّبَرِيُّ عَنْ عَدِيٍّ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (3)، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَأَبِي الْعَالِيَةِ (4).
فَتَأَمَّلُوا/ يَا أُولِي/ الْأَلْبَابِ، كيف حال (الاعتماد) (5) فِي الْفَتْوَى عَلَى الرِّجَالِ مِنْ غَيْرِ تحرٍّ للدليل الشرعي، بل (لمجرد) (6) (نيل) (7) (الْعَرَضِ) (8) الْعَاجِلِ، عَافَانَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ بِفَضْلِهِ.
وَالْعَاشِرُ: رَأْيُ أَهْلِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيِّينَ (9)، فَإِنَّ مَحْصُولَ مَذْهَبِهِمْ تَحْكِيمُ (عُقُولِ) (10) الرِّجَالِ دُونَ الشَّرْعِ، وَهُوَ أَصْلٌ مِنَ الْأُصُولِ الَّتِي بَنَى عَلَيْهَا أَهِلُ الِابْتِدَاعِ فِي الدِّينِ، بِحَيْثُ إِنَّ (الشَّرْعَ) (11) إن وافق آراءهم قبلوه، وإلا ردوه.
_________
(1) أخرجه عبد الرزاق في تفسيره (1 القسم الثاني ص242)، والطبري في تفسيره (16634 ـ 16636 و16638 و16643)، وابن أبي حاتم في التفسير (10058)، والبيهقي في السنن الكبرى (20138) كلهم من طريق أبي البختري سعيد بن فيروز عن حذيفة، وأبو البختري روايته عن حذيفة مرسلة، كما في جامع التحصيل (ص242).
(2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "عند".
(3) أخرجه ابن جرير في تفسيره (14 209 ـ 211)، والبيهقي في السنن الكبرى (10 116) وهو من طريق غطيف بن أعين كما تقدم ذكره.
(4) أخرجه الطبري في التفسير عن ابن عباس برقم (16640) بسندٍ ضعيف جداً من رواية عطية العوفي عن ابن عباس، وأخرجه برقم (16641) بسند فيه أسباط بن نصر الهمداني، وهو صدوق كثير الخطأ يغرب كما في التقريب (396) ويروى تضعيفه عن أحمد وأبي نعيم والنسائي وأبي زرعة وابن معين. وقال عنه البخاري: صدوق، كما في تهذيب التهذيب (1/ 185) وقال الذهبي في الكاشف (268): "توقف فيه أحمد". وعن أبي العالية برقم (16642) من طريق سفيان بن وكيع بن الجراح الكوفي، كان صدوقاً إلا أنه ابتلي بوراقه، فأدخل عليه ما ليس من حديثه، فنصح فلم يقبل، فسقط حديثه، من العاشرة. التقريب (2456).
(5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الاعتقاد".
(6) في (غ) و (ر): "بمجرد".
(7) زيادة من (غ) و (ر).
(8) في (غ) و (ر): "الغرض".
(9) انظر ما تقدم (3/ 8).
(10) ساقط من (غ) و (ر).
(11) في (غ) و (ر): "الشارع".(3/328)
فَالْحَاصِلُ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ تَحْكِيمَ الرِّجَالِ مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إِلَى كَوْنِهِمْ وَسَائِلَ لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ المطلوب شرعاً ضلال، (ولا توفيق) (1) إِلَّا بِاللَّهِ، وَإِنَّ الْحُجَّةَ الْقَاطِعَةَ وَالْحَاكِمَ الْأَعْلَى هو الشرع لا غيره.
ثم نقول: إن هذا (هو) (2) مَذْهَبُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنْ رَأَى سَيْرَهُمْ وَالنَّقْلَ عَنْهُمْ وَطَالَعَ أَحْوَالَهُمْ عَلِمَ ذَلِكَ عِلْمًا يَقِينًا، أَلَا تَرَى أَصْحَابَ السَّقِيفَةِ لَمَّا تَنَازَعُوا فِي الْإِمَارَةِ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْأَنْصَارِ (3): (مِنَّا/ أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ) (4) فَأَتَى الْخَبَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ الْأَئِمَّةَ مِنْ قُرَيْشٍ (5)، أَذْعَنُوا لطاعة الله ورسوله ولم يعبأوا بِرَأْيِ مَنْ رَأَى/ غَيْرَ ذَلِكَ، لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّ الْحَقَّ هُوَ الْمُقَدَّمُ عَلَى آرَاءِ الرِّجَالِ.
/وَلَمَّا أَرَادَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قِتَالَ مَانِعِي الزَّكَاةِ احْتَجُّوا عَلَيْهِ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ، فَرَدَّ عليهم ما استدلوا به (بعين) (6) مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ وَذَلِكَ قَوْلُهُ: (إِلَّا بِحَقِّهَا) فَقَالَ: الزَّكَاةُ حَقُّ الْمَالِ ـ ثُمَّ قَالَ: (وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا أَوْ عَناقاً كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهِ) (7).
فَتَأَمَّلُوا هَذَا الْمَعْنَى فَإِنَّ فِيهِ نُكْتَتَيْنِ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ لِأَحَدٍ سَبِيلًا إِلَى جَرَيَانِ الْأَمْرِ فِي زمانه على
_________
(1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "وما توفيقي".
(2) زيادة من (غ) و (ر).
(3) هو الحباب بن المنذر.
(4) حادثة السقيفة أخرجها البخاري، كما في الفتح (12 144)، ومسند الإمام أحمد (1 55)، وطبقات ابن سعد (2 268)، وتاريخ الطبري (3 218) وغيرهم وهي قصة مشهورة.
(5) انظر ما تقدم (3/ 32).
(6) في سائر النسخ ما عدا (غ): "بغير".
(7) هذا حديث مشهور مخرج في أكثر كتب السنة، وممن أخرجه البخاري (1400 و1456 و6925 و7285)، ومسلم (20 ـ 34 و35)، وأحمد (1 11 و19 و35 و47) و (2 314 و345 و377 و324 و439 و475 و482 و502 و527 و528) و (3 295 و300 و332 و339 و394)، وأبو داود (1556 و2640)، وابن ماجه (71 و72 و3927 و3928)، والترمذي (2606 و2607 و3341)، والنسائي (2443 و3090 ـ 3095 و3969 ـ 3982)، وابن خزيمة (2248)، وابن حبان (175 و216 ـ 220)، والحاكم (1428) وغيرهم.(3/329)
غَيْرِ مَا كَانَ يَجْرِي فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانَ بِتَأْوِيلٍ، لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَرْتَدَّ مِنَ الْمَانِعِينَ إِنَّمَا مَنَعَ تَأْوِيلًا، وَفِي هَذَا الْقِسْمِ وَقَعَ النِّزَاعُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ لَا فِيمَنِ/ ارْتَدَّ رَأْسًا، وَلَكِنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمْ يَعْذُرْ بِالتَّأْوِيلِ وَالْجَهْلِ، وَنَظَرَ إِلَى حَقِيقَةِ مَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ فَطَلَبَهُ إِلَى أَقْصَاهُ حَتَّى قَالَ: وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا ... إِلَى آخِرِهِ، مَعَ أَنَّ الَّذِينَ أَشَارُوا عَلَيْهِ بِتَرْكِ قِتَالِهِمْ إِنَّمَا أَشَارُوا عَلَيْهِ بِأَمْرٍ مَصْلَحِيٍّ ظَاهِرٍ تُعَضِّدُهُ مَسَائِلُ شَرْعِيَّةٌ، وَقَوَاعِدُ أُصُولِيَّةٌ، لَكِنَّ الدَّلِيلَ الشَّرْعِيَّ الصَّرِيحَ كَانَ عِنْدَهُ ظَاهِرًا، فَلَمْ تَقْوَ عِنْدَهُ آرَاءُ الرِّجَالِ أَنْ تُعَارِضَ الدَّلِيلَ الظَّاهِرَ، فَالْتَزَمَهُ، ثُمَّ رَجَعَ الْمُشِيرُونَ عَلَيْهِ بِالتَّرْكِ إِلَى صِحَّةِ دَلِيلِهِ تَقْدِيمًا لِلْحَاكِمِ/ الْحَقِّ، وَهُوَ الشَّرْعُ.
وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى مَا يلقى هو والمسلمون في طريق طلب (ما) (1) طلب إِذْ لَمَّا امْتَنَعُوا صَارَ مَظِنَّةً لِلْقِتَالِ وَهَلَاكَ من شاء الله مِنِ (الْفِرْقَتَيْنِ) (2)، وَدُخُولَ الْمَشَقَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَلَكِنَّهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يَعْتَبِرْ إِلَّا إِقَامَةَ الْمِلَّةِ عَلَى حَسَبِ مَا كَانَتْ قَبْلُ، فَكَانَ ذَلِكَ أَصْلًا فِي أنه/ لا تُعتبر الْعَوَارِضُ الطَّارِئَةُ فِي إِقَامَةِ الدِّينِ وَشَعَائِرِ الْإِسْلَامِ، نَظِيرَ مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى/: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ} (3) الآية فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَعْذُرْهُمْ فِي تَرْكِ مَنْعِ الْمُشْرِكِينَ خَوْفَ الْعَيْلَةِ فَكَذَلِكَ لَمْ (يَعُدَّ) (4) أَبُو بَكْرٍ مَا يَلْقَى الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْمَشَقَّةِ عُذْرًا يَتْرُكُ بِهِ الْمُطَالَبَةَ بِإِقَامَةِ شَعَائِرِ الدِّينِ حَسْبَمَا كَانَتْ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَاءَ فِي الْقِصَّةِ أَنَّ الصَّحَابَةَ أَشَارُوا عَلَيْهِ بِرَدِّ الْبَعْثِ الَّذِي بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ ـ وَلَمْ يَكُونُوا بَعْدُ مَضَوْا/ لِوُجْهَتِهِمْ ـ لِيَكُونُوا مَعَهُ (عَوْنًا) (5) عَلَى قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ، فَأَبَى من ذلك، وقال: ما كنت
_________
(1) زيادة من (غ) و (ر).
(2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الفريقين".
(3) سورة التوبة: الآية (28).
(4) في (م) و (ت): "يعذر".
(5) ساقط من (غ) و (ر).(3/330)
لِأَرُدَّ بَعْثًا أَنْفَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1)، فَوَقَفَ مَعَ شَرْعِ اللَّهِ/ وَلَمْ يحكِّم غَيْرَهُ.
وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (إِنِّي (أَخَافُ) (2) عَلَى أُمَّتِي (من) (3) بعدي (أَعْمَالٍ) (4) ثَلَاثَةٍ، قَالُوا: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَخَافُ (عَلَيْكُمْ) (5) مِنْ زَلَّةِ الْعَالِمِ، وَمِنْ حُكْمٍ جَائِرٍ، وَمِنْ هَوًى متَّبَع) (6) وَإِنَّمَا (زَلَّةُ) (7) الْعَالِمِ بِأَنْ يَخْرُجَ عَنْ طَرِيقِ الشَّرْعِ، فَإِذَا كَانَ (مِمَّنْ) (8) يَخْرُجُ عَنْهُ فَكَيْفَ يُجْعَلُ حُجَّةً عَلَى الشَّرْعِ؟ هَذَا مُضَادٌّ لِذَلِكَ.
وَلَقَدْ كان كافياً من ذلك خطاب الله تعالى لِنَبِيِّهِ وَأَصْحَابِهِ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (9) الْآيَةَ، مَعَ أَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} (10)، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (11) الآية.
وَلِذَلِكَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عنه: (ثلاث يهدِمن الدين: زلة (عالم) (12)، وجدال منافق بالقرآن، وأئمة مضلون) (13).
_________
(1) انظر: تاريخ خليفة بن خياط (ص100)، وطبقات ابن سعد (4 67)، وتاريخ الطبري (3 227).
(2) في (م) و (خ) و (ت) و (غ) و (ر): "لأخاف"، والذي في (ط): "يوافق الحديث".
(3) ساقط من (غ) و (ر).
(4) هكذا في جميع النسخ وفي (غ) و (ر) قبلها كلمة: "من".
(5) في (غ) و (ر): "عليهم".
(6) الحديث أخرجه البزار، كما في كشف الأستار (1 103) برقم (182) وقال الهيثمي في المجمع (1 187): رواه البزار، وفيه كثير بن عبد الله بن عوف، وهو متروك، وقد حسن له الترمذي. وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير (17 17 برقم 14)، والشهاب القضاعي في مسنده (1127)، وابن عدي في الكامل (6 57) وبنحوه في المعجم الصغير للطبراني (1001)، وفي المعجم الكبير (20 138 برقم 282)، وفي تاريخ بغداد (2 128)، وفي السنن الكبرى للبيهقي (20706).
(7) في (غ) و (ر): "يزل".
(8) في (غ) و (ر): "مما".
(9) سورة النساء: الآية (59).
(10) سورة النساء: الآية (59).
(11) سورة الأحزاب: الآية (36).
(12) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "العالم".
(13) تقدم تخريجه.(3/331)
(وسائر ما جاء في زيغة الحكيم فإنه/ واضح في أن الرجال إنما يعتبرون من حيث الحق لا من حيث هم رجال) (1).
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: اغْدُ عَالِمًا أَوْ مُتَعَلِّمًا، وَلَا تغدُ إمَّعة فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ وهب:/ فسألت سفيان عن الإمَّعة (فحدثني عن (الزعراء) (2) عن أبي الأحوص عن ابن مسعود قال: كنا ندعو) (3) / الإمعة (في) (4) الجاهلية الذي يُدعى إلى طعام فَيَذْهَبُ مَعَهُ بِغَيْرِهِ، وَهُوَ فِيكُمُ الْيَوْمَ الْمُحْقِبُ دِينَهُ الرِّجَالَ (5).
وَعَنْ كُمَيْلِ بْنِ زِيَادٍ (6) أَنَّ علياً رضي الله عنه قال (له) (7): يَا كُمَيْلُ، إِنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ/ أَوْعِيَةٌ فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا لِلْخَيْرِ، وَالنَّاسُ ثَلَاثَةٌ: فَعَالِمٌ رَبَّانِيٌّ، وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ، وَهَمَجٌ رَعَاعٌ، أَتْبَاعُ كُلِّ ناعق، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ ـ الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَالَ فِيهِ ـ أفٍ لِحَامِلِ حَقٍّ لَا بَصِيرَةَ لَهُ، يَنْقَدِحُ الشَّكُّ فِي قَلْبِهِ بِأَوَّلِ عَارِضٍ مِنْ شُبْهَةٍ لَا يَدْرِي أَيْنَ الْحَقُّ، إِنْ قَالَ أَخْطَأَ، وَإِنْ أَخْطَأَ لَمْ يَدْرِ، مَشْغُوفٌ بِمَا لَا يَدْرِي حَقِيقَتَهُ، فَهُوَ فِتْنَةٌ لِمَنْ فُتِنَ به، (وإن من الخير كله، (من عرَّفه) (8) اللَّهُ دِينَهُ، وَكَفَى (بِالْمَرْءِ جَهْلًا) (9)) (10) أَنْ لَا يعرف دينه (11).
_________
(1) زيادة من (غ) و (ر).
(2) هكذا في (غ) والصواب: أبي الزعراء، اسمه: عبد الله بن هانئ.
(3) ما بين () زيادة من (غ) و (ر).
(4) ما بين القوسين ساقط من (ط)، وفي (ت) و (خ) و (م): "فقال الإمعة في".
(5) أخرجه الدارمي (248 و337 و339)، وابن أبي خيثمة في كتاب العلم (1 و116)، وابن أبي شيبة في المصنف (8 541) برقم (6171)، والفسوي في تاريخ (3 339)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (139 و145 و146 و147 و1874 و1875)، والطبراني في الكبير (9 163) برقم (8752).
(6) هو كميل بن زياد بن نهيك المذحجي، وثقه ابن معين والعجلي، وقتله الحجاج سنة 82هـ. طبقات ابن سعد (6 179)، وتهذيب التهذيب (8 447).
(7) زيادة من (غ) و (ر).
(8) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فاعرف".
(9) ما بين القوسين () زيادة من (م) و (غ) و (ر).
(10) ما بين القوسين () بياض بمقدار سطر في (ت).
(11) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (1878)، وأبو نعيم في الحلية (1/ 79)،=(3/332)
وعن علي رضي الله عنه (أنه) (1) قَالَ: إِيَّاكُمْ وَالِاسْتِنَانَ بِالرِّجَالِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ثُمَّ يَنْقَلِبُ لِعِلْمِ اللَّهِ فِيهِ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَمُوتُ وَهُوَ من/ أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أَهْلِ النَّارِ فَيَنْقَلِبُ لِعِلْمِ اللَّهِ فِيهِ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ/ الْجَنَّةِ، فَيَمُوتُ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَإِنْ كُنْتُمْ لَا بُدَّ فَاعِلِينَ فَبِالْأَمْوَاتِ لا بالأحياء، وأشار (بالأموات) (2) إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه الكرام (3). وهو جار فِي كُلِّ زَمَانٍ يُعْدَمُ فِيهِ الْمُجْتَهِدُونَ.
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَلَا لَا يقلدنَّ أَحَدُكُمْ دِينَهُ رَجُلًا، إِنْ آمَنَ آمَنَ، وَإِنْ كَفَرَ كَفَرَ، فَإِنَّهُ لَا أُسْوَةَ فِي الشر (4).
وهذا الكلام من ابن مسعود رضي الله عنه (يبيّن) (5) مُرَادَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ كَلَامِ السَّلَفِ، وهو النهي عن اتباع (الرجال) (6) مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ (7) قَالَ: جَلَسْتُ إِلَى شَيْبَةَ (8) فِي هَذَا الْمَسْجِدِ قَالَ: جَلَسَ إِلَيَّ عُمَرُ فِي مَجْلِسِكَ هَذَا قَالَ: هَمَمْتُ أَنْ لَا أَدَعَ فِيهَا صَفْرَاءَ وَلَا بَيْضَاءَ إِلَّا قَسَمْتُهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، قُلْتُ: مَا أَنْتَ/ بِفَاعِلٍ، قَالَ: لِمَ؟ قُلْتُ: لَمْ يَفْعَلْهُ صَاحِبَاكَ، قَالَ: هما المرءان (أقتدي) (9) بهما، يعني
_________
=والرافعي في التدوين في أخبار قزوين (3/ 209)، والخطيب في تاريخه (6/ 379)، وفي الفقيه والمتفقه (1/ 49)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (14/ 17 ـ 18) و (50/ 251 ـ 255)، والمزي في تهذيب الكمال (24/ 220)، والذهبي في تذكرة الحفاظ (1/ 11).
(1) زيادة من (غ) و (ر).
(2) زيادة من (غ) و (ر).
(3) تقدم تخريجه (3/ 109).
(4) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (9 166) برقم (8764 ـ 8767)، وقال الهيثمي في المجمع (1 180): رجاله رجال الصحيح، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى (20136)، وذكره ابن عبد البر في جامع بيان العلم (1882)، وبنحوه في السنن الكبرى للبيهقي (2070)، واللالكائي (130).
(5) في سائر النسخ ما عدا (ر): "بيّن".
(6) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "السلف".
(7) هو شقيق بن سلمة الأسدي الكوفي، تقدمت ترجمته (1 81).
(8) هو شيبة بن عثمان بن عبد الله العبدري الحجبي، رضي الله عنه، أسلم في حنين، وتوفي سنة 59هـ. انظر: سير أعلام النبلاء (3 12).
(9) في (ط): "أهتدي".(3/333)
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (1).
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي حَدِيثِ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ حين استأذن لَهُ عَلَى عُمَرَ، قَالَ فِيهِ: فَلَمَّا دَخَلَ قال: يا ابن الْخَطَّابِ، وَاللَّهِ مَا تُعْطِينَا الْجَزْلَ، وَمَا تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالْعَدْلِ. فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ بِأَنْ يقع (به) (2)، فَقَالَ الْحُرُّ بْنُ قَيْسٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إن الله قال لنبيه صلّى الله عليه وسلّم: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ *} (3) (وإن هذا/ من الجاهلين) (4) فوالله ما (جاوزها) (5) عُمَرُ حِينَ تَلَاهَا عَلَيْهِ، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ (6).
وَحَدِيثُ فِتْنَةِ الْقُبُورِ حَيْثُ قَالَ صلّى الله عليه وسلّم (7):/ "فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ ـ أَوِ الْمُسْلِمُ ـ/ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ فَأَجَبْنَاهُ وَآمَنَّا، فَيُقَالُ نَمْ صَالِحًا قَدْ عَلِمْنَا أَنَّكَ مُوقِنٌ. وَأَمَّا الْمُنَافِقُ أَوِ الْمُرْتَابُ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي/ سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فقلته" (8).
/وحديث مخاصمة علي والعباس (عند) (9) عمر في ميراث
_________
(1) أخرجه البخاري (1594 و7275)، وأحمد في المسند (3 410)، وفي فضائل الصحابة (638)، وابن ماجه (3116)، وأبو داود (2031)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (614)، والطبراني في الكبير (7195)، والبيهقي في السنن الكبرى (9511).
(2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فيه".
(3) سورة الأعراف: الآية (199).
(4) زيادة من (غ) و (ر).
(5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "جاوز".
(6) أخرجه البخاري في كتاب التفسير برقم (4642 و7286)، وأحمد في الفضائل (506).
(7) في (غ) و (ر) وقع خلط عجيب، حيث كُتب بعد قوله: (قال صلّى الله عليه وسلّم) نص طويل مكانه أول الكتاب وهو يبدأ من منتصف السطر الثاني من صفحة 455غ إلى آخر سطر من صفحة 457غ ففي آخر السطر كتب: (وإن أجبته بتأويل فأما المؤمن أو المسلم).
فقول: (وإن أجبت بتأويل) تابع للنص الطويل الذي مكانه أول الكتاب وقوله: (فأما المؤمن أو المسلم) فهو تكملة النص الذي في هذه الصفحة.
(8) أخرجه البخاري (86 و184 و922 و1053 و1054 و1061 و1235 و1373 و2519 و2520 و7287)، ومسلم (905)، ومالك (447)، وأحمد (6 345 و354)، وابن حبان (3114)، والطبراني في الكبير (24 115 برقم 313 ـ 316)، والبيهقي في السنن الكبرى (3232 و6153).
(9) زيادة من (غ) و (ر).(3/334)
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقوله للرهط الْحَاضِرِينَ: هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا نُورَثُ مَا (تَرَكْنَاهُ) (1) صَدَقَةٌ"، فَأَقَرُّوا بِذَلِكَ ـ إِلَى (أَنْ) (2) قَالَ لِعَلِيٍّ وَالْعَبَّاسِ: أَفَتَلْتَمِسَانِ مِنِّي قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ؟ (فَوَاللَّهِ الَّذِي) (3) بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ لَا أَقْضِي فِيهَا قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ (4).
وَتَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ (5) فِي هَذَا الْمَعْنَى تَرْجَمَةً تَقْتَضِي أَنَّ حُكْمَ الشَّارِعِ إِذَا وَقَعَ وَظَهَرَ فَلَا خِيَرَةَ لِلرِّجَالِ وَلَا اعْتِبَارَ بِهِمْ، وَأَنَّ الْمُشَاوَرَةَ إِنَّمَا تَكُونُ قَبْلَ التَّبْيِينِ، فَقَالَ: (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (6)، {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ}، وَأَنَّ الْمُشَاوَرَةَ قَبْلَ الْعَزْمِ وَالتَّبْيِينِ/ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} (7)، فَإِذَا عَزَمَ الرَّسُولُ لَمْ يَكُنْ لِبَشَرٍ التَّقَدُّمُ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَشَاوَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ يَوْمَ أُحُدٍ فِي الْمُقَامِ وَالْخُرُوجِ، فَرَأَوْا لَهُ الْخُرُوجَ، فَلَمَّا لَبِسَ لَأْمَته (وعزم) (8) قَالُوا: أَقِمْ، فَلَمْ يَمِلْ إِلَيْهِمْ/ بَعْدَ الْعَزْمِ، وَقَالَ: "لَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ يَلْبَسُ لَأْمَتَهُ فَيَضَعُهَا حتى يحكم الله" (9)، وشاور علياً وأسامة
_________
(1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "تركناه".
(2) ساقط من (غ) و (ر). ووقع هنا في نسخة (ر) (ص306) تخليط حيث انتقل الكلام إلى ما جاء في بداية الكتاب من قوله: (سماني أشعرياً ... ) (1/ 29) طبعة رشيد رضا وتنتهي بقوله: (قررت أحكامها الشريعة ... ) (1/ 31) ثم الصفحة (307) تبدأ بما في (1/ 27): (بظاهره إلى اتباع المتشابهات ... ) إلى (1/ 29) وإن أجبت بتأويل ... ) وهو تخليط سببه والله أعلم وضع هذه اللوحة في الأصل المستنسخ منه في غير مكانها.
(3) في (غ) و (ر): "فوالذي".
(4) أخرجه البخاري (3094 و2904 و4033 و4885 و5357 و6728 و7305)، ومسلم (1757)، وأبو داود (2963 ـ 2965)، والترمذي (1610)، والنسائي في المجتبى (4148)، وفي الكبرى (6310)، والبيهقي في السنن الكبرى (12508 ـ 12510 و13147).
(5) انظر: البخاري ـ فتح الباري (13 351) ـ كتاب الاعتصام، بَابُ (28) قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}.
(6) سورة الشورى: الآية (38).
(7) سورة آل عمران: الآية (159).
(8) زيادة من (غ) و (ر).
(9) أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (2 37)، وأحمد في المسند (3 351)،=(3/335)
فِيمَا رَمَى بِهِ أَهْلُ الْإِفْكِ عَائِشَةَ رَضِيَ/ اللَّهُ عَنْهَا، (فَسَمِعَ مِنْهُمَا) (1) حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ فَجَلَدَ الرَّامِينَ وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى تَنَازُعِهِمْ، وَلَكِنْ حكم بما أمره الله (به) (2).
وَكَانَتِ الْأَئِمَّةُ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَشِيرُونَ الْأُمَنَاءَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الأمور المباحة ليأخذوا (بأسلمها) (3)، فَإِذَا (وَقَعَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ) (4)، لَمْ يَتَعَدَّوْهُ إِلَى غَيْرِهِ، اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَأَى أَبُو بَكْرٍ قِتَالَ مَنْ مَنَعَ الزَّكَاةَ فَقَالَ عُمَرُ: كَيْفَ تُقَاتِلُ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ؟ " (فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللَّهِ لأقتلن مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم) (5)، ثم تابعه (عمر بعد) (6)، فَلَمْ يَلْتَفِتْ أَبُو بَكْرٍ إِلَى مَشُورَةٍ، إِذْ كَانَ عِنْدَهُ حُكْمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَابِتًا فِي الَّذِينَ فَرَّقُوا بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَأَرَادُوا تَبْدِيلَ الدِّينِ وَأَحْكَامِهِ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ" (7)، وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابَ مَشُورَةِ عُمَرَ كُهُولًا كَانُوا أَوْ شُبَّانًا، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ.
هَذَا جُمْلَةُ مَا قَالَ فِي (تِلْكَ) (8) التَّرْجَمَةِ مِمَّا يَلِيقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ، مِمَّا يدل على أن الصحابة رضي الله عنهم لَمْ يَأْخُذُوا أَقْوَالَ الرِّجَالِ/ فِي طَرِيقِ الْحَقِّ إِلَّا مِنْ حَيْثُ هُمْ وَسَائِلُ لِلتَّوَصُّلِ إِلَى شرع/ الله، لا من حيث هم
_________
=والدارمي (2 129 ـ 130)، والنسائي في السنن الكبرى (7647)، والحاكم (2 128 ـ 129)، وصححه ووافقه الذهبي، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى (13060 و13061)، وحسَّن ابن حجر سندي الحاكم والبيهقي في التلخيص الحبير (3 129).
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت). وفي (م): "منهما".
(2) ما بين القوسين زيادة من (ت).
(3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "بأسهلها".
(4) في (غ) و (ر): "أوضح الكتاب أو السنة".
(5) ما بين القوسين زيادة من (م) و (غ) و (ر).
(6) في (ط) و (م) و (خ) و (غ) و (ر): "بعد عمر"، والحديث تقدم تخريجه (3/ 329) تعليق (7).
(7) تقدم تخريجه (3/ 116).
(8) في (ت): "جملة تلك".(3/336)
أصحاب رتب، أَوْ كَذَا أَوْ كَذَا، وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ.
/وَذَكَرَ ابْنُ مُزَيَّنٍ (1) عَنْ عِيسَى بْنِ دِينَارٍ (2) عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ (3) عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ كُلُّ مَا قَالَ رَجُلٌ قَوْلًا ـ وَإِنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ ـ يُتَّبَعُ عَلَيْهِ لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} (4) (5).
_________
(1) في (ت): "أبو مرين" وصححت في الهامش بـ"ابن مرين"، وهو يحيى بن إبراهيم بن إبراهيم بن مزين أبو زكريا، روى عن أنس بن مالك الموطأ، توفي سنة 259هـ. انظر: تاريخ علماء الأندلس (2 901) وجذوة المقتبس (2 595)، وبغية الملتمس (2 669).
(2) هو عيسى بن دينار الغافقي، من تلاميذ ابن القاسم، كان بارعاً في الفقه، توفي سنة 212هـ. انظر: ترتيب المدارك (3 16)، والسير (10 439).
(3) تقدمت ترجمته (3/ 27).
(4) سورة الزمر: الآية (18).
(5) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (1897).(3/337)
فصل
إِذًا ثَبَتَ أَنَّ الْحَقَّ هُوَ الْمُعْتَبَرُ دُونَ الرجال، فالحق أيضاً لا يعرف دون (وساطتهم) (1)،/ بل بهم يتوصل إليه وهم (الأدلة) (2) على طريقه.
_________
(1) في (ط) و (خ): "وسائطهم". في (م): "وساطهم".
(2) في (غ) و (ر): "الأدلة".
في نهاية النسخة المطبوعة كتب: انتهى القدر الذي وجد من هذا التأليف ولم يكمله المؤلف رحمه الله تعالى.
هذا ما جاء في آخر النسخة المخطوطة التي وجدت في مكتبة الشنقيطي، وقد تم نسخها في 25 المحرم سنة 1295 من هجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وفي نهاية النسخة (خ) كتب: انتهى القدر الذي وجد من هذا التأليف، ولم يكمله المؤلف رحمه الله تعالى، والحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً، وصلى الله على من لا نبي بعده وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.
تم نسخ الجزء الثاني من الاعتصام للإمام الشاطبي 25 في المحرم الحرام، فاتح شهور سنة 1295، جعله الله مباركاً علينا وعلى المسلمين أجمعين، على يد العبد الفقير الذليل المعترف بالذنب والتقصير: حسن بن محمد الشبلي الشريف الأمين، كان؟ رحمه الله ورحم المسلمين أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فهو حسبي ونعم الوكيل، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. انتهى.
وفي نهاية النسخ (ت): انتهى القدر الذي وجد من هذا التأليف، ولم يكمله المؤلف رحمه الله تعالى، وافق الفراغ من نسخ هذا المقدار الموجود على يد كاتبه الفقير إلى ربه المحسن عبده الحاج حمود بودس، كان الله له، وختم بالحسنى عمله، وبلغه فيما يرجوه من ربه أمله. آمين.
تم بحمد الله وتوفيقه وحسن عونه صبيحة يوم الجمعة رابع شهر ذي الحجة الحرام كمال عام 1284 في أربع وثمانين ومائتين وألف من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية.
والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله بكرة وعشية، ورضي الله تعالى عن=(3/338)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
_________
=أصحاب رسوله أجمعين، وعن التابعين وتابع التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. آمين آمين آمين.
وفي هامش آخر النسخة (ر) كتب: ثبت في الأصل المنتسخ منه في هذا المحل (ما نصه) هنا انتهى ما قيّده (المؤلف) رحمه الله ولم يكن باقي (من) غرض التأليف كله إلا ما أراد (ههنا).اهـ.
وما بين () قرأته بصعوبة وأثبت ما ترجح في ظني، والله أعلم، والحمد لله على توفيقه، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه هشام بن إسماعيل بن علي الصيني.(3/339)
الملاحق
تعريف الفرق الواردة في الباب التاسع في المسألة السابعة(3/341)
بسم الله الرحمن الرحيم
(ملحق رقم 1) تعريف الفرق الوارد ذكرهم في الباب السابع
في تعريف الفرق أذكر الفرقة وإلى من تنسب، وأهم معتقداتها من غير تفصيل لتلك المعتقدات، لأن ذلك يؤدي إلى الإطالة، ثم أشير إلى أهم المراجع التي فصلت الكلام عن هذه الفرق، ورتبتها على حسب ترتيب أسماء الفرق الأساسية كما وردت في الاعتصام، ثم أدرج الفرق التي تحتها ضمن الفرقة الأساسية. والله الموفق (1).
(1) المعتزلة:
فرقة أسسها واصل بن عطاء؛ وذلك عندما تكلم في حكم مرتكب الكبيرة، فقال: إنه في منزلة بين المنزلتين، وكان في حلقة الحسن البصري ثم اعتزله بسبب هذه المسألة، ثم تطورت عقيدة المعتزلة، فأصبح لهم خمس أصول مشهورة؛ وهي: العدل، والتوحيد، والمنزلة بين المنزلتين، والوعد والوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم تفرقوا بعد ذلك إلى عدة فرق.
انظر: الفرق بين الفرق (ص114 ـ 202)، ومقالات الإسلاميين (155 ـ 278)، والملل والنحل (1/ 43 ـ 84)، والتنبيه والرد للملطي (ص40) والبرهان في معرفة عقائد أهل الأديان (ص49)، والمعتزلة وأصولهم الخمسة للدكتور عواد المعتق.
(2) الواصلية:
أتباع واصل بن عطاء، مؤسس المعتزلة، وذكر الشهرستاني أن اعتزال الواصلية يدور على أربع قواعد:
__________
(1) كتبه هشام بن إسماعيل بن علي الصيني.(3/343)
القاعدة الأولى: القول بنفي صفات الله عز وجل؛ لأن ذلك يستلزم وجود إلهين اثنين.
القاعدة الثانية: القول بالقدر، وهو أن العبد هو الفاعل للخير والشر، وليست هي من فعل الله، تعالى عن قولهم.
القاعدة الثالثة: القول بالمنزلة بين المنزلتين.
القاعدة الرابعة: القول بأن أحد الفريقين من أصحاب الجمل وأصحاب صفين فاسق لا بعينه.
انظر: الملل والنحل (1/ 46)، والفرق بين الفرق (117 ـ 120).
(3) العَمْرَوية:
وهم أتباع عمرو بن عبيد الذي تزوج أخت واصل بن عطاء، وتتلمذ عليه، وتبنى عقيدته، وزاد عليه ما يلي:
أولاً: قال بفسق الفريقين من أصحاب الجمل وصفين، وأنهم مخلدون في النار، ورد شهادتهم.
ثانياً: رد الأحاديث النبوية، كحديث ابن مسعود الوارد في أطوار الإنسان في بطن أمه، وأنه يكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد. انظر: الفرق بين الفرق (120 ـ 121)، وميزان الاعتدال (2/ 295).
(4) الهُذيلية:
وهم أتباع أبي الهذيل محمد بن الهذيل العلاف البصري، وقد كفره أصحابه كالمردار والجبَّائي، وقد انفرد عن أصحابه المعتزلة بعدة أقوال منها:
أولاً: أن الصفة هي ذات الموصوف، فقال: إن الباري سبحانه وتعالى عالم بعلم، وعلمه ذاته، وقادر بقدرة وقدرته ذاته .. إلخ.
ثانياً: أثبت أن لله إرادة لا محل لها.(3/344)
ثالثاً: قوله بأن كلام الله تعالى على قسمين: قسم لا في محل؛ وهو كلمة (كن) التكوينية، وقسم في محل، كالأمر والنهي.
رابعاً: قال بأن حركات أهل الجنة وأهل النار تنقطع، ويصيرون في سكون دائم، وتجتمع اللذات في ذلك السكون لأهل الجنة، وتجتمع الآلام في ذلك السكون لأهل النار.
انظر: الملل والنحل (1/ 149 ـ 53)، والفرق بين الفرق (121 ـ 130)، والبرهان في معرفة عقائد أهل الأديان (ص54).
(5) النظَّامية:
هم أصحاب إبراهيم بن يسار بن هانئ النظَّام، خلط اعتزاله بالفلسفة، وانفرد عن أصحابه بعدة مسائل أهمها:
أولاً: أنه قال: إن الله تعالى لا يوصف بالقدرة على الشرور والمعاصي، وليست هي مقدورة للباري، خلافاً لأصحابه؛ فإنهم يقولون: إن الله تعالى قادر على الشرور والمعاصي، ولكنه لا يفعلها لأنها قبيحة. وقال ـ النظام ـ: إن الله تعالى لا يوصف بالقدرة على أن يزيد في عذاب أهل النار ولا في أن ينقص من نعيم أهل الجنة.
ثانياً: أحدث القول بالطفرة، حيث قال: إذا مشت النملة على صخرة من طرف إلى طرف، فإنها قطعت ما لا يتناهى. فقيل له: كيف يقطع ما يتناهى ما لا يتناهى؟ فقال: تقطع بعض المسافة بالمشي، وتقطع الباقي بالطفرة.
ثالثاً: قال إن الإجماع والقياس ليسا بحجة في الشرع، وإنما الحجة في قول الإمام المعصوم.
رابعاً: مال إلى الرافضة، فقال: لا إمام إلا بالنص والتعيين، وأن علياً هو الإمام، وأن عمر رضي الله عنه هو الذي كتم ذلك وتولى بيعة أبي بكر يوم السقيفة، ثم وقع ـ أي النظام ـ في عثمان وعلي وابن مسعود(3/345)
وغيرهم من الصحابة. انظر: الملل والنحل (1/ 53 ـ 59)، والفرق بين الفرق (131 ـ 150)، والبرهان (ص55).
(6) الأسوارية:
وهم أتباع علي الأسواري، كان على مذهب أبي الهذيل، ثم انتقل إلى مذهب النظام، وزاد بدعة فقال: إن ما علم الله أن لا يكون، لم يكن مقدوراً لله تعالى. انظر: الفرق بين الفرق (ص151).
(7) الإسكافية:
وهم أتباع محمد بن عبد الله الإسكافي، وكان أخذ القدر عن جعفر بن حرب، ثم ابتدع بعد ذلك بدعاً أخرى منها: زعم أن الله تعال يوصف بالقدرة على ظلم الأطفال والمجانين، ولا يوصف بالقدرة على ظلم العقلاء، فكفره أسلافه لهذا القول، وكفَّرهم هو لخلافهم له في هذه المسألة. انظر: الفرق بين الفرق (169 ـ 171)، والبرهان (ص62).
(8) الجعفرية:
أتباع جعفر بن حرب، وجعفر بن مبشر، أما جعفر بن حرب، فهو على مذهب أستاذه المردار، وزعم أن الممنوع من الفعل قادر على الفعل، وليس يقدر على شيء؟! وأما جعفر بن بشر فمن بدعه زعمه أن في الأمة فساقاً شر من اليهود والنصارى والمجوس، مع قوله أن الفاسق موحِّد وليس بمؤمن ولا كافر. انظر: الفرق بين الفرق (167 ـ 169)، والملل والنحل (1/ 59).
(9) والبِشْرية:
وهم أتباع بشر بن المعتمر، وهو الذي أحدث القول بالتولد، وانفرد عن أصحابه ببدع منها: إن الله تعالى قادر على تعذيب الطفل، ولو فعل ذلك لكان ظالماً له، لكن لا يستحسن أن يقال ذلك في حقه، بل يقال: لو(3/346)
فعل ذلك لكان الطفل بالغاً عاقلاً عاصياً مستحقاً للعذاب؟! وهذا تناقض. انظر: الملل والنحل (1/ 64 ـ 65)، والفرق بين الفرق (156 ـ 159)، والبرهان (ص53).
(10) المردارية:
أتباع عيسى بن صبيح المردار، تتلمذ على بشر بن المعتمر، وتزهد حتى سُمِّي راهب المعتزلة، وابتدع بدعاً منها: قوله في القرآن أن الناس قادرون على أن يأتوا بمثل القرآن فصاحة، ونظماً، وبلاغة، وهو الذي بالغ في القول بخلق القرآن، وكفَّر من قال بقدمه، وكفَّر من لابس السلطان، وغلا في التكفير حتى سأله إبراهيم بن السندي مرة عن أهل الأرض جميعاً فكفرهم، فقال إبراهيم: الجنة التي عرضها السموات والأرض لا يدخلها إلا أنت وثلاثة وافقوك؟ فخزي المردار ولم يجب. انظر: الملل والنحل (1/ 68 ـ 70)، والفرق بين الفرق (164 ـ 166).
(11) الهشامية:
وهم أصحاب هشام بن عمرو الفوطي، وقد بالغ في القدر، فكان يمتنع من إطلاق إضافات الأفعال إلى الله تعالى وإن ورد بها القرآن، فقال: إن الله لا يؤلف بين قلوب المؤمنين، بل هم المؤتلفون باختيارهم، ومن بدعه قوله: إن الجنة والنار ليستا مخلوقتين الآن، إذ لا فائدة في وجودهما. انظر: الملل والنحل (1/ 72 ـ 74)، والفرق بين الفرق (159 ـ 164).
(12) الصالحية:
وهو أتباع صالح قبة، قال أبو الحسن الأشعري: إن صالح قبة كان ممن يثبتون الجزء الذي لا يتجزأ ويقول: إن ما يراه الرائي في المرآة إنما هو إنسان مثله اخترعه الله تعالى في المرآة. انظر: مقالات الإسلاميين (ص317).(3/347)
(13) الخابطية و (14) الحدثية:
الخابطية والحدثية: أتباع أحمد بن خابط والفضل الحدثي، كانا من أصحاب النظام، وزادا عليه ثلاث بدع:
الأولى: وافقوا النصارى في إثبات حكم من أحكام الإلهية في المسيح عليه السلام، فادعوا أن المسيح هو الذي يحاسب الخلق في الآخرة، وهو المراد بقوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا *} ومثيلاتها من الآيات.
البدعة الثانية: قالوا بالتناسخ، فزعموا أن الله تعالى خلق خلقه أصحاء سالمين عقلاء بالغين في دار سوى هذه الدار، وخلق فيهم معرفته والعلم به، فأطاعه بعضهم في جميع ما أمرهم به، وعصاه بعضهم في جميع ما أمرهم به، وأطاعه بعضهم في بعض ما أمر به دون البعض، فمن أطاعه أقره في دار النعيم، ومن عصاه أخرجه إلى دار النار، ومن أطاعه في بعض دون بعض، أخرجه إلى دار الدنيا، فألبسه هذه الأجسام الكثيفة على صور الناس والحيوانات على قدر ذنوبهم ...
البدعة الثالثة: حملوا الآيات والأحاديث الواردة في الرؤية على رؤية العقل الأول. انظر: الملل والنحل (1/ 60 ـ 64)، والفرق بين الفرق (ص273).
(15) المعمرية:
أتباع معمر بن عبَّاد السلمي، انفرد عن أصحابه بعدة مسائل منها: قال: إن الله تعالى لم يخلق غير الأجسام، وأما الأعراض فإنها من اختراعات الأجسام، إما طبعاً كالنار التي تحدث الإحراق، وإما اختياراً كالحيوان يحدث الحركة والسكون. وله ضلالات أخرى شنيعة. انظر: الملل والنحل (1/ 65 ـ 70)، والفرق بين الفرق (151 ـ 156)، والبرهان (ص63).(3/348)
(16) الثُّمامية:
وهم أتباع ثمامة بن أشرس النميري، قال الشهرستاني: كان جامعاً بين سخافة الدين، وخلاعة النفس مع اعتقاده بأن الفاسق يخلد في النار إذا مات على فسقه من غير توبة، وهو في حال حياته في منزلة بين المنزلتين. وقد ابتدع عدة بدع منها: أن الكفار واليهود والنصارى والدهرية وأطفال المؤمنين والبهائم يصيرون يوم القيامة تراباً. انظر: الملل والنحل (1/ 70 ـ 71)، والفرق بين الفرق (172 ـ 175).
(17) الخيَّاطية:
هم أتباع أبي الحسين بن أبي عمرو الخياط أستاذ أبي القاسم الكعبي، وقد انفرد الخياط بمسألة عن جميع الفرق وهي: زعمه أن الجسم في حالة عدمه يكون جسماً. انظر: الفرق بين الفرق (179 ـ 180)، والملل والنحل (1/ 76 ـ 78).
(18) الجاحظية:
وهم أتباع عمرو بن بحر أبي عثمان الجاحظ، له عدة بدع خالف فيها أصحابه المعتزلة منها: زعمه أن أهل النار لا يخلدون فيها عذاباً، بل يصيرون فيها إلى طبيعة نارية، وأن النار تجذب أهلها إليها من غير أن يدخلها أحد. انظر: الملل والنحل (1/ 75 ـ 76)، والفرق بين الفرق (175 ـ 178)، والبرهان (ص56).
(19) الكعبية:
وهم أتباع أبي القاسم عبد الله بن أحمد الكعبي، تلميذ أبي الحسين الخياط، وهو من معتزلة البصرة، لكنه خالفهم في عدة مسائل منها: قوله: إن الله لا يرى نفسه ولا غيره إلا على معنى علمه بنفسه وبغيره. ومنها قوله: إن المقتول ليس بميت. انظر: الفرق بين الفرق (181 ـ 182)، والملل والنحل (1/ 76).(3/349)
(20) الجبَّائية:
أتباع أبي علي محمد بن عبد الوهاب الجبَّائي، وقد انفرد بعدة أقوال منها: إنكاره بعث الأجساد بعد الموت، وأن الله يحيي أرواح الموتى، ويبعث أرواح من في القبور. انظر: الملل والنحل (78 ـ 85)، والفرق بين الفرق (183 ـ 184)، والبرهان (ص51).
(21) البهشمية:
وهم أتباع أبي هاشم عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب الجبائي، من معتزلة البصرة، وقد (انفرد) بمسائل عن أصحابه منها: ما اشتهر بأحوال أبي هاشم، وهي إحدى ثلاث غير معقولة، وهي أحوال أبي هاشم وطفرة النظام وكسب الأشعري. ومن بدعه زعمه أن التوبة عن الذنب بعد العجز عن مثله لا تصح، فعنده لا تقبل توبة الكاذب بعد خرس لسانه. انظر: الفرق (184 ـ 201)، والملل والنحل (78 ـ 85).
(22) الشيعة:
هم الذين شايعوا علياً رضي الله عنه على الخصوص، وقالوا بإمامته وخلافته نصاً ووصية، إما جلياً وإما خفياً، واعتقدوا أن الإمامة لا تخرج من أولاده، وإن خرجت فبظلم يكون من غيره، أو بتقية من عنده، وأن الإمامة ركن الدين لا يجوز للرسل إغافلها ولا تفويضها إلى العامة، ويجمعهم ـ أي فرق الشيعة ـ القول بوجوب التعيين والتنصيص، وثبوت عصمة الأنبياء والأئمة وجوباً عن الكبائر والصغائر، والقول بالتولي والتبري. انظر: الملل والنحل (1/ 146 ـ 147)، والفرق بين الفرق (ص21)، ومقالات الإسلاميين (ص5).
(23) السبئية:
هم أتباع عبد الله بن سبأ اليهودي، الذي غلا في علي رضي الله عنه، وادعى أن علياً كان نبياً ثم زعم أنه إله، وقال له: أنت أنت. يعني أنت(3/350)
الإله. وزعم أن علياً لم يمت وأنه يجيء في السحاب والرعد صوته، والبرق تبسمه، وأنه سيرجع إلى الأرض فيملؤها عدلاً كما ملئت جوراً.
وهم أول فرقة قالت بالغيبة والرجعة، وبتناسخ الجزء الإلهي في الأئمة بعد علي رضي الله عنه. انظر: الفرق بين الفرق (ص233)، ومقالات الإسلاميين (ص15)، والملل والنحل (1/ 174)، والبرهان (ص85).
(24) الكاملية:
أتباع رجل من الرافضة كان يعرف بأبي كامل، زعم أن الصحابة كلهم كفار بتركهم بيعة علي، وقال: إن الإمامة نور يتناسخ من شخص إلى شخص. انظر: الملل والنحل (1/ 174 ـ 175)، والفرق بين الفرق (ص54 ـ 56).
(25) البيانية:
أتباع بيان بن سمعان التميمي، وهو من الغلاة القائلين بإلهية علي رضي الله عنه، وأنه كان يعلم الغيب، وأن الجزء الإلهي انتقل إلى محمد بن الحنيفية، ثم إلى ابنه أبي هاشم، ثم صار من أبي هاشم إلى بيان بن سمعان، وهو ـ أي بيان بن سمعان ـ من المشبهة، وسمع به خالد بن عبد الله القسري فاستدرجه وصلبه، وقيل أنه أحرقه. انظر: الملل والنحل (1/ 152)، والفرق بين الفرق (ص236)، ومقالات الإسلاميين (ص5)، والتنبيه والرد للملطي (ص30)، والبرهان (ص75).
(26) المُغيرية:
وهم أتباع المغيرة بن سعد العجلي، وكان يظهر موالاة الإمامية، ثم ادّعى النبوة، وهو شديد الغلو في التشبيه. انظر: الفرق بين الفرق (ص238)، والملل والنحل (1/ 176)، ومقالات الإسلاميين (ص6)، والتنبيه والرد للملطي (ص152)، والبرهان (ص77).(3/351)
(27) الجناحية:
أتباع عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر ذي الجناحين، من غلاة فرق الشيعة، يزعمون أن عبد الله بن معاوية كان يدَّعي أن العلم ينبت في قلبه كما تنبت الكمأة والعشب، وقالوا بالتناسخ، وهم يكفرون بالقيامة، ويستحلون المحارم. انظر: مقالات الإسلاميين (ص6)، والفرق بين الفرق (ص235 ـ 236).
(28) المنصورية:
أتباع أبي منصور العجلي، زعم أنه عرج به إلى السماء، وأن ربه مسح على رأسه وقال له: يا بني انزل فبلغ عني. انظر: الفرق بين الفرق (ص243)، والملل والنحل (1/ 178)، ومقالات الإسلاميين (ص9)، والتنبيه والرد للملطي (ص150)، والبرهان (ص76).
(29) الخطَّابية:
أتباع أبي الخطاب محمد بن أبي زينب الأسدي الكوفي، من غلاة الشيعة، القائلين بالحلول، وادعى النبوة، ثم الرسالة، ثم أنه من الملائكة وأنه رسول إلى أهل الأرض كلهم. انظر: الفرق بين الفرق (ص247 وص255)، والملل والنحل (1/ 179)، ومقالات الإسلاميين (ص10)، والتنبيه والرد للملطي (ص154)، والبرهان (ص69).
(30) الغُرابية:
هم القائلون بأن محمداً صلّى الله عليه وسلّم أشبه الناس بعلي من الغراب بالغراب، وهذا سبب تسميتهم بالغرابية، وأن جبريل بُعث بالرسالة إلى علي فأخطأ بها إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم، ثم افترقوا عدة فرق بعد ذلك. انظر: البرهان للسكسكي (ص71 ـ 72)، والفرق بين الفرق (ص250).
(31) الذمية:
قوم زعموا أن علياً هو الله، وشتموا محمداً صلّى الله عليه وسلّم، وأن علياً بعثه لينبئ(3/352)
عنه فادعى الأمر لنفسه. انظر: الفرق بين الفرق (ص251).
(32) الهشامية:
أصحاب الهشامين، هشام بن الحكم الرافضي، وهشام بن سالم الجواليقي، وهما الرافضة المشبهة، وكان هشام بن الحكم أضاف إلى تشبيه الخالق بالمخلوق، والرفض، قوله بجواز العصيان على الأنبياء، مع القول بعصمة الأئمة من الذنوب. ولهما كلام في التشبيه قبيح جداً. انظر: الفرق بين الفرق (ص65)، والملل والنحل (1/ 184)، ومقالات الإسلاميين (ص31)، والتنبيه والرد للملطي (ص31)، والبرهان (ص72).
(33) الزرارية:
أتباع زرارة بن أعين، كان يقول بإمامة عبد الله بن جعفر، وقال: "إن الله ـ تعالى الله عن قوله ـ لم يكن حياً، ولا قادراً ولا سميعاً ولا بصيراً، حتى خلق لنفسه حياة وقدرة ... إلخ. انظر: الفرق بين الفرق (ص70)، ومقالات الإسلاميين (ص36).
(34) اليونسية:
أتباع يونس بن عبد الرحمن القمي، وهو من مشبهة الشيعة، وهو على مذهب القطعية الذين قطعوا بموت موسى بن جعفر. انظر: الملل والنحل (1/ 188)، والفرق بين الفرق (ص70)، ومقالات الإسلاميين (ص35).
(35) الشيطانية:
وتسمى أيضاً النعمانية وهم: أتباع محمد بن النعمان أبي جعفر الملقب بشيطان الطاق، من بدعه قوله: إن الله ـ تعالى الله عن قوله ـ نور على صورة إنسان رباني. انظر: الملل والنحل (1/ 186)، والفرق بين الفرق (ص71)، ومقالات الإسلاميين (ص37).(3/353)
(36) الرزامية:
أتباع رزام بن رزم، ساقوا الإمامة من علي إلى ابنه محمد ثم إلى ابنه هاشم، ثم إلى علي بن عبد الله بن عباس بالوصية، ثم إلى محمد بن علي، وأوصى محمد إلى ابنه إبراهيم الإمام العباسي. انظر: الملل والنحل (1/ 153 ـ 154)، والفرق بين الفرق (ص256)، ومقالات الإسلاميين (ص21 ـ 22).
(37) المفوضة:
قوم زعموا أن الله تعالى خلق محمداً صلّى الله عليه وسلّم، ثم فوَّض إليه خلق العالم وتدبيره، ثم فوض محمد علياً تدبير العالم. انظر: الفرق بين الفرق (ص251).
(38) البَدائية:
نسبة إلى البداء، وهو معتقد للكيسانية (المختارية) أتباع المختار بن أبي عبيد الثقفي، والكيسانية عدة فرق يجمعها القول بأمرين: الأول: قولهم بإمامة محمد ابن الحنفية. والثاني: قولهم بجواز البداء على الله عز وجل، والبداء له معان: البداء في العلم؛ وهو أن يظهر له خلاف ما علم. والبداء في الإرادة؛ وهو أن يظهر له صواب على خلاف ما أراد وحكم. والبداء في الأمر؛ وهو أن يأمر بشيء، ثم يأمر بشيء آخر بعده بخلاف الأول، وهو النسخ. انظر: الملل والنحل (1/ 147 ـ 150)، والفرق بين الفرق (ص38 ـ 39)، ومقالات الإسلاميين (ص18)، والتنبيه والرد للملطي (ص29 و152).
(39) النصرية:
لعلها النصيرية ـ يسمون أنفسهم بالعلويين ـ وهم من الفرق الباطنية، أتباع أبي شعيب محمد بن نصر البصري النميري، الذي ادعى الربوبية وأباح المحرمات، وقالت النصيرية بالحلول والتناسخ، وأنكروا البعث والحساب،(3/354)
وأولوا الشعائر التعبدية كالصلاة والصيام والحج. انظر: دراسات عن الفرق في تاريخ المسلمين (ص311)، والبرهان (ص67).
(40) الإسماعيلية:
وهي طائفة باطنية تنسب إلى إسماعيل بن جعفر الصادق، وقيل نسبة إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق، والرأي الأول هو الراجح، وهي أشد كفراً من اليهود والنصارى. ومذهبهم خليط من الوثنية والفلسفة والنصرانية واليهودية والإسلام. انظر: الفرق بين الفرق (ص62)، والملل والنحل (1/ 191)، مقالات الإسلاميين (ص26)، والتنبيه والرد للملطي (ص37)، والبرهان (ص81).
(41) الباطنية:
هم الذين يقولون إن كلَّ آية لها باطن وظاهر، فيؤوِّلون النصوص كما يشاؤون، وهم فرق عدة كالإسماعيلية والقرامطة والنصيرية وغيرهم. انظر: الملل والنحل (1/ 192)، والفرق بين الفرق (ص281 ـ 312)، والتبصير في أمور الدين (ص83)، والحركات الباطنية في العالم الإسلامي للدكتور محمد أحمد الخطيب.
(42) القرمطية:
من فرق الباطنية التي ظهرت في البحرين على يد رجل يسمى حمدان بن الأشعث الملقب بقرمط، وذلك عندما اتصل به أحد دعاة الإسماعيلية وهو الحسين الأهوازي، وبعد وفاته نشط حمدان قرمط بدعوته، واتخذ مقراً خارج الكوفة سماه دار الهجرة، وجعله مقراً لأتباعه. انظر: الملل والنحل (1/ 192)، واعتقادات فرق المسلمين والمشركين (ص122)، ومقالات الإسلاميين (ص26)، والقرامطة لابن الجوزي، والبرهان (ص80).(3/355)
(43) الخرمية:
وهم من فرق الإباحية، وهم صنفان: صنف قبل الإسلام كالمزدكية الذين استباحوا المحرمات، وزعموا أن الناس شركاء في الأموال والنساء، ودامت فتنتهم حتى قتلهم أنوشروان في زمانه. والصنف الثاني: خرمدينية ـ الذين ظهروا في الإسلام ـ وهم صنفان: بابكية ـ وهم الخرمية وسيأتي ذكرهم ـ ومازيارية أتباع مازيار الذي ظهر في جرجان، ثم صلب في سر من رأى في زمن المعتصم. انظر: الفرق بين الفرق (ص266 ـ 269)، والتنبيه والرد للملطي (ص29)، وفضائح الباطنية للغزالي (ص14 ـ 16).
(44) السبعية:
هم القرامطة، كما ذكر ذلك ابن تيمية في منهاج السنة النبوية (3/ 481).
(45) البابكية:
وهم أتباع بابك الخرمي الذي ظهر في أذربيجان، واستباح المحرمات، وقتل المسلمين، وبقي يحارب العباسيين قرابة عشرين سنة، حتى أخذ بابك الخرمي وصلب بسر من رأى في زمن المعتصم. انظر: الفرق بين الفرق (ص266 ـ 268)، والتنبيه والرد للملطي (ص29)، فضائح الباطنية للغزالي (ص14 ـ 16).
(46) المحمّرة:
طائفة من البابكية الخرمدينية، يقال لهم: "المحمّرة" لأنهم لبسوا الحمر من الثياب في أيام بابك، فقيل لهم: "المحمّرة"، وهم بابكية في العقيدة. انظر: الأنساب للسمعاني (11/ 171).
(47) المحمدية:
وهم الذين ينتظرون محمد بن عبد الله بن الحسن، ولا يصدقون بموته(3/356)
ولا قتله، ويزعمون أنه في جبل حاجر من ناحية نجد. انظر: الفرق بين الفرق (ص56)، والأنساب للسمعاني (11/ 170).
(48) زيدية:
أتباع زيد بن علي زين العابدين الذي خرج على هشام بن عبد الملك، وأهم معتقداتهم: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم عيَّن الإمام بالوصف لا بالتعيين، وأن الوصف لا يكتمل إلا في علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ثم الأئمة من بعده من ذرية فاطمة رضي الله عنها. وقالوا: بجواز إمامة المفضول مع وجود الأفضل، وبجواز بيعة إمامين مختلفين في إقليمين مختلفين، وتأثروا بالمعتزلة في أصولهم الخمسة. انظر: الفرق بين الفرق (ص22)، ومقالات الإسلاميين (ص65)، والملل والنحل (1/ 154)، والتنبيه والرد للملطي (ص38).
(49) الجارودية:
أتباع الجارود بن زياد بن المنذر، زعموا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم نص على علي رضي الله عنه بالوصف لا بالتعيين، والناس قصروا حيث لم يتعرفوا الوصف، ولم يطلبوا الوصف، وإنما نصبوا أبا بكر رضي الله عنه باختيارهم، فكفروا بذلك، انظر: الفرق بين الفرق (ص30)، والملل والنحل (1/ 157)، ومقالات الإسلاميين (ص66)، والتنبيه والرد للملطي (ص30)، والبرهان (ص66).
(50) السليمانية:
من فرق الزيدية، أتباع سليمان بن جرير، كان يقول: الإمامة شورى فيما بين الخلق، ويصح أن تنعقد بعقد رجلين من خيار المسلمين، وكفر عثمان وعائشة والزبير وطلحة رضي الله عنهم لقتالهم لعلي رضي الله عنه. انظر: الملل والنحل (1/ 159)، والفرق بين الفرق (ص22)، ومقالات الإسلاميين (ص68).(3/357)
(51) البترية:
من فرق الزيدية، أتباع كثير النوى الأبتر، توقفوا في أمر عثمان رضي الله عنه، وقالوا: علياً أفضل النَّاسُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم، ووافقوا المعتزلة في كثير من أصولهم. انظر: الملل والنحل (1/ 161)، والفرق بين الفرق (ص23)، ومقالات الإسلاميين (ص68 ـ 69).
(52) إمامية:
وهم جميع فرق الشيعة التي جعلت الإمامة قضية أساسية، وأجمعوا على أن علياً رضي الله عنه يستحق الخلافة بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولكنهم افترقوا فيما وراء ذلك، فمنهم من ذهب إلى أن علياً استحق الإمامة بالوصف الذي لا ينطبق إلا عليه؛ وهم الزيدية، ومنهم من ذهب إلى أن علياً استحق الإمامة بالوصية والتعيين، وهم الرافضة، وهؤلاء اتفقوا في الأئمة حتى إمامهم السادس جعفر الصادق، ولكنهم اختلفوا فيمن بعده، فذهبت الإسماعيلية إلى القول بإمامة إسماعيل بن جعفر، وذهبت الإثنا عشرية إلى إمامة موسى الكاظم إلى الإمام الثاني عشر. انظر: دراسة عن الفرق للدكتور جلي (ص179).
(53) الخوارج:
هم الذين خرجوا على علي رضي الله عنه بعد قَبوله التحكيم، حيث اعتبروا قبول التحكيم كفر، وطلبوا من علي أن يتوب من ذلك، وأشهر بدعهم هو تكفير مرتكب الكبيرة، ويسمون بالشُّراة؛ يزعمون أنهم باعوا أنفسهم لله، كما في قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ}، ويسمون بالحرورية لانحيازهم إلى قرية حروراء قريباً من الكوفة، وسموا بالمحكِّمة لرفعهم شعار لا حكم إلا لله. انظر: التنبيه والرد (ص51)، والفرق بين الفرق (ص72)، ومقالات الإسلاميين (ص86)، والملل والنحل (1/ 144)، واعتقادات فرق المسلمين والمشركين (ص46)، والبرهان (ص17)، ودراسة عن الفرق للدكتور جلي (ص51).(3/358)
(54) المحكِّمة:
وهو اسم من أسماء الخوارج، وسبب تسميتهم بالمحكمة هو رفعهم شعار (لا حكم إلا لله)، وكان رأسهم عبد الله بن وهب الراسبي، وعبد الله بن الكواء، ويجمعهم القول بتكفير علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وعثمان بن عفان رضي الله عنه، وأصحاب الجمل والحكمين ومن رضي بالتحكيم، وصوَّب الحكمين أو أحدهما، وخرجوا بسبب أمرين: الأول: قالوا بجواز الإمامة في غير قريش. والثاني: قالوا أخطأ علي في التحكيم لأنه حكَّم الرجال في دين الله، ولا حكم إلا لله. انظر: الفرق بين الفرق (ص74)، والملل والنحل (1/ 115)، والتنبيه والرد للملطي (ص51)، واعتقادات فرق المسلمين والمشركين (ص46).
(55) البيهسية:
أتباع أبي بيهس الهيصم بن جابر، أحد الخوارج الذين قالوا: إن الإيمان هو أن يعلم كل حق وباطل، وأن الإيمان هو العلم بالقلب دون القول والعمل، ويحكى عنه أنه قال: هو الإقرار والعلم، وليس هو أحد الأمرين دون الآخر. انظر: الملل والنحل (1/ 125 ـ 127)، ومقالات الإسلاميين (ص113)، والتنبيه والرد للملطي (ص169) والبرهان (ص23).
(56) الأزارقة:
وهم أتباع أبي راشد نافع بن الأزرق، وهو أول من أحدث الخلاف في الخوارج، فقال في بدء الأمر بالبراءة من القَعَدة الذين لم يهاجروا إليهم وكفَّرهم، وقال بالمحنة لمن قصد معسكره، ومن أهم معتقداتهم: إباحة قتل نساء وأطفال مخالفيهم، وأن أطفال مخالفيهم مخلدون في النار، وأسقطوا حد الرجم لعدم وروده في القرآن، وتجويزهم أن يبعث الله نبياً يعلم أنه يكفر بعد نبوته. انظر: الفرق بين الفرق (ص82)، والملل والنحل (1/ 118)، ومقالات الإسلاميين (ص86)، والتنبيه والرد للملطي (ص54)، والبرهان (ص20).(3/359)
(57) النجدات:
أتباع نجدة بن عامر الحنفي، انفصل عن نافع بن الأزرق بعدما أحدث نافع القول باستباحة قتل أطفال مخالفيه، وحكمه على القعَدة بالشرك، ورجع نجدة إلى اليمامة وبويع بالإمامة، وكرد فعل لأقوال نافع أجاز نجدة التقية والقعود عن الجهاد. انظر: مقالات الإسلاميين (ص89)، والفرق بين الفرق (ص87)، والملل والنحل (1/ 122)، ودراسات عن الفرق (ص57).
(58) الصفرية:
اختلف المؤرخون في نسبة هذه الفرقة، والظاهر أنها تُنسب إلى عبد الله بن صفار التميمي، الذي كان مع نافع بن الأزرق ثم انفصل عنه، وهم أقلُّ غلواً من الأزراقة، واشتهر عنهم عدم تكفير القعدة الموافقين لهم، ولم يكفروا أصحاب الكبائر الذين ورد فيهم حدٌّ. انظر: مقالات الإسلاميين (ص101)، والفرق بين الفرق (ص90)، والملل والنحل (1/ 137)، ودراسات عن الفرق (ص59).
(59) الإباضية:
أتباع عبد الله بن إباض بن ثعلبة التميمي، كان في أول أمره مع نافع بن الأزرق، ثم انشق عنه وكون مذهباً ترأسه هو، وقالوا: إن مخالفيهم من أهل القبلة كفار غير مشركين، ومناكحتهم جائزة، وموارثتهم حلال، وقالوا: إن مرتكب الكبيرة كافر كفر نعمة لا ملة. انظر: الفرق بين الفرق (ص103)، والملل والنحل (1/ 134)، والتنبيه والرد للملطي (ص55)، والبرهان (ص22).
(60) الحفصية:
من فرق الإباضية، أتباع ابن أبي المقدام، تميز عنهم بقوله: إن بين الشرك والإيمان خصلة واحدة، وهي معرفة الله تعالى وحده، فمن عرفه ثم(3/360)
كفر بما سواه من الرسل والكتب واليوم الآخر وارتكب الكبائر، فهو كافر لكنه بريء من الشرك. انظر: الملل والنحل (1/ 135 ـ 136)، والفرق بين الفرق (ص104)، ومقالات الإسلاميين (ص102).
(61) اليزيدية:
من فرق الإباضية، أتباع يزيد بن أبي أنيسة، قال بتولي المحكمة قبل الأزارقة، وتبرأ ممن بعدهم إلا الإباضية، وزعم أن الله سيبعث نبياً من العجم، وقال: كل ذنب صغير أو كبير فهو شرك. انظر: الملل والنحل (1/ 136)، ومقالات الإسلاميين (ص103)، والبرهان (ص29).
(62) الحارثية:
من فرق الإباضية، أتباع حارث بن يزيد الإباضي، وافقوا المعتزلة في القدر، وزعموا أنه لم يكن لهم إمام بعد المحكّمة الأولى إلا عبد الله بن إباض، وبعده حارث بن يزيد الإباضي. انظر: الفرق بين الفرق (ص105)، والملل والنحل (1/ 136)، ومقالات الإسلاميين (ص104).
(63) المطيعية:
أصحاب طاعة لا يراد بها الله تعالى، زعموا أنه يصح وجود طاعات ممن لا يريد الله تعالى بها، وافقوا في ذلك مذهب الهذيلية من المعتزلة. انظر: الفرق بين الفرق (ص105)، ومقالات الإسلاميين (ص105).
(64) العجاردة:
من فرق الخوارج، أتباع عبد الكريم بن عجرد، وكان من أتباع عطية بن الأسود، والعجاردة فرق كثيرة يجمعهم القول بأن الطفل يدعى إذا بلغ، وتجب البراءة منه قبل ذلك. انظر: الفرق بين الفرق (ص93)، والملل والنحل (1/ 128)، ومقالات الإسلاميين (ص93)، والتنبيه والرد للملطي (ص168)، والبرهان (ص23).(3/361)
(65) الميمونية:
من فرق العجاردة، أتباع ميمون بن خالد، وخالف العجاردة في إثباته القدر خيره وشره من العبد، وأن الله يريد الخير دون الشر، وحكى الكعبي عن الميمونية إنكارها لسورة يوسف من القرآن. انظر: الملل والنحل (1/ 129)، والبرهان (ص27).
(66) الشعيبية:
من فرق العجاردة، أتباع شعيب بن محمد، وكان مع ميمون بن خالد ثم برئ منه عندما أظهر القول بالقدر. انظر: الملل والنحل (1/ 131)، الفرق بين الفرق (ص95)، مقالات الإسلاميين (ص94).
(67) الحازمية:
من فرق العجاردة، أتباع حازم بن علي، قالوا إن الله خالق أعمال العباد، ولا يكون في سلطانه إلا ما يشاء، ويحكى عنهم أنهم يتوقفون في أمر علي رضي الله عنه، ولا يصرحون بالبراءة منه، ويصرحون بالبراءة في حق غيره. انظر: الملل والنحل (1/ 131).
(68) الخازمية:
هكذا في نسخة "غ" وهم من فرق العجاردة ـ أيضاً ـ وهم أكثر عجاردة سجستان، خالفوا الخوارج في باب القدر والاستطاعة والمشيئة، وكفّروا الميمونية وخالفوا أكثر الخوارج في الولاية والعدواة. انظر: الفرق بين الفرق (ص94) والأنساب للسمعاني (5/ 171).
(69) الحمزية:
من فرق العجاردة، أتباع حمزة بن أدرك ـ وقيل أكرك ـ وافق الميمونية في سائر بدعها إلا في أطفال المشركين فقال إنهم في النار، وجوَّز إمامين في عصر واحد ما لم تجتمع الكلمة، ولم يقهر الأعداء. انظر: الملل(3/362)
والنحل (1/ 129)، والفرق بين الفرق (ص98)، ومقالات الإسلاميين (ص93)، والتنبيه والرد للملطي (ص56).
(70 و71) المعلومية والمجهولية:
من فرق العجاردة، وكانوا في الأصل حازمية، إلا أن المعلومية قالت: من لم يعرف الله تعالى بجميع أسمائه وصفاته فهو جاهل به، وأن الفعل مخلوق للعبد، وأما المجهولية فقالت: من علم بعض أسماء الله تعالى وصفاته وجهل بعضها فقد عرف الله تعالى، وأن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى. انظر: الملل والنحل (1/ 133 ـ 134)، والفرق بين الفرق (ص97)، ومقالات الإسلاميين (ص96 ـ 97)، والبرهان (ص27).
(72) الصلتية:
من فرق العجاردة، أتباع عثمان بن أبي الصلت، وقيل: الصلت بن أبي الصلت، خرج عن العجاردة بقوله: إن الرجل إذا أسلم توليناه وتبرأنا من أطفاله حتى يدركوا فيقبلوا الإسلام. انظر: الفرق بين الفرق (ص97)، والملل والنحل (1/ 129)، ومقالات الإسلاميين (ص97)، والتنبيه والرد للملطي (ص57)، والبرهان (ص29).
(73) الثعلبية:
أتباع ثعلبة بن عامر، كان مع عبد الكريم بن عجرد، إلى أن اختلفا في أمر الأطفال، فقال ثعلبة: إنا على ولايتهم صغاراً وكباراً حتى نرى منهم إنكاراً للحق ورضا بالجور، فتبرأت العجاردة من ثعلبة، وكان يرى أخذ الزكاة من عبيدهم إذا استغنوا وإعطاءهم منها إذا افتقروا. انظر: الملل والنحل (1/ 131)، والفرق بين الفرق (ص100)، ومقالات الإسلاميين (ص97)، والبرهان (ص26).(3/363)
(74) الأخنسية:
من فرق الثعالبة، أتباع أخنس بن قيس، انفرد عنهم بقوله: أتوقف في جميع من كان في دار التقية من أهل القبلة، إلا من عرف منه إيمان فأتولاه عليه، أو كفر فأتبرأ منه، وقال بجواز تزويج المسلمات من مشركي قومهم. انظر: الملل والنحل (1/ 132)، والفرق بين الفرق (ص101)، ومقالات الإسلاميين (ص97).
(75) المعبدية:
من فرق الثعالبة، أتباع معبد بن عبد الرحمن، خالف الأخنسية في جواز تزويج المسلمات من مشرك، وخالف الثعلبية في أخذ الزكاة من العبيد. انظر: الملل والنحل (1/ 132)، والفرق بين الفرق (ص101)، ومقالات الإسلاميين (ص98).
(76) الشيبانية:
من فرق الثعالبة، أتباع شيبان بن سلمة، وافق الجهم في القول بالجبر. انظر: الملل والنحل (1/ 132)، والفرق بين الفرق (ص102)، ومقالات الإسلاميين (ص98).
(77) المكرمية:
من فرق الثعالبة، أتباع مكرم بن عبد الله العجلي، تفرد عن الثعالبة بقول تارك الصلاة كافر، لا من أجل تركه للصلاة، ولكن لجهله بالله تعالى. انظر: الفرق بين الفرق (ص103)، والملل والنحل (1/ 133)، ومقالات الإسلاميين (ص100).
(78) المرجئة:
هم الذين أخروا العمل عن الإيمان، وأكثر فرق المرجئة تقول إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وقد قسمهم الشهرستاني إلى أربعة أصناف:(3/364)
مرجئة الخوارج، ومرجئة القدرية، ومرجئة الجبرية، والمرجئة الخالصة، وقسمهم الأشعري إلى اثني عشرة فرقة، وأشهر فرق المرجئة الجهمية والأشاعرة ومرجئة الفقهاء، وهذه الفرق الثلاثة انتشرت أقوالهم أكثر من بقية فرق المرجئة الأخرى. انظر: الملل والنحل (1/ 139)، والفرق بين الفرق (ص202)، ومقالات الإسلاميين (ص132)، والتنبيه والرد للملطي (ص47)، والبرهان (ص33).
(79) العُبيدية:
من فرق المرجئة، أتباع عبيد المكتئب، قال: إن ما دون الشرك مغفور لا محالة، والعبد إذا مات على توحيده لا يضره ما اقترف من الآثام واجترح من السيئات. انظر: الملل والنحل (1/ 140).
(80) اليونسية:
من فرق المرجئة، أتباع يونس بن عون النميري، زعم أن الإيمان هو المعرفة بالله، والخضوع له، وترك الاستكبار عليه، والمحبة بالقلب، فمن اجتمعت فيه هذه الخصال فهو مؤمن، وما سوى ذلك من الطاعة فليس من الإيمان ولا يضر تركها حقيقة الإيمان. انظر: الملل والنحل (1/ 140)، الفرق بين الفرق (ص202)، ومقالات الإسلاميين (ص134).
(81) الغسَّانية:
من فرق المرجئة، أتباع غسان الكوفي، زعم أن الإيمان هو المعرفة بالله تعالى وبرسله، والإقرار بما أنزل الله، وبما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلّم في الجملة دون تفصيل، والإيمان لا يزيد ولا ينقص، وقال: (من قال): أعلم أن الله تعالى حرم الخنزير، ولا أدري هل الخنزير الذي حرمه هذه الشاة أم غيرها؟ كان مؤمناً. انظر: الملل والنحل (1/ 141)، والفرق بين الفرق (ص203).(3/365)
(82) الثوبانية:
من فرق المرجئة، أتباع أبي ثوبان المرجئ، زعم أن الإيمان هو المعرفة والإقرار بالله تعالى، وبرسله، وبكل ما يجوز في العقل أن يفعله، وما جاز في العقل تركه فليست معرفته من الإيمان، وأخر العمل كله عن الإيمان. انظر: الفرق بين الفرق (ص204)، والملل والنحل (1/ 142)، ومقالات الإسلاميين (ص135)، والبرهان (ص44).
(83) والتومنية:
من فرق المرجئة، أتباع أبي معاذ التومني، زعم أن الإيمان هو ما عصم من الكفر، وهو اسم لخصال إذا تركها التارك كفر، وكذلك لو ترك خصلة واحدة منها كفر. انظر: الملل والنحل (1/ 144)، والفرق بين الفرق (ص203)، ومقالات الإسلاميين (ص139).
(84) النجارية:
من فرق الجبرية، أتباع الحسين بن محمد النجار، وافق المعتزلة في نفي الصفات، ووافق الأشعري في مسألة الكسب وقال: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص. انظر: الفرق بين الفرق (ص209)، والملل والنحل (1/ 88)، ومقالات الإسلاميين (ص135)، والبرهان (ص39).
(85) البرغوثية:
من فرق النجارية، أتباع محمد بن عيسى الملقب ببرغوث، خالف النجارية في تسمية المكتسب فاعلاً، فامتنع منه وأطلقه النجار. انظر: الفرق بين الفرق (ص109)، والملل والنحل (1/ 189).
(86) الزعفرانية:
من فرق النجارية، أتباع الزعفراني، قالوا: إن كلام الله تعالى غيره، وكل ما هو غير الله تعالى مخلوق، ثم يقول: الكلب خير ممن يقول(3/366)
كلام الله مخلوق. انظر: الفرق بين الفرق (ص209)، والملل والنحل (1/ 89).
(87) المستدركة:
من فرق النجارية، زعموا أنهم استدركوا ما خفي على أسلافهم، لأن أسلافهم منعوا إطلاق القول بأن القرآن مخلوق، وقالوا هم بخلق القرآن. انظر: الفرق بين الفرق (ص210)، والملل والنحل (1/ 89).
(88) الجبرية:
هم الذين يقولون إن العبد مجبور على أفعاله لا اختيار له، ولا يقدر على الفعل أصلاً، وأن الله تعالى جبر العباد على الإيمان أو الكفر. انظر: الملل والنحل (1/ 79)، والبرهان للسكسكي (ص42 ـ 43).
(89) المشبهة:
هم الذين شبهوا ذات الله تعالى بذات غيره، وصفاته بصفات غيره، وهم طوائف كثيرة كالسبئية، والبيانية والخطابية والكرامية وغيرهم. انظر: الفرق بين الفرق (ص225 ـ 230)، ومقالات الإسلاميين (ص221 و430 و491 و518 و521 و564).(3/367)