بِأَبْسَطِ (1) مِمَّا ذَكَرَهُ الْمَسْعُودِيُّ، وَاللَّفْظُ هُنَا لِلْمَسْعُودِيِّ مَعَ إِصْلَاحِ بَعْضِ الأَلفاظ ـ؛ قَالَ: ذَكَرَ صَالِحُ بْنُ عَلِيٍّ الْهَاشِمِيُّ قَالَ: حَضَرْتُ يَوْمًا مِنَ الأَيام جُلُوسَ الْمُهْتَدِي لِلْمَظَالِمِ، فرأَيت مِنْ سُهُولَةِ الوصول [إليه] (2)، وَنُفُوذِ الْكُتُبِ عَنْهُ إِلَى النَّوَاحِي فِيمَا يُتَظَلَّمُ بِهِ إِلَيْهِ مَا اسْتَحْسَنْتُهُ، فأَقبلت أَرمقه بِبَصَرِي، إِذَا نَظَرَ فِي الْقَصَصِ، فإِذا رَفَعَ طَرْفَهُ إليَّ أَطرقت، فكأَنه عَلِمَ مَا فِي نَفْسِي.
فَقَالَ لِي: يَا صَالِحُ! أَحسب أَن فِي نَفْسِكِ شَيْئًا تُحِبُّ أَن تَذْكُرَهُ ـ قَالَ ـ فَقُلْتُ: نَعَمْ يَا أَمير الْمُؤْمِنِينَ! فأَمسك. فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ جُلُوسِهِ أَمر أَن لَا أَبرح، وَنَهَضَ، فجلست جلوساً طويلاً، ثم دعاني (3)، فَقُمْتُ إِليه وَهُوَ عَلَى حَصِيرِ الصَّلَاةِ، فَقَالَ لِي: يَا صَالِحُ! أَتحدثني بِمَا فِي نَفْسِكَ؟ أَم أُحدثك؟ فَقُلْتُ: بَلْ هُوَ مِنْ أَمير المؤمنين أحسن.
_________
=الهمذاني ـ بها ـ؛ قال: سمعت أبا بكر أحمد بن عبد الرحمن الشيرازي الحافظ ـ وحدثنا بحديث الشيخ الأَذَني ومناظرته مع ابن أبي دؤاد بحضرة الواثق ـ، فقال: الشيخ هو أبو عبد الرحمن عبد الله بن محمد بن إسحاق الأَذْرَمي".
وأخرج الخطيب أيضاً (4/ 151 ـ 152) هذه القصة من طريق طاهر بن خلف؛ قال: سمعت محمد بن الواثق ـ الذي يقال له: المهتدي بالله ـ يقول: كان أبي إذا أراد أن يقتل رجلاً أحضرنا ذلك المجلس، فأُتي بشيخ مخضوب مقيد ... ، فذكر القصة، ومن طريقه أخرجها ابن الجوزي أيضاً (ص431).
وذكر الذهبي في "السير" (10/ 307 ـ 309) القصة من هذا الطريق وطريق عبيد الله بن يحيى، عن إبراهيم بن أسباط، قال: حمل رجل مقيد ... ، فذكرها، ثم قال الذهبي: "في إسنادها مجاهيل، فالله أعلم بصحتها".
وقال الحافظ ابن حجر في ترجمة عبد الله بن محمد بن إسحاق الأَذْرمي من "التهذيب" (2/ 420): "القصة مشهورة حكاها المسعودي وغيره، ورواها الشيرازي في "الألقاب" بإسناد له قال فيه: إن الشيخ المناظر هو الأذرمي هذا. ورواها ابن النجار في ترجمة محمد بن الجهم السامي، فذكر أن الرجل من أهل أذنة، وأنه كان مؤدِّباً بها".
(1) في (غ) و (ر): "أبسط".
(2) ما بين المعقوفين زيادة من "مروج الذهب".
(3) قوله: "ثم دعاني" ليس في (خ) و (م).(2/58)
فقال: كأني (1) بك وقد استحسنت ما رأيت (2) مِنْ مَجْلِسِنَا، فَقُلْتُ: أَيّ خَلِيفَةٍ خَلِيفَتُنَا! إِنْ لَمْ يَكُنْ يَقُولُ (3) بِقَوْلِ أَبِيهِ مِنَ الْقَوْلِ بخلق القرآن. [فقلت: نعم] (4). فَقَالَ: قَدْ كُنْتُ عَلَى ذَلِكَ بُرْهَةً مِنَ الدَّهْرِ، حتى أُقْدِمَ (5) عَلَى الْوَاثِقِ (6) شَيْخٌ (7) مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ من "أَذَنَة" (8)؛ من الثَّغْر الشامي، مُقَيَّدٌ طوَالٌ (9)، حَسَنَ الشَّيْبة، فسلَّم غيرَ هَائِبٍ، وَدَعَا فأَوجز، فرأَيت الْحَيَاءَ مِنْهُ فِي حَمَالِيق عَيْنَيِ الْوَاثِقِ وَالرَّحْمَةَ عَلَيْهِ.
فَقَالَ: يَا شَيْخُ (10)! أَجِبْ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَحمد بْنَ أَبي دُؤَاد (11) عَمَّا يسأَلك عَنْهُ. فَقَالَ: يَا أَمير الْمُؤْمِنِينَ! أَحمد يَصْغُرُ وَيَضْعُفُ وَيَقِلُّ عِنْدَ الْمُنَاظَرَةِ. فَرَأَيْتُ الْوَاثِقَ وقد (12) صار مكان الرحمة عليه والرِّقَّة له غَضَبًا (13)، فَقَالَ: أَبو عَبْدِ اللَّهِ يَصْغُرُ وَيَضْعُفُ وَيَقِلُّ (14) عِنْدَ مُنَاظَرَتِكَ؟ فَقَالَ: هوِّن عَلَيْكَ يَا أَمير المؤمنين! أَتأْذن (15) فِي كَلَامِهِ؟ فَقَالَ لَهُ الْوَاثِقُ: قَدْ أَذنت (16) لك.
فأَقبل الشَّيْخُ عَلَى أَحْمَدَ، فَقَالَ: يَا أَحمد! إِلامَ دَعَوْتَ النَّاسَ؟ فَقَالَ أَحْمَدُ: إِلَى الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، فَقَالَ (17) لَهُ الشَّيْخُ: مَقَالَتُكَ هَذِهِ الَّتِي دَعَوْتَ النَّاسَ إِلَيْهَا مِنَ الْقَوْلِ بِخَلْقِ القرآن، أَداخلة في الدين فلا يكون
_________
(1) في (خ): "كأنني".
(2) قوله: "ما رأيت" ليس في (خ) و (م).
(3) في (خ): "يقل".
(4) ما بين المعقوفين زيادة من "مروج الذهب".
(5) في (م): "قدم".
(6) قوله: "على الواثق" ليس في (غ) و (ر).
(7) في (خ): "شيخاً".
(8) قوله: "من أذنة" ليس في (غ) و (ر).
وأذنة: بلد من الثغور قرب المصِّيصة بنيت سنة (190هـ) في وقت هارون الرشيد. انظر: "معجم البلدان" (1/ 133).
(9) في (خ): "مقيداً طوالاً".
(10) في (غ) و (ر): "أيا شيخ".
(11) في (غ) و (ر) و (م): "داود".
(12) في (غ) و (ر): "قد".
(13) في (خ): "الرحمة غضباً عليه".
(14) في (خ): "يقلل".
(15) في (خ): "أتأذن لي".
(16) قوله: "قد أذنت" ليس في (غ).
(17) في (غ) و (ر): "قال".(2/59)
الدِّينُ تَامًّا إِلَّا بِالْقَوْلِ بِهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ الشَّيْخُ: فَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا النَّاسَ إِلَيْهَا أَم تَرَكَهُمْ؟ قَالَ: تركهم (1). قال له: فَعَلِمَها (2) أَم لَمْ يَعْلَمْهَا؟ قَالَ: عَلِمَهَا. قَالَ: فَلِمَ دَعَوْتَ النَّاسَ إِلَى مَا لَمْ يَدْعُهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ (3) وَتَرَكَهُمْ مِنْهُ؟ فأَمْسَكَ. فَقَالَ الشَّيْخُ: يَا أَمير الْمُؤْمِنِينَ! هَذِهِ وَاحِدَةٌ.
ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَخبرني يَا أَحمد! قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (4) الآية؛ فقلت أنت: إن (5) الدِّينُ لَا يَكُونُ تَامًّا إِلَّا بِمَقَالَتِكَ بِخَلْقِ القرآن، فالله عَزَّ وَجَلَّ أَصْدَقُ (6) فِي تَمَامِهِ وَكَمَالِهِ أَمْ أَنت فِي نُقْصَانِكَ (7)؟ فأَمسك. فَقَالَ الشَّيْخُ (8): يَا أَمير الْمُؤْمِنِينَ! وَهَذِهِ ثَانِيَةٌ.
ثُمَّ قَالَ بَعْدَ سَاعَةٍ: أَخبرني يَا أَحْمَدُ! قَالَ اللَّهُ عَزَّ وجل: {يَا أيُّها الرَّسُولُ بَلِّغ مَا أُنزِلَ إلَيْكَ مِن ربِّكَ وَإِن لَّم تَفْعَل فَمَا بَلَّغتَ رِسَالاَتِهِ} (9)، فَمَقَالَتُكَ هَذِهِ الَّتِي دَعَوْتَ النَّاسَ إِلَيْهَا فِيمَا بَلَّغَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْأُمَّةِ أَمْ لَا؟ فأمْسَكَ. فَقَالَ (10) الشَّيْخُ (11): يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! وَهَذِهِ ثَالِثَةٌ.
ثُمَّ قَالَ له (12) بَعْدَ سَاعَةٍ: أَخبرني يَا أَحمد! لمَّا عَلِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَالَتَكَ هذه التي دعوت الناس إلى القول بها (13): اتَّسع له أَنْ (14) أَمسك عَنْهُمْ أَم لَا؟ قَالَ أَحْمَدُ: بَلِ اتَّسَع لَهُ ذَلِكَ. فَقَالَ الشَّيْخُ: وَكَذَلِكَ لأَبي بَكْرٍ؟ وَكَذَلِكَ لِعُمَرَ؟ وَكَذَلِكَ لِعُثْمَانَ؟ وَكَذَلِكَ لَعَلِّيٍّ ـ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ـ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَصَرَفَ وَجْهَهُ إِلَى الْوَاثِقِ وَقَالَ: يَا أَمير الْمُؤْمِنِينَ! إِذَا لَمْ (15) يَتَّسِعْ لَنَا مَا اتَّسع لِرَسُولِ الله صلّى الله عليه وسلّم ولأَصحابه فلا وسَّع الله علينا. فقال الْوَاثِقُ: نَعَمْ! لَا وسَّع اللَّهُ عَلَيْنَا إِذَا لم
_________
(1) في (خ) و (م) "لا" بدل "تركهم".
(2) في (خ): "يعلمها".
(3) قوله: "إليه" ليس في (غ) و (ر) و (م).
(4) سورة المائدة: الآية (3).
(5) قوله: "إن" ليس في (خ).
(6) في (خ): "فالله تعالى عز وجل صدق".
(7) في (غ) و (ر): "نقصانه".
(8) قوله: "الشيخ" ليس في (غ) و (ر).
(9) سورة المائدة: الآية (67). وهكذا جاء في سائر النسخ: "رسالاته"، وهي قراءة نافع وابن عامر وأبي بكر كما في "حجة القراءات" (ص232). وقرأ الباقون: "رسالته".
(10) في (غ): "وقال".
(11) قوله: "الشيخ" ليس في (غ) و (م) و (ر).
(12) قوله: "له" ليس في (خ) و (م).
(13) في (خ): "دعوت الناس إليها".
(14) في (خ): "عن أن".
(15) قوله: "لم" ليس في (غ) و (ر).(2/60)
يَتَّسِعْ لَنَا مَا اتَّسَعَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولأَصحابه (1). ثُمَّ قَالَ الْوَاثِقُ: اقْطَعُوا قُيُودَهُ. فَلَمَّا فُكَّت جَاذَبَ عَلَيْهَا، فَقَالَ الْوَاثِقُ: دَعُوهُ! ثُمَّ قَالَ: يَا شَيْخُ! لِمَ جَاذَبْتَ عَلَيْهَا؟ قَالَ: لأَني عَقَدْتُ فِي نيَّتي أَنْ أُجاذب عَلَيْهَا، فَإِذَا أَخَذْتُهَا أَوصيت أَن تُجعل بين بدني وكفني حتى (2) أقول: يا رب! سل عبدك: لم قيَّدني ظلماً وأراع (3) فيَّ أَهلي؟ فبكى الواثق، وبكى (4) الشيخ، وبكى (4) كل مَنْ حَضَرَ (5). ثُمَّ قَالَ لَهُ الْوَاثِقُ: يَا شَيْخُ! اجْعَلْنِي فِي حلٍّ، فَقَالَ: يَا أَمير الْمُؤْمِنِينَ! مَا خَرَجْتُ مِنْ مَنْزِلِي حَتَّى جَعَلْتُكَ فِي حلٍّ إِعْظَامًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِقَرَابَتِكَ مِنْهُ. فتهلَّل وَجْهُ الْوَاثِقِ وسُرّ، ثُمَّ قَالَ لَهُ (6): أَقم عندِي آنَسُ بِكَ (7)، فَقَالَ لَهُ: مَكَانِي فِي ذَلِكَ الثَّغر أَنفع، وَأَنَا شَيْخٌ كَبِيرٌ، وَلِي حَاجَةٌ، قَالَ: سَلْ مَا بَدَا لَكَ. قَالَ: يأْذن أَمِيرُ المؤمنين في الرجوع (8) إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي أَخْرَجَنِي مِنْهُ هَذَا الظَّالِمُ (9). قَالَ: قَدْ أَذنت لَكَ، وأَمر لَهُ بِجَائِزَةٍ فَلَمْ يَقْبَلْهَا، فَرَجَعْتُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ عَنْ (10) تِلْكَ الْمَقَالَةِ، وَأَحْسَبُ أَيضاً أنَّ الْوَاثِقَ رَجَعَ عَنْهَا.
فتأَمَّلوا هَذِهِ الْحِكَايَةَ فَفِيهَا عِبْرَةٌ لأُولي الأَلباب، وَانْظُرُوا كَيْفَ مأْخذ (11) الْخُصُومِ فِي إِفْحَامِهِمْ (12) لِخُصُومِهِمْ، بِالرَّدِّ عَلَيْهِمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَمَدَارُ الْغَلَطِ فِي هَذَا الْفَصْلِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ؛ إنما هو (13)
_________
(1) في (خ) زيادة "فلا وسع الله علينا".
(2) في (خ): "ثم" بدل "حتى".
(3) في (خ) و (م): "وارتاع".
(4) قوله: "بكى" ليس في (خ) في كلا الموضعين.
(5) في (ر) و (غ): "حضره".
(6) قوله: "له" ليس في (غ) و (ر).
(7) في (غ): "أبك".
(8) في (خ): "رجوعي".
(9) في (خ) فوق كلمة "الظالم": "هو ابن أبي دؤاد".
(10) في (خ) و (م): "على".
(11) في (م): "يأخذ".
(12) في (خ): "إحجامهم".
(13) في (خ): "حَرْفٍ وَاحِدٍ وَهُوَ".(2/61)
الْجَهْلُ بِمَقَاصِدِ الشَّرْعِ، وَعَدَمِ ضَمِّ أَطرافه بَعْضِهَا إلى بعض (1)؛ فإِن مأْخذ الأَدلة عِنْدَ الأَئمة الرَّاسِخِينَ إِنما هي (2) عَلَى أَن تُؤْخَذَ الشَّرِيعَةُ كَالصُّورَةِ الْوَاحِدَةِ بِحَسْبِ مَا ثَبَتَ مِنْ كلِّيَّاتها وجزئيَّاتها المرتَّبة عَلَيْهَا، وَعَامِّهَا الْمُرَتَّبِ عَلَى خَاصِّهَا؛ وَمُطْلَقِهَا الْمَحْمُولِ عَلَى مقيدها، ومجملها المفسَّر بمبيَّنها (3)، إِلَى مَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ مَنَاحِيهَا (4). فإِذا حَصَلَ لِلنَّاظِرِ مِنْ جُمْلَتِهَا حُكْمٌ مِنَ الأَحكام فذلك هو الذي نطقت (5) به حين استُنطقت (6).
وَمَا مِثْلُهَا إِلَّا مَثَلُ الإِنسان الصَّحِيحِ السَّويّ، فكما أَن الإِنسان لا يكون إِنساناً يستنطق فينطق (7) بِالْيَدِ وَحْدَهَا، وَلَا بِالرِّجْلِ وَحْدَهَا (8)، وَلَا بالرأْس وَحْدَهُ، وَلَا بِاللِّسَانِ وَحْدَهُ، بَلْ بِجُمْلَتِهِ الَّتِي سُمّي بِهَا إِنساناً، كَذَلِكَ الشَّرِيعَةُ لَا يُطْلَبُ مِنْهَا الْحُكْمُ عَلَى حَقِيقَةِ الِاسْتِنْبَاطِ إِلَّا بِجُمْلَتِهَا، لَا مِنْ دَلِيلٍ مِنْهَا أَي دَلِيلٍ كَانَ، وَإِنْ ظَهَرَ لِبَادِي الرأْي نُطْقُ ذَلِكَ الدَّلِيلِ، فإِنما هُوَ توهُّمي لَا حَقِيقِيٌّ؛ كَالْيَدِ إِذَا اسْتُنْطِقَتْ فإِنما تَنْطِقُ توهُّماً لَا حَقِيقَةً، مِنْ حَيْثُ عَلِمْتَ أَنها يَدُ إِنْسَانٍ، لَا مِنْ حَيْثُ هِيَ إِنسان؛ لأَنه مُحَالٌ.
فشأْن الرَّاسِخِينَ تَصَوُّرُ (9) الشَّرِيعَةِ صُورَةً وَاحِدَةً يَخْدِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا؛ كأَعضاء الإِنسان إِذا صُوِّرَتْ صُورَةً متَّحدة.
وشأْن متَّبعي (10) الْمُتَشَابِهَاتِ أَخذ دَلِيلٍ مَا أَيّ دَلِيلٍ كَانَ، عَفْوًا وأَخذاً أَوَّلياً، وإِن كَانَ ثمَّ ما يعارضه من كلي أو جزئي، فكما أن (11) الْعُضْوَ الْوَاحِدَ لَا يُعْطَى فِي مَفْهُومِ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ حُكْمًا حَقِيقَيًّا، فمُتَّبعه متَّبعُ متشابهٍ، وَلَا يَتْبَعُهُ إِلَّا مَنْ فِي قَلْبِهِ زَيْغٌ كَمَا شَهِدَ اللَّهُ بِهِ، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} (12).
_________
(1) في (خ): "لبعض"، وفي (م): "ببعض".
(2) في (خ): "هو".
(3) في (خ): "بينها"، وفي (م): "ببينها".
(4) في (م): "مناخيها".
(5) في (خ): "فذلك الذي نظمت".
(6) في (خ) و (م): "استنبطت".
(7) في (خ): "إنساناً حتى يستنطق فلا ينطق".
(8) في (م) و (ر): "وحده".
(9) في (غ) و (ر): "تصوير".
(10) في (غ) و (ر): "مبتغي".
(11) في (خ): "فكان".
(12) سورة النساء: آية (87)، وفي (خ): "ومن أصدق من الله قيلاً".(2/62)
فَصْلٌ
وَعِنْدَ ذَلِكَ نَقُولُ:
مِنَ اتِّباع الْمُتَشَابِهَاتِ: الأَخذ (1) بالْمُطْلَقَات قَبْلَ النَّظَرِ فِي مُقَيِّداتِها، أَوْ بالعمومات (2) مِنْ غَيْرِ تأَمُّل: هَلْ لَهَا مُخَصَّصَاتٌ أَم لَا؟ وَكَذَلِكَ الْعَكْسُ؛ بأَن (3) يَكُونَ النَّصُّ مُقَيَّدًا فَيُطْلَقُ، أَوْ خَاصًّا فيُعَمّ بالرأْي مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ سِوَاهُ، فإِن هَذَا الْمَسْلَكَ رميٌ فِي عَمَايَةٍ، واتباعٌ لِلْهَوَى فِي الدَّلِيلِ، وَذَلِكَ أَن الْمُطْلَقَ الْمَنْصُوصَ عَلَى تَقْيِيدِهِ مُشْتَبِهٌ إِذَا لَمْ يُقَيَّدْ، فَإِذَا قُيِّدَ صَارَ وَاضِحًا، كَمَا أَن إِطلاق الْمُقَيَّدِ رَأْي فِي ذَلِكَ الْمُقَيَّدِ مُعَارِضٌ لِلنَّصِّ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ.
فَمِثَالُ الْأَوَّلِ: أَن الشَّرِيعَةَ قَدْ وَرَدَ طَلَبُهَا عَلَى الْمُكَلَّفِينَ عَلَى الإِطلاق وَالْعُمُومِ، وَلَا يَرْفَعُهَا عُذْرٌ إِلا الْعُذْرُ الرَّافِعُ لِلْخِطَابِ رأْساً، وَهُوَ زَوَالُ الْعَقْلِ، فَلَوْ بَلَغَ الْمُكَلَّفُ فِي مَرَاتِبِ الْفَضَائِلِ الدِّينِيَّةِ إِلى أَيِّ رُتْبَةٍ بَلَغَ؛ بَقِيَ التَّكْلِيفُ عَلَيْهِ كَذَلِكَ إِلَى الْمَوْتِ، وَلَا رُتْبَةَ لِأَحَدٍ يَبْلُغُهَا فِي الدِّينِ (4) كَرُتْبَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ رُتْبَةِ أَصحابه الْبَرَرَةِ، وَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُمْ مِنَ التَّكْلِيفِ مِثْقَالُ (5) ذَرَّةٍ، إِلا مَا كَانَ مِنْ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْآحَادِ، كالزَّمِنِ لَا يُطَالَبُ بِالْجِهَادِ، والمُقْعَدِ لا يطالب (6) في الصلاة (7) بالقيام (8)،
_________
(1) في (غ) و (ر): "أن يؤخذ".
(2) في (غ) و (ر) و (م): "أو في العمومات".
(3) في (غ) و (ر) و (م): "أن".
(4) في (غ) و (ر) و (م): "ولا رتبة يبلغها في الدين لأحد".
(5) في (م): "مثال".
(6) في (خ) و (م): "لا يطلب".
(7) في (م) و (خ): "بالصلاة".
(8) في (خ): "قائماً".(2/63)
والحائض لا تطلب بِالصَّلَاةِ الْمُخَاطَبِ بِهَا فِي حَالِ حَيْضِهَا، وَلَا مَا أَشبه ذَلِكَ.
فَمَنْ رأَى أَن التَّكْلِيفَ قَدْ يَرْفَعُهُ الْبُلُوغُ إِلَى مَرْتَبَةٍ مَّا مِنْ مَرَاتِبِ الدِّينِ ـ كَمَا يَقُولُهُ أَهل الْإِبَاحَةِ ـ، كَانَ قَوْلُهُ بِدَعَةً مُخْرِجَةً عَنِ الدِّينِ (1).
وَمِنْهُ دَعَاوَى أَهل الْبِدَعِ عَلَى الأَحاديث الصَّحِيحَةِ مُنَاقَضَتُهَا لِلْقُرْآنِ، أَوْ مُنَاقِضَةُ بَعْضِهَا بَعْضًا، وَفَسَادُ مَعَانِيهَا، أَو مُخَالَفَتُهَا لِلْعُقُولِ، كَمَا حَكَمُوا بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمتحاكِمَيْن إِلَيْهِ: "وَالَّذِي نفسي بيده! لأَقضينَّ بينكما بكتاب الله: مائة الشَّاةِ وَالْخَادِمُ ردٌّ عَلَيْكَ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَعَلَى امْرَأَةِ هَذَا (2) الرَّجْمُ، واغْدُ يَا أُنَيْسُ (3)! عَلَى امرأَة هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا"، فَغَدَا عَلَيْهَا فَاعْتَرَفَتْ، فَرَجَمَهَا (4).
قَالُوا: هَذَا مُخَالِفٌ لِكِتَابِ اللَّهِ؛ لأَنه قَضَى بِالرَّجْمِ وبالتغريب، وَلَيْسَ لِلرَّجْمِ وَلَا لِلتَّغْرِيبِ فِي كِتَابِ اللَّهِ ذَكَرَ، فَإِنْ كَانَ الْحَدِيثُ بَاطِلًا فَهُوَ مَا أَردنا، وإِن كَانَ حَقًا فَقَدْ نَاقَضَ كِتَابَ اللَّهِ بِزِيَادَةِ الرَّجْمِ وَالتَّغْرِيبِ.
فَهَذَا اتِّبَاعٌ لِلْمُتَشَابِهِ (5)؛ لأَن الْكِتَابَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَفِي الشَّرْعِ أيضاً (6) يتصَرَّف عَلَى وُجُوهٍ: مِنْهَا الْحُكْمُ وَالْفَرْضُ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} (7)، وقال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} (8)، {وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ} (9)، فَكَانَ الْمَعْنَى: لأَقضين بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ؛ أَي: بِحُكْمِ اللَّهِ الَّذِي شُرِّعَ لَنَا، كَمَا أَن الكتاب يطلق على القرآن، فتخصيصهم
_________
(1) يعني قول بعض المتصوفة القائلين بسقوط التكاليف الشرعية عمن وصل مرتبة الولاية، انظر في هذا القول والرد عليه: "فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" (2/ 95)، و (7/ 503).
(2) في (خ): "المرأة هذه".
(3) في (خ) و (م): "يا أنس".
(4) أخرجه البخاري (2314 و2315 و2695 و2696)، ومسلم (1697 و1698).
(5) في (غ) و (ر): "المتشابه".
(6) قوله: "أيضاً" ليس في (خ).
(7) سورة النساء: آية (24).
(8) سورة البقرة: آية (183). وفي (غ) و (ر): "القصاص" بدل "الصيام".
(9) سورة النساء: آية (77). وقوله: "القتال" ليس في (م).(2/64)
الكتاب بأَحد المحملين (1) مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ اتِّبَاعٌ لِمَا تَشَابَهَ مِنَ الأَدلة.
وفي الحديث: "مثل أُمتي كمثل المطر (2)، لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَم آخِرُهُ" (3). قَالُوا: فَهَذَا يَقْتَضِي أَنه لَمْ يَثْبُتْ لأَول هَذِهِ الأُمة فَضْلٌ عَلَى الْخُصُوصِ دُونَ آخِرِهَا، وَلَا الْعَكْسُ، ثُمَّ نُقِلَ: "إِن الْإِسْلَامَ بَدَأَ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ" (4). فَهَذَا يقتضي تفضيل الأَولي
_________
(1) في (خ): "المحامل".
(2) في (خ) و (م): "كمطر".
(3) أخرجه الطيالسي (2023)، وأحمد (3/ 130 و143)، والترمذي (2869)، وابن عدي في "الكامل" (2/ 246)، جميعهم من طريق حماد بن يحيى الأبحّ، عن ثابت البناني، عن أنس، به.
قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه".
وفي سنده حماد بن يحيى الأبحّ وهو صدوق يخطئ كما في "التقريب" (1517).
وأخرجه الرامهرمزي في "الأمثال" برقم (68 و69) من طريق إبراهيم بن حمزة بن أنس، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، ومن طريق هدبة بن خالد، عن عبيد بن مسلم السابري، عن ثابت.
وقال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (7/ 6): "وهو حديث حسن له طرق يرتقي بها إلى الصحة".
وأخرجه ابن حبان في "صحيحه" (7226/ الإحسان)، والبزار (1412)، والرامهرمزي (70)، ثلاثتهم من طريق فضيل بن سليمان، عن موسى بن عقبة، عن عبيد بن سليمان الأغرّ، عن أبيه، عن عمار بن ياسر، به.
وعبيد بن سليمان الأغر ذكره ابن حبان في "الثقات" (7/ 156)، وذكره البخاري في "التاريخ الكبير" (5/ 442 رقم 1439) وقال: "حديثه لا يصح"، وذكره في "الضعفاء" أيضاً كما في "تهذيب الكمال" (19/ 212)، فاستدرك ذلك عليه أبو حاتم كما في "الجرح والتعديل" (5/ 407 رقم 1888) فقال: "لا أرى في حديثه إنكاراً، يحوّل من كتاب "الضعفاء" الذي ألّفه البخاري"، وذكره العقيلي في "الضعفاء" (3/ 115) تبعاً لشيخه البخاري، وقال: "ولا يصح حديثه"، وقال ابن حجر في "التقريب" (4407): "صدوق".
وفضيل بن سليمان النّميري البصري صدوق له خطأ كثير كما في "التقريب" (5462).
وللحديث طرق أخرى ذكرها الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله في "السلسلة الصحيحة" (2286) وحكم على الحديث بمجموعها بالصحة.
(4) أخرجه مسلم في "صحيحه" (145) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(2/65)
ن وَالْآخَرِينَ عَلَى الْوَسَطِ، ثُمَّ نُقِلَ: "خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ" (1)، فَاقْتَضَى أَن الأَولين أَفضل عَلَى الإِطلاق.
قَالُوا: فَهَذَا تَنَاقُضٌ، وَكَذَبُوا! لَيْسَ ثَمَّ تَنَاقُضٌ وَلَا اخْتِلَافٌ.
وَذَلِكَ أَن التَّعَارُضَ إِذا ظَهَرَ لِبَادِيَ الرأْي في المنقولات الشَّرْعِيَّةِ، فإِما أَن (2) لَا يُمْكِنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَصلاً، وإِما أَن يُمْكِنَ، فإِن لَمْ يُمْكِنْ فهذا الفرض يفرض (3) بَيْنَ قَطْعِيٍّ وَظَنِّيٍّ، أَو بَيْنَ ظَنِّيَّيْنِ، فأَما بَيْنَ قَطْعِيَّيْنِ فَلَا يَقَعُ فِي الشَّرِيعَةِ (4)، وَلَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ؛ لأَن تَعَارُضَ الْقَطْعِيَّيْنِ مُحَالٌ. فَإِنْ وَقْعَ بَيْنَ قَطْعِيٍّ وَظَنِّيٍّ بَطُلَ الظَّنِّيُّ، وَإِنَّ وقع بين ظنيين فههنا لِلْعُلَمَاءِ فِيهِ التَّرْجِيحُ، وَالْعَمَلُ بالأَرجح مُتَعَيَّنٌ، وإِن أَمكن الْجَمْعُ، فَقَدِ اتَّفَقَ النُّظَّار عَلَى إِعْمَالِ وجه الجمع، وإن كان له وجه ضعيف (5)، فَإِنَّ الْجَمْعَ أَولى عِنْدَهُمْ، وَإِعْمَالَ الأَدلة أَولى مِنْ إِهْمَالِ بَعْضِهَا، فَهَؤُلَاءِ الْمُبْتَدَعَةُ لَمْ يَرْفَعُوا بهذا الأَصل رأْساً، إما جهلاً به، وإما (6) عِنَادًا.
فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَوْلُهُ: "خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي" هُوَ الأَصل فِي الْبَابِ، فَلَا يَبْلُغُ أحد شَأْوَ الصَّحَابَةِ (7) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَمَا سِوَاهُ يَحْتَمِلُ التأْويل عَلَى حَالٍ أَو زَمَانٍ أَو فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ.
وأَما قَوْلُهُ: "فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ": لَا نَصَّ فِيهِ عَلَى التَّفْضِيلِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ، بَلْ هُوَ دَلِيلٌ عَلَى جزاءٍ حَسَنٍ، وَيَبْقَى النَّظَرُ في كونه مثل جزاءِ الصحابة،
_________
(1) أخرجه البخاري (2652)، ومسلم (2533) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بلفظ: "خير الناس قرني ... " الحديث.
وأما لفظ: "خير القرون" فهو الذي اشتهر عند بعض أهل العلم ـ ومنهم الشاطبي ـ، ولم يخرجه الشيخان، بل يندر وجوده في كتب الحديث.
(2) قوله: "أن" ليس في (م).
(3) قوله: "يفرض" ليس في (خ) و (م).
(4) في (م): "الشرعية".
(5) في (خ): "وإن كان وجه الجمع ضعيفاً".
(6) في (خ): "أو" بدل "وإما".
(7) في (خ): "أحد منا مبلغ الصحابة"، وفي (م): "أحدنا الصحابة".(2/66)
أَو دونه، أو فوقه محتملاً (1)، فَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، فَلَا بُدَّ من حمله على محكم الأَصل الأَول ولا إشكال.
ومن ذلك: قولهم بالتناقض بين (2) قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ بْنَ مَتَّى" (3)، وَ"لَا تخيِّروا ين الأَنبياء" (4)، وبين قوله (5): "أَنا سيد ولد (6) آدم" (7)، ونحوه.
ووجه الجمع بينهما ظاهر (8).
_________
(1) في (خ): "محتمل".
(2) في (خ): "من" بدل "بين".
(3) كذا ذكر المصنف هذا الحديث! وهو ناقل له عن "تأويل مختلف الحديث" لابن قتيبة (ص132) وإن لم يصرح به.
والصواب في لفظ الحديث: "لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن مَتَّى".
أخرجه البخاري (3395)، ومسلم (2377)، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
(4) أخرجه البخاري (2412 و6916)، ومسلم (2374، 163) من حديث أبي سعيد.
وأخرجه البخاري أيضاً (3414)، ومسلم (2373) من حديث أبي هريرة بلفظ: "لا تفضلوا بين أنبياء الله".
(5) في (خ) و (م): "وبيني وقوله".
(6) في (خ): "ولد سيد".
(7) أخرجه مسلم (2278) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة".
وأخرجه أيضاً (194) هو والبخاري (3340) من حديث أبي هريرة بلفظ: "أنا سيد الناس يوم القيامة". وجاء في نسختي (خ) و (م) زيادة: "ولا فخر" في آخر لفظ الحديث، وهذه الزيادة ليست في لفظ الصحيحين، وإنما أخرجها الترمذي (3148 و3615)، وابن ماجه (4308)، وأحمد في "المسند" (3/ 2 رقم 10987)، جميعهم من طريق علي بن زيد بن جُدْعان، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، به، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح".
وفي سنده علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف كما في "التقريب" (4768).
(8) وقد جمع بينها ابن قتيبة في الموضع السابق بعدة وجوه، لكن من أحسن ما قيل في الجمع بينها: أنه صلّى الله عليه وسلّم قال هذا قبل أن يعلم أنه أفضل من يونس، فلما علم ذلك قال: "أنا سيد ولد آدم ... ".
وقيل: إنه صلّى الله عليه وسلّم قال هذا زجراً عن أن يتخيّل أحد من الجاهلين شيئاً من حطّ مرتبة يونس صلّى الله عليه وسلّم من أجل ما في القرآن العزيز من قصته. قال العلماء: وما جرى ليونس صلّى الله عليه وسلّم لم يحطّه من النبوة مثقال ذرّة، وخصّ يونس بالذكر لما ذكرناه من ذكره في القرآن بما ذُكر. اهـ. من "شرح النووي" (15/ 132).=(2/67)
وَمِنْهُ: أَنهم قَالُوا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلَا يَغْمِسُ يَدَهُ فِي الإِناء حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا، فإِن أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَين بَاتَتْ يَدُهُ" (1): إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يُفْسِدُ (2) آخِرُهُ أَوله، فَإِنَّ أَوله صَحِيحٌ لَوْلَا قَوْلُهُ: "فَإِنَّ أَحدكم لا يدري" كذ، فما منا أَحد إِلا وقد (3) درى أن يده باتت حيث بات بدنه (4). وأَشد الأُمور أَن يَكُونَ مسَّ بِهَا فَرْجَهُ، وَلَوْ أَن رَجُلًا فَعَلَ ذَلِكَ فِي الْيَقَظَةِ لَمَا طُلِبَ بِغَسْلِ يَدِهِ، فَكَيْفَ يُطْلَبُ بِالْغَسْلِ (5) وَلَا يَدْرِي هَلْ مسَّ فَرْجَهُ أَم لَا؟
وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ مِنَ النَّمَطِ الَّذِي (6) قَبْلَهُ، إِذ النَّائِمُ قَدْ يَمَسُّ (7) فَرْجَهُ فَيُصِيبُهُ شيءٌ مِنْ نجاسة بقيت (8) فِي الْمَحَلِّ؛ لِعَدَمِ اسْتِنْجَاءٍ تَقَدَّمَ النَّوْمَ، أَو لكونه استجمر فعرق (9) مَوْضِعِ الِاسْتِجْمَارِ، وَهُوَ لَوْ كَانَ يَقْظَانَ فَمَسَّ لعلم بالنجاسة إِذا علقت بيده، فيغسلها قبل غمسها فِي الإِناء لِئَلَّا يُفْسِدَ الماءَ، وإِذا أَمكن هَذَا لَمْ يَتَوَجَّهْ الِاعْتِرَاضُ.
فَجَمِيعُ مَا ذُكِرَ فِي هَذَا الْفَصْلِ رَاجِعٌ إِلى إِسقاط الأَحاديث بالرأْي الْمَذْمُومِ الَّذِي تَقَدَّمَ الِاسْتِشْهَادُ (10) عَلَيْهِ أَنَّهُ من البدع المحدثات.
_________
=وقال ابن حجر في "فتح الباري" (6/ 452): "وقيل: خصّ يونس بالذكر لما يخشى على من سمع قصته أن يقع في نفسه تنقيص له، فبالغ في ذكر فضله لسدّ هذه الذريعة".
(1) أخرجه البخاري (162)، ومسلم (278) من حديث أبي هريرة.
(2) كذا في (خ)، وهو الصواب الموافق لما عند ابن قتيبة المنقول عنه هذا النص (ص88)، وفي باقي النسخ: "يُفَسِّر" بالراء.
(3) قوله: "وقد" ليس في (خ).
(4) في (خ) و (م): "درى أين باتت يده".
(5) في (غ) و (ر): "بغسل".
(6) قوله: "الذي" ليس في (غ) و (م) و (ر).
(7) في (م): "مس".
(8) قوله: "بقيت" ليس في (خ).
(9) في (خ): "يكون استجمر فرق".
(10) في (خ): "استشهاد"، وفي (م): "استشهادنا".(2/68)
فَصْلٌ
وَمِنْهَا: تَحْرِيفُ الْأَدِلَّةِ عَنْ مَوَاضِعِهَا؛ بِأَنْ يَرِدَ الدَّلِيلُ عَلَى مَنَاطٍ، فَيُصْرَفُ عَنْ ذَلِكَ الْمَنَاط إِلى أَمر آخَرَ مُوهِمًا أَن الْمَنَاطَيْن وَاحِدٌ، وَهُوَ مِنْ خفيَّات تَحْرِيفِ الكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ. وَيَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَن من أقرَّ بالإِسلام، ويذم تَحْرِيفَ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ، لَا يلجأُ إِلَيْهِ صُرَاحًا (1) إِلَّا مَعَ اشتباهٍ يَعْرِضُ لَهُ، أَو جَهْلٍ يَصُدُّهُ عَنِ الْحَقِّ، مَعَ هَوَىً يَعْمِيهِ عَنْ أَخذ الدَّلِيلِ مَأْخَذه، فَيَكُونُ بِذَلِكَ السَّبَبِ مُبْتَدَعًا.
وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَن الدَّلِيلَ الشَّرْعِيَّ إِذا اقْتَضَى أَمراً فِي الْجُمْلَةِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْعِبَادَاتِ مَثَلًا، فأَتى بِهِ المُكَلَّف فِي الْجُمْلَةِ أَيضاً؛ كَذِكْرِ اللَّهِ، والدعاءِ، وَالنَّوَافِلِ المستحبَّات، وَمَا أَشبهها مِمَّا يُعْلَمُ مِنَ الشَّارِعِ فِيهَا التَّوْسِعَةُ؛ كَانَ الدليل عاضداً لعمله (2) مِنْ جِهَتَيْنِ: مِنْ جِهَةِ مَعْنَاهُ، وَمِنْ جِهَةِ عَمَلِ السَّلَفِ الصَّالِحِ بِهِ. فَإِنْ أَتى الْمُكَلَّفُ فِي ذَلِكَ الأَمر بِكَيْفِيَّةٍ مَخْصُوصَةٍ، أَو زَمَانٍ مخصوص، أَو مكان مخصوص، مُقَارِنًا (3) لِعِبَادِةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَالْتَزَمَ ذَلِكَ بِحَيْثُ صَارَ مُتَخَيَّلًا (4) أَن الْكَيْفِيَّةَ، أَو الزَّمَانَ، أَو الْمَكَانَ مَقْصُودٌ شَرْعًا مِنْ غَيْرِ أَن يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ؛ كَانَ الدَّلِيلُ بِمَعْزِلٍ عَنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمُسْتَدَلِّ عَلَيْهِ.
فَإِذَا نَدَبَ الشَّرْعُ مَثَلًا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ، فَالْتَزَمَ قَوْمٌ الِاجْتِمَاعَ عَلَيْهِ عَلَى لسان واحد، أو صوت واحد (5)، أَو فِي وَقْتٍ مَعْلُومٍ مَخْصُوصٍ عَنْ سَائِرِ
_________
(1) في (غ) و (ر): "صراخاً".
(2) في (خ) و (م): "لعلمه".
(3) في (خ) و (م): "أو مقارناً".
(4) في (ر) و (غ) و (م): "مخيلاً".
(5) في (خ) و (م): "وبصوت" بدل قوله: "أو صوت واحد".(2/69)
الأَوقات، لَمْ يَكُنْ فِي نَدْبِ الشَّرْعِ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّخْصِيصِ المُلْتَزَم، بَلْ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ؛ لأَن الْتِزَامَ الأُمور غَيْرِ اللَّازِمَةِ شَرْعًا شأْنها أَن تُفْهِم التَّشْرِيعَ، وخصوصاً مع من يُقْتَدَى به، وفي (1) مجامع الناس؛ كالمساجد، فإِنها إِذا أُظْهِرَتْ (2) هَذَا الإِظهار، وَوُضِعَتْ فِي الْمَسَاجِدِ كَسَائِرِ الشَّعَائِرِ الَّتِي وَضَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسَاجِدِ وَمَا أَشبهها؛ كَالْأَذَانِ، وَصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ، وَالِاسْتِسْقَاءِ، وَالْكُسُوفِ؛ فُهِم مِنْهَا بِلَا شَكٍّ أَنها سنن، إن لم يفهم منها الفريضة (3)، فأَحرى أَن لَا يَتَنَاوَلَهَا الدَّلِيلُ الْمُسْتَدَلُّ بِهِ، فصارت من هذه الجهة بدعاً محدثة، يَدُلُّك (4) على (5) ذلك: ترك التزام السلف الصالح لِتِلْكَ الأَشياء، أَوْ عَدَمِ (6) الْعَمَلِ بِهَا، وَهُمْ كَانُوا أَحق بِهَا وأَهلها لَوْ كَانَتْ مَشْرُوعَةً عَلَى مُقْتَضَى الْقَوَاعِدِ؛ لأَن الذِّكْرَ قَدْ نَدَبَ إِلَيْهِ الشَّرْعُ نَدْبًا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، حَتَّى إِنه لم يُطْلَب فيه تكثيرٌ من عِبَادَةٍ (7) مِنَ الْعِبَادَاتِ مَا طَلَبَ مِنَ التَّكْثِيرِ من الذكر؛ كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * ... } الْآيَةَ (8)، وَقَوْلِهِ: {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (9)، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ *} (10) بخلاف سائر العبادات.
ومثل ذلك (11): الدُّعَاءُ، فإِنه ذِكْرُ اللَّهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَمْ يَلْتَزِمُوا فِيهِ كَيْفِيَّاتٍ، وَلَا قيَّدوه بأَوقات مَخْصُوصَةٍ بحيث يشعر (12) بِاخْتِصَاصِ التَّعَبُّدِ بِتِلْكَ الأَوقات، إِلَّا مَا عيَّنه الدَّلِيلُ؛ كَالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، وَلَا أَظهروا مِنْهُ إِلَّا
_________
(1) في (خ): "في".
(2) في (خ) و (م): "ظهرت".
(3) في (خ): "إذ لم تفهم منها الفرضية".
(4) في (خ): "بذلك".
(5) في (خ): "وعلى".
(6) في (م): "وعدم".
(7) في (خ): "لم يطلب في تكثير عبادة".
(8) سورة الأحزاب: آية (41).
(9) سورة الجمعة: آية (10).
(10) الآية: (45) من سورة الأنفال. ومن قوله: "وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ} ... " إلى هنا من (ر) فقط، وسقط من باقي النسخ.
(11) في (خ) و (م): "ومثل هذا".
(12) في (خ): "تشعر".(2/70)
مَا نَصَّ (1) الشَّارِعُ عَلَى إِظْهَارِهِ؛ كَالذِّكْرِ فِي الْعِيدَيْنِ (2) وَشِبَهِهِ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَكَانُوا مُثَابِرِينَ على إخفائه وستره (3). ولذلك قال لهم حِينَ رَفَعُوا أَصواتهم: "أَرْبِعُوا (4) عَلَى أَنفسكم، إِنَّكُمْ لا تدعون أَصَمَّ ولا غائباً" (5) وأَشباهه، فلم يُظْهِرُوهُ (6) فِي الْجَمَاعَاتِ.
فَكُلُّ مَنْ خَالَفَ هَذَا الأَصل فَقَدْ خَالَفَ إِطْلَاقَ الدَّلِيلِ أوَّلاً؛ لأنَّه قَيَّدَ فِيهِ بالرأْي، وَخَالَفَ مَنْ كَانَ أَعرف مِنْهُ بِالشَّرِيعَةِ، وَهُمُ السَّلَفُ الصَّالِحُ رَضِيَ اللَّهُ عنهم، بل قد (7) كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتْرُكُ الْعَمَلَ وَهُوَ عليه السلام يُحِبُّ أَن يَعْمَلَ بِهِ خَشْيَةَ (8) أَن يَعْمَلَ به (9) الناس فيفرض عليهم (10).
وفي فصل البيان (11) من كتاب "الْمُوَافَقَاتِ" (12) جُمْلَةٌ مِنْ هَذَا، وَهُوَ مَزَلَّةُ قَدَمٍ. فَقَدْ يُتَوهَّم أَن إِطلاق اللَّفْظِ يُشْعِرُ بِجَوَازِ كل ما يمكن أن يفرض (13) في مدلوله وقوعاً، وليس كذلك، وخصوصاً (14) في العبادات؛
_________
(1) قوله: "نص" في موضعه بياض في (خ). وعلق عليه رشيد رضا بقوله: بياض في الأصل، ولو وضع فيه كلمة "نص" أو "حث" لصحّ المعنى، ولعله الأصل. اهـ.
(2) الأدلة عليه كثيرة؛ منها: قوله تعالى في آية الصيام: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185].
وأخرج البخاري (971)، ومسلم (890) من حديث أم عطية رضي الله عنها؛ قالت: كنا نؤمر أن نخرج يوم العيد، حتى نخرج البكر من خدرها، حتى نخرج الحيّض، فيكنّ خلف الناس، فيكبِّرن بتكبيرهم، ويدعون بدعائهم، يرجون بركة ذلك اليوم وطهرته.
(3) في (خ) و (م): "وسره".
(4) في (خ): "أرفقوا".
(5) أخرجه البخاري (4205)، ومسلم (2704) من حديث أبي موسى رضي الله عنه.
(7) (6) في (خ): "ولم يظهرونه".
قوله: "قد" ليس في (خ).
(8) في (خ): "خوفاً".
(9) قوله: "خشية أن يعمل به" سقط من (م)، وكتب الناسخ بالهامش ما نصه: "لعل هنا سقطاً، وهو: خوف أن يعمل به".
(10) أخرجه البخاري (1128)، ومسلم (718) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(11) انظر: "الموافقات" (4/ 73).
(12) في (خ): "وفي فصل من الموافقات"، وفي (م): "وفي فصل الموافقات".
(13) قوله: "أن يفرض" ليس في (خ).
(14) في (خ): "وليس خصوصاً".(2/71)
فَإِنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى التعبُّد عَلَى (1) حَسَبِ مَا تُلُقِّيَ عن (2) النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالسَّلَفُ الصَّالِحُ؛ كَالصَّلَوَاتِ حِينَ وُضِعَتْ بَعِيدَةً عَنْ مَدَارِكِ الْعُقُولِ فِي أَركانها وَتَرْتِيبِهَا وأَزمانها وَكَيْفِيَّاتِهَا وَمَقَادِيرِهَا، وَسَائِرِ مَا كَانَ مِثْلَهَا ـ حَسْبَمَا يُذْكَرُ فِي بَابِ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ إِن شَاءَ الله تعالى ـ، فَلَا يَدْخُلُ الْعِبَادَاتِ الرأْي وَالِاسْتِحْسَانُ هَكَذَا مُطْلَقًا؛ لأَنه كالمنافي لوضعها؛ لأن (3) العقول لا تدرك معانيها على التفصيل.
ولذلك (4) حَافَظَ العلماءُ عَلَى تَرْكِ إِجراء الْقِيَاسِ فِيهَا؛ كَمَالِكِ بْنِ أَنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فإِنه حَافَظَ عَلَى طَرْحِ الرأْي جِدًّا، وَلَمْ يَعْمَلْ فِيهَا مِنْ أَنواع الْقِيَاسِ إِلا قِيَاسَ نَفْيِ الْفَارِقِ، حَيْثُ اضطُرَّ (5) إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِنَ العلماء وإِن تفاوتوا، هم (6) مُحَافِظُونَ جَمِيعًا فِي الْعِبَادَاتِ عَلَى الِاتِّبَاعِ لِنُصُوصِهَا ومنقولاتها، بخلاف غيرها من العادات، فإنهم قد اتبعوا فيها المعاني، حتى قال مالك فيها بالمصالح المرسلة والاستحسان، مع بُعد قاعدتها عن التعبديَّات اتباعاً للمعاني المفهومة من الشرع على التفصيل، ولم يُر أشدّ محافظة على الاتباع للسلف الصالح منه، حسبما قاله العلماء عنه، غير أن العبادات ـ كالذكر والدعاء ونوافل الصلوات والصدقات ـ إن فَهِم فيها توسعة عمل عليها (7) بحسبها (8) لَا مُطْلَقًا، فَإِنَّ الإِنسان قَدْ أُمر بِذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ ـ مَثَلًا ـ. فالمخصِّص (9) كَالْمُخَالِفِ لِمَفْهُومِ التَّوْسِعَةِ، وإِن لَمْ يُفْهَمْ مِنْ ذَلِكَ تَوَسُّعُهُ فَلَا بد من الرجوع إلى أَصل الوقوف (10) مع
_________
(1) في (غ) و (ر): "وعلى".
(2) قوله: "عن" ليس في (خ) و (م). وعلق عليه رشيد رضا بقوله: لعله: "تُلُقِّيَ عن النبي ... " إلخ. اهـ.
(3) في (خ): "ولأن".
(4) في (خ): "وكذلك".
(5) في (خ): "أظهر" بدل "اضطر"، وعلق عليها رشيد رضا بقوله: كذا! ولعلها: "اضطر".اهـ.
(6) في (خ): "فهم".
(7) من قوله: "من العادات فإنهم قد اتبعوا" إلى هنا سقط من (خ) و (م).
(8) في (خ): "فبحسبها".
(9) في (غ) و (ر) و (م): "فالتخصيص".
(10) في (خ) و (م): "الوقف".(2/72)
الْمَنْقُولِ؛ لأَنا إِن خَرَجْنَا عَنْهُ شَكَكْنَا فِي كَوْنِ الْعِبَادَةِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ مَشْرُوعَةً، أَوْ قَطَعْنَا بِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَشْرُوعَةٍ (1) عَلَى الطَّرِيقَتَيْنِ المنبَّه عَلَيْهِمَا (2) فِي كِتَابِ "الْمُوَافَقَاتِ"، فَيَتَعَيَّنُ الرُّجُوعُ إِلَى المنقول وقوفاً معه مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ.
ثُمَّ إِذَا فَهِمْنَا التَّوْسِعَةَ؛ فَلَا بُدَّ مِنَ اعْتِبَارِ أَمر آخَرَ؛ وَهُوَ أَن يَكُونَ الْعَمَلُ بِحَيْثُ لَا يوهم التخصيص بزمان (3) دون غيره، أَو مكان (4) دُونَ غَيْرِهِ، أَو كَيْفِيَّةٍ دُونَ غَيْرِهَا، أَوْ يُوهِمُ انْتِقَالَ الْحُكْمِ مِنْ الِاسْتِحْبَابِ ـ مَثَلًا ـ إِلَى السُّنَّةِ أَو الْفَرْضِ، لأَنه قَدْ يَكُونُ الدَّوَامُ عَلَيْهِ عَلَى كَيْفِيَّةٍ مَّا فِي مَجَامِعِ النَّاسِ، أَوْ مَسَاجِدِ (5) الْجَمَاعَاتِ، أَو نَحْوِ ذَلِكَ؛ مُوهِمًا لِكَوْنِهِ سُنَّةً أَو فَرْضًا، بَلْ هُوَ كَذَلِكَ.
أَلا تَرَى أَن كُلَّ مَا أَظهره رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَاظَبَ عَلَيْهِ في جَمَاعَةٌ إِذا لَمْ يَكُنْ فَرْضًا فَهُوَ سُنَّةٌ عِنْدَ العلماءِ؛ كَصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ والاستسقاءِ وَالْكُسُوفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؟ بِخِلَافِ قِيَامِ اللَّيْلِ وَسَائِرِ النَّوَافِلِ، فإِنها مُسْتَحِبَّاتٌ، وَنَدَبَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى إخفائها، وكان يخفيها، وإن أظهرها فيوماً مّا من غير إكثار، ولا يضرّ الدوام على النوافل (6) مع إِخْفَائِهَا (7)، وَإِنَّمَا يَضُرُّ إِذَا كَانَتْ تُشَاعُ وَيُعْلَنُ بِهَا.
وَمِنْ أَمثلة هَذَا الأَصل: الْتِزَامُ الدُّعَاءِ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ بِالْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ مُعْلَنًا بِهَا فِي الْجَمَاعَاتِ، وسيأْتي بَسْطُ ذَلِكَ فِي بَابِهِ إِن شاءَ الله تعالى.
_________
(1) قوله: "أو قطعنا بأنها ليست بمشروعة" ليس في (خ).
(2) في (خ): "عليها"، وفي (م): "المنية عليها". وعلق عليه رشيد رضا بقوله: لعله: "عليهما"، بل هو المتعين. اهـ.
(3) في (خ): "زماناً" وفي (م): "زمان".
(4) في (خ): "أو مكاناً".
(5) في (غ) و (ر): "ومساجد".
(6) في (ر): "النافلة".
(7) من قوله: "وكان يخفيها" إلى هنا سقط من (خ) و (م).(2/73)
فَصْلٌ
وَمِنْهَا: بناءُ (1) طَائِفَةٍ مِنْهُمُ الظَّوَاهِرَ الشَّرْعِيَّةَ عَلَى تأْويلات لَا تُعْقَلُ يَدَّعُونَ فِيهَا أَنَّهَا هِيَ (2) الْمَقْصُودُ وَالْمُرَادُ، لَا مَا يَفْهَمُ الْعَرَبِيُّ مِنْهَا (3)، مُسْنَدَةً (4) عِنْدَهُمْ إِلى أَصل لَا يُعْقَلُ، وذلك أَنهم فيما ذكر العلماءُ: قَوْمٌ أَرادوا إِبطال الشَّرِيعَةِ (5)، جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، وإِلقاءَ ذلك فيما بين المسلمين (6) لينحلَّ الدِّينُ فِي أَيْدِيهِمْ، فَلَمْ يُمْكِنْهُمْ إِلقاء ذَلِكَ صَرَاحًا، فيُرَدُّ ذَلِكَ فِي وُجُوهِهِمْ، وَتَمْتَدُّ (7) إليهم أَيدي الحكام، فصرفوا عنايتهم (8) إِلَى التَّحَيُّل عَلَى مَا قَصَدُوا بأَنواع مِنَ الحيل، من جملتها: صرف الهمم (9) عن (10) الظَّوَاهِرِ، إِحَالَةً عَلَى أَن لَهَا بَوَاطِنَ هِيَ الْمَقْصُودَةُ، وأَن الظَّوَاهِرَ غَيْرُ مُرَادَةٍ. فَقَالُوا: كُلُّ مَا وَرَدَ فِي الشَّرْعِ مِنَ الظَّوَاهِرِ فِي الكتاليف وَالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَالْأُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ، فَهِيَ أَمثلة وَرُمُوزٌ إِلَى بَوَاطِنَ.
فَمِمَّا زَعَمُوا فِي الشَّرْعِيَّاتِ: أَنَّ الْجَنَابَةَ مُبَادَرَةُ الدَّاعِي لِلْمُسْتَجِيبِ (11) بإِفشاءِ سِرٍّ إِليه قَبْلَ أَن يَنَالَ رُتْبَةَ الِاسْتِحْقَاقِ. وَمَعْنَى (12) الْغُسْلِ: تَجْدِيدُ الْعَهْدِ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ. وَمَعْنَى مجامعة البهيمة مفاتحة (13) من لا عهد له
_________
(1) في (غ) و (ر): "فناء".
(2) قوله: "هي" ليس في (غ) و (ر) و (م).
(3) قوله: "منها" سقط من (خ).
(4) في (م): "مستندة".
(5) قوله: "الشريعة" مكرر في (غ).
(6) في (خ) و (م): "الناس" بدل "المسلمين".
(7) في (غ) و (ر): "تمتد".
(8) في (خ): "أعناقهم".
(9) في (خ): "الهم".
(10) في (خ): "من".
(11) قوله: "للمستجيب" ليس في (غ).
(12) في (غ) و (ر): "وهي".
(13) في (خ): "مقابحة".(2/74)
ولم يؤدّ شيئاً من صدقة النجوى ـ وهي مائة وَتِسْعَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا عِنْدَهُمْ ـ. قَالُوا: فَلِذَلِكَ أَوجب الشَّرْعُ الْقَتْلَ عَلَى الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ بِهَا (1)، وإِلا فَالْبَهِيمَةُ مَتَى يَجِبُ الْقَتْلُ عَلَيْهَا؟
وَالِاحْتِلَامُ (2): أَنْ يَسْبِقَ لِسَانُهُ إِلى إفشاءِ السِّرِّ فِي غَيْرِ محلِّه، فعليه الغسل؛ أَي: تجديد المعاهدة، والطهور (3): هُوَ التَّبَرُّؤُ مِنَ اعْتِقَادِ كُلِّ مَذْهَبٍ سِوَى مُتَابَعَةِ الْإِمَامِ. وَالتَّيَمُّمُ: الأَخذ مِنَ المأْذون إِلَى أَن يَسْعَدَ (4) بِمُشَاهَدَةِ (5) الدَّاعِي وَالْإِمَامِ (6). وَالصِّيَامُ: هُوَ الإِمساك عَنْ كَشْفِ السِّرِّ.
وَلَهُمْ مِنْ هَذَا الإِفك كثير من الأُمور الإِلهية، وأُمور التَّكْلِيفِ، وأُمور الْآخِرَةِ، وَكُلُّهُ (7) حَوْمٌ عَلَى إِبْطَالِ الشَّرِيعَةِ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، إِذْ هُمْ ثَنَوِيَّةٌ وَدَهْرِيَّة وإباحِيَّة، مُنْكِرُونَ لِلنُّبُوَّةِ (8) وَالشَّرَائِعِ وَالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْمَلَائِكَةِ، بَلْ هُمْ مُنْكِرُونَ لِلرُّبُوبِيَّةِ (9)، وَهُمُ المُسَمَّون بِالْبَاطِنِيَّةِ (10).
وَرُبَّمَا تمسَّكوا بالحروف والأَعداد؛ كقولهم (11): إن (12) الثقب (13) في (14) رأَس الآدمي سبع، والنجوم (15) السَّيَّارة سبعة (16)، وأَيام الأُسبوع سبعة (15)، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَن دُورَ الأَئمة سَبْعَةٌ سبعة (17)، وبه يتمّ. وأَن
_________
(1) في (خ): "به".
(2) في (م): "والاستلام".
(3) في (خ): "والطهر".
(4) في (غ) يشبه أن تكون: "يشهد" بدل "يسعد".
(5) في (م): "مشاهدة".
(6) في (م): "أو الإمام".
(7) في (غ): "وكلها".
(8) في (م): "للتوبة".
(9) في (غ): "للرسل".
(10) علق رشيد رضا على هذا الموضع بقوله: انقسمت الباطنية إلى عدة فرق، يجمعهم القول بجعل ظواهر النصوص غير مرادة، والذهاب في تأويلها مذاهب من التحكم لا تتفق مع اللغة في مجاز ولا كناية، والقول بإمام معصوم، وقد يسمونه باسم آخر، ويجعلونه بعد ذلك إلهاً، وآخر فرقهم البابية والبهائية. اهـ.
(11) قوله: "كقولهم" ليس في (خ) و (م).
(12) في (خ): "بأن".
(13) في (م): "النقب".
(14) في (غ) و (ر) و (م): "على" بدل "في".
(15) في (خ): "والكواكب" بدل "والنجوم".
(16) في (خ) و (م): "سبع".
(17) قوله: "سبعة" الثانية ليس في (خ).(2/75)
الطبائع أَربع، وفصول السنة أربعة (1)، فدل على أن الأصول (2) الأَربعة هِيَ (3): السَّابِقُ وَالتَّالِي ـ الْإِلَهَانِ (4) عِنْدَهُمْ ـ، وَالنَّاطِقُ والأساس ـ وهما الإِمامان ـ. والبروج اثنا عشر، فدل (5) على الحجج الاثني عَشَرَ (6)، وَهُمُ الدُّعَاةُ إِلى أَنواع مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، وَجَمِيعُهَا لَيْسَ فِيهِ مَا يُقَابَلُ بِالرَّدِّ؛ لأَن كُلَّ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُبْتَدَعَةِ سِوَى هَؤُلَاءِ رُبَّمَا (7) يَتَمَسَّكُونَ بِشُبْهَةٍ تَحْتَاجُ (8) إِلَى النَّظَرِ فِيهَا مَعَهُمْ، أَمَّا هَؤُلَاءِ فَقَدْ خَلَعُوا فِي الْهَذَيَانِ الرِّبْقَةَ، وَصَارُوا (9) عُرْضَةً للَّمز، وَضُحْكَةً لِلْعَالِمِينَ. وَإِنَّمَا يَنْسِبُونَ (10) هَذِهِ الأَباطيل إِلى الإِمام الْمَعْصُومِ الَّذِي زعموه، وإبطال هذه الْإِمَامَةِ (11) مَعْلُومٌ فِي كُتُبِ المتكلِّمين، وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ نُكْتَةٍ مُخْتَصَرَةٍ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ.
فَلَا يَخْلُو أَن يَكُونَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ إِما من جهة دعوى بالضرورة وَهُوَ مُحَالٌ (12)؛ لأَن الضَّرُورِيَّ هُوَ (13) مَا يَشْتَرِكُ فِيهِ الْعُقَلَاءُ عِلْمًا وَإِدْرَاكًا، وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ.
وإما من جهة الإِمام المعصوم بسماعهم منه لتلك التأْويلات، فيقال (14) لِمَنْ زَعَمَ ذَلِكَ: مَا الَّذِي دَعَاكَ إِلَى تصديق الإمام المعصوم دون (15) تصديق محمد صلّى الله عليه وسلّم مع (16) المعجزة، وليس لإمامك معجزة؟ والقرآن (17) يَدُلُّ عَلَى أَن الْمُرَادَ ظَاهِرُهُ، لَا مَا زَعَمْتَ. فَإِنْ قَالَ: ظَاهِرُ الْقُرْآنِ رُمُوزٌ إِلَى بواطن فهمها الإِمام (18) المعصوم، ولم يفهمها الناس،
_________
(1) في (خ) و (م): "أربع".
(2) في (خ): "أصول".
(3) في (غ) و (ر): "وهي".
(4) في (غ): "الإمامان" ويشبه أن تكون هكذا في (ر).
(5) في (خ): "يدل".
(6) في (خ) و (م): "على أن الحجج اثنا عشر".
(7) في (خ): "وربما".
(8) في (غ) و (ر): "يحتاج".
(9) في (م): "صاروا".
(10) في (غ) و (ر): "يسندون".
(11) في (خ): "وإبطال الأئمة".
(12) في (غ) و (ر): "الضرورة وإما محال".
(13) قوله: "هو" من (خ) فقط.
(14) قوله: "فيقال" سقط من (م)، وفي (خ) "فنقول".
(15) قوله: "تصديق الإمام المعصوم دون" ليس في (خ)، وقوله: "المعصوم" سقط من (غ) و (ر).
(16) في (خ): "سوى" بدل "مع".
(17) في (خ) و (م): "فالقرآن".
(18) قوله: "الإمام" ليس في (غ) و (ر).(2/76)
فَتَعَلَّمْنَاهَا مِنْهُ. قِيلَ لَهُمْ: مِنْ أَي جِهَةٍ تعلمتموها منه (1)؟ أَبمشاهدة قلبه بالعين؟ أَم (2) بسماع منه؟ فلا بُدَّ (3) مِنْ الِاسْتِنَادِ إِلى السَّمَاعِ بالأُذن. فَيُقَالُ: فَلَعَلَّ لَفْظَهُ ظَاهِرٌ لَهُ بَاطِنٌ لَمْ تَفْهَمْهُ، وَلَمْ يُطْلِعْكَ عَلَيْهِ، فَلَا يُوثَقُ بِمَا فَهِمْتَ مِنْ ظَاهِرِ لَفْظِهِ. فإِن قَالَ: صَرَّحَ بِالْمَعْنَى (4)، وَقَالَ: مَا ذَكَرْتُهُ ظَاهِرٌ لَا رَمْزَ فِيهِ، وَالْمُرَادُ ظَاهِرُهُ. قِيلَ لَهُ (5): وَبِمَاذَا عَرَفْتَ قَوْلَهُ لك (6): إِنه ظاهر لا رمز فيه، أَنه (7) كَمَا قَالَ؟ إِذ يُمْكِنُ أَن يَكُونَ لَهُ بَاطِنٌ لَمْ تَفْهَمْهُ أَيْضًا (8)، فَلَا يَزَالُ الْإِمَامُ يُصَرِّحُ بِاللَّفْظِ وَالْمَذْهَبُ يَدْعُو إِلَى أَنَّ لَهُ فِيهِ رَمْزًا. وَلَوْ (9) فَرَضْنَا أَنَّ الْإِمَامَ أَنْكَرَ الْبَاطِنَ، فَلَعَلَّ تَحْتَ إِنكاره رَمْزًا (10) لَمْ تَفْهَمْهُ أَيْضًا (11)، حَتَّى لَوْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ الظَّاهِرِ على (12) أَنه لَمْ يَقْصِدْ إِلا الظَّاهِرَ، لَاحْتَمَلَ أَن يكون في طلاقه رمز هو بَاطِنُهُ، وَلَيْسَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ. فإِن قَالَ: ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى حَسْمِ بَابِ التَّفْهِيمِ. قِيلَ لَهُ (13): فأَنْتم حسمتموه بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإِن الْقُرْآنَ دَائِرٌ عَلَى تَقْرِيرِ الْوَحْدَانِيَّةِ، وَالْجَنَّةِ، وَالنَّارِ، وَالْحَشْرِ، وَالنَّشْرِ، والأَنبياء، وَالْوَحْيِ، وَالْمَلَائِكَةِ، مُؤَكَّدًا ذَلِكَ كُلَّهُ بِالْقَسَمِ، وأَنتم تَقُولُونَ: إِن ظَاهِرَهُ غَيْرُ مُرَادٍ، وَإِنَّ تَحْتَهُ رَمْزًا. فإِن جَازَ ذَلِكَ عِنْدَكُمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمصلحةٍ وسرٍّ لَهُ فِي الرَّمْزِ؛ جَازَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَعْصُومِكُمْ أَنْ يَظْهَرَ لَكُمْ خِلَافُ مَا يُضْمِرُهُ لِمَصْلَحَةٍ وسرٍّ لَهُ فِيهِ، وَهَذَا لَا مَحِيصَ لَهُمْ عَنْهُ.
قَالَ أَبو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ (14) رَحِمَهُ اللَّهُ (15): يَنْبَغِي أَن يَعْرِفَ الإِنسان أَن رُتْبَةَ هَذِهِ الْفِرْقَةِ هِيَ (16) أَخسُّ مِنْ رُتْبَةِ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْ فِرَقِ الضَّلَالِ؛ إذ لا
_________
(1) قوله: "منه" ليس في (غ).
(2) في (خ): "أو".
(3) في (خ): "ولا بد".
(4) في (غ): "بالمعاني".
(5) قوله: "له" ليس في (غ) و (ر).
(6) قوله: "لك" ليس في (خ).
(7) في (خ): "بل أنه".
(8) قوله: "أيضاً" ليس في (غ) و (ر).
(9) قوله: "لو" ليس في (غ) و (ر).
(10) في (م): "رمز".
(11) من قوله: "فلا يزال الإمام" إلى هنا سقط من (خ).
(12) قوله: "على" ليس في (خ).
(13) قوله: "له" من (خ) فقط.
(14) قوله: "الغزالي" من (خ) فقط.
(15) في "فضائح الباطنية" (ص52).
(16) قوله: "هي" من (خ) فقط.(2/77)
تَجِدُ (1) فِرْقَةً تَنْقُضُ مَذْهَبَهَا بِنَفْسِ الْمَذْهَبِ سِوَى هذه الفرقة (2) الَّتِي هِيَ الْبَاطِنِيَّةُ؛ إِذ مَذْهَبُهَا إِبطال النَّظَرِ، وتغيير الأَلفاظ عن موضوعاتها (3) بِدَعْوَى الرَّمْزِ، وَكُلُّ مَا يُتَصَوَّرُ أَن تَنْطِقَ بِهِ أَلسنتهم فإِما نَظَرٌ أَو نَقْلٌ، أَما النظر فقد أَبطلوه، وأَما النقل فَقَدْ جوَّزوا أَنْ يُرَادَ بِاللَّفْظِ غَيْرُ مَوْضُوعِهِ، فَلَا يَبْقَى لَهُمْ مُعْتَصِمٌ (4)، وَالتَّوْفِيقُ بِيَدِ اللَّهِ.
وَذَكَرَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي "الْعَوَاصِمِ" (5) مأْخذاً آخَرَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ أَسهل مِنْ هَذَا ـ وَقَالَ: إِنهم (6) لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهِ ـ، وَهُوَ أَن يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ فِي كُلِّ مَا يَدْعُونَهُ السُّؤَالَ بِـ"لِمَ؟ " خَاصَّةً، فَكُلُّ مَنْ وَجَّهْتَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ سُقِطَ فِي يَدِهِ، وَحَكَى فِي ذَلِكَ حكاية ظريفة يحسن موقعها هاهنا (7).
قال ابن العربي (8): خَرَجْتُ مِنْ بِلَادِي عَلَى الْفِطْرَةِ، فَلَمْ أَلْقَ في طريقي إلا مهتدياً، حتى بَلَغْتُ هَذِهِ الطَّائِفَةَ ـ يَعْنِي الْإِمَامِيَّةَ وَالْبَاطِنِيَّةَ مِنْ فرق الشيعة ـ، فهي أول بدعة لقيت، فلو فجأتني بدعة مشتبهة كالقول بخلق القرآن، أَوْ نَفْيِ الصِّفَاتِ، أَوِ الْإِرْجَاءِ؛ لَمْ آمَنْ الشيطان. فَلَمَّا رَأَيْتُ حَمَاقَاتِهِمْ أَقَمْتُ عَلَى حَذَرٍ، وَتَرَدَّدْتُ فِيهَا عَلَى أَقْوَامٍ أَهْلِ عَقَائِدَ سَلِيمَةٍ، وَلَبِثْتُ بَيْنَهُمْ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ خَرَجْتُ إِلَى الشَّامِ فوردت بيت المقدس، فألفيت فيها ثمانياً وعشرين حلقة ومدرستين: مدرسة للشافعية بباب الأسباط، وأخرى للحنفية، وكان فيه من رؤوس العلماء، ورؤوس الْمُبْتَدِعَةِ، وَمِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَثِيرٌ، فَوَعَيْتُ الْعِلْمَ، وَنَاظَرْتُ كُلَّ طَائِفَةٍ بِحَضْرَةِ شَيْخِنَا أَبِي بكر الفهري وغيره من أهل السنة.
_________
(1) في (م): "لا نجد".
(2) قوله: "الفرقة" ليس في (خ) و (م).
(3) في (خ): "موضوعها".
(4) في (غ): "معصوم".
(5) صفحة (44).
(6) في (غ) و (ر): "إنه".
(7) في (غ) و (ر): "هاهنا موقعها".
(8) في "العواصم" (ص45 ـ 53)، وسبق أن أورد المصنف كلام ابن العربي هذا في المجلد الأول (ص260)، مع بعض الاختلاف، ولم ترد هذه القصة في (خ) و (م)؛ اكتفاء بورودها في أول موضع.(2/78)
ثُمَّ نَزَلْتُ إِلَى السَّاحِلِ لِأَغْرَاضٍ، وَكَانَ مَمْلُوءًا مِنْ هَذِهِ النِّحَلِ الْبَاطِنِيَّةِ والإِمامية، فَطُفْتُ فِي مُدُنِ السَّاحِلِ لِتِلْكَ الْأَغْرَاضِ نَحْوًا مِنْ خَمْسَةِ أَشْهُرٍ، وَنَزَلْتُ عَكَّا (1)، وَكَانَ رَأْسَ الإِمامية بِهَا حينئذٍ أَبُو الْفَتْحِ العَكِّي، وَبِهَا مِنْ أَهْلِ السنة شيخ يقال له: الفقيه الدبيقي، فَاجْتَمَعْتُ بِأَبِي الْفَتْحِ فِي مَجْلِسِهِ وَأَنَا ابْنُ الْعِشْرِينَ، فَلَمَّا رَآنِي صَغِيرَ السِّنِّ، كَثِيرَ الْعِلْمِ، متدرِّباً، وَلِعَ بِي، وَفِيهِمْ ـ لَعَمْرُ اللَّهِ! وَإِنْ كَانُوا عَلَى بَاطِلٍ ـ انْطِبَاعٌ وَإِنْصَافٌ وَإِقْرَارٌ بِالْفَضْلِ إذا ظهر، فكان لا يفارقني، ويساومني في الجدال ولا يفاترني، فتكلمت على إبطال مذهب الإمامية، والقول بالتعليم مِنَ الْمَعْصُومِ بِمَا يَطُولُ ذِكْرُهُ.
وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ لِلَّهِ فِي عِبَادِهِ أسراراً وأحكاماً، والعقل لا يستقلّ بإدراكها، فَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ إِلَّا مِنْ قِبَلِ إِمَامٍ مَعْصُومٍ. فَقُلْتُ لَهُمْ: أَمَاتَ الْإِمَامُ المبلِّغ عَنِ اللَّهِ لِأَوَّلِ مَا أَمَرَهُ بِالتَّبْلِيغِ أَمْ هُوَ مُخَلَّد؟ فَقَالَ لِي: "مَاتَ"، وَلَيْسَ هَذَا بِمَذْهَبِهِ، وَلَكِنَّهُ تستَّر مَعِي. فَقُلْتُ: هَلْ خَلَفَهُ أَحَدٌ؟ فقال: خَلَفَهُ وصيُّه عَليّ. فقلت: فهل قضى بالحق وأنفذه؟ أم لا؟ قال: لم يتمكَّن بغلبة الْمُعَانِدِ. قُلْتُ: فَهَلْ أَنْفَذَهُ حِينَ قَدَرَ؟ قَالَ: مَنَعَتْهُ التَّقِيَّةُ وَلَمْ تُفَارِقْهُ إِلَى الْمَوْتِ، إِلَّا أَنَّهَا كَانَتْ تَقْوَى تَارَةً، وَتَضْعُفُ أُخْرَى، فَلَمْ يمكن إلاّ المُدَاراة لِئَلَّا تَنْفَتِحَ عَلَيْهِ أَبْوَابُ الِاخْتِلَالِ. قُلْتُ: وَهَذِهِ المداراة حق أم لا؟ قال: بَاطِلٌ أَبَاحَتْهُ الضَّرُورَةُ. قُلْتُ: فَأَيْنَ الْعِصْمَةُ؟ قَالَ: إِنَّمَا تُغْنِي الْعِصْمَةُ مَعَ الْقُدْرَةِ، قُلْتُ: فَمَنْ بَعْدَهُ إِلَى الْآنَ وَجَدُوا الْقُدْرَةَ أَمْ لَا؟ قال: لا. قلت: فالدين مهمل، والحق خامل؟ قَالَ: سَيَظْهَرُ. قُلْتُ: بِمَنْ؟ قَالَ: بِالْإِمَامِ الْمُنْتَظَرِ. قُلْتُ: لَعَلَّهُ الدَّجَّالُ؟ فَمَا بَقِيَ أَحَدٌ إِلَّا ضَحِكَ، وَقَطَعْنَا الْكَلَامَ عَلَى غَرَضٍ مِنِّي لِأَنِّي خفت أن أفحمه فَيَنْتَقِمُ مِنِّي فِي بِلَادِهِ.
ثُمَّ قُلْتُ: وَمِنْ أَعْجَبِ مَا فِي هَذَا الْكَلَامِ: أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا أَوْعَزَ إِلَى مَنْ لَا قُدْرَةَ لَهُ فَقَدْ ضيَّع فَلَا عِصْمَةَ لَهُ. وَأَعْجَبُ مِنْهُ: أن الباري تعالى
_________
(1) وهي بلد على ساحل بحر الشام كما في "معجم البلدان" (4/ 143).(2/79)
ـ عَلَى مَذْهَبِهِ ـ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا عِلْمَ إلا بمعلم، وأرسله عاجزاً مضعوفاً، لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ مَا عَلِمَ، فَكَأَنَّهُ مَا عَلَّمَهُ وَمَا بَعَثَهُ. وَهَذَا عَجْزٌ مِنْهُ وَجَوْرٌ، لَا سيَّما عَلَى مَذْهَبِهِمْ. فَرَأَوْا مِنَ الْكَلَامِ مَا لَمْ يُمْكِنْهُمْ أَنْ يَقُومُوا مَعَهُ بِقَائِمَةٍ، وَشَاعَ الْحَدِيثُ، فَرَأَى رَئِيسُ الْبَاطِنِيَّةِ المُسَمَّيْن بِالْإِسْمَاعِيلِيَّةِ أَنْ يَجْتَمِعَ مَعِي. فَجَاءَنِي أَبُو الْفَتْحِ إلى مجلس الفقيه الدبيقي، وقال لي: إِنَّ رَئِيسَ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ رَغِبَ فِي الْكَلَامِ مَعَكَ، فقلت: أنا مشغول، فقال: هاهنا مَوْضِعٌ مرتَّب قَدْ جَاءَ إِلَيْهِ، وَهُوَ مَحْرَسُ الطَّبَرَانيين ـ مَسْجِدٌ فِي قَصْرٍ عَلَى الْبَحْرِ ـ، وَتَحَامَلَ عَلَيَّ، فقمت ما بين حشمة وحسبة، ودخلنا قصر الْمَحْرَس، وصعدنا إِلَيْهِ، فَوَجَدْتُهُمْ قَدِ اجْتَمَعُوا فِي زَاوِيَةِ الْمَحْرَسِ المشرقية، فرأيت النكراء فِي وُجُوهِهِمْ، فَسَلَّمْتُ، ثُمَّ قَصَدْتُ جِهَةَ الْمِحْرَابِ، فَرَكَعْتُ عِنْدَهُ رَكْعَتَيْنِ، لَا عَمَلَ لِي فِيهِمَا إِلَّا تَدْبِيرُ الْقَوْلِ مَعَهُمْ، وَالْخَلَاصُ مِنْهُمْ. فَلَعَمْرُ الَّذِي (1) قَضَى عَلَيَّ بِالْإِقْبَالِ إِلَى أَنْ أُحَدِّثَكُمْ، إِنْ كُنْتُ رَجَوْتُ الْخُرُوجَ عَنْ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ أبداً، ولقد كنت أنظر إلى الْبَحْرِ يَضْرِبُ فِي حِجَارَةٍ سُودٍ مُحَدَّدَةٍ تَحْتَ طَاقَاتِ الْمَحْرَسِ، فَأَقُولُ: هَذَا قَبْرِي الَّذِي يَدْفِنُونِي فِيهِ، وَأُنْشِدُ فِي سِرِّي:
أَلَا هَلْ إِلَى الدُّنْيَا مَعَادٌ؟ وَهَلْ لَنَا ... سِوَى الْبَحْرِ قَبْرٌ؟ أَوْ سِوَى الْمَاءِ أَكْفَانُ
وَهِيَ (2) كَانَتِ الشِّدَّةَ الرابعة من شدائد عمري التي أَنْقَذَنِي اللَّهُ مِنْهَا، فَلَمَّا سَلَّمْتُ اسْتَقْبَلْتُهُمْ وَسَأَلْتُهُمْ عَنْ أَحْوَالِهِمْ عَادَةً، وَقَدِ اجْتَمَعَتْ إليَّ نَفْسِي، وَقُلْتُ: أَشْرَفُ مِيتَةٍ فِي أَشْرَفِ مَوْطِنٍ أُنَاضِلُ فِيهِ عَنِ الدِّينِ. فَقَالَ لِي أَبُو الْفَتْحِ ـ وَأَشَارَ إِلَى فَتًى حَسَنِ الْوَجْهِ ـ: هَذَا سَيِّدُ الطائفة ومقدَّمها، فدعوت له وسكتّ، فبدرني وقال لي: قد بلغتني مجالسك، وانتهى إِلَيَّ كَلَامُكَ، وَأَنْتَ تَقُولُ: قَالَ اللَّهُ وَفَعَلَ الله، فَأَيُّ شَيْءٍ هُوَ اللَّهُ الَّذِي تَدْعُو إِلَيْهِ؟! أَخْبِرْنِي وَاخْرُجْ عَنْ هَذِهِ المَخْرَقَة (3) الَّتِي جَازَتْ لك على هذه
_________
(1) في (ر): "فلعمر الله"، ثم صوبت في الهامش.
(2) قوله: "وهي" من (ر) فقط.
(3) أي: الكذب والاختلاق.(2/80)
الطَّائِفَةِ الضَّعِيفَةِ وَقَدِ احْتَدَّ نَفَساً، وَامْتَلَأَ غَيْظًا، وَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَلَمْ أَشُكَّ أَنَّهُ لَا يُتِمُّ الْكَلَامَ إِلَّا وَقَدِ اخْتَطَفَنِي أَصْحَابُهُ قَبْلَ الْجَوَابِ. فَعَمَدْتُ ـ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ ـ إِلَى كِنَانَتِي، وَاسْتَخْرَجْتُ مِنْهَا سَهْمًا أَصَابَ حَبَّةَ قَلْبِهِ فَسَقَطَ لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِ.
وَشَرْحُ ذَلِكَ: أَنَّ الْإِمَامَ أَبَا بَكْرٍ أَحْمَدَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ الْإِسْمَاعِيلِيَّ الْحَافِظَ الْجُرْجَانِيَّ قَالَ: كُنْتُ أُبَغِّضُ النَّاسَ فِيمَنْ يَقْرَأُ عِلْمَ الْكَلَامِ، فدخلت يوماً إلى الرَّيّ (1)، فدخلت جَامِعَهَا أوَّل دُخُولِي، وَاسْتَقْبَلْتُ سَارِيَةً أَرْكَعُ عِنْدَهَا، وَإِذَا بِجِوَارِي رَجُلَانِ يَتَذَاكَرَانِ عِلْمَ الْكَلَامِ، فتطيَّرت بِهِمَا، وَقُلْتُ: أَوَّلَ مَا دَخَلْتُ هَذَا الْبَلَدَ سَمِعْتُ فِيهِ مَا أَكْرَهُ، وَجَعَلْتُ أخفِّف الصَّلَاةَ حَتَّى أُبْعِدَ عَنْهُمَا، فَعَلِقَ بِي مِنْ (2) قَوْلِهِمَا: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْبَاطِنِيَّةَ أَسْخَفُ خَلْقِ اللَّهِ عُقُولًا، وينبغي للنحرير ألا يتكلَّف لَهُمْ دَلِيلًا، وَلَكِنْ يُطَالِبُهُمْ بِـ"لِمَ؟ " فَلَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا، وسلَّمت مُسْرِعًا.
وَشَاءَ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ كَشَفَ رَجُلٌ مِنَ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ الْقِنَاعَ فِي الْإِلْحَادِ، وَجَعَلَ يُكَاتِبُ وَشْمَكِيرَ الْأَمِيرَ يَدْعُوهُ إِلَيْهِ وَيَقُولُ لَهُ: إِنِّي لَا أَقْبَلُ دِينَ مُحَمَّدٍ إِلَّا بِالْمُعْجِزَةِ، فَإِنْ أَظْهَرْتُمُوهَا رَجَعْنَا إِلَيْكُمْ، وانجرَّت الْحَالُ إِلَى أَنِ اخْتَارُوا منهم جلاً لَهُ دَهَاءٌ وَمُنَّة (3)، فَوَرَدَ عَلَى وَشْمَكِيرَ رَسُولًا، فَقَالَ لَهُ: إِنَّكَ أَمِيرٌ، وَمِنْ شَأْنِ الْأُمَرَاءِ وَالْمُلُوكِ أَنْ تَتَخَصَّصَ عَنِ الْعَوَامِّ، وَلَا تقلِّد في عقيدتها، وإنما حقهم أن يفحصوا عن البراهين. فقال له وَشْمَكِيرُ: اخْتَرْ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ مَمْلَكَتِي، وَلَا أُنْتَدَبُ لِلْمُنَاظَرَةِ بِنَفْسِي، فَيُنَاظِرُكَ بَيْنَ يَدَيَّ. فَقَالَ لَهُ الْمُلْحِدُ: أَخْتاَرُ أَبَا بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيَّ؛ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ عِلْمِ التَّوْحِيدِ، وَإِنَّمَا كان إماماً في الحديث، ولكن كان
_________
(1) لرَّيّ: مدينة مشهورة، من أمهات البلاد، وأعلام المدن، كثيرة الفواكه والخيرات، وهي محط الحاج على طريق السابلة، وقضية بلاد الجبال، بينها وبين نيسابور مِئَةٌ وستون فرسخاً، وإلى قزوين سبعة وعشرون فرسخاً اهـ من "معجم البلدان" (3/ 116).
(2) قوله: "من" ليس في (غ).
(3) الْمُنَّةُ: القوَّة، وخصّ بعضهم به قوّة القلب. "لسان العرب" (13/ 415).(2/81)
وشمكير ـ بعامِّيَّتِهِ ـ يعتقد فيه أنه أعلم وجه الْأَرْضِ (1) بِأَنْوَاعِ الْعُلُومِ.
فَقَالَ وَشْمَكِيرُ: ذَلِكَ مُرَادِي، رَجُلٌ جيِّد. فَأَرْسَلَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيِّ بجُرْجان (2) لِيَرْحَلَ إِلَيْهِ إِلَى غَزْنَةَ (3). فَلَمْ يَبْقَ أحد من العلماء إلاّ أَيِسَ مِنَ الدِّين، وَقَالَ: سَيَبْهَتُ الإسماعيليُّ الكافرُ مَذْهَبًا الإسماعيليَّ الحافظَ نسباً، وَلَمْ يُمْكِنْهُمْ أَنْ يَقُولُوا للملِكِ: إِنَّهُ لَا علم عنده بذلك لئلا يتهمهم، فلجأوا إِلَى اللَّهِ فِي نَصْرِ دِينِهِ.
قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: فَلَمَّا جَاءَنِي الْبَرِيدُ، وَأَخَذْتُ فِي الْمَسِيرِ، وَتَدَانَتْ بي الدَّارُ؛ قُلْتُ: إِنَّا لِلَّهِ! وَكَيْفَ أُنَاظِرُ فِيمَا لَا أَدْرِي؟ هَلْ أَتَبَرَّأُ عِنْدَ الْمَلِكِ وَأُرْشِدُهُ إلى من يحسن الجَدَلَ، ويعلم حجج الله على دينه؟ وندمت على ما سلف من عمري ولم أَنْظُرْ فِي شَيْءٍ مِنْ عِلْمِ الْكَلَامِ، ثُمَّ أَذْكَرَنِي اللَّهُ مَا كُنْتُ سَمِعْتُهُ مِنَ الرَّجُلَيْنِ بِجَامِعِ الرَّيّ، فَقَوِيَتْ نَفْسِي، وعَوَّلت عَلَى أَنْ أَجْعَلَ ذَلِكَ عُمْدَتِي، وَبَلَغْتُ الْبَلَدَ، فَتَلَقَّانِي الْمَلِكُ ثم جمع الْخَلْقِ، وَحَضَرَ الإسماعيليُّ الْمَذْهَبِ مَعَ الإسماعيليِّ النَّسَبِ، وَقَالَ الْمَلِكُ لِلْبَاطِنِيِّ: أُذْكُرْ قَوْلَكَ يَسْمَعُهُ الْإِمَامُ. فَلَمَّا أَخَذَ فِي ذِكْرِهِ وَاسْتَوْفَاهُ، قَالَ لَهُ الحافظ: "لِمَ"؟ فلما سَمِعَهَا الْمُلْحِدُ قَالَ: هَذَا إِمَامٌ قَدْ عَرَفَ مَقَالَتِي، فبُهِتَ.
قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: فَخَرَجْتُ مِنْ ذَلِكَ، وَأَمَرْتُ بِقِرَاءَةِ عِلْمِ الْكَلَامِ، وَعَلِمْتُ أَنَّهُ عُمْدَةٌ مِنْ عُمَدِ الْإِسْلَامِ (4).
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَحِينَ انتهى بي الْأَمْرُ إِلَى ذَلِكَ الْمَقَامِ قُلْتُ: إِنْ كَانَ في الأجل نساء فَهَذَا شَبِيهٌ بِيَوْمِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، فوجَّهت إِلَى أَبِي الفتح الإمامي، وَقُلْتُ لَهُ: لَقَدْ كُنْتُ فِي لَا شَيْءَ، ولو خرجت من عَكّا قبل أن
_________
(1) في (غ): "وجه الله".
(2) جرجان: مدينة مشهورة عظيمة بين طبرستان وخراسان. "معجم البلدان" (2/ 119).
غَزْنَةُ: مدينة عظيمة، وولاية واسعة في طرف خراسان، وهي الحدّ بين الهند وخراسان "معجم البلدان" (4/ 201).
(3) انظر تعليق الشيخ محمد الشقير على هذا الكلام في الجزء الأول من هذا الكتاب (ص268).(2/82)
أَجْتَمِعَ بِهَذَا الْعَالِمِ مَا رَحَلْتُ إِلَّا عَرِيًّا عن نادرة الأيام، انظر إلى حذفه بالكلام ومعرفته؛ قَالَ لِي: أَيُّ شَيْءٍ هُوَ اللَّهُ؟ وَلَا يسأل مثل هَذَا إِلَّا مِثْلُهُ. وَلَكِنْ بَقِيَتْ هَاهُنَا نُكْتَةٌ لا بد أَنْ نَأْخُذَهَا الْيَوْمَ عَنْهُ، وَتَكُونُ ضِيَافَتُنَا عِنْدَهُ. لِمَ قُلْتَ: "أَيُّ شَيْءٍ هُوَ اللَّهُ"؟ فَاقْتَصَرْتَ مِنْ حُرُوفِ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى "أَيِّ"، وَتَرَكْتَ الْهَمْزَةَ وهل وكيف وأين وكم وما، وهي أَيْضًا مِنْ ثَوَانِي حُرُوفِ الِاسْتِفْهَامِ، وعَدَلْتَ عَنِ اللام (1) من حروفه، فهذا سؤال ثاني عن حكمة ثانية، ولأي معنيان فِي الِاسْتِفْهَامِ، فَأَيَّ الْمَعْنَيَيْنِ قَصَدْتَ بِهَا؟ ولِمَ سألتَ بِحَرْفٍ مُحْتَمِلٍ (2)؟ وَلَمْ تَسْأَلْ بِحَرْفٍ مُصَرِّحٍ بمعنى واحد؟ هل وقع ذلك منك بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا قَصْدِ حِكْمَةٍ؟ أَمْ بِقَصْدِ حِكْمَةٍ؟ فبيِّنْها لَنَا.
فَمَا هُوَ إِلَّا أَنِ افْتَتَحْتُ هَذَا الْكَلَامَ، وَانْبَسَطْتُ فِيهِ، وَهُوَ يَتَغَيَّرُ، حَتَّى اصفرَّ آخِرًا مِنَ الوَجَل، كَمَا اسْوَدَّ أَوَّلًا مِنَ الْحِقْدِ، وَرَجَعَ أَحَدُ أَصْحَابِهِ الَّذِي كَانَ عَنْ يَمِينِهِ إِلَى آخَرَ كَانَ بِجَانِبِهِ، وَقَالَ لَهُ: مَا هَذَا الصَّبِيُّ إِلَّا بَحْرٌ زَاخِرٌ مِنَ الْعِلْمِ، مَا رَأَيْنَا مِثْلَهُ قَطُّ، وهم ما رأوا أحداً به رَمَقٌ؛ لِأَنَّ الدَّوْلَةَ لَهُمْ، وَلَوْلَا مَكَانُنَا مِنْ رِفْعَةِ الدولة ملك الشام، وأن والي عكا كان يحظينا، مَا تخلَّصت مِنْهُمْ فِي الْعَادَةِ (3) أَبَدًا.
وَحِينَ سَمِعْتُ تِلْكَ الْكَلِمَةَ مِنْ إِعْظَامِي؛ قُلْتُ: هَذَا مَجْلِسٌ عَظِيمٌ، وَكَلَامٌ طَوِيلٌ، يَفْتَقِرُ إِلَى تَفْصِيلٍ، ولكن يتواعد إِلَى يَوْمٍ آخَرَ، وَقُمْتُ وَخَرَجْتُ فَقَامُوا كُلُّهُمْ مَعِي، وَقَالُوا: لَا بُدَّ أَنْ تَبْقَى قَلِيلًا، فَقُلْتُ: لَا، وَأَسْرَعْتُ حَافِيًا وَخَرَجْتُ عَلَى الْبَابِ أغدو حتى أشرفت على قارعة الطريق، وبقيت هنالك مُبَشِّرًا نَفْسِي بِالْحَيَاةِ، حَتَّى خَرَجُوا بَعْدِي، وَأَخْرَجُوا لي [لالكي] (4)، وَلَبِسْتُهَا، وَمَشَيْتُ مَعَهُمْ مُتَضَاحِكًا، وَوَعَدُونِي بِمَجْلِسٍ آخَرَ فَلَمْ أُوْفِ لَهُمْ، وَخِفْتُ وَفَاتِي فِي وَفَائِي.
_________
(1) في (غ) و (ر): "الام".
(2) في (غ): "مكتمل".
(3) في (غ): "الغادة".
(4) في (ر) و (غ): "الألكى"، وتقدم على الصواب في (1/ 269)، وكذا هو على الصواب=(2/83)
قال ابن العربي: وقد كان قَالَ لِي أَصْحَابُنَا النَّصْرِيَّةُ بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى: إِنَّ شَيْخَنَا أَبَا الْفَتْحِ نَصْرَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ الْمَقْدِسِيَّ اجْتَمَعَ بِرَئِيسٍ مِنَ الشِّيعَةِ، فَشَكَا إِلَيْهِ فَسَادَ الْخَلْقِ، وَأَنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا يَصْلُحُ إِلَّا بخروج الإمام المنتظر، فقال له نصر: هل لخروجه ميقات معلوم أَمْ لَا؟ قَالَ الشِّيعِيُّ: نَعَمْ، قَالَ لَهُ أبو الفتح: ومعلوم هو أم مَجْهُولٌ؟ قَالَ: مَعْلُومٌ. قَالَ نَصْرٌ: وَمَتَى يَكُونُ؟ قَالَ: إِذَا فَسَدَ الْخَلْقُ. قَالَ أَبُو الْفَتْحِ: فلم تحبسونه عن الخلق قد فَسَدَ جَمِيعُهُمْ إِلَّا أَنْتُمْ، فَلَوْ فَسَدْتُمْ لَخَرَجَ، فَأَسْرِعُوا بِهِ وَأَطْلِقُوهُ مِنْ سِجْنِهِ، وَعَجِّلُوا بِالرُّجُوعِ إلى مذهبنا، فبُهِتَ. وأظن أنه سَمِعَهَا عَنْ شَيْخِهِ أَبِي الْفَتْحِ سُلَيْمَانَ بْنِ أَيُّوبَ الرَّازِيِّ الزَّاهِدِ. انْتَهَى مَا حَكَاهُ ابْنُ العربي عن نفسه وغيره، وفيه غُنية في هذا المقام.
وَتَصَوُّرُ الْمَذْهَبِ كافٍ فِي ظُهُورِ بُطْلَانِهِ، إِلَّا أَنه مَعَ ظُهُورِ فَسَادِهِ وبُعده عَنِ الشَّرْعِ قَدِ اعْتَمَدَهُ طَوَائِفُ، وَبَنَوْا عَلَيْهِ بِدَعًا فَاحِشَةً، مِنْهَا: مَذْهَبُ الْمَهْدِيِّ الْمَغْرِبِيِّ، فإِنه عَدَّ نَفْسَهُ الْإِمَامَ الْمُنْتَظَرَ، وأَنه مَعْصُومٌ، حَتَّى أَن مَنْ شَكَّ فِي عِصْمَتِهِ، أَو فِي (1) أَنَّهُ الْمَهْدِيُّ المنتظر فهو كَافِرٌ.
وَقَدْ زَعَمَ ذَوُوهُ أَنه أَلَّف فِي الإِمامة كِتَابًا ذَكَرَ فِيهِ أَن اللَّهَ اسْتَخْلَفَ آدَمَ وَنُوحًا وإِبراهيم وَمُوسَى وَعِيسَى وَمُحَمَّدًا عَلَيْهِمُ السلام، وأَن مدة الخلافة
_________
=في بعض نسخ "العواصم"، وفي بعضها: "لالكتى"، وهو صحيح أيضاً، وهو الذي أثبته المحقق. واللالكة ـ ويقال: اللالجةِ ـ: ضرب من النعال كما في حاشية د. إحسان عباس على "معجم الأدباء" لياقوت الحموي (1/ 373) (ترجمة أحمد بن علي أبي الحسن البتّي، الكاتب)؛ تعليقاً على قوله: "وكان يلبس الخفين، والمبطّنة، ويتعمم العمَّة الثغرية، وإن لبس لالجة لم تكن إلا مربديّة".
ووقع في "الكامل" لابن الأثير (10/ 115): "فنصب منجنيقاً ... ، وخرج جماعة من العامة فأخذوه، وجرى عنده قتال كثير، فأخذ بعض العامة لالكة من رجليه فيها المسامير الكثيرة، ورمى بها أميراً يقال له: جاولي الأسدي وكبيرهم، فأصاب صدره، فوجد لذلك ألماً شديداً، وأخذ اللاكة، وعاد عن القتال إلى صلاح الدين، وقال: قد قاتلنا أهل الموصل بحماقات ما رأينا بعد مثلها، وألقى اللاكة، وحلف أنه لا يعود يقاتل عليها أنَفَةً حين ضرب بهذه".اهـ.
(1) قوله: "في" ليس في (غ) و (ر).(2/84)
ثَلَاثُونَ سُنَّةً، وَبَعْدَ ذَلِكَ فِرَق وأَهواءُ، وشُح مُطاع، وهَوًى مُتَّبع، وَإِعْجَابُ كُلِّ ذِي رَأْيٍ برَأْيِهِ، فَلَمْ يَزَلِ الأَمر عَلَى ذَلِكَ، وَالْبَاطِلُ ظَاهِرٌ وَالْحَقُّ كَامِنٌ، وَالْعِلْمُ مَرْفُوعٌ ـ كَمَا أَخبر عليه الصلاة والسلام ـ والجهل ظاهر، لم يَبْقَ مِنَ الدِّينِ إِلَّا اسْمُهُ، وَلَا مِنَ الْقُرْآنِ إِلا رَسْمُه، حَتَّى جاءَ اللَّهُ بالإِمام، فأَعاد الله بِهِ الدِّينَ ـ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ـ: "بَدَأَ الْإِسْلَامُ (1) غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ" (2)، وَقَالَ: إِنَّ طَائِفَتَهُ هُمُ الغرباءُ، زَعْمًا مِنْ غَيْرِ بُرْهَانٍ زَائِدٍ عَلَى الدَّعْوَى، وَقَالَ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ: جاءَ اللَّهُ بِالْمَهْدِيِّ وَطَاعَتُهُ صَافِيَةٌ نقيَّة، لَمْ يُرَ (3) مِثْلُهَا قَبْلُ وَلَا بَعْدُ، وأَن بِهِ قَامَتِ (4) السَّمَوَاتُ والأَرض، وَبِهِ (5) تَقُومُ، وَلَا ضِدَّ لَهُ (6)، وَلَا مِثْلَ، ولا ندّ (7)، وكذب! تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِ، وَهَذَا كَمَا نزَّل أَحَادِيثَ التِّرْمِذِيِّ وَأَبِي دَاوُدَ فِي الْفَاطِمِيِّ (8) عَلَى نفسه وأَنه هو
_________
(1) في (خ): "الدين" بدل "الإسلام".
(2) تقدم تخريجه (ص65).
(3) في (م): "تر".
(4) في (غ) و (ر): "قد قامت".
(5) في (خ): "به".
(6) قوله: "له" ليس في (غ).
(7) في (غ) و (ر): "ولا ندّ ولا مثل".
(8) يعني أحاديث المهدي، ومن أهمها: حديث ابن مسعود، وأبي سعيد الخدري، وأم سلمة رضي الله عنهم.
أما حديث ابن مسعود: فيرويه عاصم بن أبي النَّجود، عن زرّ بن حبيش، عن عبد الله بن مسعود، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لو لم يبق من الدنيا إلا يوم، لطوَّل الله ذلك اليوم حتى يُبعث فيه رجل مني ـ أو: من أهل بيتي ـ يواطئ اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي، يَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطًا وَعَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ ظُلماً وجوراً".
أخرجه أبو داود (4281) واللفظ له، والترمذي (2230 و2231)، وقال: "هذا حديث حسن صحيح".
وصححه ابن حبان (6824 و6825/ الإحسان).
وأما حديث أبي سعيد: فأخرجه أحمد (3/ 17، 21 ـ 22، 26 ـ 27، 28، 36، 37، 52، 70)، وأبو يعلى (987، 1128)، وابن حبان (6823، 6826)، ثلاثتهم من طريق أبي الصديق النَّاجي، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: "لا تقوم الساعة حتى تمتلئ الأرض ظلماً وعدواناً، ثم يخرج رجل من أهل بيتي ـ أو عترتي ـ، فيملؤها قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وعدواناً".
وسنده صحيح. وأخرجه الترمذي (2232) وحسنه.=(2/85)
بِلَا (1) شَكٍّ.
وأَول إِظهاره لِذَلِكَ: أَنه قَامَ فِي أَصحابه خَطِيبًا، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الفعَّال لما يريد، القاضي بما يشاءُ، لَا رادَّ لأَمره، وَلَا معقِّب لِحُكْمِهِ، وصلى الله على النبي المبشِّر بالمهدي الذي (2) يملأُ الأَرض قِسْطًا وَعَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ ظُلْمًا وَجَوْرًا، يَبْعَثُهُ اللَّهُ إِذا نُسخ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ، وأُزيل العدل بالجور، مكانه المغرب (3) الأَقصى، وزمانه آخر الزمان (4)، واسمه اسم النبي عليه الصلاة والسلام، وَنَسَبَهُ نَسَبُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ ظَهَرَ جَوْرُ الأُمراء، وامتلأَت الأَرض بِالْفَسَادِ، وَهَذَا آخِرُ الزَّمَانِ، وَالِاسْمُ الِاسْمُ، والنَّسَبُ النَّسَبُ، وَالْفِعْلُ الْفِعْلُ، يُشِيرُ إِلى مَا جاءَ فِي أَحاديث الفاطمي.
فلما فرغ من كلامه (5) بَادَرَ (6) إِليه مِنْ أَصحابه عَشَرَةٌ، فَقَالُوا: هَذِهِ الصِّفَةُ لَا تُوجَدُ إِلا فِيكَ، فأَنت الْمَهْدِيُّ، فَبَايَعُوهُ عَلَى ذَلِكَ، وَأَحْدَثَ فِي دِينِ اللَّهِ أَحْدَاثًا كَثِيرَةً زِيَادَةً إِلَى الْإِقْرَارِ بِأَنَّهُ الْمَهْدِيُّ المعلوم، والتخصيص
_________
=وأخرجه الحاكم في "المستدرك" (4/ 558)، وصححه على شرط مسلم.
وأخرجه (4/ 557) هو وأبو داود (4284) من طريق أبي نضرة، عن أبي سعيد.
وانظر تخريجه بتوسُّع في تعليقي على "مختصر المستدرك" (1150 و1151) إن شئت.
وأما حديث أم سلمة: فأخرجه أبو داود (4283) من طريق زياد بن بيان، عن
علي بن نفيل، عن سعيد بن المسيب، عن أم سلمة قالت: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: "المهدي من عترتي من ولد فاطمة".
وأخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" (3/ 346) وقال: "في إسناده نظر".
وأخرجه ابن عدي في "الكامل" (3/ 196) وقال: "والبخاري إنما أنكر من حديث زياد بن بيان هذا الحديث، وهو معروف به".
وأخرجه العقيلي في "الضعفاء" (2/ 75) و (3/ 254) وقال: "لا يتابع عليه، ولا يعرف إلا به".
وأعله ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (1446).
(1) في (غ) و (ر): "غير" بدل "بلا".
(2) قوله: "الذي" ليس في (خ).
(3) في (خ): "بالمغرب".
(4) في (خ): "الأزمان".
(5) قوله: "من كلامه" ليس في (خ) و (م).
(6) في (خ): "نادر".(2/86)
بِالْعِصْمَةِ، ثُمَّ وُضِعَ ذَلِكَ فِي الْخُطَبِ، وضُرِبَ فِي السِّكَك، بَلْ كَانَتْ تِلْكَ الْكَلِمَةُ عِنْدَهُمْ ثالثة الشهادتين (1)، فَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهَا، أَو شَكَّ فِيهَا، فَهُوَ كَافِرٌ كَسَائِرِ الْكُفَّارِ. وَشَرَعَ الْقَتْلَ فِي مَوَاضِعَ لَمْ يَضَعْهُ الشَّرْعُ فِيهَا، وَهِيَ نَحْوٌ مَنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا؛ كَتَرْكِ امْتِثَالِ أَمر مَنْ يَستمع أَمره، وَتَرْكِ حُضُورِ مَوَاعِظِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَالْمُدَاهَنَةُ إِذا ظَهَرَتْ فِي أَحد قُتِل، وأَشياءُ كثيرة.
وكان مذهبه الظَّاهِرِيَّةَ (2)، وَمَعَ ذَلِكَ فَابْتَدَعَ أَشياءَ؛ كوجوهٍ مِنَ التثويب؛ إِذ كانوا ينادون عند الصلاة بـ"تاصاليت (3) الإِسلام" و"بتقام (4) تاصاليت" (2) و"سودرتن" (5) و"باردي" (6) و"أَصبح وَلِلَّهِ الْحَمْدُ" (7) وَغَيْرِهِ (8)، فَجَرَى الْعَمَلُ بِجَمِيعِهَا فِي زَمَانِ الموحِّدين، وَبَقِيَ أَكثرها بَعْدَمَا انْقَرَضَتْ دَوْلَتُهُمْ، حَتَّى إِني أَدركت بِنَفْسِي فِي جَامِعِ غَرْنَاطَةَ الأَعظم الرضا عَنِ الإِمام الْمَعْصُومِ، الْمَهْدِيِّ الْمَعْلُومِ، إِلى أَن أُزيلت وبقيت أَشياءُ كثيرة غُفل عَنْهَا أَو أُغفلت (9).
وَقَدْ كَانَ السُّلْطَانُ أَبو العُلَى (10) إِدريس بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ بْنِ عَلِيٍّ مِنْهُمْ، ظَهَرَ لَهُ قُبْحُ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْابْتِدَاعَاتِ، فأَمر ـ حين استقرّ بمرَّاكش خليفة (11) ـ بإِزالة جميع ما ابتُدع
_________
(1) في (خ) و (م): "الشهادة".
(2) في (خ): "البدعة الظاهرية".
(3) في (غ) و (ر): "تاصليت".
(4) في (غ) و (ر): "وتقام"، وفي (م) يشبه أن تكون: "وبيقام".
(5) في (خ): "وسوردين"، وفي (م): "وسودرين".
(6) في (ر) و (غ): "وتاردي"، وسيأتي غير هذا الضبط.
(7) ذكر أبو العباس الناصري في "الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى" (1/ 96) في ترجمة محمد بن تومرت: أنه أول من أحدث "أصبح ولله الحمد" في أذان الصبح. وانظر "معجم المناهي اللفظية" للشيخ بكر أبو زيد، لفظة "أصبح ولله الحمد"، وما سيأتي (ص259).
(8) في (ر) و (غ): "وغير ذلك".
(9) في (ر) و (غ): "وأغفلت".
(10) في (خ): "العلاء"، وهو خطأ، انظر: ترجمته في "سير أعلام النبلاء" (22/ 342).
(11) في (خ): "خليفته".(2/87)
مِنْ قَبْلِهِ، وَكَتَبَ بِذَلِكَ رِسَالَةً إِلى الأَقطار يأَمر (1) فيها بتغيير تلك السِّيَر (2)، وَيُوصِي بِتَقْوَى اللَّهِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وأَنه قَدْ نَبَذَ الْبَاطِلَ وأَظهر الْحَقَّ، وأَن لا مهدي إلاَّ عيسى (3)، وأَن ما ادعوا من أَنه (4) الْمَهْدِيُّ بِدْعَةٌ أَزالها، وأَسقط اسْمَ مَنْ لَا تُثْبِتُ عِصْمَتُهُ.
وَذَكَرَ أَن أَباه الْمَنْصُورَ هَمَّ بأَن (5) يَصْدَعَ بِمَا بِهِ صَدْعَ، وأَن يرقع الخرق الَّذِي رَقَعَ، فَلَمْ يُسَاعِدْهُ الأَجل لِذَلِكَ، ثُمَّ لَمَّا مَاتَ وَاسْتُخْلِفَ ابْنُهُ أَبو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمُلَقَّبُ بِالرَّشِيدِ، وَفَدَ إِليه جَمَاعَةٌ (6) مِنْ أَهل ذلك المذهب الْمُتَسَمِّين بالموحِّدين، فَفَتَلُوا مِنْهُ فِي الذِّرْوة وَالْغَارِبِ، وَضَمِنُوا عَلَى (7) أَنفسهم الدُّخُولَ تَحْتَ طَاعَتِهِ، وَالْوُقُوفَ عَلَى قَدَمِ الْخِدْمَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَالْمُدَافَعَةَ عَنْهُ بِمَا اسْتَطَاعُوا، لَكِنْ عَلَى شَرْطِ ذِكْرِ الْمَهْدِيِّ وَتَخْصِيصِهِ بِالْعِصْمَةِ فِي الْخُطْبَةِ وَالْمُخَاطَبَاتِ، وَنَقْشِ اسْمِهِ الْخَاصِّ فِي السِّكَكِ، وإِعادة الدعاء بعد الصلاة، والنداء عليها بـ"تاصاليت (8) الإِسلام" عند كمال الأَذان، و"بتقام (9) تاصاليت" (8)، وَهِيَ إِقامة الصَّلَاةِ، وَمَا أَشبه ذَلِكَ من
_________
(1) في (غ) و (ر): "فأمر".
(2) في (خ): "السنن".
(3) وهذا خطأ آخر أيضاً، ومعالجة للبدعة ببدعة أخرى؛ وهي إنكار المهدي الذي من أهل البيت، وقد صح في ذكره أحاديث، منها ما تقدم (ص85 ـ 86).
والقول بأنه لا مهدي إلا عيسى اعتُمد فيه على حديث أخرجه ابن ماجه (4039) وغيره من طريق يونس بن عبد الأعلى، عن الشافعي، عن محمد بن خالد الجندي، عن أبان بن صالح، عن الحسن البصري، عن أنس، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لا مهدي إلا عيسى".
وهو ضعيف جداً.
فمحمد بن خالد الجندي مجهول كما في "التقريب" (5886).
والمتن منكر.
وانظر: التفصيل في تخريجه والكلام عليه في تعليقي على "مختصر المستدرك" (1095) إن شئت.
(4) في (خ): "وأن ما ادعوه أنه".
(5) في (غ) و (ر): "أن".
(6) في (غ) و (ر): "جملة" بدل "جماعة".
(7) في (غ) و (ر) و (م): "عن" بدل "على".
(8) في (غ) و (ر) و (م): "تاصليت"، وتقدم اللفظ قبل بضعة أسطر.
(9) في (غ) و (ر): "وتقام"، وفي (م) يشبه أن تكون: "وتيقام".(2/88)
"سودرتن" (1)، و"قادري" (2)، وَ"أَصبح وَلِلَّهِ الْحَمْدُ"، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَقَدْ كَانَ الرَّشِيدُ اسْتَمِرَّ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا رَسَمَ أَبوه مِنْ تَرْكِ ذَلِكَ كُلِّهِ، فَلَمَّا انْتَدَبَ الموحدون إِلى الطاعة اشترطوا إِعادة مَا تَرَكَ، فأَسعفوا فِيهِ، فَلَمَّا احْتَلُّوا مَنَازِلَهُمْ أَياماً وَلَمْ يَعُدْ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْعَوَائِدِ، سَاءَتْ ظُنُونُهُمْ، وَتَوَقَّعُوا انْقِطَاعَ مَا هُوَ عُمْدَتُهُمْ فِي دِينِهِمْ، وَبَلَغَ ذَلِكَ الرَّشِيدَ، فَجَدَّدَ تأَنيسهم بإِعادتها.
قال المؤرِّخ: فيالله! مَاذَا (3) بَلَغَ مِنْ سُرُورِهِمْ (4)! وَمَا كَانُوا فِيهِ مِنْ الِارْتِيَاحِ لِسَمَاعِ تِلْكَ الأُمور، وَانْطَلَقَتْ أَلسنتهم بالدعاء لخليفتهم بالنصر والتأييد، وشملت الأَفراح الكبير منهم وَالصَّغِيرَ (5)، وَهَذَا (6) شأَن صَاحِبِ الْبِدْعَةِ أَبداً (7)، فَلَنْ يُسَرَّ بأَعظم (8) مِنَ انْتِشَارِ بِدَعَتِهِ وإِظهارها، {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} (9)، وَهَذَا كُلُّهُ دَائِرٌ عَلَى الْقَوْلِ بالإِمامة وَالْعِصْمَةِ الذي هو رأْي الشيعة.
_________
(1) في (خ) و (م): "سودرين".
(2) في (ر) و (غ): "وما ردي"، وتقدم غير هذا الضبط.
(3) في (غ) و (ر): "إذا".
(4) في (م): "شرورهم".
(5) في (خ): "الأفراح منهم الكبير والصغير".
(6) في (غ) و (ر): "هذا".
(7) قوله: "أبداً" ليس في (خ).
(8) في (خ) و (م): "يسرنا عظم".
(9) سورة المائدة: الآية (41).(2/89)
فَصْلٌ (1)
وَمِنْهَا: رَأْيُ قومٍ تَغَالوا (2) فِي تَعْظِيمِ شُيُوخِهِمْ، حَتَّى أَلحقوهم بِمَا لَا يَسْتَحِقُّونَهُ (3). فَالْمُقْتَصِدُ (4) فِيهِمْ (5) يَزْعُمُ أَنه لَا وليَّ (6) لِلَّهِ أَعظم مِنْ فُلَانٍ، وَرُبَّمَا أَغلقوا بَابَ الْوِلَايَةِ دُونَ سَائِرِ الأُمّة إِلا هَذَا الْمَذْكُورَ، وَهُوَ بَاطِلٌ مَحْضٌ، وَبِدْعَةٌ فَاحِشَةٌ؛ لأَنه لَا يُمْكِنُ أَن يَبْلُغَ المتأَخرون أَبداً مَبَالِغَ الْمُتَقَدِّمِينَ، فَخَيْرُ الْقُرُونِ الْقَرْنُ (7) الَّذِينَ رأَوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآمَنُوا بِهِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ (8)، وَهَكَذَا يَكُونُ الأَمر أَبداً إِلى قِيَامِ السَّاعَةِ. فأَقوى مَا كَانَ أَهل الإِسلام فِي دِينِهِمْ وأَعمالهم وَيَقِينِهِمْ وأَحوالهم فِي أَول الإِسلام، ثم لا يزال (9) يَنْقُصُ شَيْئًا فَشَيْئًا إِلى آخَرِ الدُّنْيَا، لَكِنْ لَا يَذْهَبُ الْحَقُّ جُمْلَةً، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ طَائِفَةٍ تَقُومُ بِهِ وَتَعْتَقِدُهُ، وَتَعْمَلُ بِمُقْتَضَاهُ على حسبهم في زمانهم (10)، لا على (11) مَا كَانَ عَلَيْهِ الأَوّلون مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ لأَنه لَوْ أَنفق أَحد مِنَ المتأَخرين وَزْنَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحد مِنْ أَصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وَلَا نَصِيفَه حَسْبَمَا أَخبر عَنْهُ الصَّادِقُ صَلَّى الله عليه وسلّم (12). وإِذا
_________
(1) قوله: "فصل" ليس في (غ) و (ر).
(2) في (خ): "التغالي".
(3) في (غ) و (ر): "بما لا يستحقون".
(4) في (غ) و (ر): "فالمقتصر".
(5) في (خ): "منهم".
(6) في (غ): "الأولى".
(7) قوله: "القرن" ليس في (خ).
(8) قوله: "ثم الذين يلونهم" الثانية ليس في (خ)، وهو بهذا يشير إلى الحديث المتقدم تخريجه (ص66).
(9) في (خ): "لا زال".
(10) في (خ): "إيمانهم"، وفي (م): "أمانهم".
(11) قوله: "على" ليس في (خ).
(12) قوله: "حَسْبَمَا أَخْبَرَ عَنْهُ الصَّادِقُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم" ليس في (خ).=(2/90)
كَانَ ذَلِكَ فِي الْمَالِ، فَكَذَلِكَ فِي (1) سَائِرِ شُعَبِ الإِيمان، بِشَهَادَةِ التَّجْرِبَةِ الْعَادِيَّةِ.
ولِمَا تقدَّم أَول الكتاب من (2) أَنه لَا يَزَالُ الدِّينُ فِي نَقْصٍ فَهُوَ أَصل (3) لا شك فيه، وهو عَقْدُ (4) أَهل السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، فَكَيْفَ يَعْتَقِدُ بَعْدَ ذَلِكَ في أَحدٍ (5) أَنه ولي أَهل الأَرض ليس (6) فِي الأُمة وَلِيٌّ غَيْرُهُ؟ لَكِنَّ الْجَهْلَ الْغَالِبَ، وَالْغُلُوَّ فِي التَّعْظِيمِ، وَالتَّعَصُّبِ لِلنِّحَلِ، يُؤَدِّي إِلى مِثْلِهِ أَو أَعظم مِنْهُ.
وَالْمُتَوَسِّطُ يَزْعُمُ أَنه مساوٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلا أَنه لَا يأَتيه الْوَحْيُ (7). بَلَغَنِي هَذَا عَنْ طائفة من الغالين في شيخهم، الحاملين لطريقته (8) فِي زَعْمِهِمْ، نَظِيرَ مَا ادَّعَاهُ بَعْضُ تَلَامِذَةِ الْحَلاّج فِي شَيْخِهِمْ، عَلَى الِاقْتِصَادِ مِنْهُمْ فِيهِ، وَالْغَالِي (9) يَزْعُمُ فِيهِ أَشنع مِنْ هَذَا، كَمَا ادَّعَى أَصحاب الحَلاّج فِي الحَلاّج.
وَقَدْ حَدَّثَنِي بَعْضُ الشُّيُوخِ أَهل الْعَدَالَةِ وَالصِّدْقِ فِي النَّقْلِ أَنه قال: أَقمت زماناً في بعض قرى (10) الْبَادِيَةِ، وَفِيهَا مِنْ هَذِهِ الطَّائِفَةِ الْمُشَارِ إِليها كَثِيرٌ. قَالَ: فَخَرَجْتُ يَوْمًا مِنْ مَنْزِلِي لِبَعْضِ شأَني، فرأَيت رَجُلَيْنِ مِنْهُمْ قَاعِدَيْنِ يَتَحَدَّثَانِ (11)، فَاتَّهَمْتُ (12) أَنهما يتحدَّثان فِي بَعْضِ فُرُوعِ طَرِيقَتِهِمْ، فَقَرُبْتُ مِنْهُمَا عَلَى اسْتِخْفَاءٍ لأَسمع مِنْ كَلَامِهِمْ ـ إِذ من شأنهم الاستخفاء
_________
=والحديث أخرجه البخاري (3673)، ومسلم (2541) من حديث أبي سعيد الخدري، وأخرجه مسلم (2540) من حديث أبي هريرة.
(1) قوله: "في" ليس في (م).
(2) قوله: "من" ليس في (خ) و (م).
(3) في (خ): "أصلي".
(4) في (خ) و (م): "عند".
(5) قوله: "أحد" ليس في (خ).
(6) في (خ): "وليس".
(7) في (غ) و (ر): "جبريل".
(8) في (خ): "لطريقتهم".
(9) في (خ): "والقالي".
(10) في (خ): "القرى".
(11) قوله: "يتحدثان" ليس في (خ).
(12) كذا في جميع النسخ! ولعل صوابه: "فتوهَّمت"؛ قاله رشيد رضا.(2/91)
بأَسرارهم ـ، فتحدَّثا (1) فِي شَيْخِهِمْ وعِظَمِ مَنْزِلَتِهِ، وأَنه لَا أَحد (2) فِي الدُّنْيَا مِثْلَهُ، فَقَالَ أَحدهما لِلْآخَرِ: أَتحب الْحَقَّ هُوَ النَّبِيُّ، قَالَ: نَعَمْ (3)، وطَرَبَا لهذا المقالة طَرَباً عَظِيمًا، ثُمَّ قَالَ أَحدهما لِلْآخَرِ: أَتحب (4) الْحَقَّ؟ هُوَ كَذَا (5)، قَالَ: نَعَمْ، هَذَا هُوَ الْحَقُّ. قَالَ الْمُخْبِرُ لِي (6): فَقُمْتُ مِنْ ذَلِكَ الموضع (7) فارًّا أَن تصيبني معهم قَارِعَة.
وهذا نمط من نَمَطُ (8) الشِّيعَةِ الإِماميَّة، وَلَوْلَا الغُلُوّ فِي الدِّينِ والتَّكَالُبُ عَلَى نَصْرِ الْمَذْهَبِ، وَالتَّهَالُكِ فِي مَحَبَّةِ الْمُبْتَدَعِ، لَمَا وَسِعَ ذَلِكَ عَقْلُ أَحد، وَلَكِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْراً بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ" (9)، الْحَدِيثَ. فَهَؤُلَاءِ غَلَوْا كَمَا غَلَتِ النَّصَارَى فِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ؛ حَيْثُ قَالُوا: إِن الله هو المسيح ابن مريم، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ *} (10)، وفي الحديث: "لا تُطْرُونِي كَمَا أَطرت النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ (11)، وَلَكِنْ قُولُوا (12): عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ" (13).
وَمَنْ تأَمَّل هَذِهِ الأَصناف وَجَدَ لَهَا مِنَ الْبِدَعِ فِي فُرُوعِ الشَّرِيعَةِ كَثِيرًا؛ لأَن الْبِدْعَةَ إِذا دَخَلَتْ (14) في (15) الأَصل سَهلَتْ مداخلتها الفروع.
_________
(1) في (م): "فتحدثنا".
(2) في (خ): "لأحد".
(3) قوله: "فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: أَتُحِبُّ الْحَقَّ هُوَ النَّبِيُّ، قال: نعم"، سقط من (خ)، وانظر التعليق بعد الآتي.
(4) في (غ) و (ر): "أتريد".
(5) في (خ): "هو النبي".
(6) قوله: "لي" ليس في (خ).
(7) قوله: "الموضع" سقط من (م)، وفي (خ): "المكان".
(8) قوله: "من نمط" ليس في (خ) و (م).
(9) أخرجه البخاري (3456 و7320)، ومسلم (2669) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(10) قوله تعالى: "قل" ليس في (خ).
(11) الآية (77) من سورة المائدة.
(12) قوله: "ابن مريم" من (خ) فقط.
(13) في (م): "قالوا".
(14) أخرجه البخاري (3445) من حديث عمر رضي الله عنه.
(15) في (ر): "داخلت".
(16) قوله: "في" ليس في (غ) و (ر).(2/92)
فَصْلٌ
وأَضعف هؤلاءِ احْتِجَاجًا: قَوْمٌ اسْتَنَدُوا فِي أَخذ الأَعمال إِلى الْمَنَامَاتِ، وأَقبلوا وأَعرضوا بِسَبَبِهَا، فيقولون: رأَينا فلاناً الرجل الصالح في النوم (1)، فَقَالَ لَنَا: اتْرُكُوا كَذَا، وَاعْمَلُوا كَذَا. وَيَتَّفِقُ مثل هذا كثيراً للمُتَرَسِّمين (2) برَسْم التَّصَوُّفِ، وَرُبَّمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: رأَيت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ، فَقَالَ لِي كَذَا، وأَمرني بِكَذَا؛ فَيَعْمَلُ بِهَا، وَيَتْرُكُ بِهَا (3)، مُعْرِضًا عَنِ الْحُدُودِ الْمَوْضُوعَةِ فِي الشَّرِيعَةِ، وَهُوَ خَطَأٌ؛ لأَن الرُّؤْيَا مِنْ غَيْرِ الأَنبياءِ لَا يُحْكَمُ بِهَا شَرْعًا عَلَى حَالٍ، إِلا أَن نعرضها عَلَى مَا فِي أَيدينا مِنَ الأَحكام الشَّرْعِيَّةِ، فإِن سَوَّغَتْهَا عُمل بِمُقْتَضَاهَا، وإِلا وَجَبَ تَرْكُهَا والإعراض عنها، وإِنما فائدتها البشارة والنذارة (4) خَاصَّةً، وأَما اسْتِفَادَةُ الأَحكام فَلَا، كَمَا يُحْكَى عَنِ الكِتَّاني رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم من الْمَنَامِ، فَقُلْتُ: ادْعُ اللَّهَ أَن لَا يُمِيتَ قَلْبِي، فَقَالَ: قُلْ كُلَّ يَوْمٍ أَربعين مَرَّةً: "ياحي يَا قَيُّومُ! لَا إِله إِلا أَنت" (5)، فَهَذَا كَلَامٌ حَسَنٌ لَا إِشكال فِي صِحَّتِهِ، وَكَوْنُ الذِّكْرِ يُحْيِي الْقَلْبَ صَحِيحٌ شَرْعًا، وَفَائِدَةُ الرُّؤْيَا التنبيه على الخير، وهي (6) من
_________
(1) قوله: "في النوم" ليس في (خ) و (م).
(2) في (خ): "للمتمرسين"، وفي (م): "للمرتسمين". وعلق عليها رشيد رضا بقوله: تمرَّس بالشيء: احتكّ به، وتمرّس بدينه: تلعب به وعبث كما يعبث البعير. والمراد بهم هنا: المقلّدون للصوفية في رسومهم الظاهرة، دون أخلاقهم وأعمالهم. اهـ.
(3) قوله: "بها" ليس في (غ) و (ر).
(4) في (خ): "أو النذارة".
(5) ذكر قول الكتاني هذا القشيري في "رسالته" (ص177).
(6) في (خ) و (م):"وهو".(2/93)
نَاحِيَةِ الْبِشَارَةِ، وإِنما يَبْقَى الْكَلَامُ فِي التَّحْدِيدِ بالأَربعين، وإِذا لم يؤخذ (1) عَلَى اللُّزُومِ اسْتَقَامَ.
وَعَنْ أَبي يَزِيدَ البِسْطَامي رحمه الله؛ قَالَ: رأَيت رَبِّي فِي الْمَنَامِ، فَقُلْتُ: كَيْفَ الطريق إِليك؟ فقال: اترك نفسك وتعال (2).
وشاهد (3) هَذَا الْكَلَامِ مِنَ الشَّرْعِ مَوْجُودٌ، فَالْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهُ صَحِيحٌ؛ لأَنه كَالتَّنْبِيهِ لِمَوْضِعِ (4) الدَّلِيلِ؛ لأَن تَرْكَ النَّفْسِ مَعْنَاهُ تَرْكُ هَوَاهَا بإِطلاق، وَالْوُقُوفُ عَلَى قَدَمِ الْعُبُودِيَّةِ، وَالْآيَاتُ تَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى *فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى *} (5)، وَمَا أَشبه ذَلِكَ. فَلَوْ رأَى فِي النَّوْمِ قائلاً يقول له (6): إِن فُلَانًا سَرَقَ فَاقْطَعْهُ، أَو عَالِمٌ فاسأَله، أَو اعْمَلْ بِمَا يَقُولُ لَكَ، أَو فُلَانٌ زنى فحُدَّه، أَوْ ما (7) أَشبه ذَلِكَ؛ لَمْ يَصِحَّ لَهُ الْعَمَلُ حَتَّى يَقُومَ لَهُ الشَّاهِدُ فِي الْيَقَظَةِ، وإِلا كَانَ عَامِلًا بِغَيْرِ شَرِيعَةٍ؛ إِذ لَيْسَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْيٌ.
وَلَا يُقَالُ: إِن الرُّؤْيَا مِنْ أَجزاءِ النُّبُوَّةِ (8)، فَلَا ينبغي أَن تهمل، وأَيضاً فإِن (9) الْمُخْبِرَ فِي الْمَنَامِ قَدْ يَكُونُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ قَدْ قَالَ: "مَنْ رآني في النوم فقد رآني (10)، فإِن الشَّيْطَانَ لَا يتمثَّل بِي" (11). وإِذا كَانَ كذلك (12)؛ فإخباره له (13) في النوم كإِخباره في اليقظة.
_________
(1) في (خ) و (م): "يوجد".
(2) ذكر قول أبي يزيد هذا القشيري في "رسالته" (ص177).
(3) في (خ) و (م): "وشأن".
(4) في (غ) و (ر): "لوضع".
(5) سورة النازعات: الآيتان (40، 41).
(6) قوله: "له" ليس في (غ) و (خ).
(7) في (خ): "وما".
(8) أخرج البخاري في "صحيحه" (6994)، ومسلم (2264) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، عن عبادة بن الصامت رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: "رؤيا المؤمن جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ".
(9) في (خ): "إن".
(10) في (خ) و (م): "رآني حقاً".
(11) أخرجه البخاري (110)، ومسلم (2266) من حديث أبي هريرة.
(12) قوله: "كذلك" ليس في (خ) و (م).
(13) قوله: "له" ليس في (خ).(2/94)
لأَنا نَقُولُ: إِن كَانَتِ الرُّؤْيَا مِنْ أَجزاء النبوة، فليست بالنسبة (1) إِلينا من كمال الوحي، بل جزءاً مِنْ أَجزائه، والجزءُ لَا يَقُومُ مَقَامَ الكُلّ فِي جَمِيعِ الْوُجُوهِ، بَلْ إِنما يَقُومُ مَقَامَهُ من (2) بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَقَدْ صُرِفَتْ إِلى جِهَةِ الْبِشَارَةِ وَالنِّذَارَةِ، وَفِيهَا كَافٌ (3).
وأَيضاً فإِن الرُّؤْيَا الَّتِي هي جزء من النبوة (4) من شرطها أَن تكون صالحة، ومن (5) الرَّجُلِ الصَّالِحِ، وَحُصُولُ الشُّرُوطِ مِمَّا يُنْظَرُ فِيهِ، فَقَدْ تَتَوَفَّرُ، وَقَدْ لَا تَتَوَفَّرُ.
وأَيضاً فَهِيَ مُنْقَسِمَةٌ إِلى الْحُلْمِ، وَهُوَ مِنَ الشَّيْطَانِ، وإِلى حديث النفس، وقد تكون بسبب هَيَجَان بعض الأَخْلاَط (6)، فمتى تتعيَّن الصالحة حتى يحكم بها، وتترك غَيْرَ الصَّالِحَةِ؟.
وَيَلْزَمُ أَيضاً عَلَى ذَلِكَ أَن يَكُونَ تَجْدِيدَ وَحْيٍ بِحُكْمٍ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلّم، وهو منفي (7) بالإِجماع.
يُحْكَى أَن شَرِيكَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ القاضي دخل يوماً (8) عَلَى الْمَهْدِيِّ، فَلَمَّا رَآهُ قَالَ: علَيَّ بِالسَّيْفِ والنّطْع! قَالَ: ولِمَ يَا أَمير الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: رأَيت فِي مَنَامِي كأَنك تطأُ بِسَاطِي وأَنت مُعْرِضٌ عَنِّي، فَقَصَصْتُ رُؤْيَايَ عَلَى مَنْ عَبَرَهَا. فَقَالَ لِي: يُظْهِرُ لَكَ طَاعَةً وَيُضْمِرُ مَعْصِيَةً. فَقَالَ لَهُ شَرِيكٌ: وَاللَّهِ! مَا رُؤْيَاكَ بِرُؤْيَا إِبراهيم الخليل عليه السلام، ولا مُعَبِّرُكَ (9) بيوسف (10) الصديق عليه السلام، أَفبالأَحلام (11) الكاذبة تضرب أَعناق المؤمنين؟ فاسْتَحْيَى المهدي، وقال له (12): اخرج عني، ثم صرفه وأَبعده.
_________
(1) قوله: "بالنسبة" ليس في (خ) و (م).
(2) في (خ) و (م): "في".
(3) كذا في جميع النسخ. وعلق عليها رشيد رضا بقوله: "كذا! ولعل في الكلام حذفاً".
(4) في (خ): "جزء من أجزاء النبوة".
(5) في (خ): "من".
(6) في (خ): "أخلاط".
(7) في (م) و (خ): "منهي عنه" بدل "منفي".
(8) قوله: "يوماً" ليس في (خ).
(9) في (خ): "ولا أن معبرك".
(10) في (ر) و (غ) و (م): "يوسف".
(11) في (خ): "فبالأحلام".
(12) قوله: "له" ليس في (خ).(2/95)
وَحَكَى الْغَزَالِيُّ عَنْ بَعْضِ الأَئمة أَنه أَفتى بِوُجُوبِ قَتْلِ رَجُلٍ يَقُولُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، فَرُوجِعَ فِيهِ، فَاسْتَدَلَّ بأَن رَجُلًا رأَى فِي مَنَامِهِ إِبليس قد اجتاز بباب هذه (1) المدينة ولم يدخلها؟ فقيل له (2): هَلاّ (3) دَخَلْتَهَا؟ فَقَالَ: أَغناني عَنْ دُخُولِهَا رَجُلٌ يَقُولُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، فَقَامَ ذَلِكَ الرَّجُلُ فَقَالَ: لَوْ أَفتى إِبليس بِوُجُوبِ قَتْلِي فِي الْيَقَظَةِ هَلْ تقلِّدونه في فتواه؟ فقالوا: لا! قال (4): فقوله فِي الْمَنَامِ لَا يَزِيدُ عَلَى قَوْلِهِ فِي الْيَقَظَةِ.
وأَما الرُّؤْيَا الَّتِي يُخْبِرُ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّائِي بِالْحُكْمِ، فَلَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فِيهَا أَيضاً؛ لأَنه إِذا أَخبر بحكم موافق لشريعته، فالعمل (5) بما استقرّ من شريعته (6)، وإِن أَخبر بمخالف، فمحال؛ لأَنه صلّى الله عليه وسلّم لَا يَنْسَخُ بَعْدَ مَوْتِهِ شَرِيعَتَهُ الْمُسْتَقِرَّةَ فِي حَيَاتِهِ؛ لأَن الدِّينَ لَا يَتَوَقَّفُ اسْتِقْرَارُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى حُصُولِ الْمَرَائِي النَّوْمِيَّةِ؛ لأَن ذَلِكَ بَاطِلٌ بالإِجماع. فَمَنْ رأَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَلَا عَمَلَ عَلَيْهِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ نَقُولُ: إِن رُؤْيَاهُ غَيْرُ صَحِيحَةٍ؛ إِذ لَوْ رَآهُ حَقًّا لَمْ يُخْبِرْهُ بِمَا يُخَالِفُ الشَّرْعَ.
لَكِنْ يَبْقَى النَّظَرُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ رَآنِي فِي النَّوْمِ فَقَدَ رَآنِي"، وَفِيهِ تأْويلان:
أَحدهما: مَا ذَكَرَهُ ابْنُ رُشْدٍ (7) إِذ سُئِلَ عَنْ حَاكِمٍ شَهِدَ عِنْدَهُ عَدْلَانِ مَشْهُورَانِ بِالْعَدَالَةِ فِي قَضِيَّةٍ، فَلَمَّا نَامَ (8) الْحَاكِمُ ذَكَرَ أَنه رأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم، وقال (9) له: لا تَحْكُمُ (10) بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ، فإِنَّها بَاطِلَةٌ (11). فأَجاب بأَنه لا
_________
(1) قوله: "هذه" ليس في (خ) و (م).
(2) قوله: "له" ليس في (خ) و (م).
(3) في (ر) و (غ): "فهلا"، وفي (خ): "هل" بدل "هلا".
(4) في (خ): "فقال".
(5) في (خ): "فالحكم" بدل "فالعمل".
(6) قوله: "من شريعته" ليس في (خ) و (م).
(7) في "فتاويه" (1/ 612).
(8) في (غ) و (ر): "قام".
(9) في (خ): "فقال".
(10) في (م): "تحكم"، وفي (خ): "ما تحكم".
(11) في (غ) و (ر): "باطل".(2/96)
يَحِلُّ لَهُ أَن يَتْرُكَ الْعَمَلَ بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ؛ لأَن ذَلِكَ إِبطال لأَحكام الشَّرِيعَةِ بِالرُّؤْيَا، وَذَلِكَ بَاطِلٌ لَا يَصِحُّ أَن يُعْتَقَد، إِذ لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ مِنْ نَاحِيَتِهَا إِلا الأَنبياء الَّذِينَ رُؤْيَاهُمْ وَحْيٌ، وَمَنْ سِوَاهُمْ إِنما رُؤْيَاهُمْ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وأَربعين جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ (1).
ثُمَّ قَالَ: وَلَيْسَ مَعْنَى قَوْلِهِ: "مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَآنِي حَقًّا (2) ": أَن كُلَّ مَنْ رأَى فِي مَنَامِهِ أَنه رَآهُ فَقَدْ رَآهُ حَقِيقَةً؛ بِدَلِيلٍ أَن الرَّائِيَ قَدْ يَرَاهُ مَرَّاتٍ عَلَى صُوَرٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَيَرَاهُ الرَّائِي عَلَى صِفَةٍ، وَغَيْرِهِ عَلَى صفة أُخرى. ولا يجوز أَن تختلف صورة (3) النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا صِفَاتُهُ، وإِنما مَعْنَى الْحَدِيثِ: "مَنْ رَآنِي عَلَى صُورَتَيِ الَّتِي خُلِقْتُ عَلَيْهَا، فَقَدْ رَآنِي، إِذ لَا يَتَمَثَّلُ الشَّيْطَانُ بِي"، إِذ لَمْ يَقُلْ: مَنْ رأَى أَنه رَآنِي، فَقَدْ رَآنِي، وإِنما قَالَ: مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَآنِي. وأَنّى لِهَذَا الرَّائِي الذي رأَى أَنه رآه على صورته أَنه رَآهُ عَلَيْهَا وإِن ظَنَّ أَنه رَآهُ؟ مَا لَمْ يَعْلَمْ أَن تِلْكَ الصُّورَةَ (4) صُورَتُهُ (5) بعينها، هذا (6) مَا لَا طَرِيقَ لأَحد إِلى مَعْرِفَتِهِ.
فَهَذَا ما نقل ابْنِ (7) رُشْدٍ، وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلى أَن الْمَرْئِيَّ قَدْ يَكُونُ غَيْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم، وإِن اعتقد الرائي أَنه هو.
والتأْويل (8) الثَّانِي: يَقُولُهُ علماءُ التَّعْبِيرِ: إِن الشَّيْطَانَ قَدْ يأَتي النَّائِمَ فِي صُورَةٍ مَّا مِنْ مَعَارِفِ الرائي وغيرهم، فيشير له إِلى رجل ويقول (9): هذا فلان النبي، أَو هذا (10) الْمِلْكُ الْفُلَانِيُّ، أَو مَنْ (11) أَشبه هؤلاءِ مِمَّنْ لا يتمثل الشيطان به، فيوقع اللَّبْسَ عَلَى الرَّائِي بِذَلِكَ، وَلَهُ عَلَامَةٌ عِنْدَهُمْ. وإِذا كان كذلك أَمكن أَن يكلمه ذلك (12) المشار إِليه بالأَمر والنهي غير
_________
(1) تقدم تخريجه (ص94).
(2) تقدم تخريجه (ص94).
(3) في (خ) و (م): "صور".
(4) قوله: "الصورة" ليس في (غ) و (ر).
(5) قوله: "صورته" ليس في (م).
(6) في (خ): "وهذا".
(7) في (خ): "عن أبي" بدل (ابن).
(8) قوله: "التأويل" ليس في (غ) و (ر) و (م).
(9) في (خ): "آخر" بدل "ويقول".
(10) في (خ) و (م): "وهذا".
(11) في (غ): "أو ممن".
(12) قوله: "ذلك" ليس في (خ).(2/97)
الْمُوَافِقَيْنِ لِلشَّرْعِ، فَيَظُنُّ الرَّائِي أَنه مِنْ قِبَلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ، فَلَا يُوثِقُ بِمَا يَقُولُ لَهُ (1) أَو يأَمر (2) أَو يَنْهَى.
وَمَا أَحرى هَذَا الضَّرْب أَن (3) يَكُونَ الأَمر أَو النَّهْيُ فِيهِ مُخَالِفًا (4)، كما أَن (5) الأَول حقيق بأَن يَكُونَ فِيهِ مُوَافِقًا، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يَبْقَى فِي المسأَلة إِشكال. نَعَمْ لَا يَحْكُمُ بِمُجَرَّدِ الرُّؤْيَا حَتَّى يَعْرِضَهَا عَلَى الْعِلْمِ؛ لإِمكان اخْتِلَاطِ أَحد الْقِسْمَيْنِ بِالْآخَرِ. وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَلَا يَسْتَدِلّ بِالرُّؤْيَا (6) فِي الأَحكام إِلا ضَعِيفُ الْمُنَّةِ (7). نعم يأْتي العلماء (8) بالمرائي (9) تأَنيساً وَبِشَارَةً وَنِذَارَةً خَاصَّةً، بِحَيْثُ لَا يَقْطَعُونَ بِمُقْتَضَاهَا حُكْمًا، وَلَا يَبْنُونَ عَلَيْهَا أَصلاً، وَهُوَ الِاعْتِدَالُ فِي أَخذها، حَسْبَمَا فُهم مِنَ الشَّرْعِ فيها، والله أَعلم.
_________
(1) قوله: "له" ليس في (ر) و (غ) و (م).
(2) في (خ): "أو يا".
(3) في (ر) و (غ): "بأن".
(4) في (غ) و (ر): "والنهي مخالفاً".
(5) في (خ) و (م): "لكمال". وذكر رشيد رضا في (ص265) من المجلد الثاني في موضع آخر أن لفظ "الأول" لا يظهر له معنى في هذا الموضع والموضع الآخر محل التعليق، وهو الآتي في (ص100).
(6) قوله: "بالرؤيا" ليس في (م)، وفي (غ) و (ر): "بالأحلام".
(7) الْمُنَّةُ ـ بالضم ـ: هي القوّة، وخص بعضهم بها قوة القلب. انظر: "لسان العرب" (13/ 415).
(8) قوله: "العلماء" ليس في (خ) و (م).
(9) في (خ): "المرئي" وفي (م): "المرائي".(2/98)
فَصْلٌ
وَقَدْ رأَينا أَن نَخْتِمَ الْكَلَامَ فِي الْبَابِ بفصلٍ جَمَعَ جُمْلَةً مِنْ الِاسْتِدْلَالَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وغيرها مما (1) فِي مَعْنَاهَا، وَفِيهِ مِنْ نُكَتِ هَذَا الْكِتَابِ جُمْلَةٌ أُخرى، فَهُوَ مِمَّا يَحْتَاجُ إِليه بِحَسْبَ الْوَقْتِ وَالْحَالِ، وإِن كَانَ فِيهِ طُولٌ، وَلَكِنَّهُ يَخْدِمُ مَا نَحْنُ فِيهِ إِن شَاءَ اللَّهُ تعالى.
وَذَلِكَ أَنه وَقَعَ السُّؤَالُ عَنْ قَوْمٍ يتسمَّون بالفقراءِ، يَزْعُمُونَ أَنهم سَلَكُوا طَرِيقَ الصُّوفِيَّةِ، فَيَجْتَمِعُونَ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي، ويأَخذون فِي الذِّكْرِ الجَهْري (2) عَلَى صوتٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ فِي الغناءِ وَالرَّقْصِ إِلى آخَرَ اللَّيْلِ، وَيَحْضُرُ مَعَهُمْ بَعْضُ المتسمِّين بِالْفُقَهَاءِ، يَتَرَسَّمُونَ بِرَسْمِ الشُّيُوخِ الْهُدَاةِ إِلى سُلُوكِ ذَلِكَ الطَّرِيقِ: هَلْ هَذَا الْعَمَلُ صَحِيحٌ فِي الشَّرْعِ أَم لَا؟.
فَوَقَعَ الْجَوَابُ بأَن ذَلِكَ كُلَّهُ مِنَ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَاتِ، الْمُخَالَفَةِ طَرِيقَةَ (3) رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَطَرِيقَةَ أَصحابه والتابعين لهم بإِحسان، فنفع الله بِذَلِكَ مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ.
ثُمَّ إِن الجواب وصل (4) إِلى بعض البلدان، فقامت القيامة عَلَى الْعَامِلِينَ بِتِلْكَ الْبِدَعِ، وَخَافُوا انْدِرَاسَ طَرِيقَتِهِمْ، وَانْقِطَاعَ أَكلهم بِهَا، فأَرادوا الِانْتِصَارَ لأَنفسهم، بَعْدَ أَن راموا ذلك بالانتساب إِلى شُيُوخِ الصُّوفِيَّةِ الَّذِينَ ثَبَتَتْ فَضِيلَتُهُمْ، وَاشْتُهِرَتْ فِي الِانْقِطَاعِ إِلى اللَّهِ، وَالْعَمَلِ بِالسُّنَّةِ طَرِيقَتُهُمْ، فلم يستقم (5) لَهُمْ الِاسْتِدْلَالُ؛ لِكَوْنِهِمْ عَلَى ضِدِّ مَا كَانَ عليه القوم، فإِنهم
_________
(1) قوله: "مما" ليس في (خ).
(2) في (خ): "الجهوري".
(3) في (غ) و (ر): "لطريقة".
(4) في (غ) و (ر): "رحل".
(5) في (م): "يستقر".(2/99)
كانوا قد بَنَوْا نِحْلَتَهُمْ عَلَى ثَلَاثَةِ أُصول: الِاقْتِدَاءُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الأَخلاق والأَفعال، وأَكل الْحَلَالِ، وإِخلاص النِّيَّةِ فِي جَمِيعِ الأَعمال، وهؤلاء قد خالفوهم في جميع (1) هذه الأُصول، فلم يُمْكِنُهُمُ الدُّخُولُ تَحْتَ تَرْجَمَتِهِمْ.
وَكَانَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ سأَل بَعْضَ شُيُوخِ الوقت في مسأَلة تشبه هذه، ولكن (2) حَسَّن ظَاهِرَهَا بِحَيْثُ يَكَادُ بَاطِنُهَا يَخْفَى عَلَى غَيْرِ المتأَمِّل، فأَجاب عَفَا اللَّهُ عَنْهُ عَلَى مُقْتَضَى ظَاهِرِهَا مِنْ غَيْرِ تعرُّض إِلى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ، وَلَمَّا سَمِعَ بَعْضُهُمْ بِهَذَا الْجَوَابِ أَرسل بِهِ (3) إِلى بَلْدَةٍ أُخرى، فأُتي بِهِ، فَرَحَلَ إِلى غَيْرِ بَلَدِهِ وَشَهَرَ فِي شِيعَتِهِ أَن بِيَدِهِ حُجَّةً لِطَرِيقَتِهِمْ تَقْهَرُ كُلَّ حُجَّةٍ، وأَنه طَالِبٌ لِلْمُنَاظَرَةِ فِيهَا، فدُعيَ لِذَلِكَ، فَلَمْ يَقُمْ فِيهِ وَلَا قَعَدَ، غير أَنه قال: هَذِهِ (4) حُجَّتِي، وأَلقى بِالْبِطَاقَةِ الَّتِي بِخَطِّ الْمُجِيبِ، وكان هو وَأَشْيَاعُهُ (5) يَطِيرُونَ بِهَا فَرَحًا، فَوَصَلَتِ المسأَلة إِلى غَرْنَاطَةَ، وطُلب مِنَ الْجَمِيعِ النَّظَرُ فِيهَا، فَلَمْ يَسَعْ أَحَدًا (6) لَهُ قُوَّةٌ عَلَى النَّظَرِ فِيهَا إلاَّ (7) أَن يُظْهِرَ وَجْهَ الصَّوَابِ فِيهَا (8) الَّذِي يُدَانُ اللَّهُ بِهِ؛ لأَنه مِنَ النَّصِيحَةِ الَّتِي هِيَ الدِّينُ الْقَوِيمُ، وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ.
وَنَصُّ خُلَاصَةِ السُّؤَالِ: مَا يَقُولُ الشَّيْخُ فُلَانٌ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَجْتَمِعُونَ فِي رِبَاطٍ عَلَى ضَفَّةِ البحر في الليالي الفاضلة، يقرؤُون جُزْءًا مِنَ الْقُرْآنِ، وَيَسْتَمِعُونَ مِنْ كُتُبِ الْوَعْظِ وَالرَّقَائِقِ مَا أَمكن فِي الْوَقْتِ، وَيَذْكُرُونَ اللَّهَ بأَنواع التَّهْلِيلِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ، ثُمَّ يَقُومُ مِنْ بَيْنِهِمْ قوَّالٌ يَذْكُرُ شَيْئًا فِي مَدْحِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُلْقِي مِنَ السَّمَاعِ مَا تَتُوق النَّفْسُ إِليه (9) وَتَشْتَاقُ سَمَاعَهُ؛ مِنْ
_________
(1) قوله: "جميع" ليس في (خ) و (م).
(2) في (خ) و (م): "لكن".
(3) في (ر) و (غ): "فيه".
(4) في (خ): "إن هذه" ..
(5) في (خ): "هو ومجيبه وأشياعه"، وعلق عليها رشيد رضا بقوله: كذا! ولعلها: "ومحبه"، أو: "ومحبوه".
(6) في (خ) و (غ): "أحد".
(7) في (خ): "الأول" بدل "إلا". وعلق عليه رشيد رضا بقوله: لفظ "الأول" لا يظهر له معنى هنا، وكذا في السطر (19) من الصحيفة (263)، والظاهر أن المقام مقام الاستثناء، وأن العبارة ربما دخل فيها التحريف والسقط. اهـ. وانظر التعليق رقم (5) (ص98).
(8) قوله: "فيها" ليس في (غ) و (ر).
(9) في (غ) و (م): "ما تشوق النفوس إليه".(2/100)
صِفَاتِ (1) الصَّالِحِينَ، وَذِكْرِ آلَاءِ اللَّهِ وَنَعْمَائِهِ، وَيُشَوِّقُهُمْ بِذِكْرِ الْمَنَازِلِ الْحِجَازِيَّةِ، وَالْمَعَاهِدِ النَّبَوِيَّةِ، فَيَتَوَاجَدُونَ اشْتِيَاقًا لِذَلِكَ، ثُمَّ يَأْكُلُونَ مَا حَضَرَ مِنَ الطَّعَامِ، ويحمدون الله تعالى، وَيُرَدِّدُونَ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَبْتَهِلُونَ بالأَدعية (2) إِلَى اللَّهِ فِي صَلَاحِ أُمُورِهِمْ، وَيَدْعُونَ لِلْمُسْلِمِينَ ولإِمامهم وَيَفْتَرِقُونَ.
فَهَلْ يَجُوزُ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى مَا ذَكَرَ؟ أَم يَمْنَعُونَ وَيُنْكِرُ عَلَيْهِمْ؟ وَمَنْ دَعَاهُمْ مِنَ المحبِّين إِلى مَنْزِلِهِ بِقَصْدِ التبرُّك، هَلْ (3) يُجِيبُونَ دَعْوَتَهُ وَيَجْتَمِعُونَ عَلَى الْوَجْهِ (4) الْمَذْكُورِ أَم لَا؟.
فأَجاب بِمَا مَحْصُولُهُ: مَجَالِسُ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَذِكْرِ اللَّهِ هِيَ رِيَاضُ الْجَنَّةِ، ثُمَّ أَتَى بِالشَّوَاهِدِ عَلَى طَلَبِ ذِكْرِ اللَّهِ. وأَما الإِنشادات الشِّعْرِيَّةُ؛ فإِنما الشِّعْرُ كلامٌ، حَسَنُهُ حَسَنٌ، وَقَبِيحُهُ قَبِيحٌ، وَفِي الْقُرْآنِ فِي شعراءِ الإِسلام: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} (5)؛ وَذَلِكَ أَنَّ حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ (6) بْنَ رَوَاحَةَ، وَكَعْبًا لَمَّا سَمِعُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ *} (7) الآيات، بكوا عند سماعها، فنزل الاستثناءُ (8).
_________
(1) في (ر) و (غ): "صفة".
(2) في (ر) و (غ): "الأدعية".
(3) في (م): "فهل".
(4) في (غ) و (ر): "على الوصف".
(5) سورة الشعراء: آية (227).
(6) قوله: "عبد الله" ليس في (غ) و (ر).
(7) سورة الشعراء: آية (224).
(8) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (26042)، ومن طريقه وطريق آخر أخرجه ابن أبي حاتم في "التفسير" (16068 و16077)، وأخرجه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (19/ 418 و419)، ثلاثتهم من طريق محمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد الله بن قُسَيْط، عن أبي الحسن سالم البرّاد مولى تميم الداري؛ قال: لما نزلت: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ *}؛ جاء حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ، وكعب بن مالك ... ، الحديث.
وأخرجه ابن أبي حاتم (16067 و16074)، والحاكم في "المستدرك" (3/ 488)، كلاهما من طريق الوليد بن كثير، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي الحسن مولى بني نوفل؛ أَنَّ حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ رواحة أتيا النبي صلّى الله عليه وسلّم حين نزلت: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ *} ... ، الحديث.
وسكت عنه الحاكم والذهبي.
والحديث بهذا الإسناد ضعيف لإرساله.
وفي سنده أبو الحسن سالم البرّاد الذي قال عنه ابن إسحاق في روايته: "مولى تميم=(2/101)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
_________
=الداري"، وقال الوليد بن كثير: "مولى بني نوفل"، ولم يذكر أن اسمه سالم.
فبناء على رواية ابن إسحاق، فهو مجهول الحال؛ ذكره ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (9/ 356 رقم 1610)، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً. وذكره البخاري في "الكنى" من "تاريخه" (9/ 22 رقم 170)، ووقع عنده: "أبو الحسن البزاز مولى تميم الداري، نسبه محمد بن إسحاق، يعد في أهل المدينة ... "، ثم ذكر رواية له عن علي رضي الله عنه، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً.
وبناء على رواية الوليد بن كثير، فيكون هو المترجم عند البخاري في الموضع السابق برقم (168)، والذي قال عنه البخاري: "أبو الحسن مولى الحارث بن نوفل الهاشمي، سمع ابن عباس، روى عنه عمرو بن معتب".
ونقل ابن أبي حاتم في الموضع السابق رقم (1608) عن أبيه أنه وثقه، وقال: "سئل أبو زرعة عن أبي الحسن مولى بني نوفل، فقال: مدني ثقة".
وعلى أي الحالين فهو تابعي وليس بصحابي، فالحديث مرسل وقد ذكر الحافظ ابن حجر في "الإصابة" (11/ 32 ـ 33) في القسم الأول من يمكن أن يشتبه بهذا، فقال: "أبو البرّاد غلام تميم الداري"، وذكر أن المستغفري ذكره في الصحابة، وذكر له حديثاً ذكر أن سنده ضعيف، وفيه أن تميماً الداري رضي الله عنه أمر غلامه هذا أن يسرج المسجد، فرآه النبي صلّى الله عليه وسلّم يزهر، فقال: "من فعل هذا؟ " قالوا: تميم يا رسول الله! قال: "نوّرت الإسلام نوَّر الله عليك في الدنيا والآخرة، أما إنه لو كانت لي ابنة لزوجتكها"، فقال نوفل بن الحارث بن عبد المطلب: لي ابنة يا رسول الله! تسمى: أم المغيرة بنت نوفل، فافعل فيها ما أردت، فأنكحه إياها على المكان؛ أي: في مكانه.
وهذا لو صح وثبت أنه هو فيمكن أن يجمع بين قولي محمد بن إسحاق والوليد بن كثير، فيكون أصل ولائه لتميم الداري، ثم لبني نوفل عن طريق إرث أم المغيرة لزوجها تميم أوهبته لها.
وللحديث ثلاث طرق أخرى:
1 ـ أخرجها ابن أبي حاتم في "التفسير" (16070) من طريق بشر بن عمارة، عن أبي روق عطية بن الحارث، عن الضحاك، عن ابن عباس، ذكر أن الله استثنى، فقال: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}؛ يعني: حسان، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك؛ كانوا يذبّون عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه بهجاء المشركين.
وسنده ضعيف لضعف بشر بن عمارة كما في ترجمته في "التقريب" (703).
والضحاك بن مزاحم الهلالي لم يسمع من ابن عباس؛ باعترافه على نفسه بذلك. انظر: "تهذيب الكمال" (13/ 293 ـ 294).
2 ـ أخرجها ابن سعد في "الطبقات" (3/ 528)، وابن أبي حاتم برقم (16069)،=(2/102)
وَقَدْ أُنْشِدَ الشِّعْرُ بَيْنَ يَدي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1)، وَرَقَّت نفسُهُ الْكَرِيمَةُ، وذَرَفَتْ عَيْنَاهُ لأَبيات أُخت النَّضْر؛ لِمَا طُبِعَ عليه من الرأفة والرحمة (2).
_________
=كلاهما من طريق حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن عروة؛ قال: لما نزلت: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ *} إلى قوله: {يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ}؛ قال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله! قد علم الله أني منهم، فأنزل الله: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} إلى قوله: {يَنْقَلِبُونَ}.
وعروة تابعي، فالسند ضعيف لإرساله.
3 ـ أخرجها ابن جرير الطبري (19/ 418) من طريق شيخه محمد بن حميد الرازي، عن سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن بعض أصحابه، عن عطاء بن يسار؛ قال: نزلت: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ *} إلى آخر السورة في حسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك.
وسنده ضعيف جداً؛ فبالإضافة لإرساله، وجهالة الراوي عن عطاء بن يسار، فإنه من رواية محمد بن حميد الرازي وقد اتهمه بالكذب عدد من الأئمة. انظر: ترجمته بطولها في "تهذيب الكمال" (25/ 97 ـ 108).
(1) روى البخاري (453، 3212)، ومسلم (2485)، كلاهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن عمر مرّ بحسّان وهو ينشد الشعر في المسجد، فلحظ إليه، فقال: قد كنت أنشد وفيه من هو خير منك، ثم التفت إلى أبي هريرة، فقال: أنشدك الله! أسمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: "أجب عني، اللهم أيده بروح القدس". قال: نعم.
وأخرج الترمذي (2847)، والنسائي (2873، 2893)، وابن حبان في "صحيحه" (4521، 5788/ الإحسان)، وابن خزيمة (2680)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم دخل مكة في عمرة القضاء وعبد الله بن رواحة بين يديه يمشي وهو يقول:
خلوا بني الكفار عن سبيله ... اليوم نضربكم على تنزيله
ضرباً يُزيل الْهَاَم عن مَقِيْلِهِ ... ويُذهل الخليل عن خليله
فقال له عمر: يا ابن رواحة! بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفي حرم الله تقول الشعر؟!
فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: "خلِّ عنه يا عمر! فلهي أسرع فيهم من نَضْح النَّبل".
قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه، وقد روى عبد الرزاق هذا الحديث أيضاً عن معمر ... "، وذكر كلاماً اعترض عليه الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (7/ 502)، ومال إلى تصحيح الحديث، وذكر أن له طريقين إحداهما على شرط الشيخين، والأخرى على شرط مسلم، فانظره إن شئت.
(2) ذكرها ابن إسحاق في "السيرة" كما في "السيرة" لابن هشام (3/ 42 ـ 43) بلا إسناد، وهي في قصة قتل النبي صلّى الله عليه وسلّم للنضر بن الحارث يوم بدر صبراً، فقالت أخته قُتيلة بنت الحارث أبياتاً مطلعها:
يا راكباً إن الأُثَيْل مظنّة ... من صبح خامسةٍ وأنت موفّق=(2/103)
وأَما (1) التَّوَاجُدُ عِنْدَ السَّمَاعِ، فَهُوَ فِي الْأَصْلِ أثر (2) رِقَّة النَّفْسِ، وَاضْطِرَابُ الْقَلْبِ، فيتأَثّر الظَّاهِرُ بتأَثُّر الْبَاطِنِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} (3)؛ أَيِ: اضْطَرَبَتْ رَغَبًا أَو رَهَبًا (4). وَعَنِ اضْطِرَابِ الْقَلْبِ يَحْصُلُ اضْطِرَابُ الْجِسْمِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا} (5) {وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} (6). وقال: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} (7). فإِنّما التَّوَاجُدُ رِقَّةٌ نَفْسِيَّةٌ، وَهَزَّةٌ قَلْبِيَّةٌ، وَنَهْضَةٌ رُوحَانِيَّةٌ. وَهَذَا هُوَ التَّوَاجُدُ عَنْ وَجْدٍ، وَلَا يسع (8) فِيهِ نَكِيرٌ مِنَ الشَّرْعِ. وَذَكَرَ السُّلَمي (9) أَنَّهُ كان يستدل بهذه الآية في (10) حركة الوَاجِد (11) فِي وَقْتِ السَّمَاعِ؛ وَهِيَ (12): {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا} (13) {فَقَالُوا رَبَّنَا} (14) الآية. وكان يقول: إِن القلوب
_________
=إلى أن قالت:
أمحمدٌ! يا خير ضَنْءِ كريمةٍ ... في قومها والفحل فحلٌ مُعْرق
ما كان ضرّك لو مَنَنْتَ وربما ... منّ الفتى وهو المغيظ المحنق
فقال صلّى الله عليه وسلّم: "لو بلغني هذا قبل قتله لمننت عليه".
ولم يذكر لها ابن إسحاق سنداً، فهي لا تصح، وليس في سياق ابن إسحاق بكاء النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وقد ذكرها أبو عمر ابن عبد البر في "الاستيعاب" (13/ 137 ـ 139)، وفيها: "فلما بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك بكى حتى أخضلت الدموع لحيته، وقال: لو بلغني شعرها قبل أن أقتله لعفوت عنه".
ولكن وقع عنده أنها قتيلة بنت النضر، لا أخته، فالله أعلم. ولم يذكر ابن عبد البر للقصة إسناداً، ولكن قال: "ذكر هذا الخبر عبد الله بن إدريس في حديثه، وذكره الزبير"، ثم نقل عن الزبير ـ يعني ابن بكار ـ قوله: "وسمعت بعض أهل العلم يغمز أبياتها هذه، ويذكر أنها مصنوعة".
(1) في (م): "وإنما".
(2) قوله: "أثر" ليس في (خ) و (م).
(3) سورة الأنفال: آية (2).
(4) في (غ) و (ر): "ورهباً".
(5) إلى هنا انتهى ذكر الآية في (خ) و (م)، وبعده: "الآية".
(6) سورة الكهف: آية (18).
(7) سورة الذاريات: آية (50).
(8) في (خ): "يسمع".
(9) في (غ) و (ر) و (م): "ذكره السلمي".
(10) في (خ): "على".
(11) في (خ) و (م): "الوجد".
(12) قوله: "وهي" ليس في (غ) و (م) و (ر).
(13) إلى هنا انتهى ذكر الآية في (غ) و (ر) و (م).
(14) سورة الكهف: آية (14).(2/104)
مَرْبُوطَةٌ بِالْمَلَكُوتِ، حَرَّكَتْهَا (1) أَنوار الأَذكار، وَمَا يَرِدُ عَلَيْهَا مِنْ فُنُونِ السَّمَاعِ.
وَوَرَاءَ هَذَا تَوَاجُدٌ لاَ عَنْ وَجْد، فَهُوَ مَنَاطُ الذَّمّ؛ لِمُخَالَفَةِ ما ظهر لما بطن، وقد يغرب (2) فِيهِ الأَمر عِنْدَ الْقَصْدِ إِلَى اسْتِنْهَاضِ الْعَزَائِمِ، وَإِعْمَالِ الْحَرَكَةِ فِي يَقَظَةِ الْقَلْبِ النَّائِمِ. يَا أَيُّها النَّاسُ ابْكُوا، فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكُوا (3)، وَلَكِنْ (4) شَتَّان مَا بَيْنَهُمَا (5).
وأَما مَنْ دَعَا طَائِفَةً إِلى مَنْزِلِهِ؛ فَتُجَابُ دَعْوَتُهُ، وَلَهُ فِي ذَلِكَ قَصْدُهُ ونيَّته، فَهَذَا مَا ظَهَرَ تَقْيِيدُهُ عَلَى مُقْتَضَى الظَّاهِرِ، وَاللَّهُ يتولَّى السَّرَائِرَ، وَإِنَّمَا الأَعمال بالنيات. انتهى ما قيَّده.
_________
(1) في (خ): "وحركتها".
(2) كذا في جميع النسخ. وعلق عليه رشيد رضا بقوله: لعله: "يعزب".
(3) علق رشيد رضا رحمه الله على هذا الموضع بقوله: "لعله أراد حديث: "اتلوا القرآن وابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا"، فاقتبسه بالمعنى، وهو في "سنن ابن ماجه" من حديث سعد بن أبي وقاص بسند جيد".
وهذا الحديث الذي ذكره رشيد رضا هو: ما أخرجه ابن ماجه (1337 و4196)، وأبو يعلى (689)، والبيهقي (10/ 231)، ثلاثتهم من طريق الوليد بن مسلم، حدثنا أبو رافع، عن ابن أبي مليكة، عن عبد الرحمن بن السائب؛ قال: قدم علينا سعد بن أبي وقاص وقد كُفّ بصره، فسلمت عليه، فقال: من أنت؟ فأخبرته، فقال: مرحباً بابن أخي! بلغني أنك حسن الصوت بالقرآن، سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: "إن هذا القرآن نزل بحزن، فإذا قرأتموه فابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا، وتغنّوا به، فمن لم يتغنّ به فليس منا".
وفي سنده أبو رافع إسماعيل بن رافع بن عويمر الأنصاري المدني، القاصّ، وهو ضعيف الحديث كما في "التقريب" (446).
وتابعه عبد الرحمن بن أبي بكر بن عبيد الله بن أبي مليكة وهو ضعيف أيضاً كما في "التقريب" (3837)، وروايته عند البزار في "مسنده" (4/ 69 رقم 1235)، والدورقي في "مسند سعد" (128 و129).
ومدار الحديث على عبد الرحمن بن السائب بن أبي نهيك المخزومي، ويقال: اسمه عبد الله، ويقال: هو عبيد الله بن أبي نهيك، وهو مقبول كما في "التقريب" (3894).
(4) في (ر) و (غ): "لكن".
(5) في (غ): "ما هنا" وفي (م) و (ر): "ما هما".(2/105)
فكان مما (1) ظهر لي في بيان (2) هَذَا الْجَوَابِ: أَن مَا ذَكَرَهُ (3) فِي مَجَالِسِ الذكر صحيح إِذا كَانَ عَلَى حَسَبِ مَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَجْتَمِعُونَ لِتُدَارِسِ الْقُرْآنِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، حَتَّى يَتَعَلَّمَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَيَأْخُذَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، فَهُوَ مَجْلِسٌ مِنْ مَجَالِسِ الذِّكْرِ الَّتِي جاءَ فِي مِثْلِهَا مِنْ حديث أَبي هريرة رضي الله عنه، عنه عليه السلام (4): "مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وحَفَّت بِهِمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ" (5)، وَهُوَ الَّذِي فَهِمَهُ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ مِنْ الاجتماع على تلاوة كتاب (6) اللَّهِ.
وَكَذَلِكَ الِاجْتِمَاعُ عَلَى الذِّكْرِ، فإِنه اجْتِمَاعٌ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ، فَفِي رِوَايَةٍ أُخرى (7) أَنه قَالَ: "لَا يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ، إِلَّا حَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ ... "، الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ، لَا الِاجْتِمَاعُ لِلذِّكْرِ عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ. وإِذا اجْتَمَعَ الْقَوْمُ عَلَى التَّذَكُّرِ لِنِعَمِ اللَّهِ، أَو التَّذَاكُرِ فِي الْعِلْمِ إِن كَانُوا عُلَمَاءَ، أَو كَانَ فِيهِمْ عَالِمٌ فَجَلَسَ إِليه متعلِّمون، أَو اجْتَمَعُوا يُذَكِّر (8) بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالْعَمَلِ بِطَاعَةِ اللَّهِ، وَالْبُعْدِ عَنْ مَعْصِيَتِهِ ـ وَمَا أَشبه ذَلِكَ مِمَّا كَانَ يَعْمَلُ بِهِ رسول الله صلى الله عليه وسلم في أَصحابه، وَعَمِلَ بِهِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ ـ، فَهَذِهِ الْمَجَالِسُ كُلُّهَا مَجَالِسُ ذِكْرٍ (9)، وَهِيَ الَّتِي جاءَ فِيهَا مِنَ الأَجر مَا جاءَ.
كَمَا يُحْكى عَنْ ابن (10) أَبِي لَيْلَى أَنه سُئِلَ عَنِ الْقَصَصِ، فَقَالَ: أَدركت أَصحاب مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجلسون (11) ويحدِّث هذا بما سمع، ويحدِّث
_________
(1) في (غ) و (ر): "ما".
(2) قوله: "بيان" ليس في (خ) و (م).
(3) في (خ): "أن ذكره"، وقوله: "أن ما ذكره" مكرر في (غ).
(4) في (خ) "عن النبي صلّى الله عليه وسلّم".
(5) أخرجه مُسْلِمٌ (2699) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنه.
(6) في (خ): "كلام" بدل "كتاب".
(7) أخرجه مسلم (2700) من حديث أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما.
(8) في (ر) و (غ): "فذكر".
(9) في (ر): "ذكر الله".
(10) قوله: "ابن" سقط من (غ) و (ر).
(11) في (ر) و (غ): "يجالسون".(2/106)
هذا (1) بِمَا سَمِعَ، فأَما أَن يُجلسوا خَطِيبًا فَلَا (2).
وَكَالَّذِي (3) نَرَاهُ (4) مَعْمُولًا بِهِ فِي الْمَسَاجِدِ؛ مِنَ اجْتِمَاعِ الطَّلَبَةِ عَلَى مُعَلِّمٍ يُقْرِئُهُمُ الْقُرْآنَ، أَوْ عِلْماً من العلوم الشرعية، أَو يجتمع (5) إِليه الْعَامَّةُ، فَيُعَلِّمُهُمْ أَمر دِينِهِمْ، ويذكِّرهم بِاللَّهِ، ويبيِّن لَهُمْ سُنَّةَ نَبِيِّهِمْ لِيَعْمَلُوا بِهَا، ويبيِّن لَهُمُ الْمُحْدَثَاتِ الَّتِي هِيَ ضَلَالَةٌ لِيَحَذَرُوا مِنْهَا، ويجتنبوا (6) مَوَاطِنَهَا وَالْعَمَلَ بِهَا.
فَهَذِهِ مَجَالِسُ الذِّكْرِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَهِيَ الَّتِي حَرَمَها (7) اللَّهُ أَهلَ الْبِدَعِ مِنْ هؤلاءِ الفقراءِ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنهم سَلَكُوا طَرِيقَ (8) التصوُّف، فقلَّما (9) تَجِدُ مِنْهُمْ مَنْ يُحْسِنُ قراءَة الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاةِ إِلَّا عَلَى اللَّحْنِ، فَضْلًا عَنْ غَيْرِهَا، وَلَا يَعْرِفُ كَيْفَ يتعبَّد، وَلَا كَيْفَ يَسْتَنْجِي أَو يتوضأَ أَو يَغْتَسِلُ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَكَيْفَ يَعْلَمُونَ (10) ذَلِكَ وَهُمْ قَدْ حُرِمُوا مَجَالِسَ الذِّكْرِ الَّتِي تَغْشَاهَا الرَّحْمَةُ، وَتَنْزِلُ فِيهَا السَّكِينَةُ، وَتَحُفُّ بِهَا الْمَلَائِكَةُ؟ فَبِانْطِمَاسِ هَذَا النُّورِ عَنْهُمْ ضَلُّوا، فَاقْتَدَوْا بِجُهَّالٍ أَمثالهم، وأَخذوا يقرؤُون الأَحاديث النَّبَوِيَّةَ وَالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةَ فَيُنْزِلُونَهَا عَلَى آرَائِهِمْ، لَا عَلَى مَا قَالَ أَهل الْعِلْمِ فِيهَا. فَخَرَجُوا عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ إِلى أَنْ يَجْتَمِعُوا، وَيَقْرَأَ أَحَدُهُمْ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ يَكُونُ حَسَنَ الصَّوْتِ، طيِّب النَّغْمَةِ، جيِّد التَّلْحِينِ، تُشْبِهُ قِرَاءَتُهُ الغناءَ الْمَذْمُومَ، ثُمَّ يَقُولُونَ: تَعَالَوْا نَذْكُرُ (11) اللَّهَ! فيرفعون أصواتهم ويُمَشُّون (12)
_________
(1) في (خ) و (م): "وهذا" بدل "ويحدث هذا".
(2) أخرجه ابن وضاح في "البدع والنهي عنها" (40) من طريق عيسى بن يونس، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم بن عتيبة؛ قال: سألت عبد الرحمن بن أبي ليلى عن القصص ... ، فذكره.
وسنده ضعيف لضعف محمد بن أبي ليلى الراوي عن الحكم، فقد قال عنه ابن حجر في "التقريب" (6121): "صدوق سيء الحفظ جداً".
(3) في (خ): "وكان كالذي".
(4) في (غ) و (ر): "تراه".
(5) في (خ): "تجتمع".
(6) في (خ): "ويتجنبوا".
(7) في (ر) و (غ): "حرم".
(8) قوله: "طريق" من (خ) فقط.
(9) في (خ): "وقلما".
(10) في (غ) و (ر): "يعملون".
(11) في (خ) و (غ) و (ر): "تذكروا".
(12) في (خ): "يمشون".(2/107)
ذَلِكَ الذِّكْرَ مُدَاوَلَةً، طَائِفَةٌ فِي جِهَةٍ، وَطَائِفَةٌ فِي جِهَةٍ أُخرى، عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ يُشْبِهُ الغناءَ، وَيَزْعُمُونَ أَن هَذَا مِنْ مَجَالِسِ الذِّكْرِ الْمَنْدُوبِ إِليها، وَكَذَبُوا! فإِنه لَوْ كَانَ حَقًّا لَكَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ أَولى بإِدراكه وَفَهْمِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وإِلا فأَين فِي الْكِتَابِ أَوْ فِي السنة الاجتماع للذكر على صوت واحد جهراً عَالِيًا؟ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً (1) إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (2). وَالْمُعْتَدُونَ فِي التَّفْسِيرِ: هُمُ الرَّافِعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بالدعاءِ.
وَعَنْ أَبي مُوسَى قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَجْهَرُونَ بِالتَّكْبِيرِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وسلّم: "أيها الناس (3)! أَربعوا على أَنفسكم، إنكم ليس تَدْعُونَ أَصمَّ وَلَا غَائِبًا، إِنكم تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا، وَهُوَ مَعَكُمْ" (4). وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ تَمَامِ تَفْسِيرِ الْآيَةِ. وَلَمْ يَكُونُوا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يُكَبِّرُونَ عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ، وَلَكِنَّهُ نَهَاهُمْ عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ لِيَكُونُوا مُمْتَثِلِينَ لِلْآيَةِ. وَقَدْ جاءَ عَنِ السَّلَفِ أَيضاً النَّهْيُ عَنِ الِاجْتِمَاعِ عَلَى الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ بِالْهَيْئَةِ الَّتِي يَجْتَمِعُ عَلَيْهَا هؤلاءِ الْمُبْتَدِعُونَ (5)، وجاءَ عَنْهُمُ النَّهْيُ عَنِ الْمَسَاجِدِ المتَّخذة لذلك، وهي الرُّبُطُ التي يشبِّهونها (6) بالصُّفَّة. ذَكَرَ مِنْ ذَلِكَ ابْنُ وَهْبٍ وَابْنُ وضَّاح (7) وَغَيْرُهُمَا مَا فِيهِ كِفَايَةٌ لِمَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ.
فَالْحَاصِلُ مِنْ هؤلاءِ أَنهم حسَّنوا الظَّنَّ بأنفسهم (8) فيما هم عليه (9)، وأَساؤوا الظَّنَّ بِالسَّلَفِ الصَّالِحِ أَهل الْعَمَلِ (10) الرَّاجِحِ الصَّرِيحِ (11)، وأَهل الدين
_________
(1) في (خ) "وخيفة".
(2) سورة الأعراف: آية (55).
(3) قوله: "أيها الناس" ليس في (خ) و (م).
(4) أخرجه البخاري (2992 و4202 و6384 و6610 و7386)، ومسلم (2704).
(5) تقدم تخريجه (في القسم الأول ص251).
(6) في (خ) و (م): "يسمونها".
(7) في "البدع والنهي عنها" (ص34 وما بعدها).
(8) في (خ) و (م): "بأنهم" بدل "بأنفسهم"، وهي صحيحة بمراعاة التعليق التالي.
(9) في (خ): "فيما هم عليه مصيبون"، وكذا في (م)، لكن طمس على قوله: "مصيبون".
(10) في (غ) و (ر) و (م): "بالسلف الصالح والعمل".
(11) قوله: "الراجح الصريح" من (خ) فقط.(2/108)
الصَّحِيحِ. ثُمَّ لَمَّا طَالَبَهُمْ (1) لِسَانُ الْحَالِ بِالْحُجَّةِ، أخذوا كلام المجيب وهم لا يعلمونه (2)، وقوَّلوه مَا لَا يَرْضَى بِهِ العلماءُ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي كَلَامٍ آخَرَ؛ إِذ سُئِلَ عن ذكر فقراء زماننا، فأَجاب بأَن الغالب في (3) مجالس الذكر المذكورة في الأَحاديث أَنها هِيَ (4) الَّتِي يُتْلَى (5) فِيهَا الْقُرْآنُ، وَالَّتِي يُتَعَلَّم فِيهَا الْعِلْمُ وَالدِّينُ، وَالَّتِي تُعمر بِالْوَعْظِ (6) وَالتَّذْكِيرِ بِالْآخِرَةِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ؛ كَمَجَالِسِ (7) سُفْيَانَ الثوري، والحسن، وابن سيرين، وأَضرابهم.
وأما (8) مَجَالِسُ الذِّكْرِ اللِّسَانِيِّ: فَقَدْ صُرِّح بِهَا فِي (9) حَدِيثِ الْمَلَائِكَةِ السَّيَّاحين (10)، لَكِنْ لَمْ يُذكر فِيهِ جهر (11) بِالْكَلِمَاتِ، وَلَا رَفْعَ أَصوات، وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ. لَكِنَّ الأَصل الْمَشْرُوعَ إِعلان الْفَرَائِضِ وَإِخْفَاءُ النَّوَافِلِ، وأَتى بِالْآيَةِ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا *} (12)، وَبِحَدِيثِ: "أَربعوا عَلَى أَنفسكم" (13). قَالَ: وفقراءُ الْوَقْتِ قد تحيَّزوا (14) بآيات (15)،
_________
(1) في (غ) و (ر): "طلبهم".
(2) في (خ): "لا يعلمون".
(3) قوله: "الغالب في" ليس في (خ) و (م).
(4) قوله: "هي" ليس في (غ) و (م) و (ر).
(5) في (خ): "يختلا". وعلق عليها رشيد رضا بقوله: في الأصل: "يختلا" هكذا، فصححها ناسخ الورق الذي نطبع عنه، فجعلها: "يختلى"، وكلاهما غلط. اهـ.
(6) في (خ): "بالعلم" بدل "بالوعظ".
(7) في (غ) و (ر): "كمجاليس".
(8) في (خ) و (م): "أما".
(9) قوله: "في" ليس في (ر) و (غ).
(10) أخرجه الإمام أحمد (2/ 251 ـ 252)، والترمذي (3600) كلاهما من طريق أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة ـ أو عن أبي سعيد، هو شكّ، يعني الأعمش ـ؛ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم: "إن لله ملائكة سيّاحين في الأرض، فُضُلاً عن كتّاب الناس، فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله تبادروا: هلمّوا إلى بغيتكم ... " الحديث بطوله.
وقد أخرجه البخاري (6408) من طريق جرير، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة ـ ولم يشك ـ، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: "إن لله ملائكة يطوفون في الطرق ... " الحديث.
وأخرجه مسلم (2689) من طريق سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: "إن لله تبارك وتعالى ملائكة سيارة ... " الحديث.
(11) في (خ): "جهراً".
(12) سورة مريم: الآية (4).
(13) تقدم تخريجه في الصفحة السابقة.
(14) في (خ) و (م): "تخيروا".
(15) في (غ): "بئات"، وفي (م): يشبه أن تكون: "بنات".(2/109)
وَتَمَيَّزُوا بأَصوات، هِيَ إِلى الاعتداءِ أَقرب مِنْهَا إِلى الاقتداءِ، وَطَرِيقَتُهُمْ إِلى اتِّخَاذِهَا مَأْكَلَةً وَصِنَاعَةً أَقرب مِنْهَا إِلى اعْتِدَادِهَا قُرْبَةً وَطَاعَةً. انْتَهَى مَعْنَاهُ عَلَى اخْتِصَارِ أَكثر الشَّوَاهِدِ.
وَهِيَ دَلِيلٌ عَلَى أَن فَتْوَاهُ الْمُحْتَجَّ بِهَا لَيْسَ مَعْنَاهَا مَا رَامَ هؤلاءِ الْمُبْتَدَعَةُ، فإِنه سُئِلَ فِي هَذِهِ عَنْ فقراءِ الْوَقْتِ، فأَجاب بذمِّهم، وأَن حَدِيثَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَتَنَاوَلُ عَمَلَهُمْ. وَفِي الأُولى إِنَّمَا سُئِلَ عَنْ قوم يجتمعون لقراءَة كتاب الله (1)، أَو لِذِكْرِ اللَّهِ. وَهَذَا السُّؤَالُ يَصْدُقُ عَلَى قَوْمٍ يَجْتَمِعُونَ مَثَلًا فِي الْمَسْجِدِ، فَيَذْكُرُونَ اللَّهَ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي نَفْسِهِ، أَو يَتْلُو الْقُرْآنَ لِنَفْسَهُ (2)، كَمَا يَصْدُقُ عَلَى مَجَالِسِ المعلِّمين والمتعلِّمين، وَمَا أَشبه ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عليه، فلا يَسَعُهُ ولا غيره (3) مِنَ العلماءِ إِلا أَن يَذْكُرَ مَحَاسِنَ ذَلِكَ والثواب عليه، فلما سئل عن أَهل الابتداع (4) فِي الذِّكْرِ وَالتِّلَاوَةِ، بَيَّن مَا يَنْبَغِي أَن يَعْتَمِدَ عَلَيْهِ الْمُوَفَّقُ، وَلَا تَوْفِيقَ إِلا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ (5).
وأَما مَا ذَكَرَهُ فِي الإِنشادات الشِّعْرِيَّةِ، فَجَائِزٌ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُنْشِدَ الشِّعْرَ الَّذِي لَا رَفَثَ فِيهِ، وَلَا يذكِّر بِمَعْصِيَةٍ، وَأَنْ يَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِهِ إِذا أُنْشِدَ، عَلَى الْحَدِّ الَّذِي كَانَ يُنْشَدُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَو عَمِلَ بِهِ (6) الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَمَنْ يُقتدى بِهِ مِنَ العلماءِ؛ وَذَلِكَ أَنه كَانَ يُنشد ويُسمع لِفَوَائِدَ (7)، مِنْهَا: الْمُنَافَحَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم، وعن الإسلام وأَهله، فكانوا في زمانه يعارضون به الكفار في أشعارهم التي يذمون فيها الإسلام وأهله، ويمدحون بها الكفر وَأَهْلِهِ (8)، وَلِذَلِكَ كَانَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدْ نُصب لَهُ مِنْبَرٌ فِي الْمَسْجِدِ يُنْشِدُ عَلَيْهِ إِذا وَفَدَتِ الْوُفُودُ؛ حَتَّى يقولوا:
_________
(1) في (خ): "لقراءة القرآن".
(2) في (خ): "نفسه".
(3) في (خ) و (م): "وغيره".
(4) في (خ) و (م): "البدع".
(5) قوله: "العلي العظيم" من (خ) فقط.
(6) قوله: "به" ليس في (غ) و (ر).
(7) في (غ) و (ر): "الفوائد".
(8) من قوله: "فكانوا في زمانه" إلى هنا سقط من (خ) و (م).(2/110)
خَطِيبُهُ أَخطب مِنْ خَطِيبِنَا، وَشَاعِرُهُ أَشعر مِنْ شاعرنا، ويقول له صلّى الله عليه وسلّم: "اهْجُهُمْ وَجِبْرِيلُ مَعَكَ" (1)، وَهَذَا مِنْ بَابِ الْجِهَادِ في سبيل الله، ليس للفقراءِ مِنْ فَضْلِهِ فِي غِنَائِهِمْ بِالشِّعْرِ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَعَرَّضُونَ لِحَاجَاتِهِمْ، وَيَسْتَشْفِعُونَ بِتَقْدِيمِ الأَبيات بَيْنَ يَدَيْ طَلَبَاتِهِمْ؛ كَمَا فعل كعب (2) بن زهير رضي الله عنه (3)، وأُخت
_________
(1) أخرجه الإمام أحمد (6/ 72)، وأبو داود (4976)، والترمذي (2846)، والطبراني (4/ 37 رقم 3580)، والحاكم (3/ 487) جميعهم من طريق عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه وهشام بن عروة، عن عروة، عن عائشة، قالت: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يضع لحسان منبراً في المسجد يقوم عليه قائماً يفاخر ... ، الحديث.
قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب، وهو حديث ابن أبي الزناد".
وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه".
وفي سنده عبد الرحمن بن أبي الزناد ـ واسم أبي الزناد عبد الله بن ذكوان ـ، المدني، وهو صدوق تغيّر حفظه لما قدم بغداد كما في "التقريب" (3886)، ولكنه لم ينفرد به.
فقد أخرجه الطبراني برقم (3581) عن شيخه محمد بن هشام المعروف بابن أبي الدميك، عن إبراهيم بن زياد سَبَلان، عن إسماعيل بن مجالد، عن هلال الوزّان، عن عروة، عن عائشة، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم وضع لحسّان منبراً ينشد عليه هجاء المشركين.
وهذا إسناد حسن رجاله ثقات، عدا إسماعيل بن مجالد فهو مختلف فيه كما ترى ذلك في ترجمته في "تهذيب الكمال" (3/ 184 ـ 187)، والراجح أنه صدوق كما هو اختيار الذهبي في "الكاشف" (403)، وأما ابن حجر فقال في "التقريب" (480): "صدوق يخطئ".
وقوله صلّى الله عليه وسلّم لحسان: "اهجهم وجبريل معك": أخرجه البخاري (3213)، ومسلم (2486).
(2) قوله: "كعب" ليس في (خ).
(3) أي: في قصيدته المشهورة: بانت سعاد.
وهذه القصيدة وقصتها برغم شهرتها فليس لها إسناد يصح، ويبدو أن لإبراهيم بن المنذر الحزامي فيها مؤلفاً، فقد قال الحاكم في "المستدرك" (3/ 583): "هذا حديث له أسانيد قد جمعها إبراهيم بن المنذر الحزامي".
وقد جمع طرقها وتكلم عليها الشيخ إسماعيل الأنصاري رحمه الله في رسالة له فيها مفردة، وكذا الشيخ الدكتور سعود الفنيسان.
ومن أشهر طرقها: ما أخرجه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2706)، والحاكم في "المستدرك" (3/ 579)، وعنه البيهقي في "سننه" (10/ 243)، كلاهما=(2/111)
النضر بن الحارث (1)، مثل مَا يَفْعَلُ (2) الشعراءُ مَعَ الكبراءِ، هَذَا لَا حَرَجَ فِيهِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي الشِّعْرِ ذِكْرُ مَا لَا يَجُوزُ. وَنَظِيرُهُ فِي سَائِرِ الأَزمنة تَقْدِيمُ الشُّعَرَاءِ (3) للخلفاءِ وَالْمُلُوكِ وَمَنْ (4) أَشبههم قِطَعاً من أَشعارهم بين يدي حاجاتهم؛ لا كما (5) يفعله فقراء (6) الوقت المتجرِّدون (7) للسِّعَايَةِ عَلَى النَّاسِ، مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الِاكْتِسَابِ. وفي الحديث: "لا تحلّ (8) الصَّدَقَةُ لِغَنيٍّ، وَلَا لِذِي مِرَّة سوِيّ" (9)، فَإِنَّهُمْ يُنْشِدُونَ الأَشعار الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ اللَّهِ وَذِكْرُ
_________
=من طريق إبراهيم بن المنذر الحزامي، عن الحجاج بن ذي الرقيبة بن عبد الرحمن بن كعب بن زهير، عن أبيه، عن جده.
وصحح الحاكم هذا الطريق، وفيه الحجاج بن ذي الرقيبة بن عبد الرحمن بن كعب بن زهير، ولم أجد له ترجمة، ولا لأبيه وجده.
وله طرق أخرى معضلة ومرسلة تجدها عند الحاكم والبيهقي في "السنن" و"دلائل النبوة" (5/ 207 ـ 211)، وعند ابن حجر في "الإصابة" (8/ 289 ـ 292).
(1) تقدم تخريجه (ص103 ـ 104).
(2) في (غ) و (ر): "مثل يفعل".
(3) في (خ) و (م): "الشعر".
(4) في (ر) و (غ): "وما" بدل "ومن".
(5) في (خ) و (م): "كما".
(6) في (خ): "أهل" بدل "فقراء".
(7) في (خ) و (م): "المجردون".
(8) في (خ): "لا تصح".
(9) هو حديث صحيح، ورد عن عدّة من الصحابة، منهم: عبد الله بن عمرو، وأبو هريرة، ومن حديث عبيد الله بن عدي بن الخيار، عن رجلين من الصحابة.
أما حديث عبد الله بن عمرو: فأخرجه الطيالسي (2271)، وعبد الرزاق (7155)، وابن أبي شيبة (10663)، والدارمي (1/ 386)، وأبو داود (1631)، والترمذي (652)، وابن الجارود (363)، جميعهم من طريق سعد بن إبراهيم، عن ريحان بن يزيد، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: "لا تحلّ الصدقة لغني، ولا لذي مرّة سويّ".
قال الترمذي: "حديث حسن".
وفي سنده ريحان بن يزيد العامري وهو مقبول كما في "التقريب" (1987).
وأما حديث أبي هريرة: فأخرجه ابن أبي شيبة (10664)، والإمام أحمد في "المسند" (2/ 377 و389)، وابن ماجه (1839)، والنسائي (2597)، وابن الجارود (364)، وابن حبان في "صحيحه" (3290/ الإحسان)، جميعهم من طريق أبي بكر بن عياش، عن أبي حَصِيْن عثمان بن عاصم، عن سالم بن أبي الجعد، عن أبي هريرة، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، به مثله.
وسالم بن أبي الجعد كثير الإرسال عن الصحابة كما في "التقريب" (2183)، ولم يصرح بالسماع هنا، ولم أجد من نصّ على أنه سمع من أبي هريرة رضي الله عنه،=(2/112)
رَسُولِهِ؛ وَكَثِيرًا مَا يَكُونُ فِيهَا مَا لَا يَجُوزُ شَرْعًا، ويَتَمَندَلُونَ (1) بِذِكْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي الأَسواق والمواضع القذرة، ويجعلون ذلك آلة لأَخذ (2) مَا فِي أَيْدِي النَّاسِ، لَكِنْ بأَصواتٍ مُطْرِبَةٍ يُخَافُ بسببها الفتنة (3) عَلَى النساءِ وَمَنْ لَا عَقْلَ لَهُ مِنَ الرِّجَالِ.
وَمِنْهَا: أَنهم رُبَّمَا أَنشدوا الشِّعْرَ فِي الأَسفار الجهادية تنشيطاً لِكَلاَلِ
_________
=وقال الزيلعي في "نصب الراية" (2/ 399): "قال صاحب "التنقيح": رواته ثقات، إلا أن أحمد بن حنبل قال: سالم بن أبي الجعد لم يسمع من أبي هريرة".
وأبو بكر بن عياش ثقة عابد، إلا أنه لما كبر ساء حفظه، وكتابه صحيح كما في "التقريب" (8042).
ولكنه لم ينفرد به، فقد أخرجه الدارقطني (2/ 118) من طريق إسرائيل، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد، به. وأخرجه أبو يعلى (6199)، وابن خزيمة (2387)، والحاكم (1/ 407)، والبيهقي (7/ 13 ـ 14)، جميعهم من طريق سفيان بن عيينة، عن منصور، عن أبي حازم، عن أبي هريرة يبلغ به، فذكره مثله.
ويبدو أن سفيان كان يشك في رفعه، ففي رواية البيهقي: "فقيل لسفيان: هو عن النبي صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: لعلّه".
وهذا سند صحيح إن سلم من علّة شك سفيان، أو مخالفة إسرائيل له في الطريق السابقة التي رواها عن منصور، عن سالم.
وأخرجه الطبراني في "الأوسط" (7859)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (885)، كلاهما من طريق وهب بن بقية، عن خالد الطحان الواسطي، عن حصين بن عبد الرحمن، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، به مثله.
وسنده صحيح إن كان حصين سمع من أبي حازم، فإني لم أجد من نص عليه.
أما حديث عبيد الله بن عدي بن الخيار: فأخرجه ابن أبي شيبة (10666)، وأحمد (4/ 224)، وأبو داود (1630)، والنسائي (2598)، جميعهم من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبيد الله بن عدي بن الخيار؛ قال: أخبرني رجلان أنهما أتيا النبي صلّى الله عليه وسلّم يسألانه عن الصدقة، قال: فرفع فيهما البصر وصوّبه، وقال: "إنكما لجلدان"، فقال: "أما إن شئتما أعطيتكما، ولا حظّ فيها لغني ولا لقوي مكتسب".
وسنده صحيح. وقال الزيلعي في "نصب الراية" (2/ 401): "قال صاحب "التنقيح": حديث صحيح، ورواته ثقات. قال الإمام أحمد رضي الله عنه: ما أجوده من حديث! هو أحسنها إسناداً".
وللحديث طرق أخرى ذكرها جميعها الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله في "الإرواء" (877)، وحكم عليه بمجموعها بالصحة.
(1) أي: يتظاهرون.
(2) في (م): "بأخذ".
(3) قوله: "الفتنة" ليس في (خ) و (م).(2/113)
النفوس، وتنبيهاً للرواحل أَن تنهض بأثقالها (1)، وَهَذَا حَسَنٌ، لَكِنَّ الْعَرَبَ لَمْ يَكُنْ لَهَا مِنْ تَحْسِينِ النَّغَمَات مَا يَجْرِي مَجْرَى مَا النَّاسُ عَلَيْهِ الْيَوْمَ، بَلْ كَانُوا يُنْشِدُونَ الشِّعْرَ مطلقاً من غير أَن يَعْتَمِلُوا (2) هَذِهِ التَّرْجيعات الَّتِي حَدَثَتْ بِعَدَهُمْ، بَلْ كَانُوا يرقِّقون الصوت ويُمَطِّطُونه على وجهٍ يَلِيقُ بأُمّية (3) الْعَرَبِ الَّذِينَ لَمْ يَعْرِفُوا صَنَائِعَ الْمُوسِيقَى (4)، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ إِلذاذ (5) وَلَا إِطراب يُلْهِي، وإنما كان لهم فيه (6) شيء من النشاط؛ كما كان أَنْجَشَةُ (7) وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ يَحْدُوَانِ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (8)، وَكَمَا كَانَ الأَنصار يَقُولُونَ عِنْدَ حَفْرِ (9) الْخَنْدَقِ:
نَحْنُ الَّذين (10) بَايَعُوا مُحَمَّدَا ... عَلَى الْجِهَادِ مَا حَيِينَا أَبداً
فيجيبهم رسول الله (11) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ (12): اللَّهُمَّ لَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُ الْآخِرَهْ، فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ (13) ".
وَمِنْهَا: أَن يتمثَّل الرَّجُلُ بِالْبَيْتِ أَو الأَبيات مِنَ الْحِكْمَةِ فِي نَفْسِهِ لِيَعِظَ نَفْسَهُ، أَو يُنَشِّطها، أَوْ يُحَرِّكها لِمُقْتَضَى مَعْنَى الشِّعْرِ، أَو يذكرها لغيره (14) ذِكْرًا مُطْلَقًا؛ كَمَا حَكَى أَبو الْحَسَنِ القَرَافي الصُّوفي عن الحسن: أَن قوماً
_________
(1) في (خ) و (م): "في أثقالها".
(2) في (خ) و (م): "يتعلموا".
(3) علق رشيد رضا هنا بقوله: لعله: "لا يليق".اهـ.
(4) في (خ) و (م): "المويسقي".
(5) في (م): "لداد".
(6) "فيه" زيادة من (غ).
(7) في (م): "نحشة".
(8) أما حديث عبد الله بن رواحة: فتقدم تخريجه (ص103). وأما حديث أنجشة: فأخرجه البخاري في "صحيحه" (6149 و6161 و6202 و6210 و6211)، ومسلم (2323)، كلاهما من حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بعض أسفاره، وغلام أسود يقال له: أنجشة يحدو، فقال له رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا أنجشة! رويدك سوقاً بالقوارير".
(9) قوله: "حفر" سقط من (ر)، واستدرك في الهامش، ولم يتَّضح جيداً في التصوير.
(10) في (خ): "الذون".
(11) قوله: "رسول الله" ليس في (خ).
(12) قوله: "بقوله" من (خ) فقط.
(13) أخرجه البخاري (2834 و2835)، ومسلم (1805).
(14) قوله: "لغيره" ليس في (خ).(2/114)
أَتوا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالُوا: يَا أَمير الْمُؤْمِنِينَ! إِن لَنَا إِماماً إِذا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ تغنَّى، فَقَالَ عُمَرُ: مَنْ هُوَ؟ فذُكر لَهُ (1) الرَّجُلُ، فَقَالَ: قُومُوا بِنَا إِليه، فإِنا إِن وجَّهنا إِليه يَظُنُّ أَنّا تجسَّسنا عَلَيْهِ أَمره. قَالَ: فَقَامَ عُمَرُ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصحاب النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَتوا الرَّجُلَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ، فَلَمَّا أَن نَظَرَ إِلى عُمَرَ قَامَ فَاسْتَقْبَلَهُ، فَقَالَ: يَا أَمير الْمُؤْمِنِينَ! مَا حَاجَتُكَ؟ وَمَا جاءَ بِكَ؟ إِن كَانَتِ الْحَاجَةُ لَنَا كُنَّا أَحقَّ بِذَلِكَ مِنْكَ أَن نأْتيك، وإِن كَانَتِ الْحَاجَةُ لَكَ فأَحق مَنْ عَظَّمْنَاهُ خليفةُ خليفةِ (2) رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ لَهُ عُمَرُ: وَيَحَكَ! بَلَغَنِي عَنْكَ (3) أَمر ساءَني! قَالَ: وَمَا هو يا أَمير المؤمنين؟ فإني أعينك من نفسي، قال له عمر: بلغني أنك إذا صلَّيت تغنَّيت. قال: نعم يا أمير المؤمنين (4)! فقال (5) عمر (6): أتتمجَّن (7) فِي عِبَادَتِكَ؟ قَالَ: لَا يَا أَمير المؤمنين، ولكنها (8) عِظَةٌ أَعِظُ بها نفسي. فقال (9) عُمَرُ: قُلْها، فإِن كَانَ كَلَامًا حَسَنًا قُلْتُهُ (10) مَعَكَ، وإِن كَانَ قَبِيحًا نَهَيْتُكَ عَنْهُ. فَقَالَ:
وفُؤَادٌ كُلَّما عَاتَبْتُهُ ... عَادَ في (11) الهُجْران يَبْغي تَعَبي (12)
لَا أَراهُ الدَّهْرَ إِلاّ لاهِياً ... فِي تَمَادِيْهِ فَقَدْ بَرّحَ بِي
يَا قَرِينَ السُّوء مَا هَذَا الصِّبا ... فَنِيَ العُمر كَذَا فِي اللَّعِبِ (13)
وشَبَابٌ بَانَ (14) عَنِّي فمَضَى ... قَبْلَ أَن أَقْضِيَ مِنْهُ أَرَبِي
مَا أُرجّي (15) بَعْدَهُ إِلا الفَنَا ... ضَيَّقَ الشَّيْبُ عَلَيّ مَطْلَبي
_________
(1) قوله: "له" ليس في (خ).
(2) في (م) ضرب على قوله: "خليفة" الأولى، وفي (خ): "خليفة" مرة واحدة.
(3) في (خ): "عنك عنك".
(4) من قوله: "فإني أعينك" إلى هنا سقط من (خ) و (م).
(5) في (ر) و (غ): "قال".
(6) قوله: "عمر" ليس في (خ).
(7) في (ر) و (غ): "أوتتمجن".
(8) في (خ) و (م): "لكنها".
(9) في (خ) و (م): "قال".
(10) في (م): "قلت".
(11) في (خ) و (م): "في مدى" بدل "عاد في".
(12) في (م): "تعب" وفي (غ) و (ر): "لعبي".
(13) في (م): "ما للعب".
(14) في (م): "بار".
(15) في (م): "ما أرجو".(2/115)
وَيْحَ نَفْسِي! لَا أَرَاهَا أَبداً ... فِي جميلٍ لَا، وَلَا فِي (1) أَدَبِ
نفسُ لَا كنتِ وَلَا كَانَ الْهَوَى ... رَاقِبِي المَوْلى وخافِي وارْهَبي
قال (2): فقال عمر رضي الله تعالى عَنْهُ:
نفسُ لَا كنتِ وَلَا كَانَ الْهَوَى ... رَاقِبِي الْمَوْلَى وَخَافِي وَارْهَبِي
ثُمَّ قَالَ عُمَرُ (3): عَلَى هَذَا فليغنِّ مَنْ غنَّى (4).
فتأَمَّلوا قَوْلَهُ: "بلغني عنك أَمر ساءَني"، مَعَ قَوْلِهِ: "أَتتمجَّن فِي عِبَادَتِكَ"، فَهُوَ مِنْ أَشدّ مَا يَكُونُ فِي الإِنكار، حتّى (5) أَعلمه أَنه يردد على (6) لِسَانُهُ أَبياتَ حِكْمةٍ فِيهَا عِظَةٌ (7)، فَحِينَئِذٍ (8) أَقرّه وَسَلَّمَ لَهُ.
هَذَا وَمَا أَشبهه كَانَ فِعْلَ الْقَوْمِ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَمْ يَقْتَصِرُوا فِي التَّنْشِيطِ لِلنُّفُوسِ وَلَا الْوَعْظِ عَلَى مجرَّد الشِّعْرِ، بَلْ وَعَظُوا أَنْفُسَهُمْ بِكُلِّ مَوْعِظَةٍ، وَلَا كَانُوا يَسْتَحْضِرُونَ لِذِكْرِ الأَشعار المغنِّين، إِذ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ طَلَبَاتِهِمْ، وَلَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنَ الغناءِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي أَزماننا (9) شيءٌ، وإِنّما دَخَلَ فِي الإِسلام بَعْدَهُمْ حِينَ خَالَطَ الْعَجَمُ الْمُسْلِمِينَ.
وَقَدْ بيَّن ذَلِكَ أَبو الْحَسَنِ القَرَافي، فَقَالَ: إِن (10) الْمَاضِينَ مِنَ الصَّدْرِ الأَوّل حُجَّة عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ، وَلَمْ يَكُونُوا يُلَحِّنون الأَشعار وَلَا يُنَغِّمُونَها
_________
(1) قوله: "في" ليس في (م).
(2) قوله: "قال" ليس في (غ) و (ر).
(3) قوله: "عمر" من (خ) فقط.
(4) أخرج هذه القصة ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (44/ 312) من طريق الفضل بن عمير بن تميم المروزي، عن عبيد الله بن محمد العيشي، عن أبيه، عن مزيدة بن قعنب الرهاوي؛ قال: كنا عند عمر ... ، فذكرها مع اختلاف يسير.
ولم أجد ترجمة لمزيدة بن قعنب ولا للفضل بن عمير.
(5) في (غ): "على".
(6) قوله: "على" ليس في (خ) و (م).
(7) في (خ): "موعظة".
(8) في (غ): "ثم".
(9) في (غ) و (ر): "أزمنتنا"، وفي (خ): "أزمات" وعلق عليها رشيد رضا بقوله: في الأصل: "أزمات"، فهو تحريف ظاهر. اهـ.
(10) في (خ): "أي".(2/116)
بأَحسن (1) مَا يَكُونُ مِنَ النَّغَم، إِلا مِنْ وَجْهِ إِرسال الشِّعْرِ واتِّصال الْقَوَافِي. فإِن كَانَ صوتُ أَحدهم أَشْجَى (2) مِنْ صَاحِبِهِ كَانَ ذَلِكَ مَرْدُودًا إِلى أَصل الخِلْقة لَا يَتَصَنَّعون وَلَا يَتَكَلّفون.
هَذَا مَا قَالَ (3). فَلِذَلِكَ نصَّ العلماءُ عَلَى كَرَاهِيَةِ ذَلِكَ المُحْدَث، وَحَتَّى سُئل مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ الغناءِ الَّذِي يَسْتَعْمِلُهُ (4) أَهل المدينة، فقال: إِنما يفعله عندنا (5) الفُسّاق (6). وَلَا كَانَ (7) المتقدِّمون أَيضاً يَعُدُّون الغناءَ جُزْءاً مِنْ أَجزاءِ طَرِيقَةِ التعبُّد، وَطَلَبِ رقَّة النفوس، وخشوع القلوب، حتى يقصدوه قَصْدًا، ويتعمَّدوا اللَّيَالِي الْفَاضِلَةِ، فَيَجْتَمِعُوا لأَجل الذِّكْرِ الجَهْري، ثم الغناء (8)، والشَّطْح، والرَّقْص، والتَّغَاشِي، والصِّيَاح، وَضَرْبِ الأَقدام عَلَى وزن إيقاع الأَكُفِّ (9) أَو الْآلَاتِ، وَمُوَافَقَةِ (10) النَّغَمَات. هَلْ فِي كَلَامِ النبي صلّى الله عليه وسلّم أو عمله (11) الْمَنْقُولِ فِي الصِّحَاحِ (12)، أَوْ عَمَلِ السَّلَفِ الصَّالِحِ، أَو أَحدٍ من العلماءِ من ذَلِكَ (13) أَثر؟ أَو فِي كَلَامِ المُجِيب مَا يُصَرِّحُ بِجَوَازِ مِثْلِ هَذَا؟.
بَلْ سُئل عَنْ إِنشاد الأَشعار بالصَّوامع كَمَا يَفْعَلُهُ المؤذِّنون الْيَوْمَ فِي الدعاءِ بالأَسحار؟ فأَجاب بأَن ذَلِكَ بِدْعَةٌ مُضَافَةٌ إِلى بِدْعَةٍ؛ لأَن الدعاءَ بِالصَّوَامِعِ بِدْعَةٌ، وإِنشاد الشِّعْرِ وَالْقَصَائِدِ (14) بِدْعَةٌ أُخْرَى، إِذ لَمْ يكن ذلك
_________
(1) في (ر): "فأحسن".
(2) في (خ): "أشجن".
(3) قوله: "هذا ما قال" مكرر في (غ).
(4) في (ر) و (غ): "يتعلمه".
(5) قوله: "عندنا" ليس في (خ) و (م).
(6) رواه عبد الله بن أحمد في "العلل" (1581) عن أبيه، عن إسحاق بن عيسى الطباع؛ أنه سأل مالكاً ... ، فذكره. وسنده حسن.
(7) في (خ): "ولكن".
(8) قوله: "ثم الغناء" ليس في (خ) و (م).
(9) في (خ) و (م): "الكف".
(10) في (م): "وموافقات".
(11) في (خ): "وعمله".
(12) في (ر) و (غ): "الصحيح".
(13) قوله: "من ذلك" ليس في (خ): وقوله: "من" ليس في (م).
(14) في (ر) و (غ) و (م): "وإنشاد القصائد".(2/117)
فِي زَمَنِ (1) السَّلَف المُقْتَدَى بِهِمْ.
كَمَا أَنه سُئِلَ عَنِ الذِّكْر الجَهْري أَمام الْجِنَازَةِ، فأَجاب بأَن السُّنَّة فِي اتِّباع (2) الْجَنَائِزِ الصَّمْت والتَّفَكُّر والاعتبار، وأَن ذلك فعل السلف. قال (3): وَاتِّبَاعُهُمْ سُنّة، وَمُخَالَفَتُهُمْ بِدْعَةٌ، وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: لَنْ يأْتِيَ آخرُ هَذِهِ الأُمَّة بأَهدى مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ أَوّلُها (4).
وأَما مَا ذَكَرَهُ (5) المُجِيب فِي التَّوَاجُدِ عِنْدَ السَّماع مِنْ أَنَّهُ أَثر رِقَّةِ النَّفس وَاضْطِرَابِ الْقَلْبِ، فإِنه لَمْ يبيِّن ذَلِكَ الأَثر مَا هُوَ، كَمَا أَنه لَمْ يبيِّن مَعْنَى الرِّقَّة، وَلَا عرَّج عَلَيْهَا بتفسيرٍ يُرشد إلى معنى (6) التَّوَاجُدِ عِنْدَ الصُّوفِيَّةِ، وإِنما فِي كَلَامِهِ أَن ثَمَّ أَثراً ظَاهِرًا يَظْهَرُ عَلَى جِسْمِ المُتَوَاجِد، وَذَلِكَ الأَثر يَحْتَاجُ إِلى تَفْسِيرٍ. ثُمَّ التَّوَاجُدُ يَحْتَاجُ إِلَى شرحٍ بِحَسَبَ مَا يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِهِ فِيهِ (7).
وَالَّذِي يَظْهَرُ فِي التَّوَاجُد (8) مَا كَانَ يَبْدُو عَلَى جملةٍ مِنْ أَصحاب رَسُولِ الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو البُكاءُ، واقْشِعْرَارُ الجِلْد التَّابِعِ لِلْخَوْفِ، الْآخِذِ (9) بمَجَامِع الْقُلُوبِ، وَبِذَلِكَ وَصَفَ اللَّهُ عِبَادَهُ فِي كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ
_________
(1) في (ر) و (م): "زمان".
(2) في (غ): "التباع".
(3) قوله: "قال" ليس في (خ) و (م).
(4) لم أجده بهذا اللفظ، والظاهر أن المصنف عبَّر بالمعنى عما اشتهر عن الإمام مالك رحمه الله من قوله: "لا يصلح آخر هذا الأمر إلا ما أصلح أوله"، وهذا ينسب إليه مباشرة كما في "منهاج السنة" (2/ 444) وغيره.
بينما أسنده ابن عبد البر في "التمهيد" (23/ 10) بسند صحيح من طريق أشهب، عن الإمام مالك قال: كان وهب بن كيسان يقعد إلينا، ولا يقوم أبداً حتى يقول لنا: اعلموا أنه لا يُصلح آخر هذا الأمر إلا ما أصلح أوله. قلت: يريد ماذا؟ قال: يريد في بادئ الإسلام، أو قال: يريد التقوى.
(5) في (غ) و (ر): "وأما ما ذكر".
(6) في (خ) و (م) "فهم".
(7) قوله: "فيه" ليس في (خ).
(8) من قوله: "وذلك الأثر" إلى هنا سقط من (غ) و (ر).
(9) في (ر): "لا لاخذ".(2/118)
جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (1)، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} (2)، وَقَالَ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً}، إلى قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} (3).
وعن عبد الله بن الشِّخِّير رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصلّي، وَلِجَوْفِهِ أَزِيزٌ كأَزِيزِ المِرْجَلِ؛ يَعْنِي مِنَ الْبُكَاءِ (4).
والأَزِيزُ: صوتٌ يشبه غَلَيان القِدْر.
وَعَنِ الْحَسَنِ؛ قَالَ: قَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ *مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ *} (5)، فَرَبَى لَهَا رَبْوةً، عِيد مِنْهَا عِشْرِينَ يَوْمًا (6).
وعن عُبيد (7) بن [عُمَير] (8)؛ قال: صلَّى بنا عمر بن الخطاب
_________
(1) سورة الزمر: الآية (23).
(2) سورة المائدة: الآية (83).
(3) سورة الأنفال: الآيات (2 ـ 4).
(4) أخرجه ابن المبارك في "الزهد" (109) وأبو عبيد في "فضائل القرآن" (ص136)، وأحمد في "المسند" (4/ 25 و26)، وأبو داود في "سننه" (904)، والترمذي في "الشمائل" (315)، والنسائي (1214)، وابن خزيمة في "صحيحه" (900)، وابن حبان في "صحيحه" (665، و753/ الإحسان)، جميعهم من طريق حماد بن سلمة، عن ثابت، عن مُطَرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير، عن أبيه رضي الله عنه، به.
وسنده صحيح.
(5) سورة الطور: الآيتان (7 و8).
(6) أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" (ص136 ـ 137) من طريق هشام بن حسان، عن الحسن البصري، فذكره.
وسنده ضعيف؛ لأن الحسن البصري لم يسمع من عمر رضي الله عنه، فإنه إنما ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر كما في "تهذيب الكمال" (6/ 97). والراوي عن الحسن هو هشام بن حسان، وفي روايته عنه مقال، لأنه لم يسمع منه أكثر حديثه فيما يقال، انظر "تهذيب الكمال" (30/ 184 ـ 193).
(7) قوله: "عبيد" جاء في آخر السطر في نسخة (م)، فألحق به بخط مغاير قوله: "الله"، وهكذا جاء في طبعة رشيد رضا: "عبيد الله".
(8) في جميع النسخ: "عمر"، والتصويب من مصادر التخريج.(2/119)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَلَاةَ الْفَجْرَ، فَافْتَتَحَ سُورَةَ يُوسُفَ فقرأَها، حَتَّى إِذا (1) بَلَغَ: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} (2) بكى (3) حتى انقطع، فركع (4).
وَفِي رِوَايَةٍ: لِمَا انْتَهَى إِلى قَوْلِهِ: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} (5) بَكَى حَتَّى سُمِعَ نَشِيجُهُ مِنْ وراءِ الصُّفوف (6).
وَعَنْ أَبي صَالِحٍ؛ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ أَهل الْيَمَنِ فِي زَمَانِ (7) أَبي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ سَمِعُوا الْقُرْآنَ، فَجَعَلُوا يَبْكُونَ، فَقَالَ أَبو بكر: هكذا كُنّا ثُمَّ قَسَت القلوب (8).
_________
(1) قوله: "إذا" ليس في (غ) و (ر).
(2) سورة يوسف: الآية (84).
(3) في (غ) و (ر): "فبكى".
(4) قوله: "فركع" ليس في (خ) و (م).
وهذا الأثر أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" (ص137) من طريق النضر بن إسماعيل، عن ابن أبي ليلى، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، به. وفي سنده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وهو صدوق، إلا أنه سيء الحفظ جداً كما في "التقريب" (6121).
وذكر ابن حجر في "فتح الباري" (2/ 206) أن ابن المنذر أخرجه من طريق عبيد بن عمير.
ولم ينفرد به ابن أبي ليلى.
فقد أخرجه أبو عبيد في الموضع السابق من طريق ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن علقمة بن وقاص، عن عمر مثله، إلا أنه ذكر صلاة العتمة بدل الفجر.
وعبد الملك بن عبد العزيز بن جريج ثقة فقيه فاضل، إلا أنه كان يدلِّس كما في "التقريب" (4221)، ولم يصرِّح بالسماع.
ويتقوَّى أيضاً بالطريق الآتية.
(5) سورة يوسف: آية (86).
(6) هذه الرواية أخذها المصنف ـ كما أخذ الروايتين قبلها ـ من "فضائل القرآن" لأبي عبيد. ولكن أبا عبيد لم يسند هذه الرواية، وإنما أخرجها مسندة: عبد الرزاق في "المصنف" (2716)، وسعيد بن منصور في "سننه" (1138 / التفسير)، وابن سعد في الطبقات (6/ 126)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (35516)، جميعهم من طريق عبد الله بن شداد بن الهاد؛ قال: سمعت نشيج عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وإني لفي آخر الصفوف: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ}.
وسنده صحيح.
(7) في (غ) و (ر): "زمن".
(8) في (خ) و (م): "هكذا كنا حتى قست قلوبنا".=(2/120)
وَعَنِ ابْنِ أَبي لَيْلَى: أَنه قرأَ سُورَةَ مَرْيَمَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى السَّجْدَةِ: {خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} (1)، فَسَجَدَ بِهَا، فَلَمَّا رَفَعَ رأُسه قَالَ: هَذِهِ السَّجْدَةُ قَدْ سَجَدْنَاهَا، فأَين البكاءُ؟ (2).
إِلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآثَارِ الدالَّة عَلَى أَنَّ أَثَرَ الْمَوْعِظَةِ الَّذِي يَكُونُ بِغَيْرِ تصنُّع إِنَّمَا هُوَ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ وَمَا أَشْبَهَهَا.
وَمِثْلُهُ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} (3) ـ ذكره بعض المفسرين ـ، وذلك أنهم (4) لَمَّا أَلقى اللَّهُ الإِيمان فِي قُلُوبِهِمْ؛ حَضَرُوا عِنْدَ مَلِكِهِمْ دِقْيَانُوسَ الْكَافِرِ، فتحرَّكت فأْرة أَو هِرَّة خاف لأَجلها الملك، فنظر الفتية بعضهم إِلى بَعْضٍ، وَلَمْ يَتَمَالَكُوا أَن (5) قَامُوا مصرِّحين بِالتَّوْحِيدِ، مُعْلِنِين بِالدَّلِيلِ وَالْبُرْهَانِ، مُنْكِرِينَ عَلَى الْمَلِكِ (6) نِحْلَةَ الْكُفْرِ، باذِلين أَنفسهم فِي ذَاتِ اللَّهِ، فأَوعدهم، ثم أجّلهم (7)، فَتَوَاعَدُوا الْخُرُوجَ إِلَى الْغَارِ، إِلَى أَن كَانَ مِنْهُمْ مَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ. فليس في شيءٍ من (8) ذَلِكَ صَعْقٌ وَلَا صِياح (9)، وَلَا شَطح، وَلَا تَغَاشٍ مُسْتَعْمَلٌ، وَلَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ شأْن فقرائنا اليوم.
_________
=والأثر أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" (ص135)، وأبو نعيم في "الحلية" (1/ 33 ـ 34)، كلاهما من طريق أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح ذكوان السمان، فذكره.
وسنده رجاله ثقات، لكنه ضعيف لإرساله؛ فإن أبا صالح لم يسمع من أبي بكر رضي الله عنه كما في "المراسيل" لابن أبي حاتم (201)، و"جامع التحصيل" (ص174).
(1) سورة مريم: آية (58).
(2) أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن (ص140) من طريق إسماعيل بن مجالد، عن هلال الوزّان، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، به.
وفي سنده إسماعيل بن مجالد بن سعيد الهمداني وهو صدوق، إلا أنه يخطئ كما في "التقريب" (480)، فالحديث ضعيف لأجله.
(3) سورة الكهف: آية (14).
(4) في (خ): "أنه"،
(5) في (خ): "إلى أن".
(6) قوله: "على الملك" ليس في (غ) و (م).
(7) في (خ) و (م): "أخلفهم".
(8) قوله: "شيء من" ليس في (خ).
(9) قوله: "ولا صياح" ليس في (غ).(2/121)
وخرَّج (1) سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي "تَفْسِيرِهِ" (2) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ (3) عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ؛ قَالَ: قلت لِجَدَّتي أَسماءَ: كيف كان يصنع (4) أَصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذا قَرَؤُوا الْقُرْآنَ؟ قَالَتْ: كَانُوا كَمَا نَعَتَهُم اللَّهُ: تَدْمَعُ أَعينهم، وتَقْشَعِرّ جُلُودُهُمْ. قُلْتُ: إِنَّ نَاسًا (5) هَاهُنَا إِذا سَمِعُوا ذَلِكَ تأْخذهم عَلَيْهِ غَشْيَة. فَقَالَتْ: أَعوذ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ.
وخرج أَبو (6) عبيد (7) من حديث أَبي حَازِمٍ؛ قَالَ: مرَّ ابْنُ عُمَرَ بِرَجُلٍ مِنْ أَهل الْعِرَاقِ سَاقِطٌ وَالنَّاسُ حَوْلَهُ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا (8): إِذا قُرِئ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، أَو سَمِعَ اللَّهَ يُذْكَر خرَّ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَاللَّهِ إِنا لَنَخْشَى الله وما (9) نسقط. وهذا إنكار.
_________
(1) في (ر) و (غ) و (م): "خرج".
(2) وهو جزء من "السنن"، والأثر فيه برقم (95)، وسنده صحيح، وقد خرجته وتكلمت عنه هناك، فانظره إن شئت.
(3) قوله: "عبد الله بن" مكرر في (غ) و (ر).
(4) قوله: "يصنع" سقط من (خ) و (م).
(5) في (خ): "نسا".
(6) في (خ) و (م): "ابن".
(7) في "فضائل القرآن" (ص214) من طريق سعيد بن عبد الرحمن الجُمَحي؛ قال: سمعت أبا حازم يقول: مرَّ ابن عمر ... ، فذكره.
وسنده حسن، فسعيد بن عبد الرحمن الجُمَحي ليس به بأس كما قال الإمام أحمد، وقد وثقه ابن معين وابن نمير وموسى بن هارون والعجلي وأبو عبد الله الحاكم، وقال عنه أحمد ما تقدم. وقال النسائي: "لا بأس به". وقال ابن عدي: "له أحاديث غرائب حسان، وأرجو أنها مستقيمة، وإنما يهم عندي في الشيء بعد الشيء، فيرفع موقوفاً، أو يصل مرسلاً، لا عَنْ تَعَمُّد". وقال أبو حاتم: "صالح". وقال يعقوب بن سفيان: "ليِّن الحديث". وقال زكريا الساجي: "يروي عن هشام وسهيل أحاديث لا يتابع عليها". وبالغ ابن حبان في تضعيفه. وقال ابن حجر: "صدوق له أوهام، وأفرط ابن حبان في تضعيفه". انظر: "تهذيب الكمال" (10/ 528 ـ 532)، و"تهذيب التهذيب" (2/ 30)، و"التقريب" (2363).
وأخرجه البغوي في "تفسيره" (4/ 77)، وابن الجوزي في "تلبيس إبليس" (ص282)، كلاهما من طريق سعيد بن عبد الرحمن، به.
(8) في (غ) و (ر): "فقا".
(9) في (خ): "ولا".(2/122)
وَقِيلَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (1): إِن قَوْمًا إِذا سمعوا القرآن صَعِقُوا (2)! فَقَالَتْ: إِنَّ (3) الْقُرْآنَ أَكرم مِنْ أَن (4) تَنْزِفَ عَنْهُ عُقُولُ الرِّجَالِ، وَلَكِنَّهُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (5).
وَعَنْ أَنس بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنه سُئِلَ عَنِ الْقَوْمِ يُقرأُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ فيُصْعَقون، فَقَالَ: ذَلِكَ فِعْلُ الْخَوَارِجِ (6).
وَخَرَّجَ أَبُو نعيم (7)
_________
(1) أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" (ص214 ـ 215) من طريق هشام بن حسان؛ قال: قيل لعائشة ... ، فذكره.
وسنده ضعيف؛ فهشام بن حسان لم يلق أحداً من الصحابة كما قال ابن المديني، انظر: "جامع التحصيل" (ص293).
(2) قوله: "صعقوا" سقط من (م)، وفي (خ): "إذا سمعوا القرآن يغشى عليهم".
(3) قوله: "إن" ليس في (غ) و (ر)، وليس هو في الطبعة التي صار العزو إليها من "فضائل القرآن" لأبي عبيد، وهو مثبت في بعض نسخه؛ كما في النسخة المغربية بتحقيق أحمد الخياضي رقم (374).
(4) في (م): "أكرم ميزان".
(5) سورة الزمر: آية (23).
(6) أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" (ص215) من طريق زيد بن الحباب، عن مسيّب العنبري، عن قتادة، عن أنس، به.
وفي سنده مسيّب العنبري ولم أجد له ترجمة.
والظاهر أنه تصحّف عن "شبيب بن مهران أبي زياد القسملي البصري" المترجم في "التاريخ الكبير" للبخاري (4/ 233)، "والجرح والتعديل" (4/ 360)، فإنه يروي عن قتادة، وعنه زيد بن الحباب، وقد أخرج هذا الأثر من طريقه البخاري في الموضع السابق عن قتادة، وذكر ـ أي البخاري ـ أن زيد بن الحباب رواه عنه.
ثم وجدته في الطبعة المغربية من "فضائل القرآن" لأبي عبيد (375): "شبيب العبدي"، وهو ابن مهران، فزال الإشكال والحمد لله.
وأخرجه ابن الجوزي في "تلبيس إبليس" (ص282) من طريق إبراهيم بن الحجاج، عن شبيب، به. ولم يتكلم البخاري ولا ابن أبي حاتم عن شبيب بجرح ولا تعديل، وقد ذكره ابن حبان في "الثقات" (6/ 443)، وذكره الذهبي في "ميزان الاعتدال" (3662)، ونقل عن السيف ابن المجد الحافظ قوله: "فيه بعض الكلام".
(7) في "الحلية" (3/ 167)، ومن طريقه ابن الجوزي في "تلبيس إبليس" (ص282 ـ 283)، من طريق سليمان بن أحمد الطبراني، عن شيخه محمد بن العباس، عن=(2/123)
عن عامر (1) بن عبد الله بن الزبير (2)؛ قَالَ: جِئْتُ أَبي، فَقَالَ: أَين كُنْتَ؟ فَقُلْتُ: وَجَدْتُ أَقواماً يَذْكُرُونَ اللَّهَ فَيَرْعُدُ أَحدُهم حَتَّى يُغشى عَلَيْهِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ (3)، فَقَعَدْتُ مَعَهُمْ. فقال: لا تقعدْ معهم (4) بعدها. فرآني كأَنه لَمْ يأَخذ ذَلِكَ فيَّ، فَقَالَ: رأَيت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتْلُو الْقُرْآنَ، ورأَيت أَبا بَكْرٍ وَعُمَرَ يَتْلُوَانِ الْقُرْآنَ (5)، فَلَا يُصِيبُهُمْ هَذَا، أَفتَرَاهُم أَخشعَ لِلَّهِ مَنْ أَبي بكر وعمر؟ فرأَيت أن ذلك كذلك، فتركتهم. انتهى (6).
وَهَذَا يُشْعِر (7) بأَن ذَلِكَ كلَّه تعمُّلٌ وتكلُّفٌ لَا يُرضى بِهِ أهلُ الدِّين.
وَسُئِلَ مُحَمَّدُ بن سيرين عن الرجل يُقْرَأُ عنده القرآن (8) فَيَصْعَقُ؛ فَقَالَ: مِيعَادُ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ أَن يُجْلَسَ عَلَى حَائِطٍ، ثُمَّ يُقرأُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنْ أَوّله إِلى آخِرِهِ، فإِن وَقَعَ فَهُوَ كما قال (9).
_________
=الزبير بن بكار، عن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، به.
والطبراني أخرجه في "المعجم الكبير" كما في "مجمع الزوائد" (10/ 377 رقم 17650).
والزبير بن بكار أخرجه في "الموفقيات" كما في "الدر المنثور" (7/ 222).
وسنده ضعيف لضعف عبد الله بن مصعب كما يتضح من ترجمته في "لسان الميزان" (4/ 360).
(1) في (خ) و (م): "جابر" بدل "عامر".
(2) في (خ): "أن ابن الزبير رضي الله عنه".
(3) سقط لفظ الجلالة "الله" من (ر).
(4) قوله: "معهم" ليس في (خ)، و (م).
(5) قوله: "القرآن" ليس في (م).
(6) قوله: "انتهى" ليس في (خ).
(7) قوله: "يشعر" ليس في (خ).
(8) قوله: "القرآن" ليس في (خ).
(9) أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" (ص215) من طريق زيد بن الحباب، عن حمران بن عبد العزيز وجرير بن حازم؛ أنهما سمعا محمد بن سيرين ... ، فذكره.
كذا جاء فيه: "حمران بن عبد العزيز"، وصوابه: "عمران".
فقد أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (2/ 265) من طريق زياد بن يحيى، عن عمران بن عبد العزيز؛ قال: سمعت محمد بن سيرين، فذكره.
ومن طريق أبي نعيم أخرجه ابن الجوزي في "تلبيس إبليس" (ص283).
وأخرجه ابن الجوزي أيضاً من طريق أبي عمر حفص بن عمر الضرير، عن جرير بن حازم، عن ابن سيرين، به.=(2/124)
وهذا الكلام أصل (1) حَسَنٌ في الفرق بين (2) الْمُحِقِّ والْمُبْطِلِ؛ لأَنه إِنما كَانَ عِنْدَ الْخَوَارِجِ نَوْعًا مِنَ القِحَّة (3) فِي النُّفُوسِ الْمَائِلَةِ عَنِ الصَّوَابِ، وَقَدْ تُغَالِطُ النَّفْسُ فِيهِ فَتَظُنُّهُ انْفِعَالًا صَحِيحًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنه لَمْ يظهر على (4) أَحدٍ من الصحابة هُوَ (5) وَلَا مَا يُشْبِهُهُ، فإِن مَبْنَاهُمْ كَانَ على الحق، فلم يكونوا لِيَسْتَعْمِلوا (6) فِي دِينِ اللَّهِ (7) هَذِهِ اللُّعَبَ الْقَبِيحَةَ المُسْقِطة للأَدب والمروءَة.
نَعَمْ قَدْ لَا يُنكر اتِّفَاقُ الغَشْي وَنَحْوِهِ، أَو الْمَوْتِ لِمَنْ سَمِعَ الْمَوْعِظَةَ بحقٍّ فضعُف عَنْ مُصَابَرَةِ الرِّقَّة الْحَاصِلَةِ بِسَبَبِهَا، فَجَعَلَ ابْنُ سِيرِينَ ذَلِكَ الضَّابِطَ مِيزَانًا للمُحِقّ والمُبْطِل، وَهُوَ ظَاهِرٌ؛ فإِن القِحَةَ لَا تَبْقَى مَعَ خَوْفِ السُّقوط مِنَ الْحَائِطِ (8)، فَقَدِ اتَّفَقَ من ذلك بعض النوادر ظهر (9) فيها (10) عذر المُتَواجِد (11).
فحُكي عَنْ أَبي (12) وَائِلٍ؛ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وَمَعَنَا الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْم (13)، فَمَرَرْنَا عَلَى حَدَّاد، فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَنْظُرُ إِلى حديدةٍ فِي النَّارِ، فَنَظَرَ الرَّبِيعُ إِليها فَتَمَايَلَ ليَسْقُط. ثُمَّ إِن عَبْدَ اللَّهِ مَضَى كَمَا هُوَ حَتَّى أَتينا عَلَى شَاطِئِ الْفُرَاتِ عَلَى أَتُّون (14)، فَلَمَّا رَآهُ عَبْدُ اللَّهِ وَالنَّارُ تَلْتَهِبُ فِي جَوْفِهِ قرأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ
_________
=قال حفص بن عمر: وكان محمد بن سيرين يذهب إلى أن هذا تصنُّع، وليس بحقٍّ من قلوبهم.
فتبين بهذه الطرق أن سنده صحيح إلى ابن سيرين.
(1) قوله: "أصل" ليس في (خ).
(2) قوله "الفرق بين" ليس في (خ) و (م).
(3) القِحّةُ: الجفاء، والقُحّ: هو الجافي من الناس. انظر: "لسان العرب" (2/ 553).
(4) في (م): "عن".
(5) في (خ): "لا هو".
(6) في (خ): "يستعملوا".
(7) في (م): "في الدين الله".
(8) قوله: "من الحائط" من (خ) فقط
(9) في (خ): "وظهر".
(10) في (ر) و (غ): "فيه".
(11) في (خ): "التواجد".
(12) في (م): "عن ابن أبي".
(13) في (خ): "خيثمة"، وفي (م): "خيثم".
(14) الأَتّون: هو موقد النار كما سيأتي عند المصنِّف، وانظر "لسان العرب" (13/ 7). وفي (ر): "أثون" بالثاء.(2/125)
سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا *}، إلى قوله: {دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا} (1)؛ قال (2): فَصَعِقَ الرَّبِيعُ ـ يَعْنِي غُشي عَلَيْهِ ـ، فَاحْتَمَلْنَاهُ فأَتينا بِهِ أَهله. قَالَ: ورابَطَهُ عَبْدُ اللَّهِ إِلى الظُّهْرِ فَلَمْ يُفِقْ؛ فَرَابَطَهُ إِلى الْمَغْرِبِ فأَفاق؛ ورجع عبد الله إِلى أَهله (3).
فهذه حالة (4) طرأَت لِوَاحِدٍ (5) مَنْ أَفاضل التَّابِعِينَ بِمَحْضَرِ صَحَابِيٍّ، ولم ينكر عليه لعلمه بأَن (6) ذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ طَاقَتِهِ، فَصَارَ بِتِلْكَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ كَالْمُغْمَى عَلَيْهِ، فَلَا حَرَجَ إِذاً.
وحُكي أَن شابًّا كان يصحب الجنيد إِمام الصُّوفِيَّةِ فِي وَقْتِهِ (7)، فَكَانَ الشَّابُّ إِذا سَمِعَ شَيْئًا مِنَ الذِّكْرِ يَزْعَقُ، فَقَالَ لَهُ الجنيد يوماً: إِن فعلت
_________
(1) سورة الفرقان: الآيتان (12، 13).
(2) قوله: "قال" ليس في (خ) و (م).
(3) أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" (ص138 ـ 139)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" كما في "تفسير ابن كثير" (6/ 104)، والعقيلي في "الضعفاء" (3/ 382)، وأبو نعيم في "الحلية" (2/ 110)، وابن الجوزي في "تلبيس إبليس" (ص279)، جميعهم من طريق أبي بكر بن عيّاش، عن عيسى بن سُليم، عن أبي وائل، به.
وفي سنده عيسى بن سُليم ذكره العقيلي في "الضعفاء" (3/ 382)، ونقل عن الإمام أحمد أنه قال: "لا أعرفه".
وأنه قال أيضاً: "حدثنا يحيى بن آدم؛ قال: سمعت حمزة الزيات قال لسفيان: ـ أي الثوري ـ إنهم يروون عن ربيع بن خثيم أنه صعق! قال: ومن يروي هذا؟ إنما كان يرويه ذلك القاص، فلقيته فقلت: عمن تروي أنت ذا؟ منكراً له".
قال ابن الجوزي في "تلبيس إبليس" (ص280) عقب ذكره لهذه الحكاية: "فهذا سفيان الثوري ينكر أن يكون الربيع بن خثيم جرى له هذا؛ لأن الرجل كان على السَّمْت الأول، وما كان في الصحابة من يجري له مثل هذا، ولا التابعين. ثم نقول ـ على تقدير الصحة ـ: إن الإنسان قد يغشى عليه من الخوف، فيسكنه الخوف ويسكته، فيبقى كالميت، وعلامة الصادق أنه لو كان على حائط لوقع؛ لأنه غائب، فأما من يدعي الوجد ويتحفظ من أن تزل قدمه، ثم يتعدى إلى تخريق الثياب وفعل المنكرات في الشرع، فإنا نعلم قطعاً أن الشيطان يلعب به".
وذكر الذهبي في "ميزان الاعتدال" (6566) عيسى بن سليم هذا وقال: "لا يعرف".
(4) في (خ): "حالات".
(5) في (غ) و (ر): "بواحد".
(6) في (خ): "أن".
(7) في (خ): "الجنيد رضي الله عنه وهو إمام الصوفية إذ ذاك".(2/126)
ذَلِكَ مَرَّةً أُخرى لَمْ تَصْحَبْنِي. فَكَانَ إِذا سَمِعَ شَيْئًا يَتَغَيَّرُ، وَيَضْبِطُ نَفْسَهُ حَتَّى كَانَ يقطر كلّ شعرة من بدنه بِقَطْرةٍ (1)، فَيَوْمًا مِنَ الأَيام صَاحَ صَيْحَةً تَلِفَتْ نَفْسُهُ (2).
فَهَذَا الشَّابُّ قَدْ ظَهَرَ فِيهِ مِصْدَاقُ مَا قَالَهُ السَّلَفُ؛ لأَنه لَوْ كَانَتْ صَيْحَتُهُ الأُولى غَلَبَةً (3) لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ضَبْطِ نَفْسِهِ، وإِن كَانَ بِشِدَّةٍ، كَمَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ضَبْطِ نَفْسِهِ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْم (4)، وَعَلَيْهِ أَدّبه الشَّيْخُ (5) حِينَ أَنكر عليه وأوعده (6) بالفُرْقَةِ، إِذْ فَهِمَ مِنْهُ أَن تِلْكَ الزَّعْقَةَ مِنْ بَقَايَا رُعُونَةِ النَّفْسِ، فَلَمَّا خَرَجَ الأَمر عَنْ كَسْبِهِ (7) ـ بِدَلِيلِ مَوْتِهِ ـ، كَانَتْ صَيْحَتُهُ عَفْوًا لَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِيهَا إِن شاءَ اللَّهُ.
بِخِلَافِ هؤلاءِ الْقَوْمِ (8) الَّذِينَ لَمْ يشُمُّوا مِنْ أَوصاف الفضلاءِ رائحة، فأَخذوا في التشبُّه (9) بهم، فأَبرز لهم هواهم التشبه بالخوارج، وياليتهم وقفوا عند هذا الحدّ المذموم، ولكنهم (10) زادوا على ذلك الرَّقْص والزَّفَن (11) وَالدَّوَرَانَ وَالضَّرْبَ عَلَى الصُّدُورِ، وَبَعْضُهُمْ يَضْرِبُ عَلَى رأْسه، وَمَا أَشبه ذَلِكَ مِنَ الْعَمَلِ الْمُضْحِكِ للحمقى، لكونه من أَعمال الصبيان
_________
(1) في (خ): "حَتَّى كَانَ يَقْطُرُ الْعَرَقُ مِنْهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ من بدنه قطرة".
(2) أخرج هذه الحكاية القشيري في "الرسالة" (ص204) عن شيخه أبي حاتم السجستاني؛ قال: سمعت أبا نصر السراج يقول: سمعت عبد الواحد بن علوان يقول: كان شاب يصحب الجنيد ... ، فذكرها.
وذكرها أيضاً الغزالي في "الإحياء" (2/ 302)، وشيخ الإسلام ابن تيمية في "الاستقامة" (1/ 399).
(3) في (خ): "غلبته".
(4) في (خ) و (م): "خيثم".
(5) كتب في (خ) بخط دقيق فوق كلمة "الشيخ": (أي الجنيد).
(6) في (خ) و (م): "ووعده".
(7) في (غ) و (ر): "على كسبه".
(8) في (ر) و (غ): "الفقراء".
(9) في (خ) و (م): "بالتشبه".
(10) في (خ): "ولكن".
(11) الزّفَن: هو الرقص، وأصله: اللعب والدفع والضرب بالرجل. انظر: "لسان العرب" (13/ 197)، و"التعاريف" للمناوي (ص386 ـ 387).(2/127)
والمجانين، المُبْكي للعقلاءِ، رحمةً لمن يَتَّخذ (1) مِثْلُ هَذَا طَرِيقًا إِلى اللَّهِ، وتشبُّهاً (2) بِالصَّالِحِينَ.
وَقَدْ صَحّ مِنْ حَدِيثِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سارية رضي الله عنه؛ أنه (3) قَالَ: وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً، ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ منها القلوب ... ، الحديث (4).
_________
(1) في (خ): "رحمة لهم؛ إذْ لم يتخذ"، وفي (م): "رحمة لهم ولم يتخذ".
(2) في (م): "وتشبيهاً".
(3) قوله: "أنه" ليس في (خ).
(4) حديث صحيح كما قال المصنف، وقد روي عن العرباض رضي الله عنه من أربع طرق:
1 و2: طريقا عبد الرحمن بن عمرو السلمي وحجر بن حجر الكلاعي: أخرجهما الإمام أحمد (4/ 126 ـ 127) من طريق الوليد بن مسلم، ثنا ثور بن يزيد، ثنا خالد بن معدان؛ قال: ثنا عبد الرحمن بن عمرو السلمي وحجر بن حجر؛ قال: أتينا العرباض بن سارية ـ وهو ممن نزل فيه: {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} ـ، فسلمنا وقلنا: أتيناك زائرين وعائدين ومقتبسين، فقال عرباض: صلى بنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الصبح ذات يوم، ثم أقبل علينا، فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله! كأن هذه موعظة مودِّع، فماذا تعهد إلينا؟ فقال: "أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن كان عبداً حبشياً، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، فتمسكوا بها، وعَضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة".
ومن طريق أحمد أخرجه أبو داود (4599).
وأخرجه ابن أبي عاصم (32 و57)، وابن حبان في "صحيحه" (5/الإحسان)، والحاكم في "المستدرك" (1/ 97)، ثلاثتهم من طريق الوليد بن مسلم، به، ولفظ ابن أبي عاصم مختصر.
وأخرجه أحمد (4/ 126)، والدارمي (1/ 44)، والترمذي (2676)، والحاكم (1/ 95 ـ 96)، جميعهم من طريق أبي عاصم الضحاك بن مخلد، عن ثور بن يزيد، به، ولم يذكروا حجر بن حجر.
وأخرجه ابن ماجه (44) من طريق عبد الملك بن الصباح، عن ثور، به ولم يذكر حجر بن حجر أيضاً.
وكذا أخرجه ابن أبي عاصم في "السنة" (31 و54) من طريق عيسى بن يونس، عن ثور، مختصراً.
وأخرجه أحمد (4/ 127)، والترمذي في الموضع السابق، وابن أبي عاصم (27)،=(2/128)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
_________
=ثلاثتهم من طريق بقية، حدثني بحير بن سعد، عن خالد بن معدان، به، ولم يذكروا حجر بن حجر، ووقع في رواية أحمد: "عن ابن أبي بلال" بدل "عبد الرحمن بن عمرو".
وأخرجه أحمد أيضاً (4/ 127)، والحاكم (1/ 96)، كلاهما من طريق محمد بن إبراهيم التيمي، عن خالد بن معدان، به دون ذكر حجر بن حجر أيضاً، ووقع عند أحمد: "عن أبي بلال"، فلعله سقط منه: "ابن"، فيكون كالرواية السابقة، ويبقى النظر: هل هو عبد الرحمن بن عمرو، وكنية أبيه: "أبو بلال"، فتتفق الرواية؟ أو يكون رجلاً آخر، فيكون في الحديث اختلاف؟ ولم يترجم ابن حجر في "تعجيل المنفعة" لابن أبي بلال، ولا لأبي بلال، فالظاهر أنه يرى أنه عبد الله بن أبي بلال الخزاعي المترجم في "التهذيب" (2/ 311)، فإن كان كذلك فهو اختلاف لا يؤثر إلا على طريقي بحير بن سعد ومحمد بن إبراهيم عن خالد، ولا يؤثر على باقي الطرق.
وقد صحح الحديث ابن حبان كما تقدم، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وقال الحاكم: "هذا إسناد صحيح على شرطهما جميعاً، ولا أعرف له علة".
وكان قد قال قبل ذلك: "هذا حديث صحيح ليس له علّة، وقد احتجّ البخاري بعبد الرحمن بن عمرو وثور بن يزيد ... ".
وكان قد ذكر قبل ذلك أن البخاري احتجّ بعبد الرحمن بن عمرو، وهو وهم منه، فلعله التبس عليه بغيره ممن روى له البخاري، وأما عبد الرحمن هذا فهو ابن عمرو بن عَبَسَة السُّلَمي، الشامي، روى له أبو داود والترمذي وابن ماجه، ولم يرو له البخاري، وهو مقبول كما في "التقريب" (3991)، وقد تابعه حُجْر بن حُجْر الكَلاَعي الحمصي، وهو مقبول مثله كما في "التقريب" (1152).
وقد أخرجه أحمد (4/ 126)، وابن أبي عاصم (33 و56 و58)، والحاكم (1/ 96)، من طريق معاوية بن صالح، عن ضمرة بن حبيب، عن عبد الرحمن بن عمرو، عن العرباض، به.
وأخرجه ابن أبي عاصم (30) من طريق يحيى بن جابر، عن عبد الرحمن بن عمرو، به مختصراً.
3 ـ طريق يحيى بن أبي المطاع، عن العرباض. أخرجه ابن ماجه (42)، وابن أبي عاصم (26 و55)، والحاكم (1/ 97)، ثلاثتهم من طريق عبد الله بن العلاء بن زبر، عن يحيى، به.
4 ـ طريق المهاجر بن حبيب، عن العرباض. أخرجه ابن أبي عاصم (28 و29 و59) مختصراً.
وصحح الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله هذا الحديث في تعليقه على "السنة" لابن أبي عاصم.(2/129)
فقال الإمام العالم السني أبو بكر الآجُرِّي (1) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (2): مَيِّزوا هَذَا الْكَلَامَ؛ فَإِنَّهُ (3) لم يقل (4): صَرَخْنا من موعظته، وَلَا زَعَقْنا (5)، وَلَا طَرَقْنا عَلَى رَؤُوسِنَا، وَلَا ضَرَبْنَا عَلَى صُدُورِنَا، وَلَا زَفَنّا، وَلَا رَقَصْنَا ـ كَمَا يَفْعَلُ كَثِيرٌ مِنَ الْجُهَّالِ؛ يَصْرُخُونَ عِنْدَ الْمَوَاعِظِ وَيَزْعَقُونَ، وَيَتَغَاشَوْنَ (6) ـ. قَالَ: وَهَذَا (7) كُلُّهُ مِنَ الشَّيْطَانِ يَلْعَبُ بِهِمْ، وَهَذَا كُلُّهُ بِدْعَةٌ وَضَلَالَةٌ، وَيُقَالُ (8) لِمَنْ فَعَلَ هَذَا:
اعْلَمْ (9) أَن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصدق النَّاسِ مَوْعِظَةً، وأَنصح النَّاسَ لأُمته، وأَرقّ النَّاسِ قَلْبًا، وَخَيْرَ الناس: من (10) جاءَ بعده ـ ولا يَشُكُّ فِي ذَلِكَ عَاقِلٌ ـ، مَا صَرَخُوا عِنْدَ موعظته، ولا زَعَقُوا، ولا رقصوا، ولا زَفَنُوا، وَلَوْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا لَكَانُوا أَحقَّ النَّاسِ بِهَذَا (11) أَن يَفْعَلُوهُ بَيْنَ يَدَيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنَّهُ بِدْعَةٌ وَبَاطِلٌ وَمُنْكَرٌ فَاعْلَمْ ذَلِكَ. انْتَهَى كَلَامُهُ، وَهُوَ وَاضِحٌ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ.
وَلَا بُدَّ مِنَ النظر في الأَمر (12) الْمُوجِبِ للتأَثُّر الظَّاهِرِ فِي السَّلَفِ الأَوَّلين مَعَ هؤلاءِ المُدَّعين، فَوَجَدْنَا الأَوّلين يَظْهَرُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ الأَثر بسبب سماع (13) ذكر الله تعالى، وَبِسَبَبِ سَمَاعِ (14) آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ (15)، وَبِسَبَبِ رُؤْيَةٍ اعتباريَّة؛ كَمَا فِي قِصَّةِ الرَّبِيعِ عِنْدَ رؤيته للحدَّاد وللأَتُّون (16) ـ وَهُوَ مَوْقَدُ النَّارِ ـ، وَلِسَبَبِ قراءَةٍ فِي صَلَاةٍ أَو غيرها، ولم نجد أَحداً
_________
(1) قوله: "الآجري" متقدم في (خ) على قوله: "العالم".
(2) مظنَّة كلام الآجري هذا: كتابه "أخلاق أهل القرآن"، ولم أجد فيه هذا الكلام، ونقل بعضه ابن الجوزي في "تلبيس إبليس" (ص281).
(3) قوله: "فإنه" من (خ) فقط.
(4) في (غ): "يقولوا".
(5) قوله: "ولا زعقنا" ليس في (خ).
(6) في (خ): "ويتناشون".
(7) في (ر) و (غ): "هذا".
(8) في (غ) و (ر) و (م): "يقال".
(9) في (م): "علم".
(10) في (غ): "فمن"، وفي (ر): "ممن".
(11) في (خ): "أحق الناس به".
(12) في (خ): "الأمر كله".
(13) قوله: "سماع" ليس في (خ).
(14) في (خ): "ذكر الله أو بسماع".
(15) قوله: "وبسبب سماع آية من كتاب الله" مكرر في (غ).
(16) في (خ): "والأتون".(2/130)
مِنْهُمْ ـ فِيمَا نَقَلَ العلماءُ ـ يَسْتَعْمِلُونَ الترنُّم بالأَشعار لِتَرِقَّ نُفُوسُهُمْ، فتتأَثر ظَوَاهِرُهُمْ، وَطَائِفَةُ الفقراءِ عَلَى الضدّ منهم؛ فإِنهم يسمعون (1) الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ وَالْوَعْظَ وَالتَّذْكِيرَ فَلَا تتأَثر ظَوَاهِرُهُمْ (2)، فإِذا قام المُزَمْزِمُ (3) تسابقوا (4) إلى حركاتهم المعروفة لهم، فَبِالْحَرِيِّ أَن لا يتأَثَّروا إلا (5) عَلَى تِلْكَ الْوُجُوهِ الْمَكْرُوهَةِ الْمُبْتَدَعَةِ؛ لأَن الْحَقَّ لَا يُنْتِجُ إِلا حَقًّا، كَمَا أَن الْبَاطِلَ لَا يُنْتِجُ إِلا بَاطِلًا.
وَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ يَنْبَنِي النَّظَرُ فِي حَقِيقَةُ الرِّقَّة الْمَذْكُورَةِ، وَهِيَ المحرِّكة لِلظَّاهِرِ. وَذَلِكَ أَن الرِّقَّةَ ضِدُّ الْغِلَظِ، فتقول: هَذَا رَقِيقٌ لَيْسَ بِغَلِيظٍ، وَمَكَانٌ رَقِيقٌ: إِذَا كان ليِّن التراب، ضدُّه (6) الغليظ، فإِذ وُصِفَ بِذَلِكَ الْقَلْبُ (7) فَهُوَ رَاجِعٌ إِلى لِينِهِ وتأَثره ضِدُّ الْقَسْوَةِ، ويُشْعِر بِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (8)؛ لأَن القلب الرقيق إذا وردت عَلَيْهِ الْمَوْعِظَةُ خَضَعَ لَهَا وَلاَنَ وانْقَادَ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} (9)؛ فإِن الوَجَلَ تأَثُّرٌ وَلِينٌ يَحْصُلُ فِي الْقَلْبِ بِسَبَبِ الْمَوْعِظَةِ، فَتَرَى الْجِلْدَ مِنْ أَجل ذَلِكَ يَقْشَعِرّ، وَالْعَيْنَ تَدْمَعُ، وَاللِّينُ إِذا حلَّ بِالْقَلْبِ ـ وهو باطن الإِنسان ـ، وَحَلَّ (10) بِالْجِلْدِ بِشَهَادَةِ اللَّهِ ـ وَهُوَ ظَاهِرُ الإِنسان ـ، فَقَدْ حَلَّ الِانْفِعَالُ بِمَجْمُوعِ الإِنسان، وَذَلِكَ يَقْتَضِي السُّكُونَ لا الحركة والانزعاج، والسكوت لا الصياح،
_________
(1) في (خ) و (م): "يستعملون".
(2) من قوله: "وطائفة الفقراء" إلى هنا مُكرر في (خ).
(3) في (خ): "المزمر". والزَّمْزَمَةُ: الأصوات التي تدار وتتابع من الخياشيم والحلوق ولا تكاد تفهم، ويقال لصوت الرَّعد إذا تتابع: زَمْزَمَة، وزَمْزَمَ الأسد: إذا صوَّت، وَتَزَمْزَمَتْ الإبل: إذا هدرت، وفرس مُزَمْزِمٌ في صوته: إذا كان يطرِّب فيه. انظر "لسان العرب" (12/ 273 ـ 274).
(4) في (غ) و (ر) و (م): "سابقوا"، والمثبت من (خ).
(5) قوله: "إلا" ليس في (خ).
(6) في (خ): "ومثله" بدل: "ضده".
(7) قوله: "القلب" ليس في (خ).
(8) سورة الزمر: آية (23).
(9) سورة الأنفال: آية (2)، وقوله تعالى: "قلوبهم" ليس في (ر) و (غ).
(10) في (خ): "حل".(2/131)
وَهِيَ (1) حَالَةُ السَّلَف الأوَّلين ـ كَمَا تَقَدَّمَ ـ. فإِذا رأَيت أَحداً سَمِعَ مَوْعِظَةً ـ أَيّ مَوْعِظَةٍ كَانَتْ ـ؛ فظهر (2) عَلَيْهِ مِنَ الأَثر مَا ظَهَرَ عَلَى السَّلَفِ الصَّالِحِ؛ عَلِمْتَ أَنها رِقَّةٌ هِيَ أَوّل الوَجْد، وأَنها صَحِيحَةٌ لَا اعْتِرَاضَ فِيهَا.
وإِذا رأَيت أَحداً سَمِعَ مَوْعِظَةً قُرْآنِيَّةً أَو سُنِّية أَو حِكَمِيَّة فَلَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْآثَارِ شيء، حتى يسمع شعراً مترنّماً (3) به (4)، أَو غِنَاءً مُطْرِبًا فتأَثَّر؛ فإِنه لَا يَظْهَرُ عَلَيْهِ فِي الْغَالِبِ مِنْ تِلْكَ الْآثَارِ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ عَلَيْهِ انْزِعَاجٌ بِقِيَامٍ، أَو دَوَرَانٍ، أَو شَطح، أَو صِيَاحٍ، أَو مَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ. وَسَبَبُهُ: أَن الَّذِي حلَّ بِبَاطِنِهِ لَيْسَ بالرِّقَّة الْمَذْكُورَةِ أَوّلاً، بَلْ هُوَ الطَّرَبُ الَّذِي يُنَاسِبُ الغناءَ؛ لأَن الرِّقَّة ضِدُّ الْقَسْوَةِ ـ كَمَا تَقَدَّمَ ـ، وَالطَّرَبُ ضِدُّ الْخُشُوعِ ـ كَمَا يَقُولُهُ الصُّوفِيَّةُ ـ، وَالطَّرَبُ مُنَاسِبٌ لِلْحَرَكَةِ؛ لأَنه ثَوَرَانُ الطِّبَاعِ، وَلِذَلِكَ اشترك مع الإِنسان فيه الحيوان (5)؛ كالإِبل والخيل (6)؛ وَمَنْ لَا عَقْلَ لَهُ مِنَ الأَطفال، وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَالْخُشُوعُ ضِدُّه؛ لأَنه رَاجِعٌ إِلى السُّكُون، وَقَدْ فُسِّر بِهِ لُغَةً، كَمَا فُسِّر الطَّرَب بأَنه خِفّة تصيب (7) الإِنسان مِنْ حُزْنٍ، أَو سُرُورٍ.
قَالَ (8) الشَّاعِرُ (9):
طربَ الْوَالِهِ (10) أَو كالمُخْتَبَل (11)
_________
(1) في (م): "هي".
(2) في (خ) و (م): "فيظهر".
(3) في (خ): "مرقَّما" وفي (م): "مرنّماً".
(4) قوله: "به" ليس في (خ) و (م).
(5) في (خ): "اشترك فيه مع الإنسان الحيوان".
(6) في (خ) و (م): "والنحل".
(7) في (خ): "تصحب".
(8) في (ر): "وقال".
(9) قوله: "قال الشاعر" سقط من (غ). وهذا عجز بيت للنابغة الجعدي، وصدره:
وأراني طَرِباً في إثرهم
........................
انظر "أدب الكاتب" لابن قتيبة (1/ 18).
(10) في (خ): "الوالد".
(11) في (خ) و (م): "أو كالمتخيل"، وصوبت بهامش (م) بخط مغاير.
وعلق رشيد رضا على هذا الموضع بقوله: شطر من أبيات للنابغة الجعدي، والشطر=(2/132)
وَالتَّطْرِيبُ: مَدُّ الصَّوْتِ وَتَحْسِينُهُ.
وَبَيَانُهُ: أَن الشِّعْرَ الْمُغَنَّى بِهِ قَدِ اشْتَمَلَ عَلَى أَمرين:
أَحدهما: مَا فِيهِ مِنَ (1) الْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ، وَهَذَا مُخْتَصٌّ بِالْقُلُوبِ، فَفِيهَا تَعْمَلُ وَبِهَا تَنْفَعِلُ، وَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ يُنْسَبُ السَّمَاعُ إِلى الأَرواح.
وَالثَّانِي: مَا فِيهِ مِنَ النَّغَمات المُرَتَّبة عَلَى النِّسَب التَّلْحِينِيَّةِ، وَهُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي الطِّبَاعِ (2) فيُهيِّجها (3) إِلى مَا يُنَاسِبُهَا، وَهِيَ الْحَرَكَاتُ عَلَى اخْتِلَافِهَا، فَكُلُّ تأَثر في القلب من جهة السماع يحصُلُ (4) عنه آثار السكون وَالْخُضُوعِ فَهُوَ رِقَّة، وَهُوَ التَّوَاجُدُ الَّذِي أَشار إِليه كَلَامُ المُجِيبِ، وَلَا شَكَّ أَنه مَحْمُودٌ. وَكُلُّ تأَثُّر يَحْصُلُ عَنْهُ ضِدّ السُّكُون؛ فَهُوَ طَرَبٌ لَا رِقَّة فِيهِ (5) وَلَا تَوَاجُدَ، وَلَا هُوَ عِنْدَ شُيُوخِ الصُّوفِيَّةِ مَحْمُودٌ، لَكِنَّ هؤلاءِ الفقراءِ لَيْسَ لَهُمْ مِنَ التَّوَاجُدِ ـ فِي الْغَالِبِ ـ إِلا الثَّانِي الْمَذْمُومَ. فَهُمْ إِذاً مُتَوَاجِدُونَ بِالنَّغَمِ وَاللُّحُونِ، لَا يُدْرِكُونَ مِنْ مَعَانِي الْحِكْمَةِ شَيْئًا (6)، فَقَدْ بَاؤُوا (7) إِذاً بأَخسر الصَّفْقَتَيْنِ، نَعُوذُ بِاللَّهِ.
وإِنما جاءَهم الْغَلَطُ مِنْ جِهَةِ اخْتِلَاطِ المناطَيْن عَلَيْهِمْ، وَمِنْ جِهَةِ أَنهم استدلُّوا بِغَيْرِ دَلِيلٍ. فقوله تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} (8)، وَقَوْلُهُ: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا} (9): لا دليل فيه على هذا الْمَعْنَى. وَكَذَلِكَ (10) قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا} (11): كذا (12) أَيْنَ فيه أَنهم قاموا
_________
=الأول: "وأراني طرباً في إثرهم"، والواله: الثاكل (وكان في نسختنا: الوالد). والمختبل ـ بفتح الباء ـ: من اختبل عقله؛ أي: جُنّ، (وكان في نسختنا: المتخيل). اهـ.
(1) قوله: "من" ليس في (م).
(2) في (خ): "الطبائع".
(3) في (ر) و (غ): "فتهيجها".
(4) في (خ): "تحصل".
(5) قوله: "فيه" من (خ) فقط.
(6) في (ر) و (غ): "شحة".
(7) في (م): "بانوا"، وفي (ر): "باءو".
(8) سورة الذاريات: الآية (50).
(9) سورة الكهف: الآية (18).
(10) في (غ): "وكذا".
(11) الآية: (14) من سورة الكهف. وقوله: "ربنا" من (خ) فقط.
(12) قوله: "كذا" ليس في (خ).(2/133)
يَرْقُصُونَ؟ أَو يَزْفُنُون؟ أَو يَدُورُونَ عَلَى أَقدامهم؟ أو نحو (1) ذَلِكَ؟ فَهُوَ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ الدَّاخِلِ تَحْتَ هَذَا الباب (2).
وَوَقَعَ فِي كَلَامِ المُجيب لَفْظُ السَّمَاعِ غَيْرَ مُفَسَّر، ففهم مِنْهُ الْمُحْتَجُّ أَنه الغناءُ الَّذِي تَسْتَعْمِلُهُ (3) شِيعَتُهُ، وَهُوَ فَهْمُ عُمُومِ النَّاسِ، لَا فَهْمُ الصُّوفِيَّةِ، فإِنه (4) عندهم ينطلق (5) عَلَى كُلِّ صَوْتٍ أَفاد حِكْمَةً يَخْضَعُ لَهَا القلب، ويلين لها الجلد، وهو الذي يَجِدُون فيه (6) ويتواجدون عِنْدَهُ (7) التَّوَاجُدَ الْمَحْمُودَ، فَسَمَاعُ الْقُرْآنِ عِنْدَهُمْ سَمَاعٌ، وَكَذَلِكَ سَمَاعُ السُّنَّةِ، وَكَلَامُ الحكماءِ والفضلاءِ، حَتَّى أَصوات الطَّيْرِ وَخَرِيرُ الماءِ، وَصَرِيرُ الْبَابِ. وَمِنْهُ سماع المنظوم أَيضاً إِذا أَعطى حِكْمَةً، وَلَا يَسْتَمِعُونَ هَذَا الأَخير إِلا فِي الْفَرَطِ بَعْدَ الْفَرَطِ (8)، وَعَلَى غَيْرِ اسْتِعْدَادٍ، وَعَلَى غَيْرِ وَجْهِ الإلْذاذ (9) وَالْإِطْرَابِ، ولا هم ممن يداوم (10) عَلَيْهِ أَو يَتَّخِذُهُ عَادَةً؛ لأَن ذَلِكَ كُلَّهُ قَادِحٌ فِي مَقَاصِدِهِمُ الَّتِي بَنَوْا عَلَيْهَا.
وَلِذَلِكَ (11) قال الجُنيد رحمه الله: إِذا رأَيت المُرِيد يُحِبُّ السَّمَاع فَاعْلَمْ أَن فِيهِ بقيَّةً مِنَ البَطَالة (12).
وَإِنَّمَا لَهُمْ مِنْ سَمَاعِهِ إِنِ اتَّفَقَ: وَجْهُ الْحِكْمَةِ ـ إِنْ كَانَ فيه حكمة ـ،
_________
(1) في (خ): "ونحو".
(2) في (خ): "الجواب".
(3) في (م): "يستعمله".
(4) في (م): "فإنهم".
(5) في (خ): "يطلق".
(6) في (م): "عنده" بدل "فيه".
(7) في (خ): "وهو الذي يتواجدون عنده".
(8) قوله: "بعد الفرط" ليس في (خ)، وعلق عليه بهامش (م) بقوله: "الفرط: الحين، وأن تأتيه بعد الأيام، لا لأكثر من خمسة عشر، ولا أقل من ثلاثة".
(9) في (خ): "الالتذاذ".
(10) في (م): "يدوم".
(11) قوله: "ولذلك" ليس في (خ).
(12) أخرجه القشيري في "الرسالة" (ص203) من طريق شيخه أبي عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي؛ قال: سمعت عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الرازي يقول: سمعت الجنيد يقول ... ، فذكره.
وعن القشيري نقله شيخ الإسلام ابن تيمية في "الاستقامة" (1/ 395).(2/134)
فَاسْتَوَى عِنْدَهُمُ النَّظْم والنَّثْر. وإِن أَطلق أَحد مِنْهُمُ السَّمَاعَ عَلَى الصَّوْتِ الْحَسَنِ الْمُضَافِ إِلَى شعر أو غيره (1)، فمن حيث فهم منه (2) الْحِكْمَةَ لَا مِنْ حَيْثُ يُلَائِمُ الطِّبَاع؛ لأَن من سمعه منهم مِنْ حَيْثُ يَسْتَحْسِنُهُ فَهُوَ مُتَعَرِّضٌ لِلْفِتْنَةِ، فَيَصِيرُ إِلى ما صار إليه أهل (3) السَّمَاعُ المُلِذّ المُطْرِب.
وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَن السَّمَاعَ عِنْدَهُمْ مَا تَقَدَّمَ: مَا ذُكر (4) عَنْ أَبي عُثْمَانَ الْمَغْرِبِيِّ أَنه قَالَ: مَنِ ادَّعَى السماع ولم يسمع صوت الطيور (5) وصرير الباب وتصفيق الرياح فهو مُفْتَرٍ مُدَّعٍ (6). وقال الحصري: أَيْشٍ أَعمل بسماع ينقطع إذا انقطع (7) من (8) يُسمع مِنْهُ؟ يَنْبَغِي (9) أَن يَكُونَ سَمَاعُكَ سَمَاعًا مُتَّصِلًا غَيْرَ مُنْقَطِعٍ (10).
وَعَنْ أَحمد بْنِ سَالِمٍ (11) قَالَ: خَدَمْتُ سَهْلَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ التُّسْتَرِيَّ
_________
(1) من قوله: "على الصوت الحسن" إلى هنا سقط من (خ).
(2) قوله: "منه" ليس في (خ).
(3) قوله: "أهل" ليس في (خ) و (م).
(4) قوله: "ما ذكر" سقط من (غ).
(5) في (خ) و (م): "الطير".
(6) أخرجه القشيري في "الرسالة" (ص201) من طريق شيخه أبي عبد الرحمن السلمي؛ قال: سمعت أبا عثمان المغربي يقول ... ، فذكره. وعن القشيري نقله شيخ الإسلام في "الاستقامة" (1/ 412).
(7) قوله: "إذا انقطع" ليس في (خ) و (م).
(8) في (خ): "ممن".
(9) في (خ): "وينبغي".
(10) أخرجه القشيري في الموضع السابق من طريق شيخه محمد بن أحمد بن محمد التميمي؛ قال: سمعت عبد الله بن علي يقول: سمعت الحصري يقول في بعض كلامه ... ، فذكره.
وعن القشيري نقله شيخ الإسلام في "الاستقامة" (1/ 416 ـ 417). وذكره الغزالي في "إحياء علوم الدين" (1/ 286).
(11) كذا في جميع الأصول. ورجّح نور الدين شريبة في تعليقه على "طبقات الصوفية" للسلمي (ص208) أنه محمد بن أحمد بن سالم البصري، وذكر أن كثيراً ما يخلطون بينه وبين أبي الحسن أحمد بن محمد بن أحمد بن سالم.
قلت: أبو الحسن أحمد أبوه، فلو قال: يخلطون بينه وبين أبيه لكان أجود. وسبب الخلط أنه وأبوه من تلامذة سهل التستري، فإذا جاء في خبر: "قال ابن سالم" لم يتميز من هو. وانظر سير أعلام النبلاء (16/ 272).
وقصة سهل هاهنا يرويها الابن محمد بن أحمد، ومن طريقه أخرجها القشيري في "الرسالة" (ص205).(2/135)
سِنِينَ، فَمَا رأَيته تَغَيَّرَ عِنْدَ سَمَاعِ شيءٍ يَسْمَعُهُ مِنَ الذِّكْرِ أَو الْقُرْآنِ أَو غَيْرِهِ، فَلَمَّا كَانَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ قُرئ بَيْنَ يديه: {فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} (1): رأيته (2) تغيَّر وارْتَعَدَ وَكَادَ يَسْقُطُ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى حَالِ صَحْوه سأَلته عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: يَا حَبِيبِي! ضَعُفْنَا.
وَقَالَ السُّلَمى: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عُثْمَانَ الْمَغْرِبِيِّ وَوَاحِدٌ يَسْتقي الماءَ مِنَ الْبِئْرِ عَلَى بَكَرة، فَقَالَ لِي: يَا أَبا عَبْدِ الرَّحْمَنِ! تَدْرِي أَيْشٍ تَقُولُ هَذِهِ الْبَكْرَةُ؟ فَقُلْتُ: لَا. فَقَالَ: تَقُولُ: اللَّهُ اللَّهُ (3).
فَهَذِهِ الْحِكَايَاتُ وأَشباهها تَدُلُّ عَلَى أَن السَّمَاعَ عِنْدَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ، وأَنهم لَا يُؤْثِرُونَ سَمَاعَ الأَشعار عَلَى غيرها، فضلاً عن (4) أَن يَتَصَنَّعُوا فِيهَا بالأَغاني المُطْربة. وَلَمَّا طَالَ الزَّمَانُ وَبَعُدُوا عَنْ أَحوال السَّلَفِ الصَّالِحِ، أَخذ الْهَوَى فِي التَّفْرِيعِ فِي السَّمَاعِ حَتَّى صَارَ يُسْتَعْمَلُ مِنْهُ الْمَصْنُوعُ عَلَى قَانُونِ الأَلحان؛ فَتَعَشَّقَتْ بِهِ الطِّباع، وَكَثُرَ الْعَمَلُ بِهِ وَدَامَ ـ وإِن كَانَ قَصْدُهُمْ بِهِ الرَّاحَةَ فَقَطْ ـ، فَصَارَ قَذًى (5) فِي طَرِيقِ سُلُوكِهِمْ فَرَجَعُوا بِهِ القَهْقَرى، ثُمَّ طال الأَمَدُ حتى اعتقده الجهال من أهل (6) هذا (7) الزمان (8) وما قاربه قربة (9)، وجُزْءًا (10) من أَجزاءِ طريقة التصوف، وهو الأَدْهَى والأمَرّ (11).
وَقَوْلُ المُجِيب: وأَما مَنْ دَعَا طَائِفَةً إِلى منزله فتجاب دعوته، وله في
_________
(1) سورة الحديد: الآية (15).
وقوله تعالى: {وَلاَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} ليس في (خ) و (م).
(2) قوله: "رأيته" ليس في (خ) و (م).
(3) في (خ): "الله" مرة واحدة.
وقول السلمي هذا أخرجه القشيري في الموضع السابق عنه.
وعن القشيري نقله ابن القيم في "مدارج السالكين" (2/ 412 ـ 413).
(4) في (خ) و (م): "على" بدل "عن".
(5) في (ر) و (غ): "قد جاء" بدل "قذى" وفي (م): "قد"، والمثبت من (خ) فقط.
(6) قوله: "أهل" سقط من (م).
(7) قوله: "هذا" سقط من (غ).
(8) في (خ): "الجهال في هذا الزمان".
(9) في (خ): "أنه قربة".
(10) في (م): "جزءاً".
(11) قوله: "الأمر" ليس في (خ) و (م).(2/136)
دعوته (1) قصده: مطابق بحسب ما ذُكر أَوْ لا؛ فإن مَنْ (2) دَعَا قَوْمًا إِلى مَنْزِلِهِ لتعلُّم آيَةٍ أَو سُورَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ (3)، أَو سُنَّةٍ مِنْ سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَو مُذَاكَرَةٍ فِي عِلْمٍ، أَو فِي نعم الله، أَو مؤانسة بشعر (4) فِيهِ حِكْمَةٌ لَيْسَ فِيهِ غناءٌ مَكْرُوهٌ وَلَا صَحِبَهُ شَطْحٌ وَلَا زَفَن وَلَا صِيَاحٌ، وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ، ثُمَّ أَلْقَى إِليهم شيئاً مِنَ الطَّعَامِ (5) عَلَى غَيْرِ وَجْهِ التكلُّف وَالْمُبَاهَاةِ، ولم يقصد بذلك بدعة، ولا امتيازاً بفرقة تَخْرُجُ بأَفعالها وأَقوالها عَنِ السُّنَّةِ (6)، فَلَا شَكَّ فِي اسْتِحْسَانِ ذَلِكَ؛ لأَنه دَاخِلٌ فِي حُكْمِ المأْدُبَةِ الْمَقْصُودِ بِهَا حُسْنَ العِشْرَةِ بَيْنَ الْجِيرَانِ (7) والإِخوان، والتودُّد بَيْنَ الأَصحاب، وَهِيَ فِي حُكْمِ الِاسْتِحْبَابِ، فإِن كَانَ فِيهَا تَذَاكُرٌ فِي عِلْمٍ أَو نَحْوِهِ، فَهِيَ مِنْ بَابِ التَّعَاوُنِ عَلَى الخير.
ومثاله ما يحكى عن محمد بن خفيف؛ قَالَ: دَخَلْتُ يَوْمًا عَلَى الْقَاضِي عَلِيِّ بْنِ أَحمد، فَقَالَ لِي: يَا أَبا (8) عَبْدِ اللَّهِ! قلت (9): لبيك أَيها القاضي، فقال (10): هَاهُنَا أَحكي (11) لَكُمْ حِكَايَةً تَحْتَاجُ أَن (12) تَكْتُبَهَا بِمَاءِ الذَّهَبِ. فَقُلْتُ: أَيها الْقَاضِي! أَما الذَّهَبُ فَلَا أَجده، وَلَكِنِّي أَكتبها بِالْحِبْرِ الْجَيِّدِ. فَقَالَ: بَلَغَنِي أَنه قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَحمد بْنِ حَنْبَلٍ: إِنَّ الْحَارِثَ المُحَاسِبي يَتَكَلَّمُ فِي عُلُومِ الصُّوفِيَّةِ، وَيَحْتَجُّ عَلَيْهِ بِالْآيِ، فَقَالَ أَحمد: أَحب أَن أَسمع كَلَامَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُ. فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا أَجمعك مَعَهُ. فَاتَّخَذَ دَعْوَةً، وَدَعَا الْحَارِثَ وَأَصْحَابَهُ، وَدَعَا أَحمد. فَجَلَسَ أحمد (13) بِحَيْثُ يَرَى الْحَارِثَ، فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ، فتقدَّم وصلَّى بِهِمُ الْمَغْرِبَ، وأَحضر الطَّعَامَ، فَجَعَلَ يأْكل وَيَتَحَدَّثُ معهم، فقال أَحمد: هذا من السنة.
_________
(1) قوله: "في دعوته" من (خ) فقط.
(2) قوله: "من" ليس في (خ) و (م).
(3) لفظ الجلالة: "الله" ليس في (م).
(4) في (خ) و (م): "في شعر".
(5) في (غ): "طعام".
(6) علق رشيد رضا هنا بقوله: هذا خبر "بأن" في قول: بأن من دعى. اهـ.
(7) في (م): "الميزان" وكتب في الحاشية: "لعله الجيران".
(8) في (م): "فقال لي أبا".
(9) في (ر) و (غ): "فقلت".
(10) في (خ): "قال".
(11) قوله: "أحكي" من (خ) فقط.
(12) قوله: "أن" من (خ) فقط.
(13) قوله: "أحمد" ليس في (خ) و (م).(2/137)
فَلَمَّا فَرَغُوا مِنَ الطَّعَامِ وَغَسَلُوا أَيديهم جَلَسَ الْحَارِثُ وَجَلَسَ أَصْحَابُهُ، فَقَالَ: مَنْ أَراد مِنْكُمْ أَن يسأَل شَيْئًا فليسأَل، فَسُئِلَ عَنِ الإِخلاص، وعن الرياءِ، ومسائل كثيرة فأجاب عنها (1)، واستشهد بِالْآيِ وَالْحَدِيثِ، وأَحمد يَسْمَعُ لَا يُنْكِرُ شَيْئًا من ذلك. فلما مرَّ (2) هَوِيٌّ مِنَ اللَّيْلِ أَمر الْحَارِثُ قَارِئًا يقرأُ شَيْئًا من القرآن على الحَدْرِ (3)، فقرأَ، فبكى بعضهم وانْتَحَبَ آخَرُونَ، ثُمَّ سَكَتَ القارئُ، فَدَعَا الْحَارِثُ بِدَعَوَاتٍ خِفَافٍ، ثُمَّ قَامَ إِلى الصَّلَاةِ. فَلَمَّا أَصبحوا قال أَحمد: قد كان بلغني (4) أَن ها هنا مَجَالِسَ لِلذِّكْرِ يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهَا، فإِن كَانَ هَذَا مِنْ تِلْكَ الْمَجَالِسِ فَلَا أُنكر مِنْهَا شَيْئًا (5).
فَفِي هَذِهِ الْحِكَايَةِ أَن أَحوال الصُّوفِيَّةِ تُوزَنُ بِمِيزَانِ الشَّرْعِ، وأَن مَجَالِسَ الذِّكْرِ لَيْسَتْ مَا زَعَمَ هؤلاءِ، بَلْ مَا تَقَدَّمَ لَنَا ذِكْرُهُ، وأَما (6) مَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا اعْتَادُوهُ فَهُوَ مما يُنكر.
_________
(1) قوله: "فأجاب عنها" ليس في (خ).
(2) قوله: "مرّ" في موضعه بياض في (خ)، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: بياض في الأصل، ولعل الساقط كلمة "مضى"، يقال: مضى هدء، وهدى من الليل، وجئتك بعد هدء من الليل. اهـ.
(3) في (غ) و (ر): "الحذَر"، وفي (خ) يشبه أن تكون: "الحدو"، والمثبت من (م).
(4) في (غ) و (ر): "يبلغني".
(5) هذه الحكاية أخرجها الحاكم ـ كما في "ميزان الاعتدال" (1/ 430)، و"طبقات الشافعية" لابن السبكي (2/ 279) ـ، فقال: سمعت أحمد بن إسحاق الصِّبْغي؛ سمعت إسماعيل بن إسحاق السراج يقول: قال لي أحمد بن حنبل: يبلغني أن الحارث هذا يكثر الكون عندك، فلو أحضرته منزلك وأجلستني في مكان أسمع كلامه ... ، ثم ذكر الحكاية، وفيها: ثم ابتدأ رجل منهم وسأل الحارث، فأخذ في الكلام ـ وكأن على رؤوسهم الطير ـ، فمنهم من يبكي، ومنهم من يخنّ، ومنهم من يزعق، وهو في كلامه، فصعدت الغرفة، فوجدت أحمد قد بكى حتى غُشي عليه ... ، إلى أن قال: فلما تفرقوا قال أحمد: ما أعلم أني رأيت مثل هؤلاء، ولا سمعت في علم الحقائق مثل كلام هذا، وعلى هذا فلا أرى لك صحبتهم.
وأخرجها الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" (8/ 214) من طريق محمد بن نعيم الضّبّي ـ وهو أبو عبد الله الحاكم ـ، عن أحمد بن إسحاق الصبغي، به.
قال الذهبي عقب ذكره لها في "الميزان": "قلت: إسماعيل وثّقه الدارقطني، وهذه حكاية صحيحة السند منكرة، لا تقع على قلبي، أستبعد وقوع هذا من مثل أحمد".
(6) في (ر) و (غ): "وأن".(2/138)
وَالْحَارِثُ الْمُحَاسَبِيُّ مِنْ كِبَارِ الصُّوفِيَّةِ المُقْتدى بِهِمْ (1)، فإِذاً لَيْسَ فِي كَلَامِ الْمُجِيبِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ هؤلاءِ المتأَخِّرون (2)؛ إِذ بَايَنُوا الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
والأَمثلة فِي الْبَابِ كَثِيرَةٌ لَوْ تُتُبِّعَتْ لَخَرَجْنَا عَنِ الْمَقْصُودِ، وإِنما ذَكَرْنَا أَمثلة تبيِّن مِنَ اسْتِدْلَالَاتِهِمُ الْوَاهِيَةِ مَا يُضَاهِيهَا، وَحَاصِلُهَا الْخُرُوجُ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَنِ الطَّرِيقِ الَّذِي أَوْضَحَهُ العلماءُ، وَبَيَّنَهُ الأَئمة، وَحَصَرَ أَنواعه الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ.
وَمَنْ نَظَرَ إِلى طُرُقِ (3) أَهل الْبِدَعِ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَرَفَ أَنَّهَا لَا تَنْضَبِطُ؛ لأَنها سَيَّالة لَا تَقِفُ عِنْدَ حَدٍّ، وعلى (4) وَجْهٍ يَصِحُّ لِكُلِّ زائغٍ وكافرٍ أَن يَسْتَدِلَّ عَلَى زَيْغِهِ وكفرِهِ؛ حَتَّى يَنْسِبَ النِّحْلَةَ الَّتِي الْتَزَمَهَا إِلى الشَّرِيعَةِ.
فَقَدْ رأَينا وَسَمِعْنَا عَنْ بَعْضِ الْكُفَّارِ أَنه اسْتَدَلَّ عَلَى كُفْرِهِ بِآيَاتِ الْقُرْآنِ؛ كَمَا اسْتَدَلَّ بَعْضُ النَّصَارَى عَلَى تَشْرِيكِ (5) عيسى مع الله في الربوبية (6) بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} (7)، واستدل
_________
(1) لكن أنكر عليه الإمام أحمد وبعض أئمة عصره أموراً ظهرت منه. ذكر الخطيب في "تاريخه" (8/ 215 ـ 216) أن أبا القاسم النصراباذي قال: "بلغني أن الحارث المحاسبي تكلم في شيء من الكلام، فهجره أحمد بن حنبل، فاختفى في دار ببغداد ومات فيها، ولم يصلّ عليه إلا أربعة نفر".
وذكر عن سعيد بن عمرو البرذعي أنه قال: "شهدت أبا زرعة ـ وسئل عن الحارث المحاسبي وكتبه ـ، فقال للسائل: إياك وهذه الكتب! هذه كتب بدع وضلالات، عليك بالأثر، فإنك تجد فيه ما يغنيك عن هذه الكتب. قيل له: في هذه الكتب عبرة، قال: من لم يكن له في كتاب الله عبرة فليس له في هذه الكتب عبرة، بلغكم أن مالك بن أنس، وسفيان الثوري، والأوزاعي، والأئمة المتقدمين، صنفوا هذه الكتب في الخطرات والوساوس وهذه الأشياء؟ هؤلاء قوم خالفوا أهل العلم، يأتونا مرة بالحارث المحاسبي، ومرة بعبد الرحمن الديبلي، ومرة بحاتم الأصم، ومرة بشقيق، ثم قال: ما أسرع الناس إلى البدع! ".
(2) في (ر) و (غ): "لهؤلاء المتأخرين".
(3) في (خ): "طريق".
(4) في (خ): "وعلى كل".
(5) في (غ): "تشريع".
(6) قوله: "في الربوبية" ليس في (خ) و (م).
(7) سورة النساء: الآية (171).(2/139)
على كونهم (1) مِنْ (2) أَهْلِ الْجَنَّةِ بِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ (3) تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (4) الْآيَةَ. وَاسْتَدَلَّ بَعْضُ الْيَهُودِ عَلَى تَفْضِيلِهِمْ عَلَيْنَا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} (5). وبعض الحلولية استدل على قوله بقول الله تعالى: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} (6). والتناسُخِيّ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ *} (7).
وكذلك يمكن (8) كُلُّ مَنِ اتَّبَعَ الْمُتَشَابِهَاتِ، أَو حَرَّفَ المَنَاطَات، أَو حمَّل الآيات مالا تحتمله عند السلف الصالح، أَو تمسَّك بالواهية من (9) الأحاديث، أَو أَخذ (10) الأَدلة (11) ببادي الرأْي: أَن (12) يَسْتَدِلَّ عَلَى كُلِّ فِعْلٍ أَو قَوْلٍ أَو اعْتِقَادٍ وَافَقَ غَرَضَهُ بِآيَةٍ أَو حَدِيثٍ لا يعوز ذلك (13) أَصلاً، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ اسْتِدْلَالُ كُلِّ فِرْقَةٍ شُهِرَتْ بِالْبِدْعَةِ عَلَى بِدْعَتِهَا بِآيَةٍ أَو حَدِيثٍ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ ـ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ـ، وَسَيَأْتِي لَهُ نَظَائِرُ أَيضاً إِن شاءَ اللَّهُ. فَمَنْ طَلَبَ خَلَاصَ نَفْسِهِ تثبَّت حَتَّى يَتَّضِحَ لَهُ الطَّرِيقُ، وَمَنْ تَسَاهَلَ رَمَتْهُ أَيدي الْهَوَى فِي مَعَاطِبَ لَا مُخَلِّصَ لَهُ مِنْهَا، إِلا مَا شاءَ الله.
_________
(1) قوله: "كونهم من" سقط من (م).
(2) في (خ): "أن الكفار" بدل "كونهم".
(3) في (ر) و (غ): "بقوله".
(4) سورة البقرة: الآية (62).
(5) سورة البقرة: الآيتان (47 و122).
(6) سورة الحجر: الآية (29)، وسورة ص: الآية (72).
(7) سورة الانفطار: الآية (8). ووقع في (غ): "ربك" بدل "ركبك".
(8) قوله: "يمكن" ليس في (خ).
(9) قوله: "من" ليس في (خ).
(10) في (غ): "وأخذ".
(11) في (خ): "بالأدلة".
(12) في (خ): "له أن".
(13) في (خ): "لا يفوز بذلك".(2/140)
الْبَابُ الْخَامِسُ
فِي أَحْكَامِ الْبِدَعِ الْحَقِيقِيَّةِ والإِضافية والفرق بينهما
وَلَا بُدَّ قَبْلَ النَّظَرِ فِي ذَلِكَ مِنْ تَفْسِيرِ الْبِدْعَةِ الْحَقِيقِيَّةِ والإِضافية (1)، فَنَقُولُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ:
إِن الْبِدْعَةَ الْحَقِيقِيَّةَ هِيَ الَّتِي لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهَا دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ لَا مِنْ كِتَابٍ، وَلَا سُنَّةٍ، وَلَا إِجماع، وَلَا قِيَاسٍ (2)، وَلَا اسْتِدْلَالٍ مُعْتَبَرٍ عِنْدَ أَهل الْعِلْمِ، لَا فِي الْجُمْلَةِ، وَلَا فِي التَّفْصِيلِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ بِدْعَةً ـ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ـ؛ لأَنها شيءٌ مُخْتَرَعٌ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَابِقٍ، وإِن (3) كَانَ المبتَدِعُ يأْبى أَن (4) يُنْسَبَ إِليه الْخُرُوجُ عَنِ الشَّرْعِ، إِذ هُوَ مُدَّعٍ أَنه دَاخِلٌ بِمَا اسْتَنْبَطَ تَحْتَ مُقْتَضَى الْأَدِلَّةِ، لَكِنَّ تِلْكَ الدَّعْوَى غَيْرُ صَحِيحَةٍ لَا فِي نَفْسِ الأَمر وَلَا بِحَسَبِ الظَّاهِرِ. أَما بِحَسَبَ ما في (5) نفس الأَمر فبالفرض (6)، وأَما بِحَسَبِ الظَّاهِرِ فإِن أَدلته شُبَهٌ لَيْسَتْ بأَدلّة إِن ثَبَتَ (7) أَنه اسْتَدَلَّ، وإِلا فالأَمر وَاضِحٌ (8).
وأَما الْبِدْعَةُ الإِضافية فَهِيَ الَّتِي لَهَا شَائِبَتَانِ: إِحداهما (9) لَهَا مِنَ الأَدلة مُتَعَلَّق، فَلَا تَكُونُ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ بِدْعَةً. والأُخرى لَيْسَ لَهَا مُتَعَلَّق إِلا مِثْلَ مَا (10) لِلْبِدْعَةِ الْحَقِيقِيَّةِ. فَلَمَّا كَانَ الْعَمَلُ الَّذِي لَهُ شَائِبَتَانِ لَمْ
_________
(1) في (غ): "والإضافة".
(2) قوله: "ولا قياس" ليس في (خ).
(3) في (غ) و (ر): "هذا وإن".
(4) في (غ) و (ر): "من أن".
(5) قوله: "ما في" ليس في (خ).
(6) في (خ): "فبالعرض".
(7) في (خ): "إن تثبت"، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: كذا في الأصل، ولعله: "إن ثبت"، أو: "هذا إن ثبت".اهـ.
(8) في (ر): "أوضح".
(9) في (خ): "أحدهما".
(10) قوله: "ما" ليس في (غ) و (ر).(2/141)
يَتَخَلَّصْ لأَحد الطَّرَفَيْنِ؛ وَضَعْنَا لَهُ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ؛ وَهِيَ: "الْبِدْعَةُ الإِضافية"؛ أَي: أَنها بِالنِّسْبَةِ إِلى إِحدى (1) الْجِهَتَيْنِ سُنَّةٌ؛ لأَنها مُسْتَنِدَةٌ إِلى دَلِيلٍ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلى الْجِهَةِ الأُخرى بِدْعَةٌ؛ لأَنها مُسْتَنِدَةٌ إِلى شُبْهَةٍ لَا إِلى دَلِيلٍ، أَو غَيْرِ مُسْتَنِدَةٍ إِلى شيءٍ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى: أَن الدَّلِيلَ عَلَيْهَا مِنْ جِهَةِ الْأَصْلِ قَائِمٌ، وَمِنْ جِهَةِ الْكَيْفِيَّاتِ أَو الأَحوال أَو التفاصيل أو الأوقات (2) لم يقم عليها (3) دليل (4)، مَعَ أَنها مُحْتَاجَةٌ إِليه؛ لأَن الْغَالِبَ وُقُوعُهَا فِي التَّعَبُدِيَّاتِ، لَا فِي الْعَادِيَّاتِ (5) المَحْضَة؛ كَمَا سيأتي ذكره (6) إِن شاء الله.
ثُمَّ نَقُولُ بَعْدَ هَذَا: إِن الْحَقِيقِيَّةَ لَمَّا كَانَتْ أَكثر وأَعم وأَشهر فِي النَّاسِ ذِكْرًا، وبها (7) افترقت الْفِرَقُ، وَكَانَ النَّاسُ شِيَعًا، وَجَرَى مِنْ أَمثلتها مَا فِيهِ الْكِفَايَةُ ـ وَهِيَ أَسبق فِي فَهْمِ العلماءِ ـ؛ تَرَكْنَا الْكَلَامَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الأَحكام، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَلَّمَا تَخْتَصُّ بِحُكْمٍ دُونَ الإِضافية، بل هما معاً تشتركان (8) فِي أَكثر الأَحكام الَّتِي هِيَ مَقْصُودُ هَذَا الْكِتَابِ أَنْ تُشْرَحَ (9) فِيهِ، بِخِلَافِ الْإِضَافِيَّةِ، فَإِنَّ لَهَا أَحْكَامًا خَاصَّةً وَشَرْحًا خَاصًّا ـ وَهُوَ الْمَقْصُودُ فِي هَذَا الْبَابِ ـ، إِلا أَن الإِضافية أَوّلاً عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا يَقْرُبُ مِنَ الْحَقِيقِيَّةِ حَتَّى تَكَادَ الْبِدْعَةُ تُعَدُّ حَقِيقِيَّةً، وَالْآخَرُ يَبْعُدُ مِنْهَا حتى تكاد تكون (10) سُنَّةً مَحْضَة.
وَلَمَّا انْقَسَمَتْ هَذَا الِانْقِسَامَ (11)؛ صَارَ من الأَكيد الكلام عَلَى كُلِّ قِسْمٍ عَلَى حِدَتِه، فَلْنَعْقِدْ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فُصُولًا بِحَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ الوقت والحال (12)، وبالله التوفيق.
_________
(1) في (خ): "أحد".
(2) قوله: "الأوقات" ليس في (خ) و (م).
(3) في (غ) و (ر): "معها" بدل: "عليها".
(4) قوله: "دليل" ليس في (خ) و (م).
(5) في (خ): "العاديا" وفي (م): "العادات".
(6) في (خ): "كما سنذكره".
(7) قوله: "بها" ليس في (خ) و (م).
(8) في (خ) و (م) "يشتركان".
(9) في (غ) و (ر): "أو تشرح".
(10) في (خ): "حتى يكاد يعد" وفي (م): "حتى تعد".
(11) في (خ): "الأقسام".
(12) قوله: "والحال" ليس في (خ) و (م).(2/142)
فَصْلٌ
قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي شأْن عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَنِ اتَّبَعَهُ: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} (1).
فخرَّج عَبْدُ (2) بْنُ حُمَيْدٍ وإِسماعيل بْنُ إِسحاق القاضي وغيرهما (3) عن
_________
(1) سورة الحديد: آية (27).
(2) في (خ): "عبد الله".
(3) أخرجه الطيالسي في "مسنده" (376) فقال: حدثنا الصعق بن حزن، عن عقيل الجعدي، عن أبي إسحاق، عن سويد بن غفلة، عن عبد الله بن مسعود فذكره إلى قوله: "يزحف على استه"، وفيه زيادة.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "المسند" (321)، وأبو يعلى في "مسنده" كما في "المطالب العالية" (3038/ 3)، ومحمد بن نصر في "السنة" (ص21)، وابن جرير الطبري في "تفسيره" (23/ 204 ـ 205)، والطبراني في "الكبير" (10/ 220 رقم 10531)، و"الأوسط" (4479)، والحاكم في "المستدرك" (2/ 480)، وأبو نعيم في "الحلية" (4/ 177)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (9510)، جميعهم من طريق الصعق بن حزن، به، وبعضهم ذكره بتمامه، وبعضهم نقص منه.
وأخرجه أيضاً عبد بن حميد والحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" وابن المنذر وابن مردويه كما في "الدر المنثور" (8/ 64).
قال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، فتعقبه الذهبي بقوله: "ليس بصحيح، فإن الصعق ـ وإن كان موثقاً ـ، فإن شيخه منكر الحديث، قاله البخاري".
وقول البخاري هذا تجده في "التاريخ الكبير" (7/ 53 ـ 54).
والحديث ذكره ابن أبي حاتم في "العلل" (1977)، ونقل عن أبيه قوله: "منكر، لا يشبه حديث أبي إسحاق، ويشبه أن يكون عقيل هذا أعرابياً، والصعق لا بأس به".
وأخرجه ابن أبي حاتم في "التفسير" ـ كما في "تفسير ابن كثير" (8/ 54 ـ 55)، والطبراني في "الكبير" (10357)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (747)،=(2/143)
عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَلْ تَدْرِي أَيَّ النَّاسِ أَعلم؟ " قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعلم. قَالَ: "أَعلم النَّاسِ أَبصرهم بِالْحَقِّ إِذا اخْتَلَفَ النَّاسُ، وإِن كَانَ مقصِّراً فِي الْعَمَلِ، وإِن كَانَ يَزْحَفُ عَلَى اسْتهِ (1) وَاخْتَلَفَ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا عَلَى ثِنْتَيْنِ (2) وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، نَجَا مِنْهَا ثَلَاثٌ وَهَلَكَ سَائِرُهَا: فِرْقَةٌ آزَتِ (3) الْمُلُوكَ وَقَاتَلَتْهُمْ عَلَى دِينِ اللَّهِ وَدِينِ عيسى ابن مريم عليهما السلام حَتَّى قُتِلُوا، وَفِرْقَةٌ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ طَاقَةٌ بِمُؤَازَاةِ الْمُلُوكِ، فَأَقَامُوا عَلَى دِينِ اللَّهِ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ (4) قَوْمِهِمْ، فَدَعَوْهُمْ إِلَى دِينِ اللَّهِ وَدِينِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فَأَخَذَتْهُمُ الْمُلُوكُ (5)، فَقَتَلَتْهُمْ، وقطَّعتهم بِالْمَنَاشِيرِ. وَفِرْقَةٌ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ طَاقَةٌ (6) بمُؤَازَاةِ الْمُلُوكِ، وَلَا بِأَنْ يُقِيمُوا بَيْنَ ظَهَرَانَيْ قَوْمِهِمْ فَيَدْعُوهُمْ إِلى دِينِ اللَّهِ وَدِينِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ (7)، فَسَاحُوا فِي الْجِبَالِ وترهَّبوا فِيهَا، هُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِمْ (8): {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}. فالمؤمنون الذين آمنوا بي
_________
=وابن عساكر في "تاريخه" (10/ 313 مخطوط)، جميعهم من طريق بكير بن معروف، عن مقاتل بن حيان، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن جده عبد الله.
قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (7/ 515): "رواه الطبراني بإسنادين، ورجال أحدهما رجال الصحيح غير بكير بن معروف، وثقه أحمد وغيره، وفيه ضعف".
وقال ابن حجر في "التقريب" (776) عن بكير هذا: "صدوق فيه لين"، فالحديث ضعيف بهذا الإسناد لأجله.
(1) في (خ): يشبه أن تكون: "أليتيه".
(2) في (خ): "اثنتين".
(3) أي: قاومت؛ من آزَيْتُه: إذا حاذيته، يقال: فلان إزاءٌ لفلان: إذا كان مقاوماً له. انظر "لسان العرب" (14/ 32). وضبطت في (ر): "أزّت"، وعُلِّق عليها في الهامش بما نصه: "أَزّيت الرجل: ساويته".
(4) في (م): "ظهران"، وكتب في الهامش: "لعله ظهراني".
(5) من قوله: "فأقاموا على دين الله" إلى هنا سقط من (غ) و (ر).
(6) في (ر) و (غ): "طاقات".
(7) من قوله: "حتى قتلوا" إلى هنا سقط من (خ).
(8) قوله: "فيهم" من (خ) فقط.
(9) قوله تعالى: "فما رعوها حق رعايتها" سقط من (غ) و (ر).(2/144)
وصدَّقوا بِي، وَالْفَاسِقُونَ الَّذِينَ كذَّبوا بِي (1) وَجَحَدُوا بي" (2).
وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَحاديث الْكُوفِيِّينَ، وَالرَّهْبَانِيَّةُ فِيهِ بمعنى اعتزال الخلق بالسياحة (3) في الجبال (4)، واطِّراح الدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا مِنَ النساءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَمِنْهُ: لُزُومُ الصَّوَامِعِ والدِّيارات (5) ـ عَلَى مَا كَانَ عليه كثير من النَّصَارَى (6) قَبْلَ الإِسلام ـ، مَعَ الْتِزَامِ الْعِبَادَةِ، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ.
وَيُحْتَمَلُ أَن يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} مُتَّصِلًا وَمُنْفَصِلًا. فإِذا بَنَيْنَا عَلَى الِاتِّصَالِ، فكأَنه يَقُولُ: مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي هُوَ الْعَمَلُ بِهَا ابتغاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ. فَالْمَعْنَى: أَنها مِمَّا كُتِبَتْ عَلَيْهِمْ (7)؛ أَي: مِمَّا شُرِعَتْ (8) لَهُمْ، لَكِنْ بِشَرْطِ قَصْدِ الرِّضوان، فما رعوها حق رعايتها؛ يُرِيدُ أَنَّهُمْ تَرَكُوا رِعَايَتَهَا حِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ؛ لأَن قَصْدَ الرِّضْوَانِ إِذا كَانَ شَرْطًا فِي الْعَمَلِ بِمَا شُرِعَ لَهُمْ؛ فَمِنْ حَقِّهِمْ أَن يَتَّبِعُوا ذَلِكَ الْقَصْدَ، فإِلى أَيْنَ سَارَ (9) بِهِمْ سَارُوا، وإِنما شَرَعَ لَهُمْ عَلَى شَرْطِ أَنه إِذا نُسخ بِغَيْرِهِ رجعوا إِلى ما أُحكم وتركوا مَا نُسخ، وَهُوَ مَعْنَى ابْتِغَاءَ الرِّضْوَانِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، فإِذا لَمْ يَفْعَلُوا وأَصرُّوا عَلَى الأَوّل كَانَ ذَلِكَ اتِّباعاً لِلْهَوَى لَا اتِّبَاعًا لِلْمَشْرُوعِ، واتباع المشروع هو الذي يحصل به الرضوان، وقصد الرضوان؛ فلذلك قال الله تَعَالَى (10): {فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}. فَالَّذِينَ آمِنُوا هُمُ الَّذِينَ اتَّبَعُوا الرَّهْبَانِيَّةَ ابتغاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ، وَالْفَاسِقُونَ هُمُ الْخَارِجُونَ عَنِ الدُّخُولِ فِيهَا بِشَرْطِهَا؛ إِذ لَمْ يُؤْمِنُوا بِرَسُولِ اللَّهِ (ص).
_________
(1) قوله: "بى" ليس في (خ).
(2) قوله: "بي" ليس في (خ) و (م).
(3) في (خ) و (م): "في السياحة".
(4) قوله: "في الجبال" ليس في (خ).
(5) في (خ): "والديارت".
(6) في (خ) و (م): "عليه أمر النصارى".
(7) في (غ) و (ر): "كتب لهم".
(8) في (غ) و (ر): "شرع".
(9) في (خ): "أسار"، وعلق عليها رشيد رضا بقوله: كذا في الأصل! ولعل صوابه: "أسارهم"، أو: "سار بهم". ومعنى "أساره": جعله يسير كسيره، ولا يظهر معه معنى لباء الملابسة والمصاحبة. اهـ.
(10) في (خ) و (م): "بذلك قال تعالى".(2/145)
إِلا أَن هَذَا التَّقْرِيرَ يَقْتَضِي أَن الْمَشْرُوعَ لَهُمْ يُسَمَّى (1) ابْتِدَاعًا، وَهُوَ خِلَافُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ حَدُّ الْبِدْعَةِ.
وَالْجَوَابُ أَنه يُسَمَّى (2) بِدْعَةً مِنْ حَيْثُ أَخلّوا بِشَرْطِ الْمَشْرُوعِ، إِذ شَرَطَ عليهم فيه شرط (3) فَلَمْ يَقُومُوا بِهِ. وإِذا كَانَتِ الْعِبَادَةُ مَشْرُوطَةً بشرط فعُمِلَ (4) بِهَا دُونَ شَرْطِهَا لَمْ تَكُنْ عِبَادَةً عَلَى وَجْهِهَا وَصَارَتْ بِدْعَةً، كَالْمُخِلِّ قَصْدًا بِشَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الصَّلَاةِ؛ مِثْلَ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ، أَو الطَّهَارَةِ، أَو غيرها، بحيث (5) عَرَفَ بِذَلِكَ وعَلِمَه فَلَمْ يَلْتَزِمْهُ، ودأَب عَلَى الصَّلَاةِ دُونَ شَرْطِهَا، فَذَلِكَ الْعَمَلُ مِنْ قَبِيلِ الْبِدَعِ. فَيَكُونُ ترهُّب النَّصَارَى صَحِيحًا قَبْلَ بَعْثِ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ (6) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا بُعث وَجَبَ الرُّجُوعُ عَنْ ذَلِكَ كلِّه إِلى مِلَّتِهِ، فالبقاءُ عَلَيْهِ مَعَ نَسْخِهِ بَقَاءً عَلَى مَا هُوَ بَاطِلٌ بِالشَّرْعِ، وَهُوَ عَيْنُ الْبِدْعَةِ.
وإِذا بَنَيْنَا عَلَى أَن الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ ـ وَهُوَ قَوْلُ فَرِيقٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ ـ، فَالْمَعْنَى: مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ أَصلاً؛ وَلَكِنَّهُمُ (7) ابْتَدَعُوهَا ابتغاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ، فَلَمْ يَعْمَلُوا بِهَا بِشَرْطِهَا، وَهُوَ الإِيمان بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ إِذ بُعث إِلى النَّاسِ كَافَّةً.
وإِنما سُمِّيَتْ بِدْعَةً عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لأَمرين:
أَحدهما: يَرْجِعُ إِلى أَنها بِدْعَةٌ حَقِيقِيَّةٌ ـ كَمَا تَقَدَّمَ ـ؛ لأَنها دَاخِلَةٌ تَحْتَ حَدِّ الْبِدْعَةِ.
وَالثَّانِي: يَرْجِعُ إِلى أَنها بِدْعَةٌ إِضافية؛ لأَن ظَاهِرَ الْقُرْآنِ دَلَّ عَلَى أَنها لَمْ تَكُنْ مَذْمُومَةً فِي حَقِّهِمْ بِإِطْلَاقٍ، بَلْ لأَنهم أَخلّوا بِشَرْطِهَا، فَمَنْ لَمْ يُخِلَّ مِنْهُمْ بِشَرْطِهَا، وَعَمَلِ (8) بِهَا قَبْلَ بَعْثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَصَلَ لَهُ فِيهَا أجر،
_________
(1) في (غ) و (ر): "سمي".
(2) في (غ) و (ر): "سمي".
(3) قوله: "فيه شرط" سقط من (خ) و (م).
(4) في (خ) و (م): "فيعمل".
(5) في (خ) و (م): "فحيث".
(6) قوله: "رسول الله" ليس في (غ) و (ر).
(7) في (غ): "ولكن".
(8) في (غ) و (ر): "أو عمل".(2/146)
حَسْبَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ}؛ أَي: أَنَّ مَنْ عَمِلَ بِهَا (1) فِي وَقْتِهَا ثُمَّ آمَنَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ بَعْثِهِ وفَّيناه أَجره.
وإِنما قُلْنَا: إِنها فِي هَذَا الْوَجْهِ إِضافية؛ لأَنها لَوْ كَانَتْ حَقِيقِيَّةً لَخَالَفُوا بِهَا شَرْعَهُمُ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ؛ لأَن هَذَا حَقِيقَةُ الْبِدْعَةِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ بها أَجر، بل كانوا يستحقون بها (2) الْعِقَابَ لِمُخَالَفَتِهِمْ لأَوامر اللَّهِ وَنَوَاهِيهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنهم إنما (3) فعلوا ما كان جائزاً لهم فعله، وعند ذلك تكون بدعتهم جائزاً لهم فعلها (4)، فَلَا تَكُونُ بِدْعَتُهُمْ حَقِيقِيَّةً، لَكِنَّهُ يُنْظَرُ عَلَى أَي مَعْنَى أُطْلِقَ عَلَيْهَا لَفْظُ الْبِدْعَةِ، وسيأْتي بعدُ (5) بِحَوْلِ اللَّهِ.
وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَهَذَا الْقَوْلُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الأُمة مِنْهُ حُكْمٌ؛ لأَنه قد (6) نُسِخَ فِي شَرِيعَتِنَا، فَلَا رهبانيَّة فِي الإِسلام (7)، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي" (8).
عَلَى أَن ابْنَ الْعَرَبِيِّ (9) نَقَلَ فِي الْآيَةِ أَربعة أَقوال: الأَول: مَا تَقَدَّمَ (10). وَالثَّانِي: أَن الرَّهْبَانِيَّةَ رَفْضُ النِّسَاءِ، وَهُوَ الْمَنْسُوخُ فِي شَرْعِنَا (11). وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا (12) اتخاذ الصوامع للعزلة. والرابع: أنها (13)
_________
(1) في (غ) و (ر): "عمل فيها".
(2) قوله: "بها" ليس في (خ).
(3) قوله: "إنما" ليس في (خ).
(4) من قوله: "وعند ذلك تكون" إلى هنا سقط من (خ).
(5) قوله: "بعد" ليس في (ر).
(6) قوله: "قد" ليس في (خ) و (م).
(7) يشير إلى الحديث الآتي تخريجه (ص212).
(8) هذا جزء من حديث أخرجه البخاري (5063)، ومسلم (1401)، كلاهما من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(9) في "أحكام القرآن" (4/ 1744).
(10) وهو ما سبق في حديث ابن مسعود (ص144)، والرهبانية فيه بمعنى اعتزال الخلق بالسياحة في الجبال والترهب فيها.
(11) في (غ) و (ر): "شريعتنا".
(12) قوله: "أنها" ليس في (خ).
(13) قوله: "أنها" سقط من (خ).(2/147)
السِّياحة. قَالَ: وَهُوَ مَنْدُوبٌ إِليه فِي دِينِنَا عِنْدَ فَسَادِ الزَّمَانِ (1).
وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي (2) أَنها بِدْعَةٌ؛ لأَن الَّذِينَ ترهَّبوا قَبْلَ الْإِسْلَامِ إِنما فَعَلُوا ذلك فراراً منهم بدينهم، ثم سُمِّيت (3) بِدْعَةً، وَالنَّدْبُ إِليها يَقْتَضِي أَن لَا ابْتِدَاعَ (4) فِيهَا، فَكَيْفَ يَجْتَمِعَانِ؟ وَلَكِنْ للمسأَلة فِقْهُ (5) يُذكر بحول الله.
وقيل: إِن قوله (6) تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} معناه (7): أَنهم تَرَكُوا الْحَقَّ، وَأَكَلُوا لُحُومَ الْخَنَازِيرِ، وَشَرِبُوا الْخَمْرَ، وَلَمْ يَغْتَسِلُوا مِنْ جَنَابَةٍ، وَتَرَكُوا الْخِتَانَ، {فَمَا رَعَوْهَا} يعني: الطاعة والملة {حَقَّ رِعَايَتِهَا}، فالهاءُ رَاجِعَةٌ إِلى غَيْرِ مَذْكُورٍ، وَهُوَ الْمِلَّةُ الْمَفْهُومُ (8) مَعْنَاهَا مِنْ قَوْلِهِ: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً}؛ لأَنه يَفْهَمُ مِنْهُ أَن ثَمَّ مِلَّةٌ مُتَّبَعَةٌ؛ كَمَا دَلَّ (9) قَوْلُهُ: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ *} (10) على معنى (11) الشَّمْسِ، حَتَّى عَادَ عَلَيْهَا (12) الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ تعالى: {حَتَّى (13) تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} (14)، وَكَانَ الْمَعْنَى عَلَى هَذَا الْقَوْلِ: مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ عَلَى هَذَا (15) الْوَجْهِ الَّذِي فَعَلُوهُ، وإِنما أَمرناهم بِالْحَقِّ، فَالْبِدْعَةُ فِيهِ إِذاً حَقِيقِيَّةٌ لَا إِضافية، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، فَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الَّذِي قَالَ بِهِ أَكثر الْعُلَمَاءِ، فَلَا نَظَرَ فيه بالنسبة إِلى هذه الأُمة.
_________
(1) الذي في أحكام القرآن لابن العربي قوله: الثاني اتخاذ الصوامع للعزلة، وذلك مندوب إليه عند فساد الزمان، اهـ ولم يذكره عند السياحة كما في نقل الشاطبي عنه.
(2) قوله: "يقتضي" ليس في (غ).
(3) في (خ): "وسميت"، وفي هامش (م) ما نصه: "ولعلها: سماها".
(4) في (غ): "أن الابتداع".
(5) في (خ): "فقد"، ولذا أشكلت العبارة على رشيد رضا، فعلق على قوله: "للمسألة" فقال: كذا! ولعل كلاماً سقط من الناسخ هو "بيان"، أو نحوه. اهـ.
(6) في (خ): "معنى قوله".
(7) قوله: "معناه" ليس في (خ).
(8) في (م): "المفهومة".
(9) في (غ): "دل عليه".
(10) سورة ص: الآية (31). وقوله: "الصافنات الجياد" من (ر) فقط.
(11) قوله: "معنى" من (غ) و (ر) فقط.
(12) في (م): "عليه".
(13) قوله تعالى: "حتى" ليس في (خ).
(14) سورة ص: الآية (32). وعلق رشيد رضا رحمه الله على هذا الموضع بقوله: في تفسير الآية وجه آخر، وهو: أن ضمير "توارت" يرجع إلى الخيل التي عبر عنها بلفظ الخيل. وكذلك ضمير "ردوها علي"، وهذا الوجه أصح لفظاً ومعنى. اهـ.
(15) قوله: "هذا" ليس في (غ) و (ر).(2/148)
فصل (1)
وخرَّج سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ (2) وإِسماعيل الْقَاضِي عَنْ أَبي أُمامة الْبَاهِلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنه قَالَ: أَحدثتم قِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ وَلَمْ يُكْتَبْ عَلَيْكُمْ، إِنما كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ، فَدُومُوا عَلَى القيام إذ (3) فعلتموه ولا تتركوه، فإِن ناساً (4) مِنْ بَنِي إِسرائيل (5) ابْتَدَعُوا بِدَعًا لَمْ يَكْتُبْهَا اللَّهُ عَلَيْهِمُ ابْتَغَوْا بِهَا رِضْوَانَ اللَّهِ، فَلَمْ يَرْعَوْهَا (6) حَقَّ رِعَايَتِهَا، فَعَاتَبَهُمُ اللَّهُ بِتَرْكِهَا فَقَالَ: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} إلى آخر (7) الآية.
وفي رواية سعيد (8): فإِن نَاسًا مِنْ بَنِي إِسرائيل ابْتَدَعُوا بِدْعَةً ابتغاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ، فَلَمْ يَرْعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا، فعاتبهم الله بتركها، فتلا (9) هذه
_________
(1) قوله: "فصل" ليس في (خ)، وفي موضعه بياض في (م).
(2) في "سننه" (ل180/أ)، فقال: نا هشيم؛ قال: نا زكريا بن أبي مريم الخزاعي؛ قال: سمعت أبا أمامة يحدث ... ، فذكره.
وأخرجه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (23/ 206) من طريق يعقوب بن إبراهيم، عن هشيم، به.
وسنده ضعيف لضعف زكريا بن أبي مريم الخزاعي، فقد ذُكر لشعبة، فجعل يتعجب، ثم ذكره فصاح صيحة دلّت على أنه لم يرضه كما قال ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (3/ 592 ـ 593)، وقال أبو داود: "لم يرو عنه إلا هشيم"، وقال النسائي: "ليس بالقوي"، وقال الساجي: "تكلموا فيه"، وقال الدارقطني: "يعتبر به"؛ كما في "لسان الميزان" (3/ 331 رقم 3520)، وذكره ابن حبان في "الثقات" (4/ 263).
(3) المثبت من (م)، وفي باقي النسخ "إذا".
(4) في (خ): "أناساً".
(5) علق رشيد رضا على هذا الموضع بقوله: فيه: أن الذين ابتدعوا الرهبانية أتباع المسيح، لا بني إسرائيل خاصة. اهـ.
(6) في (خ): "فما رعوها".
(7) قوله: "إلى آخر" ليس في (خ).
(8) قوله: "سعيد" ليس في (خ) و (م).
(9) في (خ): "وتلا".(2/149)
الآية: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} (1) إِلَى آخَرِ (2) الْآيَةِ.
وَهَذَا الْقَوْلُ يَقْرُبُ مِنْ قَوْلِ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ فِي قَوْلِهِ: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} يُرِيدُ أَنهم قَصَّرُوا فِيهَا وَلَمْ يَدُومُوا عَلَيْهَا.
قَالَ بَعْضُ نَقْلَةِ التَّفْسِيرِ: وَفِي (3) هَذَا التأْويل لُزُومُ الْإِتْمَامِ لِكُلِّ مَنْ بدأَ بِتَطَوُّعٍ وَنَفْلٍ، وأنه يلزمه (4) أن يرعاه (5) حَقَّ رَعْيِهِ (6).
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ (7): وَقَدْ زَاغَ قوم (8) عن منهج الصواب، فظنوا (9) أَنَّهَا رَهْبَانِيَّةٌ كُتِبَتْ (10) عَلَيْهِمْ بَعْدَ أَن الْتَزَمُوهَا. قال: وليس يخرج هذا من (11) مَضْمُونِ الْكَلَامِ، وَلَا يُعْطِيهِ أُسْلُوبُهُ وَلَا مَعْنَاهُ، وَلَا يُكْتَبُ عَلَى أَحد شَيْءٌ إِلا بِشَرْعٍ أَو نَذْرٍ. قَالَ: وَلَيْسَ فِي هَذَا اخْتِلَافٌ بَيْنَ أَهل الْمِلَلِ، وَاللَّهُ أَعلم (12).
وَهَذَا الْقَوْلُ محتاج إِلى النظر والتأَمل إِذا بنينا على (13) الْعَمَلَ عَلَى وَفْقِهِ، إِذ أَكثر الْعُلَمَاءِ عَلَى الْقَوْلِ الأَول، فإِن هَذِهِ الْمِلَّةَ لَا بِدْعَةَ فِيهَا، وَلَا تَحْتَمِلُ الْقَوْلَ بِجَوَازِ الِابْتِدَاعِ بِحَالٍ؛ للقطع بالدليل؛ إِذ كُلَّ (14) بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ ـ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ (15) ـ، فَالْأَصْلُ أَن يُتْبَعَ الدَّلِيلُ، وَلَا عَمَلَ عَلَى خِلَافِهِ.
وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا نُخَلِّي ـ بِحَوْلِ اللَّهِ ـ قَوْلَ أَبي أُمامة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ نَظَرٍ صَحِيحٍ (16) عَلَى وِفْقِ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ، وإِن كَانَ فِيهِ بُعد بِالنِّسْبَةِ إِلى ظَاهِرِ الأَمر، وَذَلِكَ أَنه عَدَّ عَمَلَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي جمع الناس في
_________
(1) قوله تعالى: {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} من (غ) فقط.
(2) قوله: "إلى آخر" ليس في (خ).
(3) في (غ) و (ر): "في".
(4) قوله: "وأنه يلزمه" ليس في (خ).
(5) في (غ) و (ر): "يرعه"، وفي (خ): "وأن يرعاه".
(6) في (خ): "رعايته".
(7) في "أحكام القرآن" (4/ 1745).
(8) قوله: "قوم" ليس في (خ) و (م).
(9) في (خ): "من يظن".
(10) في (غ): "كتب".
(11) في (خ): "عن" بدل "من".
(12) قوله: "أعلم" ليس في (خ).
(13) قوله: "على" ليس في (خ).
(14) في (غ): "إن كان". وفي (ر): "إن كل".
(15) (ص108) من المجلد الأول، وسيأتي تخريجه أيضاً (ص318).
(16) في (غ): "صح". وفي (ر): "يصح".(2/150)
الْمَسْجِدِ (1) عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ فِي رَمَضَانَ بِدْعَةً؛ لِقَوْلِهِ حِينَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَهُمْ يُصَلُّونَ: نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هَذِهِ، وَالَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفضل (2).
وَقَدْ مَرَّ أَنه إِنما سمَّاها بدعة بِاعْتِبَارٍ مَّا، وأَن قِيَامَ الإِمام بِالنَّاسِ فِي الْمَسْجِدِ فِي رَمَضَانَ سُنَّةٌ، عَمِلَ بِهَا صَاحِبُ السُّنَّةِ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا تَرَكَهَا خَوْفًا مِنْ الِافْتِرَاضِ (3)، فَلَمَّا انْقَضَى زَمَنُ الْوَحْيِ زَالَتِ الْعِلَّةُ فَعَادَ (4) الْعَمَلُ بِهَا إِلَى نِصَابِهِ، إِلا أَن ذَلِكَ لَمْ يتأَتَّ لأبي بكر رضي الله تعالى عَنْهُ زَمَانَ (5) خِلَافَتِهِ؛ لِمُعَارَضَةِ مَا هُوَ أَولى بِالنَّظَرِ فِيهِ، وَكَذَلِكَ صَدْرُ خِلَافَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، حَتَّى تَأَتَّى النَّظَرُ فَوَقَعَ مِنْهُ ما عُلم (6)، لَكِنَّهُ صَارَ فِي ظَاهِرِ الأَمر كأَنه أَمر لم يَجْر عليه (7) عملُ مَنْ تَقَدَّمَهُ دَائِمًا، فَسَمَّاهُ بِذَلِكَ الِاسْمِ، لَا أَنه أَمر عَلَى خِلَافِ مَا ثَبَتَ من السنة.
فكأَنّ أَبا أُمامة رضي الله عنه اعتبر فيه نظر ترك (8) الْعَمَلِ بِهِ، فَسَمَّاهُ إِحداثاً، مُوَافَقَةً لِتَسْمِيَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ثُمَّ أَمر بِالْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهِ بِنَاءً عَلَى مَا فَهِمَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ من أَن ترك الرعاية هو ترك الدوام، وأنهم قصدوا إِلى (9) الْتِزَامِ عملٍ لَيْسَ بِمَكْتُوبٍ، بَلْ هُوَ مَنْدُوبٌ، فَلَمْ يُوفُوا بِمُقْتَضَى مَا الْتَزَمُوهُ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ فِي التطوُّعات غَيْرِ (10) اللَّازِمَةِ، وَلَا السُّنَنِ الرَّاتِبَةِ، يَقَعُ (11) عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحدهما أَن تُؤْخَذَ عَلَى أَصلها فِيمَا اسْتَطَاعَ الإِنسان، فَتَارَةً يَنْشَطُ لَهَا (12)، وَتَارَةً لَا يَنْشَطُ، أَوْ يُمْكِنُهُ تَارَةً بِحَسْبِ الْعَادَةِ وَلَا يُمْكِنُهُ أُخْرَى لِمُزَاحَمَةِ أشغالٍ وَنَحْوِهَا، وما أشبه ذلك؛ كالرجل يكون
_________
(1) في (غ) و (ر): "الناس بالمسجد".
(2) تقدم تخريجه في الجزء الأول (ص50).
(3) سيأتي تخريجه (ص155).
(4) في (خ): "فعادت".
(5) في (غ) و (ر): "زمن".
(6) قوله: "ما علم" ليس في (خ) و (م).
(7) في (خ) و (م): "به".
(8) في (خ): "ذلك".
(9) في (خ) و (م): "دوامهم على" بدل "الدوام وأنهم قصدوا إلى".
(10) في (خ): "الغير"، وعلق عليها رشيد رضا بقوله: كلمة "غير" لا يدخل عليها حرف التعريف. اهـ.
(11) قوله: "يقع" ليس في (غ) و (ر).
(12) في (غ): "له".(2/151)
لَهُ الْيَوْمَ مَا يَتَصَدَّقُ بِهِ فَيَتَصَدَّقُ وَلَا يَكُونُ لَهُ ذَلِكَ غَدًا، أَوْ يَكُونُ لَهُ إِلَّا أَنَّهُ لَا يَنْشَطُ للعطاءِ، أَو يَرَى إِمساكه أَصلح فِي عَادَتِهِ الْجَارِيَةِ لَهُ، أَو غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الأَمور الطَّارِئَةِ للإِنسان. فَهَذَا الوجه لا حَرَج على أَحدٍ في ترك (1) التطوُّعات كلها (2)، ولا عَتَبَ (3) وَلَا لَوْمَ عَلَيْهِ (4)، إِذ لَوْ كَانَ ثَمَّ لَوْمٌ أَوْ عُتْبٌ لَمْ يَكُنْ تَطَوُّعًا، وَهُوَ خلاف الفرض.
والثاني: أَن تؤخذ مأْخذ الْمُلْتَزِمَاتِ، كَالرَّجُلِ يَتَّخِذُ لِنَفْسِهِ وَظِيفَةً رَاتِبَةً مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ فِي وَقْتٍ مِنَ الأَوقات، كالتزام قيام حظٍّ من الليل مثلاً، أو صيام (5) يَوْمٍ بِعَيْنِهِ لفضلٍ ثَبَتَ فِيهِ عَلَى الْخُصُوصِ؛ كَعَاشُورَاءَ وَعَرَفَةَ (6)، أَو يتَّخذ وَظِيفَةً مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ (7)، وَمَا أَشبه ذَلِكَ. فَهَذَا الْوَجْهُ أَخذت فِيهِ التَّطَوُعَاتُ مأْخذ الْوَاجِبَاتِ مِنْ وجه؛ لأَنه لما نوى الدؤوب عليها في الاستطاعة، أَشبهت الواجبات أو السنن (8) الراتبة، كما أَنه لما (9) كَانَ ذَلِكَ الإِيجاب غَيْرَ لَازِمٍ بِالشَّرْعِ لَمْ يَصِرْ وَاجِبًا؛ إِذ تَرْكُه أَصلاً لَا حَرَجَ فِيهِ فِي الْجُمْلَةِ؛ أَعني تَرْكَ الِالْتِزَامِ. وَنَظِيرُهُ عِنْدَنَا النَّوَافِلُ الرَّاتِبَةُ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ، فَإِنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ فِي الأَصل، وَمِنْ حَيْثُ صَارَتْ رَوَاتِبَ أَشبهت السُّنَنَ وَالْوَاجِبَاتِ.
وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ حِينَ (10) صَلَّاهُمَا فَسُئِلَ عَنْهُمَا، فَقَالَ: "يا ابنة أَبي أُمَيَّة! سأَلت عن
_________
(1) في (ر) و (غ): "أخذ" بدل "ترك"، وفي (م) يشبه أن تكون: "اخر" ووضع عليها إشارة، وكتب في الحاشية: "لعله ترك".
(2) في (غ) و (م) و (ر): "كلها عليه"، والمثبت من (خ) فقط، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: لعله سقط من هنا كلمة "وفيه".اهـ.
(3) قوله: "ولا عتب" ليس في (خ) و (م).
(4) قوله: "عليه" من (خ) فقط، وهو في باقي النسخ بعد قوله: "كلها".
(5) في (خ): "وصيام".
(6) في (ر) و (غ): "أو عرفة".
وتقدم ذكر الدليل على فضل صيام هذين اليومين (ص27) من هذا الجزء.
(7) وفي فضله قوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} سورة غافر: آية (55) وغيرها من الآيات.
(8) في (خ): "والسنن".
(9) في (خ) و (م): "لو" بدل "لما".
(10) في (خ): "من" بدل "حين"، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: لعله "حين صلاهما".اهـ.(2/152)
الركعتين بعد العصر؟ إنه (1) أَتى نَاسٌ مِنْ عَبَدَ الْقَيْسِ (2) بالإِسلام مِنْ قَوْمِهِمْ، فَشَغَلُونِي عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ، فَهُمَا هَاتَانِ" (3)؛ لأَنه سُئِلَ عَنْ صَلَاتِهِ لَهُمَا بعد ما نهى عنهما، لأنه (4) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّيهِمَا بَعْدَ الظهر كالنوافل الراتبة، فلما فَاتَتَاهُ صَلَّاهُمَا بَعْدَ وَقْتِهِمَا، كالقضاءِ لَهُمَا حَسْبَمَا يقضى الواجب.
فصار إذاً (5) لهذا النوع من التطوع حالة بَيْنَ حَالَتَيْنِ، إِلا أَنه رَاجِعٌ إِلى خِيْرَةِ المُكَلَّف، بِحَسَبَ مَا فَهِمْنَا مِنَ الشَّرْعِ. وإِذا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ فَهِمْنَا مِنْ مَقْصُودِ الشَّرْعِ أَيضاً الأَخذ بالرِّفْق والتيسير، وأَن لا يلتزم (6) المُكَلّف مَا لَعَلَّهُ يَعْجِزُ عَنْهُ أَو يَحْرَجُ (7) بِالْتِزَامِهِ، فَإِنْ الِالْتِزَامَ (8) إِن لَمْ يَبْلُغْ مَبْلَغَ النذر (9) الَّذِي يُكره ابْتِدَاءً، فَهُوَ يَقْرُبُ مِنَ الْعَهْدِ الَّذِي يَجْعَلُهُ الإِنسان بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، وَالْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ مَطْلُوبٌ فِي الْجُمْلَةِ، فَصَارَ الإِخلال بِهِ مكروهاً.
والدليل على صحة الأَخذ بالرفق والتيسير (10)، وأَنه الأَولى وَالْأَحْرَى ـ وإِن كَانَ الدَّوَامُ عَلَى الْعَمَلِ أَيضاً مَطْلُوبًا عَتِيدًا (11) ـ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ (12): {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} (13) عَلَى قَوْلِ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: أَن (14) الْكَثِيرَ مِنَ الأَمر وَاقِعٌ فِي التَّكَالِيفِ الإِسلامية. وَمَعْنَى
_________
(1) قوله: "إنه" ليس في (خ) و (م).
(2) في (غ) و (ر): "عبد قيس".
(3) أخرجه البخاري (1233 و4370)، ومسلم (834).
(4) في (خ): "فإنه".
(5) في (خ): "ح" بدل "إذا"، وهو اختصار لقوله: "حينئذٍ".
(6) في (خ): "لا يلزم".
(7) في (خ): "يخرج".
(8) في (خ): "ترك الالتزام".
(9) في (خ): "القدر".
(10) قوله: "والتيسير" ليس في (خ) و (م).
(11) في (غ): "مطلوب عتيد"، وفي (م) و (ر): "مطلوباً عتيد". وعتيد: تأتي بعدة معاني، منها: إذا جَسُمَ الشيء قيل له: عتيد. ومنها: المُعَدّ الحاضر. انظر: "لسان العرب" (3/ 279 ـ 280).
(12) في (غ) و (ر): "في القرآن والسنة كقوله تعالى"، وعلق رشيد رضا على هذا الموضع بقوله: الظاهر أن قوله: "في الكتاب والسنّة" صفة للدليل، وأن الآية خبر المبتدأ باعتبار لفظها؛ أي: والدليل؛ قوله: {وَاعْلَمُوا} إلخ. اهـ.
(13) سورة الحجرات: الآية (7).
(14) في (ر) و (غ): "بأن".(2/153)
"لَعَنتُّم": لَحَرَجْتُمْ، وَلَدَخَلَتْ عَلَيْكُمُ الْمَشَقَّةُ، وَدِينُ اللَّهِ لَا حَرَجَ فِيهِ: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ} بالتسهيل والتيسير {وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} الْآيَةَ.
وإِنما بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحة (1)، ووَضْعِ الإِصْرِ والأَغلال الَّتِي كَانَتْ عَلَى غَيْرِهِمْ (2). وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي صفة نبيه صلّى الله عليه وسلّم: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (3)، وَقَالَ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (4)، وَقَالَ: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا *} (5). وَسَمَّى اللَّهَ تَعَالَى الأَخذ بِالتَّشْدِيدِ عَلَى النَّفْسِ اعتداءً، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا} (6) {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (7).
_________
(1) في (خ): "السمحا".
وقد بوب البخاري رحمه الله في كتاب الإيمان من "صحيحه" (1/ 93) بقوله: باب الدين يسر، وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: "أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة" اهـ.
وهذا التعليق قال عنه الحافظ ابن حجر في "الفتح" (1/ 94): "وهذا الحديث المعلق لم يسنده المؤلف في هذا الكتاب؛ لأنه ليس من شرطه. نعم وصله في كتاب "الأدب المفرد"، وكذا وصله أحمد بن حنبل وغيره من طريق محمد بن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، وإسناده حسن، استعمله المؤلف في الترجمة لكونه متقاصراً عن شرطه، وقوّاه بما دل على معناه؛ لتناسب السهولة واليسر".
والظاهر أن الحافظ حسّن إسناده لوجود محمد بن إسحاق، واستقرّ عنده أن كلًّا من داود بن الحصين وعكرمة ثقة، بل أخرج البخاري لكلٍّ منهما، إلا أنه لم يخرج لداود شيئاً من روايته عن عكرمة، وإنما أخرج له عن شيوخ آخرين، ورواية داود بن الحصين عن عكرمة منكرة، والغريب أن ابن حجر نفسه قال في ترجمة داود هذا في "التقريب" (1789): "ثقة إلا في عكرمة"، فغابت عنه هذه العلة.
ثم إن الحافظ ابن حجر رحمه الله أورد لهذا الحديث طرقاً في "تغليق التعليق" (2/ 41 ـ 43) لا يخلو شيء منها من مقال، وبعضها مراسيل جيدة، وقوّى الحديث بمجموعها، وانظر: "هدي الساري" (ص20).
(2) لقوله سبحانه: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطِّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ... } سورة الأعراف: الآية (157).
(3) سورة التوبة: الآية (128).
(4) سورة البقرة: الآية (185).
(5) سورة النساء: الآية (28).
(6) إلى هنا انتهى ذكر الآية في (خ) و (م).
(7) سورة المائدة: الآية (87).(2/154)
وَمِنَ الأَحاديث كَثِيرٌ؛ كمسأَلة الْوِصَالِ.
فَفِي الْحَدِيثِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنها قَالَتْ: نَهَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْوِصَالِ رَحْمَةً لَهُمْ، قَالُوا: إِنَّكَ تُوَاصِلُ! قَالَ: "إني لست كهيئتكم، إِني أَبيت عند ربي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي" (1).
وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: وَاصَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آخِرِ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَوَاصَلَ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَبَلَغَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: "لَوْ مُدَّ لنا الشهر لواصلنا وصالاً يَدَع (2) المتعمِّقون تعمُّقَهم" (3). وَهَذَا إِنكار.
وَعَنْ أَبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْوِصَالِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: فإِنك يَا رَسُولَ اللَّهِ تُوَاصِلُ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وأَيكم مِثْلِي؟ إِني أَبيت عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي" (4). فَلَمَّا أبوا أَن ينتهوا عن الوصال واصل بِهِمْ يَوْمًا، ثُمَّ يَوْمًا، ثُمَّ رأَوا الْهِلَالَ، فَقَالَ: "لَوْ تأَخَّر الشَّهْرُ لَزِدْتُكُمْ"؛ كالْمُنَكِّل حِينَ أَبوا أَن يَنْتَهُوا (5).
وَمِنْ ذَلِكَ: مَسْأَلَةُ قِيَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِمْ فِي رَمَضَانَ (6)، فإِنه تَرَكَهُ مَخَافَةَ (7) أَن يُفْرَضَ عَلَيْهِمْ، فَيَعْجِزُوا (8) عَنْهُ، فَيَقَعُوا فِي الإِثم وَالْحَرَجِ، فَكَانَ ذلك رِفقاً منه بهم.
قال القاضي ابن الطَّيِّبُ (9): يُحْتَمَلُ أَن يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى أَوحى إِليه أَنه
_________
(1) أخرجه البخاري (1964)، ومسلم (1105).
(2) في (خ): "حتى يدع".
(3) أخرجه البخاري (7241)، ومسلم (1104).
(4) في (غ) و (ر): "إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني"، وعلق رشيد رضا عليه بقوله: المشهور في تفسيره: يعطيني قوة الطاعم والشارب. اهـ.
(5) أخرجه البخاري (1965)، ومسلم (1103)
(6) أخرجه البخاري (729 و731)، ومسلم (781 و782) من حديث زيد بن ثابت وعائشة رضي الله عنهما، وفي حديث زيد قال صلّى الله عليه وسلّم: "فصلوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل الصلاة: صلاة المرء في بيته، إلا المكتوبة".
(7) في (ر) و (غ): "حماية".
(8) في (خ): "فيعجزون".
(9) في (خ) و (م): "أبو الطيب"، والصواب ما أثبته من (غ) و (ر)، فقد ذكر هذا النقل الباجي في "المنتقى" (1/ 205)، فقال: "قال القاضي أبو بكر .. "، ثم ذكره. وأبو بكر هذا هو ابن الطيب المالكي، وهو غير أبي الطيب الطبري الشافعي المعروف بالمحب، علماً بأن الحافظ ابن حجر قال في "فتح الباري" (3/ 13): "وأجاب=(2/155)
إِن وَاصَلَ هَذِهِ الصَّلَاةَ مَعَهُمْ فُرِضَتْ (1) عَلَيْهِمْ.
وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا: إِن كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَدَعُ العمل وهو يحب أَن يعمل به خشية أَن يعمل به الناس فيفرض عليهم (2).
وَقَدْ قِيلَ: هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَخُصّوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بصيام" (3).
وقال (4) الْمُهَلَّب (5): "وجهه: خَشْيَةُ أَن يُسْتَمرَّ عَلَيْهِ فَيُفْرَضَ".
وَبِهَذَا الْمَعْنَى يَجْتَمِعُ النَّهْيُ مَعَ قَوْلِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي "الْمُوَطَّأِ" (6)، وَلَا يَكُونُ فِيهِ إِشْكَالٌ.
وَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ الحَوْلاءِ بِنْتِ تُوَيْت (7)؛ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدِي امْرَأَةٌ، فَقَالَ: "مَنْ هَذِهِ؟ " فَقُلْتُ: امرأَة لَا تَنَامُ تُصَلِّي، فقال: "عليكم من الأعمال ما تطيقون" (8).
وفي لفظ (9): هذه الحولاء بنت تُوَيْت (10)، زعموا أنها لا تنام الليل (11)، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَنَامُ اللَّيْلَ! خُذُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ، فَوَاللَّهِ لا يسأَم الله حتى تسأَموا".
_________
=المحب الطبري بأنه يحتمل ... "، ثم ذكر هذا النقل، فالظاهر أنه تصحيف بسبب تشابه الرسم بين "ابن الطيب" و"أبي الطيب"، والله أعلم.
(1) في (غ) و (ر): "فرضها".
(2) أخرجه البخاري (1128)، ومسلم (718).
(3) أخرجه مسلم (1144).
(4) في (خ) و (م): "قال".
(5) هو المهلب بن أبي صفرة أسيد بن عبد الله الأسدي، الأندلسي، أحد شُرّاح "صحيح البخاري"، توفي سنة (435هـ). انظر ترجتمه في "سير أعلام النبلاء" (17/ 579)، و"الديباج المذهب" (601).
(6) (1/ 311) برواية يحيى الليثي، ونص عبارة مالك: "لم أسمع أحداً من أهل العلم والفقه ومن يقتدى به ينهى عن صيام يوم الجمعة، وصيامه حسن، وقد رأيت بعض أهل العلم يصومه، وأراه كان يتحرّاه".
(7) في (ر) و (غ): "تريت".
(8) أخرجه البخاري (43 و1151)، ومسلم (785/ 221)، واللفظ لمسلم.
(9) عند مسلم (785/ 220).
(10) في (ر) و (غ): "تريت".
(11) من قوله: "فقال: عليكم من الأعمال" إلى هنا سقط من (خ) و (م). وبعد هذا الموضع في (ر) زيادة: "منكراً عليها والله أعلم غير راضٍ"، وأشار الناسخ إلى أنها محذوفة.(2/156)
فأَعاد لفظ: "لا تنام الليل" (1) مُنْكِرًا عَلَيْهَا ـ وَاللَّهُ أَعلم ـ، غَيْرَ راضٍ فِعْلَهَا؛ لما خافه عليها من المَلَلِ (2) والسَّآمة، أَو تَعْطِيلِ حَقٍّ آكَدٍ (3).
وَنَحْوُهُ حَدِيثُ أَنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ ـ وَحَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ سَارِيَتَيْنِ ـ، فَقَالَ: "مَا هَذَا"؟! قَالُوا: حَبْلٌ لِزَيْنَبَ تُصَلِّي، فإِذا كَسَلت أَو فَتَرَتْ أَمسكت بِهِ. فَقَالَ: "حُلّوه، لِيُصَلّ أحدُكم نشاطَه، فإِذا كَسَلَ أَو فَتَرَ قَعَدَ". وَفِي رِوَايَةٍ قال (4): "لَا، حُلّوه" (5).
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو (6) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: بَلَغَ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي أَصوم أَسْرُدُ، وأُصلي اللَّيْلَ، فإِما أَرسل إِليَّ، وإِما لَقِيتُهُ، فَقَالَ: "أَلَمْ أُخبر أَنك تَصُومُ لَا تُفْطِرُ، وَتَصِلِي اللَّيْلَ؟ فَلَا تَفْعَلْ؛ فإِن لِعَيْنِكَ حَظًّا، وَلِنَفْسِكِ حَظًّا، ولأَهلك حَظًّا، فَصُمْ وأَفطر، وصَلِّ وَنَمْ ... "، الْحَدِيثَ (7).
وَفِي رِوَايَةٍ (8) عَنْ أَبِي سَلَمَةَ (9) قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو (10) بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما؛ قَالَ: كُنْتُ أَصوم الدَّهْرَ، وأَقرأُ الْقُرْآنَ كُلَّ ليلة، قال (11): فإِما ذُكِرْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإِما أَرسل إِليَّ، فأَتيته فَقَالَ: "أَلَمْ أُخبر أَنك تَصُومُ الدَّهْرَ، وَتَقْرَأُ الْقُرْآنَ كُلَّ لَيْلَةٍ؟ " فقلت (12): بلى يا رسول الله! ولم أُرِدْ بذلك (13) إِلا الخير، قال: "فإن بحسبك (14) أَن تصوم كل شهر ثلاثة أَيام"، فَقَلَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! إِني أُطِيقُ أَفضل مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: "فإِن لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، ولزَوْرِك (15) عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا". قَالَ: "فَصُمْ صَوْمَ دَاوُدَ نَبِيِّ اللَّهِ، فإِنه كَانَ أَعبد النَّاسِ". قَالَ: فَقَلَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! وَمَا صَوْمُ دَاوُدَ؟ قَالَ: "كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا". قَالَ: "وَاقْرَأِ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ". قَالَ: فَقَلَتْ (16): يَا نَبِيَّ اللَّهِ! إِني أَطيق أَفضل مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: "فَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ عِشْرِينَ". قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: (17) "فَاقْرَأْهُ فِي سَبْعٍ، وَلَا تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ؛ فإِن لِزَوْجِكَ عليك حقًّا،
_________
(1) قوله: "الليل" ليس في (خ).
(2) في (خ) و (م): "الكلل".
(3) في (خ): "أوكد".
(4) قوله: "قال" ليس في (خ) و (م).
(5) أخرجه البخاري (1150)، ومسلم (784)، واللفظ الأول لمسلم، والآخر للبخاري.
(6) في (خ) و (م): "عبد الله بن عمر"، وبهامش (م) ما نصه: "لعله ابن عمرو بفتح العين".
(7) أخرجه البخاري (1131 و1975)، ومسلم (1159/ 186)، واللفظ لمسلم.
(8) عند مسلم برقم (1159/ 182).
(9) في (خ) و (م): "ابن سلمة".
(10) في (خ) عمر.
(11) قوله: "قال" ليس في (خ).
(12) في (خ): "فقال"، وفي (م): "فقالت".
(13) في (خ): "ولم أر في ذلك".
(14) في (خ): "فإن كان كذلك أو فإن كذلك فحسبك"، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: نص "صحيح مسلم": فقلت: بلى يا رسول الله، ولم أُرِدْ بذلك إلا الخير، قال: "فإن بحسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام".(2/157)
ولزَوْرك (1) عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِجَسَدِكِ عَلَيْكَ حَقًّا". قَالَ: فشدَّدت فُشدِّد (2) عليَّ. قَالَ: وَقَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنك لَا تَدْرِي لَعَلَّكَ يَطُولُ بِكَ عُمُرٌ". قَالَ: فَصِرْتُ إِلى الَّذِي قَالَ لِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلَمَّا كَبِرْتُ وَدِدْتُ أَني كُنْتُ قَبِلْتُ رُخْصَةَ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَفِي رِوَايَةٍ (3) قَالَ: "صُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا، وَذَلِكَ صِيَامُ داود، وهو أَعدل الصيام". قال: فقلت (4): فإِني (5) أُطِيقُ أَفضل مِنْ ذَلِكَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا أَفضل مِنْ ذَلِكَ". قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: لأَن أَكون قَبِلْتُ الثَّلَاثَةَ الأَيام الَّتِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحب إِليَّ مِنْ أَهلي وَمَالِيَ.
وَفِي التِّرْمِذِيِّ (6) عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: ذُكر رَجُلٌ عِنْدَ
_________
(1) في (خ) و (م): "ولزوارك"، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: الرواية الصحيحة في كل موضع: "ولزورك" بغير ألف، وهم الزائرون؛ كالسفر؛ بمعنى: المسافرين، والشرب؛ بمعنى الشاربين. اهـ.
(2) في (م): "قلت".
(3) من قوله: "فاقرأه في كل عشرين" إلى هنا سقط من (خ)، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: زاد في "الصحيح" بين الشهر والسبع: قال: "فاقرأه في كل عشرين"، فَقَلَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ من ذلك، قال: "فاقرأه في كل عشر"، قَالَ: فَقَلَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنِّي أُطِيقُ أفضل من ذلك .. إلخ. اهـ.
(4) في (خ) و (م): "ولزوارك".
(5) في (خ): "فشدد الله".
(6) عند مسلم برقم (1159/ 181).
(7) في (م): "قلت".
(8) في (خ): "إني".
(9) برقم (2519) من طريق محمد بن عبد الرحمن بن نبيه، عن محمد بن المنكدر، عن جابر ... ، فذكره.
ثم ضعفه الترمذي بقوله: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه".
وفي سنده محمد بن عبد الرحمن بن نبيه وهو مجهول كما في "التقريب" (6124).(2/158)
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعِبَادَةٍ واجتهاد، وذُكر عنده آخر بِدَعَةٍ (1)، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يُعْدَلُ (2) بالدَّعَة" (1).
والدَّعَةُ (1) هنا: المراد بها (3): الرِّفْقُ وَالتَّيْسِيرُ. قَالَ فِيهِ التِّرْمِذِيُّ: "حَسَنٌ غَرِيبٌ" (4).
وَعَنْ أَنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ (5): جاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلى بُيُوتِ أَزواج النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسأَلون عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كأَنهم تقالُّوها، فَقَالُوا: وأَين نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلّم؟ قد (6) غَفَرَ اللَّهُ لَهُ (7) مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ (8) وَمَا تأَخر. فَقَالَ أَحدهم: أَما أَنا فإِني أُصلي اللَّيْلَ أَبداً، وَقَالَ الْآخَرُ: إِني أَصوم الدَّهْرَ وَلَا أُفطر، وَقَالَ الْآخَرُ: إِني أَعتزل النساءَ فَلَا أَتزوج أَبداً. فجاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "أَنتم الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟ أَما وَاللَّهِ إِني لأَخشاكم لِلَّهِ وأَتقاكم لَهُ، لَكِنِّي أَصوم وأُفطر، وأُصلي وأَرقد، وأَتزوج النساءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سنَّتي فَلَيْسَ مِنِّي" (9).
والأَحاديث فِي هَذَا (10) الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ، وهي بجملتها تدلّ على الأَخذ في الأعمال بالتسهيل (11) وَالتَّيْسِيرِ، وإِنما يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنْ عَدَمِ الِالْتِزَامِ، وإِن تُصُوِّر مَعَ الِالْتِزَامِ فَعَلَى جِهَةِ مَا لَا يَشُقُّ الدَّوَامُ فِيهِ حسبما نفسِّره (12) الآن.
_________
(1) كذا جاء عند المصنف، والذي في الترمذي: "بِرِعَةٍ"، و"الرِّعَة": المصدر من الورع كما في "النهاية" (5/ 174)، و"لسان العرب" (8/ 388).
(2) في (غ) و (ر): "لا نعدل".
(3) في (خ): "والدعة المراد بها هنا".
(4) هذا جاء في بعض نسخ الترمذي، ويظهر أن النسخ التي حذف منها قوله: "حسن" أجود كما تجد ذلك محكيًّا عن التّرمذي عند المزي في "تحفة الأشراف" (2/ 375)، و"تهذيب الكمال" (25/ 645).
(5) قوله: "قال" ليس في (غ) و (ر).
(6) في (خ): "وقد".
(7) في (غ): "غفر له".
(8) في (ر): "من ذنبه ما تقدم"، ووضع عليهما الناسخ علامتي التقديم والتأخير.
(9) تقدم تخريجه ص (147).
(10) قوله: "هذا" ليس في (خ)، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: أي: في هذا المعنى، أو: في المعنى الذي نتكلم فيه. ويوشك أن يكون سقط من النسخ لفظ "هذا".اهـ.
(11) في (خ) و (م): "الأخذ في التسهيل".
(12) في (ر) و (غ): "نفسر".(2/159)
فَصْلٌ
فأَما إِن الْتَزَمَ أَحد ذَلِكَ (1) الْتِزَامًا، فعلى أحد (2) وَجْهَيْنِ: إِما عَلَى جِهَةِ النَّذْرِ، وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ ابْتِدَاءً. أَلا تَرَى إِلى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا (3) يَنْهَانَا عَنِ النَّذْرِ؛ يَقُولُ: "إِنه لَا يَرُدُّ شَيْئًا، وإِنما يُسْتَخرج بِهِ مِنَ الشَّحيح" (4). وَفِي رِوَايَةٍ (5): "النَّذْرُ لَا يُقَدِّم شَيْئًا وَلَا يُؤَخِّره، وإِنما يُسْتَخْرَجُ به من البخيل". وفي رواية (6) أخرى: أنه عليه السلام نهى عن النذر وقال: "إنه لا يأتي بخير، وَإِنَّمَا يُسْتَخرج بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ" (7)؟
وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (8): "لَا تَنْذُرُوا، فإِن النَّذْرَ لَا يُغْنِي مِنَ الْقَدَرِ شَيْئًا، وإِنما يُستخرج بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ" (9).
وإِنما وَرَدَ هَذَا الْحَدِيثُ ـ وَاللَّهُ أَعلم ـ تَنْبِيهًا عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي أَنها كَانَتْ تَنْذُرُ: إِن شَفَى الله مريضي فعليَّ صوم كذا، أو إن (10) قَدِمَ غَائِبِي، أَو إِن أَغناني اللَّهُ (11) فَعَلَيَّ صَدَقَةُ كَذَا، فَيَقُولُ: لَا يُغْنِي مِنْ قَدَرِ الله
_________
(1) في (غ) و (ر): "ذلك أحد".
(2) قوله: "أحد"، ليس في (خ) و (م).
(3) قوله: "يوماً" ليس في (ر) و (غ).
(4) أخرجه البخاري (6608)، ومسلم (1639/ 2)، واللفظ لمسلم.
(5) عند مسلم (1639/ 3).
(6) عند مسلم أيضاً (1639/ 4).
(7) من قوله: "وفي رواية أخرى" إلى هنا سقط من (خ) و (م).
(8) قوله: "قال" سقط من (ر).
(9) أخرجه البخاري (6609 و6694)، ومسلم (1640)، واللفظ له.
(10) في (غ) و (ر): "وإن".
(11) لفظ الجلالة: "الله" من (خ) فقط.(2/160)
شيئاً، بل من قدر الله له المرض أو الصحة (1)، أَوِ الْغِنَى أَوِ الْفَقْرَ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، فالنذر لا يوضع (2) سبباً لغير ذلك (3)؛ كَمَا وُضِعَت صِلَةُ الرَّحِمِ سَبَبًا فِي الزِّيَادَةِ فِي الْعُمُرِ مَثَلًا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ (4) الْعُلَمَاءُ، بَلِ النَّذْرُ وَعَدَمُهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَلَكِنَّ اللَّهَ (5) يَسْتخرج بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ؛ بِشَرْعِيَّة الْوَفَاءِ بِهِ (6)؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُّمْ} (7)، وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ نَذَرَ أَن يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ" (8)، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ العلماءِ، كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ (9).
وَوَجْهُ النَّهْيِ: أَنه مِنْ بَابِ التَّشْدِيدِ عَلَى النَّفْسِ، وَهُوَ الَّذِي تقدَّم الاستشهاد على كراهيته.
وأَما (10) عَلَى جِهَةِ الِالْتِزَامِ غَيْرِ النَّذْرِيِّ (11)؛ فكأَنه نَوْعٌ مِنَ الْوَعْدِ، والوفاءُ بِالْعَهْدِ (12) مَطْلُوبٌ، فكأَنه أَوجب عَلَى نَفْسِهِ مَا لَمْ يُوجِبْهُ عَلَيْهِ الشَّرْعُ، فَهُوَ تَشْدِيدٌ أَيضاً، وَعَلَيْهِ يأْتي مَا تقدم في (13) حَدِيثِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ أَتوا يسأَلون عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِقَوْلِهِمْ (14): أَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ ... إِلَخْ، وَقَالَ أَحدهم (15): أَما أَنا (16) فأَفعل كَذَا ... إلى آخره (17).
وَنَحْوُهُ وَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: أَن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُخبر أَن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يَقُولُ: لَأَقُومَنَّ اللَّيْلَ ولأَصومنّ النَّهَارَ مَا عِشْت (18).
_________
(1) في (خ): "الصحة أو المرض".
(2) في (خ): "لم يوضع".
(3) في (خ): "لذلك" بدل "لغير ذلك".
(4) في (غ) و (ر): "فسره" وفي (م): "ذكر".
(5) في (ر) و (غ): "ولكن أنه".
(6) قوله: "به" ليس في (ر) و (غ).
(7) سورة النحل: الآية (91).
(8) أخرجه البخاري (6696 و6700).
(9) انظر "فتح الباري" (11/ 575).
(10) هذا هو الوجه الثاني.
(11) في (غ) و (ر): "النذر".
(12) في (ر): "بالوعد".
(13) في (خ): "من".
(14) في (خ): "وقولهم".
(15) من قوله: "أين نحن" إلى هنا سقط من (غ) و (م) و (ر).
(16) في (م): "أما نحن".
(17) تقدم تخريجه (ص147)، وانظر (ص159).
(18) تقدم تخريج حديث عبد الله بن عمرو (ص157).(2/161)
وَلَيْسَ بِمَعْنَى النَّذْرِ؛ إِذ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَقُلْ لَهُ: "صُمْ مِنَ الشَّهْرِ ثَلَاثَةَ أَيام"، صم كذا، صُمْ كَذَا (1)، وَلَقَالَ لَهُ: أَوف بِنَذْرِكَ؛ لأَنه صلّى الله عليه وسلّم يقول (2): "مَنْ نَذَرَ أَن يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ" (3).
فأَما الِالْتِزَامُ بِالْمَعْنَى النَّذْرِيِّ، فَلَا بُدَّ مِنَ الوفاءِ بِهِ وُجُوبًا لَا نَدْبًا ـ عَلَى مَا قَالَهُ العلماءُ ـ، وجاءَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، فَلَا نُطَوِّل (4) به.
وأَما بالمعنى الثَّانِي: فالأَدلة تَقْتَضِي الوفاءَ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ، ولكن لا تبلغ مبلغ الإيجاب وإن بلغت (5) مَبْلَغَ الْعِتَابِ عَلَى التَّرْكِ (6)، حَسْبَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الآية (7) فِي مأْخذ أَبي أُمامة (8) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فإنه لما نظر إلى ترتيب عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (9) لِلْقِيَامِ فِي الْمَسْجِدِ جَمَاعَةً؛ كَانَ ذَلِكَ بِصُورَةِ النَّوَافِلِ (10) الرَّاتِبَةِ (11) الْمُقْتَضِيَةِ لِلدَّوَامِ فِي الْقَصْدِ الأَول، فأَمرهم بِالدَّوَامِ (12) حَتَّى لَا يَكُونُوا كَمَنْ عَاهَدَ ثُمَّ لَمْ يُوفِ بِعَهْدِهِ فَيَصِيرَ مُعَاتَبًا، لَكِنَّ هَذَا الْقَسَمَ عَلَى وَجْهَيْنِ (13):
الْوَجْهُ (14) الأَول: أَن يَكُونَ فِي نَفْسِهِ مِمَّا لا يطاق، أَو مما فيه حرج ومَشَقَّة (15) فادِحَة، أَو يؤدِّي (16) إِلى تَضْيِيعِ مَا هُوَ أَولى، فهذه هي الرهبانية
_________
(1) في (خ): "صم كذا" مرة واحدة.
(2) في (خ): "قال".
(3) تقدم تخريجه قبل بضعة أسطر.
(4) في (خ): "نطيل".
(5) قوله: "مبلغ الإيجاب وإن بلغت" ليس في (خ).
(6) ومن هذا النوع ـ وهو العتاب على الترك وإن لم يبلغ مبلغ الإيجاب ـ: قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: "يَا عَبْدَ اللَّهِ! لَا تَكُنْ مِثْلَ فُلَانٍ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ". أخرجه البخاري (1152)، ومسلم (1159/ 185).
(7) في (خ): "الأدلة".
(8) تقدم تخريج حديث أبي أمامة هذا (ص149).
(9) من قوله: "فإنه لما نظر" إلى هنا ليس في (خ) و (م).
(10) قوله:: "النوافل" مكرر في (ر).
(11) في (غ): "المراتبة".
(12) في (م): "في الدوام".
(13) في (غ) و (ر): "أوجه".
(14) قوله: "الوجه" ليس في (غ) و (ر).
(15) في (خ): "أو مشقة".
(16) قوله: "أو يؤدي" سقط من (ر) و (غ).(2/162)
الَّتِي قَالَ فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي" (1)، وسيأْتي الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ إِن شاءَ اللَّهُ.
وَالْوَجْهُ (2) الثَّانِي (3): أَنْ لَا يَكُونَ فِي الدُّخُولِ فِيهِ مَشَقَّةٌ وَلَا حَرَجٌ، وَلَكِنَّهُ عِنْدَ الدَّوَامِ عَلَيْهِ تَلْحَقُ بِسَبَبِهِ الْمَشَقَّةُ وَالْحَرَجُ، أَوْ تَضْيِيعُ مَا هُوَ آكَدُ (4)، فَهَاهُنَا أَيضاً يَقَعُ النَّهْيُ ابْتِدَاءً، وَعَلَيْهِ دَلَّتِ الأَدلة الْمُتَقَدِّمَةُ، وجاءَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ مُسْلِمٍ (5) تَفْسِيرُ ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ: فشدَّدت فَشُدِّد عليَّ، وَقَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنك لَا تَدْرِي لَعَلَّكَ يَطُولُ بِكَ عُمُرٌ".
فتأَمَّلوا كَيْفَ اعْتُبِرَ فِي الْتِزَامِ مَا لَا يُلْزَمُ ابْتِدَاءً: أَنْ يَكُونَ بحيث لا يشقّ عليه الدوام (6) إِلى الْمَوْتِ! قَالَ: فَصِرْتُ إِلى الَّذِي قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كَبِرْتُ وَدِدْتُ أَنِّي (7) كُنْتُ (8) قَبِلْتُ رُخْصَةَ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَعَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى (9) يَنْبَغِي أَن يُحْمَلَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ أَبي قَتَادَةَ (10) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَيْفَ بِمَنْ يَصُومُ يَوْمَيْنِ وَيُفْطِرُ يوماً؟ قال: "ويطيق ذلك أحد"؟ ثم قال في صيام (11) يوم (12) وإفطار يومين: "وَدِدْتُ أَني طُوِّقت ذَلِكَ". فَمَعْنَاهُ ـ وَاللَّهُ أَعلم ـ: "وَدِدْتُ أَني طُوِّقت الدَّوَامَ عَلَيْهِ"، وإِلا فَقَدْ كَانَ يُوَاصِلُ الصِّيَامَ وَيَقُولُ: "إِني لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ، إِني أَبَيْتُ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي" (13).
وَفِي الصَّحِيحِ: "كَانَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ: لَا يُفْطِرُ، ويفطر حتى نقول: لا يصوم" (14).
_________
(1) تقدم تخريجه (ص147).
(2) قوله: "والوجه" من (خ) فقط.
(3) في (غ) و (م) و (ر): "والثاني".
(4) في (خ): "أوكد".
(5) تقدم تخريجه (ص158).
(6) في (خ): "الدوام عليه".
(7) في (خ): "أنّني".
(8) قوله: "كنت" ليس في (خ).
(9) قوله: "المعنى" ليس في (غ) و (ر).
(10) أخرجه مسلم (1162).
(11) قوله: "صيام" سقط من (م).
(12) في (خ): "في يوم صوم".
(13) تقدم تخريجه (ص 155).
(14) أخرجه البخاري (1969)، ومسلم (1156/ 175).(2/163)
فَصْلٌ
إِذا ثَبَتَ هَذَا: فَالدُّخُولُ فِي عَمَلٍ عَلَى نيَّة الِالْتِزَامِ لَهُ إِن كَانَ فِي المُعْتاد بحيث إِذا داوم عليه أَورث ما لا ينبغي (1)، فلا ينبغي اعتقاد (2) هذا الالتزام؛ لأنه (3) مَكْرُوهٌ ابْتِدَاءً، إِذ هُوَ مؤدٍّ إِلى أُمور جَمِيعُهَا منْهِيٌّ عَنْهُ:
أَحدها: أَن اللَّهَ وَرَسُولَهُ أَهدى إليه (4) فِي هَذَا الدِّينِ التَّسْهِيلَ وَالتَّيْسِيرَ، وَهَذَا المُلْتَزِمُ يُشْبه مَنْ لَمْ يَقْبَلْ هديَّته، وَذَلِكَ يُضَاهِي ردَّها عَلَى مُهْديها، وَهُوَ غَيْرُ لَائِقٍ بِالْمَمْلُوكِ مَعَ سَيِّدِهِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالْعَبْدِ مَعَ رَبِّهِ؟.
وَالثَّانِي: خَوْفُ التَّقْصِيرِ أَوِ الْعَجْزِ عَنِ الْقِيَامِ بما هو أَولى وآكد في الشرع، وقد قال (5) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (6) إِخباراً عَنْ دَاوُدَ عليه السلام: "كَانَ (7) يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا، وَلَا يَفِرُّ (8) إِذا لاَقَى"، تَنْبِيهًا عَلَى أَنه لَمْ يُضْعِفْهُ الصيام عن لقاءِ العدو، فِيَفِرّ أو يترك (9) الجهاد في مَظَانّ (10) تأكيده (11) بسبب ضعفه.
_________
(1) قوله: "ما لا ينبغي" سقط من (م).
(2) في (خ): "أورث مللاً ينبغي أن يعتقد أن"، وفي هامش (م) ـ تعليقاً على هذا الموضع ـ: "افتقاد أو ابتعاد".
(3) قوله: "لأنه" ليس في (خ)، وفي (م): "أنه".
(4) قوله: "إليه" زيادة من (غ) و (ر).
(5) في (خ): "وقال"، بدل "وقد قال".
(6) في إحدى روايات حديث عبد الله بن عمرو عند البخاري (1977 و1979)، ومسلم (1159/ 186).
(7) في (خ): "إنه كان"، وكذا في (ر)، ولكن أشار الناسخ إلى حذف "إنه".
(8) في (ر): "ولا يعد".
(9) في (خ): "ويترك".
(10) في (خ) و (م): "مواطن".
(11) في (خ): "تكبده".(2/164)
وَقِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنك لَتُقِلُّ الصَّوْمَ! فَقَالَ: إِنه يَشْغَلُنِي عَنْ قراءَة الْقُرْآنِ، وقراءَة الْقُرْآنِ أَحبّ إِليَّ مِنْهُ (1).
وَلِذَلِكَ (2) كَرِهَ مَالِكٌ إِحياءَ اللَّيْلِ كُلَّه، وَقَالَ: لَعَلَّهُ يُصْبِحُ مَغْلُوبًا، وَفِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسوة (3). ثُمَّ قَالَ: لَا بأْس بِهِ مَا لَمْ يَضُرّ بِصَلَاةِ الصُّبْحِ (4).
وَقَدْ جاءَ فِي صِيَامِ (5) يَوْمِ عَرَفَةَ أَنه يُكَفِّرُ سَنْتَيْنِ (6)، ثُمَّ إِن الإِفطار فِيهِ لِلْحَاجِّ أَفضل؛ لأَنه قُوَّةٌ عَلَى الْوُقُوفِ وَالدُّعَاءِ، ولابن وهب في ذلك حكاية (7).
_________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (8909)، والطبراني في "الكبير" (9/ 175 رقم 8868)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (2018 و2019)، ثلاثتهم من طريق الأعمش، عن شقيق، عن ابن مسعود، به. وتصحف "شقيق" في رواية ابن أبي شيبة وإحدى روايات البيهقي إلى "سفيان".
وسنده صحيح.
وأخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (7903)، ومن طريقه الطبراني (8870)، من طريق سفيان الثوري، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد؛ قال: كان عبد الله يقلّ الصيام، فقلنا له: إنك تقلّ الصيام! قال: إني إذا صمت ضعفت عن الصلاة، والصلاة أحبّ إليّ من الصيام.
وسنده صحيح أيضاً.
وأخرجه الطبراني (8869 و8875) من طريق شعبة، عن أبي إسحاق، به، وزاد: "فإن صام صام ثلاثاً من الشهر".
وله طرق أخرى عند عبد الرزاق والطبراني
(2) في (م): "وكذلك"، ويشبه أن تكون هكذا في (غ).
(3) في (ر): "أسوة حسنة"، وأشار الناسخ إلى حذف قوله: "حسنة".
(4) انظر: "مواهب الجليل شرح مختصر خليل" (1/ 410)، و"الموافقات" (2/ 250).
(5) في (ر) و (غ): "صوم".
(6) أخرجه مسلم (1162)، وتقدم (ص27) من هذا الجزء.
(7) انظرها في "ترتيب المدارك" (3/ 239).
وقد ذكر المؤلف هذه الحكاية في "الموافقات" (2/ 250) فقال: "ونحو هذا ما حكى عياض عن ابن وهب: أنه آلى أن لا يصوم يوم عرفة أبداً؛ لأنه كان في الموقف يوماً صائماً، وكان شديد الحر، فاشتد عليه. قال: فكان الناس ينتظرون الرحمة، وأنا أنتظر الإفطار".(2/165)
وَقَدْ جاءَ فِي الْحَدِيثِ: "إِنَّ لأَهلك عَلَيْكَ حقاً، ولزَوْرِك (1) عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفَسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا" (2)، فَإِذَا انْقَطَعَ إِلى عِبَادَةٍ لَا تَلْزَمُهُ فِي الأَصل، فَرُبَّمَا أَخلّ بشيءٍ مِنْ هَذِهِ الْحُقُوقِ.
وَعَنْ أَبي جحيفة رضي الله تعالى عنه؛ قال: آخَى (3) رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ سَلْمَانَ وأَبي الدَّرْداءِ، فَزَارَ سَلْمَانُ أَبا الدَّرْدَاءِ (4)، فرأَى أُم الدَّرْدَاءِ متبذِّلة، فَقَالَ: مَا شأْنك مُتَبَذِّلَةً؟ قَالَتْ: إِن أَخاك أَبا الدَّرْدَاءِ ليس (5) لَهُ حَاجَةٌ فِي الدُّنْيَا. قَالَ: فَلَمَّا جاءَ أَبو الدَّرْدَاءِ قَرَّبَ إِليه طَعَامًا، فَقَالَ (6): كُلْ فإِني صَائِمٌ؛ قَالَ: مَا أَنَا بِآكِلٍ حَتَّى تأْكل. قَالَ: فأَكل، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ ذَهَبَ أَبو الدَّرْدَاءِ لِيَقُومَ، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: نَمْ، فَنَامَ ثُمَّ ذَهَبَ يَقُومُ، فَقَالَ لَهُ: نَمْ، فَنَامَ (7)، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ الصُّبْحِ قَالَ لَهُ سلمان: قم الآن، فقاما (8) فصلَّيا، فقال (9): إِن لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، ولضيفك عليك حقاً، وإن لأهلك (10) عَلَيْكَ حَقًّا، فأَعط لِكُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ. فأَتيا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: "صَدَقَ سَلْمَانُ". قَالَ التِّرْمِذِيُّ (11): "صَحِيحٌ".
وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ جَمَعَ التَّنْبِيهَ عَلَى حَقِّ الأَهل بالوطءِ وَالِاسْتِمْتَاعِ، وَمَا يَرْجِعُ إِليه، والضيف بالخدمة والتّأْنِيس والمُوَاكلة وَغَيْرِهَا، وَالْوَلَدِ بِالْقِيَامِ عَلَيْهِمْ بِالِاكْتِسَابِ وَالْخِدْمَةِ، وَالنَّفْسِ بِتَرْكِ إِدْخَالِ المشقَّات عَلَيْهَا، وَحَقِّ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ بِجَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ، وَبِوَظَائِفَ أُخر؛ فَرَائِضَ وَنَوَافِلَ آكد مما هو فيه.
_________
(1) في (خ): "ولزوارك".
(2) تقدم تخريجه (ص157).
(3) قوله: "آخى" مكرر في (خ).
(4) قوله: "فزار سلمان أبا الدرداء" سقط من (ر) و (غ).
(5) في (خ): "ليست".
(6) في (غ) و (ر): "قال".
(7) قوله: "فنام" سقط من (ر) و (غ).
(8) في (غ) و (ر): "فقام".
(9) في (خ): "فقال سلمان".
(10) في (خ): "ولأهلك".
(11) في "جامعه" (2413)، وعنه أخذ المصنف هذا الحديث، وفاته أن البخاري أخرجه في "صحيحه" (1968).(2/166)
والواجب أَن يُعْطَى كُلُّ (1) ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، وإِذا الْتَزَمَ الإِنسان أَمراً مِنَ الأُمور الْمَنْدُوبَةِ، أَو أَمرين، أَو ثَلَاثَةً، فَقَدْ يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنِ الْقِيَامِ بِغَيْرِهَا، أَو عن إكماله (2) عَلَى وَجْهِهِ، فَيَكُونُ مَلُوماً.
وَالثَّالِثُ: خَوْفُ كَرَاهِيَةِ النَّفْسِ لِذَلِكَ الْعَمَلِ المُلْتَزَم؛ لأَنه قَدْ فُرِضَ (3) من جنس ما يشق الدوام عليه، فبدخول (4) المشقة لَا يُقَرِّبُ (5) مِنْ وَقْتِ الْعَمَلِ إِلا وَالنَّفْسُ تَشْمَئِزّ مِنْهُ، وتَوَدّ لَوْ لَمْ تَعْمَلْ، أَو تتمنَّى لَوْ لَمْ تَلْتَزِمْ، وإِلى هَذَا الْمَعْنَى يشير حديث عائشة رضي الله تعالى عَنْهَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنه قَالَ: "إِن هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ، فأَوْغِلُوا فيه بِرِفْق، ولا تُبَغِّضوا إِلى أنفسكم (6) عِبَادَةَ اللَّهِ، فإِن الْمُنْبَتَّ لَا أَرضاً قَطَعَ وَلَا ظَهَرًا أَبقى" (7). فشبَّه المُوغِلَ بالعُنْف بالْمُنْبَتّ؛ وهو المنقطع في بعض الطريق تَعْنِيفًا عَلَى الظَّهْرِ ـ وَهُوَ الْمَرْكُوبُ ـ حَتَّى وَقَفَ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى السَّيْرِ، وَلَوْ رَفَقَ بِدَابَتِهِ (8) لوصل إِلى رأْس المسافة.
_________
(1) في (خ): "لكل".
(2) في (خ) و (م): "كماله".
(3) في (غ) و (ر): "لأنه بالفرض".
(4) في (خ): "فتدخل"، وفي (م): "فيدخل".
(5) في (خ): "بحيث لا يقرب".
(6) في (خ): "لأنفسكم".
(7) أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (3885) من طريق علي بن معبد، عن عبيد الله بن عمرو، عن محمد بن سوقة، عن محمد بن المنكدر، عن عائشة رضي الله عنها، به.
قال البيهقي: "ورواه أبو عقيل يحيى بن المتوكل، عن محمد بن سوقة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر، ورواه أبو معاوية، عن محمد بن سوقة، عن محمد بن المنكدر، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم مرسلاً، وهو الصحيح. وقيل غير ذلك".
فما دام الراجح إرساله، فهو ضعيف.
وله شاهد من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وسيأتي في (ص173)، وآخر مختصر من حديث أنس بن مالك، ولا يصح شيء منهما، ولا يثبت الحديث من هذه الطرق، فانظر الكلام عليه مُطَوَّلاً إن شئت في "كشف الخفاء" (1/ 300)، و (2/ 284)، و"الأجوبة المرضية" للسخاوي (1/ 10 ـ 15 رقم 2) وحاشية المحقق، وحاشية الشيخ مشهور بن حسن على "الموافقات" (2/ 236)، وحاشية الشيخ عبد الرحمن الفريوائي على "الزهد" لوكيع (234).
(8) في (ر) و (غ): "على دابته".(2/167)
فَكَذَلِكَ الإِنسان عُمُرُهُ مَسَافَةٌ، وَالْغَايَةُ الْمَوْتُ، وَدَابَّتُهُ نفسه، فكما هو مطلوب بِالرِّفْقِ عَلَى الدَّابَّةِ حَتَّى يَصِلَ بِهَا، فَكَذَلِكَ هُوَ مَطْلُوبٌ بِالرِّفْقِ (1) بِنَفْسِهِ حَتَّى يَسْهُلَ عَلَيْهَا قَطْعُ مَسَافَةِ الْعُمُرِ؛ بِحِمْلِ التَّكْلِيفِ، فَنَهَى فِي الْحَدِيثِ عَنِ التسبُّب فِي تَبْغِيض الْعِبَادَةِ لِلنَّفْسِ، وَمَا نَهَى الشَّرْعُ عَنْهُ لَا يَكُونُ حَسَنًا.
وخرَّج الطبري (2) مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: لما نزلت: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا *} {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا *}: دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا وَمُعَاذًا فَقَالَ: "انْطَلِقَا فبشِّرا، ويَسِّرا وَلَا تعسِّرا، فإِني قد أُنزلت عليَّ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا *وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا *}.
وخرَّج مُسْلِمٌ (3) عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبي بُرْدَةَ عَنْ أَبيه، عَنْ جَدِّهِ: أَن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ وَمُعَاذًا إِلى الْيَمَنِ، فَقَالَ: "بشِّرا وَلَا تُنَفِّرا، ويَسِّرا وَلَا تُعَسِّرا، وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا".
وَعَنْهُ (4): أَن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذا بَعَثَ أَحداً مِنْ أَصحابه فِي بَعْضِ أَمره قَالَ: "بشِّروا وَلَا تُنَفِّروا، ويَسِّروا وَلَا تُعَسِّروا"، وَهَذَا نَهْيٌ عَنِ التَّعْسِيرِ الَّذِي الْتِزَامُ (5) الْحَرَجِ في التعبد نوع منه.
_________
(1) من قوله: "على الدابة" إلى هنا سقط من (خ) و (غ) و (ر)، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: كذا في الأصل!.
(2) لم أجده في "تفسيره"، ولا في المطبوع من "تهذيب الآثار"، ولا في "تاريخه".
وأخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" كما في "تفسير ابن كثير" (6/ 430)، والطبراني في "المعجم الكبير" (11/ 247 ـ 248 رقم 11841)، كلاهما من طريق عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله العرزمي، عن شيبان، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس، به.
وعبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله العرزمي هذا ضعيف؛ قال أبو حاتم: "ليس بقوي"، وضعفه الدارقطني في رواية، وفي أخرى قال: "متروك الحديث"، وذكره ابن حبان في "الثقات" وقال: "يعتبر حديثه من غير روايته عن أبيه". انظر: "الضعفاء" لابن الجوزي (1897)، و"ميزان الاعتدال" (7871)، و"لسان الميزان" (5113).
(3) برقم (1733)، وأخرجه البخاري أيضاً (3038).
(4) عند مسلم أيضاً (1732).
(5) في (غ) و (ر) و (م): "إلزام".(2/168)
وَفِي الطَّبَرِيِّ (1) عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ (2) قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَجُلٍ يُصَلِّي عَلَى صَخْرَةٍ بِمَكَّةَ، فأَتى نَاحِيَةَ مَكَّةَ، فَمَكَثَ مَلِيًّا، ثُمَّ انْصَرَفَ فَوَجَدَ الرجل يصلي على حاله، فقال: "يا أَيُّهَا (3) النَّاسُ! عَلَيْكُمْ بِالْقَصْدِ وَالْقِسْطِ ـ ثَلَاثًا ـ، فإِن الله لا يَمَلُّ (4) حَتَّى تَمَلّوا".
وَعَنْ بُرَيْدَةَ الأَسْلمي (5): أَن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأَى رَجُلًا يصلي، فقال: "من
_________
(1) لعله في المفقود من "تهذيب الآثار"، فإني لم أجده في شيء من كتب الطبري المطبوعة.
والحديث أخرجه ابن ماجه (4241)، وأبو يعلى (1796 و1797)، ومن طريقه ابن حبان في "صحيحه" (357/الإحسان)، كلاهما من طريق عيسى بن جارية، عن جابر رضي الله عنه، به.
وسنده ضعيف؛ فعيسى بن جارية الأنصاري المدني: فيه لين كما في "التقريب" (5323).
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: "فإن الله لن يملّ حتى تملوا" مخرج في "صحيح البخاري" (1970)، ومسلم (782).
(2) في (م): "جابر أن عبد الله".
(3) في (خ) و (م): "أيها".
(4) في (خ) و (م): "لن يمل".
(5) كذا ذكر المصنف! والراوي إنما هو محجن بن الأدرع، فالظاهر أن المصنف رأى ذكر بريدة في أول الحديث، ثم اختصره فأخذ آخره؛ وهو موضع الشاهد.
فالحديث أخرجه الطيالسي (1295 و1296)، وأحمد في "المسند" (4/ 338)، أما الطيالسي فمن طريق أبي عوانة، وأما أحمد فمن طريق شعبة، كلاهما عن أبي بشر ـ جعفر بن إياس ـ، عن عبد الله بن شقيق، عن رجاء بن أبي رجاء؛ قال: كان بريدة على باب المسجد، فمرّ مِحْجن عليه وسَكَبَة يصلي، فقال بريدة ـ وكان فيه مزاح ـ لمحجن: ألا تصلي كما يصلي هذا؟ فقال محجن: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخذ بيدي، فصعد على أحد، فأشرف على المدينة، فقال: "ويل أمها قرية يدعها أهلها خير ما تكون ـ أو كأخير ما تكون ـ، فيأتيها الدجال فيجد على كل باب من أبوابها ملكاً مصلتاً بجناحه، فلا يدخلها". قال: ثم نزل وهو آخذ بيدي، فدخل المسجد، وإذا هو برجل يصلي، فقال لي: "من هذا؟ " فأثنيت عليه خيراً، فقال: "اسكت! لا تُسمعه فتهلكه". قال: ثم أتى حجرة امرأة من نسائه، فنفض يده من يدي، قال: "إن خير دينكم أيسره، إن خير دينكم أيسره". وهذا لفظ أحمد.
وفي سنده رجاء بن أبي رجاء الباهلي، البصري، وهو مقبول كما في "التقريب" (1932).(2/169)
هَذَا؟ " فَقُلْتُ: هَذَا فُلَانٌ، فَذَكَرْتُ مِنْ عِبَادَتِهِ وَصَلَاتِهِ، فَقَالَ: "إِن خَيْرَ دِينِكُمْ أَيسره" (1).
وَهَذَا مشعر بِعَدَمِ الرِّضَا بِتِلْكَ الْحَالَةِ، وإِنما ذَلِكَ مَخَافَةَ الكراهية للعمل، وكراهية العمل مظنَّة الترك (2) الَّذِي هُوَ مَكْرُوهٌ لِمَنْ أَلزم نَفْسَهُ لأَجل نَقْضِ الْعَهْدِ، وَهُوَ الْوَجْهُ الرَّابِعُ.
وَقَدْ مَرَّ فِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، فإِن قوله صلّى الله عليه وسلّم: "فإِن الْمُنْبَتَّ لا أَرضاً قَطَع، ولا ظهرا أَبقى" مع قوله: "ولا تُبَغِّضوا إِلى أَنفسكم (3) عبادة الله (4) " يَدُلُّ عَلَى أَن بُغْضَ الْعَمَلِ وَكَرَاهِيَتَهُ مَظِنَّةُ الانقطاع، ولذلك مثّل صلّى الله عليه وسلّم بالْمُنْبَتّ ـ وَهُوَ الْمُنْقَطِعُ (5) عَنِ اسْتِيفَاءِ الْمَسَافَةِ ـ، وَهُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} عَلَى التَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ.
وَالْخَامِسُ: الْخَوْفُ مِنَ الدُّخُولِ تَحْتَ الْغُلُوِّ فِي الدِّينِ، فإِن الْغُلُوَّ هُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي الْأَمْرِ، وَمُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِيهِ إِلى حَيِّز الْإِسْرَافِ، وَقَدْ دلَّ عَلَيْهِ مِمَّا تَقَدَّمَ أَشياء، حيث قال صلّى الله عليه وسلّم: "يَا أَيها النَّاسُ! عَلَيْكُمْ بِالْقَصْدِ (6) ... "، الْحَدِيثَ (7).
وَقَالَ الله عز وجل: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} (8).
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قال لي رسول الله (ص) غَدَاةَ الْعَقَبَة: "الْقُطْ (9) لِي حَصَيَاتٍ (10) مِنْ حَصَى الخَذْف، فَلَمَّا وَضَعْتُهُنَّ فِي يَدِهِ (11) قَالَ: "بأَمثال هَؤُلَاءِ (12)، إِياكم وَالْغُلُوَّ في الدين! فإِنما هلك مَن
_________
(1) في (خ): "يسره".
(2) في (خ) و (م): "للترك".
(3) في (خ): "إلى نفسكم".
(4) في (خ): "العبادة".
(5) قوله: " (ص) بالمنبت وهو المنقطع" مكرر في (م).
(6) في (خ): "أنفسكم بالقصد".
(7) تقدم تخريجه في الصفحة السابقة.
(8) سورة النساء: الآية (171)، وسورة المائدة: الآية (77).
(9) في (خ): "اجمع"بدل "القط"، وسقط من أصل (م) وأثبت في الهامش هكذا: "أبغ".
(10) في (ر) و (غ): "حصاة".
(11) في (غ) و (ر): "وضعتهن بيده".
(12) في (خ): "فأمثال هؤلاء، ما مثل هؤلاء".(2/170)
كَانَ قَبْلَكُمْ بِالْغُلُوِّ فِي الدِّينِ (1) ".
فأَشار إِلى أَن الْآيَةَ فِي النَّهْيِ عَنِ الْغُلُوِّ يَشْتَمِلُ مَعْنَاهَا عَلَى كُلِّ مَا هُوَ (2) غُلُوٌّ وإِفراط، وأَكثر هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْمُقَيَّدَةِ آنِفًا، خَرَّجَهَا (3) الطَّبَرِيُّ (4).
وخرَّج أَيضاً (5) عَنْ يَحْيَى بْنِ جَعْدَةَ؛ قَالَ: "كَانَ يُقَالُ: اعْمَلْ وأَنت مُشْفِق، وَدَعِ الْعَمَلَ وأَنت تحبه، عملٌ دَائِمٌ وإِن قَلّ (6) ".
وأَتى معاذاً رجُلٌ فقال: أَوصني؛ قال: أَمطيعني أَنت؟ قَالَ: نَعَمْ؛ قَالَ (7): صَلّ وَنَمْ، وصُمْ وأَفطر (8)، واكْتَسِبْ، وَلَا تأْت اللَّهَ إِلا وأَنت مسلم، وإِياك ودعوة المظلوم! (9).
_________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (13907)، وأحمد في "المسند" (1/ 215 و347)، وابن ماجه (3029)، وابن أبي عاصم في "السنة" (98)، والنسائي (4063)، وأبو يعلى (2427 و2472)، وابن الجارود (473)، وابن خزيمة (2867 و2868)، وابن حبان (3871/الإحسان)، والحاكم (1/ 466)، جميعهم من طريق عوف بن أبي جميلة، عن زياد بن حصين، عن أبي العالية، عن ابن عباس، به.
وسنده صحيح، وصححه الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله في "الصحيحة" (1283)، وحكى تصحيحه أيضاً عن النووي وشيخ الإسلام ابن تيمية.
(2) في (ر) و (غ): "من هو".
(3) في (خ): "أخرجها".
(4) في المفقود من "تهذيب الآثار" فيما يظهر.
(5) وأخرجه ابن المبارك في "الزهد" (1333)، ووكيع في "الزهد" (232)، والمروزي في "زوائد الزهد" (1110)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (34971)، جميعهم من طريق حبيب بن أبي ثابت، عن يحيى بن جعدة أنه قال: "كان يقال: اعمل وأنت مشفق، ودع العمل وأنت تحبه، عمل صالح دائم وإن قلّ".
ورجاله ثقات، إلا أن حبيب بن أبي ثابت كثير الإرسال والتدليس كما في "التقريب" (1092)، ولم يصرِّح بالسماع.
(6) كذا في النسخ الثلاث، إلا أن هناك علامة على هذا الموضع في (خ)، وكتب في الهامش: "خير من عمل كثير منقطع"؛ على أنه تكملة لكلام يحيى بن جعدة، وكأنه بخط الناسخ.
(7) في (خ): "قل".
(8) في (خ): "وأفطر وصم".
(9) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (34686)، والإمام أحمد في "الزهد" (ص225)،=(2/171)
وعن إِسحاق بن سُويد (1) قال: تعبَّدَ عبدُ الله (2) بن مُطَرِّف، فقال له مُطَرِّف (3): "يَا عَبْدَ اللَّهِ! الْعِلْمُ أَفضل مِنَ الْعَمَلِ، وَالْحَسَنَةُ بَيْنَ السَّيِّئَتَيْنِ، وَخَيْرُ الأُمور أَوسطها، وشر السَّيْر الحَقْحَقَةُ (4) ".
ومعنى قوله: "الْحَسَنَةَ بَيْنَ السَّيِّئَتَيْنِ": أَنَّ الْحَسَنَةَ هِيَ الْقَصْدُ والعدل، والسيئتان (5): مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ وَالتَّقْصِيرُ، وَهُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَى مَعْنَاهُ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ ... } الْآيَةَ (6)، وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا ... } الآية (7). ومعنى الحَقْحَقَة: أَرفع السير، وأَتعبه للظهر (8)، وهو راجع إِلى الغلو والإفراط.
_________
=وأبو نعيم في "الحلية" (1/ 233)، ثلاثتهم من طريق عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن معاذ، به. وزاد أحمد وأبو نعيم بعد قوله: "وهل أنت مطيعني؟ ": "قال: إني على طاعتك لحريص".
وفي سنده عبد الله بن سَلِمةَ المرادي، الكوفي، وهو صدوق، إلا أنه تغير حفظه كما في "التقريب" (3384).
(1) في هذا الموضع إشارة لحق في (خ)، وكتب الناسخ ما نصه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال" على أن الكلام الآتي مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(2) في (خ): "لعبد الله" بدل "تعبد عبد الله".
(3) قوله: "فقال له مطرف" ليس في (خ) و (م).
(4) قول مطرِّف هذا أخرجه أبو عبيد في "غريب الحديث" (2/ 397 ـ 398)، ومن طريقه البيهقي في "شعب الإيمان" (3888)، وأخرجه أبو نعيم في الحلية (2/ 209)، كلاهما من طريق إسماعيل بن عليَّة، عن إسحاق بن سويد، به.
وسنده صحيح.
وأخرجه الطبري في "تفسيره" (19/ 300) من طريق كعب بن فروخ، عن قتادة، عن مطرِّف بن عبد الله قال: "خير هذه الأمور أوساطها، والحسنة بين السيئتين". فقلت لقتادة: ما الحسنة بين السيئتين؟ فقال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} ... } الآية.
وأخرجه الدارمي في "سننه" (1/ 100) من طريق المسعودي، عن عون بن عبد الله، عن مطرِّف بن عبد الله بن الشخِّير أنه قال لابنه: "يا بني! إن العلم خير من العمل بلا علم".
(5) في (خ): "والسيئتين".
(6) سورة الإسراء: الآية (29).
(7) سورة الفرقان: الآية (66).
(8) في (خ): "وإتعاب الظهر"، ويبدو أنها كانت في (م) كما هو مثبت هنا، وحاول أحد=(2/172)
وَنَحْوُهُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ مُرّة الجُعْفي قَالَ: "الْعِلْمُ خَيْرٌ مِنَ الْعَمَلِ، وَالْحَسَنَةُ بَيْنَ السَّيِّئَتَيْنِ" (1).
وَعَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ (2): إِن هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ فلا تُقَذِّرْ (3) إِليك دِينَ اللَّهِ، وأَوْغِل بِرِفْقٍ، فإِن المُنْبَتّ لم يقطع بُعْداً ولم يَسْتَبْقِ ظهراً، اعمل (4) عَمَلَ المرءِ الَّذِي يَرَى أَنه لَا يَمُوتُ إِلا هرماً (5)، وَاحْذَرْ حَذَرَ المرءِ الَّذِي يَرَى أَنه يَمُوتُ غَدًا.
وخرَّج ابْنُ وَهْبٍ نَحْوَهُ عَنْ عَبْدِ الله بن عمرو (6) بن العاص (7).
_________
=المطالعين إصلاحها كما في (خ)، فصعب عليه ذلك، وصعبت قراءتها، فكتب في الهامش: "وإتعاب"، ولم يتعرض لقوله: "للظهر".
(1) أخرجه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (19/ 300) من طريق ابن حميد، عن حكام، عن عنبسة، عن العلاء بن عبد الكريم، عن يزيد بن مرة الجعفي، به.
وابن حميد هو محمد بن حميد الرازي، وهو متهم بالكذب؛ اتهمه جمع من الأئمة، منهم أبو حاتم وأبو زرعة وصالح جزرة وغيرهم كما في "تهذيب الكمال" (25/ 97 ـ 108).
(2) لم أجد رواية كعب الأحبار هذه.
(3) في (خ): "فلا تبغض".
(4) في (خ): ""واعمل".
(5) في (خ): "اليوم" بدل "إلا هرماً"، وفي (م): "إلا يوماً".
(6) في (خ): "عمر".
(7) أخرجه ابن المبارك في "الزهد" (1334) عن محمد بن عجلان: أن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: "إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق، ولا تبغضوا إلى أنفسكم عبادة الله، فإن المنبتّ لا بَلَغَ بُعداً، ولا أبقى ظهراً. واعمل عمل امرئٍ يظن أنه لا يموت إلا هرماً. واحذر حذر امرئٍ يحسب أنه يموت غداً".
وسنده منقطع إن لم يكن معضلاً، فمحمد بن عجلان لم يدرك عبد الله بن عمرو بن العاص.
وخولف فيه عبد الله بن المبارك.
فأخرجه البيهقي في "السنن" (3/ 19)، وفي "شعب الإيمان" (3886) من طريق أبي صالح، عن الليث بن سعد، عن ابن عجلان، عن مولى لعمر بن عبد العزيز، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، به هكذا مرفوعاً، وفيه ذكر الواسطة بين ابن عجلان وعبد الله بن عمرو.
ورواية ابن المبارك أرجح من هذه، مع أن كلا الطريقين ضعيف، لكن رواية الليث هذه يرويها عنه كاتبه أبو صالح عبد الله بن صالح الجهني وهو صدوق، إلا أنه كثير الغلط، وفيه غفلة، وهو ثبت في كتابه كما في "التقريب" (3409).
ومولى عمر بن عبد العزيز مجهول لا يدرى من هو.(2/173)
وَهَذِهِ إِشارة إِلى الأَخذ بِالْعَمَلِ الَّذِي يَقْتَضِي المداومة عليه من غير حرج.
وعن عمير (1) بن إِسحاق قال (2): لَمَنْ (3) أَدركت مِنْ أَصحاب رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكثر مِمَّنْ سَبَقَنِي مِنْهُمْ، فَمَا رأَيت قَوْمًا أَيسر سِيرَةً، وَلَا أَقل تَشْدِيدًا مِنْهُمْ (4).
وَقَالَ الْحَسَنُ: دِينُ اللَّهِ وُضِعَ فَوْقَ التَّقْصِيرِ وَدُونَ الْغُلُوِّ (5).
والأَدلة فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ (6)، جَمِيعُهَا رَاجِعٌ إِلى أَنه لَا حَرَجَ فِي الدِّينِ. وَالْحَرَجُ كَمَا يَنْطَلِقُ عَلَى الْحَرَجِ الْحَالِيِّ ـ كَالشُّرُوعِ فِي عِبَادَةٍ شَاقَّةٍ فِي نَفْسِهَا ـ، كذلك ينطلق على الحرج المآلي (7)؛ إذا (8) كَانَ الحرجُ لَازِمًا مَعَ الدَّوَامِ؛ كَقِصَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو (9) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ (10) مِمَّا تَقَدَّمَ. مَعَ أَن الدَّوَامَ مَطْلُوبٌ حسبما اقتضاه قول أَبي أُمامة (11)
_________
(1) في (خ) و (م): "وعن عمر".
(2) في (م): "قا"، وهذا وقع بسبب تصويبها والكلامة التي تليها بخط مغاير فيما يظهر.
(3) قوله: "لمن" سقط من (خ)، وهو مصوب في (م) كما ذكرت في التعليق السابق.
(4) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" (7/ 220)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (35549)، والدارمي في "سننه" (1/ 51)، وعبد الله بن أحمد في "زوائد فضائل الصحابة" (1959)، وابن عدي في "الكامل" (5/ 69)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (1049)، جميعهم من طريق عبد الله بن عون، عن عمير بن إسحاق؛ قال: كان من أدركت ... فذكره.
وسنده صحيح إلى عمير بن إسحاق.
وعمير بن إسحاق أبو محمد مولى بني هاشم هذا مقبول كما في "التقريب" (5214)، وانظر الموضع السابق من "الكامل" لابن عدي.
(5) أخرجه الإمام أحمد في "الزهد" (ص344) من طريق محمد بن جعفر، عن عوف، عن الحسن، فذكره.
وسنده صحيح.
(6) قوله: "كثيرة" ليس في (خ).
(7) أي: الذي يصير إليه حال الإنسان ويرجع.
(8) كذا في جميع النسخ، وأثبتها رشيد رضا: "إذ"!.
(9) في (خ): "عمر".
(10) في (خ): "وغيرها".
(11) المتقدم (ص149).(2/174)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا}، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَحب الْعَمَلِ إِلى اللَّهِ مَا دَاوَمَ (1) عَلَيْهِ صَاحِبُهُ وإِن قَلّ (2) ". فَلِذَلِكَ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذا عَمِلَ عَمَلًا أَثبته (3)، حَتَّى قَضَى رَكْعَتَيْ (4) ما بعد الظهر (5) بعد العصر (6).
هذا وإِن (7) كَانَ الْعَامِلُ لَا يَنْوِي الدَّوَامَ فِيهِ، فَكَيْفَ به (8) إِذا عَقَدَ فِي نِيَّتِهِ أَن لَا يَتْرُكَهُ؟ فَهُوَ أَحرى بِطَلَبِ الدَّوَامِ، فَلِذَلِكَ (9) قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو (10): "يَا عَبْدَ اللَّهِ! لَا تَكُنْ مِثْلَ فُلَانٍ، كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَ قِيَامَ الليل"، وهو حديث صحيح (11). فنهاه صلّى الله عليه وسلّم أَن يَكُونَ مِثْلَ فُلَانٍ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي كراهيته للترك (12) مِنْ ذَلِكَ الْفُلَانِ (13) وَغَيْرِهِ.
فَالْحَاصِلُ: أَن هَذَا الْقِسْمَ الَّذِي هُوَ مَظِنَّة للمشقَّة عِنْدَ الدَّوَامِ: مطلوب الترك لعلّة أَكثرية يُفْهَمُ (14) عند تقريرها (15) أَنها إِذا فُقِدَتْ زَالَ طَلَبُ التَّرْكِ، وإِذا ارْتَفَعَ طَلَبُ التَّرْكِ رَجَعَ إِلى أَصل الْعَمَلِ؛ وَهُوَ طَلَبُ الْفِعْلِ.
فَالدَّاخِلُ فِيهِ عَلَى الْتِزَامِ شَرْطِهَ دَاخِلٌ فِي مَكْرُوهٍ ابْتِدَاءً مِنْ وَجْهٍ؛ لِإِمْكَانِ عدم الوفاءِ بالشرط، وفي مندوبٍ (16) إِليه حَمْلًا عَلَى ظَاهِرِ الْعَزِيمَةِ عَلَى الْوَفَاءِ.
فَمِنْ حَيْثُ النَّدْبُ أَمره الشَّارِعُ بِالْوَفَاءِ؛ وَمِنْ حَيْثُ الْكَرَاهِيَةُ كَرِهَ لَهُ أَن يَدْخُلَ فِيهِ.
_________
(1) في (خ) و (م): "ما دام".
(2) أخرجه البخاري (1970)، ومسلم (782).
(3) كما في "صحيح مسلم" (746/ 141) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(4) في (غ) و (ر) و (خ): "ركعتين".
(5) في (خ): "مابين الظهر والعصر" بدل "ما بعد الظهر".
(6) أخرجه البخاري (1233 و4370).
(7) في (خ): "إن".
(8) قوله: "به" ليس في (خ) و (م).
(9) في (غ) و (ر): "ولذلك".
(10) في (خ) و (م): ""لعبد الله بن عمر".
(11) متفق عليه، وتقدم تخريجه (ص162).
(12) في (خ): "كراهة الترك".
(13) في (خ): "لفلان".
(14) في (خ): "تفهم"، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: كذا في نسختنا! ولعل الأصل: لعلّة كثرته، ففهم. اهـ.
(15) في (خ) و (م): "تقريره".
(16) في (خ): "المندوب".(2/175)
وحين صارت الكراهية (1) هي المُقَدَّمة كان دخوله في العمل بقصد (2) الْقُرْبَةِ يُشْبِهُ الدُّخُولَ فِيهِ بِغَيْرِ أَمر، فأَشبه الْمُبْتَدِعَ الدَّاخِلَ فِي عِبَادَةٍ غَيْرِ مأْمور بِهَا. فَقَدْ يُسْتَسْهَلُ بِهَذَا (3) الِاعْتِبَارِ إِطلاق الْبِدْعَةِ عَلَيْهَا كَمَا اسْتَسْهَلَهُ أَبو أُمامة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (4).
وَمِنْ حَيْثُ كَانَ الْعَمَلُ مأْموراً بِهِ ابْتِدَاءً قَبْلَ النَّظَرِ فِي الْمَآلِ، أَو مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الْمَشَقَّةِ، أَو مَعَ اعْتِقَادِ الْوَفَاءِ بِالشَّرْطِ: أَشبه صاحبُه مَنْ دَخَلَ فِي نَافِلَةٍ قَصْدًا للتعبُّد بِهَا، وَذَلِكَ صَحِيحٌ جارٍ عَلَى مُقْتَضَى أَدلة النَّدْبِ، وَلِذَلِكَ أَمر بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهِ بِالْوَفَاءِ، كَانَ نَذْرًا أَو الْتِزَامًا بِالْقَلْبِ غَيْرَ نَذْرٍ، وَلَوْ كَانَ بِدْعَةً دَاخِلَةً فِي حَدِّ الْبِدْعَةِ لَمْ يُؤْمَرْ بِالْوَفَاءِ، وَلَكَانَ عَمَلُهُ بَاطِلًا.
وَلِذَلِكَ جاءَ فِي الْحَدِيثِ: أَن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأَى رَجُلًا قَائِمًا فِي الشَّمْسِ، فَقَالَ: "مَا بَالُ هَذَا؟ " فَقَالُوا: نَذَرَ أَن لَا يَسْتَظِلَّ، وَلَا يَتَكَلَّمَ، وَلَا يَجْلِسُ، وَيَصُومَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلّم: "مره (5) فليجلس وليتكلم ويَسْتَظِلّ (6)، وَلْيُتِمَّ صِيَامَهُ" (7).
فأَنت تَرَى كَيْفَ أَبطل عَلَيْهِ التعبُّد (8) بِمَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ البتَّةَ (9)، وأَمره بِالْوَفَاءِ بِمَا هُوَ مَشْرُوعٌ فِي الأَصل، فَلَوْلَا أَنَّ لِلْفَرْقِ (10) بَيْنَهُمَا مَعْنًى لَمْ يَكُنْ لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا مَعْنًى مَفْهُومٌ. وأَيضاً فإِذا كَانَ الدَّاخِلُ مأْموراً بِالدَّوَامِ لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَن يَكُونَ الدُّخُولُ طَاعَةً، بلا بُدٍّ (11)؛ لِأَنَّ الْمُبَاحَ ـ فَضْلًا عَنِ الْمَكْرُوهِ وَالْمُحَرَّمِ ـ لَا يُؤْمَرُ بِالدَّوَامِ عَلَيْهِ، وَلَا نَظِيرَ لِذَلِكَ في الشريعة. وعليه
_________
(1) في (خ): "الكراهة".
(2) في (خ): "لقصد".
(3) في (غ) و (ر): "فقد" بدل "بهذا".
(4) في حديثه المتقدم (ص149).
(5) في (خ): "مروه".
(6) في (خ): "وليستظل".
(7) تقدم تخريجه (ص28).
(8) في (خ) و (م): "التبدع".
(9) قوله: "البتة"، ليس في (خ).
(10) المثبت من (غ)، وفي باقي النسخ: "فلولا الفرق".
(11) في (خ): "بل لا بد".(2/176)
يَدُلُّ (1) قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ نَذَرَ أَن يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ (2) "، وَلِأَنَّ اللَّهَ مَدَحَ مَنْ أَوفى بِنَذْرِهِ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} (3) فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ وَتَرْتِيبِ (4) الْجَزَاءِ الْحَسَنِ، وَفِي آيَةِ الْحَدِيدِ: {فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ} (5)، وَلَا يَكُونُ الأَجر إِلا عَلَى مَطْلُوبٍ شَرْعًا.
فتأَمّلوا هَذَا الْمَعْنَى فَهُوَ الَّذِي يَجْرِي عَلَيْهِ عَمَلُ السَّلَفِ الصَّالِحِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِمُقْتَضَى الأَدلة، وَبِهِ يَرْتَفِعُ إِشكال التَّعَارُضِ الظَّاهِرِ لِبَادِيَ الرأْي، حَتَّى تَنْتَظِمَ الْآيَاتُ والأَحاديث وَسِيَر مَنْ تقدم، والحمد لله.
غير أَنه يبقى بعد هذا (6) إِشكالان قويان، بالنظر (7) فِي الْجَوَابِ عَنْهُمَا يَنْتَظِمُ مَعْنَى المسأَلة عَلَى تمامه بحول الله (8)، فلنعقد في كل إِشكال فصلاً.
_________
(1) في (خ): "أيد" بدل "يدل".
(2) أخرجه البخاري (6696 و6700) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(3) سورة الإنسان: الآية (7).
(4) في (خ): "وترتب".
(5) سورة الحديد: الآية (27).
(6) في (خ): "بعدها".
(7) في (خ): "وبالنظر".
(8) قوله: "بحول الله" ليس في (خ).(2/177)
فَصْلٌ
الْإِشْكَالُ الْأَوَّلُ
إِن مَا تَقَدَّمَ مِنَ الأدلة على كراهية الالتزامات التي يشق دوامها مُعَارَضٌ بِمَا دلَّ عَلَى خِلَافِهِ. فَقَدَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُومُ حَتَّى تورَّمت قَدَمَاهُ، فَيُقَالُ لَهُ: أَو لَيْسَ قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ (1) مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تأَخر؟ فَيَقُولُ: "أَفلا أَكون عَبْدًا شكوراً (2)؟ " ويظل في (3) الْيَوْمَ الطَّوِيلَ فِي الْحَرِّ الشَّدِيدِ صَائِمًا (4)، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوَاصِلُ الصِّيَامَ وَيَبِيتُ عِنْدَ رَبِّهِ يُطْعِمُهُ وَيَسْقِيهِ (5)، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ اجْتِهَادِهِ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ. وَفِي رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم أُسوة حسنة، ونحن مأْمورون بالتأَسِّي به.
فإِن أَبيتم هَذَا الدَّلِيلَ بِسَبَبِ أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَخْصُوصًا بِهَذِهِ الْقَضِيَّةِ، وَلِذَلِكَ كَانَ رَبُّهُ يُطْعِمُهُ وَيَسْقِيهِ، وَكَانَ يُطِيقُ مِنَ الْعَمَلِ مَا لَا تُطِيقُهُ أُمته، فَمَا قَوْلُكُمْ فِيمَا ثَبَتَ مِنْ ذَلِكَ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وأَئمة الْمُسْلِمِينَ الْعَارِفِينَ بِتِلْكَ الأَدلة الَّتِي اسْتَدْلَلْتُمْ بِهَا عَلَى الْكَرَاهِيَةِ؟ حَتَّى إِن بَعْضَهُمْ قعد من رجليه (6) من كثرة التَّنَفُّل (7)، وصارت جبهة بعضهم كرُكْبة
_________
(1) في (م): "غفر لك".
(2) أخرجه البخاري (1130)، ومسلم (2819) من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
(3) قوله: "في" ليس في (خ) و (م).
(4) أخرجه البخاري (1945)، ومسلم (1122) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم في شهر رمضان في حرّ شديد، حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعبد الله بن رواحة.
(5) أخرجه البخاري (7299)، ومسلم (1103/ 58) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(6) في (م): "رحله".
(7) في (خ) و (م): "التبتل".(2/178)
البَعير (1) مِنْ كَثْرَةِ السُّجُودِ.
وجاءَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ (2) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنه كَانَ إِذا صَلَّى العشاءَ أَوتر بِرَكْعَةٍ يقرأُ فِيهَا الْقُرْآنَ كُلَّه (3)، وَكَمْ مِنْ رجلٍ صَلَّى الصُّبْحَ بوضوء العشاء كذا وكذا (4) سَنَةً؟! وسَرَدَ الصِّيَامَ (5) كَذَا وَكَذَا (6) سَنَةً (7)؟! وَكَانُوا هُمُ الْعَارِفِينَ بِالسُّنَّةِ لَا يَمِيلُونَ عَنْهَا لَحْظَةً.
وروي عن ابن عمر وابن الزبير رضي الله عنهم أَنهما كانا يواصلان (8) الصيام (9)،
_________
(1) في (غ) و (ر): "العنز".
(2) قوله: "بن عفان" ليس في (غ) و (ر).
(3) أخرجه سعيد بن منصور في التفسير من "سننه" (158)، وهو صحيح بمجموع طرقه التي استوفيتها في تعليقي على الموضع السابق من "السنن"، فانظره إن شئت.
(4) في (خ) و (م): "كذا كذا".
(5) في (غ) و (ر): "الصوم".
(6) في (م): "كذا كذا".
(7) أخرج البخاري في "صحيحه" (2828) عن أنس رضي الله عنه قال: كان أبو طلحة لا يصوم على عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم من أجل الغزو، فلما قبض النبي صلّى الله عليه وسلّم لم أره مفطراً إلا يوم فطر أو أضحى.
وذكر البيهقي في "شعب الإيمان" (3/ 63 فما بعد)، و (3/ 430 فما بعد) جملة من ذلك، ومنه: ما أخرجه برقم (3220) بسند صحيح أن المعتمر بن سليمان التيمي قال لمحمد بن عبد الأعلى: لولا أنك من أهلي ما حدثتك هذا عن أبي: مكث أربعين سنة يصوم يوماً ويفطر يوماً، ويصلي صلاة الفجر بوضوء العشاء. وانظر رقم (2950/بتحقيق د. عبد العلي).
(8) في (غ): "يواصليان".
(9) قال البيهقي في "الشعب" (3/ 405): "وروينا عن عمر وابن عمر وأبي طلحة وعائشة رضي الله عنهم في سرد الصيام، ورويناه عن سعيد بن المسيب".اهـ.
أما ابن عمر: فأخرج الفريابي في "الصيام" (134) من طريق سعيد بن أبي هلال؛ أن نافعاً حدثه؛ أن عبد الله بن عمر كان إذا حضر لم يفطر، وكان يصل شعبان برمضان، ويقول: الليل أفضل.
وحسن سنده المحقق، وفي النفس من تفرد سعيد بن أبي هلال بهذا عن نافع!.
وانظر "شرح مسلم" للنووي (8/ 40).
وأما ابن الزبير: فأخرج ابن أبي شيبة في "المصنف" (9599) من طريق وكيع، عن الأسود بن شيبان، عن أبي نوفل ابن أبي عقرب؛ قال: دخلت على ابن الزبير صبيحة خمسة عشر من الشهر وهو مواصل.=(2/179)
وأَجاز مَالِكٌ (1) ـ وَهُوَ إِمام فِي الِاقْتِدَاءِ ـ صِيَامَ الدهر (2)؛ يعني إِذا أَفطر أَيام الأضحى والفطر، وحمل النهي في ذلك على أَن المراد إِذا لم يفطر أَيام (3) الْعِيدِ.
وَمِمَّا (4) يُحْكَى عَنْ أُويس القَرَني رضي الله عنه: أَنه كَانَ يَقُومُ لَيْلَهُ حَتَّى يُصْبِحَ، وَيَقُولُ: بلغني أَن لله عباداً قياماً أَبداً، ثم يركع أُخرى حتى يصبح، ثم يقول: بلغني أَن لله عباداً ركوعاً أَبداً، ثم يسجد لَيْلَهُ حَتَّى يُصْبِحَ، وَيَقُولُ: بَلَغَنِي أَن لِلَّهِ عباداً (5) سجوداً أَبداً (6)،
_________
=وصحح إسناده ابن حجر في "الفتح" (4/ 204).
وأخرج ابن جرير في "تفسيره" (3028) عن هشام بن عروة؛ قال: كان عبد الله بن الزبير يواصل سبعة أيام، فلما كبر جعلها خمساً، فلما كبر جدًّا جعلها ثلاثاً.
وسنده صحيح إن كان هشام سمع من عمه عبد الله بن الزبير.
وأخرج أبو نعيم في "الحلية" (1/ 335)، والحاكم في "المستدرك" (3/ 549)، ومن طريقه البيهقي في "الشعب" (3613)، كلاهما من طريق روح بن عبادة، عن حبيب بن الشهيد، عن عبد الله بن أبي مليكة قال: كان ابن الزبير يواصل سبعة أيام، ثم يصبح يوم الثامن وهو أَلْيَثُنا؛ يعني: أقوانا. وسنده صحيح.
(1) في (غ): "مالك بن أنس".
(2) ذكر مالك في "الموطأ" (1/ 300) أنه سمع أهل العلم يقولون: لا بأس بصيام الدهر إذا أفطر الأيام التي نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن صيامها.
ثم قال مالك: "وذلك أحب ما سمعت إليّ في ذلك".
(3) من قوله: "الأضحى والفطر" إلى هنا سقط من (خ) و (م).
(4) في (غ) و (ر): "وما".
(5) من قوله: "قياماً أبداً" إلى هنا سقط من (خ) و (م)، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: للأثر تَتِمَّة، يدلّ باقي الكلام على أنه كان موجوداً في الأصل، وسقط من النسخ، وتلك الزيادة هي: "إن لله عباداً ركوعاً أبداً، وعباداً قياماً أبداً".اهـ.
(6) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (2/ 87) من طريق أبي زرعة الرازي، عن سعيد بن أسد بن موسى، عن ضمرة بن ربيعة، عن أصبغ بن زيد؛ قال: كان أويس القرني إذا أمسى يقول: هذه ليلة الركوع، فيركع حتى يصبح، وكان يقول إذا أمسى: هذه ليلة السجود، فيسجد حتى يصبح ... ، ثم ذكر كلاماً آخر.
وسنده منقطع، فأصبغ بن زيد لم يدرك أويس القرني.
وأخرجه ابن عساكر في "تاريخه" (9/ 443) من طريق عبد الله بن أبي زياد، عن سيار، عن جعفر بن سليمان، عن إبراهيم بن عيسى اليشكري، فذكره بنحو ما تقدم وزاد القيام.=(2/180)
ويريد (1) أَنه يَتَنَفَّلُ بِالصَّلَاةِ، فَتَارَةً يُطَوِّلُ فِيهَا الْقِيَامَ، وَتَارَةً الرُّكُوعَ، وَتَارَةً السُّجُودَ.
وَعَنِ الأَسود بْنِ يَزِيدَ أَنه كَانَ يُجْهِدُ نَفْسَهُ فِي الصَّوْمِ وَالْعِبَادَةِ حَتَّى يَخْضَرّ جسدُه ويَصْفَرّ، فَكَانَ عَلْقَمَةُ يَقُولُ لَهُ: وَيْحَكَ! لِمَ تُعَذِّبْ هَذَا الْجَسَدَ؟ فَيَقُولُ: إِن الْأَمْرَ جِدٌّ، إِن الْأَمْرَ (2) جِدٌّ (3).
_________
=وإبراهيم بن عيسى اليشكري له ترجمة في "الجرح والتعديل" (3/ 117 رقم 352)، وذكر أنه يروي عن الحسن البصري، فيبعد أن يكون لحق أويساً القرني الذي قتل بصفين سنة (35) كما في "التقريب" (586).
وفي سنده أيضاً سيار بن حاتم العنزي وهو متكلم فيه، وفي "التقريب" (2729): "صدوق له أوهام".
(1) في (خ): "يريد".
(2) في (غ) و (ر): "والأمر" بدل "إن الأمر" الثانية.
(3) أخرجه ابن المبارك في "الزهد" (1502) عن محمد بن طلحة؛ أخبرني عبد الرحمن بن ثروان: أن الأسود بن يزيد ... ، فذكره.
وعبد الرحمن بن ثروان هذا صدوق، إلا أنه ربما خالف كما في "التقريب" (3847).
والراوي عنه محمد بن طلحة بن مصرِّف اليامي، وهو صدوق، إلا أن له أوهاماً كما في "التقريب" (6020).
وأخرجه الإمام أحمد في "الزهد" (ص417) من طريق حجاج، عن محمد بن طلحة، به.
ومن طريق أحمد أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (2/ 103).
وأخرجه الإمام أحمد أيضاً من طريق معمر بن سليمان الرَّقّي، عن عبد الله بن بشر ـ وهو قاضي الرّقّة ـ: أن علقمة بن قيس والأسود بن يزيد حجّا، فكان الأسود صاحب عبادة، فصام يوماً، فراح الناس بالهجير وقد تربّد وجهه، فأتاه علقمة، فضرب على فخذه فقال: ألا تتقي الله يا أبا عمرو في هذا الجسد؟ علام تعذب هذا الجسد؟ فقال الأسود: يا أبا شبل! الجدّ الجدّ!
ومن طريق أحمد أخرجه أبو نعيم (2/ 104).
وسنده ضعيف؛ فعبد الله بن بشر قاضي الرّقّة لا يمكن أن يكون أدرك الأسود وعلقمة، فإنه لم يدرك من بعدهما فضلاً عنهما.
فقد قال أبو حاتم الرازي ـ كما في "المراسيل" لابنه (ص115) ـ: "لا يثبت له سماع من الحسن، ولا من ابن سيرين، ولا من عطاء، ولا من الأعمش، وإنما يقول: كتب إليّ أبو بكر بن عياش عن الأعمش ـ، ولا من الزهري، ولا من قتادة، ... " وذكر غيرهم.=(2/181)
وعن أَنس بن سيرين (1): أَن امرأَة مَسْرُوقٍ قَالَتْ: كَانَ يُصَلِّي حَتَّى تورَّمت قَدَمَاهُ، فَرُبَّمَا جَلَسْتُ خَلْفَهُ أَبكي مِمَّا أَراه يَصْنَعُ بِنَفْسِهِ (2).
وَعَنِ الشَّعْبِيِّ (3)؛ قَالَ: غُشي على مسروق في يومٍ صائفٍ وهو
_________
=ومع ذلك فعبد الله هذا متكلم فيه، وفي "التقريب" (3248): "اختلف فيه قول ابن معين وابن حبان، وقال أبو زرعة والنسائي: لا بأس به، وحكى البزار أنه ضعيف في الزهري خاصة".
وأخرجه أحمد أيضاً، وأبو نعيم (2/ 104)، كلاهما من طريق أبي أحمد محمد بن عبد الله بن الزبير، عن حنش بن الحارث، عن علي بن مدرك؛ قال: قال علقمة للأسود: لم تعذب هذا الجسد ـ وهو يصوم ـ؟ قال: الراحة أريد له.
وعلي بن مدرك النخعي إنما يروي عن تلاميذ الأسود وعلقمة كما في ترجمته من "تهذيب الكمال" (21/ 127)، ولم يذكر أنه روى عنهما.
وأخرج أبو نعيم (2/ 103) من طريق يزيد بن عطاء، عن علقمة بن مرثد؛ قال: انتهى الزهد إلى ثمانية من التابعين، منهم الأسود بن يزيد، كان مجتهداً في العبادة؛ يصوم حتى يخضرّ جسده ويصفرّ، وكان علقمة بن قيس يقول له: لم تعذب هذا الجسد؟ قال: راحة هذا الجسد أريد.
وعلقمة بن مرثد كسابقه علي بن مدرك كما يتضح من ترجمته في "تهذيب الكمال" (20/ 309).
والراوي عنه يزيد بن عطاء اليشكري لين الحديث كما في "التقريب" (7808).
وقد يخالج النفس شعور بأن هذه الطرق ـ على ما في كل منها من ضعف ـ يشدّ بعضها بعضاً، لكن معظمها مراسيل قد يكون مصدرها واحداً.
والمتن يدل على شدة اجتهاد الأسود رحمه الله في العبادة، ويكثر الصيام حتى أضعفه، فاصفرّ لونه، ومن شدة الجهد أحياناً والنصب تعلوه سمرة مع الصفرة، وهو اخضرار اللون في عرف الناس.
ولا شك أن هذا اجتهاد من الأسود رحمه الله، لكن السنة أحبّ إلينا من اجتهاده، وتقدم في كلام الشاطبي رحمه الله ما فيه غنية عن الإعادة.
(1) في (خ) و (م): "وعن أنس بن مالك"، زاد في (خ): "رضي الله عنه"، والمثبت هو الصواب.
(2) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" (6/ 81) من طريق عارم بن الفضل، والخطيب في "تاريخه" (13/ 234) من طريق أزهر بن مروان، كلاهما عن حماد بن زيد، عن أنس بن سيرين، به.
وسنده صحيح.
(3) في (خ): "الشعبيني"، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: لعله "الشعبي"، أو "الشعباني"،=(2/182)
صَائِمٌ، فَقَالَتْ لَهُ ابْنَتُهُ: أَفْطِرْ؛ قَالَ: مَا أَردتِ بِي؟ قَالَتْ: الرِّفْقَ؛ قَالَ: يَا بُنَيَّة! إِنما طلبت الرفق لنفسي (1) فِي يومٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلف سَنَةٍ (2).
وَعَنِ الرَّبِيعِ بْنِ خُثَيْم أَنه قَالَ: أَتيت أُويساً (3) القَرَني فَوَجَدْتُهُ قَدْ صَلَّى الصُّبْحَ وَقَعَدَ، فَقُلْتُ: لَا أَشْغَلُهُ عَنِ التَّسْبِيحِ، فَلَمَّا كَانَ وَقْتَ الصَّلَاةِ قَامَ فَصَلَّى إِلى الظُّهْرِ، فَلَمَّا صَلَّى الظُّهْرَ صَلَّى إِلى الْعَصْرِ، فَلَمَّا صَلَّى الْعَصْرَ قَعَدَ يَذْكُرُ اللَّهَ إِلى الْمَغْرِبِ، فَلَمَّا صَلَّى الْمَغْرِبَ صَلَّى إِلى الْعِشَاءِ، فَلَمَّا صَلَّى العشاءَ صَلَّى إِلى الصُّبْحِ، فَلَمَّا صَلَّى الصُّبْحَ جَلَسَ فأَخذته عَيْنُهُ، ثُمَّ انْتَبَهَ (4) فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِني أَعوذ بِكَ مِنْ عَيْنٍ نَوّامة، وبطن لا يشبع (5) (6).
وَالْآثَارُ فِي هَذَا (7) الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ عَنِ الْأَوَّلِينَ، وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى الْأَخْذِ بِمَا هُوَ شَاقٌّ فِي الدَّوَامِ، وَلَمْ يَعُدَّهُمْ أَحد بِذَلِكَ مُخَالِفِينَ لِلسُّنَّةِ، بَلْ عَدُّوهم مِنَ السَّابِقِينَ، جَعَلَنَا اللَّهُ منهم.
_________
=أو "الشعيثي"، وهذا الأخير هو الأقرب إلى الرسم، وهو نسبة محمد بن عبد الله بن المهاجر، وعبد الرحمن بن حماد. اهـ.
(1) من قوله: "في يوم صائف" إلى هنا سقط من (خ).
(2) أخرجه الخطيب في "تاريخه" (13/ 234) من طريق علي بن الحسن الشامي، عن سفيان الثوري، عن فطر بن خليفة، عن الشعبي، به.
ومن طريق الخطيب أخرجه المزي في "تهذيب الكمال" (27/ 456)، وفيه: "السامي" بدل "الشامي"، وهو الصواب.
وعلي بن الحسن السامي هذا متكلم فيه بشدة، حتى اتهمه الدارقطني بالكذب كما في "لسان الميزان" (5/ 211 ـ 212)، وحكم الأئمة على رواياته بأنها موضوعة.
(3) في (خ): "أويس".
(4) في (م): "أتيته".
(5) في (خ) و (م): "لا تشبع".
(6) أخرجه ابن عساكر في "تاريخه" (9/ 443) من طريق عبد الرحمن بن صالح، عن سعيد بن عبد الله بن الربيع بن خثيم، عن نسير بن ذعلوق، عن بكر بن ماعز، عن الربيع، به.
وسعيد بن عبد الله بن الربيع بن خثيم مجهول الحال؛ سكت عنه البخاري في "تاريخه" (3/ 489 ـ 490)، وابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (4/ 38)، وذكره ابن حبان في "الثقات" (8/ 263).
(7) قوله "هذا" ليس في (خ).(2/183)
وأَيضاً فإِن النَّهْيَ لَيْسَ عَنِ الْعِبَادَةِ الْمَطْلُوبَةِ، بَلْ هُوَ (1) عَنِ الْغُلُوِّ فِيهَا غُلُوًا يُدْخِل الْمَشَقَّةَ عَلَى الْعَامِلِ، فإِذا فَرَضْنَا مَنْ فُقِدَتْ فِي حَقِّهِ تِلْكَ الْعِلَّةُ، فَلَا يَنْتَهِضُ النَّهْيُ فِي حَقِّهِ، كَمَا إِذا قَالَ الشَّارِعُ: لَا يقض الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ (2) ـ وَكَانَتْ عِلَّةُ النَّهْيِ تَشْوِيشَ الْفِكْرِ عَنِ اسْتِيفَاءِ الْحُجَجِ ـ، اطَّرَدَ النَّهْيُ مَعَ كُلِّ مُشَوِّش، وَانْتَفَى عِنْدَ انْتِفَائِهِ، حَتَّى إِنه مُنْتَفٍ مَعَ وُجُودِ الْغَضَبِ الْيَسِيرِ الَّذِي لَا يَمْنَعُ مِنَ اسْتِيفَاءِ الْحُجَجِ. وَهَذَا صَحِيحٌ جارٍ عَلَى الأُصول.
وَحَالُ مَنْ فُقدت فِي حَقِّهِ الْعِلَّةُ حَالُ مَنْ يَعْمَلُ بِحُكْمِ غَلَبة الْخَوْفِ أَو الرَّجَاءِ أَو الْمَحَبَّةِ، فإِن الْخَوْفَ سَوْطٌ سائق (3)، والرجاءُ حادٍ قائد، والمحبة سيل (4) حَامِلٌ. فَالْخَائِفُ إِن وَجَدَ الْمَشَقَّةَ فَالْخَوْفُ مِمَّا هو أَشق يحمله على الصبر على مَا هُوَ أَهون، وإِن كَانَ الْعَمَلُ (5) شَاقًّا. وَالرَّاجِي يَعْمَلُ وإِن (6) وَجَدَ الْمَشَقَّةَ؛ لِأَنَّ رجاءَ الرَّاحَةِ التَّامَّةِ يَحْمِلُهُ عَلَى الصَّبْرِ عَلَى بَعْضِ التَّعَبِ. وَالْمُحِبُّ يَعْمَلُ بِبَذْلِ الْمَجْهُودِ شَوْقًا إِلى الْمَحْبُوبِ، فَيَسْهُلُ عَلَيْهِ الصَّعْبُ، وَيَقْرُبُ عَلَيْهِ الْبَعِيدُ، ويَفْنَى الْقُوَى (7)، وَلَا يَرَى أَنه أَوفى بِعَهْدِ الْمَحَبَّةِ، ولا قام بشكر النعمة، ويعمر الْأَنْفَاسَ وَلَا يَرَى أَنه قَضَى نَهْمَتَهُ (8).
وإِذا كَانَ كَذَلِكَ صَحَّ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، وَجَازَ الدُّخُولُ فِي الْعَمَلِ الْتِزَامًا مَعَ الْإِيغَالِ فِيهِ، إِما مُطْلَقًا، وإِما مَعَ ظَنِّ انْتِفَاءِ الْعِلَّةِ، وإِن دَخَلَتِ الْمَشَقَّةُ فِيمَا بَعْدُ، إِذا صَحَّ من (9) العامل الدوام على العمل، ويكون ذلك
_________
(1) قوله: "هو" ليس في (ر) و (غ).
(2) أخرجه البخاري (7158)، ومسلم (1717)، من حديث أبي بكرة، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان".
(3) في (غ) و (ر): "شرط سابق".
(4) في (م): "سبيل".
(5) قوله: "العمل" ليس في (غ).
(6) في (غ) و (ر): "إن".
(7) في (م): "وهي القوى"، وفي موضعها طمس في (خ)، وأثبتها رشيد رضا هكذا: "وهو القوي"، واعتماده على (خ).
(8) في (خ): "تهمته".
(9) في (خ): "مع" بدل "من".(2/184)
جَارِيًا عَلَى مُقْتَضَى الْأَدِلَّةِ وَعَمَلِ السَّلَفِ الصَّالِحِ رضي الله عنهم.
وَالْجَوَابُ: أَن مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَدلة النَّهْيِ صحيح صريح، وما نُقل عن الأوَّلين من الإيغال (1) يَحْتَمِلُ ثَلَاثَةَ أَوجه:
أَحدها: أَن يُحْمَلَ عَلَى (2) أَنهم إِنما عَمِلُوا عَلَى التَّوَسُّطِ، الَّذِي هُوَ مظنة الدوام، فلم يلزموا أَنفسهم ما لَعَلَّه (3) يُدْخِل عَلَيْهِمُ الْمَشَقَّةَ حَتَّى يَتْرُكُوا بِسَبَبِهِ مَا هُوَ أَولى، أَو يَتْرُكُوا الْعَمَلَ، أَو يُبَغِّضُوهُ لِثِقَلِهِ عَلَى أَنفسهم، بَلِ الْتَزَمُوا مَا كَانَ عَلَى النُّفُوسِ سَهْلًا فِي حَقِّهِمْ، فإِنما طَلَبُوا الْيُسْرَ لَا الْعُسْرَ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ حَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَالَ مَنْ تَقَدَّمَ النَّقْلُ عَنْهُ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ بِنَاءً عَلَى أَنهم إِنما عَمِلُوا بمَحْض السنَّة وَالطَّرِيقَةِ الْعَامَّةِ لِجَمِيعِ المُكَلَّفين، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الطَّبَرِيِّ فِي الْجَوَابِ. وَمَا تَقَدَّمَ فِي السُّؤَالِ مِمَّا يَظْهَرُ مِنْهُ خِلَافُ ذَلِكَ فَقَضَايَا أَحوال يُمْكِنُ حَمْلُهَا عَلَى وَجْهٍ صَحِيحٍ، إِذا ثَبَتَ أَن الْعَامِلَ مِمَّنْ يُقتدى بِهِ.
وَالثَّانِي: يُحْتَمَلُ أَن يَكُونُوا (4) عَمِلُوا عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِيمَا اسْتَطَاعُوا، لَكِنْ على غير جِهَةِ (5) الِالْتِزَامِ، لَا بِنَذْرٍ وَلَا غَيْرِهِ، وَقَدْ يَدْخُلُ الْإِنْسَانُ فِي أَعمال (6) يَشُقُّ الدَّوَامُ عَلَيْهَا (7)، وَلَا يَشُقُّ فِي الْحَالِ، فيَغْتَنِم نَشَاطَهُ فِي حَالِهِ خَاصَّةٍ، غَيْرَ نَاظِرٍ فِيهَا (8) فِيمَا يأَتي، ويكون فيه جارياً (9) عَلَى أَصل رَفْعِ الْحَرَجِ، حَتَّى إِذا لَمْ يَسْتَطِعْهُ تَرَكَهُ وَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَنْدُوبَ لَا حَرَجَ فِي تَرْكِهِ فِي الْجُمْلَةِ.
ويُشْعِر بهذا المعنى: ما فِي الْحَدِيثِ (10) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
_________
(1) قوله: "من الإيغال" ليس في (خ) و (م).
(2) قوله: "على" ليس في (خ).
(3) في (خ): "بما لعله".
(4) في (غ): "يكون".
(5) في (خ): "لكن لا على جهة".
(6) في (غ) و (ر): "عمل".
(7) في (غ) و (ر): "عليه".
(8) قوله: "فيها" ليس في (غ) و (ر).
(9) في (خ): "جارياً فيه".
(10) في (خ): "ما في هذا الحديث".(2/185)
قالت: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ: لَا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ: لَا يَصُومُ، وَمَا رأَيته اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إِلا رَمَضَانَ ... ، الْحَدِيثَ (1).
فتأَمّلوا وَجْهَ اعْتِبَارِ النَّشَاطِ وَالْفَرَاغِ (2) مِنَ الْحُقُوقِ الْمُتَعَلِّقَةِ، أَو القوة في الأَعمال. وكذلك قوله (3) ـ في صيام يوم وإِفطار يومين ـ: "ليتني طُوِّقْتُ ذلك" (4): إِنما يريد ـ والله أَعلم ـ (5) الْمُدَاوَمَةَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ (6) كَانَ يُوَالِي الصِّيَامَ حَتَّى يقولوا: لا يفطر.
ولا يُعْتَرَضُ هذا المأْخذ بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَحب الْعَمَلِ إِلى اللَّهِ مَا دَاوَمَ (7) عَلَيْهِ صَاحِبُهُ وإِن قَلّ" (8)، وأنه (9) كان عمله دِيمَةً (10)؛ لِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْعَمَلِ الَّذِي يَشُقُّ (11) فِيهِ الدوام.
وأَما ما نقل عنهم من إِدامة (12) صَلَاةِ الصُّبْحِ بوضوءِ الْعِشَاءِ، وَقِيَامُ جَمِيعِ اللَّيْلِ، وَصِيَامُ الدَّهْرِ، وَنَحْوُهُ، فَيُحْتَمَلُ أَن يَكُونَ عَلَى الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ أَن لَا يَلْتَزِمَ ذَلِكَ. وإِنما يَدْخُلُ فِي الْعَمَلِ حَالًا يَغْتَنِمُ نَشَاطَهُ، فإِذا أَتى زَمَانٌ آخَرُ وَجَدَ فِيهِ النشاط أَيضاً، ولم (13) يخلّ بما هو أَولى، عمل به (14) كَذَلِكَ، فَيَتَّفِقُ أَن يَدُومَ لَهُ (15) هَذَا النَّشَاطُ زَمَانًا طَوِيلًا، وَفِي كُلِّ حَالَةٍ هُوَ فِي فُسْحَةِ التَّرْكِ، لَكِنَّهُ يَنْتَهِزُ (16) الْفُرْصَةَ مَعَ الأَوقات، فَلَا بُعْدَ فِي أَن يَصْحَبَهُ النَّشَاطُ إِلَى آخر العمر، فيظنه (17) الظان التزاماً
_________
(1) تقدم تخريجه (ص163).
(2) في (ر) و (غ): "وجه اغتنام النشاط أو الفراغ".
(3) قوله: "قوله" ليس في (ر) و (غ)، وعلق رشيد رضا على هذا الموضع بقوله: "أي: عبد الله بن عمرو".اهـ.
(4) تقدم تخريجه في (ص163).
(5) قوله: "والله أعلم" ليس في (خ) و (م).
(6) قوله: "قد" ليس في (غ).
(7) في (خ) و (م): "ما دام".
(8) تقدم تخريجه (ص174).
(9) في (خ) و (م): "وأن".
(10) في (خ) و (م): "دائماً".
(11) في (م): "لا يشق"، و"لا" ملحقة.
(12) في (خ): "أدلة" بدل "إدامة".
(13) في (خ) و (م): "وإذا لم".
(14) قوله: "به" ليس في (خ) و (م).
(15) في (غ): "يدوم له على".
(16) في (غ) و (ر): "الترك لا ينتهز".
(17) في (غ): "فيظن".(2/186)
وليس بالتزام. وهذا (1) صحيح، ولاسيما (2) مَعَ سَائِقِ (3) الْخَوْفِ، أَو حَادِي الرَّجَاءِ، أَو حامل المحبة، وهو معنى قوله صلّى الله عليه وسلّم: "وجعلت قرة عيني في الصلاة" (4).
_________
(1) في (غ) و (ر): "وهو".
(2) في (غ) و (ر): "لا سيما".
(3) في (غ) و (ر): "سابق".
(4) روي من حديث أنس والمغيرة، ومن طريق سليمان بن طرخان التيمي وليث بن أبي سليم مرسلاً.
أما حديث أنس، فله عنه ثلاث طرق:
الأول: طريق ثابت البناني، وله عنه أربع طرق:
1 ـ طريق سلام بن سليمان أبي المنذر القارئ.
أخرجه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 128 و199 و285)، ومحمد بن نصر المروزي في "تعظيم قدر الصلاة" (322 و323) و"النسائي (3939)، وأبو يعلى (3482 و3530)، والعقيلي في "الضعفاء" (2/ 160)، والبيهقي في "السنن" (7/ 78)، جميعهم من طريق سلام أبي المنذر، عن ثابت، عن أنس، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: "حبّب إليّ من الدنيا: النساء، والطيب، وجعلت قرّة عيني في الصلاة".
وسلام بن سليمان أبو المنذر القارئ صدوق يهم كما في "التقريب" (2720).
2 ـ طريق جعفر بن سليمان الضُّبعي.
أخرجه النسائي برقم (3940)، والحاكم في "المستدرك" (2/ 160)، كلاهما من طريق سيار بن حاتم العنزي، عن جعفر، عن ثابت، عن أنس، به كسابقه.
قال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه".
وفي سنده سيار بن حاتم العنزي، وهو صدوق له أوهام كما في "التقريب" (2729).
3 ـ طريق سلام بن أبي خبزة.
أخرجه ابن عدي في "الكامل" (3/ 303) من طريقه، عن ثابت وعلي بن زيد، عن أنس، به كسابقه.
قال ابن عدي: "وقد رواه أيضاً عن أنس: سلام أبو المنذر وجعفر بن سليمان الضبعي من رواية سيار عنه، وأما حديث علي بن زيد عن أنس فلا أعرفه إلا من رواية سلام بن أبي خبزة".
وسلام بن أبي خبزة العطار، البصري متروك كما قال النسائي، وقال ابن المديني: "يضع الحديث"، وقال أبو حاتم الرازي: "ليس بقوي، وليس بكذاب"، وقال أبو زرعة: "منكر الحديث"، وقال الساجي: "متروك الحديث، وكان عابداً"، وقال البخاري: "ضعفه قتيبة جداً". انظر ترجمته في الموضع السابق من "الكامل"، و"لسان الميزان" (4/ 59 ـ 60).=(2/187)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
_________
=وقد ذهب الدارقطني إلى إعلال رواية ثابت هذه بالإرسال، فنقل عنه الضياء في "المختارة" (5/ 113) قوله: "رواه سلام أبو المنذر وسلامة بن أبي الصهباء وجعفر بن سليمان، عن ثابت، عن أنس. وخالفهم حماد بن زيد، عن ثابت، مرسلاً. والمرسل أشبه بالصواب".
4 ـ طريق قتادة.
أخرجه النسائي (3941) من طريق إبراهيم بن طهمان، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك قال: "لم يكن شيء أحبّ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد النساء من الخيل".
وهذا متن غير السابق، ولكنه يدل على جزء من الحديث؛ وهو محبة النبي صلّى الله عليه وسلّم للنساء، وقد يكون المذكور في الحديث السابق ـ "النساء والطيب" ـ من جملة ما يحب النبي صلّى الله عليه وسلّم، وليس كل ما يحب، ولذلك ذكر في هذا الحديث الخيل.
وربما أراد النسائي بهذا إعلال أحد الحديثين بالآخر، والله أعلم.
الثاني: طريق إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة.
أخرجه المروزي في "تعظيم قدر الصلاة" (321)، والطبراني في "الأوسط" (5772)، و"الصغير" (741)، والخطيب في "تاريخه" (14/ 190)، جميعهم من طريق يحيى بن عثمان، عن الهقل بن زياد، عن الأوزاعي، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس، به مرفوعاً.
قال الطبراني: "لم يروه عن الأوزاعي إلا الهقل، تفرد به يحيى".
وقال الخطيب: "تفرد برواية هذا الحديث هكذا موصولاً هقل بن زياد، عن الأوزاعي، ولم أره إلا من رواية يحيى بن عثمان عن هقل. وخالفه الوليد بن مسلم، فرواه عن الأوزاعي، عن إسحاق، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم مرسلاً، لم يذكر فيه أنساً"، ثم ساقه بسنده إلى الوليد.
وأخرج الضياء في "المختارة" (1533) هذا الحديث من طريق الطبراني، ونقل قول الطبراني في تفرد هقل عن الأوزاعي، ويحيى بن عثمان عن هقل، ثم تعقبه بقوله: "لم ينفرد به يحيى، فقد رواه عنه عمرو كما قدمنا".
وكان قد قدّم رواية الحديث برقم (1532) من طريق أبي محمد الحسن بن محمد المخلدي بسنده عن عمرو بن هاشم البيروتي، عن هقل، به.
ونقل الضياء أيضاً عن البرديجي أنه أعلّ هذا الحديث بقول: "إنما العلّة من قبل الراوي الذي هو دون الأوزاعي".
وتعقبه الضياء بأنه أعلّ رواية في الصحيحين أو أحدهما غير هذه، وهي من رواية إسحاق عن أنس، وقال إنها منكرة.
وذهب الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله إلى تصحيح هذه الرواية في "الصحيحة"=(2/188)
فلذلك (1) قام صلّى الله عليه وسلّم حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ (2)، وَامْتَثَلَ أَمر رَبِّهِ فِي قوله تعالى:
_________
= (1809)، وذكر إعلال الخطيب البغدادي، وردّه بأمرين:
أـ أن هقل بن زياد زاد الوصل، وزيادة الثقة مقبولة.
ب ـ أنه ـ أي هقل بن زياد ـ في الأوزاعي أوثق من الوليد.
ثم ذكر أقوال الموثقين ليحيى بن عثمان، وذكر متابعة عمرو بن هاشم له عند المخلدي في "الفوائد" (ق290/ 1)، وهي التي رواها الضياء من طريقه كما سبق.
ويحيى بن عثمان الحربي هذا متكلم فيه، وإن وثقه بعض الأئمة، ويظهر أن كلامهم فيه متجه إلى روايات يرويها عن هقل بن زياد وهم فيها، ولذلك قال عنه ابن حجر في "التقريب" (7657): "صدوق تكلموا في روايته عن هقل".
وأما متابعة عمرو بن هاشم له عند المخلدي في "فوائده": فإن عمرو بن هاشم البيروتي متكلم فيه، ولذا يقول عنه الحافظ ابن حجر في "التقريب" (5162): "صدوق يخطئ".
ويمكن أن تتقوى رواية يحيى بن عثمان برواية عمرو بن هاشم لو لم يكن هناك مخالفة، أما مع وجود المخالفة في رواية الأوزاعي له مرسلاً، فلا يتجه كلام الشيخ الألباني في اعتراضه على إعلال الخطيب البغدادي للحديث، بل إعلال هذه الرواية بالإرسال هو الأقوى، وقد أشار لهذا الضياء في نهاية كلامه حيث قال: "وقد رواه الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن إسحاق: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم".
وأما حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: فأخرجه الطبراني في "الكبير" (20/ 420 رقم 1012) من طريق أبي حذيفة، عن سفيان، عن زياد بن علاقة، عن المغيرة بن شعبة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "جعلت قرة عيني في الصلاة".
وسنده ضعيف؛ فيه أبو حذيفة موسى بن مسعود النهدي، وهو صدوق سيئ الحفظ، وكان يصحِّف كما في "التقريب" (7059).
وأما مرسل التيمي وليث: فأخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (7939) من طريق ابن التيمي ـ وهو معتمر بن سليمان ـ، عن أبيه، وعن ليث؛ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "حبب إليّ الطيب والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة".
وسنده ضعيف لإرساله.
هذا ما وجدته من طرق لهذا الحديث، وهي كما ترى لا تخلو طريق منها من مقال، وأحسنها الطريق الأولى لحديث أنس ـ من رواية سلام أبي المنذر وجعفر بن سليمان، عن ثابت، عن أنس ـ، وقد صحح سندها الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (11/ 345)، وحسّنها في "التلخيص الحبير" (1530)، وقال عنها الذهبي في "ميزان الاعتدال" (2/ 177): "وإسناده قوي"، وصححه الشيخ الألباني في الموضع السابق من "الصحيحة"، والله أعلم.
(1) في (غ) و (ر): "فكذلك".
(2) تقدم تخريجه (ص178).(2/189)
{قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً *} (1) الآية، والله أعلم (2).
وَالثَّالِثُ: أَن دُخُولَ المَشَقَّة وَعَدَمَهُ عَلَى المكلَّف فِي الدَّوَامِ أَو غَيْرِهِ لَيْسَ أَمْرًا مُنْضَبِطًا، بل هو إضافي يختلف (3) بِحَسَبِ اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي قوَّة أَجسامهم، أَو فِي (4) قُوَّةِ عَزَائِمِهِمْ، أَو فِي قُوَّةَ يَقِينِهِمْ، أَو نحو ذلك من أَوصاف أَجسامهم وأَنْفُسِهِمْ (5)، فَقَدْ يَخْتَلِفُ الْعَمَلُ الْوَاحِدُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى رَجُلَيْنِ؛ لأَن أَحدهما أَقوى جِسْمًا، أَو أَقوى عَزِيمَةً، أَو يقيناً بالموعود، وَالْمَشَقَّةُ قَدْ تَضْعُفُ بِالنِّسْبَةِ إِلى قُوَّةِ هَذِهِ الأُمور وأَشباهها، وَتَقْوَى (6) مَعَ ضَعْفِهَا.
فَنَحْنُ نَقُولُ: كُلُّ عَمَلٍ يَشُقُّ الدَّوَامُ عَلَى مِثْلِهِ (7) بِالنِّسْبَةِ إِلَى زَيْدٍ فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَلَا يَشُقُّ على عمرو فَلَا يُنْهَى عَنْهُ. فَنَحْنُ نَحْمِلُ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ الأَوّلون مِنَ الأَعمال عَلَى أَنه لَمْ يَكُنْ شَاقًّا عَلَيْهِمْ؛ وإِن كَانَ مَا هُوَ أَقل مِنْهُ شَاقًّا عَلَيْنَا، فَلَيْسَ عَمَلُ مِثْلِهِمْ بِمَا عَمِلُوا بِهِ حُجَّةً لَنَا أَن نَدْخُلَ فيما دخلوا فيه، إلا بشرط أَن يتّحد (8) مَنَاطُ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، وَهُوَ أَن يَكُونَ ذَلِكَ الْعَمَلُ لَا يَشُقُّ الدَّوَامُ عَلَى مثله علينا (9).
وَلَيْسَ كَلَامُنَا فِي هَذَا لِمُشَاهَدَةِ (10) الْجَمِيعِ، فإِن التوسُّط والأَخذ بالرفق (11) هو الأَحرى (12) بِالْجَمِيعِ، وَهُوَ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الأَدلة، دُونَ الإِيغال الَّذِي لَا يَسْهُلُ مِثْلُهُ عَلَى جَمِيعِ الخلق ولا أَكثرهم، بل (13) على القليل النادر منهم.
_________
(1) سورة المزمل: الآية (2).
(2) قوله: "والله أعلم" ليس في (خ) و (م).
(3) في (خ) و (م): "مختلف".
(4) قوله: "في" ليس في (غ) و (ر).
(5) في (م): "وأنفاسهم"، وفي (خ): "أو أنفاسهم".
(6) في (م): "ويقوى".
(7) في (ر) و (غ): "عليه" بدل: "على مثله".
(8) في (خ): "يتمد" وفي (غ) و (ر): "يتخذ".
(9) قوله: "علينا" ليس في (خ) و (م).
(10) في (ر) و (غ): "لشهادة".
(11) في (غ): "بالأفق".
(12) في (خ): "هو الأولى والأحرى".
(13) في (خ): و (م): "إلا" بدل "بل".(2/190)
وَالشَّاهِدُ لِصِحَّةِ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِني لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ، إِني أَبيت عند ربي يطعمني ويسقيني" (1)، يريد صلّى الله عليه وسلّم: أَنه لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ الْوِصَالُ، وَلَا يَمْنَعُهُ عَنْ قضاءِ حَقِّ اللَّهِ وَحُقُوقِ الْخَلْقِ. فَعَلَى هذا: من رُزِقَ أنموذجاً مما أُعطيه صلّى الله عليه وسلّم فَصَارَ يُوغِلُ فِي الْعَمَلِ مَعَ قوَّته وَنَشَاطِهِ وَخِفَّةِ الْعَمَلِ عَلَيْهِ، فَلَا حَرَجَ.
وأَما رَدُّهُ صلّى الله عليه وسلّم عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو (2): فَيُمْكِنُ أَن يَكُونَ شَهِدَ بأَنه لَا يُطِيقُ الدَّوَامَ، وَلِذَلِكَ وَقَعَ لَهُ مَا كَانَ مُتَوقَّعاً، حَتَّى قَالَ: ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَكُونُ عَمَلُ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَابْنِ عُمَرَ (3) وَغَيْرِهِمَا فِي الْوِصَالِ جَارِيًا عَلَى أَنهم أُعطوا حَظًّا مِمَّا أُعطيه رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَصلٍ مَذْكُورٍ فِي كِتَابِ "الْمُوَافَقَاتِ" (4) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي الْعَمَلِ الْمَنْقُولِ عن السلف مخالفة لما سبق.
_________
(1) تقدم تخريجه (ص155).
(2) في (خ) و (م): "عمر".
وانظر تخريج حديث عبد الله بن عمرو هذا وردّ النبي صلّى الله عليه وسلّم عليه (ص157).
(3) تقدم تخريجه (ص179).
(4) انظر: "الموافقات" (2/ 239 ـ 245).(2/191)
فَصْلٌ
لَكِنْ يَبْقَى النَّظَرُ فِي تَعْلِيلِ النَّهْيِ، وأَنه يقتضي انتفاءَه عند انتفاءِ العلَّة، وَمَا ذَكَرُوهُ فِيهِ صَحِيحٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَفِيهِ فِي التَّفْصِيلِ نَظَرٌ. وَذَلِكَ أَن العِلّة رَاجِعَةٌ إِلى أَمرين: أَحدهما: الْخَوْفُ مِنْ الِانْقِطَاعِ والتَّرْك إِذا التزم الدوام (1) فِيمَا يَشُقُّ فِيهِ الدَّوَامُ، وَالْآخَرُ: الْخَوْفُ (2) مِنَ التقصير فيما هو آكَدُ (3) مِنْ حَقِّ اللَّهِ وَحُقُوقِ الْخَلْقِ.
أَما الأَول: فإِن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَصَّل فِيهِ أَصلاً رَاجِعًا إِلى قَاعِدَةٍ مَعْلُومَةٍ لَا مَظْنُونَةٍ، وَهِيَ (4): بَيَانُ أَن الْعَمَلَ الْمُوَرِّثَ لِلْحَرَجِ عِنْدَ الدَّوَامِ مَنْفِيٌّ عَنِ الشَّرِيعَةِ، كَمَا أَن أَصل الْحَرَجِ مَنْفِيٌّ عَنْهَا؛ لأَنه صلّى الله عليه وسلّم بُعِثَ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ (5)، وَلَا سَمَاحَ مَعَ دُخُولِ الحرج. فكل من أَلزم نفسه ما يلقاه (6) فيه الحرج فقد خرج (7) عَنْ الِاعْتِدَالِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَصَارَ إِدْخَالُهُ لِلْحَرَجِ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ تلقاءِ نَفْسِهِ، لَا مِنَ الشَّارِعِ؛ فإِن دَخَلَ فِي الْعَمَلِ عَلَى شَرْطِ الوفاءِ؛ فإِن وفَّى (8) فَحَسَنٌ بَعْدَ الْوُقُوعِ، إِذْ قَدْ ظَهَرَ أَن ذَلِكَ الْعَمَلَ إِما غَيْرُ شَاقٍّ؛ لأَنه قَدْ أَتى بِهِ بِشَرْطِهِ، وإِما شاقٌّ صَبَرَ عَلَيْهِ فَلَمْ يُوَفّ النَّفْسَ حَقَّها مِنَ الرِّفْقِ، وَسَيَأْتِي.
وإِن لَمْ يُوَفّ، فكأَنه نَقَضَ عَهْدَ اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدٌ، فَلَوْ بَقِيَ عَلَى أَصل بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ مِنْ الِالْتِزَامِ لم يدخل عليه ما يُتّقى منه.
_________
(1) قوله: "الدوام" ليس في (خ) و (م).
(2) قوله: "الخوف" ليس (غ).
(3) في (خ): "الآاكد".
(4) في (غ) و (ر): "وهو".
(5) تقدم تخريجه (ص154).
(6) في (خ): "ما يلقى".
(7) في (خ) و (م): "يخرج".
(8) في (غ) و (ر): "فأوفى" بدل "فإن وفى".(2/192)
لَكِنْ لِقَائِلٍ أَن يَقُولَ: إِن النَّهْيَ هَاهُنَا مُعَلَّل (1) بِالرِّفْقِ الرَّاجِعِ إِلى الْعَامِلِ؛ كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله تعالى عنها: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة بهم" (2)، فكأَنه قَدِ اعْتَبَرَ حَظّ النَّفْسِ فِي التعبُّد، فَقِيلَ لَهُ: افْعَلْ وَاتْرُكْ؛ أَي: لَا تَتَكَلَّفْ ما يشق عليك، كما لم تُكلّف (3) فِي الْفَرَائِضِ مَا يَشُقُّ عَلَيْكَ؛ لأَن اللَّهَ إِنما وَضَعَ الْفَرَائِضَ عَلَى الْعِبَادِ عَلَى وجهٍ مِنَ التَّيْسِيرِ مُشْتَرَك لِلْقَوِيِّ (4) وَالضَّعِيفِ، وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَالْحُرِّ وَالْعَبْدِ، وَالرَّجُلِ والمرأَة، حَتَّى إِذَا كَانَ بعض الفرائض يُدْخِل الحرج على المُكَلّف أُسقط (5) عَنْهُ جُمْلَةً أَو عُوِّض (6) عَنْهُ مَا لَا حَرَجَ فِيهِ، كَذَلِكَ النَّوَافِلُ المتكلَّم فِيهَا.
وإِذا رُوعِيَ حَظُّ النَّفْسِ: فَقَدْ صَارَ الأَمر فِي الإِيغال إِلى الْعَامِلِ، فَلَهُ أَن لَا يمكِّنها مِنْ حظِّها، وأَن (7) يَسْتَعْمِلَهَا (8) فِيمَا قَدْ يَشُقُّ عَلَيْهَا بِالدَّوَامِ، بِنَاءً عَلَى الْقَاعِدَةِ الْمُؤَصَّلَةِ فِي أُصول "الْمُوَافَقَاتِ" (9) فِي إِسقاط الْحُظُوظِ، فَلَا يَكُونُ إِذاً مَنْهِيًّا ـ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ ـ. فَكَمَا يَجِبُ عَلَى الإِنسان حَقٌّ لِغَيْرِهِ مَا دَامَ طَالِبًا لَهُ، وَلَهُ الخِيرة فِي تَرْكِ الطَّلَبِ بِهِ فَيَرْتَفِعُ الْوُجُوبُ، كَذَلِكَ جاءَ النَّهْيُ حِفْظًا عَلَى حظوظ النفوس (10)، فَإِذَا أَسقطها صَاحِبُهَا زَالَ النَّهْيُ، وَرَجَعَ الْعَمَلُ إِلى أَصل النَّدْبِ.
وَالْجَوَابُ: أَن حُظُوظَ النُّفُوسِ بِالنِّسْبَةِ إِلى الطَّلَبِ بِهَا قَدْ يُقَالُ: إِنه مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ، وَقَدْ يُقَالُ: إِنه من حقوق العباد. فإِن قلنا: إِنه
_________
(1) في (خ): "معلق".
(2) في (خ) و (م): "رحمة لهم".
وحديث عائشة هذا أخرجه البخاري (1964)، ومسلم (1105).
(3) في (خ): "كما تتكلف".
(4) في (خ): "يشترك فيه القوي".
(5) في (خ): "يسقط".
(6) في (خ): "يعوض".
(7) قوله: "وأن" ليس في (غ) و (ر).
(8) في (غ) و (ر): "ويستعملها".
(9) انظر: "الموافقات" (1/ 233 وما بعدها)، و (1/ 357 وما بعدها)، و (2/ 251 وما بعدها).
(10) في (خ): "النفس".(2/193)
من حقوق الله (1) فَلَا يَنْهَضُ مَا قُلْتُمْ؛ إِذ لَيْسَ للمكلَّف خِيَرَةٌ فِيهِ. فَكَمَا أَنه مُتعبَّد بِالرِّفْقِ بِغَيْرِهِ، كَذَلِكَ هُوَ مكلَّفٌ بِالرِّفْقِ بِنَفْسِهِ، وَدَلَّ عَلَى ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم (2): "إِن لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ... " (3)، إِلى آخَرِ الْحَدِيثِ. فَقَرَنَ حَقَّ النَّفْسِ بِحَقِّ الْغَيْرِ فِي الطَّلَبِ فِي (4) قَوْلِهِ: "فأَعط كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ"، ثُمَّ جَعَلَ ذَلِكَ حَقًّا مِنَ الْحُقُوقِ.
وَلَا يُطلق هَذَا اللَّفْظُ إِلا عَلَى مَا كَانَ لَازِمًا. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ: أَنه لَا يَحِلُّ للإِنسان أَن يُبِيحَ لِنَفْسِهِ وَلَا لِغَيْرِهِ دَمَهُ، وَلَا قَطْعَ طرفٍ مِنْ أَطرافه، وَلَا إِيلامه بشيءٍ مِنَ الْآلَامِ. وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَثِمَ وَاسْتَحَقَّ الْعِقَابَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ.
وإِن قُلْنَا: إِنه مِنْ حَقِّ الْعَبْدِ وَرَاجِعٌ إِلى خِيَرَتِهِ، فَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى الإِطلاق؛ إِذ قَدْ تَبَيَّنَ فِي الأُصول أَن حُقُوقَ الْعِبَادِ لَيْسَتْ مُجَرَّدَةً مِنْ حَقِّ اللَّهِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ ـ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ـ: أَنه لَوْ كَانَ إِلى خِيَرَتِنَا بإِطلاق لَمْ يَقَعِ النَّهْيُ فِيهِ عَلَيْنَا، بَلْ كُنَّا نُخَيَّر فيه ابتداءً، وإلى ذلك؛ فإِنه لو كان لخِيرَةِ (5) المُكَلَّفِ مَحْضاً؛ لجاز للناذر لِعِبَادةٍ (6) أَن يَتْرُكَهَا مَتَى شاءَ وَيَفْعَلَهَا مَتَى شاءَ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الأَئمة عَلَى وُجُوبِ الوفاءِ بِالنَّذْرِ، فيجري ما أَشبهه (7) مَجْرَاهُ. وأَيضاً فَقَدْ فَهِمْنَا مِنَ الشَّرْعِ أَنه حبَّب إِلينا الإِيمان وزيَّنه فِي قُلُوبِنَا، وَمِنْ جُمْلَةِ التَّزْيِينِ: تَشْرِيعُهُ عَلَى وجهٍ يُستحسن الدُّخُولُ فِيهِ، وَلَا يَكُونُ هَذَا مَعَ شَرْعِيَّةِ الْمَشَقَّاتِ. وإِذا كَانَ الإِيغال فِي الأَعمال مِنْ شأْنه فِي الْعَادَةِ أَن يُورثَ الكَلَلَ (8) وَالْكَرَاهِيَةَ وَالِانْقِطَاعَ ـ الذي هو كالضِّدّ لتحبيب الإِيمان
_________
(1) قوله: "فإن قلنا: إنه من حقوق الله" سقط من (خ) و (م).
(2) تقدم تخريجه (ص157).
(3) قوله: "حقاً" ليس في (م).
(4) في (غ) و (ر): "الذي هو" بدل "في".
(5) في (خ): "بخيرة".
(6) في (خ): "العبادة".
(7) في (خ): "ما أشبه".
(8) في (غ) و (ر): "الكلال".(2/194)
وَتَزْيِينِهِ فِي الْقُلُوبِ (1) ـ، كَانَ مَكْرُوهًا؛ لأَنه عَلَى خِلَافِ وَضْعِ الشَّرِيعَةِ، فَلَمْ يَنْبَغِ أَن يَدْخُلَ فِيهِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ.
وأَما (2) الثَّانِي: فإِن الْحُقُوقَ المتعلِّقة بالمكلَّف عَلَى أَصناف كَثِيرَةٍ، وأَحكامها تَخْتَلِفُ حَسْبَمَا تُعْطِيهِ أُصول الأَدلة، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنه إِذَا تَعَارَضَ عَلَى المكلَّف حَقَّان وَلَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِ مَا هُوَ آكَدُ فِي مُقْتَضَى الدَّلِيلِ. فَلَوْ تَعَارَضَ عَلَى الْمُكَلَّفِ وَاجِبٌ وَمَنْدُوبٌ لقُدِّم الْوَاجِبَ عَلَى الْمَنْدُوبِ، وَصَارَ الْمَنْدُوبُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ غَيْرَ مَنْدُوبٍ، بَلْ صَارَ واجبَ التَّرْكِ عَقْلًا أَو شَرْعًا؛ مِنْ بَابِ "مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ".
وإِذا صَارَ وَاجِبَ التَّرْكِ، فَكَيْفَ يَصِيرُ الْعَامِلُ بِهِ إِذ ذَاكَ متعبِّداً لله (3) به، بل هو متعبد بمطلوب الترك في الجملة، فأَشبه التعبد بالبدعة من هذا الوجه، ولكنه مع ذلك مُتَعَبِّدٌ (4) بِمَا هُوَ مَطْلُوبٌ فِي أُصول الأَدلة؛ لأَن دليل الندب عتيد، ولكنه عرض فيه (5) بالنسبة إِلى هذا المتعبّد (6) مَانِعٌ مِنَ الْعَمَلِ بِهِ، وَهُوَ حُضُورُ الْوَاجِبِ، فإِن عَمِلَ بِالْوَاجِبِ فَلَا حَرَجَ فِي تَرْكِ الْمَنْدُوبِ عَلَى الْجُمْلَةِ، إِلا أَنه غَيْرُ مُخْلِصٍ مِنْ جِهَةِ ذَلِكَ الِالْتِزَامِ الْمُتَقَدِّمِ، وَقَدْ مَرَّ مَا فِيهِ. وإِن عَمِلَ بِالْمَنْدُوبِ عَصَى بِتَرْكِ الواجب.
ويبقى (7) النظر في المندوب: هل وقع موقعه من النَّدْبِ أَم لَا؟ فإِن قُلْنَا (8): إِن تَرْكَ الْمَنْدُوبِ هُنَا وَاجِبٌ عَقْلًا، فَقَدْ يَنْهَضُ الْمَنْدُوبُ سَبَبًا لِلثَّوَابِ مَعَ مَا فِيهِ؛ مِنْ كَوْنِهِ مَانِعًا مِنْ أَداءِ الْوَاجِبِ. وإِن قُلْنَا (9): إِنه وَاجِبٌ شَرْعًا، بَعُدَ مِنَ انْتِهَاضِهِ سَبَبًا لِلثَّوَابِ إِلا عَلَى وَجْهٍ مَا، وَفِيهِ أَيضاً مَا فِيهِ.
فأَنت تَرَى مَا فِي الْتِزَامِ النَّوَافِلِ على كل تقدير فُرِضَ (10) إِذا كان
_________
(1) علق عليه رشيد رضا بقوله: جواب "وإذا كان الإيغال" إلخ. اهـ.
(2) قوله: "وأما" في مكانه بياض في (غ).
(3) في (غ) و (ر): "إليه" بدل "لله".
(4) من قوله: "بمطلوب الترك" إلى هنا سقط من (خ) و (م).
(5) في (خ) و (م): "مع ذلك" بدل "عرض فيه".
(6) في (خ) و (م): "التعبد".
(7) في (خ) و (م): "وبقي".
(8) في (خ): "قلت".
(9) علق رشيد رضا هنا بقوله: المناسب للشق الأول من الترديد: "وإن قلت".اهـ.
(10) في (خ): "فرضاً".(2/195)
مؤدِّياً لِلْحَرَجِ (1)، وَهَذَا كُلُّهُ إِذا كَانَ الِالْتِزَامُ صَادًّا عَنِ الوفاءِ بِالْوَاجِبَاتِ مُبَاشَرَةً، قَصْدًا أَو غَيْرَ قَصْدٍ، وَيَدْخُلُ فِيهِ مَا فِي حَدِيثِ سَلْمَانَ مَعَ أَبي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (2)، إِذ كَانَ الْتِزَامُ قِيَامِ اللَّيْلِ مَانِعًا له من أَداءِ حَقِّ (3) الزَّوْجَةِ؛ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَكَذَلِكَ الْتِزَامُ صِيَامِ النَّهَارِ.
وَمِثْلُهُ لَوْ كَانَ الْتِزَامُ صَلَاةِ الضُّحَى أَو غَيْرِهَا مِنَ النَّوَافِلِ مُخِلاًّ بقيامه على مريضه المُشْرِف، أَو القيام (4) على إِعانة أَهله بِالْقُوتِ، أَو مَا أَشبه (5) ذَلِكَ. وَيَجْرِي مَجْرَاهُ ـ وإِن لَمْ يَكُنْ فِي رُتْبَتِهِ ـ: أَن لَوْ كَانَ ذَلِكَ الِالْتِزَامُ يُفْضِي بِهِ إِلى ضَعْفِ بَدَنِهِ، أَو نَهْكِ (6) قُوَاهُ، حَتَّى لَا يقدر على الاكتساب على أَهله (7)، أَو أَداءِ فَرَائِضِهِ عَلَى وَجْهِهَا، أَو الْجِهَادِ، أَو طَلَبِ الْعِلْمِ، كَمَا نَبَّه عَلَيْهِ حَدِيثُ داود عليه السلام (8): أَنه كان يصوم يوما وَيُفْطِرُ يَوْمًا (9)، وَلَا يَفِرُّ إِذا لَاقَى.
وَقَدْ جاءَ فِي مَفْرُوضِ الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ مِنَ التَّخْيِيرِ مَا جاءَ، ثُمَّ إِن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عَامَ الْفَتْحِ: "إِنكم قَدْ دَنَوْتُمْ مِنْ عدوِّكم، وَالْفِطْرُ أَقوى لَكُمْ". قَالَ أَبو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فأَصبحنا مِنَّا الصَّائِمُ وَمِنَّا الْمُفْطِرُ. قَالَ: ثُمَّ سِرْنَا فَنَزَلْنَا مَنْزَلًا، فَقَالَ: "إِنكم تصبِّحون عدوَّكم وَالْفِطْرُ أَقوى لَكُمْ، فأَفطروا". قَالَ: فَكَانَتْ عَزِيمَةً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (10).
وَهَذِهِ إِشارة إِلى أَن الصِّيَامَ رُبَّمَا أَضعف عَنْ مُلَاقَاةِ الْعَدُوِّ وَعَمَلِ الْجِهَادِ، فَصِيَامُ النفل أَولى بهذا الحكم.
_________
(1) في (ر) و (غ): "إلى الحرج".
(2) تقدم تخريجه (ص166).
(3) في (خ) و (م): "حقوق".
(4) في (خ): "والقيام".
(5) في (غ) و (ر): "وما أشبه".
(6) في (غ) و (ر): "ونهك".
(7) في (خ): "لأهله".
(8) تقدم تخريجه (ص157).
(9) قوله: "يوماً" الثاني سقط من (خ).
(10) أخرجه مسلم (1120) من حديث أبي سعيد.(2/196)
وعن (1) جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأَى رَجُلًا يُظَلَّل عَلَيْهِ، وَالزِّحَامُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: "لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ" (2)؛ يَعْنِي: أَن الصِّيَامَ فِي السَّفَرِ وإِن كان واجباً، ليس بِرّاً (3)، إِذا بلغ به الإِنسان إلى (4) ذَلِكَ الْحَدَّ، مَعَ وُجُودِ الرُّخْصَةِ. فَالرُّخْصَةُ إِذاً مَطْلُوبَةٌ فِي مِثْلِهِ، بِحَيْثُ تَصِيرُ بِهِ (5) آكَدَ مِنْ أَداءِ الْوَاجِبِ، فَمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ فِي أَصله أَولى.
فَالْحَاصِلُ (6) أَن كُلَّ (7) مَنْ أَلزم نَفْسَهُ شَيْئًا يَشُقُّ عَلَيْهِ (8)، فَلَمْ يأْت طَرِيقَ البِرِّ على حَدِّه.
_________
(1) قوله: "وعن" في موضعه بياض في (غ).
(2) أخرجه البخاري (1946)، ومسلم (1115).
(3) في (خ) و (م): "ليس برّاً في السفر".
(4) قوله: "إلى" ليس في (خ) و (م).
(5) قوله: "به" ليس في (غ) و (ر).
(6) في (غ) و (ر): "فحصل".
(7) قوله: "كل" ليس في (غ) و (ر)، وقوله: "أن كل" ملحق في (م).
(8) علق رشيد رضا هنا بقوله: جملة "يشق عليه" خبر إن، بمعنى: أن الإلزام يستتبع المشقة دائماً، ولكن تقدم ما ينافي الكلية. وقوله: "فلم يأت" إلخ: عطف للماضي على المستقبل، ولعل في العبارة تحريفاً. اهـ.(2/197)
فَصْلٌ
إِذا ثَبَتَ مَا تَقَدَّمَ وَرَدَ الإِشكال الثَّانِي: وَهُوَ أَن الْتِزَامَ النَّوَافِلِ الَّتِي يَشُقُّ الْتِزَامُهَا مُخَالَفَةٌ لِلدَّلِيلِ، وإِذا خَالَفَتْ فَالْمُتَعَبِّدُ بِهَا على ذلك التَّقْدِيرِ مُتَعَبِّدٌ بِمَا لَمْ يُشْرَعْ، وَهُوَ عَيْنُ الْبِدْعَةِ. فإِما أَن تَنْتَظِمَهَا أَدلة ذَمِّ الْبِدْعَةِ، أَو لَا؟ فإِن انْتَظَمَتْهَا أَدلة الذَّمِّ، فَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ لأَمرين:
أَحدهما: أَن رَسُولَ اللَّهِ (ص) لَمَّا كَرِهَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو (1) مَا كره فقال (2) لَهُ (3): إِني أُطيق أَفضل مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ (4) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا أَفضل مِنْ ذَلِكَ"، تَرَكَهُ بَعْدُ عَلَى الْتِزَامِهِ. وَلَوْلَا أَن عبد الله بن عمرو (5) فَهِمَ مِنْهُ بَعْدَ نَهْيِهِ الإِقرار عَلَيْهِ لَمَا الْتَزَمَهُ وَدَاوَمَ (6) عَلَيْهِ، حَتَّى قَالَ: لَيْتَنِي قَبِلْتُ رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم! فَلَوْ قُلْنَا: إِنها (7) بِدْعَةٌ ـ وَقَدْ ذُمَّ كُلُّ بِدْعَةٍ عَلَى الْعُمُومِ ـ، لَكَانَ مُقِرّاً لَهُ عَلَى خطإٍ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، كَمَا أَنه لَا يَنْبَغِي أَن يُعْتَقَدَ فِي الصَّحَابِيِّ أَنه خَالَفَ أَمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قَصْدًا لِلتَّعَبُّدِ بِمَا نَهَاهُ عَنْهُ. فَالصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَتقى لِلَّهِ مِنْ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ مَا ثَبَتَ عَنْ غَيْرِهِ (8) مِنْ وِصَالِ الصِّيَامِ وأَشباهه. وإِذا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يُمْكِنْ أَن يقال: إِنها بدعة.
والثاني (9): أَن الْعَامِلَ بِهَا دَائِمًا بِشَرْطِ الوفاءِ إِن الْتَزَمَ الشرط فأَداها
_________
(1) في (م): "عمر". وحديث عبد الله بن عمرو هذا تقدم (ص 157 ـ 158).
(2) في (خ): "وقال".
(3) قوله: "له" ليس في (غ) و (ر).
(4) في (خ): "فقال له".
(5) قوله: "بن عمرو" ليس في (خ) و (م).
(6) في (غ) و (ر): "ودام".
(7) في (ر) و (غ): "إنه".
(8) يعني: عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم، وتقدم تخريج حديثيهما (ص179 ـ 180).
(9) في (خ) و (م): "الثاني".(2/198)
عَلَى وَجْهِهَا فَقَدْ حَصَلَ مَقْصُودُ الشَّارِعِ، فَارْتَفَعَ النَّهْيُ إِذاً، فَلَا مُخَالَفَةَ لِلدَّلِيلِ، فَلَا ابْتِدَاعَ. وإِن لم يلتزم أَداءَها، فإِن كان باختياره (1) فَلَا إِشكال فِي الْمُخَالَفَةِ الْمَذْكُورَةِ؛ كالنَّاذِرِ (2) يَتْرُكُ المنذور (3) من غير (4) عُذْرٍ، وَمَعَ (5) ذَلِكَ فَلَا يُسَمَّى تَرْكُهُ بِدْعَةً، ولا عمله في وقت العمل بدعة، فلا (6) يُسَمَّى بِالْمَجْمُوعِ (7) مُبْتَدِعًا. وإِن كَانَ لعارضٍ (8) ـ مرضٍ أَو غَيْرِهِ مِنَ الأَعذار ـ، فَلَا نُسَلِّم (9) أَنه مُخَالِفٌ، كَمَا لَا يَكُونُ مُخَالِفًا فِي الْوَاجِبِ إِذا عَارَضَهُ فِيهِ عَارِضٌ؛ كَالصِّيَامِ لِلْمَرِيضِ، وَالْحَجِّ لِغَيْرِ الْمُسْتَطِيعِ، فَلَا ابْتِدَاعَ إِذاً.
وأَما إِن لَمْ تَنْتَظِمْهَا (10) أَدلة الذَّمِّ، فَقَدْ ثَبَتَ أَن مِنْ أَقسام الْبِدَعِ مَا لَيْسَ بِمَنْهِيٍّ عَنْهُ (11)، بَلْ هُوَ مِمَّا يُتَعَبَّد بِهِ، وَلَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ وَلَا غَيْرِهَا مِمَّا لَهُ أَصل عَلَى الْجُمْلَةِ. وَحِينَئِذٍ يَشْمَلُ هَذَا الأَصل كُلَّ مُلْتَزَمٍ تعبُّديٍّ، كَانَ لَهُ أَصل أَم لا؟ لكن بحيث (12) يَكُونُ لَهُ أَصل عَلَى الْجُمْلَةِ، لَا عَلَى التَّفْصِيلِ؛ كَتَخْصِيصِ لَيْلَةِ مَوْلِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِيَامِ فِيهَا، وَيَوْمِهِ بِالصِّيَامِ، أَو بِرَكَعَاتٍ مَخْصُوصَةٍ، وَقِيَامِ ليلةِ أَول جُمُعَةٍ مِنْ رَجَبٍ، وَلَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، وَالْتِزَامِ الدعاءِ جهراً بآثار الصلوات مع انتصاب الإِمام لذلك (13)، وما أَشبه ذلك مما له أَصل جُمليّ (14)، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَنْخَرِمُ كُلُّ مَا تَقَدَّمَ تأْصيله.
والجواب عن الأَول ـ أَي (15) الإِقرار (16) ـ: صَحِيحٌ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَن يَجْتَمِعَ (17) مَعَ نهي (18) الْإِرْشَادُ لأَمر خَارِجِيٍّ؛ فإِن النَّهْيَ لَمْ يَكُنْ لأَجل
_________
(1) في (خ) و (م): "باختيار".
(2) في (م): "فالناذر"، وأشار بهامش (خ) إلى أنه كذلك في نسخة.
(3) في (خ) و (م): "المندوب".
(4) في (خ): "بغير".
(5) في (ر) و (غ): "وقع" بدل "ومع".
(6) في (خ): "ولا".
(7) في (خ): "بالجموع".
(8) في (غ) و (ر): "العارض".
(9) في (ر) و (غ): "فلا يسلم".
(10) في (غ) و (ر): "ينتظمها".
(11) قوله: "عنه" ليس في (خ).
(12) في (خ): "فحيث".
(13) قوله: "لذلك" ليس في (خ) و (م).
(14) في (خ): "جلي".
(15) في (م): "أن" بدل "أي".
(16) قوله: "أي الإقرار" ليس في (غ) و (ر).
(17) أي: الإقرار.
(18) في (خ): "النهي".(2/199)
خَلَلٍ فِي نَفْسِ الْعِبَادَةِ، وَلَا فِي رُكْنٍ مِنْ أَركانها، وإِنما كَانَ لأَجل الْخَوْفِ مِنْ أَمر متوقَّع؛ كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا: إِن النَّهْيَ عَنِ الْوِصَالِ إِنما كان رحمة بالأُمّة، وَقَدْ وَاصَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْ تَبِعَهُ فِي الْوِصَالِ (1) كالمنكِّل (2) بِهِمْ (3)، وَلَوْ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ بِالنِّسْبَةِ إِليهم لَمَا فعل (4).
فانظروا (5) كَيْفَ اجْتَمَعَ فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ كَوْنُهُ عِبَادَةً وَمَنْهِيًّا عَنْهُ، لَكِنْ بِاعْتِبَارَيْنِ. وَنَظِيرُهُ فِي الْفِقْهِيَّاتِ: مَا يَقُولُهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ فِي الْبَيْعِ بَعْدَ نداءِ الْجُمُعَةِ، فإِنه نُهِيَ عَنْهُ (6)، لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ بَيْعًا، بَلْ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مَانِعًا مِنْ حُضُورِ الْجُمُعَةِ، فَيُجِيزُونَ الْبَيْعَ بعد الوقوع، ولا يجعلونه (7) فَاسِدًا، وإِن وُجِدَ التَّصْرِيحُ بِالنَّهْيِ فِيهِ، لِلْعِلْمِ بأَن النَّهْيَ لَيْسَ بِرَاجِعٍ إِلى نَفْسِ الْبَيْعِ، بل إِلى أَمر يجاوره، ولذلك يعلل جماعة ممن قال (8) بفسخ البيع بأَنه (9) زَجْرٌ لِلْمُتَبَايِعَيْنِ، لَا لأَجل النَّهْيِ عَنْهُ، فَلَيْسَ عِنْدَ هَؤُلَاءِ بِبَيْعٍ فَاسِدٍ أَيضاً، وَلَا النَّهْيُ رَاجِعٌ إِلى نَفْسِ الْبَيْعِ.
فالأَمر بِالْعِبَادَةِ شيءٌ، وَكَوْنُ المكلَّف يُوفِي بِهَا أَوْ لَا شيءٌ آخَرُ. فَإِقْرَارُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبد الله بن عمرو (10) رضي الله عنهما عَلَى مَا الْتَزَمَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ مَا الْتَزَمَ (11)، وَنَهْيُهُ إِيّاه ابْتِدَاءً لَا يَدُلُّ عَلَى الْفَسَادِ، وإِلا لَزِمَ التَّدَافُعُ، وَهُوَ مُحَالٌ. إِلا أَن هَاهُنَا نَظَرًا (12) آخَرَ، وَهُوَ: أَن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَارَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ كَالْمُرْشِدِ للمكلَّف، وكالمتبرِّع (13) بِالنَّصِيحَةِ عِنْدَ
_________
(1) من قوله: "إنما كان رحمة" إلى هنا سقط من (خ).
(2) في (خ): "كالتنكيل".
(3) تقدم تخريجه (ص193).
(4) في (ر) و (غ): "فصل".
(5) في (خ): "فانظر".
(6) قوله: "عنه" ليس في (غ) و (م) و (ر).
(7) في (خ) و (م): "ويجعلونه".
(8) في (خ): "يقول".
(9) في (غ): "فإنه"، وأثبتها رشيد رضا في طبعته: "لأنه"، ثم استشكل العبارة، فعلق على قوله: "للمتبايعين" فقال: "هذا نص نسختنا فليتأمل! ".اهـ، مع أن الذي في نسخة (خ) ـ التي اعتمدها رشيد رضا ـ: "بأنه" كما هنا!.
(10) في (خ) و (م): "فَإِقْرَارُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ عمر".
(11) قوله: "دليل على صحة ما التزم" سقط من (خ).
(12) في (خ): "نظر".
(13) في (خ): "وكالمبتدع".(2/200)
وُجُودِ مَظِنَّة الِاسْتِنْصَاحِ، فَلَمَّا اتَّكل (1) المكلَّف عَلَى اجْتِهَادِهِ دُونَ نَصِيحَةِ النَّاصِحِ الأَعرف بِعَوَارِضِ النُّفُوسِ، صَارَ كَالْمُتَّبِعِ لرأْيه مَعَ وُجُودِ النَّصِّ، وإِن كَانَ (2) بتأْويل، فإِن سُمِّيَ فِي اللَّفْظِ بِدْعَةً فَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وإِلا فَهُوَ مُتَّبِعٌ لِلدَّلِيلِ الْمَنْصُوصِ مِنْ صَاحِبِ النَّصِيحَةِ، وَهُوَ الدَّال عَلَى الِانْقِطَاعِ إِلى اللَّهِ تَعَالَى بِالْعِبَادَةِ.
وَمِنْ هُنَا قِيلَ فِيهَا: إِنها بِدْعَةٌ إِضافية لَا حَقِيقِيَّةٌ، وَمَعْنَى كَوْنِهَا إِضافية: أَن الدَّلِيلَ فِيهَا مَرْجُوحٌ بِالنِّسْبَةِ إِلى من (3) يَشُقُّ عَلَيْهِ الدَّوَامُ (4) عَلَيْهَا، وَرَاجِحٌ بِالنِّسْبَةِ إِلى مَنْ وفَّى (5) بِشَرْطِهَا، وَلِذَلِكَ وفَّى (5) بِهَا عَبْدُ الله بن عمرو (6) رضي الله عنهما بعد ما ضَعُفَ، وإِن دَخَلَ عَلَيْهِ فِيهَا بَعْضُ الْحَرَجِ، حَتَّى تَمَنّى قَبُولَ الرُّخْصَةِ، بِخِلَافِ الْبِدْعَةِ الْحَقِيقِيَّةِ، فإِن الدَّلِيلَ عَلَيْهَا مَفْقُودٌ حَقِيقَةً، فَضْلًا عَنْ أَن يَكُونَ مَرْجُوحًا. فَهَذِهِ المسأَلة تُشْبِهُ مسأَلة خطإِ الْمُجْتَهِدِ، فَالْقَوْلُ فِيهِمَا (7) مُتَقَارِبٌ، وسيأْتي الْكَلَامُ فيها إِن شاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وأَما قَوْلُ السَّائِلِ فِي الْإِشْكَالِ: إِنِ الْتَزَمَ الشَّرْطَ فأَدَّى الْعِبَادَةَ عَلَى وَجْهِهَا ... ، إِلى آخِرِهِ، فَصَحِيحٌ، إِلا (8) قَوْلَهُ (9): "إِن (10) تَرَكَهَا لِعَارِضٍ فَلَا حَرَجَ كَالْمَرِيضِ"، فإِن مَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ ثمَّ قِسْمٌ آخَرُ، وَهُوَ: أَن يَتْرُكَهَا بسببٍ تسبَّبَ هُوَ فيه، وإِن ظهر أَنه ليس من سببه. فإِن تارك الْجِهَادِ ـ مَثَلًا ـ بِاخْتِيَارِهِ مُخَالَفَةٌ ظَاهِرَةٌ، وتَرْكَه لِمَرَضٍ ونَحْوِهِ (11) لَا مُخَالَفَةَ فِيهِ. فإِن عَمِلَ فِي سبب يُلْحِقُهُ عادة بالمرضى، حَتَّى لَا يَقْدِرَ عَلَى الْجِهَادِ، فَهَذِهِ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ؛ فَمِنْ حَيْثُ تَسَبُّبُهُ فِي الْمَانِعِ لا يكون
_________
(1) في (خ): "تكلف".
(2) في (غ) و (ر): "كانت".
(3) في (خ): "بالنسبة لمن".
(4) في (غ): "الدليل".
(5) في (ر) و (غ): "أوفى"، وكانت هكذا في (م) ثم صوّبت.
(6) في (خ) و (م): "عمر".
(7) في (غ) و (ر): "فيها".
(8) في (ر) و (غ): "إلى" بدل" "إلا".
(9) يعني في الإشكال المتقدم (ص198).
(10) في (خ): "فإن".
(11) في (خ): "أو نحوه".(2/201)
مَحْمُودًا عَلَيْهِ، وَهُوَ نَظِيرُ الْإِيغَالِ فِي الْعَمَلِ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ فِي كَرَاهِيَةِ الْعَمَلِ، أَو في (1) التقصير عن (2) الْوَاجِبِ، وَهَذَا الْمُكَلَّفُ قَدْ خَالَفَ النَّهْيَ. وَمِنْ حيث وقع له الحرج المانع في العادة (3) من أَداء العبادة (4) عَلَى وَجْهِهَا قَدْ يَكُونُ مَعْذُورًا. فَصَارَ هُنَا نَظَرٌ بَيْنَ نَظَرَيْنِ لَا يتخلَّص مَعَهُ الْعَمَلُ إِلى وَاحِدٍ مِنْهُمَا.
وأَما قَوْلُهُ: ثَبَتَ أَن مِنْ أَقسام الْبِدَعِ مَا لَيْسَ بِمَنْهِيٍّ (5) عَنْهُ، فليس كما قال؛ وذلك أَن المندوب مِنْ حَيْثُ هُوَ مَنْدُوبٌ يُشْبِهُ الْوَاجِبَ مِنْ جِهَةِ مُطْلَقِ الأَمر، وَيُشْبِهُ الْمُبَاحَ مِنْ جِهَةِ رفع الحرج عن (6) التارك، فهو واسطة بين الطرفين لا يتخلَّص (7) إِلى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، إِلا أَن قَوَاعِدَ الشَّرْعِ شَرَطَتْ فِي نَاحِيَةِ الْعَمَلِ شَرْطًا، كَمَا شَرَطَتْ فِي نَاحِيَةِ تَرْكِهِ شَرْطًا، فَشَرْطُ الْعَمَلِ بِهِ أَن لَا يَدْخُلَ فِيهِ مُدْخَلًا يُؤَدِّيهِ إِلى الْحَرَجِ المؤَدّي إِلى انْخِرَامِ النَّدْبِ فِيهِ رأْساً، أَو انْخِرَامِ مَا هُوَ أَوْلَى مِنْهُ، وَمَا وراءَ هَذَا مَوْكُولٌ إِلى خِيَرَةِ المكلَّف، فإِذا دَخَلَ فِيهِ فَلَا يَخْلُو أَن يَدْخُلَ فِيهِ عَلَى قَصْدِ انْخِرَامِ الشَّرْطِ أَوْ لَا، فإِن كَانَ كَذَلِكَ، فَهُوَ الْقِسْمُ الَّذِي يأْتي إِن شاءَ الله، وحاصله أَن الشارع طلبه (8) بِرَفْعِ الْحَرَجِ، وَهُوَ يُطَالِبُ نَفْسَهُ بِوَضْعِهِ، وإِدخاله عَلَى نَفْسِهِ، وَتَكْلِيفِهَا مَا لَا يُسْتَطَاعُ، مَعَ زِيَادَةِ الإِخلال بِكَثِيرٍ مِنَ الْوَاجِبَاتِ وَالسُّنَنِ الَّتِي هِيَ أَولى مِمَّا دَخَلَ فِيهِ، وَمَعْلُومٌ أَن هَذِهِ (9) بِدْعَةٌ مَذْمُومَةٌ.
وإِن دَخَلَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ الْقَصْدِ، فَلَا يَخْلُو أَن يَجْرِيَ الْمَنْدُوبُ عَلَى مَجْرَاهُ أَوْ لَا، فإِن أَجراه كَذَلِكَ بأَن يَفْعَلَ مِنْهُ (10) مَا اسْتَطَاعَ إِذا وَجَدَ نَشَاطًا، وَلَمْ يُعَارِضْهُ مَا هُوَ أَولى مِمَّا دخل فيه (11)، فهذا هو (12) محض
_________
(1) قوله: "في" ليس في (خ).
(2) في (خ): "على" بدل "عن".
(3) في (خ) و (م): "العبادة".
(4) في (خ): "من أدائها".
(5) في (غ): "منهي".
(6) في (خ): "على" بدل "عن".
(7) في (خ): "لا يتخلى".
(8) علق رشيد رضا هنا بقوله: كذا! ولعله: "طالبه".اهـ.
(9) في (ر) و (غ): "هذا".
(10) في (م): "منهما".
(11) قوله: "مما دخل فيه" من (خ) فقط.
(12) في (خ) و (م): "فهو" بدل "فهذا هو".(2/202)
السُّنَّةِ الَّتِي لَا مَقَالَ فِيهَا؛ لِاجْتِمَاعِ الأَدلة عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ الْعَمَلِ، إِذ قَدْ أُمر، فَهُوَ غَيْرُ تَارِكٍ، وَنُهِيَ عَنِ الْإِيغَالِ وإِدخال الْحَرَجِ، فَهُوَ مُتَحَرِّز، فَلَا إِشكال فِي صِحَّتِهِ، وهو كان (1) شأْنَ القرن (2) الأَول وما بعده (3)، وإِن لَمْ يُجْرِهِ عَلَى مَجْراه، وَلَكِنَّهُ أَدخل فِيهِ رأْي الِالْتِزَامِ وَالدَّوَامِ، فَذَلِكَ الرأْي مَكْرُوهٌ ابْتِدَاءً.
لَكِنْ فُهِمَ مِنَ الشَّرْعِ أَن الوفاءَ ـ إِن حَصَلَ ـ فَهُوَ ـ إِن شاءَ اللَّهُ ـ كَفَّارَةُ النَّهْيِ، فَلَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْقِسْمِ معنى البدعة؛ لأَن الله تعالى مَدَحَ الْمُوفِينَ بِالنَّذْرِ (4) وَالْمُوفِينَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عَاهَدُوا (5)، وإِن لَمْ يَحْصُلِ الوفاءُ تَمَحَّضَ وَجْهُ النَّهْيِ، وربما أَثِمَ في الالتزام النَّذْرِيّ (6)، ولأَجل احْتِمَالِ عَدَمِ الْوَفَاءِ أَطلق عَلَيْهِ لَفْظُ الْبِدْعَةِ، لَا لأَجل أَنه عَمَلٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، بَلِ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَائِمٌ.
وَلِذَلِكَ إِذا الْتَزَمَ الإِنسان بَعْضَ الْمَنْدُوبَاتِ الَّتِي يَعْلَمُ أَو يَظُنُّ أَن الدَّوَامَ فِيهَا لَا يُوقِعُ فِي حَرَجٍ أَصلاً ـ وَهُوَ (7) الْوَجْهُ الثَّالِثُ مِنَ الأَوجه الثَّلَاثَةِ المنبَّه عَلَيْهَا ـ لَمْ يَقَعْ فِي نهي، بل في محض المندوب (8)؛ كَالنَّوَافِلِ الرَّوَاتِبِ مَعَ الصَّلَوَاتِ، وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّكْبِيرِ في آثارها، وذكر اللسان (9) المُلْتَزَمِ بالعَشِيّ والإِبكار، وَمَا أَشبه ذَلِكَ مِمَّا لَا يُخِلُّ بِمَا هُوَ أَولى، وَلَا يُدْخِلُ حَرَجًا بِنَفْسِ الْعَمَلِ بِهِ وَلَا بِالدَّوَامِ عَلَيْهِ.
_________
(1) في (غ): "كون".
(2) قوله: "القرن" سقط من (م)، وفي (خ): "السلف" بدل "القرن".
(3) في (خ): "ومن بعدهم".
(4) في قوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا *} سورة الدهر: الآية (7).
(5) في قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ... } إلى أن قال: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} سورة البقرة: الآية (177).
(6) في (خ): "غير النذري".
(7) في (ر): "وهذا"، والظاهر أنها هكذا أيضاً في (غ)، إلا أنها لم تتضح في مصورتها.
(8) في (خ): "المندوبات".
(9) في (خ): "والذكر اللساني".(2/203)
وَفِي هَذَا الْقِسْمِ جاءَ التَّحْرِيضُ عَلَى الدَّوَامِ صَرِيحًا، وَمِنْهُ كَانَ جَمْعُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ النَّاسَ فِي رَمَضَانَ فِي الْمَسْجِدِ (1)، وَمَضَى عَلَيْهِ النَّاسُ؛ لأَنه كَانَ أَولاً سُنَّةً ثَابِتَةً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2)، ثُمَّ إِنه أَقام لِلنَّاسِ بِمَا كَانُوا قَادِرِينَ عَلَيْهِ وَمُحِبِّينَ فِيهِ، وَفِي شَهْرٍ وَاحِدٍ مِنَ السَّنَةِ لَا دَائِمًا، وَمَوْكُولًا إِلى اخْتِيَارِهِمْ؛ لأَنه قَالَ: وَالَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفضل.
وَقَدْ فَهِمَ السَّلَفُ الصَّالِحُ أَن الْقِيَامَ فِي الْبُيُوتِ أَفضل، فَكَانَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ (3) يَنْصَرِفُونَ فَيَقُومُونَ فِي مَنَازِلِهِمْ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ قَالَ: "نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هَذِهِ! "، فأَطلق عَلَيْهَا لَفْظَ الْبِدْعَةِ ـ كَمَا تَرَى ـ نَظَرًا ـ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ـ إِلى اعْتِبَارِ الدَّوَامِ، وإِن كَانَ شهراً في السنة، أَو أَنه (4) لَمْ يَقَعْ فِيمَنْ قَبْلَهُ عَمَلًا دَائِمًا، أَو أَنه أَظهره فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ مُخَالِفًا لِسَائِرِ النَّوَافِلِ، وإِن كَانَ ذَلِكَ فِي أَصله وَاقِعًا (5) كَذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ الْقِيَامِ عَلَى الْخُصُوصِ وَاضِحًا قَالَ: "نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هَذِهِ! "، فَحَسَّنَهَا بِصِيغَةِ "نِعْم" الَّتِي تَقْتَضِي مِنَ الْمَدْحِ مَا تَقْتَضِيهِ (6) صِيغَةُ التَّعَجُّبِ؛ لَوْ قَالَ: مَا أَحسنها مِنْ بِدْعَةٍ! وَذَلِكَ يُخْرِجُهَا قَطْعًا عَنْ كَوْنِهَا بِدْعَةً.
وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى جَرَى كَلَامُ أَبي أُمامة رضي الله عنه (7) مستشهداً
_________
(1) أخرجه البخاري (2010) من حديث عبد الرحمن بن عبدٍ القاريّ قال: خرجت مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ليلة في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون، يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط. فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئٍ واحد لكان أمثل، ثم عزم، فجمعهم على أُبَيّ بن كعب. ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلّون بصلاة قارئهم، قال عمر: نعم البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون، يريد: آخر الليل، وكان الناس يقومون أوّله. اهـ.
(2) يشير إلى حديث عائشة الذي أخرجه البخاري (729)، ومسلم (761) في قيامه صلّى الله عليه وسلّم في رمضان، وقيام أناس معه لما رأوه، فصنع ذلك ليلتين أو ثلاثاً، ثم لم يخرج لهم بعد ذلك، وقال: "إني خشيت أن تكتب عليكم صلاة الليل".
(3) في (ر) و (غ): "منهم كثير".
(4) في (خ): "وأنه".
(5) في (خ): "واقعاً في أصله".
(6) في (ر) و (غ): "يقتضيه".
(7) الذي تقدم تخريجه (ص149).(2/204)
بِالْآيَةِ حَيْثُ قَالَ: أَحدثتم قِيَامَ رَمَضَانَ وَلَمْ يُكْتَبْ عَلَيْكُمْ، إِنما مَعْنَاهُ مَا ذَكَرْنَاهُ، ولأَجله قَالَ: فَدُومُوا عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ بِدْعَةً عَلَى الْحَقِيقَةِ لنَهى عَنْهُ، وَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ أَجْرَيْنَا الكلام على ما نهى صلّى الله عليه وسلّم عَنْهُ مِنَ التعبُّد المخوِّفِ الحَرَجَ فِي الْمَآلِ؛ وَاسْتَسْهَلْنَا وَضْعَ ذَلِكَ فِي قِسْمِ الْبِدَعِ الْإِضَافِيَّةِ؛ تَنْبِيهًا عَلَى وَجْهِهَا وَوَضْعِهَا فِي الشَّرْعِ مَوَاضِعَهَا، حَتَّى لَا يغترَّ بِهَا مُغْتَرٌّ فيأْخذها عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا، وَيَحْتَجَّ بِهَا عَلَى الْعَمَلِ بِالْبِدْعَةِ الْحَقِيقِيَّةِ قِيَاسًا عَلَيْهَا، وَلَا يَدْرِي مَا عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ. وإِنما تجشَّمنا إِطلاق اللَّفْظِ هُنَا؛ وكان ينبغي أَن لا نفعل (1) لولا الضرورة؛ وبالله التوفيق.
_________
(1) في (خ) و (م): "لا يفعل".(2/205)
فصل
قال الله تبارك (1) وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ *وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ *} (2). رُوِيَ (3) فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَخبار (4) جُمْلَتُهَا تَدُورُ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، وَهُوَ تَحْرِيمُ مَا أَحل اللَّهُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ تديُّناً، أَو شبه التديُّن، وأَن (5) الله (6) نَهَى عَنْ ذَلِكَ وَجَعَلَهُ اعْتِدَاءً، وَاللَّهُ لَا يحب المعتدين. ثم قرّر الإباحة تقريراً زائداً عَلَى مَا تَقَرَّرَ بِقَوْلِهِ (7): {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا}، ثُمَّ أَمرهم بِالتَّقْوَى، وَذَلِكَ مُشْعِرٌ بأَن تَحْرِيمَ مَا أَحل اللَّهُ خَارِجٌ عَنْ دَرَجَةِ التَّقْوَى.
فخرَّج إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي مِنْ حَدِيثِ أَبي قِلَابَةَ رضي الله عنه قَالَ: أَراد نَاسٌ مِنْ أَصحاب رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن يَرْفُضُوا الدُّنْيَا، ويتركوا (8) النساءَ، ويترهَّبوا (9)، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فغلَّظ فِيهِمُ الْمَقَالَةَ، فَقَالَ: "إِنما هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالتَّشْدِيدِ؛ شدَّدوا عَلَى أَنفسهم، فشدَّد اللَّهُ عَلَيْهِمْ (10)، فأُولئك بَقَايَاهُمْ فِي الدِّيَارِ وَالصَّوَامِعِ، اعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وحُجّوا، واعتمروا، واستقيموا يُسْتَقَمْ (11) بكم" (12). قال: ونزلت فيهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
_________
(1) قوله: "تبارك" من (ر) فقط.
(2) سورة المائدة: الآيتان (87، 88).
(3) قوله: "روي" في موضعه بياض في (غ).
(4) سيذكرها المصنف فيما يلي.
(5) قوله: "وأن" ليس في (خ) و (م).
(6) في (خ) و (م): "والله".
(7) في (غ) و (ر): "لقوله".
(8) في (خ) و (م): "وتركوا".
(9) في (خ) و (م): "وترهبوا".
(10) في (ر) و (غ): "فشدد عليهم".
(11) في (خ) و (م): "يستقيم".
(12) قوله: "بكم" سقط من (غ) و (ر).(2/206)
آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} (1).
_________
(1) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" (1/ 192)، والمروزي في "زياداته على الزهد" (ص365 رقم 1031)، وابن جرير الطبري في "تفسيره" (4/ 18 رقم 3224)، و (10/ 515 رقم 12341)، ثلاثتهم من طريق أيوب بن أبي تميمة السختياني، عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي، به، مرسلاً.
وسنده ضعيف لإرساله، وضعفه الطبري فقال عقب روايته له ولغيره من الأحاديث: "فإن هذه أخبار لا يثبت بمثلها في الدين حجة؛ لِوَهْي أسانيدها".
وأخرج الطبراني في "المعجم الكبير" (7/ 216 رقم 6897) من طريق عمران القطان، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة؛ قال: قال رسول الله (ص): "أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وحجوا واعتمروا، واستقيموا يُستقم بكم".
وقد جوّد إسناده المنذري في "الترغيب والترهيب" (1/ 584 رقم 1105)، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (1/ 202): "رواه الطبراني في الكبير والأوسط والصغير، وفي إسناده عمران القطان، وقد استشهد به البخاري، ووثقه أحمد وابن حبان، وضعفه آخرون".
ومع ما في عمران القطان من جرح، فإن الحديث من رواية الحسن البصري عن سمرة، وهو لم يسمع منه إلا أحاديث معروفة، وليس هذا منها.
وأخرج البخاري في "التاريخ الكبير" (4/ 97)، والطبراني في "الكبير" (6/ 73 رقم 5551)، والبيهقي في "الشعب" (3884)، ثلاثتهم من طريق عبد الله بن صالح، عن أبي شريح، عن سهل بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: "لا تشددوا على أنفسكم، فإنما هلك من كان قبلكم بتشديدهم على أنفسهم، وستجدون بقاياهم في الصوامع والديارات".
وفي سنده عبد الله بن صالح الجهني، أبو صالح المصري كاتب الليث، وهو صدوق، إلا أنه كثير الغلط، وهو ثبت في كتابه، وكانت فيه غفلة؛ كما في "التقريب" (3409).
وأخرجه أبو داود في "سننه" (4868) من طريق سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء؛ أن سهل بن أبي أمامة حدثه: أنه دخل هو وأبوه على أنس بن مالك بالمدينة؛ فقال أنس: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقول: "لا تشددوا على أنفسكم فيشدَّد عليكم، فإن قوماً شددوا على أنفسهم فشدَّد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات {وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا}.
وفي سنده سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء الكناني، المصري، وهو مقبول كما في "التقريب" (2366)، وتقدم الحديث والكلام عنه (ص27 ـ 28). وأخشى أن يكون هذا اختلافاً بين سعيد هذا وأبي شريح على سهل بن أبي أمامة، ولولاه لكان الحديث حسناً بمجموع هذه الطرق.=(2/207)
وَفِي التِّرْمِذِيِّ (1) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما قَالَ: إِن رَجُلًا أَتى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِني إِذا أَصَبْتُ اللَّحْمَ انْتَشَرْتُ لِلنِّسَاءِ وأَخذتني شَهْوَتِي، فحرَّمت علَيّ اللَّحْمَ"، فأَنزل اللَّهُ الْآيَةَ. حَدِيثٌ حَسَنٌ (2).
وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي رَهْطٍ مِنْ أَصحاب رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْهُمْ: أَبو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ وعبد الله بن مَسْعُودٍ (3) وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعون والمِقْداد بْنُ الأَسود الكِنْدي وسالم مولى أَبي حذيفة رضي الله عنهم؛ اجْتَمَعُوا فِي دَارِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعون الجُمَحي، فتوافقوا أَن يَجُبّوا (4) أَنفسهم، وأَن (5) يَعْتَزِلُوا النِّسَاءَ، وَلَا يأْكلوا لَحْمًا وَلَا دَسَماً، وأَن يَلْبَسُوا المُسُوح (6)، وَلَا يأْكلوا مِنَ الطَّعَامِ إِلا قُوتاً، وأَن يَسِيحُوا فِي الأَرض كَهَيْئَةِ الرُّهْبَانِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم من أَمرهم،
_________
=وانظر تعليقي على الحديث رقم (771) من "سنن سعيد بن منصور"، وانظر (ص27 ـ 28 و154) من هذا المجلد.
(1) أخرجه الترمذي برقم (3054)، والطبري (12350)، وابن أبي حاتم (6687)، والطبراني في الكبير (11/ 277 رقم 11981)، وابن عدي في "الكامل" (5/ 170)، جميعهم من طريق أبي عاصم الضحاك بن مخلد، عن عثمان بن سعد، عن عكرمة، عن ابن عباس، به.
قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب، ورواه بعضهم من غير حديث عثمان بن سعد مرسلاً ليس فيه: عن ابن عباس. ورواه خالد الحذّاء عن عكرمة مرسلاً".اهـ.
وعثمان بن سعد الكاتب ضعيف كما في "التقريب" (4503)، فالحديث ضعيف لأجله.
ومع هذا فقد خالفه الثقة خالد الحذّاء، فرواه عن عكرمة مرسلاً، ليس فيه ذكر لابن عباس، وسيذكره المصنف (ص211).
وقد أخرجه ابن جرير الطبري (12337 و12338 و12340 و12351)، وفصّلت الكلام عنه في تعليقي على الحديث رقم (771) من "سنن سعيد بن منصور".
(2) القائل: "حديث حسن" هو الترمذي كما في التعليق السابق.
(3) في (خ) و (م): "وابن مسعود".
(4) أي: يقطعوا مذاكيرهم كما سيأتي في آخر الرواية.
(5) في (خ) و (م): "بأن".
(6) الْمُسُوح: الأكسية من الشعر. انظر: "لسان العرب" (2/ 596).(2/208)
فأَتى عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ فِي مَنْزِلِهِ فَلَمْ يجده في منزله (1)، وَلَا إِيَّاهُمْ، فَقَالَ لِامْرَأَةِ عُثْمَانَ ـ أُم حَكِيمٍ ابْنَةِ أَبي أُمية بْنِ حَارِثَةَ السُّلَمِيِّ ـ: "أَحقّ مَا بَلَغَنِي عَنْ زَوْجِكِ وأَصحابه؟ " قَالَتْ: مَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فأَخبرها، فَكَرِهَتْ أَن لَا تحدِّث (2) رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم حين سألها (3)، وكرهت أَن تبدي على زوجها، فقالت: يا رسول الله! (4) إِن كان أَخبرك عثمان فقد صدقك (5). فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قُولِي لِزَوْجِكِ وأَصحابه إِذا رَجَعُوا: إِن رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ لَكُمْ: إِني آكُلُ وأَشرب، وَآكُلُ اللَّحْمَ والدَّسَم، وأَنام، وَآتِي النساءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي". فَلَمَّا رَجَعَ عثمان وأَصحابه أَخبرته (6) امرأَته بِمَا أَمر بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: لَقَدْ بَلَغَ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمرُنا فَمَا أَعجبه، فذَرُوْا مَا كَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلّم، ونزل فيهم (7): {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} ـ قَالَ: مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْجِمَاعِ ـ {وَلاَ تَعْتَدُوا} ـ قَالَ: فِي قَطْعِ الْمَذَاكِيرِ ـ {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}؛ قال: الحلال (8) إلى الحرام (9).
_________
(1) في (خ): "فلم يجده فيه".
(2) في (ر) و (غ): "أن تحدث".
(3) قوله: "حين سألها" ليس في (خ) و (م).
(4) قوله: "يا رسول الله" ليس في (خ) و (م).
(5) في (خ): "صدق".
(6) في (خ): "أخبرتهم".
(7) في (خ) و (م): "فيها".
(8) في (م): "الجدال".
(9) هذا الحديث أورده القرطبي في "تفسيره" (2/ 19)، ولم يعزه لأحد.
ولم أجد أحداً أخرج هذا الحديث بهذا السياق، وفيه ذكر أن اسم زوجة عثمان: أم حكيم ابنة أبي أمية. ولكن ذكر الحافظ ابن حجر في "الإصابة" (13/ 196) أن هذه رواية الكلبي في "تفسيره"، عن أبي صالح، عن ابن عباس.
والكلبي هذا هو محمد بن السائب، وهو متهم بالكذب، ورمي بالرفض كما في "التقريب" (5938).
ومع ذلك فهو يروي عن أبي صالح باذام، وقد روى ابن عدي في "الكامل" (2/ 69) عن سفيان الثوري؛ قال: قال لي الكلبي: قال لي أبو صالح: "كل ما حدثتك كذب".
فهو كذب علي أي الحالين: إن صدق الكلبي في هذا أو كذب.(2/209)
وَفِي الصَّحِيحِ (1) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ مَعَنَا نِسَاءٌ، فَقُلْنَا: أَلا نَخْتَصِي؟ فَنَهَانَا عَنْ ذَلِكَ؛ فَرَخَّصَ لَنَا بَعْدَ ذَلِكَ أَن نتزوج المرأَة بالثوب (2) ـ يَعْنِي وَاللَّهُ أَعلم: نِكَاحَ الْمُتْعَةِ (3) الْمَنْسُوخَ ـ، ثُمَّ قرأَ (4) ابن مسعود: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ}.
وَذَكَرَ إِسماعيل عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَر: أَن عثمان بن مَظْعون رضي الله عنه همَّ بِالسِّيَاحَةِ، وَهُوَ يَصُومُ (5) النَّهَارَ، وَيَقُومُ (6) اللَّيْلَ، وَكَانَتِ امرأَته امرأَةً عَطِرَةً، فَتَرَكَتِ الكُحْل والخِضَاب، فَقَالَتْ لَهَا امرأَة مِنْ أَزواج النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلّم: أَمُشْهِدٌ (7) أَنت أَم مُغِيب (8)؟ فقالت: بل مُشْهِد (9)، غَيْرَ أَن عُثْمَانَ لَا يُرِيدُ النساءَ. فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَقِيَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له (10): "يا عثمان (11)! أَتؤْمن بِمَا نؤْمن (12) بِهِ؟ " قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: "فَاصْنَعْ مِثْلَ مَا نَصْنَعُ" (13)، {لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} الآية (14).
_________
(1) تقدم تخريجه (ص28).
(2) زاد رشيد رضا هنا قوله: "إلى أجل"، وعلق عليه بقوله: سقط من نسختنا فقط "إلى أجل"، وهو ثابت في "الصحيح".اهـ.
(3) قوله: "المتعة" ثابت في نسخة (خ) التي اعتمد عليها رشيد رضا، ومع ذلك علق على هذا الموضع بقوله: سقط لفظ "المتعة" من نسختنا، ولا يصح المعنى بدونه. اهـ.
(4) في (م): "ثم قال قرأ".
(5) في (ر) و (غ): "صوم".
(6) في (ر) و (غ): "وقيام".
(7) في (خ): "أشهيد"، وفي (م): "أشهد".
(8) امرأة مُشهِد: إذا كان زوجها حاضراً عندها، وامرأة مُغيب: إذا كان زوجها غائباً عنها. انظر: "النهاية" لابن الأثير (2/ 515).
(9) في (خ): "شهيد" وفي (م): "شهد".
(10) قوله: "فقال له" سقط من (م)، وقوله: "له" ليس في (غ) و (ر).
(11) قوله: "يا عثمان" ليس في (خ) و (م).
(12) في (غ): "تؤمن".
(13) في (م): "تصنع".
(14) كذا ذكر المصنف عن إسماعيل بن إسحاق أنه رواه من طريق يَحْيَى بْنِ يَعْمُرَ: أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ ... ، فذكره مرسلاً.
ولم أجد رواية إسماعيل بن إسحاق هذه.
لكن الحديث أخرجه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 106) من طريق مؤمّل بن=(2/210)
وخرَّج سعيد بن منصور (1) عن حصين (2)، عَنْ أَبي مَالِكٍ (3)؛ قَالَ: نَزَلَتْ فِي عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ وأَصحابه؛ كَانُوا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ كَثِيرًا مِنَ الطَّعَامِ والنساءِ، وهمَّ بَعْضُهُمْ أَن يَقْطَعَ ذكره، فأَنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ} الآية.
وعن عكرمة (4): قال: كان ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم همّوا بترك النساء واللحم والخصاء، فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ ... } الْآيَةَ (5).
وَعَنْ قَتَادَةَ: قَالَ: نَزَلَتْ فِي نَاسٍ من أصحاب رسول الله (ص) أَرادوا أَن يتخلّوا من الدُّنْيَا (6)، وَتَرَكُوا (7) النساءَ وترهَّبوا (8)، مِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبي طالب (9) وعثمان بن مظعون (10).
_________
=إسماعيل، عن حماد بن سلمة، عن إسحاق بن سويد، عن يحيى بن يعمر وأبي فاختة، عن عائشة، به.
وسنده ضعيف لضعف مؤمل من قبل حفظه.
وانظر الأحاديث الآتية.
(1) في "سننه" (4/ 1515 رقم 771).
وأوضحت في تعليقي على الحديث هناك من أخرجه، وأنه ضعيف لإرساله، وذكرت له شواهد تدلّ على صحة معناه، فانظره إن شئت.
(2) في (خ) و (م): "خضير". وهو: حصين بن عبد الرحمن السُّلَمي.
(3) هو: غزوان الغفاري.
(4) في (م): "فأنزل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ} ".
(5) قوله تعالى: "طيبات" من (غ) فقط.
(6) صنيع المصنف هذا يوهم أن حديث عكرمة هذا أخرجه أيضاً سعيد بن منصور، وهو لم يخرجه. وتقدم تخريجه (ص208) في الكلام على حديث ابن عباس، وهو مرسل أيضاً.
(7) من قوله: "وعن عكرمة" إلى هنا ليس في (خ) و (م).
(8) في (خ): "عن الدنيا" وفي (غ): "من ذلك الدنيا".
(9) في (غ): "ويترك"، وفي (ر): "ويتركوا".
(10) في (ر) و (غ): "ويترهبوا".
(11) قوله: "طالب" ليس في (م).
(12) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" (1/ 191 ـ 192) عن معمر، عن قتادة، به.
ومن طريق عبد الرزاق وطريق يزيد بن زريع عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة أخرجه ابن جرير في "تفسيره" (12342 و12344).=(2/211)
وخرَّج ابْنُ الْمُبَارَكِ (1) أَن عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ أَتى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَقَالَ: ائذن لنا (2) فِي الاختصاءِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ خَصَى وَلَا اخْتَصَى (3)، إِن خصاءَ (4) أُمتي الصِّيَامُ". قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! ائْذَنْ لنا فِي السِّيَاحَةِ، قَالَ: "إِن سِيَاحَةَ أُمتي الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ". قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! ائذن لنا فِي الترهُّب (5)، قَالَ: "إِن ترهُّب أُمتي الْجُلُوسُ فِي الْمَسَاجِدِ (6) لِانْتِظَارِ الصَّلَاةِ".
وَفِي الصَّحِيحِ (7): ردَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التبتُّل على عثمان بن مظعون، ولو أَذِنَ له لَاخْتَصَيْنَا (8).
وَهَذَا كُلُّهُ وَاضِحٌ فِي أَن جَمِيعَ هَذِهِ الأَشياء تَحْرِيمٌ لِمَا هُوَ حَلَالٌ فِي الشَّرْعِ، وإِهمال لِمَا قَصَدَ الشَّارِعُ إِعماله ـ وإِن كَانَ يَقْصِدُ سُلُوكَ طَرِيقِ الْآخِرَةِ ـ؛ لأَنه نَوْعٌ من الرهبانية، ولا رهبانية (9) في الإِسلام (10).
_________
=وسنده ضعيف لإرساله أيضاً.
(1) في "الزهد" (845) من طريق رِشدين بن سعد، عن ابن أنعم، عن سعد بن مسعود: أن عثمان بن مظعون ... ، فذكره.
وسنده ضعيف لإرساله، فسعد بن مسعود تابعي كما في "المراسيل" لابن أبي حاتم (ص71)، ورشدين بن سعد ضعيف كما في "التقريب" (1953).
(2) في (خ): "لي".
(3) علق رشيد رضا هنا بقوله: الذي نعرفه من الحديث: "أو اختصى".اهـ.
(4) في (خ) و (م): "اختصاء".
(5) في (ر) و (غ): "الترهيب".
(6) قوله: "في المساجد" سقط من (غ) و (ر).
(7) أخرجه البخاري (5073 و5074)، ومسلم (1402) من حديث سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(8) في (خ): "لاختصى".
(9) قوله: "ولا رهبانية" ليس في (خ) و (م).
(10) قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (9/ 111): "وأما حديث: "لا رهبانية في الإسلام" فلم أره بهذا اللفظ، لكن في حديث سعد بن أبي وقاص عند الطبراني: "إن الله أبدلنا بالرهبانية الحنيفية السمحة"، وعن ابن عباس رفعه: "لا صرورة في الإسلام". أخرجه أحمد وأبو داود وصححه الحاكم".اهـ.
وفي (9/ 118) ذكر أن حديث: "إن الله أبدلنا بالرهبانية الحنيفية السمحة" أخرجه=(2/212)
وإِلى مَنْعِ تَحْرِيمِ الْحَلَالِ (1) ذَهَبَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ؛ إِلا أَنه إِذا كَانَ التَّحْرِيمُ غير مَحْلوف عليه فلا كفَّارة فيه (2)، وإِن كَانَ مَحْلُوفًا عَلَيْهِ، فَفِيهِ الْكَفَّارَةُ، وَيَعْمَلُ (3) الْحَالِفُ بِمَا أَحل اللَّهُ لَهُ.
وَمِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَ إِسماعيل الْقَاضِي عَنْ مَعْقِل بْنِ مُقَرِّن (4): أَنه سأَل ابن مسعود رضي الله عنه فقال: إِني حلفت على (5) أَن لَا أَنام عَلَى فِرَاشِي سَنَةً (6)، قَالَ (7): فتلا عبد الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا ... } الْآيَةَ (8)، ادنُ فَكُلْ (9)، وكَفِّر (10) عَنْ يَمِينِكَ، ونَمْ على فراشك.
وفي (11) رواية: أن معقلاً كان (12) يكثر الصوم والصلاة، فحلف أَن
_________
=الطبراني من طريق سعيد بن العاص، لا سعد بن أبي وقاص، وهذا هو الصحيح، والأول تصحيف.
فالحديث أخرجه الطبراني (6/ 62 رقم 5519) من طريق إبراهيم بن زكريا، ثنا أبو أمية الطائفي، حدثني جدي، عن جده سعيد بن العاص: أن عثمان بن مظعون قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! ائْذَنْ لِي فِي الاختصاء، فقال له: "يا عثمان! إن الله قد أبدلنا بالرهبانية الحنفية السمحة، والتكبير على كل شَرَف، فإن كنت منا فاصنع كما نصنع".
والحديث بهذا الإسناد ضعيف جداً؛ فيه إبراهيم بن زكريا العبدسي وهو ضعيف جداً؛ قال أبو حاتم: حديثه منكر، وقال ابن عدي: حدث بالبواطيل، وقال: يأتي عن مالك بأحاديث موضوعة. انظر: "لسان الميزان" (1/ 146 ـ 148). وانظر ما تقدم (ص27 ـ 28)، وتخريج حديث: "أحبّ الدين إلى الله الحنيفية السمحة" (ص151 ـ 152)، وانظر (ص101 ـ 102).
(1) أي: على النفس كما صنع عثمان بن مظعون وأصحابه، وكما في قوله تعالى في سورة التحريم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ}، وما ذكر في سبب نزولها.
وأما تحريم الحلال المجمع عليه كحكم شرعي، فهذا كفر، وليس من هذا الباب؛ كما سينبه عليه المصنف (ص218 فما بعد).
(2) قوله: "فيه" ليس في (خ).
(3) في (ر) و (غ): "وليعمل".
(4) قوله: "ابن مقرن" ليس في (خ)، وفي (غ) و (ر): "مغرق".
(5) قوله: "على" ليس في (خ) و (م).
(6) قوله: "سنة" سقط من (غ) و (ر).
(7) قوله: "قال" ليس في (خ) و (م).
(8) سورة المائدة: آية (87).
(9) قوله: "ادن فكل" من (خ) فقط.
(10) في (غ) و (ر) و (م): "كفر".
(11) في (غ): "ففي".
(12) في (خ): ""كان معقل"، وفي (م): "كان معقلاً".(2/213)
لا ينام على فراشه، فأَتى عبد الله بن مسعود (1) رضي الله عنه فسأَله عَنْ ذَلِكَ؟ فقرأَ عَلَيْهِ الْآيَةَ (2).
وَعَنِ مغيرة؛ قَالَ: قُلْتُ لِإِبْرَاهِيمَ ـ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} ـ: أَهو الرَّجُلُ يحرِّم الشيءَ مِمَّا أَحل اللَّهُ لَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ (3).
وَعَنْ مَسْرُوقٍ؛ قَالَ: أُتِي عَبْدُ اللَّهِ (4) بضَرْع (5)، فَقَالَ لِلْقَوْمِ: ادْنُوَا، فأَخذوا يَطْعَمُونَ، فَقَالَ رَجُلٌ: إِني حَرَّمت الضَّرْع (6). فَقَالَ عبد الله: هذا من (7) خطوات الشيطان: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ (8) مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} الآية (9)، ادنُ فكُلْ، وكفِّر عَنْ يَمِينِكَ (10).
وَعَلَى ذَلِكَ جَرَّتِ الفُتيا فِي الإِسلام: أَن كُلَّ مَنْ حرَّم عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا مِمَّا أَحل اللَّهُ لَهُ فَلَيْسَ ذَلِكَ التَّحْرِيمُ بشيءٍ، فليأْكل إِن كان مأْكولاً،
_________
(1) في (خ) و (م): "فأتى ابن مسعود".
(2) هو حديث صحيح أخرجه سعيد بن منصور في "سننه" (773)، فانظر تخريجه هناك إن شئت، وانظر معه رقم (772 و774).
(3) أخرج ابن جرير الطبري في "تفسيره" (12339) من طريق شيخه سفيان بن وكيع، عن جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم ـ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} ـ؛ قال: كانوا حرّموا الطِّيب واللحم، فأنزل الله تعالى هذا فيهم.
وسنده ضعيف جداً.
فسفيان بن وكيع كان صدوقاً، إلا أنه ابتلي بورّاقه؛ فأدخل عليه ما ليس من حديثه، فنصح فلم يقبل، فسقط حديثه كما في "التقريب" (2469).
ومغيرة بن مقسم ثقة متقن، إلا أنه كان يدلِّس؛ ولا سيّما عن إبراهيم كما في "التقريب" (6899)، وهذا من روايته عن إبراهيم.
(4) أي: ابن مسعود.
(5) الضَّرْع: هو الخِلْفُ، مَدَرُّ اللبن لكل ذات ظِلْفٍ أو خُفّ. انظر: "لسان العرب" (8/ 222 ـ 223).
(6) في (ر) و (غ): "الزرع".
(7) قوله: "من" ليس في (خ) و (م).
(8) إلى هنا انتهى ذكر الآية في (م).
(9) قوله: "الآية" ليس في (خ).
(10) أخرجه سعيد بن منصور (772) بسند صحيح، وقد استوفيت تخريجه هناك.(2/214)
وَلْيَشْرَبْ إِن كَانَ مَشْرُوبًا، وَلْيَلْبَسْ إِن كَانَ مَلْبُوسًا، وَلْيَمْلِكْ إِن كَانَ مَمْلُوكًا. وكأَنه إِجماع مِنْهُمْ مَنْقُولٌ عَنْ مَالِكٍ وأَبي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمْ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الزَّوْجَةِ. وَمَذْهَبُ مَالِكٍ: أَن التحريم طلاق كطلاق الثَّلَاثِ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ (1) بَاطِلٌ (2)؛ لأَن الْقُرْآنَ شَهِدَ بِكَوْنِهِ اعْتِدَاءً، حَتَّى إِنه إِن حرم على نفسه وَطْءَ أَمته غير قاصد (3) بِهِ الْعِتْقَ، فَوَطْؤُهَا حَلَالٌ. وَكَذَلِكَ سَائِرُ الأَشياء: من اللباس والمسكن (4) والكلام (5) وَالصَّمْتِ وَالِاسْتِظْلَالِ والاسْتِضْحَاءِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ (6) الْحَدِيثُ فِي النَّاذِرِ لِلصَّوْمِ قَائِمًا فِي الشَّمْسِ سَاكِتًا، فإِنه تَحْرِيمٌ لِلْجُلُوسِ، وَالِاسْتِظْلَالِ، وَالْكَلَامِ (7)، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمره بِالْجُلُوسِ وَالتَّكَلُّمِ وَالِاسْتِظْلَالِ. قَالَ مَالِكٌ (8): أَمَرَهُ أَنْ يُتِمَّ مَا كَانَ لِلَّهِ (9) فيه طاعة، ويترك ما كان عليه فيه مَعْصِيَةٌ.
فتأَملوا كَيْفَ جَعَلَ مَالِكٌ تَرْكَ الْحَلَالِ مَعْصِيَةً! وَهُوَ مُقْتَضَى الْآيَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَعْتَدُوا} الْآيَةَ، وَمُقْتَضَى قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ (10) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِصَاحِبِ الضَّرْع: هَذَا مِنْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ.
وَقَدْ ضعَّف ابْنُ رُشْدٍ الحَفِيدُ (11) الِاسْتِدْلَالَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ بِالْحَدِيثِ، وَتَفْسِيرَ مَالِكٍ لَهُ، وَذَكَرَ أَن قَوْلَهُ فِي الْحَدِيثِ: "وَيَتْرُكْ مَا كَانَ عَلَيْهِ فِيهِ مَعْصِيَةٌ" لَيْسَ بِالظَّاهِرِ أَن تَرْكَ الْكَلَامِ مَعْصِيَةٌ، وَقَدْ أَخبر اللَّهُ تَعَالَى أَنه نَذْر مَرْيَمَ (12). قَالَ: وَكَذَلِكَ يُشْبِهُ أَن يَكُونَ الْقِيَامُ [في الشمس] (13) ليس
_________
(1) قوله: "فهو" ليس في (غ) و (ر).
(2) في (ر) و (غ): "فباطل".
(3) في (خ): "وطء أمة غيره قاصداً" وفي (م): "وطء أمة غيره قاصد".
(4) قوله: "والمسكن" ليس في (غ).
(5) قوله: "والكلام" ليس في (خ).
(6) تقدم تخريجه (ص176).
(7) في (خ): "والكلام والاستظلال".
(8) في "الموطأ" (2/ 476) بنحو ما هنا.
(9) في (خ) و (م): "أمره ليتم ما كان له".
(10) المتقدم في الصفحة السابقة.
(11) في "بداية المجتهد" (1/ 310).
(12) في قوله تعالى في سورة مريم (26): {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا}.
(13) في جميع النسخ: "للشمس"، والمثبت من "بداية المجتهد".(2/215)
بمعصية (1)، إِلا ما يتعلق بذلك (2) مِنْ جِهَةِ تَعَبِ الْجِسْمِ وَالنَّفْسِ، وَقَدْ يُسْتَحَبُّ لِلْحَاجِّ أَن لَا يَسْتَظِلَّ (3). فإِن قِيلَ: فِيهِ معصية، فبالقياس عَلَى مَا نُهي عَنْهُ مِنَ التَّعَبِ، لَا بِالنَّصِّ، والأَصل فِيهِ أَنه مِنَ الْمُبَاحَاتِ.
وَمَا قَالَهُ ابْنُ رُشْدٍ غَيْرُ ظَاهِرٍ، وَلَمْ يَقُلْ مَالِكٌ فِي الْحَدِيثِ مَا قَالَ اسْتِنْبَاطًا مِنْهُ، بَلِ الظَّاهِرُ أَنه اسْتَدَلَّ بِالْآيَةِ المتكلَّم فِيهَا، وَحَمَلَ الْحَدِيثَ عَلَيْهَا، فَتَرْكُ الْكَلَامِ ـ وإِن كَانَ في الشرائع الأُوَل مَشْرُوعًا ـ، فَهُوَ مَنْسُوخٌ بِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ، فَهُوَ عَمَلٌ فِي مَشْرُوعٍ بِغَيْرِ مَشْرُوعٍ. وَكَذَلِكَ الْقِيَامُ فِي الشمس زيادة في العبادة (4) مِنْ بَابِ تَحْرِيمِ الْحَلَالِ، وإِن استُحبّ فِي موضعٍ، فلا يلزم استحبابه في آخر.
_________
(1) في (خ) و (م): "معصية"، والمثبت من (غ) و (ر)، وهو موافق لما في "بداية المجتهد".
(2) قوله: "بذلك" ليس في (خ).
(3) هذا الاستحباب يحتاج إلى دليل يدل عليه، ولا أعلم في ذلك دليلاً.
(4) قوله: "في العبادة" ليس في (خ) و (م).(2/216)
فَصْلٌ
وَيَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ مَسَائِلُ
إِحْدَاهَا (1): أَن تحريم الحلال وما أَشبه ذلك يُتَصَوَّر على (2) أَوجه:
الأَول: التَّحْرِيمُ الْحَقِيقِيُّ، وَهُوَ الْوَاقِعُ مِنَ الْكُفَّارِ، كالبَحِيْرَةِ، والسَّائِبَةِ، والوَصِيْلَةِ، والحَامِي، وَجَمِيعِ مَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى تحريمَه عَنِ الْكَفَّارِ بالرأْي المَحْض. ومنه قول الله تبارك وتعالى (3): {وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} (4)، وَمَا أَشبهه مِنَ التَّحْرِيمِ الْوَاقِعِ فِي الإِسلام رأْياً مجرَّداً.
والثاني (5): أَن يَكُونَ مجرَّدَ تركٍ لَا لِغَرَضٍ؛ بَلْ لأَن النفس تكرهه بطبعها، أَو لا تتذكَّره (6) حَتَّى تَسْتَعْمِلَهُ، أَو لَا تَجِدُ ثَمَنَهُ، أَو تشتغل بما هو آكد منه (7)، أَو ما (8) أَشبه ذَلِكَ. وَمِنْهُ تَرْكُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَكل الضَّبّ لِقَوْلِهِ فِيهِ: "إِنه لَمْ يَكُنْ بأَرض قَوْمِي، فأَجدني أَعافه" (9)، وَلَا يُسَمّى مِثْلُ هَذَا تَحْرِيمًا؛ لأَن التَّحْرِيمَ يَسْتَلْزِمُ القصد إِليه، وهذا ليس كذلك.
والثالث (10): أَن يَمْتَنِعَ لنَذْرهِ التحريمَ، أَو مَا يَجْرِي مجرى النذر من
_________
(1) في (خ): "أحدهما"، وفي (م): "أحدها".
(2) في (خ): "في" بدل "على".
(3) في (خ): "ومنه قوله تعالى"، وفي (م): "ومنه قول الله تعالى".
(4) سورة النحل: الآية (116).
(5) في (خ) و (م): "الثاني".
(6) في (خ): "تكرهه".
(7) قوله: "منه" ليس في (خ) و (م).
(8) في (خ): "وما".
(9) أخرجه البخاري (5391 و5537)، ومسلم (1945 و1946).
(10) في (خ) و (م): "الثالث".(2/217)
الْعَزِيمَةِ الْقَاطِعَةِ لِلْعُذْرِ، كَتَحْرِيمِ النَّوْمِ عَلَى الْفِرَاشِ سَنَةً، وَتَحْرِيمِ الضَّرْع، وَتَحْرِيمِ الِادِّخَارِ لغدٍ، وَتَحْرِيمِ الليِّن من الطعام واللباس، وتحريم الوَطْءِ أو (1) الاسْتِلْذاذ بالنساءِ في الجملة، وما أَشبه ذلك.
والرابع (2): أَن يَحْلِفَ عَلَى بَعْضِ الْحَلَالِ أَن لَا يَفْعَلَهُ؛ وَمِثْلُهُ قَدْ يُسَمَّى تَحْرِيمًا. قَالَ إِسماعيل الْقَاضِي: إِذا قَالَ الرَّجُلُ لأَمته (3): وَاللَّهِ لَا أَقربك (4)! فَقَدْ حَرَّمَهَا عَلَى نَفْسِهِ بِالْيَمِينِ، فإِذا غَشِيَهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ. وأَتى بِمَسْأَلَةِ ابْنِ مُقَرِّن فِي سُؤَالِهِ ابنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِذ قَالَ: إِني حَلَفْتُ أَن لَا أَنام عَلَى فِرَاشِي سَنَةً. قَالَ: فَتَلَا عبد الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} (5) الْآيَةَ، وَقَالَ لَهُ (6): كَفِّر عَنْ يَمِينِكَ، وَنَمْ عَلَى فِرَاشِكَ (7).
فأَمره أَن لَا يحرِّم مَا أَحلّ اللَّهُ لَهُ (8)، وأَن يكفِّر مِنْ أَجل الْيَمِينِ.
فَهَذَا الإِطلاق يَقْتَضِي أَنه نَوْعٌ مِنَ التَّحْرِيمِ، وَلَهُ وَجْهٌ ظَاهِرٌ؛ فَقَدْ أَشار إِسْمَاعِيلُ (9) إِلى أَن الرَّجُلَ كَانَ إِذا حَلَفَ أَن لَا يَفْعَلَ شَيْئًا مِنَ الْحَلَالِ؛ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ، حَتَّى نَزَلَتْ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ، فلأجل (10) ما كان قَبْلُ من التحريم ـ وإن (11) وردت الكفارة ـ يُسَمَّى (12) تَحْرِيمًا، وَمِنْ ثَمَّ ـ وَاللَّهُ أَعلم ـ سُمِّيت كَفّارة.
المسأَلة (13) الثَّانِيَةُ (14): أَن الْآيَةَ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا يَنْظُرُ فِيهَا عَلَى أَي مَعْنًى يُطلق التَّحْرِيمُ مِنْ تلك المعاني (15).
_________
(1) في (خ): "و".
(2) في (خ) و (م): "الرابع".
(3) من هنا سقط من نسخة (غ) ورقة واحدة.
(4) في (خ): "أقربها".
(5) إلى هنا انتهى ذكر الآية في (م) و (ر).
(6) سورة المائدة: الآية (87).
(7) قوله: "وقال له" سقط من (م) و (ر).
(8) تقدم تخريجه (ص 213 ـ 214).
(9) قوله: "له" سقط من (م).
(10) في (خ): "إليه إسماعيل"، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: لعل "إليه" زائدة، إلا أن يكون في الكلام حذف بعد كلمة "إسماعيل".اهـ.
(11) في (خ): "لأجل".
(12) في (خ): "ولما".
(13) في (خ): "سمي".
(14) قوله: "المسألة" من (خ) فقط.
(15) في (ر) و (م): "والثانية".
(16) قوله: "من تلك المعاني" سقط من (خ).(2/218)
أَما الأَوّل: فلا مدخل له ها هنا؛ لأَن التَّحْرِيمَ تَشْرِيعٌ كَالتَّحْلِيلِ، وَالتَّشْرِيعُ لَيْسَ إِلا لِصَاحِبِ الشَّرْعِ، اللَّهُمَّ إِلا أَن يُدْخِلَ مبتدعٌ رأْياً كَانَ مِنْ أَهل الْجَاهِلِيَّةِ، أَو مِنْ أَهل الإِسلام؛ فَهَذَا أَمر آخَرُ يُجَلُّ السلفُ الصَّالِحُ عَنْ مِثْلِهِ؛ فَضْلًا عَنْ أَصحاب رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْخُصُوصِ.
وَقَدْ وَقَعَ للمُهَلَّب (1) فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ مَا قَدْ يُشعر بأَن الْمُرَادَ فِي الْآيَةِ التَّحْرِيمُ بِالْمَعْنَى الأَول، فَقَالَ: التَّحْرِيمُ إِنما هُوَ لِلَّهِ ولرسوله صلّى الله عليه وسلّم، فَلَا (2) يحلُّ لأَحد أَن يحرِّم شَيْئًا، وَقَدْ وَبَّخَ اللَّهُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، فَقَالَ: {لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا} (3)، فَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْ الاعتداءِ. وَقَالَ: {وَلاَ تَقُولُوا لِمَا (4) تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} (5). قَالَ: فَهَذَا كلُّه حُجَّة فِي أَن تَحْرِيمَ النَّاسِ لَيْسَ بشيءٍ.
وَمَا قَالَهُ المُهَلَّب يردُّه السبب في نزول الآية، وليس فيه ما يُشْعِرُ بهذا المعنى، وإنما نصّت الأسباب على التحريم بالمعنى الثالث (6) كَمَا تَقَرَّرَ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُعَدِّ المُحرِّمُ الحكمَ لِغَيْرِهِ كَمَا هُوَ شأْن التَّحْرِيمِ بِالْمَعْنَى الأَول، فَصَارَ مَقْصُورًا عَلَى المحرِّمِ دُونَ غَيْرِهِ.
وأَما التَّحْرِيمُ بِالْمَعْنَى الثَّانِي: فَلَا حَرَجَ فِيهِ فِي الْجُمْلَةِ؛ لأَن بَوَاعِثَ النُّفُوسِ عَلَى الشَّيْءِ أَو صوارفها (7) عنه لا تنضبط لقانون (8) معلوم، فقد يمتنع الإِنسان من الحلال لأَلَمٍ (9) يَجِدُهُ فِي اسْتِعْمَالِهِ، كَكَثِيرٍ مِمَّنْ يَمْتَنِعُ مِنْ شُرْبِ الْعَسَلِ لوَجَعٍ يَعْتريه بِهِ، حَتَّى يحرِّمه على نفسه، لا بمعنى التحريم
_________
(1) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 372).
(2) في (ر): "قال لا" بدل "فلا".
(3) سورة المائدة: الآية (87).
(4) سورة النحل: الآية (116).
(5) في (خ): "لم".
(6) من قوله: "فيه ما يشعر بهذا" إلى هنا سقط من (خ) و (م).
(7) في (خ): "أو صارفها"، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: لعل في الأصل: "أو صوارفها"؛ ليناسب جميع البواعث. اهـ.
(8) في (خ): "بقانون".
(9) في (خ): "لأمر" بدل "لألم".(2/219)
الأَول، وَلَا الثَّالِثِ، بَلْ بِمَعْنَى التوقِّي مِنْهُ كما يتوقَّى (1) سائر المُؤْلِمات.
ويدخل ها هنا بِالْمَعْنَى امْتِنَاعُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَكل الثُّومِ؛ لأَنه كَانَ يُنَاجِي الْمَلَائِكَةَ (2)، وهي تتأَذَّى من رائحته (3)، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا تُكْرَهُ (4) رَائِحَتُهُ.
وَلَعَلَّ هَذَا الْمَحْمَلَ (5) أَولى مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِن الثُّومَ وَنَحْوَهُ (6) كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ (7) بِالْمَعْنَى المُخْتَصّ بِالشَّارِعِ، وَالْمَعْنَيَانِ مُتَقَارِبَانِ، وَكِلَاهُمَا غَيْرُ دَاخِلٍ فِي مَعْنَى الآية (8).
وأَما التحريم بالمعنى الرَّابِعِ فَيُحْتَمَلُ أَن يَدْخُلَ فِي عِبَارَةِ التَّحْرِيمِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} (9) قَدْ (10) شَمِلَ التَّحْرِيمَ بِالنَّذْرِ، وَالتَّحْرِيمَ بِالْيَمِينِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ: ذِكْرُ الْكَفَّارَةِ (11) بَعْدَهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} (12) إلى آخرها.
وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنه كَانَ تَحْرِيمًا مجرَّداً قَبْلَ نُزُولِ الْكَفَّارَةِ، وأَن جَمَاعَةً مِنَ الْمُفَسِّرِينَ قالوا في قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} (13): إِن التَّحْرِيمَ كَانَ بِالْيَمِينِ حِينَ حَلَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن لَا يَشْرَبَ العسل (14)، وسيأْتي ذكر ذلك بحول الله تعالى.
فإِن قِيلَ: هَلْ يَكُونُ قَوْلُ الرَّجُلِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِني إِذا أَصبت اللَّحْمَ انْتَشَرْتُ للنساءِ (15) ... ، الْحَدِيثَ: مِنْ قَبِيلِ التحريم الثاني لا من
_________
(1) في (خ): "تتوقى".
(2) أخرجه البخاري (855)، ومسلم (564).
(3) في (ر) و (م): "رائحتها".
(4) في (ر): "وكذلك سائر ما تكره".
(5) في (خ) و (م): "المحل".
(6) في (ر) و (م): "ونحوها".
(7) قال الحافظ في "الفتح" (9/ 575): واختُلف في حقه هو صلّى الله عليه وسلّم، فقيل: كان ذلك محرماً عليه، والأصح أنه مكروه لعموم قوله: "لا" في جواب: "أحرام هو" اهـ.
(8) في (خ): "الأمر" بدل: "الآية".
(9) سورة المائدة: الآية (87).
(10) في (م): "فقد".
(11) في (خ): "الكفار".
(12) سورة المائدة: الآية (89).
(13) سورة التحريم: الآية (1).
(14) أخرجه البخاري (4912)، ومسلم (1474).
(15) تقدم تخريجه (ص208).(2/220)
الثَّالِثِ؛ لأَن الرَّجُلَ قَدْ يُحَرِّمُ الشيءَ لِلضَّرَرِ الْحَاصِلِ بِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ آنِفًا أَنه لَيْسَ بتحريم في الحقيقة (1)، فكذلك ها هنا لَا يُرِيدُ بِالتَّحْرِيمِ النَّذْرَ (2)، بَلْ يُرِيدُ بِهِ التَّوَقِّي خاصة (3)؛ أَي: إِني أَخاف عَلَى نَفْسِي العَنَتَ، وَكَانَ هَذَا الْمَعْنَى ـ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ـ هُوَ مَقْصُودَ الصَّحَابِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
فَالْجَوَابُ: أَن مَنْ يَلْحَقُه الضرر وقتاً مّا بِتَناول شيءٍ (4)، يُمْكِنُهُ أَن يُمسك عَنْهُ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيمٍ؛ إِذ التارك (5) لأَمر لَا يَلْزَمُهُ أَن يَكُونَ محرِّماً لَهُ، فَكَمْ مِنْ رَجُلٍ تَرَكَ (6) الطَّعَامَ الْفُلَانِيَّ، أَو النكاح لأَنه في الْوَقْتِ (7) لَا يَشْتَهِيهِ، أَو لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَعذار، حَتَّى إِذا زَالَ عُذْرُهُ تَنَاوُلَ مِنْهُ، وقد ترك صلّى الله عليه وسلّم أَكل الضَّبّ (8)، وَلَمْ يَكُنْ تَرْكُهُ مُوجِبًا لِتَحْرِيمِهِ له (9).
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَن الْمُرَادَ بِالتَّحْرِيمِ الظَّاهِرُ، وأَنه لَا يَصِحُّ ـ وإِن كَانَ لِعُذْرٍ ـ (10): أَن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ردَّ عَلَيْهِ بِالْآيَةِ، فَلَوْ كَانَ وُجُودُ مِثْلِ تِلْكَ الأَعذار مُبِيحًا لِلتَّحْرِيمِ بِالْمَعْنَى الثَّالِثِ لَوَقَعَ التَّفْصِيلُ فِي الْآيَةِ بالنسبة إِلى من حرَّم لعذر أَو لغير عُذْرٍ.
وأَيضاً فإِن الِانْتِشَارَ لِلنِّسَاءِ لَيْسَ بِمَذْمُومٍ؛ فإِن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الباءَة فَلْيَتَزَوَّجْ" (11) الْحَدِيثَ؛ فإِذا أَحب الإِنسان قضاءَ الشَّهْوَةِ تَزَوَّجَ فَحَصَلَ لَهُ مَا فِي الْحَدِيثِ زِيَادَةً إِلى النَّسْل الْمَطْلُوبِ فِي المِلَّة؛ فكأَن مُحرِّم مَا يَحْصُلُ بِهِ الانتشار ساعٍ في التشبه بالرهبانية، فكان (12) ذَلِكَ مُنْتَفِيًا (13) عَنِ الإِسلام كَسَائِرِ مَا ذُكر في الآية.
_________
(1) في (خ): "ليس بتحريم حقيقة".
(2) في (ر): "التدين" بدل "النذر".
(3) قوله: "خاصه" سقط من (خ).
(4) في (خ): "وقت ما يتناول شيئاً".
(5) في (خ): "والتارك" بدل "إذ التارك".
(6) في (ر): "يترك".
(7) علق رشيد رضا هنا بقوله: لعل الأصل: "في ذلك الوقت"؛ أي الذي ترك فيه ما ذُكر. اهـ.
(8) تقدم تخريجه قريباً (ص217).
(9) قوله: "له" من (ر) فقط.
(10) في (خ): "تقدم" بدل "لعذر".
(11) أخرجه البخاري (1905)، ومسلم (1400).
(12) في (خ): "وكان".
(13) في (ر): "منهياً".(2/221)
والمسألة (1) الثالثة (2): أَن هَذِهِ الْآيَةَ يُشْكِلُ مَعْنَاهَا مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} (3) الْآيَةَ، فإِن اللَّهَ أَخبر عَنْ نَبِيٍّ مِنْ أَنبيائه ـ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ـ أَنه حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ حَلَالًا، فَفِيهِ دَلِيلٌ لِجَوَازِ (4) مِثْلِهِ.
وَالْجَوَابُ: أَنه لَا دَلِيلَ فِي الْآيَةِ؛ لأَن مَا تَقَدَّمَ يُقَرِّرُ أَن لَا تَحْرِيمَ فِي الإِسلام، فَيَبْقَى مَا كَانَ شَرْعًا لِغَيْرِنَا مَنْفِيًّا، عَنْ شَرْعِنَا كَمَا تَقَرَّرَ فِي الأُصول.
خرَّج الْقَاضِي إِسماعيل وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما: أَن إِسرائيل ـ وهو يعقوب النبي (5) عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ أَخذه عِرْقُ النَّسَا (6)، فَكَانَ يَبِيتُ وله (7) زُقَاءٌ (8)، فجعل عليه إِن شفاه الله لَيُحَرِّمَنَّ عليه الْعُرُوقَ، وَذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ التَّوْرَاةِ. قَالُوا: فَلِذَلِكَ تَسُلّ (9) اليهود العروق (10)؛ أن (11) لا يأكلوها (12).
وَفِي رِوَايَةٍ: جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ أَن لَا يأْكل لحوم الإِبل. قال (13): فحرَّمته اليهود (14).
_________
(1) قوله: "والمسألة" ليس في (م) و (ر).
(2) في (ر) و (م): "والثالثة".
(3) سورة آل عمران: الآية (93).
(4) إلى هنا انتهى سقط الورقة من (غ).
(5) في (خ) و (م): "أن إسرائيل النبي يعقوب".
(6) النَّسا: على وزن عصا: عرق من الوَرك إلى الكعب، والأفصح أن يقال له: "النَّسا" لا: "عرق النَّسا". انظر: "لسان العرب" (15/ 321).
(7) في (م) و (خ): "وعليه".
(8) زُقاءٌ: أي: صياح كما جاء مُصَرَّحاً به في بعض الطرق.
(9) في (خ): "نسل".
(10) قوله: "العروق" سقط من (خ) و (م).
(11) قوله: "أن" ليس في (خ).
(12) في (خ) "لا يأكلونها".
(13) قوله: "قال" ليس في (غ) و (ر).
(14) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" (1/ 126)، ويزيد بن هارون في كتاب "النكاح" كما في "الفتح" (9/ 372) ومن ـ طريقه البيهقي (10/ 8) ـ، وأخرجه سعيد بن منصور في "سننه" (3/ 1067) رقم (508)، والطبري في "تفسيره" (7/ 10 ـ 12) من طرق عن ابن عباس، به.
وسنده صحيح كما بينته في تعليقي على "سنن سعيد بن منصور"، وقد صححه الحافظ ابن حجر في الموضع السابق من "الفتح".(2/222)
وَعَنِ الكَلْبي (1): أَن يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: إِنِ اللهُ شَفَاني لأُحَرِّمَنَّ أَطيبَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ ـ أَو قال: أَحبَّ الطعام والشراب (2) ـ إِليَّ. فَحَرَّمَ لُحُومَ الإِبل وأَلبانها.
قَالَ الْقَاضِي: الَّذِي نَحْسَبُ ـ وَاللَّهُ أَعلم ـ: أَن إِسرائيل حِينَ حرَّم على نفسه ما حرَّم من الحلال (3) لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَنْهِيًّا عَنْ ذَلِكَ، وأَنهم كَانُوا إِذا حرَّموا عَلَى أَنفسهم شيئاً من الحلال حُرِّم عليهم، كما كان الحالف إِذا حلف أَلاّ يَفْعَلَ شَيْئًا مِنَ الْحَلَالِ (4) لَمْ يَجُزْ لَهُ (5) أَن يفعله (6)، حَتَّى نَزَلَتْ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (7). وَالْحَالِفُ إِذا حَلَفَ عَلَى شيءٍ وَلَمْ يَقُلْ: "إِن شاءَ اللَّهُ" كَانَ بِالْخِيَارِ، إِن شاءَ فَعَلَ وكَفَّر، وإِن شاءَ لَمْ يَفْعَلْ. قَالَ: وَهَذِهِ الأَشياءُ (8) وَمَا أَشبهها مِنَ الشَّرَائِعِ يَكُونُ فِيهَا النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ، فَكَانَ النَّاسِخُ فِي هَذَا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} (9). قَالَ: فَلَمَّا وَقَعَ النهيُ لَمْ يَجُزْ للإِنسان أَن يَقُولَ: الطَّعَامُ عليَّ حَرَامٌ، وَمَا أَشبه ذَلِكَ مِنَ الْحَلَالِ. فإِن قَالَ إِنسان شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ بَاطِلًا، وإِن حَلَفَ عَلَى ذَلِكَ بِاللَّهِ كَانَ لَهُ أَن يَأْتيَ الذي هو خير، ويُكَفِّر عن يمينه.
والمسألة (10) الرَّابِعَةُ (11): أَن نَقُولَ: مِمَّا يُسْأَلُ عَنْهُ: قَوْلُهُ تعالى:
_________
(1) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" (1/ 126). والكلبي هو: محمد بن السائب، متهم بالكذب، ورمي بالرفض كما في "التقريب" (5938).
قال الطبري بعد أن ذكر الأقوال في تفسير الآية: "وأولى هذه الأقوال بالصواب: قول ابن عباس الذي رواه الأعمش، عن حبيب، عن سعيد، عنه: أن ذلك العروق ولحوم الإبل ... ". انظر: "تفسير الطبري" (7/ 15).
(2) في (خ): "أو الشراب".
(3) في (خ): "على نفسه من الحلال ما حرم".
(4) من قوله: "حرم عليهم" إلى هنا سقط من (خ).
(5) في (خ): "لهم".
(6) في (خ) و (م): "يفعلوه".
(7) سورة التحريم: الآية (2).
(8) قوله: "الأشياء" سقط من (غ) و (ر).
(9) سورة المائدة: الآية (87).
(10) قوله: "والمسألة" من (خ) فقط.
(11) في (ر) و (غ) و (م): "والرابعة".(2/223)
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} (1) الآية؛ لأن (2) فِيهَا (3) إِخباراً (4) بأَنه عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَرَّم عَلَى نَفْسِهِ مَا أَحلَّه اللَّهُ (5)؛ وَقَدْ نَزَلَ (6) عَلَيْهِ: {لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا} (7). وَمِثْلُ هَذَا يُجَلُّ مَقَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ فِيهِ، وأَن يكون منهيّاً عن شيء (8) هو اعتداء (9) ثُمَّ يأْتيه، حَتَّى يُقَالَ لَهُ فِيهِ: لِمَ تفعل؟ فلا بد من النظر في هذا (10) الْمُعَارِض (11).
وَالْجَوَابُ: أَن آيَةَ التَّحْرِيمِ إِن كَانَتْ هِيَ السابقةَ عَلَى آيَةِ العُقُود، فَظَاهِرٌ أَنها مُخْتَصَّة بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذ لَوْ أُريد: الأُمّة ـ على قول من قال به (12) مِنَ الأُصوليين ـ لَقَالَ: لِم تُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ؟ كما قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} (13) الْآيَةَ، وَهُوَ بَيِّن؛ لأَن سُورَةَ التَّحْرِيمِ قَبْلَ آية الأَحزاب، ولذلك لَمَّا آلَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نِسَائِهِ شَهْرًا بِسَبَبِ هَذِهِ الْقِصَّةِ نَزَلَ عليه في سورة الأَحزاب: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَِزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ (14) تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً *} (15) إلى آخرها (16). وأَيضاً فيُحتمل أَن يكون التحريم بمعنى الحلف على أَن لا
_________
(1) سورة التحريم: الآية (1).
(2) في (خ) و (م): "فإن".
(3) في (غ): "فيه".
(4) في (خ): "إخبار".
(5) في (غ) و (ر): "ما أُحلّ له".
(6) في (خ): "يدل".
(7) سورة المائدة: الآية (87).
(8) قوله: "شيء" سقط من (م).
(9) في (خ): "وأن يكون منهياً عنه اعتداء".
(10) في (خ): "هذه".
(11) في (خ) و (م): "المصارف" بدل "المعارض".
(12) قوله: "به" سقط من (خ).
(13) سورة الطلاق: الآية (1).
(14) إلى هنا انتهت الآية في (خ) و (م).
(15) سورة الأحزاب: الآية (28).
(16) في (خ): "إلخ" بدل "إلى آخرها".
وحديث التخيير أخرجه البخاري (4785)، ومسلم (1475) من حديث عائشة رضي الله عنها؛ قالت: لما أُمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه بدأ بي، فقال: "إني ذاكر لك أمراً، فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك". قالت: قد علم أن أبويّ لم يكونا ليأمراني بفراقه. قالت: ثم قال: "إن الله عز وجل قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَِزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً *وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا *} =(2/224)
يَفْعَلَ، وَالْحَلِفُ إِذا وَقَعَ فَصَاحِبُهُ مُخَيّر بَيْنَ أَن يَتْرُكَ المَحْلوف عَلَيْهِ، وَبَيْنَ أَن يَفْعَلَهُ ويُكَفِّر. وَقَدْ جاءَ فِي آيَةِ التَّحْرِيمِ: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (1)، فدل على أَنه كان يميناً حَلَفَ صلّى الله عليه وسلّم بِهَا.
وَذَلِكَ أَن النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي هَذَا التحريم، فقال جماعة: إِنه كَانَ تَحْرِيمًا لأُم وَلَدِهِ مَارِيَةَ القِبْطِيَّة (2) ـ بِنَاءً على أَن الآية نزلت في شأْنها،
_________
= [الأحزاب: 28، 29]. قالت: فقلت: في أيِّ هذا أستأمر أبويّ؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة. قالت: ثم فعل أزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مثل ما فعلت.
وأخرج البخاري أيضاً (2468)، ومسلم (1479) قصة الإيلاء بطولها من رواية ابن عباس، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.
(1) سورة التحريم: الآية (2).
(2) جاء ذلك عن جمع من الصحابة؛ منهم ابن عباس، وعمر، وأبو هريرة، وأنس رضي الله عنهم.
1 ـ أما حديث ابن عباس:
فأخرجه البزار (2274/كشف الأستار)، والطبراني في "الكبير" (11/ 86)، والبيهقي (7/ 352) من طريق مسلم الأعور، عن مجاهد، عن ابن عباس، به.
ومسلم هو: ابن كيسان الأعور ضعيف كما في "التقريب" (6685).
وأخرجه البيهقي (7/ 353) من طريق الحسين بن الحسن بن عطية بن سعد، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس، به.
وإسناده مسلسل بالضعفاء.
وأخرجه الطبراني في "الأوسط" (8764)، وابن مردويه في "تفسيره" كما في "الفتح" (9/ 377 و289) من طريق سعيد بن أبي هلال، عن يزيد بن رومان، عن ابن عباس في قصة طويلة، وفيها الجمع بين ذكر العسل وذكر مارية في سبب النزول. والذي في "الصحيحين" ذكر العسل فحسب؛ على خلاف في التي سقت العسل للنبي صلّى الله عليه وسلّم. وفي غيرهما ذكر مارية فحسب كما سيأتي.
قال الحافظ: "رواته لا بأس بهم".
لكن يزيد بن رومان لا يعرف له سماع من ابن عباس، وبين وفاتيهما أكثر من ستين سنة، وقد ذُكر في ترجمته أنه لم يسمع من أبي هريرة، ووفاة أبي هريرة قبل وفاة ابن عباس بنحو عشر سنين.
وسعيد بن أبي هلال نقل الساجي عن أحمد أنه اختلط.
وأخرجه ابن مردويه كما في "الفتح" (9/ 289) من طريق الضحاك، عن ابن عباس، وفيه زيادة: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لحفصة: لا تخبري عائشة حتى أبشرك ببشارة: إن أباك يلي هذا الأمر بعد أبي بكر إذا أنا مِتّ.=(2/225)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
_________
=والضحّاك لم يسمع من ابن عباس، ولذلك ضعفه الحافظ ابن حجر.
2 ـ وأما حديث عمر:
فأخرجه الهيثم بن كليب في "مسنده"، ومن طريقه الضياء في "المختارة" (1/ 300)؛ قال: ثنا أبو قلابة عبد الملك بن محمد الرقاشي، ثنا مسلم بن إبراهيم، ثنا جرير بن حازم، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر، به.
قال ابن كثير في "تفسيره" (8/ 186): إسناده صحيح، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة، وقد اختاره الحافظ الضياء المقدسي في كتابه "المستخرج".
قلت: عبد الملك هذا قال فيه الدارقطني: لا يُحتج بما انفرد به.
وقال أيضاً: صدوق، كثير الخطأ في الأسانيد والمتون، كان يحدِّث من حفظه، فكثرت الأوهام منه. اهـ.
ولعل هذا منها؛ فإن هذا الإسناد مما تتوافر الدواعي على تحصيله ونقله؛ ولو كان عند غيره لصاح به، فكيف يتفرد به؟ والله أعلم.
وأخرجه الدارقطني في "سننه" (4/ 41 رقم 122) من طريق عبد الله بن شبيب، عن إسحاق بن محمد، عن عبد الله بن عمر، عن سالم أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله، عن علي بن الحسين، عن ابن عباس، عن عمر بن الخطاب، ثم أخرجه بعده (4/ 42 رقم 123) من طريق عبد الله بن شبيب أيضاً، عن أحمد بن محمد بن عبد العزيز، عن كتاب أبيه، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، به.
وفي إسنادهما عبد الله بن شبيب: واهٍ، قال أبو أحمد الحاكم: ذاهب الحديث.
3 ـ وأما حديث أبي هريرة:
فأخرجه الطبراني في "الأوسط" (2316)، والعقيلي في "الضعفاء (4/ 155)، كلاهما من طريق هشام بن إبراهيم المخزومي، عن موسى بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري، مولاهم، عن عمه، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، به، وفيه ذكر أن الذي يلي الخلافة من بعده أبو بكر، ثم من بعده عمر.
وفي سنده موسى بن جعفر، قال العقيلي: "مجهول بالنقل، لا يتابع على حديثه، ولا يصح إسناده، ولا يعرف إلا به". وذكره الذهبي في "الميزان" (8853) وقال: "لا يعرف، وخبره ساقط"، ثم ذكر الحديث، وقال: "قلت: هذا باطل"، وضعفه الحافظ في "الفتح" (9/ 289).
4 ـ وأما حديث أنس: فهو أمثلها، وقد أخرجه النسائي (7/ 71)، والضياء في "المختارة" (5/ 70) من طريق حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، به.
وصححه الحافظ في "الفتح" (9/ 376) فقال: "وهو أصح طرق هذا السبب، وله شاهد مرسل أخرجه الطبري بسند صحيح عن زيد بن أسلم".=(2/226)
وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ: الْحَسَنُ، وَقَتَاَدَةُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَنَافِعٌ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ ـ، أَو كَانَ تَحْرِيمًا لِعَسَلِ زَيْنَبَ (1) ـ وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ ـ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ: إِنما كَانَ تَحْرِيمًا بِيَمِين.
قَالَ إِسماعيل بْنُ إِسحاق: يُمْكِنُ أَن يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَهَا ـ يَعْنِي جاريته ـ بيمين بالله (2)؛ لأَن الرَّجُلَ إِذا قَالَ لأَمته: وَاللَّهِ! لَا أَقْرَبُكِ، فَقَدْ حَرَّمَهَا عَلَى نَفْسِهِ بِالْيَمِينِ، فإِذا غَشِيَهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَفّارة الْيَمِينِ، ثُمَّ أَتى بمسأَلة ابْنِ مُقَرِّن (3).
وَيُمْكِنُ أَن يَكُونَ السّببُ شُرْبَ العَسَلِ، وَهُوَ الَّذِي وَقَعَ فِي الْبُخَارِيِّ (4) مِنْ طَرِيقِ هِشَامٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيج؛ قَالَ فيه: "بل (5) شَرِبْتُ عَسَلًا عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْش، فَلَنْ أَعُودَ لَهُ؛ وَقَدْ حَلَفْتُ، فَلَا تُخْبِرِي بِذَلِكَ أَحداً". وإِذا كَانَ كَذَلِكَ، فَلَمْ يَبْقَ فِي المسأَلة إِشكال. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْجَارِيَةِ وَالْعَسَلِ فِي الْحُكْمِ؛ لأَن تَحْرِيمَ الْجَارِيَةِ كَيْفَ مَا (6) كان؛ بمنزلة تحريم ما يؤكل ويُشرب.
_________
=وأخرجه الحاكم (2/ 493)، وعنه البيهقي (7/ 353) من طريق محمد بن بكير الحضرمي، عن سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس، به.
قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. ووافقه الذهبي.
ومحمد بن بكير لم يرو له مسلم شيئاً، وهو صدوق يخطئ كما قال الحافظ في "التقريب" (5802).
قال الحافظ في "الفتح" (8/ 657) بعد أن ذكر طرق الحديث: "وهذه الطرق يقوي بعضها بعضاً".
وقال في "التلخيص" (3/ 422): "وبمجموع هذه الطرق يتبين أن للقصة أصلاً أحسب، لا كما زعم القاضي عياض أن هذه القصة لم تأت من طريق صحيح، وغفل رحمه الله عن طريق النسائي التي سلفت فكفى بها صحة. والله الموفق".اهـ.
وقال في "اللسان" (7/ 174): "وأما قصة مارية فلها طرق كثيرة؛ تشعر بأن لها أصلاً".
وصحح الحافظ أيضاً في "الفتح" (12/ 343) نزول الآية في القصتين: العسل ومارية.
(1) أخرجه البخاري (4912)، ومسلم (1474).
(2) في (خ) و (م): "بيمين الله".
(3) وهو الذي حرم على نفسه أن ينام على فراشه سنة. وتقدم صفحة (213).
(4) تقدم تخريجه في التعليق رقم (1).
(5) قوله: "بل" ليس في (خ) و (م).
(6) قوله: "ما" من (خ) فقط.(2/227)
وأَما إِن فَرَضْنَا أَنَّ آيَةَ الْعُقُودِ هِيَ السابقةُ عَلَى آيَةِ التَّحْرِيمِ: فَيَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ كالأَول:
أَحَدُهُمَا: أَن يَكُونَ التَّحْرِيمُ ـ فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ ـ بِمَعْنَى الحَلِف.
وَالثَّانِي: أَن تَكُونَ آيَةُ الْعُقُودِ غَيْرَ مُتَنَاوِلَةٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأَن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا} (1) لَا يَدْخُلُ (2) فِيهِ؛ بِنَاءً عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ مِنَ الأُصوليين، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يَبْقَى فِي الْقَضِيَّةِ مَا يُنظر فِيهِ، وَلَا يكون للمُحْتَجّ بالآية مُتَعَلَّق، والله أَعلم.
_________
(1) سورة المائدة: الآية (87).
(2) في (خ): "لا تدخل".(2/228)
فَصْلٌ
إِذا ثَبَتَ هَذَا، فَكُلُّ مَنْ عَمِلَ عَلَى هَذَا الْقَصْدِ (1) فَعَمَلُهُ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لأَنه عَامِلٌ إِما بِغَيْرِ شَرِيعَةٍ؛ لأَنه لَمْ يَتَّبِعْ أدلَّتها (2)، وإِما عَامِلٌ بِشَرْعٍ مَنْسُوخٍ، وَالْعَمَلُ بِالْمَنْسُوخِ مَعَ الْعِلْمِ بِالنَّاسِخِ بَاطِلٌ بِلَا خِلَافٍ؛ لأَن الترهُّب وَالِامْتِنَاعَ مِنَ اللَّذَّاتِ (3) والنساءِ (4) وَغَيْرِ ذَلِكَ إِن كَانَ مَشْرُوعًا فَفِيمَا قَبْلَ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ مِنَ الشَّرَائِعِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَكِنِّي أَصوم وأُفطر، وأُصلي (5) وَأَرْقُدُ (6)، وأَتزوج النساءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي" (7)، وَهُوَ مَعْنَى الْبِدْعَةِ.
فإِن قِيلَ: فَقَدْ تَقَدَّمَ (8) مِنْ نَقْلِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ فِي الرَّهْبَانِيَّةِ: أَنَّهَا السِّيَاحة واتِّخاذ الصَّوَامِعِ للعُزْلَة. قَالَ: وَذَلِكَ مَنْدُوبٌ إِليه فِي دِينِنَا عِنْدَ فَسَادِ الزَّمَانِ.
وَقَدْ بَسَطَ الْغَزَالِيُّ هَذَا الْفَصْلَ فِي "الإِحياء" (9) حين (10) ذَكَرَ الْعُزْلَةِ، وَذَكَرَ فِي كِتَابِ "آدَابِ النِّكَاحِ" (11) مِنْ ذَلِكَ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ. وَحَاصِلُهُ: أَن ذَلِكَ مَشْرُوعٌ، بَلْ هُوَ الأَولى عِنْدَ عُرُوضِ الْعَوَارِضِ، وَعِنْدَمَا يَصِيرُ النِّكَاحُ وَمُخَالَطَةُ النَّاسِ وَبَالًا عَلَى الإِنسان، ومؤدِّياً إِلى اكْتِسَابِ الْحَرَامِ وَالدُّخُولِ
_________
(1) في (ر) و (غ): "العهد".
(2) في (م): "أدلته".
(3) قوله: "اللذات" ليس في (خ).
(4) في (خ): "النساء".
(5) في (غ): قدم قوله: "وأصلي" على قوله: "وأفطر"، ثم وضع عليهما علامتي التقديم والتأخير (مـ مـ).
(6) في (خ) و (م): "وأنام".
(7) تقدم تخريجه (ص147).
(8) تقدم (ص147).
(9) (2/ 222).
(10) في (خ): "عند".
(11) من "الإحياء" (2/ 22 ـ 37).(2/229)
فِيمَا لَا يَجُوزُ، كَمَا جاءَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يُوشِكُ أَن يَكُونَ خيرَ مالِ الْمُسْلِمِ غنمٌ (1) يَتْبَعُ بها شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ القَطْر، يَفِرّ بِدِينِهِ مِنَ الفِتَن" (2). وَسَائِرُ مَا جاءَ فِي هَذَا الْمَعْنَى.
وَأَيْضًا فإِن اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً *} (3). والتَّبَتُّلُ ـ عَلَى مَا قَالَهُ زَيْدُ بْنُ أَسلم ـ: رَفْضُ الدُّنْيَا؛ مِنْ قَوْلِهِمْ: بَتَلْتُ الحَبْلَ بَتْلاً: إِذا قطعته، ومعناه: انقطع مِنْ كُلِّ شيءٍ إِلا مِنْهُ.
وَقَالَ الْحَسَنُ (4) وغيره: بَتِّل إِليه نفسَكَ واجْتَهِد. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ (5): تفرَّغْ لِعِبَادَتِهِ. هَذَا إِلى مَا جاءَ عَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنَ الِانْقِطَاعِ إِلى عِبَادَةِ اللَّهِ، وَرَفْضِ أَسْبَابِ الدُّنْيَا، والتخلِّي عَنِ الْحَوَاضِرِ إِلى الْبَوَادِي، وَاتِّخَاذِ الخَلَوَات فِي الْجِبَالِ والبَرارِي، حَتَّى إِن بَعْضَ الْجِبَالِ الشاميَّة قد خصَّها الله بالأَولياءِ والمنقطعين؛ كجبل (6) لُبْنَانَ وَنَحْوِهِ.
فَمَا وَجْهُ ذَلِكَ (7)؟
فَالْجَوَابُ: أَن الرَّهبانية إِن كانت بالمعنى (8) المقرَّر في الشرائع (9) الأُوَلِ، فَلَا نسلِّم أَنَّهَا فِي شَرْعِنَا؛ لِمَا تقدم من الأَدلة الدالّة (10) عَلَى نَسْخِهَا، كَانَتْ لعارِضٍ أَوْ لِغَيْرٍ عارِض، إِذ لا رهبانية في الإِسلام (11)،
_________
(1) في (غ) و (ر): "غنماً".
(2) أخرجه البخاري (19).
(3) سورة المزمل: الآية (8).
(4) أخرجه الطبري في "التفسير" (23/ 688) من طريق أشعث بن سَوّار، عن الحسن البصري، وسنده ضعيف لضعف أشعث بن سَوّار؛ كما في "التقريب" (528).
(5) هو: عبد الرحمن بن زيد بن أسلم؛ وقوله هذا: أخرجه الطبري في "التفسير" (23/ 689) بسند صحيح إليه.
(6) في (م) و (خ): "إلى" بدل "كجبل".
(7) أي: ما وجه كلام ابن العربي؟ وقوله: "ذلك" سقط من (غ) و (ر).
(8) في (م): "بمعنى".
(9) في (خ): "في شرائع" وفي (م): "بالشرائع".
(10) قوله: "الدالة" ليس في (خ).
(11) تقدم تخريج حديث: "لا رهبانية في الإسلام" (ص27 ـ 28 و212).(2/230)
وقد ردَّ رسول الله (ص) (1) التبُّتل (2) حَسْبَمَا تَقَدَّمَ (3).
وإِن كَانَتْ بِمَعْنَى الِانْقِطَاعِ إِلى اللَّهِ حَسْبَمَا شَرَع، وَعَلَى (4) حدِّ مَا انْقَطَعَ إِلَيْهِ (5) رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ المُخَاطَب بِقَوْلِهِ: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} (6)، فهذا هو الذي نحن في تقريره: أنه (7) السُّنَّة المُتَّبَعَةُ، والهَدْيُ الصَّالِحُ، وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ. وَلَيْسَ فِي كَلَامِ زَيْدِ بْنِ أَسلم وَغَيْرِهِ فِي معنى التبتُّل ما يُنَافِرُ (8) هَذَا الْمَعْنَى؛ لأَن رَفْض الدُّنْيَا لَيْسَ بِمَعْنَى طَرْح اتِّخَاذِهَا جُمْلَةً، وَتَرْكِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا، بَلْ بِمَعْنَى تَرْكِ الشُّغل بِهَا عَمَّا كُلِّف الإِنسان بِهِ مِنَ الْوَظَائِفِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَاجْعَلْ سِيَرَ السَّلَفِ الصالح فيها (9) مِرْآةً لَكَ تَنْظُرُ فِيهَا مَعْنَى التبتُّل عَلَى وجهه (10)؛ اقْتِداءً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلَقَدْ كَانُوا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ مُكْتَسِبِينَ لِلْمَالِ، متمتِّعين (11) بِهِ فِيمَا أُبيح لَهُمْ، مُنْفِقِين لَهُ حَيْثُ نُدبوا، لَمْ يَتَعَلَّقْ بِقُلُوبِهِمْ مِنْهُ شَيْءٌ، إِذا عَنَّ لَهُمْ أَمر أَو نَهْي، بَلْ قَدَّموا أَمر اللَّهِ وَنَهْيَهُ عَلَى حُظُوظِ أَنْفُسِهِمُ الْعَاجِلَةِ (12) عَلَى وجهٍ لَمْ يُخِلَّ بِحُظُوظِهِمْ فِيهِ، وَهُوَ التوسُّط الذي تقدم تقريره (13).
ثُمَّ نَدَبَهُمُ الشَّارِعُ إِلى اتِّخَاذِ الْأَهْلِ وَالْوَلَدِ، فَبَادَرُوا إِلى الِامْتِثَالِ، وَلَمْ يَقُولُوا: هُوَ شَاغِلٌ لَنَا عَمَّا أُمرنا بِهِ؛ لأَن هَذَا الْقَوْلَ مُشْعِرٌ بِالْغَفْلَةِ عَنْ مَعْنَى التَّكْلِيفِ بِهِ، فإِن الأَصل الشَّرْعِيَّ: أَن كلَّ مَطْلُوبٍ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يُتعبَّد بِهِ إِلى اللَّهِ تَعَالَى، ويُتقرب بِهِ إِلَيْهِ. فَالْعِبَادَاتُ (14) المَحْضَة ظاهرٌ فِيهَا ذَلِكَ، وَالْعَادَاتُ (15) كلُّها إِذا قُصد بِهَا امْتِثَالُ أمر الله عبادات؛ إِلا أنه إِذا
_________
(1) قوله: "رسول الله" ليس في (خ).
(2) في (ر) و (غ): "المتبتل".
(3) انظر صفحة (206 ـ 208).
(4) في (غ) و (ر): "على".
(5) في (م): "ما انقطع إلى الله".
(6) سورة المزمل: الآية (8).
(7) في (خ) و (م): "وأنه".
(8) في (خ) و (م): "ما يناقض".
(9) قوله: "فيها" ليس في (خ) و (م).
(10) في (خ): "على وجه".
(11) قوله: "متمتعين" سقط من (خ) و (م).
(12) في (خ): "الفاصلة".
(13) في (خ) و (م): "ذكره" بدل "تقريره".
(14) في (ر) و (غ): "بالعبادات".
(15) في (غ) و (ر) و (خ): "والعبادات".(2/231)
لم (1) يقصد بها ذلك القصد (2)، ونَحَى (3) بِهَا نَحْوَ الْحَظِّ مُجَرَّداً، فَإِذْ ذَاكَ لَا تَقَعُ مُتَعَبَّداً بِهَا، وَلَا مُثَابًا عَلَيْهَا، وإِن صَحّ وُقُوعُهَا شَرْعًا.
فَالصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى تَعَالَى عَنْهُمْ قَدْ فَهِمُوا هَذَا الْمَعْنَى، وَلَا يُمْكِنُ مَعَ فَهْمِه أَنْ تَتَعَارَضَ (4) الأَوامر فِي حَقِّهِمْ، وَلَا فِي حَقٍّ مَنْ فَهِمَ مِنْهَا ما فهموا (5)، فالتبتُّل عَلَى هَذَا الْوَجْهِ صَحِيحٌ أَصِيلٌ فِي الْجَرَيَانِ عَلَى السُّنَّةِ، وَكَذَلِكَ كَلَامُ الْحَسَنِ وَغَيْرِهِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ صَحِيحٌ إِذا "أَخَذَ هَذَا المأْخذ؛ أي: لا تتبع الهوى (6) وَاتَّبِعْ أَمر رَبِّكَ؛ فإِنه الْعَلِيمُ بِمَا يَصْلُح لَكَ، وَالْقَائِمُ عَلَى تَدْبيرك، وَلِذَلِكَ قَالَ عَلَى أَثرها: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً *} (7)؛ أَيْ: فَكَمَا أَنَّهُ (8) وَكِيلٌ لَكَ بِالنِّسْبَةِ إِلى مَا لَيْسَ مِنْ كَسْبِك، فَكَذَلِكَ هُوَ وَكِيلٌ عَلَى مَا هُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ كَسْبك؛ مِمَّا هُوَ (9) تَكْلِيفٌ فِي حَقِّك. وَمِنْ جُمْلَةِ مَا تَوَكّل لَكَ فِيهِ: أَنْ لَا تُدخِل نَفْسَكَ في عملٍ تُحرَج بسببه حالاً أو مآلاً.
وَقَدْ فُسِّرَ التبتُّلُ بأَنه الإِخلاص، وَهُوَ قَوْلُ مجاهد (10) والضحاك (11).
_________
(1) في (خ): "إلا أنه لم"، وفي (م): "إلا أنه ما لم".
(2) في (غ): "المقصود".
(3) في (خ) و (م): "يجيء".
(4) في (م): "يتعارض".
(5) في (خ): "ما فهموا منها".
(6) في (خ): "أي: اتبع الهوى"، فأصلحها رشيد رضا هكذا: "أي اتبع الهدى"، ثم علق عليه بقوله: في الأصل: "اتبع الهوى" بالواو، ولعل في الكلام تحريفاً ونقصاً. اهـ ..
(7) سورة المزمل: الآية (9).
(8) في (خ): "أي: بك وإنه".
(9) قوله: "هو" سقط من (ر).
(10) أخرجه آدم بن أبي إياس في "تفسيره" المطبوع باسم "تفسير مجاهد" (ص700) عن شيبان بن عبد الرحمن النحوي، عن منصور بن المعتمر، عن مجاهد: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً}؛ يقول: أخلص إليه إخلاصاً.
وسنده صحيح.
وأخرجه ابن جرير في "تفسيره" (23/ 688) من طريق سفيان الثوري وجرير بن عبد المجيد، كلاهما عن منصور به.
(11) أخرجه ابن جرير الطبري من الموضع السابق، فقال: حُدِّثت عن الحسين؛ قال: سمعت أبا معاذٍ يقول: ثنا عبيد؛ قال: سمعت الضحاك يقول ـ في قوله: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} ـ؛ قال: أخلص إليه إخلاصاً.
وسنده ضعيف لإبهام شيخ ابن جرير.(2/232)
وَقَالَ قَتَادَةُ: أَخْلِصْ لَهُ الْعِبَادَةَ وَالدَّعْوَةَ (1).
فَعَلَى هذا التفسير لا مُتَعَلَّق (2) فيها لمَوْرِدِ السؤال.
وإِذا تَقَرَّرَ هَذَا فَالْفِرَارُ مِنَ الْعَوَارِضِ بِالسِّيَاحَةِ (3)، وَاتِّخَاذُ الصَّوَامِعِ، وسُكْنَى الْجِبَالِ وَالْكُهُوفِ؛ إِن كَانَ عَلَى شَرْطِ أَن لَا يُحرِّموا مَا أَحل اللَّهُ مِنَ الأُمور الَّتِي حَرَّمها الرُّهبان، بَلْ عَلَى حدِّ مَا كَانُوا عَلَيْهِ (4) فِي الحَوَاضِر (5) ومَجَامع النَّاسِ، لَا يشدِّدون عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِمِقْدَارِ مَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ، فَلَا إِشكال فِي صِحَّةِ هَذِهِ الرَّهْبَانِيَّةِ، غَيْرَ أَنها لَا تُسَمَّى رَهْبَانِيَّةً إِلا بنوعٍ مِنَ المَجَاز، أَو النَّقْلِ الْعُرْفِيِّ الَّذِي لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ مُعْتَادُ اللُّغَةِ، فَلَا تَدْخُلُ في مقتضى قوله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً (6) ابْتَدَعُوهَا} (7)، لَا فِي الِاسْمِ، وَلَا فِي الْمَعْنَى.
وإِن كان على التزام ما التزمه الرهبان المتقدمون (8)، فَلَا نسلِّم أَنه فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ مَنْدُوبٌ إِليه ولا مباح، بل هو مما لا يجوز؛ لأَنه كالتشريع (9) بِغَيْرِ شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا يَنْتَظِمُهُ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خيرُ مالِ الْمُسْلِمِ غنماً يَتْبَعُ بها شَعَفَ الْجِبَالِ، وَمَوَاقِعَ القَطْر، يَفِرّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ" (10)، وإِنما ينتظمه معنى قوله عليه السلام (11): "مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي" (12).
وأَما مَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ تَفْضِيلِهِ الْعُزْلَةَ على المخالطة، وترجيح العُزْبَةِ على اتّخاذ الأَهل (13) عِنْدَ اعْتِوَارِ (14) الْعَوَارِضِ، فَذَلِكَ (15) يُسْتَمَدّ مَنْ أَصلٍ آخر، لا من هنا.
_________
(1) أخرجه الطبري في "تفسيره" (23/ 688) بسند حسن.
(2) في (خ): "لا تعلق".
(3) في (خ): "وإذا تقرر هذا فالسياحة".
(4) قوله: "عليه" من (خ) فقط.
(5) في (م): "الخواص".
(6) في (غ) و (ر): "رهبانية".
(7) سورة الحديد: الآية (27).
(8) قوله: "المتقدمون" ليس في (خ) و (م).
(9) في (خ) و (م): "كالشرع".
(10) تقدم تخريجه صفحة (230).
(11) من قوله: "يوشك أن يكون" إلى هنا سقط من (خ) و (م).
(12) تقدم تخريجه صفحة (147).
(13) في (خ) و (م): "أهل".
(14) في (ر) و (غ): "عند اعتراض".
(15) في (ر) و (غ): "فكذلك".(2/233)
وَبَيَانُهُ: أَن الْمَطْلُوبَاتِ الشَّرْعِيَّةَ لَا تَخْلُو (1) أَنْ يَكُونَ الْمُكَلَّفُ قَادِرًا عَلَى الِامْتِثَالِ فِيهَا، مَعَ سلامته عند العمل بها من (2) وقوعه في وجه (3) مَنْهِيٍّ عَنْهُ أَوْ لَا؟ فَإِنْ كَانَ قَادِرًا فِي مَجَارِي الْعَادَاتِ بِحَيْثُ لَا يُعَارِضُهُ مَكْرُوهٌ أَوْ مُحَرَّم، فَلَا إِشكال فِي كَوْنِ الطَّلَبِ مُتَوَجِّهًا عَلَيْهِ بِقَدْرِ اسْتِطَاعَتِهِ، عَلَى حَدّ مَا كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ عَلَيْهِ قَبْلَ وُقُوعِ الْفِتَنِ، وإِن لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ إِلا بِوُقُوعِهِ فِي مَكْرُوهٍ أَو مُحَرَّمٍ، فَفِي بقاءِ الطَّلَبِ هُنَا تَفْصِيلٌ ـ بِحَسْبَ مَا يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ أَبي حَامِدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ـ؛ إِذ يَكُونُ الْمَطْلُوبُ مَنْدُوبًا، لَكِنَّهُ لَا يَعْمَلُ بِهِ إِلا بِوُقُوعِهِ فِي مَمْنُوعٍ، فَالْمَنْدُوبُ سَاقِطٌ عَنْهُ بِلَا إِشكال، كالمندوب للصدقة على المحتاج لا يجد (4) بِيَدِهِ إِلا مَالُ الْغَيْرِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ الْعَمَلُ بِالنَّدْبِ؛ لأَنه يَقَعُ بِسَبَبِهِ فِي التصرُّف في مال الغير بغير إِذنه، وذلك لَا يَجُوزُ (5)، فَهُوَ كَالْفَاقِدِ لِمَا يَتَصَدَّق بِهِ. وكالقائم عَلَى مَرِيضِهِ الْمُشْرف (6)، أَوْ دَفْنِ مَيِّتٍ يَخَافُ عليه (7) تَغَيُّرَهُ (8) بِتركه، ثُمَّ يَقُومُ يُصَلّي نَافِلَةً، وَالْمُتَزَوِّجُ لَا يَجِدُ إِلا مَالًا حَرَامًا، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ.
وَقَدْ يَكُونُ الْمَطْلُوبُ وَاجِبًا، إِلا أَنَّ وُقُوعَهُ فِيهِ يُدْخِلُه فِي مَكْرُوهٍ ـ وَهَذَا غيرُ معتدِّ بِهِ؛ لأَن الْقِيَامَ بِالْوَاجِبِ آكَدُ ـ، أَوْ يُوقِعُهُ فِي مَمْنُوعٍ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَتَعَارَضُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، إِلا أَنَّ الْوَاجِبَاتِ لَيْسَتْ عَلَى وزَانٍ وَاحِدٍ، كَمَا أَنَّ المحرَّمات كَذَلِكَ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْمُوَازَنَةِ، فإِن ترجَّح جَانِبُ الْوَاجِبِ صَارَ المُحَرَّمُ في حكم العَفْو، أو في حُكْمِ التَّلافِي إِن كَانَ مِمَّا تُتَلاَفَى مفسدَتُه، وإِن تَرَجَّحَ جَانِبُ المُحَرّم سَقَطَ حُكْمُ الْوَاجِبِ، أو طُلب بالتَّلافِي، وإِن تَعادلا (9)
_________
(1) في (م): "لا يخلو".
(2) في (ر) و (غ): "ومن".
(3) قوله: "وجه" ليس في (خ) و (م).
(4) قوله: "يجد" سقط من (خ) و (م).
(5) في (خ) و (م): "بغير إذنه ولا يجوز"، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: لعله حذف من هنا كلمة؛ هي: "هو" أو "ذلك".اهـ.
(6) أي: مُشْرف على الوفاة.
(7) قوله: "عليه" ليس في (خ) و (م).
(8) في (خ): "تغييره".
(9) في (خ): "وإن كان تعادلا"، وفي (م): "وإن تعادل"، وعلق رشيد رضا عليها بقوله: "كان" زائدة لا حاجة إليها. اهـ.(2/234)
فِي نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ، فَهُوَ مَجَالُ نظرِ المُجْتَهِدين، والأَولى ـ عِنْدَ جَمَاعَةٍ ـ رعايةُ جَانِبِ المُحَرَّم؛ لأَن درءَ الْمَفَاسِدِ آكَدُ مِنْ جَلْبِ الْمَصَالِحِ.
فإِذا كَانَتِ الْعُزْلَةُ مُؤَدِّيَةً إِلى السَّلَامَةِ، فَهِيَ الأَولى فِي أَزمنة الْفِتَنِ، وَالْفِتَنُ لَا تَخْتَصّ بِفِتَنِ الحروب فقط؛ بل (1) هي (2) جَارِيَةٌ فِي الْجَاهِ وَالْمَالُ وَغَيْرِهِمَا مِنْ مُكْتَسَبات الدُّنْيَا، وَضَابِطُهَا: مَا صَدّ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ، ومثل هذا النَّظَر (3) يَجْرِي بَيْنَ الْمَنْدُوبِ وَالْمَكْرُوهِ، وَبَيْنَ الْمَكْرُوهِينَ.
وإِن كَانَتِ العزلةُ مُؤَدِّيَةً إِلى تَرْك الجُمُعات، وَالْجَمَاعَاتِ، والتعاون على الطاعات، وأشباه ذلك؛ فإِنها أَيْضًا سَلَامَةٌ (4) مِنْ جِهَةٍ أُخرى (5)، وَيَقَعُ التَّوَازُنُ بَيْنَ المأْمورات وَالْمَنْهِيَّاتِ. وَكَذَلِكَ النِّكَاحُ، إِذا أَدَّى إِلى الْعَمَلِ بِالْمَعَاصِي، وَلَمْ يَكُنْ فِي تَرْكِهِ مَعْصِيَةٌ كَانَ تَرْكُهُ أَولى.
وَمِنْ أَمثلة ذَلِكَ ـ غَيْرَ أَنه مُشْكِلٌ ـ: مَا ذَكَرَهُ (6) الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ بِسَنَدِهِ إِلى حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ أَنه قال لمَعْن بن ثَوْر السُّلَمي (7): هَلْ تَدْرِي لِمَ اتَّخَذَتِ النَّصَارَى الدِّيَارَاتِ؟ قَالَ مَعْن: ولِمَ؟ قال: إِنه لما أحدثت (8) الملوك في دينها (9) البدع، وضيَّعوا أَمر النبيين، وأكلوا الخنزير (10)، اعْتَزَلُوهُمْ فِي الدِّيارات، وَتَرَكُوهُمْ وَمَا ابْتَدَعُوا، فتَخَلَّوا للعبادة. قال حبيب لمَعْن: فهل لك؟ قال: ليس بيوم ذلك (11).
_________
(1) قوله: "بل" ليس في (خ) و (م).
(2) في (م) و (خ): "فهي".
(3) قوله: "النظر" ليس في (خ) و (م).
(4) في (م): "سالمة".
(5) في عبارة المؤلف اختصار شديد والذي يظهر من معناها: أن العزلة في بعض الأزمان قد تكون سلامة من الفتن؛ وإن كان سيترتب عليها فوات مصلحة الجمعات والجماعات والتعاون على الطاعات، فتقع الموازنة بين المصلحة الفائتة والمفسدة المدفوعة وترجح أولاهما بالتحصيل أو الدفع.
(6) في (غ) و (ر): "ما ذكر".
(7) قوله: "السلمي" ليس في (خ) و (م).
(8) في (خ) و (م): "أحدث".
(9) قوله: "في دينها" ليس في (خ) و (م).
(10) في (خ) و (م): "الخنازير".
(11) أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (59/ 432) من طريق أحمد بن المعلى، عن العباس بن عثمان، عن الوليد بن مسلم، نا ابن جابر وعبد الله بن العلاء بن زَبْر؛ قالا: سمعنا عطية بن قيس يقول: قال حبيب ... ، فذكره.=(2/235)
فاقْتَضَى أَنَّ مِثْلَ مَا فَعَلَتْهُ (1) النَّصَارَى مَشْرُوعٌ في ديننا، وليس (2) كَذَلِكَ، وَمُرَادُهُ: أَنَّ اعْتِزَالَ النَّاسِ عِنْدَ اشْتِهَارِهِمْ بِالْبِدَعِ وَغَلَبَةِ الأَهواءِ عَلَى حدِّ مَا شُرع فِي دِينِنَا مَشْرُوعٌ (3)، لَا أَنَّ نَفْسَ مَا فعلت النصارى في رهبانيتها يشرع (4) لَنَا؛ لِمَا ثَبَتَ مِنْ نَسَخِهِ.
فَعَلَى هَذِهِ الأَحْرُف جَرَى كَلَامُ الإِمام أَبِي حَامِدٍ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ نَقَلَ هُوَ عَنْهُمْ، وَاحْتَجَّ بِهِمْ. وَيَدُلُّ عى ذَلِكَ: أَنَّ جَمَاعَةً مِمَّنْ نُقِلَ عَنْهُمُ التَّرْغِيبُ في العُزْبة (5) كانوا متزوّجين، ولم يكن ذلك مانعاً لهم (6) مِنَ البقاءِ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ، بِنَاءً مِنْهُمْ عَلَى التَّحَرِّي فِي الْمُوَازَنَةِ بَيْنَ مَا يَلْحَقُهُمْ بِسَبَبِ التزوُّج؛ فَلَا إِشكال إِذاً عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ فِي كَلَامِ الْغَزَالِيِّ وَلَا غَيْرِهِ (7) مِمَّنْ سَلَكَ مسْلَكَه؛ لأَنهم بَنَوْا عَلَى أَصلٍ قَطْعي فِي الشَّرْعِ، مُحْكَمٍ لَا يَنْسَخُهُ شَيْءٌ؛ وَلَيْسَ مِنْ مسأَلتنا بِسَبِيلٍ، وَلَكِنْ ثَمَّ تَحْقِيقٌ زَائِدٌ لَا يَسَعُ إِيراده هَاهُنَا، وَأَصْلُهُ مَأْخُوذٌ مِنْ كِتَابِ "الْمُوَافَقَاتِ"، مَنْ تَمَرَّنَ فِيهِ حَقَّقَ هَذَا الْمَعْنَى عَلَى التَّمَامِ، وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَالْحَاصِلُ: أَن مَضْمون هَذَا الْفَصْلِ يَقْتَضِي أَن العمل على الرهبانيَّة المنفيَّة في الآية قصداً (8) بِدْعَةٌ مِنَ الْبِدَعِ الْحَقِيقِيَّةِ لَا الإِضافية، لِرَدّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا أصلاً وفرعاً.
_________
=وإسناده لا بأس به.
وقد ترجم ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (8/ 276) لمعن بن ثور، فقال: معن بن ثور: قال: اجتمع هو وحبيب بن مسلمة، فسألا راهباً في صومعته عن سبب احتباسه.
روى عنه عطية بن قيس، سمعت أبي يقول ذلك.
وذكر ابن عساكر عبارة ابن أبي حاتم، ثم قال: كذا قال! والمحفوظ ما تقدم. اهـ؛ أي: باللفظ الذي ساقه الشاطبي، والله أعلم.
(1) في (غ) و (ر): "ما فعلت".
(2) قوله: "وليس" من (غ) و (ر) فقط.
(3) قوله: "مشروع" سقط من (خ).
(4) في (خ): "متيسر" وفي (م): "مشروع".
(5) في (م) و (خ): "العزلة".
(6) قوله: "لهم" ليس في (خ) و (م).
(7) في (ر) و (غ): "وغيره".
(8) قوله: "قصداً" سقط من (خ) و (م).(2/236)
فَصْلٌ
ثَبَتَ بِمَضْمُونِ هَذِهِ الْفُصُولِ المتقدِّمة آنِفًا أَنَّ الحَرَج مَنْفِيٌّ عَنِ الدِّينِ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا؛ وإِن كَانَ قَدْ ثَبَتَ أَيْضًا فِي الأُصول الْفِقْهِيَّةِ عَلَى وَجْهٍ مِنَ الْبُرْهَانِ أَبْلَغَ، فَلْنَبْنِ عليه فنقول:
قد فهم قوم من أحوال (1) السَّلَفِ الصَّالِحِ وأَهل الِانْقِطَاعِ إِلى اللَّهِ ـ مِمَّنْ ثبتت وِلَايَتُهُمْ ـ أَنَّهُمْ كَانُوا يشدِّدون عَلَى أَنفسهم، ويُلزمون غيرهم الشدَّة أيضاً، فأقرّ هؤلاء الشدَّة (2) وَالْتِزَامَ (3) الحَرَج دَيْدَناً فِي سُلُوكِ طَرِيقِ الْآخِرَةِ، وعَدُّوا (4) مَنْ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ هَذَا الِالْتِزَامِ (5) مقصِّراً مَطْرُودًا (6) وَمَحْرُومًا وربَّما فَهِمُوا ذَلِكَ مِنْ بَعْضِ الإِطلاقات الشَّرْعِيَّةِ، فرشَّحوا (7) بِذَلِكَ مَا الْتَزَمُوهُ، فأَفضى الأَمر بِهِمْ إِلى الْخُرُوجِ عَنِ السُّنَّةِ إِلى الْبِدْعَةِ الْحَقِيقِيَّةِ أَو الإِضافية.
فَمِنْ ذَلِكَ: أَن يَكُونَ للمُكَلَّف طَرِيقَانِ فِي سُلُوكِهِ لِلْآخِرَةِ: أَحدهما: سَهْلٌ، وَالْآخِرُ صَعْبٌ، وَكِلَاهُمَا فِي التوصُّل إِلى الْمَطْلُوبِ عَلَى حدٍّ وَاحِدٍ؛ فيأْخذ بَعْضُ الْمُتَشَدِّدِينَ بِالطَّرِيقِ الأَصعب الَّذِي يشقُّ عَلَى المكلَّف مثلُه، وَيَتْرُكُ الطَّرِيقَ الأَسهل؛ بِنَاءً عَلَى التَّشْدِيدِ على النفس، كالذي يجد للطهارة
_________
(1) في (خ): "أصول"، وعلق عليها رشيد رضا بقوله: كلمة "أصول" لا يظهر لها معنى هاهنا. اهـ.
(2) قوله: "فأقر هؤلاء الشدة" ليس في (خ) و (م).
(3) في (ر) و (غ): "وإلزام".
(4) في (خ): "وعدول".
(5) في (ر) و (غ): "الإلزام".
(6) في (غ) و (ر): "ومطروداً".
(7) أي: فَقَوَّوا ودعموا، يقال: ترشح: إذا قوي على المشي مع أمه.
وقال الأصمعي: إذا وضعت الناقة ولدها فهو شليل، فإذا قوي ومشى فهو راشح. "لسان العرب" (2/ 449)(2/237)
ماءَين: سخن وبارد، فيتحرَّى الباردَ الشاقَّ استعمالُه، ويتركُ الْآخَرَ؛ فَهَذَا لَمْ يُعْطِ النَّفْسَ حقَّها الَّذِي طَلَبَهُ الشَّارِعُ مِنْهُ، وَخَالَفَ دَلِيلَ رَفْعِ الْحَرَجِ مِنْ غَيْرِ مَعْنًى زَائِدٍ، فَالشَّارِعُ لَمْ يَرْضَ بشرعيَّة مِثْلِهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (1): {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (2)، فَصَارَ متَّبعاً لِهَوَاهُ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "أَلا أَدلكم عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟: إِسْباغ الوضوءِ عِنْدَ الكَرِيهَات ... " (3) الْحَدِيثَ؛ مِنْ حَيْثُ كَانَ الإِسباغ مَعَ كَرَاهِيَةِ النَّفْسِ سَبَبًا لمَحْو الْخَطَايَا وَرَفْعِ الدَّرَجَاتِ، فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ للإِنسان أَن يَسْعَى فِي تَحْصِيلِ هَذَا الأَجر، وذلك (4) بإِكراه النَّفْسِ، وَلَا يَكُونُ إِلا بتَحَرِّي إِدخال الْكَرَاهِيَةِ عَلَيْهَا؛ لأَنا نَقُولُ: لَا دَلِيلَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى مَا قُلْتُمْ، وإِنما فِيهِ أَنَّ الإِسباغ مَعَ وُجُودِ الْكَرَاهِيَةِ، فَفِيهِ أَمر زَائِدٌ؛ كَالرَّجُلِ يَجِدُ مَاءً بَارِدًا فِي زَمَانِ الشتاءِ، وَلَا يَجِدُهُ سُخْنًا، فَلَا يَمْنَعُهُ شدَّةُ بَرْدِه عَنْ كَمَالِ الإِسباغ.
وأَما الْقَصْدُ إِلى الْكَرَاهِيَةِ فَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَقْتَضِيهِ، بَلْ فِي الأَدلة الْمُتَقَدِّمَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَرْفُوعٌ عَنِ الْعِبَادِ، وَلَوْ سُلِّم أَنَّ الْحَدِيثَ يَقْتَضِيهِ؛ لَكَانَتْ أَدِلَّةُ رَفْعِ الْحَرَجِ تَعَارُضُهُ، وَهِيَ قطعيَّة (5)، وخبر الواحد ظَنّي (6)؛
_________
(1) في (م): "قال تعالى".
(2) سورة النساء: الآية (29).
(3) أخرجه مُسْلِمٌ (251) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنه.
(4) قوله: "وذلك" ليس في (خ) و (م).
(5) من قوله: "بل في الأدلة المتقدمة" إلى هنا مكرر في (خ).
(6) رحم الله الشاطبي! فقد سرت إليه هذه المقولة التي لا تتناسب مع منهجه الذي دعى إليه؛ منهج الالتزام بالكتاب والسنة بفهم سلف الأمة. فإطلاق القول بأن خبر الواحد ظني ليس بصحيح؛ لأن خبر الواحد عندهم يعم ما ليس بمتواتر، وإن كان مرويّاً من طرقٍ عدّة لم تبلغ حدّ التواتر عندهم، وهذا يتنافى أولاً مع حكم الله تعالى في الشهادة. قال تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ}؛ فشهادة الشاهدين تراق بها الدماء، وتستباح الأموال والفروج، فهل يمكن أن يقبل في شرع الله ما هو ظني، والظن أكذب الحديث! ولم يكن الصحابة رضي الله عنهم إذا استثبتوا يزيدون على شهادة آخر مع الواحد؛ كما في قصة عمر بن الخطاب مع أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما في حديث الاستئذان، وشهادة أبي سعيد الخدري لأبي موسى بذلك.
فإن قيل: لعلّ الشاطبي يعني خبر الواحد الفرد، ولا يعني ما اصطلح عليه أهل=(2/238)
فَلَا تَعَارُضَ بَيْنِهِمَا؛ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى تَقْدِيمِ الْقَطْعِيِّ، وَمِثْلُ الْحَدِيثِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الْآيَةَ (1).
وَمِنْ ذَلِكَ: الِاقْتِصَارُ مِنَ المأْكول عَلَى أَخْشَنِه (2) وأَفْظَعهِ لمجرَّد التَّشْدِيدِ، لَا لِغَرَضٍ سِوَاهُ، فَهُوَ مِنَ النَّمَطِ الْمَذْكُورِ فَوْقَه؛ لأَن الشَّرْعَ لَمْ يَقْصِدْ إِلى تَعْذِيبِ النَّفْسِ فِي التَّكْلِيفِ (3)، وَهُوَ أَيْضًا مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "إِن لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا" (4). وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأْكل الطَّيِّب إِذا وَجَدَهُ (5) وَكَانَ يُحِبُّ الحلواءَ وَالْعَسَلَ (6)، وَيُعْجِبُهُ لَحْمُ الذِّرَاعِ (7)، ويُسْتَعْذَب لَهُ الماءُ (8)، فأَين التَّشْدِيدُ مِنْ هذا؟
_________
=الكلام؛ قلنا: وهذا فيه ما فيه! ولكنه لا يعنيه، ولو عناه لكان أهون.
فخبر الواحد الفرد ليس بصحيح أنه ظني بإطلاق، بل إذا احتفت به قرائن فإنه يفيد العلم؛ كما تجد تفصيله في كثير من الكتب التي تناولت هذا الموضوع بالتفصيل، ومن ذلك: "مختصر الصواعق" لابن القيم، و"حجية خبر الآحاد" للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين.
ومع هذا فالشاطبي متابع لأهل الكلام في مصطلحهم هذا.
(1) إلى هنا انتهى ذكر الآية في (خ) و (م).
(2) سورة التوبة: الآية (120).
(3) في (ر) و (غ): "خشنه".
(4) أخرج البخاري (1865)، ومسلم (642) من حديث أنس: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى شيخاً يُهَادى بين ابنيه، فقال: "ما بال هذا؟ " قالوا: نذر أن يمشي. قال: "إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني"، وأمره أن يركب.
(5) تقدم تخريجه صفحة (157).
(6) ومنه أكله اللحم. انظر: "صحيح البخاري" (4712) (5097)، و"صحيح مسلم" (194).
(7) أخرجه البخاري (5268)، ومسلم (1474) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(8) أخرجه البخاري (4712)، ومسلم (194) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(9) أخرجه أحمد (6/ 108)، وأبو داود (3735)، وابن حبان (5332)، والحاكم (4/ 138) من طريق الدراوردي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يُستعذب له الماء من بيوت السُّقيا.
قال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم".
قال الحافظ في "الفتح" (10/ 74): "إسناده جيد".
وقد توبع عليه الدَّرَاوَرْدي من أوجهٍ لا يصح منها شيء؛ فقد تابعه:=
1 ـ عامر بن صالح بن عبد الله بن عروة بن الزبير:(2/239)
وَلَا يَدْخُلُ الِاسْتِعْمَالُ الْمُبَاحُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} (1)؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الإِسراف الْخَارِجُ عَنْ حَدّ المباح، بدليل ما تقدم.
_________
=أخرج حديثه ابن عدي في "الكامل" (5/ 83)، وأبو الشيخ في "أخلاق النبي صلّى الله عليه وسلّم" (3/ 432)، وعامر هذا متروك الحديث كما في "التقريب" (3113).
2 ـ محمد بن المنذر، وأخوه عبيد الله، وعبد الله بن محمد بن يحيى بن عروة.
أخرجه أبو الشيخ (3/ 432)، والبغوي في "شرح السنّة" (3050) من طريق محمد بن المنذر.
وأخرجه أبو الشيخ (3/ 432) من طريق عبيد الله بن المنذر وعبد الله بن محمد بن يحيى بن عروة، ثلاثتهم عن هشام بن عروة، به.
ومحمد بن المنذر يروي الأحاديث الموضوعة عن هشام كما قال الحاكم وأبو نعيم، وقال ابن حبان: "لا يحلّ كتب حديثه إلا على سبيل الاعتبار" انظر "الميزان" (8208) و"لسان الميزان" (1274).
وعبد الله بن محمد متروك الحديث ضعيف الحديث جداً كما قال أبو حاتم في "الجرح والتعديل" (5/ 158 رقم 729). وعبيد الله بن المنذر ذكره ابن حبان في "الثقات" (7/ 152)، والحافظ في "اللسان" (4/ 116)، وأحال فيه إلى ترجمة أخيه محمد (5/ 394)، والعراقي في "ذيل الميزان" صفحة (352)، وذكر له ولأخيه محمد حديثاً عن هشام بن عروة، استغربه الدارقطني وقال: "لم يتابعا عليه"، والله أعلم.
وأخرج مسلم (3013) حديث جابر الطويل وفيه: "وكان رجل من الأنصار يبرد لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم الماء في أشجاب له على حمارة من جريد".
وأخرج البخاري (5611)، ومسلم (998) من حديث أنس قال: "كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة مالاً من نخل، وكان أحبّ مالِهِ إليه بَيْرُحاء، وكانت مستقبل المسجد، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدخلها، ويشرب من ماء فيه طيب ... " الحديث.
قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (10/ 74 ـ 75): وذكر الواقدي من حديث سلمى امرأة أبي رافع: "كان أبو أيوب حين نزل عنده صلّى الله عليه وسلّم يستعذب له الماء من بئر مالك بن النضر والد أنس"، ثم كان أنس وهند وحارثة أبناء أسماء يحملون الماء إلى بيوت نسائه من بيوت السقيا، وكان رباح الأسود عبده يستقي له من بئر عرس مرة، ومن بيوت السقيا مرة.
قال ابن بطال: استعذاب الماء لا ينافي الزهد ولا يدخل في الترفُّه المذموم، بخلاف تطييب الماء بالمسك ونحوه، فقد كرهه مالك لما فيه من السَّرَف، وأما شرب الماء الحلو وطلبه فمباح، فقد فعله الصالحون، وليس في شرب الماء الملح فضيلة. اهـ.
(1) سورة الأحقاف: الآية (20).(2/240)
فإِذاً الاقتصار على البشيع في المأْكول مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ تنطُّعٌ، وَقَدْ مرَّ مَا في (1) قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} (2) الْآيَةَ (3).
وَمِنْ ذَلِكَ: الِاقْتِصَارُ فِي الْمَلْبَسِ عَلَى الخَشْن مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، فإِنه مِنْ قَبِيلِ التَّشْدِيدِ والتنطُّع الْمَذْمُومِ، وَفِيهِ أَيضاً مِنْ قَصْد الشُّهْرة مَا فِيهِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ زِيَادٍ الْحَارِثِيِّ أَنه قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبي طالب رضي الله عنه: اعْدِني (4) عَلَى أَخي عَاصِمٍ. قَالَ: مَا بَالَهُ؟ قَالَ: لَبِسَ العباءَ يُرِيدُ النُّسُك. فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: عليَّ بِهِ. فأُتي بِهِ مُؤْتَزِرًا (5) بعباءَة (6)، مُرْتَدِيًا بالأُخرى (7)، شَعْثَ الرأْس وَاللِّحْيَةِ، فعبَّس فِي وَجْهِهِ وَقَالَ: وَيْحَكَ! أَما اسْتَحْيَيْتَ مِنْ أَهلك؟ أَما رَحِمْتَ وَلَدَكَ؟ أَترى اللَّهَ أَباح لَكَ الطَّيِّبَاتِ وَهُوَ يَكْرَهُ أَن تَنَالَ مِنْهَا شَيْئًا؟ بَلْ أَنت أَهون عَلَى اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ (8)! أَما سَمِعْتَ اللَّهَ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: {وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ *} إِلى قوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ *} (9)؟ أَفترى اللَّهُ أَبَاحَ هَذِهِ لِعِبَادِهِ إِلا لِيَبْتَذِلُوهُ (10) ويحمدوا الله عليه؛ فيثيبهم عَلَيْهِ؟ وإِن ابْتِذَالَكَ نِعَمَ اللَّهِ بِالْفِعْلِ خَيْرٌ مِنْهُ بِالْقَوْلِ. قَالَ عَاصِمٌ: فَمَا بَالَكَ فِي خُشُونة مأْكَلِك وَخُشُونَةِ مَلْبسك؟ قَالَ: وَيْحَكَ! إِن اللَّهَ فَرَضَ عَلَى أَئمة الْحَقِّ أَن يُقَدِّرُوا أَنفسهم بضعفة الناس (11).
_________
(1) في (خ) و (م): "وقد مرّ ما فيه في".
(2) سورة المائدة: الآية (87).
(3) قوله: "الآية" من (خ) و (م) فقط.
(4) كذا في جميع النسخ، وكأن ناسخ (م) استشكلها فوضع عليها ثلاث نقاط (. . .)، وأما رشيد رضا فأثبتها: "اغد بي".
(5) في (ر) و (غ): "متزرراً".
(6) في (خ): "العباءة".
(7) في (غ) و (ر): "بأخرى".
(8) في (خ): "منها من ذلك".
(9) سورة الرحمن: الآيات (10 ـ 22).
(10) علق رشيد رضا هنا بقوله: الابتذال ضد الصون، وما يستعمل يبتذل؛ فالمراد استعمال النعم والطيبات والانتفاع بها، ويستعمل الابتذال في لازمه، وهو الامتحان والاحتقار، وليس بمراد هنا. اهـ.
(11) رواه ابن الجوزي في "تلبيس إبليس" صفحة (247) من طريق ابن الأنباري، عن أبيه، عن أبي عكرمة الضبي، عن مسعود بن بشر، عن أبي عبيدة معمر بن المثنى به.
وإسناده معضل؛ فبين أبي عبيدة والربيع مفاوز، ومسعود وأبو عكرمة لم أقف لهما على ترجمة، والله أعلم.(2/241)
فتأَمّلوا كَيْفَ لَمْ يُطَالِبِ اللَّهُ الْعِبَادَ بِتَرْكِ الْمَلْذُوذَاتِ؛ وإِنما طَالَبَهُمْ بِالشُّكْرِ عَلَيْهَا إِذا تَنَاوَلُوهَا. فالمُتَحَرِّي لِلِامْتِنَاعِ مَنْ تَنَاوَلَ مَا أَباحه اللَّهُ من غير مُوجِبٍ شَرْعي مُفْتَئِت عَلَى الشَّارِعِ (1)، وَكُلُّ مَا جاءَ عَنِ الْمُتَقَدِّمِينَ من الامتناع عن بعض المتناولات ليس (2) مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وإِنما امْتَنَعُوا مِنْهُ لِعَارِضٍ شَرْعِيٍّ يَشْهَدُ الدَّلِيلُ بِاعْتِبَارِهِ، كَالِامْتِنَاعِ مِنَ التوسُّع لضيق الحلال (3) في يده، أَو لأَن التناول (4) ذَرِيعَةٌ (5) إِلى مَا يُكْرَهُ أَو يُمْنَعُ، أَو لأَن فِي المُتَنَاوَلِ وَجْهُ شُبْهَةٍ تَفَطَّنَ إِليه التَّارِكُ وَلَمْ يَتَفَطَّنْ إِليه غَيْرُهُ مِمَّنْ عَلِمَ بِامْتِنَاعِهِ. وَقَضَايَا الأَحوال لَا تُعَارِضُ الأَدلة بِمُجَرَّدِهَا؛ لِاحْتِمَالِهَا فِي أَنفسها. وَهَذِهِ المسأَلة مذكورةٌ عَلَى وجهها في كتاب "الموافقات" (6)، والحمد لله (7).
وَمِنْ ذَلِكَ الِاقْتِصَارُ فِي الأَفعال وَالْأَحْوَالِ (8) عَلَى مَا يُخَالِفُ مَحَبَّةَ النُّفُوسِ، وَحَمْلُهَا عَلَى ذَلِكَ فِي كُلِّ شيءٍ مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ، فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّشْدِيدِ. أَلا تَرَى أَن الشَّارِعَ أَباح أَشياءَ مِمَّا فِيهِ قضاءُ نَهْمَةِ النَّفْسِ وتمتُّعها واستلذاذُها؟ فَلَوْ كَانَتْ مخالفتُها بِرًّا لشُرِعَ، ولنُدِبَ النَّاسَ إِلى تَرْكِهِ، فَلَمْ يَكُنْ مُبَاحًا، بَلْ مندوبَ التَّرْكِ، أَو مكروهَ الْفِعْلِ.
وأَيضاً فإِن اللَّهَ تَعَالَى وَضَعَ فِي الأُمور المُتَنَاوَلةِ ـ إِيجاباً أَو نَدْبًا ـ أَشياءَ مِنَ المُسْتَلَذَّات الْحَامِلَةِ عَلَى تَنَاوُلِ تِلْكَ الْأُمُورِ، لِتَكُونَ تِلْكَ اللَّذَّاتِ كَالْحَادِيَ إِلى الْقِيَامِ بِتِلْكَ الأُمور، كَمَا جَعَلَ فِي الأَوامر إَذا امْتُثلت، وَفِي النَّوَاهِي إِذا اجْتُنبت أُجوراً (9). مُنْتَظَرَةً؛ وَلَوْ شاءَ لَمْ يَفْعَلْ، وجعل في
_________
(1) علق رشيد رضا هنا بقوله: يقال: افتأت على فلان افتئاتاً، وافتأت افتياتاً: إذا تصرف بشيء من شؤونه بدون إذنه ولا رضاه. اهـ.
(2) قوله: "ليس" ليس في (خ).
(3) في (خ): "الحال".
(4) في (خ) و (م): "المتناول".
(5) في (ر) و (غ): "خديعة".
(6) انظر "الموافقات" (4/ 8 و87).
(7) قوله: "والحمد لله" ليس في (خ) و (م).
(8) في (غ) و (ر): "والأقوال".
(9) في (خ): "أجروا".(2/242)
الأَوامر إِذا تُركت وَالنَّوَاهِي إِذا ارتُكبت جَزَاءً عَلَى خِلَافِ الأَول؛ لِيَكُونَ جَمِيعُ ذَلِكَ مُنْهِضًا لِعَزَائِمِ المكلَّفين فِي الِامْتِثَالِ، حَتَّى إِنه وَضَعَ لأَهل الامتثال المثابرين على المتابعة (1) فِي أَنفس التَّكَالِيفِ أَنواعاً مِنَ اللَّذَّاتِ الْعَاجِلَةِ، والأَنوار الشَّارِحَةِ لِلصُّدُورِ، مَا لَا يَعْدِلُهُ مِنْ لَذَّاتِ الدُّنْيَا شَيْءٌ، حَتَّى يَكُونَ سَبَبًا لاسْتِلْذاذ الطَّاعَةِ، والفِرَار إِليها، وَتَفْضِيلِهَا عَلَى غَيْرِهَا، فَيَخِفَّ عَلَى الْعَامِلِ العملُ، حَتَّى يَتَحَمَّلَ مِنْهُ مَا لَمْ يَكُنْ قَادِرًا قبلُ عَلَى (2) تحمُّله إِلا بالمشقَّة (3) الْمَنْهِيِّ عَنْهَا؛ فإِذا سَقَطَتْ سَقَطَ النَّهْيُ.
بَلْ تأَمّلوا كَيْفَ وَضَعَ للأَطعمة عَلَى اخْتِلَافِهَا (4) لذّاتٍ مُخْتَلِفَاتِ الأَلوان، وللأَشربة (5) كَذَلِكَ، وَلِلْوِقَاعِ (6) الْمَوْضُوعِ سبباً لاكتساب العيال ـ وهو أَشد تَعَباً (7) على النَّفْسِ ـ لذَّةً أَعْلَى مِنْ لَذَّةِ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ، إِلى غير ذلك من الأُمور الخارجة عَنْ نَفْسِ المُتَنَاوَلِ (8)، كَوَضْعِ الْقَبُولِ فِي الأَرض، وَتَرْفِيعِ الْمَنَازِلِ، والتقدُّم (9) عَلَى سَائِرِ النَّاسِ فِي الأُمور العِظَام (10)، وهي أَيضاً تقتضي لذّاتٍ تُسْتَصْغَرُ في جَنْبَهَا لذّاتُ الدُّنْيَا.
وإِذا كَانَ كَذَلِكَ، فأَين هذا الوَضْع (11) الْكَرِيمُ مِنَ الرَّبِّ اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ؟ فَمَنْ يأْتي مُتَعَبِّدًا ـ بِزَعْمِهِ ـ بِخِلَافِ مَا وَضَعَ الشَّارِعُ لَهُ مِنَ الرِّفْقِ وَالتَّيْسِيرِ والأَسباب الْمُوصِلَةِ إِلى مَحَبَّتِهِ، فيأْخذ بالأَشق والأَصعب، ويجعله
_________
(1) في (خ): "الثائرين على المبايعة".
(2) قوله: "على" ليس في (خ) و (م).
(3) في (غ) و (ر): "لا بالمشقة".
(4) في (غ) و (ر): "اختلاف".
(5) في (ر) و (غ): "والأشربة".
(6) في (غ) و (ر): "للوقاع".
(7) في (ر) و (غ): "نصباً".
(8) في (غ) و (ر): "التناول".
(9) في (غ) و (ر): "والتقديم".
(10) في (خ) و (م): "العظائم".
(11) في (خ): "الموضع".(2/243)
هُوَ السُّلَّمَ الْمُوصِلَ وَالطَّرِيقَ الأَخص؛ هَلْ هَذَا كُلُّهُ إِلا غَايَةٌ فِي الْجَهَالَةِ وتَلَفٌ فِي تِيهِ (1) الضَّلَالَةِ؟ عَافَانَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ بِفَضْلِهِ.
فإِذا سَمِعْتُمْ بِحِكَايَةٍ تَقْتَضِي تَشْدِيدًا عَلَى هَذَا السَّبِيلِ، أَو (2) يَظْهَرُ مِنْهَا تنطُّع أَو تكلُّف، فإِما أَن يَكُونَ صَاحِبُهَا مِمَّنْ يُعتبر كَالسَّلَفِ الصالح رضي الله عنهم، أَو مِنْ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَا يُعرف وَلَا ثَبَتَ اعْتِبَارُهُ عِنْدَ أَهل الحَلّ والعَقْد مِنَ العلماءِ، فإِن كَانَ الأَول فَلَا بُدَّ أَن يَكُونَ عَلَى خِلَافِ مَا ظَهَرَ لِبَادِيَ الرأْي ـ كَمَا تَقَدَّمَ ـ، وإِن كَانَ الثَّانِي فَلَا حُجّة فِيهِ، وإِنما الحُجَّة فِي الْمُقْتَدِينَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم. فهذه أمثلة (3) خمسة في التشديد على النفس (4) فِي سُلُوكِ طَرِيقِ الْآخِرَةِ يُقَاسُ عَلَيْهَا مَا سواها.
_________
(1) في (غ) و (ر): "من تيه".
(2) قوله: "أو" ليس في (غ) و (ر).
(3) قوله: "أمثلة" ليس في (خ) و (م).
(4) قوله: "على النفس" ليس في (خ) و (م).(2/244)
فَصْلٌ
قَدْ يَكُونُ أَصل الْعَمَلِ مَشْرُوعًا، وَلَكِنَّهُ يَصِيرُ جَارِيًا مَجْرَى الْبِدْعَةِ مِنْ بَابِ الذَّرَائِعِ، وَلَكِنْ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي فَرَغْنَا مِنْ ذِكْرِهِ.
وَبَيَانُهُ: أَن الْعَمَلَ يَكُونُ مَنْدُوبًا إِليه ـ مَثَلًا ـ فيَعمل بِهِ الْعَامِلُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ عَلَى وَضْعِهِ الأَول مِنَ النَّدْبِيَّة، فَلَوِ اقْتَصَرَ الْعَامِلُ عَلَى هَذَا الْمِقْدَارِ لَمْ يَكُنْ بِهِ بأْس، وَيَجْرِي مَجْرَاهُ إِذا دَامَ عَلَيْهِ فِي خَاصِّيَّتِهِ (1) غَيْرَ مُظْهِرٍ لَهُ دَائِمًا، بَلْ إِذا أَظهره لَمْ يُظْهِرْهُ عَلَى حُكْمِ الْمُلْتَزَمَاتِ مِنَ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ وَالْفَرَائِضِ اللَّوَازِمِ، فَهَذَا صَحِيحٌ لَا إِشكال فِيهِ. وأَصله نَدْبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لإِخفاء النَّوَافِلِ وَالْعَمَلِ بِهَا فِي الْبُيُوتِ، وَقَوْلُهُ: "أَفضل الصَّلَاةِ صَلَاتُكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ إِلا الْمَكْتُوبَةَ" (2). فَاقْتَصَرَ فِي الإِظهار عَلَى الْمَكْتُوبَاتِ ـ كَمَا تَرَى ـ؛ وإِن كَانَ ذَلِكَ فِي مَسْجِدِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَو فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، أَو في مسجد بيت المقدس، حتى قَالُوا: إِن النَّافِلَةَ فِي الْبَيْتِ أَفضل مِنْهَا فِي أَحد هَذِهِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ، بِمَا اقْتَضَاهُ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ. وَجَرَى مَجْرَى الْفَرَائِضِ فِي الْإِظْهَارِ: السُّنَنُ (3)؛ كَالْعِيدَيْنِ وَالْخُسُوفِ والاستسقاءِ وَشِبْهِ ذَلِكَ، فَبَقِيَ مَا سِوَى ذَلِكَ حُكْمُهُ الإِخفاء، وَمِنْ هُنَا ثَابَرَ السَّلَفُ الصَّالِحُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى إِخفاءِ الأَعمال فيما استطاعوا وخفَّ (4) عَلَيْهِمْ الاقتداءُ (5) بِالْحَدِيثِ، وَبِفِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؛ لأَنه القدوة والأسوة.
_________
(1) في (ر) و (غ) "خاصته".
(2) أخرجه البخاري في "صحيحه" (731 و6113 و7290)، ومسلم (781).
(3) في (خ): "والسنن".
(4) في (خ) و (م): "أو خف".
(5) في (غ) و (ر): "اقتداء".(2/245)
وَمَعَ ذَلِكَ فَلَمْ يَثْبُتْ فِيهَا إِذا عُمِلَ بها في البيوت دائماً (1) أَن تقام (2) جَمَاعَةً فِي الْمَسَاجِدِ البتَّةَ، مَا عَدَا رَمَضَانَ ـ حَسْبَمَا (3) تَقَدَّمَ ـ، وَلَا فِي الْبُيُوتِ دَائِمًا، وإِن وَقَعَ (4) ذَلِكَ فِي الزَّمَانِ الأَول فِي الفَرَط (5)؛ كَقِيَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَمَا بَاتَ عِنْدَ خَالَتِهِ مَيْمُونَةَ (6)، وَمَا ثَبَتَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "قُومُوا (7) فلأُصلِّ لَكُمْ" (8).
وَمَا فِي "الموطإِ" (9) مِنْ صَلَاةِ يَرْفَأ (10) مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقْتَ الضُّحَى، فَمِنْ فِعْلِهِ فِي بَيْتِهِ وَقْتًا مَّا، فلا حَرَج، وقد نصّ (11) العلماءُ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ بِهَذَا الْقَيْدِ الْمَذْكُورِ ـ وإِن كَانَ الْجَوَازُ قَدْ وَقَعَ فِي "الْمُدَوَّنَةِ" (12) مُطْلَقًا ـ، فَمَا ذَكَرَهُ تَقْيِيدٌ لَهُ، وأَظن ابْنَ حبيب نقله (13) عَنْ مَالِكٍ مُقَيَّدًا، فإِذا اجْتَمَعَ فِي النَّافِلَةِ أَن تُلْتَزَم (14) التزام السُّنَنَ الرَّوَاتِبَ، إِما دَائِمًا، وإِما فِي أَوقات مَحْدُودَةٍ وَعَلَى وَجْهٍ مَحْدُودٍ، وأُقيمت فِي الْجَمَاعَةِ، وكان ذلك (15) فِي الْمَسَاجِدِ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا الْفَرَائِضُ، أَو المواضع التي تقام
_________
(1) قوله: "دائماً" ليس في (غ) و (ر).
(2) في (خ) و (م): "أن يقام".
(3) في (غ) و (ر): "كما".
(4) في (غ) و (ر): "وإنما وقع".
(5) علق رشيد رضا هنا بقوله: كذا! ولا يظهر لهذه الكلمة هنا معنى. والمثل الذي ذكره ثابت في "الصحيح"؛ هو أن ابن عباس أراد أن يعرف صلاة النبي صلّى الله عليه وسلّم في الليل، فبات عند خالته ميمونة في ليلتها، فلما قام النبي صلّى الله عليه وسلّم من الليل قام معه، واقتدى به، فصلى إحدى عشرة ركعة، فهي قيامه ووتره صلّى الله عليه وسلّم. اهـ.
(6) أخرجه البخاري (117)، ومسلم (763).
(7) تكرر قوله "قوموا" في (غ).
(8) أخرجه البخاري (380)، ومسلم (658) عن أنس رضي الله عنه.
(9) أخرجه مالك في "الموطأ" (1/ 154) عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أنه قال: دخلت على عمر بن الخطاب بالهاجرة، فوجدته يسبِّح، فقمت وراءه، فقرّبني حتى جعلني حذاءه عن يمينه، فلما جاء يرفأ؛ تأخّرت، فصففنا وراءه.
وسنده صحيح ..
(10) في (م): "يرقا".
وأوضح رشيد رضا أن يرفأ هذا هو خادم عمر رضي الله عنه.
(11) في (خ): "ونص".
(12) "المدونة" (1/ 96).
(13) في (خ): "نقل"، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: لعله: "نقله"، أو: "نقل ذلك".اهـ.
(14) في (خ) و (م): "يلتزم".
(15) قوله: "وكان ذلك" ليس في (خ) و (م).(2/246)
فِيهَا السُّنَنُ الرَّوَاتِبُ؛ فَذَلِكَ ابْتِدَاعٌ (1).
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنه لَمْ يأْت عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا عَنْ أَحد مِنَ (2) أَصحابه، ولا التَّابِعِينَ لَهُمْ بإِحسان (3) فعلُ هَذَا الْمَجْمُوعِ هَكَذَا مَجْمُوعًا، وإِن أَتى مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تِلْكَ التقييدات مشروعاً (4). فالتقييد في المطلقات التي لم يثبت (5) بدليل الشرع تقييدها رأيٌ (6) في التشريع، كما أَن إِطلاق المُقَيَّدات شرعاً رأْي فِي التَّشْرِيعِ (7)، فَكَيْفَ إِذا عَارَضَهُ الدَّلِيلُ؛ وَهُوَ الأَمر بإِخفاءِ النَّوَافِلِ مَثَلًا؟
وَوَجْهُ دُخُولِ الِابْتِدَاعِ هُنَا: أَن كُلَّ مَا وَاظَبَ عَلَيْهِ رسول الله صلى الله عليه وسلم من النَّوَافِلِ وأَظهره فِي الْجَمَاعَاتِ فَهُوَ سُنَّة، فَالْعَمَلُ بِالنَّافِلَةِ الَّتِي (8) لَيْسَتْ بِسُنَّةٍ ـ عَلَى طَرِيقِ الْعَمَلِ بِالسُّنَّةِ ـ إِخراج لِلنَّافِلَةِ عَنْ مَكَانِهَا الْمَخْصُوصِ بِهَا شَرْعًا. ثُمَّ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ اعْتِقَادُ الْعَوَامِّ فِيهَا، وَمَنْ لَا عِلْمَ عِنْدِهِ أَنَّهَا سُنَّةٌ، وَهَذَا فَسَادٌ عَظِيمٌ لِأَنَّ اعْتِقَادَ مَا لَيْسَ بِسُنَّةٍ سُنَّةً (9)، وَالْعَمَلَ بِهَا عَلَى حَدِّ الْعَمَلِ بِالسُّنَّةِ: نحوٌ مِنْ تَبْدِيلِ الشَّرِيعَةِ (10)، كَمَا لَوِ اعْتَقَدَ فِي الْفَرْضِ أَنه لَيْسَ بِفَرْضٍ، أَو فيما (11) ليس بفرض أَنه فرض، ثم عمل على وَفْقَ اعْتِقَادِهِ، فإِنه فَاسِدٌ، فَهَبِ العَمَلَ فِي الأَصل صَحِيحًا، فإِخراجه عَنْ بَابِهِ اعْتِقَادًا وَعَمَلًا مِنْ بَابِ إِفساد الأَحكام الشَّرْعِيَّةِ، وَمِنْ هُنَا ظهر عذر السلف الصالح رضي الله عنهم فِي تَرْكِهِمْ سُنَناً قَصْداً؛ لِئَلَّا يَعتقد الجاهلُ أَنها مِنَ الْفَرَائِضِ؛ كالأُضحية وَغَيْرِهَا؛ كَمَا تَقَدَّمَ ذكره (12).
_________
(1) في (خ): "اتباع".
(2) قوله: "أحد من" ليس في (خ) و (م).
(3) في (ر) و (غ): "لهم بإحسان لهم".
(4) قوله: "مشروعاً" ليس في (خ).
(5) في (م): "تثبت".
(6) في (غ): "برأي".
(7) من قوله: "كما أن إطلاق" إلى هنا سقط من (خ) و (م).
(8) قوله: "التي" ليس في (م).
(9) قوله: "سنة" ليس في (خ).
(10) في (ر) و (غ): "الشرعية".
(11) في (خ): "أو ما" وفي (م): "أو بما".
(12) في (خ) و (م): "ذلك" بدل "ذكره".
وترك بعض السلف الأضحية لئلا يعتقد الجاهل أنها من الفرائض لم يتقدم الكلام عنه، ولكنه سيأتي (ص346).(2/247)
ولأَجله أَيضاً نَهَى أَكثرهم عَنِ اتِّبَاعِ الْآثَارِ؛ كَمَا خَرَّجَ الطَّحَاوِيُّ وَابْنُ وَضَّاحٍ وغيرُهما عَنْ مَعْرُور (1) بْنِ سُوَيد الأَسدي قَالَ: وَافَيْتُ الْمَوْسِمَ مَعَ أَمير الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ الله عنه، فلما انصرف (2) إِلَى الْمَدِينَةِ انْصَرَفْتُ مَعَهُ، فَلَمَّا صَلَّى لَنَا صَلَاةَ الْغَدَاةِ فقرأَ فِيهَا: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ *} (3) و {لإِِيلاَفِ قُرَيْشٍ *} (4)، ثُمَّ رأَى نَاسًا يَذْهَبُونَ مَذْهَبًا، فَقَالَ: أَيْنَ يَذْهَبُ هؤلاءِ؟ قَالُوا: يَأْتُونَ مَسْجِدًا هَاهُنَا صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ (5): إِنما هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِهَذَا، يَتَّبعون آثَارَ أَنبيائهم، فاتّخَذوها كَنَائِسَ وبِيَعاً، مَنْ أَدركته الصَّلَاةُ فِي شيءٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ الَّتِي صَلَّى فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلْيُصَلِّ فِيهَا، وإِلا فَلَا يتعمَّدْها (6).
وَقَالَ ابْنُ وَضَّاحٍ (7): سَمِعْتُ عِيسَى بْنَ يُونُسَ مُفْتِي أَهل طَرَسُوس يَقُولُ: أَمر عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَطْعِ الشَّجَرَةِ الَّتِي بُويِعَ تَحْتَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَطَعَهَا؛ لأَن النَّاسَ كَانُوا يَذْهَبُونَ فَيُصَلُّونَ تحتها، فخاف عليهم الفتنة (8).
_________
(1) في (خ): "معزوز".
(2) في (خ): "انصرفنا".
(3) إلى هنا انتهى ذكر الآية في (خ) و (م).
(4) سورة الفيل: الآية (1).
(5) سورة قريش: الآية (1).
(6) في (ر) و (غ) و (م): "قال".
(7) أخرجه عبد الرزاق (2/ 118)، وابن أبي شيبة (2/ 153)، وابن وضاح في "البدع والنهي عنها" (104، 105) جميعهم من طريق الأعمش، عن معرور بن سويد به.
وإسناده صحيح.
وقال الحافظ في "الفتح" (1/ 569): ثابت عن عمر.
(8) في "البدع والنهي عنها" (106).
(9) زاد ابن وضاح قوله: قال عيسى بن يونس: وهو عندنا من حديث ابن عون، عن نافع: أن الناس كانوا يأتون الشجرة، فقطعها عمر.
وهذا الأثر أخرجه ابن سعد في "الطبقات" (2/ 100) من طريق عبد الوهاب بن عطاء، وابن أبي شيبة في "المصنف" (7545) من طريق معاذ بن معاذ، كلاهما عن عبد الله بن عون، عن نافع؛ قال: كان الناس يأتون الشجرة التي يقال لها: شجرة الرضوان، فيصلّون عندها؛ قال: فبلغ ذلك عمر بن الخطاب، فأوعدهم فيها، وأمر بها فقُطعت.
وسنده رجاله ثقات، لكنه منقطع بين نافع وعمر رضي الله عنه، ولذا صححه الحافظ ابن حجر في "الفتح" (7/ 448) إلى نافع، فقال: "ثم وجدت عند ابن سعد بإسناد=(2/248)
قَالَ ابْنُ وَضَّاحٍ (1): وَكَانَ مَالِكُ بْنُ أَنس وَغَيْرُهُ مِنَ علماءِ الْمَدِينَةِ يَكْرَهُونَ إِتيان تِلْكَ الْمَسَاجِدِ، وَتِلْكَ الْآثَارِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم، ما عدا قُباءَ وحده (2).
قال: وَسَمِعْتُهُمْ يَذْكُرُونَ أَن سُفْيَانَ (3) دَخَلَ مَسْجِدَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَصَلَّى فِيهِ، وَلَمْ يَتَّبِعْ تِلْكَ الْآثَارَ، وَلَا الصَّلَاةَ (4) فِيهَا. وَكَذَلِكَ فَعَلَ غَيْرُهُ أَيضاً مِمَّنْ يُقتدى بِهِ.
وَقَدِمَ وَكِيعٌ أَيضاً مَسْجِدَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَلَمْ يعدُ فعلَ سُفْيَانَ.
قَالَ ابْنُ وَضَّاحٍ (5): فَعَلَيْكُمْ بِالِاتِّبَاعِ لأَئمة الْهُدَى الْمَعْرُوفِينَ، فَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَنْ مَضَى: كَمْ مِنْ أَمر هُوَ الْيَوْمَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ كَانَ مُنْكَرًا عِنْدَ مَنْ مَضَى؟
وَقَدْ كَانَ مَالِكٌ يَكْرَهُ كُلَّ بِدْعَةٍ وإِن كَانَتْ فِي خَيْرٍ (6).
وَجَمِيعُ هَذَا ذَرِيعَةٌ لِئَلَّا يُتّخذ سُنَّةً مَا لَيْسَ بِسُنَّةٍ، أَو يُعَدّ مَشْرُوعًا ما ليس بمشروع (7).
وَقَدْ كَانَ مَالِكٌ يَكْرَهُ الْمَجِيءَ إِلى بَيْتِ المَقْدِس خِيفَةَ أَن يُتَّخذ ذَلِكَ سُنَّةً، وَكَانَ يَكْرَهُ مجيءَ قُبُورِ الشُّهَدَاءِ (8)، وَيَكْرَهُ مجيءَ قُباءَ خَوْفًا مِنْ ذَلِكَ، مَعَ مَا جاءَ فِي الآثار من الترغيب فيه (9).
_________
=صحيح عن نافع ... "، فذكره.
وقد أخرجه الفاكهي في "أخبار مكة" (5/ 2876) من طريق إسماعيل بن إبراهيم بن عُلَيَّة؛ ثنا ابن عون؛ قال: بلغ عمر ... ، فذكره هكذا بإسقاط نافع من الإسناد، وهذا أشد انقطاعاً، لكن رواية ابن أبي شيبة وابن سعد أرجح، لاتفاق ثقتين على روايته عن ابن عون، عن نافع.
(1) في "البدع والنهي عنها" صفحة (88).
(2) وقع في المطبوع من "البدع والنهي عنها": "وأحداً".
(3) أي: الثوري.
(4) في (ر): "إلا الصلاة"، ويشبه أن تكون هكذا في (غ).
(5) في "البدع والنهي عنها" صفحة (89).
(6) المصدر السابق صفحة (91).
(7) في (خ) و (م): "ما ليس معروفاً".
(8) أي: لمن كان بالمدينة من غير شدّ رحل إليها؛ لأن شدّ الرحال للقبور محرّم.
(9) انظر "البدع والنهي عنها" صفحة (91).(2/249)
وَلَكِنْ لَمَّا خَافَ العلماءُ عَاقِبَةَ ذَلِكَ تَرَكُوهُ.
وَقَالَ ابْنُ كِنَانَةَ وأَشْهَب: سَمِعْنَا مَالِكًا يَقُولُ لما أَتاها (1) سَعْدُ (2) بْنُ أَبي وَقَّاصٍ؛ قَالَ: وَدِدْتُ أَن رِجْلِي تَكَسَّرت وأَني لَمْ أَفعل (3) (4).
وَسُئِلَ ابْنُ كِنَانَةَ عَنِ الْآثَارِ الَّتِي تَرَكُوا بِالْمَدِينَةِ، فَقَالَ: أَثبت مَا فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا قُباءَ (5)، إِلا أَن مَالِكًا كَانَ يَكْرَهُ مَجِيئَهَا خَوْفًا مِنْ أَن تُتَّخَذَ (6) سُنَّةً (7).
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ حَسَّانَ (8): كُنْتُ أَقرأُ عَلَى ابْنِ نَافِعٍ، فَلَمَّا مَرَرْتُ بِحَدِيثِ التَّوْسعة ليلة عاشوراءَ (9)
_________
(1) في (خ) و (م): "أتاه".
(2) في (م): "سعيد".
(3) في (ر) و (غ): "أن رجلي تكسر ولم أفعل"، والمثبت موافق لما في "البدع والنهى عنها".
(4) انظر: "البدع والنهي عنها" صفحة (91).
(5) في (ر) و (غ): "أثبت ما عندنا في ذلك".
(6) في (خ) و (م): "يتخذ".
(7) انظر "البدع والنهي عنها" صفحة (91).
(8) كما في المصدر السابق.
(9) حديث التوسعة على العيال يوم عاشوراء:
ورد من حديث عبد الله بن مسعود، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن عمر، وموقوفاً على عمر بن الخطاب.
1 ـ أما حديث عبد الله بن مسعود: فأخرجه العقيلي في "الضعفاء" (3/ 252)، وابن حبان في "المجروحين" (3/ 97)، والطبراني في "الكبير" (10/ 77 رقم 10007)، والبيهقي في "الشعب" (3513)، وابن عدي في "الكامل" (5/ 211)، والخطيب في "الموضح" (2/ 277)، جميعهم من طريق الهَيْصَم بن الشَّدَّاخ، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "من وسَّع على عياله يوم عاشوراء؛ لم يزل في سعةٍ سائرَ سنته".
ووقع عند العقيلي: "يحيى بن وثاب" بدل "إبراهيم".
قال العقيلي: "ولا يثبت في هذا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم شيء، إلا شيء يروى عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر مرسلاً، به".
ذكر العقيلي هذا الحديث في ترجمة علي بن المهاجر العيشي، وذكر أنه يروي عن هيصم بن الشماخ [كذا!]، ثم قال: "كلاهما مجهول، والحديث غير محفوظ". وذكره ابن حبان في ترجمة هيصم بن الشداخ من "المجروحين"، وقال عنه: "شيخ يروي عن الأعمش الطّامّات في الروايات، لا يجوز الاحتجاج به". وأما ابن عدي فذكره في ترجمة علي بن أبي طالب الدهّان الراوي له عن الهيصم، ثم قال: "وهذا=(2/250)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
_________
=الحديث بهذا الإسناد لا أعلم يرويه غير علي بن أبي طالب".
قلت: وفي بعض المصادر المتقدمة التي أخرجته جاء من رواية علي بن المهاجر، وهذا يوهم أن علي بن أبي طالب الدّهان توبع عليه، فيستدرك على ابن عدي، وليس كذلك، فقد أخرج الخطيب في الموضع السابق من "الموضح" هذا الحديث من طريق علي بن مهاجر، ثم قال: "وهو علي بن أبي طالب الدهّان ... "، ثم أخرج الحديث مرة أخرى بتسميته علي بن أبي طالب، ثم قال: "قال لنا أبو نعيم: لم يروه عن الأعمش إلا الهيصم، وعنه علي بن أبي طالب، واسم أبي طالب: مهاجر".
وذكر ابن الجوزي في "الموضوعات" (1142) هذا الحديث، وذكر قول العقيلي وابن حبان، وتَعَقَّبَه السيوطي في "اللآلئ" (2/ 111) بالطرق الآتية.
وقال الذهبي في ترجمة علي بن مهاجر من "الميزان" (3/ 158 رقم 5950): "لا يُدرى من هو، والخبر موضوع".
ويدلّ على وضعه: تفرُّد علي بن المهاجر به، عن شيخه الهيصم بن الشَّدَّاخ، عن الأعمش، وعلي وشيخه متكلم فيهما بما سبق ذكره، والأعمش إمام مشهور مكثر جدّاً من الحديث، والرواة عنه كُثُر، ومنهم أئمة كشعبة والثوري، فأين كانوا عن هذا الحديث الذي لا يعرف إلا من طريق هذا المتهم: الهيصم؟!! وانظر "لسان الميزان" (7/ 277).
2 ـ وأما حديث أبي هريرة: فأخرجه: العقيلي في "الضعفاء" (4/ 65)، وابن عدي في "الكامل" (6/ 200)، وأبو نعيم في "أخبار أصبهان" (1/ 198)، والبيهقي في "الشعب" (3515) ـ من طريق ابن عدي ـ، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" (910) ـ من طريق العقيلي ـ، جميعهم من طريق حجاج بن نصير، عن محمد بن ذكوان، عن يعلى بن حكيم، عن سليمان بن أبي عبد الله، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: ... ، فذكره.
ذكر العقيلي هذا الحديث فيما ينتقد على محمد بن ذكوان، وزاد عقب إخراجه له قوله: "وسليمان بن أبي عبد الله مجهول بالنقل، والحديث غير محفوظ".
وذكره ابن عدي فيما ينتقد على محمد بن ذكوان.
وأعله ابن الجوزي بكلام العقيلي، وكذا صنع في "الموضوعات" (2/ 572 ـ 573). وللحديث ثلاث علل.
أـ حجاج بن نُصير الفَسَاطيطي ضعيف، كان يقبل التلقين كما في "التقريب" (1148).
ب ـ محمد بن ذكوان الأزدي الطّاحي، ويقال: الجَهْضَمي؛ قال عنه البخاري في "التاريخ الكبير" (1/ 79 رقم 206): "منكر الحديث"، وكذا قال أبو حاتم الرازي=(2/251)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
_________
=كما في "الجرح والتعديل" (7/ 251 رقم 1378)، وكذا قال النسائي كما في الموضع السابق من "الكامل" لابن عدي، وقال مرة: "ليس بثقة، ولا يكتب حديثه"؛ كما في "تهذيب الكمال" (25/ 182).
فإن قيل: وثقه يحيى بن معين؛ قلنا: لعله التبس عليه بآخر، وانظر رَدّ المعلِّمي لتوثيقه في تعليقه على "الفوائد المجموعة" (ص98 ـ 99).
جـ الراوي عن أبي هريرة: سليمان بن أبي عبد الله، وهو مقبول كما في "التقريب" (2597)، وتقدم قول العقيلي عنه: "مجهول بالنقل، والحديث غير محفوظ".
وبهذه العلل الثلاث يتضح أن الحديث ضعيف جداً، ولا ينجبر ضعفه بتعدد طرقه، فضلاً عن أن يكون صحيحاً أو حسناً. ومن هنا يتضح ما في قول الحافظ العراقي من البعد؛ حيث قال في "أماليه": "لحديث أبي هريرة طرق صحح بعضها ابن ناصر الحافظ، وأورده ابن الجوزي في "الموضوعات" من طريق سليمان بن أبي عبد الله عنه، وقال: سليمان مجهول، وسليمان ذكره ابن حبان في الثقات، فالحديث حسن على رأيه" اهـ من "المقاصد الحسنة" (ص431).
3 ـ وأما حديث أبي سعيد الخدري: فقال إسحاق بن راهويه في "مسنده" ـ كما في "اللآلئ (2/ 112) ـ: أنبأنا عبد الله بن نافع؛ حدثني أيوب بن سليمان بن ميناء، عن رجل، عن أبي سعيد الخدري؛ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "من وسع على عياله ... "، الحديث.
وأخرجه البيهقي في "الشعب" (3514) و"فضائل الأوقات" (245) من طريقين عن عبد الله بن نافع، به.
وهذا سند ضعيف جدّاً أيضاً فيه ثلاث علل:
أـ الراوي عن أبي سعيد مبهم لا يُدْرَى من هو؟
ب ـ الراوي عنه: أيوب بن سليمان بن ميناء غير معروف، ولم يرو عنه سوى عبد الله بن نافع ـ وسيأتي بيان حاله ـ، وذكره البخاري في "التاريخ الكبير" (1/ 417 رقم 1331) وقال: "روى عنه عبد الله بن نافع الصائغ المدني، مرسل"، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، وكذا ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (2/ 248 رقم 885). وقد ذكره ابن حبان في "الثقات" (6/ 61) وقال: "يروي المقاطيع"، وقاعدة ابن حبان معروفة في توثيق المجاهيل.
جـ عبد الله بن نافع الصائغ المخزومي، مولاهم، أبو محمد المدني: ثقة إذا حدث من كتابه، وأما حفظه فضعيف، ولذا يقول عنه ابن حجر في "التقريب" (3683): "ثقة صحيح الكتاب، في حفظه لين"، ولم يتبين أن هذا الحديث من كتابه، ولو تبين فالعلتان الأوليان فيهما كفاية في إعلاله.
ولحديث أبي سعيد هذا طريق أخرى أخرجها الطبراني في "الأوسط" (9302) من=(2/252)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
_________
=طريق محمد بن إسماعيل الجعفري؛ ثنا عبد الله بن سلمة الرَّبَعي، عن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صَعْصَعَة، عن أبيه، عن أبي سعيد، به. ثم قال الطبراني: "لا يُروى هذا الحديث عن أبي سعيد الخدري إلا بهذا الإسناد، تفرَّد به محمد بن إسماعيل الجعفري".
وقال الهيثمي في "المجمع" (3/ 189): "رواه الطبراني في الأوسط، وفيه محمد بن إسماعيل الجعفري؛ قال أبو حاتم: منكر الحديث".
قلت: الجعفري؛ هذا قال عنه أبو حاتم الرازي: "منكر الحديث، يتكلمون فيه"؛ كما في "الجرح والتعديل" (7/ 189 رقم 1073)، وقال عنه أبو نعيم: متروك، كما في "لسان الميزان" (6/ 151 رقم 7123)، وذكره ابن حبان في "الثقات" (9/ 88) وقال: "يغرب".
وفي سنده أيضاً عبد الله بن سلمة الرَّبعَي، وهو متروك؛ كما في "لسان الميزان" (4/ 295 رقم 4663 و4664).
4 ـ وأما حديث جابر: فله عنه طريقان:
أـ أخرجه البيهقي في "الشعب" (3512) من طريق محمد بن يونس، عن عبد الله بن إبراهيم الغفاري، عن عبد الله بن أبي بكر ـ ابن أخي محمد بن المنكدر ـ، عن محمد بن المنكدر، عن جابر، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، به.
قال البيهقي: "هذا إسناد ضعيف".
وقال الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله في "تمام المنة" (ص410 ـ 411): "فهذا إسناد موضوع من أجل محمد بن يونس ـ وهو الكُدَيمي ـ، فإنه كذاب، قال ابن عدي: قد اتُّهم الكديمي بالوضع، وقال ابن حبان: لعله قد وضع أكثر من ألف حديث.
وشيخه: عبد الله بن إبراهيم الغفاري؛ قال الذهبي: وهو عبد الله بن أبي عمرو المدني، يدلِّسونه لوهنه، نسبه ابن حبان إلى أنه يضع الحديث، وذكر له ابن عدي في فضل أبي بكر وعمر حديثين، وهما باطلان، قال الحاكم: يروي عن جماعة من الضعفاء أحاديث موضوعة. قلت [أي: الألباني]: وهذا منها، فإن شيخه عبد الله بن أبي بكر ـ ابن أخي محمد بن المنكدر ـ ضعيف كما في "الميزان" اهـ.
ب ـ أخرجه ابن عبد البر في "الاستذكار" (10/ 140 رقم 14294) من طريق محمد بن معاوية؛ قال: حدثنا الفضل بن الحباب؛ قال: حدثنا هشام بن عبد الملك الطيالسي؛ قال: حدثنا شعبة، عن أبي الزبير، عن جابر؛ قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ... ، فذكره.
قال جابر: جرّبناه فوجدناه كذلك. وقال أبو الزبير وقال شعبة مثله.
وهذا الحديث ذكره الحافظ ابن حجر في ترجمة أبي خليفة الفضل بن الحباب من=(2/253)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
_________
="لسان الميزان" (6/ 19)، فقال: "روى عنه ابن عبد البر في الاستذكار من طريقه حديثاً منكراً جدّاً، ما أدري من الآفة فيه! ... وشيوخ ابن عبد البر الثلاثة مُوَثّقون، وشيخهم محمد بن معاوية هو ابن الأحمر راوي السنن عن النسائي وثقه ابن حزم وغيره، فالظاهر أن الغلط فيه من أبي خليفة، فلعل ابن الأحمر سمعه منه بعد احتراق كتبه، والله أعلم".
قلت: ولو كان الحديث مروياً عن شعبة بهذه الصفة لما غفل عنه أصحاب المصنفات المشهورة ودواوين الإسلام المعروفة ولم يوجد إلا عند ابن عبد البر المتأخر!
5 ـ وأما حديث عبد الله بن عمر: فأخرجه الدارقطني في "الأفراد" ـ كما في "اللآلئ" (2/ 112)، و"كشف الخفاء" (2/ 284) ـ، ومن طريقه أخرجه ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (909)، من طريق محمد بن موسى بن سهل؛ قال: نا يعقوب بن خرة الدّبّاغ؛ قال: نا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه؛ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ... ، فذكره.
قال ابن الجوزي: "حديث ابن عمر منكر من حديث الزهري عن سالم، وإنما يُروى هذا من قول إبراهيم بن محمد بن المنتشر، ويعقوب بن خرة ضعيف"، وهذا قول الدارقطني. وذكر الحافظ ابن حجر في "اللسان" قول الذهبي في يعقوب بن خرة الدباغ: "عن سفيان بن عيينة، ضعفه الدارقطني. قلت: له خبر باطل لعله وهم". ثم قال ابن حجر: "قال الدارقطني في الأفراد: حدثنا محمد بن موسى بن سهل ... "، فذكر هذا الحديث، ثم ذكر قول الدارقطني الذي حكاه ابن الجوزي، ثم قال: "وقال ـ أي الدارقطني ـ في المؤتلف والمختلف: يعقوب بن خرة ـ بالخاء المعجمة ـ شيخ من أهل فارس، يحدِّث عن أزهر بن سعد السَّمّان وسفيان بن عيينة وغيرهما، لم يكن بالقوي في الحديث".
ولحديث ابن عمر هذا طريق آخر: أخرجه الخطيب في "رواة مالك" ـ كما في اللآلئ (2/ 113) ـ، من طريق هلال بن خالد، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ... ، فذكره.
قال الخطيب: "في إسناده غير واحد من المجهولين، ولا يثبت عن مالك".
وقال المعَلِّمي في "حاشيته على الفوائد المجموعة" (ص99): "سند مظلم"، ثم ذكر كلام الخطيب، ثم قال: "وآخر المجهولين: هلال بن خالد، روى عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر، وفي ترجمته من لسان الميزان: هذا باطل".
6 ـ وأما حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه الموقوف عليه: فأخرجه ابن عبد البر في "الاستذكار" (14297) من طريق ابن وضّاح؛ قال: حدثنا أبو محمد العابد، عن بهلول بن راشد، عن الليث بن سعد، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب؛=(2/254)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
_________
=قال: قال عمر بن الخطاب: من وسَّع على أهله يوم عاشوراء؛ وسَّع الله عليه سائر السنة.
قال يحيى بن سعيد: جربنا ذلك فوجدناه حقّاً.
وأبو محمد العابد شيخ ابن وضاح لم أعرفه، وسعيد بن المسيب روايته عن عمر مرسلة، والحديث موقوف وليس بمرفوع.
ومن خلال ما تقدم يتضح أن الحديث لا ينجبر ضعفه بهذه الطرق، وقد ذهب البيهقي إلى أنه يتقوَّى بها فقال في "الشعب" (7/ 379) بعد أن ذكر طرقه: "هذه الأسانيد وإن كانت ضعيفة، فهي إذا ضُمَّ بعضها إلى بعض أخذت قوَّة، والله أعلم".
وذهب إلى تصحيحه أيضاً الحافظ أبو الفضل ابن ناصر، والعراقي كما في "المقاصد الحسنة" (ص431 رقم 1193)، والسيوطي في "اللآلئ المصنوعة" (2/ 111 ـ 113)، والشوكاني في "الفوائد المجموعة" (ص98 ـ 100) حيث قال: "طرقه يقوي بعضها بعضاً"، وذهب إلى تضعيفه الإمام أحمد كما سيأتي، والعقيلي، وابن عدي، وابن حبان كما سبق نقله عنهم، وابن الجوزي؛ فذكره في "العلل المتناهية" و"الموضوعات" ـ كما سبق ـ، ونقد طرقه التي أوردها. كما ذهب إلى تضعيفه الذهبي ـ كما سبق ـ، ومن المتأخرين: الشيخ عبد الرحمن المعلمي، والشيخ ناصر الدين الألباني رحمهما الله، وتقدم النقل عنهما.
ومن أجود من نقد الحديث وأعلّه: شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله.
أما ابن القيم فقال في "المنار المنيف" (ص111 ـ 113): "ومنها [يعني: الأحاديث الباطلة]: أحاديث الاكتحال يوم عاشوراء، والتزيُّن، والتوسعةِ، والصلاة فيه، وغير ذلك من فضائل لا يصح منها شيء، ولا حديث واحد، ولا يثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فيه شيء غير أحاديث صيامه، وما عداها فباطل، وأمثل ما فيها: "من وسَّع على عياله يوم عاشوراء؛ وسّع الله عليه سائر سنته"، قال الإمام أحمد: لا يصحّ هذا الحديث. وأما حديث الاكتحال، والادّهان، والتطيُّب: فمن وضع الكذّابين، وقابلهم آخرون فاتخذوه يوم تألُّم وحُزن، والطائفتان مبتدعتان خارجتان عن السنّة. وأهل السنّة يفعلون فيه ما أمر به النبي صلّى الله عليه وسلّم من الصوم، ويجتنبون ما أمر به الشيطان من البدع" اهـ.
وأما شيخ الإسلام ابن تيمية فتكلم عنه في مواضع عدَّة؛ "كمنهاج السنة" (7/ 39)، و"اقتضاء الصراط المستقيم" (1/ 300).
وسئل في "الفتاوى" (25/ 299 ـ 301) عما يفعله الناس في يوم عاشوراء؛ من الكحل، والاغتسال، والحنّاء، والمصافحة، وطبخ الحبوب، وإظهار السرور، وغير ذلك إلى الشارع، فهل ورد في ذلك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم حديث صحيح أم لا؟ وإذا لم يَرِدْ حديث صحيح في شيء من ذلك، فهل يكون فعل ذلك بدعة أم لا؟ وما تفعله=(2/255)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
_________
=الطائفة الأخرى من المأْتَمِ، والحزن، والعطش، وغير ذلك؛ من النَّدْبِ، والنِّياحة، وقراءة المصروع، وشَقّ الجيوب، هل لذلك أصل أم لا؟
فأجاب: الحمد لله رب العالمين، لم يَرِدْ في شيءٍ من ذلك حديث صحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولا عن أصحابه، ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين، لا الأئمة الأربعة، ولا غيرهم، ولا رَوى أهلُ الكتب المعتمدة في ذلك شيئاً، لا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولا الصحابة، ولا التابعين، لا صحيحاً، ولا ضعيفاً، لا في كتب الصحيح، ولا في السنن، ولا المسانيد، ولا يعرف شيء من هذه الأحاديث على عهد القرون الفاضلة، ولكن روى بعض المتأخرين في ذلك أحاديث؛ مثل ما رووا: أن من اكتحل يوم عاشوراء لم يرمد من ذلك العام، ومن اغتسل يوم عاشوراء لم يمرض ذلك العام، وأمثال ذلك ... ، ورووا فضائل في صلاة يوم عاشوراء، ورووا أن في يوم عاشوراء توبة آدم، واستواء السفينة على الجودِيّ، ورَدَّ يوسف على يعقوب، وإنجاء إبراهيم من النار، وفداء الذبيح بالكبش، ونحو ذلك. ورووا في حديثٍ موضوع مكذوب على النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه من وسَّع على أهله يوم عاشوراء؛ وسَّع الله عليه سائر السنة. ورواية هذا كله عن النبي صلّى الله عليه وسلّم كذب، ولكنه معروف من رواية سفيان بن عيينة، عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر، عن أبيه؛ قال: بلغنا أنه من وسَّع على أهله يوم عاشوراء؛ وسّع الله عليه سائر سنته، وإبراهيم بن محمد بن المنتشر من أهل الكوفة، وأهل الكوفة كان فيهم طائفتان: طائفة رافضة يظهرون موالاة أهل البيت، وهم في الباطن إما ملاحدة زنادقة، وإما جهال وأصحاب هوى، وطائفة ناصِبَة تبغض عليّاً وأصحابه؛ لمّا جرى من القتال في الفتنة ما جرى. وقد ثبت في "صحيح مسلم" عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: سيكون في ثقيف كذّاب ومُبِيرٌ، فكان الكذاب هو المختار بن أبي عبيد الثقفي، وكان يظهر موالاة أهل البيت، والانتصار لهم وقتل عبيد الله بن زياد أمير العراق الذي جهّز السَّرِيَّة التي قتلت الحسين بن علي رضي الله عنهما، ثم إنه أظهر الكذب، وادّعى النبوة،
وأن جبريل عليه السلام ينزل عليه، حتى قالوا لابن عمر وابن عباس؛ قالوا لأحدهما: إن المختار بن أبي عبيد يزعم أنه ينزل عليه؟ فقال: صدق، قال الله تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ *تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ *} [الشعراء: 221، 222] وقالوا للآخر: إن المختار يزعم أنه يوحى إليه؟ فقال: صدق {وَإِنَّ الشَّيْاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَولِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام: 121]. وأما المبير: فهو الحجاج بن يوسف الثقفي، وكان منحرفاً عن علي وأصحابه، فكان هذا من النواصب، والأول من الروافض اهـ.
وقال في (25/ 312 ـ 313):
والصحيح: أنه يستحب لمن صامه أن يصوم معه التاسع؛ لأن هذا آخر أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ لقوله: لئن عشت إلى قابل؛ لأصومنَّ التاسع مع العاشر؛ كما جاء ذلك=(2/256)
قال لي: حَوِّقْ (1) عَلَيْهِ، قُلْتُ: وَلِمَ ذَلِكَ يَا أَبا مُحَمَّدٍ؟ قال: خوفاً من أَن يُتّخذ سنة.
_________
=مُفَسَّراً في بعض طرق الحديث، فهذا الذي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما سائر الأمور؛ مثل اتخاذ طعامٍ خارجٍ عن العادة، إما حبوب، وإما غير حبوب، أو تجديد لباس، أو توسيع نفقة، أو اشتراء حوائج العام ذلك اليوم، أو فعل عبادة مختصة؛ كصلاة مختصة به، أو قصد الذبح، أو ادّخار لحوم الأضاحي ليطبخ بها الحبوب، أو الاكتحال، أو الاختضاب، أو الاغتسال، أو التصافح، أو التزاور، أو زيارة المساجد والمشاهد ونحو ذلك، فهذا من البدع المنكرة التي لم يسنّها رسول الله، ولا خلفاؤه الراشدون، ولا استحبها أحد من أئمة المسلمين، لا مالك، ولا الثوري، ولا الليث بن سعد، ولا أبو حنيفة، ولا الأوزاعي، ولا الشافعي، ولا أحمد بن حنبل، ولا إسحاق بن راهويه، ولا أمثال هؤلاء من أئمة المسلمين وعلماء المسلمين، وإن كان بعض المتأخرين من أتباع الأئمة قد كانوا يأمرون ببعض ذلك، ويروون في ذلك أحاديث وآثاراً، ويقولون: إن بعض ذلك صحيح، فهم مخطئون غالطون بلا ريبٍ عند أهل المعرفة بحقائق الأمور، وقد قال حرب الكرماني في "مسائله": سُئل أحمد بن حنبل عن هذا الحديث: من وسَّع على أهله يوم عاشوراء؟ فلم يره شيئاً، وأعلى ما عندهم: أثر يُروى عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر، عن أبيه أنه قال: بلغنا: أنه من وسّع على أهله يوم عاشوراء؛ وسّع الله عليه سائر سنته. قال سفيان بن عيينة: جرّبناه منذ ستّين عاماً فوجدناه صحيحاً. وإبراهيم بن محمد كان من أهل الكوفة، ولم يذكر ممن سمع هذا، ولا عمَّن بلغه، فلعل الذي قال هذا من أهل البدع الذين يبغضون عليّاً وأصحابه، ويريدون أن يقابلوا الرافضة بالكذب مقابلة الفاسد بالفاسد، والبدعة بالبدعة. وأما قول ابن عيينة: فإنه لا حُجَّة فيه، فإن الله سبحانه أنعم
عليه برزقه، وليس في إنعام الله بذلك ما يدل على أن سبب ذلك كان التوسيع يوم عاشوراء، وقد وسع الله على من هم أفضل الخلق من المهاجرين والأنصار، ولم يكونوا يقصدون أن يوسعوا على أهليهم يوم عاشوراء بخصوصه، وهذا كما أن كثيراً من الناس ينذرون نذراً لحاجة يطلبها، فيقضي الله حاجته، فيظن أن النذر كان السبب اهـ، والله أعلم.
(1) في (خ) و (م): "حرق"، والمثبت من (ر) و (غ)، وهو الصواب. ومعنى "حَوِّقْ": أي: اجعل عليه دائرة؛ كما يتضح من "لسان العرب" (10/ 71)، كأنه قال: اضرب عليه. وقد اعتمد رشيد رضا رحمه الله على نسخة (خ) فقط، وفيها: "حرق" بالراء، فعلّق عليه بقوله: لعلّها: "حوق" بالواو؛ يقال: حوق عليه الكلام: إذا خلطه وأفسده عليه بحيث لا يفهم، أو لا يقرأ إلا إذا كان مكتوباً. وهو من الحُوَاقة؛ أي: الكناسة التي يختلط بها ما يكنس بعضه ببعض. ويقال: حَاقَ الدار بالمِحْوَقَة: كنسها. ومما حفظته من صبيان المكتب ـ إذ كنا نتعلّم الخطّ ـ: "حَوِّق عليه"؛ أي السطر ـ مثلاً ـ؛ أي:=(2/257)
فَهَذِهِ أُمور جَائِزَةٌ أَو مَنْدُوبٌ إِليها، وَلَكِنَّهُمْ كَرِهُوا فِعْلَهَا خَوْفًا مِنَ الْبِدْعَةِ؛ لأَن اتِّخَاذَهَا سُنَّةً إِنما هُوَ بأَن يُوَاظِبَ النَّاسُ عَلَيْهَا مُظْهِرِينَ لَهَا، وَهَذَا شأْن السُّنَّةِ، وإِذا جَرَتْ مَجْرَى السُّنَنِ صَارَتْ مِنَ الْبِدَعِ بِلَا شَكٍّ.
فإِن قيل: فكيف (1) صَارَتْ هَذِهِ الأَشياءُ مِنَ الْبِدَعِ الإِضافية، وَالظَّاهِرُ مِنْهَا أَنها بِدَعٌ حَقِيقِيَّةٌ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ إِذَا عُمل بِهَا عَلَى اعْتِقَادِ أَنَّهَا سُنَّةٌ، فَهِيَ حَقِيقِيَّةٌ إِذْ لَمْ يضَعْها صاحبُ السُّنّة؛ رسول الله صلى الله عليه وسلم على هَذَا الْوَجْهِ (2)، فَصَارَتْ (3) مِثْلَ مَا إِذا صَلَّى الظُّهْرَ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَاعْتَقَدَهَا عِبَادَةً، فإِنها بِدْعَةٌ مِنْ غَيْرِ إِشكال، هَذَا إِذَا نَظَرْنَا إِلَيْهَا بمآلِها، وإِذا نَظَرْنَا إِليها أَوّلاً فَهِيَ مَشْرُوعَةٌ مِنْ غَيْرِ نِسْبَةٍ إِلى بِدْعَةٍ أَصلاً؟
فَالْجَوَابُ: أَن السُّؤَالَ صَحِيحٌ، إِلا أَن لِوَضْعِهَا أَولاً نَظَرَيْنِ:
أَحدهما: مِنْ حَيْثُ هِيَ مَشْرُوعَةٌ؛ فَلَا كَلَامَ فِيهَا.
وَالثَّانِي: مِنْ حَيْثُ صَارَتْ كَالسَّبَبِ الْمَوْضُوعِ لِاعْتِقَادِ الْبِدْعَةِ أَو لِلْعَمَلِ بِهَا عَلَى غَيْرِ السُّنَّةِ، فَهِيَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ (4) غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ؛ لأَن وَضْعَ الأَسباب لِلشَّارِعِ لَا للمُكَلَّف، وَالشَّارِعُ لَمْ يَضَعِ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِ قباءَ أَو بَيْتِ الْمَقْدِسِ ـ مَثَلًا ـ سَبَبًا لأَنْ تُتَّخَذَ سُنَّةً، فَوَضْعُ المُكَلَّف لَهَا كَذَلِكَ رأْي غَيْرُ مُسْتَنِدٍ إِلى الشَّرْعِ، فَكَانَ ابْتِدَاعًا.
_________
=رمِّجْه، أو اجعل حوله خطّاً ليُعلم أنه غير مقصود. وهو استعمال عربي. وأما "حرق عليه" بالراء، فلا يظهر له معنى هنا، إلا إذا كانوا استعملوا التحريق بمعنى برد المعدن بالمبرد في حكّ الحروف المكتوبة بِمِبْراةِ القلم، ولم أره" اهـ.
(1) في (خ) و (م): "كيف".
(2) في (خ): "لم توجه"، وعلق رشيد رضا عليه بقوله: "لعلّه: على هذا الوجه" اهـ.
(3) في (ر) و (غ): "وصارت".
(4) في (خ): "البدعة" بدل "الوجه"، ووضع الناسخ عليها ما يدل على استشكاله لها: (سـ)، ولذا لم يثبتها رشيد رضا في طبعته، وعلق على موضعها بقوله: لعل الأصل: "من هذا القبيل"، أو: "من هذا الوجه"، وكتب في الأصل: "فهي من هذه البدعة غير مشروعة"، ووضع فوق كلمة البدعة علامة الترميج. اهـ.(2/258)
وَهَذَا مَعْنَى كَوْنِهَا بِدْعَةً إِضافية.
أَما إِذا استقرَّ السَّبَبُ وَظَهَرَ عَنْهُ مُسَبِّبُهُ الَّذِي هُوَ اعْتِقَادُ الْعَمَلِ سُنَّةً، وَالْعَمَلُ عَلَى وَفْقِهِ، فَذَلِكَ بِدْعَةٌ حَقِيقِيَّةٌ لَا إِضافية، وَلِهَذَا الأَصل أَمثلة كَثِيرَةٌ وَقَعَتِ الإِشارة إِليها فِي أَثناءِ (1) الْكَلَامِ، مَعْنَى لِلتَّكْرَارِ.
وإِذا ثَبَتَ فِي الأُمور الْمَشْرُوعَةِ أَنها قَدْ تُعَدُّ بِدَعًا بالإِضافة، فَمَا ظَنُّكَ بالبدع الحقيقية؛ فإِنها قد يجتمع (2) فِيهَا أَن تَكُونَ حَقِيقِيَّةً وإِضافية مَعًا لَكِنْ من جهتين، فإِن (3) بِدْعَةُ "أَصْبِحْ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ" (4) فِي نداءِ الصُّبح ظَاهِرَةٌ، ثُمَّ لَمَّا عُمِلَ بِهَا فِي الْمَسَاجِدِ وَالْجَمَاعَاتِ، مُوَاظَباً عَلَيْهَا، لَا تُتْرَكُ كَمَا لَا تترك الواجبات وما أشبهها، كان تشريعُها (5) أَولاً يلزمه أَن يُعتقد فيها الْوُجُوبَ أَو السُّنَّةَ، وَهَذَا ابْتِدَاعٌ ثانٍ إِضافي. ثُمَّ إِذا اعتُقِد فِيهَا ثَانِيًا السُّنِّيَّة (6) أَو الفَرَضِيَّة صَارَتْ بِدْعَةً مِنْ ثَلَاثَةِ أَوجه، وَمِثْلُهُ يَلْزَمُ فِي كُلِّ بِدْعَةٍ أُظهرت والتُزِمَتْ. وأَما إِذا خَفِيَتْ وَاخْتُصَّ بِهَا صَاحِبُهَا فالأَمر عَلَيْهِ أخفّ، فيالله وَيَا لِلْمُسْلِمِينَ! مَاذَا يَجْنِي الْمُبْتَدِعُ عَلَى نَفْسِهِ مِمَّا لَا يَكُونُ فِي حِسَابِهِ؟ وَقَانَا اللَّهُ شرور أَنفسنا بفضله.
_________
(1) في (م): "استثناء".
(2) في (خ) و (م): "تجتمع".
(3) في (خ) و (م): "فإذاً".
(4) انظر (ص87 ـ 89) من هذا المجلد.
(5) في (خ) و (م): "تشريعاً".
(6) في (ر) و (غ): "السنة".(2/259)
فَصْلٌ
مِنْ تَمَامِ مَا قَبْلَهُ
وَذَلِكَ أَنه وقعت نازلة بإمام (1) مسجدٍ تَرَك مَا عَلَيْهِ النَّاسُ بالأَندلس؛ مِنَ الدعاءِ لِلنَّاسِ بِآثَارِ الصَّلَوَاتِ بِالْهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ عَلَى الدَّوَامِ ـ وَهُوَ أَيضاً مَعْهُودٌ فِي أَكثر الْبِلَادِ، فإِن الإِمام إِذا سَلَّمَ مِنَ الصَّلَاةِ يَدْعُو لِلنَّاسِ ويؤمِّن الْحَاضِرُونَ ـ، وَزَعَمَ التَّارِك أَن تَرْكَهُ بِنَاءً مِنْهُ عَلَى أَنه لَمْ يَكُنْ مِنْ (2) فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا فعل الأَئمة بعده؛ حَسْبَمَا نَقَلَهُ العلماءُ فِي دَوَاوِينِهِمْ عَنِ السَّلَفِ والفقهاءِ.
أَما أَنه لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَظَاهِرٌ؛ لأَن حَالَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أَدبار الصَّلَوَاتِ ـ مكتوبات أَو نوافل ـ كان بَيْنَ أَمرين: إِما أَن يَذْكُرَ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرًا هُوَ فِي العُرف غَيْرُ دُعَاءٍ، فَلَيْسَ لِلْجَمَاعَةِ مِنْهُ حَظٌّ، إِلا أَن يَقُولُوا مِثْلَ قَوْلِهِ، أَو نَحْوًا مِنْ قَوْلِهِ؛ كَمَا فِي غَيْرِ أَدبار الصَّلَوَاتِ؛ كَمَا جاءَ أَنه كَانَ (3) يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ: "لَا إِله إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شيءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعطيت، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَتْ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ" (4).
وَقَوْلُهُ: "اللَّهُمَّ أَنت السَّلَامُ، وَمِنْكَ السلام تباركت ذا (5) الجلال
_________
(1) في (خ) و (م): "إمام".
(2) قوله: "من" ليس في (خ) و (م).
(3) قوله: "كان" ليس في (غ) و (ر).
(4) أخرجه البخاري (844)، ومسلم (593) من حديث المغيرة بن شعبة.
(5) في (خ) و (م): "تباركت وتعاليت يا ذا".(2/260)
والإِكرام" (1).
وَقَوْلُهُ: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * (2) وَسَلاَمٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ *} {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (3)، ونحو ذلك، فإِنما كان يقوله فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ كَسَائِرِ الأَذكار، فَمَنْ قَالَ مِثْلَ قَوْلِهِ فَحَسَنٌ، وَلَا يُمْكِنُ فِي هَذَا كله هيئة اجتماع.
وإِن كان دعاءً فَعَامَّةُ مَا جاءَ مِنْ دَعَائِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ الصَّلَاةِ ـ مِمَّا سُمِعَ مِنْهُ ـ إِنما كَانَ يَخُصُّ بِهِ نَفْسَهُ دُونَ الْحَاضِرِينَ، كَمَا فِي التِّرْمِذِيِّ (4) عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنه كَانَ إِذا قَامَ إِلى الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ رَفَعَ يَدَيْهِ ... ، الْحَدِيثَ، إِلى قَوْلِهِ: وَيَقُولُ عِنْدَ انْصِرَافِهِ مِنَ الصَّلَاةِ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي ما قدَّمْتُ وما أخَّرْتُ، وما أَسررت وَمَا أَعلنت، أَنت إِلهي (5) لَا إِله إِلا أَنت". حسن صحيح (6).
_________
(1) أخرجه مسلم (591) من حديث ثوبان، و (592) من حديث عائشة، وهو موافق لسياق نسختي (ر) و (غ)، وأما ما جاء في (خ) و (م) من زيادة: "وتعاليت"، فلم أجده في شيء من طرق هذا الحديث، فأظنه خطأ من الناسخين بسبب ما اعتاده العامة من ذكر هذه الزيادة غير الصحيحة في هذا الذكر.
(2) إلى هنا انتهى ذكر الآية في (خ) و (م)، وبعده قال: "الآية".
(3) الآيات: (180 و181 و182) من سورة الصافات.
والحديث أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 303)، والطيالسي (2312)، وعبد بن حميد (952) و (954)، والحارث بن أبي أسامة في "مسنده" (190/بغية الباحث)، وأبو يعلى (1118)، وأبو الشيخ في "طبقات المحدثين بأصبهان" (2/ 31)، وابن السني في "عمل اليوم والليلة" (119)، والطبراني في "الدعاء" (651)، والخطيب في "التاريخ" (13/ 138) وفي "الموضح" (2/ 485)، والحافظ ابن حجر في "نتائج الأفكار" (2/ 288)، من طريق أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان إذا سلّم من الصلاة قال ـ ثلاث مرات ـ: ... ، فذكر الآيات.
وأبو هارون العبدي: متروك، ومنهم من كذبه كما في "التقريب" (4874).
(4) برقم (3423)، وهو في مسلم (201) و (202) فكان عزوه له أولى.
(5) قوله: "أنت إلهي" سقط من (غ) و (ر).
(6) هذا كلام الترمذي، والحديث أخرجه مسلم في "صحيحه" كما تقدم.(2/261)
وَفِي رِوَايَةِ أَبي دَاوُدَ (1): كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذا سَلَّمَ مِنَ الصَّلَاةِ قَالَ: "اللَّهُمَّ! اغْفِرْ لِي مَا قدَّمت، وَمَا أَخَّرت، وَمَا أَسررت، وَمَا أَعلنت، وَمَا أَسرفت، وَمَا أَنت أَعلم بِهِ مِنِّي، أَنت الْمُقَدِّم، وأَنت المُؤَخِّر، لَا إِله إِلا أَنت".
وخرَّج أَبو دَاوُدَ (2): كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلّم يقول دُبُرَ صلاته (3): "اللَّهُمَّ ربَّنا وربَّ كُلِّ شيءٍ، أَنا شَهِيدٌ [أَنك أَنت الرب وحدَكَ لا شريكَ لك، اللَّهُمَّ ربَّنا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، أَنا شَهِيدٌ] (4) أَن مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ، اللَّهُمَّ ربَّنا وَرَبَّ كُلِّ شيءٍ، أَنا شَهِيدٌ أَن الْعِبَادَ كلَّهم إِخوة، اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ (5) شيءٍ اجْعَلْنِي مُخْلَصًا لَكَ وأَهلي فِي كُلِّ سَاعَةٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، يَا ذَا الْجَلَالِ والإِكرام، اسْمَعْ واستجب، الله أَكبر الأكبر (6)، الله نور السموات والأَرض، الله أَكبر الأَكبر (7)، حسبي الله ونعم الوكيل".
ولأَبي داود في الباب (8): "رَبِّ أَعنِّي وَلَا تُعِنْ عليَّ، وَانْصُرْنِي وَلَا تَنْصُرْ عليَّ (9)، وامْكُرْ لي ولا تَمْكُر (10) عليَّ، واهدني ويَسِّر هدايَ إِليَّ،
_________
(1) في "سننه" برقم (756).
(2) في "سننه" برقم (1503). وأخرجه أحمد (4/ 369)، والنسائي في "الكبرى" (9929)، وأبو يعلى (7216) والطبراني في "الكبير" (5122) وابن السني (114)، والبيهقي في "الشعب" (1/ 433) من طريق داود الطُّفاوي، عن أبي مسلم البجلي، عن زيد بن أرقم ... ، فذكره.
وإسناده ضعيف؛ داود هو: ابن راشد الطفاوي، قال ابن معين: ليس بشيء.
وقال الحافظ في "التقريب": (1793) "لين الحديث".
وأبو مسلم البجلي لا يعرف كما قال الذهبي في "الميزان" (10604).
(3) في (غ) و (م): "كل صلاته"، وفي (خ): "كل صلاة".
(4) ما بين المعقوفين سقط من جميع النسخ، فاستدركته من "سنن أبي داود".
(5) قوله: "كل" سقط من (م).
(6) في (خ) و (م): "الله أكبر، الله أكبر".
(7) في (خ) و (م): "الله أكبر، الله أكبر".
(8) قوله: "الباب" سقط من (خ) و (م)، واجتهد رشيد رضا فوضع بدلاً منه: "رواية"، وعلق عليها بقوله: حذف لفظ "رواية" من نسختنا. اهـ.
(9) قوله: "علي" سقط من (ر).
(10) في (خ) و (م): "وأمكن لي ولا تمكن عليّ" والمثبت من (ر) و (غ)، وهو الموافق لما في "سنن أبي داود".(2/262)
وَانْصُرْنِي عَلَى مَنْ بَغَى عليَّ ... " إِلى آخَرَ الْحَدِيثِ (1).
وَفِي النَّسَائِيِّ (2) أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كان يقول في دبر الفجر إِذا
_________
(1) أخرجه أبو داود (1510)، وابن أبي شيبة (10/ 280 ـ 281)، وعبد بن حميد (717)، وأحمد (1/ 227)، والبخاري في "الأدب المفرد" (664) و (665)، والترمذي (3551)، وابن ماجه (3830)، والنسائي في "الكبرى" (10443)، وابن أبي عاصم في "السنة" (384)، وابن حبان (947) و (948)، والطبراني في "الدعاء" (1411)، والحاكم (1/ 519 ـ 520)، جميعهم من طريق طليق بن قيس، عن ابن عباس، به.
وسنده صحيح، وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه".
(2) في "الكبرى" (9930)، وكذا أخرجه الطيالسي (1710)، وابن أبي شيبة (10/ 234)، وأحمد (6/ 305، 318، 322) وابن ماجه (915)، وغيرهم من طريق موسى بن أبي عائشة، عن مولى لأم سلمة، عن أم سلمة به.
وإسناده ضعيف لجهالة مولى أم سلمة.
قال البوصيري في "مصباح الزجاجة" (1/ 114): "هذا إسناد رجاله ثقات، خلا مولى أم سلمة فإنه لم يُسَمّ، ولم أر أحداً ممن صنف في المبهمات ذكره، ولا أدري ما حاله". اهـ.
وأخرجه الدارقطني في "الأفراد" كما في "النكت الظراف" للحافظ ابن حجر (13/ 46)، ومن طريقه الخطيب في "تاريخ بغداد" (4/ 39)، عن المحاملي، عن أحمد بن إدريس المخرمي، حدثنا شاذان، حدثنا سفيان الثوري، عن موسى بن أبي عائشة، عن عبد الله بن شداد بن الهاد عن أم سلمة.
قال الدارقطني: لم يقل فيه: "عن عبد الله بن شداد" عدا المخرمي عن شاذان. اهـ.
قال الخطيب: غيره يرويه عن سفيان، عن موسى، عن مولى لأم سلمة.
قلت: وأحمد بن إدريس الذي في سنده ذكره الخطيب ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً، ثم هو مخالف لرواية أصحاب سفيان الثقات أمثال وكيع وعبد الرحمن بن مهدي وعبد الرزاق حيث رووه على الوجه المتقدم، خلا عبد الرحمن بن مهدي حيث قال: عن سفيان، عن موسى، عمَّن سمع أم سلمة؛ كما عند أحمد في "المسند" (6/ 318).
ولم أقف في مصادر ترجمة عبد الله بن شداد على وصفه بأنه مولى لأم سلمة.
وأخرجه الطبراني في "الصغير" (735) من طريق عامر بن إبراهيم، عن النعمان بن عبد السلام، عن سفيان، عن الشعبي، عن أم سلمة به.
قال الطبراني: "لم يروه عن سفيان إلا النعمان، تفرد به عامر".
قلت: الصواب من حديث سفيان: ما رواه أصحابه الثقات كما مضى، ثم الشعبي لا يُعرف له سماع من أم سلمة، والله أعلم.(2/263)
صَلَّى: "اللَّهُمَّ إِني (1) أَسأَلك عِلْمًا نَافِعًا، وَعَمَلًا مُتَقَبَّلاً، وَرِزْقًا طَيِّبًا".
وَعَنْ بَعْضِ الأَنصار قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي دُبُرِ الصَّلَاةِ: "اللَّهُمَّ! اغْفِرْ لِي، وتُبْ عليَّ إِنك أَنت التَّوَّابُ الْغَفُورُ (2) ... "، حَتَّى بلغ (3) مِائَةَ مَرَّةٍ. وَفِي رِوَايَةٍ: أَن هَذِهِ الصَّلَاةَ كَانَتْ صَلَاةَ الضُّحَى (4).
فتأَملوا سِيَاقَ هَذِهِ الأَدعية كلِّها مَسَاقَ تَخْصِيصِ نَفْسِهِ بِهَا دُونَ النَّاسِ، أفيكون (5) مِثْلَ هَذَا حُجَّةً لِفِعْلِ النَّاسِ الْيَوْمَ؟! إِلا أَن يُقَالَ: قَدْ جاءَ الدعاءُ لِلنَّاسِ فِي مَوَاطِنَ، كَمَا فِي الْخُطْبَةِ الَّتِي اسْتَسْقَى فِيهَا للناس (6)، وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَيُقَالُ: نَعَمْ! فأَين الْتِزَامُ ذَلِكَ جهراً للحاضرين في دبر كل صلاة؟
_________
(1) في (غ): "إنك".
(2) في (غ): "الرحيم" بدل "الغفور"، وكذا كانت في (ر)، ثم صوبت في الهامش.
(3) في (خ) و (م): "يبلغ".
(4) هذا الحديث يرويه حصين بن عبد الرحمن السلمي، واختلف عليه فيه: فرواه شعبة، وابن فضيل، وعباد بن العوام، وعبد العزيز بن مسلم، عن هلال بن يِسَاف، عن زاذان، عن رجل من الأنصار به.
أخرجه ابن أبي شيبة (6/ 34)، وأحمد (5/ 371)، والنسائي في الكبرى (6/ 31) رقم (9931) و (9932) و (9933) و (9934).
وصرح زاذان بالتحديث عند ابن أبي شيبة والنسائي.
وإسناده صحيح، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/ 143): "رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح".
وخالفهم خالد بن عبد الله، فرواه عن حصين، عن هلال، عن زاذان، عن عائشة.
أخرجه النسائي في "الكبرى" (9935).
قال النسائي عقبه: حديث شعبة، وعبد العزيز بن مسلم، وعباد بن العوام أولى عندنا بالصواب من حديث خالد وبالله التوفيق. وقد كان حصين بن عبد الرحمن اختلط في آخر عمره. اهـ.
قلت: اختلاط حصين بن عبد الرحمن لا يضر هنا، فشعبة ممن روى عنه قبل الاختلاط، وكذا خالد بن عبد الله، فعاد الأمر إلى ترجيح رواية شعبة ومن معه على رواية خالد لكثرة عددهم أولاً، ولأن شعبة أحفظ من خالد ثانياً، والله أعلم.
(5) في (خ) و (م): "فيكون".
(6) قوله: "للناس" ليس في (خ) و (م).
وخطبته صلّى الله عليه وسلّم التي استسقى فيها للناس أخرج حديثها البخاري في "صحيحه" (932)، ومسلم (897).(2/264)
ثُمَّ نَقُولُ: إِن العلماءَ يَقُولُونَ فِي مِثْلِ الدعاءِ وَالذِّكْرِ الْوَارِدِ عَلَى إِثْرِ الصَّلَاةِ: إِنه مُسْتَحَبٌّ، لَا سُنَّةٌ وَلَا وَاجِبٌ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَمرين:
أَحَدُهُمَا: أَن هَذِهِ الأَدعية لَمْ تكن منه عليه السلام عَلَى الدَّوَامِ.
وَالثَّانِي: أَنه لَمْ يَكُنْ يَجْهَرُ بِهَا دَائِمًا، وَلَا يُظْهِرُهَا لِلنَّاسِ فِي غَيْرِ مُوَاطِنِ التَّعْلِيمِ، إِذ لَوْ كَانَتْ عَلَى الدَّوَامِ وَعَلَى الإِظهار لَكَانَتْ سُنَّةً، وَلَمْ يسعِ العلماءَ أَن يقولوا فيها بغير السنة، إِذ خاصية السنة (1) ـ حَسْبَمَا ذَكَرُوهُ ـ: الدَّوَامُ والإِظهار فِي مَجَامِعِ النَّاسِ. وَلَا يُقَالُ: لَوْ كَانَ دُعَاؤُهُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ سِرًّا لَمْ يُؤْخَذْ عَنْهُ، لأَنا نَقُولُ: مَنْ كَانَتْ عَادَتُهُ الإِسرار فَلَا بُدَّ أَن يَظْهَرَ منه، أَو يظهر منه وَلَوْ مَرَّةً، إِما بِحُكْمِ الْعَادَةِ، وإِما (2) بِقَصْدِ التَّنْبِيهِ عَلَى التَّشْرِيعِ.
فإِن قِيلَ: ظَوَاهِرُ الأَحاديث (3) تدل على الدوام (4)؛ بِقَوْلِ الرُّوَاةِ: "كَانَ يَفْعَلُ"، فإِنه يَدُلُّ عَلَى الدَّوَامِ؛ كَقَوْلِهِمْ: "كَانَ حَاتِمٌ يُكْرِمُ الضِّيفَانِ". قُلْنَا: ليس كذلك، بل تطلق (5) على الدوام، وعلى الكثرة (6) وَالتَّكْرَارِ عَلَى الْجُمْلَةِ، كَمَا جاءَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ وَهُوَ جُنُبٌ تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ (7).
وَرَوَتْ أَيْضًا أَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَنَامُ وَهُوَ جُنُبٌ من غير أَن يَمَسَّ ماء (8).
_________
(1) في (خ) و (م): " إذ خاصيته".
(2) قوله: "وإما" ليس في (خ) و (م)، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: يظهر أن في العبارة تحريفاً وحذفاً، ولعل الأصل: "فلا بدّ أن يظهر منه إِمَّا بِحُكْمِ الْعَادَةِ، وَإِمَّا بِقَصْدِ التَّنْبِيهِ عَلَى التشريع".اهـ.
(3) في (ر) و (غ): "الحديث".
(4) في (خ) و (م): "على أن الدوام".
(5) كذا في (غ) و (ر)، وفي (خ) و (م): "يطلق"، والمثبت أصوب؛ لأن الضمير يعود على ظواهر الأحاديث التي يتكلم عنها المؤلف.
(6) في (خ): "الكثير" وفي (م): "الكثر".
(7) أخرجه البخاري (286) ومسلم (305).
(8) أخرجه أبو داود (228)، والترمذي (118)، وابن ماجه (581 ـ 583)، والنسائي في "الكبرى" (9052 ـ 9054) وغيرهم من طريق أبي إسحاق السبيعي، عن الأسود، عن عائشة، به.
وأعله يزيد بن هارون، وأحمد وغيرهما، يرون أنه غلط من أبي إسحاق. انظر تفصيل ذلك في "الإمام" لابن دقيق العيد (3/ 87).(2/265)
بل قد تأتي (1) فِي بَعْضِ الأَحاديث: "كَانَ يَفْعَلُ" فِيمَا لَمْ يَفْعَلْهُ إِلا مَرَّةً وَاحِدَةً، نَصَّ عَلَيْهِ أَهل الْحَدِيثِ (2).
وَلَوْ كَانَ يُدَاوِمُ (3) الْمُدَاوَمَةَ التَّامَّةَ لَلَحِقَ بِالسُّنَنِ؛ كَالْوَتْرِ وَغَيْرِهِ، وَلَوْ سُلِّم، فأَين هَيْئَةُ الِاجْتِمَاعِ؟
فَقَدْ حَصَلَ أَن الدُّعَاءَ بِهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ دَائِمًا لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا لَمْ يَكُنْ من (4) قوله، ولا من (3) إِقراره.
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ (5) مِنْ حَدِيثِ أُم سَلَمَةَ: أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمْكُث إِذا سَلَّم يَسِيرًا. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: حَتَّى ينصرف النساء (6) فِيمَا نَرَى.
وَفِي مُسْلِمٍ (7) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (8) كَانَ إِذا سَلَّمَ لَمْ يَقْعُدْ إِلا مِقْدَارَ مَا يَقُولُ: "اللَّهُمَّ أَنت (9) السَّلَامُ وَمِنْكَ السلام تباركت ذَا (10) الْجَلَالِ والإِكرام".
وأَما فِعْلُ الأَئمة بَعْدَهُ: فَقَدْ نَقَلَ الفقهاءُ مِنْ حَدِيثِ أَنس ـ فِي غير كتب الصحيح ـ: صلّيت خلف النبي صلّى الله عليه وسلّم، فَكَانَ إِذا سَلَّمَ (11) يَقُومُ، وَصَلَّيْتُ خَلَفَ أَبي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَكَانَ إِذا سَلَّمَ وَثَبَ كأَنه عَلَى رَضْفَةٍ (12)؛ يَعْنِي: الحَجَر المُحْمَى.
_________
(1) في (خ) و (م): "يأتي"، والمثبت من (غ) و (ر)، وهو أصوب؛ لأن الضمير يعود إلى ظواهر الأحاديث أيضاً.
(2) انظر "فتح الباري" (2/ 247)، و"توضيح الأفكار" (1/ 279).
(3) علق رشيد رضا على هذا الموضع بقوله: أي: على ما ذكر من الأدعية والأذكار، ويوشك أن يكون قد سقط من الناسخ ما يدل على ذلك. اهـ.
(4) قوله: "من" ليس في (خ) و (م).
(5) برقم (849) و (875).
(6) في (خ) و (م): "الناس".
(7) برقم (592)، وتقدم (ص244).
(8) قوله: "أن النبي صلّى الله عليه وسلّم" ليس في (خ).
(9) في (ر) و (غ): "إنك أنت".
(10) في (خ) و (م): "يا ذا".
(11) في (ر) و (غ): "فكان يسلم".
(12) أخرجه عبد الرزاق (3231) عن ابن جريج؛ حُدِّثت عن أنس، به.
وإسناده ضعيف لإبهام شيخ ابن جريج. وسمّاه عبدُ الله بن فرّوخ عطاءً؛ ولا يثبت:
أخرجه ابن خزيمة (1717)، وابن عدي (4/ 199 ـ 200)، والطبراني في "الكبير" (1/ 252 رقم 727)، والحاكم (1/ 216)، وعنه البيهقي (2/ 182)، وأخرجه الضياء في "المختارة" (2334) (2335) جميعهم من طريق عبد الله بن فرّوخ، عن ابن جريج، عن عطاء، عن أنس.=(2/266)
وَنَقَلَ ابْنُ يُونُسَ الصِّقِلِّي عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ خَارِجَةَ: أَنه كَانَ يَعِيب عَلَى الأَئمة قعودَهم بَعْدَ السَّلَامِ، وَقَالَ: إِنما كَانَتِ الأَئمة سَاعَةَ تسلِّم (1) تَقُومُ (2).
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: جُلُوسُهُ بدعة (3).
_________
=قال الحاكم: "هذا حديث صحيح رواته [ثقات] غير عبد الله بن فرّوخ؛ فإنهما لم يخرجاه، لا لجرح فيه، وهذه سنة مستعملة لا أحفظ لها غير هذا الإسناد".
فتعقبه الذهبي بقوله: "قال البخاري يعرف وينكر. وقال ابن عدي: أحاديثه غير محفوظة".
وقال البيهقي: "تفرد به عبد الله بن فرّوخ المصري، وله أفراد، والله أعلم، والمشهور: عن أبي الضحى، عن مسروق: كان أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ إذا سلم قام كأنه جالس على الرضف، وروينا أنه سلم ثم قام" اهـ.
وقال الهيثمي في "المجمع" (2/ 146): "وفيه عبد الله بن فروخ، قال إبراهيم الجوزجاني: أحاديثه مناكير".
وأخرجه ابن شاهين في "الناسخ والمنسوخ" رقم (227) من طريق يحيى بن عثمان بن صالح، عن سعيد بن أبي مريم، وعمرو بن الربيع بن طارق، كلاهما عن ابن فرّوخ، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس به.
وسنده ضعيف لمخالفة يحيى بن عثمان لباقي الرواة الذين جعلوه عن أنس، ويحيى هذا صدوق، لكن ليّنه بعضهم لكونه حدّث من غير أصله؛ كما في "التقريب" (7655).
ورواية مسروق التي أشار إليها البيهقي أخرجها عبد الرزاق (3214)، والطحاوي في "شرح المعاني" (1/ 270).
ورواية مسروق عن أبي بكر مرسلة. انظر "جامع التحصيل" صفحة (277).
(1) في (خ) و (م): "يسلم".
(2) الأثر في "المدونة" (1/ 135) من طريق عبد الله بن وهب، عن يونس بن يزيد؛ أن أبا الزناد أخبره؛ قال: سمعت خارجة بن زيد بن ثابت يعيب على الأئمة قعودهم بعد التسليم، وقال: إنما كانت الأئمة ساعة تسلم تنقلع مكانها.
وهذا سند صحيح.
وأخرجه البيهقي في "سننه" (2/ 182) من طريق ابن جريج؛ أخبرني زياد، عن أبي الزناد؛ قال: سمعت خارجة ... ، فذكره.
(3) كذا ذكره الشاطبي هنا عن ابن عمر!! وهو مذكور في "المدونة" (1/ 135) عن ابن وهب؛ قال: بلغني عن أبي بكر الصديق أنه كان إذا سلم لكأنه على الرضف حتى يقوم، وأن عمر بن الخطاب قال: جلوسه بعد السلام بدعة.
ولما ذكر البيهقي في الموضع السابق أثر خارجة بن زيد المتقدم؛ قال: "وروينا عن=(2/267)
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ (1) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لأَن يَجْلِسَ عَلَى الرَّضْف (2) خَيْرٌ لَهُ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَالَ مَالِكٌ فِي "الْمُدَوَّنَةِ" (3): إِذا سَلَّمَ فَلْيَقُمْ وَلَا يَقْعُدْ، إِلا أَن يَكُونَ فِي سفرٍ أَو فِي فِنَائِه.
وعدَّ الفقهاءُ إِسراع الْقِيَامِ سَاعَةَ يُسَلِّمُ مِنْ فَضَائِلِ الصَّلَاةِ، وَوَجَّهُوا ذَلِكَ بأَن جُلُوسَهُ هُنَالِكَ يَدْخُلُ عَلَيْهِ فِيهِ كبر وترفُّعٌ على الجماعة، وانفراده بموضع عَنْهُمْ يَرى بِهِ الداخلُ أَنه إِمامهم، وأَما انفراده به حال (4) الصلاة فضرورة (5).
قَالَ بَعْضُ شُيُوخِنَا الَّذِينَ اسْتَفَدْنَا بِهِمْ (6): وإِذا كَانَ هَذَا فِي انْفِرَادِهِ فِي الْمَوْضِعِ، فَكَيْفَ بِمَا انْضَافَ إِليه مِنْ تقدُّمه أَمامهم فِي التوسُّل بِهِ بالدعاءِ وَالرَّغْبَةِ، وتأْمينهم عَلَى دُعَائِهِ جَهْرًا؟ قَالَ: وَلَوْ كَانَ هَذَا حَسَنًا لَفَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَلَمْ يَنقل ذَلِكَ (7) أَحد مِنَ العلماءِ، مَعَ تَوَاطُئِهِمْ (8) عَلَى نَقْلِ جَمِيعِ أُموره، حَتَّى: هَلْ كَانَ يَنْصَرِفُ مِنَ الصَّلَاةِ عَنِ الْيَمِينِ؟ أَو عَنِ (9) الشِّمَالِ؟
وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ بَطَّال (10) عَنْ علماءِ السَّلَفِ إِنكارَ ذَلِكَ، وَالتَّشْدِيدَ فِيهِ عَلَى مَنْ فَعَلَهُ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ.
_________
=الشعبي وإبراهيم النخعي أنهما كرهاه، ويُذكر عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، والله تعالى أعلم" اهـ. وقد ذكر ابن بطال في "شرح صحيح البخاري" (2/ 462) أن ابن عمر قال: "الإمام إذا سلم قام"، ثم نقل عن عمر قوله: "جلوس الإمام بعد السلام بدعة".
(1) أخرجه في "المدونة" (1/ 135) عن ابن وهب؛ قال: قال ابن مسعود: يَجْلِسَ عَلَى الرَّضْفِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ذَلِكَ. وسنده معضل بين ابن وهب وابن مسعود.
(2) الرَّضْفُ: الحجارة المُحْماة كما في "النهاية" (2/ 231)، وتقدم (ص266) بيان المصنف لمعناها.
(3) (1/ 135).
(4) في (غ) و (ر): "حالة".
(5) في (خ) و (م): "فضروري".
(6) في (خ): "منهم" وكتب فوقها "صح".
(7) قوله: "ذلك" ليس في (خ)، ولذا علق رشيد رضا على موضعه بقوله: الظاهر أنه قد سقط من الكلام مفعول قوله: "ولم يقل"، ولعل الأصل: "ولم ينقل ذلك أحد من العلماء".اهـ.
(8) في (ر) و (غ): "تواظبهم".
(9) في (ر) و (غ): "على اليمين أو على".
(10) في "شرح صحيح البخاري" (2/ 461 ـ 462).(2/268)
هَذَا مَا نَقَلَهُ الشَّيْخُ بَعْدَ أَن جَعَلَ الدعاءَ بإِثر الصَّلَاةِ بِهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ دَائِمًا بِدْعَةً قَبِيحَةً، وَاسْتَدَلَّ عَلَى عَدَمِ ذَلِكَ فِي الزَّمَانِ الأَول بسرعة القيام للانصراف (1)؛ لأَنه مُنَافٍ للدعاءِ لَهُمْ وتأْمينهم عَلَى دُعَائِهِ، بِخِلَافِ الذِّكْر، وَدُعَاءِ الإِنسان لِنَفْسِهِ، فإِن الِانْصِرَافَ وَذَهَابَ الإِنسان لِحَاجَتِهِ غَيْرُ منافٍ لَهُمَا.
فَبَلَغَتِ الْكَائِنَةُ (2) بَعْضَ شُيُوخِ الْعَصْرِ فَرَدَّ عَلَى ذَلِكَ الإِمام رَدًّا أَقْذَعَ (3) فِيهِ، عَلَى خِلَافِ مَا عَلَيْهِ (4) الرَّاسِخُونَ، وَبَلَغَ مِنَ الرَّدِّ ـ بِزَعْمِهِ (5) ـ إِلى أَقصى غَايَةِ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ، وَاسْتَدَلَّ بأُمور إِذا تأَمّلها الفَطِن عَرَفَ مَا فِيهَا، كالأَمر بالدعاءِ إِثر الصَّلَاةِ قُرْآنًا وَسُنَّةً، وَهُوَ ـ كَمَا تَقَدَّمَ ـ لَا دَلِيلَ فِيهِ، ثُمَّ ضَمَّ إِلى ذَلِكَ جَوَازَ الدعاءِ بِهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ فِي الْجُمْلَةِ، لا فِي (6) أَدبار الصَّلَوَاتِ، وَلَا دَلِيلَ فِيهِ أَيضاً ـ كما تقدم ـ؛ لاختلاف المَنَاطَيْن (7).
وأَما فِي التَّفْصِيلِ: فَزَعَمَ أَنه مَا زَالَ (8) مَعْمُولًا بِهِ فِي جَمِيعِ أَقطار الأَرض ـ أَو فِي جُلِّها (9) ـ مِنَ الأَئمة فِي مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، إِلا نَكِيرَ أَبي عَبْدِ الله البارُوني (10)، ثم أَخذ في ذَمِّه.
_________
(1) في (خ): "والانصراف"، وفي (م): "الانصراف".
(2) أي: الواقعة التي ذكرها في أول الفصل (ص260). وعلق رشيد رضا هنا بقوله: المراد بالكائنة: الواقعة التي ذكرها في أول الفصل من ترك بعض أئمة الصلاة ما جرى عليه الناس من دعاء الإمام وتأمين الناس. اهـ.
(3) في (م): "أمرع"، ويشبه أن تكون كذلك في (خ).
(4) في (غ) و (ر): "على خلاف ما فعله".
(5) في (خ): "على زعمه".
(6) في (خ) و (م): "إلا في".
(7) في (خ) و (م): "المتأصلين".
(8) في (ر) و (غ): "مازل".
(9) قوله: "أو في جلها" ليس في (غ).
(10) قوله: "الباروني" ليس في (خ).
والباروني هو: محمد بن الحسن بن محمد اليحصبي، نزيل تلمسان. قال ابن الخطيب: كان من صدور الفقهاء، حسن التعليم، أخذ عن القاضي أبي الحسن الصغير وأبي زيد الجزولي وغيرهما، ودرس في غرناطة وسبتة وغيرهما. وكانت فيه خدمة وجرت عليه بسببها محنة. مات بتلمسان سنة (734).
انظر: "الدرر الكامنة" للحافظ ابن حجر (5/ 165).(2/269)
وهذا النقل تَجَوُّزٌ (1) بِلَا شَكٍّ؛ لأَنه نَقْلُ إِجماعٍ يَجِبُ عَلَى النَّاظِرِ فِيهِ والمُحْتَجّ بِهِ (2) ـ قَبْلَ الْتِزَامِ عُهْدَتِهِ ـ أَن يبحث عنه بحث أَهل العلم (3) عَنِ الإِجماع؛ لأَنه لَا بُدَّ مِنَ النَّقْلِ عَنْ جَمِيعِ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ هَذِهِ الأُمة، مِنْ أَول زَمَانِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إِلى الْآنِ، هَذَا أَمر مَقْطُوعٌ بِهِ. وَلَا خِلَافَ أَنه لَا اعْتِبَارَ بإِجماع الْعَوَامِّ وإِن ادَّعَوُا الإِمامة.
وَقَوْلُهُ: "مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ": تَجَوُّزٌ، بَلْ مَا زَالَ الإِنكار عَلَيْهِمْ مِنَ الأَئمة. فَقَدْ نَقَلَ الطَّرْطُوشِي (4) عَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ أَشياء تخدم المسأَلة، فحصل إِنكار مالك لما فِي زَمَانِهِ، وإِنكار الإِمام الطَّرْطُوشِيِّ فِي زَمَانِهِ، وَاتَّبَعَ هَذَا أَصحابه، وَهَذَا أَصحابه. ثُمَّ القَرَافي (5) قَدْ عَدَّ ذَلِكَ مِنَ الْبِدَعِ الْمَكْرُوهَةِ عَلَى مذهب مالك، وسلّمه وَلَمْ يُنْكِرْهُ (6) عَلَيْهِ أَهلُ زَمَانِهِ ـ فِيمَا نَعْلَمُهُ ـ، مَعَ زَعْمِهِ أَن مِنَ الْبِدَعِ مَا هُوَ حَسَنٌ.
ثُمَّ الشُّيُوخُ الَّذِينَ كَانُوا بالأَندلس حِينَ دَخَلَتْها هَذِهِ الْبِدْعَةُ ـ حَسْبَمَا يُذْكَرُ بِحَوْلِ اللَّهِ ـ قد أَنكروها، وكان من معتقدهم في تركها (7): أَنه مذهب مالك. وكان الزاهد أَبو عبد الله ابن مُجَاهِدٍ (8) وَتِلْمِيذُهُ أَبو عَمْرَانَ المِيْرَتُلِّي (9) ـ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ـ مُلْتَزِمَيْنِ لِتَرْكِهَا، حَتَّى اتَّفَقَ لِلشَّيْخِ أَبي عَبْدِ الله في ذلك ما سيذكر (10) إِن شاءَ الله (11).
_________
(1) في (خ): "تهور".
(2) قوله: "به" ليس في (غ) و (ر).
(3) قوله: "العلم" سقط من (خ) و (م). وقوله: "أهل" يشبه أن تكون "أصل" في (خ).
(4) في "الحوادث والبدع" صفحة (65 ـ 66).
(5) في "الفروق" (4/ 491) في الفرق الرابع والسبعين بعد المئتين، وهو آخر الفروق.
(6) في (ر) و (غ): "ينكر".
(7) في (خ) و (م): "في ذلك".
(8) هو: الزاهد القدوة: محمد بن أحمد بن عبد الله الأنصاري، أبو عبد الله ابن المجاهد الأشبيلي، الأندلسي، قرأ العربية، ولازم أبا بكر ابن العربي مدة، وتوفي سنة أربع وسبعين وخمس مئة، عن بضع وثمانين سنة. ترجمته في "العبر" (3/ 66)، و"السير" (20/ 543).
(9) هو: الإمام العارف، زاهد الأندلس، أبو عمران موسى بن حسين بن موسى بن عمران القيسي، الميْرَتُلّي، صاحب الشيخ أبي عبد الله ابن المجاهد، توفي سنة أربع وست مئة، عن اثنتين وثمانين سنة. ترجمته في "السير" (21/ 478 رقم 242)، و"تاريخ الإسلام" (ص164 رقم 217/وفيات 601 ـ 610).
(10) في (م): "ما سيذكره"، وفي (خ) يشبه أن تكون: "ما سنذكره".
(11) انظر المجلد الثالث (ص231).(2/270)
قَالَ بَعْضُ شُيُوخِنَا ـ رَادًّا عَلَى بَعْضِ مَنْ نصر هذا العمل: بأَنا (1) قَدْ شَاهَدْنَا الأَئمة (2) الْفُقَهَاءَ الصُّلَحَاءَ، الْمُتَّبِعِينَ لِلسُّنَّةِ، المُتَحَفِّظين بأُمور دِينِهِمْ يَفْعَلُونَ (3) ذَلِكَ أَئمة ومأَمومين، وَلَمْ نَرَ مَنْ تَرَكَ ذَلِكَ إِلا مَنْ شَذّ فِي أَحواله ـ، فَقَالَ (4): وأَما احْتِجَاجُ (5) مُنْكِرِ ذَلِكَ بأَن هَذَا لَمْ يَزَلِ النَّاسُ يَفْعَلُونَهُ، فَلَمْ يأْت بشيءٍ؛ لأَن النَّاسَ الَّذِينَ يُقْتَدى بِهِمْ ثَبَتَ أَنهم لَمْ يَكُونُوا يَفْعَلُونَهُ. قَالَ: ولما كثرت (6) البدع والمخالفات، وتواطَأَ النَّاسِ عَلَيْهَا؛ صَارَ الْجَاهِلُ (7) يَقُولُ: لَوْ كَانَ هَذَا مُنْكَرًا لَمَا فَعَلَهُ النَّاسُ. ثُمَّ حَكَى أَثر "الْمُوَطَّأِ" (8): "مَا أَعرف شَيْئًا مِمَّا أَدركت عَلَيْهِ النَّاسَ إِلا النداءَ بِالصَّلَاةِ". قَالَ: فإِذا كَانَ هَذَا فِي عَهْدِ التَّابِعِينَ يَقُولُ: كَثُرَتِ الإِحداثات، فَكَيْفَ بِزَمَانِنَا؟! ثُمَّ هَذَا الإِجماع لَوْ ثَبَتَ لَزِمَ مِنْهُ مَحْظُورٌ؛ لأَنه مُخَالِفٌ لِمَا نُقِلَ عَنِ الأَوّلين مِنْ تَرْكِهِ، فَصَارَ نَسْخُ إِجماع بإِجماع، وَهَذَا مُحَالٌ فِي الأُصول.
وأَيضاً فلا يكون (9) مُخَالَفَةُ المتأَخرين لإِجماع الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَى سُنَّةٍ حُجَّةً عَلَى تِلْكَ السُّنَّةِ أَبداً، فَمَا أَشبه هَذِهِ المسأَلة بما حُكي عن أَبي علي بن شَاذَان (10)
_________
(1) في (خ) و (م): "فإنا". والمعنى: أن من نصر هذا العمل يقول: إنا قد شاهدنا الأئمة ... إلخ، وسيأتي الرد عليه.
(2) في (خ): "العمل الأئمة"، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: لعله: "من الأئمة".اهـ.
(3) في (غ): "يفعل"، وفي (م): "يعفلون".
(4) أي: الشيخ في ردّه.
(5) في (خ): "اجتماع".
(6) في (خ) و (م): "كانت" بدل "كثرت".
(7) في (م): "الجهال".
(8) ساقه الإمام مالك رحمه الله في "الموطأ" (1/ 72) عن عمِّه أبي سهيل بن مالك، عن أبيه؛ أنه قال ... ، فذكره.
(9) في (غ) و (ر): "يجوز" بدل "يكون".
(10) في (خ) و (م): "أبي علي بشاذان"، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: "شاذان لقب رجلين من رواة الحديث، أحدهما: الأسود بن عامر أبو عبد الرحمن الشامي، نزيل بغداد، مات سنة 208، وثانيهما عبد العزيز بن عثمان بن جبلة، مات سنة 221، وظاهر أن في عبارة نسختنا تحريفاً" اهـ. وليس ابن شاذان هذا واحداً ممن ذكر، بل هو: الإمام الفاضل، مسند العراق، أبو علي الحسن بن أحمد بن إبراهيم بن شاذان، البغدادي، البزّاز. انظر ترجمته في "سير أعلام النبلاء" (17/ 415 ـ 418).
وقد أخرج هذه الحكاية من طريقه: ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (27/ 372).(2/271)
بسند يرفعه إِلى عَبْدِ اللَّهِ (1) بْنِ إِسحاق الجَعْفَري؛ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ ـ يَعْنِي ابْنَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ـ يُكْثِرُ الْجُلُوسَ إِلى رَبِيعَةَ (2)، فَتَذَاكَرُوا (3) يَوْمًا [السنن] (4)، فَقَالَ رَجُلٌ كَانَ فِي الْمَجْلِسِ: لَيْسَ الْعَمَلُ عَلَى (5) هَذَا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: أَرأَيت إِن كَثُرَ الْجُهَّالُ حَتَّى يَكُونُوا هُمُ الحُكّام، أَفهم الْحُجَّةُ عَلَى السُّنَّة؟ فَقَالَ رَبِيعَةُ: أَشهد أَن هَذَا كَلَامُ أَبناء الأَنبياءِ. انْتَهَى.
إِلا أَني لا أَقول الجهال، بل (6) أَقول: أَرأَيت إِن كَثُرَ المُقَلِّدون، ثُمَّ أَحدثوا بِآرَائِهِمْ فَحَكَمُوا بِهَا، أَفهم الْحُجَّةُ عَلَى السُّنّة؟ لا (7) وَلَا كَرَامَةَ!
ثُمَّ عَضَّدَ مَا ادَّعَاهُ بأَشياء مِنْ جُملتها: قَوْلُهُ: وَمِنْ أَمثال النَّاسِ: "أَخطئ مَعَ النَّاسِ وَلَا تُصِبْ وَحْدَكَ"؛ أَي: إِن خطأَهم هُوَ الصَّوَابُ، وَصَوَابَكَ هُوَ الخطأُ.
قَالَ: وهو معنى (8) ما جاءَ في الحديث (9): "عليك بالجماعة، فإِنما يأْكل الذِّئبُ (10) القَاصِيَةَ" (11). فَجَعَلَ تاركَ الدُّعَاءِ عَلَى الْكَيْفِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ
_________
(1) في (خ) و (م): "أبي عبد الله".
(2) يعني ابن عبد الرحمن المعروف بربيعة الرأي.
(3) في (ر) و (غ): "فتذاكرا".
(4) ما بين معقوفتين زيادة من "تاريخ دمشق".
(5) قوله: "على" ليس في (خ) و (م)، ولذا علق رشيد رضا عليه بقوله: لعل الأصل: "ليس العمل على هذا"؛ أي: الذي تقولونه. اهـ.
(6) قوله: "لا أقول الجهال بل" ليس في (خ) و (م).
(7) قوله: "لا" ليس في (خ) و (م).
(8) في (خ) و (م): "قال: ومعنى".
(9) في (خ) و (م): "حديث".
(10) قوله: "الذئب" سقط من (خ) و (م)، ولذا علق عليه رشيد رضا بقوله: لفظ الحديث: "فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية".
(11) أخرجه ابن المبارك في "الزهد" (1034)، وأحمد (5/ 196) و (6/ 446)، وأبو داود (547)، والنسائي (2/ 106 ـ 107 رقم 847)، وابن خزيمة (1476)، وابن حبان (2101/الإحسان)، والبغوي (793)، والحاكم (1/ 211) و (2/ 482)، والبيهقي في "السنن" (3/ 54)، وفي "الشعب" (3/ 57)، جميعهم من طريق زائدة بن قدامة، عن السائب بن حُبيش، عن مَعْدان بن أبي طلحة، عن أبي الدرداء؛ قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: "ما من ثلاثة في قرية، ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة، إلا قد=(2/272)
مُخَالِفًا للإِجماع ـ كَمَا تَرَى ـ، وَحَضَّ عَلَى اتِّبَاعِ النَّاسِ وَتَرْكِ الْمُخَالَفَةِ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "لَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ" (1)، وكُلُّ ذَلِكَ مَبْنيٌّ عَلَى الإِجماع الَّذِي ذَكَرُوا (2): أَن الْجَمَاعَةَ هُمْ جماعة الناس كيف كانوا، وسيأْتي (3) بيان (4) مَعْنَى الْجَمَاعَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي حَدِيثِ الفِرَق، وأَنها المُتَّبِعَةُ للسُّنَّة وإِن كَانَتْ رَجُلًا وَاحِدًا فِي الْعَالَمِ.
قَالَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ (5): "لَا تعبأَ بِمَا يُفْرَضُ (6) مِنَ الْمَسَائِلِ، ويُدَّعى فِيهَا الصِّحَّة بمُجَرَّد التَّهْويل، أَو بِدَعْوَى أَن لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ، وَقَائِلُ ذَلِكَ لَا يَعْلَمُ أَحداً قَالَ فِيهَا بِالصِّحَّةِ فَضْلًا عَنْ نَفْيِ الْخِلَافِ فِيهَا، وَلَيْسَ الْحُكْمُ فِيهَا مِنَ الجَلِيَّات الَّتِي لَا يُعْذَرُ (7) المخالف فيها (8).
قَالَ: وَفِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ قَالَ الإِمام أَحمد بن حنبل (9): "من
_________
=استحوذ عليهم الشيطان، فعليك بالجماعة، فإنما يأكل الذئب القاصية".
قال السائب: يعني بالجماعة: الصلاة في الجماعة.
قال الحاكم: هذا حديث صدوق رواته، شاهد لما تقدَّمه، متفق على الاحتجاج برواته، إلا السائب بن حبيش، وقد عُرِفَ من مذهب زائدة أنه لا يحدث إلا عن الثقات اهـ.
وإسناده حسن، فالسائب قال فيه الدارقطني: صالح الحديث، ووثقه ابن حبان والعجلي، وقال الذهبي في "الكاشف" (1788): صدوق، وصححه النووي في "الخلاصة" كما في "نصب الراية" (2/ 24).
(1) أخرجه مسلم (432) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
(2) علق رشيد رضا هنا بقوله: كذا في نسختنا، والظاهر أن الناسخ قد أسقط كلاماً من هذا الموضع، وأقل ما يفهم به الكلام أن يقال: "وأن الجماعة" إلخ. اهـ.
(3) في الجزء الثالث (ص210) وانظر (206).
(4) قوله: "بيان" ليس في (خ) و (م).
(5) هو شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية ـ رحمه الله ـ، وكلامه هذا في "إقامة الدليل على بطلان التحليل" المطبوع ضمن "الفتاوى الكبرى" (3/ 370) أفاده الشيخ بكر أبو زيد في مقدمته لكتاب "الموافقات" للشاطبي (1/و). قال: وربما أن الشاطبي ـ رحمه الله تعالى ـ لم يسمّه، ولم يسترسل بذكره والنقل عنه؛ اتقاءً لما وقع في الخُلوف من عداوته، والنفرة منه. اهـ.
(6) في (خ) و (م): "يعرض".
(7) في (خ): يشبه أن تكون: "لا يقدر".
(8) قوله: "فيها" سقط من (خ) و (م)، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: "كذا في نسختنا".
(9) أخرجه ابن حزم في "إحكام الأحكام" (4/ 573)، و"المحلى" (9/ 365)، و (10/ 422) من طريق عبد الله بن أحمد، عن أبيه.(2/273)
ادَّعى الإِجماع فَهُوَ كَاذِبٌ، وإِنما هَذِهِ دَعْوَى بِشْرٍ (1)، وَابْنِ عُلَيَّة (2)، يُرِيدُونَ أَن يُبْطِلُوا السُّنَنَ بِذَلِكَ". يَعْنِي أَحمد: أَن المتكلِّمين فِي الْفِقْهِ من (3) أَهل الْبِدَعِ إِذا نَاظَرْتَهُمْ بِالسُّنَنِ وَالْآثَارِ قَالُوا: هَذَا خِلَافُ الإِجماع (4)، وَذَلِكَ الْقَوْلُ الَّذِي يُخَالِفُ ذَلِكَ الْحَدِيثَ لَا يَحْفَظُونَهُ إِلا عَنْ بَعْضِ فقهاءِ أَهل (5) الْمَدِينَةِ أَوْ فقهاءِ (6) الْكُوفَةِ ـ مَثَلًا ـ، فيدَّعون الإِجماع مِنْ قلَّة مَعْرِفَتِهِمْ بأَقاويل العلماءِ، واجْتِرَائهم عَلَى رَدِّ السُّنن بالآراءِ، حتى كان بعضهم تُسْرَدُ عَلَيْهِ الأَحاديث الصَّحِيحَةُ فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ وَنَحْوِهِ من الأَحكام فلا يجد له (7) مُعْتَصَماً إِلا أَن يَقُولَ: هَذَا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحد مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ لَا يَعْرِفُ إِلا أَبا حنيفة أَو مالكاً (8) [وأصحابهما] (9)، لَمْ يَقُولُوا بِذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ لَهُ عِلْمٌ لرأَى مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ مِمَّنْ (10) قَالَ بِذَلِكَ خَلْقًا كَثِيرًا" (11).
فَفِي هَذَا الْكَلَامِ إِرشاد لِمَعْنَى مَا نَحْنُ فِيهِ، وأَنه لَا يَنْبَغِي أَن يُنقل حُكْمٌ شَرْعِيٌّ عَنْ أَحد مِنْ أَهل الْعِلْمِ إِلا بَعْدَ تحقُّقه والتثبُّت؛ لأَنه مُخْبِرٌ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ، فإِياكم وَالتَّسَاهُلَ! فإِنه مَظِنَّة (12) الخروج عن الطريق الواضح إِلى البُنَيَّات (13).
_________
(1) في (خ): "كفر" بدل "بشر".
وبشر هذا هو: ابن غياث المرِّيسي، الجهمي.
(2) هو: إبراهيم بن إسماعيل بن علية، جهمي هالك، قال الشافعي: هو ضال. انظر ترجمته في "اللسان" (1/ 120).
(3) في (خ) و (م): "على".
(4) قوله: "الإجماع" سقط من (خ) و (م).
(5) قوله: "أهل، ليس في (خ).
(6) في (غ) و (ر): "وفقهاء".
(7) في (خ) و (م): "لها".
(8) في في (خ) و (م): "أو مالك".
(9) ما بين المعقوفين زيادة من "الفتاوى الكبرى".
(10) في (خ): "فمن".
(11) إلى هنا انتهى النقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية.
(12) في (غ) و (ر): "فهو مظنة".
(13) لم تنقط الباء والنون في (خ) و (م)، فأشبهت: "السيئات".(2/274)
ثُمَّ عَدَّ مِنَ الْمَفَاسِدِ فِي (1) مُخَالَفَةِ الْجُمْهُورِ: أَنه يرميهم بالتجهيل أو التضليل (2)، وهذه (3) دعوى على (4) مَنْ خَالَفَهُ فِيمَا قَالَ، وَعَلَى تَسْلِيمِهَا، فَلَيْسَتْ بمَفْسَدة عَلَى فَرْضِ اتِّبَاعِ السُّنَّةِ، وَقَدْ جاءَ عَنِ السَّلَفِ الْحَضُّ عَلَى الْعَمَلِ بِالْحَقِّ، وَعَدَمِ (5) الاسْتِيحَاشِ مِنْ قِلَّةِ أَهله (6).
وأَيضاً فَمَنْ شَنَّع عَلَى الْمُبْتَدَعِ بِلَفْظِ الِابْتِدَاعِ، فأَطلق الْعِبَارَةَ بِالنِّسْبَةِ إِلى الْمُجْتَمَعِينَ يَوْمَ عَرَفَةَ بَعْدَ الْعَصْرِ للدعاءِ (7) فِي غَيْرِ عَرَفَةَ ... ، إِلى نَظَائِرِهَا، فتَشْنِيعُهُ حَقّ كما نقوله (8) بِالنِّسْبَةِ إِلى بِشْرٍ المِرِّيسي ومَعْبدٍ الجُهَني وَفُلَانٍ وفلان، ولا نَدْخُلُ (9) بِذَلِكَ ـ إِن شاءَ اللَّهُ ـ فِي حَدِيثِ: "مَنْ قَالَ: هَلَكَ النَّاسُ، فَهُوَ أَهْلَكُهُم" (10)؛ لأَن الْمُرَادَ أَن يَقُولَ ذَلِكَ ترفُّعاً عَلَى النَّاسِ وَاسْتِحْقَارًا، وأَما إِن قاله تَحَزُّناً وتحسُّراً عليهم (11) فلا بأْس.
قال بعضهم: ونحن نرجو أَن نُؤْجَرَ (12) عَلَى ذَلِكَ إِن شاءَ اللَّهُ.
فَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ ليس على وجهه (13).
_________
(1) قوله: "في" سقط من (غ) و (ر).
(2) في (خ) و (م): "والتضليل".
(3) في (خ) و (م): "وهذا".
(4) قوله: "على" ليس في (خ) و (م).
(5) في (ر) و (غ): "وعن".
(6) أخرج البيهقي في "الزهد" (238) من طريق أبي حاتم الرازي؛ ثنا أبو عبد الله النَّجَّار ـ ثقة ـ؛ قال: قال سفيان بن عينية: الْزَم الحق، ولا تستوحش لقلة أهله.
وأخرج أيضاً برقم (239) من طريق الحسن بن عمرو؛ قال: سمعت بشراً يقول: قال سفيان: اسلك طريق الحق، ولا تستوحش منه وإن كان أهله قليلاً.
وأخرجه أيضاً برقم (240) عن الحسين بن زياد قال: إنما رضيت بكلمة سمعتها من الفضيل بن عياض؛ قال الفضيل: لا تستوحش طريق الهدى لقلّة أهله، ولا تغترّ بكثرة الناس.
وأخرج الخطيب البغدادي في "تاريخه" (9/ 377) من طريق أحمد بن بشر بن سليمان الشيباني قال: كتب رجل إلى رجل: أما بعد: فليكن أوّل عملك الهداية بالطريق، ولا تستوحش لقلّة أهله، فإن إبراهيم كان أمة قانتاً لله، لا للملوك، فلا تستوحش مع الله، ولا تستأنس بغير الله.
(7) انظر التفصيل فيه فيما يأتي (ص278)، وانظر (ص316 و355).
(8) في (خ) و (م): "يقوله".
(9) في (خ) و (م): "ولا يدخل".
(10) أخرجه مسلم (2623).
(11) قوله: "عليهم" ليس في (خ) و (م).
(12) في (خ): "نعرج".
(13) في (غ) و (ر): "وجه".(2/275)
وعَدَّ مِنَ الْمَفَاسِدِ: الخوفَ مِنْ فَسَادِ نيَّته بِمَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ مِنَ العُجْب والشُّهرة الْمَنْهِيِّ عَنْهَا، فكأَنه يَقُولُ: اتْرُكْ اتِّبَاعَ السُّنَّةِ فِي زَمَانِ الْغُرْبَةِ خَوْفَ الشُّهرة وَدُخُولِ العُجْب. وَهَذَا شَدِيدٌ مِنَ الْقَوْلِ، وَهُوَ مُعَارَض (1) بِمِثْلِهِ، فإِن انْتِصَابه لأَن يَكُونُ دَاعِيًا لِلنَّاسِ بإِثر (2) صَلَوَاتِهِمْ دَائِمًا مَظِنَّةٌ لِفَسَادِ نيَّته بِمَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ مِنَ العُجْب والشُّهرة، وَهُوَ تَعْلِيلُ القَرَافي (3)، وَهُوَ أَوْلَى؛ لأَنه (4) فِي طَرِيقِ الِاتِّبَاعِ، فَصَارَ تَرْكُهُ لِلدُّعَاءِ لَهُمْ مَقْرُونًا بالاقتداءِ (5)، بِخِلَافِ الدَّاعِي، فإِنه فِي غَيْرِ طَرِيقِ مَنْ تَقَدَّمَ؛ فَهُوَ أَقرب إِلى فَسَادِ النِّيَّةِ.
وعَدَّ مِنْهَا مَا يُظَنّ بِهِ مِنَ (6) الْقَوْلِ برأْي أَهل الْبِدَعِ الْقَائِلِينَ بأَن الدعاءَ غَيْرُ نَافِعٍ، وَهَذَا كَالَّذِي قَبْلَهُ؛ لأَنه يَقُولُ لِلنَّاسِ: اتْرُكُوا اتِّبَاعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَرْكِ الدُّعَاءِ بِهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ بَعْدَ الصلوات لئلا يُظَنَّ بك (7) الِابْتِدَاعُ، وَهَذَا كَمَا تَرَى.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ (8): وَلَقَدْ كَانَ شَيْخُنَا أَبو بَكْرٍ الفِهْري (9) يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ الرُّكُوعِ، وَعِنْدَ رَفْعِ الرأْس مِنْهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَتَفْعَلُهُ الشِّيعَةُ. قَالَ: فحضر عندي يوماً في مَحْرَس ابن الشَّوَّاء (10) بالثَّغْر ـ مَوْضِعِ تَدْرِيسِي ـ عِنْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ مِنَ المَحْرس الْمَذْكُورِ، فَتَقَدَّمَ إِلى الصَّفِّ الأَول وأَنا فِي مُؤَخَّرِهِ قاعدٌ عَلَى طَاقَاتِ البحر، أَتَنَسَّم الريح
_________
(1) في (غ): "من القول ومعارض".
(2) في (ر) و (غ): "بآثار".
(3) في "الفروق" (4/ 491) آخر الفروق.
(4) قوله: "لأنه" سقط من (خ).
(5) في (غ): "بالابتداء".
(6) قوله: "من" سقط من (غ) و (ر).
(7) كذا في جميع النسخ، وعلق الشيخ رشيد رضا ـ رحمه الله ـ عليه بقوله: المناسب لقوله: "اتركوا": أن يقول هنا: "بكم"، ويعبر عن هذا المعنى بعبارة أخرى، فيقال: ابتدعوا بالفعل لئلا يظن ـ باطلاً ـ أنكم ابتدعتم، أو اتركوا السُّنَّة بالفعل لئلا تتهموا ـ بتركها ـ بسوء الظن. اهـ.
(8) في "أحكام القرآن" (4/ 1912) ونقله عنه القرطبي في "تفسيره" (19/ 281).
(9) هو الإمام أبو بكر محمد بن الوليد الطرطوشي صاحب كتاب "الحوادث والبدع" انظر ترجمته في "السير" (19/ 490 ـ 496).
(10) في (خ): "أبي الشعراء"، وفي (م): "أبي الشواء".(2/276)
مِنْ شِدَّةِ الحَرّ، وَمَعِي فِي صَفٍّ وَاحِدٍ أَبو ثمنة رايس (1) البحر وقائده مع نفرٍ (2) مِنْ أَصحابه يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ، ويتطلَّع عَلَى مَرَاكِبَ الْمَنَارِ (3)، فَلَمَّا رَفَعَ الشَّيْخُ الفِهْري يَدَيْهِ فِي الرُّكُوعِ وَفِي رَفْعِ الرأْس مِنْهُ؛ قَالَ أَبو ثَمَنَةَ وأَصحابه: أَلا تَرَوْنَ إِلى هَذَا المَشْرِقي كَيْفَ دَخَلَ مَسْجِدَنَا؟ قُومُوا إِليه فَاقْتُلُوهُ، وَارْمُوا بِهِ فِي الْبَحْرِ؛ فَلَا يَرَاكُمْ أَحد. فَطَارَ قَلْبِي مِنْ بَيْنِ جَوَانِحِي، وَقُلْتُ: سُبْحَانَ اللَّهِ! هَذَا الطَّرْطُوشي فَقِيهُ الْوَقْتِ! فَقَالُوا لِي (4): ولِمَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ؟ فَقُلْتُ: كَذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ (5)، وَهُوَ مَذْهَبُ مالك (6) في رواية أَهل المدينة عنه، وجعلت أُسَكِّنُهم وأُسَكِّتُهم (7) حَتَّى فَرَغَ مِنْ صِلَاتِهِ، وَقُمْتُ مَعَهُ إِلى المَسْكَن من المَحْرس، ورأَى تَغَيُّر (8) وجهي فأَنكره، وسأَلني فأَعلمته، فضحك، وقال: ومن (9) أَين لِي أَن أُقتل عَلَى سُنَّة؟ فَقُلْتُ لَهُ: وَيَحِلُّ لَكَ هَذَا؟! فإِنك بَيْنَ قَوْمٍ إِن قُمْتُ بِهَا قَامُوا عَلَيْكَ، وَرُبَّمَا ذَهَبَ دَمُكَ، فَقَالَ: دَعْ هَذَا الْكَلَامَ وَخُذْ فِي غيره.
فتأَملوا هَذِهِ (10) القصَّة فَفِيهَا الشفاءُ؛ إِذ لَا مَفْسَدَةَ في الدنيا توازي
_________
(1) كذا في جميع النسخ! وفي "أحكام القرآن" و"تفسير القرطبي": "رئيس"، وهو الذي أثبته رشيد رضا رحمه الله.
(2) في (خ) و (م): "في نفر".
(3) في "أحكام القرآن" و"تفسير القرطبي": "على مراكب تحت الميناء".
(4) قوله: "فقالوا لي" مكرر في (غ).
(5) ورد في ذلك عدّة أحاديث، منها: حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قام في الصلاة رفع يديه حتى يكونا حَذْوَ منكبيه، وكان يفعل ذلك حين يكبِّر للركوع، ويفعل ذلك إذا رفع رأسه من الركوع.
أخرجه البخاري (736)، ومسلم (390)، وأخرجا (737) و (391) عن مالك بن الحويرث نحوه.
وللبخاري في ذلك "جزء رفع اليدين في الصلاة"، فانظره إن شئت.
(6) نقل ابن أبي زيد في "النوادر" (1/ 170) عن ابن وهب أنه قيل لمالك: أيرفع يديه إذا ركع، وإذا رفع رأسه من الركوع؟ قال: نعم. وانظر "البيان والتحصيل" (1/ 374 ـ 376).
(7) في (خ): "أسكتهم وأسكنهم".
(8) في (خ) و (م): "تغيير".
(9) في (خ) و (م): "من"
(10) في (خ): "في هذه".(2/277)
مفسدة إِماتة النفس (1)، وَقَدْ حَصَلَتِ النِّسْبَةُ إِلى الْبِدْعَةِ، وَلَكِنَّ الطَّرْطُوشي رحمه الله لم (2) ير ذَلِكَ شَيْئًا، فَكَلَامُهُ لِلِاتِّبَاعِ أَولى مِنْ كَلَامِ هَذَا الرَّادّ، إِذ بَيْنَهُمَا فِي الْعِلْمِ مَا بَيْنَهُمَا.
وأَيضاً فَلَوِ اعتُبر مَا قَالَ لَزِمَ اعتبار مثله (3) فِي كُلِّ مَنْ أَنكر الدعاءَ بِهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعُ يَوْمَ عَرَفَةَ فِي غَيْرِ عَرَفَةَ، وَمِنْهُمْ: نَافِعٌ مولى ابن عمر (4)، ومالك (5)،
_________
(1) الظاهر أنه يعني المفاسد الدنيوية، ولعل هذا مراده بقوله: "في الدنيا"، وأما إن أراد: في هذه الحياة، فمفسدة الدين أعظم من مفسدة إماتة النفس، كما قال تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 191].
والسياق واضح ـ فيما أرى ـ، فهو يتحدث عن رغبة ذاك الجاهل في قتل الطرطوشي رحمه الله، وقد استشكله رشيد رضا رحمه الله، فعلّق عليه بقوله: "قوله: النفس، الصواب أن يقال: السنّة، كما يقتضيه سياق الكلام".
(2) قوله: "لم" سقط من (خ) و (م)، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: كذا في نسختنا! والسياق يقتضي النفي؛ أي: كان لا يرى ذلك شيئاً. والأظهر أن تكون العبارة: لم ير ذلك شيئاً. اهـ.
(3) في (خ) و (م): "اعتباره بمثله".
(4) أخرجه ابن وضاح في "البدع والنهي عنها" (114) بسند صحيح إلى أبي حفص المدني؛ قال: اجتمع الناس يوم عرفة في مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم يدعون بعد العصر، فخرج نافع مولى ابن عمر من دار آل عمر، فقال: أيها الناس! إن الذي أنتم عليه بدعة، وليست بسنّة، إنا أدركنا الناس ولا يصنعون مثل هذا، ثم رجع فلم يجلس، ثم خرج الثانية ففعل مثلها، ثم رجع. وأبو حفص المدني هذا هو عمر بن عبد الله مولى غُفْرة، وهو ضعيف كما في "التقريب" (4968)، لكن أرى أن مثل هذا يحتمل منه، فإن الراوي المضعف من قبل حفظه يحتمل الأئمة روايته إذا كان فيها قصة حدثت له.
(5) قال في "العتبية" (1/ 274 /البيان والتحصيل): "وسئل مالك عن الجلوس يوم عرفة في المساجد في البلدان بعد العصر للدعاء، فكره ذلك، فقيل له: فإن الرجل يكون في مجلسه، فيجتمع إليه الناس ويكبِّرون؟ قال: ينصرف، ولو أقام في منزله كان أحبّ إليّ".
وقال الطرطوشي في "الحوادث والبدع" (ص127): "قال مالك بن أنس: ولقد رأيت رجالاً ممن أقتدي بهم يتخلّفون عشيَّة عرفة في بيوتهم. قال: وإنما مفاتيح هذه الأشياء من البدع، ولا أحب للرجل الذي قد عَلِمَ أن يقعد في المسجد في تلك العشيَّة مخافة أن يُقتدى به، وليقعد في بيته". وذكر نقولا أخرى عن مالك. وانظر ما تقدم (ص275)، وما يأتي (ص316 و355)، و"الموافقات" للمصنف (3/ 497 ـ 498).(2/278)
والليث (1)، وعطاء (2)، وَغَيْرُهُمْ مِنَ السَّلَفِ (3)، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ غَيْرَ لَازِمٍ فمسأَلتنا كَذَلِكَ.
ثُمَّ خَتَمَ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ الإِجماعي بِقَوْلِهِ: وَقَدِ اجْتَمَعَ أَئمة الإِسلام فِي مساجد الجماعات في هذه الأَعصار في (4) جميع الأَقطار على الدعاءِ أَدبار الصلوات (5)، فَيُشْبِهُ أَن يَدْخُلَ ذَلِكَ مَدْخَلَ حُجَّة إِجماعيَّة عصريَّة.
فإِن أَراد الدعاءَ عَلَى هَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ دَائِمًا لَا يُتْرَكُ كَمَا يُفْعَلُ بِالسُّنَنِ ـ وَهِيَ مسأَلتنا المفروضة ـ، فقد تقدم ما فيه.
_________
(1) قال الطرطوشي في الموضع السابق: "قال الحارث بن مسكين: كنت أرى الليث بن سعد ينصرف بعد العصر يوم عرفة، فلا يرجع إلى قرب المغرب".
(2) أي الخراساني، نقله عنه الطرطوشي في الموضع السابق فقال: "وقال عطاء الخراساني: إِن استطعت أَن تخلو عشية عرفة بنفسك فافعل".
(3) من الواضح أن المصنف أخذ هذه النقول عن الطرطوشي رحمه الله، فإنه حكى جميع الأقوال السابقة وزاد عليها النقل عن إبراهيم النخعي أنه قال: "الاجتماع يوم عرفة أمرٌ مُحْدَث"، ونقل عن أبي وائل شقيق بن سلمة أنه كان لا يأتي المسجد عشيّة عرفة.
وهذان النقلان أسندهما ابن وضّاح في "البدع والنهي عنها" (115، 116) بسندين صحيحين عنهما.
(4) في (خ): "في".
(5) في (خ) و (م): "الصلاة".(2/279)
فَصْلٌ
ثُمَّ أَتى بمأْخذ آخَرَ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى صِحَّة مَا زَعَمَ، وَهُوَ أَن الدعاءَ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ لَمْ يَرِدْ فِي الشَّرْعِ نَهْيٌ عَنْهُ، مَعَ وُجُودِ التَّرْغِيبِ فِيهِ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَوُجُودِ الْعَمَلِ بِهِ، فإِن صَحّ أَن السَّلَفَ لَمْ يَعْمَلُوا بِهِ، فَالتَّرْكُ لَيْسَ بموجبٍ لحكمٍ فِي الْمَتْرُوكِ؛ إِلا جَوَازَ التَّرْكِ وَانْتِفَاءَ الْحَرَجِ خَاصَّةً، لَا تَحْرِيمَ وَلَا كَرَاهِيَةَ.
وَجَمِيعُ مَا قَالَهُ مُشْكِلٌ عَلَى قَوَاعِدِ الْعِلْمِ، وَخُصُوصًا فِي الْعِبَادَاتِ ـ الَّتِي هِيَ مسأَلتنا ـ، إِذ لَيْسَ لأَحد مِنْ خَلْقِ اللَّهِ أَن يَخْتَرِعَ فِي الشريعة من رأْيه أَمراً لا يدُلّ (1) عَلَيْهِ مِنْهَا دَلِيلٌ؛ لأَنه عَيْنُ الْبِدْعَةِ، وَهَذَا كَذَلِكَ، إِذ لَا دَلِيلَ فِيهَا عَلَى اتِّخَاذِ الدُّعَاءِ جَهْرًا لِلْحَاضِرِينَ فِي آثَارِ الصَّلَوَاتِ دَائِمًا، عَلَى حَدِّ مَا تُقَامُ السُّنَنُ (2)، بِحَيْثُ يُعَدّ الخارج عنها (3) خَارِجًا عَنْ جَمَاعَةِ أَهل الإِسلام، مُتَحَيِّزاً (4) ومتميِّزاً إِلى سَائِرِ مَا ذُكر. وَكُلُّ مَا لَا دليلَ (5) عليه فَهُوَ الْبِدْعَةُ.
وإِلى هَذَا (6): فإِن ذَلِكَ الْكَلَامَ يُوهِمُ أَن اتِّبَاعَ المتأَخرين المقلِّدين خَيْرٌ مِنَ اتباع السلف الصالحين (7)، ولو كان في أَحدِ جائِزَيْن، فكيف إِذا كان في أَمرين أَحدهما مُتَيَقَّنٌ أَنه صَحِيحٌ، وَالْآخِرُ مَشْكُوكٌ فيه؟ فيتّبع
_________
(1) في (خ): "لا يوجد"، وفي (م): "لا يدخل".
(2) قوله: "السنن" سقط من (خ)، وفي (غ) "السنة".
(3) في (خ) و (م): "عنه".
(4) في (خ) و (م): "متجزاً"، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: كذا في الأصل! ولعله: "متحيزاً ومتميزاً".اهـ.
(5) في (خ): "ما لا يدل"، وقد أثبت رشيد رضا العبارة هكذا: "وكل ما لا يدل عليه دليل"، فزاد قوله: "دليل"، وقال في الحاشية: سقط لفظ "دليل" من الأصل. اهـ.
(6) علق رشيد رضا هنا بقوله: لعله: "وعلى هذا".اهـ.
(7) في (خ) و (م): "الصالحين من السلف".(2/280)
الْمَشْكُوكُ فِي صِحَّتِهِ، وَيُتْرَكُ مَا لَا مِرْيَةَ في صحته، ويؤنِّب (1) مَنْ يَتَّبِعُهُ.
ثُمَّ إِطلاقه الْقَوْلَ بأَن التَّرْكَ لَا يُوجِبُ حُكْمًا فِي الْمَتْرُوكِ إِلا جَوَازَ التَّرْك، غَيْرَ جارٍ عَلَى أُصول الشَّرْعِ الثَّابِتَةِ. فلنقرِّر (2) هُنَا أَصلاً لِهَذِهِ المسأَلة لَعَلَّ اللَّهَ يَنْفَعُ به من أَنصف من نَفْسِهِ:
وَذَلِكَ أَن سُكُوتَ الشَّارِعِ عَنِ الْحُكْمِ في مسأَلة مّا، أَو تَرْكِهِ لأَمر مَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحدهما: أَن يَسْكُتَ عَنْهُ أَو يَتْرُكَهُ لأَنه لَا دَاعِيَةَ لَهُ تَقْتَضِيهِ، وَلَا مُوجِبَ يُقَرَّرُ لأَجله، وَلَا وَقَعَ سببُ تقريرِه؛ كَالنَّوَازِلِ الْحَادِثَةِ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإِنها لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً ثُمَّ سَكَتَ عَنْهَا مَعَ وُجُودِهَا، وإِنما حَدَثَتْ بَعْدَ ذَلِكَ، فَاحْتَاجَ أَهل الشَّرِيعَةِ إِلى النَّظَرِ فِيهَا وإِجرائها عَلَى مَا تَبَيَّنَ فِي الكُلِّيَّات الَّتِي كَمُلَ بِهَا الدِّينُ، وإِلى هَذَا الضَّرْبِ يَرْجِعُ جَمِيعُ مَا نَظَرَ فيه السلف الصالح مما لم (3) يُبَيِّنْهُ (4) رسول الله صلى الله عليه وسلم على الْخُصُوصِ مِمَّا هُوَ مَعْقُولُ الْمَعْنَى؛ كَتَضْمِينِ الصُّنَّاع، ومسأَلة الْحَرَامِ (5)، والجَدّ مَعَ الإِخوة، وعَوْل الْفَرَائِضِ، وَمِنْهُ: جَمْعُ الْمُصْحَفِ، ثُمَّ تَدْوِينُ الشَّرَائِعِ، وَمَا أَشبه ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يُحْتَجْ فِي زَمَانِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلى تَقْرِيرِهِ؛ لِتَقْدِيمِ (6) كُلِّيَّاته الَّتِي تستنبط مِنْهَا، إِذا (7) لَمْ تَقَعْ أَسباب الْحُكْمِ فِيهَا، ولا الفتوى بها منه عليه الصلاة والسلام، فَلَمْ يُذْكَرْ لَهَا حُكْمٌ مَخْصُوصٌ.
فَهَذَا الضَّرْب إِذا حَدَثَتْ أَسبابه فَلَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فيه وإِجرائه على
_________
(1) في (م): "ويؤلب"، ولم تتضح في (خ) بسبب كثافة حبر التصوير عليها، لكن أثبتها رشيد رضا هكذا: "ولولعا"، وقال: "كذا في الأصل".
(2) في (خ) و (م): "فنقول".
(3) قوله: "لم" سقط من "غ".
(4) في (خ) و (م): "يسنّه".
(5) أي: إذا قال لامرأته: أنت عليَّ حرام، أيقع طلاقاً؟ أو يكفّر كفارة يمين؟. انظر: "معرفة السنن والآثار" للبيهقي (11/ 59).
(6) في (خ): "للتقديم". وعلق عليها رشيد رضا بقوله: "كذا في الأصل! وهو محرف، ولعل في الكلام حذفاً أيضاً، والمعنى المراد ظاهر، وهو: أن ما لم يحتج إلى تقريره في عصر النبوة من جزئيات الأحكام؛ قد وجد في الشريعة من القواعد الكلية ما يدخل فيه، ويستنبط هو منه".اهـ.
(7) في (خ) و (م): "إذ".(2/281)
أُصوله إِن كَانَ مِنَ العادِيَّات، أَو مِنَ العباديات (1) الَّتِي لَا يُمْكِنُ الِاقْتِصَارُ فِيهَا عَلَى مَا سُمِعَ، كَمَسَائِلِ السَّهْو والنِّسيان فِي أَجْزَاء (2) الْعِبَادَاتِ. وَلَا إِشكال فِي هَذَا الضَّرْبِ؛ لأَن أُصول الشَّرْعِ عَتِيدة، وأَسباب تِلْكَ (3) الأَحكام لَمْ تَكُنْ فِي زَمَانِ الْوَحْيِ، فَالسُّكُوتُ عَنْهَا عَلَى الْخُصُوصِ لَيْسَ بِحُكْمٍ يَقْتَضِي جَوَازَ التَّرْكِ أَو غَيْرَ ذَلِكَ، بَلْ إِذا عُرِضَتِ النَّوَازِل رُوجِعَ بِهَا أُصولها فَوُجِدَتْ فِيهَا، وَلَا يَجِدُهَا مَنْ لَيْسَ بِمُجْتَهِدٍ، وإِنما يَجِدُهَا الْمُجْتَهِدُونَ الْمَوْصُوفُونَ فِي عِلْمِ أُصول الْفِقْهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَن يَسْكُتَ الشَّارِعُ عَنِ الْحُكْمِ الْخَاصِّ، أَو يَتْرُكَ أَمراً مَا مِنَ الأُمور (4)، ومُوجِبُهُ الْمُقْتَضِي لَهُ قَائِمٌ، وَسَبَبُهُ فِي زَمَانِ الْوَحْيِ وَفِيمَا بَعْدَهُ مَوْجُودٌ ثَابِتٌ، إِلا أَنه لَمْ يُحدَّدْ فِيهِ أَمرٌ زَائِدٌ على ما كان في ذلك الوقت، فالسكوت في هذا الضرب كالنص على أَن القصد الشرعي فيه أَن لا يزاد فيه عَلَى مَا كَانَ (5) مِنَ الْحُكْمِ الْعَامِّ فِي أَمثاله، وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ؛ لأَنه لَمَّا كَانَ المعنى المُوجِبُ لشرعيَّة الحكم العملي (6) الْخَاصِّ مَوْجُودًا، ثُمَّ لَمْ يُشْرَعْ، وَلَا نَبَّهَ على استنباطه (7)؛ كَانَ صَرِيحًا فِي أَن الزَّائِدَ عَلَى مَا ثَبَتَ هُنَالِكَ بِدْعَةٌ زَائِدَةٌ، وَمُخَالِفَةٌ لِقَصْدِ الشَّارِعِ؛ إِذ فُهِمَ مِنْ قَصْدِهِ الْوُقُوفُ عِنْدَ مَا حدَّ هُنَالِكَ، لَا الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ، وَلَا النُّقْصَانُ مِنْهُ.
وَلِذَلِكَ مِثَالٌ فِيمَا نُقل عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنس فِي سَمَاعِ أَشهب وَابْنِ نَافِعٍ هُوَ غايةٌ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، وَذَلِكَ أَن مَذْهَبَهُ فِي سُجُودِ الشُّكْرِ الْكَرَاهِيَةُ، وأَنه لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ، وَعَلَيْهِ بَنَى كَلَامَهُ.
قَالَ فِي "الْعُتْبِيَّةِ" (8): وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الرَّجُلِ يأْتيه الأَمر يُحِبُّهُ
_________
(1) في (خ): "العبادات".
(2) في (خ): "إجراء".
(3) في (خ) و (م): "ذلك".
(4) قوله: "من الأمور" سقط من (غ) و (ر).
(5) من قوله: "في ذلك الوقت" إلى هنا سقط من (خ) و (م).
(6) في (خ) و (م): "العقلي".
(7) في (خ) و (م): "السبطا"، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: "كذا! ".
(8) انظر "البيان والتحصيل" (1/ 392)، و"الموافقات" للمصنف (3/ 158 و271 ـ 272). وأخرجه ابن وضاح في "البدع والنهي عنها" (111) بسنده عن أشهب؛ قال: سألت مالكاً عن الحديث الذي جاء: أن أبا بكر الصدّيق لما أتاه خبر اليمامة سجد ... ، فذكره.(2/282)
فَيَسْجُدُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ شُكْرًا؟ فَقَالَ: لَا يفعل! ليس (1) هَذَا مِمَّا مَضَى مِنْ أَمر النَّاسِ. قِيلَ لَهُ: إِن أَبا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ فِيمَا يَذْكُرُونَ ـ سَجَدَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ شُكْرًا لِلَّهِ (2)، أَفسمعت ذَلِكَ؟ قَالَ: مَا سَمِعْتُ ذَلِكَ، وأَنا أَرى أَن (3) قَدْ كَذَبُوا عَلَى (4) أَبي بَكْرٍ، وَهَذَا مِنَ الضَّلَالِ أَن يَسْمَعَ المرءُ الشيءَ فَيَقُولُ: هَذَا شيء (5) لم أَسمع له خلافاً. فقيل له: إِنما نسأَلك لنعلم رأْيك فنرد ذلك به. فقال: نأْتيك بشيء آخر أَيضاً (6) لم تسمعه مني: قد فُتِحَ على رسول الله (7) صلى الله عليه وسلم وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ بَعْدَهُ، أَفسمعت أَن أَحداً مِنْهُمْ فعل مثل هذا؟ إِذا جاءك مثل هذا (8) مما قَدْ كَانَ فِي النَّاسِ وَجَرَى عَلَى أَيديهم لا يسمع (9) عَنْهُمْ فِيهِ شَيْءٌ، فَعَلَيْكَ بِذَلِكَ، فإِنه لَوْ كان لذُكر؛ لأَنه من أَمر
_________
(1) قوله: "ليس" سقط من (خ) و (م).
(2) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (8413)، والبيهقي في "سننه" (2/ 371)، كلاهما من طريق مِسْعَر، عن أبي عون الثقفي محمد بن عبيد الله، عن رجل لم يُسَمِّه: أن أبا بكر لما فتح اليمامة سجد.
وهذا سند ضعيف لإبهام شيخ أبي عون، وذكر البيهقي أنه قيل: عن مِسْعر، عن أبي عون محمد بن عبيد الله، عن يحيى بن الجزار؛ أي: هو المبهم، ولكن البيهقي لم يسنده، ولعله يعني ما أسنده ابن أبي شيبة في الموضع السابق برقم (8414) من طريق وكيع، عن مسعر، عن أبي عون الثقفي، عن يحيى بن الجزار: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم مرَّ به رجل به زمانة، فسجد، وأبو بكر، وعمر.
فإن كان قصد هذا: فليس هو في فتح اليمامة، وإن كان يشهد لمسألة سجود الشكر في الجملة، ومع ذلك فهو ضعيف؛ لأن يحيى بن الجزار لم يُذكر له سماع من أبي بكر رضي الله عنه، ولا أظنه أدركه؛ كما يتضح من "الجرح والتعديل" (9/ 133 رقم 561) و"تهذيب الكمال" (31/ 251 ـ 253).
وأخرج هذا الأثر عبد الرزاق في "المصنف" (5963) عن سفيان الثوري، عن أبي سلمة، عن أبي عون؛ قال: سجد أبو بكر حين جاءه فتح اليمامة.
ومن طريق عبد الرزاق أخرجه ابن المنذر في "الأوسط" (5/ 288 رقم 2882). وهذا الوجه أشد انقطاعاً من سابقه، لكن طريق مسعر أرجح، والله أعلم.
(3) علق رشيد رضا هنا بقوله: لعله: "أنهم".اهـ.
(4) في (غ): "على ذلك".
(5) قوله: "شيء" سقط من (خ).
(6) من قوله: "لم أسمع له خلافاً" إلى هنا سقط من (خ) و (م).
(7) في (خ) و (م): "فتح الله على رسول الله".
(8) قوله: "جاءك مثل هذا" سقط من (خ) و (م).
(9) في (خ) و (م): "على أيديهم سمع".(2/283)
النَّاسِ الَّذِي قَدْ كَانَ فِيهِمْ، فَهَلْ سَمِعْتَ أَن أَحداً منهم سجد؟ فهذا إِجماع، إِذا (1) جاءَك أَمر لا تعرفه فدعه.
هذا (2) تَمَامَ الرِّوَايَةِ. وَقَدِ احْتَوَتْ عَلَى فَرْضِ سُؤَالٍ والجواب عنه (3) بِمَا تَقَدَّمَ.
وَتَقْرِيرُ السُّؤَالِ أَن يُقَالَ فِي الْبِدْعَةِ ـ مَثَلًا ـ: إِنها فعلٌ سَكَتَ الشارعُ عَنْ حُكمه فِي الفِعل والتَّرك، فَلَمْ يَحْكم عَلَيْهِ بِحُكْمٍ عَلَى الْخُصُوصِ، فالأَصل جَوَازُ فِعْلِهِ، كَمَا أَن الأَصل (4) جواز تركه، إِذ هو في (5) مَعْنَى الْجَائِزِ، فإِن كَانَ لَهُ أَصل جُمْلي فأَحْرَى أَن يَجُوزَ فِعْلُهُ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى مَنْعِهِ أَو كَرَاهَتِهِ (6)، وإِذا كَانَ كَذَلِكَ، فَلَيْسَ هُنَا مُخَالَفَةٌ لِقَصْدِ الشَّارِعِ، وَلَا ثَمَّ دَلِيلٌ خَالَفَهُ هَذَا النَّظَرُ، بَلْ حَقِيقَةُ مَا نَحْنُ فِيهِ أَنه (7) أَمر مَسْكُوتٌ عَنْهُ عِنْدَ الشارع، والسكوت من الشَّارِعِ لَا يَقْتَضِي مُخَالَفَةً وَلَا مُوَافَقَةً، وَلَا يُعَيِّن الشَّارِعُ قَصْدًا مَا دُونَ ضِدِّهِ وَخِلَافِهِ، وإِذا ثَبَتَ هَذَا فَالْعَمَلُ بِهِ لَيْسَ بمخالفٍ؛ إِذ لَمْ يَثْبُتُ فِي الشَّرِيعَةِ نَهْيٌ عَنْهُ.
وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ: مَعْنَى مَا ذَكَرَهُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ أَن السُّكُوتَ (8) عَنْ حُكْمِ الْفِعْلِ أَو التَّرْك هُنَا إِذا وُجِدَ الْمَعْنَى المُقْتَضي لَهُ إِجماعٌ مِنْ كلِّ سَاكِتٍ عَلَى أَن لَا زَائِدَ عَلَى مَا كَانَ؛ إِذ لَوْ كَانَ ذَلِكَ لَائِقًا شَرْعًا أَو سَائِغًا لَفَعَلُوهُ، فَهُمْ كَانُوا أَحقَّ بإِدراكه وَالسَّبْقِ إِلى الْعَمَلِ به، وذلك إِذا نظرنا إِلى المصالح (9)؛ فإِنه لَا يَخْلُو: إِما (10) أَن يَكُونَ فِي هذا (11) الْأَحْدَاثِ مَصْلَحَةٌ أَوْ لَا. وَالثَّانِي لَا يَقُولُ بِهِ أَحد. والأَول إِما أَن تَكُونَ تِلْكَ الْمَصْلَحَةُ الْحَادِثَةُ آكَدَ (12) مِنَ الْمَصْلَحَةِ الْمَوْجُودَةِ فِي زمان التشريع (13) أَو لا. ولا يمكن أَن تكون (14)
_________
(1) في (خ) و (م): "وإذا".
(2) قوله: "هذا" ليس في (خ) و (م).
(3) قوله: "عنه" ليس في (خ).
(4) في (خ) و (م): "أصل".
(5) قوله: "في" ليس في (خ) و (م).
(6) في (غ) و (ر): "كراهيته".
(7) قوله: "أنه" سقط من (غ) و (ر).
(8) في (خ) و (م): "التشديد" بدل "السكوت".
(9) في (خ) و (م): "المصلحة".
(10) قوله: "إما" ليس في (غ) و (ر).
(11) في (خ) و (م): "هذه".
(12) في (خ): "أوكد".
(13) في (خ) و (م): "التكليف" بدل "التشريع".
(14) في (خ) و (م): "يكون".(2/284)
آكد (1) مع كون المُحْدَثَةِ زيادةً؛ لأَنها زِيَادَةَ (2) تَكْلِيفٍ، وَنَقْصُهُ (3) عَنِ المُكلَّف أَحْرَى بالأَزمنة المتأَخِّرة؛ لِمَا يُعْلَم مِنْ قُصُورِ الهِمَم وَاسْتِيلَاءِ الْكَسَلِ، ولأَنه خلافُ بَعْثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم بالحَنِيفية السَّمْحَة (4)، ورَفْعِ الحَرَجِ عَنِ الأُمَّة، وَذَلِكَ فِي تَكْلِيفِ الْعِبَادَاتِ؛ لأَن الْعَادَاتِ أَمر آخَرُ ـ كَمَا سيأْتي ـ وَقَدْ مَرَّ مِنْهُ (5)، فَلَمْ يَبْقَ إِلا أَن تَكُونُ (6) الْمَصْلَحَةُ الظَّاهِرَةُ الْآنَ مُسَاوِيَةً لِلْمَصْلَحَةِ الْمَوْجُودَةِ فِي زَمَانِ التَّشْرِيعِ، أَو أَضعف مِنْهَا. وعند ذلك يصير هذا (7) الإِحداث عَبْثًا، أَو اسْتِدْرَاكًا عَلَى الشَّارِعِ؛ لأَن تِلْكَ الْمَصْلَحَةَ الْمَوْجُودَةَ فِي زَمَانِ التَّشْرِيعِ إِن حَصَلَتْ للأَولين مِنْ غَيْرِ هَذَا الإِحداث، فالإِحداث (8) إِذاً عَبَثٌ، إِذ لَا يَصِحُّ أَن يَحْصُلَ للأَولين دون الآخرين، مع فرض التزام العمل بما عمل به الأَوَّلون من ترك الزيادة، وإِن لم تحصل للأَولين وحصلت للآخرين (9)، فَقَدْ صَارَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ تَشْرِيعًا بَعْدَ الشَّارِعِ يسبب (10) للآخرين (11) ما فات للأَولين (12)، فَلَمْ يَكْمُلِ (13) الدِّينُ إِذاً دُونَهَا، وَمَعَاذَ اللَّهِ من هذا المأْخذ.
_________
(1) قوله: "آكد" سقط من (خ) و (م)، فعلق عليه رشيد رضا بقوله: "انظر أين اسم يكون وخبره؟ الظاهر أنه سقط من الناسخ، والمعنى الذي يقتضيه السياق، ويتعين مما يأتي هو: نفي كون المصلحة الحادثة آكد؛ لأنه سيقول: إنها مساوية أو أضعف. فلعل أصل الكلام: "ولا يمكن أن تكون آكد"، وقوله: "مع كون المحدثة" إلخ؛ تعليل للنفي".اهـ.
(2) قوله: "لأنها زيادة" سقط من (خ) و (م).
(3) في (خ): "ونقضه"، وعلق عليها رشيد رضا بقوله: "كذا! ولعل الأصل: "نقصه" بالصاد المهملة؛ أي: نقص التكليف وتخفيفه". اهـ.
(4) حديث "بعثت بالحنيفية السمحة" تقدم تخريجه (ص154).
(5) كذا في جميع النسخ. وعلق الشيخ رشيد رضا رحمه الله على هذا الموضع بقوله: "كذا ولعل الأصل: (وقد مر شيء منه) أو ما هو بمعنى هذا".
(6) في (ر) و (غ): "يكون".
(7) في (خ): "هذه".
(8) قوله: "فالإحداث" سقط من (خ)، و (م)، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: لعل الأصل: فهي إذاً عبث. اهـ.
(9) من قوله: "مع فرض التزام" إلى هنا سقط من (خ) و (م).
(10) في (خ) و (م): "بسبب".
(11) في (خ) و (م): "الأخرى".
(12) علق رشيد رضا هنا بقوله: لعل إلا بسبب للآخرين ما فات الأولين. اهـ.
(13) في (غ): "يكن".(2/285)
وَقَدْ ظَهَرَ مِنَ الْعَادَاتِ الْجَارِيَةِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ: أَن تَرْكَ الأَولين لأَمر مَا مِنْ غَيْرِ أَن يُعَيِّنوا فِيهِ وَجْهًا مَعَ احْتِمَالِهِ فِي الأَدلّة الجُمْليَّة، وَوُجُودِ المَظِنَّة (1)، دَلِيلٌ عَلَى أَن ذَلِكَ الأَمر لَا يُعْمَلُ بِهِ، وأَنه إِجماع مِنْهُمْ عَلَى تَرْكِهِ.
قَالَ ابْنُ رُشْد (2) فِي شَرْحِ مسأَلة "الْعُتْبِيَّةِ": الْوَجْهُ فِي ذَلِكَ أَنه (3) لم يَرَهُ مِمَّا شُرِعَ فِي الدِّينِ ـ يَعْنِي سُجُودَ الشُّكْرِ ـ فَرْضًا وَلَا نَفْلًا، إِذ لَمْ يأْمر (4) بِذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا فَعَلَهُ، وَلَا أَجمع الْمُسْلِمُونَ عَلَى اخْتِيَارِ فِعْلِهِ، وَالشَّرَائِعُ لا تثبت إِلا من أَحد هذه الوجوه (5). قَالَ: وَاسْتِدْلَالُهُ عَلَى أَن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ وَلَا الْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُ: بأَن ذَلِكَ لَوْ كَانَ لَنُقِلَ: صحيحٌ (6)؛ إِذ لا يَصِحّ أَن تتوفَّر دواعي المسلمين (7) عَلَى تَرْكِ نَقْلِ شَرِيعَةٍ مِنْ شَرَائِعَ الدِّينِ، وقد أُمروا بِالتَّبْلِيغِ.
قَالَ: وَهَذَا أَصل مِنَ الأُصول (8)، وَعَلَيْهِ يأْتي إِسقاط الزَّكَاةِ مِنَ الخُضَر والبُقُول ـ مَعَ وجوب (9) الزكاة فيها بعموم قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فِيمَا سَقَتِ السَّماءُ وَالْعُيُونُ والبَعْلُ: العُشُر، وَفِيمَا سُقِيَ بالنَّضْح: نصف العشر" (10) ـ؛ لأَنا لو أَنزلنا (11) ترك نقل أَخذ النبي صلّى الله عليه وسلّم الزَّكَاةَ مِنْهَا كالسُّنَّة الْقَائِمَةِ فِي أَن لَا زكاة فيها، فكذلك نُنْزِل (12) تَرْكُ نَقْلِ السُّجُودِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشُّكْرِ كَالسُّنَّةِ الْقَائِمَةِ فِي أَن لا سجود فيها. ثم حَكَى (13)
_________
(1) في (ر) و (غ): "ووجوداً مظنة".
(2) في "البيان والتحصيل" (1/ 393).
(3) أي: الإمام مالك.
(4) في (خ) و (م): "يؤمر".
(5) كذا في (غ) و (ر)، وهو الموافق لما في "البيان والتحصيل"، وفي (خ) و (م): "الأمور" بدل "الوجوه".
(6) خبر: "واستدلاله"؛ أي: واستدلاله صحيح.
(7) في (خ) و (م): "أن تتوفر الدواعي".
(8) في "البيان والتحصيل": "وهذا أيضاً من الأصول".
(9) في (خ) و (م): "وجود".
(10) أخرجه مالك في "الموطأ" (1/ 270) واللفظ له، والبخاري (1483) من حديث ابن عمر. وأخرجه مسلم (981) بنحوه من حديث جابر.
(11) في (خ) و (م): "لأنا نزلنا".
(12) في (خ): "نزل" وفي (م): "تنزل".
(13) يعني: ابن رشد.(2/286)
خِلَافَ الشَّافِعِيِّ وَالْكَلَامَ عَلَيْهِ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ المسأَلة: تَوْجِيهُ مَالِكٍ لَهَا مِنْ حَيْثُ إِنها بِدْعَةٌ، لَا تَوْجِيهُ أَنها بِدْعَةٌ عَلَى الإِطلاق (1).
وَعَلَى هَذَا النَّحْوِ جَرَى بَعْضُهُمْ فِي تَحْرِيمِ نِكَاحِ المحلِّل، وأَنه بِدْعَةٌ مُنْكَرَةٌ؛ مِنْ حَيْثُ وُجِد فِي زَمَانِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمَعْنَى المُقْتَضي لِلتَّخْفِيفِ والترخيص للزوجين بإِجازة التحليل ليتراجعا كما كانا أَوّل مرَّة، وأَنه لَمَّا لَمْ يُشَرِّعْ ذَلِكَ مَعَ حِرْصِ امرأَة رِفَاعَةَ (2) عَلَى رُجُوعِهَا إِليه؛ دَلّ عَلَى أَن التَّحْلِيلَ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ لَهَا وَلَا لِغَيْرِهَا. وَهُوَ أَصل صَحِيحٌ، إِذا اعتُبِر؛ وَضَحَ بِهِ مَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ؛ لأَن الْتِزَامَ الدعاءِ بِآثَارِ الصَّلَوَاتِ جَهْرًا لِلْحَاضِرِينَ فِي مَسَاجِدِ الجماعات لو كان مُسْتَحسناً (3) شَرْعًا ـ أَو جَائِزًا ـ؛ لَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَولى بِذَلِكَ (4) أَن يَفْعَلَهُ.
وَقَدْ عَلَّل المُنْكِرُ هَذَا الْمَوْضِعَ بِعلَلٍ تَقْتَضِي الْمَشْرُوعِيَّةَ، وَبَنَى عَلَى فَرْضِ أَنه لَمْ يأْت مَا يُخَالِفُهُ، وأَن الأَصل الْجَوَازُ فِي كُلِّ مَسْكُوتٍ عنه.
أَما أَن الأَصل الجواز فيُمنع (5)؛ لأَن طَائِفَةً مِنَ الْعُلَمَاءِ يَذْهَبُونَ إِلى أَن الأَشياءَ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْعِ عَلَى الْمَنْعِ دُونَ الإِباحة، فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى مَا قَالَ مِنَ الْجَوَازِ؟ وإِن سَلَّمَنَا لَهُ مَا قَالَ، فَهَلْ هُوَ عَلَى الإِطلاق أَم لَا؟ أَما فِي العاديَّات فمُسَلَّم، وَلَا نُسَلِّم أَن مَا نَحْنُ فيه من العاديَّات، بل من العباديَّات، وَلَا يَصِحُّ أَن يُقَالَ فِيمَا فِيهِ تعبُّد: إِنه مُخْتَلِفٌ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: هَلْ هُوَ عَلَى الْمَنْعِ، أَم هُوَ عَلَى الإِباحة؟ بَلْ هو أبداً (6) على المنع؛ لأَن
_________
(1) تقدم في بداية بحث المسألة ذكر ما يستدل به على مشروعية سجود الشكر.
(2) حديث امرأة رفاعة: أخرجه البخاري (5260)، ومسلم (1433)، من حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ: أن امرأة رفاعة جاءت إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: يا رسول الله! إن رفاعة طلقني فَبَتّ طلاقي، وإني نكحت بعده عبد الرحمن بن الزبير القُرَظي، وإنما معه مثل الهَدَبَة، فقال صلّى الله عليه وسلّم: "لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا! حتى يذوق عُسَيْلتك، وتذوقي عُسَيْلته".
(3) في (خ) و (م): "صحيحاً" بدل "مستحسناً".
(4) في (م): "بأولى فذلك".
(5) في (خ): "فيمتنع"، ويبدو أنها كانت هكذا في (م)، ثم طمست التاء.
(6) في (خ) و (م): "أمر زائد" بدل "أبداً".(2/287)
التعبُّدِيَّات (1) إِنما وَضْعُها (2) لِلشَّارِعِ، فَلَا يُقَالُ فِي صلاةٍ سادسةٍ ـ مَثَلًا ـ: إِنها عَلَى الإِباحة، فللمُكَلَّف وَضْعُهَا ـ عَلَى أَحد الْقَوْلَيْنِ ـ لِيَتَعَبَّدَ بِهَا لِلَّهِ؛ لأَنه بَاطِلٌ بإِطلاق، وَهُوَ أَصل كُلِّ مُبْتَدَعٍ يُرِيدُ أَن يَسْتَدْرِكَ عَلَى الشَّارِعِ. وَلَوْ سُلِّم أَنه مِنْ قَبِيلِ العاديَّات، أَو مِنْ قَبِيلِ مَا يُعْقَل مَعْنَاهُ، فَلَا يَصِحُّ الْعَمَلُ بِهِ أَيضاً؛ لأَن تركَ الْعَمَلِ بِهِ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَمِيعِ عُمُرِهِ، وَتَرْكَ السَّلَفِ الصَّالِحِ لَهُ عَلَى تَوَالي أَزْمِنَتِهم قَدْ تقدَّم أَنه نصٌّ فِي التَّرْك، وإِجماعٌ مِنْ كُلِّ مَنْ تَرَك؛ لأَن عَمَلَ الإِجماع كنصِّه، كما أَشار إِليه مالك في كلامه (3).
وأَيضاً فما يُعَلِّل به (4) لَا يَصِحُّ التَّعْلِيلُ بِهِ، وَقَدْ أَتى الرَّادُّ بأَوجه مِنْهُ:
أَحدها: أَن الدعاءَ بِتِلْكَ الْهَيْئَةِ لِيُظْهِرَ وَجْهَ التَّشْرِيعِ فِي الدعاءِ، وأَنه بِآثَارِ الصَّلَوَاتِ مَطْلُوبٌ.
وَمَا قَالَهُ يَقْتَضِي أَن يَكُونَ سُنَّةً بِسَبَبِ الدَّوَامِ والإِظهار فِي الْجَمَاعَاتِ وَالْمَسَاجِدِ، وَلَيْسَ بِسُنَّةٍ اتِّفَاقًا (5) مِنَّا وَمِنْهُ، فَانْقَلَبَ إِذاً وَجْهُ التَّشْرِيعِ.
وأَيضاً فإِن إِظهار التَّشْرِيعِ كَانَ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَولى، فَكَانَتْ تِلْكَ الْكَيْفِيَّةُ المتكلَّم فِيهَا أَولى بالإِظهار (6)، ولَمّا (7) لَمْ يَفْعَلْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؛ دلَّ على الترك مَعَ وُجُودِ الْمَعْنَى المُقْتَضي، فَلَا يُمْكِنُ بَعْدَ زَمَانِهِ فِي تِلْكَ الْكَيْفِيَّةِ إِلا التَّرْكُ.
وَالثَّانِي: أَن الإِمام يَجْمَعُهُمْ عَلَى الدعاءِ لِيَكُونَ بِاجْتِمَاعِهِمْ أَقربَ إِلى الإِجابة.
وهذه العلة كانت موجودة (8) في زمانه عليه الصلاة والسلام؛ لأَنه لَا يَكُونُ أَحدٌ أَسرعَ إِجابةً لِدُعَائِهِ مِنْهُ؛ إِذ كَانَ مجابَ الدَّعْوَةِ بِلَا إِشكال، بِخِلَافِ غَيْرِهِ ـ وإِن عَظُم قَدْرُهُ فِي الدِّينِ ـ، فَلَا يَبْلُغُ رُتْبَتَهُ، فَهُوَ كَانَ أَحقَّ بأَن يَزِيدَهُمُ الدُّعَاءَ لَهُمْ خَمْسَ مَرَّاتٍ فِي الْيَوْمِ والليلة زيادة إِلى دعائهم لأَنفسهم.
_________
(1) في (غ) و (ر): "التعبدات".
(2) في (خ): "وضعوا"، ولذا علق عليه رشيد رضا بقوله: لعله: إنما وضعها للشارع. اهـ.
(3) أي: المتقدم (ص284).
(4) في (خ) و (م): "له".
(5) في (غ) و (ر): "سنة باتفاق".
(6) في (خ) و (م): "للإظهار"، وفي (ر): "بالإظها".
(7) في (غ): "لما".
(8) قوله: "موجودة" سقط من (خ).(2/288)
وأَيضاً: فإِن قَصْدَ الِاجْتِمَاعِ عَلَى الدعاءِ لَا يَكُونُ بَعْدَ زَمَانِهِ أَبلغ فِي الْبَرَكَةِ مِنَ اجتماعٍ يَكُونُ فِيهِ سَيِّدُ الْمُرْسَلِينَ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم وأَصحابه، فكانوا بالتَّنَبُّه (1) لِهَذِهِ المَنْقَبَة أَولى.
وَالثَّالِثُ: قَصْدُ التَّعْلِيمِ للدعاءِ؛ ليأْخذوا مِنْ دُعَائِهِ مَا يَدْعُونَ بِهِ لأَنفسهم؛ لِئَلَّا يَدْعُوَا بِمَا لَا يَجُوزُ عَقْلًا أَو شَرْعًا.
وَهَذَا التَّعْلِيلُ لَا يَنْهَضُ؛ فإِن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ المعلِّمَ الأَوَّل، وَمِنْهُ تلقَّينا أَلفاظ الأَدعية وَمَعَانِيهَا، وَقَدْ كَانَ مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَجْهَلُ قَدْرَ الرُّبُوبِيَّةِ فَيَقُولُ (2):
ربَّ العبادِ ما لنا وما لَكَا (3) ... أَنْزِلْ عَلَيْنا الغَيْثَ لا أَبالَكَا (4)
وقال الآخر (5):
لا هُمَّ إِن كُنْتَ الَّذِي بعَهْدِي ... ولَمْ تُغَيِّرْكَ الأُمورُ بَعْدِي
وَقَالَ الْآخَرُ:
أَبَنِيَّ لَيْتي (6) لَا أُحِبُّكُمُ ... وَجَدَ الإِلهُ بكُمُ كما أَجِدُ
_________
(1) في (خ) و (م): "بالتنبيه".
(2) قال المُبَرِّد في "الكامل" (3/ 1139/تحقيق د. محمد الدالي):
وسمع سليمان بن عبد الملك رجلاً من الأعراب في سنة جَدْبَةٍ يقول:
ربَّ العبادِ ما لَنا ومالَكا ... قد كنت تَسْقينا فما بدا لكَ
أنزل علينا الغيث لا أبا لكا
فأخرجه سليمانُ أحسنَ مُخْرَجٍ، فقال: أشهد أن لا أبا له، ولا ولد، ولا صاحبة. اهـ.
وانظر الخبر أيضاً في "لسان العرب" (14/ 12).
وكان المبرِّد قد قال قبل سياق القصة ـ وهو يتحدّث عن كلمة "لا أبا لك" ـ: "وهذه كلمة فيها جفاء، والعرب تستعملها عند الحثّ على أخذ الحق والإغراء، وربما استعملتها الجفاة من الأعراب عند المسألة والطلب، فيقول القائل للأمير والخليفة: انظر في أمر رعيّتك لا أبا لك! ... "، ثم ساق القصة.
(3) في (خ) و (م): ومالك".
(4) في (خ) و (م): "لا أبالك".
(5) ذكر هذا الرَّجَز ابن سيده في "المخصّص" (3/ 4)، وابن منظور في "لسان العرب" (2/ 461/مادة "روح") بلفظ:
لا هُمَّ إنْ كنتَ الذي كَعَهدي ... ولم تُغَيِّرْك السِّنونَ بعدي
وذكرا أنه من جفاء الأعراب، ولم ينسباه لأحد.
(6) كذا في (خ)، وفي باقي النسخ: "ليتني".(2/289)
وَهِيَ أَلفاظ يَفْتَقِرُ أَصحابها إِلى التَّعْلِيمِ، وَكَانُوا قريبي (1) عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ، تُعَامِلُ الأَصنامَ معاملةَ الربِّ الْوَاحِدِ سُبْحَانَهُ، وَلَا تُنَزِّهه كَمَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ، فَلَمْ يُشْرِعْ لَهُمْ دُعَاءً بِهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ فِي آثَارِ الصلوات دائماً ليعلِّمهم أَو يغنيهم عن (2) التعلُّم (3) إِذا صَلَّوْا مَعَهُ، بَلْ علَّم فِي مَجَالِسِ التَّعْلِيمِ، وَدَعَا لِنَفْسِهِ إِثر الصَّلَاةِ حِينَ بَدَا لَهُ ذَلِكَ؛ وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِذ ذَاكَ إِلى النَّظَرِ لِلْجَمَاعَةِ، وَهُوَ كَانَ أَولى الْخَلْقِ بِذَلِكَ.
وَالرَّابِعُ: أَن فِي الِاجْتِمَاعِ عَلَى الدعاءِ تَعَاوُنًا عَلَى البِرّ وَالتَّقْوَى، وَهُوَ مأْمور بِهِ.
وهذا الاحتجاج (4) ضَعِيفٌ؛ فإِن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الَّذِي أُنزل عَلَيْهِ: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِّرِّ وَالتَّقْوَى} (5)، وَكَذَلِكَ فَعَلَ، وَلَوْ كَانَ الِاجْتِمَاعُ للدعاءِ إِثر الصَّلَاةِ جَهْرًا لِلْحَاضِرِينَ مِنْ بَابِ البرِّ وَالتَّقْوَى؛ لَكَانَ أَوّل سَابِقٍ إِليه، لَكِنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ أَصلاً، وَلَا أَحدٌ بَعْدَهُ حَتَّى حَدَثَ مَا حَدَثَ، فَدَلَّ عَلَى أَنه لَيْسَ عَلَى ذَلِكَ الوجه ببرٍّ (6) وَلَا تَقْوَى.
وَالْخَامِسُ: أَن عامَّة النَّاسِ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ، فَرُبَّمَا لَحَن، فَيَكُونُ الَّلحْنُ سَبَبَ عدمِ الإِجابة. وحَكَى عَنِ الأَصْمَعي في ذلك حكاية شعريَّة لا فقهيَّة (7).
_________
(1) في (خ): "قرب" وفي (م): "قربى".
(2) في (خ): "أو يعينهم على".
(3) في (غ) و (ر): "التعليم".
(4) في (خ) و (م): "الاجتماع".
(5) سورة المائدة: الآية (2).
(6) في (خ) و (م): "بر".
(7) الظاهر أنه يعني ما أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (4/ 320 رقم 1565) من طريق أبي عبد الله الحاكم؛ قال: سمعت أبا بكر الإسماعيلي يقول: أخبرني المرزباني؛ حدثني محمد بن الفضل؛ حدثني الرياشي؛ قال: مرّ الأصمعي برجل يدعو ويقول في دعائه: يا ذو الجلال والإكرام، فقال له الأصمعي: يا هذا! ما اسمك؟ فقال: ليث، فقال الأصمعي:
يُناجي ربَّه باللَّحْن لَيْثٌ ... لِذاكَ إذا دعاه لا يُجيب
ومن طريق البيهقي رواها ابن عساكر في "تاريخه" (37/ 80 ـ 81). وفي سند الحكاية محمد بن الفضل ولم يتضح لي من هو؟
والراوي عنه هو محمد بن عمران بن موسى المرزباني معتزلي متكلم فيه. انظر ترجمته في: "تاريخ بغداد" (3/ 135 رقم 1159)، و"سير أعلام النبلاء" (16/ 447 ـ 449)، و"لسان الميزان" (5/ 326 رقم 1077).(2/290)
وهذا الاحتجاج (1) إِلى اللَّعِبِ أَقرب مِنْهُ إِلى الْجَدِّ، وأَقرب مَا فِيهِ أَن أَحداً مِنَ الْعُلَمَاءِ لَا يُشْتَرَطُ فِي الدعاءِ أَن لَا يَلْحَنَ كَمَا يَشْتَرِط الإِخلاصَ وصدقَ التَّوَجُّه (2)، وعزمَ المسأَلة، وغيرَ ذَلِكَ مِنَ الشُّرُوطِ. وتعلُّمُ (3) اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ لإِصلاح الأَلفاظ فِي الدعاءِ ـ وإِن كَانَ الإِمامُ أَعرفَ بِهِ ـ؛ هُوَ كَسَائِرِ مَا يَحْتَاجُ إِليه الإِنسان مِنْ أَمر دِينِهِ. فإِن كَانَ الدُّعَاءُ مُسْتَحَبًّا، فالقراءَة وَاجِبَةٌ، وَالْفِقْهُ فِي الصَّلَاةِ كَذَلِكَ، فإِن كَانَ تعليمُ (4) الدُّعَاءِ إِثر الصَّلَاةِ مَطْلُوبًا، فَتَعْلِيمُ (5) فِقْهِ الصَّلَاةِ آكَدُ، فَكَانَ مِنْ حَقِّه أَن يَجْعَلَ ذَلِكَ مِنْ وَظَائِفِ آثار الصلوات (6).
فإِن قال (7) بموجبه في الحِزْبِ (8) الْمُتَعَارَفِ، فَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ تَجْتَثّ أَصله؛ لأَن السَّلَفَ الصَّالِحَ كَانُوا أَحقَّ بالسَّبْق إِلى فَضْلِهِ؛ لِجَمِيعِ مَا ذُكر فِيهِ مِنَ الْفَوَائِدِ، وَلِذَلِكَ قَالَ مالك بن أنس (9) فِيهَا: أَترى النَّاسَ الْيَوْمَ كَانُوا أَرغبَ فِي الْخَيْرِ مِمَّنْ مَضَى؟ وَهُوَ إِشارة إِلى الأَصل الْمَذْكُورِ، وَهُوَ أَن الْمَعْنَى المُقْتَضي للإِحداث ـ وَهُوَ الرَّغْبَةُ فِي الْخَيْرِ ـ كَانَ أَتمَّ فِي السَّلَفِ الصالح، وهم لم يفعلوه، فدل أَنَّهُ لَا يُفْعَل.
وأَما مَا ذُكِرَ مِنْ آداب (10) الدعاءِ: فكُلُّه مما لَا يتعيَّن لَهُ (11) إِثر الصَّلَاةِ، بِدَلِيلِ: أَن رسول الله صلّى اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علَّم مِنْهَا جُمْلَةً كَافِيَةً، وَلَمْ يُعَلِّم مِنْهَا شَيْئًا إِثر الصَّلَاةِ، وَلَا تَرَكَهُمْ دُونَ تَعْلِيمٍ ليأْخذوا ذَلِكَ مِنْهُ فِي آخِرِ الصَّلَاةِ، أَو لِيَسْتَغْنُوا بِدُعَائِهِ (12) عَنْ تَعْلِيمِ ذَلِكَ، وَمَعَ أَن الْحَاضِرِينَ للدعاءِ لَا يَحْصُلُ لهم من الإِمام فِي ذَلِكَ كَبِيرُ شَيْءٍ، وإِن حَصَلَ فَلِمَنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْهُ دُونَ مَنْ بَعُدَ.
_________
(1) في (خ) و (م): "الاجتماع".
(2) في (خ) و (م): "التوجيه"، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: أي: توجيه القلب إلى الله تعالى المأخوذ من قوله تعالى: {وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ}، ويحتمل أن يكون: "التوجه" الذي مطاوع التوجيه. اهـ.
(3) في (ر) و (غ): "وتعليم".
(4) في (غ) و (ر): "تعلم".
(5) في (ر) و (غ): "فتعلم".
(6) في (خ) و (م): "الصلاة".
(7) في (خ) و (م): "فإن قيل".
(8) في (م): "المحزب"، وفي (خ) يشبه أن تكون: "المحرف".
(9) قوله: "ابن أنس" من (غ) و (ر) فقط، ونقل المصنف كلام مالك هذا في "الموافقات" (3/ 497).
(10) في (غ) و (ر): "أدب".
(11) قوله: "له" ليس في (غ).
(12) في (غ): "عن دعائه".(2/291)
فَصْلٌ
ثُمَّ اسْتَدَلَّ الْمُسْتَنصر (1) بِالْقِيَاسِ، فَقَالَ: وإِن صَحَّ أَن السَّلَف لَمْ يَعْمَلُوا بِهِ؛ فَقَدَ عَمِلَ السَّلَفُ بِمَا لَمْ يَعْمَلْ بِهِ مَنْ قَبْلَهُمْ مِمَّا (2) هُوَ خَيْرٌ. ثُمَّ قَالَ بَعْدُ: قَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "تَحْدُثُ لِلنَّاسِ أَقضية بِقَدْرِ مَا أَحدثوا مِنَ الْفُجُورِ" (3)، فَكَذَلِكَ تَحْدُثُ لَهُمْ مُرَغِّبات فِي (4) الْخَيْرِ بِقَدْرِ مَا أَحدثوا مِنَ الفُتُور.
وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ غيرُ جارٍ عَلَى الأُصول: أَمّا أَوّلاً: فإِنه فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ، وَهُوَ مَا أَشار إِليه مَالِكٌ فِي مسأَلة "العتبيَّة" (5)، فَذَلِكَ من باب فساد الاعتبار.
_________
(1) في (ر) و (غ): "المنتصر".
(2) في (خ): "بما".
(3) لم أجده مسنداً، وإنما ذكره ابن أبي زيد القيرواني في "الرسالة" (ص245) في "باب في الأقضية والشهادات" تعليقاً. وقال ابن فرحون المالكي في "تبصرة الحكام" في المسألة (217): "مسألة: قال ابن وضاح: قلت لسحنون: إن ابن عجلان قال لي: إنه يُحَلِّف اليهوديَّ يوم السبت، والنصرانيَّ يوم الأحد، وقال: إني رأيتهم يرهبون ذلك. فقال لي سحنون: ومن أين أخذه ابن عجلان؟ قال: قلت: من قول مالك: يُحَلّفون حيث يعظِّمون، فسكت. قال ابن وضاح: فكأنه أعجبه. وقلت له أيضاً: إن ابن عاصم عندنا يحلِّف الناس بالطلاق، يغلِّظ عليهم. فقال لي: ومن أين أخذ ذلك؟ قلت له: من الأثر المروي من قول عمر بن عبد العزيز: تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور. فقال لي: مثل ابن عاصم يتأوّل هذا! قاله ابن الهندي في وثائقه. وابن عاصم هذا: حسين بن عاصم، روى عن ابن القاسم وأشهب، ودخل الأندلس، وكان محتسباً بها في السوق".اهـ.
ويرد هذا القول كثيراً في كتب المالكية، وقد ذكره الحافظ ابن حجر في "الفتح" (13/ 144) نقلاً عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، ونسبه لمالك، وكذا الزرقاني في "شرح الموطأ" (4/ 44).
(4) في (غ) و (ر): "من" بدل "في".
(5) المتقدمة (ص282 ـ 283).(2/292)
وأَما ثَانِيًا: فإِنه قِيَاسٌ عَلَى نَصٍّ لَمْ يثبت بعدُ من طريقٍ صحيح؛ إِذ من الناس من طعن فيه، ومن شرط الأَصل الْمَقِيسِ عليه أن يثبت النقل فيه مِنْ طريقٍ (1) مَرْضِيٍّ، وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ.
وأَما ثَالِثًا: فإِن كَلَامَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فرعٌ اجتهاديٌّ جَاءَ عَنْ رجلٍ مجتهدٍ يُمْكِنُ أَن يخطىء فِيهِ؛ كَمَا يُمْكِنُ أَن يُصِيبَ، وإِنما حَقِيقَةُ الأَصل أَن يأْتي عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَو عَنْ أَهل الإِجماع، وَهَذَا لَيْسَ عَنْ (2) وَاحِدٍ (3) مِنْهُمَا.
وأَما رَابِعًا: فإِنه قِيَاسُ بِغَيْرِ مَعْنًى جَامِعٍ، أَو بِمَعْنَى جَامِعٍ طَرْدِيٍّ (4)، وَلَكِنَّ الْكَلَامَ فِيهِ سيأْتي ـ إِن شاءَ اللَّهُ ـ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ وَالْبِدَعِ.
وَقَوْلُهُ: "إِن السَّلَفَ عَمِلُوا بِمَا لَمْ يَعْمَلْ به من قبلهم": حاشا لِلَّهِ أَن يَكُونُوا مِمَّنْ يَدْخُلُ تَحْتَ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ.
وَقَوْلُهُ: "مِمَّا هُوَ خَيْرٌ": أَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلى السلف فما عملوا به (5) خير، وأَما فرعه المقيس فَكَوْنُهُ خَيْرًا دَعْوَى؛ لأَن كَوْنَ الشَّيْءِ خَيْرًا أَوْ شَرّاً لَا يَثْبُتُ إِلا بِالشَّرْعِ، وأَما العقل فبمعزل عن ذلك، فليُثْبِتْ (6) أَوّلاً أَن (7) الدعاءَ عَلَى تِلْكَ الْهَيْئَةِ خَيْرٌ شَرْعًا.
وأَما قِيَاسُهُ عَلَى قَوْلِهِ: "تَحْدُثُ لِلنَّاسِ أَقْضِيَةٌ": فَمِمَّا تقدم (8). وفيه
_________
(1) من قوله: "صحيح إذ من الناس" إلى هنا سقط من (خ) و (م).
(2) قوله: "عن" ليس في (غ) و (ر).
(3) في (ر): "واحداً".
(4) علق رشيد رضا رحمه الله على هذا الموضع بقوله: "لعل الأصل: غير طردي".
(5) قوله: "به" ليس في (خ) و (م).
(6) من قوله: "وأما العقل فبمعزل" إلى هنا سقط من (خ).
(7) في (خ): "أو لأن".
(8) علق رشيد رضا رحمه الله على هذا الموضع بقوله:
كذا والظاهر أنه سقط منه شيء، ولعل أصله: "فمما تقدم يعلم بطلانه".اهـ. والذي يظهر لي أنه لم يسقط منه شيء، وإنما عنى المؤلف: أن هذا القول مردود بالأمور الأربعة التي ذكرها قبل عدة أسطر.(2/293)
أَمْرٌ آخَرُ، وَهُوَ التَّصْرِيحُ بأَن إِحداث الْعِبَادَاتِ جَائِزٌ قِيَاسًا عَلَى قَوْلِ عُمَرَ، وإِنما كَلَامُ عُمَرَ ـ بَعْدَ تَسْلِيمِ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ ـ فِي مَعْنًى عَادِيٍّ يَخْتَلِفُ فِيهِ مَنَاطُ الْحُكْمِ الثَّابِتِ فِيمَا تقدم؛ كتضمين الصُّنّاع واشتراط الخلطة (1)، أَو الظِّنّة فِي تَوْجِيهِ الأَيْمَان، دُونَ مُجَرَّدِ الدَّعَاوَى، فَيَقُولُ: إِن الأَولين تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِمْ بَعْضُ الأَحكام لِصِحَّةِ الأَمانة وَالدِّيَانَةِ وَالْفَضِيلَةِ، فَلَمَّا حَدَثَتْ (2) أَضدادها اخْتَلَفَ الْمَنَاطُ فَوَجَبَ اخْتِلَافُ الْحُكْمِ، وَهُوَ حكمٌ رادعٌ أَهلَ الْبَاطِلِ عَنْ بَاطِلِهِمْ، فأَثَرُ هَذَا الْمَعْنَى ظَاهِرٌ مُنَاسِبٌ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ؛ فإِنه عَلَى الضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ، أَلا ترى أَن الناس قد (3) وَقَعَ فِيهِمُ الْفُتُورُ عَنِ الْفَرَائِضِ فَضْلًا عَنِ النوافل ـ وهي ما هي في (4) الْقِلَّةِ وَالسُّهُولَةِ ـ؟ فَمَا ظَنُّكَ بِهِمْ إِذا زِيدَ عليهم أَشياء أُخَرُ يرغبون فيها، ويُحَرِّضون (5) عَلَى اسْتِعْمَالِهَا، فَلَا شَكَّ أَنَّ الْوَظَائِفَ تَتَكَاثَرُ حَتَّى يؤديَ إِلى أَعظم مِنَ الْكَسَلِ الأَول، أَو إِلى (6) ترك الجميع، فإِن حدث للعامل بالبدعة هوىً (7) فِي بِدْعَتِهِ، أَو لِمَنْ شَايَعَهُ فِيهَا، فَلَا بد من كسله عَمَّا (8) هُوَ أَولى (9).
فَنَحْنُ نَعْلَمُ أَن سَاهِرَ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ (10) لِتِلْكَ الصَّلَاةِ المُحْدَثة لَا يأْتيه الصُّبْحُ إِلا وَهُوَ نَائِمٌ، أَو فِي غاية الكسل، فيُخِلّ
_________
(1) قوله: "واشتراط الخلطة" سقط من (خ) و (م).
(2) في (غ): "حصلت".
(3) في (خ): "إذا".
(4) في (خ): "من".
(5) في (خ) و (م): "ويرخصون"، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: كذا! والترخيص هنا غير مناسب، ولا يتعدى بعلى، فلعل الأصل: "ويحضون" اهـ.
(6) في (خ): "وإلى".
(7) في (خ) و (م): "هو".
(8) في (خ) و (م): "مما".
(9) علق رشيد رضا على هذا الموضع بقوله: ظاهرٌ أن في هذه العبارة غلطاً، والمعنى المفهوم من السياق: أن صاحب البدعة إذا كان يعرض له الكسل في بدعته ولمن شايعه عليها، فلا بدّ من عروض الكسل له في غيرها من الأعمال بالأَولى؛ لأن نظرية البدعة أنها ـ بجدَّتها ـ تُحدث نشاطاً بعد الفتور كما تقدم. اهـ.
(10) انظر ما تقدم (ص20).(2/294)
بِصَلَاةِ الصُّبْحِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمُحْدَثَاتِ، فَصَارَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ عَائِدَةً عَلَى مَا هُوَ أَولى مِنْهَا بالإِبطال أَو الإِخلال. وقد مرَّ في النقل (1) أَن بدعة لا تُحْدَثُ (2) إِلا وَيَمُوتُ مِنَ السُّنَّة مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا.
وأَيضاً فإِن هَذَا الْقِيَاسَ مُخَالِفٌ لأَصل شَرْعِيٍّ، وَهُوَ طَلَبُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم بالسهولة وَالرِّفْقَ وَالتَّيْسِيرَ وَعَدَمَ التَّشْدِيدِ (3)، وَزِيَادَةُ وَظِيفَةٍ لَمْ تُشْرَعْ، فَتَظْهَرُ وَيُعْمَلُ بِهَا دَائِمًا فِي مَوَاطِنِ السُّنَنِ، فَهُوَ تَشْدِيدٌ بِلَا شَكٍّ. وإِن سَلَّمْنَا مَا قَالَ، فَقَدْ وَجَدَ كُلُّ مُبْتَدَعٍ مِنَ الْعَامَّةِ السَّبِيلَ إِلى إِحداث الْبِدَعِ، وأَخذ هَذَا الْكَلَامِ بِيَدِهِ حجَّةً وَبُرْهَانًا عَلَى صِحَّةِ مَا يُحْدِثُهُ كَائِنًا مَا كَانَ، وَهُوَ مَرْمًى بَعِيدٌ.
ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى جَوَازِ الدعاءِ إِثر الصَّلَاةِ في الجملة، ونقل في ذلك
_________
(1) قوله: "في النقل" سقط من (خ) و (م).
(2) في (خ) و (م): "أن كل بدعة تحدث".
(3) في ذلك عدة أحاديث، منها: ما أخرجه البخاري (2935 و6024)، ومسلم (2165)، كلاهما من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: دخل رهط من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: السام عليكم. قالت عائشة: ففهمتها، فقلت: وعليكم السام واللعنة. قالت: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مهلاً يا عائشة! إن الله يحب الرفق في الأمر كله"، فقلت: يا رسول الله! أو لم تسمع ما قالوا؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قد قلت: وعليكم". وأخرج مسلم برقم (2593): عنها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلّم قال: "يا عائشة! إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه".
وأخرج أيضاً برقم (2594) عنها رضي الله عنها: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: "إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه". فهذا ما يتعلق بالسهولة والرفق.
وأما ما يتعلق بالتيسير وعدم التشديد:
فقد أخرج البخاري (3038)، ومسلم (1733)، كلاهما من حديث أبي موسى الأشعري: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بعث معاذاً وأبا موسى إلى اليمن، قال: "يسِّرا ولا تعسِّرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا". وأخرج البخاري أيضاً (69)، ومسلم (1734)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: "يسروا ولا تعسروا، وبشِّروا ولا تنفِّروا".
ولفظ مسلم: "وسكِّنوا" بدل "وبشروا".(2/295)
عَنْ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ أَنواعاً مِنَ الْكَلَامِ، وَلَيْسَ محلَّ النِّزَاعِ (1)، بَلْ جَعَلَ الأَدلةَ شَامِلَةً لِتِلْكَ الْكَيْفِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَعَقَّبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَقَدْ تَظَاهَرَتِ الأَحاديث وَالْآثَارُ وَعَمَلُ النَّاسِ وَكَلَامُ الْعُلَمَاءِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى كَمَا قَدْ ظَهَرَ. قَالَ: وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنه عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ الإِمام فِي الصَّلَوَاتِ، وأَنه لَمْ يَكُنْ لِيَخُصَّ نَفْسَهُ بِتِلْكَ الدَّعَوَاتِ، إِذ قَدْ جاءَ مِنْ سُنَّتِهِ: "لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَن يَؤُمَّ قَوْمًا إِلا بإِذنهم، وَلَا يَخُصَّ نَفْسَهُ بِدَعْوَةٍ دُونَهُمْ؛ فإِن فَعَلَ فَقَدْ خَانَهُمْ" (2). فتأَملوا يَا أُولي الأَلباب! فَإِنَّ عَامَّةَ النُّصُوصِ فِيمَا سُمِعَ مِنْ أَدعيته فِي أَدبار الصَّلَوَاتِ إِنما كَانَ دُعَاءً لِنَفْسِهِ، وَهَذَا الْكَلَامُ يَقُولُ فِيهِ: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَخُصَّ نفسه بالدعاء دون الجماعة، وهذا تناقض، واللهَ (3) نسأَل التوفيق.
_________
(1) علق رشيد رضا على هذا الموضع بقوله: لفظ "محل" منصوب؛ خبر ليس؛ أي: وليس هذا محل النزاع. اهـ.
(2) أخرجه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 280)، وأبو داود (91)، والترمذي (357)، وابن ماجه (923)، والفسوي في "المعرفة" (2/ 355)، والطبراني في "مسند الشاميين" (1042) جميعهم من طريق حبيب بن صالح، عن يزيد بن شريح، عن أبي حي المؤذن، عن ثوبان، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "لا يحل لامرئ من المسلمين أن ينظر في جوف بيت امرئ حتى يستأذن، فإن نظر فقد دخل، ولا يؤم قوماً فيختص نفسه بدعاء دونهم، فإن فعل فقد خانهم، ولا يصلي وهو حقن حتى يتخفف". واللفظ لأحمد. وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (1093) من طريق محمد بن الوليد، عن يزيد بن شريح، به، ثم قال: "أصح ما يروى في هذا الباب هذا الحديث".
وقال الترمذي: "حديث ثوبان حديث حسن. وقد روي هذا الحديث عن معاوية بن صالح، عن السفر بن نسير، عن يزيد بن شريح، عن أبي أمامة، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم. وروي هذا الحديث عن يزيد بن شريح، عن أبي هريرة، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم. وكأن حديث يزيد بن شريح عن أبي حي المؤذن، عن ثوبان في هذا: أجود إسناداً وأشهر". وهذا الاختلاف الذي ذكره الترمذي على يزيد بن شريح ذكره الدارقطني أيضاً في "العلل" (1568)، ومال ـ كالترمذي ـ إلى ترجيح رواية من رواه عن يزيد، عن أبي حي، عن ثوبان.
وكيفما كان الحديث فهو ضعيف؛ فمداره على يزيد بن شريح الحضرمي، الحمصي، وهو مقبول كما في "التقريب" (7779)، ولم يتابع، ولذا ضعفه الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله في "ضعيف الجامع" (6334).
(3) قوله: "والله" مكرر في (ر)، وفي (خ): "ومن الله".(2/296)
وإِنما حَمَلَ النَّاسُ الْحَدِيثَ عَلَى دعاءِ الإِمام فِي نَفْسِ الصَّلَاةِ مِنَ السُّجُودِ وَغَيْرِهِ، لَا فِيمَا حَمَلَهُ عَلَيْهِ هَذَا المتأوِّل، وَلَمَّا لَمْ يصحَّ الْعَمَلُ بِذَلِكَ الْحَدِيثِ عِنْدَ مَالِكٍ؛ أَجاز للإِمام أَن يَخُصَّ نَفْسَهُ بالدعاءِ دُونَ المأْمومين، ذَكَرَهُ فِي "النَّوَادِرِ" (1).
وَلَمَّا اعْتَرَضَهُ كَلَامُ الْعُلَمَاءِ وَكَلَامُ السَّلَفِ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، أَخذ يتأَوَّل ويوجّه كلامهم على طريقته المرتكبة (2)، ووقع له فيه (3) كَلَامٌ عَلَى غَيْرِ تأَمُّل لَا يَسْلَم ظَاهِرُهُ مِنَ التَّنَاقُضِ وَالتَّدَافُعِ لِوُضُوحِ أَمره، وَكَذَلِكَ فِي تأْويل الأَحاديث الَّتِي نَقَلَهَا، لَكِنْ تَرَكْتُ هُنَا اسْتِيفَاءَ الْكَلَامِ عَلَيْهَا لِطُولِهِ، وَقَدْ ذَكَرْتُهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى ذَلِكَ (4).
_________
(1) واسمه الكامل: "النوادر والزيادات على ما في المدونة وغيرها من الأمهات" لابن أبي زيد القيرواني. انظر (1/ 193) منه.
(2) علق رشيد رضا رحمه الله على هذا الموضع بقوله: كذا ولعله: "المرتبكة"، وفي (ر) يشبه أن تكون: "المرتكية".
(3) في (خ) و (م): "في" بدل "فيه".
(4) في (غ): "والله أعلم" بدل "والحمد لله على ذلك"، وقوله: "على ذلك" ليس في (ر). وقد علق رشيد رضا على هذا الموضع بقوله: هاهنا ينتهي النصف الأول من الكتاب بحسب التقسيم الأول الذي وجدنا عليه نسختنا. اهـ.
وفي (خ): بعد هذا الموضع ما نصه: كمل النصف الأول من كتاب الاعتصام للعلامة النّحرير الشيخ أبي إسحاق الشاطبي بحمد الله وحسن عونه، على يد العبد الفقير الذليل المرسي حسونة بن محمد الشيلي الأمين السوسي، غفر الله ذنوبه، وستر بمنِّه عيوبه والمسلمين آمين. وكان الفراغ منه في شوال المبارك يوم الأربعاء من عام 1294 عرفنا الله خيره وخير ما بعده ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأسَدِّ الكريم، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. أول النصف الثاني قول المؤلف: فصل، ويمكن أن يدخل في البدع الإضافية كل عمل اشتبه أمره فلم يتبين أهو بدعة فينهى عنه، أو غير بدعة فيعمل به ... إلخ.(2/297)
فَصْلٌ (1)
وَيُمْكِنُ أَن يَدْخُلَ فِي الْبِدَعِ الإِضافية كُلُّ عَمَلٍ اشْتَبَهَ أَمره فَلَمْ يتبيَّن: أَهو بِدْعَةٌ فيُنْهَى عَنْهُ؟ أَم غَيْرُ بِدْعَةٍ فيُعمل به؟ فإِنا إِذا اعتبرناه بالأَحكام الشرعية وجدناه من المشتبهات التي نُدِبنا (2) إِلى تَرْكِهَا حَذَرًا مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْمَحْظُورِ (3)، وَالْمَحْظُورُ هُنَا هُوَ الْعَمَلُ بِالْبِدْعَةِ. فإِذاً العاملُ بِهِ لَا يَقْطَعُ أَنه عَمِلَ بِبِدْعَةٍ، كَمَا أَنه (4) لَا يَقْطَعُ أَنه عَمِلَ بسُنَّة، فَصَارَ مِنْ جِهَةِ هَذَا التَّرَدُّدِ غَيْرَ عَامِلٍ بِبِدْعَةٍ حَقِيقِيَّةٍ، وَلَا يُقَالُ أَيضاً: إِنه خَارِجٌ عَنِ الْعَمَلِ بِهَا جُمْلَةً.
وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَن النَّهْيَ الْوَارِدَ فِي الْمُشْتَبِهَاتِ (5) إِنما هُوَ حِمَايَةٌ أن يوقع (6) فِي ذَلِكَ الْمَمْنُوعِ الْوَاقِعِ فِيهِ الِاشْتِبَاهُ، فإِذا اخْتَلَطَتِ الْمَيْتَةُ بالذَّكِيَّة نَهَيْنَاهُ عَنِ الْإِقْدَامِ، فإِن أَقدم أَمكن عِنْدَنَا أَن يَكُونَ آكِلًا لِلْمَيْتَةِ (7) فِي الِاشْتِبَاهِ (8)؛ فَالنَّهْيُ الأَخف إِذاً مُنْصَرِفٌ نَحْوَ الْمَيْتَةِ فِي الِاشْتِبَاهِ، كَمَا انْصَرَفَ إِليها النَّهْيُ الأَشدّ في التحقُّق.
_________
(1) هذا الفصل هو بداية الجزء الثاني من نسخة (خ)، وجاء في بداية الجزء قبل ذكر الفصل ما نصه: "بسم الله الرحمن الرحيم. صلى الله على سيدنا محمد وسلم".
ومن بداية هذا الجزء ابتدأت نسخة (ت)، وأولها قبل ذكر الفصل ما نصه: "بسم الله الرحمن الرحيم. وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. قال العلامة النحرير، ناصر السنة، ولسان الدين، النظار، المحقق، الشيخ أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله تعالى، آمين".
(2) في (خ): "ندبني ندبنا".
(3) يشير إلى قوله صلّى الله عليه وسلّم: "الحلال بَيِّن، والحرام بَيِّن، وبينهما مُشَبَّهات لا يعلمها كثير من الناس ... " الحديث. أخرجه البخاري في صحيحه برقم (52)، ومسلم برقم (1599).
(4) قوله: "أنه" ليس في (ت).
(5) في (ر) و (غ): "المتشابهات".
(6) في (خ) و (ت): "يقع". بدل "يوقع".
(7) في (ر) و (غ): "الميتة".
(8) قوله: "في الاشتباه" ليس في (غ) و (ر).(2/298)
وَكَذَلِكَ اخْتِلَاطُ الرَّضِيعة بالأَجنبية: النَّهْيُ فِي الِاشْتِبَاهِ مُنْصَرِفٌ إِلى الرَّضِيعَةِ كَمَا انْصَرَفَ إِليها فِي التحقُّق، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمُشْتَبِهَاتِ، إِنما يَنْصَرِفُ نَهْيُ الإِقدام عَلَى الْمُشْتَبَهِ إِلى خُصُوصِ الْمَمْنُوعِ الْمُشْتَبَهِ، فإِذاً الْفِعْلُ الدَّائِرُ بَيْنَ كَوْنِهِ سُنَّةً أَو بدعة إِذا نهي عنه؛ من (1) باب الاشْتِباه، فالنهي منصرف إِلى العمل بالبدعة؛ كما انصرف إِليه عند تعيُّنها، فهو إِذاً في الِاشْتِبَاهِ (2) نَهْيٌ عَنِ الْبِدْعَةِ فِي الْجُمْلَةِ، فَمَنْ أَقدم على الْعَمَلِ فَقَدْ أَقدم عَلَى (3) منهيٍّ عَنْهُ فِي بَابِ الْبِدْعَةِ؛ لأَنه مُحْتَمَلٌ أَن يَكُونَ بِدْعَةً فِي نَفْسِ الأَمر، فَصَارَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ كَالْعَامِلِ بِالْبِدْعَةِ المنهيِّ عَنْهَا. وَقَدْ مرَّ أَن الْبِدْعَةَ الإِضافية هِيَ الْوَاقِعَةُ ذَاتُ وَجْهَيْنِ، فَلِذَلِكَ قِيلَ: إِن هَذَا الْقِسْمَ مِنْ قَبِيلِ الْبِدَعِ الإِضافية، ولهذا النوع أَمثلة:
أَحدها: إِذا تَعَارَضَتِ الأَدلة عَلَى الْمُجْتَهِدِ فِي أَن الْعَمَلَ الفلانيَّ مَشْرُوعٌ يُتَعَبَّد بِهِ، أَو غَيْرُ مَشْرُوعٍ فَلَا يُتعبَّد بِهِ (4)، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ جمع بين الدليلين (5)، ولا إِسقاط (6) أَحَدهما (7) بِنَسْخٍ أَوْ تَرْجِيحٍ أَو غَيْرِهِمَا؛ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الأُصول أَن فَرْضَهُ التوقُّف. فَلَوْ عَمِل بمَقتضى دَلِيلِ التَّشْرِيعِ مِنْ غَيْرِ مرجِّح لَكَانَ عَامِلًا بِمُتَشَابِهٍ؛ لِإِمْكَانِ صحَّة الدَّلِيلِ بعدم المشروعية. وقد نهى الشرع عن الإقدام على المتشابهات، كما أنه لو أَعمل دليل عدم المشروعية من غير مرجِّح، لكان عاملاً بمتشابه (8)، فَالصَّوَابُ الْوُقُوفُ عَنِ الْحُكْمِ رأْساً، وَهُوَ الْفَرْضُ في حقِّه.
_________
(1) في (خ) و (م) و (ت): "في" بدل "من".
(2) من قوله: "فالنهي منصرف" إلى هنا سقط من (خ) و (م) و (ت).
(3) قوله: "العمل فقد أقدم على" سقط من (خ).
(4) قوله: "به" سقط من (غ) و (ر).
(5) في (ت): "الدليل"، ثم صوبت في الهامش.
(6) في (خ): "أو إسقاط". وفي (م): "والإسقاط"، وفي (ت): "وإسقاط"، وصوبت في الهامش هكذا: "أو إسقاط".
(7) في (م): "لأحدهما".
(8) من قوله: "وقد نهى الشرع" إلى هنا سقط من (خ) و (م) و (ت).(2/299)
وَالثَّانِي: إِذا تَعَارَضَتِ الأَقوال عَلَى المقلِّد فِي المسأَلة بِعَيْنِهَا، فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: يَكُونُ الْعَمَلُ بِدْعَةً، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ بِبِدْعَةٍ، وَلَمْ يتبَّين لَهُ الأَرجح مِنَ العالِمَيْن بأَعْلَمِيَّةٍ أَو غَيْرِهَا؛ فَحَقُّهُ الْوُقُوفُ وَالسُّؤَالُ عَنْهُمَا حَتَّى يتبيَّن لَهُ الأَرجح، فَيَمِيلُ إِلى تَقْلِيدِهِ دُونَ الْآخَرِ، فإِن أَقدم عَلَى تَقْلِيدِ أَحَدِهِمَا مِنْ غَيْرِ (1) مرَجِّح؛ كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمُجْتَهِدِ إِذَا أَقْدَمَ عَلَى الْعَمَلِ بأَحد الدَّلِيلَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ، فَالْمِثَالَانِ فِي الْمَعْنَى وَاحِدٌ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ ثَبَتَ فِي الصِّحاح (2) عن الصحابة رضي الله عنهم: أَنهم كَانُوا (3) يَتَبَرَّكُونَ (4) بأَشياء مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَفِي الْبُخَارِيِّ (5) عَنْ أَبي جُحَيفة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالهَاجِرَة، فَأُتِيَ بِوَضُوءٍ فتوضّأَ، فَجَعَلَ النَّاسُ يأْخذون مِنْ فَضْلِ وَضُوئِه فيتمسَّحون بِهِ ... ، الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: كَانَ إِذا توضأَ يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضوئه.
وَعَنِ المِسْوَرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (6) ـ فِي حَدِيثِ الْحُدَيْبِيَةِ ـ: "وَمَا تَنَخَّم (7) النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُخَامة إِلا وَقَعَتْ فِي كَفّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ".
وَخَرَّجَ غَيْرُهُ مِنْ ذَلِكَ كَثِيرًا؛ في التبرُّك بشعره، (8) وثوبه، (9)
_________
(1) في (ت): "بدون" بدل: "من غير".
(2) في (م): "الصحايح".
(3) قوله: "كانوا" ليس في (خ) و (م) و (ت).
(4) علق رشيد رضا هنا بقوله: لعل الأصل: "كانوا يتبركون".اهـ.
برقم (187)، ولكن قوله: "كان إذا توضأ يقتتلون على وضوئه" ليس في رواية أبي جحيفة هذه، وإنما في رواية المسور بن مخرمة الآتية.
(5) أخرجه البخاري (2731 و2732).
في (خ) و (م) و (ت): "انتخم".
(6) أخرج مسلم في "صحيحه" (1305) من حديث أنس: أنه صلّى الله عليه وسلّم في حجّته قال للحلاَّق: "خذ"، وأشار إلى جانبه الأيمن، ثم الأيسر، ثم جعل يعطيه الناس.
وأخرجه البخاري (171) من حديثه أيضاً: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا حلق رأسه كان أبو طلحة أول من أخذ.
(7) أخرج مسلم في "صحيحه" (2069) من طريق عبد الله مولى أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: أن أسماء أخرجت له جبّة رسول الله (ص)، فقالت: هذه كانت عند عائشة حتى قُبِضَتْ، فلما قبضت قبضتها، وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يلبسها، فنحن نغسلها للمرضى يُستشفى بها.(2/300)
وغيرهما (1)، حتى إنه صلّى الله عليه وسلّم (2) مَسَّ ناصِيَةَ (3) أَحدِهم بِيَدِهِ، فَلَمْ يَحْلِقْ ذَلِكَ الشَّعْرَ (4) الَّذِي مَسَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَتَّى مَاتَ (5).
وَبَالَغَ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ حَتَّى شَرِبَ دَمَ حِجَامته (6)، إِلى أَشياء
_________
(1) كاحتفاظ أنس رضي الله عنه بإنائه صلّى الله عليه وسلّم؛ كما في "صحيح البخاري" (3109 و5638).
(2) قوله: " (ص) " زيادة من (ت) فقط.
(3) في (خ) و (م) و (ت): "بإصبعه" بدل "ناصيته".
(4) قوله: "الشعر" ليس في (غ) و (ر).
(5) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (1779) عن شيخه ابن جريج؛ قال: حدثني عثمان بن السائب مولاهم، عن أبيه السائب مولى أبي محذورة، وعن أم عبد الملك بن أبي محذورة؛ أنهما سمعاه من أبي محذورة، قال أبو محذورة: خرجت في عشرة فتيان مع النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى حنين ... ، الحديث، وفيه: فكان أبو محذورة لا يجزّ ناصيته ولا يفرقها؛ لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مسح عليها.
وفي إسناد المطبوع من "المصنف" تصحيف في الإسناد أقمته من "مسند أحمد" (3/ 408) حيث رواه من طريق عبد الرزاق.
وهذا سند ضعيف، فعثمان بن السائب الجُمَحي، المكي، مولى أبي محذورة مقبول كما في "التقريب" (4502).
وأبوه مقبول كذلك كما في "التقريب" (2216).
وأم عبد الملك بن أبي محذورة مقبولة كذلك كما في "التقريب" (8845).
(6) ورد فيه عدة أحاديث تجدها في "العلل المتناهية" لابن الجوزي (285 و286)، و"التلخيص الحبير" (17 ـ 19) لابن حجر، ولا يثبت منها شيء، وأحسنها: ما رواه موسى بن إسماعيل، عن هنيد بن القاسم، عن عامر بن عبد الله بن الزبير؛ أن أباه حدثه: أنه أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يحتجم، فلما فرغ قال: "يا عبد الله! اذهب بهذا الدم فأهرقه حيث لا يراك أحد". فلما برز عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، عمد إلى الدم فشربه، فلما رجع قال صلّى الله عليه وسلّم: "يا عبد الله! ما صنعت؟ " قال: جعلته في أخفى مكان علمت أنه يخفى عن الناس. قال صلّى الله عليه وسلّم: "لعلك شربته؟ " قال: نعم. قال صلّى الله عليه وسلّم: "ولم شربت الدم؟ ويل للناس منك، وويل لك من الناس". أخرجه البزار (2210)، وأبو يعلى في "مسنده" كما في "المطالب" (3829/ 1)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (578)، والحاكم في "المستدرك" (3/ 554)، والبيهقي في "السنن" (7/ 67)، ورواه الطبراني كما في الموضع السابق من "التلخيص الحبير"، ومن طريقه رواه أبو نعيم في "الحلية" (1/ 329 ـ 330).
ورواه الضياء في "المختارة" (266 و267) من طريق أبي يعلى والطبراني. والحديث سكت عنه الحاكم والذهبي، وقال الحافظ ابن حجر: "وفي إسناده الهنيد بن القاسم ولا بأس به، لكنه ليس بالمشهور بالعلم".=(2/301)
لهذا (1) كَثِيرَةٍ. فَالظَّاهِرُ فِي مِثْلِ هَذَا النَّوْعِ أَنْ يكون مشروعاً في حق كل (2) مَنْ ثَبَتَتْ وَلاَيَتُه وَاتِّبَاعُهُ لسُنَّة رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأَن يُتَبَرَّكَ بِفَضْلِ وَضُوئِهِ، ويتدلَّك بِنُخَامَتِهِ، ويُسْتشفى بِآثَارِهِ كلِّها، ويُرجى فيها (3) نحوٌ مما كان يُرجى (4) فِي آثَارِ المَتْبوعِ الأَعظم (5) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (6).
إِلا أَنه عَارَضَنَا (7) فِي ذَلِكَ أَصل مقطوعٌ بِهِ فِي مَتْنه، مشكلٌ فِي تَنْزِيلِهِ، وَهُوَ أَن الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بَعْدَ موته صلّى الله عليه وسلّم لَمْ يَقَعْ مِنْ أَحد مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلى مَنْ خَلَّفَهُ، إِذ لَمْ يَتْرُكِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَهُ فِي الأُمة أَفضلَ مِنْ أَبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ (8) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَهُوَ كَانَ خليفتَه، وَلَمْ يُفعل بِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ (9)، وَلَا عُمَرَ بن الخطاب (10)، وهو كان أَفضلَ الأُمة بعده، ثم كذلك عثمان بن عفان (11)، ثم عليّ بن أبي طالب (12)، ثُمَّ (13) سَائِرُ (14) الصَّحَابَةِ الَّذِينَ لَا أَحد أَفضل مِنْهُمْ فِي الأُمة، ثُمَّ (15) لَمْ يَثْبُتْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ مَنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ مَعْرُوفٍ أَن متبرِّكاً تَبَرَّكَ بِهِ عَلَى أَحد تِلْكَ الْوُجُوهِ أَو نَحْوِهَا، بَلِ اقْتَصَرُوا فِيهِمْ عَلَى الاقتداءِ بالأَفعال والأَقوال والسِّيَر التي اتّبعوا
_________
=قلت: هنيد بن القاسم مجهول الحال، لم يرو عنه سوى موسى بن إسماعيل، ولم يذكر فيه البخاري (8/ 249) ولا ابن أبي حاتم (9/ 121) جرحاً ولا تعديلاً، وذكره ابن حبان في "الثقات" (5/ 515)، فالحديث ضعيف لأجله.
(1) كذا في جميع النسخ، وعلق عليه رشيد رضا رحمه الله بقوله: "لعله: كهذا".
(2) قوله: "كل" من (غ) و (ر) فقط.
(3) قوله: "فيها" سقط من (خ).
(4) قوله: "يرجى" سقط من (خ) و (م) و (ت).
(5) في (خ): "الأصل" بدل "الأعظم"، وفي (ت): "الأصلي"، وعلق عليها رشيد رضا بقوله: "يظهر أن الجملة محرفة".
(6) علق رشيد رضا هنا بقوله: قد استفاض أنه صلّى الله عليه وسلّم كان ينهى عن الغلو في تعظيمه. اهـ.
(7) في (غ) و (ر): "عارضها".
(8) قوله: "الصديق" ليس في (ت).
(9) قوله: "ذلك" سقط من (خ).
(10) قوله: "ابن الخطاب" من (غ) و (ر) فقط، وفي (خ) و (ت) زيادة: "رضي الله عنهما".
(11) قوله: "ابن عفان" من (غ) و (ر) فقط.
(12) قوله: "ابن أبي طالب" من (غ) و (ر) فقط.
(13) قوله: "ثم" سقط من (خ).
(14) في (ت): "وسائر" بدل "ثم سائر".
(15) قوله: "ثم" ليس في (غ) و (ر).(2/302)
فِيهَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهُوَ إِذاً إِجماع مِنْهُمْ عَلَى تَرْكِ تِلْكَ الأَشياء كُلِّهَا.
وَبَقِيَ النَّظَرُ فِي وَجْهِ تَرْكِ مَا تركوا منه، وهو يحتمل (1) وَجْهَيْنِ:
أَحدهما: أَنْ يَعْتَقِدُوا فِيهِ (2) الِاخْتِصَاصَ، وَأَنَّ مَرْتَبَةَ (3) النُّبُوَّةِ يَسَعُ فِيهَا ذَلِكَ كُلُّهُ؛ لِلْقَطْعِ بِوُجُودِ مَا الْتَمَسُوا (4) مِنَ الْبَرْكَةِ وَالْخَيْرِ؛ لأَنه صلّى الله عليه وسلّم كَانَ نُورًا كلُّه فِي ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ (5)، فَمَنِ الْتَمَسَ مِنْهُ نُورًا وَجَدَهُ عَلَى أَي جِهَةٍ الْتَمَسَهُ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنَ الأُمة، فإِنه (6) وإِن حَصَلَ لَهُ مِنْ نُورِ الاقتداءِ بِهِ والاهتداءِ بِهَدْيِهِ مَا شاءَ اللَّهُ؛ لَا يَبْلُغُ مَبْلَغَهُ على حال، ولا يوازيه (7) فِي مَرْتَبَتِهِ، وَلَا يُقَارِبُهُ (8)، فَصَارَ هَذَا النَّوْعُ مُخْتَصًّا بِهِ كَاخْتِصَاصِهِ بِنِكَاحِ مَا زَادَ عَلَى الأَربع (9)، وإِحْلالِ بُضْع الواهِبَةِ نفسَها لَهُ (10)، وَعَدَمِ
_________
(1) في (خ): "ما تركوا منه ويحتمل".
(2) في (ر) و (غ): "فيها".
(3) في (خ) و (م): "مرتبته".
(4) في (ر) و (غ): "ما التمسوه".
(5) لقوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة: 15].
قال ابن جرير في "تفسيره" (10/ 143): "يعني بالنور محمداً صلّى الله عليه وسلّم، الذي أنار الله به الحق، وأظهر به الإسلام، ومحق به الشرك، فهو نور لمن استنار به ... " إلخ.
(6) قوله: "فإنه" سقط من (خ) و (ت).
(7) في (خ) و (ت): "حال توازيه"، وفي (م): "حال وتوازيه".
(8) في (خ) و (ت): "ولا تقاربه".
(9) أخرجه أحمد (2/ 44)، والترمذي (1128)، وابن ماجه (1953)، وابن حبان (4156 و4157 و4158)، وغيرهم من طريق معمر، عن الزهري، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه: أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: "اختر منهن أربعاً".
وهذا سند ظاهره الصحة، لكنه معلول من قبل كثير من الأئمة، وصوابه: أنه عن الزهري مرسلاً كما تجد تفصيل ذلك في "إرواء الغليل" (1883)، وحاشية "المسند" بتحقيق الأرناؤوط (8/ 221 ـ 224).
ولكن الحديث جرى عليه عمل أهل العلم كما حكاه الإمام أحمد والترمذي وغيرهما، ولذا صححه الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله بهذا الاعتبار، وبماله من شواهد، والله أعلم.
(10) حديث الواهبة نفسها أخرجه البخاري (2310)، ومسلم (1425)، كلاهما من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله! إني قد وهبت لك من نفسي ... ، الحديث.(2/303)
وُجُوبِ القَسْم عَلَى الزَّوْجَاتِ (1) وَشِبْهِ ذَلِكَ. فَعَلَى هَذَا المأْخذ: لَا يَصِحُّ لِمَنْ بَعْدَهُ الاقتداءُ بِهِ فِي التبرُّك عَلَى أَحد تِلْكَ الْوُجُوهِ وَنَحْوِهَا، وَمَنِ اقْتَدَى بِهِ كَانَ اقْتِدَاؤُهُ بِدْعَةً، كَمَا كَانَ الاقتداءُ بِهِ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى أَربع نسوة بدعة.
والثاني (2): أَن لَا يَعْتَقِدُوا الِاخْتِصَاصَ، وَلَكِنَّهُمْ تَرَكُوا ذَلِكَ مِنْ بَابِ الذَّرَائِعِ خَوْفًا مِنْ أَن يُجعل ذَلِكَ سُنَّة ـ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي اتِّبَاعِ الْآثَارِ وَالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ ـ، أَو لأَن (3) الْعَامَّةَ لَا تَقْتَصِرُ فِي ذَلِكَ عَلَى حَدّ، بَلْ تَتَجَاوَزُ فِيهِ الْحُدُودَ، وَتُبَالِغُ (4) بِجَهْلِهَا فِي الْتِمَاسِ الْبَرَكَةِ؛ حَتَّى يُدَاخِلَهَا للمتبرَّك بِهِ تعظيمٌ يَخْرُجُ (5) به عن الحَدّ، فربما اعتقدت (6) فِي المتبرَّك بِهِ مَا لَيْسَ فِيهِ، وَهَذَا التبرُّك هُوَ أَصل الْعِبَادَةِ، ولأَجله قَطَعَ عُمَرُ بن الخطاب (7) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الشَّجَرَةَ الَّتِي بُويِعَ تَحْتَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (8)، بَلْ هُوَ كَانَ أصلَ عِبَادَةِ الأَوثان فِي الأُمم الْخَالِيَةِ ـ حَسْبَمَا ذَكَرَهُ أَهل السِّيَرِ (9) ـ، فَخَافَ عُمَرُ
_________
(1) علق رشيد رضا رحمه الله على هذا الموضع بقوله: "لعل أصله: وعدم وجوب القسم عليه للزوجات".
والدليل على هذا الحكم قوله تعالى في سورة الأحزاب (51): {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ}.
قال القرطبي في "تفسيره" (14/ 214): "واختلف العلماء في تأويل هذه الآية، وأصح ما قيل فيها: التوسعة على النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَرْكِ القسم، فكان لا يجب عليه القسم بين زوجاته، وهذا القول هو الذي يناسب ما مضى، وهو الذي ثبت معناه في "الصحيح" ... ، ثم استدل بحديث عائشة رضي الله عنها الذي أخرجه البخاري (4788)، ومسلم (1464)، قالت: كنت أغار على اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأقول: أتهب المرأة نفسها؟ فلما أنزل الله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ}؛ قلت ما أرى ربك إلا يسارع في هواك.
(2) في (خ) و (م) و (ت): "الثاني".
(3) في (غ) يشبه أن تكون: "أو كأن".
(4) في (غ) و (ر): "وتبلغ".
(5) في (م): "تخرج".
(6) في (خ) و (م) و (ت): "اعتقد".
(7) قوله: "ابن الخطاب" من (غ) و (ر) فقط.
(8) تقدم تخريجه (ص248) من هذا المجلد.
(9) أخرج البخاري (4920) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بَعْدُ. أما ودّ فكانت لكَلْب بدُومة الجَنْدل، وأما سُوَاع فكانت لهُذيل، وأما يَغُوث فكانت لمُراد، ثم لبني غُطَيف بالجُرْف عند سبأ، وأما=(2/304)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَن يَتَمَادَى الْحَالُ فِي الصَّلَاةِ إِلى تِلْكَ الشَّجَرَةِ حَتَّى تُعْبَدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَكَذَلِكَ يتَّفِق عِنْدَ التوغُّل فِي التَّعْظِيمِ.
وَلَقَدْ حَكَى الْفَرْغَانِيُّ مذيِّل "تَارِيخِ الطَّبَرِيِّ" عَنِ الحَلاَّج أَن أَصحابه بَالَغُوا فِي التَّبَرُّكِ بِهِ حَتَّى كَانُوا يَتَمَسَّحُونَ بِبَوْلِهِ، وَيَتَبَخَّرُونَ بِعَذْرَتِهِ، حَتَّى ادَّعَوْا فِيهِ الإِلهية، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (1).
ولأَن الْوِلَايَةَ وإِن ظَهَرَ لَهَا فِي الظَّاهِرِ آثَارٌ، فَقَدْ يَخْفَى أَمرها؛ لأَنها فِي الْحَقِيقَةِ رَاجِعَةٌ إِلى أَمر بَاطِنٍ لَا يَعْلَمُهُ إِلا اللَّهُ، فَرُبَّمَا ادُّعيت الْوِلَايَةُ لِمَنْ لَيْسَ بِوَلِيٍّ، أَو ادَّعَاهَا (2) هُوَ لِنَفْسِهِ، أَو أَظهر (3) خَارِقَةً مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ هِيَ مِنْ بَابِ الشَّعْوَذَة، لَا مِنْ بَابِ الْكَرَامَةِ، أَو من باب السِّيميَاء (4)، أَو الْخَوَاصِّ، أَو غَيْرِ ذَلِكَ. وَالْجُمْهُورُ (5) لَا يعرفون الْفَرْقَ بَيْنَ (6) الْكَرَامَةِ وَالسِّحْرِ، فيعظِّمون مَنْ لَيْسَ بِعَظِيمٍ، وَيَقْتَدُونَ بِمَنْ لَا قُدْوَةَ فِيهِ ـ وَهُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ ـ، إِلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَفَاسِدِ. فترك الصحابة رضي الله عنهم (7) الْعَمَلَ بِمَا تَقَدَّمَ ـ وإِن كَانَ لَهُ أَصل ـ؛ لِمَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِنَ الْفَسَادِ فِي الدِّينِ.
_________
=يعوق فكانت لهَمْدان، وأما نسر فكانت لحِمْيَر لآل ذي الكِلاَع؛ أسماء رجالٍ صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً، وسموها بأسمائهم، ففعلوا فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك وتنسَّخ العلم عُبدت.
(1) وتجد ذلك محكياً في "سير أعلام النبلاء" (14/ 337 و339 و347).
(2) في (ر) و (غ): "وادعاها".
(3) في (ر) و (غ): "وأظهر".
(4) قوله: "السّيميا" مكانها بياض في (خ) و (م)، وفي (ت): "السِّحر".
وعلق رشيد رضا عليه بقوله: بياض في الأصل، ولعل الساقط لفظ: "السحر"، فإنه سيذكره قريباً. اهـ.
وتجد تعريف السيمياء في "كشف الظنون" (2/ 1020)، وخلاصته: أنها ضرب من السحر، وانظر التعليق الآتي برقم (1) (ص323).
(5) يعني: عامة الناس، لا جمهور أهل العلم.
(6) في (ت): "والجمهور لا يفرقون بين".
(7) قوله: "فترك الصحابة رضي الله عنهم" من (ت) فقط، وبدلاً منها في باقي النسخ: "فتركوا".(2/305)
وَقَدْ يَظْهَرُ بأَول وَهْلَةٍ (1) أَن هَذَا الْوَجْهَ الثَّانِيَ أَرجح؛ لِمَا ثَبَتَ فِي الأُصول الْعِلْمِيَّةِ: أَنَّ كُلَّ مَزِيَّةٍ (2) أَعطيَها النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم فإِن لأُمته أنموذجاً منها، مالم يدلَّ دليل على الاختصاص؛ كما ثبت أَن كل ما عمل به عليه السلام فإِن اقتداء الأمة به مشروع، مالم يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى الِاخْتِصَاصِ (3).
إِلا أَن الْوَجْهَ الأَول أَيضاً رَاجِحٌ (4) مِنْ جِهَةٍ أُخرى، وَهُوَ إِطباقهم عَلَى التَّرْك (5)؛ إِذ لَوْ كَانَ اعْتِقَادُهُمُ التَّشْرِيعَ لَعَمِلَ به بَعْضُهُمْ بَعْدَهُ، أَو عَمِلُوا بِهِ وَلَوْ فِي بَعْضِ الأَحوال، إِما وُقُوفًا مَعَ أَصل الْمَشْرُوعِيَّةِ، وإِما بِنَاءً عَلَى اعْتِقَادِ انتفاءِ العِلَّة الْمُوجِبَةِ لِلِامْتِنَاعِ.
وَقَدْ خَرَّجَ ابْنُ وَهْبٍ فِي "جَامِعِهِ" (6) من حديث يونس بن يزيد، عن
_________
(1) في (ر) و (غ): "النظر" بدل: "وهلة".
(2) في (خ): يشبه أن تكون: "قربة"، وفي (غ) و (ر): "أن كل ما مزية".
(3) من قوله: "كما ثبت" إلى هنا سقط من (خ) و (م) و (ت).
(4) في (ت): "راجح أيضاً".
(5) في (خ) و (م): "التبرك".
(6) لم أجده في المطبوع من "جامع ابن وهب".
وقد أخرجه عبد الرزاق في "جامع معمر" الملحق بـ"المصنف" (19748)، عن معمر، عن الزهري؛ قال: حدثني من لا أتهم من الأنصار ... ، فذكره بنحوه. وأخرجه ابن أبي الدنيا في "مكارم الأخلاق" (273) من طريق الأوزاعي، عن الزهري مرسلاً دون ذكر القصة. وذكر الشيخ ناصر الدين الألباني هذا الحديث في "الصحيحة" (2998)، وقال عقب ذكره لهذا الطريق: "وهذا الإسناد رجاله ثقات، غير الرجل الأنصاري. فإن كان تابعيّاً فهو مرسل، ولا بأس به في الشواهد، وإن كان صحابياً فهو سند صحيح؛ لأن جهالة اسم الصحابي لا تضر كما هو مقرر في علم الحديث. ويغلب على الظن أنه أنس بن مالك رضي الله عنه الذي في الطريق الأولى؛ فإنه أنصاري، ويروي عنه الإمام الزهري كثيراً" اهـ.
ويعني الشيخ بالطريق الأولى: ما نقله عن الخلعي في "الفوائد" (18/ 73/1) من أنه روى هذا الحديث من طريق عمرو بن بكر السكسكي، عن ابن جابر، عن أنس ... ، فذكره.
ثم قال الشيخ: "وهذا سند ضعيف جداً، عمرو بن بكر السكسكي متروك كما في "التقريب"، لكن الحديث قد روي جلّه من وجوه أخرى يدل مجموعها على أن له أصلاً ثابتاً"، ثم ذكر هذا الطريق والطريق الآتي.=(2/306)
ابْنِ شِهَابٍ؛ قَالَ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنَ الأَنصار: أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذا توضأَ أَو تَنَخَّمَ ابْتَدَرَ مَنْ حَوْلَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وضوءَه وَنُخَامَتَهُ فَشَرِبُوهُ وَمَسَحُوا بِهِ جُلُودَهُمْ، فَلَمَّا رَآهُمْ يَصْنَعُونَ ذَلِكَ سأَلهم: "لِمَ تَفْعَلُونَ هَذَا؟ " قَالُوا: نَلْتَمِسُ الطُّهُورَ وَالْبَرَكَةَ بذلك، فقال لِهَمِّ (1) رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "من كان منكم يحب أَن يحبه اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَلْيَصْدُقِ الْحَدِيثَ، وَلْيُؤَدِّ الأَمانة، وَلَا يُؤْذِ جَارَهُ".
فإِن صَحَّ هَذَا النَّقْلُ فَهُوَ مُشْعِرٌ بأَن الأَولى تركُه (2)، وأَن يتحرَّى مَا
_________
=فقد أخرجه ابن أبي الدنيا في "مكارم الأخلاق" (266)، وأبو نعيم في "المعرفة" (2/ 50/ب)، والبيهقي في "الشعب" (1533)، ثلاثتهم من طريق مسلم بن إبراهيم، عن الحسن بن أبي جعفر، عن أبي جعفر الأنصاري، عن الحارث بن الفضل ـ أو ابن الفضيل ـ، عن عبد الرحمن بن أبي قراد، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم توضأ يوماً ... ، فذكره بنحوه.
والحسن بن أبي جعفر الجُفْري ضعيف الحديث مع عبادته وفضله كما في "التقريب" (1232).
وخالفه يحيى بن أبي عطاء، فرواه عن أبي جعفر ـ واسمه عمير بن يزيد الخطمي ـ، عن عبد الرحمن بن الحارث، عن أبي قراد ... ، فذكره.
أخرجه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (1397)، والطبراني في "الأوسط" (6517)، وأبو نعيم في الموضع السابق، جميعهم من طريق عبيد بن واقد القيسي، عن يحيى بن أبي عطاء.
فالمخالفة هنا وقعت في أمرين:
1 ـ في تسمية الصحابي أبا قراد بدل عبد الرحمن بن أبي قراد.
2 ـ وفي تسمية الراوي عنه عبد الرحمن بن الحارث بدل الحارث بن فضيل.
وهذه الطريق أضعف من سابقتها؛ فيحيى بن أبي عطاء مجهول كما في "الميزان" (9588).
والراوي عنه عبيد بن واقد القيسي ضعيف كما في "التقريب" (4431).
وقد حسن الشيخ الألباني الحديث بمجموع هذه الطرق في الموضع السابق من "الصحيحة"، وعندي فيه توقف، والله أعلم.
(1) قوله: "لهم" ليس في (خ) و (م) و (ت).
(2) علق رشيد رضا رحمه الله على هذا الموضع بقوله: "قد يقال: إن هذا يدل على الإنكار وكراهة النبي صلّى الله عليه وسلّم لهذا الفعل، ويؤيده: ما ثبت من مجموع سيرته؛ من كراهة الغلوّ فيه، وإطرائه، وحبه التواضع، ومساواة الناس بنفسه في المعاملات كلها، إلا ما=(2/307)
هو الآكَدُ والأَحْرَى (1) من وظائف التكليف، وما يَلْزَمُ (2) الإِنسان فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ، وَلَمْ يَثْبُتْ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ إِلا مَا كَانَ مِنْ قَبِيلِ الرُّقْية وَمَا يَتْبَعُهَا، أَو دُعَاءِ الرَّجُلِ لِغَيْرِهِ عَلَى وجهٍ سيأْتي بِحَوْلِ اللَّهِ.
فَقَدْ صَارَتِ المسأَلة مَنْ أَصلها دَائِرَةً بَيْنَ أَمرين: أَن تَكُونَ مَشْرُوعَةً، وأَن تَكُونَ بِدْعَةً (3)، فَدَخَلَتْ تحت حكم المتشابه، والله أَعلم.
_________
=خصّه الله به، حتى إنه طلب أن يقتصّ منه مَنْ لعلّه آذاه ـ وهو القائد والمربّي الذي جعله الله أولى بالمؤمنين من أنفسهم ـ، ولم يعرف من الأحوال التي تبرّكوا فيها بفضل وضوئه وببصاقه إلا يوم الحديبية. وظهر له يومئذٍ حكمة؛ فإن مندوب المشركين في صلح الحديبية لما حدثهم بما رأى من ذلك؛ هابوا النبي صلّى الله عليه وسلّم، وخافوا قتال المسلمين، فلعلّ المسلمين قصدوا هذا لهذا". اهـ.
(1) في (غ) و (ر): "الآكد الأحرى".
(2) في (خ) و (م): "ولا يلزم" ـ وكذا كانت في (ت)، ثم صوبت في الهامش هكذا: "مما يلزم".
(3) قوله: "وأن تكون بدعة" سقط من (خ) و (ت)، ولأجله علق رشيد رضا في نهاية الفصل بقوله: ينظر أين الأمر الثاني؟ ولعل الساقط: "أو تكون غير مشروعة".اهـ.(2/308)
فَصْلٌ
وَمِنَ الْبِدَعِ الإِضافية الَّتِي تَقْرُبُ مِنَ الْحَقِيقِيَّةِ (1): أَن يَكُونَ أَصل الْعِبَادَةِ مَشْرُوعًا، إِلا أَنها تُخْرَج عَنْ أَصل شَرْعِيَّتِهَا بِغَيْرِ دَلِيلٍ، توهُّماً أَنها بَاقِيَةٌ عَلَى أَصلها تَحْتَ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ، وَذَلِكَ بأَن يُقَيَّد إِطلاقها بالرأْي، أَو يُطْلَق تقييدُها، وَبِالْجُمْلَةِ فَتَخْرُجُ عَنْ حَدِّها الَّذِي حُدَّ لَهَا.
وَمِثَالُ ذَلِكَ أَن يُقَالَ: إِن الصَّوْمَ فِي الْجُمْلَةِ مَنْدُوبٌ إِليه لَمْ يخصَّه الشَّارِعُ (2) بِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، وَلَا حَدَّ فِيهِ زَمَانًا (3) دُونَ زَمَانٍ، مَا عَدَّا مَا نُهي عن صيامه على الخصوص كالعيدين (4)، أو نُدِب (5) إِليه على الخصوص كعرفة وعاشوراء (6). يقول (7): فأنا أخصّ (8) مِنْهُ يَوْمًا مِنَ الْجُمْعَةِ (9) بِعَيْنِهِ، أَو أَياماً مِنَ الشَّهْرِ بأَعيانها، لَا مِنْ جِهَةِ مَا عيَّنه الشارع، فإِن ذلك ظاهر، بل (10) مِنْ جِهَةِ اخْتِيَارِ المُكَلّف؛ كَيَوْمِ الأَربعاء مَثَلًا فِي الْجُمْعَةِ، وَالسَّابِعِ وَالثَّامِنِ فِي الشَّهْرِ، وَمَا أَشبه ذَلِكَ، بِحَيْثُ لَا يَقْصِدُ بِذَلِكَ وَجْهًا بعينه مما يقصده العاقل؛ كفراغه في ذلك الوقت من الأشغال المانعة من الصوم، أَو تَحَرِّي أَيام النشاط والقوة، بل يُصَمِّم على تلك
_________
(1) في (خ): "الحقيقة".
(2) في (ر) و (غ): "الشرع".
(3) في (خ) و (م): "زمان".
(4) ورد النهي في عدة أحاديث، منها: ما أخرجه البخاري (1993)، ومسلم (1138)، كلاهما مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام يومين: يوم الأضحى ويوم الفطر.
(5) في (خ) و (م) و (ت): "وندب".
(6) تقدم ما ورد في فضل عرفة وعاشوراء (ص27).
(7) قوله: "يقول" سقط من (ت)
(8) في (خ) و (ت): "فإذا خص".
(9) الجمعة هنا بمعنى الأسبوع.
(10) في (خ) و (ت): "بأنه" بدل "بل".(2/309)
الأَيام تصميماً (1) لَا يَنْثَنِي عَنْهُ. فإِذا قِيلَ لَهُ: لِمَ خَصَّصَتْ تِلْكَ الأَيام دُونَ غَيْرِهَا؟ لَمْ يَكُنْ لَهُ بِذَلِكَ حُجَّةٌ غَيْرَ التَّصْمِيمِ، أَو يَقُولُ: إِن الشَّيْخَ الْفُلَانِيَّ مَاتَ فِيهِ، أَو مَا أَشبه ذَلِكَ. فَلَا شَكَّ أَنه رَأْيٌ مَحْضٌ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، ضَاهَى بِهِ تَخْصِيصَ الشَّارِعِ أَياماً بأَعيانها (2) دون غيرها، فصار ذلك (3) التَّخْصِيصُ مِنَ المُكَلَّف بِدْعَةً؛ إِذ هِيَ تَشْرِيعٌ بِغَيْرِ مُسْتَنَدٍ.
وَمِنْ ذَلِكَ تَخْصِيصُ الأَيام الْفَاضِلَةِ بأَنواع مِنَ الْعِبَادَاتِ الَّتِي لَمْ تُشْرَعْ لَهَا تَخْصِيصًا؛ كَتَخْصِيصِ الْيَوْمِ الْفُلَانِيِّ بِكَذَا وَكَذَا مِنَ الرَّكَعَاتِ، أَو بِصَدَقَةِ كَذَا وَكَذَا، أَو اللَّيْلَةِ الْفُلَانِيَّةِ بِقِيَامِ كَذَا وَكَذَا رَكْعَةٍ، أَو بِخَتْمِ الْقُرْآنِ فِيهَا، أَو مَا أَشبه ذَلِكَ (4)، فإِن ذَلِكَ التَّخْصِيصَ وَالْعَمَلَ بِهِ إِذا لَمْ يَكُنْ بِحُكْمِ الْوِفَاقِ، أَو بقصدٍ يَقْصِدُ مِثْلَهُ أَهلُ العقل؛ كالفراغ (5) وَالنَّشَاطِ، كَانَ تَشْرِيعًا زَائِدًا.
وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي أَن يَقُولَ: إِن هَذَا الزَّمَانَ (6) ثَبَتَ فَضْلُهُ عَلَى غَيْرِهِ، فَيَحْسُنُ فِيهِ إِيقاع الْعِبَادَاتِ؛ لأَنا نَقُولُ: هَذَا الحُسن هَلْ ثَبَتَ لَهُ أَصل أَم لا؟ فإِن ثبت فليست مسأَلتنا (7)؛ كَمَا ثَبَتَ الْفَضْلُ فِي قِيَامِ لَيَالِي رَمَضَانَ (8)، وَصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيام مِنْ كُلِّ شَهْرٍ (9)، وَصِيَامِ الإثنين (10)
_________
(1) من قوله: "يقصده العاقل" إلى هنا سقط من (خ) و (م) و (ت).
(2) في (ت): "بعينها".
(3) قوله: "ذلك" من (غ) و (ر) فقط.
(4) قوله: "ذلك" سقط من (ر). وعلق رشيد رضا رحمه الله على هذا الموضع بقوله: "ومنه: صلاة الرغائب، وصلاة ليلة النصف من شعبان. ومنه: تخصيص أيام معينة لزيارة القبور والصدقة عندها؛ كأول جمعة من رجب، كل ذلك من البدع والتشريع الذي لم يأذن به الله. وقد يتصل بالبدعة الواحدة بدع ومعاصٍ أخرى توجب تركها ـ ولو لم تكن بدعة ـ؛ لسدّ ذريعة هذه المفاسد". اهـ.
(5) في (خ) و (ت): "والفراغ".
(6) في (ر) و (غ): "القرآن" بدل "الزمان".
(7) في (خ) و (م) و (ت): "فإن ثبت فمسئلتنا"، وعلق رشيد رضا بقوله: "أي: فهو مسألتنا".اهـ.
(8) أخرج البخاري (2008)، ومسلم (759) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه".
(9) أخرج البخاري (1981)، ومسلم (721) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: أوصاني خليلي صلّى الله عليه وسلّم بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام.
(10) أخرج مسلم (1162) من حديث أبي قتادة: أنه صلّى الله عليه وسلّم سئل عن صوم يوم الإثنين، قال: "ذاك يوم ولدت فيه، ويوم بعثت ـ أو أنزل عليَّ ـ فيه"، وانظر التعليق الآتي.(2/310)
والخميس (1)، وإِن (2) لَمْ يَثْبُتْ فَمَا مُسْتَنَدُكَ فِيهِ وَالْعَقْلُ لَا يُحَسِّنُ وَلَا يُقَبِّحُ، وَلَا شَرْعَ يُسْتَنَدُ إِليه؟ فَلَمْ يَبْقَ إِلا أَنه ابْتِدَاعٌ فِي التَّخْصِيصِ؛ كإِحداث الْخُطَبِ، وتحرِّي خَتْمِ الْقُرْآنِ فِي بَعْضِ لَيَالِي رَمَضَانَ.
وَمِنْ ذَلِكَ: التحدُّث مَعَ الْعَوَامِّ بِمَا لَا تَفْهَمُهُ وَلَا تَعْقِلُ مَغْزاه (3)، فإِنه مِنْ بَابِ وَضْعِ الْحِكْمَةِ غَيْرَ مَوْضِعِهَا، فَسَامِعُهَا إِما أَن يَفْهَمَهَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا ـ وَهُوَ الغالب ـ، وذلك (4) فتنة تؤدي إِلى التكذيب بالحق، أَو إِلى (5) العمل بالباطل. وإِما أَن لَا يَفْهَمُ مِنْهَا شَيْئًا، وَهُوَ أَسلم، وَلَكِنَّ المُحَدِّث لَمْ يُعْطِ الْحِكْمَةَ حَقَّها مِنَ الصَّوْن، بل صار في التحدُّث بها كالعابث بنعمة الله.
_________
(1) وردت عدة أحاديث في فضل صيام الإثنين والخميس، ذكرها الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله في "إرواء الغليل" (948 و949)، وصحح الحديث بمجموعها، ومنها:
حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه الذي أخرجه الإمام أحمد (5/ 201)، والنسائي (2358)، وفيه: قلت: يا رسول الله! إنك تصوم حتى لا تكاد تفطر، وتفطر حتى لا تكاد أن تصوم، إلا يومين، إن دخلا في صيامك وإلا صمتهما! قال: "أي يومين"؟ قلت: يوم الإثنين ويوم الخميس، قال: "ذانك يومان تعرض فيهما الأعمال على رب العالمين، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم".
وقد روياه من طريق عبد الرحمن بن مهدي، عن ثابت بن قيس، عن أبي سعيد المقبري، عن أسامة، به.
وثابت بن قيس هذا هو الغفاري، أبو الغصن المدني، وهو صدوق يهم كما في "التقريب" (836)، وقد حسن حديثه هذا الشيخ الألباني في الموضع السابق، كما حسنه قبله المنذري في "مختصر السنن" (3/ 320).
وقد توبع ثابت؛ فأخرجه أبو داود (2428) من طريق مولى قدامة بن مظعون، عن مولى أسامة، عن أسامة. ومولى قدامة ومولى أسامة كلاهما مجهول. انظر "تهذيب الكمال" (35/ 97).
وأخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" (2119) من طريق أبي بكر بن عياش، عن عمر بن محمد، عن شرحبيل بن سعد، عن أسامة، به.
وشرحبيل بن سعد المدني صدوق اختلط بآخره كما في "التقريب" (2779)،
فالحديث حسن بمجموع هذه الطرق، ويتقوى بالطرق الأخرى على ما فيها من ضعف.
(2) في (خ) و (م) و (ت): "فإن".
(3) في (خ) و (ت): "معناه".
(4) في (خ) و (م): "وهو".
(5) في (خ): "وإلى".(2/311)
ثُمَّ إِنْ أَلقاها (1) لِمَنْ لَا يَعْقِلُهَا (2) فِي معرض الانتفاع بها (3) بَعْدَ تعقُّلها؛ كَانَ مِنْ بَابِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ، وَقَدْ جاءَ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ.
فَخَرَّجَ أَبو دَاوُدَ (4) حَدِيثًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلّم: أَنه نهى عن الغَلُوطات (5). قَالُوا: وَهِيَ صِعَابُ (6) الْمَسَائِلِ، أَو شِرَارُ الْمَسَائِلِ.
وَفِي التِّرْمِذِيِّ ـ أَو غَيْرِهِ (7) ـ: أَن رَجُلًا أَتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا
_________
(1) في (غ) و (ر): "إلقاءها".
(2) في (ر) و (غ): "لمن يعقلها".
(3) قوله: "بها" ليس في (خ) و (م) و (ت).
(4) في "سننه" (3648) من طريق عيسى بن يونس، عن الأوزاعي، عن عبد الله بن سعد، عن الصُّنَابِجي، عن معاوية؛ أن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الغلوطات.
وأخرجه الإمام أحمد (5/ 435)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (5/ 106)، والفسوي في "المعرفة" (1/ 305)، والطبراني في "الكبير" (19/ 380 رقم 892)، وفي "الأوسط" (8/ 137 رقم 8204)، جميعهم من طريق عيسى بن يونس، به.
زاد بعضهم عن الأوزاعي قوله: "الغلوطات: صعاب المسائل وشدادها". وأخرجه سعيد بن منصور في "سننه" بتحقيق الأعظمي (1179) عن عيسى بن يونس، به، إلا أنه لم يسمّ معاوية رضي الله عنه، وإنما قال: "عن رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم".
ثم قال سعيد: "هذا عن معاوية، ولكنه لم يسمِّه".
وكذا رواه الإمام أحمد في الموضع السابق من "مسنده"، والحارث في "مسنده" (62/ بغية الباحث)، كلاهما من طريق روح، عن الأوزاعي.
ومدار الحديث على عبد الله بن سعد بن فروة البجلي وهو مجهول كما قال أبو حاتم. وقال دُحَيم: لا أعرفه. وقال الساجي: ضعفه أهل الشام في الحديث. وذكره ابن حبان في "الثقات" وقال: يخطئ. اهـ من "تهذيب الكمال" (5/ 20)، و"تهذيب التهذيب" (2/ 344). ومع ذلك ففي الحديث اختلاف على الأوزاعي أشار إليه الدارقطني في "العلل" (7/ 67)، ورجح رواية عيسى بن يونس.
ومنه يتبيّن أن الحديث ضعيف، وضعفه الشيخ الألباني رحمه الله في "ضعيف الجامع" (6035).
(5) في (ت): "الأغلوطات".
(6) في (خ): "صفات". وعلق عليه رشيد رضا رحمه الله بقوله: في نسختنا: "صفات"، وهو غلط، والغلوطات جمع غلوطة ـ بالفتح ـ؛ قيل: هي غلوط؛ من الغلط؛ كحلوب، أو ركوب، جعلت أسماء، فألحقت بها التاء؛ كحلوبة، وركوبة. وقيل: أصلها: أغلوطة، حذفت همزاتها المضمومة للتخفيف. والأغلوطة: ما يغلط فيه، وما يغلط به من المسائل الصعاب. اهـ.
(7) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (1/ 24)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم"=(2/312)
رَسُولَ اللَّهِ! أَتيتك لتعلِّمني مِنْ غَرَائِبِ الْعِلْمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (1) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا صَنَعْتَ فِي رأْس الْعِلْمِ؟ " قَالَ: وَمَا رأْس الْعِلْمِ؟ قَالَ: "هَلْ عَرَفْتَ الرَّبَّ؟ " قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: "فَمَا صَنَعْتَ فِي حَقِّهِ؟ " قَالَ: مَا شاءَ اللَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اذْهَبْ فأَحكم مَا هُنَالِكَ، ثُمَّ تَعَالَ أُعَلِّمْكَ مِنْ غَرَائِبِ الْعِلْمِ".
وَهَذَا المعنى هو مقتضى الحكمة: أَلاّ تعلَّم (2) الْغَرَائِبُ إِلا بَعْدَ إِحكام الأُصول، وإِلا دَخَلَتِ الْفِتْنَةُ. وَقَدْ قَالُوا فِي الْعَالِمِ الرَّبَّانِيِّ: إِنه الَّذِي يُرَبِّي بِصِغَارِ الْعِلْمِ قَبْلَ كِبَارِهِ (3).
وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ شَاهِدُهَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مَشْهُورٌ. وَقَدْ تَرْجَمَ عَلَى ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ (4)، فَقَالَ: "بَابُ مَنْ خَصَّ بِالْعِلْمِ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ كَرَاهِيَةَ (5) أَن لَا يَفْهَمُوا"، ثُمَّ أَسند (6) عَنْ عليِّ بْنِ أَبي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنه قَالَ: "حَدِّثوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، أَتُحبّون أَن يُكَذَّب اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟ " (7)، ثُمَّ ذَكَرَ (8) حَدِيثَ مُعَاذٍ الَّذِي أَخبر بِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ تأَثُّماً، وإِنما لَمْ يَذْكُرْهُ إِلا عِنْدَ مَوْتِهِ؛ لأَن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يأْذن لَهُ فِي ذَلِكَ لِمَا خَشِيَ مِنْ تَنْزِيلِهِ غَيْرَ منزلته، وعلّمه معاذاً لأنه من أَهله.
_________
= (1/ 691)، كلاهما من طريق خالد بن أبي كريمة، عن عبد الله بن المسور: إن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلّم ... ، فذكره هكذا معضلاً؛ فإن عبد الله بن المسور بن عون الهاشمي إنما يروي عن التابعين، ومع ذلك فقد رماه جمع من أهل العلم بالكذب ووضع الحديث كما في "لسان الميزان" (4/ 358 ـ 359).
(1) قوله: "رسول الله" ليس في (خ) و (م) و (ت).
(2) في (خ) و (م): "لا تعلم"، وفي (ت): "فلا تعلم".
(3) علق هذا القول البخاري في "صحيحه" (1/ 160) في كتاب العلم، باب العلم قبل القول والعمل.
(4) في كتاب العلم من "صحيحه" (1/ 225).
(5) في (غ) و (ر): "كراهة".
(6) برقم (127).
(7) علق رشيد رضا هنا بقوله: حديث علي هذا أورده البخاري موقوفاً عليه. ورواه الديلمي في "مسند الفردوس" عنه مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. و"يعرفون" في الحديث: ضدّ ينكرون، لا ضد يجهلون؛ أي: حدثوهم بما تصل عقولهم إلى فهمه دون ما يعزّ عليها فتعدّه منكراً ومحالاً، فهو بمعنى حديث ابن مسعود الذي يذكر بعده عن مسلم. اهـ.
(8) برقم (128).(2/313)
وفي مسلم (1) موقوفاً (2) على (3) ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "مَا أَنت بمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً".
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ (4): وَذَلِكَ أَن يتأَوَّلوه غَيْرَ تأْويله، وَيَحْمِلُوهُ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهِ.
وَخَرَّجَ شُعْبَة (5) عَنْ كَثِيرِ بْنِ مُرَّةَ الْحَضْرَمِيِّ أَنه قَالَ: إِن عَلَيْكَ فِي عِلْمِكَ حَقًّا، كَمَا أَن عَلَيْكَ فِي مَالِكِ حَقًّا، لَا تحدِّث بِالْعِلْمِ غَيْرَ أَهله فَتَجْهَلُ، وَلَا تَمْنَعِ الْعِلْمَ أَهله فتأْثم، وَلَا تحدِّث بِالْحِكْمَةِ عِنْدَ السفهاءِ فيكذِّبوك (6)، وَلَا تحدِّث بِالْبَاطِلِ عِنْدَ الحكماءِ فَيَمْقَتُوكَ.
وَقَدْ ذَكَرَ العلماءُ هَذَا الْمَعْنَى فِي كُتُبِهِمْ وَبَسَطُوهُ بَسْطًا شَافِيًا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وإِنما نبَّهنا عَلَيْهِ لأَن كَثِيرًا مِمَّنْ لَا يَقْدُر قدرَ هَذَا الْمَوْضِعِ يَزِلّ فِيهِ، فيحدِّث النَّاسَ بِمَا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ، وَهُوَ عَلَى خِلَافِ الشَّرْعِ وَمَا كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُ هَذِهِ الأُمة.
وَمِنْ ذَلِكَ أَيضاً: جَمِيعُ مَا تقدم في فصل: السُّنَّةِ الَّتِي يَكُونُ الْعَمَلُ بِهَا ذَرِيعَةً إِلى البدعة (7)؛ من حيث إِنها أَنواع (8) عُمِلَ بها لم (9) يعمل
_________
(1) في مقدمة "صحيحه" (1/ 11).
(2) في (خ): "مرفوعاً".
(3) في (خ) و (ت) و (م): "عن" بدل "على".
(4) لم أجده.
(5) كذا في (ت)، ويشبه أن تكون هكذا في (خ) "أيضاً"، وفي (م): "سقية"، وفي (غ) و (ر): "شقبة"، وفي ظَني أنها متصحفة إما عن "سعيد" وهو ابن منصور الذي يخرج المصنف عنه كثيراً، أو عن "سنيد"، ـ وهو لقب لحسين بن داود ـ، وهذا أخرج الحديث من طريقه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (708)، عن عيسى بن يونس، عن حريز بن عثمان، عن سليمان بن سمير، عن كثير بن مرة، به. وأخرجه الإمام أحمد في "الزهد" (ص462)، والدارمي في "مقدمة السنن" (1/ 105)، والرامهرمزي في "المحدث الفاصل" (ص575)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (1630/ ط السلفية)، وفي "المدخل" (618)، والخطيب في "الجامع" (754 و782)، جميعهم من طريق حريز بن عثمان، عن سلمان ـ أو سليمان ـ بن سمير، عن كثير، به.
وسلمان ـ أو سليمان ـ بن سُمَير الألهاني، الشامي مقبول كما في "التقريب" (2488).
(6) في (ت) و (م): "فيكذبونك".
(7) انظر (ص229).
(8) قوله: "أنواع" سقط من (خ) و (م) و (ت).
(9) في (ت) و (خ): "ولم".(2/314)
بِهَا (1) سَلَفُ هَذِهِ (2) الأُمة.
وَمِنْهُ: تَكْرَارُ السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ فِي التِّلَاوَةِ أَو فِي الرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ، فإِن التِّلَاوَةَ لَمْ تُشْرَعْ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ، وَلَا أَن يُخَصَّ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْءٌ (3) دُونَ شيءٍ، لَا فِي صَلَاةٍ وَلَا فِي غَيْرِهَا، فَصَارَ المخصِّص لَهَا عَامِلًا برأْيه فِي التعُّبد لِلَّهِ.
وَخَرَّجَ ابْنُ وَضَّاحٍ (4) عَنْ مُصْعَبٍ قَالَ: سُئِل سُفْيَانُ عَنْ رَجُلٍ يُكْثِرُ قراءَة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ *}، لَا يقرأُ غَيْرَهَا كَمَا يَقْرَؤُهَا، فَكَرِهَهُ وَقَالَ: إِنما أَنتم مُتَّبِعُونَ، فَاتَّبِعُوا الأَوّلين، وَلَمْ يَبْلُغْنَا عَنْهُمْ نَحْوُ هَذَا، وإِنما أُنزل الْقُرْآنُ ليُقرأ وَلَا يُخَصّ شَيْءٌ دُونَ شَيْءٍ.
وَخَرَّجَ أَيضاً (5) ـ وَهُوَ فِي "العتبيَّة" (6) مِنْ سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ ـ عن مالك رحمه الله: أَنه سُئِل عن قراءَة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ *} مراراً في ركعة واحدة (7)، فَكَرِهَ ذَلِكَ، وَقَالَ: هَذَا مِنْ مُحْدَثَاتِ الأُمور الَّتِي أَحدثوا.
وَمَحْمَلُ هَذَا عِنْدَ ابْنِ رُشْدٍ (8) مِنْ بَابِ الذَّرِيعة، ولأَجل ذَلِكَ لَمْ يأْت مِثْلُهُ عَنِ السَّلَفِ (9)، وإِن كَانَتْ تَعْدِلُ ثُلُثَ القرآن؛ كما في "الصحيح" (10)، وهو صحيح من التأويل (11)، فتأَمله في الشرح (12).
_________
(1) قوله: "بها" سقط من (م)، وفي موضعه علامة لحق، ولم يظهر في التصوير.
(2) قوله: "هذه" ليس في (غ) و (ر).
(3) في (خ) و (ت) و (م): "شيئاً".
(4) في "البدع والنهي عنها" (108) من طريق شيخه محمد بن عمرو الغزي، عن مصعب، به. وأعله المحقق بالانقطاع بين محمد بن عمرو الغزي ومصعب ـ وهو إما ابن ماهان، أو ابن المقدام ـ؛ فإنه لم يدرك أيًّا منهما.
(5) أي ابن وضاح برقم (109) بسند صحيح عن مالك.
(6) كما في شرحها: "البيان والتحصيل" لابن رشد (1/ 371).
(7) في (خ) و (ت) و (م): "الركعة الواحدة".
(8) في الموضع السابق من "البيان والتحصيل".
(9) في (غ): "السبب" بدل "السلف".
(10) أي: "صحيح البخاري" (5013) من حديث أبي سعيد، ومسلم (811 و812) من حديث أبي الدرداء وأبي هريرة.
(11) قوله: "من التأويل" ليس في (خ) و (ت) و (م).
(12) أي: "البيان والتحصيل" شرح "العتبيّة".(2/315)
وَفِي الْحَدِيثِ أَيضاً مَا يُشْعِرُ بأَن التَّكْرَارَ كَذَلِكَ عَمَلٌ مُحْدث فِي مَشْرُوعِ الأَصل بِنَاءً عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ رُشْدٍ فِيهِ.
وَمِنْ ذلك قراءَة القرآن بهيئة الاجتماع، وكذلك الِاجْتِمَاعِ (1) عشيَّة عَرَفَةَ فِي الْمَسْجِدِ للدعاءِ؛ تشبُّهاً بأَهل عَرَفة (2)، ونقل الأَذان يوم الجمة مِنَ الْمَنَارِ وَجَعْلُهُ قُدَّامَ الإِمام.
فَفِي سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ (3): وَسُئِلَ (4) عَنِ القُرى الَّتِي لَا يَكُونُ فِيهَا إِمام إِذا صَلَّى بِهِمْ رَجُلٌ مِنْهُمُ الْجُمْعَةَ: أَيخطب بِهِمْ؟ قَالَ: نَعَمْ! لَا تَكُونُ الْجُمْعَةُ إِلا بِخِطْبَةٍ. فَقِيلَ لَهُ: أَفيؤذِّن قُدَّامه؟ قَالَ: لَا، وَاحْتَجَّ عَلَى ذَلِكَ بِفِعْلِ أَهل الْمَدِينَةِ.
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ (5): الأَذان بَيْنَ يَدَيِ الإِمام فِي الْجُمْعَةِ مَكْرُوهٌ؛ لأَنه مُحْدَثٌ. قَالَ: وأَول مَنْ أَحدثه هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، وإِنما كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذا زَالَتِ (6) الشَّمْسُ وَخَرَجَ؛ رَقَى الْمِنْبَرَ، فإِذا رَآهُ الْمُؤَذِّنُونُ ـ وَكَانُوا ثَلَاثَةً ـ قَامُوا فأَذّنوا في المَشْرُبَة (7) واحداً بعد واحد كما يؤذِّنون (8) فِي غَيْرِ الْجُمْعَةِ، فإِذا فَرَغُوا أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُطْبَتِهِ (9).
_________
(1) قوله: "وكذلك الاجتماع" سقط من (ت) و (خ) و (م).
(2) انظر ما تقدم (ص275 و278)، وما سيأتي (ص355)، وعلق رشيد رضا هنا بقوله: ومثله بالأَوْلى: ما استُحدث بعدُ من الاجتماع لقراءة الختمات والتهاليل والموالد ونحو ذلك في أيام مخصوصة، أو عند حدوث حوادث مخصوصة، وقد صار بعض ذلك من شعائر الدين؛ تُرِكَ كثير من الفرائض والسنن، وحلّت هذه البدع محلّها. اهـ.
(3) أي: في "العتبية" كما في "البيان والتحصيل" (1/ 243).
(4) أي: الإمام مالك.
(5) في الموضع السابق من "البيان والتحصيل".
(6) قوله: "إذا زالت" مكرر في (غ).
(7) في (خ): "المشرفة" وكانت في (ت): "المشربة"، ثم صوبت في الهامش: "المشرفة"، وربما كان ذلك إشارة إلى أنه في نسخة. والمشرُبَة ـ بضمّ الراء، ويجوز فتحها ـ: هي الغرفة المرتفعة كما في "فتح الباري" (1/ 488).
(8) في (خ): "يؤذن".
(9) أخرج البخاري (913) من حديث السائب بن يزيد رضي الله عنه: أن الذي زاد التأذين=(2/316)
ثم تلاه على ذلك (1) أَبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فزاد عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ لَمَّا كَثُرَ النَّاسُ ـ أَذاناً بالزَّوْرَاءِ (2) عِنْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ، يُؤْذِنُ النَّاسُ فِيهِ بِذَلِكَ أَن الصَّلَاةَ قَدْ حَضَرَتْ، وتَرَكَ الأَذان في المَشْرُبَة (3) بَعْدَ جُلُوسِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، فَاسْتَمَرَّ الأَمر عَلَى ذَلِكَ إِلى زَمَانِ هشام بن عبد الملك (4)، فنقل الأَذان الذي كان بالزَّوْراءِ إِلى المَشْرُبَة (3)، ونقل الأَذان الذي كان بالمَشْرُبَة (3) بَيْنَ يَدَيْهِ، وأَمرهم أَن يؤذِّنوا صَفًّا (5). وَتَلَاهُ عَلَى ذَلِكَ مَنْ بَعْدِهِ مِنَ الخلفاءِ إِلى زَمَانِنَا هَذَا. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَهُوَ بِدْعَةٌ. قَالَ: وَالَّذِي فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والخلفاءُ الرَّاشِدُونَ بَعْدَهُ هُوَ السُّنَّةُ.
وذكر ابن حبيب ما كان من (6) فعله عليه السلام وفعل (7) الخلفاء
_________
=الثالث يوم الجمعة: عثمان بن عفان رضي الله عنه حين كثر أهل المدينة، ولم يكن للنبي صلّى الله عليه وسلّم مؤذِّن غير واحد، وكان التأذين يوم الجمعة حين يجلس الإمام؛ يعني على المنبر.
وعن قوله: "مؤذن واحد" قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (2/ 396): وعُرِفَ بهذا الرد على ما ذكر ابن حبيب: أنه صلّى الله عليه وسلّم كان إذا رقى المنبر وجلس أذّن المؤذنون ـ وكانوا ثلاثة ـ واحد بعد واحد، فإذا فرغ الثالث قام فخطب، فإنه دعوى تحتاج لدليل، ولم يرد ذلك صريحاً من طريق متصلة يثبت مثلها، ثم وجدته في "مختصر البويطي" عن الشافعي. اهـ.
كذا جاء في أصل "الفتح"، وعلق عليها بأن في مخطوطة الرياض: "المزني" بدل "البويطي"، وهو الصواب ـ فيما يظهر ـ؛ ففي "مختصر المزني" (ص27): أن الشافعي قال: "وحُكي في أداء الخطبة استواء النبي صلّى الله عليه وسلّم على الدرجة التي تلي المستراح قائماً، ثم سلّم وجلس على المستراح حتى فرغ المؤذنون ... " إلخ.
ولم يذكر الشافعي رحمه الله دليلاً على هذا، وحديث البخاري يردّ هذا القول، والله أعلم.
(1) قوله: "على ذلك" ليس في (خ) و (ت).
(2) أخرجه البخاري (912) عن السائب بن يزيد رضي الله عنه، وتقدم ذكر إحدى طرقه في التعليق قبل السابق.
والزَّوْراء: قيل: إنه حجر كبير عند باب المسجد، وقيل: هي دار في السوق يقال لها: الزوراء، انظر: "فتح الباري" (2/ 394).
(3) في (خ): "المشرفة".
(4) قوله: "بن عبد الملك" ليس في (خ) و (م) و (ت).
(5) كذا في جميع النسخ، والذي في "البيان والتحصيل": "أن يؤذنوا معاً"، ولعله أصوب.
(6) قوله: "من" سقط من (خ) و (م) و (ت).
(7) في (ت): "وفعله".(2/317)
بعده كما ذكره (1) ابْنُ رُشْدٍ ـ وكأَنه (2) نَقَلَهُ مِنْ كِتَابِهِ ـ، وَذَكَرَ قصة هشام، ثم قال: والذي كان مِنْ (3) فِعْلِ (4) رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم هو (5) السَّنَّةُ.
وَقَدْ حَدَّثَنِي أَسد بْنُ مُوسَى، عَنْ يَحْيَى بْنِ سُلَيْم، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ (6): أَن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ: "أَفضل الهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرُّ الأُمور مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ" (7).
وَمَا قَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ ـ مِنْ أَن (8) الْأَذَانَ عِنْدَ صُعُودِ الإِمام على المنبر كان باقياً في زمان عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ مُوَافِقٌ لِمَا نَقَلَهُ أَرْبَابُ النَّقْلِ الصَّحِيحِ، وأَن عُثْمَانَ لَمْ يَزِدْ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَهُ إِلَّا الْأَذَانَ عَلَى الزَّوْرَاءِ، فَصَارَ إِذاً نَقْلُ هِشَامٍ الأَذانَ المشروعَ فِي المَنَار إِلى مَا بَيْنَ يَدَيْهِ بِدْعَةٌ فِي ذَلِكَ الْمَشْرُوعِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَكَذَلِكَ أَذان الزَّوْراء مُحْدَث أَيضاً، بَلْ هُوَ مُحْدَثٌ مِنْ أَصله، غَيْرُ مَنْقُولٍ مِنْ مَوْضِعِهِ، فَالَّذِي يُقَالُ هُنَا يُقَالُ مِثْلُهُ فِي أَذان هِشَامٍ، بَلْ هو أَخفّ منه.
_________
(1) في (خ) و (ت) و (م): "ذكر".
(2) أي: ابن رشد.
(3) قوله: "من" سقط من (خ) و (م) و (ت).
(4) في (ت): "فعله".
(5) في (خ) و (م) و (ت): "هي".
(6) في (خ) و (م) و (ت): "جعفر بن محمد بن جابر بن عبيد الله".
(7) كذا جاءت رواية الحديث في جميع النسخ! وقد سقط من إسناده الواسطة بين جعفر بن محمد وجابر؛ وهو محمد بن علي بن الحسين والد جعفر.
فالحديث أخرجه ابن وضاح في "البدع والنهي عنها" (56) من طريق أسد بن موسى؛ قال: نا يحيى بن سليم الطائفي؛ قال: سمعت جعفر بن محمد يحدِّث عن أبيه، عن جابر بن عبد الله ... ، فذكره.
وأخرجه الدارمي في "سننه" (1/ 69)، من طريق محمد بن أحمد بن أبي خلف، عَنْ يَحْيَى بْنِ سُلَيْمٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ محمد، عن أبيه، عن جابر.
وأخرجه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 310) من طريق مصعب بن سلام عن جعفر، عن أبيه، عن جابر.
وكذا رواه مسلم في "صحيحه" (867) من طريق عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي وسليمان بن بلال وسفيان الثوري، ثلاثتهم عن جعفر، ولفظه: "خير الهدي" بدل "أفضل الهدي".
(8) قوله: "أن" ليس في (غ) و (ر).(2/318)
فَالْجَوَابُ: أَن أَذان الزَّوْراء وُضِعَ هُنَالِكَ عَلَى أَصله؛ مِنَ الإِعلام بِوَقْتِ الصَّلَاةِ، وَجَعَلَهُ بِذَلِكَ الْمَوْضِعِ؛ لأَنه لَمْ يَكُنْ ليُسْمَعَ إِذا وُضِع بِالْمَسْجِدِ كَمَا كَانَ فِي زمانِ مَنْ قَبْله، فَصَارَتْ كَائِنَةً أُخرى لَمْ تَكُنْ فِيمَا تَقَدَّمَ، فَاجْتَهَدَ لَهَا كَسَائِرِ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ. وَحِينَ كَانَ مَقْصُودَ الأَذان الإِعلام فَهُوَ باقٍ كَمَا كَانَ، فَلَيْسَ وَضْعُهُ هُنَالِكَ بمنافٍ؛ إِذ لَمْ تُخْتَرع فِيهِ أَقاويل مُحْدَثَةٌ، وَلَا ثَبْتَ أَن الأَذان بِالْمَنَارِ أَو فِي سَطْحِ الْمَسْجِدِ تَعَبُّد (1) غَيْرُ معقول المعنى، فهو من (2) المُلائم مِنْ أَقسام الْمُنَاسِبِ، بِخِلَافِ نَقْلِهِ (3) مِنَ (4) الْمَنَارِ إِلى مَا بَيْنَ يَدَيِ الإِمام، فإِنه قَدْ أُخرج بِذَلِكَ أَولاً عَنْ أَصله مِنَ الإِعلام؛ إِذ لَمْ يُشرع لأَهل الْمَسْجِدِ إِعلام بِالصَّلَاةِ إِلا بالإِقامة، وأَذان جَمْعِ الصَّلَاتَيْنِ مَوْقُوفٌ عَلَى محلِّه، ثُمَّ أَذانهم عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ زِيَادَةٌ فِي الْكَيْفِيَّةِ، فَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ وَاضِحٌ، وَلَا اعْتِرَاضَ بِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ.
وَمِنْ ذَلِكَ الأَذان والإِقامة فِي الْعِيدَيْنِ، فَقَدْ نَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ (5) اتِّفَاقَ الفقهاءِ عَلَى أَن لَا أَذان وَلَا إِقامة فِيهِمَا (6)، وَلَا فِي شيءٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ الْمَسْنُونَاتِ وَالنَّوَافِلِ، وإِنما الأَذان لِلْمَكْتُوبَاتِ، وَعَلَى هَذَا مَضَى عَمَلُ الخلفاءِ: أَبي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، وَجَمَاعَةِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَعُلَمَاءِ التَّابِعِينَ، وَفُقَهَاءِ الأَمصار. وأَول مَنْ أَحدث الأَذان والإِقامة فِي الْعِيدَيْنِ ـ فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ حَبِيبٍ ـ: هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ؛ أَراد أَن يُؤْذِنَ النَّاسَ بالأَذان بِمَجِيءِ (7) الإِمام، ثُمَّ بدأَ بِالْخُطْبَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ كَمَا بدأَ بِهَا مروان (8)،
_________
(1) قوله: "تعبد" ليس في (غ) و (ر).
(2) قوله: "من" ليس في (خ) و (م) و (ت).
(3) قوله: "بخلاف نقله" مكرر في (ت).
(4) في (غ) و (ر): "عن" بدل "من"، وفي (خ): "إلى"، وعلق عليها رشيد رضا بقوله: "لعل الأصل: من المنار". اهـ.
(5) في "الاستذكار" (7/ 12).
(6) ويدل عليه ما أخرجه مسلم في "صحيحه" (887) من حديث جابر رضي الله عنه قال: صليت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العيدين غير مرة ولا مرتين بغير أذان ولا إقامة.
(7) في (غ) و (ر): "لمجيء".
(8) كما في "صحيح البخاري" (956) و"صحيح مسلم" (889).(2/319)
ثُمَّ أَمر بالإِقامة بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الْخُطْبَةِ ليُؤْذِنَ الناسَ (1) بِفَرَاغِهِ مِنَ الْخُطْبَةِ (2) وَدُخُولِهِ فِي الصلاة لبعدهم عنه. قال: وذلك حين كثُر الناس فكان يخفى عليهم مجيء إمامهم وفراغه مِنَ الْخُطْبَةِ وَدُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ لِبُعْدِهِمْ عَنْهُ (3). قَالَ: وَلَمْ يَرِدْ مَرْوَانُ وَهِشَامٌ إِلَّا الِاجْتِهَادَ (4) فِيمَا رأَيا (5)، إِلا أَنه لَا يَجُوزُ اجْتِهَادٌ فِي خِلَافِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: وَقَدْ حَدَّثَنِي ابْنُ الماجِشُون: أَنه سَمِعَ مَالِكًا يَقُولُ: مِنْ أَحدث فِي هَذِهِ الأُمة شَيْئًا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سَلَفُهَا، فَقَدْ زَعَمَ أَن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَانَ الرِّسَالَةَ؛ لأَن اللَّهَ يَقُولُ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} (6)، فَمَا لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ دِينًا فَلَا يَكُونُ الْيَوْمَ دِينًا (7).
وَقَدْ رُوِيَ أَن الَّذِي أَحدث الأَذان معاوية (8) رضي الله عنه، وَقِيلَ: زِيَادٌ، وأَن ابْنَ الزُّبَيْرِ فَعَلَهُ آخِرَ إِمارته (9)، وَالنَّاسُ عَلَى خِلَافِ هَذَا النَّقْلِ.
وَلِقَائِلٍ أَن يَقُولَ: إِن الأَذان هَنَا نَظِيرُ أَذان الزَّوْراء لعثمان
_________
(1) في (غ) "ليؤذن الناس فيه".
(2) من قوله: "ليؤذن الناس" إلى هنا سقط من أصل (ر)، واستدرك في الهامش، ولم يتضح بأكمله في المصورة.
(3) من قوله: "قال وذلك حين كثر الناس" إلى هنا سقط من (خ) و (م) و (ت).
(4) المثبت من (غ) و (ر) و (ت)، وفي (خ) و (م): "ولم يرد مروان وهشام الاجتهاد"، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: "لعل الأصل: إلا الاجتهاد".اهـ.
(5) في (ر) و (غ): "رأياه".
(6) سورة المائدة: الآية (3).
(7) أخرجه ابن حزم في "إحكام الأحكام" (6/ 225) من طريق عبد الملك بن حبيب، به.
(8) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (5664)، وصحح إسناده الحافظ ابن حجر في "الفتح" (2/ 453).
(9) أخرج البخاري في "صحيحه" (959) من طريق هشام بن يوسف، عن ابن جريج؛ قال: أخبرني عطاء أن ابن عباس أرسل إلى ابن الزبير في أول ما بويع له: إنه لم يكن يؤذّن بالصلاة يوم الفطر، وإنما الخطبة بعد الصلاة.
وأخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (5662) من طريق يحيى بن سعيد القطان، عن ابن جريج، عن عطاء: أن ابن الزبير سأل ابن عباس، ـ قال: وكان الذي بينهما حسن ـ فقال: لا تؤذن ولا تقم، فلما ساء الذي بينهما أذّن وأقام.(2/320)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَمَا (1) تَقَدَّمَ فِيهِ مِنَ التَّوْجِيهِ الِاجْتِهَادِيِّ جارٍ هُنَا. وَلَا يَكُونُ بِسَبَبِ ذَلِكَ مُخَالِفًا للسُّنّة؛ لأَن قِصَّةَ هِشَامٍ نَازِلَةٌ لَا عَهْدَ بِهَا فِيمَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ الْأَذَانَ إِعلام بِمَجِيءِ الإِمام لِخَفَاءِ مَجِيئِهِ عَنِ النَّاسِ لِبُعْدِهِمْ عَنْهُ، ثُمَّ الإِقامة للإِعلام (2) بِالصَّلَاةِ، إِذ لَوْلَا هِيَ لَمْ يَعْرِفُوا دُخُولَهُ فِي الصَّلَاةِ، فَصَارَ ذَلِكَ أَمراً لَا بُدّ مِنْهُ كأَذان الزَّوْراء.
والجواب: أَن مجيء الإِمام لَمَّا (3) لم يشرع فيه أذان (4) ـ وإِن خَفِيَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ لِبُعْدِهِ بِكَثْرَةِ النَّاسِ ـ، فَكَذَلِكَ لَا يُشْرَعُ فِيمَا بَعْدُ؛ لأَن العلة كانت موجودة ثم لم يشرع (5)، إِذ لَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ العِلَّة غَيْرَ مُؤَثِّرَةٍ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ ثُمَّ تَصِيرُ مُؤَثِّرَةً.
وأَيضاً: فإِحداث الأَذان والإِقامة انْبَنَى عَلَى إِحداث تَقْدِيمِ الْخُطْبَةِ عَلَى الصَّلَاةِ، وَمَا انْبَنَى عَلَى المُحْدَث مُحْدَث.
ولأَنه لَمَّا لَمْ يُشْرَعْ فِي النَّوَافِلِ أَذان وَلَا إِقامة عَلَى حَالٍ؛ فَهِمْنَا مِنَ الشَّرْعِ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ النَّفْلِ وَالْفَرْضِ لِئَلَّا تَكُونَ (6) النَّوَافِلُ كَالْفَرَائِضِ فِي الدعاءِ إِليها، فَكَانَ إِحداث الدُّعَاءِ إِلَى النَّوَافِلِ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلًّا.
وَبِهَذِهِ الأَوجه الثَّلَاثَةِ يَحْصُلُ الْفَرْقُ بَيْنَ أَذان الزَّوْراء وَبَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ، فَلَا يَصِحُّ أَن يُقَاسَ أَحدهما عَلَى الْآخَرِ، والأَمثلة فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ.
وَمِنْ نَوَادِرِهَا الَّتِي لَا يَنْبَغِي (7) أَن تُغفل: مَا جَرَى بِهِ عَمَلُ جُمْلَةٍ مِمَّنْ يَنْتَمِي إِلَى طَرِيقَةِ (8) الصُّوفِيَّةِ؛ مِنْ تربُّصهم (9) ببعض العبادات أَوقاتاً معلومة (10) غَيْرَ مَا وقَّته الشَّرْعُ فِيهَا، فَيَضَعُونَ نَوْعًا من العبادات المشروعة
_________
(1) في (خ) و (ت) و (م): "فيما".
(2) قوله: "للإعلام" سقط من (غ) و (ر).
(3) قوله: "لما" سقط من (خ) و (ت).
(4) في (خ): "الأذان".
(5) في (خ) و (م) و (ت): "تشرع".
(6) في (خ) و (ت) و (م): "يكون".
(7) في (غ): "لا تنبغي".
(8) في (غ): "طريق".
(9) في (ر) و (غ): "بتربصهم" بدل "من تربصهم".
(10) في (خ) و (م): "معطوفة"، واجتهد رشيد رضا رحمه الله، فأثبتها: "مخصوصة"، والمثبت من (غ) و (ر) و (ت).(2/321)
فِي زَمَنِ (1) الرَّبِيعِ، وَنَوْعًا آخَرَ فِي زَمَنِ (1) الصَّيْفِ، وَنَوْعًا آخَرَ فِي زَمَنِ (1) الْخَرِيفِ، وَنَوْعًا آخَرَ فِي زَمَنِ (1) الشتاءِ.
وَرُبَّمَا وَضَعُوا لأَنواعٍ (2) مِنَ الْعِبَادَاتِ لِبَاسًا مَخْصُوصًا، وَطِيبًا مَخْصُوصًا (3)، وَأَشْبَاهُ ذلك من الأَوضاع الفلسفية، يضعونها شرعيَّة؛ أَي مُتَقرَّباً بِهَا إِلى الْحَضْرَةِ الإِلهية فِي زَعْمِهِمْ، وَرُبَّمَا وَضَعُوهَا عَلَى مَقَاصِدَ غَيْرِ شَرْعِيَّةٍ؛ كأَهل التَّصْرِيفِ بالأَذكار (4) وَالدَّعَوَاتِ لِيَسْتَجْلِبُوا بِهَا الدُّنْيَا مِنَ الْمَالِ والجَاهِ والحُظْوَة ورِفْعة الْمَنْزِلَةِ، بَلْ لِيَقْتُلُوا بِهَا إِن شَاؤُوا أَو يُمْرِضوا، أَو يَتَصَرَّفُوا وَفْقَ أَغراضهم، فَهَذِهِ كُلُّهَا بِدَعٌ مُحْدَثَاتٌ بَعْضُهَا أَشد مِنْ بَعْضٍ؛ لِبُعْدِ هَذِهِ الأغراض عن (5) مقاصد الشريعة الأُمِّيَّة (6) الْمَوْضُوعَةِ (7)، مُبَرَّأَة (8) عَنْ مَقَاصِدِ المتخرِّصين (9)، مُطَهَّرة لِمَنْ تمسَّك بِهَا عَنْ أَوْضَارِ اتِّبَاعِ الْهَوَى، إِذ كُلُّ مُتَدَيِّن (10) بِهَا، عَارِفٌ بِمَقَاصِدِهَا؛ ينزِّهها عَنْ أَمثال هَذِهِ الْمَقَاصِدِ الْوَاهِيَةِ. فَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى بُطْلَانِ دَعَاوِيهِمْ فِيهَا مِنْ بَابِ شُغْلِ الزَّمَانِ بِغَيْرِ مَا هُوَ أَولى. وَقَدْ تَقَرَّرَ ـ بِحَوْلِ اللَّهِ ـ فِي أَصْلِ الْمَقَاصِدِ مِنْ كِتَابِ "الْمُوَافَقَاتِ" (11) مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ حُكْمُ هَذَا النَّمَط وَالْبُرْهَانِ عَلَى بُطْلَانِهِ، لَكِنْ (12) عَلَى وَجْهٍ كُلِّيٍّ مُفِيدٍ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
وَهَذَا كُلُّهُ إِن فَرَضْنَا أَصل الْعِبَادَةِ مَشْرُوعًا، فإِن كَانَ أَصلها غَيْرَ مَشْرُوعٍ؛ فَهِيَ بِدْعَةٌ حَقِيقِيَّةٌ مُرَكَّبَةٌ؛ كالأَذكار وَالْأَدْعِيَةِ الَّتِي يَزْعُمُ (13)
_________
(1) في (غ): "زمان".
(2) في (خ) و (غ): "الأنواع".
(3) قوله: "وطيباً مخصوصاً" سقط من (خ).
(4) في (م): "بأذكار".
(5) في (ر) و (غ): "من".
(6) أثبتها رشيد رضا رحمه الله ـ اجتهاداً ـ: "الشريعة الإسلامية"، والنسخ كلها متفقه على ما هو مثبت.
(7) قوله: "الموضوعة" سقط من (ت).
(8) في (ت): "المبرأة".
(9) في (م) يشبه أن تكون: "المتحرضين".
(10) في (غ): "متزين".
(11) أطال المصنف رحمه الله في "الموافقات" في الكلام على المقاصد بقسميها: ما يتعلق بمراد الشارع، وما يتعلق بمراد المكلف، فانظره إن شئت (2/ 7) فما بعد.
(12) في (م): "لاكل".
(13) في (ت) و (خ) و (م): "والأدعية بزعم".(2/322)
أهلها أَنها مبنيَّة عَلَى عِلْمِ الْحُرُوفِ (1)، وَهُوَ الَّذِي اعْتَنَى بِهِ الْبَوْنِيُّ (2) وَغَيْرُهُ مِمَّنْ حَذَا حَذْوَه أَو قَارَبَهُ، فإِن ذَلِكَ الْعِلْمَ فَلْسَفَةٌ أَلطف من فلسفة معلِّمهم الأَوّل؛ وهو أَرُسْطَاطَالِيس (3)، فردّوها إِلى أَوضاع الحروف المعجمة (4)، وَجَعَلُوهَا هِيَ الْحَاكِمَةَ فِي الْعَالَمِ، وَرُبَّمَا أَشاروا عِنْدَ الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى تِلْكَ الأَذكار وَمَا قُصِدَ بِهَا إِلى تحرِّي الأَوقات والأَحوال الْمُلَائِمَةِ لِطَبَائِعِ الْكَوَاكِبِ؛ لِيَحْصُلَ التأْثير عِنْدَهُمْ وَحْيًا، فَحَكَّمُوا الْعُقُولَ والطبائع ـ كما ترى ـ، وتوجّهوا شطرها، وأَعرضوا
_________
(1) وهو المسمى: "علم السيمياء" الذي يزعمون فيه أن لحروف الهجاء أسراراً وخواص مركّبة ومفردة، والحق أنه من التنجيم، وداخل في ضروب السحر وإن قيل فيه ما قيل، وهو الذي يُعنى به المتصوِّفة الذين يجنحون إلى كشف حجاب الحسّ، ويرغبون في حصول الخوارق على أيديهم، فانظر ـ إن شئت ـ تعريفه بتوسع في "كشف الظنون" (1/ 413 و650)، وانظر كلام المصنف الآتي، والتعليق المتقدم برقم (4) (ص305).
(2) هو أبو العباس أحمد بن علي بن يوسف القرشي، البوني، المتوفى سنة (622هـ)، وقيل: سنة (630هـ)، صاحب كتاب "شمس المعارف ولطائف العوارف"، وكتاب "لطائف الإشارات في أسرار الحروف العلويات" و"أسرار الأدوار وتشكيل الأنوار في الطلسمات"، و"أسرار الحروف والكلمات"، و"إظهار الرموز وإبداء الكنوز"، و"تنزيل الأرواح في قوالب الأشباح"، و"رسالة الشهود في الحقائق على طريقة علم الحروف"، و"شرف التشكيليات الشكليات وأسرار الحروف العدديات"، وغيرها من الكتب كما في "كشف الظنون" (1/ 82 و83 و118 و494 و875)، و (2/ 1045 و1062 و1161 و1270 و1411 و1551 و1553 و1891).
وهذه الكتب تنبئك عن حاله الذي لا يُعرف إلا على سبيل الذم كما عند المصنف هنا، أو عند من غرق في التصوف فَعَدّ السحرة والدجالين شيوخاً عارفين كما في نقل المناوي عنه في مواطن متعددة من "فيض القدير"، وكما في المواضع المتقدمة من "كشف الظنون"، وإلا فالواجب على أهل الإسلام التحذير من كتب هذا الرجل، والتوجيه بإحراقها وإتلافها، فإنك أول ما تجد عند السحرة والدجالين في هذا الزمن كتاب "شمس المعارف" مع غيره من الكتب التي يأكل بها السحرة أموال الناس بالباطل، وكلها تحوم حول الحروف وأسرارها المكتومة زعموا، والتجربة؛ كما في "كشف الظنون" (2/ 1720) عند ذكره لكتاب "مطلع العزائم" للبوني هذا؛ قال: "استخرجه من السرّ المكتوم، وذكر فيه خواصّ غريبة، وتأثيرات مجرَّبة جرّبها بنفسه ... " إلخ.
(3) كذا في (خ) و (م)، وفي (ت): "أرسطاليس"، وفي (غ) و (ر): "أرطسوطاليس".
(4) قوله: "المعجمة" ليس في (خ) و (م) و (ت).(2/323)
عَنْ رَبِّ الْعَقْلِ وَالطَّبَائِعِ، وإِن ظَنُّوا أَنهم يَقْصِدُونَهُ اعْتِقَادًا (1) فِي اسْتِدْلَالِهِمْ لِصِحَّةِ مَا انْتَحَلُوا عَلَى وُقُوعِ الْأَمْرِ وَفْقَ مَا يَقْصِدُونَ. فإِذا تَوَجَّهُوا بِالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ (2) الْمَفْرُوضِ عَلَى الْغَرَضِ الْمَطْلُوبِ حصل، سواء عليهم أَنفعاً كان (3) أَم ضُرًّا، وَخَيْرًا كَانَ أَم شَرًّا، وَيَبْنُونَ عَلَى ذَلِكَ اعْتِقَادَ بُلُوغِ النِّهَايَةِ فِي إِجَابَةِ الدُّعَاءِ، أَو حصول (4) نَوْعٌ مِنْ كَرَامَاتِ الأَولياء، كَلَّا! لَيْسَ طَرِيقُ الحق (5) مِنْ مُرَادِهِمْ، وَلَا كَرَامَاتِ الأَولياء أَو إِجابة الدُّعَاءِ مِنْ نَتَائِجِ أَورادهم، فَلَا تَلَاقِي بَيْنَ الأَرض والسماءِ، وَلَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ النَّارِ والماءِ.
فإِن قُلْتَ: فَلِمَ يَحْصُلُ التأْثير حَسْبَمَا قَصَدُوا؟ فَالْجَوَابُ: أَن ذَلِكَ فِي الأَصل مِنْ قَبِيلِ الْفِتْنَةِ الَّتِي اقْتَضَاهَا فِي الْخَلْقِ: {ذَلِكَ} (6) {تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (7) فَالنَّظَرُ (8) إِلى وَضْعِ الأَسباب والمسبَّبات أَحكامٌ وَضَعَهَا الْبَارِي تَعَالَى فِي النُّفُوسِ يَظْهَرُ عِنْدَهَا مَا شاءَ اللَّهُ مِنَ التأْثيرات (9)، عَلَى نَحْوِ مَا
_________
(1) في (غ) و (ر): "اعتماداً".
(2) في (ت): "بالدعاء والذكر".
(3) قوله: "كان" سقط من (ت) و (خ) و (م).
(4) في (خ) و (م): "أو حصل"، وفي (ت): "ولو حصل".
(5) قوله: "الحق" سقط من (ت) و (خ) و (م) و (ت).
(6) قوله: "ذلك" ليس في (غ) و (ر).
(7) سورة فصلت: الآية (12).
(8) في (غ) و (ر): "وبالنظر".
(9) هذا من الأخطاء التي وقع فيها المصنف رحمه الله بسبب تأثره بمعتقد الأشاعرة في مسألة السبب والمسبَّب. وقد نبّه على هذا الأخ الفاضل الشيخ ناصر الفهد في كتابه "الإعلام بمخالفات الموافقات والاعتصام" (ص112 ـ 116)، ومن جملة ما قال: "وهذا الكلام كلام الأشاعرة ـ الذين اقتفوا آثار الجهمية في إنكار الأسباب ـ، فإنهم أنكروا أن يكون للأسباب أي تأثير على المسبَّبات، وقالوا: إنه ليس في النار قوة الإحراق، ولا في الماء قوة الإغراق، ولا في السِّكِّين قوة القطع. قالوا: ولكن الله يخلق المسببات عند وجود هذه الأسباب، لا بها. فعند وجود النار يخلق الله الإحراق، بلا تأثير من النار، وعند وجود السكِّين يخلق الله القطع بلا تأثير من السكّين، وهكذا. ويقولون: إن الله قد أجرى العادة بخلق المسببات عند وجود هذه الأسباب، وكل هذا طرداً لعقيدتهم في الجبر، وأنه لا فاعل إلا الله ... "، ثم أخذ في بيان الحق في هذه المسألة، فانظره إن شئت.(2/324)
يظهر على المعين (1) عند الإِصابة بالعين (2)، وَعَلَى الْمَسْحُورِ عِنْدَ عَمَلِ السِّحْرِ، بَلْ هُوَ بِالسِّحْرِ أَشبه؛ لِاسْتِمْدَادِهِمَا مِنْ أَصل وَاحِدٍ. وَشَاهِدُهُ: مَا جاءَ فِي الصَّحِيحِ ـ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ (3) ـ مِنْ حَدِيثِ أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِن اللَّهَ يَقُولُ: أَنا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وأَنا مَعَهُ إِذا دَعَانِي". وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ (4): "أَنا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ"، وَشَرْحُ هَذِهِ الْمَعَانِيَ لَا يَلِيقُ بِمَا نَحْنُ فِيهِ.
وَالْحَاصِلُ: أَن وَضْعَ الأَذكار وَالدَّعَوَاتِ عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ: مِنَ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَاتِ، لَكِنْ تَارَةً تَكُونُ الْبِدْعَةُ فِيهَا إِضافية؛ بِاعْتِبَارِ أَصل الْمَشْرُوعِيَّةِ، وَتَارَةً تَكُونُ حَقِيقِيَّةً (5).
_________
(1) في (ت) و (خ): "المعيون".
(2) قوله: "بالعين" من (غ) و (ر) فقط.
(3) في "صحيحه" (2675) وأخرجه البخاري أيضاً (7405 و7505)، وفي لفظه: "وأنا معه إذا ذكرني".
(4) أخرج هذه الرواية: الإمام أحمد في "المسند" (4/ 106)، وابن حبان في "صحيحه" (633 و634 / الإحسان)، والحاكم في "المستدرك" (4/ 240)، جميعهم من طريق هشام بن الغاز، عن حيّان أبي النضر، عن واثلة بن الأسقع، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه". وسنده صحيح.
حيان أبو النضر الأسدي وثقه ابن معين، وقال: أبو حاتم: صالح كما في "الجرح والتعديل" (3/ 244 ـ 245 رقم 1088).
وهشام بن الغاز بن ربيعة الجرشي، الدمشقي، نزيل بغداد: ثقة كما في "التقريب" (7355).
وأخرجه الإمام أحمد أيضاً (3/ 491) من طريق الوليد بن سليمان وسعيد بن عبد العزيز، كلاهما عن حيان أبي النضر، به.
(5) قوله: "وتارة تكون حقيقية" سقط من (خ) و (ت).(2/325)
فَصْلٌ
فإِن قِيلَ: فَالْبِدَعُ الإِضافية هَلْ يُعْتَدُّ بِهَا عباداتٍ حَتَّى تَكُونَ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ مُتَقَرَّباً بِهَا إِلى اللَّهِ تَعَالَى، أَم لَا تَكُونُ كَذَلِكَ؟
فإِن كَانَ الأَول فَلَا تأْثير إِذاً لِكَوْنِهَا بِدْعَةً، وَلَا فَائِدَةَ فِي ذِكْرِهِ، إِذ لَا يَخْلُو (1) مِنْ أَحد الأَمرين (2): إِما أَن لَا يُعتبر بِجِهَةِ الِابْتِدَاعِ فِي الْعِبَادَةِ الْمَفْرُوضَةِ، فَتَقَعُ مَشْرُوعَةً يُثَابُ عَلَيْهَا، فَتَصِيرُ جِهَةَ الِابْتِدَاعِ مُغْتَفِرَةً، فَلَا عَلَى الْمُبْتَدَعِ (3) فِيهَا أَن يَبْتَدِعَ. وإِما أَن يُعتبر بِجِهَةِ الِابْتِدَاعِ، فَقَدْ صَارَ لِلِابْتِدَاعِ أَثر فِي ترتُّب الثَّوَابِ، فَلَا يصح أَن يكون منهيّاً (4) عَنْهُ بإِطلاق، وَهُوَ خِلَافُ مَا تَقَرَّرَ مِنْ عُمُومِ الذَّمِّ فِيهِ. وإِن كَانَ الثَّانِي: فَقَدِ اتَّحَدَتْ البدعة الإِضافية مع الحقيقية؛ فالتقسيم (5) الَّذِي انْبَنَى عَلَيْهِ الْبَابُ الَّذِي نَحْنُ فِي شرحه لا فَائِدَةَ فِيهِ.
فَالْجَوَابُ: أَن حَاصِلَ الْبِدْعَةِ الإِضافية أَنها لَا تَنْحاز إِلى جَانِبٍ مَخْصُوصٍ فِي الجملة، بل يتجاذبها الأَصلان ـ أَصل السُّنَّةِ وأَصل الْبِدْعَةِ ـ، لَكِنْ مِنْ وَجْهَيْنِ. وإِذا كَانَ كَذَلِكَ اقْتَضَى النَّظَرُ السَّابِقُ لِلذِّهْنِ أَن يُثَابَ الْعَامِلُ بِهَا مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ مَشْرُوعٌ، ويُعاتب مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، إِلا أَن هَذَا النَّظَرَ لا يتحصل؛ لأَنه مجمل.
_________
(1) في (ر) و (غ): "لا تخلو".
(2) في (ر) و (غ): "أمرين".
(3) في (ر) و (غ): "جهة الابتداع معتبرة بما على المبتدع".
(4) في (ت) و (خ) و (م): "منفياً" بدل "منهياً".
(5) تصحَّفت الكلمة على رشيد رضا رحمه الله هكذا: "بالتقسيم"، فأشكل عليه باقي العبارة، فعلّق في نهاية هذا السطر ـ بعد قوله: "لا فائدة فيه" ـ بقوله: "كذا! ولعل أصله: ولا فائدة فيه".(2/326)
والذي ينبغي أن يقال: إِن (1) جهة البدعة في العمل لا تخلو (2) أَن تَنْفَرِدَ أَو تَلْتَصق، وإِن الْتَصَقَتْ فَلَا تَخْلُو أَن تَصِيرَ وَصْفًا لِلْمَشْرُوعِ غَيْرَ مُنْفَكٍّ؛ إِما بالقصد، أَو بالوضع الشرعي، أو (3) الْعَادِيِّ، أَو لَا (4) تَصِيرُ وَصْفًا. وإِن لَمْ تَصِرْ وصفاً، فإِما أَن يكون وضعها ذريعة (5) إِلى أَن تَصِيرَ وَصْفًا أَوْ لَا.
فَهَذِهِ أَربعة أَقسام لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِهَا فِي تحصيل هذا المطلوب بحول الله تعالى:
فأَما الْقِسْمُ الأَول ـ وَهُوَ أَن تَنْفَرِدَ الْبِدْعَةُ عَنِ الْعَمَلِ الْمَشْرُوعِ ـ: فَالْكَلَامُ فِيهِ ظَاهِرُ مِمَّا تَقَدَّمَ، إِلا أَنَّهُ إِن كَانَ وَضْعُهُ عَلَى جِهَةِ التعبُّد فَبِدْعَةٌ حَقِيقِيَّةٌ، وإِلا فَهُوَ فِعْلٌ مِنْ جُمْلَةِ الأَفعال الْعَادِيَّةِ، لَا مَدْخَلَ لَهُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ. فَالْعِبَادَةُ سَالِمَةٌ وَالْعَمَلُ الْعَادِيُّ خَارِجٌ (6) مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.
مِثَالُهُ: الرَّجُلُ يُرِيدُ القيام إِلى الصلاة فيَتَنَحْنَحُ مثلاً، أَو يَمْتَخِطُ (7)، أَو يَمْشِي خُطُوَاتٍ، أَو يَفْعَلُ شَيْئًا وَلَا يقصد بذلك (8) وَجْهًا رَاجِعًا إِلى الصَّلَاةِ، وإِنما يَفْعَلُ ذَلِكَ عادة أَو تعزُّزاً (9)، فَمِثْلُ هَذَا لَا حَرَجَ فِيهِ فِي نَفْسِهِ، وَلَا بِالنِّسْبَةِ إِلى الصَّلَاةِ، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْعَادَاتِ الْجَائِزَةِ، إِلا أَنه يُشْتَرَطُ فِيهِ أَيضاً أَن لَا يَكُونَ بِحَيْثُ يُفْهَمُ مِنْهُ الِانْضِمَامُ إِلى الصَّلَاةِ (10) عَمَلًا أَو قَصْدًا، فإِنه إِذ ذَاكَ يَصِيرُ بِدْعَةً. وسيأْتي بَيَانُهُ إِن شاءَ اللَّهُ.
وَكَذَلِكَ أَيضاً إِذا فَرَضْنَا أَنه فَعَلَ فعلاً قَصْدَ التقرُّب مما لم يشرع
_________
(1) في (ت) و (خ): "في" بدل "إن".
(2) في (ت) و (م) و (خ): "لا يخلو".
(3) قوله: "أو" سقط من (خ).
(4) في (ت) و (خ) و (م): "ولا".
(5) قوله: "ذريعة" سقط من (خ) و (م) و (ت).
(6) في (ر) و (غ): "خارجي".
(7) في (خ) و (ت): "يتمخَّط".
(8) في (خ) و (م): "بذا" بدل "بذلك".
(9) كذا في (غ) و (ر)! وفي (خ) و (م) و (ت): "تغرزاً"، أو "تقرزاً". وأما رشيد رضا فأثبتها: "تقززاً"، ولم تنقط الراء في نسخة (خ) التي اعتمد هو عليها!.
(10) من قوله: "وهو من جملة العادات" إلى هنا سقط من (غ).(2/327)
أَصلاً، ثُمَّ قَامَ بَعْدَهُ إِلى الصَّلَاةِ الْمَشْرُوعَةِ، وَلَمْ يَقْصِدْ فِعْلَهُ لأَجل الصَّلَاةِ، وَلَا كَانَ مَظِنَّةً لأَن (1) يُفْهَمَ مِنْهُ انْضِمَامُهُ إِليها، فَلَا يَقْدَحُ فِي الصَّلَاةِ، وإِنما يَرْجِعُ الذَّمُّ فِيهِ إِلى الْعَمَلِ بِهِ عَلَى الِانْفِرَادِ.
وَمِثْلُهُ: لَوْ أَراد الْقِيَامَ إِلى الْعِبَادَةِ، فَفَعَلَ عِبَادَةً مَشْرُوعَةً مِنْ غَيْرِ قَصْدِ الِانْضِمَامِ، وَلَا جَعْلِهِ (2) عُرْضَةً لِقَصْدِ انْضِمَامِهِ، فَتِلْكَ الْعِبَادَتَانِ عَلَى أَصالتهما (3). وَكَقَوْلِ الرَّجُلِ عِنْدَ الذَّبْحِ أَو الْعِتْقِ: اللَّهُمَّ مِنْكَ وإِليك، عَلَى غَيْرِ الْتِزَامٍ (4) وَلَا قَصْدِ الِانْضِمَامِ، وَكَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الطَّوَافِ لَا بِقَصْدِ الطَّوَافِ وَلَا عَلَى الِالْتِزَامِ، فَكُلُّ عِبَادَةٍ هُنَا مُنْفَرِدَةٌ عَنْ صَاحِبَتِهَا؛ فَلَا حَرَجَ فِيهَا (5).
وَعَلَى ذَلِكَ نَقُولُ: لَوْ فَرَضْنَا (6) أَن الدعاءَ بِهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ وقع من أَئمة الصلوات في (7) المساجد في بعض الأَوقات للأَمر يحدث؛ من قَحْطٍ، أَو خوفٍ، ونحوه (8) مِنْ مُلِمٍّ؛ لَكَانَ جَائِزًا (9)؛ لأَنه (10) عَلَى الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ، إِذ لَمْ يَقَعْ ذَلِكَ عَلَى وجهٍ يُخاف مِنْهُ مَشْرُوعِيَّةُ الِانْضِمَامِ، وَلَا كَوْنُهُ سُنَّةً تُقَامُ فِي الْجَمَاعَاتِ وَيُعْلَنُ بِهِ فِي الْمَسَاجِدِ، كَمَا (11) دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعاءَ الاستسقاءِ بِهَيْئَةِ (12) الِاجْتِمَاعِ وَهُوَ يَخْطُبُ (13)، وَكَمَا أَنَّهُ دَعَا أَيضاً (14) فِي غَيْرِ أَعقاب
_________
(1) في (ر) و (غ): "أن".
(2) في (خ) و (م): "ولأجله".
(3) في (ر) و (غ): "فكلتا العبادتين على أصالتها".
(4) في (ر) و (غ): "على غير الالتزام".
(5) في (ر) و (غ): "فيهما".
(6) قوله: "لو فرضنا" مكرر في (م).
(7) قوله: "الصلوات في" من (غ) و (ر) فقط.
(8) قوله: "ونحوه" من (غ) و (ر) فقط.
(9) في (م): "جائز".
(10) في (ر) و (غ): "إلا أنه".
(11) في (غ) و (ر): "وكما".
(12) في (غ): "على هيئة".
(13) رواه البخاري (1029) تعليقاً، وفيه: "فرفع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يديه يدعو، ورفع الناس أيديهم معه يدعون" الحديث. ووصله الإسماعيلي وأبو نعيم والبيهقي كما قال الحافظ في "الفتح"، ثم رواه في "تغليق التعليق" (2/ 392) من طريق المحاملي، عن محمد بن إسماعيل الترمذي، عن أيوب بن سليمان بن بلال، عن أبي بكر بن أبي أويس، عن سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن أنس رضي الله عنه به.
(14) في (ت): "وكما أنه أيضاً دعا".(2/328)
الصَّلَوَاتِ عَلَى هَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ (1)، لَكِنْ فِي الفَرْطِ، وَفِي بَعْضِ الأَحَايِين كَسَائِرِ الْمُسْتَحَبَّاتِ الَّتِي لَا يُتربَّص بها وقت (2) بِعَيْنِهِ، وكيفيَّة بِعَيْنِهَا.
وَخَرَّجَ الطَّبَرِيُّ (3) عَنْ أَبي سعيد مولى [أبي] (4) أَسيد؛ قَالَ: كَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِذا صَلَّى العشاءَ أَخرج النَّاسَ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَتَخَلَّفَ لَيْلَةً مَعَ قَوْمٍ يَذْكُرُونَ اللَّهَ، فأَتى عَلَيْهِمْ (5) فَعَرَفَهُمْ، فأَلقى دِرَّتَه وَجَلَسَ مَعَهُمْ، فَجَعَلَ يَقُولُ: يَا فُلَانُ! ادْعُ اللَّهَ لَنَا، يَا فُلَانُ! ادْعُ اللَّهَ لَنَا، حَتَّى صَارَ الدعاءُ إِلى عمر (6)، فَكَانُوا يَقُولُونَ: عُمَرُ فَظٌّ غَلِيظٌ، فَلَمْ أَر أَحداً مِنَ النَّاسِ تِلْكَ السَّاعَةَ أَرقَّ مِنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ لَا ثَكْلَى وَلَا أَحداً (7).
_________
(1) كما جاء في الحديث الذي رواه الفضل بن العلاء؛ قال: حدثنا إسماعيل بن أمية، عن محمد بن قيس، عن أبيه؛ أنه أخبره: أن رجلاً جاء زيد بن ثابت فسأله عن شيء؟ فقال له زيد: عليك بأبي هريرة؛ فإني بينما أنا وأبو هريرة وفلان في المسجد ذات يوم ندعو الله ونذكر ربنا خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم حتى جلس إلينا، فسكتنا، فقال: "عودوا للذي كنتم فيه". قال زيد: فدعوت أنا وصاحبي قبل أبي هريرة، وجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يؤمِّن على دعائنا، ثم دعا أبو هريرة فقال: اللهم إني أسألك مثل ما سألك صاحباي هذان، وأسألك علماً لا يُنسى، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "آمين"، فقلنا: يا رسول الله! ونحن نسأل الله علماً لا يُنسى، فقال: "سبقكما بها الغلام الدوسي". أخرجه النسائي في "الكبرى" (5870)، والطبراني في "الأوسط" (1228)، والحاكم في "المستدرك" (3/ 508)، وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه". وقال الطبراني: "لم يرو هذا الحديث عن إسماعيل إلا الفضل، ولا يروى عن زيد بن ثابت إلا بهذا الإسناد".
(2) في (خ): "وقتا".
(3) قوله: "الطبري" سقط من (خ)، وفي (غ): "الطبراني"، والمثبت من (ر) و (م) و (ت)، وهو الصواب، ويدل عليه قول المصنف (ص333): "وهذه الآثار من تخريج الطبري في تهذيب الآثار".
(4) ما بين المعقوفين زيادة من مصادر التخريج وترجمته الآتية.
(5) في (ر) و (غ): "إليهم".
(6) في (خ) و (ت) و (م): "غير".
(7) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" (3/ 294) من طريق يزيد بن هارون، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 330) من طريق شعبة، كلاهما عن سعيد بن إياس الجريري، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد مولى أبي أسيد ـ وعند الطحاوي: مولى الأنصار ـ؛ قال: كان عمر بن الخطاب يعسّ المسجد بعد العشاء ... ، فذكره بلفظ أطول من هذا.
وسنده رجاله ثقات، عدا أبي سعيد مولى أبي أسيد الساعدي الأنصاري، فقد ذكره ابن سعد في "الطبقات" (5/ 88) و (7/ 128)، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً،=(2/329)
وَعَنْ سَلْم (1) العَلَوي (2) قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لأَنس رضي الله عنه يوماً: يا
_________
=وذكر أنه روى عن عمر وعلي رضي الله عنهما، وذكره مسلم في "الكنى" (1356)، وذكر أنه شهد مقتل عثمان رضي الله عنه، وذكره ابن حبان في الثقات (5/ 588)، وروى بسند فيه ضعف عنه أنه قال: كان في بيتي أبو ذر وعبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان، فحضرت الصلاة، فتقدم أبو ذر، فجذبه حذيفة، فالتفت إلى ابن مسعود، فقال: كذلك يا ابن مسعود؟ قال: نعم، قال: فقدّموني وكنت أصغرهم، فصليت بهم.
وذكر ابن حجر في القسم الثالث من "الإصابة" (11/ 187) أبا سعيد هذا، وقال: ذكره ابن مندة في الصحابة، ولم يذكر ما يدل على صحبته، لكن ثبت أنه أدرك أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، فيكون من أهل هذا القسم. قال ابن مندة: "روى عنه أبو نضرة [العَوَقي] قصة مقتل عثمان بطولها"، وهو كما قال، وقد رويناها من هذا الوجه، وليس فيها ما يدل على صحبته. اهـ.
والقسم الثالث من "الإصابة" جعله ابن حجر للمخضرمين الذين أدركوا الجاهلية والإسلام.
وأما قصة مقتل عثمان، فقد رواها أبو الشيخ في "طبقات المحدثين بأصبهان" (2/ 237 ـ 238) من طريق أبي سعيد هذا.
(1) في (ت): "وعن سالم".
(2) هو سَلْم بن قيس العَلَوي، البصري، ضعيف كما في "التقريب" (2486).
وهذا الحديث من الأحاديث التي ذكر المصنف (ص333) أنه خرجها من "تهذيب الآثار" للطبري، ولم أجد من أخرجه من هذا الطريق سواه. لكن أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (633) من طريق عمر بن عبد الله الرومي؛ قال: أخبرني أبي، عن أنس بن مالك؛ قال: قيل له: إن إخوانك أتوك من البصرة ـ وهو يومئذٍ بالزاوية ـ لتدعو لهم. قال: اللهم اغفر لنا وارحمنا، وآتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار. فاستزادوه، فقال مثلها، فقال: إن أوتيتم هذا فقد أوتيتم خير الدنيا والآخرة.
وعمر بن عبد الله الرومي مقبول، وأبوه كذلك؛ كما في "التقريب" (4964 و3462)، وقد توبعا.
فالحديث أخرجه أبو يعلى في "مسنده" (3397) من طريق شيخه إبراهيم بن الحجاج السَّامي؛ حدثنا حماد ـ وهو ابن سلمة ـ، عن ثابت؛ أنهم قالوا لأنس: ادع لنا، فقال: اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار. قالوا: زدنا، فأعادها، قالوا: زدنا، قال: ما تريدون؟ سألت لكم خير الدنيا والآخرة. قال أنس: فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكثر أن يدعو: "اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار".=(2/330)
أَبا حَمْزَةَ! لَوْ دَعَوْتَ لَنَا بِدَعَوَاتٍ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً ـ قَالَ: فأَعادها مِرَارًا ثَلَاثًا ـ، فَقَالَ: يَا أَبا حمزة! لو دعوت لنا (1)، فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ.
فإِذا كَانَ الأَمر عَلَى هَذَا فَلَا إِنكار فِيهِ، حَتَّى إِذا دَخَلَ فِيهِ أَمر زَائِدٌ صَارَ الدعاءُ بِتِلْكَ (2) الزِّيَادَةِ مُخَالِفًا لِلسُّنَّةِ. فَقَدْ جاءَ فِي دعاءِ الإِنسان لِغَيْرِهِ (3) الْكَرَاهِيَةُ عَنِ السَّلَفِ (4)، لَا عَلَى حُكْمِ الأَصالة، بَلْ بِسَبَبِ مَا يَنْضَمُّ إِليه مِنَ الأُمور المُخْرِجَةِ عَنِ الْأَصْلِ. وَلِنَذْكُرَهُ هُنَا لِاجْتِمَاعِ أَطراف المسأَلة فِي التَّنْبِيهِ (5) عَلَى الدعاءِ بِهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ بِآثَارِ الصَّلَوَاتِ فِي الْجَمَاعَاتِ دَائِمًا.
فَخَرَّجَ الطَّبَرِيُّ (6) عَنْ مُدْرِك بْنِ عِمْرَانَ؛ قَالَ: كَتَبَ رَجُلٌ إِلى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنه: إني أصبت ذنباً (7) فَادْعُ اللَّهَ لِي. فَكَتَبَ إِليه عُمَرُ: إِني لَسْتُ بِنَبِيٍّ، وَلَكِنْ إِذا أُقيمت الصَّلَاةُ فَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ لِذَنْبِكَ.
فإِبَايَةُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَيْسَ مِنْ جِهَةِ أَصل الدعاءِ، وَلَكِنْ مِنْ جِهَةٍ أُخرى، وإِلا تَعَارَضَ كلامه مع ما تقدم، فكأَنه فهم
_________
=وسنده صحيح، وصححه ابن حبان؛ فأخرجه في "صحيحه" (938/ الإحسان) من طريق أبي يعلى.
وأصل الحديث في "الصحيحين".
فأخرجه البخاري (4522 و6398)، ومسلم (2690)، كلاهما من طريق عبد العزيز بن صهيب ـ واللفظ لمسلم ـ؛ قال: سأل قتادة أنساً: أي دعوة كان يدعو بها النبي صلّى الله عليه وسلّم أكثر؟ قال: كان أكثر دعوة يدعو بها يقول: "اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حسنة، وقنا عذاب النار". قال: وكان أنس إذا أراد أن يدعو بدعوة دعا بها، فإن أراد أن يدعو بدعاء دعا بها فيه.
(1) قوله: "لنا" ليس في (خ) و (ت) و (م).
(2) في (خ): "الدعاء فيه بتلك".
(3) في (م): "في دعائه الإنسان لغير".
(4) سيأتي نقل المصنف لبعض الآثار في ذلك.
(5) في (خ): "التشبيه".
(6) أي: في "تهذيب الآثار" كما قال المصنف (ص333). ومدرك بن عمران لم أجد من ترجم له، وقد يكون في نسبه تصحيف، فيكون إما مدرك بن عمارة بن عقبة بن أبي مُعَيط المترجم في "الجرح والتعديل" (8/ 327 رقم 1511)، و"تعجيل المنفعة" (1015)، أو مدرك بن عوف البَجلي الذي ذكره ابن أبي حاتم في الموضع السابق من "الجرح والتعديل" برقم (1509)، وذكر أنه يروي عن عمر، ولم أجد من وثقهما من المعتبرين.
(7) قوله: "إني أصبت ذنباً" سقط من (خ) و (م) و (ت).(2/331)
من السائل أَمراً زائداً على التماس (1) الدعاءِ، فَلِذَلِكَ قالَ: لستُ بِنَبِيٍّ.
ويدلُّك عَلَى هَذَا: مَا رُوِيَ (2) عَنْ سَعْدِ (3) بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنه لَمَّا قَدِمَ الشَّامَ أَتاه رَجُلٌ فَقَالَ: اسْتَغْفِرْ لِي (4)، فَقَالَ: غَفَرَ اللَّهُ لَكَ، ثُمَّ أَتاه آخَرٌ فَقَالَ: اسْتَغْفِرْ لِي، فَقَالَ: لَا غَفَرَ اللَّهُ لَكَ وَلَا لِذَاكَ (5)، أَنبي أَنا؟!.
فَهَذَا أَوضح فِي أَنه فَهِمَ مِنَ السَّائِلِ (6) أَمْرًا زَائِدًا، وَهُوَ أَنْ يَعْتَقِدَ فِيهِ أَنَّهُ مِثْلُ النَّبِيِّ، أَوْ أَنَّهُ وَسِيلَةٌ إِلى أَن يَعْتَقِدَ ذَلِكَ، أَو يعتقد أَنه سنة تُلْتَزَم (7)، أَو تجري (8) فِي النَّاسِ مَجْرَى السُّنَنِ المُلْتَزَمة (9).
وَنَحْوُهُ (10) عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ: أَن رَجُلًا قَالَ لِحُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: اسْتَغْفِرْ لِي. فَقَالَ: لَا غَفَرَ اللَّهُ لَكَ! ثُمَّ قَالَ: هَذَا يَذْهَبُ إِلى نسائه فيقول: استغفرَ لي حذيفة، أَترضى أَن أَدعو الله أَن يجعلك (11) مِثْلَ حُذَيْفَةَ؟ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنه وَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَمر زَائِدٌ يَكُونُ الدعاءُ لَهُ ذَرِيعَةً حَتَّى يَخرُج عَنْ أَصله؛ لِقَوْلِهِ بَعْدَ مَا دَعَا (12) عَلَى الرَّجُلِ (13): هَذَا يَذْهَبُ إِلى نسائه فيقول كذا؛ أَي: فيأْتي نساؤه (14) أيضاً (15) لِمِثْلِهَا، ويَشْتهر الأَمر حَتَّى يُتَّخذ سُنّة، ويُعتقَد في حذيفة ما لا يدعيه هُوَ لِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ يَخْرُجُ الْمَشْرُوعُ عَنْ كَوْنِهِ مَشْرُوعًا، ويؤدِّي إِلى التشيُّع وَاعْتِقَادِ أَكثر مِمَّا يحتاج إِليه.
_________
(1) قوله: "التماس" ليس في (خ) و (م) و (ت).
(2) وقد تكون: "ما رَوَى" على المبني للمعلوم، فيكون الضمير عائداً إلى الطبري، فيكون أخرجه في "تهذيب الآثار" أيضاً.
(3) في (م): "سعيد".
(4) في (غ): "استغفر لي الله".
(5) في (ر) و (غ): "لذلك".
(6) في (م): "المسائل".
(7) في (خ) و (ت) و (م): "تلزم".
(8) في (خ) و (ت) و (م): "يجري".
(9) في (م): "المتزمة".
(10) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (1/ 277) من طريق جرير، عن الأعمش، عن أبي ظبيان.
ومن طريق شعبة، عن الأعمش، عن زيد بن وهب به.
وسنده صحيح، والاختلاف في شيخ الأعمش لا يؤثر في صحة الأثر؛ فإما أن يكون للأعمش فيه شيخان ـ أبو ظبيان وزيد بن وهب ـ، وإما أن ترجح رواية شعبة، وعلى كلا الوجهين فالأثر صحيح، والله أعلم.
(11) في (ت) و (خ): "تكن" وفي (م): "تكون" بدل "يجعلك".
(12) في (خ) و (م): "ما دل" بدل "ما دعا".
(13) في (ت): "لقوله بعدُ ما يدل على قصد الرجل".
(14) في (خ): "نساءه".
(15) قوله: "أيضاً" ليس في (خ) و (م) و (ت).(2/332)
وَقَدْ تبيَّن هَذَا الْمَعْنَى بِحَدِيثٍ رَوَاهُ ابْنُ عُلَيَّة، عَنِ ابْنِ عَوْن؛ قَالَ: جاءَ رَجُلٌ إِلى إِبراهيم فَقَالَ: يَا أَبا عِمْرَانَ! ادْعُ اللَّهَ أَن يَشْفِيَنِي. فِكْرَهَ ذَلِكَ إِبراهيم وقَطَّبَ (1)، وَقَالَ: جاءَ رَجُلٌ إِلى حُذَيْفَةَ فَقَالَ: ادْعُ اللَّهَ أَن يَغْفِرَ لِي. فَقَالَ: لَا غَفَرَ اللَّهُ لَكَ! فتنحَّى الرَّجُلُ فَجَلَسَ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ؛ قَالَ: فأَدخلك اللَّهُ مُدْخَلَ حُذَيْفَةَ، أَقد رَضِيتَ الْآنَ؟ يأْتي أَحدكم الرَّجُلَ كأَنه قد أَحْصَى شأْنه، كأنه (2). ثُمَّ ذَكَرَ إِبراهيم السُّنَّة، فرغَّب فِيهَا، وَذَكَرَ مَا أَحدث النَّاسُ؛ فَكَرِهَهُ (3).
وَرَوَى مَنْصُورٌ، عَنْ إِبراهيم قَالَ: كَانُوا يَجْتَمِعُونَ فَيَتَذَاكَرُونَ فَلَا يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: اسْتَغْفِرْ لَنَا (4).
فتأَملوا يَا أُولي الأَلباب ماذا كَرِهَ (5) العلماءُ مِنْ هَذِهِ الضَّمَائِم (6) المُنْضَمَّة إِلى الدعاءِ، حَتَّى كَرِهُوا الدعاءَ إِذا انْضَمَّ إِليه مَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سَلَفُ الأُمة. فَقِسْ بِعَقْلِكَ (7) مَاذَا كانوا يقولون في دعائنا اليوم بآثار الصلوات (8)، بَلْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمُوَاطِنِ، وَانْظُرُوا إِلى إشارة (9) إِبراهيم بترغيبه (10) فِي السُّنَّةِ وَكَرَاهِيَةِ (11) مَا أَحدث النَّاسُ؛ بَعْدَ تَقْرِيرِ مَا تَقَدَّمَ.
وَهَذِهِ الْآثَارُ مِنْ تَخْرِيجِ الطبري في "تهذيب (12) الآثار" (13) له.
_________
(1) في (غ): "ونطق". ومعنى "قَطَّبَ": أي زَوَى ما بين عينيه، وعَبَس من الغضب. "لسان العرب" (1/ 680).
(2) قوله: "كأنه" سقط من (خ) و (ت)، وهو مكرر في (ر).
(3) أخرجه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (6/ 276) من طريق محمد بن عبد الله الأنصاري، عن عبد الله بن عون، به.
وإسناده صحيح.
وإبراهيم هذا هو: النخعي.
(4) لم أقف عليه، والمصنف أخذه عن "تهذيب الآثار" للطبري كما سيأتي.
(5) في (ت) و (خ) و (م)؛ "ما ذكره".
(6) في (خ): "الاضام"، وفي (ت): "العظائم".
(7) في (غ) و (ر): "بفضلك".
(8) في (خ) و (ت) و (م): "الصلاة".
(9) في (خ) و (م): "استبارة".
(10) في (خ): "ترغيبه".
(11) في (خ): "وكراهيته".
(12) في (م): "تهديث".
(13) في القسم المفقود منه فيما يظهر.(2/333)
وعلى هذا ينبغي (1) أن يُحْمل (2) مَا خَرَّجَهُ ابْنُ وَهْبٍ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ نَبْهان، عَنْ أَيوب، عَنْ أَبي قِلَابَةَ، عَنْ أَبي الدرداءِ رضي الله عنه: أَنا ناساً من أَهل الكوفة قالوا (3): إن إخوانك (4) من أهل الكوفة (5) يقرؤون عَلَيْكَ السَّلَامَ، ويأْمرونك أَن تدعُوَ لَهُمْ وَتُوصِيَهُمْ. فقال: اقرؤوا (6) عليهم السلام، ومروهم أَن يعطوا القرآن [بخزائمهم] (7)، فإِنه يَحْمِلُهُمْ ـ أَو يأْخذ بِهِمْ ـ عَلَى الْقَصْدِ وَالسُّهُولَةِ، ويجنِّبهم الجَوْرَ والحُزُونة (8)، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنه دَعَا لَهُمْ.
وأَما الْقِسْمُ الثَّانِي ـ وَهُوَ أَنْ يَصِيرَ الْعَمَلُ الْعَادِيُّ أَو غَيْرُهُ كَالْوَصْفِ لِلْعَمَلِ المشروع، إِلا أَن الدليل دلَّ (9) عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ الْمَشْرُوعَ لَمْ يَتَّصِفْ فِي الشَّرْعِ بِذَلِكَ الْوَصْفِ ـ: فَظَاهِرُ (10) الأَمر انْقِلَابُ الْعَمَلِ المشروع غير
_________
(1) في (ت) و (خ): "ينبني".
(2) قوله: "أن يحمل" سقط من (خ) و (م) و (ت).
(3) في (م): "قال"، وفي (ت): "قالوا له"، إلا أن قوله: "له" ملحق في الهامش.
(4) في (غ) و (ر): "لإخوانك".
(5) من قوله: "قالوا إن إخوانك" إلى هنا سقط من (خ).
(6) في (م): "اقرأ".
(7) في (غ) و (ر): "بحزائمهم" بالحاء، وفي (م): "بحرائهم"، أو: "بحرابهم"، وفي (خ) و (ت): "حقه"، والتصويب من مصادر التخريج، وهو قريب مما في (غ) و (ر). وأما معناه: فقال ابن الأثير في "النهاية في غريب الحديث" (2/ 29): "الخزام: جمع خِزَامة، وهي حَلَقة من شعر تجعل في أحد جانبي مَنْخِرَي البعير، ومنه: حديث أبي الدرداء: "اقرأ عليهم السلام، ومُرْهم أن يُعْطوا القرآن بخزائمهم"؛ هي: جمع خِزَامة؛ يريد به الانقياد لحكم القرآن، وإلقاء الأزِمَّة إليه. ودخول الباء في "خزائمهم" ـ مع كون أعطى يتعدّى إلى مفعولين ـ؛ كدخولها في قوله: أعطى بيده: إذا انقاد ووكل أمره إلى من أطاعه ... " إلخ.
(8) أخرجه ابن أبي شيبة (6/ 141 رقم 30162)، وعبد الرزاق (3/ 368 رقم 5996)، والدارمي (2/ 526) من طريق أيوب به.
وأبو قلابة لم يسمع من أبي الدرداء كما قال أبو حاتم. انظر (ص211) من "جامع التحصيل".
(9) قوله: "دل": سقط من (خ).
(10) علق رشيد رضا رحمه الله على هذا الموضع بقوله: جواب "أمّا"؛ أي: فظاهر الأمر فيه ... إلخ، وما قبله اعتراض. اهـ.(2/334)
مَشْرُوعٍ. ويبيِّن (1) ذَلِكَ مِنَ الأَدلة: عُمُومُ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "كُلُّ عملٍ ليسَ عَلَيْهِ أَمرُنا فَهُوَ رَدٌّ" (2). وَهَذَا الْعَمَلُ عِنْدَ اتِّصَافِهِ بِالْوَصْفِ الْمَذْكُورِ عملٌ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمره عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؛ فَهُوَ إِذاً ردٌّ؛ كَصَلَاةِ (3) الْفَرْضِ مَثَلًا إِذا صَلَّاهَا الْقَادِرُ الصَّحِيحُ قَاعِدًا، أَو سبَّح فِي مَوْضِعِ القراءَة، أَو قرأَ (4) فِي مَوْضِعِ التَّسْبِيحِ، وَمَا أَشبه ذَلِكَ.
وَقَدْ نَهَى ـ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ـ عَنِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ، وَبَعْدَ الْعَصْرِ (5)، وَنَهَى عَنِ الصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِهَا (6)، فَبَالَغَ كَثِيرٌ مِنَ العلماءِ فِي تَعْمِيمِ النَّهْيِ، حَتَّى عَدُّوا صَلَاةَ الْفَرْضِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ دَاخِلًا تَحْتَ النَّهْيِ، فَبَاشَرَ النهيُ الصَّلَاةَ لِأَجْلِ اتِّصَافِهَا بأَنها وَاقِعَةٌ فِي زَمَانٍ مَخْصُوصٍ، كَمَا اعْتَبَرَ فِيهَا الزَّمَانَ بِاتِّفَاقٍ فِي الْفَرْضِ، فَلَا تُصَلَّى الظُّهْرُ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَلَا الْمَغْرِبُ قَبْلَ الْغُرُوبِ.
وَنَهَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ صِيَامِ الْفِطْرِ والأَضحى (7)، وَالِاتِّفَاقُ عَلَى بُطْلَانِ الْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشهر الْحَجِّ. فكلُّ مَنْ تعبَّد لِلَّهِ تَعَالَى بشيءٍ مِنْ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ الْوَاقِعَةِ فِي غَيْرِ أَزمانها فقد تعبَّد بِبِدْعَةٍ حَقِيقِيَّةٍ لَا إِضافية، فَلَا جِهَةَ لَهَا إِلى (8) الْمَشْرُوعِ، بَلْ غَلَبَتْ عَلَيْهَا جِهَةُ الِابْتِدَاعِ، فَلَا ثَوَابَ فِيهَا عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ.
فَلَوْ فَرَضْنَا قَائِلًا يَقُولُ بِصِحَّةِ الصَّلَاةِ الْوَاقِعَةِ في وقت الكراهية، أَو
_________
(1) في (خ): "وتبين"، وفي (م): "ويتبين" وفي (ت) "وتبيين".
(2) أخرجه البخاري (2697) بلفظ: "من أحدث في أمرنا ... "، ومسلم (1718) (18) بلفظ: "من عمل عملاً ... ".
(3) في (ر) و (غ): "فهو إذاً مردود كالصلاة".
(4) في (غ) و (ر) و (م): "وقرأ".
(5) أخرجه البخاري (581)، ومسلم (826) من حديث عمر رضي الله عنه.
(6) أخرجه البخاري (582)، ومسلم (828) مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
(7) تقدم تخريجه (ص309).
(8) في (غ): "على".(2/335)
صِحَّةِ (1) الصَّوْمِ الْوَاقِعِ يَوْمَ (2) الْعِيدِ. فَعَلَى فَرْضِ (3) أَن النَّهْيَ رَاجِعٌ إِلى أَمرٍ لَمْ يَصِرْ للعبادة كالوصف (4)، بل لأَمرٍ (5) مُنْفَكٍّ مُنْفَرِدٌ حَسْبَمَا تَبَيَّنَ بِحَوْلِ اللَّهِ.
وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْقِسْمِ: مَا جَرَى بِهِ الْعَمَلُ فِي بَعْضِ النَّاسِ؛ كَالَّذِي حَكَى القَرَافي (6) عَنِ العَجَم فِي اعْتِقَادِ كَوْنِ صَلَاةِ الصُّبْحِ يَوْمَ الْجُمْعَةِ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ، فإِن قراءَة سُورَةِ السَّجْدَةِ لَمَّا الْتُزِمَتْ فِيهَا وحُوفظ عَلَيْهَا؛ اعْتَقَدُوا فِيهَا الرُّكْنِيّة، فَعَدُّوهَا رَكْعَةً ثَالِثَةً، فَصَارَتِ السَّجْدَةُ إِذاً وصفاً (7) لازماً، أو جزءًا (8) مِنْ صَلَاةِ صُبْحِ الْجُمْعَةِ، فَوَجَبَ أَن تَبْطُلَ.
وَعَلَى هَذَا (9) التَّرْتِيبِ: يَنْبَغِي أَن تَجْرِيَ الْعِبَادَاتُ الْمَشْرُوعَةُ إِذا خُصَّت بأَزمان مَخْصُوصَةٍ بالرأْي المُجَرَّد، من حيث فهمنا أَن للزمان تلبُّساً بالأَعمال. وعلى الجملة (10): فصيرورة ذلك الزائد وصفاً للمزيد فِيهِ مُخْرِجٌ لَهُ عَنْ أَصله، وَذَلِكَ أَن الصِّفَةَ مَعَ الْمَوْصُوفِ ـ مِنْ حَيْثُ (11) هِيَ صِفَةٌ له لا تفارقه ـ هي من جملته.
ولذلك لا نقول (12): إِن الصفة غير الموصوف (13) إِذا كانت لازمة له
_________
(1) في (ر) و (غ): "وصحة".
(2) قوله: "يوم" غير مقروء في (م)، يشبه أن يكون: "بين".
(3) علق رشيد رضا رحمه الله على هذا الموضع بقوله: قوله: "فعلى فرض" إلخ: معناه: فقول هذا القائل مبني ـ أو يبنى ـ على فرض كذا. اهـ.
(4) علق رشيد رضا أيضاً على هذا الموضع بقوله: قوله: "لم يصر" إلخ: لا يصحّ إلا إذا كان قد سقط من الكلام وصف لكلمة "أمر"؛ كأن يكون أصل الكلام: راجع إلى أمر عارض، وفرّع عليه قوله: "لم يصر" إلخ. ويحتمل أن يكون الأصل: "إلى أمر لم يصر للعبادة كالوصف".اهـ. ولا أرى لازماً لهذا التعليق.
(5) في (ت) و (خ): "الأمر".
(6) في الفرق الخامس بعد المائة من كتاب "الفروق" (2/ 315).
(7) في (ر) و (غ): "وضعاً".
(8) في (ت) و (خ): "وجزءاً".
(9) في (غ): "وهذا على".
(10) في (خ) و (م) و (ت): "على الجملة".
(11) قوله: "حيث" سقط من (م).
(12) في (خ) و (ت): "وذلك لأنا نقول".
(13) في (خ) و (م): "الصفة مع غير الموصوف"، وعلق عليها بهامش (خ) بما نصه:=(2/336)
حَقِيقَةً أَو اعْتِبَارًا، وَلَوْ فَرَضْنَا (1) ارْتِفَاعَهَا عَنْهُ لَارْتَفَعَ الْمَوْصُوفُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَوْصُوفٌ بِهَا؛ كَارْتِفَاعِ الإِنسان بِارْتِفَاعِ النَّاطِقِ أَو الضَّاحِكِ. فإِذا كَانَتِ الصِّفَةُ الزَّائِدَةُ عَلَى الْمَشْرُوعِ عَلَى هَذِهِ النِّسْبَةِ؛ صَارَ الْمَجْمُوعُ مِنْهُمَا غَيْرَ مَشْرُوعٍ، فَارْتَفَعَ اعتبار المشروع الأَصل (2).
وَمِنْ أَمثلة ذَلِكَ أَيضاً (3): قراءَة الْقُرْآنِ بالإِدارة عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ، فإِن تِلْكَ الْهَيْئَةَ زَائِدَةٌ على مشروعية القراءَة، وكذلك الذِّكر (4) الجَهْري (5) الَّذِي اعْتَادَهُ أَربابُ الزَّوايا.
وَرُبَّمَا لطُفَ اعْتِبَارُ الصِّفَةِ فَيَشُكُّ فِي بُطْلَانِ الْمَشْرُوعِيَّةِ، كَمَا وَقَعَ فِي "الْعُتْبِيَّةِ" (6) عَنْ مَالِكٍ؛ فِي مسأَلة الِاعْتِمَادِ في الصلاة حتى (7) لَا يحرِّك رِجْلَيْهِ، وأَن أَول مَنْ أَحدثه رَجُلٌ قَدْ عُرِفَ. قَالَ: وَقَدْ كَانَ مُسَاءً (8) ـ أَي: يساءُ الثناءُ (9) عَلَيْهِ ـ، فَقِيلَ لَهُ: أَفَعِيبَ ذلك عليه (10)؟ قال: قد عِيبَ ذلك عليه (11)، هذا مَكْرُوهٌ مِنَ الْفِعْلِ. وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهَا أَن الصَّلَاةَ بَاطِلَةٌ، وَذَلِكَ لِضَعْفِ وَصْفِ الِاعْتِمَادِ أَن يُؤَثِّرَ فِي الصَّلَاةِ، ولُطْفُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلى كَمَالِ هَيْئَتِهَا.
وَهَكَذَا يَنْبَغِي أَن يَكُونَ النَّظَرُ فِي المسأَلة بِالنِّسْبَةِ إِلى اتِّصَافِ الْعَمَلِ بِمَا يُؤَثِّرُ فِيهِ، أَو لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ. فإِذا غَلَبَ الوصف على العمل؛ كان أَقربَ
_________
="صوابه ـ والله أعلم ـ: أن الصفة هي عين الموصوف"، وهذا هو المثبت في (ت).
(1) في (غ) و (ر) و (م): "فرضت".
(2) في (ت): "الأصلي"، والمثبت من باقي النسخ، وعلق رشيد رضا على هذا الموضع بقوله: كذا! ولعلها: "الأصلي"، أو: "في الأصل".اهـ.
(3) قوله: "أيضاً" سقط من (ت).
(4) قوله: "الذكر" سقط من (خ) و (م) و (ت).
(5) في (خ): "الجهر".
(6) كما في "البيان والتحصيل" (1/ 296).
(7) قوله: "حتى" سقط من (خ) و (م) و (ت).
(8) في "البيان": "مسمتاً".
(9) في (خ) و (م): "إلينا".
(10) قوله: "ذلك عليه" سقط من (خ) و (م).
(11) من قوله: "قد عرف" إلى هنا في موضعه بياض في (ت).(2/337)
إِلى الْفَسَادِ، وإِذا لَمْ يَغْلِبْ لَمْ يَكُنْ أَقربَ، وبقي في حكم النظر، فيدخل ها هنا نظرُ الاحتياطِ لِلْعِبَادَةِ إِذا (1) صَارَ الْعَمَلُ فِي الِاعْتِبَارِ مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ.
وَاعْلَمُوا أَنه (2) حَيْثُ قُلْنَا: إِن الْعَمَلَ الزَّائِدَ عَلَى الْمَشْرُوعِ (3) يَصِيرُ وَصْفًا له (4) ـ أَو كَالْوَصْفِ ـ فإِنما يُعْتَبَرُ بأَحد أُمور ثَلَاثَةٍ: إِما بِالْقَصْدِ، وإِما بِالْعَادَةِ، وإِما بِالشَّرْعِ.
أَما بالقصد: فظاهر (5)، بل هو أصل التغيير (6) فِي الْمَشْرُوعَاتِ بِالزِّيَادَةِ (7) أَو النُّقْصَانِ (8).
وأَما (9) بِالْعَادَةِ (10): فَكَالْجَهْرِ وَالِاجْتِمَاعِ فِي الذِّكْرِ الْمَشْهُورِ بَيْنَ متصوِّفة الزَّمَانِ؛ فإِن بَيْنَهُ وَبَيْنَ الذِّكْرِ الْمَشْرُوعِ بَوْنًا بَعِيدًا؛ إِذ هُمَا كالمتضادَّين عَادَةً.
وَكَالَّذِي حَكَى ابْنُ وضَّاح، عَنِ الأَعمش، عَنْ بَعْضِ أَصحابه؛ قَالَ: مَرَّ عَبْدُ اللَّهِ بِرَجُلٍ يقُصّ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى أَصحابه وَهُوَ يَقُولُ: سبِّحوا (11) عَشْرًا، وَهَلِّلُوا عَشْرًا، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِنكم لأَهدى مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَو أَضل؛ بل هذه (12)؛ يعني: أضل (13).
_________
(1) في (غ) و (ر): "إذ".
(2) في (ت): "واعلموا أننا".
(3) في (غ) و (ر): "إن العمل على الزائد على المشروع".
(4) في (خ) و (م) و (ت): "لها".
(5) في (غ) و (ر): "أما القصد فظاهره".
(6) في (م): "التشريع".
(7) من قوله: "أما بالقصد" إلى هنا سقط من (خ).
(8) في (غ) و (ر): "والنقصان". ومن قوله: "أما بالقصد" إلى هنا سقط من (ت).
(9) في (خ): "أما".
(10) في (ر) و (غ): "وأما العادة".
(11) في (غ) و (ر): "فسبحوا".
(12) قوله: "بل هذه" مكرر في (ر).
(13) أخرجه ابن وضاح في "البدع والنهي عنها" رقم (23) من طريق يحيى بن عيسى، عن الأعمش، عن بعض أصحابه، به.
وشيخ الأعمش لم يُسمَّ، ويحيى بن عيسى صدوق يخطئ، كما في "التقريب" (7669).=(2/338)
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: أَن رَجُلًا كَانَ يَجْمَعُ النَّاسَ فَيَقُولُ: رَحِمَ اللَّهُ مَنْ قَالَ كَذَا وَكَذَا مَرَّةً: سُبْحَانَ اللَّهِ! قَالَ: فَيَقُولُ الْقَوْمُ، وَيَقُولُ: رَحِمَ اللَّهُ مَنْ قَالَ كَذَا وَكَذَا مَرَّةً: الْحَمْدُ لِلَّهِ. قَالَ: فَيَقُولُ الْقَوْمُ. قَالَ: فَمَرَّ بِهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ الله عنه فقال لهم: لقد (1) هديتم لما لم يُهْدَ له (2) نَبِيُّكُمْ! وإِنكم لتُمْسِكون بِذَنَبِ ضَلَالَةٍ (3).
وذُكِر لَهُ: أَن أناساً بِالْكُوفَةِ يسبِّحون بالحَصَى فِي الْمَسْجِدِ، فأَتاهم وَقَدْ كَوَّمَ كلُّ رجل (4) منهم بين يديه كُومَةً (5) مِنْ حَصَى. قَالَ: فَلَمْ يَزَلْ يَحْصُبُهُم بِالْحَصَى حَتَّى أَخرجهم مِنَ الْمَسْجِدِ، وَيَقُولُ: لَقَدْ أَحدثتم بِدْعَةً وَظُلْمًا، وَقَدْ فَضَلتم أَصحاب مُحَمَّدٍ صَلَّى الله عليه وسلّم علماً (6)!.
_________
=لكن الأثر ثابت عن ابن مسعود رضي الله عنه، وجاء عنه من طرق كثيرة:
فقد أخرجه الطبراني في "الكبير" (9/ 128) رقم (8639) من طريق إسرائيل، عن أشعث بن أبي الشعثاء، عن الأسود بن هلال، عن ابن مسعود به بنحوه.
وإسناده صحيح.
وأخرجه عبد الرزاق (5408) ـ ومن طريقه الطبراني (9/ 125) رقم (8629) ـ عن ابن عيينة، عن بيان، عن قيس بن أبي حازم؛ قال: ذكر لابن مسعود ... ، فذكره بنحوه.
وإسناده صحيح.
وأخرجه الدارمي في "سننه" (1/ 60 ـ 61)، والطبراني (9/ 127) رقم (8636) من طريقين عن عمرو بن سَلِمة، عن ابن مسعود به، وفيه قصة.
(1) قوله: "لقد" سقط من (خ) و (م) و (ت).
(2) قوله: "له" سقط من (خ) و (م) و (ت).
(3) أخرجه ابن وضاح في "البدع والنهي عنها" رقم (24) من طريق الأوزاعي، عن عبدة بن أبي لبابة: أن رجلاً ... ، فذكره.
وإسناده صحيح إلى عبدة، وعبدة لا تعرف له رواية عن ابن مسعود؛ وإنما يروي عن أصحاب ابن مسعود، وانظر ما قبله.
(4) في (غ) و (ر): "واحد" بدل "رجل".
(5) في (ت) و (خ): "كوماً".
(6) أخرجه ابن وضاح في "البدع والنهي عنها" رقم (21) من طريق عبيد الله بن عمر العمري، عن سيار (في المطبوع: "يسار" وهو خطأ) أبي الحكم: أن عبد الله بن مسعود حُدِّث: أن أناساً ... ، فذكره.
وإسناده صحيح إلى سيار أبي الحكم، وهو لم يسمع من ابن مسعود، لكن يشهد له ما قبله، والله أعلم.(2/339)
فهذه أُمور أَخرجت الذكر (1) المشروع عن وَصْفه المعتبر شرعاً إلى وَصْفٍ آخر، فلذلك جعله بدعة، والله أعلم.
وأَما الشرع (2): فكالذي (3) تَقَدَّمَ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ فِي الأَوقات الْمَكْرُوهَةِ (4)، أَو الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ إِذا صُلِّيَتْ قَبْلَ أَوقاتها، فإِنا قَدْ فَهِمَنَا مِنَ الشَّرْعِ الْقَصْدَ إِلى النَّهْيِ عَنْهَا، وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ لَا يَكُونُ مُتَعَبَّداً بِهِ (5). وَكَذَلِكَ صِيَامُ يَوْمِ الْعِيدِ (6).
وَخَرَّجَ ابْنُ وَضَّاح (7) مِنْ حَدِيثِ أَبان بْنِ أَبِي عياش (8)؛ قَالَ: لَقِيتُ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ الْخُزَاعِيَّ، فَقُلْتُ لَهُ: قَوْمٌ مِنْ إِخوانك مِنَ أَهل السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ لَا يَطْعَنُونَ عَلَى أَحد مِنَ الْمُسْلِمِينَ، يَجْتَمِعُونَ فِي بَيْتِ هَذَا يَوْمًا وَفِي بَيْتِ هَذَا يَوْمًا، وَيَجْتَمِعُونَ يَوْمَ النَّيْروز والمَهْرجان ويصومونهما؟ فَقَالَ طَلْحَةُ: بِدْعَةٌ مِنْ أَشدّ (9) الْبِدَعِ، وَاللَّهِ لَهُمْ أَشدّ تَعْظِيمًا للنَّيْروز والمَهْرجان مِنْ عِيدِهِمْ (10). ثُمَّ اسْتَيْقَظَ أَنس بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَرَقَيْتُ إِلَيْهِ وسأَلته كَمَا سأَلت طَلْحَةَ، فردَّ عليّ مثل قول طلحة، كأَنهما كانا على مِيعاد.
_________
(1) قوله: "الذكر" ليس في (غ) و (ر).
(2) من قوله: "عن وصفه المعتبر" إلى هنا سقط من (خ) و (م) و (ت).
(3) في (ت) و (خ): "كالذي".
(4) انظر: (ص335).
(5) قوله: "به" سقط من (خ) و (م) و (ت).
(6) انظر: (ص309).
(7) في "البدع والنهي عنها" رقم (30) من طريق الربيع بن صَبِيح، عن أَبان بن أبي عياش، به.
وأَبان: متروك الحديث كما في "التقريب" (143)، والربيع: صدوق سيء الحفظ كما في "التقريب" أيضاً (1905).
(8) في (خ) و (م): "عباس" وهو خطأ.
(9) في هامش (ت) ما نصه: "من أشر البدع"؛ كأنه تصويب لما في الأصل، أو نقله من نسخة أخرى.
(10) في (ت) و (خ): "عبادتهم"، وفي المطبوع من "البدع والنهي عنها": "غيرهم".(2/340)
فَجَعَلَ صَوْمَ تِلْكَ الأَيام مِنْ تَعْظِيمِ مَا تعظِّمه النصارى (1)، وذلك (2) القصد لو كان (3)؛ أَفسدَ (4) العبادة، فَكَذَلِكَ مَا كَانَ نَحْوَهُ.
وَعَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ: أَن رَجُلًا قَالَ لِلْحَسَنِ (5): يَا أَبا سَعِيدٍ! مَا تَرَى فِي مَجْلِسِنَا هَذَا؟ قَوْمٌ مِنَ أَهل السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، لَا يَطْعَنُونَ عَلَى أَحد نَجْتَمِعُ (6) فِي بَيْتِ هَذَا يَوْمًا، وَفِي بَيْتِ هَذَا يَوْمًا، فنقرأُ كِتَابَ اللَّهِ وَنَدْعُو ربنا، ونصلي على النبي صلّى الله عليه وسلّم (7)، وَنَدْعُو لأَنفسنا وَلِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ؟ قَالَ: فَنَهَى الْحَسَنُ عَنْ ذَلِكَ أَشد النَّهْيِ (8).
وَالنَّقْلُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرٌ، فَلَوْ لَمْ يَبْلُغِ؛ الْعَمَلُ الزَّائِدُ ذَلِكَ الْمَبْلَغَ كَانَ أَخف، وَانْفَرَدَ الْعَمَلُ بِحُكْمِهِ، وَالْعَمَلُ الْمَشْرُوعِ بِحُكْمِهِ، كَمَا حَكَى ابْنُ وَضَّاحٍ عَنْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبي بَكْرَةَ؛ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ الأَسود بْنِ سَرِيع، وَكَانَ مَجْلِسُهُ فِي مُؤَخَّرِ الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، فَافْتَتَحَ سُورَةَ بني إِسرائيل حتى بلغ {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} (9)، فَرَفَعَ أَصواتهم الَّذِينَ كَانُوا حَوْلَهُ جُلُوسًا، فجاءَ مُجَالِدُ بْنُ مَسْعُودٍ متوكِّئاً (10) عَلَى عَصَاهُ، فَلَمَّا رآه القوم قالوا: مرحباً، مَرْحَبًا (11) اجْلِسْ. قَالَ: مَا كُنْتُ لأَجلس إِليكم، وإِن كان
_________
(1) علق رشيد رضا رحمه الله على هذا الموضع بقوله: لعل الصواب: "المجوس"؛ فإنه من أعيادهم. اهـ.
(2) في (خ): "وذاك".
(3) علق رشيد رضا أيضاً هنا بقوله: "كان" تامّة؛ أي: لو وُجِد. اهـ.
(4) في (ت): "لأفسد".
(5) أي: البصري.
(6) في (خ): "تجتمع".
(7) من قوله: "وندعو ربنا" إِلى هنا سقط من (خ) و (م) و (ت).
(8) أَخرجه ابن وضاح في "البدع والنهي عنها" رقم (29) من طريق الربيع بن صَبيح، عن يونس بن عبيد به.
والربيع بن صَبيح: تقدم قريباً أنه صدوق سيء الحفظ.
(9) سورة الإسراء، الآية: (111).
(10) كذا في (خ) و (ت)، وفي باقي النسخ: "فتوكأ"، وعند ابن وضاح: "يتوكأ".
(11) قوله: "مرحباً" الثانية من (ر) و (غ) فقط، وهو موافق لما في المطبوع من "البدع والنهي عنها" لابن وضاح.(2/341)
مجلسكم حسناً، ولكنكم (1) صنعتم (2) قُبَيْل (3) شيئاً أَنكر الْمُسْلِمُونَ، فإِياكم وَمَا أَنكر الْمُسْلِمُونَ (4)!.
فَتَحْسِينُهُ الْمَجْلِسَ كَانَ لقراءَة الْقُرْآنِ، وأَما رَفْعُ الصَّوْتِ فَكَانَ خَارِجًا عَنْ ذَلِكَ، فَلَمْ يَنْضَمَّ إِلى الْعَمَلِ الْحَسَنِ، حَتَّى إِذا انضمَّ إِليه صَارَ المجموعُ غيرَ مَشْرُوعٍ.
وَيُشْبِهُ هَذَا (5) مَا فِي سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ (6)، عَنْ مَالِكٍ فِي الْقَوْمِ يَجْتَمِعُونَ جميعاً فيقرؤون فِي السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ، مِثْلَ مَا يَفْعَلُ أَهل الإِسكندرية، فكره ذلك، وأَنكر أَن يكون هذا (7) مِنْ عَمَلِ النَّاسِ (8).
وَسُئِلَ ابْنُ الْقَاسِمِ أَيضاً عَنْ نَحْوِ ذَلِكَ، فَحَكَى الْكَرَاهِيَةَ عَنْ مَالِكٍ، وَنَهَى عَنْهَا، وَرَآهَا بِدْعَةً (9).
وَقَالَ فِي رِوَايَةٍ أُخرى عن مالك (10): وسئل عن القراءَة في المسجد (11)، فَقَالَ: لَمْ يَكُنْ بالأَمر الْقَدِيمِ، وإِنما هُوَ شيءٌ أُحدِث (12). قال: (13) وَلَمْ يأْت آخِرُ هَذِهِ الأُمة بأَهدى مِمَّا كان عليه أَولها، والقرآن حسن.
_________
(1) قوله: "ولكنكم" سقط من (غ) و (ر).
(2) في (ر) و (غ): "وصنعتم".
(3) في (خ) و (ت): "قبلي"، وفي المطبوع من "البدع": "قبل".
(4) أَخرجه ابن وضاح في "البدع والنهي عنها" رقم (34) من طريق علي بن زيد، عن عبد الرحمن بن أَبي بكرة به.
وإسناده ضعيف لضعف علي بن زيد، وهو ابن جدعان؛ كما في "التقريب" (4768).
(5) في (ت): "ويشبه ذلك".
(6) انظر: "البيان والتحصيل" (1/ 298)، و"الحوادث والبدع" للطرطوشي صفحة (162)، و"الموافقات" للمصنف (3/ 497).
(7) قوله: "هذا" سقط من (خ) و (ت) و (م).
(8) علق رشيد رضا رحمه الله على هذا الموضع بقوله: "أي: من عمل جماعة المسلمين في المدينة وهو ما كان يحتجّ به مالك؛ أي: فهو بدعة".
(9) انظر: "البيان والتحصيل" (2/ 17).
(10) انظر: "البيان والتحصيل" (1/ 242)، و"الموافقات" للمصنف (3/ 497).
(11) في (خ) و (م) و (ت): "بالمسجد".
(12) في (خ): "وأحدث".
(13) قوله: "قال" من (غ) و (ر) فقط.(2/342)
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ (1): يُرِيدُ التِزَام (2) القراءَة فِي الْمَسْجِدِ بإِثر صَلَاةٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ عَلَى (3) وَجْهٍ مَّا مَخْصُوصٌ حَتَّى يَصِيرَ ذَلِكَ كُلُّهُ (4) سُنَّةً، مِثْلَ مَا بِجَامِعِ (5) قُرْطُبَةَ إِثر صَلَاةِ الصُّبْحِ. قَالَ: فرأَى ذَلِكَ بِدْعَةً.
فَقَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ: "وَالْقُرْآنُ حَسَنٌ" يَحْتَمَلُ أَن يُقَالَ: إِنه يَعْنِي أَن تِلْكَ الزِّيَادَةَ مِنْ الِاجْتِمَاعِ، وَجَعْلُهُ فِي الْمَسْجِدِ مُنْفَصِلٌ لَا يَقْدَحُ فِي حُسْنِ قراءَة الْقُرْآنِ، وَيَحْتَمَلُ ـ وَهُوَ الظَّاهِرُ ـ أَنه يَقُولُ: قراءَة (6) القرآن (7) حسن على غير هذا (8) الوجه، لا على هذا الْوَجْهِ (9)؛ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ (10): "مَا يُعْجِبُنِي أَن يقرأَ الْقُرْآنُ إِلا فِي الصَّلَاةِ وَالْمَسَاجِدِ، لَا فِي الأَسواق والطُّرُق"، فَيُرِيدُ أَنه لا يقرأُ إِلا على النحو الذي كان يَقْرَؤُهُ السَّلَفُ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قراءَة الإِدارة مَكْرُوهَةٌ عِنْدَهُ فَلَا تُفعل أَصلاً، وتحرَّزَ بقوله: "والقرآن حسن" من توهُّم مُتَوهِّم (11) أَنه يَكره قراءَة الْقُرْآنِ مُطْلَقًا، فَلَا يَكُونُ فِي كَلَامِ مَالِكٍ دَلِيلٌ عَلَى انْفِكَاك الِاجْتِمَاعِ مِنَ القراءَة، وَاللَّهُ أَعلم.
وأَما الْقِسْمُ الثَّالِثُ ـ وَهُوَ أَن يَصِيرَ الوَصْف عُرْضَةً لِأَنْ يَنْضَمَّ إِلى الْعِبَادَةِ حَتَّى يُعتقد فِيهِ أَنه مِنْ أَوصافها أَو جزءٌ مِنْهَا ـ: فَهَذَا الْقِسْمُ يُنْظَرُ فِيهِ مِنْ جِهَةِ النَّهْيِ عَنِ الذَّرائع، وَهُوَ وإِن كَانَ فِي الْجُمْلَةِ مُتَّفِقًا عَلَيْهِ، فَفِيهِ فِي التَّفْصِيلِ نِزَاعٌ بَيْنَ العلماءِ؛ إِذ لَيْسَ كُلُّ ما هو ذَريعة إِلى ممنوع يُمْنَع،
_________
(1) في "البيان والتحصيل" (1/ 242).
(2) في "البيان والتحصيل": "يريد أن التزام".
(3) في "البيان والتحصيل": "أو على".
(4) في "البيان والتحصيل": "كأنه".
ولعله أشبه بالصواب.
(5) في "البيان والتحصيل": "ما يفعل بجامع".
(6) في (ت): "قراءته".
(7) قوله: "القرآن" سقط من (خ) و (ت).
(8) قوله: "هذا" سقط من (م)، وفي (خ) و (ت): "ذلك" بدل "هذا".
(9) قوله: "لا على هذا الوجه" ليس في (خ).
(10) انظر: "البيان والتحصيل" (1/ 242).
(11) قوله: "متوهم" سقط من (خ).(2/343)
بدليل الخلاف الواقع في أَصل (1) بُيُوعِ الْآجَالِ، وَمَا كَانَ نَحْوَهَا، غَيْرَ أَن أَبا بَكْرٍ الطَّرْطُوشي يَحْكِي الِاتِّفَاقَ فِي هَذَا النَّوْعِ اسْتِقْرَاءً مِنْ مَسَائِلَ وَقَعَتْ لِلْعُلَمَاءِ مَنَعُوهَا سَدًا لِلذَّرِيعَةِ، وإِذا ثَبَتَ الْخِلَافُ فِي بَعْضِ التَّفَاصِيلِ لَمْ يُنْكَر أَن يَقُولَ بِهِ قَائِلٌ فِي بَعْضِ مَا نَحْنُ (2) فِيهِ، ولنُمَثِّله أَوَّلاً، ثُمَّ نَتَكَلَّمْ عَلَى حُكْمِهِ بِحَوْلِ اللَّهِ.
فَمِنْ ذلك: ما جاءَ في الحديث مِنْ نَهي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن يُتَقَدَّم شهرُ رَمَضَانَ بِصِيَامِ يَوْمٍ أَو يومين (3). ووجه ذَلِكَ عِنْدَ العلماءِ: مَخَافةَ أَن يُعَدَّ ذَلِكَ مِنْ جُملة رَمَضَانَ.
وَمِنْهُ: مَا ثَبَتَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ (4) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنه كان لا يقصر في السفر (5)، فيقال له: أَلست (6) قَصَرْتَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَيَقُولُ: بَلَى! وَلَكِنِّي إِمام النَّاسِ، فيَنْظر إِليَّ الأَعرابُ وأَهل الْبَادِيَةِ أُصلي رَكْعَتَيْنِ، فَيَقُولُونَ: هكذا فُرِضَت (7).
_________
(1) قوله: "أصل" سقط من (ت) و (خ) و (م).
(2) في (م): "ما نحو".
(3) أخرجه البخاري (1914)، ومسلم (1082) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(4) قوله: "ابن عفان" من (غ) و (ر) فقط.
(5) علّق رشيد رضا رحمه الله على هذا الموضع بقوله: "أخطأ من قال: إن عثمان لم يكن يقصر في السفر مطلقاً، وإنما نُقل عنه أنه صلى تماماً في منى في آخر خلافته، وأنكر عليه ابن مسعود، وكان هذا من أسباب التّأَلُّب عليه، أو: من حجج الذين تألّبوا عليه. وما علل به هنا أحد الأجوبة عنه، ولكنه معزوّ إليه، ولو صحّ عنه لما اعتذر العلماء عنه بعدّة أعذار، أقواها: أنه كان قد تزوّج ونوى الإقامة، أو أن الزواج بعد إقامة".
(6) في (غ) و (ر): "أليس".
(7) أما إتمام عثمان رضي الله عنه للصلاة بمنى: فثابت في "الصحيحين" من عدّة طرق، منها: ما أخرجه البخاري (1084)، ومسلم (695) من طريق عبد الرحمن بن يزيد؛ قال: صلى بنا عثمان بن عفان رضي الله عنه بمنى أربع ركعات، فقيل ذلك لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فاسترجع! ثم قال: صليت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمنى ركعتين، وصليت مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه بمنى ركعتين، وصليت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمنى ركعتين، فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبّلتان. وأما جعل سبب إتمام عثمان رضي الله عنه، مراعاة حال الأعراب: فأخرجه أبو داود=(2/344)
فَالْقَصْرُ فِي السَّفَرِ سُنَّةٌ أَو وَاجِبٌ، وَمَعَ ذلك تَرَكَه (1) خوفاً أَن يُتَذرَّعَ بِهِ لأَمرٍ (2) حادثٍ فِي الدِّينِ غير مشروع.
ومنه قصة عمر بن الخطاب (3) رضي الله عنه في غَسْله الاحتلام (4) من ثوبه (5) حَتَّى أَسفر (6)، وَقَوْلُهُ لِمَنْ رَاجَعَهُ فِي ذَلِكَ، وأَن يَأْخُذَ مِنْ أَثْوَابِهِمْ مَا يُصَلِّي بِهِ، ثُمَّ يَغْسِلُ ثَوْبَهُ عَلَى السِّعَةِ: لَوْ فعلتُه لَكَانَتْ سُنَّة، بَلْ أَغْسِلُ مَا رأَيت، وأَنْضَحُ مالم أَرَ (7).
_________
= (1964)، والطحاوي في "شرح المعاني" (1/ 425) من طريق أيوب، عن الزهري: أن عثمان بن عفان أتم الصلاة بمنى من أجل الأعراب، لأنهم كثروا عَامَئذٍ، فصلى بالناس أربعاً ليعلمهم أن الصلاة أربع.
وأخرجه البيهقي (3/ 144) من طريق عبد الرحمن بن حميد، عن أبيه، عن عثمان: أنه أتم الصلاة بمنى، ثم خطب الناس فقال: يا أيها الناس! إن السنة سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسنة صاحبيه؛ ولكنه حدث العام من الناس [طَغَامٌ] فخفت أَن يَسْتَنّوا.
وأخرجه عبد الرزاق (4277) عن ابن جريج؛ قال: بلغني أنه أوفى أربعاً بمنى قطُّ من أجل أن أعرابياً ناداه في مسجد الخيف بمنى: يا أمير المؤمنين! مازلت أصليها ركعتين منذ رأيتك عام أول صليتها ركعتين، فخشي عثمان أن يظن جهال الناس إنما الصلاة ركعتين؛ وإنما كان أوفاها بمنى قطُّ.
قال الحافظ في "الفتح" (2/ 571): "وهذه طرقٌ يقوِّي بعضها بعضاً، ولا مانع أن يكون هذا أصل سبب الإتمام".
(1) في (غ) و (ر): "فتركه".
(2) في (ت): "إلى أمر".
(3) قوله: "ابن الخطاب" من (غ) و (ر) فقط.
(4) في (خ): "في غسله من الاحتلام"، وفي (ت): "في عدم غسله ثوبه من الاحتلام حتى أسفر".
(5) قوله: "من ثوبه" سقط من (خ).
(6) علق رشيد رضا أيضاً على هذا الموضع بقوله: "هذا نص نسخة الكتاب. والمراد: أنه تأخر عن الصلاة إلى وقت الإسفار؛ اشتغالاً بغسل ثوبه من أثر الاحتلام؛ إذ لم يكن له سواه".
(7) أخرجه مالك في "الموطأ" (1/ 50)، ومن طريقه الطحاوي في "شرح المعاني" (1/ 52)، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب: أنه اعتمر مع عمر بن الخطاب ... ، فذكره.
قال ابن معين: يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب بعضهم يقول: سمعت عمر، وهذا باطل؛ إنما هو: عن أبيه؛ سمع عمر. انظر: "تهذيب الكمال" (31/ 436).=(2/345)
وَقَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ أَسيد: شَهِدْتُ أَبا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَكَانَا لَا يُضَحِّيَان؛ مَخَافَةَ أَن يُرَى أَنها وَاجِبَةٌ (1).
وَنَحْوُ ذَلِكَ عن [أبي] (2) مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِني لأَترك أُضحيتي ـ وإِني (3) لمن أَيْسَرِكم ـ مخافة أَن يَظُنّ الجيران أَنها واجبة (4).
_________
=وأخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (1446) عن معمر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن أبيه: أن عمر أصابته جنابة ... ، فذكره هكذا بزيادة أبيه.
وتابع معمراً عليه ابن جريج، فقد أخرجه عبد الرزاق (935) عن معمر وابن جريج ـ قرنهما ـ، عن هشام بن عروة، به كسابقه. ولكن عبد الرزاق عاد فأخرجه (1445) عن ابن جريج وحده، ولم يذكر "عن أبيه". ثم أخرجه عبد الرزاق برقم (1448) من طريق معمر، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن أبيه.
وهذا سند صحيح، وتؤيده الطريق السابقة، وقال الزرقاني في "شرحه للموطأ" (1/ 150): قال أبو عبد الملك: هذا مما عُدَّ أن مالكاً وهم فيه؛ لأن أصحاب هشام: الفضل بن فضالة، وحماد بن سلمة، ومعمراً قالوا: عن هشام، عن أبيه عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن أبيه، فسقط لمالك "عن أبيه".
(1) ذكره الشافعي في "الأم" (2/ 224) بلاغاً قال: بلغنا أن أبا بكر وعمر ... فذكره.
وأخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (4/ 381)، والطبراني في "الكبير" (3/ 182)، والطحاوي في "شرح المعاني" (4/ 174)، والبيهقي (9/ 265)، وابن حزم في "المحلى" (7/ 358) من طريق جماعة عن الشعبي، عن حذيفة بن أَسِيد به.
وعلقه ابن عبد البر في "التمهيد" (3/ 194).
قال الدارقطني في "العلل" (1/ 286): "محفوظ عن الشعبي، عنه".
وصححه النووي في "المجموع" (8/ 279)، والحافظ في "الدراية" (2/ 215)، والشيخ الألباني في "الإرواء" (4/ 355).
(2) في جميع النسخ: "ابن"، والتصويب من مصادر التخريج.
(3) في (غ) و (ر): "قال وإني".
(4) أخرجه عبد الرزاق (4/ 383)، وسعيد بن منصور كما في "التلخيص الحبير" (4/ 145)، والبيهقي (9/ 265)، وابن حزم في "المحلى" (7/ 358) من طريق أبي وائل، عن أبي مسعود به.
وعلّقه ابن عبد البر في "التمهيد" (23/ 194).
وإسناده صحيح، وصححه الحافظ في "التلخيص" (4/ 145)، والشيخ الألباني في "الإرواء" (4/ 355).(2/346)
وَكَثِيرٌ مِنْ هَذَا عَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ.
وَقَدْ كَرِهَ (1) مَالِكٌ (2) إِتْباعَ رَمَضَانَ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ، وَوَافَقَهُ أَبو حَنِيفَةَ، فَقَالَ: لَا أَستحبها، مَعَ مَا جاءَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ (3)، وأَخبر مَالِكٌ (4) عَنْ غَيْرِهِ مِمَّنْ يُقتدى بِهِ (5): أَنهم كَانُوا لَا يَصُومُونَهَا وَيَخَافُونَ بِدَعَتَهَا.
وَمِنْهُ: ما تقدم (6) في اتباع الآثار (7)؛ كمجيءِ "قبا" (8)، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَبِالْجُمْلَةِ: فكلُّ عَمَلٍ أَصله ثَابِتٌ شَرْعًا، إِلا أَن فِي إِظهار (9) الْعَمَلِ بِهِ والمُدَاومة (10) عَلَيْهِ مَا يُخاف أَن يُعتقد أَنه سُنَّةٌ، فَتَرْكُهُ مَطْلُوبٌ فِي الْجُمْلَةِ أَيضاً، مِنْ بَابِ سَدّ الذَّرائع، وَلِذَلِكَ كَرِهَ مَالِكٌ دعاءَ التوجُّه بَعْدَ الإِحرام، وَقَبْلَ القراءَة (11)، وَكَرِهَ غَسْلَ اليد قبل الطعام (12)، وأَنكر على
_________
(1) في (خ): "وقد ذكره".
(2) في "الموطأ" (1/ 311). وانظر ما تقدم (ص357 ـ 358) من المجلد الأول، وما سيأتي (ص355 و491 ـ 493).
(3) أخرج مسلم (1164) من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه مرفوعاً: "من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر".
(4) في الموضع السابق من "الموطأ".
(5) قوله: "به" سقط من (ر).
(6) (ص248) من هذا المجلد.
(7) علق رشيد رضا رحمه الله على هذا الموضع بقوله: "أي: ترك الصحابة اتباع الأماكن التي صلى فيها النبي صلّى الله عليه وسلّم، أو جلس فيها، ونهيهم عند ذلك".
(8) انظر "البدع والنهي عنها" لابن وضاح (ص91).
(9) في (ر) و (غ): "الإظهار".
(10) في (ر) و (غ): "أو المداومة".
(11) المقصود بالإحرام هنا: التكبير للصلاة، قال في "المدونة" (1/ 66): " .... وكان مالك لا يرى هذا الذي يقوله الناس، سبحانك اللهم وبحمدك تبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك، وكان لا يعرفه".
وقال: "قال مالك: ومن كان وراء الإمام، ومن هو وحده، ومن كان إِماماً، فلا يَقُل: سبحانك اللهم وبحمدك، تبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك، ولكن يكبروا، ثم يبتدؤا القراءة".
وهو في كتب المالكية، ففي "التاج والإكليل" (1/ 538): أن ابن حبيب قال في دعاء التوجه: "يقوله بعد الإقامة، وقبل الإحرام".
(12) ذكر القاضي عياض في "ترتيب المدارك" (2/ 99) أن الإمام مالكاً دخل على=(2/347)
مَنْ جَعَلَ ثَوْبَهُ فِي الْمَسْجِدِ أَمامه فِي الصف (1).
فلنرجع (2) إِلى مَا كُنَّا فِيهِ: فَاعْلَمُوا أَنه إِن ذَهَبَ مجتهدٌ إِلى عَدَمِ سَدِّ الذَّرِيعة فِي غَيْرِ مَحلِّ النَّصِّ مِمَّا يَتَضَمَّنُهُ (3) هَذَا الْبَابُ، فَلَا شَكَّ أَن الْعَمَلَ الْوَاقِعَ عِنْدَهُ مَشْرُوعٌ، وَيَكُونُ لِصَاحِبِهِ أَجْره. وَمَنْ ذَهَبَ إِلى سَدِّها ـ وَيَظْهَرُ (4) ذَلِكَ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ السَّلَفِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ ـ، فَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ الْعَمَلَ مَمْنُوعٌ، وَمَنْعُهُ يَقْتَضِي بِظَاهِرِهِ أَنه مَلُوم عليه، وموجب للذَّم، إِلا أَن يذهب ذاهب (5) إِلى أَن النَّهْيَ فِيهِ رَاجِعٌ إِلى أَمر مُجَاوِرٍ، فَهُوَ مَحَلُّ نَظَرٍ وَاشْتِبَاهٍ رُبَّمَا يُتَوَهَّم فِيهِ انْفِكَاكُ الأَمرين، بِحَيْثُ يَصِحُّ أَن يَكُونَ الْعَمَلُ مأْموراً بِهِ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ، وَمَنْهِيًّا عَنْهُ مِنْ جِهَةِ مَآلِهِ. وَلَنَا فِيهِ مَسْلَكَانِ:
أَحدهما: التمسُّك بمجرَّد النَّهْيِ فِي أَصل المسأَلة؛ كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا} (6)، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (7). وفي الحديث: أَنه عليه الصلاة والسلام نهى أَن يُجْمَعَ بين المُتَفَرِّق (8)، ويُفَرَّقَ بين (9)
_________
=عبد الملك بن صالح أمير المدينة، فجلس ساعة، ثم دعا بالطعام والوضوء، فقال: ابدأوا بأبي عبد الله، فقال مالك: إن أبا عبد الله ـ يعني نفسه ـ لا يغسل يده، فقال: لِمَ؟! قال: ليس هو الذي أدركت عليه أهل العلم ببلدنا، إنما هو من زيّ الأعاجم، وقد نهى عمر عن أمر الأعاجم، وكان عمر إذا أكل مسح يده بباطن قدمه. فقال له عبد الملك: أأترك يا أبا عبد الله؟! فقال: إي والله! فما عاد إلى ذلك ابن صالح. قال مالك: ولا آمر الرجل أن لا يغسل يده، ولكن إذا جعل ذلك كأنه واجب عليه، فلا! أميتوا سنة العجم، وأحيوا سنن العرب، أما سمعت قول عمر رحمه الله: تمعددوا، واخشوشنوا، وامشوا حفاة، وإياكم وزيّ الأعاجم؟!.
(1) وقصته في ذلك مع ابن مهدي سيذكرها المؤلف بتمامها (ص 408) فراجعها هناك.
(2) في (خ): "ولنرجع".
(3) في (غ) و (ر): "ينتضمه".
(4) في (م): "وتظهر".
(5) قوله: "ذاهب" سقط من (خ) و (م) و (ت).
(6) سورة البقرة: الآية (104).
(7) سورة الأنعام: الآية (108).
(8) في (ر) و (غ): "المفترق".
(9) قوله: "بين" ليس في (خ) و (م) و (ت).(2/348)
المُجْتَمِع خشية الصدقة (1). ونهى عن البيع والسَّلَف (2)، وَعَلَّلَهُ العلماءُ بِالرِّبَا المُتَذَرَّع إِليه فِي ضِمْنِ السَّلَفِ. وَنَهَى عَنِ الخَلْوة بالأَجنبيات، وَعَنْ سَفَرِ المرأَة مَعَ غَيْرِ ذِي مَحْرَمٍ (3)، وأَمر النساءَ بِالِاحْتِجَابِ عَنْ أَبصار الرِّجَالِ (4)، وَالرِّجَالَ بغَضّ الأَبصار (5)، إِلى أَشباه ذَلِكَ مِمَّا عَلَّلُوا الأَمر فِيهِ وَالنَّهْيَ بالتذرُّع لَا بِغَيْرِهِ.
وَالنَّهْيُ أَصله أَن يَقَعَ عَلَى المنهيِّ عَنْهُ وإِن كَانَ مُعَلَّلاً، وصَرْفُهُ إِلى أَمر مُجَاوِرٍ (6) خِلَافُ أَصل الدَّلِيلِ، فَلَا يُعْدَلُ عَنِ الأَصل إِلا بِدَلِيلٍ. فكلُّ عِبَادَةٍ نُهِيَ عَنْهَا فَلَيْسَتْ بِعِبَادَةٍ؛ إِذ لَوْ كَانَتْ عِبَادَةً لَمْ يُنْهَ عَنْهَا، فَالْعَامِلُ بِهَا عَامِلٌ بِغَيْرِ مَشْرُوعٍ، فَإِذَا اعتَقد فِيهَا التعبُّد مَعَ هَذَا النَّهْيِ كَانَ مُبْتَدِعًا بِهَا.
لَا يُقَالُ: إِن نَفْسَ التَّعْلِيلِ يُشْعِر بالمُجاورة، وإِن الَّذِي نُهِيَ عَنْهُ غَيْرُ الَّذِي أُمر بِهِ، وانفكاكها مُتَصَوَّر؛ لأَنا نَقُولُ: قَدْ تقرَّر أَن المجاوِر إِذا صَارَ كَالْوَصْفِ اللَّازِمِ انْتَهَضَ النَّهْيُ عَنِ الْجُمْلَةِ، لَا عَنْ نَفْسِ الْوَصْفِ بِانْفِرَادِهِ، وَهُوَ مُبَيَّن في القسم الثاني.
_________
(1) أخرجه البخاري (1450) من حديث أنس رضي الله عنه.
(2) علق رشيد رضا على هذا الموضع بقوله: لعل الأصل: "عن بيع السلف".اهـ.
والحديث أخرجه الطيالسي (2257)، وابن أبي شيبة (4/ 451)، وأحمد (2/ 174 ـ 175، و178 ـ 179)، وأبو داود (3504)، والترمذي (1234)، والنسائي (7/ 288)، والحاكم (2/ 17)، والبيهقي (5/ 340) وغيرهم من طريق عمرو بن شعيب؛ قال: حدثني أبي، عن أبيه، حتى ذكر عبد الله بن عمرو؛ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم: "لا يحلّ سلف وبيع ... " الحديث.
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وصححه الحاكم، وابن عبد البر. كما في "التمهيد" (24/ 384).
(3) أخرجه البخاري (3006)، ومسلم (1341)، كلاهما مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا؛ قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يخطب؛ يقول: "لا يخلونّ رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم".
(4) لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَِزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ} الآية ولقوله صلّى الله عليه وسلّم لسودة: "واحتجبي منه". أخرجه البخاري (2053)، ومسلم (1457).
(5) لقوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} الآية.
(6) في (م): "مجاوز".(2/349)
والمسلك (1) الثَّانِي: مَا دلَّ فِي بَعْضِ مَسَائِلِ الذَّرَائِعِ على أَن الذريعة (2) فِي الْحُكْمِ بِمَنْزِلَةِ المُتَذرَّع إِليه، وَمِنْهُ: مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ (3) مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: "إن (4) مِنْ أَكبر الْكَبَائِرِ أَن يَسُبَّ الرجلُ وَالِدَيْهِ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَهَلْ يسبُّ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ (5)؟! قَالَ: "نَعَمْ (6)؛ يسبُّ أَبا الرَّجُلِ فيسُبّ أباه (7)، ويسبُّ أُمَّه فيسبُّ أُمَّه" (8). فَجَعَلَ سَبَّ الرَّجُلِ لِوَالِدَيْ (9) غَيْرِهِ بِمَنْزِلَةِ سَبِّه لوالدي (10) نفسه، حتى عَدَّها (11) تَرْجَمَهُ عَنْهَا بِقَوْلِهِ: "أَن يَسُبَّ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ"، وَلَمْ يَقُلْ: أَن يَسُبَّ الرَّجُلُ وَالِدَيْ مَنْ يَسُبُّ وَالِدَيْهِ، أَو نَحْوَ ذَلِكَ. وَهُوَ غَايَةُ في مَعْنَى مَا نَحْنُ فِيهِ.
وَمِثْلُهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَعَ أُمّ وَلَد زَيْدِ بْنِ أَرْقَم رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَوْلُهَا: أَبلغي (12) زيدَ بْنَ أَرقم أَنه قَدْ أَبطل جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِن لَمْ يَتُبْ (13). وَإِنَّمَا يَكُونُ هَذَا الْوَعِيدُ فِيمَنْ فَعَلَ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ، لَا
_________
(1) في (ت) و (خ) و (م): "المسلك".
(2) في (ت) و (خ): "الذرائع".
(3) أخرجه البخاري (5973)، ومسلم (90) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
(4) قوله: "إن" ليس في (خ) و (م) و (ت).
(5) قوله: "والديه" مكرر في (ر).
(6) قوله: "نعم" سقط من (غ) و (ر).
(7) في (ت) و (خ): "فيسب أباه وأمه".
(8) قوله: "ويسب أمه فيسب أمه" سقط من (ت) و (خ)، وقوله: "فيسب أمه" سقط من (م).
(9) في (غ): "والدي".
(10) في (خ) و (م) و (ت): "لوالديه".
(11) قوله: "عدها" سقط من (خ) و (م) و (ت).
(12) في (خ) و (م): "أبلغني".
(13) في (خ): "يبت"، ولذا علق عليها رشيد رضا بقوله: "العبارة كما ترى مبتورة، ولعل ها هنا حذفاً، وفي سائر الكلام تحريفاً.
والحديث أخرجه عبد الرزاق (8/ 184 ـ 185) واللفظ له، وأحمد كما في "إعلام الموقعين" (3/ 167)، و"نصب الراية" (4/ 16)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (1/ 546)، والدارقطني (3/ 52)، والبيهقي (5/ 330 ـ 331) من طريق أبي إسحاق، عن امرأته: أنها دخلت على عائشة في نسوة، فسألتها امرأة فقالت: يا أم المؤمنين! كانت لي جارية، فبعتها من زيد بن أرقم بثمان مئة إلى أجل، ثم اشتريتها منه بست مئة، فنقدته الست مئة وكتبت عليه ثمان مئة. فقالت عائشة: بئس والله ما اشتريت! وبئس والله ما اشترى! أخبري زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا أن يتوب. فقالت المرأة: أرأيت إن أخذت رأس مالي ورددت عليه الفضل؟ قالت:=(2/350)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
_________
= {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى} الآية أو قالت: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ} الآية.
وأخرجه عبد الرزاق (8/ 185)، وابن حزم في "المحلى" (9/ 49) من طريق سفيان الثوري، عن أبي إسحاق، عن امرأته قالت: سمعت امرأة أبي السفر سألت عائشة فذكرته.
وامرأة أبي السفر ذكرها ابن سعد في "الطبقات" (8/ 488)، وابن حجر في "تعجيل المنفعة" (1722).
وأخرجه ابن سعد في "الطبقات" (8/ 487)، والدارقطني (3/ 52) ومن طريقه ابن الجوزي في "التحقيق" (2/ 184)، وأخرجه البيهقي (5/ 331) من طريق يونس بن أبي إسحاق، عن أمه العالية بنت أيفع قالت: حججت أنا وأم محبة فدخلنا على عائشة فسلمنا عليها ... فقالت لها أم محبة: كانت لي جارية ... فذكرته.
قال الدارقطني: أم محبة والعالية مجهولتان لا يحتج بهما.
وكذا أعله الشافعي في "الأم" (3/ 38)، وابن حزم في "المحلى" (7/ 29) و (9/ 47، 49).
ورد هذا الإعلال ابن القيم، وابن التركماني، وابن الجوزي، وابن عبد الهادي بأن العالية معروفة غير مجهولة.
قال ابن التركماني: "العالية معروفة، روى عنها زوجها وابنها وهما إمامان، وذكرها ابن حبان في "الثقات" من التابعين، وذهب إلى حديثها هذا الثوري، والأوزاعي، وأبو حنيفة وأصحابه، ومالك، وابن حنبل، والحسن بن صالح ... ". "الجوهر النقي" (5/ 330).
وقال ابن الجوزي في "التحقيق" (2/ 184): قالوا: العالية امرأة مجهولة، فلا يقبل خبرها، قلنا: بل هي امرأة جليلة القدر معروفة، ذكرها محمد بن سعد في كتاب "الطبقات" فقال: العالية بنت أيفع بن شراحيل امرأة أبي إسحاق السبيعي سمعت من عائشة. اهـ وانظر: "الطبقات" (8/ 487) وقال ابن القيم: "وفي الحديث قصة تدل على أنه محفوظ، وأن العالية لم تختلق هذه القصة ولم تضعها، بل يغلب على الظن غلبة قوية صدقها فيها وحفظها لها ... ".
انظر: "تهذيب السنن" (9/ 246).
وقال في "إعلام الموقعين" (3/ 167): "رواه أحمد وعمل به، وهذا حديث فيه شعبة، وإذا كان شعبة في حديث فاشدد يديك به، فمن جعل شعبة بينه وبين الله فقد استوثق لدينه ... " إلخ كلامه رحمه الله.
وقال ابن كثير في "تفسيره" (1/ 484): "وهذا الأثر مشهور". وقال ابن عبد الهادي في "التنقيح" ـ كما في "نصب الراية" (4/ 16) ـ: "إسناده جيد".
وانظر ترجمة امرأة أبي السفر في "الطبقات" (8/ 488)، و"تعجيل المنفعة" (1722)، وترجمة أم محبة في "الطبقات" (8/ 488).(2/351)
مِمَّا (1) فِعْلُهُ كَبِيرَةٌ، حَتَّى نَزَعَتْ (2) آخِرًا بِالْآيَةِ: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} (3)، وهي نازلة في عَيْن (4) الْعَمَلِ بِالرِّبَا، فعدَّت الْعَمَلَ بِمَا يُتَذَرَّعُ بِهِ إِلى الرِّبَا (5) بِمَنْزِلَةِ الْعَمَلِ بِالرِّبَا، مَعَ أَنا نَقْطَعُ أَن زَيْدَ بْنَ أَرقم وأُمَّ وَلَدِهِ لم يقصدا قَصْدَ الرِّبَا، كَمَا لَا يُمْكِنُ ذَا عَقْلٍ أَن يَقْصِدَ وَالِدَيْهِ بالسَّبّ.
وإِذا ثَبَتَ هَذَا الْمَعْنَى فِي بَعْضِ الذَّرَائِعِ؛ ثَبَتَ فِي الْجَمِيعِ، إِذ لا فرق يُدَّعى (6) فيما (7) لَمْ يُنَصَّ عَلَيْهِ، إِلا أُلزِمَ (8) الخصمُ مِثْلَهُ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ. فَلَا عِبَادَةَ أَو مُبَاحًا يُتَصَوَّر فِيهِ أَن يَكُونَ ذَرِيعَةً إِلى غَيْرِ جَائِزٍ، إِلا وَهُوَ غَيْرُ عِبَادَةٍ وَلَا مُبَاحٍ.
لكن هذا القسم إِنما يكون النهي عنه (9) بِحَسَبِ مَا يَصِيرُ وَسِيلَةً إِليه فِي مَرَاتِبِ النَّهي، إِن كَانَتِ الْبِدْعَةُ مِنْ قَبِيلِ الْكَبَائِرِ، فَالْوَسِيلَةُ كَذَلِكَ، أَو مِنْ (10) قَبِيلِ الصَّغَائِرِ، فَهِيَ كَذَلِكَ، أَو من قبيل المكروهات فَهِيَ كَذَلِكَ (11)، وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ المسأَلة يتَّسع، وَلَكِنَّ هَذِهِ الإِشارة كَافِيَةٌ فِيهَا، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
_________
(1) في (خ) و (م) و (ت): "لا ممن".
(2) في (خ): "ترغب".
ومعنى "نزعت": استشهدت.
(3) سورة البقرة: الآية (275).
(4) في (خ) و (ت) و (م): "غير".
(5) قوله: "إلى الربا" سقط من (ت).
(6) في (خ) و (م): "فيما لم يدعى".
(7) في (ت): "إذ لا فرق فيما يدعى وفيما".
(8) في (ت): "إلا إلزام".
(9) قوله: "عنه" سقط من (خ) و (م)، وفي (ت): "فيه" بدل "عنه".
(10) في (خ) و (م): "كذلك ومن".
(11) قوله: "أو من قبيل المكروهات فهي كذلك" سقط من (خ) و (م) و (ت).(2/352)
الْبَابُ السَّادِسُ
فِي أَحكام الْبِدَعِ وأَنها لَيْسَتْ على رتبة واحدة
اعْلَمْ أَنا (1) إِذا بَنَيْنَا عَلَى أَن الْبِدَعَ مُنْقَسِمَةٌ إِلى الأَحكام الْخَمْسَةِ؛ فَلَا إِشكال فِي اختلاف رُتبها (2)؛ لأَن النَّهْيَ مِنْ جِهَةِ انْقِسَامِهِ إِلى نَهْيِ الْكَرَاهِيَةِ وَنَهْيِ التَّحْرِيمِ يَسْتَلْزِمُ (3) أَن أَحدهما أَشد فِي النَّهْيِ مِنَ الْآخَرِ، فإِذا انْضَمَّ إِليهما (4) قِسْمُ الإِباحة؛ ظَهَرَ الِاخْتِلَافُ فِي الأَقسام، فإِذا اجْتَمَعَ إِليها قِسْمُ النَّدْبِ وَقِسْمُ الْوُجُوبِ؛ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِيهَا أَوضح، وَقَدْ مَرَّ مِنْ أَمثلتها أَشياءَ كَثِيرَةٌ؛ لَكِنَّا لَا نَبْسُطُ الْقَوْلَ فِي هَذَا التَّقْسِيمِ، وَلَا بَيَانِ رُتَبِهِ بالأَشد والأَضعف؛ لأَنه إِما أَن يكون تقسيماً حقيقياً أَو لا، فإِن لم يكن (5) حقيقياً فالكلام فيه عناءٌ، وإِن كان حقيقياً (6) فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنه غَيْرُ صَحِيحٍ، فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّفْرِيعِ عَلَى مَا لَا يَصِحُّ، وإِن عَرَضَ فِي ذَلِكَ نَظَرٌ أَو تَفْرِيعٌ فإِنما يذكرُ بِحُكْمِ التَّبَعِ بِحَوْلِ اللَّهِ (7).
فإِذا خَرَجَ عَنْ هَذَا التَّقْسِيمِ ثَلَاثَةُ أَقسام: قِسْمُ الْوُجُوبِ، وَقِسْمُ النَّدْبِ، وَقِسْمُ الإِباحة؛ انْحَصَرَ النَّظَرُ فِيمَا بقي، وهو الذي يثبت (8) مِنَ التَّقْسِيمِ، غَيْرَ أَنه وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهَا على وجه واحد، وَنِسْبَةٍ (9) إِلَى الضَّلَالَةِ وَاحِدَةٌ؛ فِي قَوْلِهِ: "إِياكم وَمُحْدَثَاتِ الأُمور؛ فإِن كل محدثة بدعة،
_________
(1) في (م): "أن".
(2) في (خ) و (ت) و (م): "رتبتها".
(3) في (م) و (خ): "يستلزم من".
(4) في (خ) و (م): "إليها".
(5) من قوله: "تقسيماً حقيقياً" إلى هنا سقط من (خ) و (م) و (ت).
(6) في (ت) و (خ): "وإن كان غير حقيقي".
(7) لفظ الجلالة: "الله" سقط من (خ) و (م)، واستشكله ناسخ (خ)، فوضع ثلاث نقاط (. . .) فوق قوله: "بحول"، وفي (ت): "فنقول" بدل "بحول الله".
(8) في (خ): "ثبت".
(9) في (خ) و (م): "ونسبته".(2/353)
وكل (1) بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ (2) " (3). وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ بِدْعَةٍ.
فَيَقَعُ السُّؤَالُ: هَلْ لَهَا حكمٌ وَاحِدٌ أَم لَا (4)؟
فَنَقُولُ: ثَبَتَ في الأُصول أَن الأَحكام الشرعية خمسة، يخرج عَنْهَا الثَّلَاثَةُ، فَيَبْقَى حُكْمُ الْكَرَاهِيَةِ وَحُكْمُ التَّحْرِيمِ، فَاقْتَضَى النَّظَرُ انْقِسَامَ الْبِدَعِ إِلى الْقِسْمَيْنِ؛ فَمِنْهَا بِدْعَةٌ مُحَرَّمَةٌ، وَمِنْهَا بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ، وَذَلِكَ أَنها داخلة تحت جنس المنهيَّات؛ والمنهيات (5) لا تعدو الكراهة أَو التحريم، فَالْبِدَعُ كَذَلِكَ. هَذَا وَجْهٌ.
وَوَجْهٌ ثَانٍ: أَن (6) البدع إِذا تُؤُمِّل معقولُها وجدت رتبها مُتَفَاوِتَةً.
فَمِنْهَا مَا هُوَ كُفْرٌ صُرَاحٌ؛ كَبِدْعَةِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي نَبَّه عَلَيْهَا الْقُرْآنُ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} (7) الآية، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ} (8) وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلاَ سَائِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ} (9)، وَكَذَلِكَ بِدْعَةُ الْمُنَافِقِينَ حَيْثُ اتَّخَذُوا الدِّينَ ذَرِيعَةً لِحِفْظِ النَّفْسِ وَالْمَالِ (10)، وَمَا أَشبه ذَلِكَ مِمَّا لا يُشَكّ أَنه كُفْرٌ صُرَاحٌ.
وَمِنْهَا مَا هُوَ مِنَ الْمَعَاصِي الَّتِي لَيْسَتْ بِكُفْرٍ، أَو يُخْتَلَفُ (11): هَلْ هِيَ كُفْرٌ أَم لَا! كَبِدْعَةِ الْخَوَارِجِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ وَمَنْ (12) أَشبههم مِنَ الْفِرَقِ الضَّالَّةِ.
_________
(1) قوله "محدثة بدعة وكل" سقط من (خ) و (م) و (ت).
(2) قوله: "وكل ضلالة في النار" سقط من (غ) و (ر).
(3) سبق تخريجه (ص108) من المجلد الأول، و (ص318) من هذا المجلد.
(4) في (ت): "أو لا".
(5) قوله: "والمنهيات" سقط من (خ) و (م) و (ت)، ولذا أشكلت العبارة على رشيد رضا فعلّق على هذا الموضع بقوله: لعله سقط من هنا كلمة: "وهي". اهـ.
(6) في (ت): "وهو أن".
(7) سورة الأنعام: الآية (136).
(8) سورة الأنعام: الآية (139).
(9) سورة المائدة: الآية (103).
(10) كما في قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *} [الآية: (2) من سورة المنافقون].
(11) في (ت): "أو يختلف فيها".
(12) في (ر) و (غ): "وما".(2/354)
ومنها ما هو معصية ويُتَّفَقُ على أَنها (1) ليست بِكُفْرٍ؛ كَبِدْعَةِ التَّبَتُّل (2)، وَالصِّيَامِ قَائِمًا فِي الشَّمْسِ (3)، والخِصَاءِ (4) بِقَصْدِ قَطْعِ شَهْوَةِ الْجِمَاعِ (5).
وَمِنْهَا مَا هُوَ مَكْرُوهٌ كَمَا يَقُولُ مَالِكٌ فِي إِتباع رَمَضَانَ بسِتٍّ مِنْ شَوَّالَ (6)، وقراءَة الْقُرْآنِ بالإِدارة (7)، وَالِاجْتِمَاعِ للدعاءِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ (8)، وَذِكْرُ السَّلَاطِينِ فِي خُطْبَةِ الْجُمْعَةَ ـ عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ الشَّافِعِيُّ (9) ـ، وَمَا أَشبه ذَلِكَ (10).
فَمَعْلُومٌ أَن هذه البدع ليست في رتبة واحدة، ولا على نسبة واحدة (11)، فلا يصح على (12) هَذَا أَن يُقَالَ: إِنها عَلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ، هُوَ (13) الْكَرَاهَةُ فَقَطْ، أَو التَّحْرِيمُ (14) فَقَطْ.
وَوَجْهٌ (15) ثَالِثٌ: أَن الْمَعَاصِيَ مِنْهَا صَغَائِرُ، وَمِنْهَا كَبَائِرُ، وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِكَوْنِهَا وَاقِعَةً فِي الضَّرُورِيَّاتِ، أَوِ الْحَاجِيَّاتِ، أَو التَّكْمِيلِيَّاتِ (16)، فإِن كَانَتْ فِي الضَّرُورِيَّاتِ فهي أَعظم الكبائر، وإِن وقعت في التحسينّيات فَهِيَ أَدنى رُتْبَةٍ بِلَا إِشكال، وإِن وَقَعَتْ في الحاجيّات فمتوسطة بين الرتبتين.
_________
(1) في (خ) و (م): "عليها" بدل: "على أنها"، وفي (ت): "عليها أنها". وعلق رشيد رضا على هذا الموضع بقوله: لعل الأصل، "على أنها ليست بكفر".اهـ.
(2) تقدم (ص206 ـ 209) تخريج حديث ردّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التبتُّل عَلَى عُثْمَانَ بن مظعون.
(3) تقدم (ص28) تخريج حديث ابن عباس في قصة نذر أبي إسرائيل أن يصوم ولا يستظلّ.
(4) تقدم (ص28) حديث ابن مسعود في النهي عن الخصاء خشية العنت.
(5) في (ر) و (غ): "النكاح".
(6) انظر: (ص347).
(7) راجع صفحة (337).
(8) انظر: ما تقدم (ص275 و278 و316).
(9) قال العز بن عبد السلام في "فتاويه" (ص393 ـ 395، تحقيق محمد جمعة): "ذكر الصحابة والخلفاء رضي الله عنهم والسلاطين بدعة غير محبوبة، ولا يذكر في الخطبة إلا ما يوافق مقاصدها .. " إلخ ما قال.
(10) قوله: "ذلك" سقط من (ر).
(11) قوله: "ولا على نسبة واحدة" سقط من (خ) و (م) و (ت).
(12) في (ت) و (م) و (خ): "مع" بدل "على".
(13) في (غ): "وهو".
(14) في (خ) و (م): "والتحريم".
(15) في (م) و (خ): "وجه"، ولذا علق عليها رشيد رضا بقوله: لعل الأصل: "ووجه ثالث".اهـ.
(16) قوله: "أو التكميليات" سقط من (ت).(2/355)
ثُمَّ إِن كُلَّ رُتْبَةٍ مِنْ هَذِهِ الرُّتَب لَهَا مُكَمِّل، وَلَا يُمْكِنُ فِي المُكَمِّل أَن يَكُونَ فِي رُتْبَةِ المكمَّل؛ فإِن المُكَمِّل (1) مَعَ المُكَمَّل (2) فِي نِسْبَةِ الْوَسِيلَةِ مَعَ الْمَقْصِدِ، وَلَا تَبْلُغُ الْوَسِيلَةُ رُتْبَةَ الْمَقْصِدِ، فَقَدْ ظَهَرَ تَفَاوُتُ رُتَب المعاصي والمخالفات.
وأَيضاً فإِن الضَّرُورِيَّاتِ إِذا تُؤُمِّلَتْ وُجِدَتْ عَلَى مَرَاتِبَ فِي التأْكيد وَعَدَمِهِ، فَلَيْسَتْ مَرْتَبَةُ النَّفْسِ كَمَرْتَبَةِ الدِّينِ، ولذلك (3) تُسْتَصْغَرُ حُرْمَةُ النَّفْسِ فِي جَنْبِ حُرْمَةِ الدِّينِ، فَيُبِيحُ الكفرُ الدمَ (4)، وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى الدِّينِ مُبِيحٌ لِتَعْرِيضِ النَّفْسِ لِلْقَتْلِ والإِتلاف (5)؛ فِي الأَمر بِمُجَاهَدَةِ (6) الْكُفَّارِ وَالْمَارِقِينَ عَنِ الدِّين (7).
وَمَرْتَبَةُ الْعَقْلِ وَالْمَالِ (8) لَيْسَتْ كَمَرْتَبَةِ النَّفْسِ، أَلا تَرَى أَن قَتْلَ النفس يُبيح القصاص (9) بالقتل، بِخِلَافِ الْعَقْلِ (10) وَالْمَالِ (11)؟ وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا بَقِيَ (12).
وإِذا نُظِر فِي مَرْتَبَةِ النَّفْسِ (13) تَبَايَنَتِ الْمَرَاتِبُ، فَلَيْسَ قَطْعُ الْعُضْوِ كَالذَّبْحِ، وَلَا الْخَدْشُ كَقَطْعِ الْعُضْوِ، وَهَذَا كلُّه محلُّ بيانه الأُصول.
_________
(1) في (غ) و (ر) و (م): "فإن التكميل".
(2) قوله: "المكمل" سقط من (م).
(3) في (خ) و (ت): "وليس" بدل "ولذلك".
لقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ... } الآية، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: "لا يحلّ دم امرئٍ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة". أخرجه البخاري (6878)، ومسلم (1776).
(4) في (ر) و (غ): "ولإتلاف".
(5) في (ر) و (غ): "بجهاد" وفي (م): "مجاهد".
(6) لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} الآية.
(7) في (ر) و (غ): "أو المال".
(8) في (خ) و (ت): "مبيح للقصاص".
(9) قوله: "بخلاف العقل" سقط من (ر)، وفي موضعه بياض في (غ).
(10) لقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} .. } الآية.
(11) قوله: "سائر ما بقي" سقط من (ر)، وفي موضعه بياض في (غ).
(12) قوله: "مرتبة النفس" سقط من (ر) وفي موضعه بياض في (غ).(2/356)
فصل
وإِذا كَانَ كَذَلِكَ: فَالْبِدَعُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَعَاصِي، وَقَدْ ثَبَتَ التَّفَاوُتُ فِي الْمَعَاصِي، فَكَذَلِكَ يُتَصَوَّر مِثْلُهُ فِي الْبِدَعِ. فَمِنْهَا (1): مَا يَقَعُ فِي رتبة (2) الضَّرُورِيَّاتِ؛ أَي: أَنه إِخلال بِهَا، وَمِنْهَا: مَا يَقَعُ فِي رُتْبَةِ الحاجِيَّات، وَمِنْهَا: مَا يَقَعُ في رتبة التحسينيَّات، وَمَا يَقَعُ فِي رُتْبَةِ الضَّرُورِيَّاتِ: مِنْهُ (3) مَا يَقَعُ فِي الدِّينِ، أَو النَّفْسِ، أَو النَّسْلِ، أَوِ الْعَقْلِ، أَو الْمَالِ.
فَمِثَالُ وُقُوعِهِ فِي الدِّينِ: مَا تَقَدَّمَ مِنِ اخْتِرَاعِ الْكُفَّارِ وَتَغْيِيرِهِمْ (4) ملة إِبراهيم عليه السلام، في نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلاَ سَائِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ} (5).
فَرُوِيَ عَنِ الْمُفَسِّرِينَ فِيهَا أَقوال كَثِيرَةٌ، وَفِيهَا عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ (6): أَن الْبَحِيرَةَ مِنَ الإِبل: هي التي يُمْنَعُ (7) دَرُّها للطواغيت، والسائبة: هي التي
_________
(1) في (م): "فمنهما".
(2) قوله: "رتبة" سقط من (خ) و (م) و (ت).
(3) في (خ) و (م): "ومنه"، وفي (ت): "ومنها".
(4) في (خ) و (م): "وتغيرهم".
(5) سورة المائدة: الآية (103).
(6) أخرجه البخاري (4623)، ومسلم (2856)، وابن جرير في "تفسيره" (11/ 131) رقم (12840).
قال الأستاذ محمود شاكر ـ رحمه الله ـ في تحقيقه لـ"تفسير ابن جرير": "في المطبوعة والمخطوطة: "يمنع" بالعين، وصوابه بالحاء".اهـ. كذا قال؛ وفيه نظر. قال أبو عبيدة: كانوا يحرمون وبرها ولحمها وظهرها ولبنها على النساء، ويحلون ذلك للرجال، وما ولدت فهو بمنزلتها، وإن ماتت اشترك الرجال والنساء في أكل لحمها. انظر "الفتح" (8/ 284).
(7) في (ت) و (خ): "يمنح"، وفي باقي النسخ: "يمنع" بالعين، وكتب بجوارها بهامش (م):=(2/357)
يسيِّبونها لِطَوَاغِيتِهِمْ، وَالْوَصِيلَةُ: هِيَ النَّاقَةُ تبكِّر بالأُنثى، ثُمَّ تُثنِّي بالأُنثى؛ يَقُولُونَ: وَصَلَتْ أُنْثَيَيْنِ (1) لَيْسَ بَيْنَهُمَا ذَكَرٌ، فَيَجْدَعُونَهَا لِطَوَاغِيتِهِمْ. وَالْحَامِي: هُوَ الْفَحْلُ مِنَ الإِبل، كَانَ يَضْرِبُ الضِّراب الْمَعْدُودَةَ؛ فإِذا بَلَغَ ذَلِكَ قَالُوا: حَمِيَ ظَهْرُهُ، فيُترك، فيسمُّونه: الْحَامِيَ.
وَرَوَى إِسماعيل الْقَاضِي عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسلَم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم: "إِني لأَعلم ـ أَو إِني (2) لأَعرف ـ أَول مَنْ سَيَّبَ السَّوائِب، وأَول من غير عهد إِبراهيم عليه السلام". قَالُوا (3): مَنْ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: عَمْرُو (4) بْنُ لُحَيٍّ أَبو بَنِي كَعْبٍ، لَقَدْ رأَيته يجُرّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ، يُؤْذِي ريحُه أَهلَ النَّارِ، وإِني لأَعرف أَول مَنْ بَحَّر البَحَائِر. قَالُوا: مَنْ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: رَجُلٌ مِنْ بَنِي مُدْلِج، وَكَانَتْ لَهُ نَاقَتَانِ فجَدَع (5) أُذُنَيهما (6) وَحَرَّمَ أَلْبَانَهُمَا، ثُمَّ شَرِبَ أَلبانهما بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَقَدْ رأَيته فِي النَّارِ هو وهما يَعَضَّانه بأَفواههما، ويَخْبِطانه (7) بأَخفافهما" (8).
_________
="يمنح"، وكأنه يشير إلى أنها في نسخة كذلك، أو جعله تصويباً. وانظر التعليق السابق.
(1) في (ر) و (غ) و (م): "اثنتين".
(2) قوله: "لأعلم أو إني" سقط من (خ) و (ت).
(3) في (خ): "قال: قالوا".
(4) في (ت): "عمر".
(5) في (غ) و (م) و (ت): "فجذع".
(6) في (ر) و (غ): "آذانهما"، وفي (م): "أذناهما".
(7) في (ر) و (غ): "ويخبطان".
(8) أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" (1/ 197)، ومن طريقه ابن جرير في "تفسيره" (11/ 120) عن معمر.
وأخرجه ابن أبي شيبة (7/ 255 رقم 35819) من طريق هشام بن سعد. كلاهما عن زيد بن أسلم به.
وإسناده ضعيف لإرساله.
وأخرجه البخاري (4623) عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ: "رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار، كان أول من سيّب السوائب".
قال الحافظ في "الفتح" (8/ 285): "زاد في رواية أبي صالح عن أبي هريرة عند مسلم: "وبحّر البحيرة، وغيّر دين إسماعيل". وروى عبد الرزاق عن معمر عن زيد بن أسلم مرسلاً ... فذكره، ثم قال: "والأول أصح".اهـ.=(2/358)
وَحَاصِلُ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ: تَحْرِيمُ مَا أَحلّ اللَّهُ عَلَى نِيَّةِ التَّقَرُّبِ بِهِ إِليه، مَعَ كَوْنِهِ حَلَالًا بِحُكْمِ (1) الشَّرِيعَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ.
وَلَقَدْ هَمَّ بَعْضُ أَصحاب رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم أَن يحرموا على أَنفسهم بعض (2) ما أَحل الله لهم (3)، وإِنما كَانَ قَصْدُهُمْ بِذَلِكَ الانقطاعَ إِلى اللَّهِ عَنِ الدُّنْيَا وأَسبابها وَشَوَاغِلِهَا، فَرَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأَنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ *} (4).
وسيأْتي شَرْحُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْبَابِ السَّابِعِ إِن شاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَهُوَ دليلٌ عَلَى أَن تَحْرِيمَ مَا أَحل اللَّهُ ـ وإِن كَانَ بِقَصْدِ سُلُوكِ طَرِيقِ الْآخِرَةِ ـ منهيٌّ عَنْهُ، وَلَيْسَ فِيهِ اعْتِرَاضٌ عَلَى الشَّرْعِ وَلَا تَغْيِيرٌ لَهُ، وَلَا قُصِدَ فِيهِ الِابْتِدَاعُ، فَمَا ظَنُّكَ بِهِ (5) إِذا قُصِدَ بِهِ التَّغْيِيرُ وَالتَّبْدِيلُ كَمَا فَعَلَ الكفار؛ أَو قصد به الابتداع في الشريعة، وتمهيد سبيل الضلالة؟
_________
=أي أن طريق أبي صالح عن أبي هريرة التي فيها أن عمرو بن لحي هو الذي بحر البحائر أصح من طريق زيد بن أسلم التي فيها أنه رجل من بني مدلج، والله أعلم.
(1) في (ت): "يحكم".
(2) قوله: "بعض" سقط من (خ) و (م) و (ت).
(3) قوله: "لهم" سقط من (خ) و (م) و (ت).
(4) سورة المائدة: الآية (87)، والحديث تقدم تخريجه (ص206 ـ 207).
(5) قوله: "به" سقط من (ت).(2/359)
فصل
وَمِثَالُ مَا يَقَعُ فِي النَّفْسِ: مَا ذُكر مِنْ نِحَلِ الْهِنْدِ فِي تَعْذِيبِهَا (1) أَنفسها بأَنواع العذاب الشنيع، والتمثيل الفظيع، وَالْقَتْلِ بالأَصناف الَّتِي تَفْزَعُ مِنْهَا الْقُلُوبُ، وَتَقْشَعِرُّ مِنْهَا الْجُلُودُ، كلُّ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ اسْتِعْجَالِ الْمَوْتِ لِنَيْلِ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى (2) ـ فِي زَعْمِهِمْ ـ، وَالْفَوْزِ بِالنَّعِيمِ الأَكمل، بَعْدَ الْخُرُوجِ عَنْ هَذِهِ الدَّارِ الْعَاجِلَةِ، ومبنيٌّ عَلَى (3) أُصول لَهُمْ فَاسِدَةٍ اعْتَقَدُوهَا، وبنوا عليها أَعمالهم، حتى (4) حَكَى الْمَسْعُودِيُّ (5) وَغَيْرُهُ مِنْ ذَلِكَ أَشياءَ فَطَالَعَهَا مِنْ هُنَالِكَ.
وَقَدْ وَقَعَ الْقَتْلُ فِي الْعَرَبِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَلَكِنْ عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَهُوَ قتل الأَولاد لسببين (6): أَحَدُهُمَا: خَوْفُ الإِملاق، وَالْآخِرُ: دَفْعُ الْعَارِ الَّذِي كَانَ لَاحِقًا لَهُمْ بِوِلَادَةِ الإِناث، حَتَّى أَنزل اللَّهُ فِي ذَلِكَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} (7)، وقوله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ *بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ *} (8)، وَقَوْلَهُ {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ *يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ *} (9).
_________
(1) في (ر) و (غ): "الهندي تعذيبها".
(2) في (غ): "العليا".
(3) في (ر) و (غ): "ومبني عن"، وفي (ت): "وهو مبني على".
(4) قوله: "حتى" سقط من (خ) و (م) و (ت).
(5) في "مروج الذهب" (1/ 74 ـ 83).
(6) في (خ) و (م): "لشيئين".
(7) سورة الإسراء: الآية (31).
(8) سورة التكوير: الآيتان (8، 9).
(9) إلى هنا انتهى ذكر الآية في (ت) و (خ) و (م)، وبعدها قال: "الآية".
(10) الآيتان (58، 59) من سورة النحل.(2/360)
وَهَذَا الْقَتْلُ مُحْتَمَلٌ (1) أَن يَكُونَ دِينًا وَشِرْعَةً ابْتَدَعُوهَا، وَيُحْتَمَلُ أَن يَكُونَ عَادَةً تعوَّدوها (2)، بِحَيْثُ لَمْ يَتَّخِذُوهَا شِرْعَةً، إِلا أَن اللَّهَ تَعَالَى (3) ذمَّهم عَلَيْهَا، فَلَا يُحْكَمُ عَلَيْهَا بِالْبِدْعَةِ بَلْ بِمُجَرَّدِ الْمَعْصِيَةِ، فَنَظَرْنَا هَلْ نَجِدُ لأَحد المُحْتَمَلَيْن عَاضِدًا يَكُونُ هُوَ الأَولى (4) فِي حَمْلِ الْآيَاتِ عَلَيْهِ؟ فَوَجَدْنَا قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ} (5)، فإِن الْآيَةَ صرَّحت أَن لِهَذَا التَّزْيِينِ سَبَبَيْنِ: أَحدهما: الإِرداءُ وَهُوَ الإِهلاك، وَالْآخَرُ: لَبْس الدِّينِ، وهو قوله: {وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ}، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلا بِتَغْيِيرِهِ وَتَبْدِيلِهِ، أَو الزِّيَادَةِ فِيهِ، أَو النُّقْصَانِ مِنْهُ، وَهُوَ الِابْتِدَاعُ بِلَا إِشكال، وإِنما كَانَ دِينُهُمْ أَولاً دينَ أَبيهم إِبراهيم (6)؛ فَصَارَ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ مَا بَدَّلُوا فِيهِ، كالبَحيرة، والسَّائبة، ونَصْب الأَصنام، وَغَيْرِهَا، حَتَّى عُدَّ مِنْ جُمْلَةِ دِينِهِمُ الَّذِي يَدِينُونَ بِهِ.
وَيُعَضِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدُ: {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ}، فَنَسَبَهُمْ إِلى الافتراءِ ـ كَمَا تَرَى ـ، وَالْعِصْيَانُ مِنْ حيث هو عصيان لا يكون افتراءاً، وإِنما يقع الافتراءُ في نفس التشريع، وفي أَن هَذَا الْقَتْلَ مِنْ جُمْلَةِ مَا جاءَ مِنَ الدِّينِ. وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى عَلَى إِثر ذَلِكَ: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلاَدَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا} (7)، فَجَعَلَ قَتْلَ الْأَوْلَادِ مَعَ تَحْرِيمِ مَا أَحل اللَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الِافْتِرَاءِ، ثُمَّ خَتَمَ بِقَوْلِهِ: {قَدْ ضَلُّوا}، وَهَذِهِ خاصِّيَّة الْبِدْعَةِ ـ كَمَا تَقَدَّمَ ـ، فإِذاً ما فعلت الهند نحوٌ مما فعلت الجاهلية. وسيأْتي ذكر (8) مَذْهَبُ الْمَهْدِيِّ الْمَغْرِبِيِّ فِي شَرْعِيَّةِ الْقَتْلِ.
عَلَى (9) أَن بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ
_________
(1) في (ت): "يحتمل".
(2) في (خ) و (م) "تعودها".
(3) في (غ): "أن تعالى".
(4) في (ر) و (غ): "أولى".
(5) سورة الأنعام: الآية (137).
(6) قوله: "إبراهيم" سقط من (خ) و (ت) و (م).
(7) قوله: "قد ضلوا" ليس في (غ) و (ر).
(8) قوله: "ذكر" سقط من (خ) و (م) و (ت).
(9) في (غ): "مع".(2/361)
لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ}: أَنَّهُ (1) قَتْلُ الأَولاد (2) عَلَى جِهَةِ النَّذْرِ وَالتَّقَرُّبِ بِهِ إِلى اللَّهِ، كَمَا فَعَلَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ فِي ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ أَبِي النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلّم (3).
_________
(1) في (ت): "أن" بدل "أنه".
(2) قوله: "شركاؤهم أنه قتل الأولاد" سقط من (غ)، وقوله: "شركاؤهم" ليس في (ر).
(3) أخرجه ابن جرير في "تاريخه" (2/ 327) قال: حدثني يونس بن عبد الأعلى؛ قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن قبيصة بن ذؤيب، أنه أخبره: أن امرأة نذرت أن تنحر ابنها عند الكعبة في أمر إن فعلته، ففعلت ذلك الأمر، فقدمت المدينة لتستفتي عن نذرها، فجاءت عبد الله بن عمر، فقال لها عبد الله بن عمر: لا أعلم الله أمر في النذر إلا الوفاء به، فقالت المرأة: أفأنحر ابني؟ قال ابن عمر: قد نهاكم الله أن تقتلوا أنفسكم، فلم يزدها عبد الله بن عمر على ذلك. فجاءت عبد الله بن عباس فاستفتته، فقال: أمر الله بوفاء النذر، والنذر دين، ونهاكم أن تقتلوا أنفسكم، وقد كان عبد المطلب بن هاشم نذر إن توافى له عشرة رهط، أن ينحر أحدهم، فلما توافى له عشرة، أقرع بينهم أيهم ينحر؟ فطارت القرعة على عبد الله بن عبد المطلب، وكان أحب الناس إلى عبد المطلب، فقال عبد المطلب: اللهم هو أو مئة من الإبل! ثم أقرع بينه وبين الإبل، فطارت القرعة على المئة من الإبل، فقال ابن عباس للمرأة: فأرى أن تنحري مئة من الإبل مكان ابنك ... ".
وأخرجه ابن سعد في "الطبقات" (1/ 88) عن الواقدي، عن محمد بن عبد الله، عن الزهري، عن قبيصة بن ذؤيب، عن ابن عباس بنحوه.
لكن هذه متابعة لا يُفرح بها، فمحمد بن عمر الواقدي متروك كما في "التقريب" (6215).
وظاهر إسناد ابن جرير الصحة، لكن يشكل عليه أن الحديث أخرجه عبد الرزاق (5/ 313) رقم (9718) عن معمر عن الزهري قال: إن أول ما ذكر من عبد المطلب ... ، فذكره في قصة.
فهذا يدلّ على أن الحديث مرسل، وأن الطريق الموصولة معلولة.
وأخرجه ابن جرير في "تفسيره" (21/ 85)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (56/ 200)، والخلعي في "فوائده" كما في "إتحاف المهرة" (13/ 364) من طريق عبيد الله بن محمد العتبي، عن أبيه، حدثني عبد الله بن سعيد، عن الصُّنابحي قال: حضرنا مجلس معاوية بن أبي سفيان، فتذاكر القوم إسماعيل وإسحاق ابني إبراهيم، فقال بعضهم: الذبيح إسماعيل، وقال بعضهم: بل إسحاق الذبيح، فقال معاوية: سقطتم على الخبير؛ كنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأتاه الأعرابي فقال: يا رسول الله! خلَّفتُ البلاد يابسةً، والماء يابساً، هلك المال، وضاع العيال، فعد عليَّ بما أفاء الله عليك يا ابن الذبيحين! فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم ينكر عليه. فقلنا: يا أمير المؤمنين،=(2/362)
وهذا القول (1) قَدْ يُشْكِلُ؛ إِذ يُقَالُ: لَعَلَّ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ مَا اقْتَدَوْا فِيهِ بأَبيهم إِبراهيم عَلَيْهِ السَّلَامُ؛ لأَن اللَّهَ أَمره بِذَبْحِ ابْنِهِ، فَلَا يكون ذلك اختراعاً وافتراءاً؛ لرجوعه (2) إِلى أَصل صحيح، وهو عمل أَبيهم إبراهيم (3) عليه السلام. وإِن صح هذا القول تُؤُوِّل (4) فعلُ إِبراهيم عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى أَنه لَمْ يكن شريعة لمن بعده من ذريته، فوجه اختراعه ديناً ظاهرٌ، لاسيما عِنْدَ عُرُوضِ شُبْهَةِ الذَّبْحِ، وَهُوَ شأْن أَهل الْبِدَعِ، إِذ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ شُبْهَةٍ يَتَعَلَّقُونَ بِهَا؛ كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ.
وَكَوْنُ ما يفعل (5) أَهل الْهِنْدِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ ظَاهِرٌ جِدًّا.
وَيَجْرِي مَجْرَى إِتلاف النَّفْسِ: إِتلاف بَعْضِهَا؛ كَقَطْعِ عُضْوٍ مِنَ الأَعضاء، أَو تَعْطِيلِ مَنْفَعَةٍ مِنْ مَنَافِعِهِ بِقَصْدِ التَّقَرُّبِ إِلى اللَّهِ بِذَلِكَ، فَهُوَ من
_________
=وما الذبيحان؟ قال: إن عبد المطلب لما أُمر بحفر زمزم؛ نذر لله إن سهَّل الله أمرها أن ينحر بعض ولده، فأخرجهم فأسهم بينهم، فخرج السهم لعبد الله، فأراد ذبحه، فمنعه أخواله من بني مخزوم، وقالوا: أَرْضِ ربَّك وَافْدِ ابنك. قال: ففداه بمائة ناقة. قال: فهو الذبيح، وإسماعيل الثاني.
وأخرجه الحاكم (2/ 554) من طريق عبيد الله بن محمد العتبي، عن عبد الله بن سعيد، عن الصُّنابحي به.
كذا جاء الراوي عن الصُّنابحي: "عبد الله بن سعيد" عند ابن جرير، والحاكم، وفي الأصلين الخطيين لـ"إتحاف المهرة"، وكذا فيما عزاه السخاوي والسيوطي وغيرهما.
ووقع في "تاريخ ابن عساكر": "عبد الله بن سعد"، وهو الذي أثبته محقق "إتحاف المهرة"، فاقتضى التنبيه.
والحديث سكت عليه الحاكم. وقال الذهبي: إسناده واهٍ.
وقال ابن الجوزي في "المنتظم" (1/ 278): لا يثبت.
وقال ابن كثير في "تفسيره" (7/ 30): وهذا الحديث غريب جداً.
وقال السيوطي في "الدر المنثور" (7/ 105) بعد أن عزاه للآمدي في "مغازيه" وابن مردويه: سنده ضعيف.
وقال في "الفتاوى" (2/ 35): هذا حديث غريب، وفي إسناده من لا يعرف حاله. وانظر "السلسلة الضعيفة" (1677) للألباني رحمه الله، والله أعلم.
(1) في (م) و (ت) و (خ): "القتل" بدل "القول".
(2) في (م) و (خ): "لرجوعها".
(3) قوله: "إبراهيم" زيادة من (ت) فقط.
(4) في (ت) و (خ) و (م): "وتؤول".
(5) في (خ) و (م): "ما تفعل".(2/363)
جُمْلَةِ الْبِدَعِ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ الْحَدِيثُ حَيْثُ قَالَ: ردَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التبتُّلَ [على] (1) عثمان بن مظعون، ولو أَذن لَهُ لَاخْتَصَيْنَا (2).
فالخصاءُ بِقَصْدِ (3) التَّبَتُّلِ وَتَرْكِ الْاشْتِغَالِ بِمْلَابَسَةِ النِّسَاءِ وَاكْتِسَابِ الأَهل وَالْوَلَدِ مَرْدُودٌ مَذْمُومٌ، وَصَاحِبُهُ مُعْتَدٍ غَيْرُ مَحْبُوبٍ عِنْدَ اللَّهِ، حَسْبَمَا بيَّنه (4) قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (5)، وكذلك فقؤ العينين (6) لئلا ينظر إِلى مالا يحل له، أو ما أَشبه ذلك (7).
_________
(1) في (ت) و (خ) و (م): "عن"، والتصويب مما تقدم (ص212).
(2) تقدم تخريجه (ص212).
(3) من قوله: "التبتل على عثمان" إلى هنا سقط من (ر) و (غ).
(4) في (خ) و (ت) و (م): "نبه".
(5) سورة المائدة: الآية (87).
(6) في (غ) و (ر) و (ت): "العين".
(7) قوله: "أو ما أشبه ذلك" سقط من (خ) و (م) و (ت).(2/364)
فصل
وَمِثَالُ مَا يَقَعُ فِي النَّسْلِ: مَا ذُكِر من أنكحة الجاهلية التي كانت معهودة فيهم (1)، ومعمولاً بها، ومُتَّخذة (2) فيها (3) كالدين المُسْتَتِبّ (4)، وَالْمِلَّةِ الْجَارِيَةِ الَّتِي لَا عَهْدَ بِهَا فِي شَرِيعَةِ إِبراهيم عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَا غَيْرِهِ، بَلْ كَانَتْ مِنْ جُمْلَةِ مَا اخْتَرَعُوا وَابْتَدَعُوا، وَهُوَ عَلَى أَنواع:
فجاءَ عَنْ عَائِشَةَ أُم الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَن النِّكَاحَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ عَلَى أَربعة أَنْحَاءَ:
الأَول مِنْهَا: نِكَاحُ النَّاسِ الْيَوْمَ؛ يخطُب الرَّجُلُ إِلى الرَّجُلِ وليَّته أَو ابْنَتَهُ (5) فيُصْدِقُها ثُمَّ يَنِكحُها.
وَالثَّانِي: نِكَاحُ الِاسْتِبْضَاعِ؛ كَالرَّجُلِ يَقُولُ لامرأَته إِذا طهرتْ مَنْ (6) طَمْثِها: أَرسلي إِلَى فُلَانٍ فاستَبْضِعي مِنْهُ، وَيَعْتَزِلُهَا زوجها، ولا يمسُّها أَبداً حتى يتبيَّن حملُها من ذلك الرجل الذي تَسْتَبْضِعُ (7) مِنْهُ، فإِذا تَبَيَّنَ حَمْلُهَا؛ أَصابها زَوْجُهَا إِذا أَحب، وإِنما يَفْعَلُ ذَلِكَ رَغْبَةً فِي نَجَابة الْوَلَدِ، فَكَانَ هَذَا النِّكَاحُ نِكَاحَ الِاسْتِبْضَاعِ.
وَالثَّالِثُ: أَن يجتمع (8) الرَّهْط ما دون العشرة، فيدخلون (9) على
_________
(1) في (خ) و (ت): "فيها".
(2) في (ت): "ومتحدة".
(3) قوله: "فيها" ليس في (غ) و (ر).
(4) في (ت) و (خ): "المنتسب".
(5) في (ر) و (غ): "وليته وابنته".
(6) قوله: "من" سقط من (م).
(7) في (ت) و (خ) و (م): "يستبضع".
(8) في (خ): "يجمع".
(9) في (خ) و (م): "فيدلون"، وكذا في "أصل نسخة (ت) كما ذكر ناسخها، ولكنه أثبتها: "فيتداولون".(2/365)
المرأَة، كلهم يصيبها، فإِذا حملت ووضعته، ومرَّت ليالٍ بَعْدَ أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا؛ أَرسلت إِليهم، فَلَمْ يَسْتَطِعْ مِنْهُمْ رَجُلٌ (1) أَن يَمْتَنِعَ؛ حَتَّى يَجْتَمِعُوا عِنْدَهَا، تَقُولُ: قَدْ عَرَفْتُمُ (2) الَّذِي كَانَ مَنْ أَمركم، وَقَدْ وَلَدْتُ، فَهُوَ ابْنُكَ يا فلان! تُسمِّي (3) مَنْ أحبَّت بِاسْمِهِ، فيُلْحَقُ بِهِ وَلَدُهَا، فَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْهُ الرَّجُلُ.
وَالرَّابِعُ: أَنْ يجتمع الناس الكثير (4) فَيَدْخُلُونَ عَلَى المرأَة لَا تَمْنَعُ مَنْ جاءَها، وهُنَّ الْبَغَايَا، كُنْ يَنْصِبن عَلَى أَبوابهن راياتٍ تَكُونُ عَلَماً، فَمَنْ أَرادهن دَخَلَ عَلَيْهِنَّ، فإِذا حَمَلَتْ إِحداهن وَوَضَعَتْ حَمْلَهَا؛ جَمَعُوا لَهَا وَدَعَوْا لَهَا (5) الْقَافَةَ، ثُمَّ أَلحقوا وَلَدَهَا بِالَّذِي يَرَوْنَ، فالْتَاطَ (6) بِهِ ودُعيَ ابْنَهُ، لَا يَمْتَنِعُ (7) مِنْ ذَلِكَ. فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ نبيَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَقِّ؛ هَدَمَ نِكَاحِ الْجَاهِلِيَّةِ، إِلا نِكَاحَ النَّاسِ الْيَوْمَ. وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي الْبُخَارِيِّ (8) مَذْكُورٌ (9).
وَكَانَ لَهُمْ أَيضاً سننٌ أُخرُ فِي النكاح (10) خارجةٌ (11) عن مقتضى (12) الْمَشْرُوعِ؛ كَوِرَاثَةِ النساءِ كُرْهاً (13)، وَكَنِكَاحِ مَا نَكَحَ الأَب (14)، وأَشباه ذلك، كلُّها (15) جَاهِلِيَّةٌ جَارِيَةٌ (16) مَجْرَى الْمَشْرُوعَاتِ عِنْدَهُمْ، فَمَحَا الإِسلامُ ذلك كلَّه والحمد لله.
_________
(1) في (غ): "رجل منهم".
(2) في (ر) و (غ) و (م): "عرفت".
(3) في (خ): "فتسمي".
(4) في (ت) و (خ): "الكثيرون".
(5) في (ر) و (غ): "لهم".
(6) أي: التزق به. "لسان العرب" (7/ 395).
(7) في (ر): "ألا يمتنع"، وكذا كان في (غ)، ثم ضرب على الألف.
(8) "صحيح البخاري" (5127).
(9) في (ر) و (غ): "مذكور في البخاري".
(10) في (ت): "سنن في النكاح أخر".
(11) في (خ) و (ت) و (م): "خارج".
(12) قوله: "مقتضى" من (ر) و (غ) فقط.
(13) قال ابن عباس: "كانوا إذا مات الرجل؛ كان أولياؤه أحق بامرأته، إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاؤوا زوجوها، وإن شاؤوا لم يزوجوها، وهم أحق بها من أهلها، فنزلت الآية" يعني قوله تعالى في سورة النساء [الآية: 19]: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا}. أخرجه البخاري (4579).
(14) في (ر) و (غ): "الآباء" ودل على وجود هذا النكاح عندهم: قوله تعالى: {وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22].
(15) قوله: "كلها" ليس في (خ) و (م) و (ت).
(16) في (م): "خارجية".(2/366)
ثُمَّ أَتى بَعْضُ مَنْ نُسِبَ إِلى الْفِرَقِ ممَّن حرَّف التأْويل فِي كِتَابِ اللَّهِ، فأَجاز نِكَاحَ أَكثر مِنْ أَربع نِسْوَةٍ (1)، إِما اقْتِدَاءً ـ فِي زَعْمِهِ ـ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ أُحِلّ لَهُ أَكثرُ مِنْ ذَلِكَ أَن يَجْمَعَ بَيْنَهُنَّ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلى إِجماع الْمُسْلِمِينَ: أَن ذَلِكَ خَاصٌّ بِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ (2)، وإِما تَحْرِيفًا (3) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} (4)؛ فأَجاز الجمع بين تسع نسوة في ملك (5)، ولم يفهم المراد من الواو (6)، ولا من قوله: {مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ}، فأَتى بِبِدْعَةٍ أَجراها فِي هَذِهِ الأُمة لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا وَلَا مُسْتَنَدَ فِيهَا.
وَيُحْكَى عَنِ الشِّيعَةِ (7) أَنها تَزْعُمُ أَن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسقط عَنْ أَهل بَيْتِهِ وَمَنْ دَانَ بحبِّهم جَمِيعَ الأَعمال، وأَنهم غَيْرُ مُكَلَّفِينَ إِلا بما تطوّعوا به (8)، وأَن الْمَحْظُورَاتِ مُبَاحَةٌ لَهُمْ؛ كَالْخِنْزِيرِ، وَالزِّنَا، وَالْخَمْرِ، وَسَائِرِ الْفَوَاحِشِ، وَعِنْدَهُمْ نِسَاءٌ يُسَمَّيْنَ: النَّوابات (9) يَتَصَدَّقْنَ بِفُرُوجِهِنَّ عَلَى الْمُحْتَاجِينَ رَغْبَةً فِي الأَجر، وَيَنْكِحُونَ ما شاؤوا من الأَخوات والبنات
_________
(1) وهم: الشيعة.
(2) قال ابن كثير رحمه الله في "تفسيره" (1/ 451): "قال الشافعي: وقد دلّت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المبينة عن الله: أنه لا يجوز لأحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين أكثر من أربع نسوة.
وهذا الذي قاله الشافعي مجمع عليه بين العلماء؛ إلا ما حكي عن طائفة من الشيعة: أنه يجوز الجمع بين أكثر من أربع إلى تسع".اهـ.
(3) المثبت من (ت)، وفي (خ): "تحريكاً" وفي (م): "تحريك" وفي (ر) و (غ): "لقويفاً".
(4) سورة النساء: الآية 3.
(5) في (خ): "ذلك".
(6) في (ت) و (خ): "الراوي"، وفي (م): "الراو".
(7) علق رشيد رضا رحمه الله على هذا الموضع بقوله: "يريد بعض فرق الشيعة الباطنية المارقين من الإسلام كما سيأتي في كلامه من عزو ذلك إلى العبيدية المعروفين بالفاطميين، فلا يتوهمنّ أحد أن الشيعة الإمامية أو الزيدية يقولون بذلك".اهـ.
(8) قوله: "به" سقط من (خ) و (ت).
(9) في (ر) و (غ): "التوابات"، وفي (ت): "الثوابات".(2/367)
والأُمهات، لا حرج عليهم (1)، ولا في تكثير النساءِ. ومِنْ هؤلاء هم (2) العُبَيْديَّة الَّذِينَ مَلَكُوا مِصْرَ وإِفريقية (3).
وَمِمَّا يُحْكَى عنهم في ذلك: أَنه يكون للمرأَة منهم (4) ثلاثة (5) أَزواج وأَكثر في بيت واحد يستولدونها، وتَنسب (6) الْوَلَدَ لِكُلِّ (7) وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَيَهْنَأُ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، كَمَا الْتَزَمَتِ الْإِبَاحِيَّةُ خَرْقَ هَذَا الْحِجَابَ بِإِطْلَاقٍ، وَزَعَمَتْ أَن الأَحكام الشَّرْعِيَّةَ إِنما هي خاصة بالعوام، وأَما الخواص عندهم (8) فَقَدْ تَرَقَّوا عَنْ تِلْكَ الْمَرْتَبَةِ، فالنساءُ بإِطلاقٍ حلالٌ لَهُمْ، كَمَا أَن جَمِيعَ مَا فِي الْكَوْنِ مِنْ رَطْبٍ ويابسٍ حلالٌ لَهُمْ أَيضاً، مُسْتَدِلِّينَ (9) عَلَى ذَلِكَ بِخُرَافَاتِ عَجَائِزَ لَا يَرْضَاهَا ذو عقل {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (10)، فَصَارُوا أَضرَّ عَلَى الدِّين مِنْ مَتْبُوعِهِمْ إِبليس، وكأنّ الشاعر إنما كَنَى عنهم (11) لعنهم الله بقوله (12):
وكنتُ امرَءاً مِنْ جُنْد إِبليسَ فَانْتَهَى ... بيَ الفسقُ حتَّى صَارَ إِبليسُ مِنْ جُنْدِي
فَلَوْ ماتَ قَبْلي كنتُ أُحْسِنُ بعدَه ... طرائقَ فِسْقٍ ليسَ يُحْسنُها بعدي
_________
(1) علق رشيد رضا هنا بقوله: لعله سقط من هنا: "في ذلك".اهـ.
(2) كذا في جميع النسخ! وعلّق رشيد رضا على هذا الموضع بقوله: لا بد أن تكون كلمة "من" أو كلمة "هم" زائدة.
(3) في (ت): "أفريقية ومصر".
(4) قوله: "منهم" سقط من (خ) و (م) و (ت).
(5) في (ت): "ثلاث".
(6) في (ر) و (غ): "وينسب".
(7) في (ر) و (غ): "إلى كل".
(8) في (ت) و (خ): "منهم" وفي (م): "عنهم".
(9) قوله: "مستدلين" مكرر في (ت).
(10) الآية: (30) من سورة التوبة، والآية: (4) من سورة المنافقون.
(11) قوله: "وكأن الشاعر إنما كنى عنهم" سقط من (خ) و (م) و (ت).
(12) علق رشيد رضا هنا بقوله: "أي: قول الشاعر منهم".(2/368)
فصل
وَمِثَالُ مَا يَقَعُ فِي الْعَقْلِ: أَن الشَّرِيعَةَ بَيَّنَتْ أَن حُكْمَ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ لَا يَكُونُ إِلا بِمَا شَرَعَ فِي دِينِهِ عَلَى أَلسنة أَنبيائه وَرُسُلِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (1)، وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ (2) إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ} (3) وقال: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} (4)، وأَشباه ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ والأَحاديث.
فخرجتْ عَنْ هَذَا الأَصل فرقةٌ زَعَمَتْ أَن الْعَقْلَ لَهُ مَجَالٌ فِي التَّشْرِيعِ، وأَنه مُحَسِّنٌ ومُقَبِّحٌ، فَابْتَدَعُوا فِي دِينِ اللَّهِ مَا لَيْسَ فِيهِ.
وَمِنْ ذَلِكَ: أَن الْخَمْرَ لَمَّا حُرِّمت، وَنَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ فِي شأْن مَنْ مَاتَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ وهو يشربها (5) قولُه تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا} (6) الْآيَةَ؛ تأَوّلها قَوْمٌ ـ فِيمَا ذُكِر ـ عَلَى أَن الْخَمْرَ حَلَالٌ، وأَنها دَاخِلَةٌ تَحْتَ قَوْلِهِ: {فِيمَا طَعِمُوا} (7).
فَذَكَرَ إِسماعيل بْنُ إِسحاق، عَنْ عَلِيٍّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (8) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: شَرِبَ نفرٌ مِنْ أَهل الشَّامِ الخمرَ وَعَلَيْهِمْ يزيد بن أَبي سفيان،
_________
(1) سورة الإسراء: الآية (15).
(2) إلى هنا انتهى ذكر الآية في (خ) و (م) و (ت).
(3) سورة النساء: الآية (59).
(4) سورة الأنعام: الآية (57).
(5) في (ت): "يشير بها".
(6) الآية: (93) من سورة المائدة. وقوله تعالى: {إِذَا مَا اتَّقَوْا} من (ر) و (غ) فقط.
(7) من قوله تعالى: {إِذَا مَا اتَّقَوْا} إلى هنا سقط من (ت).
(8) قوله: "ابن أبي طالب" من (ر) و (غ) فقط.(2/369)
فَقَالُوا: هِيَ لَنَا حَلَالٌ، وتأَوّلوا هَذِهِ الْآيَةَ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا ... }، الْآيَةَ. قَالَ: فَكَتَبَ فِيهِمْ إِلى عُمَرَ. قَالَ: فَكَتَبَ عُمَرُ إِليه: أَن ابْعَثْ بِهِمْ إِليَّ قَبْلَ أَن يُفْسِدوا مَنْ قِبَلَكَ. فَلَمَّا قَدِمُوا على (1) عُمَرَ؛ اسْتَشَارَ فِيهِمُ النَّاسَ، فَقَالُوا: يَا أَمير الْمُؤْمِنِينَ! نَرَى أَنهم قَدْ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ، [وشَرَعوا] (2) فِي دِينِهِ مَا لَمْ يأْذن بِهِ، فَاضْرِبْ أَعناقهم، وعليٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَاكِتٌ؛ قَالَ: فَمَا تَقُولُ يَا أَبا الْحَسَنِ؟! فَقَالَ: أَرى أَن تَسْتَتِيبَهُمْ، فإِن تَابُوا جَلَدْتَهُمْ ثَمَانِينَ ثَمَانِينَ لِشُرْبِهِمُ الْخَمْرَ، وإِن لَمْ يَتُوبُوا ضربتَ أَعناقهم، فإِنهم قَدْ (3) كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ [وَشَرَعُوا] (3) فِي دِينِ اللَّهِ مَا لَمْ يأْذن بِهِ الله (4). فاستتابهم (5)، فتابوا، فضربهم ثمانين ثمانين (6).
_________
(1) إلى هنا انتهى ذكر الآية في (خ) و (م) و (ت).
(2) في (م) و (خ): "إلى".
(3) في جميع النسخ: "أشرعوا"، والتصويب من مصادر التخريج.
(4) قوله: "قد" سقط من (م) و (ر) و (غ).
(5) لفظ الجلالة: "الله" من (غ) فقط، ولم يتضح في (ر)، وسقط من باقي النسخ.
(6) قوله: "فاستتابهم" في موضعه بياض في (غ).
(7) أخرجه ابن أبي شيبة (5/ 499 رقم 28400)، والطحاوي في "شرح المعاني" (3/ 154) عن ابن فضيل، عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي، به.
وإسناده ضعيف، عطاء بن السائب اختلط، وابن فضيل ممن روى عنه بعد الاختلاط.
قال أبو حاتم: وما روى عنه ابن فضيل ففيه غلط واضطراب، رفع أشياء كان يرويها عن التابعين، فرفعها إلى الصحابة. انظر: "الجرح والتعديل" (6/ 334).
وقال الفسوي: وكان عطاء تغير بأَخَرَةٍ، فرواية جرير وابن فضيل وطبقتهم ضعيفة. انظر: "المعرفة والتاريخ" (3/ 84).
واختلف على عطاء فيه أيضاً:
فرواه ابن حزم في "الإحكام" (7/ 451) من طريق حماد بن سلمة، عن عطاء، عن محارب بن دثار: أن ناساً من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شربوا الخمر ... ، الحديث.
وحماد بن سلمة ممن قيل: إنه سمع من عطاء قبل الاختلاط وبعده، ثم هو مرسل كما قال ابن حزم.=(2/370)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
_________
=وهذا الأثر له عن علي طرق أخرى:
1 ـ فمنها: ما أخرجه مالك في "الموطأ" (2/ 842)، وعنه الشافعي في "مسنده" (ص286)، وابن حزم في "إحكام الأحكام" (7/ 450) عن ثور بن زيد: أن عمر ... فذكره.
وهذا معضل؛ فإن ثور بن زيد الديلي من أتباع التابعين. انظر: "تهذيب الكمال" (4/ 416).
ووصله النسائي في "الكبرى" (3/ 252، 253)، والدارقطني (3/ 166)، والحاكم (4/ 375)، والبيهقي (8/ 320 ـ 321) من طريق يحيى بن فليح، عن ثور، عن عكرمة، عن ابن عباس به مطولاً.
ويحيى بن فليح قال فيه ابن حزم: مجهول البتة، والحجة لا تقوم بمجهول. وقال مرة: ليس بالقوي. انظر: "الإحكام" (7/ 453)، و"اللسان" (7/ 342).
2 ـ ومنها: ما أخرجه عبد الرزاق (7/ 378) ومن طريقه ابن حزم في "الإحكام" (7/ 450) عن معمر، عن أيوب، عن عكرمة: أن عمر شاور الناس في جلد الخمر ... ، وهذا مرسل؛ فعكرمة إنما ولد بعد وفاة عمر رضي الله عنه.
3 ـ ومنها: ما أخرجه الطحاوي في "شرح المعاني" (3/ 153)، والدارقطني (3/ 157)، والحاكم (4/ 374 ـ 375)، والبيهقي (8/ 320) من طريق أسامة بن زيد، عن الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن، عن وبرة الكلبي؛ قال: أرسلني خالد بن الوليد إلى عمر فذكره.
ووقع عند الدارقطني والبيهقي: ابن وبرة.
وإسناده ضعيف؛ وبرة الكلبي ذكره الحافظ في "اللسان" (9105) وقال: قال ابن حزم في "الإنصاف": مجهول.
وأسامة بن زيد هو الليثي صدوق يهم ولا يحتمل هذا منه عن الزهري.
وأخرجه أبو داود (4489) من طريق أسامة بن زيد، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن أزهر فذكره.
وأخرجه أحمد (4/ 88)، من طريق أسامة ولم يذكر قصة خالد، وفيه تصريح الزهري بالسماع من عبد الرحمن بن أزهر.
ووهم فيه أسامة على الزهري، فقد صرّح الإمام أحمد أن الزهري لم يسمع من عبد الرحمن بن أزهر، نقله ابن أبي حاتم في ترجمة الزهري من "المراسيل" له صفحة (191).
وقد بيّن أبو داود في "سننه" أن بينهما عبد الله بن عبد الرحمن بن الأزهر.
أخرجه أبو داود (4488)، ومن طريقه البيهقي في "السنن" (8/ 320)، وأخرجه النسائي في "الكبرى" (5283) من طريق عقيل بن خالد، عن الزهري، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أزهر عن أبيه، به.=(2/371)
فَهَؤُلَاءِ اسْتَحَلُّوا بالتأْويل مَا حَرَّمَ اللَّهُ بِنَصِّ (1) الْكِتَابِ، وَشَهِدَ فِيهِمْ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَغَيْرُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ؛ بأَنهم شَرَعُوا (2) فِي دِينِ اللَّهِ، وَهَذِهِ هِيَ الْبِدْعَةُ بِعَيْنِهَا، فَهَذَا وَجْهٌ.
وأَيضاً فإِن بَعْضَ الْفَلَاسِفَةِ الإِسلاميين تأَول فِيهَا غَيْرَ هَذَا (3)، وأَنه إِنما يَشْرَبُهَا لِلنَّفْعِ لَا لِلَّهْوِ، وَعَاهَدَ اللَّهَ عَلَى ذَلِكَ، فكأَنها عِنْدَهُمْ (4) دواء (5) مِنَ الأَدوية، أَوْ غِذَاءٌ صَالِحٌ يَصْلُحُ لِحِفْظِ الصِّحَّة، وَيُحْكَى هَذَا الْعَهْدُ عَنِ ابْنِ سِينَا (6).
ورأَيت في كلام بعض (7) الناس ممن عرف به أَنه كَانَ يَسْتَعِينُ فِي سَهَرِهِ لِلْعِلْمِ وَالتَّصْنِيفِ وَالنَّظَرِ بِالْخَمْرِ، فإِذا رأَى مِنْ نَفْسِهِ كَسَلًا أَو فَتْرة؛ شَرِبَ مِنْهَا قَدْرَ مَا يُنَشِّطه وَيَنْفِي عَنْهُ الْكَسَلَ. بَلْ ذَكَرُوا فِيهَا (8) أَن لَهَا حَرَارَةً خَاصَّةً (9) تَفْعَلُ أَفعالاً (10) كَثِيرَةً: تُطَيِّبُ (11) النفسَ، وتُصَيِّر الإِنسان مُحِبّاً لِلْحِكْمَةِ، وتجعلهُ حسنَ الْحَرَكَةِ، وَالذِّهْنِ، وَالْمَعْرِفَةِ؛ فإِذا اسْتَعْمَلَهَا عَلَى الِاعْتِدَالِ عرف الأَشياء، وفهمها، وتذكرها بعد النسيان (12).
_________
=وعبد الله هذا لم يوثقه إلا ابن حبان، وقال الحافظ في "التقريب": مقبول، والله تعالى أعلم.
(1) في (خ): "وبنص" وعلق عليه رشيد رضا بقوله: إما أن يكون أصل العبارة: "بنص الكتاب" بغير واو، وإما أن يكون: "بالإجماع وبنص الكتاب".اهـ.
(2) المثبت من (خ)، وفي باقي النسخ: "أشرعوا".
(3) في (ر) و (غ): "هذه".
(4) في (ر) و (غ): "عنده".
(5) قوله: "دواء" من (ر) و (غ) فقط.
(6) نقل الذهبي في "السير" (17/ 532) عن ابن سينا قوله: وكنت أسهر، فمهما غلبني النوم شربت قدحاً.
(7) في (ت) و (خ) و (م): "في بعض كلام".
(8) قوله: "فيها" سقط من (ت).
(9) في (م): "خالصة".
(10) في (خ) و (م): "أفعال".
(11) في (غ): "وتطب"، وفي (ر) و (م): "وتطيب".
(12) علق رشيد رضا رحمه الله على هذا الموضع بقوله: "كان المفتونون بالخمر من الأطباء والشعراء ينسبون إليها هذه الخواص. نعم! إن سُمَّها يحدث تنبيهاً في الأعصاب، ولكن يعقبه فتور وضعف بمقتضى سنّه ردّ الفعل، فإن عاودها الشارب ـ على حدّ قول أبي نوّاس: وداوني بالتي كانت هي الداء ـ؛ زاد ذلك الضعف والفتور، حتى ينتهي=(2/372)
فَلِهَذَا ـ وَاللَّهُ أَعلم ـ كَانَ ابْنُ سِينَا لَا يَتْرُكُ اسْتِعْمَالَهَا ـ عَلَى مَا ذُكر عَنْهُ ـ، وَهُوَ كُلُّهُ ضَلَالٌ مُبِينٌ، عِيَاذًا (1) بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ.
وَلَا يُقَالُ: إِن هَذَا دَاخِلٌ تَحْتِ مسأَلة التَّدَاوِي بِهَا، وَفِيهَا خِلَافٌ شَهِيرٌ؛ لأَنا نَقُولُ: إِنما ثَبَتَ عَنِ ابْنِ سِينَا أَنه كَانَ يستعملها استعمال الأُمور المنشِّطة من الكسل، والحافظة (2) لِلصِّحَّةِ، وَالْقُوَّةِ عَلَى الْقِيَامِ بِوَظَائِفِ الأَعمال، أَو مَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ، لَا فِي الأَمراض المؤثِّرة فِي الأَجسام. وإِنما الْخِلَافُ فِي اسْتِعْمَالِهَا فِي الأَمراض لَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ، فَهُوَ وَمَنْ وَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ متقوِّلون عَلَى شَرِيعَةِ اللَّهِ، مُبْتَدِعُونَ فِيهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ رأْي أَهل الإِباحة فِي الْخَمْرِ وَغَيْرِهَا، وَلَا تَوْفِيقَ إِلا بِاللَّهِ.
_________
=بالجنون أو غيره من الأمراض القاتلة بإجماع أطباء هذا العصر".اهـ.
(1) في (ر) و (غ) و (م): "عائذاً".
(2) في (خ) و (ت): "والحفظ".(2/373)
فصل
وَمِثَالُ مَا يَقَعُ فِي الْمَالِ (1): أَن الْكُفَّارَ قالوا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} (2)، فإِنهم لما استحلّوا العمل به؛ احتجّوا بقياسٍ فاسدٍ، فَقَالُوا: إِذا فَسَخَ الْعَشَرَةَ الَّتِي اشْتَرَى بِهَا إِلى شَهْرٍ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ إِلى شَهْرَيْنِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ بَاعَ بِخَمْسَةَ عَشَرَ إِلى شَهْرَيْنِ، فأَكذبهم اللَّهُ تَعَالَى وَرَدَّ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}؛ أَي (3): لَيْسَ الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا. فَهَذِهِ مُحْدَثَةٌ أَخذوا بِهَا مُسْتَنِدِينَ إِلى رأْيٍ فاسدٍ، فَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ المُحْدَثات؛ كَسَائِرِ مَا أَحدثوا فِي الْبُيُوعِ الْجَارِيَةِ بَيْنَهُمُ، الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْخَطَرِ (4) وَالْغَرَرِ.
وَكَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ قَدْ شَرَعَتْ أَيضاً أَشياءَ فِي الأَموال؛ كَالْحُظُوظِ الَّتِي (5) كَانُوا يُخْرِجُونَهَا للأَمير مِنَ الغنيمة، حتى قال شاعرهم (6):
_________
(1) في (غ): "الآمال".
(2) سورة البقرة: الآية (275).
(3) قوله: "أي" سقط من (خ)، وعلق رشيد رضا على موضعه بقوله: لعله سقط من هنا كلمة "أي".اهـ.
(4) في (ر) و (غ): "الخطار".
(5) في (خ) و (ت) و (م): "الذي".
(6) هو عبد الله بن عَنَمَةَ الضّبِّي شاعر مخضرم كما في "تهذيب التهذيب" (5/ 345 ـ 346 رقم 599)، وهذه القصيدة قالها يرثي بها بسطام بن قيس لما قُتل، ومطلعها:
لأُِمّ الأرضِ وَيْلٌ ما أَجنَّتْ ... غَدَاةَ أضرَّ بالحَسَن السبيلُ
وقد نسبت هذه القصيدة للأصمعي؛ كما في "الأصمعيات" (ص32)، ولعلّه اعتماداً على قول أبي علي القالي في "الأمالي" (1/ 142): "وأنشدنا الأصمعي: لك المرباع منها والصفايا ـ وحكمك والنشيطة والفضول"، ولا يلزم من إنشاد الأصمعي لها أن يكون هو القائل. وانظر "البيان والتبيين" للجاحظ (1/ 199)، و"الحماسة" لأبي تمَّام (1/ 420)، و"معجم مقاييس اللغة" لابن فارس (2/ 479)، و"تاريخ دمشق" لابن=(2/374)
لَكَ المِرْبَاعُ فِيهَا والصَّفَايا ... وحُكْمُكَ والنَّشِيطَةُ والفُضُولُ
فالمِرْباع: رُبع المَغْنَم يأْخذه الرَّئِيسُ. والصَّفَايا: جَمْعُ صَفِيّ (1)، وَهُوَ مَا يَصْطَفِيهِ الرَّئِيسُ لِنَفْسِهِ مِنَ المغنم. والحُكْمُ: ما يَحكم (2) فيه مِنَ الْمَغْنَمِ (3). والنَّشِيطَةُ: مَا يَغْنَمُهُ الْغُزَاةُ فِي الطَّرِيقِ، قَبْلَ بُلُوغِهِمْ إِلى الْمَوْضِعِ الَّذِي قَصَدُوهُ، فَكَانَ (4) يَخْتَصُّ بِهِ الرَّئِيسُ دُونَ غَيْرِهِ. والفُضُولُ: مَا يَفْضُلُ مِنَ الْغَنِيمَةِ عِنْدَ الْقِسْمَةِ.
وَكَانَتْ تَتَّخِذُ الأَرضين تَحْمِيهَا عَنِ النَّاسِ أَنْ لَا يَدْخُلُوهَا وَلَا يَرْعَوْهَا، فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ بِقِسْمَةِ الغنيمة في قوله تعالى: {(5) عع {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ ... } (6) إلى آخر الْآيَةَ (7)؛ ارْتَفَعَ حُكْمُ هَذِهِ الْبِدْعَةِ، إِلا بَعْضُ مَنْ جَرَى فِي الإِسلام عَلَى حُكْمِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَعَمِلَ بأَحكام الشَّيْطَانِ، وَلَمْ يَسْتَقِمْ عَلَى الْعَمَلِ بأحكام الله تعالى.
وكذلك جاءَ (8): "لا حِمَى إِلا لِلّه (9) ورسولِه (10) "، ثُمَّ جَرَى بَعْضُ النَّاسِ (11) ـ مِمَّنْ (12) آثَرَ الدُّنْيَا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ ـ عَلَى سَبِيلِ حُكْمِ الْجَاهِلِيَّةِ (13)، {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (14). ولكن الآية
_________
=عساكر (33/ 296)، و"الكامل" لابن الأثير (1/ 488)، و"لسان العرب" (7/ 414 ـ 415)، و (8/ 101)، و (11/ 526)، و (14/ 462).
(1) في (ت): "صفية".
(2) في (ر) و (غ): "ما تحكم".
(3) قوله: "والحكم ما يحكم فيه من المغنم" سقط من (خ) و (ت).
(4) في (غ) و (م) و (ر): "فكأنه"
(5) قوله: "واليتامى" سقط من (غ).
(6) سورة الأنفال: الآية (41).
(7) من قوله تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} إلى هنا ليس في (خ) و (م)، ومن قوله تعالى: {وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} إلى هنا ليس في (ت).
(8) علق رشيد رضا على هذا الموضع بقوله: لعله سقط من هنا كلمة: "في الحديث".اهـ.
(9) في (خ) و (م) و (ت): "لا حمى إلا حمى الله".
(10) أخرجه البخاري (2370) و (3012).
(11) قوله: "الناس" ليس في (غ) و (ر).
(12) في (غ) و (ر) و (م): "من".
(13) بعد هذا الموضع في (ت) زيادة: "وقال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} ".
(14) الآية: (50) من سورة المائدة.(2/375)
والحديث وما كان في معناهما أَثبتت (1) أَصلاً فِي الشَّرِيعَةِ مُطَّرِدًا لَا يَنْخَرِم، وَعَامًّا لَا يَتَخَصَّص، ومُطْلَقاً لَا يَتَقَيَّد (2)؛ وَهُوَ أَن الصَّغِيرَ مِنَ المُكَلَّفين وَالْكَبِيرَ، وَالشَّرِيفَ وَالدَّنِيءَ، وَالرَّفِيعَ وَالْوَضِيعَ؛ فِي أَحكام الشَّرِيعَةِ سَوَاءٌ، فَكُلُّ مَنْ خَرَجَ عَنْ مُقْتَضَى هَذَا الأَصل خَرَجَ مِنَ السُّنَّةِ إِلى الْبِدْعَةِ، وَمِنَ الِاسْتِقَامَةِ إِلى الِاعْوِجَاجِ.
وَتَحْتَ هَذَا الرَّمْزِ تَفَاصِيلُ عظيمةُ الموقعِ، لَعَلَّهَا تُذكر فيما (3) بعد إِن شاءَ الله تعالى، وقد أُشير إِلى جملة منها (4).
_________
(1) في (خ): "أثبت".
(2) في (ت): "لا يقيد".
(3) قوله: "فيما" سقط من (غ) و (ر).
(4) قوله: "وقد أشير إلى جملة منها" سقط من (غ) و (ر).(2/376)
فصل
إِذا تَقَرَّرَ أَن الْبِدَعَ لَيْسَتْ فِي الذَّمِّ وَلَا فِي النَّهْيِ عَلَى رُتْبَةٍ (1) وَاحِدَةٍ، وأَن مِنْهَا مَا هُوَ مَكْرُوهٌ، كَمَا أَن مِنْهَا مَا هُوَ مُحَرَّمٌ، فَوَصْفُ الضَّلَالَةِ لَازِمٌ لَهَا، وشاملٌ لأَنواعها؛ لِمَا ثَبَتَ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ" (2).
لَكِنْ يَبْقَى هَاهُنَا إِشكال، وَهُوَ: أَنَّ الضَّلَالَةَ ضِدَّ الْهُدَى؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اُشْتَرَوُا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى} (3)، وَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ} (4)، وأَشباه ذَلِكَ مِمَّا قُوبِلَ فِيهِ (5) بَيْنَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ، فإِنه يَقْتَضِي أَنهما ضِدَّان، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا وَاسِطَةٌ تُعْتَبَرُ فِي الشَّرْعِ، فَدَلَّ عَلَى أَن الْبِدَعَ الْمَكْرُوهَةَ خُرُوجٌ عَنِ الهُدَى.
وَنَظِيرِهِ فِي المخالفات التي ليست ببدع: المكروه (6) مِنَ الأَفعال؛ كَالِالْتِفَاتِ الْيَسِيرِ فِي الصَّلَاةِ مِنْ غير حاجة (7)، والصلاة وهو يدافعه
_________
(1) في (ت): "درجة" بدل "رتبة".
(2) سبق تخريجه (1/ 108)، و (ص318) من هذا المجلد.
(3) سورة البقرة: الآية (16).
(4) سورة الزمر: الآيتان (36، 37).
(5) في (غ) و (م) و (ر): "به".
(6) في (خ) و (م) و (ت): "المكروهة".
(7) لما أخرجه البخاري (751) من حديث عائشة رضي الله عنها قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم عن الالتفات في الصلاة؟ فقال: "هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد".
قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (2/ 234): قوله: "باب الالتفات في الصلاة": لم يبيِّن المؤلف [يعني البخاري] حكمه، لكن الحديث دلّ على الكراهة، وهو إجماع؛ لكن الجمهور على أنها للتنزيه، وقال المتولي: يحرم إلا للضرورة، وهو قول أهل الظاهر. وورد في كراهية الالتفات صريحاً على غير شرطه عدة أحاديث، منها عند أحمد وابن خزيمة من حديث أبي ذر رفعه: "لا يزال الله مقبلاً على العبد في صلاته ما لم يلتفت، فإذا صرف وجهه عنه انصرف. اهـ.(2/377)
الأَخبثان (1)، وَمَا أَشبه ذَلِكَ.
وَنَظِيرُهُ فِي الْحَدِيثِ: "نهينا عن اتِّباع الجنائز، ولم يُعْزَم (2) عَلَيْنَا" (3).
فَالْمُرْتَكِبُ لِلْمَكْرُوهِ لَا يَصِحُّ أَن يُقَالَ فِيهِ: مخالفٌ (4) وَلَا عاصٍ، مَعَ أَن الطَّاعَةَ ضدُّها الْمَعْصِيَةُ، وَفَاعِلُ الْمَنْدُوبِ مُطِيعٌ لأَنه فَاعِلُ ما أُمر بِهِ، فإِذا اعْتَبَرْتَ الضِّدَّ؛ لَزِمَ أَن يَكُونَ فَاعِلُ الْمَكْرُوهِ عَاصِيًا؛ لأَنه فاعلٌ مَا نُهِيَ عَنْهُ، لَكِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ إِذْ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ عاصٍ، فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ فَاعِلُ الْبِدْعَةِ الْمَكْرُوهَةِ ضَالًّا (5)، وإِلا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ اعْتِبَارِ الضِّدِّ فِي الطَّاعَةِ وَاعْتِبَارِهِ فِي الْهُدَى، فَكَمَا يُطْلَقُ عَلَى الْبِدْعَةِ الْمَكْرُوهَةِ لَفْظُ الضَّلَالَةِ، فَكَذَلِكَ يُطْلَقُ عَلَى الْفِعْلِ الْمَكْرُوهِ لَفْظُ الْمَعْصِيَةِ، وإِلا فَلَا يُطْلَقُ عَلَى الْبِدْعَةِ الْمَكْرُوهَةِ لَفْظُ الضَّلَالَةِ، كَمَا لَا يُطْلَقُ عَلَى الْفِعْلِ الْمَكْرُوهِ لَفْظُ الْمَعْصِيَةِ.
إِلا أَنه قَدْ تَقَدَّمَ عُمُومُ لَفْظِ الضَّلَالَةِ لِكُلِّ بِدْعَةٍ، فليَعُمّ لَفْظُ الْمَعْصِيَةِ لِكُلِّ فِعْلٍ مَكْرُوهٍ، لَكِنَّ (6) هَذَا بَاطِلٌ، فَمَا لَزِمَ عَنْهُ كَذَلِكَ.
وَالْجَوَابُ: أَن عُمُومَ لَفْظِ الضَّلَالَةِ لِكُلِّ بِدْعَةٍ ثَابِتٌ ـ كَمَا تَقَدَّمَ بسطه ـ، وما أَلْزَمتم (7) في الفعل المكروه غير لازم. أَما أَوَّلاً (8): فإِنه لَا يَلْزَمُ فِي الأَفعال أَن تُجرى عَلَى الضِّدِّية الْمَذْكُورَةِ إِلا بَعْدَ استقراءِ الشَّرْعِ، ولمّا استقرأنا موارد الأَحكام الشرعية؛ وجدنا بين الطاعة (9) وَالْمَعْصِيَةِ وَاسِطَةً مُتَّفَقًا عَلَيْهَا ـ أَو كَالْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا ـ؛ وهي المباح، وحقيقته: أَنه ليس بطاعة ولا معصية (10) من حيث هو مباح.
_________
(1) لما أخرجه مسلم (560) من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعاً: "لا صلاة بحضرة طعام، ولا هو يدافعه الأخبثان".
(2) في (خ) و (ت) و (م): "يحرم".
(3) أخرجه البخاري (313)، ومسلم (938) من حديث أم عطية رضي الله عنها.
(4) في (خ): "مخالفاً".
(5) قوله: "ضالاً" ليس في (غ) و (ر).
(6) في (غ) و (ر): "ولكن".
(7) في (خ) و (م) و (ت): "التزمتم".
(8) قوله: "أما أولاً" سقط من (خ) و (ت).
(9) في (خ) و (ت): "وجدنا للطاعة".
(10) قوله: "ولا معصية" سقط من (خ).(2/378)
فالأَمر وَالنَّهْيُ ضِدَّان، بَيْنَهُمَا وَاسِطَةٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا أَمر وَلَا نَهْيٌ، وإِنما يَتَعَلَّقُ بِهَا التَّخْيِيرُ.
وإِذا تأَمّلنا الْمَكْرُوهَ ـ حَسْبَمَا قَرَّرَهُ الأُصوليون ـ؛ وَجَدْنَاهُ ذَا طَرَفَيْنِ:
طَرَفٌ مِنْ حَيْثُ هُوَ منهيٌّ عَنْهُ، فَيَسْتَوِي مَعَ الْمُحَرَّمِ فِي مُطْلَق النَّهْيِ، فَرُبَّمَا يُتَوهَّمُ أَن مُخَالَفَةَ نَهْيِ الْكَرَاهِيَةِ مَعْصِيَةً مِنْ حَيْثُ اشْتَرَكَ مَعَ الْمُحَرَّمِ فِي مُطْلَقِ الْمُخَالَفَةِ.
غَيْرَ أَنه يَصُدُّ عَنْ هَذَا الإِطلاق الطَّرَفَ الْآخَرَ، وَهُوَ أَن يُعْتَبَرَ مِنْ حَيْثُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى فَاعِلِهِ ذَمّ شَرْعِيٌّ، وَلَا إِثْمٌ وَلَا عِقَابٌ (1)، فَخَالَفَ الْمُحَرَّمَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَشَارَكَ الْمُبَاحَ فِيهِ؛ لأَن الْمُبَاحَ لَا ذَمّ عَلَى فَاعِلِهِ، وَلَا إِثْمَ وَلَا عِقَابَ (2)، فَتَحَامَوْا أَن يُطْلِقُوا (3) عَلَى مَا هَذَا شأْنه عِبَارَةَ الْمَعْصِيَةِ.
وإِذا ثَبَتَ هَذَا وَوَجَدْنَا بين الطاعة والمعصية واسطة يصح أَن يدخل تحتها المكروه؛ لم يصح أن يتناوله ضد الطاعة، فلا يطلق عليه لفظ المعصية، بخلاف الهدى والضلال؛ فإنه لا واسطة بينهما في الشرع يصح أن (4) ينسب إِليها لفظ (5) الْمَكْرُوهُ مِنَ الْبِدَعِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ} (6). فليس إِلا حق، وهو الهدى، أَو الضلال (7)، وهو باطل (8)، فالبدع المكروهة ضلال.
_________
(1) في (غ) و (ر): "عتاب".
(2) من قوله: "فخالف المحرم" إلى هنا سقط من (غ) و (ر).
(3) قوله: "أن يطلقوا" سقط من (غ) و (ر).
(4) من قوله: "يدخل تحتها" إلى هنا سقط من (خ) و (م) و (ت).
(5) قوله: "لفظ" سقط من (خ) و (م) و (ت).
(6) سورة يونس: الآية (32).
(7) في (خ): "والضلال".
(8) علق رشيد رضا رحمه الله على هذا الموضع بقوله: كان الظاهر أن يكون الضلال المعطوف على خبر ليس مساوياً له في التعريف والتنكير، وكلٌّ من خبري المبتدأ مساوياً للآخر كذلك؛ بأن يقول: "فليس إلا حق، وهو الهدى، وضلال هو الباطل"، ويجوز تعريف [الجميع].اهـ.(2/379)
وأَما ثَانِيًا: فإِن إِثبات قَسْمِ الْكَرَاهَةِ فِي الْبِدَعِ عَلَى الْحَقِيقَةِ مِمَّا يُنْظَرُ (1) فِيهِ، فَلَا يَغْتَرّ (2) المُغْتَرّ بإِطلاق الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الفقهاءِ لَفْظُ الْمَكْرُوهِ عَلَى بَعْضِ الْبِدَعِ (3)، وإِنما حَقِيقَةُ الْمَسْأَلَةِ: أَن الْبِدَعَ لَيْسَتْ عَلَى رُتْبَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الذَّمِّ ـ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ـ، وأَما تَعْيِينُ الْكَرَاهَةِ (4) الَّتِي مَعْنَاهَا نَفْيُ إِثم فَاعِلِهَا، وَارْتِفَاعُ الْحَرَجِ عنه (5) البتَّةَ، فَهَذَا مِمَّا لَا يَكَادُ يُوجَدُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ مِنَ الشَّرْعِ، وَلَا مِنْ كَلَامِ الأَئمة عَلَى الْخُصُوصِ.
أَما الشَّرْعُ فَفِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ؛ لأَن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّ عَلَى مَنْ قَالَ: أَما أَنا فأَقوم اللَّيْلَ وَلَا أَنام، وَقَالَ الْآخَرُ (6): أَما أَنا فَلَا أَنكح النساءَ ... ، إِلى آخِرِ مَا قَالُوا، فَرَدَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: "مَنْ رَغِبَ عَنْ سنتي فليس مني" (7).
وهذه العبارة من (8) أَشد شيءٍ فِي الإِنكار، وَلَمْ يَكُنْ مَا الْتَزَمُوا إِلا فِعْلَ مَنْدُوبٍ أَو تَرْكَ مَنْدُوبٍ إِلى فِعْلِ مَنْدُوبٍ آخَرَ، وَكَذَلِكَ مَا فِي الحديث: أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأَى رَجُلًا قَائِمًا فِي الشَّمْسِ فَقَالَ: "مَا بَالُ هَذَا؟ " فَقَالُوا (9): نذر أَن لا يستظل ولا يتكلم ولا يَجْلِسُ وَيَصُومَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم: "مُرْهُ (10) فليجلس وليتكلم وَلِيَسْتَظِلَّ وَلِيُتِمَّ صَوْمَهُ" (11). قَالَ مَالِكٌ (12): "أَمره أَن يُتِمَّ مَا كَانَ لِلَّهِ عَلَيْهِ فِيهِ طَاعَةٌ، وَيَتْرُكُ مَا كَانَ عَلَيْهِ فِيهِ مَعْصِيَةٌ".
وَيُعَضِّدُ هَذَا الَّذِي قَالَهُ مَالِكٌ: مَا فِي الْبُخَارِيِّ (13) عن قيس بن أَبي
_________
(1) في (غ) و (ر): "ما ينظر".
(2) في (غ) و (ر): "يغترن".
(3) قوله: "البدع" سقط من (خ) و (ت)، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: ربما سقط من هنا كلمة: "البدع".اهـ.
(4) في (ر): "الكراهية".
(5) قوله: "عنه" سقط من (خ) و (م) و (ت).
(6) قوله: "الآخر" سقط من (غ) و (ر).
(7) تقدم تخريجه (ص147) من هذا المجلد.
(8) قوله: "من" سقط من (خ)، و (م) و (ت).
(9) قوله: "فقالوا" سقط من (خ)، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: كذا! ولعل الأصل: "قالوا: نذر"، أو: "قيل: نذر" إلخ. اهـ.
(10) في (ت): "مروه".
(11) تقدم تخريجه صفحة (28).
(12) في "الموطأ" (2/ 476)، مع اختلاف يسير.
(13) انظر "صحيح البخاري" رقم (3834).(2/380)
حَازِمٍ قَالَ: دَخَلَ أَبو بَكْرٍ (1) عَلَى امرأَةٍ من قيسٍ (2) يُقَالُ لَهَا: زَيْنَبُ، فَرَآهَا لَا تَتَكَلَّمُ، فَقَالَ: مالها لا تتكلم (3)؟ قالوا (4): حَجَّتْ مُصْمِتَةً (5). قَالَ لَهَا: تكلَّمي؛ فإِن هَذَا لَا يَحِلُّ، هَذَا مِنْ عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ، فتكلَّمت ... ، الحديث إلى آخره (6).
وَقَالَ مَالِكٌ أَيضاً (7) ـ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "مِنْ نَذَرَ أَن يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ" (8) ـ: إِن ذَلِكَ أَن يَنْذُرَ الرَّجُلُ أَن يمشي إِلى الشام، أَو إِلى مصر، أَو أَشباه ذلك (9) مما ليس لله (10) فيه طاعة، إن كَلَّم فُلَانًا (11)، فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ إِن هُوَ (12) كلَّمه؛ لأَنه (13) لَيْسَ لِلَّهِ فِي هَذِهِ الأَشياء طَاعَةٌ (14)، وإِنما يُوفِي لِلَّهِ بِكُلِّ نَذْرٍ له (15) فِيهِ طَاعَةٌ؛ مِنْ مَشْيٍ إِلى بَيْتِ اللَّهِ، أَو صيامٍ، أَو صدقةٍ، أَوْ صلاةٍ، فَكُلُّ ما كان لِلَّهِ (16) فِيهِ طَاعَةٌ؛ فَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى مَنْ نذره.
_________
(1) قوله: "أبو بكر" سقط من (خ)، وعلق على موضعه رشيد رضا بقوله: "أي: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلخ".
(2) كذا في جميع النسخ! والذي في "صحيح البخاري": "امرأة من أحْمَس".
(3) قوله: "لا تتكلم" سقط من (خ).
(4) في (خ) و (م): "فقال"، وفي (ت) "فقيل".
(5) في (غ) و (ر): "مضمنة".
(6) في (ت): "فتكلمت إلى آخر الحديث".
(7) في "الموطأ" أيضاً (2/ 476) برواية يحيى الليثي، وانظر رواية أبي مصعب (2/ 217)، ورواية سويد بن سعيد (ص219)، مع اختلاف يسير فيها جميعها.
(8) تقدم تخريجه (ص177).
(9) في (خ): "وإلى مصر وأشباه ذلك".
(10) قوله: "لله" ليس في (خ) و (م) و (ت).
(11) في (خ): "أو أن لا أكلم فلاناً"، وفي أصل (ت): "أو إن كلم فلاناً"، وكتب في الهامش: "لا أكلم"، وهي بهذا تكون موافقة لـ (خ)، والمثبت من (م)، وهو الموافق لـ"الموطأ"، وجميع هذا سقط من (غ) و (ر) كما سيأتي.
(12) في (م): "أهو" بدل "إن هو".
(13) في (خ): "إن هو كلمه؛ لأنه إن كلم فلاناً فليس عليه في ذلك شيء أهو كلمه لأنه"، وهو تكرار.
(14) من قوله: "إن كلم فلاناً" إلى هنا سقط من (غ) و (ر).
(15) قوله: "له" سقط من (خ) و (م) و (ت).
(16) في (خ) و (م) و (ت): "فكل ما لله".(2/381)
فتأَمّل (1) كَيْفَ جَعَلَ الْقِيَامَ [فِي الشَّمْسِ] (2)، وتَرْكَ الْكَلَامَ، ونَذْرَ المَشْيِ إِلى الشَّامِ أَو مِصْرَ معاصيَ، حتى فسر بها (3) الْحَدِيثَ الْمَشْهُورَ، مَعَ أَنها فِي أَنفسها أَشياء مُبَاحَاتٍ (4)، لَكِنَّهُ لَمَّا أَجراها مَجْرَى مَا يُتَشَرَّعُ (5) به، ويُدانُ اللهُ بِهِ؛ صَارَتْ عِنْدَ مالكٍ معاصيَ لِلَّهِ، وكُلِّيَّةُ قَوْلِهِ: "كلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ" شَاهِدَةٌ لِهَذَا الْمَعْنَى، وَالْجَمِيعُ يَقْتَضِي التأْثيم وَالتَّهْدِيدَ وَالْوَعِيدَ، وَهِيَ خَاصِّيَّةُ المُحَرَّم.
وَقَدْ مرَّ (6) مَا رَوَى الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّار عن مالك (7) وأَتاه (8) رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَبا عَبْدِ اللَّهِ! من أَين أُحْرِم؟ قال: من ذي الحليفة؛ مِنْ حَيْثُ أَحرم رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: إِني أُريد أَن أُحْرِمَ من المسجد، فقال: لا تفعل. قال: إِني أُريد أَن أحرم من المسجد من (9) عند الْقَبْرِ (10): قَالَ: لَا تَفْعَلْ؛ فإِني أَخشى عَلَيْكَ الْفِتْنَةَ. قَالَ: وأَي فِتْنَةٍ فِي هَذَا؟ إِنما هِيَ أَميال أَزيدها، قَالَ: وأَي فِتْنَةٍ أَعظم من أَن ترى أَنك سبقت إِلى فضيلةٍ قَصَّرَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ إِني سَمِعْتُ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (11).
فأَنت تَرَى أَنه خَشِيَ عَلَيْهِ الْفِتْنَةَ فِي الإِحرام مِنْ مَوْضِعٍ فَاضِلٍ لَا بُقْعَةَ أَشرف منه (12)،
_________
(1) في (غ) و (ر): "تأمل".
(2) في جميع النسخ: "للشمس".
(3) في (خ) و (م): "فيها".
(4) في (غ) و (ر): "أنفسنا أشياء مباحة".
(5) في (م): "ما يشرع".
(6) في الجزء الأول (ص230 ـ 231)، وهناك نقله عن أبي بكر ابن العربي، والنص عند ابن العربي في كتابه "أحكام القرآن" (3/ 1412 ـ 1413)؛ حيث ساقه بسنده عن الزبير بن بكار؛ قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: سمعت مالك بن أنس وأتاه رجل ... ، فذكر القصة.
وأخرجها ابن بطة في "الإبانة" (1/ 261 ـ 262 رقم 98) من طريق حميد بن الأسود؛ قال: قال رجل لمالك بن أنس ... ، فذكرها.
(7) قوله: "عن مالك" سقط من (خ) و (م).
(8) في (ت): "أنه أتاه".
(9) قوله: "من" ليس في (غ) و (ر).
(10) في (ت): "من عند القبر الشريف".
(11) الآية: (63) من سورة النور.
(12) قول المصنف هذا مما لا دليل عليه، بل الدليل يعارضه، يوضح ذلك ويُجَلّيه كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "الفتاوى" (27/ 37) حين سئل عن التربة التي دُفِن فيها النبي صلّى الله عليه وسلّم: هل هي أفضل من المسجد الحرام؟ فأجاب بقوله: "وأما التربة التي=(2/382)
وَهُوَ مَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَوْضِعُ قَبْرِهِ (1)، لَكِنَّهُ أَبعدُ مِنَ الْمِيقَاتِ، فَهُوَ زيادةٌ فِي التَّعَبِ قَصْدًا لِرِضَا اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَبَيَّنَ أَن مَا اسْتَسْهَلَهُ مِنْ ذَلِكَ الأَمر اليسير في بادي الرأْي يُخَافُ عَلَى صَاحِبِهِ الْفِتْنَةَ فِي الدُّنْيَا، وَالْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ، وَاسْتَدَلَّ بِالْآيَةِ (2). فَكُلُّ مَا كَانَ مِثْلَ (3) ذَلِكَ دَاخِلٌ ـ عِنْدَ مَالِكٍ ـ فِي مَعْنَى الْآيَةِ؛ فأَين كَرَاهِيَةُ (4) التَّنْزِيهِ فِي هَذِهِ الأُمور الَّتِي يَظْهَرُ بأَول النَّظَرِ أَنها سَهْلَةٌ وَيَسِيرَةٌ (5)؟
وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: أَخبرني ابْنُ الْمَاجِشُونِ: أَنه سَمِعَ مَالِكًا يَقُولُ: التَّثْوِيبُ (6) ضَلَالٌ. قَالَ مَالِكٌ: وَمِنْ أَحدث فِي هَذِهِ الأُمة شَيْئًا (7) لم يكن
_________
=دُفن فيها النبي صلّى الله عليه وسلّم فلا أعلم أحداً من الناس قال إنها أفضل من المسجد الحرام، أو المسجد النبوي، أو المسجد الأقصى؛ إلا القاضي عياض، فذكر ذلك إجماعاً، وهو قول لم يسبقه إليه أحد فيما علمناه، ولا حجة عليه، بل بدن النبي صلّى الله عليه وسلّم أفضل من المساجد، وأما ما فيه خُلِقَ، أو ما فيه دُفِنَ فلا يلزم ـ إذا كان هو أفضل ـ أن يكون ما منه خُلِق أفضل، فإن أحداً لا يقول: إن بدن عبد الله أبيه أفضل من أبدان الأنبياء؛ فإن الله يخرج الحي من الميت، والميت من الحي، ونوح نبي كريم، وابنه الْمُغْرَقُ كافر، وإبراهيم خليل الرحمن، وأبوه آزر كافر. والنصوص الدالّة على تفضيل المساجد مطلقة لم يُسْتَثْنَ منها قبور الأنبياء، ولا قبور الصالحين. ولو كان ما ذكره حقَّاً؛ لكان مَدْفَنُ كل نبي، بل وكل صالح أفضل من المساجد التي هي بيوت الله، فيكون بيوت المخلوقين أفضل من بيوت الخالق التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، وهذا قول مبتدع في الدين، مخالف لأصول الإسلام". وسئل أيضاً في نفس الموضع عن رجلين تجادلا، فقال أحدهما: إن تربة محمد النبي صلّى الله عليه وسلّم أفضل من السموات والأرض، وقال الآخر: الكعبة أفضل، فمع من الصواب؟ فأجاب: "الحمد لله، أما نفس محمد صلّى الله عليه وسلّم فما خلق الله خلقاً أكرم عليه منه، وأما نفس التراب فليس هو أفضل من الكعبة البيت الحرام، بل الكعبة أفضل منه، ولا يعرف أحد من العلماء فضّل تراب القبر على الكعبة إلا القاضي عياض، ولم يسبقه أحد إليه، ولا وافقه أحد عليه، والله أعلم".اهـ.
(1) في (ت): "قبره الشريف".
(2) في (خ) و (م): "في الآية".
(3) في (غ) و (ر): "بمثل".
(4) في (ت): "فإن كراهة".
(5) في (ت): "سهلة يسيرة".
(6) سيأتي معنى التثويب.
(7) في (ت): "ومن أحدث شيئاً في هذه الأمة".(2/383)
عَلَيْهِ سَلَفُهَا فَقَدْ زَعَمَ أَن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَانَ الرِّسَالَةَ (1)؛ لأَن اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (2)، فَمَا لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ دِينًا؛ لَا يَكُونُ الْيَوْمَ دِينًا (3).
وإِنما التَّثْوِيبُ الَّذِي كَرِهَهُ: أَن الْمُؤَذِّنَ كَانَ إِذا أَذَّنَ فأَبطأَ النَّاسُ؛ قَالَ بَيْنَ الأَذان والإِقامة: "قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَّاحِ" (4)، وَهُوَ قَوْلُ إِسحاق بن رَاهَوَيْهِ: أَنه التَّثْوِيبُ المُحْدَث.
قَالَ التِّرْمِذِيُّ (5) ـ لَمَّا نقل هذا عن إِسحاق (6) ـ: "وَهَذَا الَّذِي قَالَ (7) إِسحاق هُوَ التَّثْوِيبُ الَّذِي قَدْ كَرِهَهُ أَهل الْعِلْمِ، وَالَّذِي أَحدثوه بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
وإِذا اعتُبِر هَذَا اللَّفْظُ فِي نَفْسِهِ فَكُلُّ أَحد يَسْتَسْهِلُّهُ في بادي الرأْي؛ إِذ لَيْسَ فِيهِ زِيَادَةٌ عَلَى التَّذْكِيرِ بِالصَّلَاةِ.
وقصَّة صبيغٍ الْعِرَاقِيِّ ظَاهِرَةٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى.
فَحَكَى ابْنُ وَهْبٍ؛ قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنس؛ قَالَ: جَعَلَ صَبِيغ يَطُوفُ بِكِتَابِ اللَّهِ (8) مَعَهُ، وَيَقُولُ: مَنْ يَتَفَقَّهْ يُفقِّهه اللَّهُ، مَنْ يَتَعَلَّمْ يُعلِّمْه اللَّهُ؛ فأَخذه عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَضَرَبَهُ بِالْجَرِيدِ الرَّطْب، ثُمَّ سَجَنَهُ حَتَّى إِذا خَفَّ الَّذِي بِهِ؛ أَخرجه فَضَرَبَهُ، فَقَالَ: يَا أَمير الْمُؤْمِنِينَ! إِن كُنْتَ تُرِيدُ قَتْلِي فأَجهز عَلَيَّ، وإِلا فَقَدْ شفيتني شفاك الله، فخلاّه عمر بن الخطاب (9).
_________
(1) في (خ) و (م) و (ت): "خان الدين"، والمثبت من (ر) و (غ)، وهو الموافق لما في "الإحكام" لابن حزم، ولما تقدم في الجزء الأول (ص65 ـ 66)، ولما سيأتي (ص398 و401).
(2) سورة المائدة: الآية (3).
(3) أخرجه ابن حزم في "إحكام الأحكام" (6/ 791)، وتقدم هذا القول في الجزء الأول (ص65 ـ 66)، وسيأتي (398 و401) من هذا الجزء.
(4) انظر: "البيان والتحصيل" (1/ 435).
(5) في "جامعه" (1/ 380).
(6) في (خ) و (ت) و (م): "سحنون" بدل "إسحاق".
(7) قوله: "قال" سقط من (م).
(8) لفظ الجلالة "الله" ليس في (غ) و (ر).
(9) قوله: "ابن الخطاب" من (غ) و (ر) فقط.(2/384)
قال ابن وهب: قال لي (1) مَالِكٌ: وَقَدْ ضَرَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَبِيغًا حِينَ بَلَغَهُ مَا يَسأَل عنه من القرآن، وغير ذلك (2). انتهى.
وَهَذَا الضَّرْبُ إِنما كَانَ لِسُؤَالِهِ عَنْ أُمورٍ مِنَ الْقُرْآنِ لَا يَنْبَنِي عَلَيْهَا عَمَلٌ، وَرُبَّمَا نُقل عَنْهُ أَنه كَانَ يسأَل عَنِ السَّابِحَاتِ سَبْحًا، وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا وأَشباه ذَلِكَ، وَالضَّرْبُ إِنما يَكُونُ لِجِنَايَةٍ أَرْبَتْ (3) عَلَى كَرَاهِيَةِ التَّنْزِيهِ؛ إِذ لَا يُسْتَبَاحُ دَمُ (4) امرئٍ (5) مُسْلِمٍ، وَلَا عرضُه بمكروه كراهية تنزيه (6)، ووجه ضَرْبُهُ إِياه: خَوَّفَ الِابْتِدَاعِ فِي الدِّينِ؛ أَن يَشْتَغِلَ مِنْهُ (7) بِمَا لَا يَنْبَني عَلَيْهِ عَمَلٌ، أَو أَن (8) يَكُونَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً لِئَلَّا يَبْحَثَ عَنِ الْمُتَشَابِهَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ (9)، وَلِذَلِكَ لَمَّا قَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا *} (10)؛ قَالَ: هَذِهِ الْفَاكِهَةُ، فَمَا الأَبّ؟ ثُمَّ قَالَ (11): ما أمرنا بهذا.
_________
(1) قوله: "لي" ليس في (خ) و (م) و (ت).
(2) أخرجه ابن وضاح في "البدع والنهي عنها" (152). وإسناده معضل؛ مالك لم يلقَ عمر.
وقصة عمر مع صبيغ مشهورة جاءت عنه بأسانيد متعددة، أمثلها ما أخرجه الدارمي (1/ 66)، والآجري في "الشريعة" (1/ 210) من طريق يزيد بن خصيفة، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ؛ قَالَ: أَتَى عُمَرَ ... ، فذكره.
قال الحافظ في "الإصابة" (5/ 169: ترجمة صبيغ): إسناده صحيح.
وانظر: ترجمة صبيغ في "تاريخ ابن عساكر" (23/ 408).
(3) كذا في جميع النسخ، غير أن ترتيب نقط الكلمة في (خ) أوهم أن تكون: "أرتب"، فعلق رشيد رضا عليها بقوله: في الأصل: "أرتب"، وهو تحريف ظاهر، والمعنى: أن الضرب لا يمكن أن يُرَتّب على كراهية التنزيه. اهـ.
(4) في (خ): "ذم".
(5) قوله: "امرئ" سقط من (ت).
(6) في (غ) و (ر): "التنزيه".
(7) في (ر) و (غ): "عنه" بدل "منه".
(8) في (خ): "وأن".
(9) علق رشيد رضا رحمه الله على هذا الموضع بقوله: "المشهور في قصة صبيغ: أنه كان يسأل عن المتشابهات، فيفتح بها باب التشكيك في القرآن، وأن عمر ضربه ثم نفاه من المدينة، وأمر باجتنابه لأجل ذلك. وقد ذكره الحافظ في القسم الثالث من الإصابة، وذكر ملخص الروايات في قصته مع عمر" اهـ.
(10) سورة عبس: الآية (31).
(11) قوله: "قال" سقط من (ر) و (غ).(2/385)
وَفِي رِوَايَةٍ: نُهينا عَنِ التكلُّف (1) (2).
وَجَاءَ فِي قِصَّةِ صَبيغ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ عَنِ اللَّيْثِ: أَنه ضَرَبَهُ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ أَراد أَن يَضْرِبَهُ الثَّالِثَةَ، فَقَالَ لَهُ صَبيغ: إِن كُنْتَ تُرِيدُ قَتْلِي فَاقْتُلْنِي قَتْلًا جَمِيلًا، وإِن كُنْتَ تُرِيدُ أَن تُدَاوِيَنِي فَقَدْ وَاللَّهِ بَرِئْتُ. فأَذن لَهُ إِلى أَرضه، وَكَتَبَ إِلى أَبي مُوسَى الأَشعري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَن لَا يُجَالِسَهُ أَحد مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى الرَّجُلِ، فَكَتَبَ أَبو مُوسَى إِلى عُمَرَ: أَن قَدْ حَسُنت هيئته (3)، فكتب عَمَرُ: أَن يأْذن لِلنَّاسِ بِمُجَالَسَتِهِ (4).
وَالشَّوَاهِدُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ، وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى أَن الهيِّن عِنْدَ النَّاسِ مِنَ الْبِدَعِ شديدٌ وَلَيْسَ بهيِّن، {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} (5).
وأَما كَلَامُ الْعُلَمَاءِ: فإِنهم وإِن أَطلقوا الْكَرَاهِيَةَ فِي الأُمور الْمَنْهِيِّ عَنْهَا؛ لَا يَعْنُونَ بِهَا كَرَاهِيَةَ (6) التَّنْزِيهِ فَقَطْ، وإِنما هَذَا اصْطِلَاحٌ للمتأَخرين (7) حين أَرادوا أَن يفرِّقوا بين القَبِيلَيْن، فَيُطْلِقُونَ لَفْظَ الْكَرَاهِيَةِ عَلَى كَرَاهِيَةِ التَّنْزِيهِ فَقَطْ، ويخصّون كراهية التحريم بلفظ التحريم، أو المنع، وأَشباه ذلك.
وأَما المتقدمون من السلف: فإِنه لَمْ يَكُنْ مِنْ شأْنهم فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ صَرِيحًا أَن يَقُولُوا: هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ، وَيَتَحَامَوْنَ هَذِهِ الْعِبَارَةَ خَوْفًا مِمَّا فِي الْآيَةِ مِنْ قَوْلِهِ: {وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ
_________
(1) في (خ): "التكليف".
(2) هذا الأثر يرويه أنس عن عمر، وإسناده صحيح، وله عن أنس ستة طرق تجدها مفصّلة في تخريجي لـ"سنن سعيد بن منصور" (1/ 181) فما بعدها.
وقوله: "نهينا عن التكلف": أخرجه البخاري (7293).
(3) في (خ): "سيئته".
(4) أخرجه الدارمي (1/ 67)، وابن وضاح في "البدع والنهي عنها" (151) من طريق الليث، عن محمد بن عجلان، عن نافع، به. ورواية نافع عن عمر مرسلة.
وسبق قريباً تخريج قصة صبيغ وبيان صحتها.
(5) سورة النور: الآية (15).
(6) في (غ): "كراهة".
(7) في (ر) و (غ): "المتأخرين".(2/386)
وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} (1)، وحَكى مَالِكٌ عمَّن تقدَّمه هَذَا الْمَعْنَى (2).
فإِذا وُجِدَتْ فِي كَلَامِهِمْ فِي الْبِدْعَةِ أَو غَيْرِهَا "أَكره هَذَا، وَلَا أُحِبُّ هَذَا، وَهَذَا مَكْرُوهٌ" وَمَا أَشبه ذَلِكَ، فَلَا تَقْطَعَنَّ عَلَى أَنهم يُرِيدُونَ التَّنْزِيهَ فَقَطْ فإِنه إِذا دَلَّ الدَّلِيلُ فِي (3) جَمِيعِ الْبِدَعِ عَلَى أَنها (4) ضَلَالَةٌ فَمِنْ أَين يُعَدُّ فِيهَا مَا هُوَ مَكْرُوهٌ كَرَاهِيَةَ التَّنْزِيهِ (5)؟ اللَّهُمَّ إِلا أَن يُطْلِقُوا لَفْظَ الْكَرَاهِيَةِ عَلَى مَا يَكُونُ لَهُ أَصل فِي الشَّرْعِ، وَلَكِنْ يُعَارِضُهُ أَمر آخَرُ مُعْتَبَرٌ فِي الشَّرْعِ فَيُكْرَهُ لأَجله، لَا لأَنه بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ؛ عَلَى تفصيل يذكر في موضعه إن شاء الله (6).
وأَما ثَالِثًا: فإِنا إِذا تأَملنا حَقِيقَةَ الْبِدْعَةِ ـ دَقَّتْ أَوجَلَّت ـ وَجَدْنَاهَا (7) مُخَالِفَةً لِلْمَكْرُوهِ مِنَ الْمَنْهِيَّاتِ الْمُخَالَفَةَ التَّامَّةَ. وَبَيَانُ ذَلِكَ مِنْ أَوجه:
أَحدها: أَن مُرْتَكِبَ الْمَكْرُوهِ إِنما قَصْدُهُ نَيْلُ غَرَضِهِ وَشَهْوَتِهِ الْعَاجِلَةِ متَّكلاً عَلَى الْعَفْوِ اللَّازِمِ فِيهِ، وَرَفْعِ الْحَرَجِ الثَّابِتِ فِي الشَّرِيعَةِ، فَهُوَ إِلى الطَّمَعِ فِي رَحْمَةِ اللَّهِ أَقرب.
وأَيضاً: فَلَيْسَ عَقَدُهُ الْإِيمَانِيُّ بِمُتَزَحْزِحٍ، لأَنه يَعْتَقِدُ الْمَكْرُوهَ مَكْرُوهًا كَمَا يَعْتَقِدُ الْحَرَامَ حَرَامًا وإِن ارْتَكَبَهُ، فَهُوَ يَخَافُ اللَّهَ وَيَرْجُوهُ، وَالْخَوْفُ والرجاءُ شُعْبَتَانِ مِنْ شُعَبِ الإِيمان.
فَكَذَلِكَ مُرْتَكِبُ الْمَكْرُوهِ يَرَى أَن التُّرْكَ أَولى في حقه من الفعل، وأَن
_________
(1) سورة النحل: الآية (116).
(2) قال ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (2/ 1075 رقم 2091): "وذكر ابن وهب وعتيق بن يعقوب: أنهما سمعا مالك بن أنس يقول: لم يكن من أمر الناس ولا مَنْ مضى من سلفنا، ولا أدري أحداً أقتدي به يقول في شيءٍ: هذا حلال، وهذا حرام، ما كانوا يجترؤون على ذلك، وإنما كانوا يقولون: نكره هذا ... " إلخ. ونقل نحوه القرطبي في "تفسيره" (10/ 196)، وابن رجب في "جامع العلوم" (ص525).
(3) في (ت): "على أن" بدل "في".
(4) قوله: "على أنها" ليس في (ت).
(5) في (ت): "كراهة تنزيه".
(6) قوله: "إن شاء الله" من (ر) و (غ) فقط.
(7) في (خ): "وجدنا".(2/387)
نَفْسَهُ الأَمّارة زَيَّنت لَهُ الدُّخُولَ فِيهِ. ويَوَدُّ لَوْ لَمْ يَفْعَلْ، وأَيضاً فَلَا يَزَالُ ـ إِذا تَذَكَّرَ ـ منكسرَ الْقَلْبِ؛ طَامِعًا فِي الإِقلاع، سَوَاءٌ عَلَيْهِ أَخذ فِي أَسباب الإِقلاع أَم لَا.
وَمُرْتَكِبُ أَدنى الْبِدَعِ يَكَادُ يَكُونُ عَلَى ضِدِّ هَذِهِ الأَحوال، فإِنه يَعُدُّ مَا دَخَلَ فِيهِ حسناً، بل يراه أَولى مما (1) حدَّ له الشارع، فأَين مع هذا خَوْفُهُ أَو رَجَاؤُهُ، وَهُوَ يَزْعُمُ أَن طَرِيقَهُ أَهدى سَبِيلًا، وَنِحْلَتَهُ أَولى بِالِاتِّبَاعِ؟
هَذَا وإِن كان زعمه لشبهة (2) عَرَضَتْ فَقَدْ شَهِدَ الشَّرْعُ بِالْآيَاتِ والأَحاديث أَنه مُتَّبِعٌ لِلْهَوَى. وسيأْتي لِذَلِكَ تَقْرِيرٌ إِن شاءَ اللَّهُ.
وَقَدْ مَرَّ فِي أَول الْبَابِ الثَّانِي تَقْرِيرٌ لِجُمْلَةٍ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي تُعَظِّمُ أَمر الْبِدَعِ عَلَى الإِطلاق، وَكَذَلِكَ مَرَّ فِي آخِرِ الْبَابِ أَيضاً أُمور ظَاهِرَةٌ فِي بُعْدِ مَا بينها (3) وَبَيْنَ كَرَاهِيَةِ التَّنْزِيهِ، فَرَاجِعْهَا هُنَالِكَ يَتَبَيَّنْ لَكَ مِصْدَاقَ مَا أُشير إِليه هَاهُنَا، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
وَالْحَاصِلُ: أَن النِّسْبَةَ بَيْنَ الْمَكْرُوهِ مِنَ الأَعمال وبين أَدنى البدع (4) بعيدُ المُلْتَمَس.
_________
(1) في (خ): "بما".
(2) في (م): "بشبهة".
(3) في (خ) و (م): "بينهما".
(4) قوله: "وبين أدنى البدع" سقط من (ت).(2/388)
فصل
إِذا (1) ثَبَتَ هَذَا انْتَقَلْنَا مِنْهُ إِلى مَعْنًى آخَرَ
وَهُوَ أَن المُحَرَّم يَنْقَسِمُ فِي الشَّرْعِ إِلى مَا هُوَ صَغِيرَةٌ، وإِلى مَا هُوَ كَبِيرَةٌ ـ حَسْبَمَا تبيَّن فِي عِلْمِ الأُصول الدِّينِيَّةِ ـ، فَكَذَلِكَ يُقَالُ فِي الْبِدَعِ الْمُحَرَّمَةِ: إِنها تَنْقَسِمُ إِلى الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ اعْتِبَارًا بِتَفَاوُتِ دَرَجَاتِهَا كَمَا تَقَدَّمَ، وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ بأَن الْمَعَاصِيَ تَنْقَسِمُ إِلى الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ. وَلَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا عَلَى أَوجه وَجَمِيعُ مَا قَالُوهُ لَعَلَّهُ لَا يُوفِي بِذَلِكَ الْمَقْصُودِ عَلَى الْكَمَالِ فَلْنَتْرُكِ التَّفْرِيعَ عَلَيْهِ.
وأَقرب وَجْهٍ (2) يُلْتَمَسُ لِهَذَا الْمَطْلَبِ مَا تَقَرَّرَ فِي كِتَابِ "الْمُوَافِقَاتِ" (3) أَن الْكَبَائِرَ مُنْحَصِرَةٌ فِي الإِخلال بِالضَّرُورِيَّاتِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي كُلِّ مِلَّة، وَهِيَ: الدِّينُ، وَالنَّفْسُ، وَالنَّسْلُ، وَالْعَقْلُ، وَالْمَالُ، وكل ما نُصَّ عليه منها (4) رَاجِعٌ إِليها، وَمَا لَمْ يُنَصَّ عَلَيْهِ جَرَتْ في الاعتبار النظري (5) مَجْرَاهَا، وَهُوَ الَّذِي يَجْمَعُ أَشتات مَا ذَكَرَهُ العلماءُ وَمَا لَمْ يَذْكُرُوهُ مِمَّا هُوَ فِي مَعْنَاهُ.
فَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي كَبَائِرَ الْبِدَعَ: مَا أَخَلَّ مِنْهَا بأَصل مِنْ هَذِهِ الضَّرُورِيَّاتِ فَهُوَ كبيرة، وما لا، فهي صَغِيرَةٌ (6)، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ لِذَلِكَ أَمثلة أَول الْبَابِ.
فَكَمَا انْحَصَرَتْ كَبَائِرُ الْمَعَاصِي أَحسن انْحِصَارٍ ـ حَسْبَمَا أُشِيرَ إِليه فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ ـ؛ كَذَلِكَ تَنْحَصِرُ كَبَائِرُ الْبِدَعِ أَيضاً، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَعْتَرِضُ (7) فِي
_________
(1) في (ر) و (غ): "وإذا".
(2) في (ت): "شيء" بدل "وجه".
(3) (2/ 511).
(4) قوله: "منها" ليس في (خ) و (م) و (ت).
(5) في (خ) و (ت) و (م): "النظر".
(6) في (ت): "فهو صغيرة".
(7) في (غ) و (ر): "يفترض".(2/389)
المسأَلة إِشكال عَظِيمٌ عَلَى أَهل الْبِدَعِ يَعْسُر التخلّص منه (1) فِي إِثبات الصَّغَائِرِ فِيهَا. وَذَلِكَ أَن جَمِيعَ الْبِدَعِ رَاجِعَةٌ إِلى الإِخلال بِالدِّينِ، إِما أَصلاً، وإِما فَرْعًا؛ لأَنها إِنما أُحدثت لتُلْحَقَ بِالْمَشْرُوعِ؛ زِيَادَةً فِيهِ، أَو نُقْصَانًا (2) مِنْهُ، أَو تَغْيِيرًا لقوانينه (3)، أَو مَا يَرْجِعُ إِلى ذَلِكَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بمختص بالعبادات دون العادات ـ إِن قلنا بدخولها في العادات (4) ـ، بل تشمل (5) الْجَمِيعِ (6).
وإِذا كَانَتْ بِكُلِّيَّتِهَا إِخلالاً بِالدِّينِ؛ فَهِيَ إِذاً إِخلال بَأَوّل الضَّرُورِيَّاتِ، وَهُوَ الدِّينُ، وَقَدْ أَثبت الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ (7) أَنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَقَالَ فِي الفِرَقِ: "كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلا وَاحِدَةٌ" (8)، وَهَذَا (9) وَعِيدٌ أَيضاً (10) لِلْجَمِيعِ عَلَى التَّفْصِيلِ.
هذا وإِن تَفَاوَتَتْ مَرَاتِبُهَا فِي الإِخلال بِالدِّينِ فَلَيْسَ ذَلِكَ بمُخْرِجٍ لَهَا عَنْ أَن تَكُونَ كَبَائِرَ، كَمَا أَن الْقَوَاعِدَ الْخَمْسَ أَركان الدِّينِ، وَهِيَ مُتَفَاوِتَةٌ فِي التَّرْتِيبِ، فَلَيْسَ الإِخلال بِالشَّهَادَتَيْنِ (11) كالإِخلال بِالصَّلَاةِ، وَلَا الْإِخْلَالُ بِالصَّلَاةِ كالإِخلال بِالزَّكَاةِ، وَلَا الإِخلال بِالزَّكَاةِ كالإِخلال بِرَمَضَانَ، وَكَذَلِكَ سَائِرُهَا، مَعَ أن (12) الإِخلال بكل واحدٍ (13) مِنْهَا كَبِيرَةٌ، فَقَدْ آلَ النَّظَرُ (14) إِلى أَن كل بدعة كبيرة.
_________
(1) المثبت من (ت)، وفي باقي النسخ: "عنه" بدل "منه".
(2) في (ر) و (غ): "أو نقصاً".
(3) في (خ) و (ت): "لقوافيه" وفي (م): "أو تغيير القوانية".
(4) في (ت): "في العبادات".
(5) في (خ): "تمنع" بدل "تشمل"، وعلق عليها رشيد رضا بقوله: لعل هنا كلمة "في" ساقطة. اهـ.
(6) في (ت): "بل تقع في الجميع".
(7) تقدم تخريجه صفحة (108) من المجلد الأول، و (ص318) من هذا المجلد.
(8) أخرجه أحمد (4/ 102)، وأبو داود (4597)، والدارمي (2/ 241) وغيرهم من حديث معاوية رضي الله عنه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: حديث صحيح مشهور، وجوّد أسانيده العراقي، وحسّنه الحافظ ابن حجر؛ كما في "السلسلة الصحيحة" (204) وانظر (ص108) من المجلد الأوّل.
(9) في (ر) و (غ): "وهو".
(10) في (ت): "وهذا أيضاً وعيد".
(11) في (خ) و (م): "في الشهادتين".
(12) قوله: "أن" ليس في (خ) و (م) و (ت).
(13) قوله: "واحد" من (ر) و (غ) فقط.
(14) في (ر) و (غ): "آل هذا النظر".(2/390)
ويجاب عنه بأَنه إن كان (1) هذا النظر (2) يدل على ما ذُكر؛ فَفِي (3) النَّظَرِ مَا يَدُلُّ مِنْ جِهَةٍ أُخرى عَلَى إِثبات الصَّغِيرَةِ مِنْ أَوجه:
أَحدها: أَنا نَقُولُ: الإِخلال بِضَرُورَةِ النَّفْسِ كَبِيرَةٌ بِلَا إِشكال، وَلَكِنَّهَا عَلَى مَرَاتِبَ، أَدناها لَا يُسَمَّى كَبِيرَةً، فَالْقَتْلُ كَبِيرَةٌ، وَقَطْعُ الأَعضاءِ مِنْ غَيْرِ إِجهاز (4) كبيرة دونها، وقطع عُضْوٍ واحد فقط (5) كَبِيرَةٌ دُونَهَا، وهَلُمّ جَرَّا إِلى أَن تَنْتَهِيَ (6) إِلى اللَّطْمَةِ، ثُمَّ إِلى أَقل خَدْشٍ يُتَصَوَّرُ، فَلَا يَصِحُّ أَن يُقَالَ فِي مَثَلِهِ كَبِيرَةٌ، كَمَا قَالَ (7) العلماءُ فِي السَّرِقَةِ: إِنها كَبِيرَةٌ؛ لأَنها إِخلال بِضَرُورَةِ الْمَالِ. فإِن كَانَتِ السَّرِقَةُ فِي لُقمة، أَو تطفيفٍ بِحَبَّةٍ (8)، فَقَدْ عَدُّوهُ من الصغائر، وهكذا (9) فِي ضَرُورَةِ الدِّينِ أَيْضًا.
فَقَدْ جاءَ فِي بَعْضِ الأَحاديث عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "أَول مَا تَفْقِدُونَ مِنْ دِينِكُمُ الأَمانة، وَآخِرُ مَا تَفْقِدُونَ الصَّلَاةَ، ولتُنْقَضَنّ عُرَى الإِسلام (10) عُرْوَةً عُرْوَةً (11)، ولَيُصَلِّيَنّ نِسَاءٌ وهُنَّ حُيَّضٌ"، ثُمَّ قال: "وَحَتَّى (12) تَبْقَى فِرْقَتَانِ مِنْ فِرَقٍ كَثِيرَةٍ تَقُولُ إِحداهما: مَا بَالُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ؟ لَقَدْ ضَلَّ مَنْ كَانَ قَبْلنا، إِنما قَالَ اللَّهُ: {وَأَقِمِ (13) الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} (14)، لا تُصَلّون إِلا ثلاثاً. وتقول الأُخرى (15): إِنا لمؤمنون (16) بِاللَّهِ إِيمان الْمَلَائِكَةِ، مَا فِينَا كَافِرٌ، حقٌّ على الله أَن يحشرهما مع الدجال" (17).
_________
(1) قوله: "كان" سقط من (م).
(2) في (خ) و (ت): "ويجاب عنه بأن هذا النظر".
(3) في (ت): "وفي".
(4) أي: من غير قتل.
(5) قوله: "فقط" من (ر) و (غ) فقط.
(6) في (ر) و (غ): "ينتهي".
(7) في (ر) و (غ): "يقول".
(8) في (ت): "حبة".
(9) في (خ) و (م) و (ت): "وهذا".
(10) في (خ): "الإيمان" بدل "الإسلام".
(11) قوله: "عروة" الثانية سقط من (م).
(12) في (خ) و (م) و (ت): "حتى".
(13) في جميع النسخ: "أقم".
(14) الآية: (114) من سورة هود.
(15) في (خ) و (م): "أخرى".
(16) في في (خ) و (م) و (ت): "لنؤمن".
(17) أخرجه الخلال في "السنة" (ق123/ب)، وابن بطة في "الإبانة" (8)، كلاهما من=(2/391)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
_________
=طريق الإمام أحمد، عن أبي عامر العقدي عبد الملك بن عمرو، عن عكرمة بن عمار، عن أبي عبد الله الفلسطيني؛ قال: حدثني عبد العزيز أخو حذيفة، عن حذيفة بن اليمان ... ، فذكره. وأخرجه الخلال أيضاً (ق/123/ب ـ 124/أ) من طريق الإمام أحمد، عن عبد العزيز بن عبد الوارث، عن عكرمة، به، إلا أنه قال: "أول ما تفقدون من دينكم الخشوع".
وأخرجه ابن وضاح في "البدع والنهي عنها" (155) من طريق أسد بن موسى، والحاكم في "المستدرك" (4/ 469) من طريق الإمام أحمد، كلاهما عن عبد الرحمن بن مهدي، عن عكرمة بن عمار، به.
وأخرجه أحمد في "الزهد" (ص263 رقم 1000)، وابن أبي شيبة (7/ 140)، وأبو نعيم في "الحلية" (1/ 281) ثلاثتهم من طريق وكيع، عن عكرمة، به بلفظ: "أول ما تفقدون من دينكم الخشوع، وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة".
وسنده ضعيف لجهالة حال حميد أبي عبد الله الفلسطيني وعبد العزيز أخي حذيفة.
وأخرجه أبو عمرو الداني في "الفتن" (271) من طريق ليث بن أبي سُلَيم، عن ابن حصين، عن حميد أبي عبد الله؛ قال: سمعت حذيفة ... ، فذكره هكذا بإسقاط عبد العزيز أخي حذيفة من الإسناد، ولعل هذا من تخليط ليث بن أبي سليم.
وأخرجه الآجري في "الشريعة" (35) من طريق هشام بن عمار، عن عبد الحميد بن حبيب، عن الأوزاعي، عن يونس بن يزيد، عن الزهري، عن الصنابحي، عن حذيفة، به موقوفاً.
ومن طريق الآجري أخرجه الداني في "الفتن" (225 و274).
وأخرجه الداني أيضاً (273) من طريق موسى بن أعين، عن الأوزاعي، عن رجل من أهل الحجاز، عن الصنابحي، عن حذيفة قال: "لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، ويكون أول نقضه الخشوع حتى لا ترى خاشعاً".اهـ.
وأخرجه ابن وضاح (192) من طريق نعيم بن حماد؛ قال: نا عثمان بن كثير، عن محمد بن مهاجر؛ قال: حدثني أيوب بن جندب بن بشر، عن حذيفة، به ببعضه وزيادة لم ترد في باقي الروايات.
وذكر بعضه مختصراً البخاري في "التاريخ الكبير" (8/ 333) من طريق أبي قيس، عن حذيفة.
وأخرجه الحاكم في "المستدرك" (4/ 528 ـ 529) من طريق محمد بن سنان القزاز؛ ثنا [عمر] بن يونس بن القاسم اليمامي؛ ثنا جهضم بن عبد الله القيسي، عن عبد الأعلى بن عامر، عن مطرف بن عبد الله بن الشخير، عن ابن عمر رضي الله عنهما؛ قال: كنت في الحطيم مع حذيفة، فذكر حديثاً، ثم قال: لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، وليكونن أئمة مضلون ... ، فذكر حديثاً طويلاً ليس من حديثنا، وصرح فيه=(2/392)
فهذا الأَثر ـ وإِن لم نلتزم (1) عُهْدَةَ صحَّتِه ـ مِثَالٌ مِنْ أَمثلة (2) المسأَلة.
فَقَدْ نَبَّه عَلَى أَن فِي آخِرِ الزَّمَانِ مَنْ (3) يَرَى أَن الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةَ ثَلَاثٌ (4) لَا خَمْسٌ، وبَيَّن أَن مِنَ النساءِ مَنْ يُصَلِّينَ وَهُنَّ حُيَّضٌ، كأَنه يُعْنَى بِسَبَبِ التَّعَمُّق وَطَلَبِ الِاحْتِيَاطِ بالوَسْوَاسِ الْخَارِجِ عَنِ السُّنَّة، فَهَذِهِ مَرْتَبَةٌ دُونَ الأُولى.
وَحَكَى ابْنُ حَزْمٍ (5) أَن بَعْضَ النَّاسِ زَعَمَ أَن الظُّهْرَ خَمْسُ رَكْعَاتٍ لَا أَربع رَكْعَاتٍ.
ثُمَّ وَقَعَ فِي "الْعُتْبِيَّةِ" (6): قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَسَمِعْتُ (7) مَالِكًا يَقُولُ: أَول مَنْ أَحدث الِاعْتِمَادَ فِي الصَّلَاةِ ـ حَتَّى لَا يُحَرِّكَ رِجْلَيْهِ ـ رَجُلٌ قَدْ عُرِفَ وسُمِّيَ، إِلا أَني لَا أُحِبُّ أَن أَذكره، وقد كان مُسَاءً (8). فقيل له: أفعيب ذلك عَلَيْهِ (9)؟ قَالَ (10): قَدْ عِيبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَهَذَا مكروه من الفعل. قالوا: ومعنى (11) مُسَاءً (12)؛ أي: يساءُ الثناءُ عليه.
_________
=بأنه سمعه من النبي صلّى الله عليه وسلّم. وصححه الحاكم، فتعقبه الذهبي بقوله: "قلت: بل منكر؛ فعبد الأعلى ضعفه أحمد وأبو زرعة، وأما جهضم فثقة، ومحمد بن سنان كذبه أبو داود". وانظر كلامي عن الحديث في تعليقي على "مختصر المستدرك" (1143).
(1) في (خ) و (م): "تلتزم".
(2) في (خ) و (م): "الأمثلة المسألة"، ثم صوبت في (م). وعلق رشيد رضا عليها بقوله: لعل "الـ" الداخلة على كلمة: "الأمثلة" زائدة. اهـ.
(3) في (م): "أن من".
(4) في (ت): "ثلاثة".
(5) لم أجد قول ابن حزم هذا.
(6) كما في شرحها: "البيان والتحصيل" (17/ 549) وتقدم صفحة (337).
(7) في (ت): "سمعت".
(8) زاد في (ت) و (خ) و (م) في هذا الموضع قوله: "أي: يساء الثناء عليه"، وهي زيادة لا داعي لها مع وجود تفسير المصنف لمعنى "مساء" في آخر النص.
(9) من قوله: "فقيل له" إلى هنا سقط من (خ) و (م) و (ت).
(10) في (خ): "فقال".
(11) قوله: "ومعنى" ليس في (خ) و (م) و (ت).
(12) في (خ) و (ت) و (م): "ومساء".(2/393)
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ (1): جَائِزٌ عِنْدَ مَالِكٍ أَن يُرَوِّحَ (2) الرَّجُلُ قَدَمَيْهِ فِي الصَّلَاةِ، قَالَهُ فِي "الْمُدَوَّنَةِ" (3)، وإِنما كَرِهَ أَن يُقْرِنَهُمَا حَتَّى لَا يَعْتَمِدَ عَلَى إِحداهما دُونَ الأُخرى، لأَن ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ حُدُودِ الصَّلَاةِ، إِذ لَمْ يأْت ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا عَنْ أَحد مِنَ السَّلَفِ، وَالصَّحَابَةِ المَرْضِيِّين الكرام (4)، وَهُوَ مِنْ مُحْدَثَاتِ الأُمور. انْتَهَى.
فَمِثْلُ هَذَا إِن كَانَ يَعُدُّه فاعلُه مِنْ مَحَاسِنِ الصَّلَاةِ ـ وإِن لم يأْت به أَثر ـ أَفَيُقَال (5) في مثله: إِنه من كبائر الْبِدَعِ، كَمَا يُقَالُ ذَلِكَ فِي الرَّكْعَةِ الْخَامِسَةِ في الظهر أو نحوها؟! (6) بَلْ إِنما يُعَدّ مِثْلُهُ مِنْ صَغَائِرِ الْبِدَعِ؛ إِن سَلَّمْنَا أَن لَفْظَ الْكَرَاهِيَةِ فِيهِ مَا لا يُراد (7) بِهِ (8) التَّنْزِيهُ، وإِذا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَمْثِلَةِ فِي قَاعِدَةِ الدِّينِ، فَمِثْلُهُ يُتَصَوَّرُ فِي سَائِرِ الْبِدَعِ الْمُخْتَلِفَةِ الْمَرَاتِبِ، فَالصَّغَائِرُ فِي الْبِدَعِ ثَابِتَةٌ؛ كَمَا أَنها فِي الْمَعَاصِي ثَابِتَةٌ.
وَالثَّانِي: أَن الْبِدَعَ تَنْقَسِمُ إِلَى مَا هِيَ كُلِّيَّةٌ فِي الشَّرِيعَةِ، وإِلى جُزْئِيَّةٍ، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَن يَكُونَ الْخَلَلُ الْوَاقِعُ بِسَبَبِ الْبِدْعَةِ كُلِّيًّا فِي الشَّرِيعَةِ، كَبِدْعَةِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيِّينَ، وَبِدْعَةِ إِنكار الأَخبار السُّنِّيَّةِ اقْتِصَارًا عَلَى الْقُرْآنِ، وَبِدْعَةِ الْخَوَارِجِ فِي قَوْلِهِمْ: لَا حُكْمَ إِلا لِلَّهِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْبِدَعِ الَّتِي لَا تَخُصُّ فَرْعًا مِنْ فُرُوعِ الشَّرِيعَةِ دُونَ فَرْعٍ، بَلْ تجدها تَنْتَظِمُ مَا لَا يَنْحَصِرُ مِنَ الْفُرُوعِ الْجُزْئِيَّةِ، أَو يَكُونُ الْخَلَلُ الْوَاقِعُ جُزْئِيًّا إِنَّمَا يأْتي فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ دُونَ بَعْضٍ، كَبِدْعَةِ التَّثْوِيبِ بِالصَّلَاةِ الَّذِي قَالَ فِيهِ مَالِكٌ: التَّثْوِيبُ ضَلَالٌ (9)، وبدعة الأَذان والإِقامة في
_________
(1) في الموضع السابق من "البيان والتحصيل".
(2) في (ر) و (غ): "يتروح".
(3) (1/ 107).
(4) قوله: "الكرام" ليس في (خ) و (م) و (ت).
(5) في (خ) و (ت): "فيقال".
(6) في (خ): "ونحوها".
(7) (خ) و (م): "ما يراد"، وفي (ت): "مما يراد".
(8) في (ر) و (غ): "بها".
(9) انظر: "البيان والتحصيل" (1/ 435)، و"مواهب الجليل" (1/ 431) وتقدم (ص383)، وسيأتي (ص9 و410).(2/394)
الْعِيدَيْنِ (1)، وَبِدْعَةِ (2) الِاعْتِمَادِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى إِحدى (3) الرِّجْلَيْنِ (4)، وَمَا أَشبه ذَلِكَ. فَهَذَا الْقِسْمُ لَا تَتَعَدَّى فِيهِ الْبِدْعَةُ مَحَلَّهَا، وَلَا تَنْتَظِمُ (5) تَحْتَهَا غيرَها حَتَّى تَكُونَ أَصلاً لَهَا.
فَالْقِسْمُ الأَول إِذا عُدَّ مِنَ الْكَبَائِرِ اتَّضَحَ مَغْزَاهُ، وأَمكن أَن يَكُونَ مُنْحَصِرًا دَاخِلًا تَحْتَ عُمُومِ الثِّنْتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ فِرْقَةٍ، وَيَكُونُ الْوَعِيدُ الْآتِي فِي الْكِتَابِ والسنة مخصوصاً به لاعامّاً فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ، وَيَكُونُ مَا عَدَا ذَلِكَ ـ وهو القسم الثاني (6) ـ مِنْ قَبِيلِ اللَّمَم الْمَرْجُوِّ فِيهِ الْعَفْوُ الَّذِي لَا يَنْحَصِرُ إِلى ذَلِكَ الْعَدَدِ، فَلَا قَطْعَ على أَن جميعها من قَبِيلِ الكبائر (7)، وَقَدْ ظَهَرَ وَجْهُ انْقِسَامِهَا.
وَالثَّالِثُ: أَن الْمَعَاصِيَ قَدْ ثَبَتَ انْقِسَامُهَا إِلى الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ، وَلَا شَكَّ أَن الْبِدَعَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَعَاصِي ـ عَلَى مُقْتَضَى الأَدلة الْمُتَقَدِّمَةِ ـ، وَنَوْعٌ مِنْ أَنواعها، فَاقْتَضَى إِطلاق التَّقْسِيمِ أَنَّ الْبِدَعَ تَنْقَسِمُ أَيضاً، وَلَا تُخَصُّ وحدها (8) بِتَعْمِيمِ الدُّخُولِ فِي الْكَبَائِرِ، لأَن ذَلِكَ تَخْصِيصٌ مِنْ غَيْرِ مُخَصِّص، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُعْتَبَرًا لَاسْتُثْنِيَ مَنْ تَقَدَّم مِنَ العلماءِ الْقَائِلِينَ (9) بِالتَّقْسِيمِ قِسْمُ الْبِدَعِ، فَكَانُوا يَنُصّون عَلَى أَن الْمَعَاصِيَ ـ مَا عَدَّا الْبِدَعَ ـ تَنْقَسِمُ إِلى الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ، إِلا أَنهم لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلى الاستثناءِ، وأَطلقوا الْقَوْلَ بِالِانْقِسَامِ، فَظَهَرَ أَنه شَامِلٌ لِجَمِيعِ أَنواعها.
فإِن (10) قِيلَ: إِن ذَلِكَ التَّفَاوُتَ لَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى إِثبات الصَّغِيرَةِ مُطْلَقًا، وإِنما يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنها تَتَفَاضَلُ، فَمِنْهَا ثَقِيلٌ وأَثقل، ومنها خفيف
_________
(1) تقدمت الإشارة إليه صفحة (319).
(2) في (ر) و (غ): "وبدعة ترك".
(3) في أصل (ت): "كلا"، وأشار في الهامش إلى أن في نسخة: "إحدى" بدل "كلا".
(4) تقدمت الإشارة إليه في الصفحة السابقة.
(5) في (ر) و (غ): "ينتظم".
(6) قوله: "وهو القسم الثاني" من (ر) و (غ) فقط.
(7) قوله: "الكبائر" سقط من (م)، وفي (خ) و (ت) بدلاً منه: "واحد".
(8) في (خ) و (م): "ولا يخصص وجوهاً" وفي (ت): "ولا تخصص وجوهاً".
(9) قوله: "القائلين" سقط من (غ).
(10) قوله: "فإن" سقط من (م).(2/395)
وأَخف، وَالْخِفَّةُ هَلْ تَنْتَهِي إِلى حَدٍّ تُعَدُّ الْبِدْعَةُ فِيهِ مِنْ قَبِيلِ اللَّمَم؟ هَذَا فِيهِ نَظَرٌ، وَقَدْ ظَهَرَ مَعْنَى الْكَبِيرَةِ وَالصَّغِيرَةِ فِي الْمَعَاصِي غَيْرِ الْبِدَعِ.
وأَما فِي الْبِدَعِ فَثَبَتَ (1) لَهَا أَمران:
أَحدهما: أَنها مُضَادَّةٌ لِلشَّارِعِ (2) وَمُرَاغَمَةٌ لَهُ، حَيْثُ نَصَّبَ الْمُبْتَدِعُ نَفْسَهُ نَصْبَ الْمُسْتَدْرِكِ عَلَى الشَّرِيعَةِ، لَا نَصْبَ الْمُكْتَفِي بِمَا حُدَّ لَهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ـ وإِن قَلَّت ـ تشريعٌ زَائِدٌ أَو نَاقِصٌ، أَو تَغْيِيرٌ للأَصل الصَّحِيحِ، وكلُّ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ عَلَى الِانْفِرَادِ، وَقَدْ يَكُونُ مُلْحَقاً بِمَا هُوَ مَشْرُوعٌ، فَيَكُونُ قَادِحًا فِي الْمَشْرُوعِ. وَلَوْ فَعَلَ أَحد مِثْلَ هذا في نفس (3) الشريعة عامداً لكفر، إِذِ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ فِيهَا أَوِ التَّغْيِيرُ ـ قلَّ أَو كَثُر ـ كُفْرٌ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا قَلَّ مِنْهُ وَمَا كَثُرَ (4)، فَمَنْ فَعَلَ مِثْلِ ذَلِكَ بتأْويل فَاسِدٍ، أَو برأْي (5) غالطٍ رَآهُ، وأَلْحَقَه (6) بالمشروع، إِذا لم نُكَفِّرْه (7)؛ لَمْ يَكُنْ فِي حُكْمِهِ فَرْقٌ بَيْنَ مَا قَلّ مِنْهُ (8) وَمَا كَثُرَ، لأَن الجميعَ جِنَاية لا تحتملها (9) الشَّرِيعَةُ بقليلٍ وَلَا بكثيرٍ.
وَيُعَضِّدُ هَذَا النَّظَرَ: عُمُومُ الأَدلة فِي ذَمِّ الْبِدَعِ مِنْ غَيْرِ استثناء، فلا فرق إذاً (10) بَيْنَ بِدْعَةٍ جُزْئِيَّةٍ، وَبِدَعَةٍ كُلِّيَّةٍ، وَقَدْ حَصَلَ الْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الأَول وَالثَّانِي.
وأَما الثَّالِثُ: فَلَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لأَن قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ" (11)، وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِ السلف الصالح رضي الله عنهم (12)؛ يدل
_________
(1) في (ت): "فظهر" بدل "فثبت".
(2) في (م): "للشارعة".
(3) في (ر) و (غ): "تفسير".
(4) في (ت): "ما قلّ منه أو كثر".
(5) في (ت): "أو رأي".
(6) في (خ) و (م) و (ت): "أو ألحقه".
(7) في (خ): "تكفره"، وفي (ت): "يكفر".
(8) قوله: "منه" ليس في (ر) و (غ).
(9) في (ت) و (م) و (خ): "لا تحملها".
(10) في (خ) و (م) و (ت): "فالفرق" بدل قوله: "فلا فرق إذاً".
(11) تقدم تخريجه صفحة، (108) من المجلد الأول، و (ص318) من هذا المجلد.
(12) قوله: "الصالح رضي الله عنهم" من (ر) و (غ) فقط.(2/396)
عَلَى عُمُومِ الذَّمِّ فِيهَا. وَظَهَرَ أَنها مَعَ الْمَعَاصِي لَا تَنْقَسِمُ ذَلِكَ الِانْقِسَامَ، بَلْ إِنما يَنْقَسِمُ مَا سِوَاهَا مِنَ الْمَعَاصِي، وَاعْتَبِرْ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي الْبَابِ الثَّانِي يَتَبَيَّنْ لَكَ عدم الفرق فيها. وأَقرب (1) عِبَارَةً تُنَاسِبُ هَذَا التَّقْرِيرَ أَن يُقَالَ: كُلُّ بدعةٍ كبيرةٌ عظيمةٌ (2)، بالإِضافة (3) إِلى مُجَاوَزَةِ حُدُودِ اللَّهِ بِالتَّشْرِيعِ، إِلا أَنها وإِن عَظُمَتْ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، فإِذا نُسِبَ بَعْضُهَا إِلى بَعْضٍ تَفَاوَتَتْ رُتَبُها (4)، فَيَكُونُ مِنْهَا صِغَارٌ وَكِبَارٌ (5)، إِما بِاعْتِبَارِ أَن بَعْضَهَا أَشد عِقَابًا مِنْ بَعْضٍ، فَالْأَشَدُّ عِقَابًا أَكبر مِمَّا دُونَهُ، وإِما بِاعْتِبَارِ فَوْتِ الْمَطْلُوبِ فِي الْمَفْسَدَةِ، فَكَمَا انْقَسَمَتِ الطَّاعَةُ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ إِلى الْفَاضِلِ والأَفضل، لِانْقِسَامِ مَصَالِحِهَا إِلى الْكَامِلِ، والأَكمل، انْقَسَمَتِ الْبِدَعُ لِانْقِسَامِ مَفَاسِدِهَا إِلى الرَّذِلِ والأَرْذَلِ، والصِّغَرِ والكِبَرِ، مِنْ بَابِ النِّسَبِ والإِضافات، فَقَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ كَبِيرًا فِي نَفْسِهِ، لَكِنَّهُ صَغِيرٌ (6) بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا هُوَ أَكبر مِنْهُ، كما يكون كبيراً بالنسبة إلى ما هو (7) أصغر مِنْهُ (8).
وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ قَدْ سَبَقَ إِليها إِمام الْحَرَمَيْنِ (9) لَكِنْ فِي انْقِسَامِ الْمَعَاصِي إِلى الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ فَقَالَ: الْمَرَضِيُّ عِنْدَنَا أَن كُلَّ ذَنَبٍ كبيرة وَعَظِيمٌ بالإِضافة إِلى مُخَالَفَةِ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ: مَعْصِيَةُ اللَّهِ أَكبر مِنْ مَعْصِيَةِ الْعِبَادِ قَوْلًا مُطْلَقًا، إِلا (10) أَنها وإِن عَظُمَتْ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، فإِذا نُسِبَ بَعْضُهَا إِلى بَعْضٍ تَفَاوَتَتْ رُتَبُهَا، ثُمَّ ذَكَرَ مَعْنًى مَا تَقَدَّمَ. وَلَمْ يُوَافِقْهُ غَيْرُهُ عَلَى مَا قَالَ، وإِن كَانَ لَهُ وَجْهٌ فِي النَّظَرِ وَقَعَتِ الإِشارة إِليه فِي كتاب "الموافقات" (11).
_________
(1) في (خ): "وأقرب منها".
(2) في (ر) و (غ): "وعظيمة".
(3) في (ت): "بالنسبة" بدل "بالإضافة".
(4) في (م) و (ت) و (خ): "رتبتها".
(5) في (خ) و (م) و (ت): "صغاراً وكباراً".
(6) في (ت) و (خ) و (م): "صغيراً".
(7) من قوله: "أكبر منه" إلى هنا سقط من (م).
(8) من قوله: "كما يكون كبيراً" إلى هنا سقط من (خ) و (ت).
(9) أي: الجويني في كتاب "الإرشاد" (ص328)، والمصنف نقلها بتصرف، ونقلها الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" عن الجويني (10/ 409)، وأطال في ذكر الخلاف في ضابط الكبيرة، فانظره إن شئت.
(10) في (م): "إلى".
(11) راجع الموافقات (3/ 537).(2/397)
ولكن الظواهر تأْبى (1) ذَلِكَ ـ حَسْبَمَا ذَكَرَهُ غَيْرُهُ مِنَ العلماءِ ـ، وَالظَّوَاهِرُ فِي الْبِدَعِ لَا تأْبى كَلَامَ الإِمام إِذا نُزِّل عَلَيْهَا ـ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ ـ فَصَارَ اعْتِقَادُ الصَّغَائِرِ فِيهَا يَكَادُ يَكُونُ مِنَ الْمُتَشَابِهَاتِ، كَمَا صَارَ اعتقاد نفي كراهة التَّنْزِيهُ (2) عَنْهَا مِنَ الْوَاضِحَاتِ.
فليُتَأَمَّلْ هَذَا الموضعُ أَشدّ التأَمل، ولْيُعْطَ مِنَ الإِنصاف حقَّه، وَلَا يُنظر إِلى خِفَّةِ الأَمر فِي الْبِدْعَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلى صُورَتِهَا وإِن دَقَّت، بَلْ يُنظر إِلى مُصَادَمَتِهَا لِلشَّرِيعَةِ، وَرَمْيِهَا لَهَا بِالنَّقْصِ وَالِاسْتِدْرَاكِ، وأَنها لَمْ تُكَمَّلْ بَعْدُ حَتَّى يُوضَعَ فِيهَا، بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَعَاصِي فإِنها لَا تَعُودُ عَلَى الشَّرِيعَةِ بتنقيصٍ وَلَا غضٍّ مِنْ جَانِبِهَا، بَلْ صَاحِبُ الْمَعْصِيَةِ مُتَنَصِّل مِنْهَا، مُقِرٌّ لله بمخالفته لِمُحْكَمِها (3).
وَحَاصِلُ الْمَعْصِيَةِ أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ فِي فِعْلِ الْمُكَلَّفِ لِمَا يُعْتَقَدُ صِحَّتَهُ مِنَ الشَّرِيعَةِ، وَالْبِدْعَةُ حَاصِلُهَا مُخَالَفَةٌ فِي اعْتِقَادِ كَمَالِ الشَّرِيعَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنس: مِنْ أَحدث فِي هَذِهِ الأُمة شَيْئًا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ سَلَفُهَا فَقَدْ زَعَمَ أَن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم خان الرسالة، لأَن اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (4) ... ، إِلى آخِرِ الْحِكَايَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ (5).
وَمِثْلُهَا جَوَابُهُ لِمَنْ أَراد أَن يُحْرِمَ مِنَ الْمَدِينَةِ وَقَالَ: أَي فِتْنَةٍ فِي هَذَا (6)؟ إِنما هِيَ أَميال أَزيدها. فَقَالَ: وأَي فِتْنَةٍ أَعظم مِنْ أَن تَظُنَّ أَنك فَعَلْتَ فِعْلًا قَصَّرَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ ... ، إِلى آخِرِ الْحِكَايَةِ، وقد تقدمت أَيضاً (7).
_________
(1) في (خ) و (ت): "الظاهر يأبى"، وفي (م): "الظاهر تأبى".
(2) في (خ) و (م): "الكراهية التنزيه"، وفي (ت): "الكراهية التنزيهية".
(3) في (خ): "لحكمها"، وفي (ت): "في حكمها"، وفي (م): "محكمها".
(4) سورة المائدة: الآية (3).
(5) (ص65 ـ 66) من الجزء الأول، و (ص384، وستأتي (ص401) من هذا الجزء ووقع في (خ) و (ت) و (م): "وقدمت".
(6) في (خ) و (م) و (ت): "أي فتنة فيها".
(7) انظر: صفحة (250) من القسم الأول.(2/398)
فإِذاً لا (1) يَصِحُّ أَن يَكُونَ فِي الْبِدَعِ مَا هُوَ صغيرة ولا كبيرة (2).
فَالْجَوَابُ: أَن ذَلِكَ يَصِحُّ بِطَرِيقَةٍ يُظْهِرُ إِن شاءَ الله أَنها تحقيق في تشعيب (3) هَذِهِ المسأَلة.
وَذَلِكَ أَن صَاحِبَ الْبِدْعَةِ يُتَصَوَّر أَن يَكُونَ عَالِمًا بِكَوْنِهَا بِدْعَةً، وأَن يَكُونَ غَيْرَ عَالِمٍ بِذَلِكَ، وَغَيْرُ الْعَالِمِ بِكَوْنِهَا بِدْعَةً عَلَى ضَرْبَيْنِ، وَهُمَا: الْمُجْتَهِدُ (4) فِي اسْتِنْبَاطِهَا وَتَشْرِيعِهَا، وَالْمُقَلِّدُ لَهُ فِيهَا. وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فالتأْويل يُصَاحِبُهُ فِيهَا وَلَا يُفَارِقُهُ إِذا حَكَمْنَا لَهُ بحكم أهل الإِسلام، فأما العالم بها فإنه لو لم يتأول لم يصح أن ينسب إلى أَهْلِ الْإِسْلَامِ (5)، لأَنه مُصَادِمٌ لِلشَّارِعِ مُرَاغَمٌ لِلشَّرْعِ بِالزِّيَادَةِ فِيهِ، أَوِ النُّقْصَانِ مِنْهُ، أَو التَّحْرِيفِ لَهُ، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ تأْويل كَقَوْلِهِ: هِيَ بِدْعَةٌ، وَلَكِنَّهَا مُسْتَحْسَنَةٌ، أَو يَقُولُ: إِنها بِدْعَةٌ، وَلَكِنِّي رأَيت فُلَانًا الْفَاضِلَ يَعْمَلُ بِهَا، أَو يأمر بِهَا (6)، أَو يقِرُّ بِهَا، وَلَكِنَّهُ يَفْعَلُهَا لِحَظٍّ عاجل؛ كفاعل الذنب (7) لقضاءِ حَظِّه (8) العاجل مِنْ خَوْفٍ (9) عَلَى حَظِّه (10)، أَو فِرَارًا مِنَ الِاعْتِرَاضِ عَلَيْهِ فِي اتِّبَاعِ السُّنَّةِ، كَمَا هُوَ الشأْن الْيَوْمَ فِي كَثِيرٍ مِمَّنْ يُشَارُ إِليه، وما أَشبه ذلك (11).
وأَما غير العالم بها (12)، وهو (13) الواضع لها: فإِنه لا يمكن أَن
_________
(1) قوله: "لا" ليس في (خ) و (م) و (ت).
(2) قوله: "ولا كبيرة" ليس في (خ) و (م) و (ت).
(3) في (خ) و (م): "تشغيب" وفي (ت): "تَشَعُّب"، وذكر في الحاشية أن في نسخة: "تشعيب".
(4) في (خ) و (ت) و (م): "المجتهد والمقلد"، وفي هامش (ت) ما نصه: "أظن صوابه ـ والله أعلم ـ: بحذف المقلد الأول".
(5) من قوله: "فأما العالم" إلى هنا سقط من (خ) و (م) و (ت).
(6) قوله: "أو يأمر بها" سقط من (خ) و (ت).
(7) في (ت): "كفاعل الذهب"، ثم صوبت في الهامش هكذا: "المذهب".
(8) في (ر) و (غ): "حقه" بدل "حظه".
(9) في (ت): "خوفاً" بدلاً من "من خوف".
(10) في (خ): "لِقَضَاءِ حَظِّهِ الْعَاجِلِ خَوْفًا عَلَى حَظِّهِ، أَوْ فراراً من خوف على حظه".
(11) قوله: "وما أشبه ذلك" سقط من (ت).
(12) قوله: "بها" ليس في (خ) و (م) و (ت).
(13) قوله: "وهو" سقط من (ت).(2/399)
يَعْتَقِدَهَا (1) بِدَعَةً، بَلْ هِيَ عِنْدَهُ مِمَّا يلحق بالمشروعات، كَقَوْلِ مِنْ جَعْلِ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ يُصَامُ لأَنه يَوْمُ مَوْلِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَعْلَ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ رَبِيعٍ الأَول مُلْحَقًا بأَيام الأَعياد لأَنه عَلَيْهِ السَّلَامُ وُلِدَ فِيهِ، وَكَمَنَ عَدَّ السَّمَاعَ وَالْغَنَاءَ مِمَّا يُتقرَّب بِهِ إِلى اللَّهِ بِنَاءً عَلَى أَنه يَجْلِبُ الأَحوال السُّنِّيَّةَ، أَو رَغِبَ فِي الدعاءِ بِهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ فِي أَدبار الصَّلَوَاتِ دَائِمًا بِنَاءً عَلَى مَا جاءَ في ذلك حالة الوحدة، أَو زَادَ فِي الشَّرِيعَةِ أَحاديث مَكْذُوبَةً لِيَنْصُرَ فِي زَعْمِهِ سُنَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا قِيلَ لَهُ: إِنك تَكْذِبُ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَالَ: "مِنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فليتبوأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ" (2)؛ قَالَ: لَمْ أَكذب عَلَيْهِ، وإِنما كَذَبْتُ لَهُ.
أَو نَقَّصَ مِنْهَا تأْويلاً عَلَيْهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي ذَمِّ الْكُفَّارِ: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} (3)، فأَسقط اعْتِبَارَ الأَحاديث الْمَنْقُولَةِ بِالْآحَادِ لِذَلِكَ، وَلِمَا أَشبهه (4)؛ لأَن خبر الواحد ظني (5)، فهذا كله من قبيل التأْويل.
وأَما الْمُقَلِّدُ: فَكَذَلِكَ أَيضاً؛ لأَنه يَقُولُ: فلانٌ المُقْتَدَى به يعمل بهذا العمل، أو يُفتي به (6)؛ كَاتِّخَاذِ الْغِنَاءِ جُزْءًا مِنْ أَجزاءِ طَرِيقَةِ التَّصَوُّفِ بناءً منهم عَلَى أَنَّ شُيُوخَ التَّصَوُّفِ قَدْ سَمِعُوهُ وَتَوَاجَدُوا عَلَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ مَاتَ بِسَبَبِهِ، وَكَتَمْزِيقِ الثِّيَابِ عِنْدَ التَّوَاجُدِ بِالرَّقْصِ وَسِوَاهُ لأَنهم قَدْ فَعَلُوهُ، وأَكثر مَا يَقَعُ مِثْلَ هَذَا فِي هؤلاءِ المنتمين إِلى التصوف.
وربما احتجوا على بدعهم (7) بالجُنَيد، والبِسْطامي، والشِّبْلي،
_________
(1) قوله: "يعتقدها" في موضعه بياض في (ر) و (غ).
(2) قوله صلّى الله عليه وسلّم: "مِنْ كَذَبَ عَلِيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النار": ورد عن عدد كثير من الصحابة، منهم: أبو هريرة رضي الله عنه، وحديثه أخرجه البخاري (110) و (6197)، ومسلم في "المقدمة" (3).
(3) سورة النجم: الآية (28).
(4) في (خ): "أشبه".
(5) سبق أن بيّنتُ (ص238 ـ 239) أن المصنف رحمه الله متأثر بموقف الأشاعرة من أخبار الآحاد، فانظر تعليقي على عبارته هناك إن شئت.
(6) في (خ): "ويتني" وفي (م): "أو يثني به"، وفي (ت): "أو يثني عليه".
(7) في (ت): "بدعتهم".(2/400)
وغيرهم؛ فيما صَحَّ عنهم (1)، أَو لَمْ يَصِحّ، وَيَتْرُكُونَ أَن يَحْتَجُّوا (2) بِسُنَّةِ الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، وهي التي لا شائبة في هداها (3)، إذَا نَقَلها الْعُدُولُ، وفسَّرها أَهلُها المُكِبّون عَلَى فَهْمِهَا وَتَعَلُّمِهَا (4)، وَلَكِنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَا يُقرّون بالخلاف للسنّة بَحْتاً (5)، بَلْ يَدْخُلُونَ تَحْتَ أَذيال التَّأْوِيلِ، إِذ لَا يَرْضَى مُنْتَمٍ إِلى الإِسلام بإِبداءِ صَفْحَةِ الْخِلَافِ لِلسُّنَّةِ (6) أَصلاً.
وإِذا كَانَ كَذَلِكَ فَقَوْلُ مَالِكٍ: من أَحدث في هذه الأَمة شيئا لم يَكُنْ عَلَيْهِ سَلَفُهَا فَقَدْ زَعَمَ أَن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَانَ الرِّسَالَةَ (7)، وَقَوْلُهُ لِمَنْ أَراد أَن يُحْرِمَ مِنَ الْمَدِينَةِ: أَيُّ فِتْنَةٍ أَعظم مِنْ أَن تَظُنَّ (8) أَنك سَبَقْتَ إِلى (9) فَضِيلَةٍ قصَّر عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ ... ، إِلى آخِرِ الْحِكَايَةِ ـ وَقَدْ تقدم (10) ذكر (11) ذلك (12) ـ: إنما (13) هو (14) إِلزام لِلْخَصْمِ (15) عَلَى عَادَةِ أَهل النَّظَرِ، كأَنه يقول له (16): يلزمك في هذا القول كذا، لا أنه (17) يقول له (18): قَصَدْتَ إِليه قَصْداً؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْصِدُ إِلَى ذَلِكَ مُسْلِمٌ.
وَلَازِمُ الْمَذْهَبِ: هَلْ هُوَ مَذْهَبٌ أَم لَا؟ هِيَ مسأَلة مُخْتَلَفٌ فِيهَا بَيْنَ أَهل الأُصول، وَالَّذِي كَانَ يَقُولُ (19) بِهِ شُيُوخُنَا البِجَائِيّون (20) والمغربيون
_________
(1) في (خ) و (م) و (ت): "عندهم" بدل "عنهم".
(2) لو قال: "ويتركون الاحتجاج" لكان أجود.
(3) في (خ) و (م) و (ت): "فيها" بدل "في هداها".
(4) في (ر) و (غ): "تفهمها ونقلها".
(5) في (خ): "بختاً" وفي (م): "تحتاً". والبَحْتُ: الخالص من الشيء.
(6) قوله: "للسنة" سقط من (ر) و (غ).
(7) تقدم قريباً (ص384 و398)، فانظره إن شئت.
(8) في (ر) و (غ): "يظن".
(9) قوله: "إلى" سقط من (م).
(10) تقدمت صفحة (250) من القسم الأول.
(11) قوله: "ذكر" تصحف في (غ) إلى "صدر".
(12) قوله: "وقد تقدم ذكر ذلك" ليس في (خ) و (م) و (ت).
(13) في (ر) و (غ): "وإنما".
(14) قوله: "هو" سقط من (خ) و (م).
(15) المعنى: أن قول مالك إلزام للخصم.
(16) قوله: "له" من (ر) و (غ) فقط.
(17) في (م) و (خ): "لأنه".
(18) قوله: "له" ليس في (خ) و (م).
(19) في (ر) و (غ): "يفتي" بدل "يقول".
(20) في (م) يشبه أن تكون: "البجابيون". والبِجَائيّون: نسبة إلى بِجَايَةَ ـ بالكسر، وتخفيف=(2/401)
وَيَرَوْنَ أَنه رأْي الْمُحَقِّقِينَ أَيضاً: أَن لَازِمَ المذهب ليس بمذهب، فلذلك (1) إِذا قُرِّر عليه (2) الْخَصْمِ أَنكره غَايَةَ الإِنكار، فإِذاً اعْتِبَارُ ذَلِكَ الْمَعْنَى عَلَى التَّحْقِيقِ لَا يَنْهَضُ، وَعِنْدَ ذَلِكَ تستوي البدعة مع المعصية، فكما أن المعاصي (3) صَغَائِرٌ وَكَبَائِرٌ (4)، فَكَذَلِكَ الْبِدَعُ.
ثُمَّ إِن الْبِدَعَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: كُلِّيَّةٌ وجُزئيَّة:
فَأَمَّا الْكُلِّيَّةُ: فَهِيَ السَّائِرة (5) فِيمَا لَا يَنْحَصِرُ مِنْ فُرُوعِ (6) الشَّرِيعَةِ، وَمِثَالُهَا: بِدَعُ الْفِرَقِ الثَّلَاثِ وَالسَّبْعِينَ، فإِنها مُخْتَصَّة بالكُلِّيّات مِنْهَا دُونَ الْجُزْئِيَّاتِ، حَسْبَمَا يتبيَّن (7) بعدُ إِن شاءَ الله تعالى.
وأَما الْجُزْئِيَّةُ: فَهِيَ الْوَاقِعَةُ (8) فِي الْفُرُوعِ الْجُزْئِيَّةِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ دُخُولُ هَذَا الضَّرْبِ مِنَ الْبِدَعِ تحت الوعيد بالنار، وإِن دخل (9) تحت وَصْفِ الضَّلال (10)، كَمَا لَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي سَرِقَةِ لِقِمَّةٍ، أَو التَّطْفِيفِ بِحَبَّةٍ، وإِن كَانَ دَاخِلًا تَحْتَ وَصْفِ السَّرِقَةِ، بَلِ الْمُتَحَقِّقُ دُخُولُ عَظَائِمِهَا وَكُلِّيَّاتِهَا كَالنِّصَابِ فِي السَّرِقَةِ، فَلَا تَكُونُ تِلْكَ الأَدلةُ واضحةَ الشمولِ لَهَا، أَلَّا تَرَى أَنَّ خَوَاصَّ الْبِدَعِ (11) غَيْرُ ظَاهِرَةٍ فِي أَهل الْبِدَعِ الْجُزْئِيَّةِ غَالِبًا؟ كالفُرْقة وَالْخُرُوجِ عَنِ الْجَمَاعَةِ، وإِنما تَقَعُ الْجُزْئِيَّاتُ فِي الْغَالِبِ كالزَّلَّة والفَلْتَةِ، وَلِذَلِكَ لَا يَكُونُ اتِّبَاعُ الْهَوَى فِيهَا مَعَ حُصُولِ التأْويل فِي فَرْدٍ مِنْ أَفراد الْفُرُوعِ، وَلَا الْمَفْسَدَةُ الحاصلة بالجزئية كالمفسدة الحاصلة بالكلية.
_________
=الجيم، وألف، وياء، وهاء ـ: وهي مدينة على ساحل البحر بين إفريقية والمغرب. انظر: "معجم البلدان" (1/ 339).
(1) قوله: "فلذلك" سقط من (ر) و (غ).
(2) في (خ) و (ت): "على".
(3) قوله: "فكما أن المعاصي" سقط من (خ).
(4) في (ت): "كبائر وصغائر".
(5) في (خ) و (ت): "السارية".
(6) في (م): "مرفوع" بدل: "من فروع".
(7) في (خ): "يتعين"، وعلق عليها رشيد رضا بقوله: "لعله: يتبين".
(8) في (ر) و (غ): "الرابعة".
(9) في (خ) و (م) و (ت): "دخلت".
(10) في (خ) و (م) و (ت): "الوصف بالضلال".
(11) في (ر) و (غ): "البدعة".(2/402)
فَعَلَى هَذَا: إِذا اجْتَمَعَ فِي الْبِدْعَةِ وَصْفَانِ: كَوْنُهَا جُزْئِيَّةً، وَكَوْنُهَا بالتأْويل (1)؛ صَحَّ أَن تَكُونَ صَغِيرَةً، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِثَالُهُ: مسأَلة مَنْ نَذَرَ أَن يصوم قائماً لا يجلس، وضاحياً لا يَسْتَظِلُّ (2)، وَمَنْ حرَّم عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا مِمَّا أَحل اللَّهُ؛ مِنَ النَّوْمِ، أَو لَذِيذِ الطَّعَامِ، أَو النِّسَاءِ، أَو الأَكل (3) بِالنَّهَارِ، وَمَا أَشبه ذلك مما تقدم ذكره (4)، أَو يأْتي.
غَيْرَ أَن الْكُلِّيَّةَ وَالْجُزْئِيَّةَ قَدْ تَكُونُ ظَاهِرَةً، وَقَدْ تَكُونُ خَفِيَّةً، كَمَا أَن التأْويل قَدْ يُقَرِّبُ مأْخذه وَقَدْ يُبَعِّدُ، فَيَقَعُ الإِشكال فِي كَثِيرٍ مِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا الْفَصْلِ، فَيَعُدُّ كَبِيرَةً مَا هُوَ مِنَ الصَّغَائِرِ، وَبِالْعَكْسِ، فَيُوكَلُ النَّظَرُ فيه إِلى الاجتهاد، وبالله التوفيق (5). انتهى (6).
_________
(1) قوله: "بالتأويل"سقط من (غ)، وفي موضعه علامة لحق، ولم يظهر اللحق في التصوير.
(2) تقدم تخريجه صفحة (28) من هذا الجزء.
(3) من قوله: "شيئاً مما أحل الله" إلى هنا بياض في (غ)، وسببه: أنها منقولة عن (ر)، وهذا ملحق بالهامش كما سيأتي، ولم يتضح موضع البياض.
(4) انظر: صفحة (28 و359 و363 ـ 364 و380 فما بعدها).
(5) قوله: "وبالله التوفيق" من (ر) و (غ) فقط.
(6) قوله: "انتهى" ليس في (ر) و (غ).
ومن قوله: "شيئاً مما أحل الله من النوم" إلى آخر الفصل ملحق بهامش (ر)، ولم يتضح بعضه بسبب التصوير، ومن الواضح أن بعضه قد تآكل لمجيئه في طرف الورقة، ولذا بيّض ناسخ (غ) لبعضه ـ كما تقدم ـ، وهو الجزء الذي في طرف الورقة.(2/403)
فصل
وإذا سلَّمنا (1): إِنَّ مِنَ الْبِدَعِ مَا يَكُونُ صَغِيرَةً؛ فَذَلِكَ بِشُرُوطٍ:
أَحَدُهَا: أَن لَا يُدَاوِمَ عَلَيْهَا، فإِن الصَّغِيرَةَ مِنَ الْمَعَاصِي لِمَنْ دَاوَمَ عَلَيْهَا تَكْبُرُ بِالنِّسْبَةِ إِليه؛ لأَن ذَلِكَ نَاشِئٌ عَنِ (2) الإِصرار عَلَيْهَا، والإِصرار عَلَى الصَّغِيرَةِ يُصَيِّرها كَبِيرَةً، وَلِذَلِكَ قَالُوا: "لَا صَغِيرَةَ مَعَ إِصرار، وَلَا كَبِيرَةَ مَعَ اسْتِغْفَارٍ" (3)، فَكَذَلِكَ الْبِدْعَةُ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ، إِلا أَن الْمَعَاصِيَ مِنْ شأْنها فِي الْوَاقِعِ (4) أَنها قَدْ يُصِرُّ عَلَيْهَا، وَقَدْ لَا يُصِرُّ عَلَيْهَا، وَعَلَى ذَلِكَ يَنْبَني طرحُ الشَّهَادَةِ، وسُخْطَةُ الشَّاهِدِ بِهَا أَو عَدَمُهُ، بِخِلَافِ الْبِدْعَةِ فإِن شأْنها في الواقع المداومة عليها (5)، وَالْحِرْصِ عَلَى أَن لَا تُزَالَ (6) مِنْ مَوْضِعِهَا، وأَن تَقُومَ عَلَى تَارِكِهَا الْقِيَامَةُ، وَتَنْطَلِقَ عَلَيْهِ أَلسنة الْمَلَامَةِ، وَيُرْمَى بالتَّسْفِيهِ والتَّجْهِيل، ويُنْبَزُ بالتَّبْديع والتَّبْديل (7)، ضِدَّ مَا كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُ هَذِهِ الأُمة، والمُقْتَدَى بِهِمْ مِنَ الأَئمة.
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ: الاعتبار والنقل.
_________
(1) في (خ) و (م) و (ت): "وإذا قلنا" بدل: "وإذا سلمنا".
(2) في (م): "على".
(3) أخرجه ابن جرير في "تفسيره" (8/ 245)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (3/ 934)، واللالكائي في "السنة" (1919)، ثلاثتهم من طريق شبل بن عباد، عن قيس بن سعد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أن رجلاً سأله عن الكبائر: أسبع هي؟ قال: هي إلى السبعمئة أقرب، إلا أنه لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع إصرار. وإسناده صحيح.
(4) في (ت): "إلا أن المعاصي في الواقع من شأنها".
(5) قوله: "عليها" من (ر) و (غ) فقط.
(6) في (م): "ألا نزال".
(7) في (خ) و (م) و (ت): "والتضليل" بدل "والتبديل".(2/404)
أما الاعتبار (1): فإِن أَهل الْبِدَعِ كَانَ مِنْ شأْنهم الْقِيَامُ بِالنَّكِيرِ عَلَى أَهل السُّنَّةِ إِن كَانَ لَهُمْ عُصْبَة، أَو لَصَقُوا بِسُلْطَانٍ تَجْرِي أَحكامه فِي النَّاسِ، وَتَنْفُذُ أَوامره فِي الأَقطار، وَمَنْ طَالَعَ سَيْرَ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يَخْفَى.
وأَما النَّقْلُ: فَمَا ذَكَرَهُ السَّلَفُ مِنْ أَن الْبِدْعَةَ إِذا أُحدثت، لَا تَزِيدُ إِلا مُضِيًّا، وَلَيْسَتْ (2) كَذَلِكَ الْمَعَاصِي، فَقَدْ يَتُوبُ صَاحِبُهَا ويُنيب إِلى اللَّهِ، بَلْ قَدْ جاءَ مَا يَشُدّ (3) ذَلِكَ فِي حَدِيثِ الفِرَق، حَيْثُ جاءَ فِي بَعْضُ الرِّوَايَاتِ: "تَتَجَارَى (4) بِهِمْ تِلْكَ الأَهواءُ كَمَا يَتَجَارَى (5) الكَلَبُ بِصَاحِبِهِ" (6). وَمِنْ هُنَا جَزَمَ السَّلَفُ بأَن الْمُبْتَدِعَ لَا تَوْبَةَ لَهُ مِنْهَا حسبما تقدم.
وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَن لَا يَدْعُوَ (7) إِلَيْهَا، فإِن الْبِدْعَةَ قَدْ تَكُونُ صَغِيرَةً بالإِضافة، ثُمَّ يَدْعُو مبتدعها إِلى القول بها، والعمل بمقتضاها (8)، فَيَكُونُ إِثم ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَيْهِ؛ فإِنه الَّذِي (9) أَثارها، وبسببه كَثُرَ (10) وقوعُها والعملُ بِهَا؛ فإِن الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ (11) قَدْ أَثبت (12) أَن كُلَّ مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً؛ كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُها ووِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا، لَا يُنْقِص ذَلِكَ مِنْ أَوزارهم شَيْئًا، وَالصَّغِيرَةُ مع الكبيرة إِنما تفاوتهما (13) بِحَسَبِ كَثْرَةِ الإِثم وقِلَّته، فَرُبَّمَا تُسَاوِي الصغيرةُ ـ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ـ الكبيرةَ، أَو تُرْبي عَلَيْهَا.
فَمِنْ حَقِّ الْمُبْتَدِعِ إِذا ابْتُلِيَ بِالْبِدْعَةِ أَن يقتصر بها (14) عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا يَحْمِلَ مَعَ وِزْرِهِ وَزَرَ غيره.
_________
(1) قوله: "أما الاعتبار" ليس في جميع النسخ، سوى (ت)، فإنه ملحق بهامشها، وهو المتفق مع السياق.
(2) في (ر) و (غ): "ليس".
(3) في (ت): "ما يؤيد" بدل "ما يشد".
(4) في (ر) و (غ): "تتجازى".
(5) في (غ): "يتجازى".
(6) انظر: صفحة (390) من هذا الجزء.
(7) في (ر) و (غ): "يدعى".
(8) في (خ) و (م) و (ت): "على مقتضاها".
(9) قوله: "الذي" ليس في (غ) و (ر).
(10) في (خ) و (م): "ونسبة كثرة"، وفي (ت): "وسبب كثرة".
(11) أخرجه مسلم في "صحيحه" (1017).
(12) في (ر) و (غ): "أنبأ" بدل "أثبت".
(13) في (م) و (خ): "تفاوتها".
(14) قوله: "بها" ليس في (خ) و (م) و (ت).(2/405)
وفي هذا الوجه قد يتعذّر الخروج عنه (1)؛ فإِن الْمَعْصِيَةَ فِيمَا بَيْنُ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ يَرْجُو فِيهَا مِنَ التَّوْبَةِ وَالْغُفْرَانِ مَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ مع الدعاءِ إِليها، وقد مَرّ من ذلك (2) فِي بَابِ ذَمِّ الْبِدَعِ، وَبَاقِي الْكَلَامِ فِي المسأَلة سيأْتى إِن شاء الله.
وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَن لَا تَفْعَلُ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي هِيَ مُجْتَمَعَاتُ النَّاسِ، أَو الْمَوَاضِعُ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا السُّنَنُ، وَتُظْهَرُ فِيهَا أَعلام الشَّرِيعَةِ؛ فأَما إِظهارها فِي الْمُجْتَمَعَاتِ مِمَّنْ يُقْتَدى بِهِ، أَو ممن يُحَسَّن (3) بِهِ الظَّنَّ؛ فَذَلِكَ مِنْ أَضرّ الأَشياءِ على سنة الإِسلام، فإِنها لا تعدو أحد (4) أَمرين: إِما أَن يُقْتَدى بِصَاحِبِهَا فِيهَا، فإِن الْعَوَامَّ أَتباع كلِّ ناعِقٍ؛ لَا سِيَّمَا الْبِدَعَ الَّتِي وُكِّل الشَّيْطَانُ بِتَحْسِينِهَا (5) لِلنَّاسِ، وَالَّتِي لِلنُّفُوسِ فيها هَوًى (6)، وإِذا اقتُدي بِصَاحِبِ الْبِدْعَةِ الصَّغِيرَةِ كَبُرت بِالنِّسْبَةِ إِليه، لأَن كُلَّ مَنْ دَعَا إِلى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا، فَعَلَى حَسَبِ (7) كَثْرَةِ الأَتباع يَعْظُمُ عَلَيْهِ الوِزْرُ.
وَهَذَا بِعَيْنِهِ مَوْجُودٌ فِي صَغَائِرَ الْمَعَاصِي، فإِن الْعَالِمَ مَثَلًا إِذا أَظهر الْمَعْصِيَةَ ـ وإِن صَغُرَتْ ـ؛ سَهُلَ عَلَى النَّاسِ ارْتِكَابُهَا، فإِن الْجَاهِلَ يَقُولُ: لَوْ كَانَ هَذَا الْفِعْلُ كَمَا قَالَ (8) مِنْ أَنه ذَنْبٌ، لَمْ يَرْتَكِبْهُ، وإِنما ارْتَكَبَهُ لأَمر عَلِمَه دُونَنَا، فَكَذَلِكَ الْبِدْعَةُ إِذا أَظهرها العالم، اقتُدِيَ (9) به (10) فيها لا محالة (11)؛ فإِنها مَظِنَّة (12) التقرُّب فِي ظَنِّ الْجَاهِلِ؛ لأَن الْعَالِمَ يَفْعَلُهَا عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ، بَلِ الْبِدْعَةُ أَشدّ فِي هَذَا الْمَعْنَى؛ إِذ الذَّنْبُ قَدْ لَا يُتّبعُ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الْبِدْعَةِ، فَلَا يَتَحَاشَى أَحد عَنِ اتِّبَاعِهِ، إِلا مَنْ كَانَ عَالِمًا بأَنها بدعة
_________
(1) قوله: "عنه" ليس في (خ) و (م) و (ت).
(2) قوله: "من ذلك" من (ر) و (غ) فقط.
(3) قوله: "يحسن" سقط من (خ) و (م) و (ت)، وعلق رشيد رضا على موضعه بقوله: لعل الأصل: "بمن يحسن به الظن".اهـ.
(4) قوله: "أحد" من (ر) و (غ) فقط.
(5) في (ر) و (غ): "لتحسينها".
(6) في طبعة رشيد رضا: "للنفوس في تحسينها هوى"، مع أن نسخة (خ) موافقة لما هنا!
(7) قوله: "حسب" سقط من (ت).
(8) في (ر) و (غ): "قيل".
(9) في (خ) و (م) و (ت): "المقتدى".
(10) قوله: "به" سقط من (خ) و (م).
(11) في (ر) و (غ): "لا مخالفة".
(12) في (ت) و (خ) و (م): "فإنها في مظنة".(2/406)
مذمومة، فحينئذ تصير (1) فِي دَرَجَةِ الذَّنْبِ، فإِذا كَانَتْ (2) كَذَلِكَ صَارَتْ كَبِيرَةً بِلَا شَكٍّ، فإِن كَانَ دَاعِيًا إِليها فَهُوَ (3) أَشد، وإِن كَانَ الْإِظْهَارُ بَاعِثًا عَلَى الِاتِّبَاعِ؛ فبالدعاءِ يَصِيرُ (4) أَدعى إِليه.
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ: أَن رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسرائيل ابْتَدَعَ بِدْعَةً فَدَعَا النَّاسَ إِليها فَاتُّبعَ، وأَنه لَمَّا عَرَفَ (5) ذَنْبَهُ عَمَدَ إِلى تَرْقُوَتِهِ فَنَقَبَهَا، فأَدخل (6) فِيهَا حَلْقَةً، ثُمَّ جَعَلَ فِيهَا سِلْسِلَةً، ثم أوثقها في شجرة؛ فجعل يَبْكِي ويَعِجّ إِلى رَبِّهِ، فأَوحى اللَّهُ إِلى نَبِيِّ تِلْكَ الأُمة: أَن لَا تَوْبَةَ لَهُ (7)، قَدْ غُفِرَ لَهُ الَّذِي أَصاب؛ فَكَيْفَ بِمَنْ أَضَلَّ (8) من الناس (9)، فَصَارَ مِنْ أَهل (10) النَّارِ (11) (12)؟!.
وأَما اتِّخَاذُهَا فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا السُّنَنُ: فَهُوَ كالدعاءِ إِليها بالتصريح؛ لأَن محل (13) إِظهار الشعائر (14) الإِسلامية يوهم (15) أَن كل ما
_________
(1) في (م) و (ت) و (خ): "يصير".
(2) في (ر) و (غ): "كان".
(3) في (ت): "فهي".
(4) كذا في (خ) و (ت)، وفي (ر) و (غ): "فالدعاء نصاً" وفي (م): "فالدعاء نصٌ".
(5) في (ت): "علم" بدل "عرف".
(6) في (ت): "فثقبها وأدخل".
(7) قوله: "له" سقط من (ر) و (غ).
(8) في (خ) و (م) و (ت): "ضل".
(9) قوله: "من الناس" من (ر) و (غ) فقط.
(10) قوله: "أهل" في موضعه بياض في (م).
(11) قوله: "فصار من أهل النار" سقط من (ر) و (غ) وفي "البدع" لابن وضاح (72): "فكيف من أضل فصار إلى النار".
(12) أخرجه ابن وضاح في "البدع والنهي عنها" (72) من طريق أسد بن موسى، قال: نا بعض أصحابنا، عن إسماعيل بن عياش، عن أبان بن أبي عياش، عن الحسن به.
وإسناده ضعيف جداً؛ لإبهام شيخ أسد، ولأن أبان بن أبي عيّاش البصري متروك؛ كما في "التقريب" (143)، ولأن إسماعيل بن عيّاش الحمصي ضعيف إذا روى عن غير الشاميين، ففي "التقريب" (477): "صدوق في روايته عن أهل بلده، مخلِّط في غيرهم"، وهذا من روايته عن أبان، وهو بصري، ثم لو صَحّ هذا عن الحسن البصري لما كان حجّة؛ لأنه من الإسرائيليات، وليس هناك ما يحوج الشاطبي رحمه الله لإيراد مثل هذه الحكايات التي لا تصح، وتنافي ما هو معلوم من الدين بالضرورة من فتح باب التوبة!!.
(13) في (خ): "عمل" بدل "محل"، وفي (م): "محمل"، وفي (ت): "محال".
(14) في (ت) و (خ): "الشرائع".
(15) في (ت) و (خ): "توهم".(2/407)
أُظهر فِيهَا فَهُوَ مِنَ الشَّعَائِرِ، فكأَنّ المُظْهِرَ لَهَا يَقُولُ: هَذِهِ سُنَّةٌ فَاتَّبِعُوهَا.
قَالَ أَبو مُصْعَبٍ (1): قَدِمَ عَلَيْنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ، فصلَّى، وَوَضَعَ رداءَه بَيْنَ يَدَيِ الصَّفِّ، فَلَمَّا سلَّم الإِمام رَمَقَهُ (2) النَّاسُ بأَبصارهم، ورَمَقوا مَالِكًا ـ وَكَانَ قَدْ صَلَّى خَلْفَ الإِمام ـ، فَلَمَّا سلَّم قَالَ: مَنْ هَاهُنَا مِنَ الحَرَس؟ فجاءَه نَفْسَانِ، فَقَالَ: خُذَا صَاحِبَ هَذَا الثَّوْبِ فَاحْبِسَاهُ، فحُبِسَ، فَقِيلَ لَهُ: إِنه ابْنُ مَهْدِيٍّ، فوجَّه إِليه وَقَالَ لَهُ (3): أَمَا خِفْتَ (4) اللَّهَ واتَّقَيْتَه أَن وَضَعْتَ ثَوْبَكَ بَيْنَ يَدَيْكَ فِي الصَّفِّ، وَشَغَلْتَ الْمُصَلِّينَ بِالنَّظَرِ إِليه، وَأَحْدَثْتَ فِي مَسْجِدِنَا شَيْئًا مَا كُنَّا نَعْرِفُهُ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَحْدَثَ فِي مَسْجِدِنَا حَدَثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجمعين" (5)؟ فَبَكَى ابْنُ مَهْدِيٍّ، وَآلَى عَلَى نَفْسِهِ أَن لَا يَفْعَلَ ذَلِكَ أَبداً فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا فِي غَيْرِهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ عن ابن مهدي (6) قال: فقلت للحرسِيَّيْن: تذهبان بي إلى أبي (7) عبد الله؟ قالا: إِن شئت، فذهبا (8) بي (9) إِليه، فَقَالَ: يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ! تُصَلِّي مُسْتَلباً (10)؟! فَقُلْتُ: يَا أَبا عَبْدِ اللَّهِ! إِنه كَانَ يَوْمًا حارًّا ـ كما
_________
(1) ذكرها القاضي عياض في "ترتيب المدارك" (2/ 40)، وتقدمت في الجزء الأول (ص204 ـ 205).
(2) في (غ): "رمقوا"، ويشبه أن تكون هكذا في (ر).
(3) قوله: "له" ليس في (ر) و (غ).
(4) في (خ) و (م) و (ت): "ما خفت".
(5) الحديث أخرجه البخاري في "صحيحه" (1867 و7306)، ومسلم (1366 و1367)، كلاهما من طريق عاصم بن سليمان الأحول؛ قال: قلت لأنس بن مالك: أَحْرَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة؟ قال: نعم! ما بين كذا إلى كذا، فمن أحدث فيها حدثاً، قال: ثم قال لي: هذه شديدة: "مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ، وَالْمَلَائِكَةِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ يوم القيامة صَرْفاً ولا عَدْلاً". قال: فقال ابن أنس: أو آوى مُحْدثاً. اهـ. واللفظ لمسلم.
ولا شك أن أول ما ينصرف إليه هذا الحديث من المدينة: مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولذلك جعل مالك رحمه الله السياق هكذا: "من أحدث في مسجدنا ... " إلخ، وأما لفظ الحديث، فهو الذي تقدم.
(6) ذكرها القاضي عياض في الموضع السابق.
(7) قوله: "أبي" سقط من (م) ".
(8) في (خ): و (ت): "فذهبنا".
(9) قوله: "بي" من (ر) و (غ) فقط، والمثبت موافق لما في "ترتيب المدارك".
(10) في (ر) و (غ): "متسلباً"، وفي (م): "مستلب".(2/408)
رأَيت ـ، فَثَقُلَ رِدَائِي عَلَيَّ، فَقَالَ: آللَّهُ! مَا أَردت بِذَلِكَ (1) الطَّعْنَ عَلَى مَنْ مَضَى وَالْخِلَافَ عَلَيْهِ (2)؟ قُلْتُ: آللَّهُ (3)! قَالَ: خَلِّيَاهُ.
وَحَكَى ابْنُ وَضَّاحٍ (4) قَالَ: ثوَّبَ الْمُؤَذِّنُ بِالْمَدِينَةِ فِي زَمَانِ مَالِكٍ، فأَرسل إِليه مَالِكٌ فجاءَه، فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ: مَا هَذَا الَّذِي (5) تَفْعَلُ؟ فَقَالَ: أَردت أَن يعرف الناس طلوع الفجر فيقوموا، فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ: لَا تَفْعَلْ! لَا تُحْدِثْ (6) فِي بَلَدِنَا شَيْئًا لَمْ يَكُنْ فِيهِ! قَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا الْبَلَدِ عَشْرَ سِنِينَ، وأَبو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، فَلَمْ يَفْعَلُوا هَذَا، فَلَا تُحْدِثْ فِي بَلَدِنَا مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ! فكَفَّ الْمُؤَذِّنُ عَنْ ذَلِكَ، وأَقام زَمَانًا، ثُمَّ إِنه تَنَحْنَحَ فِي المَنارة عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، فأَرسل إِليه مالك، فقال له: ما هذا (7) الَّذِي تَفْعَلُ؟ قَالَ: أَردت أَن يَعْرِفَ النَّاسُ طُلُوعَ الْفَجْرِ، فَقَالَ لَهُ: أَلَمْ أَنْهَك أَن لَا تُحْدِثَ عِنْدِنَا مَا لَمْ يَكُنْ؟ فَقَالَ: إِنما نهيتني عن التَّثْويب (8)! فقال له مالك (9): لا تفعل! فَكَفَّ أيضاً (10) زَمَانًا، ثُمَّ جَعَلَ يَضْرِبُ الْأَبْوَابَ، فأَرسل إِليه مالك (11)، فقال له (12): مَا هَذَا الَّذِي تَفْعَلُ؟ فَقَالَ (13): أَردت أَن يَعْرِفَ النَّاسُ طُلُوعَ الْفَجْرِ، فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ: لَا تَفْعَلْ! لَا تُحْدِثْ (14) فِي بَلَدِنَا مَا لم يكن فيه!.
_________
(1) في (م): "أبذلك".
(2) في (ر) و (غ): "عليهم".
(3) علق رشيد رضا على هذا الموضع بقوله: هذا قسم حذفت أداته؛ لقّنه القَسَم، فحلف على ما لقّنه، فكأنه قال له: قل: والله! ما أردت بهذا الطعن ... ، إلخ، فقال: والله؛ أي: ما أردت ذلك. اهـ.
(4) في "البدع والنهي عنها" (103) تعليقاً.
(5) قوله: "الذي" سقط من (خ) و (م) و (ت)، وقوله: "مالك ما هذا الذي" مكرر في (غ).
(6) في (ت): "ولا تحدث".
(7) قوله: "هذا" سقط من (خ).
(8) في (م): "الثويب".
(9) قوله: "مالك" من (ر) و (غ) فقط، وهو مثبت في "البدع والنهي عنها".
(10) قوله: "أيضاً" من (ر) و (غ) فقط، وهو مثبت في "البدع والنهي عنها".
(11) في (ر) و (غ): "فأرسل مالك فيه".
(12) قوله: "له" من (ر) و (غ) فقط، وهو مثبت في "البدع والنهي عنها".
(13) في (ت): "قال".
(14) في (م): "لا تجدث".(2/409)
قَالَ ابْنُ وَضَّاحٍ: وَكَانَ مَالِكٌ يَكْرَهُ التَّثْوِيبَ. قال (1): وإِنما أُحدث هذا بالعراق.
قيل لابن وَضَّاحٍ: فَهَلْ كَانَ يُعمل بِهِ بِمَكَّةَ (2)، أَو الْمَدِينَةِ، أَو مِصْرَ، أَو غَيْرِهَا مِنَ الأَمصار؟ فَقَالَ: مَا سَمِعْتُهُ إِلا عِنْدَ بَعْضِ الْكُوفِيِّينَ والإِباضيين (3).
فتأَمّل كَيْفَ مَنَعَ مَالِكٌ مِنْ إِحداث أَمرٍ يَخِفُّ شأْنه عند الناظر فيه ببادي الرأْي، وَجَعْلِهِ أَمراً مُحْدَثًا، وَقَدْ قَالَ فِي التَّثْوِيبِ: إِنه ضَلَالٌ (4). وَهُوَ بَيِّنٌ؛ لأَن كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَلَمْ يُسَامِحْ المؤذن (5) فِي التَّنَحْنُحِ، وَلَا فِي ضَرْبِ الأَبواب؛ لأَن ذَلِكَ جَدِيرٌ بأَن يُتَّخَذَ سُنَّةً، كَمَا مَنَعَ مِنْ وَضْعِ الرِّدَاءِ (6) عبدَ الرحمن بنَ مهدي خوفاً (7) أَن يَكُونَ حَدَثًا أَحدثه.
وَقَدْ أَحدث بِالْمَغْرِبِ المُتَسَمِّي (8) بِالْمَهْدِيِّ (9) تَثْوِيبًا عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: "أَصبح وَلِلَّهِ الْحَمْدُ"؛ إِشعاراً بأَن الْفَجْرَ قَدْ طَلَعَ، لإِلزام الطَّاعَةِ، وَلِحُضُورِ الْجَمَاعَةِ، وللْغُدوِّ (10) لكل (11) ما يؤمرون به، فَمَحَضَهُ (12) هؤلاءِ المتأَخرون تَثْوِيبًا بِالصَّلَاةِ كالأَذان.
وَنَقَلَ أَيضاً إِلى أَهل الْمَغْرِبِ الْحِزْبَ الْمُحْدَثَ بالإِسكندرية، وَهُوَ الْمُعْتَادُ فِي جَوَامِعِ الأَندلس وَغَيْرِهَا، فَصَارَ ذَلِكَ كُلُّهُ سَنَةً فِي الْمَسَاجِدِ إِلى الْآنَ، فإِنا لله وإِنا إِليه راجعون!.
_________
(1) أي: ابن وضاح.
(2) في (ت): "في مكة".
(3) إلى هنا انتهى كلام ابن وضاح من كتابه السابق عقب ذكره لحكاية مالك.
(4) تقدم تخريجه صفحة (383 و394).
(5) في (خ) و (م) و (ت): "للمؤذن".
(6) في (خ) و (ت): "رداء".
(7) في (ت) و (خ): "خوف".
(8) في (ت): "المسمى".
(9) هو: محمد بن عبد الله بن تومرت. انظر ترجمته مطوَّلة في "سير أعلام النبلاء" (19/ 539)، وانظر طرفاً من أخباره وإحداثاته فيما ساقه المؤلف (ص84 فما بعد).
(10) قوله: "وللغدو" في موضعه بياض في (ت).
(11) في (ت): "ولكل"، ويبدو أنها واو "وللغدو".
(12) كذا في (ر) و (غ)، وفي (خ): "فيخصه"، وفي (م): "فبحصه"، وفي (ت) يشبه أن=(2/410)
وَقَدْ فُسِّرَ التَّثْوِيبَ الَّذِي أَشار إِليه مَالِكٌ: بأَن الْمُؤَذِّنَ كَانَ إِذا أَذَّن فأَبطأَ النَّاسُ؛ قَالَ بَيْنَ الأَذان والإِقامة: "قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَّاحِ" (1)، وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِهِمْ عِنْدَنَا: الصَّلَاةُ، رَحِمَكُمُ اللَّهُ!.
وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ (2) بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنهما أَنه دخل مسجداً يريد (3) أَن يُصَلِّيَ فِيهِ، فثوَّب الْمُؤَذِّنُ، فَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَقَالَ: اخْرُجْ بِنَا (4) مِنْ عِنْدِ هَذَا الْمُبْتَدَعِ! وَلَمْ يَصُلِّ فيه (5).
قال ابن رشد (6): وهو (7) نَحْوٌ مِمَّا كَانَ يُفعل عِنْدَنَا بِجَامِعِ قُرْطُبَةَ؛ مِنْ أَنْ يُفْرِدُ (8) الْمُؤَذِّنُ بَعْدَ أَذَانِهِ قَبْلَ الْفَجْرِ النداءَ عِنْدَ الْفَجْرِ بِقَوْلِهِ: حَيَّ عَلَى الصلاة، ثم تُرِكَ. قَالَ: وَقِيلَ: إِنما عَنَى بِذَلِكَ قَوْلَ الْمُؤَذِّنِ فِي أَذانه: حَيَّ عَلَى خَيْرِ الْعَمَلِ؛ لأَنها كَلِمَةٌ زَادَهَا فِي الأَذان مَنْ خَالَفَ السُّنَّةَ من الشيعة.
_________
=تكون: "فتخصه". ومعنى "فمحضه": أي: جعلوه خالصاً للصلاة؛ بمعنى خصّوها به، وهذا يقرب مما في (خ) و (ت)، والله أعلم.
(1) انظر ما تقدم (ص383 ـ 384 و394) من هذا الجزء.
(2) قوله: "عبد الله" من (ر) و (غ) فقط.
(3) قوله: "يريد" ليس في (م)، وفي (خ) و (ت): "أراد".
(4) علق رشيد رضا على هذا الموضع بقوله: "يظهر أنه كان معه صاحب قال له ذلك. وهل كان في كلام المصنف تصريح بذلك سقط من الناسخين أم لا؟ الله أعلم".اهـ. وليس هناك سقط، ولكن المصنف لم يذكر اسم مجاهد في الرواية، وهو كان مع ابن عمر.
(5) هذا الأثر أخذه المصنف ـ فيما يظهر ـ من "البيان والتحصيل" لابن رشد (1/ 435)؛ فإنه ذكره هناك، ثم ذكر الكلام الآتي نقله عنه. وقد أخرجه أبو داود (538) ـ ومن طريقه البيهقي (1/ 424) ـ من طريق سفيان الثوري، عن أبي يحيى القتّات، عن مجاهد؛ قال كنت مع ابن عمر ... ، فذكره.
قال: النووي في "المجموع" (3/ 106): "ليس إسناده بالقوي".اهـ. وعِلّته أبو يحيى القتات فإنه لين الحديث كما في "التقريب" (8512).
وأخرجه عبد الرزاق (1/ 475) عن ابن عيينة، عن ليث، عن مجاهد، به، وليث هو: ابن أبي سُليم، وهو ضعيف. انظر "التقريب" (5721).
(6) في "البيان والتحصيل" (1/ 435 ـ 436).
(7) كذا في (ر) و (غ) و"البيان والتحصيل"، وفي باقي النسخ: "وهذا".
(8) كذا في جميع النسخ، وفي "البيان والتحصيل" "يعود" بدل "يفرد".(2/411)
وَوَقَعَ فِي الْمَجْمُوعَةِ (1): أَن مَنْ سَمِعَ التَّثْوِيبَ وَهُوَ (2) فِي الْمَسْجِدِ خَرَجَ عَنْهُ، كَفِعْلِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَفِي المسأَلة كَلَامٌ، والمقصود (3) مِنْهُ التَّثْوِيبُ الْمَكْرُوهُ الَّذِي قَالَ فِيهِ مَالِكٌ: إِنه ضَلَالٌ، وَالْكَلَامُ يَدُلُّ عَلَى التَّشْدِيدِ فِي الأُمور الْمُحْدَثَةِ أَن تَكُونَ فِي مَوَاضِعِ الْجَمَاعَةِ (4)، أَو فِي الْمَوَاطِنِ الَّتِي تُقَامُ فِيهَا السُّنَنُ، ويُحَافَظُ فيها (5) عَلَى الْمَشْرُوعَاتِ أَشد الْمُحَافَظَةِ، لأَنها إِذا أُقيمت هُنَالِكَ أَخذها النَّاسُ وَعَمِلُوا بِهَا، فَكَانَ وِزْرُ ذَلِكَ عَائِدًا عَلَى الْفَاعِلِ أَوَّلاً، فيَكْثُر (6) وِزْرُهُ، ويَعْظُم خطر بدعته.
وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَن لَا يَسْتَصْغِرَهَا وَلَا يَسْتَحْقِرُهَا ـ وإِن فَرَضْنَاهَا صَغِيرَةً ـ، فإِن ذَلِكَ اسْتِهَانَةٌ بِهَا، وَالِاسْتِهَانَةُ بِالذَّنْبِ أَعظم مِنَ الذَّنْبِ، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِعِظَمِ مَا هُوَ صَغِيرٌ. وَذَلِكَ أَن الذَّنْبَ لَهُ نَظَرَانِ: نَظَرٌ (7) مِنْ جِهَةِ رُتْبَتِهِ في الشرع (8)، وَنَظَرٌ مِنْ جِهَةِ مُخَالَفَةِ الرَّبِّ الْعَظِيمُ بِهِ.
فأَما النَّظَرُ الأَول: فَمِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ يُعَدّ صَغِيرًا إِذا (9) فَهِمْنَا مِنَ الشَّرْعِ أَنه صَغِيرٌ، لأَنا نضعه حيث وضعه الشرع.
وأَما النظر (10) الْآخَرُ: فَهُوَ رَاجِعٌ إِلى اعْتِقَادِنَا فِي الْعَمَلِ به؛ حيث نَسْتَحْقِرُ مواجهة (11) الرَّبِّ سُبْحَانَهُ بِالْمُخَالَفَةِ، وَالَّذِي كَانَ يَجِبُ فِي حَقِّنَا أَن نَسْتَعْظِمَ ذَلِكَ جِدًّا، إِذ لَا فَرْقَ فِي التَّحْقِيقِ بَيْنَ الْمُوَاجَهَتَيْنِ: الْمُوَاجَهَةُ بِالْكَبِيرَةِ، والمواجهة بالصغيرة.
_________
(1) انظر: "البيان والتحصيل" (1/ 435 و436).
(2) قوله: "وهو" ليس في (ر) و (غ).
(3) في (خ): "المقصود".
(4) في (ت): أن لا تكون في مواضع الجماعات".
(5) في (خ) و (ت) و (م): "والمحافظة" بدل "ويحافظ فيها".
(6) في (ر) و (غ): "فيكبر".
(7) قوله: "نظر" ليس في (خ).
(8) في (خ) و (م): "الشرط". بدل "الشرع"، وفي هامش (م) كتب: "لعله الشرع".
(9) في (ت) و (م): "إذ".
(10) قوله: "النظر" ليس في (خ) و (ت) و (م).
(11) في (م): "نستحر مواجهة" وفي (خ) و (ت): "نستحرم جهة".(2/412)
وَالْمَعْصِيَةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ مَعْصِيَةٌ لَا يُفَارِقُهَا (1) النَّظَران فِي الْوَاقِعِ أَصلاً؛ لأَن تصوُّرَها (2) مَوْقُوفٌ عَلَيْهِمَا (3)، فَالِاسْتِعْظَامُ لِوُقُوعِهَا مَعَ كَوْنِهَا يُعْتَقَدُ فِيهَا أَنها صَغِيرَةٌ لَا يَتَنَافَيَانِ، لأَنهما اعْتِبَارَانِ مِنْ جهتين: فالعاصي وإِن تعمد (4) الْمَعْصِيَةَ لَمْ يَقْصِدْ بِتَعَمُّدِهِ الِاسْتِهَانَةَ بِالْجَانِبِ العَلِيِّ الرَّبَّانِيِّ، وإِنما قَصَدَ اتِّبَاعِ شَهْوَتِهِ مَثَلًا فِيمَا جَعَلَهُ الشَّارِعُ صَغِيرًا أَو كَبِيرًا، فَيَقَعُ الإِثم عَلَى حَسَبِهِ، كَمَا أَن الْبِدْعَةَ لَمْ يَقْصِدْ بِهَا صَاحِبُهَا مُنَازَعَةَ الشَّارِعِ وَلَا التَّهَاوُنَ بِالشَّرْعِ، وإِنما قَصَدَ الْجَرْيَ عَلَى مُقْتَضَاهُ، لَكِنْ بتأْويلٍ زَادَهُ وَرَجَّحَهُ عَلَى غَيْرِهِ، بِخِلَافِ مَا إِذا تَهَاوَنَ بِصِغَرِهَا فِي الشَّرْعِ فإِنه إِنما تَهَاوَنَ بِمُخَالَفَةِ الْمَلِكِ الْحَقِّ، لأَن النَّهْيَ حَاصِلٌ، وَمُخَالَفَتُهُ حَاصِلَةٌ، وَالتَّهَاوُنُ بِهَا عَظِيمٌ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ: "لَا تَنْظُرْ إِلى صِغَرِ الْخَطِيئَةِ، وَانْظُرْ إِلى عَظَمَةِ من واجهته (5) بها" (6).
_________
(1) في (غ): "لا يوافقها".
(2) في (غ): "تصورهما".
(3) في (خ) و (م): "عليها".
(4) في (خ) و (ت) و (م): "يعمل" بدل "تعمد"، وعلق رشيد رضا قبلها بقوله: لعله سقط من هنا كلمة: "كان".اهـ.
(5) في (خ): "أوجهته".
(6) هذا نصُّ حديثٍ رُوي عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وَلَا يصحُّ؛ وإنما المشهور أنه من قول بلال بن سعد.
فأما المرفوع: فقد جاء من حديث ابن عمر، وعمرو بن العاص، وأبي هريرة رضي الله عنهم.
أخرجها ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (1289 و1290 و1291) من طريقهم، ثم قال: فهذا مشهور من كلام بلال بن سعد، وإنما رفعه إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الكذابون. فأما حديث ابن عمر: ففيه غالب بن عبيد الله، قال يحيى: ليس بثقة، وقال ابن حبان يروي المعضلات عن الثقات، لا يجوز الاحتجاج به. وأما حديث عمرو: ففيه محمد بن إسحاق العكاشي، وهو الذي تفرد به، وقد سبق ذكره في كتابنا هذا، وأنه كذاب، وقال الدارقطني: يضع الحديث. وأما حديث أبي هريرة: ففيه سليمان بن عمرو، وهو أبو داود النخعي، وقد سبق في كتابنا أن أحمد بن حنبل قال: هو كذاب، وقال مرّة: كان يضع الحديث، وكذلك قال يحيى: هو ممن يعرف بالكذب ووضع الحديث".
وأخرج العقيلي في "الضعفاء" (3/ 431) حديث ابن عمر من طريق غالب بن عبيد الله، ثم قال: "ليس له أصل مسند، ولا يتابع عليه، ولا يعرف إلا به، وإنما=(2/413)
وَفِي الصَّحِيحِ أَن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: "أَي يَوْمٍ هَذَا؟ "، قَالُوا: يَوْمُ الْحَجِّ الأَكبر، قَالَ: "فإِن دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وأَعراضكم بَيْنَكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يومكم هذا، في بلدكم هذا، ألا (1) لَا يَجْنِي جانٍ إِلا عَلَى نَفْسِهِ، أَلا لَا يَجْنِي جانٍ عَلَى وَلَدِهِ، وَلَا مَوْلُودٌ على والده، أَلا وإِن الشيطان قد أيِسَ (2) أَن يُعبد (3) في بلدكم هذا (4) أَبداً، ولكن ستكون (5) لَهُ طَاعَةٌ فِيمَا تَحْتَقِرون (6) مِنْ أَعمالكم، فَسَيَرْضَى به" (7).
_________
=يروى هذا عن بلال بن سعد"، ثم رواه بإسناده عن بلال بن سعد، ثم قال: "وهذا أولى من رواية غالب".
ونحوه كلام أبي نعيم في "الحلية" (6/ 78).
وانظر: لقول بلال بن سعد: "الزهد" لابن المبارك (1/ 24)، و"الزهد" للإمام أحمد (1/ 384)، و"تاريخ بغداد" (3/ 280)، و"شعب الإيمان" (1/ 269) و (5/ 430)، و"تهذيب الكمال" (4/ 295)، و"السير" (5/ 91)، و"طبقات الحنابلة" (1/ 321).
(1) قوله: "ألا" من (ر) و (غ) فقط.
(2) في (خ) و (م) و (ت) "يئس".
(3) في (ت) و (خ) و (م): "أن لا يعبد".
(4) في (ر) و (غ): "بلادكم هذه" وفي (م): "بلدكم هذه".
(5) في (خ) و (ت) و (م): "ولا تكون" بدل "ولكن ستكون".
(6) في (خ) و (م): "يحتقرون".
(7) الحديث لم يخرج في "الصحيحين" بهذا اللفظ، ولذا علق رشيد رضا عليه بقوله: كذا في نسخة الكتاب! ولا أذكر لأحد روايته بهذا اللفظ، وفي حديث عمرو بن الأحوص عند أصحاب السنن ـ ما عدا أبا داود ـ: "ألا إن الشيطان قد أَيِسَ أن يعبد في بلدكم هذا أبداً، ولكن سيكون له طاعة في بعض ما تحقرون من أعمالكم، فيرضى بها".اهـ.
ولعل المصنف أراد: "وفي الحديث الصحيح"، فالحديث أخرجه بهذا اللفظ الترمذي (2159)، وابن ماجه (3055)، والنسائي في "الكبرى" (4100) من طريق أبي الأحوص، عن شبيب بن غرقدة، عن سليمان بن عمرو بن الأحوص، عن أبيه، به.
قال الترمذي: "حسن صحيح، ولا نعرفه إلا من حديث شبيب بن غرقدة".
وفي إسناده ضعف؛ سليمان بن عمرو قال فيه ابن القطان: مجهول كما في "تهذيب التهذيب" (4/ 186 رقم 363)، وذكره ابن حبان في "الثقات" (4/ 314)،. وقال الحافظ في "التقريب" (2613): مقبول.
وأخرجه أحمد (2/ 368) وغيره من حديث الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ: "إن الشيطان قد أيس أن يعبد بأرضكم هذه، ولكنه قد رضي منكم بما تحقرون".=(2/414)
فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "فَسَيَرْضَى بِهِ": دَلِيلٌ عَلَى عِظَمِ الخَطْبِ فِيمَا يُسْتَحْقَرُ.
وَهَذَا الشَّرْطُ مِمَّا اعْتَبَرَهُ الْغَزَالِيُّ فِي هَذَا الْمَقَامِ، فإِنه ذَكَرَ فِي "الإِحياءِ" (1): أَن مِمَّا تَعْظُمُ بِهِ الصَّغِيرَةُ: أَن يَسْتَصْغِرَهَا. قَالَ: فإِن الذَّنْبَ كُلَّمَا اسْتَعْظَمَهُ الْعَبْدُ مِنْ نَفْسِهِ صَغُرَ عِنْدَ اللَّهِ، وَكُلَّمَا اسْتَصْغَرَهُ كَبُرَ عِنْدَ اللَّهِ: ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ وَبَسَطَهُ.
فإِذا تَحَصَّلَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ؛ فإِذْ ذَاكَ يُرْجَى أَن تَكُونَ صغيرُتها صَغِيرَةً (2)، فإِن تَخَلَّفَ شَرْطٌ مِنْهَا أَو أَكثر؛ صَارَتْ كَبِيرَةً، أَو خِيفَ أَن تَصِيرَ كَبِيرَةً (3)، كَمَا (4) أَن المعاصي كذلك، والله أعلم.
_________
=وإسناده صحيح.
وأخرجه الحميدي (1/ 54 رقم 98) من طريق إبراهيم الهجري؛ أنه سمع أبا الأحوص يقول: سمعت عبد الله بن مسعود يقول: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن الشيطان قد أيس أن تُعبد الأصنام بأرضكم هذه، أو بلدكم هذا؛ ولكنه قد رضي منكم بالمحقِّرات من أعمالكم، فاتقوا المحقرِّات، فإنهن من الموبقات ... "، الحديث.
وفي سنده إبراهيم بن مسلم الهَجَري وهو مُتَكلَّم فيه، لكن الراوي عنه هنا سفيان بن عيينة، وروايته عنه جيدة كما بينته في تعليقي على "سنن سعيد بن منصور" (1/ 44 رقم 7).
والحديث أصله في "الصحيحين" دون موضع الشاهد.
فقد أخرجه البخاري (67)، ومسلم (1679)، كلاهما من حديث أبي بكرة رضي الله عنه؛ في ذكر خطبته صلّى الله عليه وسلّم في حجة الوداع، لكن المخرج منه مما يتفق مع هذا الحديث إلى قوله: "في بلدكم هذا".
وأخرج مسلم (2812) حديث جابر رضي الله عنه؛ قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: "إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم"، والله أعلم.
(1) (4/ 32).
(2) قوله: "صغيرة" سقط من (ر) و (غ).
(3) قوله: "أو خيف أن تصير كبيرة" ليس في (ر) و (غ).
(4) في (غ): "مع" بدل "كما"، ثم صوبت في الهامش.(2/415)
الْبَابُ السَّابِعُ
فِي الِابْتِدَاعِ (1) هَلْ يَدْخُلُ فِي الأُمور (2) العادية؟ أَم يختص بالأُمور الْعِبَادِيَّةِ؟
قَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِّ الْبِدْعَةِ مَا يَقْتَضِي الْخِلَافَ فِيهِ: هَلْ يَدْخُلُ فِي الأُمور الْعَادِيَّةِ؟ أَم لَا؟
أَما الْعِبَادِيَّةُ: فَلَا إِشكال فِي دُخُولِهِ (3) فِيهَا، وَهِيَ عَامَّةُ (4) الْبَابِ، إِذ الأُمور الْعِبَادِيَّةُ إِما أَعمال قَلْبِيَّةٌ وأُمور اعْتِقَادِيَّةٌ، وإِما أَعمال جَوَارِحَ مِنْ قَوْلٍ، أَو فِعْلٍ، وَكِلَا الْقِسْمَيْنِ قَدْ دَخَلَ فِيهِ الِابْتِدَاعُ؛ كَمَذْهَبِ الْقَدَرِيَّةِ، وَالْمُرْجِئَةِ، وَالْخَوَارِجِ، وَالْمُعْتَزِلَةِ، وَكَذَلِكَ مَذْهَبُ (5) الإِباحة (6)، وَاخْتِرَاعِ الْعِبَادَاتِ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَابِقٍ، وَلَا أَصل مرجوع إِليه.
وأَما الْعَادِيَّةُ (7): فَاقْتَضَى النَّظَرُ وُقُوعَ الْخِلَافِ فِيهَا، وأَمثلتها ظَاهِرَةٌ مِمَّا تَقَدَّمَ فِي تَقْسِيمِ الْبِدَعِ، كالمُكُوس، والمحدثات (8) مِنَ المَظَالِم (9)، وَتَقْدِيمِ الْجُهَّالِ عَلَى العلماءِ فِي الولايات العلمية، وتولية المناصب الشريفة (10) من
_________
(1) في (ت): "في أن الابتداع".
(2) قوله: "الأمور" سقط من (ت).
(3) قوله: "في دخوله" ليس في (ر) و (غ).
(4) قوله: "وهي عامة" مكرر في (غ).
(5) في (ر) و (غ): "مذاهب".
(6) في (ت) و (م): "الإباحية".
(7) في (غ): "العبادية".
(8) في (خ) و (م) و (ت): "والمحدثة".
(9) في (خ): "الظالم".
(10) كذا في جميع النسخ، والمصنف استفاد هذه العبارة من "الفروق" للقرافي (4/ 346)، كما يدل عليه ذكره له فيما يأتي، ووقع عند القرافي: "الشرعية" بدل "الشريفة".(2/416)
ليس لها بأَهل؛ بل (1) بِطْرِيقِ الْوِرَاثَةِ، وإِقامة صُوَرِ الأَئمة وَوُلَاةِ الأُمور وَالْقُضَاةِ، وَاتِّخَاذِ الْمَنَاخِلِ، وَغَسْلِ الْيَدِ بالأَشنان، وَلُبْسِ الطَّيَالِسِ (2)، وَتَوْسِيعِ الأَكمام (3)، وأَشباه ذَلِكَ مِنَ الأُمور الَّتِي لَمْ تَكُنْ فِي الزَّمَنِ (4) الْفَاضِلِ، وَالسَّلَفِ الصَّالِحِ، فإِنها أُمور جَرَتْ فِي النَّاسِ، وكثُر الْعَمَلُ بِهَا، وَشَاعَتْ وَذَاعَتْ، فَلَحِقَتْ بِالْبِدَعِ، وَصَارَتْ كَالْعِبَادَاتِ المُخْتَرعة الْجَارِيَةِ فِي الأُمة، وَهَذَا مِنَ الأَدلة الدَّالَّةِ عَلَى مَا قُلْنَا، وإِليه مَالَ الْقَرَافِيُّ (5) وَشَيْخُهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ (6)، وَذَهَبَ إِليه بَعْضُ السَّلَفِ.
فَرَوَى أَبو نُعَيْمٍ الْحَافِظُ (7) عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَسلم أَنه وُلد لَهُ وَلَدٌ ـ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ الطُّوسِيُّ ـ فَقَالَ لِي (8): اشْتَرِ كَبْشَيْنِ (9) عَظِيمَيْنِ. وَدَفَعَ إِليَّ دَرَاهِمَ، فَاشْتَرَيْتُ له، وأَعطاني عشرة دراهم، فقال (10) لي:
_________
(1) قوله: "بل" من (ر) و (غ) فقط.
(2) في (ر) و (غ): "الطيالسة".
(3) قال ابن القيم رحمه الله في "زاد المعاد" (1/ 140).
" ... وأما هذه الأكمام الواسعة الطوال التي هي كالأخراج: فلم يلبسها هو ولا أحد من أصحابه البَتَّة، وهي مخالفة لسنته، وفي جوازها نظر، فإنها من جنس الخيلاء ... ".
وقال الشوكاني رحمه الله في "نيل الأوطار" (2/ 108) بعد أن نقل كلام ابن القيم:
"وقد صار أشهر الناس بمخالفة هذه السنة في زماننا هذا العلماء، فيُرى أحدهم وقد جعل لقميصه كُمّين يصلح كل واحد منهما أن يكون جُبّة أو قميصاً لصغير من أولاده، أو يتيم، وليس في ذلك شيء من الفوائد الدنيوية إلا العبث، وتثقيل المؤنة على النفس، ومنع الانتفاع باليد في كثير من المنافع، وتعريضه لسرعة التمزق وتشويه الهيئة، ولا الدينية إلا مخالفة السنة والإسبال والخيلاء".
(4) في (ر) و (غ): "الزمان".
(5) في الفرق الثاني والخمسون والمئتان من "الفروق" (4/ 348 ـ 349).
(6) في كتابه "قواعد الأحكام في مصالح الأنام" (2/ 195 ـ 196)، وتقدم نقل المصنف لكلام القرافي وابن عبد السلام بطوله، والردّ عليه في (1/ 321 ـ 325 فما بعد)، ونقله النووي أيضاً في "تهذيب الأسماء واللغات" (3/ 20) عن العز ابن عبد السلام.
(7) في "حلية الأولياء" (9/ 243 ـ 244).
(8) قوله: "لي" ليس في (خ) و (ت) في هذا الموضع، بل جاء متأخراً بعد الكلمة الآتية.
(9) في (خ) و (ت): "اشتر لي كبشين"، وانظر التعليق السابق.
(10) في (خ) و (م) و (ت): "عشرة أخرى وقال".(2/417)
اشتر (1) بها (2) دقيقاً وَاخْبِزْهُ (3). قَالَ: فَنَخَلْتُ الدَّقِيقَ، وَخَبَزْتُهُ، ثُمَّ جِئْتُ بِهِ، فَقَالَ: نَخَلْتَ هَذَا؟ وأَعطاني عَشَرَةً أُخرى وَقَالَ (4): اشْتَرِ بِهِ دَقِيقًا وَلَا تَنْخُلْهُ وَاخْبِزْهُ، فَخَبَزْتُهُ وَحَمَلْتُهُ إِليه، فَقَالَ لِي: يَا أَبا عَبْدِ اللَّهِ! الْعَقِيقَةُ سُنَّةٌ، وَنَخْلُ الدَّقِيقِ بِدْعَةٌ، وَلَا يَنْبَغِي أَن يَكُونَ فِي السُّنَّةِ بِدْعَةٌ، وَلَمْ أُحِبَّ أَن يَكُونَ ذَلِكَ الْخُبْزُ فِي بيتي بعد أَن يكون (5) بِدْعَةً.
وَمُحَمَّدُ بْنُ أَسْلَمَ هَذَا: هُوَ الَّذِي فَسَّر به الحديثَ إِسحاقُ بن رَاهَوَيْهِ (6) ـ حَيْثُ سُئِلَ عَنِ السَّوَادِ الأَعظم فِي قوله صلّى الله عليه وسلّم: "عليكم بالسواد الأَعظم" (7)؟ ـ،
_________
(1) في (م): "اشتر لي" بدل "لي اشتر".
(2) في (م): "به" بدل "بها".
(3) في (خ) و (م) و (ت): "دقيقاً ولا تنخله واخبزه".
(4) في (خ): "وقال لي".
(5) قوله: "يكون" سقط من (م)، وفي (خ) و (ت): "كان".
(6) كما في "الحلية" (9/ 238 ـ 239) لأبي نعيم، وسيورد المصنف السياق كاملاً في الجزء الثالث (ص218) نقلاً عن أبي نعيم.
(7) الحديث أخرجه عبد بن حميد (1220)، وابن ماجه (3950)، وابن أبي عاصم في "السنة" (84)، وابن عدي في "الكامل" (2/ 79)، و (6/ 328)، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" (153) جميعهم من طريق معان بن رفاعة، عن أبي خلف الأعمى، عن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: "إن أمتي لا تجتمع على ضلالة، فإذا رأيتم اختلافاً فعليكم بالسواد الأعظم".
وإسناده ضعيف جداً.
أبو خلف الأعمى: متروك ورماه ابن معين بالكذب كما في "التقريب" (8143)، ومعان لين الحديث كما في "التقريب" (6795).
قال البوصيري في "مصباح الزجاجة" (3/ 228): وهذا إسناد ضعيف لضعف أبي خلف الأعمى ... ، وقد روي هذا الحديث من حديث أبي ذر، وأبي مالك الأشعري، وابن عمر، وأبي نضرة، وقدامة بن عبد الله الكلابي وفي كلها نظر، قاله شيخنا العراقي ـ رحمه الله ـ اهـ.
وقال الشيخ الألباني ـ رحمه الله ـ في "ظلال الجنة" (1/ 41): إسناده ضعيف جداً.
وأخرجه الترمذي (2167)، وابن أبي عاصم في "السنة" (80)، والحاكم (1/ 116)، وأبو عمرو الداني في "السنن الواردة" في "الفتن" (368) من طريق المعتمر بن سليمان، عن أبي سفيان سليمان بن سفيان المدني، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر به.
ووقع عند الداني: "عمرو بن دينار" وكذا في المطبوع من "المستدرك"، وهو اختلاف=(2/418)
فَقَالَ: مُحَمَّدُ بْنُ أَسْلَمَ (1) وأَصحابه، حَسْبَمَا يأْتي ـ إِن شاءَ الله تعالى ـ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ (2).
وأَيضاً فإِن تُصُوِّر في العبادات (3) وقوع الابتداع (4)؛ تُصُوِّر (5) فِي الْعَادَاتِ؛ لأَنه لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، فالأُمور الْمَشْرُوعَةُ تَارَةً تَكُونُ عِبَادِيَّةً وَتَارَةً عَادِيَّةً، فَكِلَاهُمَا مَشْرُوعٌ مِنْ قِبَلِ الشَّارِعِ (6)، فَكَمَا تَقَعُ الْمُخَالَفَةُ بِالِابْتِدَاعِ فِي أَحدهما؛ تَقَعُ فِي الْآخَرِ.
وَوَجْهٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَن الشَّرْعَ جاءَ بِالْوَعْدِ بأَشياء تَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ هِيَ خَارِجَةً عَنْ سُنَّتِهِ، فَتَدْخُلُ فِيمَا تَقَدَّمَ تَمْثِيلُهُ؛ لأَنها مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ.
فَفِي الصَّحِيحِ (7) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ (8) رضي الله عنه قال: قال لَنَا (9) رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنكم سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً وأُموراً (10) تُنْكِرُونَهَا"، قَالُوا: فَمَا تأْمرنا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "أَدّوا إِليهم حَقَّهُمْ، وَسَلُوا اللَّهَ (11) حقَّكم".
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنه قَالَ: "مَنْ كَرِهَ مِنْ أَميره شَيْئًا فَلْيَصْبِرْ". وَفِي رِوَايَةٍ: "مَنْ رأَى من أَميره شيئاً يكرهه فليصبر
_________
=في إسناد هذا الحديث على سبعة أوجه كما ذكر الحاكم؛ ومرجعها جميعها إلى أبي سفيان سليمان بن سفيان المدني، وهو ضعيف كما في "التقريب" (2578)، ولذا ضعفه الترمذي بقوله: "هذا حديث غريب من هذا الوجه".
وقال الحافظ في "إتحاف المهرة" (8/ 531): ويظهر من هذا ضعف الحديث لا قوته؛ لأن سليمان ضعفه ابن معين وابن المديني وأبو حاتم وغيرهم. اهـ.
وقد جاء الحديث من أوجه أخرى، وفيها كلها نظر كما نقل البوصيري عن شيخه العراقي.
(1) قوله: "بن أسلم" ليس في (خ) و (ت).
(2) انظر (ص218) من الجزء الثالث.
(3) في (م): "العباديات".
(4) في (ت): "وقوع البدع".
(5) في (خ) و (ت) و (م): "وقع" بدل "تصور".
(6) في (ت): "الشرع".
(7) أخرجه البخاري (3604) و (7052)، ومسلم (1843).
(8) يعني: ابن مسعود.
(9) قوله: "لنا" من (ر) فقط.
(10) في (م): "وأمور" وفي (ت) صوب قوله: "أثرة وأموراً" في الهامش إلى "إمرة وأمراء".
(11) قوله: "الله" من (ر) و (غ) فقط.(2/419)
عَلَيْهِ، فإِنه مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ، مَاتَ مِيتةً جَاهِلِيَّةً" (1).
وَفِي الصَّحِيحِ (2) أَيضاً: "إِذا أُسْنِدَ الأَمر إِلى غَيْرِ أَهله فَانْتَظِرُوا السَّاعَةَ".
وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ (3) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَتَقَارَبُ الزمان، وينقص (4) الْعِلْمُ، ويُلْقَى الشُّحُّ (5)، وَتَظْهَرُ الْفِتَنُ، ويَكْثُر الهَرْجُ". قالوا (6): يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَيُّما (7) هُوَ؟ قَالَ: "القَتْل القَتْل".
وَعَنْ أَبي مُوسَى (8) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِن بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ (9) لأَياماً (10) يَنْزِلُ فِيهَا الْجَهْلُ وَيُرْفَعُ فِيهَا الْعِلْمُ، وَيَكْثُرُ فِيهَا الهَرَجْ". والهَرْجُ: الْقَتْلُ.
وَعَنْ حُذَيْفَةَ (11) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثَيْنِ، رأَيت أَحدَهما، وأَنا أَنتظر الْآخَرَ، حدثنا أَن الأَمانة نزلت في جذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ، ثُمَّ علموا من السنة، وحدثنا عن رفعها؛ قال: "ينام الرجل النَّوْمة، فتُقبض الأَمانة مِنْ قَلْبِهِ، فيَظَلّ أَثَرُهَا مثل الوَكْتِ (12)، ثم
_________
(1) أخرجه البخاري (7053)، ومسلم (1849).
(2) أخرجه البخاري (59 و6496).
(3) أخرجه البخاري (85) و (7061)، ومسلم (157).
(4) أثبتها رشيد رضا في طبعته: "ويقبض" بدل "وينقص".
(5) علق رشيد رضا هنا بقوله: في رواية أحمد والشيخين هنا زيادة: "ويظهر الجهل".اهـ.
(6) في (خ) و (ت) و (م): "قال".
(7) في (ر) و (غ): "أيُّم".
(8) أخرجه البخاري (7062)، ومسلم (2672).
(9) قوله: "الساعة" سقط من (خ) و (ت).
(10) تقدم في التعليق السابق أن قوله: "الساعة" سقط من (خ) و (ت)، فعلق رشيد رضا هنا بقوله: روي بلفظ: "إن من ورائكم أياماً" إلخ. رواه الترمذي وابن ماجه عنه. اهـ.
(11) أخرجه البخاري (6497) و (7086) و (7276)، ومسلم (143).
(12) في هامش (ت): "الكَوْيت"، كأنه تصويب، وهو غريب! والوَكْتُ: الأثر اليسير في الشيء، والنقط فيه من غير لونه. انظر: "النهاية" لابن الأثير (5/ 217)، و"لسان العرب" (2/ 108).(2/420)
يَنَامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ، فَيَبْقَى أَثرها مِثْلَ أَثر (1) المَجْلِ (2)، كجَمْرٍ دَحْرَجْتَه (3) على رجلك فَنَفِطَ (4)، فتراه مُنْتَبِراً (5) وَلَيْسَ فِيهِ شيءٌ، وَيُصْبِحُ النَّاسُ (6) يَتَبَايَعُونَ، وَلَا يَكَادُ أَحد يُؤَدِّي الأَمانة، فَيُقَالُ: إِن فِي بَنِي فَلَانٍ رَجُلًا أَميناً، وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ: مَا أَعقله! وَمَا أَظْرَفَهُ! وَمَا أَجلده! وَمَا فِي قلبه مثقالُ حبة من (7) خَرْدَلٍ مِنْ إِيمان ... "، الْحَدِيثَ.
وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ (8) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَقْتَتِلَ فِئَتَانِ عَظِيمَتَانِ، يَكُونُ (9) بَيْنَهُمَا مَقْتَلَةٌ عظيمة، دعواهما وَاحِدَةٌ، وَحَتَّى (10) يُبعثَ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ قَرِيبٌ مِنْ ثَلَاثِينَ، كُلُّهُمْ يَزْعُمُ (11) أَنه رَسُولٌ، وَحَتَّى يُقْبَضَ العلمُ، ثُمَّ قَالَ: وَحَتَّى يَتَطَاوَلَ النَّاسُ فِي الْبُنْيَانِ" ... ، إِلى آخِرِ الْحَدِيثِ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: "يخرج (12) في آخر الزمان قوم (13) أَحداث الأَسنان، سفهاءُ الأَحلام، يقرؤون الْقُرْآنَ، لَا يُجَاوِزُ تَراقِيَهم، يَقُولُونَ مِنْ قَوْلِ خَيْرِ البَرِيَّة، يَمْرُقون مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُق
_________
(1) قوله: "أثر" سقط من (ر) و (غ).
(2) قوله: "المجل" في موضعه بياض في (ت)، وفي (م): "المحل". والمَجْلُ: هو أثر العمل في الكف يعالج بها الإنسان الشيء حتى يغلظ جلدها. انظر: "النهاية" (4/ 300)، و"لسان العرب" (11/ 616).
(3) في (ت): "كجمرة طرحت" بدل "كجمر دحرجته".
(4) في (ت): "فنفطت". والنَّفَط، بالتحريك: المَجْل، وقد نفِطت يده ـ بالكسر ـ نَفْطاً ونفيطاً، وتنفّطت: قرحت من العمل. وقيل: هو ما يصيبها بين الجلد واللحم. انظر: "لسان العرب" (7/ 416)، و"شرح مسلم" للنووي (2/ 169).
(5) في (م): "منتفراً" وفي (خ) تحتمل: "منتثر" و"منتبر"، وفي موضعها بياض في (ت).
والنَّبْر بالكلام: الهمز. وكل شيء رَفَعَ شيئاً فقد نَبَرَهُ. والنَّبْرَةُ: الوَرْم في الجسد. انظر "النهاية" (5/ 7)، و"لسان العرب" (5/ 189)، و"شرح مسلم" للنووي (2/ 169).
(6) قوله: "الناس" سقط من (م).
(7) قوله: "من" من (ر) و (غ) فقط.
(8) أخرجه البخاري (3608 و3609 و6935 و7121)، ومسلم (157).
(9) في (ر) و (غ): "تكون".
(10) في (خ): "حتى".
(11) في (خ): "زعم".
(12) في (ت) و (خ): "تخرج".
(13) قوله: "قوم" سقط من (ت) و (خ).(2/421)
السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّة" (1).
وَمِنْ حَدِيثِ أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قَالَ (2): "بَادِرُوا بالأَعمال فِتَنًا (3) كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يصبح الرجل مُؤْمِنًا، وَيُمْسِي كَاَفِرًا، وَيُمْسِي مُؤْمِنًا، وَيُصْبِحُ كَاَفِرًا (4)؛ يبيع (5) دينَه بِعَرَضٍ من (6) الدُّنْيَا" (7).
وفسَّر ذَلِكَ الْحَسَنُ (8)؛ قَالَ: "يُصْبِحُ محرِّماً لِدَمِ أَخيه وَعِرْضِهِ وَمَالِهِ، وَيُمْسِي مُسْتَحِلًّا لَهُ، ويمسي محرِّماً لدم أخيه وعرضه وماله، ويصبح مُسْتَحِلًّا لَهُ" (9)؛ كأَنه تأَوّله عَلَى الْحَدِيثِ الْآخَرِ: "لا ترجعوا بعدي كفاراً
_________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (10/ 536) و (15/ 304)، وأحمد (1/ 404)، والترمذي (2188)، وابن ماجه (168)، وأبو يعلى (5402) من طريق عاصم بن أبي النجود، عن زر بن حُبيش، عن ابن مسعود به.
قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وإسناده حسن من أجل عاصم هذا فهو صدوق حسن الحديث.
وأصل الحديث متفق عليه من حديث علي وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما.
أما حديث علي: فأخرجه البخاري (3611)، ومسلم (1066) بلفظ: "يأتي في آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرميّة، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة".
وأما حديث أبي سعيد: فأخرجه البخاري (3344)، ومسلم (1064) بلفظ: "يخرج في هذه الأمة قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، فيقرؤون القرآن لا يجاوز حلوقهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرميّة، فينظر الرامي إلى سهمه، إلى نصله، إلى رصافه، فيتمارى في الفوقة هل علق بها من الدم شيء؟ ".
(2) المثبت من (ت)، وفي باقي النسخ: "عنه عليه السلام قال".
(3) علق رشيد رضا هنا بقوله: هذا الحديث رواه مسلم وأحمد والترمذي، لكن بغير هذا اللفظ الذي أورده المؤلف هنا. والمراد: الاجتهاد في الأعمال قبل حصول الشواغل؛ بسبب الفتن الكثيرة. اهـ.
(4) قوله: "ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً" سقط من (ت) و (خ) و (م).
(5) في (غ): "يبلغ"، وفي (خ): "فيبيع"
(6) قوله: "من" سقط من (خ) و (ت).
(7) أخرجه مسلم في "صحيحه" (118).
(8) أي: البصري.
(9) من قوله: "ويمسي محرماً" إلى هنا سقط من (خ) و (م) و (ت). وقول الحسن هذا أخرجه الترمذي (2198) من طريق هشام بن حسان، عن الحسن به.=(2/422)
يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ" (1)، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِن مِنْ أَشراط السَّاعَةِ أَن يُرفع الْعِلْمُ، ويظهر الجهل، ويفشوَ الزنا، وتُشْرَبَ (2) الخمر، ويكثر (3) النساءُ، ويَقِلّ الرجال، حتى يكون لخمسين (4) امرأَة قَيِّمٌ وَاحِدٌ" (5).
وَمِنْ غَرِيبِ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبي طَالِبٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذا فعلتْ أُمتي خَمْسَ عَشْرَةَ (6) خَصْلَةً حلَّ بها البلاءُ. قيل: وما هُنَّ (7) يا رسول الله؟ قال: إِذا كان (8) الْمَغْنَمُ دُوَلاً، والأَمانة مَغْنَماً (9)، وَالزَّكَاةُ مَغْرَمًا، وأَطاع الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ وعقَّ أُمه، وبرَّ صَدِيقَهُ، وَجَفَا أَباه، وَارْتَفَعَتِ الأَصوات فِي الْمَسَاجِدِ، وَكَانَ زعيمُ الْقَوْمِ أَرذَلهم، وأُكرم الرجلُ مَخَافَةَ شَرِّه، وشُرِبت (10) الْخُمُورُ، ولُبِس الْحَرِيرُ، واتُّخِذَت القِيَان وَالْمَعَازِفُ، ولَعَنَ آخرُ هَذِهِ الأُمة أَوَّلَها، فَلْيَرْتَقِبُوا عِنْدَ ذَلِكَ ريحاً حمراءَ، أو خسفاً، أَو مَسْخاً" (11).
_________
=وفي رواية هشام عن الحسن مقال؛ لأنه كان يرسل عنه؛ كما في "التقريب" (7289).
(1) أخرجه البخاري (121)، ومسلم (65) من حديث جرير رضي الله عنه.
(2) في (خ) و (م): "ويشرب"، وفي (ت): "وشرب".
(3) في (ت): "وتكثر".
(4) في (خ) و (ت): "للخمسين".
(5) أخرجه البخاري (80)، ومسلم (2671).
(6) في (م): "عشر".
(7) في (خ): "وما هي".
(8) قوله: "كان" سقط من (م)، وفي موضعه علامة لحق، ولم يظهر شيء في الهامش، وفي (خ) و (ت): "صار" بدل "كان".
(9) في (م) و (ت) و (خ): "مغرماً".
(10) في (م): "وشرب".
(11) أخرجه الترمذي (2210)، وابن حبان في "المجروحين" (2/ 206 ـ 207)، والطبراني في "الأوسط" (469)، وأبو عمرو الداني في "السنن الواردة في الفتن" (3/ 683)، والخطيب (3/ 158)، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" (2/ 850)، جميعهم من طريق فرج بن فضالة، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن علي، عن علي، به ووقع عند الترمذي: محمد بن عمرو بن علي عن علي.
قال الذهبي في "الميزان" (3/ 345): وشذَّ الترمذي فقال: "عن محمد بن عمرو بن=(2/423)
وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنه قريب من هذا، وفيه: "وتُعُلِّم لغير الدين" (1).
وفيه: "وساد (2) الْقَبِيلَةَ فاسقُهم، وَكَانَ زعيمُ الْقَوْمِ أَرذلهم".
وَفِيهِ: "وظهرت (3) القَيْنات وَالْمَعَازِفُ".
وَفِي آخِرِهِ: "فَلْيَرْتَقِبُوا عِنْدَ ذَلِكَ رِيحًا حمراءَ، وَزَلْزَلَةً، وَخَسْفًا، وَمَسْخًا، وَقَذْفًا، وآياتٍ تَتَابَعُ، كنِظامٍ بَالٍ (4) قُطِعَ سلكُه فتتابع" (5).
_________
=علي عن علي"، كذا قال!.اهـ. وقال أيضاً: "ولا يعرف من اسمه عمرو في أولاد علي".
وسند هذا الحديث ضعيف لضعف فرج بن فضالة، كما في "التقريب" (5418)، وقال الترمذي: "هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث علي بن أبي طالب إلا من هذا الوجه، ولا نعلم أحداً رواه عن يحيى بن سعيد الأنصاري غير الفرج بن فضالة، والفرج بن فضالة قد تكلم فيه بعض أهل الحديث، وضعفه من قبل حفظه".
وجاء الحديث عن فرج بن فضالة بإسناد آخر وفيه زيادة.
أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (3/ 358) من طريق سويد بن سعيد، عن فرج بن فضالة، عن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي، عن حذيفة، به.
قال أبو نعيم: غريب من حديث عبد الله بن عبيد بن عمير، لم يروه عنه فيما أعلم إلا فرج بن فضالة. اهـ.
ومع ضعف فرج بن فضالة فعبد الله بن عبيد عن حذيفة مرسل كما قال أبو نعيم نفسه في (3/ 356).
وسويد بن سعيد ضعيف، وفي "التقريب" (2690): "صدوق في نفسه، إلا أنه عمي، فصار يتلقّن ما ليس من حديثه، فأفحش فيه ابن معين القول".
وانظر: "السلسلة الضعيفة" للألباني رحمه الله (1170) و (1171). والله أعلم.
(1) قوله: "وتعلم لغير الدين" سقط من (خ) و (م) و (ت).
(2) في (خ) و (م): "ساد".
(3) في (خ): "ظهرت".
(4) قوله: "بال" ليس في (غ) و (ر).
(5) أخرجه الترمذي (2211) من طريق المستلم بن سعيد، عن رميح الجذامي، عن أبي هريرة، به.
وضعّفه الترمذي بقوله: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه".
وإسناده ضعيف؛ رميح هذا قال فيه الذهبي في "الميزان" (2/ 54): "لا يعرف"، وقال الحافظ في "التقريب" (1957): "مجهول".(2/424)
فَهَذِهِ الأَحاديث وأَمثالها مِمَّا أَخبر بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنه يَكُونُ فِي هَذِهِ الأُمة بَعْدَهُ: إِنما هُوَ ـ فِي الْحَقِيقَةِ ـ تبديل للأَعمال (1) الَّتِي كَانُوا أَحقَّ بالعَمل بِهَا، فَلَمَّا عُوِّضُوا منها غيرها، وفشا فيها حتى (2) كأَنه مِنَ الْمَعْمُولِ بِهِ تَشْرِيعًا، كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْحَوَادِثِ الطَّارِئَةِ عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّن القرافي (3) ومن ذهب مذهبه، فأكثرها جارٍ في العادات، لا في العبادات؛ فليكن الابتداع ثابتاً في العادات كما اتفق على جريانه (4) فِي الْعِبَادَاتِ.
وَالَّذِينَ ذَهَبُوا إِلى أَنه مُخْتَصٌّ بالعبادات لا يُسَلِّمون جميع ما ذكره (5) الأَوّلون (6).
أَما مَا تَقَدَّمَ عَنِ الْقَرَافِيِّ وَشَيْخِهِ (7): فَقَدْ مَرَّ الْجَوَابُ عَنْهُ (8)، فإِنها (9) معاصٍ فِي الْجُمْلَةِ، وَمُخَالَفَاتٌ لِلْمَشْرُوعِ، كالمُكُوس، وَالْمَظَالِمِ، وَتَقْدِيمِ الْجُهَّالِ عَلَى العلماءِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَالْمُبَاحُ مِنْهَا (10) كَالْمَنَاخِلِ، إِنْ فُرِضَ مُبَاحًا ـ كَمَا قَالُوا ـ: فإِنما إِباحته بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، فَلَا ابْتِدَاعَ (11) فِيهِ.
وإِن فُرِضَ مكروهاً ـ كما أَشار إليه كلام (12) محمد بن أَسلم ـ (13):
_________
(1) في (ت) و (خ) و (م): "الأعمال".
(2) قوله: "حتى" من (ر) و (غ) فقط.
(3) في "الفروق" (4/ 348 ـ 349)، وتقدم هذا (ص375).
(4) من قوله: "القرافي ... " إلى هنا سقط من (خ) و (م) و (ت).
(5) قوله: "ما ذكره" سقط من (خ) وجاء في (ت) و (م): "ذلك" بدلاً منه.
وبسبب سقط قوله: "ما ذكره" أشكلت العبارة على رشيد رضا، فعلّق على هذا الموضع بقوله: كذا! ولا بدّ أن يكون قد سقط من هذا كلام، ولعل أصله: "لا يسلمون جميع ما قاله الأولون"، أو: "جميع ما ذهب إليه الأولون".اهـ.
(6) في (ت): "ويقولون" بدل "الأولون".
(7) أي: العز بن عبد السلام. راجع ص (416 ـ 417).
(8) انظر (ص327) فما بعد من المجلد الأول.
(9) في (ت): "بأنها".
(10) قوله: "منها" ليس في (غ) و (ر).
(11) في (ت) و (خ) و (م): "اتباع".
(12) قوله: "كلام" سقط من (خ) و (ت).
(13) المتقدم ص (417 ـ 418).(2/425)
فَوَجْهُ الْكَرَاهِيَةِ عِنْدَهُ كَوْنُهَا عُدَّت مِنَ الْمُحْدَثَاتِ؛ إِذ في الأَثر (1): "أَول مَا أُحدث بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَنَاخِلُ" (2)، أَو كَمَا قَالَ، فَأَخَذَ (3) بِظَاهِرِ اللَّفْظِ مَنْ أَخذ بِهِ، كَمُحَمَّدِ بن أَسلم. وظاهرٌ (4) أَن ذَلِكَ مِنْ نَاحِيَةِ السَّرَف والتَّنَعُّم الَّذِي أَشار إِلى كَرَاهِيَتِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} (5) الْآيَةَ، لَا مِنْ جِهَةِ أَنه بِدْعَةٌ.
وَقَوْلُهُمْ: كَمَا يُتَصَوَّر ذَلِكَ فِي الْعِبَادَاتِ يُتَصَوَّر فِي الْعَادَاتِ: مُسَلَّم، وَلَيْسَ كَلَامُنَا فِي الْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ، وإِنما كلامنا (6) فِي الْوُقُوعِ، وَفِيهِ النِّزَاعُ.
وأَما مَا احْتَجُّوا بِهِ مِنَ الأَحاديث: فَلَيْسَ فِيهَا عَلَى المسأَلة دَلِيلٌ وَاحِدٌ، إِذ لَمْ يُنَصَّ عَلَى أَنها بِدَعٌ أَو مُحْدَثَاتٌ، أَو مَا يُشِيرُ إِلى ذَلِكَ الْمَعْنَى. وأَيضاً إِن عدُّوا كُلَّ مُحْدَثِ من (7) الْعَادَاتِ بِدَعَةً، فَلْيَعُدّوا جَمِيعَ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مِنَ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ وَالْكَلَامِ وَالْمَسَائِلِ النَّازِلَةِ الَّتِي لَا عَهْدَ بِهَا (8) فِي الزَّمَانِ الأَول بِدَعاً، وَهَذَا شَنِيعٌ، فإِن مِنَ الْعَوَائِدِ (9) ما يختلف (10) بحسب الأَزمان والأَمكنة والاسم، أفيكون (11) كُلُّ مَنْ خَالَفَ الْعَرَبَ الَّذِينَ أَدركوا الصَّحَابَةَ رضي الله تعالى عنهم واعتادوا مثل عوائدهم
_________
(1) في (خ) و (م): "الأمر"، وفي موضعه بياض في (ت)، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: كذا في الأصل. اهـ. ويعني بالأصل: (خ).
(2) لم أقف عليه بهذا اللفظ، وقال الغزالي في "الإحياء" (1/ 126): ويقال: أول ما ظهر من البدع بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربع: المناخل، والأسنان، والموائد، والشبع.
وفي "صحيح البخاري" (5413) عن سهل بن سعد قال: ما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منخلاً من حين ابتعثه الله حتى قبضه.
وفي "الطبقات" لابن سعد (1/ 408) عن سهل بن سعد: ما رأيت منخلاً في ذاك الزمان ... ".
(3) في (ر) و (غ): "وأخذ".
(4) في (خ) و (ت): "وظاهره".
(5) سورة الأحقاف: الآية (20).
(6) في (خ) و (م): "وإنما الكلام".
(7) قوله: "من" من (ر) و (غ) فقط.
(8) في (ر) و (غ): "لها" بدل "بها".
(9) في (ر) و (غ): "شنيع ومن العوائد" وفي (م): "شنيعاً من العوائد"، والمثبت من (خ) و (ت).
(10) في (خ) و (م) و (ت): "ما تختلف".
(11) في (ت) و (خ): "فيكون".(2/426)
غيرَ مُتَّبعين لَهُمْ؟! هَذَا مِنَ (1) المُسْتنكَر جِدًّا!!.
نَعَمْ لَا بُدَّ مِنَ الْمُحَافَظَةِ فِي الْعَوَائِدِ الْمُخْتَلِفَةِ عَلَى الْحُدُودِ (2) الشَّرْعِيَّةِ، وَالْقَوَانِينِ الْجَارِيَةِ عَلَى مُقْتَضَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
وَأَيْضًا: فَقَدْ يَكُونُ الْتِزَام الزِّيِّ (3) الواحد، أو الحالة (4) الْوَاحِدَةِ، أَوِ الْعَادَةِ الْوَاحِدَةِ تَعَبًا (5) ومشقَّة؛ لِاخْتِلَافِ الأَخلاق والأَزمنة والبقاع والأَحوال، والشريعة تأْبى التضييق (6) والحرج في كل ما دَلَّ (7) الشَّرْعُ عَلَى جَوَازِهِ، وَلَمْ يَكُنْ ثمَّ مُعَارِض.
وإِنما جَعَلَ الشَّارِعُ مَا تَقَدَّمَ فِي الأَحاديث الْمَذْكُورَةِ مِنْ فَسَادِ الزَّمَانِ وأَشراط السَّاعَةِ: لِظُهُورِهَا وفُحْشِها بِالنِّسْبَةِ (8) إِلى مُتَقَدَّمِ الزَّمَانِ، فإِن الْخَيْرَ كَانَ أَظهر، والشرَّ كَانَ أَخفى وأَقلّ، بِخِلَافِ آخِرِ الزَّمَانِ فإِن الأَمر فِيهِ عَلَى العكس، فالشر (9) فِيهِ أَظهر، وَالْخَيْرُ أَخفى وَأَقَلُّ (10).
وأَما كَوْنُ تِلْكَ الْأَشْيَاءُ بِدَعًا: فَغَيْرُ مَفْهُومٍ عَلَى الطَّرِيقَتَيْنِ فِي حَدِّ الْبِدْعَةِ، فَرَاجِعِ النَّظَرَ فِيهَا (11) تَجِدْهُ كَذَلِكَ.
وَالصَّوَابُ فِي المسأَلة طَرِيقَةٌ أُخرى وَهِيَ (12) تَجْمَعُ (13) شَتَاتَ النَّظَرَيْنِ، وَتُحَقِّقُ الْمَقْصُودَ فِي الطَّرِيقَتَيْنِ، وَهُوَ الَّذِي بُني عَلَيْهِ تَرْجَمَةُ هَذَا الْبَابِ، فَلْنُفْرِدْهُ فِي فصلٍ عَلَى حِدَته، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ للصواب.
_________
(1) قوله: "من" سقط من (ر)، وفي موضعه علامة لحق، ولم يظهر شيء في التصوير، ويبدو أنه مما تآكل من أطراف النسخة؛ لأن ناسخ (غ) بيّض لموضع "من"، مما يدل على عدم وقوفه على اللحق؛ لأنها منقولة عنها
(2) قوله: "على الحدود" سقط من (ت).
(3) قوله: "الزي" في موضعه بياض في (خ)، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: بياض في الأصل، ولعل مكانه: "الزي".اهـ.
(4) في (ت) و (خ): "والحالة".
(5) في (ر) و (غ): "عناء" بدل "تعباً".
(6) في (غ): "الضييق".
(7) في (خ) و (م) و (ت): "والحرج فيما دل".
(8) قوله: "بالنسبة" سقط من (م).
(9) في (خ) و (ت) و (م): "والشر".
(10) قوله: "وأقل" سقط من (خ) و (ت).
(11) في (ت) و (غ): "فيه".
(12) في (م): "هي".
(13) في (ر) و (غ): "لجمع".(2/427)
فصل
أَفعال الْمُكَلَّفِينَ ـ بِحَسَبِ النَّظَرِ الشَّرْعِيِّ فِيهَا ـ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَن تَكُونَ مِنْ قَبِيلِ التعبُّدات.
وَالثَّانِي: أَن تَكُونَ مِنْ قَبِيلِ الْعَادَاتِ.
فأَما الأَول: فَلَا نَظَرَ فِيهِ هَاهُنَا.
وأَما الثَّانِي ـ وَهُوَ الْعَادِيُّ ـ: فَظَاهِرُ النَّقْلِ عَنِ السَّلَف الأَوَّلين أَن المسأَلة مُخْتَلَفٌ فِيهَا، فَمِنْهُمْ مَنْ يُرشِدُ كلامُه إِلى أَن الْعَادِيَّاتِ كَالْعِبَادِيَّاتِ، فَكَمَا أَنا مأَمورون فِي الْعِبَادَاتِ بأَن لا نُحْدِثَ فيها، فكذلك في (1) الْعَادِيَّاتُ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ مُحَمَّدِ بْنِ أَسلم (2)، حَيْثُ كَرِه فِي سُنَّة الْعَقِيقَةِ مُخَالَفَةَ مَنْ قَبِلَهُ فِي أَمرٍ عاديٍّ، وَهُوَ اسْتِعْمَالُ المَنَاخِل، مَعَ الْعِلْمِ (3) بأَنه مَعْقُولُ الْمَعْنَى، نَظَرًا مِنْهُ ـ وَاللَّهُ أَعلم ـ إِلى أَن الأَمر بِاتِّبَاعِ (4) الأَوّلين ـ عَلَى الْعُمُومِ ـ غَلَبَ عَلَيْهِ جِهَةُ التَّعَبُّدِ، وَيَظْهَرُ أَيضاً مِنْ كَلَامِ مَنْ قَالَ: أَول مَا أَحدث النَّاسُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَنَاخِلُ (5).
ويُحكى عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَبي (6) راشد أَنه قال: لولا أن أخالف (7) مَنْ كَانَ قَبْلِي؛ لَكَانَتِ الجَبَّانَةُ (8) مَسْكَنِي إِلى أَن أَموت (9).
_________
(1) قوله: "في" من (ر) و (غ) فقط.
(2) تقدم تخريجه صفحة (417 ـ 418).
(3) قوله: "مع العلم" مكرر في (ر).
(4) في (ت): "إلى أن اتباع".
(5) راجع صفحة (417 ـ 418 و425 ـ 426).
(6) قوله: "أبي" سقط من (ر) و (غ).
(7) في (م): "لولا أني أخالف" وفي (خ) و (ت): "لولا أني أخاف".
(8) الجَبَّانَةُ: الصحراء. انظر "لسان العرب" (13/ 85).
(9) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (5/ 77) من طريق أبيه، عن عبد الله بن محمد بن عمر،=(2/428)
والسُّكْنَى (1) عَادِيٌّ بِلَا (2) إِشكال.
وَعَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ يَكُونُ قِسْمُ الْعَادِيَّاتِ دَاخِلًا فِي قِسْمِ الْعِبَادَيَّاتِ، فَدُخُولُ الِابْتِدَاعِ فِيهِ ظَاهِرٌ، والأَكثرون عَلَى خِلَافِ هَذَا، وَعَلَيْهِ نَبْنِي الْكَلَامَ فَنَقُولُ:
ثَبَتَ فِي الأُصول الشَّرْعِيَّةِ أَنه لَا بُدَّ فِي كُلِّ عَادِيٍّ مِنْ شائبةِ التعبُّد؛ لأَن مَا لَمْ يُعْقَلْ مَعْنَاهُ عَلَى التَّفْصِيلِ مِنَ المأْمور بِهِ، أَو المنهيِّ عَنْهُ (3) فَهُوَ الْمُرَادُ بالتعبُّديّ، وَمَا عُقِلَ معناه وعُرِفَت (4) مصلحته أَو مفسدته على التفصيل (5) فَهُوَ الْمُرَادُ بِالْعَادِيِّ. فَالطَّهَارَاتُ وَالصَّلَوَاتُ وَالصِّيَامُ وَالْحَجُّ
_________
=عن محمد بن أبي عمر، عن سفيان بن عيينة، عن خلف بن حوشب؛ قال:
كنا مع الربيع بن أبي راشد، فسمع رجلاً يقرأ:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} [الآية: (5) من سورة الحج]، فقال: لولا أن أخالف من كان قبلي ما زايلت مسكني حتى أموت.
ونقل محقق "الحلية" عن "تحصيل البغية" أن في رواية:
"لولا أن أخالف من كان قبلي لكانت الجبانة مسكني حتى أموت".
وهو الموافق لما عند المصنف.
والنص أورده ابن الجوزي في "صفة الصفوة" (3/ 109) الذي هو مختصر للحلية دون إسناد.
وإسناد أبي نعيم رجاله ثقات، عدا عبد الله بن محمد بن عمر، فلم أعرفه، وقد يكون عبد الله بن محمد بن يحيى بن أبي عمر، أو عبد الله بن محمد بن عمران، والله أعلم.
وقد أخرجه أبو نعيم أيضاً من طريق سعيد بن سلمة الثوري، عن محمد بن يحيى العبدي، عن أبي غسان، عن عبد السلام بن حرب، عن خلف بن حوشب؛ قال: قال لي الربيع بن أبي راشد: اقرأ علي، فقرأت عليه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ}، فقال: لولا أن تكون بدعة، لسِحْتُ ـ أوهِمْتُ ـ في الجبال.
ولم أعرف سعيد بن سلمة الثوري، ولا شيخه محمد بن يحيى العبدي، إلا أن يكون محمد بن يحيى الذهلي، فإنه الذي يروي عن أبي غسان مالك بن إسماعيل.
(1) علق رشيد رضا هنا بقوله: ربما سقط من هنا كلمة: "أمر".اهـ.
(2) في (ر) و (غ): "فلا".
(3) قوله: "عنه" سقط من (م).
(4) في (ر) و (غ): "وما عرف معناه وعقلت مصلحته".
(5) قوله: "على التفصيل" سقط من (خ) و (ت).(2/429)
كلها تعبدي، والبيع والشراء والنكاح وَالطَّلَاقُ (1) والإِجارات وَالْجِنَايَاتُ كُلُّهَا عَادِيٌّ؛ لأَن أَحكامها معقولة المعنى. ومع أنها معقولة المعنى (2) لا بُدَّ (3) فِيهَا مِنَ التعبُّد، إِذ هِيَ مُقَيَّدة بأُمور شَرْعِيَّةٍ لَا خِيرَةَ للمُكَلَّف فِيهَا، كَانَتِ اقْتِضَاءً أَو تَخْيِيرًا، فإِن التَّخْيِيرَ فِي التعبُّدات إِلزام؛ كَمَا أَن الاقتضاءَ إِلزام حَسْبَمَا تَقَرَّرَ بُرْهَانُهُ فِي كِتَابِ "الْمُوَافَقَاتِ" (4) ـ. وإِذا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَقَدْ ظَهَرَ اشْتِرَاكُ الْقِسْمَيْنِ فِي مَعْنَى التَّعَبُّدِ. فإِن جاءَ الِابْتِدَاعُ فِي الأُمور الْعَادِيَّةِ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ، صَحَّ دُخُولُهُ فِي الْعَادِيَّاتِ كَالْعِبَادِيَّاتِ، وإِلا فَلَا.
وَهَذِهِ هِيَ النُّكْتَةُ الَّتِي يَدُورُ عليها حكم الباب، ويتبين ذلك بِبَسْطِ الأَمثلة (5): فَمِمَّا أَتى بِهِ الْقَرَافِيُّ (6): وَضْعُ المُكُوس فِي مُعَامَلَاتِ النَّاسِ، فَلَا يَخْلُو هَذَا الْوَضْعُ الْمُحَرَّمُ أَن يَكُونَ عَلَى قصدِ حَجْرِ التصرُّفات وَقْتًا مَا، أَو فِي حَالَةٍ مَّا، لِنَيْلِ حُطام الدنيا، على هَيْئة غَصْب الْغَاصِبِ، وسَرِقة السَّارِقِ، وقَطْع الْقَاطِعِ لِلطَّرِيقِ، وَمَا (7) أَشبه ذَلِكَ، أَو يَكُونَ عَلَى قَصْدِ وَضْعِهِ عَلَى النَّاس (8)؛ كالدَّيْن الْمَوْضُوعِ، والأَمر المَحْتوم (9) عليهم دائماً،
_________
(1) في (خ) و (ت) و (م): "والبيع والنكاح والشراء والطلاق"، والمثبت من (ر) و (غ)، وهو أنسب للسياق.
(2) قوله: "ومع أنها معقولة المعنى" سقط من (خ) و (ت).
(3) في (خ) و (ت): "ولا بد".
(4) (2/ 529).
(5) في (خ) و (م) و (ت): "ويتبين ذلك بالأمثلة".
(6) في "الفروق" (4/ 346)؛ حيث قسم البدع إلى خمسة أقسام، وفي القسم الثاني منها قال: "القسم الثاني: محرَّم، وهو بِدْعَةٍ تَنَاوَلَتْهَا قَوَاعِدُ التَّحْرِيمِ وَأَدِلَّتُهُ مِنَ الشَّرِيعَةِ؛ كالمكوس، والمحْدثات من المظالم الْمُنَافِيَةِ لِقَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ؛ كَتَقْدِيمِ الجُهّال عَلَى الْعُلَمَاءِ، وتَوْلية المناصب الشرعية من لا يصلح لها بطريق التوارث، وجعل المستند لذلك كَوْنَ الْمَنْصِبِ كَانَ لِأَبِيهِ، وَهُوَ فِي نَفْسِهِ ليس بأهل". وانظر (ص321) فما بعد من المجلد الأول.
وقد استشكل رشيد رضا قول المصنف هنا: "فمما أتى به القرافي: وضع المكوس"، فقال: لعله سقط من هنا كلمة "من جواز"، أو "في مسألة".اهـ.
ولا أرى في العبارة إشكالاً، فمعناها: مما أتى به القرافي ـ أي: ذكره ـ في أقسام البدع: فرض المكوس.
(7) في (ر) و (غ): "أو ما".
(8) في (م) يشبه أن تكون: "التاس".
(9) في (م): "المحترم".(2/430)
أَو في أَوقات محدودة، وعلى (1) كيفيات مضروبة، بحيث تضاهي التشريع (2) الدَّائِمَ الَّذِي يُحمل عَلَيْهِ الْعَامَّةُ، وَيُؤْخَذُونَ بِهِ، وتُوجَّه عَلَى الْمُمْتَنِعِ مِنْهُ الْعُقُوبَةُ (3)، كَمَا فِي أَخذ زَكَاةِ الْمَوَاشِي وَالْحَرْثِ وَمَا أَشبه ذَلِكَ.
فأما الأول: فلا إشكال أنه مجرّد معصية إذا كان ظُلماً وتعدِّياً من غير سبب ظاهر، ولا يقال في هذا: إنه بدعة؛ لخروجه عن حدِّ البدعة (4).
وأما (5) الثَّانِي: فَظَاهِرٌ أَنه بِدْعَةٌ، إِذ هُوَ تَشْرِيعُ زَائِدٌ، وإِلزامٌ للمكلَّفين يُضَاهِي إِلزامهم الزَّكَاةَ (6) الْمَفْرُوضَةَ، وَالدِّيَاتِ الْمَضْرُوبَةَ، وَالْغَرَامَاتِ الْمَحْكُومِ بِهَا فِي أَموال الغُصَّاب والمتعدين، بَلْ صَارَ فِي حقِّهم كَالْعِبَادَاتِ الْمَفْرُوضَةِ، وَاللَّوَازِمِ (7) الْمَحْتُومَةِ، أَو مَا أَشبه ذَلِكَ. فَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ يَصِيرُ بِدْعَةً بِلَا شَكٍّ؛ لأَنه شَرْعٌ مُستدرك، وسَنن (8) فِي التَّكْلِيفِ مَهْيَعٌ (9)، فَتَصِيرُ المُكُوسُ عَلَى هَذَا الْفَرْضِ لَهَا نَظَرَانِ:
نَظَرٌ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا مُحَرَّمَةً عَلَى الْفَاعِلِ أَن يَفْعَلَهَا، كَسَائِرِ أَنواع الظُّلْمِ.
وَنَظَرٌ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا اخْتِرَاعًا لِتَشْرِيعٍ يُؤخذ بِهِ النَّاسُ إِلى الْمَوْتِ (10) كَمَا يُؤْخَذُونَ بِسَائِرِ التَّكَالِيفِ. فَاجْتَمَعَ فِيهَا نَهْيَانِ: نَهْيٌ عَنِ الْمَعْصِيَةِ، وَنَهْيٌ عَنِ الْبِدْعَةِ، وَلَيْسَ ذلك بموجود (11) في البدع في القسم الأَوّل،
_________
(1) في (ت) و (خ): "على" بدون واو.
(2) في (خ) و (ت): "المشروع".
(3) في (ر) و (غ): "العقوبات".
(4) من قوله: "فأما الأول ... " إلى هنا سقط من (خ) و (م) و (ت).
(5) في (خ): "فأما".
(6) في (ر) و (غ): "الزكوات".
(7) في (ت): "والإلزامات".
(8) في (خ): "وسن".
(9) مَهْيَعٌ: واضح وبيِّن. انظر "لسان العرب" (8/ 379).
(10) من قوله: "كسائر أنواع ... " إلى هنا سقط من (غ) و (ر).
(11) في (خ) و (ت): "موجوداً" وفي (م): "موجود".(2/431)
وإِنما يوجد فيه (1) النهي من جهة كونه (2) تَشْرِيعًا مَوْضُوعًا عَلَى النَّاسِ أَمرَ وجوبٍ أَو ندبٍ، إِذ لَيْسَ فِيهِ جِهَةٌ أُخرى يَكُونُ بِهَا مَعْصِيَةً؛ بَلْ نَفْسُ التَّشْرِيعِ هُوَ نَفْسُ الْمَمْنُوعِ.
وَكَذَلِكَ تَقْدِيمُ الْجُهَّالِ عَلَى العلماءِ، وَتَوْلِيَةُ الْمَنَاصِبِ الشَّرْعِيَّةِ (3) مَنْ لَا يَصْلُحُ (4) بِطَرِيقِ التَّوْرِيثِ، هُوَ مِنْ قَبِيلِ مَا تَقَدَّمَ، فإِن جَعْلَ الْجَاهِلِ (5) فِي مَوْضِعِ الْعَالِمِ حَتَّى يَصِيرَ مُفْتِيًا فِي الدِّينِ، وَمَعْمُولًا بِقَوْلِهِ فِي الأَموال والدماءِ والأَبضاع وَغَيْرِهَا مُحَرَّمٌ فِي الدِّينِ، وَكَوْنُ ذَلِكَ يُتّخذ (6) دَيْدَنًا حَتَّى يَصِيرَ (7) الِابْنُ مُسْتَحِقًّا لِرُتْبَةِ الأَب ـ وإِن لَمْ يَبْلُغْ رُتْبَةَ الأَب فِي ذَلِكَ الْمَنْصِبِ ـ بِطَرِيقِ الْوِرَاثَةِ أَو غَيْرِ ذَلِكَ، بحيث يشيع هذا العمل ويطَّرد، ويَعُدّه (8) النَّاسُ كَالشَّرْعِ الَّذِي لَا يُخالف؛ بِدَعَةً (9) بِلَا إِشكال، زِيَادَةً إِلى الْقَوْلِ بالرأْي غَيْرِ الْجَارِي عَلَى الْعِلْمِ، وَهُوَ بِدْعَةٌ، أَو سببُ البدعةِ كَمَا سيأْتي تَفْسِيرُهُ إِن شاءَ اللَّهُ، وَهُوَ الَّذِي بَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: "حَتَّى إِذا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ؛ اتَّخَذَ الناس رؤساءَ (10) جهالا، فَسُئلوا، فأَفتوا بغير علم، فضَلّوا وأَضلوا" (11)، وإِنما ضلوا وأضلوا؛ لأَنهم أَفتوا بالرأْي؛ إِذ لَيْسَ عِنْدَهُمْ عِلْمٌ.
وأَما إِقامة صُوَرِ الأَئمة وَالْقُضَاةِ وَوُلَاةِ الأُمور (12) عَلَى خِلَافِ ما كان
_________
(1) في (خ) و (م) و (ت): "به".
(2) في (خ) و (ت) و (م): "كونها".
(3) في (ت) و (خ): "الشريفة".
(4) في (ر) و (غ): "لا يصلح بها"، وفي (ت): "لا يصلح لها"، وعلّق رشيد رضا هنا بقوله: أي: لا يصلح هنا. اهـ.
(5) في (م): "الجهال".
(6) في (ت): "يصير"، وذكر بهامشها أن في نسخة: "يتخذ".
(7) في (ت): "يكون" بدل "يصير".
(8) في (خ) و (ت) و (م): "ويرده".
(9) قال رشيد رضا: قوله: "بدعة": هو خبر: "وكذلك تقديم الجهال".اهـ.
(10) في (خ): "رءوساً".
(11) أخرجه البخاري (100) و (7307)، ومسلم (2673) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
(12) في (خ) و (ت) و (م): "الأمر".(2/432)
عَلَيْهِ السَّلَفُ: فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْبِدْعَةَ لَا تُتَصوّر هُنَا، وَذَلِكَ صَحِيحٌ (1)؛ فإِن تَكَلَّفَ أَحد فِيهَا ذَلِكَ فَيَبْعُدُ جِدًّا، وَذَلِكَ بِفَرْضِ أَن يُعْتَقَدَ فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ أَنه مِمَّا يَطلب بِهِ الأَئمةُ عَلَى الْخُصُوصِ تَشْرِيعًا خَارِجًا عَنْ قَبِيلِ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ، بِحَيْثُ يُعَدّ مِنَ الدِّينِ الَّذِي يَدِينُ بِهِ هؤلاءِ الْمَطْلُوبُونَ بِهِ، أَو يَكُونُ ذَلِكَ مِمَّا يُعَدُّ خَاصًّا بالأَئمة دُونَ غَيْرِهِمْ، كَمَا يَزْعُمُ بَعْضُهُمْ أَن خَاتَمَ الذَّهَبِ جَائِزٌ لِذَوِي (2) السُّلْطَانِ، أَو يَقُولُ: إِن الْحَرِيرَ جَائِزٌ لَهُمْ لُبْسُهُ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَهَذَا أَقرب مِنَ الأَول فِي تَصَوُّرِ الْبِدْعَةِ فِي حَقِّ هَذَا الْقِسْمِ.
وَيُشْبِهُهُ عَلَى قُرْبٍ: زَخْرَفَةُ الْمَسَاجِدِ، إِذ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَعْتَقِدُ أَنها مِنْ قَبِيلِ تَرْفِيعِ بُيُوتِ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ تَعْلِيقُ الثُريَّات (3) الْخَطِيرَةِ الأَثمان، حَتَّى يُعَدّ الإِنفاق فِي ذَلِكَ إِنفاقاً فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ إِذا اعتُقِدَ فِي زَخَارِفِ الْمُلُوكِ وإِقامة صُوَرِهِمْ أَنها مِنْ جُمْلَةِ تَرْفِيعِ الإِسلام، وإِظهار (4) مَعَالِمِهِ وَشَعَائِرِهِ، أَو قصد ذلك في فعله أَوّلاً فإنَّه (5) ترفيع للإِسلام بما (6) لَمْ يأْذن اللَّهُ بِهِ. وَلَيْسَ مَا حَكَاهُ القرافي عن معاوية رضي الله عنه (7) مِنْ قَبِيلِ هَذِهِ الزَّخَارِفِ، بَلْ مِنْ قَبِيلِ المُعتاد فِي اللِّبَاسِ، وَالِاحْتِيَاطِ (8) فِي الْحِجَابِ مَخَافةً من انْخِراقِ خَرْقٍ يَتّسع (9) فلا يُرْقَع، هَذَا إِن صَحَّ مَا قَالَ، وإِلا فَلَا يُعَوّل (10) عَلَى نَقْلِ الْمُؤَرِّخِينَ وَمَنْ لَا يُعتبر مِنَ الْمُؤَلِّفِينَ، وأَحرى أَلَّا (11) يَنْبَنِيَ عَلَيْهِ حُكْمٌ.
وأَما مسأَلة الْمَنَاخِلِ: فَقَدْ مَرَّ مَا فِيهَا، وَالْمُعْتَادُ فِيهَا أَنه (12) لَا يُلْحِقها أَحد بالدِّين وَلَا بِتَدْبِيرِ الدُّنْيَا، بِحَيْثُ لَا يَنْفَكّ عَنْهُ؛ كالتشريع، فلا نطوِّل به.
_________
(1) في (ر) و (غ): "وذلك وهو صحيح".
(2) في (ر) و (غ): "لذي".
(3) في (ر): "الثرييات".
(4) في (م): "وظهار".
(5) في (خ) و (ت) و (م): "بأنه".
(6) في (ت): "مما" بدل "بما".
(7) في (ت): "عن سيدنا معاوية".
(8) في (ر) و (غ): "والاحتفاظ".
(9) في (ر) و (غ): "يتبع".
(10) في (ر) و (غ): "يعدل".
(11) في (ت) و (خ) و (م): "أن" بدل: "ألا"، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: لعل الأصل: "وأحرى ألا ينبني عليه حكم".اهـ ..
(12) في (خ): "والمعتاد ما فيها أنه" وفي (غ): "والمعتاد فيها أنها".(2/433)
وَعَلَى ذَلِكَ التَّرْتِيبِ يُنظر فِيمَا قَالَهُ ابْنُ عبد السلام (1) من غير فرق، فيتبيّن (2) مَجَالَ الْبِدْعَةِ فِي الْعَادِيَّاتِ (3) مِنْ مَجَالِ غَيْرِهَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَيضاً (4) فِيهَا كَلَامٌ فَرَاجِعْهُ إِن احْتَجْتَ إِليه (5).
وأَما وَجْهُ النَّظَرِ فِي أَمثلة الْوَجْهِ الثَّالِثِ (6) مِنْ أَوجه دُخُولِ الِابْتِدَاعِ فِي الْعَادَاتِ (7) عَلَى مَا أُريد تَحْقِيقُهُ: فَنَقُولُ: إِن مدار (8) تِلْكَ الأَحاديث عَلَى بِضْعَ عَشْرَةَ (9) خَصْلَةً، يُمْكِنُ ردُّها إِلى أُصول هِيَ كُلُّهَا أَو غَالِبُهَا بِدَعٌ، وَهِيَ: قِلّةُ الْعِلْمِ، وَظُهُورُ الْجَهْلِ، والشُّحُّ، وقبضُ الأَمانة، وتحليلُ الدِّماءِ، وَالزِّنَا، والحريرِ، والغِناءِ، والرِّبا والخمرِ، وكونُ المَغْنَمِ دُوَلاً، وَالزَّكَاةُ مَغْرِماً، وارتفاعُ الأَصوات فِي الْمَسَاجِدِ، وتقديمُ الأَحداث، ولَعْنُ آخرِ الأُمّةِ أَوَّلَها، وخروجُ الدَّجَّالِينَ، ومفارقةُ الْجَمَاعَةِ (10).
أَما قِلّةُ الْعِلْمِ، وَظُهُورُ الْجَهْلِ: فَبِسَبَبِ التفقُّه للدنيا (11)، وهذا إِخبارٌ بمُقَدِّمةٍ نتيجتُها (12): الفُتيا بِغَيْرِ عِلْمٍ؛ حَسْبَمَا جاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "إِن اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ ... " (13)، إِلى آخِرِهِ (14)، وَذَلِكَ أَن النَّاسَ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ قائدٍ يَقُودُهُمْ في الدين بخزائمهم (15)، وإِلا
_________
(1) تقدم (ص416 ـ 417).
(2) في (ت) و (خ) و (م): "فتبين".
(3) في (م): "العديات".
(4) انظر (ص321 و325 فما بعد) من المجلد الأول.
(5) قوله: "إن احتجت إليه" ليس في (ت).
(6) أي المتقدم (ص419).
(7) في (ت) و (خ): "العاديات".
(8) في (خ) و (م): "مدارك". بدل "مدار"، وكذا في أصل (ت)، ثم صوبت في الهامش.
(9) في (ت): "عشر".
(10) انظر: حديث علي رضي الله عنه صفحة (423).
(11) علق رشيد رضا هنا بقوله: لعله: "التفرغ للدنيا".اهـ.
ولا داعي لهذا الاستدراك، فكلام المصنف لا غموض فيه.
(12) في (خ): "نتجتها".
(13) تقدم تخريجه صفحة (432).
(14) في (ت): "إلى آخر الحديث".
(15) في (خ): "بحرائمهم"، وفي (ت) و (م): "بجرائمهم" وتقدم تعريف الخزامة (ص334).(2/434)
وقع الهَرْجُ (1)، وفسد النظام، فيضطرون إِلى الرجوع (2) إِلى مَنِ انْتَصَبَ لَهُمْ مَنْصِبَ الْهِدَايَةِ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمُّونَهُ عَالِمًا، فَلَا بُدَّ أَن يَحْمِلَهُمْ عَلَى رأْيه فِي الدِّينِ، لأَن الْفَرْضَ أَنه جَاهِلٌ، فيُضِلّهم عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ؛ كَمَا أَنَّهُ ضَالٌّ (3) عَنْهُ، وَهَذَا عَيْنُ الِابْتِدَاعِ؛ لأَنه التَّشْرِيعُ بِغَيْرِ (4) أَصلٍ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ. وَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنه لَا يُؤتى الناسُ قَطّ مِنْ قِبل (5) عُلَمَائِهِمْ (6)؛ وإِنما يؤتَون مِنْ قِبَلِ أَنه إِذا مَاتَ عُلَمَاؤُهُمْ؛ أَفتى مَنْ لَيْسَ بِعَالَمٍ، فَيُؤْتَى (7) النَّاسُ مَنْ قِبَلِهِ؛ وسيأْتي (8) لِهَذَا الْمَعْنَى بَسْطٌ أَوسع مِنْ هَذَا إِن شاءَ اللَّهُ.
وأَما الشحُّ: فإِنه مُقَدِّمَةٌ لِبِدْعَةِ الِاحْتِيَالِ عَلَى تَحْلِيلِ الْحَرَامِ؛ وَذَلِكَ أَن النَّاسَ يشحُّون بأَموالهم، فَلَا يَسْمَحُونَ بِتَصْرِيفِهَا فِي مَكَارِمِ الأَخلاق، وَمَحَاسِنِ الشِّيَم؛ كالإِحسان بِالصَّدَقَاتِ، والهِبَات، والمُواساة، والإِيثار عَلَى النَّفْسِ، وَيَلِيهِ أَنواع الْقَرْضِ الْجَائِزِ، ويليه التجاوز في المعاملات بإِنظار المعسر، أو بالإِسقاط (9)؛ كما قال تعالى (10): {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (11)؛ وَهَذَا كَانَ شأْن مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ، ثُمَّ نَقَصَ الإِحسان بِالْوُجُوهِ الأُوَل؛ فَتَسَامَحَ النَّاسُ بِالْقَرْضِ، ثُمَّ نَقَصَ (12) ذَلِكَ؛ حَتَّى صَارَ الْمُوسِرُ لَا يَسْمَحُ بِمَا فِي يَدَيْهِ، فَيُضْطَرُّ المعسر
_________
(1) المقصود بالهَرْج هنا ـ فيما يظهر ـ: كثرة الفتن المفضية إلى كثرة القتال. فالهَرْجُ يطلق على الاختلاط، والفتنة في آخر الزمان، وشدّة القتل وكثرته، وكثرة النكاح، وأصل الهرج: الكثرة في الشيء. انظر "النهاية" (5/ 256)، و"لسان العرب" (2/ 389).
(2) في (ت) و (خ): "الخروج".
(3) في (ت): "ضل".
(4) في (ر) و (غ): "لغير".
(5) في (م): "قبيل".
(6) في (ت) و (خ): "العلماء".
(7) في (ت) و (خ): "فتؤتى".
(8) (ص99) من المجلد الثالث.
(9) كما في قوله صلّى الله عليه وسلّم: "من سره أن ينجيه الله فلينفس عن معسر، أو يضع عنه". أخرجه مسلم (1563).
وفي (خ) و (م) و (ت): "وبالإسقاط".
(10) قوله: "تعالى" ليس في (خ).
(11) سورة البقرة: الآية (280).
(12) في (خ): "نقض".(2/435)
إِلى أَن يَدْخُلَ فِي الْمُعَامَلَاتِ الَّتِي ظَاهِرُهَا الْجَوَازُ، وَبَاطِنُهَا الْمَنْعُ؛ كَالرِّبَا، والسَّلَف الَّذِي يَجُرّ النَّفْع (1)، فَيُجْعَلُ بَيْعًا فِي الظَّاهِرِ، وَيَجْرِي فِي النَّاسِ شَرْعًا شَائِعًا، وَيَدِينُ (2) بِهِ الْعَامَّةُ، وَيَنْصِبُونَ هَذِهِ الْمُعَامَلَاتِ مَتَاجِرَ، وأَصلها الشُّحّ بالأَموال، وحُبّ الزَّخَارِفِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَالشَّهَوَاتِ الْعَاجِلَةِ، فإِذا كَانَ كَذَلِكَ؛ فبالحَرِيّ (3) أَن يَصِيرَ ذَلِكَ ابْتِدَاعًا فِي الدِّينِ، وأَن يُجعل مِنْ أَشراط السَّاعَةِ.
فإِن قِيلَ: هَذَا انْتِجَاعٌ (4) مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ، وتكلُّفٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ.
فَالْجَوَابُ: أَنه لَوْلَا أَن (5) ذَلِكَ مَفْهُومٌ مِنَ الشَّرْعِ لَمَا قِيلَ بِهِ.
فَقَدْ رَوَى أَحمد فِي "مُسْنَدِهِ" (6) مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما
_________
(1) في (م): "المنع".
(2) في (ت): "وتدين".
(3) في (خ): "فالجري".
(4) المعنى: أن هذا استنباط بعيد. والانْتِجاع: طلب الكلأ ومساقط الغيث؛ كما في "النهاية" (5/ 21)، و"لسان العرب" (8/ 347)؛ وذلك بالتكلّف في طلبه عن بعد.
(5) قوله: "أن" سقط من (ر) و (غ).
(6) (2/ 28 رقم 4825) من طريق أبي بكر بن عياش، عن الأعمش، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عمر، به.
وأخرجه الطرسوسي في "مسند ابن عمر" (22)، والطبراني في "الكبير" (12/ 432 رقم 13583)، والبيهقي في "الشعب" (4224)، ثلاثتهم من طريق أبي بكر بن عياش، به.
قال ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" (5/ 295 ـ 296): "حديث صحيح رجاله ثقات".
وتعقَّب الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" (3/ 45 رقم 1183) ابن القطان بقوله: "وعندي: أن إسناد الحديث الذي صححه ابن القطان معلول؛ لأنه لا يلزم من كون رجاله ثقات أن يكون صحيحاً؛ لأن الأعمش مدلِّس، ولم [يذكر] سماعه من عطاء، وعطاء يحتمل أن يكون عطاء الخراساني، فيكون منه تدليس التسوية؛ بإسقاط نافع بين عطاء وابن عمر، فرجع الحديث إلى الإسناد الأول، وهو المشهور".اهـ.
وقول الحافظ عن عطاء المذكور هنا: "يحتمل أن يكون عطاء: الخراساني": ينفيه التصريح في بعض الطرق بأنه ابن أبي رباح!.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "الفتاوى الكبرى" (3/ 133): "وهذان إسنادان=(2/436)
قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِذا ضَنَّ الناسُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ، وَتَبَايَعُوا بالعِيْنَةِ، وَاتَّبَعُوا أَذناب الْبَقَرِ، وَتَرَكُوا الْجِهَادَ في سبيل الله، أَنزل الله بهم بلاءًا، فلا يرفعه حتى يراجعوا دينهم".
_________
=حسنان أحدهما يشدّ الآخر ويقوّيه"؛ يعني: هذا الطريق، وطريق عطاء الخراساني عن نافع الآتي ذكره. ثم قال شيخ الإسلام: "فأما رجال الأول: فإنهم مشاهير، لكن نخاف أن لا يكون الأعمش سمعه من عطاء، أو أن عطاء لم يسمعه من ابن عمر.
والإسناد الثاني: يبيِّن أن للحديث أصلاً محفوظاً عن ابن عمر ... " إلخ كلامه الآتي ذكره. وقال في "القواعد النورانية" (ص15): "وقد ورى أحمد وأبو داود بإسنادين جيِّدين ... "، ثم ذكره. وحسّنه أيضاً ابن القيم كما سيأتي.
وأخرجه أبو يعلى في "مسنده" (5659) من طريق إسماعيل بن عليّة، والطبراني في "الكبير" (12/ 433 رقم 13585) من طريق عبد الوارث بن سعيد، كلاهما عن ليث بن أبي سليم، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، عن ابن عمر، به.
وأخرجه الروياني في "مسنده" (1422) من طريق محمد بن حميد الرازي، عن جرير، وأبو نعيم في "الحلية" (1/ 313 ـ 314)، و (3/ 319) من طريق أبي كدينة البجلي، كلاهما ـ جرير وأبو كدينة ـ عن ليث، عن عطاء، عن ابن عمر، به هكذا بإسقاط عبد الملك بن أبي سليمان من سنده، فلست أدري هل هذا من تخليط ليث بن أبي سليم، أو ممن دونه؟ فليث قال عنه الحافظ ابن حجر في "التقريب" (5721) "صدوق اختلط جداً، ولم يتميّز حديثه، فتُرك".
قال أبو نعيم بعد أن رواه: "رواه الأعمش عن عطاء ونافع، ورواه راشد الحمّاني، عن ابن عمر نحوه". وقال أيضاً: "حديث غريب من حديث عطاء، عن ابن عمر، رواه الأعمش أيضاً عنه، ورواه فضالة بن حصين، عن أيوب السختياني، عن نافع، عن ابن عمر".
وطريق فضالة هذه التي أشار إليها أبو نعيم: أخرجها العسكري في "تصحيفات المحدثين" (1/ 191)، وابن شاهين في "الأفراد" (1/ 1) ـ كما في "السلسلة الصحيحة" للألباني (11) ـ، كلاهما عن فضالة بن حصين، عن نافع، عن ابن عمر، به.
ثم قال ابن شاهين: "تفرّد به فضالة".
وفضالة هذا قال فيه أبو حاتم: "مضطرب الحديث". "الجرح والتعديل" (7/ 78).
وللحديث طريق أخرى يرويها عطاء الخراساني، عن نافع، عن ابن عمر، به، وسيأتي الكلام عنها في التعليق الآتي.(2/437)
وَرَوَاهُ أَبو دَاوُدَ أَيضاً (1)، وَقَالَ فِيهِ: "إِذا تبايعتم بالعينة، وأَخذتم
_________
(1) في "سننه" (3462). وأخرجه الدولابي في "الكنى" (2/ 65)، وابن عدي في "الكامل" (5/ 360)، وأبو نعيم في "الحلية" (5/ 208 ـ 209)، والبيهقي (5/ 316) جميعهم من طريق حيوة بن شريح، عن إسحاق أبي عبد الرحمن، عن عطاء الخراساني، عن نافع، عن ابن عمر، به.
قال أبو نعيم: "غريب من حديث عطاء عن نافع، تفرد به حيوة عن إسحاق".
وقال المنذري في "مختصر السنن" (5/ 102 ـ 103): "في إسناده إسحاق بن أسيد أبو عبد الرحمن الخراساني، نزيل مصر، لا يحتج بحديثه، وفيه أيضاً عطاء الخراساني وفيه مقال".
وضعف هذه الطريق ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" (5/ 295).
ومدار هذا الطريق على عطاء بن أبي مسلم الخراساني، وهو صدوق يهم كثيراً ويرسل ويدلس كما في "التقريب" (4633).
وإسحاق بن أَسيد أبو عبد الرحمن الخراساني قال عنه ابن حجر في "التقريب" (344): "فيه ضعف".
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في "إقامة الدليل" من "الفتاوى الكبرى" (3/ 133) إسناد عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر السابق، وهذا الإسناد، ثم قال: "والإسناد الثاني يبين أن للحديث أصلاً محفوظاً عن ابن عمر، فإن عطاء الخراساني ثقة مشهور، وحيوة بن شريح كذلك وأفضل، وأما إسحاق بن عبد الرحمن [كذا!] فشيخ روى عنه أئمة المصريين؛ مثل حيوة بن شريح، والليث بن سعد، ويحيى بن أيوب وغيرهم"، ثم ذكر رواية ليث بن أبي سليم، عن عطاء، عن ابن عمر، ثم قال: "وهذا يبيِّن أن للحديث أصلاً عن عطاء"، وذكر ابن القيم كلامه هذا في "تهذيب السنن" (5/ 104)، وأقرّه.
وذكر الحديث أيضاً في "الجواب الكافي" (ص30) وحسَّنه.
وأخرجه أحمد (2/ 42 و82)، والخطيب في "تاريخه" (4/ 307)، وابن عساكر في "تاريخه" (1/ 161) من طريق أبي جناب، عن شهر بن حوشب، عن ابن عمر، به.
وأبو جناب هو: يحيى بن أبي حية ضعفوه لكثرة تدليسه.
وشهر بن حوشب صدوق كثير الإرسال والأوهام كما في "التقريب" (2846).
وله شاهد من حديث جابر:
أخرجه ابن عدي في "الكامل" (2/ 455 من طريق بشير بن زياد الخراساني، عن ابن جريج، عن عطاء، عن جابر، به.
قال ابن عدي: "وبشير بن زياد هذا ليس بالمعروف، إلا أنه يروي عن المعروفين ما لا يتابعه أحد عليه ... ".
وبالجملة فجميع طرق الحديث لا تخلو من ضعف، وتقدم أن ابن القطان صححه، وقوّاه شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وصححه الشيخ الألباني في "السلسلة=(2/438)
أَذناب الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ؛ سَلَّطَ الله عليكم ذُلاًّ لا ينزعه حَتَّى تَرْجِعُوا إِلى دِينِكُمْ".
فتأَمل كَيْفَ قَرَنَ التبايُعَ بالعِيْنَة بِضِنَّةِ النَّاسِ (1)؟ فأَشعر بأَن (2) التَّبَايُعَ بِالْعِينَةِ يَكُونُ عَنِ الشُّحِّ بالأَموال، وَهُوَ مَعْقُولٌ فِي نَفْسِهِ، فإِن الرَّجُلَ لَا يَتَبَايَعُ أَبداً هَذَا التَّبَايُعَ وَهُوَ يَجِدُ مَنْ يُسْلِفُه، أَو مَنْ يُعينه فِي حَاجَتِهِ، إِلا أَن يَكُونَ سَفِيهًا لَا عَقْلَ لَهُ.
وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْمَعْنَى مَا خَرَّجَهُ أَبو دَاوُدَ أَيضاً (3) عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "سيأْتي عَلَى النَّاسِ زمانٌ عَضُوضٌ، يَعَضُّ المُوسِرُ عَلَى مَا فِي يديه، ولم يؤْمر بذلك؛ قال الله تعالى: {وَلاَ تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} (4)، ويُبَايِعُ المُضْطَرّون، وقد نهى ـ عليه السلام ـ عن بيع المُضْطَرّ، وبيع الغَرَر، وبيع الثمر قبل أن يُدرك.
وخرَّجه أحمد بن حنبل وسعيد بن منصور (5).
_________
=الصحيحة" (11)، والله أعلم.
(1) في (ت): "بشحَّة الناس"، وصوبت في الهامش، وفي (م): "بضحة".
(2) في (ت): "فأشعر أن أن".
(3) في "سننه" (3382)، وسيأتي تخريجه، والكلام عليه.
(4) سورة البقرة: الآية (237).
(5) الحديث أخرجه سعيد بن منصور في "سننه" ومن طريقه البيهقي (6/ 17)، وابن حزم في "المحلى" (9/ 22)، وضعّفه. وأخرجه أحمد (1/ 116)، وأبو داود في الموضع السابق، جميعهم من طريق هشيم؛ أخبرنا صالح بن رستم، عن شيخ من بني تميم؛ قال: خطبنا علي ... ، فذكره.
وإسناده ضعيف؛ لإبهام الشيخ من بني تميم. وصالح بن رستم قال فيه الحافظ ابن حجر في "التقريب" (2877): صدوق كثير الخطأ.
وأخرجه ابن مردويه كما في "تفسير ابن كثير" (1/ 426) من طريق عبيد الله بن الوليد الوصافي، عن عبد الله بن عبيد، عن عَلَى: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم قال .. ، فذكره هكذا مرفوعاً إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، لا من قول علي.
وإسناده ضعيف لضعف عبيد الله بن الوليد الوَصَّافي كما في "التقريب" (4381).
وعبد الله بن عبيد هو ابن عمير الليثي ثقة؛ لكنه لا يعرف له سماع من علي، وبين=(2/439)
وخرج سعيد (1) عن حذيفة في معنى الحديث (2) أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ بعد زمانكم هذا زماناً عَضُوضاً، يَعَضُّ الموسر على ما في يديه، وَلَمْ يُؤْمَرْ بِذَلِكَ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (3): {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (4)، ويَنْهَدُ (5) شِرَارُ خَلْقِ اللَّهِ يُبَايِعُونَ كُلَّ مُضْطَرّ، أَلا إِن بَيْعَ الْمُضْطَرِّ حَرَامٌ، الْمُسْلِمُ أَخو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يَخُونُهُ، إِن كَانَ عِنْدَكَ خَيْرٌ فعُدْ بِهِ عَلَى أَخيك، وَلَا تَزِدْه (6) هَلَاكًا إِلى هَلَاكِهِ".
وَهَذِهِ الأَحاديث الثَّلَاثَةُ ـ وإِن كانت أَسانيدها ليست هناك ـ: فهِيَ (7) مِمَّا يُعَضِّدُ (8) بَعْضُهُ بَعْضًا، وَهُوَ خَبَرٌ حَقٌّ في نفسه يشهد له الواقع.
_________
=وفاتيهما أكثر من سبعين سنة، وقد ذُكر في ترجمته أنه لم يسمع من عائشة، فعلي من باب أولى، والله أعلم. انظر "تهذيب الكمال" (15/ 259 ـ 261)، و"تهذيب التهذيب" (5/ 308).
(1) أخرجه سعيد بن منصور في "سننه" كما في "المحلى"، (9/ 22)، و"إعلام الموقعين" (3/ 170) عن هشيم، عن كوثر بن حكيم، عن مكحول؛ بلغني عن حذيفة ... ، فذكره.
وأخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره"، وأبو يعلى في "مسنده" كما في "تفسير ابن كثير" (5/ 510)، كلاهما من طريق هشيم، به. وسنده ضعيف جداً.
فكوثر بن حكيم قال عنه البخاري ويعقوب بن شيبة: منكر الحديث، وقال أحمد والدارقطني: متروك الحديث، وقال ابن عدي: عامة ما يرويه غير محفوظ. انظر: "لسان الميزان" (6/ 74 ـ 75).
ويضاف إليه جهالة الواسطة بين مكحول وحذيفة.
وضعفه ابن حزم، وقال ابن كثير: "هذا حديث غريب من هذا الوجه، وفي إسناده ضعف".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهذا الإسناد وإن لم تجب به حجة، فهو يعضد الأول، مع أنه خبر صدق، بل هو من دلائل النبوة؛ فإن عامة العينة إنما تقع من رجل مضطر إلى نفقة يضن عليه الموسر بالقرض ... " "الفتاوى الكبرى" (3/ 137).
(2) يعني: الحديث السابق.
(3) من قوله: " {وَلاَ تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} " إلى هنا سقط من (ت) و (خ) و (م).
(4) سورة سبأ: الآية (39).
(5) في (خ) يشبه أن تكون: "وينشد"، وفي (ت): "ويشهد". ومعنى: يَنْهَدُ: ينهض. انظر: "النهاية (5/ 133).
(6) في (م): "تزيده".
(7) قوله: "فهي" ليس في (خ) و (م)، وفي (غ): "فهذا".
(8) في (غ): "يعضده".(2/440)
قَالَ بَعْضُهُمْ (1): عَامَّةُ الْعِينَةِ (2) إِنَّمَا تَقَعُ مِنْ رَجُلٍ يُضْطَرُّ إِلى نَفَقَةٍ يَضِنّ عَلَيْهِ الْمُوسِرِ بالقرض، إِلا أَن يُربحه في المائة ما أَحب (3)، فيبيعه ثَمَنُ الْمِائَةِ بِضَعْفِهَا أَو نَحْوِ ذَلِكَ، ففسَّر بَيْعُ الْمُضْطَرِّ بِبَيْعِ العِينة، وَبَيْعُ الْعِينَةِ إِنما هُوَ الْعَيْنُ (4) بأَكثر مِنْهَا إِلى أَجل ـ حَسْبَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي الْفِقْهِيَّاتِ ـ، فَقَدْ صَارَ الشُّحُّ إِذاً سَبَبًا فِي دُخُولِ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ فِي البيوع.
فإِن قيل: كلامنا في البدعة، لا فِي فَسَادِ (5) الْمَعْصِيَةِ؛ لأَن هَذِهِ الأَشياء بُيُوعٌ فَاسِدَةٌ، فَصَارَتْ مِنْ بَابٍ آخَرَ لَا كَلَامَ لَنَا فِيهِ.
فَالْجَوَابُ: أَن مَدْخَلَ الْبِدْعَةِ هَاهُنَا مِنْ بَابِ الِاحْتِيَالِ الَّذِي أَجازه بَعْضُ النَّاسِ، فَقَدْ عَدَّهُ العلماءُ مِنَ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَاتِ، حَتَّى قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي كتابٍ (6) وضِعَ فِي الحِيَل (7): "من وضعَ هذا الكتاب (8) فَهُوَ كَافِرٌ، وَمَنْ سَمِعَ بِهِ فَرَضِيَ بِهِ فَهُوَ كَافِرٌ، وَمَنْ حَمَلَهُ مِنْ كُورة إِلَى كُورَةٍ (9) فَهُوَ كَافِرٌ، وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَرَضِيَ بِهِ فَهُوَ كَافِرٌ.
وَذَلِكَ أَنه وَقَعَ (10) فِيهِ احتيالات (11) بأَشياء مُنْكَرَةٍ، حَتَّى احْتَالَ عَلَى فِرَاقِ الزَّوْجَةِ زوجها بأَن تَرْتَدَّ".
_________
(1) هو شيخ الإسلام ابن تيمية في "إقامة الدليل" (3/ 137/الفتاوى الكبرى)، وعنه ابن القيم في "إعلام الموقعين" (3/ 170) مع اختلاف يسير.
(2) في (ر) و (غ): "الفتنة".
(3) في (ت): "ما يحب".
(4) في (ت): "إنما هو بيع العين"، لكن قوله: "بيع" ملحق، وليس في الأصل.
(5) في (خ) و (م): "في البدعة في فساد"، وكذا كان في (ت)، وألحق الناسخ في الهامش حرف "لا" قبل قوله: "فساد".
(6) في (ت): "في حق كتاب".
(7) نقله عن ابن المبارك أيضاً شيخُ الإسلام ابن تيمية في "الفتاوى الكبرى" (3/ 168 ـ 169).
وانظر: "الموافقات" للمصنف (3/ 124 ـ 125) و (5/ 188)، و"الفتاوى الكبرى" (3/ 170) و"الفتح" لابن حجر (12/ 326).
(8) قوله: "الكتاب" ليس في (خ) و (م) و (ت).
(9) كُوَرة ـ على وزن صُورة ـ: المدينة. انظر: "لسان العرب" (5/ 154).
(10) في (ر) و (غ): "وضع" بدل "وقع".
(11) في (خ) و (ت) و (م): "الاحتيالات".(2/441)
وقال إِسحاق بن رَاهَوَيْهِ عَنْ سُفْيَانَ (1) بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ: أَنَّ ابْنَ الْمُبَارَكَ قَالَ فِي قِصَّةِ بِنْتِ (2) أَبي رَوْح حَيْثُ أُمرت بِالِارْتِدَادِ، وَذَلِكَ فِي أَيام أَبي غَسَّانَ (3)، فَذَكَرَ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَهُوَ مُغَضَّبٌ (4): "أَحدثوا فِي الْإِسْلَامِ، وَمَنْ كَانَ أَمر بِهَذَا فَهُوَ كَافِرٌ، وَمَنْ كَانَ هَذَا الْكِتَابُ عِنْدَهُ أَو فِي بَيْتِهِ ليأْمر به أَو صَوَّبَهُ (5) وَلَمْ يأْمر بِهِ فَهُوَ (6) كَافِرٌ". ثُمَّ قَالَ ابْنُ المُبَارَكٍ: "مَا أَرى الشيطان كان (7) يُحْسِن مِثْلَ هَذَا، حَتَّى جاءَ هؤلاءِ فأَفادها منهم فأَشاعها حينئذ، أو كان (8) يحسنها ولم يَجِدْ (9) مَنْ يُمْضِيهَا فِيهِمْ، حَتَّى جاءَ هؤلاءِ" (10).
وإِنما وُضِعَ هَذَا الْكِتَابُ وأَمثاله لِيَكُونَ حُجَّةً عَلَى زَعْمِهِمْ فِي أَن يَحْتَالُوا لِلْحَرَامِ حَتَّى يصير حلالاً (11)، وللواجب حتى يصير (12) غَيْرَ وَاجِبٍ، وَمَا أَشبه ذَلِكَ مِنَ الأُمور الْخَارِجَةِ عَنْ نِظَامِ الدِّينِ، كَمَا أَجازوا نِكَاحَ الْمُحَلِّلِ، وَهُوَ احتيالٌ عَلَى رَدّ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا لِمَنْ طَلَّقَهَا، وأَجازوا إِسقاط فَرْضِ الزَّكَاةِ بِالْهِبَةِ المستعارة (13) (14)، وأَشباه ذلك فقد ظهر وجه
_________
(1) قوله: "عن سفيان" جاء مكرراً في (غ)، وفي (خ): "عن سفيان عن عبد الملك".
(2) في (ر) و (غ): "ابن".
(3) في (ت): "أيام بني غسان".
(4) في (ر) و (غ): "معضب" بالعين المهملة.
(5) في "الفتاوى الكبرى": "هَوِيَه".
(6) قوله: "فهو" ليس في (ر) و (غ).
(7) قوله: "كان" من (ر) و (غ) فقط.
(8) في (خ) و (م): "وكان" والمثبت من (ت) و"الفتاوى الكبرى" (3/ 168) وهو الأنسب، والله أعلم.
(9) علق رشيد رضا هنا بقوله: لعل الأصل: "ولو كان يحسنها لم يجد".اهـ. وسبب قوله هذا ما تقدم في التعليق السابق.
(10) من قوله: "فأفادها منهم" إلى هنا سقط من (ر) و (غ).
(11) في (م): "حتى يصير حراماً"، وعليها علامة، فالظاهر أنها صوبت في الهامش، ولم يظهر التصويب في التصوير.
(12) في (خ) و (م) و (ت): "يكون" بدل "يصير".
(13) في (ت): "المستعادة".
(14) بيَّن المصنف هذا في "الموافقات" (5/ 187) فقال:
" ... ومنها قاعدة الحيل؛ فإن حقيقتها المشهورة: تقديم عمل ظاهرِ الجواز لإبطال=(2/442)
الإِشارة فِي الأَحاديث الْمُتَقَدِّمَةِ الْمَذْكُورِ (1) فِيهَا الشُّحُّ، وأَنها (2) تتضمن ابتداعاً كما تتضمن معاصي جملة (3).
وأَما قبض الأَمانة فعبارة عن شياع الْخِيَانَةِ، وَهِيَ مِنْ سِمَاتِ أَهل النِّفَاقِ، وَلَكِنْ قد سَارَ (4) فِي النَّاسِ بَعْضُ أَنواعها تَشْرِيعًا، وحُكيت عَنْ قَوْمٍ مِمَّنْ يَنْتَمِي إِلى الْعِلْمِ، كَمَا حُكيت عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الأُمراءِ، فإِن أَهل الْحِيَلِ الْمُشَارِ إِليهم إِنما بَنَوْا فِي بَيْعِ الْعِينَةِ عَلَى إِخفاءِ مَا لَوْ أَظهروه لَكَانَ الْبَيْعُ فاسداً، فأَخفوه ليُظْهِرَ (5) صحته، فإِن بيعه الثوب بمئةٍ وَخَمْسِينَ إِلى أَجل (6) لَكِنَّهُمَا (7) أَظهرا وَسَاطَةَ الثَّوْبِ، وأَنه هُوَ الْمَبِيعُ وَالْمُشْتَرَى، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بِدَلِيلِ الواقع.
وكالذي (8) يَهَبُ مَالَهُ عِنْدَ رأْس الْحَوْلِ قَائِلًا بِلِسَانِ حاله أو مقاله (9): أَنا غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلى هَذَا (10) الْمَالِ، وأَنت أَحوج إِليه مِنِّي، ثُمَّ يَهَبُهُ، فإِذا جاءَ الْحَوْلُ الْآخَرُ قَالَ الْمَوْهُوبُ (11) لَهُ لِلْوَاهِبِ مِثْلَ المقالة الأُولى، والجميع فِي الْحَوْلَيْنِ (12) فِي تَصْرِيفِ الْمَالِ سواءٌ، أَليس هذا خلاف
_________
=حكم شرعي، وتحويله في الظاهر إلى حكم آخر؛ فمآل العمل فيها خرم قواعد الشريعة في الواقع، كالواهب ماله عند رأس الحول فراراً من الزكاة؛ فإن أصلَ الهبة على الجواز، ولو منع الزكاة من غير هبة لكان ممنوعاً؛ فإن كل واحد منهما ظاهر أمره في المصلحة أو المفسدة، فإذا جمع بينهما على هذا القصد؛ صار مآل الهبة المنع من أداء الزكاة ـ وهو مفسدة ـ ولكن هذا بشرط القصد إلى إبطال الأحكام الشرعية".
(1) في (خ) و (م): "المذكورة".
(2) في (ر) و (غ): "وإنما".
(3) علق رشيد رضا هنا بقوله: قوله: "جملة": الأظهر أن يقال: "جمة".اهـ.
(4) في (م): "قد صار" وفي (خ): "ولكن يوجد"، وفي (ت): "ولكن قد يوجد".
(5) كذا في جميع النسخ، وأثبتها رشيد رضا: "لتظهر"، والمعنى: ليظهر البائع صحته، وقد يكون صحيح العبارة: "ليظهروا".
(6) كذا في جميع النسخ، وعلق عليها رشيد رضا بقوله: أين خبر "إنّ"؟.اهـ.
أقول: لعل خبرها: جملة قوله: بمئةٍ وخمسين إلى أجل، فيكون المعنى: فإنه يبيع الثوب المئة بمئةٍ وخمسين إلى أجل.
(7) في (ت): "كأنهما" بدل "لكنهما".
(8) في (خ): "وكذلك".
(9) في (خ): "ومقاله".
(10) في (ت): "لهذا".
(11) في (ت) و (خ) و (م): "المهاب".
(12) في (خ) و (م): "والجميع في الحالين، بل في الحولين"، وليست الزيادة في أصل (ت)، وإنما ذكرت في الهامش على أنها في نسخة، وليس الأمر كذلك، بل هذا من=(2/443)
الأَمانة؟ وَالتَّكْلِيفُ مَنْ أَصله أَمانة فِيمَا بَيْنُ العبد وربه، فالعمل بخلافها (1) خِيَانَةٌ.
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ كَانَ يُجيز (2) الزِّينَةَ، وَيَرُدُّ مِنَ الْكَذِبِ، وَمَعْنَى الزِّينَةِ التَّدْلِيسُ بِالْعُيُوبِ، وَهَذَا خِلَافُ الأَمانة وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ.
وأَيضاً فإِن كثيراً من الأُمراءِ يَحْتَجِنُون (3) أَموال المسلمين لأنفسهم (4) اعْتِقَادًا مِنْهُمْ أَنها لَهُمْ دُونَ الْمُسْلِمِينَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَقِدُ نَوْعًا مِنْ ذَلِكَ فِي الْغَنَائِمِ المأَخوذة عُنْوةً مِنَ الْكُفَّارِ، فَيَجْعَلُونَهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ، ويَحْرِمون الْغَانِمِينَ (5) مِنْ (6) حُظُوظِهِمْ مِنْهَا تأْويلاً عَلَى الشَّرِيعَةِ بِالْعُقُولِ، فَوَجْهُ الْبِدْعَةِ هَا هَنَا ظَاهِرٌ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى ذَلِكَ فِي تَمْثِيلِ الْبِدَعِ الدَّاخِلَةِ فِي الضَّرُورِيَّاتِ فِي الْبَابِ قَبْلَ هَذَا.
وَيَدْخُلُ تَحْتَ هَذَا النَّمَطِ (7): كَوْنُ الْغَنَائِمِ تَصِيرُ (8) دُوَلاً (9)، وَقَوْلُهُ: "سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً وأُموراً (10) تُنْكِرُونَهَا"، ثُمَّ قَالَ: "أَدّوا إِليهم حقَّهم، وَسَلُوا الله حَقَّكُم" (11) (12).
_________
=الإضراب عن الخطأ، وتقدم مثل هذا.
(1) في (ت) و (خ) و (م): "بخلافه".
(2) في (خ) و (م) و (ت): "يحقر" بدل "يجيز".
(3) في (ت) و (خ): "يحتاجون"، وفي (م): "يحتحنون". ومعنى قوله: "يحتجنون" أي: يختصّون به لأنفسهم دون الناس، أو يقتطعون ويسرقون. انظر: "لسان العرب" (13/ 108 و109).
(4) في (خ) و (ت): "أموال الناس" بدل "أموال المسلمين لأنفسهم".
(5) في (م): "الغنائم"، وكتب في هامشها: "لعله: الغانمين".
(6) قوله: "من" ليس في (ر) و (غ).
(7) قوله: "النمط" ليس في (ت).
(8) قوله: "تصير" ليس في (ر) و (غ).
(9) يعني المصنف بكلامه هذا: حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي تقدم تخريجه ص (423 ـ 424)، وهو حديث ضعيف.
(10) في (خ): "وأمراء". وفي هامش (ت) ما نصه: "صوابه ـ والله أعلم ـ:،إِمْرَةً وأُمَرَاءَ".
(11) في (خ) يشبه أن تكون: "حقهم"، أو: "دقهم".
(12) تقدم تخريجه صفحة (419).(2/444)
وأَما تحليل الدماء والزنى (1) والحرير والغناء والربا (2) وَالْخَمْرِ: فَخَرَّجَ أَبو دَاوُدَ وأَحمد وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبي مَالِكٍ الأَشعري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنه سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ (3): "ليشربنَّ نَاسٌ مِنْ أُمتي الْخَمْرَ يُسَمّونها بِغَيْرِ اسْمِهَا". زَادَ ابْنُ مَاجَهْ: "يُعْزَفُ عَلَى رؤوسهم بِالْمَعَازِفِ والقَيْنات، يَخْسِفُ اللَّهُ بِهِمُ الأَرض، وَيَجْعَلُ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ" (4).
وَخَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبي عامر أو أبي مَالِكٍ (5) الأَشعري؛ قَالَ فِيهِ: "لِيَكُونَنَّ مِنْ أُمتي أَقوام (6) يَسْتَحِلّون الخَزَّ (7)، وَالْحَرِيرَ، وَالْخَمْرَ، وَالْمَعَازِفَ، ولينزلنَّ أَقوام إِلى جَنْبِ عَلَمٍ (8)، تَرُوحُ عَلَيْهِمْ سارِحَةٌ (9) لَهُمْ، يأْتيهم رَجُلٌ لِحَاجَةٍ فَيَقُولُونَ: ارْجِعْ إِلينا غداً، فيُبيِّتهم الله، ويضعُ العَلَم،
_________
(1) في (ت) و (خ) و (م): "والربا" بدل "والزنى".
(2) قوله: "والربا" من (ر) و (غ) فقط.
(3) قوله: "يقول" ليس في (خ)، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: ربما سقط من هنا كلمة: "يقول".اهـ.
(4) أخرجه أحمد (5/ 432)، والبخاري في "تاريخه" (1/ 305) و (7/ 221)، وأبو داود (3688)، وابن ماجه (4020)، وابن حبان (6758) وغيرهم من طريق حاتم بن حريث عن مالك بن أبي مريم، عن عبد الرحمن بن غنم حدثني أبو مالك الأشعري به.
ومالك بن أبي مريم وثقه ابن حبان وقال الذهبي: لا يعرف.
وللحديث شواهد كثيرة يصح بها أفاض بذكرها الشيخ الألباني في "الصحيحة" (90) فلا نطيل بذكرها.
(5) في (خ): "وأبي مالك".
(6) قوله: "أقوام" سقط من (م).
(7) كذا في جميع النسخ بالمعجمتين! وعلق عليه رشيد رضا بقوله: الرواية المشهورة بمهملتين، وسيأتي ذكر هذا اللفظ وتفسيره في حديث آخر في (ص88 و89).اهـ. يعني به رواية أبي داود الآتية، وتفسير المصنف للخَزّ. وهذه الرواية ـ "الخَزّ" بالمعجمتين ـ خطأ، والصواب: "الحِرَ" بالمهملتين. قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (10/ 55): ضبطه ابن ناصر بالحاء المهملة المكسورة، والراء الخفيفة، وهو الفَرْجُ، وكذا هو في معظم الروايات من "صحيح البخاري"، ولم يذكر عياض ومن تبعه غيره. وأغرب ابن التين فقال: إنه عند البخاري بالمعجمتين. وقال ابن العربي: هو بالمعجمتين تصحيف؛ وإنما رويناه بالمهملتين، وهو الفرج، والمعنى: يستحلون الزنى. اهـ.
(8) هو: الجبل كما سيأتي.
(9) في بعض نسخ البخاري: "يروح عليهم بسارحة".(2/445)
وَيَمْسَخُ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إِلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" (1).
وَفِي "سُنَنِ أَبي دَاوُدَ" (2): "لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمتي أَقوام يَسْتَحِلُّونَ الخزَّ وَالْحَرِيرَ"، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: "يَمْسَخُ مِنْهُمْ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إِلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ".
والخزُّ هُنَا: نَوْعٌ مِنَ الْحَرِيرِ، لَيْسَ الخَزَّ المأْذون فيه (3) الْمَنْسُوجُ مِنْ حَرِيرٍ (4) وَغَيْرِهِ.
وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: "وَلِيَنْزِلَنَّ (5) أَقْوَامٌ": يَعْنِي ـ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ـ مِنْ هؤلاءِ المُسْتَحِلّين، وَالْمَعْنَى: إِنَّ هؤلاءِ المُسْتَحِلّين يَنْزِلُ مِنْهُمْ أَقوام إِلى جَنْبِ عَلَمٍ ـ وَهُوَ (6) الْجَبَلُ ـ، فَيُوَاعِدُهُمْ رجل (7) إِلى الغد؛ فَيُبَيِّتُهُم الله
_________
(1) أخرجه البخاري (5590) تعليقاً فقال: "باب ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه". وقال هشام بن عمار، حدثنا صدقة، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، حدثنا عطية بن قيس الكلابي، حدثني عبد الرحمن بن غنم، حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري فذكره.
ووصله ابن حبان (6754)، والطبراني (3417)، والبيهقي (3/ 272) و (10/ 221)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (67/ 188)، والحافظ في "تغليق التعليق" (5/ 17 ـ 18).
قال الحافظ: وهذا حديث صحيح لا علة له، ولا مطعن له، وقد أعلّه أبو محمد ابن حزم بالانقطاع بين البخاري وصدقة بن خالد، وبالاختلاف في اسم أبي مالك، وهذا كما تراه قد سقته من رواية تسعة عن هشام متصلاً؛ فيهم مثل: الحسن بن سفيان، وعبدان، وجعفر الفريابي، وهؤلاء حفاظ أثبات.
وقال أيضاً: ثم إن الحديث لم ينفرد به هشام بن عمار ولا صدقة كما ترى.
وقال أيضاً: وله عندي شواهد أُخر، كرهت الإطالة بذكرها، وفيما أوردته كفاية لمن عقل وتدبر، والله الموفق. اهـ. "تغليق التعليق" (5/ 22).
وانظر: "تهذيب السنن" لابن القيم (5/ 270 ـ 272)، و"السلسلة الصحيحة" (91).
(2) (4039).
(3) في (خ) و (م): "فيها".
(4) في (ر) و (غ): "الحرير".
(5) في (ر) و (غ): "لينزلن" بلا واو.
(6) قوله: "علم وهو" سقط من (ر)، وفي موضعه علامة لحق، ولم يظهر اللحق في التصوير، ويبدو أنه ليس هناك لحق، أو أنه تآكل من هامشها؛ لأن ناسخ (غ) بيض لهاتين الكلمتين، وهي منسوخة من (ر).
(7) قوله: "رجل" ليس في (خ).(2/446)
ـ وَهُوَ أَخذ الْعَذَابِ لَيْلًا ـ، وَيَمْسَخُ مِنْهُمْ آخَرِينَ؛ كما في حديث أَبي داود، وكما (1) في الحديث قَبْلُ (2)؛ حَيْثُ قَالَ (3): يَخْسِفُ اللَّهُ بِهِمُ الأَرض، وَيَمْسَخُ منهم قردة وخنازير. وكأَن الخسف ها هنا (4) هو التَّبْيِيتُ الْمَذْكُورَ فِي الْآخَرِ.
وَهَذَا نَصٌّ فِي أَن هؤلاءِ الَّذِينَ اسْتَحَلّوا هَذِهِ الْمَحَارِمَ كَانُوا متأَوِّلين فِيهَا؛ حَيْثُ زَعَمُوا [أَن] (5) الشَّرَابَ الَّذِي شَرِبُوهُ لَيْسَ هُوَ الْخَمْرُ، وإِنما لَهُ اسْمٌ آخَرُ، إِما النَّبِيذُ أَو غَيْرُهُ، وإِنما الْخَمْرُ عَصِيرُ الْعِنَبِ النِّيْءِ، وَهَذَا رأْي طَائِفَةٍ مِنَ الْكُوفِيِّينَ، وَقَدْ ثَبَتَ أَن كُلَّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ (6).
قَالَ بَعْضُهُمْ (7): وإِنما أَتى (8) عَلَى هؤلاءِ حَيْثُ اسْتَحَلُّوا الْمُحَرَّمَاتِ بِمَا ظَنُّوهُ مِنِ انْتِفَاءِ الِاسِمِ، وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلى وُجُودِ الْمَعْنَى المُحَرِّم وَثُبُوتِهِ. قَالَ: وَهَذِهِ بِعَيْنِهَا شُبْهَةُ (9) الْيَهُودِ فِي اسْتِحْلَالِهِمْ بيع الشَّحْم بعد جَمْلِه (10)،
_________
(1) في (خ): "كما".
(2) في (م): "قيل".
(3) قوله: "قال" سقط من (خ).
(4) في (ر) و (غ): "الخسف هنا".
(5) ما بين معقوفين سقط من جميع النسخ، والسياق يقتضيه، وقد أثبته أيضاً محمد رشيد رضا.
(6) أخرجه مسلم (2003) مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا؛ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم: "كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام ... " الحديث.
(7) هو شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ، وقوله هذا في "إقامة الدليل" من "الفتاوى الكبرى" (3/ 129)، ومن الجدير بالذكر أن المصنف رحمه الله قد استفاد في كثير من مباحث هذا الفصل ـ وهو الحيل ـ من كلام شيخ الإسلام رحمه الله حيث نقل كثيراً من عباراته، والمصنف إنما لم يصرح باسمه "اتقاءً لما وقع في الخُلُوف من عداوته، والنفرة منه" كما سبق نقله عن الشيخ بكر أبو زيد في تقديمه لـ" الموافقات " (ا/و)، والله أعلم.
(8) في (ت): "أوتي".
(9) في (ت): "هي شبهة".
(10) أي: بعد إذابته.
والحديث أخرجه البخاري في "صحيحه" (2223 و3460)، ومسلم (1582)، كلاهما من رواية ابن عباس، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم؛ أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "لعن الله اليهود؛ حُرِّمت عليهم الشحوم، فجَمَلوها، فباعوها".
وأخرجه البخاري (2224)، ومسلم (1583) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: "قاتل الله اليهود، حرم الله عليهم الشحوم، فباعوها وأكلوا أثمانها".(2/447)
واستحلال (1) أَخذ الحِيْتان يومَ الأَحد (2) بِمَا أَوقعوها بِهِ يَوْمَ السَّبْتِ فِي الشِّبَاك والحَفائِر مِنْ فِعْلِهِمْ يَوْمَ الْجُمْعَةِ؛ حَيْثُ قَالُوا: لَيْسَ هَذَا بصيدٍ، ولا عملٍ في (3) يوم السبت، وليس هذا باستباحة الشحم (4) (5).
_________
(1) قوله: "بيع الشحم بعد جمله، واستحلال" سقط من (خ) و (م) و (ت).
(2) في (خ): "الأخذ".
(3) قوله: "في" ليس في (خ) و (ت).
(4) في (خ) و (ت) و (م): "الشح"، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: كذا! ولعله "السبت"، والعبارة كلها مضطربة ليست سالمة من التحريف. اهـ.
(5) الحديث أخرجه الحاكم في "المستدرك" (2/ 322 ـ 323) من طريق الإمام الشافعي؛ أخبرني يحيى بن سُلَيم؛ ثنا ابن جريج، عن عكرمة؛ قال: دخلت على ابن عباس رضي الله عنهما وهو يقرأ في المصحف قبل أن يذهب بصره وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك يا ابن عباس جعلني الله فداك؟ قال: فقال: هل تعرف أَيْلَة؟ قلت: وما أيلة؟ قال: قرية كان بها ناس من اليهود، فحرّم الله عليهم الحيتان يوم السبت، فكانت حيتانهم تأتيهم يوم سبتهم شُرَّعاً بيضاء سمان كأمثال المخاض بأفنائهم وأبنياتهم، فإذا كان في غير يوم السبت لم يجدوها ولم يدركوها إلا في مشقة ومؤونة شديدة، فقال بعضهم لبعض ـ أَوْ مَنْ قال ذلك منهم ـ: لعلّنا لو أخذناها يوم السبت وأكلناها في غير يوم السبت! ففعل ذلك أهل بيت منهم، فأخذوا فشووا، فوجد جيرانهم ريح الشوي، فقالوا: والله ما نرى إلا أصاب بني فلان شيء، فأخذها آخرون، حتى فشا ذلك فيهم وكثر ... ، الحديث بطوله.
قال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه".
ومن طريق الحاكم أخرجه البيهقي في "السنن" (10/ 92).
وأخرج ابن جرير الطبري في "تفسيره" (13/ 188 رقم 15271) قطعة منه من طريق سلام بن سالم الخزاعي، عن يحيى بن سليم، وليس فيها موضع الشاهد.
والحديث شديد الضعف جداً؛ له علّة خفيت على الحاكم، وهي أن ابن جريج لم يسمع من عكرمة كما نص عليه المزي في "تهذيب الكمال" (18/ 342).
وأكّد ذلك: أن عبد الرزاق أخرجه في "تفسيره" (2/ 240) عن ابن جريج؛ قال: حدثني رجل، عن عكرمة ... ، فذكره بطوله.
ومن طريق عبد الرزاق أخرجه ابن جرير في الموضع السابق برقم (15272).
وأخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (8447 و8455 و8457) مفرَّقاً، فقال: ذكر أحمد بن محمد بن عثمان الدمشقي؛ ثنا محمد بن شعيب بن شابور؛ أخبرني عبد الله بن المبارك: أنه سمع أبا بكر الهُذلي وعبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي يحدِّثان عن عكرمة مولى ابن عباس ... ، فذكره.
فأوضحت هذه الرواية أن أبا بكر الهذلي يروي الحديث عن عكرمة، والهذلي هذا=(2/448)
بَلِ الَّذِي يَسْتَحِلّ الْخَمْرَ زَاعِمًا أَنه (1) لَيْسَ خمراً، مع علمه (2) بأَن معناه معنى الْخَمْرَ، وَمَقْصُودُهُ مَقْصُودُ الْخَمْرُ، أَفسدُ (3) تأْويلاً؛ مِنْ جِهَةِ أَن أَهل الْكُوفَةِ مِنْ أَكثر (4) النَّاسِ قِيَاسًا (5)؛ فَلَئِنْ كَانَ مِنَ الْقِيَاسِ مَا هُوَ حَقٌّ، فإِن قِيَاسَ الْخَمْرِ المَنْبوذةِ عَلَى الْخَمْرِ العَصِيرةِ مِنَ الْقِيَاسِ فِي مَعْنَى الأَصل، وَهُوَ مِنَ الْقِيَاسِ الجَليّ؛ إِذ لَيْسَ بَيْنَهُمَا مِنَ الْفَرْقِ مَا يُتوهَّم أَنه مُؤَثِّرٌ فِي التَّحْرِيمِ.
فإِذا كَانَ هؤلاءِ الْمَذْكُورُونَ فِي الْحَدِيثِ إِنما شَرِبُوا الْخَمْرَ اسْتِحْلَالًا لَهَا؛ لَمَّا ظَنُّوا أَن المُحَرَّمَ مجردُ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ اللَّفْظُ، وَظَنُّوا أَن لَفْظَ الْخَمْرِ لَا يَقَعُ عَلَى غَيْرِ عَصِيرِ الْعِنَبِ النِّيْءِ، فشُبهتهم فِي اسْتِحْلَالِ الْحَرِيرِ والمعازف أَظهر، فإِنه قد (6) أُبيح الحرير للنساءِ (7) مطلقاً (8)،
_________
=من شيوخ ابن جريج، مع كونه من أقرانه؛ كما في "تهذيب الكمال" (33/ 159). فبما أن ابن جريج معروف بالتدليس، وهو لم يسمع من عكرمة، ورواية عبد الرزاق للحديث عنه أوضحت أنه يرويه عن واسطة أبهمه، عن عكرمة، ورواية ابن المبارك أوضحت أن أبا بكر الهذلي يروي هذا الحديث عن عكرمة، والهذلي هذا من شيوخ ابن جريج، فالذي يغلب على الظن أنه هو الذي أبهمه ابن جريج ودلّسه، وهو أخباري متروك الحديث كما في "التقريب" (8059).
وأما رواية الحاكم: ففيها يحيى بن سُلَيم الطائفي، وهو صدوق سيِّء الحفظ كما في "التقريب" (7663)، والله أعلم.
(1) قوله: "أنه" سقط من (خ).
(2) في (ت): "مع العلم".
(3) في (خ): "فسد".
(4) قوله: "من أكثر" مكرر في (ت).
(5) كذا جاءت العبارة في جميع النسخ، وتقدم أن المصنف أخذها عن شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "إقامة الدليل على إبطال التحليل" (ص128 ـ 129) المطبوع في الجزء الثالث من "الفتاوى الكبرى"، ونص العبارة هناك: "أفسد تأويلاً من جهة أن الخمر اسم لكل شراب أسكر كما دلّت عليه النصوص، ومن جهة أن أهل الكوفة من أكثر الناس قياساً".
(6) قوله: "قد" من (ر) و (غ) فقط.
(7) قوله: "للنساء" سقط من (خ).
(8) لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم ـ وقد كان بإحدى يديه حرير وبالأخرى ذهب ـ: "هذان حرامان على ذكور أمتي حلال لإناثهم".
أخرجه عبد بن حميد (80)، وابن أبي شيبة (8/ 351)، وأحمد (1/ 96)، والنسائي (8/ 160 ـ 161 رقم 5144 و5145 و5146 و5147)، وابن ماجه (3595) =(2/449)
وَلِلرِّجَالِ (1) فِي بَعْضِ الأَحوال (2)، فَكَذَلِكَ (3) الْغِنَاءُ والدَّفُّ قَدْ أُبيح فِي العُرْسِ وَنَحْوِهِ (4)، وأُبيح مِنْهُ الحِدَاء (5) وَغَيْرُهُ، وَلَيْسَ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنْ دلائل التحريم ما في الخمر (6)، فظهر أَن القوم الَّذِينَ (7) يُخْسَفُ بِهِمْ وَيُمْسَخُونَ (8)، إِنما فُعِلَ (9) ذَلِكَ بهم (10) من جهة التأْويل الفاسد الذي
_________
=وغيرهم، من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وفي إسناده ضعف واختلاف، وفي الباب عن جمع من الصحابة منهم: عمر، وابن عباس، وأبو موسى، وعبد الله بن عمرو، وزيد بن أرقم، وواثلة بن الأسقع، وعقبة بن عامر، رضي الله عنهم أجمعين.
وأسانيدها لا تخلو من مقال.
قال الشوكاني في "نيل الأوطار" (2/ 99): "وهذه الطرق متعاضدة بكثرتها، ينجبر الضعف الذي لم تخل منه واحدة منها".
وصححه بمجموع طرقه الشيخ الألباني رحمه الله في "الإرواء" (277)، وانظر: "نصب الراية" (4/ 222).
قال النووي في "شرح مسلم" (14/ 32): "هذا الذي ذكرناه من تحريم الحرير على الرجال وإباحته للنساء هو مذهبنا ومذهب الجماهير".
(1) في (ر) و (غ): "وللنساء" بدل "وللرجال".
(2) أخرج البخاري في "صحيحه" (1919) و (5839)، ومسلم (2076) من حديث أنس رضي الله عنه: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم رخص للزبير وعبد الرحمن في لبس الحرير لحكَّة بهما.
(3) في (ت): "وكذلك".
(4) أخرج البخاري (5162) من حديث عائشة رضي الله عنها: أنها زَفّت امرأة إلى رجل من الأنصار، فقال نبي الله صلّى الله عليه وسلّم: "يا عائشة! ما كان معكم لهو؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو".
وأخرج أيضاً (5147) من حديث خالد بن ذكوان قال: قالت الرُّبَيِّع بنت معوِّذ بن عفراء: جاء النبي صلّى الله عليه وسلّم يدخل حين بُني عليَّ، فجلس على فراشي كمجلسك مني، فجعلت جويريات لنا يضربن بالدَّف ويندبن من قتل من آبائي يوم بدر، إذ قالت إحداهن: وفينا نبي يعلم ما في غد، فقال: دعي هذه وقولي بالذي كنت تقولين".
(5) أخرج البخاري (6149) ومسلم (2323) واللفظ له من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بعض أسفاره وغلام أسود يقال له أنجشة يحدو. فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "يا أنجشة! رويدك سوقاً بالقوارير".
(6) في (ر) و (غ): "التحريم في الخمر".
(7) في (خ) و (ت) و (م): "فظهر ذم الذين".
(8) قوله: "ويمسخون" ليس في (ر) و (غ).
(9) في (ر) و (غ): "يفعل".
(10) في (ت): "إنما فعل بهم ذلك".(2/450)
اسْتَحَلُّوا بِهِ الْمَحَارِمَ بِطَرِيقِ الحِيْلَةِ، وأَعرضوا (1) عَنْ مَقْصُودِ الشَّارِعِ وَحِكْمَتِهِ فِي تَحْرِيمِ هَذِهِ الأَشياء.
وَقَدْ خَرَّجَ ابنُ بَطَّة (2) عَنِ الأَوزاعي: أَن (3) النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يأْتي على الناس زمانٌ يَسْتَحِلّون الرِّبَا (4) بِالْبَيْعِ". قَالَ بَعْضُهُمْ: يَعْنِي الْعِينَةَ.
ورُوي في استحلال الزنا (5) حديثٌ رَوَاهُ إِبراهيم الْحَرْبِيُّ، عَنْ أَبي ثَعْلَبَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (6): "أَوَّلُ دينكم نبوّةٌ ورحمة، ثم ملك وَرَحْمَةٌ (7)، ثُمَّ مُلْكٌ وجَبْرِيَّة، ثُمَّ مُلْكٌ عَضُوضٌ يُسْتَحَلُّ فيه الحِر والحرير" (8)؛ يريد
_________
(1) في (خ) و (ت) و (م): "واعترضوا".
(2) لأبي عبد الله ابن بطَّة رحمه الله جزء في إبطال الحيل كما في "الفتاوى الكبرى" (3/ 530) لشيخ الإسلام ابن تيمية. وهذا الحديث أخذه المصنف عن ابن تيمية، فإنه ذكره في "إقامة الدليل" (3/ 130/ الفتاوى الكبرى) هكذا عن ابن بطة، ثم قال: "وهذا المرسل بيِّن في تحريم هذه المعاملات التي تسمّى بيعاً في الظاهر، وحقيقتها ومقصودها حقيقة الربا، والمرسل صالح للاعتضاد باتفاق الفقهاء، وله من المسند ما يشهد له، وهي الأحاديث الدالّة على تحريم العينة ... " إلخ.
وعن شيخ الإسلام ابن تيمية أخذه تلميذه ابن القيم، فذكره في "إعلام الموقعين" (2/ 166) و"مختصر السنن" (5/ 107).
(3) في (ر) و (غ): "عن" بدل "أن".
(4) في (خ): "يستحلون فيه الربا".
(5) في (خ) و (م) و (ت): "الربا" بدل "الزنا" والمثبت من (ر) و (غ)، وهو الصواب الموافق لسياق الحديث، ويوافق ما في "إقامة الدليل" (3/ 130/ الفتاوى الكبرى).
(6) في (ت): "أنه قال".
(7) قوله: "ثم ملك ورحمة" ليس في (خ) و (م) و (ت).
(8) كذا في (ر) و (غ)، وهو الموافق لما في "بيان الدليل". وفي (م): "الحرير والحر"، وفي (ت): "والخز" بدل "والحرير"، ويشبه أن تكون هكذا في (خ)، أو: "والخمر". والحديث أخرجه الطيالسي (225) ومن طريقه البيهقي في "السنن" (8/ 159)، و"الدلائل" (6/ 340)، و"الشعب" (5/ 16 ـ 17). وأخرجه أبو يعلى (873)، والطبراني (1/ 156 ـ 157 رقم 367) و (20/ 53 رقم 91)، من طريق ليث بن أبي سليم، عن عبد الرحمن بن سابط، عن أبي ثعلبة، عن أبي عبيدة ومعاذ رضي الله عنهما.
وأخرجه البزار (4/ 109) رقم (1283) عن أبي عبيدة رضي الله عنه فقط.
وسنده ضعيف لضعف ليث بن أبي سليم كما في "التقريب" (5721)، وعبد الرحمن بن=(2/451)
اسْتِحْلَالَ الْفُرُوجِ الْحَرَامِ. والحِر ـ بِكَسْرِ الحاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَالرَّاءِ الْمُخَفَّفَةِ (1) ـ: الفَرْجُ.
قَالُوا: وَيُشْبِهُ ـ وَاللَّهُ أَعلم ـ أَن يُرَادَ بِذَلِكَ: ظُهُورُ اسْتِحْلَالِ نِكَاحِ المُحَلِّل، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ اسْتِحْلَالَ الْفُرُوجِ المُحَرّمة، فإِن الأُمة لَمْ يَسْتَحِلّ أَحدٌ مِنْهَا الزِّنَا الصَّرِيحَ، وَلَمْ يُرِدْ بِالِاسْتِحْلَالِ مُجَرّدَ الْفِعْلِ، فإِن هذا لم يزل موجوداً (2) فِي النَّاسِ، ثُمَّ لَفْظُ الِاسْتِحْلَالِ إِنما يُستعمل فِي الأَصل فِيمَنِ اعْتَقَدَ الشَّيْءَ حَلَالًا، وَالْوَاقِعُ كَذَلِكَ، فإِن هَذَا المُلْكَ العَضُوضَ الَّذِي كَانَ بَعْدَ المُلْكِ والجَبْرِيَّة (3) قَدْ كَانَ فِي أَواخر عصر التابعين، وفي تِلْكَ الأَزمان صَارَ فِي أُولي الأَمر مَنْ يُفْتِي بِنِكَاحِ المُحَلِّل وَنَحْوِهِ، وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذلك من يفتي به أَصلاً.
_________
=سابط لم يدرك أبا ثعلبة كما في "تهذيب الكمال" (33/ 168)، و"الإصابة" (7/ 325).
وأخرجه أبو عمرو الداني في "الفتن وأشراط الساعة" (334) من طريق إسحاق بن أبي يحيى الكعبي، عن المعتمر بن سليمان، عن ليث، عن عبد الرحمن بن سابط عن النبي صلّى الله عليه وسلّم مرسلاً.
وإسحاق هذا هالك كما في "الميزان" (1/ 205).
وأخرجه الدارمي (2/ 155)، والبزار (4/ 108) رقم (1282)، والطبراني في "الكبير" (22/ 323 رقم 591) و"مسند الشاميين" (1369) من طريق مكحول، عن أبي ثعلبة، عن أبي عبيدة، وإسناده منقطع، فمكحول لم يدرك أبا ثعلبة. انظر "تهذيب الكمال" (28/ 466).
وله شاهد بنحوه من حديث حذيفة رضي الله عنه دون قوله: "يستحل فيه الحر والحرير".
أخرجه الطيالسي (439)، وعنه أحمد (4/ 273).
وشاهد آخر من حديث عمر رضي الله عنه أخرجه الباغندي في "مسند عمر" صفحة (6). انظر: "السلسة الضعيفة" (3055). والحديث صححه الألباني رحمه الله في "الصحيحة" رقم (5)، وقوله: "يستحل فيه الحر والحرير" صحيح كما سبق، والله أعلم.
(1) في (ر) و (غ): "الخفيفة".
(2) في (خ) و (م) و (ت): "معمولاً" بدل "موجوداً".
(3) في (خ): "والخيرية".(2/452)
ويؤيد ذلك: أَن (1) فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمَشْهُورِ: أَن رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم لعن آكل الربا، ومُوكِلَهُ (2)، وشاهِدَيه، وَكَاتِبَهُ، والمُحَلِّلَ، والمُحَلَّلَ لَهُ (3).
وَرَوَى أَحمد (4) عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا
_________
(1) في (خ): "أنه".
(2) قوله: "وموكله" سقط من (خ).
(3) أخرجه الطيالسي في "مسنده" (401)، وعبد الرزاق في "المصنف" (5100 و10793 و15350)، وأحمد في "المسند" (3881 و4090 و4428)، والنسائي (5102)، وأبو يعلى في "مسنده" (5241)، وابن حبان في "صحيحه" (3252)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (1726)، جميعهم من طريق الأعمش، عن عبد الله بن مرَّة، عن الحارث بن عبد الله الأعور، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه؛ قال: إن آكل الربا، وموكله، وشاهديه، وكاتبه، والواشمة، والمستوشمة للحُسْن، والمُسْتَحِلّ، والمُسْتَحَلّ له، ولاوي الصدقة، والمرتدّ أعرابياً بعد هجرته؛ ملعونون على لسان محمد يوم القيامة. اهـ، وهذا لفظ الطيالسي.
وسنده ضعيف لضعف الحارث الأعور؛ كما في "التقريب" (1036)، وفي سنده اختلاف تجده عند الدارقطني في "العلل" (692)، وصوب الدارقطني منه هذا الوجه الذي ذكرته.
وأخرج مسلم في "صحيحه" (1597) من طريق علقمة بن قيس، عن عبد الله بن مسعود؛ قال: لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم آكل الربا، وموكله. قال علقمة: قلت: وكاتبه، وشاهديه؟ قال: إنما نحدِّث بما سمعنا. اهـ.
فهذا الحديث فيه دلالة على ضعف رواية الحارث الأعور السابقة، وجميع الروايات التي رويت عن ابن مسعود بذكر "وكاتبه وشاهديه"؛ لأنه يخبر هنا أنه ما سمعه من النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وإنما تصح هذه اللفظة من غير طريقه، فقد أخرجه مسلم أيضاً (1598) من طريق جابر بن عبد الله رضي الله عنهما؛ قال: لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه، وقال: "هم سواء".
وأما لعن المحلِّل والمحلَّل له: فقد روي من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، قال: لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الواشمة والمتوشّمة، والواصلة والموصولة، والمحلِّل والمحلَّل له، وآكل الربا ومطعمه.
أخرجه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 448 و462 رقم 4283 و4284 و4403)، والنسائي في "سننه" (3416)، كلاهما من طريق سفيان الثوري، عن أبي قيس عبد الرحمن بن ثروان، عن هزيل بن شرحبيل، عن عبد الله بن مسعود، به.
وسنده حسن، وانظر التعليق الآتي.
(4) أخرجه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 402 رقم 3809)، وأبو يعلى في "مسنده"=(2/453)
ظهر في قوم الربا والزنى (1) إِلا أَحلُّوا بأَنفسهم عقابَ اللَّهِ".
فَهَذَا يُشْعِرُ بأَن التحليل من الزنا؛ كما يشعر بأَن (2) الْعِينَةَ مِنَ الرِّبَا.
وَقَدْ جاءَ عَنِ ابْنِ عباس رضي الله عنهما ـ موقوفاً ومرفوعاً ـ قَالَ: "يأْتي عَلَى النَّاسِ زمانٌ يُستحَلُّ فِيهِ خمسةُ أَشياء بخمسة أَشياء (3): يَسْتَحِلُّونَ الخمرَ بأَسماء يُسَمّونها بِهَا، والسُّحْتَ بالهديَّة، والقتلَ بالرَّهْبة، وَالزِّنَا بِالنِّكَاحِ، وَالرِّبَا بِالْبَيْعِ" (4)، فإِن الثلاثة (5) المذكورة أَولاً قد بُيِّنَتْ (6)، وأَما استحلال (7) السُّحْت الَّذِي هُوَ العَطِيَّة لِلْوَالِي وَالْحَاكِمِ وَنَحْوِهِمَا باسم
_________
= (4981)، ومن طريقه ابن حبان في "صحيحه" (4410)، كلاهما من طريق شريك، عن سماك، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لعن الله آكل الربا، وموكله، وشاهديه، وكاتبه". قال: وقال: "ما ظهر في قوم الربا والزنى إلا أحلّوا بأنفسهم عقاب الله عز وجل".
وفي سنده شريك بن عبد الله النخعي، القاضي، وهو صدوق، إلا أنه يخطئ كثيراً كما في "التقريب" (2802)، فالحديث ضعيف لأجله.
ويدلّ على ضعفه: ما تقدم في الحديث السابق من اعتراض عبد الله بن مسعود على رواية: "وكاتبه وشاهديه"، وإخباره بأنه ما سمعها من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والله أعلم.
(1) قوله: "والزنى" سقط من (ر) و (غ).
(2) في (خ) و (ت) و (م): "أن".
(3) قوله: "بخمسة أشياء" سقط من (خ) و (ت).
(4) نقل المصنف هذا الحديث من "إقامة الدليل" (3/ 131/ الفتاوى الكبرى) لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فإنه قال: "روي موقوفاً على ابن عباس، ومرفوعاً إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم ... "، ثم ذكر الحديث، ثم قال: "وهذا الخبر صدق، فإن الثلاثة المقدّم ذكرها قد بُيِّنت ... " إلخ.
ولم أجده من طريق ابن عباس، ولكن أخرجه الخطابي في "غريب الحديث" (1/ 218) من طريق سويد، عن ابن المبارك، عن الأوزاعي، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، به.
وسنده معضل، فالأوزاعي من أتباع التابعين.
وقد ذكره الديلمي في "الفردوس" (3459) عن أبي أمامة، ولم أقف على سنده.
(5) في "إقامة الدليل" لشيخ الإسلام ابن تيمية المطبوع ضمن "الفتاوى الكبرى" (3/ 131): "وهذا الخبر صدق؛ فإن الثلاثة"، وهذا النص منقول من هناك كما تقدم.
(6) في (خ) و (م) و (ت): "سُنّتْ"، والمثبت من (ر) و (غ)، وهو الموافق لما في "إقامة الدليل".
(7) قوله: "استحلال" سقط من (خ) و (ت).(2/454)
الهدية: فهو ظاهر، وأما وَاسْتِحْلَالُ (1) الْقَتْلِ بِاسْمِ الإِرهاب الَّذِي يُسَمِّيهِ (2) ولاةُ الظُّلْمِ سِيَاسَةَ، وأُبَّهَةَ الْمُلْكِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ: فَظَاهِرٌ أَيضاً (3)؛ وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ أَنواع شَرِيعَةِ (4) الْقَتْلِ الْمُخْتَرَعَةِ.
وَقَدْ وَصَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَوَارِجَ بِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الْخِصَالِ (5)، فَقَالَ: "إِن مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمًا (6) يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ لا يجاوز حَنَاجِرَهُمْ، يَقْتُلُونَ أَهل الإِسلام، ويَدَعون أَهل الأَوثان، يَمْرُقون مِنَ الدِّين (7) كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ" (8).
وَلَعَلَّ هؤلاءِ المُرادون (9) بُقُولُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا ... " (10)، الْحَدِيثَ (11)؛ يَدُلُّ عَلَيْهِ تَفْسِيرُ الْحَسَنِ قَالَ: يُصْبِحُ مُحَرِّماً لِدَمِ أَخيه وَعِرْضِهِ، وَيُمْسِي مُسْتَحِلاًّ ... ، إِلى آخِرِهِ (12).
وقد وَضَعَ القتل أيضاً (13) شَرْعًا مَعْمُولًا بِهِ عَلَى غَيْرِ (14) سُنَّةِ اللَّهِ، وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم: المُتَسَمِّي بِالْمَهْدِيِّ الْمَغْرِبِيِّ (15) الَّذِي زَعَمَ أَنه المُبَشَّرُ بِهِ فِي الأَحاديث، فَجَعَلَ الْقَتْلَ عِقَابًا فِي ثَمَانِيَةَ عَشَرَ صِنْفاً، ذَكَرُوا مِنْهَا: الْكَذِبَ، وَالْمُدَاهَنَةَ، وأَخَذَهم أَيضاً بِالْقَتْلِ فِي تَرْكِ امْتِثَالِ أَمر مَنْ يُسْتَمَعُ
_________
(1) في (خ) و (ت): "فهو ظاهر واستحلال"، وفي (م): "فهو ظاهر باستحلال".
(2) في (ر) و (غ): "تسميه"، والمثبت موافق لما في "إقامة الدليل".
(3) إلى هنا انتهى نقله من "إقامة الدليل".
(4) في (ر) و (غ): "شرعية".
(5) قوله: "الخصال" في موضعه بياض في (ت).
(6) في (غ): "قوم".
(7) في (ر) و (غ): "الإسلام" بدل "الدين".
(8) أخرجه البخاري (3344) ومسلم (1064) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(9) في (ر) و (غ): "مرادون"، وفي (ت): "هم المرادون".
(10) تقدم تخريجه صفحة (422).
(11) قوله: "الحديث" ليس في (ت).
(12) تقدم تخريجه صفحة (422 ـ 423).
(13) قوله: "أيضاً" من (ر) و (غ) فقط.
(14) قوله: "غير" ليس في (غ) و (ر).
(15) هو محمد بن عبد الله بن تومرت. انظر أخباره في "سير أعلام النبلاء" (19/ 539)، وسبق (ص84 فما بعد) أن ساق المصنف بعض أخباره وبدعه التي أحدثها.(2/455)
أَمْرُهُ، وَبَايَعُوهُ عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ يَعِظُهم (1) فِي كُلِّ وَقْتٍ ويُذَكِّرُهم، وَمَنْ لَمْ يَحْضُرْ أُدِّب، فإِن تَمَادَى قُتِلَ، وكلُّ مَنْ لَمْ (2) يتأَدَّبْ بِمَا أَدَّبَ بِهِ ضُرب بِالسَّوْطِ المَرَّة وَالْمَرَّتَيْنِ، فإِن ظَهَرَ مِنْهُ عِنادٌ فِي تَرْكِ امْتِثَالِ الأَوامر قُتِلَ، وَمَنْ داهَنَ عَلَى أَخيه، أَو أَبيه، أَو ابنه (3)، أَو مَنْ يَكْرُمُ عَلَيْهِ (4)، أَو المُقَدَّم عَلَيْهِ (5)؛ قُتِلَ، وكُلُّ مَنْ شَكَّ (6) فِي عِصْمَتِهِ قُتِلَ، أَو شَكّ فِي (7) أَنه المهديُّ المُبَشَّرُ بِهِ، وكُلُّ من خالف أَمره؛ أَمر أَصحابه فَعَرَّوْهُ (8)، فَكَانَ أَكثرُ تأْديبه القتلَ ـ كَمَا تَرَى ـ، كَمَا أَنه كَانَ مِنْ رأْيه أَن لَا يُصَلَّى خَلَفَ إِمام أَو خَطِيبٍ يأْخذ أَجراً عَلَى الإِمامة أَو الْخَطَابَةِ، وَكَذَلِكَ لُبْسُ الثِّيَابِ الرَّفِيعَةِ ـ وإِن كَانَتْ حَلَالًا ـ، فَقَدْ حَكَوْا عَنْهُ قَبْلَ أَن يَسْتَفْحِلَ أَمرُه (9) أَنه تَرَكَ الصَّلَاةَ خَلْفَ خَطِيبِ أَغْمَات (10) بِذَلِكَ السَّبَبِ، فَقَدِم خطيبٌ آخر فجاء (11) في ثيابٍ حَفِيلَةٍ (12) تُبَايِنُ التواضع ـ زعموا (13) ـ، فتَرَكَ الصلاة خلفه أَيضاً (14).
وَكَانَ مِنْ رأْيه: تركُ الرأْي، واتباعُ مَذَاهِبِ (15) الظاهرية. قال
_________
(1) في (غ): "يعظمهم".
(2) قوله: "لم" سقط من (ر) و (غ)، وفي موضعه بياض في (غ) وعلامة لحق في (ر)، ولم يظهر اللحق في الهامش.
(3) قوله: "أو ابنه" من (ر) و (غ) فقط.
(4) قوله: "عليه" سقط من (خ) و (ت).
(5) قوله: "عليه" سقط من (غ).
(6) في (ر) و (غ): "يشك".
(7) قوله: "في" ليس في (ر) و (غ).
(8) في (ر) و (غ): "بغزوه"، وفي موضعها بياض في (ت).
(9) قوله: "أمره" سقط من (غ).
(10) أَغْمات: ناحية في بلاد البربر من أرض المغرب قرب مراكش. "معجم البلدان" (1/ 225).
(11) قوله: "فجاء" ليس في (خ) و (م) و (ت).
(12) التحفيل: التزيين. انظر "القاموس المحيط" (1/ 1273).
(13) علق رشيد رضا على هذا الموضع بقوله: كلمة "زعموا" جملة معترضة تؤذن بالبراءة مما يُحكى عنهم، وأفصح منه أن يقال: بزعمهم؛ كما قال تعالى: {فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا}.اهـ.
(14) قوله: "أيضاً" ليس في (خ) و (ت).
(15) في (ت): "مذهب".(2/456)
العلماءُ (1): وَهُوَ (2) بِدْعَةٌ ظَهَرَتْ فِي الشَّرِيعَةِ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ (3). وَمِنْ رأْيه: أَن التَّمَادِيَ عَلَى ذَرَّةٍ مِنَ الْبَاطِلِ كَالتَّمَادِي عَلَى الْبَاطِلِ كُلِّه.
وذَكَر فِي كِتَابِ "الإِمامة" أَنه هُوَ الإِمام، وأَصحابه هُمُ الْغُرَبَاءُ الَّذِينَ قِيلَ (4) فِيهِمْ: "بدأَ الإِسلام (5) غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بدأَ (6)، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ" (7).
وَقَالَ فِي الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ: "جاءَ اللَّهُ بِالْمَهْدِيِّ، وَطَاعَتُهُ صَافِيَةٌ نَقِيَّة، لَمْ يُرَ مِثْلُهَا قَبْلُ وَلَا بَعْدُ، وَأَنَّ بِهِ قَامَتِ السَّمَوَاتُ والأَرض، وَبِهِ تَقُومُ، وَلَا ضِدّ لَهُ، وَلَا (8) مِثْلَ، ولا نِدّ". انتهى (9).
وكذب (10)! فالمهدي: عيسى ابن مريم (11) عَلَيْهِ السَّلَامُ (12).
وَكَانَ يأْمرهم بِلُزُومِ الحِزْب بَعْدَ صلاة الصبح، وبعد المغرب (13)، وأَمر (14) الْمُؤَذِّنِينَ إِذا طَلَعَ الْفَجْرُ أَن يُنَادُوا: "أَصبح وَلِلَّهِ الْحَمْدُ" (15)، إِشعاراً ـ زَعَمُوا ـ بأَن الْفَجْرَ قَدْ طَلَعَ لإِلزام الطَّاعَةِ، وَلِحُضُورِ الْجَمَاعَةِ، وللغُدُوِّ لِكُلِّ ما يؤمرون به.
_________
(1) قوله: "العلماء" ليس في (ر) و (غ).
(2) أي: مذهب الظاهرية.
(3) قوله: "بعد المائتين" سقط من (غ).
(4) قوله: "قيل" سقط من (م).
(5) في (ت) "بُدئ الدين"، وذكر بهامشها أن في نسخة: "الإسلام" بدل "الدين".
(6) في (ت): "كما بُدئ".
(7) أخرجه مسلم (145).
(8) قوله: "ولا" سقط من (ر) و (غ).
(9) قوله: "انتهى" في موضعه بياض في (ت).
(10) في (ت): "وقد كذب".
(11) قوله: "ابن مريم" من (ر) و (غ) فقط.
(12) قال المصنف رحمه الله كلامه هذا بناء على حديث: "لا مهدي إلا عيسى".
أخرجه ابن ماجه (4039) وغيره، وهو حديث ضعيف جداً، ومتنه منكر كما بينته في تخريجي لـ"مختصر استدراك الذهبي على مستدرك الحاكم" لابن الملقن (7/ 3276 رقم 1095)، فانظره إن شئت.
(13) في (ت): "وبعد صلاة المغرب".
(14) في (خ) و (م) و (ت): "فأمر".
(15) سبق الكلام على هذه البدعة صفحة (87 و88).(2/457)
وَلَهُ (1) اخْتِرَاعَاتٌ وَابْتِدَاعَاتٌ غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا، وَجَمِيعُ ذلك راجع (2) إِلى أَنه قَائِلٌ (3) برأْيه فِي الْعِبَادَاتِ وَالْعَادَاتِ، مع زعمه أَنه غير قَائِلٌ بالرأْي؛ وَهُوَ التَّنَاقُضُ بِعَيْنِهِ، فَقَدْ ظَهَرَ إِذاً (4) جَرَيَانُ تِلْكَ الأَشياء عَلَى الِابْتِدَاعِ.
وأَما كَوْنُ الزَّكَاةِ مَغْرَمًا: فَالْمَغْرَمُ مَا (5) يَلْزَمُ أَداؤه مِنَ الدُّيُونِ وَالْغَرَامَاتِ، كَانَ (6) الْوُلَاةُ يُلْزِمُونَهَا النَّاسَ بشيءٍ مَعْلُومٍ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلى قِلَّةِ مَالِ الزَّكَاةِ أَو كَثْرَتِهِ، أَو قُصُورِهِ عَنِ النِّصَابِ أَو عَدَمِ قُصُورِهِ، بَلْ يأْخذونهم بِهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ إِلى الْمَوْتِ، وَكَوْنُ هَذَا بِدَعَةً ظَاهِرٌ.
وأَما ارْتِفَاعُ الأَصوات فِي الْمَسَاجِدِ: فَنَاشِئٌ عَنْ بِدْعَةِ الْجِدَالِ فِي الدِّينِ، فإِن مِنْ عادة قراءَة العلم وإِقرائه، وسماعه وإِسماعه (7) أَن يَكُونَ فِي الْمَسَاجِدِ، وَمِنْ آدَابِهِ (8) أَن لَا تُرْفَعَ فِيهِ الأَصوات فِي غَيْرِ الْمَسَاجِدِ، فَمَا ظَنُّك بِهِ فِي الْمَسَاجِدِ؟ فَالْجِدَالُ فِيهِ زِيَادَةُ الْهَوَى؛ فإِنه غَيْرُ مَشْرُوعٍ فِي الأَصل. فَقَدْ جَعَلَ العلماءُ مِنْ عَقَائِدِ الإِسلام: تَرْكَ الْمِرَاءِ وَالْجِدَالِ فِي الدِّينِ، وَهُوَ الْكَلَامُ فِيمَا لَمْ يُؤْذَنْ (9) فِي الْكَلَامِ فِيهِ؛ كَالْكَلَامِ فِي الْمُتَشَابِهَاتِ مِنَ الصِّفَاتِ والأَفعال وَغَيْرِهِمَا (10)، وَكَمُتَشَابِهَاتِ الْقُرْآنِ. ولأَجل (11) ذَلِكَ جاءَ (12) فِي الْحَدِيثِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنها قَالَتْ: تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ ... } (13) الآية،
_________
(1) في (غ): "ولعله".
(2) قوله: "راجع" سقط من (خ) و (م) و (ت)، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: كذا في الأصل! والمعنى الوارد يدل على أنه قائل برأيه. اهـ.
(3) في (ت): "قال".
(4) في (غ): "أيضاً" بدل "إذاً".
(5) قوله: "ما" سقط من (خ) و (ت).
(6) في (ت): "كأن".
(7) قوله: "وإسماعه" ليس في (ر) و (غ).
(8) في (ر) و (غ): "أدبه".
(9) في (خ) و (م): "يأذن".
(10) انظر تعليقي على كلام الشاطبي (ص54)؛ حيث عدّ نصوص الصفات من المتشابه، وهو مذهب المفوِّضة من نفاة الصفات.
(11) في (ر) و (غ): "لأجل" بلا واو.
(12) قوله: "جاء" سقط من (ر) و (غ).
(13) سورة آل عمران: الْآيَةَ (7).(2/458)
قَالَ: "فإِذا رَأَيْتُم الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيهِ فَهُمُ الَّذِينَ عَنى اللَّهُ، فَاحْذَرُوهُم" (1).
وَفِي الْحَدِيثِ: "مَا ضلَّ قومٌ بَعْدَ (2) هُدًى إِلا أُوتوا الْجَدَلَ" (3).
وجاءَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنه قَالَ: "لَا تُماروا فِي الْقُرْآنِ، فَإِنَّ المِراء (4) فِيهِ كُفْرٌ" (5).
_________
(1) في (ر) و (غ): "فاحذرهم". والحديث أخرجه البخاري في "صحيحه" (4547)، ومسلم (2665).
(2) قوله: "بعد" مكرر في (ت).
(3) في (ت): "الجدال". والحديث أخرجه أحمد (5/ 252 و256)، والترمذي (3253)، وابن ماجه (8)، والروياني في "مسنده" (2/ 274)، والطبري في "تفسيره" (21/ 629)، والعقيلي (1/ 286)، والطبراني في "الكبير" (8/ 277)، والسهمي في "تاريخ جرجان" (1/ 73)، والحاكم (2/ 447 ـ 448) من طرق عن الحجاج بن دينار، عن أبي غالب، عن أبي أمامة، به.
قال الترمذي: "حديث حسن صحيح، إنما نعرفه من حديث حجاج بن دينار، وحجاج ثقة مقارب الحديث، وأبو غالب اسمه حَزَوَّر".
وقال الحاكم: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
والحديث حسنه الشيخ الألباني في "صحيح الجامع" (5633)، والله أعلم.
(4) في (ر) و (غ): "مراء".
(5) حديث صحيح ورد عن عدد من الصحابة، وأحسنها حديثا أبي هريرة وأبي جهيم بن الحارث.
أولاً: أما حديث أبي هريرة رضي الله عنه: فيرويه عنه أبو سلمة بن عبد الرحمن، وروي عن أبي سلمة من خمس طرق:
1 ـ طريق محمد بن عمرو بن علقمة: أخرجه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 286 و424 و475 و503 و528 رقم 7848 و9479 و10143 و10539 و10834)، ومن طريقه أبو داود في "سننه" (4603)، وأخرجه البزار في "مسنده" (2313/كشف)، وابن حبان في "صحيحه" (1464/الإحسان)، والطبراني في "الأوسط" (2478)، والآجري في "الشريعة" (140)، والهروي في "ذم الكلام" (165)، وابن بطة في "الإبانة" (791 و792)، واللالكائي في "شرح أصول الاعتقاد" (181 و182)، والحاكم في "المستدرك" (2/ 223)، وأبو نعيم في "الحلية" (6/ 134 و215)، و (8/ 213)، وفي "أخبار أصبهان" (1/ 272 و292)، و (2/ 123)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (2059).
قال الهروي ـ بعد أن رواه ـ: "وهذا الحديث قد اضطُرِبَ فيه على أبي سلمة من=(2/459)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
_________
=وجوه: فرواه محمد بن عمرو هكذا، وليس هو بالمحفوظ، وإن كان أشهر في الناس، فإن الحفاظ ـ منصور بن المعتمر، وسفيان الثوري، وابن أبي زائدة ـ خالفوه فيه ... "، ثم أخذ في ذكر الخلاف، وخلاصته ترجيحه لرواية من رواه منقطعاً ليس فيه ذكر لأبي سلمة، وهو إعلال عجيب لم أجد من سبقه إليه، أو وافقه عليه! وقد ذكر الدارقطني هذا الحديث في "العلل" (1790)، وذكر الاختلاف فيه، وذكر رواية محمد بن عمرو هذه، ولم يعلّها، وهي من أجود طرق هذا الحديث، وباقي الطرق توافقها ـ كما سيأتي ـ، ولا تعلّها.
2 ـ طريق عمر بن أبي سلمة، عن أبيه: أخرجه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 478 رقم 10202) من طريق شيخيه وكيع وعبد الرحمن بن مهدي، كلاهما عن سفيان الثوري، عن سعد بن إبراهيم، عن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "جدال في القرآن كفر".
وكذا أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (2060) من طريق محمد بن يوسف الفريابي وأبي أحمد الزبيري، كلاهما عن سفيان، به.
ورواه الهروي في "ذم الكلام" (169) من طريق محمد بن المثنى، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان الثوري، فأسقط أبا سلمة من الإسناد، وجعل الهروي هذه الرواية من الروايات التي أعلّ بها رواية محمد بن عمرو؛ كما سبق نقله عنه، مع أن الإمام أحمد رواه ـ كما سبق ـ عن عبد الرحمن بن مهدي بإثبات أبي سلمة في إسناده، فرواية الهروي هذه خطأ بلا شك، والوهم إما من محمد بن المثنى، أو ممن دونه.
وأخرجه الإمام أحمد أيضاً (2/ 494 رقم 10414) عن شيخه حجاج بن محمد الأعور، عن شيبان بن عبد الرحمن النحوي، عن منصور بن المعتمر، عن سعد بن إبراهيم، عن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة، به.
وكذا أخرجه الدارقطني في "العلل" (9/ 317) من طريق آدم بن أبي إياس، عن شيبان؛ بذكر أبي سلمة في إسناده.
وكذا أخرجه الهروي (166) من طريق موسى بن سهل الرملي، عن آدم بن أبي إياس، ثم حكم عليها بأنها وهم، وصوّب رواية الباغندي، عن طاهر بن خالد، عن آدم؛ بإسقاط أبي سلمة من الإسناد، مع أن الدارقطني أخرجه فيما سبق من طريق شيخه عبد الله بن محمد بن سعيد الحمال، عن طاهر بن خالد؛ بإثبات أبي سلمة، ولم يذكر الدارقطني في رواية منصور هذه أن أحداً أسقط منها أبا سلمة، وهذا يؤكد خطأ رواية الهروي، وخطأ الهروي في إعلال هذا الحديث.
لكن هناك اختلاف آخر في رواية منصور هذه، وهو: أن ابن أبي شيبة أخرج هذا الحديث في "المصنف" (10/ 529 رقم 10218/الهندية) فقال: حدثنا يحيى بن يعلى=(2/460)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
_________
=
التيمي، عن منصور، عن سعد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة ... ، فذكره هكذا بإسقاط عمر بن أبي سلمة.
ومن طريق ابن أبي شيبة رواه الآجري في "الشريعة" (141).
ورواه أبو يعلى في "مسنده" (5897) من طريق عثمان بن أبي شيبة، عن يحيى بن يعلى كذلك، ورواية يحيى بن يعلى هذه شاذة، والصواب رواية شيبان، وهذا الذي رجحه الدارقطني كما سيأتي، ويؤكد ذلك: أن عمرو بن أبي قيس رواه عن منصور كرواية شيبان؛ بزيادة عمر بن أبي سلمة؛ كما ذكر الدارقطني.
وقد أخرج رواية عمرو بن أبي قيس هذه الهروي (166)، لكن ليس فيها ذكر لأبي سلمة، وأرى أنه لا يُعَوَّل على هذه الطرق التي أخرجها الهروي بإسقاط أبي سلمة؛ لمخالفتها لما ذكره الأئمة ورووه.
وأخرج الحديثَ أيضاً الإمامُ أحمد في "المسند" (3/ 258 رقم 7508) من طريق زكريا بن أبي زائدة، عن سعد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، به هكذا بإسقاط عمر بن أبي سلمة.
وأخرجه الحاكم في "المستدرك" (2/ 223) من طريق عبد الملك بن محمد الرقاشي، عن أبي عاصم الضحَّاك بن مخلد النبيل، عن شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة، به.
وهذه الطريق غريبة جداً! ولو كان هذا الحديث مرويًّا من طريق شعبة لما تفرَّد به الحاكم المتأخر، والظاهر أن الخطأ فيه من عبد الملك الرقاشي، فإنه قد اختلط.
تنبيه: وقع في "المستدرك" المطبوع: "سعيد" بدل "شعبة"، وهذا يحصل كثيراً في الكتب بسبب تشابه الرسم، وقد نقله الحافظ ابن حجر في "إتحاف المهرة" (16/ 148 ـ 149 رقم 20534)، على الصواب.
وللحديث طرق أخرى عن سعد بن إبراهيم سيأتي ذكرها في كلام الدارقطني.
فهذه الطرق تبيِّن أنه اختُلِفَ في هذا الحديث على سعد بن إبراهيم، فرواه سفيان الثوري عنه، عن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة، ورواه زكريا بن أبي زائدة عن سعد، فأسقط عمر بن أبي سلمة، ورواه منصور بن المعتمر فاختُلِفَ عليه، فرواه يحيى بن يعلى عنه، عن سعد بن إبراهيم بإسقاط عمر بن أبي سلمة، ورواه شيبان بن عبد الرحمن وعمرو بن أبي قيس عن منصور، عن سعد بزيادة عمر، فترجح روايتهما على رواية يحيى بن يعلى، وترجح رواية منصور هذه ورواية سفيان الثوري على رواية زكريا بن أبي زائدة، وهذا الذي رجحه الدارقطني، فإنه سئل عن هذا الحديث في "العلل" (1790)؟ فقال: "يرويه سعد بن إبراهيم ومحمد بن عمرو، واختُلِفَ فيه على سعد: فرواه منصور بن المعتمر عن سعد، واختلف عنه: فرواه أبو المحيّاة يحيى بن يعلى عن منصور، عن سعد، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.=(2/461)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
_________
=وخالفه عمرو بن أبي قيس وشيبان، فروياه عن منصور، عن سعد، عن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة. وكذلك روي عن أيوب السَّختياني، عن سعد بن إبراهيم، عن أبي سلمة. وكذلك رواه الثوري عن سعد بن إبراهيم، عن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه. واختُلِفَ عن ليث بن أبي سُليم: فرواه أبو كدينة يحيى بن المهلّب عن ليث، عن سعد بن إبراهيم، عن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة، وأرسله معتمر والطفاوي عن ليث، فقالا عنه: عن سعد، عن عمر بن أبي سلمة، عن أبي هريرة، وقال زهير وزائدة وجرير: عن ليث، عن سعد، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، وكذلك قال زكريا بن أبي زائدة وسليمان التيمي: عن سعد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. وقال إبراهيم [يعني: ابن سعد] عن أبيه: عن أبي سلمة ـ أو: عن حميد ـ، مرسلاً عن النبي صلّى الله عليه وسلّم. والصحيح قول الثوري ومن تابعه".اهـ.
وبناء على ما تقدم فالحديث صحيح بمجموع طريقي محمد بن عمرو وعمر بن أبي سلمة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، ويتقوى بالطرق الأخرى الآتية.
3 ـ طريق أبي حازم سلمة بن دينار، عن أبي سلمة؛ لا أعلمه إلا عن أبي هريرة: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: "نزل القرآن على سبعة أحرف، المراء في القرآن كفر ـ ثلاث مرات ـ، فما عرفتم منه فاعملوا، وما جهلتم منه فردّوه إلى عالمه".
أخرجه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 300 رقم 7989)، والنسائي في "الكبرى" (8093)، وابن جرير في "تفسيره" (1/ 21 رقم 7)، وأبو يعلى في "مسنده" (6016)، ومن طريقه ابن حبان في "صحيحه" (74/الإحسان)، وأخرجه الدارقطني في "الأفراد" (5576/أطرافه)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (11/ 26).
وذكر ابن كثير في "تفسيره" (1/ 348) طريق أبي يعلى، ثم قال: "وهذا إسناد صحيح، ولكن فيه علّة بسبب قول الراوي: لا أعلمه إلا عن أبي هريرة".
ولكن هذه العلة الناشئة من شك الراوي مرتفعة بالطرق السابقة التي ترجح أنه عن أبي هريرة، وقد صححه ابن حبان بإخراجه له في "صحيحه".
4 ـ طريق عروة بن الزبير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: "المراء في القرآن كفر".
أخرجه الطبراني في "الأوسط" (4212)، و"الصغير" (574)، والخطيب في "تاريخه" (11/ 136)، كلاهما من طريق محمد بن حمير، عن شعيب بن أبي الأشعث، عن هشام بن عروة، عن أبيه، به.
قال الطبراني: "لم يرو هذا الحديث عن هشام بن عروة إلا شعيب بن أبي الأشعث، تفرد به محمد بن حمير".
وأعلّ أبو حاتم الرازي هذا الطريق بقوله في "العلل" (1714): "هذا حديث=(2/462)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
_________
=مضطرب ليس هو صحيح الإسناد، عروة عن أبي سلمة لا يكون، وشعيب مجهول".
5 ـ طريق الزهري، عن سعيد وأبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "المراء في القرآن كفر".
أخرجه الطبراني في "الأوسط" (3666)، والصغير (496) من طريق يحيى بن المتوكل، عن عنبسة الحدّاد، عن الزهري، به، ثم قال: "لم يرو هذا الحديث عن الزهري إلا عنبسة الحداد".
وذكر محقق "علل الدارقطني" (7/ 280) أن البزار أخرجه في "مسنده" (ق31/ 2/مسند أبي هريرة)، من طريق يحيى بن المتوكل، ثم قال: "وهذا الحديث لا نعلم أحداً رواه عن الزهري، عن سعيد وأبي سلمة، عن أبي هريرة إلا عنبسة، وهو رجل ليس بالقوي".
وسئل عنه الدارقطني في "العلل" (1351)؟ فقال: "يرويه عنبسة بن مهران أبو محمد، عن الزهري، واختُلِفَ عنه: فرواه يحيى بن المتوكل وحفص بن عمر النجار أبو عمران، عن عنبسة، عن الزهري، عن سعيد وأبي سلمة، عن أبي هريرة، ورواه أبو عاصم [يعني: النبيل] وعبد الله [يعني: ابن رجاء] وبحر السَّقَّاء، عن عنبسة، عن الزهري، عن سعيد وحده، عن أبي هريرة. ورواه أبو مسلم الكجي، عن أبي عاصم موقوفاً، وغيره يرويه عن أبي عاصم مرفوعاً، وهو محفوظ عن أبي عاصم، وعنبسة ضعيف".
ثانياً: أما حديث أبي الجُهَيم: فأخرجه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 169 ـ 170 رقم 17542)، وابن جرير الطبري في "تفسيره" (1/ 43 ـ 44 رقم 41)، والهروي في "ذم الكلام" (175)، وابن عبد البر في "التمهيد" (8/ 281 ـ 282)، جميعهم من طريق سليمان بن بلال، عن يزيد بن خصيفة، عن بسر بن سعيد؛ قال: حدثني أبو جهيم: أن رجلين اختلفا في آية من القرآن، فقال هذا: تلقّيتها من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال الآخر: تلقيّتها من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فسألا النبي صلّى الله عليه وسلّم؟ فقال: "القرآن يُقرأ على سبعة أحرف، فلا تماروا في القرآن، فإن مراء في القرآن كفر". واللفظ للإمام أحمد، ومن طريقه أخرجه ابن بطة في "الإبانة" (801).
وأخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" (ص337)، والحارث بن أبي أسامة في "مسنده" (724/بغية الباحث)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (2069)، والخطيب في "تالي التلخيص" (29)، والبغوي في "شرح السنّة" (1228)، جميعهم من طريق إسماعيل بن جعفر، عن يزيد بن خصيفة، عن مسلم بن سعيد مولى ابن الحضرمي، عن أبي جهيم، به.
وجاء في رواية أبي عبيد: "عن يزيد بن خصيفة، عن مسلم بن سعيد مولى ابن الحضرمي، وقال غيره: عن بسر بن سعيد، عن أبي جهيم".=(2/463)
وَعَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ الْقُرْآنَ يصدِّق بعضُه بَعْضًا (1)، فَلَا تُكَذِّبوا بَعْضَهُ (2) بِبَعْضِ، ما علمتم منه فاقبلوه، وما لم تعلموا منه فَكِلُوه إِلى عالمه" (3).
_________
=
وأخرجه الحارث أيضاً مرة أخرى (725) من طريق خالد بن القاسم، عن إسماعيل بن جعفر، عن يزيد بن خصيفة، عن بسر بن سعيد مولى الحضرمي، عن أبي جهيم. وأخشى أن يكون هذا خطأ من خالد بن القاسم؛ لأن الذين رووه عن إسماعيل بن جعفر ـ ومنهم أبو عبيد ـ؛ قالوا: عن مسلم بن سعيد.
وقد أشار البخاري في "تاريخه" (7/ 262 رقم 1106) لهذا الاختلاف بين روايتي سليمان بن بلال وإسماعيل بن جعفر، فقال: "مسلم بن سعيد مولى ابن الحضرمي: عن أبي جهيم، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: أنزل القرآن على سبعة أحرف، قاله إسماعيل بن جعفر عن يزيد بن خصيفة، وقال سليمان بن بلال: عن يزيد بن خصيفة، عن بسر بن سعيد، عن أبي جهيم".
وهذا الاختلاف يحتمل أحد أمرين:
1 ـ ترجيح أحد الوجهين.
2 ـ الحكم بصحة الوجهين، وإلى هذا مال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله، فقال في تعليقه على "تفسير ابن جرير" (1/ 44): "للحديث طريقان: إسماعيل بن جعفر يرويه عن يزيد بن خصيفة، عن مسلم بن سعيد، وسليمان بن بلال يرويه عن يزيد بن خصيفة، عن بسر بن سعيد، وهو أخو مسلم بن سعيد"، وذكر أن أبا عبيد أشار أثناء الإسناد إلى الرواية الأخرى، دون أن يذكر إسنادها، ثم قال: "فيكون يزيد بن خصيفة سمع الحديث من الأخوين: مسلم وبسر ابني سعيد".اهـ.
فإن كان الحديث محفوظاً عن مسلم وبسر ابني سعيد كليهما، أو عن بسر وحده فهو صحيح الإسناد، وإن كان محفوظاً عن مسلم وحده فهو شاهد قوي لحديث أبي هريرة السابق، وقد صحح سنده الحافظ ابن كثير في "فضائل القرآن" (ص19)، والله أعلم.
(1) قوله: "بعضاً" ليس في (غ).
(2) في (م): "بعضها".
(3) أخرجه عبد الرزاق في "جامع معمر" (11/ 216 رقم 20367/المصنف) عن معمر، عن الزهري، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده؛ قال: سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قوماً يتدارؤون في القرآن، فقال ... ، فذكره.
ومن طريق عبد الرزاق أخرجه الإمام أحمد في "المسند" (2/ 185 رقم 6741)، والبخاري في "خلق أفعال العباد" (218)، والطبراني في "الأوسط" (2995)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (2062)، و"المدخل إلى السنن" (790).=(2/464)
وقال عليه السلام: "اقرؤوا الْقُرْآنَ مَا ائْتَلَفَتْ عَلَيْهِ قلوبُكم، فإِذا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ فَقُومُوا عَنْهُ" (1).
وَخَرَّجَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ قَالَ: إِياكم وَالْخُصُومَاتِ فِي الدِّينِ! فإِنها تُحْبِطُ الأَعمال (2).
وَقَالَ النَّخْعِيُّ فِي قوله تعالى: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} (3) قال: الجدال والخصومات في الدين (4).
_________
=وأخرجه الإمام أحمد أيضاً (2/ 178 و195 ـ 196 رقم 6668 و6845 و6846)، وابن ماجه (85) كلاهما من طريق داود بن أبي هند، عن عمرو بن شعيب، به.
وأخرجه أحمد أيضاً (2/ 181 رقم 6702) من طريق أبي حازم سلمة بن دينار، عن عمرو بن شعيب، به.
وسنده حسن لأجل الخلاف في عمرو بن شعيب.
وأصل الحديث أخرجه مسلم في "صحيحه" (2666) من طريق عبد الله بن رباح الأنصاري؛ أن عبد الله بن عمرو قال: هجّرت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوماً، فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يُعرف في وجهه الغضب، فقال: "إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب".
(1) أخرجه البخاري (5060)، ومسلم (2667) من حديث جندب بن عبد الله البجلي.
(2) أخرجه سعيد بن منصور في "سننه" (723) ومن طريقه الهروي في "ذم الكلام" (2/ 162/أ).
وأخرجه ابن جرير في "تفسيره" (10/ 137 رقم 11600)، والآجري في "الشريعة" (1/ 188)، وابن بطة في "الإبانة" (2/ 501 ـ 502، رقم 562، 564)، وأبو نعيم في "الحلية" (2/ 301)، واللالكائي في "شرح أصول الاعتقاد" (1/ 145 ـ 146 رقم (221)، وعنه الأصبهاني في "الحجة في بيان المحجة" (1/ 313 ـ 314)، جميعهم من طريق العوام بن حوشب عن معاوية به.
وإسناده صحيح.
ولفظ أبي نعيم وابن بطة (563): "كان يقال: الخصومات ... "، وقد استوفيت الكلام عليه في تخريجي لـ"سنن سعيد بن منصور".
(3) سورة المائدة: الآية (64).
(4) أخرجه سعيد بن منصور في "سننه" (722)، وابن جرير (10/ 137 رقم 11599) وابن بطة (2/ 500 رقم 558)، والهروي في "ذم الكلام" (2/ 168/ب)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (2/ 114)، وإسناده صحيح.(2/465)
وَقَالَ مَعْنُ بْنُ عِيسَى (1): انْصَرَفَ مَالِكٌ يَوْمًا إِلى الْمَسْجِدِ وَهُوَ متكئٌ عَلَى يَدِي، فَلَحِقَهُ رجل يقال له: أَبو الجويرة (2) يُتَّهم بالإِرجاءِ، فَقَالَ: يَا أَبا عَبْدِ اللَّهِ! اسمع مني شيئاً أُكلمك به، وأُحاجُّك، وأُخبرك برأْيي. فَقَالَ لَهُ: احْذَرْ أَن أَشهد عَلَيْكَ! قَالَ: وَاللَّهِ! مَا أُريد إِلا الْحَقَّ، اسْمَعْ مِنِّي (3)، فإِن كَانَ صَوَابًا فَقُلْ بهِ، أَو فَتَكَلَّم. قَالَ (4): فإِن غَلَبَتْنِي؟ قَالَ: اتَّبِعْني. قَالَ: فإِن غَلَبْتُكَ؟ قَالَ اتَّبعتك (5). قَالَ (4): فإِن جاءَ رجل فكلمناه فغَلَبنا؟ قال: اتبعناه. فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ: يَا عَبْدَ اللَّهِ! بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا بِدِينٍ وَاحِدٍ، وأَراك تَنْتَقِلُ.
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: مَنْ جَعَلَ دِينَهُ غَرَضاً لِلْخُصُومَاتِ أَكثر التَّنَقُّل (6).
وَقَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ الْجِدَالُ في الدين بشيءٍ (7).
_________
(1) هذه الحكاية نقلها المصنف من "ترتيب المدارك" للقاضي عياض (2/ 38)، وذكرها الذهبي في "السير" (8/ 106) عن القاضي عياض.
وأسندها الآجري في "الشريعة" (117) عن الفريابي، عن إبراهيم بن المنذر الحزامي، عن معن بن عيسى.
وسندها صحيح.
ومن طريق الآجري أخرجها ابن بطة في "الإبانة" (583)، ولها عنده طريق أخرى (584) يرويها الوليد بن مسلم، عن مالك. ولها طرق أخرى مختصرة انظرها في "ذم الكلام" للهروي (4/ 113 ـ 114رقم 869 ـ 871)، و"شرح أصول الاعتقاد" للالكائي (293 و294)، "والحلية" لأبي نعيم (6/ 324)، و"شعب الإيمان" للبيهقي (14/ 531 ـ 352).
(2) في (م) و (ت) و (خ): "الجديرة"، والمثبت من (ر) و (غ)، وهو موافق لبعض النسخ الخطية لـ"ترتيب المدارك" كما ذكر المحقق. وجاءت الكلمة مضطربة في مصادر التخريج التي ذكرتها.
(3) قوله: "مني" ليس في (ر) و (غ).
(4) في (ت): "قال له مالك".
(5) في (ر) و (غ): "أتبعك".
(6) أخرجه الدارمي (1/ 91)، والآجري في "الشريعة" (1891)، وابن بطة (566، 568، 569، 577، 578، 580)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (1770) واللالكائي (216).
وإسناده صحيح.
(7) ذكره ابن عبد البر في "الانتقاء" (ص34)، ويشهد له ما تقدم عنه قبل هذا.(2/466)
وَالْكَلَامُ فِي ذَمِّ الْجِدَالِ (1) كَثِيرٌ، فإِذا كَانَ مَذْمُومًا؛ فَمَنْ جَعَلَهُ مَحْمُودًا وعَدَّه (2) مِنَ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ بإِطلاق فَقَدِ ابْتَدَعَ فِي الدِّينِ. وَلَمَّا كَانَ اتباعُ الْهَوَى أَصلَ الِابْتِدَاعِ؛ لَمْ يُعْدَم صاحبُ الْجِدَالِ أَن يماريَ ويطلبَ الغَلَبة، وَذَلِكَ مَظِنَّة رَفْعِ الأَصوات.
فإِن قِيلَ: عددتَ رَفْعَ الأَصوات من فروع الجدل وخواصِّه، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَرَفْعُ الأَصوات قَدْ يَكُونُ في العلم، ولذلك كُرِه رفع الصوت (3) فِي الْمَسْجِدِ (4)، وإِن كَانَ فِي الْعِلْمِ أَو فِي غَيْرِ الْعِلْمِ.
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي "الْمَبْسُوطِ": رأَيت مَالِكًا يَعِيبُ عَلَى أَصحابه رَفْعَ (5) أَصواتهم فِي الْمَسْجِدِ (6).
وَعَلَّلَ ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ مسلمة بعلَّتين:
إِحداهما: أَنه يجب أَن يُنَزَّهَ الْمَسْجِدَ عَنْ مِثْلِ هَذَا؛ لأَنه مما أُمر بِتَعْظِيمِهِ وَتَوْقِيرِهِ.
وَالثَّانِيَةُ: أَنه مبنيٌّ لِلصَّلَاةِ، وقد أُمرنا أَن نأَتيها وعلينا السكينة
_________
(1) في (ر) و (غ): "الجدل".
(2) في (غ): "وظنه" بدل "وعده".
(3) في (خ) و (ت): "الأصوات".
(4) أخرج البخاري في "صحيحه" (470) عن السائب بن يزيد قال: كنت قائماً في المسجد، فحصبني رجل، فنظرت، فإذا عمر بن الخطاب، فقال: اذهب فأتني بهذين، فجئته بهما. قال: من أنتما ـ أو من أين أنتما؟ ـ قالا: من أهل الطائف. قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما! ترفعان أصواتكما فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم.
قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (1/ 561): "ووردت أحاديث في النهي عن رفع الصوت لكنها ضعيفة؛ أخرج ابن ماجه بعضها".
(5) في (ر) و (غ): "رفعهم".
(6) ذكره محمد بن يوسف العبدري في "التاج والإكليل" (6/ 15) عن ابن القاسم. هكذا، ونقل ابن أبي زيد القيرواني في "النوادر والزيادات" (1/ 536) أن ابن القاسم قال في "المجموعة": "قال مالك: ولا ينبغي رفع الصوت في المسجد في العلم ولا في غيره، وكان الناس ينهون عن ذلك".(2/467)
وَالْوَقَارُ، فأَن (1) يُلْزَمَ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهَا المتَّخذ لَهَا أَولى (2).
وَرَوَى مَالِكٌ: أَن عُمَرَ بْنَ الخطاب رضي الله عنه بنى رَحْبَةً في نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ تسمَّى البُطَيْحاء (3)، وَقَالَ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ أَن يَلْغَط، أَو يُنْشِدَ شِعْرًا، أَو يَرْفَعَ صَوْتَهُ؛ فَلْيَخْرُجْ إِلى هَذِهِ الرَّحْبَةِ (4).
فإِذا كَانَ كَذَلِكَ، فَمِنْ أَين يَدُلُّ ذَمُّ رَفْعِ (5) الصَّوْتِ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى الْجَدَلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ؟
فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحدهما: أَن رَفْعَ (6) الصَّوْتِ مِنْ خَوَاصِّ الْجَدَلِ الْمَذْمُومِ، أَعني فِي أَكثر الأَمر دُونَ الفَلتات؛ لأَن رَفْعَ الصَّوْتِ (7) وَالْخُرُوجَ عَنِ الِاعْتِدَالِ فِيهِ ناشئٌ عَنِ الْهَوَى فِي الشيءِ المتكلَّم فِيهِ، وأَقرب الْكَلَامِ الْخَاصِّ بِالْمَسْجِدِ إِلى رَفْعِ الصَّوْتِ: الْكَلَامُ فِيمَا لَمْ يُؤْذَن فِيهِ، وَهُوَ الْجِدَالُ (8) الَّذِي نبَّه عَلَيْهِ الْحَدِيثُ المتقدم.
_________
(1) في (ر) و (غ): "فَبِأن"، وفي (م): "بأن".
(2) في (ت): "وعلينا السكينة والوقار، فإن كان يلزم ذلك في نفسها، ففي موضعها المتخذ لها أولى"، وفي الهامش: "في غير محلها"؛ كأنه يريده بدلاً من قوله: "في نفسها".
(3) في (ر) و (غ): "البطحاء".
(4) أخرجه مالك في "الموطأ" (1/ 175)، هكذا: أنه بلغه: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بنى رحبة ... إلخ. كذا جاء بلاغاً في رواية يحيى الليثي عن مالك.
وأخرجه البيهقي في "السنن" (10/ 103) من طريق يحيى بن بكير، عن مالك؛ حدثني أبو النضر، عن سالم بن عبد الله؛ أن عمر بن الخطاب ... ، فذكره.
وذكر ابن عبد البر في "الاستذكار" (6/ 355) أن في رواية القعنبي، ومطرِّف، وأبي مصعب عنه، عن أبي النضر، عن سالم بن عبد الله، عن ابن عمر: أن عمر بن الخطاب ... ، فذكره.
وهذا إسناد صحيح.
(5) في (ر): "رفع ذم"، وكتب الناسخ عليهما علامتي التقديم والتأخير.
(6) في (خ): "يرفع".
(7) قوله: "الصوت" سقط من (م)، وفي موضعه علامة لحق، ولم يظهر اللحق في التصوير.
(8) في (ر) و (غ): "الجدل".(2/468)
وأَيضاً: لَمْ يَكْثُرِ الْكَلَامُ جِدًّا فِي نَوْعٍ مِنْ أَنواع الْعِلْمِ فِي الزَّمَانِ الْمُتَقَدِّمِ إِلا فِي عِلْمِ الْكَلَامِ، وإِلى غَرَضِهِ تَصَوَّبَتْ (1) سِهَامُ النقد والذم، فهو إِذاً هو.
وَقَدْ رُوي عَنْ عَمِيرَةَ (2) بْنِ أَبي نَاجِيَةَ المصري أَنه رأَى قوماً يتمارون (3) فِي الْمَسْجِدِ وَقَدْ عَلَتْ أَصواتهم، فَقَالَ: هؤلاءِ قَوْمٌ قَدْ مَلّوا الْعِبَادَةَ، وأَقبلوا عَلَى الْكَلَامِ، اللَّهُمَّ! أَمِتْ عُمَيْرَةَ، فَمَاتَ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ فِي الْحَجِّ، فرأَى رَجُلٌ (4) فِي النَّوْمِ قَائِلًا يقول له (5): مات هذه الليلة نصف الناس، فعرف (6) تلك الليلة، فجاءَ فيها (7) مَوْتُ عُمَيْرَةَ هَذَا (8).
وَالثَّانِي: أَنا لَوْ سَلَّمْنَا أَن مجرد رفع الصوت لا يَدُلُّ (9) عَلَى مَا قُلْنَا؛ لَكَانَ أَيضاً مِنَ الْبِدَعِ إِذا عُدَّ كأَنه مِنَ الْجَائِزِ فِي جَمِيعِ أَنواع الْعِلْمِ، فَصَارَ مَعْمُولًا بِهِ لَا يُتَّقَى (10)، وَلَا يُكَفّ عَنْهُ، فَجَرَى (11) مَجْرَى الْبِدَعِ الْمُحْدَثَاتِ.
وأَما تَقْدِيمُ الأَحداث عَلَى غَيْرِهِمْ: فَمِنْ (12) قَبِيلِ ما تقدم في كثرة الجهل (13)، وقلة العلم، كان ذلك التقديم في رُتَب العلم أَو غيره، لأَن
_________
(1) في (ر) و (غ): "عربت" بدل: "تصوبت".
(2) في (م): "غيره" بدل "عميرة".
(3) في (خ) و (م): "يتعارون" بالعين المهملة، وفي (ت): "يتغايرون"، وصوبها في الهامش: "يتعازرون"، وذكر أن في نسخة: "ويتعارون".
(4) في (م): "رجلاً".
(5) قوله: "له" ليس في (خ).
(6) في (ت) و (خ): "فعرفت".
(7) قوله: "فيها" ليس في (خ) و (ت).
(8) أورد هذه القصة المزي في "تهذيب الكمال" (22/ 400).
(9) في (ت) و (م) و (خ): "رفع الأصوات يدل".
(10) في (م): "لا نقي"، وفي (ت): "لا ينهى"، وفي (خ): "لا نفي"، أو "لا يفي"؛ لم تنقط نوناً ولا ياءً، وعلق عليها رشيد رضا بقوله: الكلمة غير منقوطة في الأصل، وتحتمل بالتصحيف والتحريف عدة احتمالات. اهـ.
(11) قوله: "فجرى" سقط من (خ)، وعلق على موضعه رشيد رضا بقوله: كذا! ولعل أصله: فجرى مجرى البدع المحدثات. اهـ.
(12) قوله: "فمن" لم يتضح في مصورة (خ)، وأثبته رشيد رضا: "من"، وعلق عليه بقوله: لعل الأصل: "فمن".اهـ.
(13) في (خ) و (ت) و (م): "الجهال".(2/469)
الحَدَثَ أَبداً أَو فِي غَالِبِ الأَمر غِرٌّ لم يَتَحنَّكْ، ولم يرتَضْ في صناعته (1) رياضةً تُبَلِّغه مبالغ الشيوخ الراسخي (2) الأَقدام فِي تِلْكَ الصِّنَاعَةِ، وَلِذَلِكَ قَالُوا فِي المَثَلِ:
وابنُ اللَّبُون إِذا مَا لُزَّ فِي قَرَنٍ ... لَمْ يَسْتَطِعْ صَوْلَةَ البُزْلِ القَناعيسِ (3)
هَذَا إِن حملنا الحَدَثَ على حداثة السن، وهو نصٌّ فِي (4) حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فإِن حَمَلْنَاهُ (5) عَلَى حَدَثَانِ الْعَهْدِ بِالصِّنَاعَةِ، وَيَحْتَمِلُهُ قوله في الحديث (6): "وَكَانَ زَعِيمُ الْقَوْمِ أَرذلهم" (7)، وَقَوْلُهُ: "وَسَادَ الْقَبِيلَةَ فَاسِقُهُمْ" (8) وَقَوْلُهُ: "إِذا أُسند الأَمر إِلى غَيْرِ أَهله" (9)، فَالْمَعْنَى فِيهَا وَاحِدٌ، فإِن الْحَدِيثَ الْعَهْدَ بالشيءِ لَا يَبْلُغُ مَبَالِغَ الْقَدِيمِ الْعَهْدِ فِيهِ.
ولذلك يحكى عن الشيخ أَبي مَدْيَن (10) رحمه الله: أَنه سئل عن
_________
(1) في (م): "صناعة".
(2) في (خ): "الراسخين".
(3) البيت لجرير بن عطية، انظر: "ديوانه" برواية محمد بن حبيب (1/ 128). و"ابن اللبون": هو ولد الناقة إذا استكمل سنتين، فأمه لبون؛ لأنها وضعت غيره، فصار لها لبن، وهو في هذه الحالة ضعيف. و"لُزَّ": شُدّ. و"القَرَن": الحبل. والبعيران إذا قُرِنا في قَرَنٍ واحدٍ فقد لُزّا. و"البُزْلُ": جمع بازِلٍ، وهو من الإبل ما كان في التاسعة؛ لأن نابه يَبْزُل؛ أي: ينْشَقّ ويطلع. و"القناعيس": جمع قِنْعاس، وهو الجمل الضخم العظيم. و"الصولة": الوثبة والسَّطوة
وهذا البيت قاله جرير بن عطيّة يعرِّض فيه بِعَدِيّ بن الرِّقاع العاملي، ويقول له: إن ابن اللبون إذا ما قُرِن ببازِلٍ؛ لم يُطِقْ ما يطيقه البازل من الصبر على السير العنيف، فكذلك الشاعر الضعيف لا يستطيع مصاولة الشاعر الفحل، ولا مجاراته؛ أراد بذلك الفخر على مَهْجُوِّه عدي بن الرقاع. انظر شرح العلاّمة محمود محمد شاكر لـ"طبقات فحول الشعراء" للجُمَحي (2/ 385).
(4) قوله: "في" ليس في (ر) و (غ).
(5) في (م): "عملناه".
(6) قوله: "في الحديث" ليس في (خ) و (م) و (ت).
(7) تقدم تخريجه (ص423).
(8) تقدم تخريجه صفحة (424).
(9) تقدم تخريجه صفحة (420).
(10) هو: شعيب بن حسين الأندلسي، الزاهد، شيخ أهل المغرب، كان من أهل العمل والاجتهاد، منقطع النظير في العبادة والنسك. انظر: "السير" (21/ 219).(2/470)
الأَحداث الذين نهى شيوخ الصوفية عن صحبتهم (1)؟ فَقَالَ: الحَدَث: الَّذِي لَمْ يَسْتَكْمِلِ الأَمر بَعْدُ، وإِن كَانَ ابنَ ثَمَانِينَ سَنَةً.
فإِذاً: تَقْدِيمُ الأَحداث عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ بَابِ تَقْدِيمِ الْجُهَّالِ (2) عَلَى غَيْرِهِمْ، وَلِذَلِكَ قَالَ فِيهِمْ: "سُفَهَاءَ الأَحلام" (3)، وقال (3): "يقرؤُون الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ ... "، إِلى آخِرِهِ، وَهُوَ مُنَزَّلٌ عَلَى الْحَدِيثِ الْآخَرِ فِي الْخَوَارِجِ: "إِن (4) مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا (5) قَوْمًا يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ ... " (6)، إِلى آخِرِ الْحَدِيثِ؛ يَعْنِي: أَنهم لَمْ يَتَفَقَّهُوا (7) فِيهِ، فَهُوَ فِي أَلسنتهم لَا فِي قُلُوبِهِمْ.
وأَما لعنُ آخرِ هَذِهِ (8) الأُمّة أَوَّلَها: فظاهر مما ذكره (9) العلماءُ عَنْ بَعْضِ الْفِرَقِ الضَّالَّةِ، فإِن الْكَامِلِيَّةَ (10) مَنَ الشِّيعَةِ كَفَّرَتِ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ؛ حِينَ لَمْ يَصْرِفُوا الْخِلَافَةَ إِلى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (11) بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَفَّرَتْ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حين لم يأْخذ بحقه فيها.
وأَما ما دون (12) ذلك مما يوقف فيه عند السبب (13): فمنقول موجود (14) في الكتب (15)، وإِنما فعلوا ذلك لمذاهب سوء لهم رأَوها،
_________
(1) في (ت) و (م) و (خ): "عنهم".
(2) في (خ): "الجهل".
(3) تقدم تخريجه صفحة (421 ـ 422).
(4) قوله: "إن" ليس في (خ).
(5) قوله: "هذا" سقط من (م).
(6) تقدم تخريجه صفحة (455).
(7) في (م): "يتفهموا" بدل "يتفقهوا".
(8) قوله: "هذه" سقط من (ر) و (غ).
(9) في (خ) و (ت) و (م): "ذكر".
(10) الكاملية: أصحاب أبي كامل، الذي كفَّر جميع الصحابة بتركهم بيعة علي رضي الله عنه، وطعن في علي أيضاً بتركه طلب حقه، ولم يعذره في القعود. قال: وكان عليه أن يخرج ويظهر الحق. وكان يقول: الإمامة نور يتناسخ من شخص إلى شخص، وذلك النور في شخص يكون نبوة، وفي شخص يكون إمامة، وربما تتناسخ الإمامة فتصير نبوة، وقال بتناسخ الأرواح وقت الموت.
انظر: "الملل والنحل" للشهرستاني (1/ 174 ـ 175).
(11) من قوله: "حين لم يصرفوا" إلى هنا سقط من (غ)، وفي (م): "إلى علي رضي الله عنهم".
(12) في (م): "وأما دون".
(13) في (م): "السب".
(14) في (ت): "فموجود منقول".
(15) في (غ): "الكتاب".(2/471)
فبنوا عليها ما يضاهيها من السوءِ والفحشاءِ، فلذلك عُدُّوا من فرق أَهل البدع.
قَالَ مُصْعَبُ الزُّبَيْري (1) وَابْنُ نَافِعٍ: دَخَلَ هَارُونُ ـ يَعْنِي الرَّشِيدَ ـ الْمَسْجِدَ (2) فَرَكَعَ، ثُمَّ أَتى قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَتى مَجْلِسَ (3) مَالِكٍ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ ورحمة الله وبركاته، قال له مالك: وعليكَ السلام ـ يا أَمير المؤمنين ـ ورحمة الله وبركاته (4). ثم قال لمالك: هَلْ لِمَنْ سَبَّ أَصحاب رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الفَيْء حَقٌّ؟ قَالَ: لَا! وَلَا كَرَامَةَ وَلَا مَسَرَّة! قَالَ: مَنْ أَين قُلْتَ ذَلِكَ؟ قَالَ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وجل: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} (5)، فَمَنْ عَابَهُمْ (6) فَهُوَ كَافِرٌ، وَلَا حَقَّ لِكَافِرٍ (7) فِي الْفَيْءِ.
وَاحْتَجَّ مَرَّةً أُخرى فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} {وَأَمْوَالِهِمْ} (8)} (9)، إِلى آخر الآيات الثلاث، قال: فهم أَصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الَّذِينَ هَاجَرُوا مَعَهُ، وأَنصاره، {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} (10)، فَمَنْ عَدَا هؤلاءِ، فَلَا حَقَّ لَهُمْ فِيهِ (11).
_________
(1) في (ت) و (م): "الزبيدي".
(2) في (ت): "للمسجد".
(3) في (غ): "مسجد" بدل "مجلس".
(4) من قوله: "قال له مالك" إلى هنا سقط من (خ) و (م) و (ت).
(5) سورة الفتح: الآية (29).
(6) في (ر) و (غ): "عانهم".
(7) في (ر) و (غ): "للكافر".
(8) زاد في (ت): "يبتغون فضلاً من الله".
سورة الحشر: الآية (8).
(9) سورة الحشر: الآية (10).
(10) ذكره القاضي عياض في "ترتيب المدارك" (2/ 46) كما هنا، والظاهر أن المصنف أخذه عنه.
ولم أجده مسنداً من طريق مصعب الزبيري وابن نافع، ولكن أخرجه اللالكائي في "شرح أصول الاعتقاد" (2400)، والبيهقي في "سننه" (6/ 372)، وابن عبد البر في "الانتقاء" ص (36) ثلاثتهم من طريق إبراهيم بن المنذر، عن معن بن عيسى، عن مالك، بذكر شطره الثاني المتعلق بآيات سورة الحشر، ولم يذكر قصة هارون الرشيد.
وأخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (44/ 391) من طريق البيهقي.=(2/472)
وَفِي فِعْلِ خَوَاصِّ الْفَرْقِ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى كثير (1).
وأَما بعث الدجّالين (2): فقد كان من (3) ذَلِكَ جُمْلَةً، مِنْهُمْ مَنْ تَقَدَّمَ فِي زَمَانِ بَنِي الْعَبَّاسِ وَغَيْرِهِمْ.
وَمِنْهُمْ مَعَدٌّ مِنَ (4) الْعُبَيْدِيَةِ (5) الَّذِينَ مَلَكُوا إِفريقية، فَقَدَ حُكِيَ عَنْهُ أَنه جَعَلَ الْمُؤَذِّنَ يَقُولُ: أَشهد أَن مَعَدّاً رَسُولَ اللَّهِ، عِوَضًا مِنْ كَلِمَةِ الْحَقِّ: "أَشهد أَن محمداً رسول الله"، ففعل المؤذن (6)، فَهَمَّ المسلمون بقتله، ثم رأوا (7) رفعه (8) إِلى مَعَدٍّ لِيَرَوْا هَلْ هَذَا عَنْ أَمره؟ فَلَمَّا انْتَهَى كَلَامُهُمْ إِليه، قَالَ: ارْدُدْ عَلَيْهِمْ أَذانهم لعنهم الله.
_________
=وأخرجه أبو نعيم في "الحلية" (6/ 327) من طريق سوار بن عبد الله العنبري، عن أبيه، عن مالك نحو سياق معن بن عيسى، ثم أخرجه من طريق أبي عروة ـ وهو رجل من ولد الزبير ـ؛ قال: كنا عند مالك، فذكروا رجلاً ينتقص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ مالك هذه الآية: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ} حتى بلغ {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ}، فقال مالك: من أصبح في قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقد أصابته الآية.
ومن طريق أبي نعيم أخرجهما الضياء المقدسي في "النهي عن سب الأصحاب" (32 و33).
وقال ابن العربي في "أحكام القرآن" (4/ 1778): "رواه عنه سوار بن عبد الله وأشهب وغيرهما؛ قالوا: قال مالك: من سبّ أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلا حقّ له في الفيء، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} اهـ.
وذكر القرطبي في "تفسيره" (16/ 296 ـ 297) قول مالك هذا من طريق أبي عروة الزبيري السابق، وعزاه للخطيب البغدادي، ثم قال: "قلت: لقد أحسن مالك في مقالته، وأصاب في تأويله، فمن نقص واحداً منهم أو طعن عليه في روايته، فقد ردّ على ربّ العالمين، وأبطل شرائع المسلمين ... "، ثم أخذ في ذكر بعض الأدلة من الكتاب والسنّة الدالة على فضل الصحابة رضي الله عنهم.
(1) قوله: "كثير" سقط من (ر) و (غ).
(2) في (م): "الداجلين".
(3) قوله: "من" ليس في (خ) و (م) و (ت).
(4) علق رشيد رضا هنا بقوله: هو اسم أول خلفاء العبيديين، الملقب بالمعز لدين الله. اهـ.
(5) في (ت): "العبيديين".
(6) قوله: "ففعل المؤذن" ليس في (خ) و (م) و (ت).
(7) قوله: "رأوا" سقط من (م).
(8) في (خ) و (ت): "رفعوه" بدل "رأوا رفعه".(2/473)
ومن يدَّعي لنفسه العصمة، فهو يشبه مَنْ يَدَّعِي النُّبُوَّةَ، وَمَنْ يَزْعُمُ أَنه بِهِ قَامَتِ السَّمَوَاتُ والأَرض، فَقَدْ جَاوَزَ دَعْوَى النُّبُوَّةِ، وَهُوَ الْمَغْرِبِيُّ المُتَسَمِّي بِالْمَهْدِيِّ (1).
وَقَدْ كَانَ فِي الزَّمَانِ الْقَرِيبِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: الْفَازَازِيَّ ادَّعَى النُّبُوَّةَ، وَاسْتَظْهَرَ عَلَيْهَا بأُمور مُوْهِمَةٍ لِلْكَرَامَاتِ، والإِخبار بالمُغَيَّبات، وَمُخَيَّلَةٍ لِخَوَارِقِ الْعَادَاتِ، تَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ من العوام جملة، ولقد سمعت أَن (2) بَعْضَ طَلَبَةِ ذَلِكَ الْبَلَدَ الَّذِي احْتَلَّهُ (3) هَذَا البائس (4) ـ وهو (5) مالقة (6) ـ أَخذ (7) ينظر في قوله تعالى: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (8)، وَهَلْ (9) يُمْكِنُ تأْويله؟ وَجَعَلَ يُطَرِّقُ إِليه الِاحْتِمَالَاتِ (10)، ليُسَوِّغ إِمكانَ بعثِ نبيٍّ بَعْدَ (11) مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ مقتلُ هَذَا الْمُفْتَرِي على يَدَي (12) شيخ شيوخنا الأُستاذ (13) أَبي جعفر ابن الزبير رحمه الله (14).
_________
(1) في (ت): "وهو المهدي المغربي". وانظر ما ذكره المصنف من أخبار هذا المتسمِّي بالمهدي (ص84 ـ 89) من هذا المجلد.
(2) قوله: "أن" ليس في (خ) و (ت) و (م).
(3) في (خ): "اختله" بالخاء المعجمة.
(4) في (خ): "الباس".
(5) في (ت): "وهي".
(6) مالقة: مدينة بالأندلس، عامرة، من أعمال رية، سورها على شاطئ البحر بين الجزيرة الخضراء والمرية. "معجم البلدان" (5/ 43).
(7) في (خ) و (ت): "آخذاً"، وفي (م): "آخر".
(8) سورة الأحزاب: الآية (40).
(9) في (ت): "وأنه هل".
(10) في (خ): "الاحتمال"، وصححت فوقها.
(11) قوله: "بعد" سقط من (ر) و (غ).
(12) في (خ) و (ت): "يد".
(13) قوله: "الأستاذ" من (ر) و (غ) فقط.
(14) أبو جعفر ابن الزبير هذا اسمه: أحمد بن إبراهيم بن الزبير الأندلسي، ترجم له الحافظ ابن حجر في "الدرر الكامنة" (1/ 89 ـ 91 رقم 232)، وذكر قصته مع الفازازي هذا، فقال: ومن مناقبه أن الفازازي الساحر لما ادعى النبوة قام عليه أبو جعفر بمالقة، فاستظهر عليه بتقرُّبه إلى أميرها بالسحر، وأوذي أبو جعفر، فتحوّل إلى غرناطة، فاتفق قدوم الفازازي رسولاً من أمير مالقة، فاجتمع أبو جعفر بصاحب غرناطة، ووصف له حال الفازازي فأذن له إذا انصرف بجواب رسالته أن يخرج إليه ببعض أهل البلد،=(2/474)
وَلَقَدْ حَكَى بَعْضُ مُؤَلِّفِي الْوَقْتِ؛ قَالَ: حَدَّثَنِي شيخنا أَبو الحسن بن الجياب رحمه الله (1)؛ قَالَ: لَمَّا أُمر بالتأَهُّب يَوْمَ قَتْلِهِ وَهُوَ فِي السِّجْنِ الَّذِي أُخرج مِنْهُ إِلى مَصْرَعِهِ؛ جهر بتلاوة سورة {يس *}، فقال له أَحد الدَّعَرَةِ (2) ممن جمع السجن بينهما: واقرأ (3) قرآنك، لأَي شيءٍ تَتَطَفَّلْ (4) على قرآننا (5) اليوم (6)؟ أَو ما (7) فِي مَعْنَى هَذَا، فَتَرَكَهَا مَثَلًا بِلَوْذَعِيَّتِهِ (8).
وأَما مفارقة الجماعة: فبدعتها ظاهرة، ولذلك يُجَازَى (9) بالمِيْتَةِ الجاهلية (10)، وقد ظهر هذا (11) فِي الْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ سَلَكَ مَسْلَكَهُمْ؛ كَالْعُبَيْدِيَّةِ وأَشباههم.
فهذا أَيضاً مِنْ جُمْلَةِ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الأَحاديث، وباقي
_________
=ويطالبه من باب الشرع، ففعل، فثبت عليه الحدّ، وحكم بقتله، فضُرب بالسيف، فلم يَجُلْ فيه، فقال أبو جعفر: جرِّدوه، فوجدوا جسده مكتوباً، فغسل، ثم وجد تحت لسانه حجراً لطيفاً فنزعه، فجال فيه السيف حينئذٍ. اهـ.
(1) هو: علي بن محمد بن سليمان، أبو الحسن ابن الجياب الأنصاري، الغرناطي، من مشايخ لسان الدين ابن الخطيب صاحب كتاب "الإحاطة"، مولده عام ثلاث وسبعين وستمئة، وتوفي سنة تسع وأربعين وسبعمئة. انظر ترجمته في "الديباج المذهب" (2/ 111 رقم 20)، و"نفح الطيب" (5/ 434).
(2) في (خ): "الذعرة"، وفي (م): "الزعرة". والمقصود: أحد الفسّاق الفجرة. انظر "لسان العرب" (4/ 286).
(3) في (ت): "اقرأ".
(4) في (م) و (خ): "تتفضل" بدل "تتطفل".
(5) في (غ): "قراءتنا".
(6) قوله: "اليوم" سقط من (ت).
(7) قوله: "ما" ليس في (خ) و (ت).
(8) في (ت): "فتركها امتثالاً للوذعيته"، وذكر في الهامش أن في نسخة: "فتركها مثلاً بلوذعيته".
واللَّوْذَعي: هو الظريف الحديد الفؤاد واللسان. انظر "لسان العرب" (8/ 317).
(9) علق رشيد رضا على هذا الموضع بقوله: أي: يجازى مفارقها، ولعل الفاعل قد سقط من الأصل بسهو الناسخ. اهـ.
(10) لما جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري (7053)، ومسلم (1849)، عن ابن عباس مرفوعاً: " ... فإنه من خرج من السلطان شبراً مات ميتة جاهلية".
(11) قوله: "هذا" ليس في (خ) و (م) و (ت).(2/475)
الْخِصَالِ الْمَذْكُورَةِ عَائِدٌ إِلى نَحْوٍ آخَرَ؛ كَكَثْرَةِ النساءِ، وقِلَّةِ الرِّجَالِ (1)، وتَطاوُلِ (2) النَّاسِ فِي الْبُنْيَانِ (3)، وتَقَارُبِ الزمان (4).
فالحاصل: أَن أَكثر هذه (5) الْحَوَادِثِ الَّتِي أَخبر بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنها تَقَعُ وَتَظْهَرُ وَتَنْتَشِرُ (6) في الأُمة (7) أُمور مُبْتَدَعَةٌ عَلَى مُضَاهَاةِ التَّشْرِيعِ، لَكِنْ مِنْ جِهَةِ التعبُّد، لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا عاديَّة، وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَعْصِيَةِ الَّتِي هِيَ بِدْعَةٌ، والمعصية التي لَيْسَتْ (8) بِبِدْعَةٍ.
وإِن الْعَادِيَّاتِ مِنْ حيثُ هِيَ عَادِيَّةٌ لَا بِدْعَةَ فِيهَا، وَمِنْ حَيْثُ يُتعبَّدُ بِهَا أَو تُوضَعُ وَضْعَ التعبُّد تَدْخُلُهَا الْبِدْعَةُ، وَحَصَلَ بِذَلِكَ اتِّفَاقُ الْقَوْلَيْنِ، وَصَارَ الْمَذْهَبَانِ مَذْهَبًا واحداً، وبالله التوفيق.
_________
(1) تقدم تخريجه صفحة (423).
(2) في (ر) و (غ): "وتتطاول".
(3) تقدم تخريجه صفحة (421).
(4) تقدم تخريجه صفحة (421).
(5) قوله: "هذه" ليس في (خ) و (م) و (ت).
(6) في (م): "وتنشر".
(7) قوله: "في الأمة" سقط من (خ).
(8) في (خ): "التي هي ليست".(2/476)
فصل
فإِن قِيلَ: أَما الِابْتِدَاعُ؛ بِمَعْنَى أَنه نَوْعٌ مِنَ التَّشْرِيعِ عَلَى وَجْهِ التعبُّد فِي العادِيّات من حيث هو (1) توقيت معلوم مَقُولٌ (2) بإِيجابه (3) أَو إِجازته (4) بالرأْي ـ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَمثلة بدع الخوارج ومن داناهم من الفرق الخارجة عَنِ الْجَادَّةِ ـ: فَظَاهَرَ (5).
وَمِنْ (6) ذَلِكَ: الْقَوْلُ بِالتَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيِّ، وَالْقَوْلِ بِتَرْكِ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَمَا أَشبه ذَلِكَ.
فَالْقَوْلُ بأَنه بِدْعَةٌ قَدْ تبيَّن وَجْهُهُ وَاتَّضَحَ مَغْزاه، وإِنما يَبْقَى وَجْهٌ آخَرُ يُشْبِهُهُ وَلَيْسَ بِهِ، وَهُوَ أَن الْمَعَاصِي وَالْمُنْكِرَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ قَدْ تَظْهَرُ وَتَفْشُو (7)، وَيَجْرِي الْعَمَلُ بِهَا بَيْنَ النَّاسِ عَلَى وجهٍ لَا يَقَعُ لَهَا إِنكار مِنْ خَاصٍّ وَلَا عَامٍّ، فَمَا كَانَ مِنْهَا هَذَا شأْنه: هَلْ يُعَدُّ مِثْلُهُ بِدَعَةً أَم لَا؟
فَالْجَوَابُ: أَن مِثْلَ هَذِهِ المسأَلة لها نظران:
_________
(1) قوله: "هو" سقط من (ت)، ولم يتضح في (خ)، وفي (ر) و (غ): "هي"، والمثبت من (م).
(2) كذا في (ر) و (غ)، وفي باقي النسخ: "معقول".
(3) أثبتها رشيد رضا: "فإيجابه"، وانظر التعليق بعد الآتي.
(4) في (م): "أو إجارته".
(5) علق رشيد رضا على هذا الموضع بقوله: قوله: "فظاهر": جواب "أما الابتداع" في أول الفصل، وما بينهما اعتراض. وقوله فيه: "فإيجابه": مبتدأ، خبره: "من أمثلة بدع الخوارج".
(6) في (ر) و (غ): "من".
(7) في (م) و (غ) و (ت): "وتفشوا".(2/477)
أَحدهما: نظر من حيث وقوعها عملاً وَاعْتِقَادًا فِي الأَصل، فَلَا شَكَّ أَنها مخالَفَةٌ لَا بِدْعَةٌ، إِذ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ كَوْنِ الممنوع أَو المكروه غير بدعة أَن لا يَنْتَشِر ولا يظهر (1)، كما (2) أَنه ليس من شرط (3) البدعة (4) أَن تشتهر (5) ولا تُسَرّ (6)، بل المخالفة (7) مخالفة (8)؛ ظهرت (9) أَمْ لا (10)، واشتهرت (11) أَم لا، والبدعة بدعة؛ ظهرت أَم لَا، وَاشْتُهِرَتْ أَم لَا (12)، وَكَذَلِكَ دَوَامُ الْعَمَلِ بها (13) أَو عَدَمِ دَوَامِهِ: لَا يؤثِّر فِي وَاحِدَةٍ منهما، فالمبتدع (14) قد يقلع عن بدعته، وَالْمُخَالِفُ قَدْ يَدُومُ عَلَى مُخَالَفَتِهِ إِلى الْمَوْتِ، عِيَاذًا بِاللَّهِ!.
وَالثَّانِي: نظرٌ مِنْ جِهَةِ مَا يَقْتَرِنُ بِهَا مِنْ خَارِجٍ، فَالْقَرَائِنُ قَدْ تَقْتَرِنُ، فَتَكُونُ سَبَبًا فِي مَفْسَدَةٍ حاليَّة، وَفِي مَفْسَدَةٍ مآليَّة، كِلَاهُمَا رَاجِعٌ إِلى اعْتِقَادِ الْبِدْعَةِ.
أَما الْحَالِيَّةُ فبأَمرين:
الأَول: أَن يَعْمَلَ بِهَا الْخَوَاصُّ مِنَ النَّاسِ عُمُومًا، وَخَاصَّةً الْعُلَمَاءَ خُصُوصًا، وَتَظْهَرُ مِنْ جِهَتِهِمْ، وَهَذِهِ مَفْسَدَةٌ فِي الإِسلام ينشأُ عَنْهَا عَادَةً مِنْ جِهَةِ الْعَوَامِّ اسْتِسْهالُها واسْتِجَازَتُها؛ لأَن العالم المنتصب مُفْتٍ (15)
_________
(1) في (خ) و (ت): "أن لا ينشرها ولا يظهرها"، وفي (م): "أن لا ينشر ولا يظهر".
(2) قوله: "كما" ليس في (خ).
(3) في (ت): "شرطها".
(4) قوله: "البدعة" ليس في (خ) و (م) و (ت).
(5) في (خ) و (م) و (ت): "تنشر".
(6) قوله: "ولا تسر" ليس في (خ) و (ت)، وفي (م): "ولا تر".
(7) في (خ) و (ت): "بل لا تزول المخالفة".
(8) قوله: "مخالفة" ليس في (خ) و (م) و (ت).
(9) في (ت): "سواء ظهرت".
(10) في (خ) و (م) و (ت): "أو لا".
(11) في (ت): "أو اشتهرت".
(12) من قوله: "والبدعة بدعة ... " إلى هنا سقط من (خ) و (م) و (ت).
(13) قوله: "بها" ليس في (خ) و (م) و (ت).
(14) في (خ) و (م) و (ت): "والمبتدع".
(15) في (خ) و (ت): "مفتياً".(2/478)
لِلنَّاسِ (1) بِعَمَلِهِ (2) كَمَا هُوَ مُفْتٍ بِقَوْلِهِ (3)، فإِذا نظر الناس إِليه وهو يعمل بأَمر هو مخالفة (4)؛ حَصَلَ فِي اعْتِقَادِهِمْ جَوَازُهُ، وَيَقُولُونَ: لَوْ كَانَ مَمْنُوعًا أَو مَكْرُوهًا لَامْتَنَعَ مِنْهُ العالِمُ.
هَذَا، وإِن نصَّ عَلَى مَنْعه أَو كَرَاهَتِهِ (5)، فإِن عَمَلَهُ معارِضٌ لِقَوْلِهِ، فإِما أَن يَقُولَ الْعَامِّيُّ: إِن العالِمَ خَالَفَ بِذَلِكَ، وَيَجُوزُ عَلَيْهِ (6) مِثْلَ ذَلِكَ، وَهُمْ عُقَلَاءُ النَّاسُ، وَهُمُ الأَقلون.
وإِما أَن يَقُولَ: إِنه وَجَدَ فِيهِ رُخْصَةً، فإِنه لو كان كما قال؛ لم يعمل (7) به، فيُرَجِّح (8) بين قوله وفعله، والفعل أَبلغ (9) مِنَ الْقَوْلِ فِي جِهَةِ التأَسِّي ـ كَمَا تبيَّن فِي كِتَابِ "الْمُوَافَقَاتِ" (10) ـ، فَيَعْمَلُ العامِّيُّ بِعَمَلِ الْعَالِمِ؛ تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِهِ، فَيَعْتَقِدُهُ جَائِزًا، وهؤلاءِ هُمُ الأَكثرون.
فَقَدْ صَارَ عَمَلُ الْعَالِمِ عِنْدَ الْعَامِّيِّ حُجَّةً، كَمَا كَانَ قَوْلُهُ حُجَّةً عَلَى الإِطلاق وَالْعُمُومِ فِي الفُتيا، فَاجْتَمَعَ عَلَى الْعَامِّيِّ الْعَمَلُ مع اعتقاد الجواز بشُبْهَةِ دليل، وهذا هو (11) عين البدعة.
بل قد وقع مثل هذا في طائفة ممن تَمَيَّزَ عن العامّة بانتصابٍ في رتبة
_________
(1) قوله: "مفت للناس" سقط من (غ)، وفي موضعه علامة لحق، ولم يظهر اللحق في التصوير.
(2) في (ت) و (خ) و (م): "بعلمه".
(3) في (ت): "بفعله"، وذكر الناسخ في الهامش أن في نسخة: "بقوله".
(4) علق رشيد رضا على هذا الموضع بقوله: كذا في الأصل! وهو تحريف ظاهر، والمعنى مفهوم من القرينة، وهو: فَإِذَا نَظَرَ إِلَيْهِ النَّاسُ يَعْمَلُ مَا يَأْمُرُ هو بمخالفته ـ أي بتركه ـ؛ حصل في اعتقادهم جوازه. اهـ.
(5) في (م): "أو كراهيته".
(6) أي: على العالِمِ.
(7) قوله: "يعمل" سقط من (خ).
(8) في (ر) و (غ): "فيترجح"، وفي (م): "فترجح".
(9) في (ت) و (خ) و (م): "أغلب" بدل "أبلغ".
(10) (4/ 91).
(11) قوله: "هو" ليس في (خ) و (م) و (ت).(2/479)
الْعُلَمَاءِ، فَجَعَلُوا العملَ بِبِدْعَةِ الدعاءِ بِهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ فِي آثَارِ الصَّلَوَاتِ، وقراءةَ الحِزْب حُجَّةً فِي جَوَازِ الْعَمَلِ بِالْبِدَعِ فِي الْجُمْلَةِ، وأَن مِنْهَا مَا هُوَ حَسَنٌ، وَكَانَ مِنْهُمْ مَنِ ارْتَسَمَ فِي طَرِيقَةِ التصوُّف، فأَجاز التعبُّدَ لِلَّهِ بِالْعِبَادَاتِ الْمُبْتَدَعَةِ، وَاحْتَجَّ بالحِزْب والدعاءِ بَعْدَ الصَّلَاةِ؛ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَمِنْهُمْ مَنِ اعْتَقَدَ أَنه مَا عَمِلَ بِهِ إِلا لمُسْتَند، فَوَضَعَهُ فِي كِتَابٍ، وَجَعَلَهُ فقهاً؛ كبعض أَماريد (1) البربر (2) ممن قيَّد على رسالة ابن أَبي زَيْدٍ (3).
وأَصل جَمِيعَ ذَلِكَ (4): سُكُوتُ الْخَوَاصِّ عَنِ البيان، أَو العمل (5) بِهِ عَلَى الغَفْلة، وَمِنْ هُنَا تُسْتَشْنَعُ زَلَّةُ العالم؛ فقد قالوا (6): ثَلَاثٌ يَهْدِمْنَ (7) الدِّينَ: زَلّةُ الْعَالِمِ (8)، وجِدَالُ منافقٍ بالقرآن، وأَئِمَة مُضِلّون (9).
_________
(1) في (ر) و (غ): "أفاريد".
(2) في (ت) و (خ) و (م): "الرس" بدل "البربر".
(3) في (خ): "على الأمة ابن زيد"، وفي (م): "على الآلة ابن أبي نريد"، وأصل (ت) موافق لما هو مثبت هنا، لكن كتب في الهامش: "على الآلة ابن زيد"، وكأنه تصويب للعبارة.
(4) في (ت): "ذلك كله".
(5) في (خ): "والعمل".
(6) ورد ذلك عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
أخرجه ابن المبارك في "الزهد" (1475)، والفريابي في "صفة المنافق" (ص54)، كلاهما من طريق مالك بن مغول، عن أبي حصين، عن زياد بن حُدَير؛ قال: قال عمر بن الخطاب رضوان الله عليه: يهدم الزمان ثلاث: ضيعة عالم، ومجادلة منافق بالقرآن، وأئمة مضلّون.
وسنده صحيح.
وأخرجه الدارمي (1/ 71) من طريق أبي إسحاق السبيعي، وأبو نعيم في "الحلية" (4/ 196) من طريق مغيرة، كلاهما عن الشعبي، عن زياد بن حُدَير؛ قال: أتيت عمر بن الخطاب ... ، فذكره.
وتصحف "حدير" عند أبي نعيم إلى "جرير".
وأخرجه البيهقي في "المدخل إلى السنن" (832) من طريق داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن عمر، ليس فيه ذكر لزياد بن حدير.
(7) في (ت) و (خ): "تهدم"، وفي (م): "يهدم".
(8) في (ر) و (غ): "عالم".
(9) في (خ): "ضالون".(2/480)
وَكُلُّ ذَلِكَ عَائِدٌ وبالُه (1) عَلَى الْعَالَمِ (2). وزلَلُهُ المذكورُ عِنْدَ العلماءِ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ:
أَحدهما: زَلَلُه (3) فِي النَّظَرِ، حَتَّى يُفْتيَ بِمَا خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَيُتَابَعُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ الفُتْيَا بِالْقَوْلِ.
وَالثَّانِي: زَلَلُه في العمل بالمخالفات، فَيُتَابَعُ أَيضاً عليها على التأَويل المذكور، وهو في الاعتبار قائمٌ مَقَامَ الفُتيا بالقول؛ إِذ قد عَلِمَ أَنه مُتَّبَعٌ ومنظورٌ إِليه، وهو مع ذلك يُظْهِر بفعله (4) ما ينهى عنه الشارع، فكأَنه مُفْتٍ به؛ على ما تقرر في الأُصول.
وَالثَّانِي: مِنْ قِسْمَيِ الْمُفْسِدَةِ الحاليَّة: أَن يَعْمَلَ بها العوام، وتشيع فيهم، وتظهر فيما بينهم (5)، فلا ينكرها الخواصّ، ولا يرفعون لها رأْساً (6)، وَهُمْ (7) قَادِرُونَ عَلَى الإِنكار، فَلَمْ يَفْعَلُوا، فَالْعَامِّيُّ مِنْ شأْنه إِذا رأَى أَمراً يَجْهل حكمَه يعمل العامل به فلا يُنْكر عَلَيْهِ، اعْتَقِدُ أَنه جَائِزٌ، وأَنه حَسَنٌ، أَو أَنه مَشْرُوعٌ، بِخِلَافِ مَا إِذا أُنكر عَلَيْهِ (8)، فإِنه يَعْتَقِدُ أَنه عَيْبٌ، أَو أَنه غَيْرُ مَشْرُوعٌ، أَو (9) أَنه لَيْسَ مَنْ فِعْلِ الْمُسْلِمِينَ.
هَذَا أَمر يَلْزَمُ مَنْ لَيْسَ بِعَالِمٍ (10) بِالشَّرِيعَةِ؛ لأَن مستنده الخواصّ والعلماءُ في الجائز مع غَيْرِ الْجَائِزِ.
فإِذا عُدِمَ الإِنكار مِمَّنْ شأْنه الإِنكار، مَعَ ظُهُورِ الْعَمَلِ وَانْتِشَارِهِ، وَعَدَمِ خَوْفِ الْمُنْكِرِ، وَوُجُودِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَفعل (11)، دَلَّ عند العوام
_________
(1) في (ت): "وباله عائد".
(2) في (خ): "عالم". وعلق عليه رشيد رضا بقوله: كذا! ولعل أصله: "على العالم" بفتح اللام؛ على حدّ قولهم: إذا زلّ العالِم ـ بالكسر ـ زل العالَم ـ بالفتح ـ اهـ.
(3) قوله: "زلله" ليس في (ر) و (غ).
(4) في (خ) و (م): "بقوله".
(5) قوله "فيما بينهم" ليس في (ت) و (خ) و (م).
(6) في (ت) و (خ) و (م): "رؤوسهم".
(7) قوله: "وهم" سقط من (خ).
(8) قوله: "عليه" سقط من (ر) و (غ).
(9) قوله: "أو" سقط من (خ) و (م).
(10) في (ت): "عالم".
(11) أي: لم يفعل العالم إنكار المنكر.(2/481)
أَنه فِعْلٌ جَائِزٌ لَا حَرَجَ فِيهِ (1)، فنشأَ فِيهِ هَذَا الاعتقادُ الفاسدُ بتأْويلٍ يُقْنَعُ بِمِثْلِهِ مِنَ الْعَوَامِّ (2)، فَصَارَتِ الْمُخَالَفَةُ بِدَعَةً؛ كَمَا فِي الْقِسْمِ الأَول.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الأُصول أَن العالِمَ فِي النَّاسِ قائِمٌ مقامَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، والعلماءُ وَرَثَةُ الأَنبياءِ (3)، فَكَمَا أَن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدُلُّ عَلَى الأَحكام بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ وإِقراره، كَذَلِكَ وارِثُهُ يَدُلُّ عَلَى الأَحكام بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ وإِقراره. واعْتَبِرْ ذَلِكَ بِبَعْضِ مَا أُحدِثَ فِي الْمَسَاجِدِ مِنَ الأُمور الْمَنْهِيّ عَنْهَا فَلَمْ يُنْكِرْهَا (4) العلماءُ، أَو عَمِلُوا بِهَا فَصَارَتْ بَعْدُ (5) سُنَنًا وَمَشْرُوعَاتِ؛ كَزِيَادَتِهِمْ مَعَ الأَذان: "أَصبح ولله الحمد"، و"الوضوء للصلاة"، و"تأَهّبوا للصلاة (6) "، ودعاء المؤذّنين بالليل في الصوامع؛
_________
(1) قوله: "فيه" سقط من (ر) و (غ).
(2) علق رشيد رضا هنا بقوله: كذا! ولعل الأصل: "من كان من العوام" اهـ.
(3) هو جزء من حديث أبي الدرداء الطويل في فضل العلم والعلماء، وقد أخرجه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 196)، والدارمي في "سننه" (1/ 98)، وأبو داود (3636)، والترمذي (2682)، وابن ماجه (223)، وابن حبان (88/الإحسان)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (169 ـ 177)، والخطيب في "الرحلة" (4 ـ 6)، جميعهم من طريق عاصم بن رجاء، عن داود بن جميل، عن كثير بن قيس، عن أبي الدرداء، به، وفي بعض طرقه اختلاف تجد الكلام عليه عند الترمذي وابن عبد البر وغيرهما.
وسنده ضعيف لضعف داود بن جميل، وكثير بن قيس الشامي، كما في "التقريب" (1788 و5659).
وأخرجه أبو داود (3637) من طريق محمد بن الوزير الدمشقي، حدثنا الوليد ـ وهو ابن مسلم ـ؛ قال: لقيت شبيب بن شيبة فحدثني به عن عثمان بن أبي سودة، عن أبي الدرداء ... ، فذكره.
وسنده ضعيف لجهالة شبيب بن شيبة الشامي، كما في "التقريب" (2756)، وقد حسن بعض أهل العلم هذا الحديث بهذين الطريقين، وأطال محقق "جامع بيان العلم" في الكلام عليه، فانظره إن شئت، وللحافظ ابن رجب رسالة مفردة في "شرح حديث أبي الدرداء" هذا، وهي مطبوعة.
(4) لم يتضح قوله: "ينكرها" في (م)، فأشبه: "ينظرها"، أو كلمة نحوها، وكذا في (ت)؛ تشبه أن تكون: "ينهزها"، ثم صوبت في الهامش هكذا: "يغيرها".
(5) في (ر) و (غ): "تعد".
(6) قوله: "للصلاة" سقط من (ت) و (خ) و (م).(2/482)
وربما احْتَجّ (1) على صحّة (2) ذلك (3) بعضُ الناس بما وقع (4) في "نوازل ابن سهل" (5) غفلة منه (6) عما عَلَيْهِ فِيهِ (7)، وَقَدْ قَيَّدْنَا فِي ذَلِكَ جُزْءًا مُفْرَدًا، فَمَنْ أَراد الشفاءَ فِي المسأَلة فَعَلَيْهِ به، وبالله التوفيق.
وخرج أَبو داود (8) قَالَ: اهْتَمَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للصلاة كيف يجمع الناس لها، فقيل له (9): انْصِبْ رَايَةً عِنْدَ حُضُورِ الصَّلَاةِ، فإِذا رأَوها أَذِنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَلَمْ يُعْجِبْهُ ذَلِكَ. قَالَ: فذُكِرَ لَهُ القُنْعُ (10) ـ يَعْنِي الشَّبُّور، وَفِي رِوَايَةٍ: شَبّور اليهود ـ، فلم يعجبه ذلك (11)، وَقَالَ: "هُوَ مِنْ أَمر الْيَهُودِ". قَالَ: فذُكِرَ لَهُ النَّاقُوسُ، فَقَالَ: "هُوَ مِنْ أَمر النَّصَارَى". فَانْصَرَفَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ (12) بْنِ عَبَدِ رَبِّهِ وَهُوَ مُهْتَمٌّ لِهَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأُرِيَ الأَذان فِي مَنَامِه ... ، إِلى آخِرِ الْحَدِيثِ.
وَفِي مُسْلِمٍ (13) عَنْ أَنس (14) بْنِ مَالِكٍ أَنه قَالَ: ذَكَرُوا أَن يُعْلِمُوا (15)
_________
(1) في (خ) و (م): "احتجوا".
(2) قوله: "على صحة" سقط من (خ) و (م) و (ت).
(3) في (ت): "في ذلك".
(4) في (خ): "بما وضع".
(5) طبع بعنوان: "ديوان الأحكام الكبرى، النوازل والأعلام لابن سهل"، والموضع المشار إليه هنا تجده فيه في (2/ 1158).
(6) قوله: "منه" ليس في (ت) و (خ) و (م).
(7) علق رشيد رضا على هذا الموضع بقوله: لعل الأصل؛ "وَرُبَّمَا احْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ، وَبِمَا وُضِعَ فِي نَوَازِلِ ابْنِ سَهْلٍ غفلة عما أخذ عليه فيه"، أو أن في الكلام حذفاً غير ما ذكر تصح به العبارة. اهـ.
(8) في "سننه" (498)، ومن طريقه البيهقي في "السنن" (1/ 390)، وصححه الحافظ ابن حجر في "الفتح" (2/ 81)، ونقل تحسين ابن عبد البر له، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في "صحيح سنن أبي داود" (468).
(9) قوله: "له" ليس في (ت) و (خ) و (م).
(10) في (ت) و (خ) و (م): "القمع". والقُنْعُ ـ بضم القاف وسكون النون ـ: البوق، كما سيأتي، وانظر: "النهاية في غريب الحديث" (4/ 115).
(11) قوله: "ذلك" ليس في (ت) و (خ) و (م).
(12) في (ت) و (م): "يزيد".
(13) انظر: "صحيح مسلم" رقم (378)، وأخرجه البخاري أيضاً (603 و605 و607 و3457).
(14) في (م): "ابن أنس".
(15) في (ت) و (م): "يعملوا"، وصوبت في هامش (ت): "يُعَلِّموا" هكذا مضبوطة!.(2/483)
وَقْتَ الصَّلَاةِ بشيءٍ يَعْرِفُونَهُ، فَذَكَرُوا أَن يُنَوِّرُوا نَارًا، أَو يَضْرِبُوا نَاقُوسًا، فأُمر بلالٌ أَن يَشْفَعَ الأَذان وَيُوَتِرَ الإِقامة.
والقُنْعُ والشَّبّور: هُوَ (1) الْبُوقُ، وَهُوَ القَرْنُ الَّذِي وَقَعَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (2).
فأَنت تَرَى كَيْفَ كَرِهَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شأَنَ الْكُفَّارِ، فَلَمْ يَعْمَلْ عَلَى مُوَافَقَتِهِ. فَكَانَ ينبغي لمن ارْتَسَمَ (3) بِسِمَةِ الْعِلْمِ أَن يُنْكِرَ مَا أُحدث مِنْ ذَلِكَ فِي الْمَسَاجِدِ إِعلاماً بالأَوقات، أَو غيرَ إِعلامٍ بِهَا.
أَما الرَّايَةُ: فَقَدْ وُضِعَت إِعلاماً بالأَوقات، وَذَلِكَ شَائِعٌ فِي بِلَادِ الْمَغْرِبِ، حَتَّى إِن الأَذان مَعَهَا قَدْ صَارَ فِي حُكْمِ التَّبَع (4).
وأَما البوق: فهو العَلَم عندنا (5) فِي رَمَضَانَ عَلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ وَدُخُولِ وَقْتِ الإِفطار، ثُمَّ هُوَ عَلَمٌ أَيضاً بِالْمَغْرِبِ والأَندلس عَلَى وَقْتِ السُّحُورِ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً.
والحديثُ قَدْ جَعَلَ علماً على الانتهاء (6): نداءَ ابن أُم مكتوم؛ لقوله عليه السلام (7): "إِن بلالاً ينادي بليل، فكلوا واشربوا حتى يناديَ ابنُ أُم
_________
(1) في (خ): "وهو".
(2) يعني الذي أخرجه البخاري في "صحيحه" (604)، ومسلم (377)، كلاهما من طريق نافع، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قال: كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون، فيتحيّنون الصلوات، وليس ينادي بها أحد، فتكلموا يوماً في ذلك، فقال بعضهم: اتخذوا ناقوساً مثل ناقوس النصارى، وقال بعضهم: قرناً مثل قرن اليهود ... ، الحديث.
(3) لم تتضح الكلمة في (خ)، وأثبتها رشيد رضا في طبعته: "اتسم".
(4) علق رشيد رضا رحمه الله على هذا الموضع بقوله: "في بعض بلاد الشام يرفعون علماً من منارة الجامع الذي يكون فيه الموقِّت لأجل أن يراه المؤذنون من سائر المنارات فيؤذنون في وقت واحد، وإنما يكون ذلك في وقت الظهر والعصر والمغرب" اهـ.
(5) قوله: "عندنا" من (ر) و (غ) فقط.
(6) في (ت) و (خ) و (م): "قد جعل علماً لانتهاء".
(7) أخرجه البخاري (617 و2656)، ومسلم (1092)، ولم يذكر مسلم قوله: "وكان ابن أم مكتوم ... " إلخ.(2/484)
مَكْتُومٍ" (1). قَالَ ابْنُ شِهَابٍ (2): وَكَانَ ابْنُ أُم مَكْتُومٍ رَجُلًا أَعمى لَا يُنادي حَتَّى يُقَالَ لَهُ: أَصبحت أَصبحت.
وَفِي مُسْلِمٍ وأَبي دَاوُدَ: "لَا يَمْنَعَنَّ أَحدَكم نداءُ (3) بِلَالٍ مِنْ سَحُورِهِ (4)؛ فإِنه يؤذِّن لِيَرْجِعَ قائمَكُم، وَيُوقِظَ نَائِمَكُمْ ... " (5)، الْحَدِيثَ. فقد جعل أَذان بلال لأَن يُنَبِّه (6) النائمَ لِمَا يَحْتَاجُ إِليه مِنْ سَحُورِهِ وَغَيْرِهِ.
فَالْبُوقُ مَا شأْنه وَقَدْ كَرِهَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؟ وَمِثْلُهُ النَّارُ الَّتِي تُرفع دَائِمًا فِي أَوقات الليل، وبالعِشاءِ (7)، والصبح (8)، وفي (9) رَمَضَانَ أَيضاً، إِعلاماً بِدُخُولِهِ، فَتُوقَدُ (10) فِي دَاخِلِ المسجد، ثم في وقت السحور تُرْفَعُ (11) فِي المَنار إِعلاماً بِالْوَقْتِ (12)، والنارُ شِعَارُ (13) الْمَجُوسِ فِي الأَصل.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ (14): أَولُ من اتّخذ البخور في المساجد (15) بَنُو بَرْمَك: يَحْيَى بْنُ خَالِدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ خالد، ملَّكهما الوالي أَمرَ الدِّين (16)،
_________
(1) من قوله: "لقوله عليه السلام ... " إلى هنا سقط من (ت) و (خ) و (م).
(2) هو الراوي للحديث عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، ولكن لم يعينه البخاري في روايته، وإنما جاء تعيينه في رواية الإسماعيلي والطحاوي كما قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (2/ 100).
(3) في (ر) و (غ): "أذان" بدل "نداء".
(4) في (م): "سحور".
(5) أخرجه البخاري (621) ومسلم (1093)، وأبو داود (2339) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
(6) كذا في (ر) و (غ)، وفي باقي النسخ: "ينتبه".
(7) في (ت) و (ر) و (غ): "بالعشاء" بدون واو.
(8) في (م): "الصبح" بدون واو.
(9) في (خ): "في" بدون واو.
(10) في (ت): "والصبح إعلاماً بدخولها، وفي رمضان أيضاً توقد".
(11) في (ت) و (خ) و (م): "ثم ترفع".
(12) في (غ): "إعلاماً بالنار".
(13) في (ت): "من شعار".
(14) في "العواصم" (ص62).
(15) في (ت) و (م) و (خ): "المسجد".
(16) بهامش (ت): "الدولة"؛ يعني بدل "الدين".(2/485)
فَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدٍ، حَاجِبًا، وَيَحْيَى وَزِيرًا، ثُمَّ ابْنُهُ جَعْفَرُ بْنُ يَحْيَى. قَالَ: وَكَانُوا بَاطِنِيَّةً؛ يَعْتَقِدُونَ آراءَ الْفَلَاسِفَةِ، فأَحيوا المجوسيَّة، وَاتَّخَذُوا البخور في المساجد ـ وإِنما كانت (1) تُطَيَّبُ بالخَلوق ـ، فزادوا التَّجْمير ليَعْمُروها (2) بالنار منقولة؛ حتى يجعلوها عند الأُنس (3) بِبَخُورِهَا ثَابِتَةً. انْتَهَى (4).
وَحَاصِلُهُ أَن النَّارَ لَيْسَ إِيقادُها فِي الْمَسَاجِدِ مِنْ شأْن السَّلف الصَّالِحِ، وَلَا كَانَتْ مِمَّا تُزَيَّن بِهَا المساجدُ البتَّةَ، ثُمَّ أُحدث التَّزْيِينُ (5) بِهَا حَتَّى صَارَتْ مِنْ جُمْلَةِ مَا يُعَظَّم بِهِ رَمَضَانُ، وَاعْتَقَدَ الْعَامَّةُ هَذَا كَمَا اعْتَقَدُوا طَلَبَ الْبُوقِ فِي رَمَضَانَ في المساجد، حتى لقد سأَل بعض الناس (6) عنه:
_________
(1) قوله: "كانت" سقط من (خ) و (م) و (ت).
(2) في (خ): "ويعمرونها"، وفي (م): "ويعمروها"، وفي (ت): "وتعميرها بالنار"، ثم بياض مكان قوله: "منقولة ... " إلى "ثابتة"، ثم ذكر في الهامش أن في نسخة: "وَيُعَمِّرُونَهَا بِالنَّارِ مَنْقُولَةً حَتَّى يَجْعَلُوهَا عِنْدَ الْأَنْدَلُسِ ببخورها ثابتة".
(3) في (خ) و (م): "الأندلس"، وكذا بهامش (ت) كما سبق.
(4) الذي يظهر أن مقصود ابن العربي رحمه الله من قوله: "أول من اتخذ البخور في المساجد بنو برمك ... ": إنما هو البخور الذي كان يصاحبه إيقادٌ للنار في المساجد؛ والذي فيه إحياء لدين المجوسية، ويؤيده قوله: "ليعمروها بالنار ... "، وهذا الذي فهمه المصنف رحمه الله حيث قال: "وحاصله أن النار ليس إيقادها في المساجد من شأن السَّلف الصالح".
أما أصل تبخير المساجد على غير هذا النحو فمعروف عند السَّلف؛ بل وُصِفَ غيرُ واحد ممن كان يفعل ذلك بـ"المُجْمِر".
قال الحافظ في "الفتح" (1/ 235) عن نُعيم بن عبد الله المُجْمِر: "وُصِفَ هو وأبوه بذلك؛ لأنهما كانا يبخران مسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم". ويؤيد هذا ما نقله رشيد رضا رحمه الله عن بعض المؤرخين: "أن البرامكة زينوا للرشيد وضع المجامر في الكعبة المشرفة، ليأنس المسلمون بوضع النار في أعظم معابدهم، والنار معبودُ المجوس، والظاهر أن البرامكة كانوا من رؤساء جمعيات المجوس السرية التي تحاول هدم الإسلام وسلطة العرب وإعادة الملك للمجوس، وإنما فتك بهم هارون الرشيد لأنه وقف على دخائلهم". اهـ. والله أعلم.
(5) في (ت) و (م) و (خ): "التزين".
(6) قوله: "الناس" سقط من (خ) و (م) و (ت).(2/486)
أَهو سُنَّةٌ أَم لَا؟ وَلَا يَشُكُّ أَحد (1) أَن غَالِبَ الْعَوَامِّ يَعْتَقِدُونَ أَن مِثْلَ هَذِهِ الأُمور مَشْرُوعَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ فِي الْمَسَاجِدِ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ تَرْكِ الْخَوَاصِّ الإِنكار عَلَيْهِمْ.
وَكَذَلِكَ أَيضاً: لمَّا لَمْ يُتَّخَذِ النَّاقُوسُ للإِعلام، حَاوَلَ الشَّيْطَانُ فِيهِ بِمَكِيدَةٍ أُخرى؛ فَعُلِّق بِالْمَسَاجِدِ، واعتُدَّ بِهِ فِي جُمْلَةِ الْالَآتِ الَّتِي تُوقَدُ عَلَيْهَا النِّيرَانَ، وتُزخرف بِهَا الْمَسَاجِدُ، زِيَادَةً إِلى زَخْرَفَتِهَا بِغَيْرِ ذَلِكَ، كَمَا تُزَخْرَفُ الْكَنَائِسُ والبِيَع.
وَمِثْلُهُ: إِيقادُ الشَّمعِ بجبل عرفة (2) لَيْلَةَ الثَّامِنِ (3)، ذَكَرَ (4) النَّوَوِيُّ أَنها مِنَ الْبِدَعِ الْقَبِيحَةِ، وأَنها ضَلَالَةٌ فَاحِشَةٌ جُمِعَ فِيهَا أَنواعٌ مِنَ الْقَبَائِحِ؛ مِنْهَا: إِضاعة الْمَالِ فِي غَيْرِ وَجْهِهِ، وَمِنْهَا: إِظهار شَعَائِرِ الْمَجُوسِ، وَمِنْهَا: اخْتِلَاطُ الرِّجَالِ والنساءِ، وَالشَّمْعُ بَيْنَهُمْ، وَوُجُوهُهُمْ بَارِزَةٌ، وَمِنْهَا: تقديم دخول عرفة قبل وقتها المشروع (5). انتهى.
وَقَدْ ذَكَرَ الطَّرْطُوشِيُّ (6) فِي إِيقاد الْمَسَاجِدِ فِي رَمَضَانَ بَعْضَ هَذِهِ الأُمور، وَذَكَرَ أَيضاً قَبَائِحَ سِوَاهَا.
فأَين هَذَا كُلُّهُ مِنْ إِنكار مَالِكٍ تَنَحْنُحَ (7) المؤذِّن، أَو ضَرْبِهِ الْبَابَ ليُعْلِمَ بِالْفَجْرِ، أَو وضعَ الرداءِ (8)، وَهُوَ أَقرب مَرَامًا وأَيسرُ خَطْباً؟ فمن هنا
_________
(1) قوله: "أحد" ليس في (ت).
(2) في (ت) و (خ) و (م): "إيقاد الشمع بعرفة".
(3) كذا! والمعروف ليلة التاسع، وهي ليلة عرفة؛ كما ذكره النووي في الموضع الآتي ذكره.
(4) في (غ): "ذكره".
(5) انظر: "الإيضاح في مناسك الحج والعمرة" للإمام النووي صفحة (295).
(6) في كتابه "الحوادث والبدع". (ص103) فما بعد، لكن لم أر له كلاماً عن إيقاد المساجد، وإنما تكلم عن بدع المساجد.
(7) في (خ): "لتنحنح" وفي (م): "تنحنحن".
(8) تقدم إنكار مالك صفحة (408 ـ 409).(2/487)
تنشأْ (1) بِدَعٌ مُحْدَثَاتٌ، يَعْتَقِدُهَا الْعَوَامُّ سُنَنًا بِسَبَبِ سكوت العلماءِ والخواص عن الإِنكار، أَو بسبب (2) عَمَلِهِمْ بِهَا.
وأَما الْمَفْسَدَةُ الْمَالِيَّةُ: فَهِيَ عَلَى فرض (3) أَن يكون الناس عالمين (4) بحكم المخالفة، وأَنها مخالفة (5) قد ينشأُ الصغير على رؤيتها وظهورها، أَو يدخل فِي الإِسلام أَحد مِمَّنْ يَرَاهَا شَائِعَةً ذَائِعَةً فَيَعْتَقِدُونَهَا جَائِزَةً أَو مَشْرُوعَةً؛ لأَن الْمُخَالَفَةَ إِذا فَشَا فِي النَّاسِ فعلُها مِنْ غَيْرِ إِنكار؛ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْجَاهِلِ بِهَا فَرْقٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ سَائِرِ الْمُبَاحَاتِ أَو الطَّاعَاتِ (6).
وَعِنْدَنَا (7): كَرَاهِيَةُ العلماءِ أَن يَكُونَ الْكُفَّارُ صَيَارِفَةً فِي أَسواق الْمُسْلِمِينَ؛ لِعَمَلِهِمْ (8) بِالرِّبَا، فَكُلُّ مَنْ يَرَاهُمْ مِنَ العامة؛ صيارفةً وَتُجَّارًا فِي أَسواقنا مِنْ غَيْرِ إِنكار؛ يَعْتَقِدُ أَن ذلك جائز؛ كذلك المعصية (9).
وأَنت تَرَى مَذْهَبَ مَالِكٍ الْمَعْرُوفَ فِي بِلَادِنَا: أَن الحلِيَّ المَصُوغَ (10) مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ (11) لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِجِنْسِهِ إِلا وَزْنًا بِوَزْنٍ، وَلَا اعْتِبَارَ بِقِيمَةِ الصِّياغة أَصلاً (12)، والصَّاغَةُ عندنا كلهم أَو غالبهم إِنما يتبايعون ذلك
_________
(1) في (خ) و (ت) و (م): "وأيسر خطباً من أن تنشأ".
(2) في (ت) و (خ) و (م): "وبسبب".
(3) علق رشيد رضا على هذا الموضع بقوله: قوله: "على فرض": ظرف خبر قوله: "فهي"، والجملة من المبتدأ والخبر؛ خبر قوله: "وأما المفسدة المالية".اهـ.
(4) في (ت) و (م) و (خ): "عاملين".
(5) قوله: "مخالفة" ليس في (ت) و (خ) و (م).
(6) في (ر) و (غ): "والطاعات".
(7) في (ر) و (غ): "فعندنا".
(8) في (خ): "لعلمهم" وعلق عليه رشيد رضا بقوله: لعل أصله: "لعملهم"، أو: "لتعاملهم بالربا".
(9) قوله: "المعصية" ليس في (خ) و (م) و (ت).
(10) في (خ) و (م): "الموضوع". وعلق عليه رشيد رضا بقوله: قوله: "الموضوع": لعل الصواب: "المصنوع".
(11) في (م): "أو الفضة".
(12) علق رشيد رضا هنا بقوله: في كتاب "إعلام الموقعين" للمحقق ابن القيم بيان وتحقيق لاعتبار قيمة الصياغة، وجواز بيع الحلي بأكثر من زنته لأجل ذلك. اهـ.(2/488)
على (1) أَن يَسْتَفْضِلوا (2) قِيمَةَ الصِّيَاغَةِ أَو إِجارَتَها (3)، وَيَعْتَقِدُونَ أَن ذَلِكَ جَائِزٌ لَهُمْ، وَلَمْ يَزَلِ العلماءُ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ ومَنْ بَعْدَهُمْ يتحفَّظون مِنْ أَمثال هَذِهِ الأَشياء، حَتَّى كَانُوا يَتْرُكُونَ السُّنن خَوْفًا مِنِ اعْتِقَادِ الْعَوَامِّ أَمراً هُوَ أَشد مِنْ تَرْكِ السُّنَنِ، وأَولى أَن يَتْرُكُوا الْمُبَاحَاتِ أَنْ لَا (4) يُعتقد فِيهَا أَمر (5) لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ، وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ هَذَا فِي بَابِ الْبَيَانِ مِنْ كِتَابِ "الْمُوَافَقَاتِ" (6) ..
فَقَدْ ذَكَرُوا أَن عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ لَا يَقْصُرُ فِي السَّفَرِ، فَيُقَالُ لَهُ: أَليس قَدْ قَصَرْتَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَيَقُولُ: بَلَى! وَلَكِنِّي إِمام النَّاسِ، فَيَنْظُرُ إِليَّ الأَعراب وأَهل الْبَادِيَةِ أُصلي رَكْعَتَيْنِ فَيَقُولُونَ: هَكَذَا فُرِضَتْ الصلاة (7) (8).
قَالَ الطَّرْطُوشِيُّ (9): تأَملوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ! فإِن فِي الْقَصْرِ قَوْلَيْنِ لأَهل الإِسلام:
مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: فريضة، ومن أَتَمَّ فإِنه يأْثم (10) وَيُعِيدُ أَبداً.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: سُنَّةٌ، يُعِيدُ مَنْ أَتَمَّ فِي الْوَقْتِ؛ ثُمَّ اقْتَحَمَ عُثْمَانُ تَرْكَ الْفَرْضِ أَو السُّنَّةِ (11)؛ لَمَّا خَافَ مِنْ سوءِ العاقبة، وأَن (12) يعتقد الناس أَن الفرض ركعتان.
_________
(1) في (ت) و (خ) و (م): "يتبايعون على ذلك".
(2) في (ت): "بأن يستفصلوا".
(3) في (م): "أو إجازتها".
(4) في (ت): "لئلاّ".
(5) في (م): "أمراً".
(6) (4/ 102) وما بعدها.
(7) قوله: "الصلاة" ليس في (ت) و (خ) و (م).
(8) تقدم صفحة (344). وعلق عليه رشيد رضا بقوله: تقدم ذكر هذه المسألة مع تنبيه في الحاشية على ما أجابوا به عن عثمان فيها. اهـ.
(9) في "الحوادث والبدع" (ص43).
(10) في (ت) و (خ) و (م): "فإنما يتم".
(11) في (ت): "السنة أو الفرض".
(12) في (ت) و (خ) و (م): "أن" بدون واو.(2/489)
وَكَانَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَا يُضَحُّون؛ يعني أَنهم لا يلتزمون ذلك (1).
قال حُذَيْفَةُ بْنُ أَسيد: شَهِدْتُ أَبا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَكَانَا (2) لَا يُضَحِّيان مَخَافَةَ أَن يُرى أَنها وَاجِبَةٌ (3).
وَقَالَ بِلَالٌ: لَا أُبالي أَن أُضَحِّيَ بكبش (4) أَو بِدِيكٍ (5).
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنه كَانَ يَشْتَرِي لَحْمًا بِدِرْهَمٍ يَوْمَ الأَضحى، وَيَقُولُ لِعِكْرِمَةَ: مَنْ سأَلك فَقُلْ: هَذِهِ أُضحية ابن عباس (6).
_________
(1) قوله: "ذلك" ليس في (خ) و (ت)، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: لعل المفعول وهو "الأضحية" سقط من قلم الناسخ. اهـ.
(2) قوله: "وكانا" ليس في (خ) و (م) و (ت).
(3) تقدم تخريجه صفحة (346).
(4) في (ت) و (خ): "بكبشين".
(5) أخرجه عبد الرزاق (8156)، وابن حزم في "المحلى" (7/ 358) من طريق سويد بن غَفَلَة؛ سمعت بلالاً ... ، فذكره ولم يذكر قوله: "بكبش". وإسناده صحيح.
وذكره الطرطوشي في "الحوادث" (ص43).
(6) أثر ابن عباس هذا علّقه الشافعي في "الأم" (2/ 224)، وابن عبد البر في "التمهيد" (3/ 194) عن عكرمة، عن ابن عباس.
وأخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (8146) من طريق أبي معشر، عن رجل مولى لابن عباس؛ قال: أرسلني ابن عباس أشتري له لحماً بدرهمين، وقال: قل: هذه ضحيّة ابن عباس.
وسنده ضعيف؛ لضعف أبي معشر نجيح بن عبد الرحمن السِّندي؛ كما في "التقريب" (7150).
وأما شيخه المبهم: فقد أوضحته رواية ابن حزم؛ حيث ذكر في "المحلى" (7/ 358) أنه يرويه من طريق وكيع، عن أبي معشر المديني، عن عبد الله بن عمير مولى ابن عباس، عن ابن عباس: أنه أعطى مولى له درهمين وقال: اشتر بهما لحماً، ومن لقيك فقل: هذه أضحية ابن عباس.
وعبد الله بن عمير هذا ثقة، كما في "التقريب" (3537).
وأخرجه البيهقي في "سننه" (9/ 265) من طريق أبي محمد يحيى بن منصور القاضي، عن محمد بن عمرو بن النضر الحَرَشي المعروف بقشمرد، عن عبد الله بن مسلمة القعنبي، عن سلمة بن بخت، عن عكرمة، به.=(2/490)
وقال [أبو] (1) مَسْعُودٍ: إِني لأَترك أُضحيتي ـ وإِني لَمِنْ أَيْسَرِكُم ـ مَخَافَةَ أَن يَظُنَّ الجيران أَنها وَاجِبَةٌ (2).
وَقَالَ طَاوُسٌ (3): مَا رأَيت بَيْتًا أَكثر لَحْمًا وَخُبْزًا وَعِلْمًا (4) مِنْ بَيْتِ ابْنِ عَبَّاسٍ، يَذْبَحُ وَيَنْحَرُ كُلَّ يَوْمٍ، ثُمَّ لَا يذبح يوم العيد! وإِنما كان يَفْعَلُ ذَلِكَ لِئَلَّا يَظُنَّ النَّاسُ أَنها وَاجِبَةٌ، وَكَانَ إِماماً يُقْتَدَى بِهِ.
قَالَ الطَّرْطُوشِيُّ (5): وَالْقَوْلُ فِي هَذَا كَالَّذِي قَبْلَهُ، وإِن لأَهل الإِسلام قَوْلَيْنِ فِي الأُضحية.
أَحدهما: سُنَّة.
وَالثَّانِي: وَاجِبَةٌ، ثُمَّ اقْتَحَمَتِ الصَّحَابَةُ تركَ السُّنَّة حَذَرًا مِنْ أَن يَضَعَ الناسُ الأَمرَ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهِ، فيعتقدونها (6) فريضة.
وقال (7) مالك في "الموطأ" (8) في صيام ستة أَيام (9) بَعْدَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ: "إِنه لَمْ يَرَ أَحداً مِنْ أَهل الْعِلْمِ وَالْفِقْهِ يَصُومُهَا". قَالَ: "وَلَمْ يَبْلُغْني ذَلِكَ عَنْ أَحد مِنَ السَّلَف، وإِنّ أَهل الْعِلْمِ يَكْرَهُونَ ذَلِكَ وَيَخَافُونَ بِدْعَتَهُ، وأَن يُلْحِق أَهلُ الْجَهَالَةِ والجَفاءِ بِرَمَضَانَ مَا لَيْسَ مِنْهُ لَوْ رأَوا فِي ذَلِكَ رُخْصَةً من أَهل العلم، ورأَوهم يفعلون (10) ذلك (11) ".
_________
=وسنده رجاله ثقات، عدا محمد بن عمرو، فلم أجد من ترجم له، سوى الحافظ ابن حجر فإنه قال في "نزهة الألباب" (2/ 91 ـ 92 رقم 2249): "قَشْمُرَد: هو محمد بن عمرو بن النضر النيسابوري، الحافظ، ويقال له: كشْمُرَد؛ بالكاف".
(1) في جميع النسخ: "ابن"، وتقدم تصويبه (ص346).
(2) تقدم تخريجه صفحة (346).
(3) لم أجد من أخرج قول طاوس هذا، ولكن ذكره الطرطوشي هكذا في "الحوادث والبدع" (ص43)، فالظاهر أن المصنف أخذه عنه.
(4) في (ت) و (خ) و (م): "وعملاً".
(5) في "الحوادث والبدع" (ص43 ـ 44).
(6) في (ر) و (غ): "فيعتقدوها".
(7) في (خ) و (م) و (ت): "قال".
(8) (1/ 311)، وانظر ما تقدم (1/ 357 ـ 358)، و (ص347 و355) من هذا المجلد.
(9) قوله: "أيام" سقط من (خ).
(10) في (ت) و (م) و (خ): "يقولون".
(11) في (م): "تلك" بدل "ذلك".(2/491)
فَكَلَامُ مَالِكٍ هُنَا لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنه لَمْ يَحْفَظِ الْحَدِيثَ (1) كَمَا توهَّم بعضُهم، بَلْ لَعَلَّ كَلَامَهُ مُشْعِرٌ بأَنه يَعْلَمُهُ، لَكِنَّهُ (2) لَمْ يَرَ الْعَمَلَ عَلَيْهِ وإِن كَانَ مُسْتَحَبًّا فِي الأَصل؛ لِئَلَّا يَكُونَ ذَرِيعَةً لِمَا قَالَ، كَمَا فَعَلَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي الأُضحية، وَعُثْمَانُ فِي الإِتمام فِي السَّفَرِ (3).
وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ مَا هُوَ أَغرب مِنْ هَذَا ـ وإِن كَانَ هُوَ الأَصل ـ، فَذَكَرَ: أَن النَّاسَ كَانُوا إِذا صَلّوا فِي الصَّحْن مِنْ جَامِعِ الْبَصْرَةِ أَو الكوفة، وَرَفَعُوا مِنَ السُّجُودِ؛ مَسَحُوا جِباهَهُمْ مِنَ التُّراب؛ كأَنه (4) كان مفروشاً بالتراب، فأَمر زياد بإِلقاءِ الحصى في صحن المسجد، وقال: لستُ آمَنُ أَن يَطُولَ (5) الزَّمَانُ، فَيَظُنُّ الصَّغِيرُ إِذا نشأَ أَن مَسْحَ الْجَبْهَةِ مِنْ أَثر السُّجُودِ سُنَّة فِي الصَّلَاةِ.
وَهَذَا فِي مُبَاحٍ، فَكَيْفَ بِهِ فِي الْمَكْرُوهِ أَو الْمَمْنُوعِ؟
وَلَقَدْ بَلَغَنِي فِي هَذَا الزَّمَانِ عَنْ بَعْضِ مَنْ هُوَ حَدِيثُ عهد بالإِسلام أَنه قال في الخمر: إِنها (6) لَيْسَتْ بحرامٍ، وَلَا عَيْبَ فِيهَا، وإِنما الْعَيْبُ أَن يُفْعَلَ بِهَا مَا لَا يصلُح؛ كَالْقَتْلِ وشِبْهِه.
وَهَذَا الِاعْتِقَادُ لَوْ كَانَ مِمَّنْ نشأَ في الإِسلام لكان (7) كُفْرًا، لأَنه إِنكارٌ لِمَا (8) عُلِمَ مِنْ دِينِ الأُمة ضَرُورَةً، وَسَبَبُ ذَلِكَ: تركُ الإِنكار مِنَ الوُلاة عَلَى شَارِبِهَا، والتَّخْلِيَةُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اقْتِنَائِهَا، وشهرةُ تجارة (9) أَهل الذمة فيها، وأَشباه ذلك.
_________
(1) يعني: حديث أبي أيوب في فضل صيام ست من شوال، وتقدم تخريجه (ص347).
(2) في (ر) و (غ): "لكن".
(3) تقدم تخريجها في الصفحة السابقة والتي قبلها.
(4) في (ت): "لأنه" بدل "كأنه"، وذكر في الهامش أن في نسخة: "كأنه".
(5) في (ت) و (خ): "من أن يطول".
(6) قوله: "إنها" ليس في (خ) و (م) و (ت).
(7) في (ت) و (خ) و (م): "كان".
(8) في (غ): "كما".
(9) كذا في (ر) و (غ)، وفي (م): "بجاره"، أو: "فجاره"، وفي (ت): "وشهرته بحارة"،=(2/492)
وَلَا مَعْنَى لِلْبِدْعَةِ، إِلا أَن يَكُونَ الْفِعْلُ في اعتقاد المعتقد (1) مشروعاً، وليس بمشروع (2). وهذا المآل مُتَوَقَّعٌ أَو وَاقِعٌ؛ فَقَدْ حَكَى الْقَرَافِيُّ (3) عَنِ العجم ما يقتضي أَن ستة الأَيام مِنْ شَوَّالٍ مُلْحَقَةٌ عِنْدَهُمْ بِرَمَضَانَ؛ لإِبقائهم حَالَةَ رَمَضَانَ الْخَاصَّةَ بِهِ كَمَا (4) هِيَ إِلى تَمَامِ السِّتَّةِ الأَيام، وَكَذَلِكَ وَقَعَ عِنْدَنَا مِثْلُهُ، وقد مَرَّ منه (5) فِي الْبَابِ الأَول (6).
وجميعُ هَذَا مَنُوطٌ إِثمه بِمَنْ يَتْرُكُ الإِنكار مِنَ الْعُلَمَاءِ أَو غَيْرِهِمْ، أَو مَنْ (7) يَعْمَلُ بِبَعْضِهَا بمرأَى مِنَ النَّاسِ، أَو في جوامعهم (8)، فإِنهم الأَصل في انْتِشاءِ (9) هذه الاعتقادات في المعاصي أَو غيرها.
وإِذا تَقَرَّرَ هَذَا: فَالْبِدْعَةُ تنشأُ عَنْ (10) أَربعة أَوجه:
أَحدها ـ وَهُوَ أَظهر الأَقسام ـ: أَن يَخْتَرِعَهَا الْمُبْتَدِعُ.
وَالثَّانِي: أَن يَعْمَلَ بِهَا الْعَالِمُ عَلَى وجه المخالفة، فيفهمها الجاهل مشروعة.
_________
=أو: "وشهرته لجارة"، ولم تتضح في (خ)، وأثبتها رشيد رضا رحمه الله "وشهرته بحارة" واستشكل معناها وقال: "ينظر ما مراده بهذه الجملة، والظاهر أنه كان لأهل الذمّة في الأندلس حارات يسكنونها وحدهم، أو يكثرون فيها، وأن الخمر كانت تباع فيها؛ كما هي الحال في بعض بلاد المسلمين بالمشرق".اهـ.
(1) في (ت) و (خ): "المبتدع" بدل "المعتقد".
(2) في (ت): "وليس هو بمشروع".
(3) في الفرق الخامس بعد المئة من "كتاب الفروق" (2/ 314)؛ حيث ذكر عن المالكية أن تأخير صيام ستة أيام من شوال أفضل؛ لئلا يتطاول الزمان، فيلحق برمضان عند الجهال. ثم نقل عن شيخه عبد العظيم المنذري أنه قال: إن الذي خشي منه مالك رحمه الله تعالى قَدْ وَقَعَ بِالْعَجَمِ، فَصَارُوا يَتْرُكُونَ المسحِّرين عَلَى عادتهم، والقوانين وشعائر رمضان، إلى آخر الستة الأيام، فحيئذٍ يظهرون شعائر العيد. اهـ.
(4) في (ت) و (خ) و (م): "الخاصة بكما".
(5) قوله: "منه" ليس في (خ) و (م) و (ت).
(6) انظر (1/ 50).
(7) في (غ): " أو ممن".
(8) في (ت) و (خ) و (م): "مواقعهم".
(9) يعني: ابتداء، ويدل عليه كلام المصنف الآتي. ووقع في (ت) و (خ) و (م): "انتشار".
(10) في (ر) و (غ): "على".(2/493)
وَالثَّالِثُ: أَن يَعْمَلَ بِهَا الْجَاهِلُ مَعَ سُكُوتِ الْعَالِمِ عَنِ الإِنكار، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ، فَيَفْهَمَ الْجَاهِلُ أَنها لَيْسَتْ بِمُخَالَفَةٍ.
وَالرَّابِعُ: مِنْ بَابِ الذرائع، وهو (1): أَن يَكُونَ الْعَمَلُ فِي أَصله مَعْرُوفًا، إِلا أَنه يَتَبَدَّلُ الِاعْتِقَادُ فِيهِ مَعَ طُولِ الْعَهْدِ بِالذِّكْرَى (2).
إِلا أَن هَذِهِ الأَقسام لَيْسَتْ عَلَى وزانٍ واحدٍ، وَلَا يَقَعُ اسْمُ الْبِدْعَةِ عَلَيْهَا بِالتَّوَاطُؤِ، بَلْ هِيَ فِي القُرب وَالْبُعْدِ عَلَى تَفَاوُتٍ:
فالأَول: هُوَ الْحَقِيقُ بِاسْمِ الْبِدْعَةِ، فإِنها تؤخذ عنه (3) بِالنَّصِّ عَلَيْهَا.
وَيَلِيهِ الْقِسْمُ الثَّانِي: فإِن الْعَمَلَ يشبه (4) التَّنْصِيصُ بِالْقَوْلِ، بَلْ قَدْ يَكُونُ أَبلغ مِنْهُ فِي مَوَاضِعَ ـ كَمَا تبَّين فِي الأُصول ـ، غَيْرَ أَنه لا يتنزَّل (5) هاهنا من كل وجه منزلته؛ بدليل (6): أَن العالِمَ قَدْ يَعْمَلُ وَيَنُصُّ عَلَى قُبح عَمَلِهِ، وَلِذَلِكَ قَالُوا (7): لَا تَنْظُرْ إِلى عَمَلِ الْعَالِمِ، وَلَكِنْ سَلْهُ يَصْدُقْكَ، وَقَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحمد أَو غَيْرُهُ:
اعْمَلْ بعِلْمِي وَلَا تَنْظُر إِلى عَمَلِي ... يَنْفَعْكَ عِلْمِي وَلا يَضْرُرْكَ (8) تَقْصِيرِي (9)
_________
(1) في (خ) و (م): "وهي".
(2) في (ت): "بالأصلي" بدل "بالذكرى".
(3) في (ت) و (خ) و (م): "علة".
(4) في (خ) و (م): "يشبهه".
(5) في (ت) و (م) و (خ): "لا ينزل".
(6) في (خ): "منزلة الدليل". وفي (ت) و (م): "منزلة دليل".
(7) القائل هو: إياس بن معاوية القاضي، وقوله هذا أخرجه وكيع في "أخبار القضاة" (1/ 350)، والسهمي في "تاريخ جرجان" (1/ 213 رقم 328)، كلاهما من طريق حماد بن سلمة، عن إياس بن معاوية قال: لا تنظر إلى ما يعمل الفقيه، فإنه يصنع الأشياء يكرهها، ولكن سَلْه يخبرك بالحق.
هذا لفظ وكيع، ونحوه لفظ السهمي، إلا أنه قال: "العالم" بدل "الفقيه"، وقال: "ولكن قل له" بدل "ولكن سله".
وذكر المزي في "تهذيب الكمال" (3/ 433) أن عمر بن شبّة قال: حدثنا موسى بن إسماعيل؛ قال: حدثنا حماد بن سلمة؛ قال: قال إياس ... ، فذكره مثل لفظ السهمي.
وذكره ابن القيم في "إعلام الموقعين" (3/ 169) معلَّقاً عن إياس.
(8) في (ت) و (خ) و (م): "يضرك".
(9) انظر: "جمهرة خطب العرب" (2/ 277).(2/494)
وَيَلِيهِ الْقِسْمُ الثَّالِثُ: فإِن تَرْكَ الإِنكار ـ مَعَ أَن رُتبة المُنْكِر رتبةُ مَنْ يُعَدُّ (1) ذَلِكَ مِنْهُ إِقراراً ـ يَقْتَضِي أَن الْفِعْلَ غيرُ مُنْكَر، ولكن لا يتنزَّل (2) مَنْزِلَةَ مَا قَبْلَهُ؛ لأَن الصَّوَارِفَ لِلْقُدْرَةِ كثيرة، فقد (3) يَكُونُ التَّرْكُ لِعُذْرٍ؛ بِخِلَافِ الْفِعْلِ، فإِنه لَا عُذْرَ فِي فِعْلِ الإِنسان بِالْمُخَالَفَةِ، مَعَ عِلْمِهِ بكونها مُخَالَفَةً.
وَيَلِيهِ الْقِسْمُ الرَّابِعُ: لأَن الْمَحْظُورَ الحاليَّ فيما تقدم غير واقع (4) فيه بالفرض، فلا تبلغ المفسدة المُتَوَقَّعة أَن تُعَدَّ في رُتْبَةَ (5) الْوَاقِعَةِ أَصلاً، فَلِذَلِكَ كَانَتْ مِنْ بَابِ الذَّرَائِعِ، فَهِيَ إِذاً لَمْ تَبْلُغْ أَن تَكُونَ فِي الْحَالِ بِدْعَةً، فَلَا تَدْخُلُ بِهَذَا النَّظَرِ تَحْتَ حَقِيقَةِ الْبِدْعَةِ.
وأَما الْقِسْمُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ: فَالْمُخَالَفَةُ فِيهِ بِالذَّاتِ، وَالْبِدْعَةُ مِنْ خَارِجٍ، إِلا أَنها لَازِمَةٌ لُزُومًا عَادِيًّا، وَلُزُومُ الثَّانِي أَقوى من لزوم الثالث، والله أَعلم.
_________
(1) في (ت) و (خ) و (م): "بعد".
(2) في (ت) و (خ) و (م): "ولكن يتنزل".
(3) في (خ) و (م): "قد".
(4) في (غ) يشبه أن تكون "واقف".
(5) في (ت) و (خ) و (م): "أن تعدّى رتبة".(2/495)
الْبَابُ الثَّامِنُ
فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْبِدَعِ وَالْمَصَالِحِ المرسلة والاستحسان
هَذَا الْبَابُ يُضْطَرُّ إِلَى الْكَلَامِ فِيهِ عِنْدَ النَّظَرِ فِيمَا هُوَ/ بِدْعَةٌ وَمَا لَيْسَ بِبِدْعَةٍ؛ فإن كثيراً من الناس عدُّوا أكثر (صور) (1) الْمَصَالِحِ/ الْمُرْسَلَةِ (2) بِدَعًا، وَنَسَبُوهَا إِلَى الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَجَعَلُوهَا حُجَّةً فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ (مِنْ) (3) اخْتِرَاعِ الْعِبَادَاتِ.
وَقَوْمٌ جَعَلُوا الْبِدَعَ تَنْقَسِمُ بِأَقْسَامِ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ؛ فَقَالُوا: إِنَّ مِنْهَا مَا هُوَ وَاجِبٌ وَمَنْدُوبٌ، وعدُّوا مِنَ الْوَاجِبِ كَتْبَ الْمُصْحَفِ وَغَيْرِهِ، وَمِنَ الْمَنْدُوبِ الِاجْتِمَاعُ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَصَالِحَ الْمُرْسَلَةَ يَرْجِعُ مَعْنَاهَا إِلَى اعْتِبَارِ الْمُنَاسِبِ (4) الَّذِي لَا يَشْهَدُ لَهُ أَصْلٌ مُعَيَّنٌ، فَلَيْسَ لَهُ عَلَى هَذَا شاهد شرعي على الخصوص،
_________
(1) ما بين القوسين زيادة من (غ) و (ر).
(2) اختلفت تعريفات الأصوليين للمصلحة المرسلة، وأفضلها هو تعريف الشاطبي والذي سيأتي في (ص8)، والموافقات (1 16)، وانظر بقية التعريفات في المراجع التالية: المستصفى للغزالي (1 286)، وروضة الناظر (ص148)، ومعالم طريقة السلف في أصول الفقه (ص413 ـ 418)، رحلة الحج للشنقيطي (ص175)، رسالة المصالح المرسلة للشنقيطي، منهج الشنقيطي في تفسير آيات الأحكام (ص340 ـ 348)، وهي رسالة ماجستير بجامعة أم القرى إعداد عبد الرحمن السديس. وقد تكلم شيخ الإسلام ابن تيمية بكلام مهم في المصالح المرسلة والعمل بها في مجموع الفتاوى (11 342).
(3) في (م): كلمة غير واضحة.
(4) المناسب سيذكره الشاطبي مشروحاً (ص7).(3/5)
ولا كونه (مناسباً) (1) بِحَيْثُ إِذَا عُرِضَ عَلَى الْعُقُولِ تَلَقَّتْهُ بِالْقَبُولِ. وَهَذَا بِعَيْنِهِ مَوْجُودٌ فِي الْبِدَعِ الْمُسْتَحْسَنَةِ؛ فَإِنَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى أُمُورٍ فِي الدِّينِ مَصْلَحِيَّةٍ ـ فِي زَعْمِ وَاضِعِيهَا ـ فِي الشَّرْعِ عَلَى الْخُصُوصِ.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنْ كَانَ اعْتِبَارُ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ حَقًّا، فَاعْتِبَارُ الْبِدَعِ الْمُسْتَحْسَنَةِ حَقٌّ، لِأَنَّهُمَا يَجْرِيَانِ مِنْ وَادٍ وَاحِدٍ.
/وَإِنْ لَمْ يَكُنِ اعْتِبَارُ الْبِدَعِ حَقًّا، لَمْ يَصِحَّ اعْتِبَارُ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْقَوْلَ بِالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ لَيْسَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ، بَلْ قَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ أَهْلُ الْأُصُولِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:
فَذَهَبَ الْقَاضِي (2) وَطَائِفَةٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ إِلَى رَدِّهِ، وَأَنَّ الْمَعْنَى لَا يُعْتَبَرُ مَا لَمْ يَسْتَنِدْ إِلَى أَصْلٍ، وَذَهَبَ مَالِكٌ (3) إِلَى اعْتِبَارِ ذَلِكَ (وَبَنَى) (4) الْأَحْكَامَ عَلَيْهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَمُعْظَمُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى التَّمَسُّكِ بِالْمَعْنَى/ الَّذِي لَمْ يَسْتَنِدْ إِلَى أَصْلٍ صَحِيحٍ، لَكِنْ بِشَرْطِ قُرْبِهِ مِنْ مَعَانِي الْأُصُولِ الثَّابِتَةِ، هَذَا مَا حَكَى الْإِمَامُ الْجُوَيْنِيُّ (5).
وَذَهَبَ الْغَزَالِيُّ إِلَى أَنَّ الْمُنَاسِبَ إِنْ وَقَعَ فِي رُتْبَةِ التَّحْسِينِ وَالتَّزْيِينِ لَمْ يُعْتَبَرْ حَتَّى يَشْهَدَ لَهُ أصل لمعين، وَإِنْ/ وَقَعَ فِي رُتْبَةِ الضَّرُورِيِّ فَمَيْلُهُ إِلَى قَبُولِهِ، لَكِنْ (بِشَرْطٍ) (6). قَالَ: وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يؤدي إليه اجتهاد/ مجتهد.
_________
(1) في (ط): "قياسا".
(2) وهو القاضي الباقلاني ووافقه أكثر الشافعية، والمتأخرون من الحنابلة، وبعض الحنفية. انظر: تيسير التحرير (4 171)، والإحكام للآمدي (4 160).
(3) ذهب مالك إلى أنه حجة مطلقاً، وهو منقول عن الشافعي في القديم. انظر: شرح تنقيح الفصول (446 ـ 447)، وشرح الإسنوي (3 135).
(4) في (غ) و (ر): "وبناء".
(5) انظر: البرهان (2 1113).
(6) في (غ) و (ر): "بشروط".(3/6)
وَاخْتَلَفَ (قَوْلُهُ) (1) فِي الرُّتْبَةِ الْمُتَوَسِّطَةِ، وَهِيَ رُتْبَةُ الْحَاجِيِّ (2)، فَرَدَّهُ فِي/ الْمُسْتَصْفَى (3) وَهُوَ آخِرُ قَوْلَيْهِ، وقبله في شفاء الغليل (4) كَمَا قَبِلَ مَا قَبْلَهُ.
وَإِذَا اعْتُبِرَ مِنَ الْغَزَالِيِّ اخْتِلَافُ قَوْلِهِ، فَالْأَقْوَالُ خَمْسَةٌ، فَإِذًا الرَّادُّ لِاعْتِبَارِهَا لَا يَبْقَى لَهُ فِي الْوَقَائِعِ (5) الصَّحَابِيَّةِ مستند إلا أنها (بدع) (6) / مُسْتَحْسَنَةٌ ـ كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الِاجْتِمَاعِ لِقِيَامِ رَمَضَانَ: نِعْمَتِ البدعة هذه ـ إذ لا يمكنهم ردها لإجماعهم عَلَيْهَا.
وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الِاسْتِحْسَانِ فَإِنَّهُ ـ عَلَى ما (بينه) (7) الْمُتَقَدِّمُونَ ـ رَاجِعٌ إِلَى الْحُكْمِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَالنَّافِي لَهُ لَا يَعُدُّ الِاسْتِحْسَانَ سَبَبًا، فَلَا يُعْتَبَرُ في الأحكام (الحكمة) (8) البتة، فصار كالمصالح المرسلة (إذ) (9) قِيلَ بِرَدِّهَا.
فَلَمَّا كَانَ هَذَا الْمَوْضِعُ مَزَلَّةَ قَدَمٍ لِأَهْلِ الْبِدَعِ أَنْ يَسْتَدِلُّوا عَلَى بِدْعَتِهِمْ من جهته، كان (من) (10) الْحَقُّ الْمُتَعَيَّنُ النَّظَرَ فِي مَنَاطِ الْغَلَطِ الْوَاقِعِ لِهَؤُلَاءِ، حَتَّى (يَتَبَيَّنَ) (11) أَنَّ الْمَصَالِحَ الْمُرْسَلَةَ لَيْسَتْ مِنَ الْبِدَعِ فِي وِرْدٍ وَلَا صَدْرٍ، بِحَوْلِ الله، والله الموفق.
فنقول:/ الْمَعْنَى الْمُنَاسِبُ (12) الَّذِي يُرْبَطُ بِهِ الْحُكْمُ لَا يخلو من ثلاثة أقسام:
_________
(2) (1) ما بين القوسين ساقط من (م).
رتبة الحاجيات: هي ما يفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب. انظر: الموافقات (2/ 4).
(3) انظر: المستصفى (1 293 وما بعدها).
(4) انظر: شفاء الغليل (ص209)، وللوقوف على تفصيل مسألة المصالح المرسلة راجع المحصول للرازي (2 218 ـ 225)، والإبهاج (3 177 ـ 188)، وفصلها الواعي في البدعة والمصالح المرسلة (ص241 ـ 287)، وحقيقة البدعة وأحكامها لسعيد الغامدي (2 146 ـ 189).
(5) في: (م) و (ط) و (خ): "في الواقع له في الوقائع الصحابية". وكذلك في (ت) إلا أنه في هامشها كتب: "بحذف في الواقع له".
(6) في (ط): "بدعة".
(7) في (م) وفي (خ): "بياض بقدر كلمة وفي (غ) و (ر): صوّر.
(8) ما بين القوسين زيادة من (غ) و (ر).
(9) في (ط) و (غ) و (ر): "إذا".
(10) ما بين القوسين ساقط من (ط).
(11) في (م): تبين.
(12) انظر: رسالة المصالح المرسلة للشنقيطي (ص9)، ورحلة الحج (ص175 ـ 181)،=(3/7)
أَحَدُهَا: أَنْ يَشْهَدَ الشَّرْعُ بِقَبُولِهِ، فَلَا إِشْكَالَ فِي صِحَّتِهِ، وَلَا خِلَافَ فِي إِعْمَالِهِ، وَإِلَّا كان مناقضة للشريعة/ (كشرعية) (1) الْقِصَاصِ حِفْظًا لِلنُّفُوسِ وَالْأَطْرَافِ وَغَيْرِهَا.
وَالثَّانِي: مَا شَهِدَ الشَّرْعُ بِرَدِّهِ فَلَا سَبِيلَ إِلَى قَبُولِهِ، إِذِ الْمُنَاسَبَةُ لَا تَقْتَضِي الْحُكْمَ لِنَفْسِهَا، وَإِنَّمَا ذلك مذهب أهل التحسين (والتقبيح) (2) الْعَقْلِيِّ (3)، بَلْ (إِذَا) (4) ظَهَرَ الْمَعْنَى وَفَهِمْنَا مِنَ الشَّرْعِ اعْتِبَارَهُ فِي اقْتِضَاءِ الْأَحْكَامِ، فَحِينَئِذٍ نَقْبَلُهُ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْمَصْلَحَةِ عِنْدَنَا:/ مَا (فُهِمَ) (5) رِعَايَتُهُ فِي حَقِّ الْخَلْقِ مِنْ جَلْبِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَسْتَقِلُّ الْعَقْلُ بِدَرْكِهِ عَلَى حَالٍ، فَإِذَا لَمْ يَشْهَدِ الشَّرْعُ بِاعْتِبَارِ ذلك المعنى، بل (برده) (6) كان مردوداً باتفاق المسلمين.
(ومثاله) (7) مَا حَكَى الْغَزَالِيُّ عَنْ بَعْضِ أَكَابِرِ الْعُلَمَاءِ أنه دخل على
_________
=والمحصول (3 218 ـ 219)، والمدخل لابن بدران (ص293 ـ 294).
(1) في باقي النسخ ما عدا (غ) و (ر) كشريعة.
(2) ما بين القوسين زيادة من (غ) و (ر).
(3) قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ: "وأما مسألة تحسين العقل وتقبيحه ففيها نزاع مشهور بين أهل السنة والجماعة من الطوائف الأربعة وغيرهم. فالحنفية وكثير من المالكية والشافعية والحنبلية يقولون بتحسين العقل وتقبيحه، وهو قول الكرامية والمعتزلة، وهو قول أكثر الطوائف من المسلمين واليهود والنصارى والمجوس وغيرهم، وكثير من الشافعية والمالكية والحنبلية ينفون ذلك، وهو قول الأشعرية، لكن أهل السنة متفقون على إثبات القدر ... والمعتزلة وغيرهم من القدرية يخالفون في هذا ... وقد ظن بعض الناس أن من يقول بتحسين العقل وتقبيحه ينفي القدر ويدخل مع المعتزلة في مسألة التعديل والتجوير وهذا غلط بل جمهور المسلمين لا يوافقون المعتزلة على ذلك ولا يوافقون الأشعرية على نفي الحكم والأسباب، بل جمهور طوائف المسلمين يثبتون القدر ويقولون إن الله خالق كل شيء من أفعال العباد وغيرها ... إلخ. انظر مجموع الفتاوى (8 428 ـ 436)، باختصار. وقد فصل الكلام فيها ابن القيم رحمه الله تعالى في مفتاح دار السعادة (ص334 ـ 446)، وشفاء العليل (ص391 ـ 434).
(4) في (غ) و (ر): "بياض بمقدار كلمة" وساقطة من (ر).
(5) في (غ) و (ر): "فهم الشرع".
(6) في (ط): "يرده".
(7) في (ط): "ومثال"(3/8)
بَعْضِ السَّلَاطِينِ فَسَأَلَهُ عَنِ الْوِقَاعِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، فَقَالَ: عَلَيْكَ صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، فَلَمَّا خَرَجَ رَاجَعَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ (وَقَالُوا لَهُ) (1): الْقَادِرُ عَلَى إِعْتَاقِ الرَّقَبَةِ كَيْفَ يُعْدَلُ بِهِ إِلَى الصَّوْمِ، وَالصَّوْمُ وَظِيفَةُ الْمُعْسِرِينَ، وَهَذَا الْمَلِكُ يَمْلِكُ عَبِيدًا غَيْرَ مَحْصُورِينَ؟ فَقَالَ (لَهُمْ) (2): لَوْ قُلْتُ لَهُ عَلَيْكَ إِعْتَاقُ رَقَبَةٍ لَاسْتَحْقَرَ ذَلِكَ وَأَعْتَقَ عَبِيدًا مِرَارًا، فَلَا يَزْجُرُهُ إِعْتَاقُ الرَّقَبَةِ، وَيَزْجُرُهُ صَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ.
فَهَذَا الْمَعْنَى مُنَاسِبٌ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ مَقْصُودُ الشَّرْعِ مِنْهَا الزَّجْرُ، وَالْمَلِكُ لَا يَزْجُرُهُ الْإِعْتَاقُ، وَيَزْجُرُهُ الصِّيَامُ. وَهَذِهِ الْفُتْيَا بَاطِلَةٌ/ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ/ بَيْنَ قائلَين: قَائِلٌ بِالتَّخْيِيرِ، وَقَائِلٌ بِالتَّرْتِيبِ، فَيُقَدِّمُ الْعِتْقَ عَلَى الصِّيَامِ، فَتَقْدِيمُ الصِّيَامِ بالنسبة (للغني) (3) لَا قَائِلَ بِهِ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ جَاءَ عَنْ مَالِكٍ شَيْءٌ يُشْبِهُ هَذَا، لَكِنَّهُ عَلَى صَرِيحِ الْفِقْهِ.
قَالَ يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ (4): "حَنَثَ الرشيد في يمين فجمع العلماء فأجمعوا (على) (5) أَنَّ عَلَيْهِ/ عِتْقَ رَقَبَةٍ. فَسَأَلَ مَالِكًا، فَقَالَ: صيام ثلاثة أيام. (فقال: ثم أنا معدم؟ وقال الله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} فأقمتني مقام المعدم؟ فقال: نعم يا أمير المؤمنين كل ما في يديك ليس لك فعليك صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ) (6). وَاتَّبَعَهُ عَلَى ذَلِكَ إِسْحَاقُ بن إبراهيم من فقهاء قرطبة (7).
_________
(1) في (م) و (غ) و (ر): "وقال".
(2) ما بين القوسين ساقط من (م) و (غ) و (ر).
(3) في (غ) و (ر): "إلى الغني".
(4) هو: يحيى بن عبد الله بن بكير المصري ولد سنة 155هـ سمع من مالك، والليث بن سعد وابن لهيعة وغيرهم، وأخرج له الشيخان وابن ماجه، ومات 231هـ. انظر: التاريخ الكبير (8 284)، والجرح والتعديل (9 165)، وسير أعلام النبلاء (10 612)، وتهذيب التهذيب (1 237).
(5) ما بين القوسين زيادة من (غ) و (ر).
(6) ما بين القوسين زيادة من (غ) و (ر).
(7) هو: شيخ المالكية بقرطبة، أبو إبراهيم إسحاق بن إبراهيم بن مسرة التجيبي، فقيه قدوة، مات في 352هـ، هكذا قال الذهبي في سير أعلام النبلاء (16 79 ـ 80)، وكرر ترجمته في (16 107)، وذكر أنه توفي في 354هـ، وذكر الضبي ترجمته في بغية الملتمس (1 287)، أنه توفي سنة 352 هـ، ومثله الحميدي في جذوة المقتبس (1 258)، ومثله ابن الفرضي في تاريخ علماء الأندلس (1/ 143).(3/9)
(حَكَى) (1) ابْنُ بِشْكُوَالَ (2) أَنَّ الْحَكَمَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (3) أرسل (للفقهاء) (4) وَشَاوَرَهُمْ فِي مَسْأَلَةٍ نَزَلَتْ بِهِ، (فَذَكَرَ) (5) لَهُمْ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ عَمَدَ إِلَى إِحْدَى كَرَائِمِهِ (6) وَوَطِئَهَا فِي رَمَضَانَ؛ فَأَفْتَوْا بِالْإِطْعَامِ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ سَاكِتٌ. فَقَالَ لَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ: مَا يَقُولُ الشَّيْخُ فِي فَتْوَى أَصْحَابِهِ؟ / فَقَالَ لَهُ (إسحاق) (7): لَا أَقُولُ بِقَوْلِهِمْ، وَأَقُولُ بِالصِّيَامِ./ فَقِيلَ لَهُ: أليس مذهب مالك الإطعام؟ فقال لهم: (لم تحفظوا) (8) مَذْهَبَ مَالِكٍ، (إِلَا إِنْ كُنْتُمْ) (9) تُرِيدُونَ مُصَانَعَةَ أمير المؤمنين (10)،/ إنما أمر مالك بِالْإِطْعَامِ لِمَنْ لَهُ مَالٌ، وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ لَا مال له، إنما هو (مال بيت) (11) المسلمين. فأخذ بقوله أمير المؤمنين (وشكره) (12) عليه. انتهى.
وَهَذَا صَحِيحٌ، نَعَمْ حَكَى ابْنُ بَشْكُوَالَ أَنَّهُ اتَّفَقَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَكَمِ مِثْلُ هَذَا فِي رَمَضَانَ، فَسَأَلَ الْفُقَهَاءَ عَنْ تَوْبَتِهِ مِنْ ذلك
_________
(1) في (غ) و (ر): "بياض بمقدار كلمة".
(2) هو الإمام محدث الأندلس أبو القاسم خلف بن عبد الملك بن مسعود بن موسى بن بشكوال الأنصاري القرطبي، ولد سنة 494هـ؛ وله عدة تصانيف، ومات في سنة 578هـ. انظر: سير أعلام النبلاء (21 139)، والوفيات لابن خلكان (2 240)، وابن كثير في البداية والنهاية (12 312)، وابن العماد في شذرات الذهب (4 261).
(3) هو: الحكم بن عبد الرحمن بن محمد المستنصر بالله، كان حسن السيرة، جامعاً للعلم، مكرماً للأفاضل، جمع من الكتب ما لم يجمعه أحد من الملوك، ولد في سنة 302هـ، ومات سنة 366هـ. انظر: تاريخ علماء الأندلس (1 31)، وبغية الملتمس (1 40)، وجذوة المقتبس (1 42)، وسير أعلام النبلاء (8 269)، وكررها في (16 230)، ونفح الطيب (1 386).
(4) في (ط) و (م) و (خ) و (غ) و (ر): "في الفقهاء".
(5) في (ت): "وذكر".
(6) علق رشيد رضا (2 114)، هنا فقال: المراد بكرائمه عقائل نسائه الحرائر، لا بناته كما هو المستعمل في عرف زماننا.
(7) ما بين القوسين زيادة من (غ) و (ر).
(8) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "تحفظون".
(9) في (ط) و (ت) و (خ): "أنكم".
(10) في (م) زيادة: "فقال لهم". وفي (غ) و (ر): "قال لهم".
(11) في (غ) و (ر): "بيت مال".
(12) في سائر النسخ ما عدا (ت): "وشكر له".(3/10)
(وَكَفَّارَتِهِ) (1). فَقَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى (2): يُكَفِّرُ ذَلِكَ صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ. فَلَمَّا (بَرَزَ) (3) ذَلِكَ مِنْ يَحْيَى سَكَتَ سَائِرُ الْفُقَهَاءِ حَتَّى خَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ، فَقَالُوا لِيَحْيَى: مَا لَكَ لَمْ تُفْتِهِ بِمَذْهَبِنَا عَنْ مَالِكٍ (مِنْ) (4) أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ العتق (والإطعام) (5) وَالصِّيَامِ؟ فَقَالَ لَهُمْ: لَوْ فَتَحْنَا (لَهُ) (6) هَذَا الْبَابَ سَهُلَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَأَ كُلَّ يَوْمٍ وَيُعْتِقَ رَقَبَةً، وَلَكِنْ حَمَلْتُهُ عَلَى أَصْعَبِ الْأُمُورِ لِئَلَّا يَعُودَ (7).
فَإِنْ صَحَّ هَذَا عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى رَحِمَهُ اللَّهُ، وَكَانَ كَلَامُهُ عَلَى ظاهره، كان مخالفاً للإجماع.
(القسم) (8) الثَّالِثُ: مَا سَكَتَتْ عَنْهُ الشَّوَاهِدُ الْخَاصَّةُ، فَلَمْ تَشْهَدْ بِاعْتِبَارِهِ وَلَا بِإِلْغَائِهِ، فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
/أَحَدُهُمَا: (أَنْ) (9) يَرِدَ نَصٌّ عَلَى وَفْقِ ذَلِكَ المعنى، كتعليل منع (القاتل الميراث بالمعاملة) (10) بِنَقِيضِ الْمَقْصُودِ (عَلَى) (11) تَقْدِيرِ أَنْ لَمْ يَرِدْ نَصٌّ عَلَى وَفْقِهِ، (فَإِنَّ) (12) هَذِهِ الْعِلَّةَ لَا عَهْدَ بِهَا فِي تَصَرُّفَاتِ الشَّرْعِ بِالْفَرْضِ/ وَلَا (تلائمها) (13) بِحَيْثُ يُوجَدُ لَهَا جِنْسٌ مُعْتَبَرٌ، فَلَا يَصِحُّ التَّعْلِيلُ بِهَا، وَلَا بِنَاءُ الْحُكْمِ عَلَيْهَا بِاتِّفَاقٍ، وَمِثْلُ هَذَا تَشْرِيعٌ مِنَ الْقَائِلِ بِهِ/ فَلَا يمكن قبوله.
_________
(1) ما بين القوسين ساقط من (غ) و (ر).
(2) هو: يحيى بن يحيى بن كثير بن وسلاس بن شملال فقيه الأندلس المصمودي القرطبي، ولد سنة 152هـ، ومات سنة 234هـ. انظر: تاريخ علماء الأندلس (2 898)، وبغية الملتمس (2 685) وجذوة المقتبس (2 609)، وسير أعلام النبلاء (10 519)، وتهذيب التهذيب (11 300)، وغيرها.
(3) في (ر): "بدر".
(4) ما بين القوسين ساقط من (غ) و (ر).
(5) في سائر النسخ ما عدا (ت): "الطعام".
(6) ما بين القوسين ساقط من (م).
(7) انظر القصة في: ترتيب المدارك (2/ 542)، ووفيات الأعيان (6/ 145)، ونفح الطيب (2/ 10 ـ 11).
(8) ما بين القوسين زيادة من (ت).
(9) في (م): "ألا".
(10) في باقي النسخ مع عدا (غ) و (ر): "القتل للميراث فالمعاملة".
(11) زيادة من (م) و (غ) و (ر).
(12) في (غ) و (ر): "بأن".
(13) في باقي النسخ ما عدا (غ) و (ر): "بملائمها".(3/11)
وَالثَّانِي: أَنْ يُلَائِمَ تَصَرُّفَاتِ الشَّرْعِ، وَهُوَ أَنْ يُوجَدَ لِذَلِكَ الْمَعْنَى جِنْسٌ اعْتَبَرَهُ (الشَّارِعُ) (1) فِي الْجُمْلَةِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ مُعَيَّنٍ، وَهُوَ الِاسْتِدْلَالُ الْمُرْسَلُ (2) الْمُسَمَّى بِالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ/ وَلَا بُدَّ مِنْ بَسْطِهِ بالأمثلة حتى يتبين وجهه بحول الله تعالى.
ولنقتصر على عشرة أمثلة:
(أَحَدُهَا) (3): أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم اتفقوا على جمع (القرآن في) (4) الْمُصْحَفِ، وَلَيْسَ ثَمَّ نَصٌّ عَلَى جَمْعِهِ وكَتْبه أَيْضًا، بَلْ قَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: كَيْفَ نَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ/ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَرُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَقْتَلَ (أَهْلِ) (5) الْيَمَامَةِ، وإذا عنده عمر رضي الله عنه فقال أَبُو بَكْرٍ: (إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقَالَ) (5): إِنَّ الْقَتْلَ قَدِ استحرَّ بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ يَوْمَ الْيَمَامَةِ، وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يستحرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ فِي الْمَوَاطِنِ كُلِّهَا، فَيَذْهَبَ قُرْآنٌ كَثِيرٌ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَأْمُرَ بِجَمْعِ الْقُرْآنِ قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: كَيْفَ أَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ لِي: هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ. فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي فِي ذَلِكَ حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لَهُ، وَرَأَيْتُ فِيهِ الَّذِي رَأَى عُمَرُ./ قَالَ زَيْدٌ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ لَا (نَتَّهِمُكَ) (6)، قَدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَتَبَّعِ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ.
قَالَ زَيْدٌ: فَوَاللَّهِ لَوْ كَلَّفُونِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الْجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِنْ
_________
(1) في (م) و (غ) و (ر): "الشرع".
(2) الاستدلال يقصد به أحد معنيين: أحدهما: مثل الاستصلاح تماماً، والاستصلاح هو: ترتيب الحكم الشرعي على المصلحة المرسلة. فهو ـ كما يقول ابن بدران ـ: اتباع المصلحة المرسلة. والثاني: ما يشمل الأدلة المختلف فيها، وترتيب الأحكام على وفقها كالاستصحاب والاستحسان وغيرهما. انظر: المدخل لابن بدران (ص293)، وضوابط المصلحة للبوطي (ص352).
(3) في (ط): "المثال الأول".
(4) ما بين القوسين زيادة من (غ) و (ر).
(5) ما بين القوسين زيادة من (غ) و (ر).
(6) في (م): "كلمة غير واضحة". وفي (خ): "لا تقصر".(3/12)
ذَلِكَ. فَقُلْتُ: كَيْفَ تَفْعَلُونَ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال أَبُو بَكْرٍ: هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ. فَلَمْ يَزَلْ يراجعني في ذلك أبو بكر (وعمر) (1) حتى شرح الله صدري للذي شرح (صدورهما له) (2) فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والعسب (3) واللخاف (4) ومن صدور (الرجال) (5). (فوجدت آخر سورة براءة مع حذيفة بن ثابت {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} حتى ختم السورة) (6).
فَهَذَا عَمَلٌ لَمْ يُنْقَلْ فِيهِ خِلَافٌ عَنْ أحد من الصحابة رضي الله عنهم.
ثُمَّ رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ كَانَ يُغَازِي أَهْلَ الشَّامِ (مع أهل) (7) الْعِرَاقِ فِي فَتْحِ أَرْمِينِيَّةَ (8) وَأَذْرَبِيجَانَ (9)، فَأَفْزَعَهُ اخْتِلَافُهُمْ/ فِي الْقُرْآنِ، فَقَالَ لِعُثْمَانَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَدْرِكْ هَذِهِ الْأُمَّةَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِفُوا فِي الْكِتَابِ كَمَا اخْتَلَفَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إلى حفصة: (أن) (10)
_________
(1) ما بين القوسين زيادة من (غ) و (ر).
(2) في (ط) و (غ) و (ر): "له صدورهما". وفي (خ) و (ت): "صدورهما".
(3) العسب هو جريد النخل. انظر: لسان العرب مادة عسب.
(4) اللخاف: بالكسر: هو حجارة بيض عريضة رقاق واحدتها (لخْفة)، انظر: لسان العرب مادة لخف.
(5) في باقي النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الرجل".
(6) ما بين القوسين زيادة من (غ) و (ر)، والحديث أخرجه البخاري (4986 و7191)، وأبو داود الطيالسي في مسنده (ص3)، وأبو عبيد في فضائل القرآن (3 ـ 49) (ص152)، وبرقم (8 ـ 49) (ص155)، وأحمد في المسند (77 و21135)، والترمذي (3103)، والنسائي في السنن الكبرى (7995 و8002 و8288)، وأبو بكر المروزي في مسند الصديق (45)، وأبو يعلى في مسنده (64، 65، 71، 91)، وابن أبي داود في المصاحف (12 و13 و14) وابن حبان (4506 و4507)، والطبراني في الكبير (4901 ـ 4903)، والبيهقي في السنن (2202 و20193)، وأخرجه مختصراً جداً أبو علي الأشيب في جزئه (47).
(7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "وأهل".
(8) بفتح الهمزة وقيل بكسرها، بلاد واسعة تقع بين أران وبلاد الكرج والروم والجزيرة وأذربيجان. معجم البلدان (1 160).
(9) تقع بين أران وإرمينية والجزيرة والعراق وجيلان والديلم، وأهم مدنها تبريز. انظر: معجم البلدان (1 128).
(10) ما بين القوسين زيادة من (غ) و (ر).(3/13)
أَرْسِلِي (إِلَيَّ بِالصُّحُفِ) (1) / نَنْسَخُهَا/ فِي الْمَصَاحِفِ ثُمَّ نردها عليك. فأرسلت حفصة (به) (2) إِلَى عُثْمَانَ، فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَإِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَسَعِيدِ بن العاصي (3) وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ (4) فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَنْسَخُوا (الصُّحُفَ) (5) فِي الْمَصَاحِفِ، ثُمَّ قَالَ لِلرَّهْطِ الْقُرَشِيِّينَ الثَّلَاثَةِ:/ مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ (أَنْتُمْ) (6) وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ؛ فَإِنَّهُ نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ.
قَالَ: فَفَعَلُوا، حَتَّى (إِذَا) (7) نَسَخُوا (الصُّحُفَ) (8) فِي الْمَصَاحِفِ، بَعَثَ عُثْمَانُ فِي كُلِّ أُفُقٍ بِمُصْحَفٍ مِنْ تِلْكَ الْمَصَاحِفِ/ الَّتِي نَسَخُوهَا، ثُمَّ أَمَرَ بِمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي كُلِّ صَحِيفَةٍ أَوْ مُصْحَفٍ أَنْ يُحْرَقَ (9).
فَهَذَا أَيْضًا إِجْمَاعٌ آخَرُ فِي كَتْبِهِ، وَجَمْعِ الناس على قراءة (لا) (10)
_________
(1) في (م) و (غ) و (ر): "بالصحف". وفي (ت): "بالمصحف" وكتب في هامشها: "بالصحيفة".
(2) في (م): "بالصحف". وفي (خ) و (ت): "إلي بالمصحف. وفي رواية البخاري والترمذي: إلينا بالصحف.
(3) هو: سعيد بن العاص بن أبي أحيحة القرشي الأموي، قال أبو حاتم: له صحبة، وقال الذهبي: لم يرو عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وروى عن عمر وعائشة، وهو مقل. مات سنة 57 أو 58هـ. انظر: التاريخ الكبير (3 502)، وطبقات ابن سعد (5 30)، وتاريخ الطبري (5 293)، ومعجم الطبراني الكبير (6 73). وسير أعلام النبلاء (3 444).
(4) هو عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي، قال الذهبي: ولا صحبة لعبد الرحمن، بل له رؤية، وتلك صحبة مقيدة. وروى عن أبيه، وعمر، وعثمان، وعلي، وأم المؤمنين حفصة، وطائفة ومات قبل معاوية. انظر: التاريخ الكبير (5 272)، وطبقات ابن سعد (5 5)، وسير أعلام النبلاء (3 484).
(5) في (م) و (خ) و (ت): "المصحف"، وفي (غ) و (ر)، ورواية البخاري والترمذي: الصحف في المصاحف.
(6) ما بين القوسين ساقط من (غ) و (ر).
(7) زيادة من (ط) و (غ) و (ر).
(8) في (خ): "المصحف".
(9) أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن، باب جمع القرآن (4987)، والترمذي (3104)، والنسائي في السنن الكبرى (7988)، وأبو يعلى (92)، وابن حبان (4507).
(10) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "لم".(3/14)
يحصل منها فِي الْغَالِبِ اخْتِلَافٌ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَخْتَلِفُوا إِلَّا فِي الْقِرَاءَاتِ حَسْبَمَا نَقَلَهُ الْعُلَمَاءُ الْمُعْتَنُونَ بِهَذَا الشَّأْنِ. فَلَمْ يُخَالِفْ فِي الْمَسْأَلَةِ إِلَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، فَإِنَّهُ امْتَنَعَ مِنْ طَرْحِ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْقِرَاءَةِ الْمُخَالِفَةِ لِمَصَاحِفِ عُثْمَانَ، وَقَالَ: يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ، وَيَا أَهْلَ الْكُوفَةِ اكْتُمُوا الْمَصَاحِفَ الَّتِي عِنْدَكُمْ وَغُلُّوهَا؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (1)، (فالقوا الله بِالْمَصَاحِفِ) (2).
فَتَأَمَّلْ كَلَامَهُ فَإِنَّهُ لَمْ يُخَالِفْ فِي جَمْعِهِ، وَإِنَّمَا خَالَفَ (أَمْرًا) (3) آخَرَ، وَمَعَ ذَلِكَ فقد قال ابن (شهاب) (4): بَلَغَنِي أَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ رِجَالٌ مِنْ أَفَاضِلِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (5).
وَلَمْ يَرِدْ نَصٌّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا صَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُمْ رَأَوْهُ مَصْلَحَةً تُنَاسِبُ تَصَرُّفَاتِ الشَّرْعِ قَطْعًا؛ فَإِنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى حِفْظِ الشَّرِيعَةِ/ وَالْأَمْرُ بِحِفْظِهَا مَعْلُومٌ، وَإِلَى مَنْعِ الذَّرِيعَةِ لِلِاخْتِلَافِ فِي أَصْلِهَا الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ، وَقَدْ عُلم النَّهْيُ عَنِ الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ بِمَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ.
وَإِذَا اسْتَقَامَ هَذَا الْأَصْلُ فَاحْمِلْ عَلَيْهِ كَتْبَ الْعِلْمِ مِنَ السُّنَنِ وَغَيْرِهَا، إِذَا خِيفَ عَلَيْهَا الِانْدِرَاسُ، زِيَادَةً عَلَى مَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ مِنَ الْأَمْرِ بكَتْبِ الْعِلْمِ.
وَأَنَا أَرْجُو أَنْ يَكُونَ كَتْبَ هَذَا الْكِتَابِ الَّذِي وَضَعْتُ يَدِي فِيهِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ؛ لِأَنِّي رَأَيْتُ بَابَ الْبِدَعِ فِي كَلَامِ العلماء مُغْفَلاً جداً إلا من النقل (الجملي) (6) / كما (نقل) (7) ابن وضاح (8)، أو يؤتى (فيه) (9) بأطراف من
_________
(1) سورة آل عمران: الآية (161).
(2) في سائر النسخ: "وألقوا إليه بالمصاحف، والمثبت من (غ) و (ر) وسنن الترمذي، والأثر أخرجه الترمذي بعد سياقه للحديث السابق، وأخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن (6 ـ 49).
(3) في (غ) و (ر): "في أمر".
(4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "هشام"، والصواب ابن شهاب، وفي الترمذي (3104) قال الزهري.
(5) انظر: الترمذي (3104).
(6) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الجلي".
(7) في (ر): "فعل".
(8) الإمام الحافظ المحدث أبو عبد الله محمد بن وضاح المرواني، تقدمت ترجمته (1 39).
(9) ما بين القوسين زيادة من (غ) و (ر).(3/15)
الْكَلَامِ لَا (يَشْفِي) (1) الْغَلِيلَ بِالتَّفَقُّهِ فِيهِ/ كَمَا ينبغي، ولم (أجده) (2) عَلَى شِدَّةِ بَحْثِي عَنْهُ إِلَّا مَا وَضَعَ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ الطَّرْطُوشِيُّ (3)، وَهُوَ يَسِيرُ فِي جَنْبِ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِيهِ، وَإِلَّا مَا وَضَعَ النَّاسُ فِي الْفِرَقِ الثِّنْتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ، وَهُوَ فَصْلٌ مِنْ فُصُولِ الْبَابِ وَجُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ، فأخذت نفسي بالعناء فيه، عسى (الله أن ينفع) (4) به واضعه، وقارئه، وَنَاشِرُهُ، وَكَاتِبُهُ، وَالْمُنْتَفِعُ بِهِ، وَجَمِيعُ (الْمُسْلِمِينَ) (5)، إِنَّهُ ولي ذلك ومسديه (بسعة) (6) رحمته.
/الْمِثَالُ الثَّانِي:
اتِّفَاقُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حَدِّ شَارِبِ الْخَمْرِ ثَمَانِينَ (7)، وَإِنَّمَا مُسْتَنَدُهُمْ فِيهِ الرُّجُوعُ إِلَى الْمَصَالِحِ وَالتَّمَسُّكُ بِالِاسْتِدْلَالِ الْمُرْسَلِ.
قَالَ الْعُلَمَاءُ: لَمْ يَكُنْ فِيهِ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدٌّ مُقَدَّرٌ، وَإِنَّمَا جَرَى الزَّجْرُ فِيهِ مَجْرَى التَّعْزِيرِ، وَلَمَّا انْتَهَى الْأَمْرُ إِلَى أبي بكر رضي الله عنه (قدره) (8) عَلَى طَرِيقِ النَّظَرِ بِأَرْبَعِينَ، ثُمَّ/ انْتَهَى الْأَمْرُ إلى (عمر) (9) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَتَتَابَعَ النَّاسُ، فَجَمَعَ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ؛ فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ الله عنه/
_________
(1) في (ت): "تشفي".
(2) في (ط) و (خ) و (ت): "أجد" وفي (ر): "لم أجده".
(3) في (غ) و (ر): "أبو الوليد الطرطوشي"، والمشهور أنه أبو بكر وهو أبو بكر محمد بن الوليد بن خلف بن سليمان الأندلسي الطرطوشي، تقدمت (4) ترجمة (1 261).
(5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "أن ينتفع".
(6) ما بين القوسين ساقط من (غ) و (ر).
(7) في (م): "سعة".
(8) ضرب شارب الخمر ثمانين أخرجه من حديث السائب بن يزيد، البخاري برقم (6779) وأحمد (3/ 449) والبيهقي في السنن الكبرى (17314)، وأخرجه من حديث أنس بن مالك، البيهقي في السنن الكبرى (17310 ـ 17313) وأخرجه من حديث عبد الرحمن بن أزهر، أبو داود (4488، 4489) والطبراني في الأوسط (1916) وفي الكبير (1003) والدارقطني في سننه (227) والبيهقي في السنن الكبرى (17315 ـ 17320)، وأخرجه من حديث وبرة الكلبي البيهقي في الكبرى (17317)، وأخرجه من حديث ابن عباس، البيهقي في الكبرى (17321، 17322) وأخرجه من حديث علي بن أبي طالب، البيهقي في الكبرى (17324، 17325) وأخرجه من حديث عبد الله بن أبي الهذيل، البيهقي (17323).
(9) في (غ) و (ر) و (ط): "قرره".
(10) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "عثمان".(3/16)
مَنْ سَكِرَ (هَذَى) (1) وَمَنْ (هَذَى) (13) افْتَرَى، فَأَرَى عَلَيْهِ حَدَّ الْمُفْتَرِي (2).
وَوَجْهُ إِجْرَاءِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى الاستدلال المرسل (3) أن الصحابة (رأوا) (4) الشَّرْعَ (يُقِيمُ) (5) الْأَسْبَابَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مَقَامَ الْمُسَبَّبَاتِ، وَالْمَظِنَّةَ مَقَامَ الْحِكْمَةِ، فَقَدْ جَعَلَ الْإِيلَاجَ/ فِي أَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ يَجْرِي مَجْرَى الْإِنْزَالِ، وَجَعَلَ الْحَافِرَ لِلْبِئْرِ فِي مَحَلِّ الْعُدْوَانِ وَإِنْ لَمْ يكن ثم مُرد كَالْمُرْدِي نَفْسَهُ، وَحَرَّمَ الْخَلْوَةَ بِالْأَجْنَبِيَّةِ حَذَرًا مِنَ الذَّرِيعَةِ إِلَى الْفَسَادِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ (المسائل) (6)، فَرَأَوُا الشُّرْبَ ذَرِيعَةً إِلَى الِافْتِرَاءِ الَّذِي تَقْتَضِيهِ (كثرة) (7) الهذيان (عند السكر) (8) فإنه (أول) (9) سابق إلى السكران.
_________
(1) في (ط): "هذر"، والهذر: الكلام الذي لا يعبأ به، وهو قريب من الهذيان، لأن الهذيان: كلام غير معقول، وهذى: إذا هذر بكلام لا يفهم. انظر: لسان العرب، مادة هذر وهذى.
(2) انظر: الموطأ (1533)، ومصنف عبد الرزاق (7 378) برقم (13542)، ومسند الشافعي (ص286) وبنحوه أخرجه النسائي في السنن الكبرى (5289) والحاكم (8131، 8132)، وذكر الأثر ابن حجر في التلخيص الحبير (4 75)، وبيّن أنه منقطع من رواية مالك، وقد وصله النسائي والحاكم، وقال: "وفي صحته نظر لما ثبت في الصحيحين عن أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم جلد في الخمر بالجريد والنعال، وجلد أبو بكر أربعين، فلما كان عمر استشار الناس، فقال عبد الرحمن: أخف الحدود ثمانون فأمر به عمر"، ولا يقال: يحتمل أن يكون عبد الرحمن وعلي أشارا بذلك جميعاً لما ثبت في صحيح مسلم عن علي في جلد الوليد بن عقبة أنه جلده أربعين وقال: جلد رسول الله أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكلُّ سنة، وهذا أحبّ إليّ، فلو كان هو المشير بالثمانين ما أضافها إلى عمر، ولم يعمل بها لكن يمكن أن يقال: إنه قال لعمر باجتهاده، ثم تغير اجتهاده".
(3) وانظر ما ذكره الغزالي في هذه المسألة، وإجرائها على المصالح المرسلة في: المستصفى (1 305 ـ 306).
(4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "أو".
(5) في (م) و (خ): "تقيم". وفي تعليق المطبوعة (في نسخة ثانية ـ الشريعة تقيم ـ كما يستفاد من هامش الأصل).
(6) في (ط) و (م) و (خ): "الفساد". وفي (ت): "المفاسد". وصححت في هامشها بـ"المسائل".
(7) في (م): "كثرة هذا".
(8) ما بين القوسين زيادة من (غ) و (ر).
(9) في (م): "أو".(3/17)
قَالُوا: فَهَذَا مِنْ/ أَوْضَحِ الْأَدِلَّةِ عَلَى (إِسْنَادِ) (1) الْأَحْكَامِ إِلَى الْمَعَانِي الَّتِي (لَا أَصُولُ) (2) لَهَا ـ يعني على (الخصوص) (3) ـ وهو مقطوع (به) (4) من الصحابة رضي الله عنهم.
المثال الثالث:
إن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم قَضَوْا بِتَضْمِينِ الصُّنَّاعِ. قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا يُصْلِحُ النَّاسَ إِلَّا ذَاكَ (5).
وَوَجْهُ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ أَنَّ النَّاسَ لَهُمْ حَاجَةٌ إِلَى الصُّنَّاعِ، وَهُمْ يَغِيبُونَ عَنِ الْأَمْتِعَةِ فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ، وَالْأَغْلَبُ عَلَيْهِمُ التَّفْرِيطُ، وَتَرْكُ الْحِفْظَ، فَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ تَضْمِينُهُمْ مَعَ مَسِيسِ الْحَاجَةِ إِلَى اسْتِعْمَالِهِمْ لَأَفْضَى ذَلِكَ إِلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا تَرْكُ الِاسْتِصْنَاعِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَذَلِكَ شَاقٌّ عَلَى/ الْخَلْقِ، وإما أن يعملوا ولا يضمنوا (عند دعواهم) (6) الْهَلَاكَ وَالضَّيَاعَ، فَتَضِيعُ الْأَمْوَالُ، وَيَقِلُّ الِاحْتِرَازُ، وَتَتَطَرَّقُ الخيانة، فكانت المصلحة (في) (7) التَّضْمِينَ، هَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: لَا يُصْلِحُ النَّاسَ إِلَّا (ذَاكَ) (8).
/وَلَا يُقَالُ: إِنَّ هَذَا (نَوْعٌ) (9) من الفساد؛ وهو تضمين البريء، إذ
_________
(1) في (م): "إسقاط".
(2) في (م): "الأصول".
(3) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الخصوص به".
(4) ما بين القوسين زيادة من (غ) و (ر).
(5) أخرجه الشافعي في الأم (7/ 96) ومن طريقه البيهقي في السنن الكبرى (11444). وقال الشافعي: وقد روى من وجهٍ لا يثبت أهل الحديث مثله أن علي بن أبي طالب ضمّن الغسّال والصباغ وقال: لا يصلح الناس إلا ذلك". وأخرجه من نفس الطريق ابن أبي شيبة (4/ 360) رقم (21051)، وابن حزم في المحلى (8/ 202) وضعف سند الأثر ابن حجر في التلخيص الحبير (3/ 61) ثم ذكر متابعتين للأثر.
وانظر مسألة تضمين الصناع والكلام فيها في: المغني (6 105 ـ 115)، والمعيار المعرب (13 162 ـ 171)، والمدونة (3 372 ـ 385).
(6) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "ذلك بدعواهم".
(7) ما بين القوسين زيادة من (غ) و (ر).
(8) في (م) و (غ) و (ر): "ذلك".
(9) في (م) و (خ): "النوع".(3/18)
لَعَلَّهُ مَا أَفْسَدَ وَلَا فَرَّطَ؛ فَالتَّضْمِينُ مَعَ/ (هذا) (1) (الإمكان نوع) (2) مِنَ الْفَسَادِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: إِذَا تَقَابَلَتِ الْمَصْلَحَةُ والمضرة فشأن العقلاء النظر إلى التفاوت، ووقوع التَّلَفِ مِنَ الصُّنَّاعِ مِنْ غَيْرِ تَسَبُّبٍ وَلَا تفريط بعيد، (والغالب) (3) (عند فوات) (4) الأموال (أنها) (5) لَا تَسْتَنِدُ إِلَى التَّلَفِ السَّمَاوِيِّ، بَلْ تَرْجِعُ إلى صنع العباد على (وجه) (6) الْمُبَاشَرَةِ أَوِ التَّفْرِيطِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: (لَا ضَرَرَ ولا ضرار) (7)، وتشهد لَهُ الْأُصُولُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم (نهى) (8) أَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ، وَقَالَ: (دَعِ النَّاسَ (9) يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ) (10)، وَقَالَ: (لَا تلقوا الركبان بالبيع، حتى يهبط
_________
(1) في (ط) و (ت): "ذلك".
(2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "كان نوعاً".
(3) في (ت): "وغالب".
(4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الفوت فوت".
(5) في (ط) و (خ) و (ت): "وأنها".
(6) ما بين القوسين زيادة من (غ) و (ر).
(7) قال الألباني في إرواء الغليل (896): صحيح، روي من حديث عبادة بن الصامت، وعبد الله بن عباس، وأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، جابر بن عبد الله، وعائشة بنت أبي بكر الصديق، وثعلبة بن أبي مالك القرظي، وأبي لبابة رضي الله عنهم. ثم ساق التخريج مطولاً، وأهم من عزى إليه الحديث هم: ابن ماجه (2340 و2341)، والإمام أحمد في المسند (1 313) و (5 326 ـ 327)، والطبراني في الكبير (3 136 1) و (1 70 1)، وفي الأوسط (1 141)، والدارقطني (522)، والبيهقي في السنن الكبرى (6 69)، ومالك في الموطأ (2 745 31). ثم قال ـ حفظه الله ـ: فهذه طرق كثيرة لهذا الحديث قد جاوزت العشر، وهي وإن كانت ضعيفة مفرداتها؛ فإن كثيراً منها لم يشتد ضعفها، فإذا ضم بعضها إلى بعض تقوى الحديث ... انظر: الإرواء (3 408 ـ 414).
(8) في (ط) و (م): "نهى عن".
(9) في (ت): "الناس في غفلاتهم".
(10) هذا الحديث أخرجه جم كبير من أهل العلم، منهم البخاري في الصحيح (2158 ـ 2163)، ومسلم (1413 و1515 و1520 ـ 1523)، ومالك في الموطأ (1366) وأبو داود الطيالسي (1752 و1930) وأحمد في المسند (1 163 و368) (2 42 و153 و238 و243 و254 و274 و379 و394 و402 و420 و465 و481 و484، و487 و491، 501 و512 و525)، (3 307 و312 و386 و392)، (4 314)، (5 11)، وإسحاق بن راهويه (159)، وابن الجعد (2637 و2775 و3014)، وابن ماجه (2175 ـ 2177)، والترمذي (1222 و1223)، والنسائي (3239 و4492 ـ 4497=(3/19)
بِالسِّلَعِ (إِلَى) (1) الْأَسْوَاقِ) (2) وَهُوَ مِنْ بَابِ تَرْجِيحِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ عَلَى الْمَصْلَحَةِ الْخَاصَّةِ، فَتَضْمِينُ الصُّنَّاعِ من ذلك القبيل.
/الْمِثَالُ الرَّابِعُ:
أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الضَّرْبِ بِالتُّهَمِ (3)، وَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى جَوَازِ السَّجْنِ فِي التُّهَمِ (4)، وَإِنْ كَانَ السَّجْنُ نَوْعًا مِنَ الْعَذَابِ/، وَنَصَّ أَصْحَابُهُ عَلَى جَوَازِ الضَّرْبِ (5)، وَهُوَ عِنْدَ الشُّيُوخِ مِنْ قَبِيلِ تَضْمِينِ الصُّنَّاعِ؛ فَإِنَّهُ لَوْ
_________
=و4500 و4502 و4506 و4507)، وابن الجارود في المنتقى (563 و573 و577)، وأبو يعلى (643 و644 و1839 و2169 و2767 و2776 و2838 و5807 و5884 و5887 و6187 و6345)، وابن حبان (4960 ـ 4967)، والطبراني في الصغير (466)، وفي الأوسط (1139)، وفي الكبير (6930 و7487 و10923 و13280 و13545 و13547) وغيرهم.
من حديث جابر رضي الله عنه، بلفظ: (لا يبيع حاضر لباد دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض).
(1) ساقطة من (م) و (غ) و (ر).
(2) أخرجه البخاري (2165)، ومسلم (1517)، ومالك (1366)، وأحمد (2 156 و394 و465)، (4 314)، وابن ماجه (2179)، وأبو داود برقم (3436)، والنسائي (4487 و4496)، وأبو يعلى (6321 و6345)، والدارقطني (3 275)، والبيهقي في السنن الكبرى (10697) وغيرهم.
(3) اختلف العلماء، في الإقرار بالإكراه سواء كان الإكراه بالضرب أو بغيره على قولين: الأول: ذهب الحنفية والشافعية والحنابلة والظاهرية إلى إلغاء الإقرار وعدم ترتب أي أثر عليه. الثاني: مذهب المالكية في العموم، عدم لزوم الإقرار للمستكره بغير حق؛ أي أن المستكره بعد زوال الإكراه مخير بين أن يجيز الإقرار وبين ألا يجيزه. انظر عدد من المسائل في الضرب بالتهم في: المعيار المعرب (2 379 ـ 380 و403 و433 ـ 434)، وانظر: جامع أحكام القرآن للقرطبي (10 118 ـ 125) في تفسير سورة النحل: الآية (106)، وأحكام القرآن لابن العربي (1 233 ـ 234)، في تفسير سورة البقرة: الآية (356) وفي (3 1086)، في تفسير سورة يوسف: الآية (33) وفي (3 1176)، في تفسير سورة النحل: الآية (106)، وفي (3 1297 ـ 1298)، في تفسير سورة الحج: الآية (40)، وراجع المستصفى للغزالي (1 141). وتفصيل الخلاف في الفقه الإسلامي للزحيلي (5 408 ـ 409).
(4) انظر تفصيل المسألة في: الطرق الحكمية لابن القيم (ص110 وما بعدها).
(5) وذكر الغزالي أن مالكاً قال بجواز ضرب المتهم للاستنطاق، انظر: المستصفى (1 141).(3/20)
لَمْ (يَكُنِ) (1) (الضَّرْبُ وَالسَّجْنُ) (2) بِالتُّهَمِ لَتَعَذَّرَ اسْتِخْلَاصُ الْأَمْوَالِ مِنْ أَيْدِي السرَّاق، والغصَّاب، إِذْ قَدْ يَتَعَذَّرُ إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ، فَكَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي التَّعْذِيبِ وسيلة إلى التحصيل بالتعيين (أو) (3) الإقرار.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا فَتْحُ بَابِ (تَّعْذِيبِ) (4) الْبَرِيءِ. (قِيلَ) (5): (فَفِي) (6) الْإِعْرَاضِ عَنْهُ إِبْطَالُ اسْتِرْجَاعِ الْأَمْوَالِ، بَلِ الْإِضْرَابُ عَنِ التَّعْذِيبِ أَشَدُّ ضَرَرًا، إِذْ لَا يُعَذَّبُ أَحَدٌ (لِمُجَرَّدِ) (7) الدَّعْوَى، بَلْ مَعَ اقْتِرَانِ (قَرِينَةٍ) (8) تَحِيكُ فِي النَّفْسِ، وَتُؤَثِّرُ فِي الْقَلْبِ نَوْعًا مِنَ الظَّنِّ؛ فَالتَّعْذِيبُ ـ فِي الْغَالِبِ ـ لا يصادف البريء، وإن أمكن مصادفته (فمغتفر) (9)، كما اغتفر فِي تَضْمِينِ الصُّنَّاعِ.
فَإِنْ قِيلَ:/ لَا فَائِدَةَ (فِي الضَّرْبِ) (10)، وَهُوَ لَوْ أَقَرَّ لَمْ يُقْبَلْ إِقْرَارُهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ.
فَالْجَوَابُ: إِنَّ لَهُ فائدتين (11):
أحدهما: أَنْ يُعَيِّنَ الْمَتَاعَ، فَتَشْهَدُ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ لِرَبِّهِ، وَهِيَ/ فَائِدَةٌ ظَاهِرَةٌ.
وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ غَيْرَهُ قَدْ يَزْدَجِرُ حَتَّى لَا يَكْثُرَ الْإِقْدَامُ/ فَتَقِلَّ أَنْوَاعُ هَذَا الْفَسَادِ.
/وَقَدْ عَدَّ لَهُ سَحْنُونُ (12) فَائِدَةً ثالثة: وهو الإقرار حالة التعذيب؛
_________
(1) في (غ) و (ر): "يثبت".
(2) في (ر): كتبت هكذا: (السجنخ والضربق) إشارة إلى تقديم كلمة (الضرب) على كلمة (السجن).
(3) في (ط) و (خ): "و".
(4) في (ط): "التعذيب". وفي (ت): "لتعذيب".
(5) ما بين القوسين ساقط من (غ).
(6) في (ت): "في".
(7) في (غ) و (ر): "بمجرد".
(8) في (غ) و (ر): "تهمة".
(9) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فتغتفر".
(10) في (غ) و (ر): "للضرب".
(11) في (ت): "فائدتان".
(12) هو: فقيه المغرب أبو سعيد، عبد السلام بن حبيب بن حسان التنوخي تقدمت ترجمته.(3/21)
(فإنه) (1) يؤخذ عنده بما (أقر) (2) (به) (3) فِي تِلْكَ الْحَالِ. قَالُوا: وَهُوَ ضَعِيفٌ. فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (4) (وَلَكِنْ) (5) / نَزَّلَهُ سَحْنُونُ عَلَى مَنْ أُكْرِهَ بِطَرِيقٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ، كَمَا إِذَا أُكْرِهَ عَلَى طَلَاقِ زَوْجَتِهِ، أَمَّا إِذَا أُكْرِهَ بِطْرِيقٍ صَحِيحٍ فَإِنَّهُ يؤخذ به كالكافر يُسْلِمُ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ فَإِنَّهُ مَأْخُوذٌ بِهِ، وقد تتفق له (هذه) (6) الْفَائِدَةِ عَلَى مَذْهَبِ غَيْرِ سَحْنُونَ إِذَا أَقَرَّ حَالَةَ التَّعْذِيبِ ثُمَّ تَمَادَى عَلَى الْإِقْرَارِ بَعْدَ أمنه، فيؤخذ به.
قال الغزالي ـ بعد ما حَكَى عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَقُولُ بِذَلِكَ ـ: وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَالْمَسْأَلَةُ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ ـ قَالَ ـ: ولسنا نحكم (ببطلان مذهب) (7) مَالِكٍ عَلَى الْقَطْعِ، فَإِذَا وَقَعَ النَّظَرُ فِي تَعَارُضِ الْمَصَالِحِ، كَانَ ذَلِكَ قَرِيبًا مِنَ النَّظَرِ في تعارض الأقيسة المؤثرة.
المثال الخامس:
إنا إذا (قدَّرنا) (8) إِمَامًا مُطَاعًا (مُفْتَقِرًا) (9) إِلَى تَكْثِيرِ الْجُنُودِ لِسَدِّ الثُّغُورِ وَحِمَايَةِ الْمُلْكِ الْمُتَّسِعِ الْأَقْطَارِ، وَخَلَا بَيْتُ المال (عن الْمَالِ) (10)، (وَارْتَفَعَتْ) (11) حَاجَاتُ الْجُنْدِ إِلَى مَا (لَا) (12) يَكْفِيهِمْ، فَلِلْإِمَامِ إِذَا كَانَ عَدْلًا أَنْ يُوَظِّفَ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ مَا يَرَاهُ كَافِيًا لَهُمْ فِي الحال، إلى أن يظهر مال (في) (13) بَيْتِ الْمَالِ، ثُمَّ إِلَيْهِ النَّظَرُ فِي تَوْظِيفِ ذَلِكَ عَلَى الْغَلَّاتِ وَالثِّمَارِ (أَوْ) (14) غَيْرِ ذَلِكَ، كَيْلَا يُؤَدِّيَ تَخْصِيصُ النَّاسِ بِهِ (إِلَى) (15) إِيحَاشِ الْقُلُوبِ، وَذَلِكَ يَقَعُ قَلِيلًا مِنْ كَثِيرٍ، بِحَيْثُ لا يجحف بأحد ويحصل
_________
(1) في (ط): "بأنه".
(2) في (ط): "أقد".
(3) ما بين القوسين زيادة من (غ).
(4) سورة البقرة: الآية (256).
(5) في (غ) و (ر): "وقد".
(6) في سائر النسخ ما عدا (غ): "بهذه".
(7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "بمذهب".
(8) في سائر النسخ ما عدا (م): "قررنا".
(9) في (م): "مفتقر".
(10) زيادة من (م) و (غ) و (ر).
(11) في (غ): "وارهقت".
(12) زيادة من (ط).
(13) زيادة من (غ) و (ر).
(14) في (ط): "و".
(15) زيادة من (ط) و (خ) و (غ) و (ر).(3/22)
(الْغَرَضُ) (1) الْمَقْصُودُ.
/وَإِنَّمَا لَمْ يُنْقَلْ مِثْلُ (هَذَا) (2) عَنِ الْأَوَّلِينَ لِاتِّسَاعِ (مَالِ) (3) بَيْتِ الْمَالِ فِي زمانهم بخلاف زماننا؛ فإن القضية فيه (أخرى) (4)، وَوَجْهُ الْمَصْلَحَةِ هَنَا/ ظَاهِرٌ؛ فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يفعل الإمام ذلك (لانحلَّ) (5) النظام (وبطلت) (6) شَوْكَةُ الْإِمَامِ، وَصَارَتْ دِيَارُنَا عُرْضَةً لِاسْتِيلَاءِ الْكُفَّارِ.
وإنما نظام ذلك كله شوكة الإمام (بعدته) (7) (فالذين يحذرون) (8) من الدواهي لو (تنقطع) (9) عَنْهُمُ الشَّوْكَةُ، (يَسْتَحْقِرُونَ) (10) بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهَا أَمْوَالَهُمْ كُلَّهَا، فَضْلًا عَنِ الْيَسِيرِ/ مِنْهَا، فَإِذَا عُورِضَ هَذَا الضَّرَرُ الْعَظِيمُ بِالضَّرَرِ اللَّاحِقِ لَهُمْ بِأَخْذِ الْبَعْضِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، فَلَا يُتَمَارَى فِي تَرْجِيحِ الثَّانِي (على) (11) الْأَوَّلِ/ وَهُوَ مِمَّا يُعْلَمُ مِنْ مَقْصُودِ الشَّرْعِ قبل النظر في الشواهد (والملاءمة) (12) (ألا ترى) (13) أَنَّ الْأَبَ/ فِي طِفْلِهِ، أَوِ الْوَصِيَّ فِي يَتِيمِهِ، أَوِ الْكَافِلَ فِيمَنْ يَكْفُلُهُ، مَأْمُورٌ بِرِعَايَةِ الْأَصْلَحِ لَهُ، وَهُوَ يَصْرِفُ مَالَهُ إِلَى وُجُوهٍ مِنَ النَّفَقَاتِ أَوِ الْمُؤَنِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهَا، وَكُلُّ مَا يَرَاهُ سَبَبًا لِزِيَادَةِ مَالِهِ أَوْ حِرَاسَتِهِ مِنَ التَّلَفِ جَازَ لَهُ بَذْلُ الْمَالِ فِي تَحْصِيلِهِ، وَمَصْلَحَةُ الْإِسْلَامِ عَامَّةٌ لَا تَتَقَاصَرُ عَنْ مَصْلَحَةِ طِفْلٍ، وَلَا نَظَرُ (إِمَامِ) (14) الْمُسْلِمِينَ (يَتَقَاعَدُ) (15) عَنْ نَظَرِ وَاحِدٍ مِنَ الْآحَادِ فِي حَقِّ محجوره.
_________
(1) زيادة من (م) و (غ) و (ر).
(2) في (غ) و (ر): "ذلك".
(3) ما بين القوسين ساقط من (غ) و (ر).
(4) في (خ) و (ط) و (م): "أحرى" وكذا في (ت) لكنها صححت في الهامش بـ"أخرى".
(5) ما بين القوسين زيادة من (غ) و (ر).
(6) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "بطلت".
(7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "بعدله".
(8) في (م): "فالذي يحذر".
(9) في (م): "انقطع". وفي (غ) و (ر): "انقطعت".
(10) في (م) و (غ) و (ر): "يستحقر".
(11) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "عن".
(12) ما بين القوسين زيادة من (غ) و (ر).
(13) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "والملاءمة الأخرى".
(14) في (غ) و (ر): "لإمام".
(15) في (غ) و (ر): "يتقا".(3/23)
ولو وطئ الكفار أرض الإسلام لوجب (على الكافة) (1) بِالنُّصْرَةِ، وَإِذَا دَعَاهُمُ الْإِمَامُ وَجَبَتِ الْإِجَابَةُ، وَفِيهِ (إِتْعَابُ) (2) النُّفُوسِ وَتَعْرِيضُهَا إِلَى الْهَلَكَةِ، زِيَادَةً إِلَى إِنْفَاقِ الْمَالِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا لِحِمَايَةِ الدِّينِ، وَمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ.
فَإِذَا قَدَّرْنَا هُجُومَهُمْ، وَاسْتَشْعَرَ الْإِمَامُ فِي الشَّوْكَةِ ضَعْفًا وَجَبَ عَلَى الْكَافَّةِ إِمْدَادُهُمْ، كَيْفَ وَالْجِهَادُ فِي كُلِّ سَنَةٍ وَاجِبٌ عَلَى الْخَلْقِ (3).
وَإِنَّمَا يَسْقُطُ (بِاشْتِغَالِ) (4) الْمُرْتَزَقَةِ (بِهِ) (5)، فَلَا يُتَمَارَى فِي بَذْلِ الْمَالِ لِمِثْلِ ذَلِكَ. (وَإِذَا) (6) قَدَّرْنَا انْعِدَامَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ/ (يُخَافُ) (7) مِنْ جِهَتِهِمْ، فَلَا يُؤْمَنُ (مِنَ) (8) انْفِتَاحِ بَابِ الْفِتَنِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، فَالْمَسْأَلَةُ عَلَى حَالِهَا كَمَا كَانَتْ، وَتَوَقُّعُ الْفَسَادِ عَتِيدٌ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْحُرَّاسِ. فَهَذِهِ مُلَاءَمَةٌ صَحِيحَةٌ، إِلَّا أَنَّهَا فِي مَحَلِّ ضَرُورَةٍ، فَتُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا، فَلَا يَصِحُّ هَذَا الْحُكْمُ إِلَّا مَعَ وُجُودِهَا، وَالِاسْتِقْرَاضُ فِي (الْأَزَمَاتِ) (9) إِنَّمَا يَكُونُ حَيْثُ (يُرْجَى) (10) / لِبَيْتِ الْمَالِ دَخْلٌ يُنْتَظَرُ أَوْ يُرْتَجَى، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يُنْتَظَرْ شَيْءٌ وَضَعُفَتْ وُجُوهُ الدَّخْلِ (بِحَيْثُ) (11) لَا يُغْنِي كَبِيرُ شَيْءٍ، فلا بد من جريان حكم التوظيف.
_________
(1) ما بين القوسين زيادة من (غ) و (ر).
(2) في (غ) و (ر): "إتباع".
(3) اختلف العلماء في وجوب الجهاد على المسلمين في كل عام على قولين: الأول: الجمهور على أن غزوة واحدة في العام تسقط الفريضة، والباقي تطوع، وحجتهم على ذلك أن الجزية تجب بدلاً عن الجهاد، والجزية لا تجب في السنة أكثر من مرة اتفاقاً، فليكن بدلها كذلك. الثاني: أنه يجب غزو الكفار في عقر دارهم كلما أمكن ذلك من غير تحديد، وقوى هذا المذهب ابن حجر. انظر أهمية الجهاد في نشر الدعوة الإسلامية (ص131 ـ 133)، وانظر مصادره التالية: المبسوط للسرخسي (10 3)، وتفسير القرطبي (8 152)، وفتح الباري (6 28).
(4) في (غ) و (ر): "لاشتغال".
(5) زيادة من (م) و (غ) و (ر).
(6) في (غ) و (ر): "وإن".
(7) في (غ) و (ر): "نخاف".
(8) ما بين القوسين ساقط من (خ) و (ت) و (غ) و (ر).
(9) في (غ) و (ر): "الأوقات".
(10) في (غ) و (ر): "يرجى أن يكون".
(11) في (ط): "بحديث".(3/24)
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ نَصَّ عَلَيْهَا الْغَزَالِيُّ فِي مَوَاضِعَ من كتبه (1)، وَتَلَاهُ فِي تَصْحِيحِهَا ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ (2) لَهُ، وَشَرْطُ جَوَازِ/ ذَلِكَ كُلِّهِ عِنْدَهُمْ عَدَالَةُ الْإِمَامِ، وَإِيقَاعُ التَّصَرُّفِ فِي أَخْذِ الْمَالِ (وإعطائه) (3) على الوجه المشروع (والله أعلم) (4).
الْمِثَالُ السَّادِسُ:
أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ أَرَادَ أَنْ يعاقب بأخذ المال على بعض الجنايات (5)، فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ، حَسْبَمَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ (6).
عَلَى أَنَّ الطَّحَاوِيَّ حَكَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ نُسِخَ فَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى مَنْعِهِ (7).
فَأَمَّا الْغَزَالِيُّ فَزَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ/ قَبِيلِ الْغَرِيبِ الَّذِي لَا عَهْدَ بِهِ/ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَا يُلَائِمُ تَصَرُّفَاتِ الشَّرْعِ، مَعَ أَنَّ هَذِهِ الْعُقُوبَةَ الْخَاصَّةَ لَمْ تَتَعَيَّنْ، لِشَرْعِيَّةِ الْعُقُوبَاتِ الْبَدَنِيَّةِ بِالسِّجْنِ وَالضَّرْبِ (وَغَيْرِهِمَا) (8).
قَالَ:/ فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شَاطَرَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فِي مَالِهِ، حَتَّى أَخَذَ رَسُولُهُ (فَرْدَ) (9) نَعْلِهِ وَشَطْرَ عِمَامَتِهِ (10).
قُلْنَا: الْمَظْنُونُ مِنْ عُمَرَ أَنَّهُ لَمْ يَبْتَدِعِ الْعِقَابَ بِأَخْذِ الْمَالِ عَلَى خِلَافِ الْمَأْلُوفِ مِنَ الشَّرْعِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِعَلَمِ عُمَرَ (باختلاط ماله) (11) بالمال/ المستفاد من الولاية وإحطاته بتوسعته (ولعله سبر) (12) المال فرأى شطر ماله
_________
(1) انظر: المستصفى (1 303 ـ 304).
(2) أحكام القرآن (1/ 460).
(3) ساقط من (ت).
(4) ما بين القوسين زيادة من (غ) و (ر).
(5) هكذا في (ط) و (م) و (غ) و (ر)، وعلق رشيد رضا فقال: ينظر أين جواب (لو)، وما موقع الفاء في قوله (فاختلف العلماء).
(6) انظر: شفاء الغليل (1 243).
(7) انظر: شرح معاني الآثار (3 145).
(8) ما بين القوسين ساقط من (ت).
(9) في (ط) و (خ): "برد".
(10) انظر: تاريخ ابن جرير (3 436 ـ 437).
(11) في (م) و (خ) و (غ) و (ر): "باختلاطهما له".
(12) في (ط) و (م) و (خ) و (غ) و (ر): "فلعله ضمن".(3/25)
مِنْ فَوَائِدَ الْوِلَايَةِ، فَيَكُونُ اسْتِرْجَاعًا لِلْحَقِّ لَا عُقُوبَةً فِي الْمَالِ، لِأَنَّ هَذَا مِنَ الْغَرِيبِ الَّذِي لَا يُلَائِمُ قَوَاعِدَ الشَّرْعِ هَذَا مَا قال.
(وَلِمَا فَعَلَ) (1) عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَجْهٌ آخَرُ غَيْرُ هَذَا، وَلَكِنَّهُ لَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى الْعُقُوبَةِ (بِالْمَالِ) (2)، كَمَا قَالَ الْغَزَالِيُّ.
/وَأَمَّا مذهب مالك رحمه الله (3)، فَإِنَّ الْعُقُوبَةَ فِي الْمَالِ عِنْدَهُ (ضَرْبَانِ) (4):
أَحَدُهُمَا: كَمَا صَوَّرَهُ الْغَزَالِيُّ، فَلَا مِرْيَةَ فِي أَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ، عَلَى أَنَّ ابْنَ الْعَطَّارِ (5) فِي (وثائقه) (6) صغى إلى إجازة ذلك، فقال: في (إجارة) (7) أَعْوَانِ الْقَاضِي إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْتُ مَالٍ، أنها على الطالب، فإن (أدين) (8) المطلوب كانت الإجارة عَلَيْهِ.
وَمَالَ إِلَيْهِ ابْنُ رُشْدٍ (9)، وَرَدَّهُ عَلَيْهِ (ابن الفخار) (10) القرطبي وقال: إن
_________
(1) هكذا في جميع النسخ ولعل الصواب: ولفعل عمر ... إلخ. أو يكون المعنى: (وللذي فعل عمر ... ) باعتبار (ما): موصولة.
(2) في (غ) و (ر): "في المال".
(3) مسألة التعزير بالعقوبات المالية بسطها ابن القيم رحمه الله تعالى في الطرق الحكمية (ص273 ـ 277).
(4) في (غ) و (ر): "على ضربين".
(5) هو محمد بن أحمد بن عبد الله المعروف بابن العطار، كان فقيهاً نحوياً، وكان يزري بأصحابه المفتين، فحملوا عليه بالعداوة، توفي سنة 399هـ. انظر: ترتيب المدارك (4 650)، والديباج المذهب (2 231).
(6) في (ط): "رقائقه". وهو خطأ، والصواب (وثائقه) كما في (م) و (خ) و (ت) و (غ) و (ر)، وفي معلمة الفقه المالكي (ص21): (الوثائق: هي العقود التي يسجلها الموثقون العدول) وهي كثيرة جداً في المغرب وبلاد الأندلس. انظر: المصدر السابق (ص21 ـ 23).
(7) في (ط) و (خ) و (ت): "إجازة".
(8) في (م) و (ت) و (غ) و (ر): "كلمة غير واضحة". وفي (ر): "لدّ".
(9) هو: أبو الوليد محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد القرطبي المالكي (الجد)، وهو شارح العتبية المسمى (البيان والتحصيل لما في المستخرجة من التوجيه والتعليل)، توفي سنة 520هـ. انظر: بغية الملتمس (1 74)، وأزهار الرياض (3 59)، والسير (19 501)، وشذرات الذهب (4 62).
(10) في (خ) و (ط): "ابن النجار". والصواب: "ابن الفخار" وهو: محمد بن عمر بن=(3/26)
ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْعُقُوبَةِ فِي الْمَالِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عَلَى حَالٍ.
وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ جِنَايَةُ الْجَانِي فِي نَفْسِ ذَلِكَ الْمَالِ أَوْ فِي عِوَضِهِ، فَالْعُقُوبَةُ فِيهِ عِنْدَهُ ثَابِتَةٌ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الزَّعْفَرَانِ الْمَغْشُوشِ إِذَا وُجِدَ بِيَدِ الَّذِي غَشَّهُ: إِنَّهُ يُتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ، قَلَّ أَوْ كَثُرَ.
(وَذَهَبَ) (1) ابْنُ الْقَاسِمِ (2)، وَمُطَرِّفٌ (3)، وَابْنُ الْمَاجِشُونَ (4) إِلَى أَنَّهُ يُتَصَدَّقُ بِمَا قَلَّ منه دون ما كثر.
وذلك محكي (نحوه) (5) عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَأَنَّهُ أَرَاقَ اللَّبَنَ الْمَغْشُوشَ بِالْمَاءِ (6)، وَوَجَّهَ ذَلِكَ التَّأْدِيبَ لِلْغَاشِّ، وَهَذَا التَّأْدِيبُ لَا نَصَّ يَشْهَدُ له (ولكنه) (7) مِنْ بَابِ الْحُكْمِ عَلَى الْخَاصَّةِ لِأَجْلِ الْعَامَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ، فِي مَسْأَلَةِ تَضْمِينِ الصُّنَّاعِ (8).
_________
=يوسف المالكي القرطبي أبو عبد الله كان من أهل العلم والذكاء والحفظ والفهم. مات عام 419هـ. ترجمته في: الصلة لابن بشكوال (2/ 747)، والديباج المذهب (2/ 235).
(1) في (خ): "ذهب".
(2) هو عبد الرحمن بن القاسم بن خالد بن جنادة أبو عبد الله تلميذ الإمام مالك وعالم ديار مصر ومفتيها، تقدمت ترجمته (1 79).
(3) لم يحدد من هو، وفي تاريخ علماء الأندلس (11) شخصاً اسمه (مطرف)، وكلهم متقاربون في الذكر بالفقه والعلم. انظر: المصدر السابق (2 833 ـ 837).
(4) هو: أبو مروان عبد الملك بن عبد العزيز بن عبد الله الماجشون، تلميذ الإمام مالك رحمه الله، توفي سنة 213هـ وقيل سنة 214هـ، وقال المعلق على السير: (والماجشون: بكسر الجيم وفتحها وضمها، وعلى كسرها اقتصر السمعاني في الأنساب، وابن خلكان في الوفيات، والنووي في شرح مسلم، وابن حجر في التقريب، وابن فرحون في الديباج المذهب، وفي شرح الشفاء: معناه: الأبيض المشرب بحمرة، معرب (ماه كون) معناه: لون القمر. انظر: شرح القاموس (4 348). انظر: السير (10 359)، وطبقات ابن سعد (5 442)، وترتيب المدارك (2 360)، ووفيات الأعيان (3 166)، وتهذيب التهذيب (6 408).
(5) زيادة من (غ) و (ر).
(6) ذكر ابن تيمية أن مالك روى عن عمر بن الخطاب أنه طرح اللبن المغشوش بالماء، انطر: مجموع الفتاوى (28/ 115)، وذكره ابن القيم في الطرق الحكمية (ص275).
(7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "لكن".
(8) انظر: (ص18).(3/27)
عَلَى أَنَّ أَبَا الْحَسَنِ اللَّخْمِيَّ (1)، قَدْ وَضَعَ له أصلاً شرعياً، وذلك أنه/ صلّى الله عليه وسلّم أَمَرَ بِإِكْفَاءِ الْقُدُورِ الَّتِي (أُغْلِيَتْ) (2) بِلُحُومِ الْحُمُرِ قَبْلَ أَنْ تُقَسَّمَ (3)، وَحَدِيثُ الْعِتْقِ بِالْمُثْلَةِ (4) (أَيْضًا مِنْ ذَلِكَ) (5).
وَمِنْ مَسَائِلِ مَالِكٍ فِي الْمَسْأَلَةِ: (إذا) (6) اشترى مسلم/ من نصراني خمراً (فإنها تكسر) (7) عَلَى الْمُسْلِمِ، وَيُتَصَدَّقُ بِالثَّمَنِ أَدَبًا لِلنَّصْرَانِيِّ/ إِنْ كَانَ النَّصْرَانِيُّ لَمْ يَقْبِضْهُ، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَرَّعَ أَصْحَابُهُ فِي مَذْهَبِهِ، وَهُوَ كُلُّهُ مِنَ الْعُقُوبَةِ فِي الْمَالِ، إِلَّا أَنَّ وَجْهَهُ مَا تقدم.
/الْمِثَالُ السَّابِعُ:
أَنَّهُ لَوْ طَبَّقَ الْحَرَامُ الْأَرْضَ، أَوْ نَاحِيَةً مِنَ الْأَرْضِ يَعْسُرُ الِانْتِقَالُ (مِنْهَا) (8) وَانْسَدَّتْ طُرُقُ الْمَكَاسِبِ (الطَّيِّبَةِ) (9)، ومسَّت الْحَاجَةُ إِلَى الزيادة
_________
(1) هو: علي بن موسى بن زياد اللخمي، من أهل قرطبة، يكنى أبا الحسن، توفي بعد السبعين وثلثمائة. انظر: تاريخ علماء الأندلس (2 533).
(2) في (غ) و (ر): "غليت".
(3) أخرجه البخاري برقم (2477، 4196، 5496. 6148، 6891)، ومسلم (1937 ـ 1938)، وأحمد في المسند (2 21 و143)، (3 125 و164)، (4 291، 354 و356)، وابن ماجه (3196)، وأبو يعلى (1728 و2828 و5526)، وابن حبان (5274)، والبيهقي في السنن الكبرى (19238 و19245 و19246 و19250).
(4) وردت عدة أحاديث في العتق بالمُثلة، منها ما أخرجه ابن ماجه (2680)، وأبو داود برقم (4519)، أنه جاء رجل مستصرخ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال له: (ما لك؟ قال: شر، أبصر لسيده جارية له فغار، فجبَّ مذاكيره. فقال: اذهب فأنت حر، قال: يا رسول الله، على من نصرتي؟ قال: نصرتك على كل مسلم)، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، وذكر ابن سعد في الطبقات (7 505)، أن اسم العبد هو سندر، وذكر الحديث السابق فيه، وأخرج الحاكم في المستدرك (8102)، من حديث ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: (من مثَّل بعبده فهو حر وهو مولى الله ورسوله)، وقال الذهبي: "حمزة هو النصيبي يضع الحديث". وفي الباب عن سمرة بن جندب وأبي هريرة، انظرها في: جامع الأصول (8 76 ـ 78) ونصب الراية (4 176).
(5) في (ت): "من ذلك أيضاً".
(6) في (غ) و (ر): "ما إذا".
(7) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فإنه يكسر".
(8) في (م) و (غ) و (ر): "عنها".
(9) في (م): "الطيب".(3/28)
عَلَى سَدِّ الرَّمَقِ، فَإِنَّ ذَلِكَ سَائِغٌ أَنْ يَزِيدَ عَلَى قَدْرِ الضَّرُورَةِ، وَيَرْتَقِيَ إِلَى قَدْرِ الحاجة في الوقت والملبس والمسكن، إذ لو (اقتصروا) (1) عَلَى سَدِّ الرَّمَقِ لَتَعَطَّلَتِ الْمَكَاسِبُ وَالْأَشْغَالُ/، وَلَمْ يَزَلِ النَّاسُ فِي مُقَاسَاةِ ذَلِكَ إِلَى أَنْ يَهْلِكُوا، وَفِي ذَلِكَ خَرَابُ الدِّينِ، لَكِنَّهُ لَا ينتهي إلى (مقدار) (2) التَّرَفُّهِ وَالتَّنَعُّمِ، كَمَا لَا يَقْتَصِرُ عَلَى مِقْدَارِ الضَّرُورَةِ.
وَهَذَا مُلَائِمٌ لِتَصَرُّفَاتِ الشَّرْعِ، وَإِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَى عَيْنِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ أَجَازَ أَكْلَ/ الْمَيْتَةِ (لِلْمُضْطَرِّ) (3)، وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْخَبَائِثِ الْمُحَرَّمَاتِ.
وَحَكَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ الِاتِّفَاقَ عَلَى جَوَازِ الشِّبَعِ عِنْدَ تَوَالِي الْمَخْمَصَةِ (4)، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا إِذَا لَمْ (تَتَوَالَ) (5) هَلْ يَجُوزُ لَهُ الشِّبَعُ أَمْ لَا؟ وَأَيْضًا فَقَدَ أَجَازُوا أَخْذَ مَالِ الْغَيْرِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ أَيْضًا، فَمَا نَحْنُ فِيهِ لَا يَقْصُرُ عَنْ ذَلِكَ.
وَقَدْ بَسَطَ الْغَزَالِيُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي الْإِحْيَاءِ بَسْطًا شَافِيًا جداً (6)، وذكرها (أيضاً) (7) في كتبه الأصولية كالمنخول (8)، وشفاء (الغليل) (9).
الْمِثَالُ الثَّامِنُ:
أَنَّهُ يَجُوزُ قَتْلُ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ، وَالْمُسْتَنَدُ فِيهِ الْمَصْلَحَةُ الْمُرْسَلَةُ؛ إِذْ لَا نَصَّ عَلَى عَيْنِ الْمَسْأَلَةِ، وَلَكِنَّهُ (مَنْقُولٌ) (10) عَنْ عُمَرَ بن الخطاب رضي الله عنه (11)،
_________
(1) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "اقتصر".
(2) زيادة من (غ) و (ر).
(3) ساقطة من (غ) و (ر).
(4) انظر: أحكام القرآن (1 55)، في تفسير سورة البقرة: الآية (173).
(5) في (م) و (ت): "تتوالى".
(6) انظر: الإحياء (4 191).
(7) زيادة من (م) و (غ) و (ر).
(8) المنخول (ص365).
(9) في (ط): "العليل". وانظر: شفاء الغليل (ص245 ـ 246).
(10) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "المنقول".
(11) قتل الجماعة بالواحد: أخرجه البخاري في كتاب الديات، باب إذا أصاب قوم من رجل هل يعاقب أم يقتص منهم كلهم برقم (6896) عن ابن عمر رضي الله عنهما أن غلاماً قتل غيلة، فقال عمر: لو اشترك فيه أهل صنعاء لقتلتهم. وروى ابن أبي شيبة في المصنف (9 296) برقم (7529)، عن سعيد بن المسيب: أن عمر قتل ثلاثة نفر من=(3/29)
وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ (1).
وَوَجْهُ/ الْمَصْلَحَةِ أَنَّ الْقَتِيلِ مَعْصُومٌ، وَقَدْ قُتِلَ عَمْدًا، فَإِهْدَارُهُ دَاعٍ إِلَى خَرْمِ أَصْلِ الْقَصَاصِ، وَاتِّخَاذِ الِاسْتِعَانَةِ وَالِاشِتِرَاكَ ذريعة إلى (التشفي) (2) بِالْقَتْلِ إِذَا عُلِمَ أَنَّهُ لَا قَصَاصَ فِيهِ، وَلَيْسَ أَصْلُهُ قَتْلَ/ الْمُنْفَرِدِ فَإِنَّهُ قَاتِلٌ تَحْقِيقًا، وَالْمُشْتَرِكُ لَيْسَ بِقَاتِلٍ تَحْقِيقًا.
/فَإِنْ قِيلَ: هَذَا أَمْرٌ بَدِيعٌ فِي الشَّرْعِ، وَهُوَ قَتْلُ غَيْرِ الْقَاتِلِ؟
قُلْنَا: لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ لَمْ يُقْتَلُ إِلَّا الْقَاتِلُ، وَهُمْ الْجَمَاعَةُ مِنْ حَيْثُ الِاجْتِمَاعُ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، فَهُوَ مُضَافٌ إِلَيْهِمْ تَحْقِيقًا إِضَافَتُهُ/ إِلَى الشَّخْصِ الْوَاحِدِ، وَإِنَّمَا التَّعْيِينُ فِي تَنْزِيلِ الْأَشْخَاصِ مَنْزِلَةَ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ؛ وَقَدْ دَعَتْ إِلَيْهِ الْمَصْلَحَةُ، فَلَمْ يَكُنْ مُبْتَدِعًا مَعَ مَا فِيهِ مِنْ حِفْظِ مَقَاصِدِ الشَّرْعِ فِي حَقْنِ الدِّمَاءِ، وَعَلَيْهِ يَجْرِي عِنْدَ مَالِكٍ قَطْعُ الْأَيْدِي باليد الواحدة، وقطع الأيدي في النصاب (الواحد) (3).
_________
=أهل صنعاء بامرأة، ونحوه أنه قتل سبعة من أهل صنعاء برجل، وأنه قال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به جميعهم. انظر: المصنف لابن أبي شيبة (9 347) برقم (7743 ـ 7745)، وروي ذلك عن علي بن أبي طالب، والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهما، انظر: المصدر السابق (7746 ـ 7749)، وانظر: مصنف عبد الرزاق (18069 ـ 18071) و (18073 ـ 18079)، وهو مذهب ابن عباس كما في المصنف لعبد الرزاق (9 475 ـ 480)، وانظر: السنن الكبرى للبيهقي (8 40 ـ 41)، والموطأ (1584).
(1) ذهب جمع من العلماء إلى قتل الجماعة بالواحد، ذكر منهم ابن قدامة: عمر، وعلي، والمغيرة بن شعبة، وابن عباس رضي الله عنهم، وسعيد بن المسيب، والحسن، وأبو سلمة، وعطاء وقتادة، وهو مذهب مالك، والثوري، والأوزاعي، والشافعي، وإسحاق، وأبي ثور، وأصحاب الرأي. وحكي عن الإمام أحمد في رواية أنهم لا يقتلون وتجب عليهم الدية، وهو قول ابن الزبير، والزهري، وابن سيرين، وحبيب بن أبي ثابت، وربيعة، وداود، وابن المنذر وحكي عن ابن عباس، وذهب معاذ بن جبل وابن الزبير وابن سيرين والزهري أنه يقتل منهم واحد ويؤخذ من الباقين حصصهم من الدية. انظر: المغني (9 366 ـ 367)، وفتح الباري (12 236 ـ 237).
(2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "السعي".
(3) في (ط) و (خ) و (م): "الواجب"، وكذا في (ت) لكن صححت في الهامش بـ: "الواحد".(3/30)
الْمِثَالُ التَّاسِعُ:
إِنَّ الْعُلَمَاءَ نَقَلُوا الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَةَ الْكُبْرَى لَا تَنْعَقِدُ إِلَّا لِمَنْ نَالَ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ وَالْفَتْوَى فِي عُلُومِ الشَّرْعِ (1)، كَمَا أَنَّهُمُ اتَّفَقُوا أَيْضًا ـ أَوْ كَادُوا أَنْ يَتَّفِقُوا ـ عَلَى أَنَّ الْقَضَاءَ بَيْنَ النَّاسِ لَا يحصل إلا لمن رقي (رُتْبَةِ) (2) الِاجْتِهَادِ (3)، وَهَذَا صَحِيحٌ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَلَكِنْ إِذَا فُرِضَ خُلُوُّ الزَّمَانِ عَنْ مُجْتَهِدٍ يَظْهَرُ بَيْنَ النَّاسِ، وَافْتَقَرُوا إِلَى إِمَامٍ يُقَدِّمُونَهُ لِجَرَيَانِ الْأَحْكَامِ وَتَسْكِينِ ثَوْرَةِ الثَّائِرِينَ، وَالْحِيَاطَةِ عَلَى دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالِهِمْ، فَلَا بُدَّ مِنْ إِقَامَةِ الْأَمْثَلِ مِمَّنْ لَيْسَ بِمُجْتَهِدٍ (4)، لِأَنَّا بَيْنَ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يُتْرَكَ النَّاسُ فَوْضًى، وَهُوَ عَيْنُ الْفَسَادِ وَالْهَرَجِ، وَإِمَّا أَنْ يُقَدِّمُوهُ فَيَزُولُ الْفَسَادُ بَتَّةً، وَلَا يَبْقَى إِلَّا فَوْتُ الِاجْتِهَادِ، وَالتَّقْلِيدُ كَافٍ بِحَسَبِهِ.
وَإِذَا ثَبَتَ/ هَذَا فَهُوَ نَظَرٌ مَصْلَحِيٌّ يشهد له وضع أصل الإمامة (بل هو) (5) مَقْطُوعٌ/ بِهِ بِحَيْثُ لَا يَفْتَقِرُ فِي صِحَّتِهِ وَمُلَاءَمَتِهِ إِلَى شَاهِدٍ.
هَذَا ـ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ (مخالفاً) (6) لما نقلوا من الإجماع (فإن
_________
(1) اختلف العلماء في اشتراط بلوغ مرتبة الاجتهاد في إمام المسلمين، فذهب بعض العلماء إلى اشتراط الاجتهاد فيه، حكاه الجويني في غياث الأمم، وقال الرملي: وهو مذهب الشافعي، وهو قول الماوردي وأبي يعلى، وعبد القاهر البغدادي، والقرطبي صاحب أحكام القرآن وابن خلدون. وذهب آخرون من العلماء إلى عدم اشتراط الاجتهاد، ذكر ذلك الشهرستاني، ورأي ابن حزم أنه من الشروط المستحبة لا من الواجبة، وهو مذهب أكثر الحنفية وقول الغزالي. انظر تفصيل المسألة في الإمامة العظمى للدكتور عبد الله الدميجي (ص247 ـ 251).
(2) في (ط) و (خ) و (ت): "في رتبة".
(3) حكى ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2 86) أنه لا يجوز لغير المجتهد أن يتقلد القضاء، ولا يجوز للإمام توليته.
(4) جاء في هامش نسخة (ت) ما نصه: "قلت: رأيت في أجوبة الشيخ محمد بن سحنون أنه إذا اتفق أن أهل بلد كلهم فساق فلا بد من إقامة وظائف الدين فيهم من القضاء والإمامة والعدالة واختيار الأمثل فالأمثل منهم لذلك، وإلا تعطلت أحوال الناس، وبطلت مراسم الدين".
(5) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "وهو".
(6) في (م): "مخالف".(3/31)
الْإِجْمَاعِ) (1) (فِي) (2) الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا انْعَقَدَ/ عَلَى فَرْضِ أَنْ لَا يَخْلُوَ الزَّمَانُ (مِنْ) (3) مُجْتَهِدٍ، فَصَارَ مِثْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِمَّا لَمْ يُنَصَّ عَلَيْهِ، فصح الاعتماد فيه على المصلحة.
الْمِثَالُ الْعَاشِرُ:
إِنَّ الْغَزَالِيَّ قَالَ فِي بَيْعَةِ الْمَفْضُولِ مَعَ وُجُودِ الْأَفْضَلِ: إِنْ رَدَدْنَا فِي مبدأ التولية بين مجتهد في علوم (الشريعة) (4) وَبَيْنَ مُتَقَاصِرٍ عَنْهَا، فَيَتَعَيَّنُ تَقْدِيمُ الْمُجْتَهِدِ؛ لِأَنَّ اتّباعَ/ الناظرِ علمَ نفسهِ لَهُ مَزِيَّةٌ عَلَى (صاحب) (5) اتّباعِ عِلْمِ غَيْرِهِ (بِالتَّقْلِيدِ) (6) وَالْمَزَايَا لَا سَبِيلَ إِلَى إِهْمَالِهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى مُرَاعَاتِهَا.
أَمَّا إِذَا انْعَقَدَتِ الْإِمَامَةُ (بِالْبَيْعَةِ) (7) أَوْ تَوْلِيَةِ الْعَهْدِ لِمُنْفَكٍّ عَنْ رُتْبَةِ الِاجْتِهَادِ، وَقَامَتْ لَهُ الشَّوْكَةُ، وَأَذْعَنَتْ لَهُ الرِّقَابُ، بِأَنْ خَلَا الزَّمَانُ عَنْ قُرَشِيٍّ مُجْتَهِدٍ مُسْتَجْمِعٍ جَمِيعَ الشَّرَائِطِ، وَجَبَ الِاسْتِمْرَارُ.
وإن قدر حضور قرشي (8) مجتهد مستجمع (للورع) (9) وَالْكِفَايَةِ وَجَمِيعِ شَرَائِطِ الْإِمَامَةِ، وَاحْتَاجَ/ الْمُسْلِمُونَ فِي خلع الأول إلى (تعرض) (10) لِإِثَارَةِ فِتَنٍ وَاضْطِرَابِ أُمُورٍ،/ لَمْ يَجُزْ لَهُمْ خلعه والاستبدال به، بل تجب عليهم
_________
(1) زيادة من (غ) و (ر).
(2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "وفي".
(3) في (غ) و (ر): "عن".
(4) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الشرائع".
(5) زيادة من هامش (ت). وفي (ر): "على اتباعه".
(6) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "فالتقليد".
(7) في (غ) و (ر): "بالبدعة".
(8) اشتراط القرشية وردت به نصوص صريحة، وهو قول جمهور علماء المسلمين، ولم يخالف في ذلك إلا الخوارج وبعض المعتزلة والأشاعرة. انظر: الإمامة العظمى (ص265 ـ 295).
(9) في (م): "لنردع". وفي (ت) و (ط) و (خ): "للفروع".
(10) في (ط) و (خ): "تعرضه".(3/32)
الطَّاعَةُ لَهُ، وَالْحُكْمُ بِنُفُوذِ وِلَايَتِهِ، وَصِحَّةِ إِمَامَتِهِ، لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ (الْعِلْمَ) (1) مَزِيَّةٌ رُوعِيَتْ فِي الْإِمَامَةِ تَحْصِيلًا لِمَزِيدِ الْمَصْلَحَةِ فِي الِاسْتِقْلَالِ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِغْنَاءِ عَنِ التَّقْلِيدِ، وَأَنَّ الثَّمَرَةَ الْمَطْلُوبَةَ مِنَ (الإمامة) (2) تُطْفِئُةُ الْفِتَنُ الثَّائِرَةُ مِنْ تَفَرُّقِ الْآرَاءِ الْمُتَنَافِرَةِ، فَكَيْفَ (يَسْتَجِيزُ) (3) الْعَاقِلُ تَحْرِيكَ الْفِتْنَةِ، وَتَشْوِيشَ النِّظَامِ، وَتَفْوِيتَ أَصْلِ الْمَصْلَحَةِ فِي الْحَالِ، تَشَوُّفًا إِلَى مَزِيدِ دَقِيقَةٍ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ النَّظَرِ وَالتَّقْلِيدِ؟.
/قَالَ: وَعِنْدَ هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَقِيسَ الْإِنْسَانُ مَا يَنَالُ الْخَلْقَ مِنَ الضَّرَرِ بِسَبَبِ عُدُولِ الْإِمَامِ عَنِ النَّظَرِ إِلَى التَّقْلِيدِ بِمَا يَنَالُهُمْ لَوْ تَعَرَّضُوا لِخَلْعِهِ وَالِاسْتِبْدَالِ بِهِ، أَوْ حَكَمُوا بِأَنَّ إِمَامَتَهُ غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ (4).
هَذَا مَا قَالَ، وَهُوَ مُتَّجِهٌ بِحَسَبَ النَّظَرِ الْمَصْلَحِيِّ، وَهُوَ مُلَائِمٌ لِتَصَرُّفَاتِ الشَّرْعِ، وَإِنْ لَمْ يُعَضِّدْهُ نَصٌّ عَلَى التَّعْيِينِ.
وَمَا قَرَّرَهُ هُوَ أَصْلُ مَذْهَبِ مَالِكٍ؛ قِيلَ لِيَحْيَى بْنِ يَحْيَى: الْبَيْعَةُ مَكْرُوهَةٌ؟ قَالَ: لَا. قِيلَ لَهُ: فَإِنْ كَانُوا أَئِمَّةَ جَوْرٍ؟ فَقَالَ: قَدْ بَايَعَ ابْنُ عُمَرَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَبِالسَّيْفِ أَخَذَ الْمُلْكَ. أَخْبَرَنِي بِذَلِكَ مَالِكٌ عَنْهُ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَيْهِ، وَأَمَرَ لَهُ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ محمد صلّى الله عليه وسلّم.
قَالَ يَحْيَى: وَالْبَيْعَةُ خَيْرٌ مِنَ الْفُرْقَةِ.
قَالَ: وَلَقَدْ أَتَى مَالِكًا الْعُمَرِيَّ (5) فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، بَايَعَنِي أَهْلُ الْحَرَمَيْنِ، وَأَنْتَ تَرَى سِيرَةَ أَبِي جَعْفَرٍ، فَمَا تَرَى؟ فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ: أَتَدْرِي مَا الَّذِي مَنَعَ عُمَرَ بن عبد العزيز رحمه الله/ أن يولي رجلاً صالحاً؟ فقال/
_________
(1) في (ت): "للعلم".
(2) في سائر النسخ ما عدا (غ) و (ر): "الإمام".
(3) في (م): "يستجر" وفي (ت): "يستحل".
(4) انظر: فضائح الباطنية (ص119).
(5) هو أبو عبد الرحمن عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، من أقران مالك، كان مشهوراً بالوعظ عابداً زاهداً، توفي سنة 184هـ. انظر: السير (8 373)، وتهذيب التهذيب (5/ 302).(3/33)
العمري: لا أدري، فقال مَالِكٌ: لَكِنِّي أَنَا أَدْرِي، إِنَّمَا كَانَتِ الْبَيْعَةُ لِيَزِيدَ بَعْدَهُ، فَخَافَ عُمَرُ إِنْ وَلَّى رَجُلًا صَالِحًا أَنْ لَا يَكُونَ لِيَزِيدَ بُدٌّ مِنَ الْقِيَامِ، فَتَقُومُ هَجْمَةٌ، فَيَفْسَدُ مَا لَا يُصْلَحُ، فَصَدَرَ رَأْيُ هَذَا الْعُمَرِيِّ (عَلَى رَأْيِ) (1) مَالِكٍ.
فَظَاهِرُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ إِذَا خِيفَ عِنْدَ خَلْعِ غَيْرِ الْمُسْتَحِقِّ، وَإِقَامَةِ الْمُسْتَحِقِّ أَنْ تَقَعَ فِتْنَةٌ وَمَا لَا يَصْلُحُ، فَالْمَصْلَحَةُ فِي التَّرْكِ.
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: لَمَّا خَلَعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ جَمَعَ ابْنُ عُمَرَ حَشَمَهُ وَوَلَدَهُ، فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ/ الْقِيَامَةِ) وَإِنَّا قَدْ بَايَعْنَا هَذَا الرَّجُلَ عَلَى بَيْعَةِ/ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنِّي لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْكُمْ خَلْعَهُ وَلَا تَابَعَ/ فِي هَذَا الْأَمْرِ إِلَّا كَانَتِ الْفَيْصَلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ (2).
(قَالَ) (3) ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْخَيَّاطِ: إِنَّ بَيْعَةَ عَبْدِ اللَّهِ لِيَزِيدَ كَانَتْ كُرْهًا، وَأَيْنَ يَزِيدُ مَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَلَكِنْ رَأَى بِدِينِهِ وَعِلْمِهِ التَّسْلِيمَ لِأَمْرِ اللَّهِ وَالْفِرَارَ عَنِ التَّعَرُّضِ لِفِتْنَةٍ فِيهَا مِنْ ذَهَابِ الأموال والأنفس ما لا يخفى، (بخلع) (4) يَزِيدَ، (لَوْ) (5) تَحَقَّقَ أَنَّ الْأَمْرَ يَعُودُ فِي نصابه، فكيف ولا يعلم ذلك؟ (قال) (6): وَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ فَتَفَهَّمُوهُ (وَالْزَمُوهُ) (7) تَرْشُدُوا إِنْ شاء الله.
_________
(1) في (غ) و (ر): "عن".
(2) قصة ابن عمر والحديث الذي رواه، أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (8 159 ـ 160)، (9 142 ـ 320)، وقد روى الحديث عدد من الصحابة، انظر البخاري كتاب الجزية والموادعة، باب إثم الغادر للبر والفاجر برقم (3186 ـ 3188 و6177 ـ 7111، 6966، 6178)، ومسلم (3 1359 ـ 1361)، من رقم (1735 ـ 1738)، والترمذي برقم (2191، 1581)، وابن ماجه برقم (2873، 2872)، وأبو داود برقم (2756).
(3) في (غ) و (ر): "بياض بمقدار كلمة".
(4) في (ط) و (م) و (خ): "فخلع".
(5) في (م): "أو". وفي (ت): "و".
(6) زيادة من (غ) و (ر).
(7) في (غ) و (ر): "والتزموه".(3/34)