رسائل جامعية (67)
ـ[الاعْتِصَام]ـ
المؤلف: إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي (المتوفى: 790هـ)
تحقيق ودراسة:
الجزء الأول: د. محمد بن عبد الرحمن الشقير
الجزء الثاني: د سعد بن عبد الله آل حميد
الجزء الثالث: د هشام بن إسماعيل الصيني
الناشر: دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية
الطبعة: الأولى، 1429 هـ - 2008 م
عدد الأجزاء: 3
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي](/)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أصل هذا الكتاب رسالة جامعية مقدمة من الطالب محمد بن عبد الرحمن الشقير حصل بها على درجة الماجستير بتقدير ممتاز وذلك في عام 1414 هـ(مقدمة/2)
الاعتصام(مقدمة/3)
حقوق الطبع محفوظة لدار ابن الجوزي
الطبعة الأولى
محرم 1429 هـ - 2008 م
حقوق الطبع محفوظة 1429 هـ, لا يسمح بإعادة نشر هذا الكتاب أو أي جزء منه بأي شكل من الأشكال أو حفظه ونسخه في أي نظام ميكانيكي أو إليكتروني يمكن استرجاع الكتاب أو ترجمته إلى أي لغة أخرى دون الحصول على إذن خطي مسبق من الناشر.(مقدمة/4)
المقدمة
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)} [آل عمران: 102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)} [النساء: 1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [الأحزاب: 70، 71].
أما بعد: فقد حذر الله عز وجل من التفرق والاختلاف بعد الائتلاف، فقال سبحانه وتعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)} [آل عمران: 105]، وقال سبحانه وتعالى: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19)} [يونس: 19].
وقال تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159)} [الأنعام: 159].
وقال تَعَالَى: {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)} [الروم: 31، 32].
وذكر الله عز وجل اختلاف بني إسرائيل في التوراة، فقال سبحانه(مقدمة/5)
وتعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110)} [هود: 110].
والاختلاف واقع في هذه الأمة أكثر من غيرها من الأمم.
فعن عوف بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، فواحدة في الجنة، وسبعون في النار، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، فإحدى وسبعون في النار وواحدة في الجنة، والذي نفس محمد بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، واحدة في الجنة، وثنتان وسبعون في النار". قيل: يا رسول الله من هم؟ قال: "الجماعة" (1).
وقد أمرنا الله عز وجل أن نعتصم بحبله جميعًا ولا نتفرق، فقال سبحانه وتعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]، وبيَّن قبل ذلك أن مفتاح الاعتصام وعدم الفرقة هو تقوى الله حق تقاته، فأمر به قبل الأمر بالاعتصام، فقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}.
والذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا ليسوا من الذين اتقوا الله حق تقاته، بل هم من الذين اتبعوا أهواءهم، وامتلأت قلوبهم بالبغي والحسد والكبر والهوى وغير ذلك مما ينافي تقوى الله.
وقد بيَّن الله عز وجل هؤلاء في مواطن من كتابه، وبين السبب الذي لأجله اختلفوا وتفرقوا، فقال تَعَالَى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)} [البقرة: 213].
__________
(1) انظر تخريجه في النص المحقق (ص 15).(مقدمة/6)
فبين سبحانه وتعالى أن الناس كانوا أمة واحدة، فاختلفوا، وأن سبب الاختلاف بينهم هو البغي والظلم.
وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)} [آل عمران: 19].
وبيَّن سبحانه وتعالى أن من أسباب البغي والظلم الْمُوقِعِ في الاختلاف: الحسد الذي يجعل الحاسد يرفض الحق وهو يعرفه، ويجادل عن الباطل، فقال سبحانه وتعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)} [البقرة: 109].
ثم بيَّن أن فريقًا من الناس يعرفون سبيل الرشد ولا يتخذونه سبيلاً؛ استكباراً وعناداً، وهذا من الظلم والبغي، وإن يروا سبيل الغي والضلال يتخذوه سبيلاً، ولذلك صرفهم الله عن طريق الحق جزاءً وفاقاً، فقال سبحانه وتعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146)} [الأعر اف: 146].
كما بيَّنْ الله عز وجل أن من سننه في خلقه أن يوقع بينهم العداوة والبغضاء إذا تركوا شيئاً من شرعه ولم يعملوا به، فقال سبحانه وتعالى عن النصارى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)} [المائدة: 14].
وقد اختلفت هذه الأمة كما اختلف مَنْ قبلها من الأمم؛ مصداقاً لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لتتبعن سنن من كان قبلكم" (1)، وظهرت فيها الفرق التي أخبر
__________
(1) انظر تخريجه في النص المحقق (1/ 16، 2/ 92، 3/ 128، 186، 188).(مقدمة/7)
عنها النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث الافتراق، وادَّعت كل فرقة أنها على الحق وما عداها على الباطل.
ولكن مع وجود هذا الاختلاف والتفرق، فلا يزال في الأمة طائفة منصورة قائمة بالحق، داعية إليه، لا يضرها من خالفها، ولا من خذلها، إلى أن يأتي أمر الله وهم على ذلك.
ولذلك اهتم سلف هذه الأمة بالدعوة إلى الاعتصام بالكتاب والسنة، والتحذير من البدع والأهواء، وكثرت أقوالهم ومؤلفاتهم في هذه المسألة.
فكُتِبَتْ كتب كثيرة في السنة وبيان منهج السلف الصالح، وفي الرد على أهل الأهواء والبدع.
ومن هذه الكتب الكثيرة، كتاب الإمام أحمد رحمه الله تعالى في "الرد على الجهمية"، وكتاب "السنة" لعبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل، وكتاب "خلق أفعال العباد" للبخاري، وكتاب "السنة" لابن أبي عاصم، وكتاب "السنة" لمحمد بن نصر المروزي، وكتاب "الشريعة" للآجري، و"شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" للالكائي، وغير ذلك من كتب السلف رضوان الله عليهم.
وبعض هذه الكتب، عُنِيَ فيها مؤلفوها بالكتابة في التحذير من الأهواء والبدع، فألف ابن وضاح القرطبي كتابه "البدع والنهي عنها"، وألف أبو بكر الطرطوشي كتابه "الحوادث والبدع"، وألف أبو شامة كتاب "الباعث على إنكار البدع والحوادث"، ولكن اقتصرت هذه الكتب -في الغالب- على النقل المجرد للنصوص الواردة في التحذير من البدع والنهي عنها، دون تحليل لمعانيها، وتحقيق مسائلها، مما جعل الإمام الشاطبي يقوم بتصنيف كتابه الفذ "الاعتصام"، الذي أشار رحمه الله تعالى فيه إلى هذه الكتب السابقة، ومأخذه عليها، فقال: "وإذا استقام هذا الأصل -أي كَتْبَ العلم لحفظ الدين- فَاحْمِلْ عَلَيْهِ كَتْبَ الْعِلْمِ مِنَ السُّنَنِ وَغَيْرِهَا إِذَا خِيفَ عَلَيْهَا الِانْدِرَاسُ، زِيَادَةً عَلَى مَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ؛ مِنَ الْأَمْرِ بِكَتْبِ الْعِلْمِ، وأنا(مقدمة/8)
أَرْجُو أَنْ يَكُونَ كَتبُ هَذَا الْكِتَابِ الَّذِي وَضَعْتُ يَدِي فِيهِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ؛ لِأَنِّي رَأَيْتُ بَابَ الْبِدَعِ فِي كَلَامِ الْعُلَمَاءِ مُغْفَلاً جِدًّا إِلَّا مِنَ النَّقْلِ الْجَلِيِّ؛ كَمَا نَقَلَ ابْنُ وَضَّاحٍ، أَوْ يُؤْتَى بِأَطْرَافٍ مِنَ الْكَلَامِ لَا يَشْفِي الْغَلِيلَ بِالتَّفَقُّهِ فِيهِ كَمَا يَنْبَغِي، ولم أجده عَلَى شِدَّةِ بَحْثِي عَنْهُ، إِلَّا مَا وَضَعَ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ الطَّرْطُوشِيُّ، وَهُوَ يَسِيرُ فِي جَنْبِ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِيهِ، وَإِلَّا مَا وَضَعَ النَّاسُ فِي الْفِرَقِ الثِّنْتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ، وَهُوَ فَصْلٌ مِنْ فُصُولِ الْبَابِ وَجُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ، فَأَخَذْتُ نَفْسِي بِالْعَنَاءِ فِيهِ، عَسَى أَنْ يَنْتَفِعَ واضعه، وقارئه، وَنَاشِرُهُ، وَكَاتِبُهُ، وَالْمُنْتَفِعُ بِهِ، وَجَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ، إِنَّهُ ولي ذلك ومُسْدِيه بسعة رحمته" (1).
انتهي كلامه رحمه الله تعالى.
ويمتاز كتاب الشاطبي من غيره من الكتب الأخرى التي ألفت في البدع بميزات عدة، أهمها:
1 - دراسته للآيات والأحاديث والآثار الواردة في معنى البدعة، والتحذير منها، والأمر بلزوم السنة دراسة تحليلية، قائمة على الاستنباط والدقة في الفهم، والتحقيق العلمي للمسائل التي يطرقها.
2 - الترتيب العلمي والتسلسلي لموضوعات الكتاب، مما يساعد القارئ على استيعاب موضوعاته، وفهمها.
3 - قوة الشاطبي العلمية، والعقلية، ورصانة أسلوبه، ودقة عباراته وألفاظه.
4 - شمولية الكتاب لموضوعه، وجمعه لأطراف القضية التي تصدَّى لها، فقد عرَّف البدعة، والمسائل المتعلقة بها، وأسبابها، وذم البدع، وبيَّن سوء منقلب أصحابها، وأن البدع كلها مذمومة، ثم بيَّن مأخذ أهل البدع في الاستدلال، وحكم البدع الحقيقية والإضافية، وبيَّن أن البدع ليست على مرتبة واحدة، وناقش مسألة: هل البدع تدخل في الأمور العادية أو هي خاصة بالأمور العبادية فقط، وعقد فصلاً مُهِمّاً عن الفرق بين البدع
__________
(1) (3/ 16).(مقدمة/9)
والمصالح المرسلة والاستحسان، ثم درس حديث الافتراق دراسة وافية من حيث معناه، وما يندرج تحته من مسائل مُهِمَّة، وأخيرًا عقد باباً لبيان الصراط المستقيم الذي ينبغي للمسلم سلوكه، وهذا ترتيب دقيق، يدل على عظم فقه صاحبه رحمه الله تعالى.
5 - مناقشته للشُّبَه التي تمسك بها أهل البدع، وجعلوها أدلة لبدعهم، وقيامه بنقضها وبيان خطأ الاستدلال بها، وأنها لا تخفي على الراسخين.
وقد طبع الكتاب عدة طبعات، معظمها مليئة بالسقط والتصحيف والأخطاء (1)، لا يزال معها الكتاب بحاجة إلى خدمة؛ من ضبط نصٍّ، وتخريج أحاديث وآثار، وتعليق على ما لا بُدَّ منه، وغير ذلك؛ مما دفعنا إلى إعادة تحقيقه، والتعليق عليه، فقام الدكتور محمد بن عبد الرحمن الشقير بكتابة قسم الدراسة من بدايته إلى نهاية المبحث الخامس: (قيمة الكتاب العلمية)، وتحقيق الأبواب الثلاثة الأولى.
وقام الدكتور سعد بن عبد الله آل حميّد بتحقيق الباب الرابع والخامس والسادس والسابع.
وقام الدكتور هشام بن إسماعيل الصيني بتحقيق الباب الثامن والتاسع والعاشر، وكتابة الملحق الخاص بالفرق في نهاية الكتاب.
وما سوى ذلك فهو عمل مشترك بين المحققين.
وأصل هذا العمل كان رسائل علمية بجامعة أم القرى، فالقسم الأول هو أطروحه الدكتور محمد الشقير للماجستير، وقد نوقشت بتاريخ 1415 هـ، والقسم الثالث هو أطروحة الدكتور هشام الصيني للماجستير أيضاً، وقد نوقشت بتاريخ 1413 هـ.
وأما القسم الثاني فلم يتم الاتفاق بين دار ابن الجوزي وبين الطالب
__________
(1) ولا نستثني من ذلك سوى الطبعة التي قام بتحقيقها الشيخ مشهور بن حسن آل سلمان فهي أحسن الطبعات السابقة؛ كما سيأتي بيانه إن شاء الله.(مقدمة/10)
الذي قام بتحقيقه، فقام الدكتور سعد الحميد بتحقيقه، وكان هذا من أسباب تأخير صدور هذه الطبعة.
وفيما يلي وصف لخطة العمل في هذا الكتاب:
فقد قسمنا الكتاب إلى قسمين، تعقبها الفهارس.
* القسم الأول: الدراسة، وفيه بابان:
- الباب الأول: التعريف بالمؤلف، وفيه ثلاثة فصول:
الفصل الأول: عصر المؤلف، وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: الحالة السياسية.
المبحث الثاني: الحالة الاجتماعية.
المبحث الثالث: الحالة العلمية.
الفصل الثاني: حياة المؤلف الشخصية، وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: اسمه وكنيته ونسبه ونسبته.
المبحث الثاني: مولده ونشأته وموطنه.
المبحث الثالث: محنته وما اتهم به.
المبحث الرابع: وفاته.
الفصل الثالث: حياة المؤلف العلمية، وفيه خمسة مباحث:
المبحث الأول: طلبه للعلم وشيوخه.
المبحث الثاني: تلاميذه.
المبحث الثالث: ثقافته ومؤلفاته.
المبحث الرابع: مكانته العلمية وثناء العلماء عليه.
المبحث الخامس: عقيدته.
- الباب الثاني: التعريف بالكتاب وطبعاته ونُسَخِه الْخَطِّيَّة، وفي فصلان:(مقدمة/11)
الفصل الأول: التعريف بالكتاب، وفيه خمس مباحث:
المبحث الأول: اسم الكتاب.
المبحث الثاني: موضوعه.
المبحث الثالث: سبب تأليفه.
المبحث الرابع: توثيق نسبته إلى مؤلِّفه.
المبحث الخامس: قيمته العلمية.
الفصل الثاني: التعريف بطبعات الكتاب، ونُسَخِه الخطّيَّة، وفيه مبحثان:
المبحث الأول: التعريف بطبعات الكتاب.
المبحث الثاني: التعريف بنسخ الكتاب الخطّيَّة.
* القسم الثاني: النص المحقق.
منهجنا في تحقيق الكتاب
أولاً: المقابلة بين النسخ:
قمنا بالمقابلة بين النسخ، واتبعنا طريقة اختيار النص الصحيح، وذلك لعدم توفر نسخة يمكن الاعتماد عليها وجعلها أصلاً، مع ملاحظة ما يلي:
أ- لا نشير إلى الفروق في لفظ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والترضي عن الصحابة رضي الله عنهم، بل نثبت أكمل صيغة وردت في المخطوطات.
ب- لا نشير إلى الفروق بين النسخ في:
(قال الله تعالى) و (قال تعالى)، بل نثبت أكمل صيغة وردت في المخطوطات.
جـ- بالنسبة إلى الفروق بين نسخ الاعتصام والكتب التي نقل منها الشاطبي، لا نشير إلا إلى الفروق المهمة بينهما.
د- إذا أجمعت النسخ على كلمة أو جملة يظهر -من غير جزم- أنها(مقدمة/12)
خطأ أو فيها سقط، فنثبت ما وجدناه في النسخ في الأغلب، ونشير في الهامش إلى الكلمة أو الجملة التي نظن أنها أقرب إلى الصواب.
أما إذا أجمعت النسخ على خطأ أو سقط جزماً، وكان الخطأ في نقل نقله الشاطبي عن بعض الكتب، ووجدنا الصواب في الكتب التي نقل منها، فنثبت الصواب ونشير إلى ذلك في الهامش.
ثانياً: التعليق:
علقنا على المسائل المهمة التي يُحتاج إليها في فهم النص، أو قد تُشكل على بعض القراء، ولم نعلق على كل مسألة ترد خشية إثقال الحواشِي بالتعليقات التي لا يحتاج إليها -في الغالب- معظم طلبة العلم.
ثالثاً: الآيات القرآنية:
قمنا بمراجعة الآيات القرآنية، وعزوها إلى سورها، مع ذكر أرقام الآيات.
رابعاً: الأحاديث والآثار:
خرجنا الأحاديث والآثار من الكتب المشهورة كالصحيحين والسنن والمسانيد، وأما بالنسبة إلى صحة الحديث، فإن كان الحديث في الصحيحين أو أحدهما، اكتفينا بذلك، وإن كان في غير الصحيحين، ذكرنا حكم العلماء عليه -إن وجد- بالصحة أو الضعف، سواء من العلماء السابقين أو المعاصرين، وقد نجتهد في الحكم على الحديث والأثر أحياناً.
خامساً: عزو الأقوال والنصوص:
قمنا بعزو النصوص -التي نقلها الشاطبي- إلى الكتب المطبوعة حسب الاستطاعة.
سادساً: ترجمة الأعلام:
ترجمنا ترجمة مختصرة للأعلام غير المشهورين.(مقدمة/13)
سابعاً: شرح الكلمة الغريبة:
قمنا بشرح الكلمات الغريبة من معاجم اللغة، وضبطنا بالشكل الكلمات التي تحتاج إلى ضبط.
ثامناً: التعريف بالفِرَق:
عرفنا بالفرق من خلال كتب الفرق المشهورة، وذكرنا التعريف في هامش النص، ما عدا الفرق التي سردها الشاطبي أثناء كلامه على مسألة تعيين الفرق في الباب التاسع، وهي أكثر من اثنتين وسبعين فرقة، فقد أفرد لها محقق الباب التاسع ملحقاً خاصّاً في نهاية البحث.
تاسعاً: التعريف بالبلدان والأماكن:
قمنا بالتعريف بالبلدان والأماكن غير المشهورة، من خلال كتب معاجم البلدان.
عاشراً: الفهارس:
قمنا بوضع فهارس علمية تساعد الباحث في الكشف عن مسائل الكتاب، وهي:
1 - فهرس الآيات القرآنية.
2 - فهرس الأحاديث النبوية.
3 - فهرس الآثار.
4 - فهرس الأعلام.
5 - فهرس الفرق.
6 - فهرس الأماكن والبقاع.
7 - فهرس موضوعات الكتاب.
وبعد: فهذا ما استطعنا من جهد، فما كان فيه من صواب فهو بتوفيق(مقدمة/14)
من الله عز وجل، وما كان من خطأ فهو من قصور البشر وعجزهم، ولا نقول إلا كما قال الشاطبي رحمه الله: "فَالْإِنْسَانُ -وَإِنْ زَعَمَ فِي الْأَمْرِ أَنَّهُ أَدْرَكَهُ وَقَتَلَهُ عِلْمًا- لَا يَأْتِي عَلَيْهِ الزَّمَانُ إِلَّا وَقَدْ عَقَلَ فِيهِ مَا لَمْ يَكُنْ عَقَلَ، وَأَدْرَكَ مِنْ عِلْمِهِ مَا لَمْ يَكُنْ أَدْرَكَ قَبْلَ ذَلِكَ، كُلُّ أَحَدٍ يُشَاهِدُ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ عِيَانًا، وَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ عِنْدَهُ بِمَعْلُومٍ دون معلوم، ولا بذات دون صفة، ولا فعل دون حكم" (1).
و"المنصف من اغتفر قليل خطأ المرء في كثير صوابه" (2).
وأخيراً، فإنا نحمد الله عز وجل ونشكره على توفيقه لنا في إتمام هذا العمل.
ثم إنّا نشكر كل من ساعدنا في إتمام هذا الجهد، ونسأل الله عز وجل أن يكتب لهم الأجر ويحط عنهم الوزر، وأن يتقبل عملنا خالصاً لوجهه، ويغفر لنا خطأنا وتقصيرنا، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
المحققون
__________
(1) انظر النص المحقق (ص 286).
(2) "القواعد" لابن رجب (ص 3).(مقدمة/15)
القسم الأول الدراسة
* وفيه بابان:
الباب الأول: التعريف بالمؤلف.
الباب الثاني: التعريف بالكتاب وطبعاته ونُسخِه الخطيّة.(مقدمة/17)
الباب الأول التعريف بالمؤلف
* وفيه ثلاثة فصول:
الفصل الأول: عصر المؤلِّف.
الفصل الثاني: حياة المؤلف الشخصية.
الفصل الثالث: حياة المؤلف العلمية.(مقدمة/19)
الفصل الأول عصر المؤلِّف
* وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: الحالة السياسية.
المبحث الثاني: الحالة الاجتماعية.
المبحث الثالث: الحالة العلمية.(مقدمة/21)
المبحث الأول الحالة السياسية
عاش الإمام الشاطبي رحمه الله في القرن الثامن الهجري، وكانت حياته في مدينة غرناطة (1) الأندلسية، والتي كان يحكمها في ذلك الوقت ملوك بني نصر، ويسمون كذلك ملوك بني الأحمر، ويعود نسبهم إلى الصحابي الجليل سعد بن عبادة الأنصاري - رضي الله عنه - (2). وقد حكمت هذه الدولة مملكة غرناطة ما يزيد على قرنين ونصف، حيث نشأت مملكتهم عام 635 هـ على يد مؤسس الدولة الغالب بالله أبي عبد الله محمد بن يوسف بن محمد بن نصر بن قيس الخزرجي الأنصاري، وانتهت عام 897 هـ على أيدي نصارى إسبانيا (3).
وقد عاشت هذه الدولة اضطرابات سياسية بين ملوكها، بعد مؤسسها الأول، فها هو لسان الدين ابن الخطيب (4) أحد وزراء الدولة المقربين يصور لنا ما وقع بين ملوكها بعد مؤسسها الأول فيقول: " ... وولِّي بعده ولده
__________
(1) غرناطة: بفتح أوله وسكون ثانيه، ثم نون، وبعد الألف طاء مهملة، وأغرناطة بالألف في أوله أسقطها العامة، وهي أقدم مدن كورة البيرة من أعمال الأندلس وأعظمها وأحسنها وأحصنها. انظر: "معجم البلدان" لياقوت الحموي (4/ 195)، "الإحاطة في أخبار غرناطة" للسان الدين ابن الخطيب (1/ 91).
(2) "الإحاطة في أخبار غرناطة" (1/ 119).
(3) "نهاية الأندلس" لعبد الله عنان (ص 139).
(4) هو محمد بن عبد الله بن سعيد المعروف بلسان الدين ابن الخطيب، ذو الوزارتين، أديب، شاعر، مؤرخ، مشارك في الطب وغيره، ومن كتبه "الإحاطة في أخبار غرناطة" و"اللمحة البدرية في الدولة النصرية" وغيرهما.
انظر: "نفح الطيب" للمقري (8/ 130)، "شجرة النور الزكية" لمحمد مخلوف (ص 230).(مقدمة/22)
وسَمِيُّه السلطان -ثاني ملوكها وعظيمها- أبو عبد الله، وطالت مدته إلى أن توفي عام احد وسبع مئة، وولِّي بعده ولده وسَمِيُّه أبو عبد الله محمد، وخُلع يوم الفطر من عام ثمانية وسبع مئة، وتوفي في شوال عام أحد عشر وسبع مئة، وولِّي بعده خالعه أخوه نصر أبو الجيوش، وارتبك أمره، وطلب الأمر ابن عم أبيه السلطان أبو الوليد إسماعيل بن الفرج بن إسماعيل صنو الأمير الغالب بالله أول ملوكهم، فتغلب على دار الإمارة في ثاني ذي القعدة من عام ثلاثة عشر وسبع مئة، وانتقل نصر مخلوعاً إلى مدينة وادي آشي، وتوفي عام اثنين وعشرين وسبع مئة، وتمادى ملك السلطان أبي الوليد إلى الثالث والعشرين من رجب عام خمسة وعشرين وسبع مئة، ووثب عليه ابن عمه في طائفة من قرابته فقتلوه ببابه، وخاب فيما أملوه سعيهم، فقتلوا كلهم يومئذٍ، وتولَّى أمره ولده محمد، واستمر إلى ذي الحجة من عام أربعة وثلاثين وسبع مئة، وقتل بظاهر جبل الفتح بأيدي جنده من المغاربة، وتولَّى الأمر بعده أخوه أبو الحجاج يوسف، ودام ملكه إلى يوم عيد الفطر من عام خمسة وخمسين وسبع مئة، وترامى عليه في صلاته ممرور بمدية في يده فقتله، وقدم لأمره الأكبر من أولاده ... " (1).
وابنه هذا هو محمد بن أبي الحجاج، وقد سلب منه ملكه ثم عاد إليه عام 763 هـ، "واستمر ملكه إلى أن توفي عام 793 هـ، ودامت فتن داخلية حتى سقطت مملكتهم عام 897 هـ على أيدي نصارى إسبانيا" (2).
ولا يخفي ما يصوره نص ابن الخطيب السابق من الاضطرابات السياسية الداخلية بين ملوك هذه الدولة.
وقد عانت هذه الدولة من العدو الخارجي، وهم النصارى الإسبان الذين كانوا يتربصون بهم، ولا يفترون عن مهاجمتهم إلا إذا انشغلوا بالقتال فيما بينهم، وجهاد هذه الدولة ضد النصارى من أروع حسناتها، حيث
__________
(1) "الإحاطة في أخبار غرناطة" (1/ 119)، "اللمحة البدرية" (ص 33 - 34).
(2) "نهاية الأندلس" لعبد الله عنان (ص 27 - 54, 139).(مقدمة/23)
واجهت النصارى ما يزيد على قرنين، مع إحاطة العدو بها، ومع بعدها عن ديار المسلمين.
وكان من حسنات هذه الدولة إيواؤها للمسلمين الذين كانت تسقط مدنهم في أيدي النصارى.
وقد كان للعلماء دور هام في الساحة السياسية، ويبرز ذلك في توعيتهم للناس، وتحذيرهم من هذا العدو، وتحريك حمياتهم. قال في أزهار الرياض: "لما تقلص الإسلام بالجزيرة، واسترد الكفار أكثر أمصارها وقراها على وجه العنوة والصلح والاستسلام، لم يزل العلماء والكتاب والوزراء يحركون حميات ذوي البصائر والأبصار، ويستنهضون عزماتهم في كل الأمصار" (1).
ولم يقتصر علماء الأندلس على الجهاد باللسان والقلم، بل شاركوا بأنفسهم في المعارك ضد النصارى، ومن ذلك معركة طريف (2) وغيرها.
وقد عاصر الإمام الشاطبي رحمه الله ما يقارب أربعة ملوك من ملوك هذه الدولة بداية من السلطان أبي الوليد إسماعل بن فرج 722 - 725 هـ، ونهاية بمحمد بن يوسف بن إسماعيل 755 - 793 هـ.
ولا يظهر من ترجمة الإمام الشاطبي أنه كان ذا عناية بما يدور في الواقع السياسي، وإنما كان شغله العلم والتعليم، والدعوة إلى السنة والنهي عن البدع، والاجتهاد في الإصلاح. ولا شك أن ذلك من أعظم أسباب قيام الدول وبقائها.
__________
(1) "أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض" للمقري (1/ 63).
(2) هي موقعة وقعت بين المسلمين والنصارى في الأندلس سنة (741 هـ)، وقد استشهد في هذه المعركة عدد كبير من العلماء، وقد انتصر المسلمون فيها. انظر: "الإحاطة في أخبار غرناطة" (4/ 332)، "نفح الطيب" (5/ 14).(مقدمة/24)
المبحث الثاني الحالة الاجتماعية
لقد صور لنا لسان الدين ابن الخطيب الحالة الاجتماعية في مملكة غرناطة تصويراً حسناً، ولا سيما أنه كان من أهلها. فقد تكلم عن سكان مملكة غرناطة من حيث قوتهم، وعملتهم، وملابسهم، وحُلِيُّ نسائهم، وأجناسهم البشرية، وتعداد قراهم، وأحوالهم الدينية، بل حتى أوصافهم الخلقية.
فعن أقواتهم قال رحمه الله: "وقوتهم الغالب البر الطيب عامة العام ... ، وفواكههم اليابسة عامة العام متعددة، يدخرون العنب سليماً من الفساد إلى شطر العام، إلى غير ذلك من التين والزبيب والتفاح .. ، إلى غير ذلك مما لا ينفد ولا ينقطع مدده إلا في الفصل الذي يُزهد في استعماله" (1).
ويقول رحمه الله عن عملتهم: "وصرفهم فضة خالصة، وذهب إبريز طيب محفوظ" (2).
وعن خيرات بلادهم قال رحمه الله: "ولها معادن جوهرية من ذهب وفضة ورصاص وحديد .. ، وقال بعض المؤرخين: ومن كرم أرضنا أنها لا تعدم زريعة بعد زريعة، ورعياً بعد رعي طول العام، وفي عمالتها المعادن الجوهرية .. " (3)، ثم ذكر خيراتها المتعددة.
وقال عن قرى هذه المملكة: "وتنيف أسماؤها على ثلاث مئة قرية ما
__________
(1) انظر: "الإحاطة في أخبار غرناطة" لابن الخطيب (1/ 137).
(2) نفس المرجع (1/ 137).
(3) نفس المرجع (1/ 98 - 99).(مقدمة/25)
عدا ما يجاور الحضرة من كثير من قرى الإقليم، أو ما استضافته الحصون المجاورة" (1). ثم شرع في ذكرها.
وقال في موضع آخر: "وقد ذكرنا أن أكثر هذه القرى أمصار فيها ما يناهز خمسين خطبة، تنصب فيها لله المنابر، وترفع الأيدي، وتتوجه الوجوه" (2).
وقال عن ألسنتهم وأجناسهم: "وألسنتهم فصيحة عربية، ويتخللها غرب كثير، وتغلب عليهم الإمالة، وأخلاقهم أبية في معاني المنازعات، وأنسابهم عربية، وفيهم من البربر والمهاجرة كثير" (3).
ولقد جمعت مملكة غرناطة كثيراً من مسلمي الأندلس الذين كانوا يأوون إليها بسبب احتلال النصارى لبلادهم مما أدى إلى استثمار ما في هذه البلاد من خيرات وافرة.
وأما تجارة غرناطة فقد كانت تجارة واسعة بسبب الثغور الجنوبية البحرية، لا سيما مالقة (4) والمريّة (5)، فهي من أغنى الثغور الأندلسية وأزخرها بالحركة التجارية، فاستطاعت غرناطة أن تربط صلات اقتصادية تجارية مع دول أخرى" (6).
ويبدو أن الوضع الاقتصادي في زمن الإمام الشاطبي قد اعتراه الضعف حتى إن بيت المال أصبح عاجزاً عن تجديد بناء أسوار الحصون، واختلف
__________
(1) نفس المرجع (1/ 126).
(2) انظر: "الإحاطة في أخبار غرناطة" (1/ 132).
(3) نفس المرجع (1/ 134).
(4) مالقة: بفتح اللام والقاف، مدينة بالأندلس عامرة من أعمال (رية) سورها على شاطىء البحر بين الجزيرة الخضراء والمرية. "معجم البلدان" (5/ 43).
(5) المرية: بالفتح ثم الكسر وتشديد الياء بنقطتين من تحتها، وهي مدينة كبيرة من كورة البيرة من أعمال الأندلس من بناء الأمير الناصر لدين الله عبد الرحمن بن محمد.
انظر: "معجم البلدان" (5/ 119 - 120).
(6) انظر: "نهاية الأندلس" لعبد الله عنان (ص 326).(مقدمة/26)
الفقهاء هل يجوز توظيف ذلك على الأهالي؟ وكان الإمام الشاطبي ممن أفتى بالجواز اعتماداً على مبدأ المصلحة المرسلة (1).
ومن مظاهر الضعف المالي: استفتاء بعضهم للإمام الشاطبي: "هل يباح لأهل الأندلس بيع الأشياء التي منع العلماء بيعها من أهل الحرب كالسلاح وغيره، لكونهم محتاجين إلى النصارى في أشياء أخرى من المأكول والملبوس وغير ذلك؟ أم لا فرق بين أهل الأندلس وغيرهم من أرض الإسلام؟ ... " (2).
ولعل سبب ما وقع فيه أهل الأندلس من الضيق: بعدهم عن الله والإسراف في التنعم، فقد وصفهم ابن الخطيب بالعناية البالغة بالتّزيُّن، كما ذكر فشو الغناء في بلادهم؛ حيث قال عن نسائهم: "وقد بلغن من التفنن في الزينة لهذا العهد، والمظاهرة بين المصبغات، والتنفيس بالذهبيات والديباجيات، والتماجن في أشكال الحلي، إلى غاية نسأل الله أن يغض عنهن فيها عين الدهر، ويكفكف الخطب، ولا يجعلها من قبيل الابتلاء والفتنة، وأن يعامل جميع من بها بستره، ولا يسلبهم خفي لطفه بعزته وقدرته" (3).
وقال عن فشو الغناء عندهم: "والغناء بمدينتهم فاش حتى في الدكاكين التي تجمع صنائعها كثيراً من الأحداث ... " (4).
وكانت البدع فاشية أيضاً في هذا المجتمع، فقد قال الإمام الشاطبي في مقدمة هذا الكتاب: " .. لِأَنَّهُ لَمَّا كَثُرَتِ الْبِدَعُ وَعَمَّ ضَرَرُهَا، وَاسْتَطَارَ شَرَرُهَا، وَدَامَ الْإِكْبَابُ عَلَى الْعَمَلِ بِهَا، وَالسُّكُوتُ من المتأخرين على الْإِنْكَارِ لَهَا، وَخَلَفَتْ بَعْدَهُمْ خُلُوفٌ جَهِلُوا أَوْ غفلوا عن القيام بفرض القيام
__________
(1) انظر: "فتاوى الإمام الشاطبي" (ص 28)، وقريب من هذا ما في "الاعتصام" للشاطبي (2/ 121 - 123).
(2) انظر: "فتاوى الإمام الشاطبي" (ص 144 - 147).
(3) انظر: "الإحاطة في أخبار غرناطة" (1/ 139).
(4) المصدر السابق (1/ 137).(مقدمة/27)
فِيهَا، صَارَتْ كَأَنَّهَا سُنَنٌ مُقَرَّرَاتٌ، وَشَرَائِعُ مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ مُحَرَّرَاتٌ، فَاخْتَلَطَ الْمَشْرُوعُ بِغَيْرِهِ، فَعَادَ الرَّاجِعُ إِلَى مَحْضِ السُّنَّةِ كَالْخَارِجِ عَنْهَا كَمَا تقدم، فالتبس بعضها ببعض ... " (1).
ولا شك أن فشو المعاصي والبدع، وركون الناس إلى الدنيا سبب في زوال النعم، وقد كانت هذه الأمور سبباً في ذهاب دولة المسلمين بالأندلس.
__________
(1) انظر النص المحقق (ص 36).(مقدمة/28)
المبحث الثالث الحالة العلمية
لقد كان الزمن الذي عاش فيه الإمام الشاطبي من أفضل الأزمنة العلمية، سواء في المشرق أو في المغرب، فقد عاش الإمام الشاطبي في القرن الثامن الهجري، وهو قرن حافل بشخصيات علمية ومؤلفات رائعة في جميع الفنون.
ففي المشرق كان زمن الإمام ابن القيم، والحافظ الذهبي، والإمام ابن كثير، والإمام ابن رجب، وأمثال هؤلاء العلماء الكبار.
وفي المغرب أيضاً كان المستوى العلمي في أروع مراحله، إذ نجد العلماء الكبار، والفنون المتعددة، والمناظرات العلمية، واهتمام الأمراء بالعلم، وغير ذلك من صور الرقي العلمي.
يقول الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور: "وكان العلماء من سائر الفنون متوافرين في بلاد الأندلس. وهذه طائفة كانت في عصر واحد أواخر القرن الثامن، من سنة 772 حتى 800 ما منها إلا إمام يُعْنَى إليه ويعتمد في علمه عليه؛ مثل ابن جُزَيّ وابن لب وابن الفخار وابن الجياب وابن عاصم في الفقهاء، وأبي حيان وابن الصايغ في النحاة، والشاطبي في الأصول وفلسفة الشريعة، وابن الخطيب وابن زمرك والوزير ابن عاصم في رجال القلم والسياسة، وابن هذيل الحكيم في الفلسفة. إنما كان القضاء الأخير على العلم بالأندلس في القرن التاسع" (1).
وقد كان لاهتمام أمراء الدولة النصرية بالعلم وتشجيعهم لأهله دور
__________
(1) "أليس الصبح بقريب" لابن عاشور (ص 79).(مقدمة/29)
هام في رفع المستوى العلمي في مملكتهم، خاصة في عهد السلطان أبي الحجاج يوسف بن إسماعيل النصري المتوفي سنة 755 هـ، فقد كان عالماً أديباً شغوفاً بالعلوم (1).
واشتهر الأمير أبو الوليد إسماعيل بن السلطان يوسف الثاني المتوفي سنة 805 هـ بحبه للأدباء والعلماء، وله في الأدب كتاب "نثير الجمان في شعر من نظمني وإياه الزمان"، وقد ترجم فيه لأعلام عصره في الشعر والأدب.
وأما عن المراكز العلمية في مملكة غرناطة، فاشتهر منها مركزان:
الأول: الجامع الأعظم، وقد كان مقصداً لطلاب العلم، كما كان مقصداً للعباد. ومن أشهر مدرسيه: أبو سعيد فرج بن لب، وأبو بكر أحمد بن جُزَيّ.
الثاني: المدرسة النصرية، وقد أنشئت هذه المدرسة في عهد السلطان يوسف أبي الحجاج المتوفي سنة 755 هـ، وقد قال عنها لسان الدين ابن الخطيب: "جاءت نسيجة وحدها بهجة وصدراً وظرفاً وفخامة" (2).
وممن قام بالتدريس فيها محمد بن علي بن أحمد الخولاني المعروف بابن الفخار المتوفي سنة 754 هـ (3)، وفرج بن قاسم بن أحمد بن لب التغلبي المتوفي سنة 783 هـ (4).
وقد كان من أسباب هذه النهضة العلمية في غرناطة: تجمع مسلمي الأندلس فيها بسب استيلاء النصارى على مدنهم، فاجتمعت في غرناطة ثقافات عديدة، وقدرات علمية متنوعة.
وأما المذهب السائد عند أهل الأندلس فهو مذهب الإمام مالك رحمه الله (5)، فقد كان هو العمدة في الفتوى والقضاء (6).
__________
(1) انظر: "الإحاطة في أخبار غرناطة" لابن الخطيب (1/ 20).
(2) نفس المرجع (1/ 509).
(3) نفس المرجع (3/ 35).
(4) نفس المرجع (4/ 254).
(5) انظر: "الإحاطة في أخبار غرناطة" لابن الخطيب (1/ 134).
(6) "فتاوى الإمام الشاطبي" (ص 31).(مقدمة/30)
الفصل الثاني حياة المؤلف الشخصية
* وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: اسمه، وكنيته، ونسبه.
المبحث الثاني: مولده، ونشأته، وموطنه.
المبحث الثالث: محنته، وما ابتلي به، واتهامه من خصومه.
المبحث الرابع: وفاته.(مقدمة/31)
المبحث الأول اسمه، وكنيته، ونسبه
أجمع من ترجم للإمام الشاطبي على أن اسمه: إبراهيم بن موسى بن محمد. ولم يزيدوا على هذا الاسم أحداً.
أما كنيته: فقد أجمعوا أيضاً على أن كنيته: أبو إسحاق.
وأما نسبه: فهو من قبيلة لَخْم، وهي قبيلة من قبائل اليمن، ومنهم كانت ملوك العرب في الجاهلية، وهم آل عمرو بن عدي بن نصر الَّلخْمي (1).
وأما نسبته: فهو الغرناطي الشاطبي.
فأما الغرناطي فنسبة إلى مملكة غرناطة التي عاش بها، وتقدم الكلام عليها.
وأما الشاطبي فنسبة إلى مدينة شاطبة، وهي مدينة في شرق الأندلس (2).
ولا نعلم سبب نسبته إلى شاطبة، فلعلها كانت مهاجر أسرته قبل غرناطة.
__________
(1) انظر:"الأنساب" للسمعاني (5/ 132)،"الصحاح" للجوهري (20285)، "معجم قبائل العرب" لكحالة (3/ 1012).
(2) انظر: "معجم البلدان" لياقوت (3/ 309).(مقدمة/32)
المبحث الثاني مولده، ونشأته، وموطنه
أما مولده: فلم يذكر أحد ممن ترجم له سنة ولادته ولا مكانها، بل إن منهم من نص على أنه لم يقف عليها، كما قال أحمد بابا التنبكتي (1) -مع سعة ترجمته-: "ولم أقف على مولده رحمه الله" (2).
وقد اجتهد الشيخ محمد أبو الأجفان في تقدير سنة ولادته فقال: "لم يعين المترجمون لأبي إسحاق .. الشاطبي سنة ولادته، ويمكننا أن نقدر الفترة التي ولد فيها، استنتاجاً من تاريخ وفاة شيخه أبي جعفر أحمد بن الزيات الذي كان أسبق شيوخه وفاة، فقد كانت وفاته سنة 728 هـ، وهي السنة التي يكون فيها مترجمنا يافعاً، وذلك مما يجعلنا نرجح أن ولادته كانت قبيل سنة 720 هـ" (3).
وأما نشأته وموطنه: فقد كانت في غرناطة آخر مملكة للمسلمين بالأندلس، فبها نشأ، وبها طلب العلم، وفيها أصبح عالماً مفتياً. ولم يذكر الذين ترجموا له المسائل الدقيقة في نشأته، ولا ذكروا أسرته، وإنما ركزوا على ذكر شيوخه وسماعاته رحمه الله.
ولم يذكر عن الإمام الشاطبي أنه رحل من غرناطة.
__________
(1) هو أحمد بن أحمد بن أحمد بن عمر بن محسن الصنهاجي الماسي السوداني التنبكتي، التكروري المالكي، فقيه عالم مؤرخ، ومن مؤلفاته: "كفاية المحتاج"، و"نيل الابتهاج". توفي سنة (1032 هـ).
انظر: "خلاصة الأثر" للمحبي (1/ 2170)، "شجرة النور الزكية" (ص 298).
(2) "نيل الابتهاج" (ص 49).
(3) انظر: "مقدمة الأستاذ محمد أبو الأجفان لفتاوى الشاطبي" (ص 32).(مقدمة/33)
المبحث الثالث محنته، وما ابتلي به، واتهامه من خصومه
كان لتصدي الإمام الشاطبي لأنواع من البدع التي أَلِفَها الناس واعتادوها أثره في المواجهة، ليس مع العامة والدهماء، بل ومع بعض العلماء، ومنهم من كان من شيوخه، وكان مما اتهم به رحمه الله:
1 - القول بأن الدعاء لا ينفع وأنه لا فائدة فيه (1):
وسبب هذه التهمة أن الإمام الشاطبي لم يلتزم الدُّعَاءَ بِهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ فِي أَدْبَارِ الصَّلَاةِ حَالَةَ الإمامة (2)، وقد كان الناس في الأندلس يلتزمونه في ذلك الزمن.
وممن رمى الإمام الشاطبي بهذه التهمة شيخه أبو سعيد ابن لب (3).
__________
(1) وهذا القول عزاه شارح الطحاوية إلى قوم من المتفلسفة وغالية المتصوفة، محتجِّين بأن المشيئة الإلهية إن اقتضت حصول المطلوب، فلا حاجة إلى الدعاء، وإن لم تقتضه فلا فائدة فيه أيضاً. وقد بين بطلان قولهم بضرورة الدين والعقل والحس والفطرة، وردَّ قولهم بمنع المقدمتين حيث ذكر قسماً ثالثاً وهو أن تقتضيه المشيئة بشرط لا تقتضيه مع عدمه، وقد يكون الدعاء من شرطه، كما توجب الثواب مع العمل الصالح .. ، ثم إنه إذا لم يحصل المطلوب فقد يحصل غيره للسائل من خيري الدنيا والآخرة، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "ما من رجل يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه بها إحدى ثلاث خصال: إما أن يعجِّل له دعوته، أو يدَّخِر له من الخير مثلها، أو يصرف عنه من الشر مثلها، قالوا: إذاً نُكْثِر، قال: الله أكثر" "المسند" (3/ 18)، وصححه الألباني في تعليقه على "شرح الطحاوية" (ص 462)، وانظر: "شرح الطحاوية" (ص 460 - 462).
(2) انظر النص المحقق (ص 25).
(3) انظر كلامه في: "المعيار المعرب" للونشريسي (6/ 369 - 370).(مقدمة/34)
وقد رد الإمام الشاطبي على أصحاب هذا القول، وبيَّن أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، ولا من قوله ولا إقراره، كما لم يفعله أحد من السلف (1).
ورأي الإمام الشاطبي في هذه المسألة هو الصواب، إذ إن هذا العمل من المحدثات، وسبقه شيخ الإسلام ابن تيمية إلى الحكم ببدعية هذا العمل حيث قال: "أما دعاء الإمام والمأمومين جميعاً عقيب الصلوات فهو بدعة" (2).
2 - اتهم رحمه الله بالرفض وبغض الصحابة رضي الله عنهم:
وسبب هذه التهمة أن الإمام الشاطبي لم يلتزم ذكر الخلفاء الراشدين في الخطبة على الخصوص، واحتج بأن ذلك لم يكن مِنْ شَأْنِ السَّلَفِ فِي خُطَبِهِمْ، وَلَا ذَكَرَهُ أَحَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمُعْتَبَرِينَ فِي أَجْزَاءِ الْخُطَبِ (3).
وليس في موقف الإمام الشاطبي من هذه المسألة ما يدل على بغضه للصحابة رضي الله عنهم، ثم إن له سلفاً فيما ذهب إليه، فقد عزا هذا القول إلى أصبغ (4)، والعز بن عبد السلام (5) كما سيأتي في المقدمة.
وإذا نظرنا إلى أن ذكر الخلفاء الراشدين في الخطبة كان مُلْتَزَماً به في بيئة الإمام الشاطبي، بل يعد تاركه مبتدعاً، فلا شك أن كسر هذه القاعدة أمر مطلوب، لأن ذكر الخلفاء الراشدين في الخطبة ليس ركناً فيها ولا واجباً.
والمسألة من المسائل الخلافية، ولشيخ الإسلام ابن تيمية تفصيل فيها؛ حيث ذكر أن من أهل السنة من يفعله ومنهم من يتركه، إلا أنه قد يكون مأموراً به إذا كان فيه تحصيل لمقصد شرعي؛ كالرد على الخوارج الذين
__________
(1) انظر: "الاعتصام" (1/ 349 - 368)، (2/ 1 - 6).
(2) "الفتاوى" (22/ 519).
(3) انظر النص المحقق (ص 26).
(4) ستأتي ترجمته في النص المحقق (ص 26).
(5) ستأتي ترجمته في النص المحقق (ص 26).(مقدمة/35)
يبغضون علياً وعثمان ويكفرونهما (1).
والذي رمى الشاطبي بذلك هو شيخه أبو سعيد ابن لب (2).
3 - اتهم الإمام الشاطبي رحمه الله بالقول بجواز القيام على الأئمة حيث قال:
"وَتَارَةً أُضِيفَ إليَّ الْقَوْلُ بِجَوَازِ الْقِيَامِ عَلَى الْأَئِمَّةِ، وَمَا أَضَافُوهُ إِلَّا مِنْ عَدَمِ ذِكْرِي لهم في الخطبة، وذكرهم فيها محدث لم يكن عليه من تقدم" (3).
وهذه المسألة من جنس المسألة التي قبلها، وليس في موقف الشاطبي منها ما يدل على هذه التهمة، بل له سلف فيما ذهب إليه، فإن ترك الدعاء لأحد في الخطبة هو رأي الإمام الشافعي في كتابه "الأم" (1/ 202 - 203)، والإمام البيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 217)، والعز بن عبد السلام في "فتاويه"، فتوى رقم (16).
وهناك من أجاز الدعاء للسلطان في الخطبة؛ كالطحطاوي في "حاشيته على مراقي الفلاح" (ص 422)، والإمام النووي في "روضة الطالبين" (4/ 527)، والإمام ابن قدامة في "المغني" (2/ 157).
4 - اتهم الإمام الشاطبي رحمه الله بالتزام الحرج والتنطُّع في الدين:
وسبب هذا كما قال الشاطبي: "وَإِنَّمَا حَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَنِّي الْتَزَمْتُ فِي التَّكْلِيفِ وَالْفُتْيَا الْحَمْلَ عَلَى مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ الْمُلْتَزَمِ لَا أَتَعَدَّاهُ، وَهُمْ يَتَعَدَّوْنَهُ وَيُفْتُونَ بِمَا يُسَهِّلُ عَلَى السَّائِلِ وَيُوَافِقُ هَوَاهُ، وَإِنْ كَانَ شَاذًّا فِي الْمَذْهَبِ الْمُلْتَزَمِ أَوْ فِي غَيْرِهِ، وَأَئِمَّةُ العلم على خلاف ذلك ... " (4).
وليس في موقف الشاطبي أي تنطع، وانما أراد إغلاق باب تتبع
__________
(1) انظر: "منهاج السنة" (4/ 156 - 170).
(2) انظر ذلك في: "المعيار المعرب" للونشريسي (6/ 371 - 372).
(3) انظر النص المحقق (ص 27).
(4) انظر النص المحقق (ص 27).(مقدمة/36)
الرخص، وتحكيم الهوى في اختيار الفتوى. وقد تكلم الإمام الشاطبي عن هذه المسألة بشكل أوسع في كتابه الموافقات (1).
والصواب أن الفتوى ينبغي أن تكون بالقول الراجح الذي يعضده الدليل، سواء كان في المذهب أو في غيره من المذاهب الأخرى.
5 - اتهم أيضاً بمعاداة أولياء الله:
قال رحمه اللَّهِ: "وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنِّي عَادَيْتُ بَعْضَ الْفُقَرَاءِ الْمُبْتَدِعِينَ الْمُخَالِفِينَ لِلسُّنَّةِ، الْمُنْتَصِبِينَ -بِزَعْمِهِمْ- لِهِدَايَةِ الْخَلْقِ، وَتَكَلَّمْتُ لِلْجُمْهُورِ عَلَى جُمْلَةٍ مِنْ أَحْوَالِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَسَبُوا أَنْفُسَهُمْ إِلَى الصُّوفِيَّةِ وَلَمْ يَتَشَبَّهُوا بهم" (2).
وقد وصف الإمام الشاطبي طريقة هؤلاء الصوفية في زمنه بقوله: "حَتَّى صَارَتْ فِي هَذَا الزَّمَانِ الْأَخِيرِ كَأَنَّهَا شَرِيعَةٌ أُخْرَى غَيْرَ مَا أَتَى بِهَا مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم -" (3).
ولا شك أن هؤلاء تجب معاداتهم في الله.
6 - اتهم رحمه الله بأنه مخالف للسنة والجماعة، حيث قال:
"وَتَارَةً نُسِبْتُ إِلَى مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، بِنَاءً مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ الَّتِي أُمِرَ بِاتِّبَاعِهَا وَهِيَ النَّاجِيَةُ، مَا عَلَيْهِ الْعُمُومُ، وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ الْجَمَاعَةَ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ" (4).
وقد تكلم الإمام الشاطبي عن المراد بالجماعة الواردة في الحديث بشكل أوسع في الباب التاسع من الكتاب (5).
وقد رد الإمام الشاطبي هذه الافتراءات بقوله: "وكذبوا عليَّ في جميع
__________
(1) (4/ 146).
(2) انظر النص المحقق (ص 27).
(3) أنظر النص المحقق (ص 151).
(4) انظر النص المحقق (ص 27).
(5) انظر: "الاعتصام" (2/ 258 - 267).(مقدمة/37)
ذَلِكَ، أَوْ وَهِمُوا (1)، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حال" (2).
ولا شك أن الإمام الشاطبي كان بريئاً من هذه التهم الزائفة التي لا مستند لها إلا الجهل والتعصب واتباع الهوى، فلم نجد في شيء من كتب الإمام الشاطبي ما يشهد لشيء من هذه المزاعم الكاذبة.
وقد كان لهذه المزاعم تأثير بالغ في نفس الإمام الشاطبي كما هو واضح من مقدمته للاعتصام، إلا أن ذلك لم يثنه عن الحق، بل ازداد ثباتاً على ما اعتقده وكان من ثمرات ما ابتلي به الإمام الشاطبي اعتناؤه بموضوع البدع والتأليف فيه.
__________
(1) هذا أدب رفيع من المؤلف، حيث يلتمس لخصومه العذر مع رميهم له بهذه الاتهامات العظيمة.
(2) انظر النص المحقق (ص 28).(مقدمة/38)
المبحث الرابع وفاته
توفي الإمام الشاطبي رحمه الله في يوم الثلاثاء الثامن من شعبان سنة 790 هـ في مدينة غرناطة.
ولم يقع خلاف في تاريخ وفاته رحمه الله (1).
__________
(1) انظر تاريخ وفاته في: "برنامج المجاري" (ص 122)، "نيل الابتهاج" للتنبكتي (ص 49)، "الفتح المبين في طبقات الأصوليين" للمراغي (2/ 205)، "شجرة النور الزكية" لمخلوف (ص 23)، "الأعلام" للزركلي (1/ 71)، "معجم المؤلفين" لكحالة (1/ 118).(مقدمة/39)
الفصل الثالث حياة المؤلف العلمية
* وفيه خمسة مباحث:
المبحث الأول: طلبه للعلم وشيوخه.
المبحث الثاني: تلاميذه.
المبحث الثالث: ثقافته ومؤلفاته.
المبحث الرابع: مكانته العلمية وثناء العلماء عليه.
المبحث الخامس: عقيدته.(مقدمة/41)
المبحث الأول طلبه للعلم وشيوخه
لقد اشتغل الإمام الشاطبي بالعلم منذ صباه، وسلك في طلبه مسلكاً تربوياً حسناً، حيث بدأ بِأُصُولِ الدِّينِ عَمَلًا وَاعْتِقَادًا، ثُمَّ بِفُرُوعِهِ الْمَبْنِيَّةِ على تلك الأصول، وقد امتاز طلبه للعلم بالشمولية حيث لم يقتصر من العلوم على علم دون علم، ولا أفرد عن أنواعه نوعاً دون آخر، ولم يزل كذلك إلى أن منَّ الله عليه، فشرح له مِنْ مَعَانِي الشَّرِيعَةِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي حسابه، وسيأتي نص كلامه عن طلبه للعلم (1).
وقد أخذ الإمام الشاطبي العلم عن علماء كبار، كان لهم الفضل بعد الله في نبوغه وتقدُّمه في العلم، وقد أجازه بعضهم في ما أخذ عنهم من العلوم، وقد أخذ عن بعضهم العلوم بأسانيدها، وفيما يلي ذكرهم مع إشارة يسيرة لتراجمهم:
1 - أبو عبد الله محمد بن الفخار (2) (ت 754 هـ):
قال عنه في نفح الطيب: "الإمام المجمع على إمامته في فن العربية، المفتوح عليه من الله تعالى فيها حفظاً واطلاعاً واضطلاعاً ونقلاً وتوجيهاً، بما لا مطمع فيه لسواه" (3). وقد قرأ عليه الإمام الشاطبي القرآن بالقراءات السبع في سبع ختمات، وأكثر عليه في التفقه في العربية وغيرها (4)، ولازمه إلى أن مات (5).
__________
(1) انظر النص المحقق (ص 19).
(2) انظر ترجمته في: "شجرة النور الزكية" (ص 228)، و"نفح الطيب" (5/ 355 - 359).
(3) انظر: "نفح الطيب" (5/ 355).
(4) انظر: "برنامج المجاري" لعبد الله المجاري تلميذ الشاطبي (ص 119).
(5) انظر: "نيل الابتهاج" للتنبكتي (ص 47).(مقدمة/42)
2 - أبو سعيد فرج بن قاسم بن أحمد بن لب التغلبي (1) (ت 782 هـ):
كان مفتي غرناطة، وخطيب الجامع الأعظم، والمدرس بالمدرسة النصرية.
قال عنه المقِّري: "قَلَّ من لم يأخذ عنه في الأندلس في وقته" (2)، وقد عرض عليه الإمام الشاطبي مختصر ابن الحاجب في الأصول في مجلس واحد، وأجاز له أن يروي عنه (3)، وقد ناظره الإمام الشاطبي في مسألة دعاء الإمام بعد الصلاة على الهيئة الاجتماعية (4).
3 - أبو عبد الله محمد بن محمد بن أحمد المقَّري (5) (الجد) (ت 759 هـ):
إمام علامة، كان قاضي الجماعة بفاس، ومن كتبه: كتاب القواعد، وكتاب الطرف والتحف، وكتاب اختصار المحصل وغيرها.
وقد تفقه به الإمام الشاطبي، وسمع عليه بعضاً من كتابه المسمى بتكميل التعقيب على صاحب التهذيب، وبعض لمحة العارض تكملة ألفية ابن الفارض من نظمه، وبعض اختصاره لجمل الخونجي، وتمهيد القواعد له أيضاً.
وسمع عليه جميع كتاب الحقائق والرقائق من تأليفه، وأجازه به وبجميع ثلاثيات البخاري (6).
__________
(1) انظر ترجمته في: "نثير الجمان" (ص 186)، و"النيل" (ص 219 - 220)، و"نفح الطيب" (5/ 409 - 514)، و"الأعلام" للزركلي (5/ 140).
(2) انظر: "نفح الطيب" للمقري (5/ 513).
(3) "برنامج المجاري" (ص 118).
(4) وقد ذكر الإمام الشاطبي هذه المسألة في "الاعتصام"، ورد على القائلين بجوازها.
انظر: "الاعتصام" (1/ 348 - 349)، (2/ 3 - 6).
(5) انظر ترجمته في: "الإحاطة" (2/ 191)، و"نفح الطيب" (5/ 203).
(6) "برنامج المجاري" لعبد الله المجاري (ص 119 - 120).(مقدمة/43)
4 - أبو علي منصور بن عبد الله الزواوي (1):
له مشاركة في كثير من العلوم العقلية والنقلية، ونظر في الأصول والمنطق والكلام .. ، قدم الأندلس عام 753 هـ، وكان حياً بعد عام 770 هـ. قرأ عليه الإمام الشاطبي مختصر منتهي السول والأمل في علمي الأصول والجدل للإمام أبي عمرو بن الحاجب من أول مبادئ اللغة إلى آخره بلفظه إلا يسيراً منه سمعه بقراءة غيره، وكل ذلك قراءة تفقه ونظر، وأجازه إجازة عامة بشرطها (2).
5 - أبو عبد الله محمد بن أحمد بن مرزوق الخطيب التلمساني (3) (ت 781 هـ):
رحل مع والده للشرق سنة (718 هـ)، وأخذ في رحلته عن نحو ألفي شيخ من أهل المشرق والمغرب، وبرع في الطب والرواية، ومن تصانيفه شرح العمدة في الحديث (خمس مجلدات)، وشرح الشفا في التعريف بحقوق المصطفي لم يكمل، وشرح الأحكام الصغرى لعبد الحق.
وقد سمع عليه الإمام الشاطبي جميع الجامع الصحيح للبخاري، بقراءة غيره عليه، وموطأ الإمام مالك بن أنس برواية يحيى بن يحيى، وذلك بالمدرسة النصرية، وأجازه بهما بجميع ما يحمل إجازة عامة بشرطها (4).
6 - أبو القاسم محمد بن أحمد الشريف الحسني السبتي (5) (ت 760 هـ):
رئيس العلوم اللسانية بالأندلس، ولِّي ديوان الإنشاء بغرناطة،
__________
(1) انظر ترجمته في: "نيل الابتهاج" للتنبكتي (ص 345 - 347)، و"الإحاطة في أخبار غرناطة" لابن الخطيب (2/ 303)، و"نفح الطيب" للمقري (7/ 147)، و"شجرة النور الزكية" لمحمد مخلوف (ص 234).
(2) "برنامج المجاري" (ص 119).
(3) انظر ترجمته في: "نفح الطيب" للمقري (5/ 390 - 418)، و"نيل الابتهاج" للتنبكتي (ص 268)، و"شجرة النور الزكية" لمحمد مخلوف (ص 236).
(4) "برنامج المجاري" (ص 119).
(5) انظر ترجمته في: "نفح الطيب" للمقري (5/ 189)، و"برنامج المجاري" لعبد الله المجاري (ص 90)، و"الأعلام" للزركلي (6/ 224).(مقدمة/44)
ثم القضاء والخطابة فيها، له شروح في الأدب والنحو.
وقد ذكره التنبكتي ضمن شيوخ الشاطبي (1)، ونقل عنه الشاطبي بعض الفوائد (2).
7 - أبو عبد الله محمد بن أحمد الشريف التلمساني (3) (ت 771 هـ):
من أعلام المالكية، انتهت إليه إمامتهم بالمغرب، من كتبه المفتاح في أصول الفقه، وشرح جمل الخونجي. بنيت له مدرسة فقام يدرس بها إلى أن مات، ذكره أحمد بابا التنبكتي ضمن شيوخ الشاطبي (4)، ونقل عنه الشاطبي بعض الشعر (5).
8 - أبو عبد الله محمد بن أبي الحجاج يوسف بن عبد الله بن محمد اليحصبي اللوشي (6) (ت 752 هـ):
اشتهر بالأدب الجيد، وكان خطيباً بالمسجد الجامع بغرناطة، تزهد في آخر حياته.
وقد استجازه الإمام الشاطبي فأجازه إجازة عامة (7).
9 - أبو عبد الله محمد بن علي بن أحمد البلنسي الأوسي (8) (ت 782 هـ):
من علماء غرناطة. لازم شيخ الجماعة ابن الفخار وانتفع به، وكان
__________
(1) انظر: "نيل الابتهاج" (ص 47).
(2) انظر: "الإفادات والإنشادات" للشاطبي (ص 89، 101، 125).
(3) انظر ترجمته في: "نيل الابتهاج" للتتبكتي (ص 255 - 256)، و"الأعلام" للزركلي (6/ 224).
(4) انظر: "نيل الابتهاج" (ص 257).
(5) انظر: "الإفادات والإنشادات" للشاطبي (ص 121).
(6) انظر ترجمته في: "الإحاطة" لابن الخطيب (2/ 269 - 272)، و"نفح الطيب" للمقري (5/ 12).
(7) "برنامج المجاري" (ص 119).
(8) انظر ترجمته في: "الإحاطة" لابن الخطيب (3/ 38)، و"نيل الابتهاج" للتنبكتي (ص 270).(مقدمة/45)
قائماً على العربية والبيان متقناً، ألف كتاباً في تفسير القرآن متعدد الأسفار، واستدرك على السهيلي في أعلام القرآن كتاباً نبيلاً.
وقد ذكره التنبكتي ضمن شيوخ الشاطبي (1)، ونقل عنه الشاطبي في الإفادات (2).
10 - أبو جعفر أحمد بن الحسن الكلاعي المعروف بابن الزيات (3) (ت 728 هـ):
قال عنه ابن الخطيب: "كان جليل القدر، كثير العبادة، عظيم الوقار، حسن الخلق" (4).
تصانيفه كثيرة، منها: تلخيص الدلالة في تلخيص الرسالة، والمعارف الربانية واللطائف الروحانية.
وقد نقل الإمام الشاطبي عنه قوله: "لو كان لي بيت مال لأنفقته على طلاب العلم، لأنهم قدوتنا وسادتنا ... " (5).
11 - أبو جعفر أحمد بن آدم الشقوري (6):
فقيه، نحوي، فرضي، كان يدرِّس بغرناطة كتاب سيبويه، وقوانين ابن أبي الربيع، وألفية ابن مالك، والمدونة الكبرى.
ذكره التنبكتي ضمن شيوخ الإمام الشاطبي (7).
__________
(1) انظر: "نيل الابتهاج" (ص 47، 270).
(2) انظر: "الإفادات والإنشادات" (ص 94).
(3) انظر ترجمته في: "الإحاطة" لابن الخطيب (1/ 287)، و"شجرة النور" لمخلوف (ص 212).
(4) "الإحاطة" لابن الخطيب (1/ 287).
(5) "روضة الأعلام" لابن الأزرق، نقلاً عن مقدمة محمد أبو الأجفان لفتاوى الشاطبي (ص 38).
(6) انظر ترجمته في: "برنامج المجاري" (ص 125).
(7) انظر: "نيل الابتهاج" (ص 47).(مقدمة/46)
المبحث الثاني: تلاميذه
أخذ عن الإمام الشاطبي عدد من طلاب العلم النجباء، وكان منهم:
1 - أبو يحيى محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن عاصم الغرناطي الإمام العالم المحقق البليغ، صحب الإمام الشاطبي وأخذ عنه وانتفع به، له تأليف كبير في الانتصار للإمام الشاطبي، رد فيه على شيخه أبي سعيد ابن لب في مسألة الدعاء بعد الصلاة، استشهد سنة (813 هـ) (1).
2 - أبو بكر محمد بن محمد بن عاصم الغرناطي الفقيه الأصولي المحدث، أخذ عن أعلام منهم الإمام الشاطبي، وله تآليف كثيرة منها التحفة، وله أرجوزة في الأصول، واختصار الموافقات، توفي سنة (829 هـ) (2).
3 - الشيخ أبو عبد الله محمد البياني، تتلمذ على الإمام الشاطبي، وأخذ عنه خلق كثير مثل أبي يحيى بن عاصم وعبد الله بن جزي وغيرهم (3).
4 - أبو جعفر أحمد القصار الأندلسي الغرناطي، تتلمذ على الإمام الشاطبي، وقد قال إن الإمام الشاطبي كان يطالعه ببعض المسائل حين
__________
(1) انظر ترجمته في: "نيل الابتهاج" للتنبكتي (ص 285)، و"نفح الطيب" للمقري (6/ 148)، و"شجرة النور الزكية" لمخلوف (ص 247).
(2) انظر ترجمته في: "نيل الابتهاج" للتنبكتي (ص 289)، و"شجرة النور الزكية" لمخلوف (ص 247).
(3) انظر ترجمته في: "نيل الابتهاج" للتنبكتي (ص 308)، و"شجرة النور الزكية" لمخلوف (ص 231).(مقدمة/47)
تصنيفه الموافقات، ويباحثه فيها، وبعد ذلك يضعها في الكتاب على عادة الفضلاء ذوي الانصاف (1).
5 - أبو عبد الله محمد بن محمد بن علي بن عبد الواحد المجاري الأندلسي له مؤلف ترجم فيه لشيوخه، ومنهم الإمام الشاطبي، وغالب ترجمته تعداد ما قرأ عليه وذكر شيوخه. توفي سنة 862 هـ (2).
6 - أبو عبد الله محمد بن علي بن أشرص العالم الجليل الإمام الفقيه، أخذ عن جماعة من العلماء منهم ابن رشيد وأبي جعفر الزيات وابن الفخار وأبي إسحاق الشاطبي. توفي سنة 848 هـ (3).
هؤلاء هم أشهر تلاميذ الإمام الشاطبي رحمه الله.
__________
(1) انظر: "نيل الابتهاج" (ص 49، 76).
(2) "ثبت البلوى" (ص 199).
(3) "شجرة النور الزكية" (ص 214).(مقدمة/48)
المبحث الثالث ثقافته ومؤلفاته
كان الإمام الشاطبي رحمه الله يتمتع بثقافة واسعة، فقد جمع علوماً شتى، ومعارف عديدة، وقد نص في مقدمة الكتاب على أنه نظر في عقليات العلم وشرعياته، وأنه لم يقتصر منه على علم دون علم (1).
وإذا نظرنا إلى ما تلقاه من العلوم عن شيوخه، أدركنا سعة ما جمع من الفنون. فنجد أن له باعاً في القراءات واللغة والنحو والفقه والأصول والحديث وغيرها، إلا أن تفوقه في علم الأصول ومقاصد الشريعة هو أبرز سماته العلمية.
والناظر في كتب الشاطبي يجد فيها خير شاهد على سعة اطلاعه وغزارة علمه، مع الدقة والتحقيق لما يقرره رحمه الله.
وله بعض المشاركات الشعرية، ومن ذلك: قصيدته التي قالها بمناسبة تأليف شيخه أبي عبد الله بن مرزوق (2) لكتاب في شرح الشفا للقاضي عياض (3)، حين طلب شيخه من علماء الأندلس نظم قصائد تتضمن مدح الشفا ليجعلها في طالعة شرحه عليه، فقال الشاطبي:
يا من سما لمراقي المجد مقصده ... فنفسه بنفيس العلم قد كلفت
هذي رياض يروق العلم مخبرها ... هي الشفا لنفوس الخلق إن دنفت
يجنى بها زهر التقديم أو ثمر الـ ... تعظيم والفوز للأيدي التي اقتطفت
أبدت لنا من سناها كل واضحة ... حسانه دونها الأطماع قد وقفت
__________
(1) انظر النص المحقق (ص 19).
(2) تقدمت ترجمته ضمن شيوخ الشاطبي.
(3) ستأتي ترجمته في النص المحقق (ص 245).(مقدمة/49)
وشيد العقد أركان مؤكدة ... بها على متن أهل الشرع قد وقعت
قوت القلوب وميزان العقول متى ... حادت عن الحجة الكبرى أو انحرفت
فيا أبا الفضل حزت الفضل في عرض ... بها أقرت لك الأعلام واعترفت
وكنت بحر علوم ضل ساحله ... منه استمدت عيون العلم واغترفت
زارته من نسمات القدس باسمة ... فحركت منه مدح الفكر حين وفت
حتى إذا طفئت أرجاؤه قذفت ... لنا بدرتها الحسناء وانصرفت
إن العناية لا يحظى بنائلها ... حريصها بل على التخصيص قد وقفت (1)
ومن شعره رحمه الله لما ابتلي بالبدع:
بليت يا قوم والبلوى منوعة ... بمن أداريه حتى كاد يرديني
دفع المضرة لا جلب لمصلحة ... فحسبي الله في عقلي وفي ديني (2)
وأما مؤلفات الإمام الشاطبي، فقد ألف رحمه الله كتباً نافعة، قال عنها التنبكتي في نيل الابتهاج: "ألف تآليف نفيسة، اشتملت على تحريرات للقواعد وتحقيقات لمهمات الفوائد" (3).
وهذه الكتب منها المطبوع، ومنها ما لم يطبع، وبعضها لا نعلم عنها شيئاً.
فأما كتبه المطبوعة فهي:
1 - الموافقات في أصول الشريعة:
وهذا الكتاب من أحسن ما ألفه الإمام الشاطبي من الكتب، بل من أحسن ما ألف في موضوعه، وهو في أصول الفقه، إلا أن المؤلف ركز فيه على مقاصد الشريعة وأسرار التكليف، فجاء هذا الكتاب متميزاً على ما قبله من الكتب في هذا الموضوع.
ولقد وجد هذا الكتاب قبولاً وثناء من كثير من العلماء، سواء
__________
(1) انظر هذه الأبيات في: "الإفادات والإنشادات" للشاطبي (ص 150)، و"نيل الابتهاج" للتنبكتي (ص 49).
(2) انظرها في: "نيل الابتهاج" (ص 49).
(3) "النيل" (ص 48).(مقدمة/50)
المتقدمين أو المتأخرين، فقد قال عنه التنبكتي في نيل الابتهاج: "وكتاب الموافقات في أصول الفقه كتاب جليل القدر جداً، لا نظير له، يدل على إمامته وبعد شأوه في العلوم سيما علم الأصول، قال الإمام الحفيد ابن مرزوق: كتاب الموافقات المذكور من أقبل الكتب ... " (1).
وقال عنه الشيخ عبد الله دراز في مقدمته على الكتاب: "لم تقف به الهمة في التجديد والعمارة لهذا الفن عند حد تأصيل القواعد، وتأسيس الكليات المتضمنة لمقاصد الشارع في وضع الشريعة، بل جال في تفاصيل مباحث الكتاب أوسع مجال، وتوصل باستقرائها إلى استخراج درر غوال لها أوثق صلة بروح الشريعة ... " (2).
والكتاب ينحصر في خمسة أقسام كما قال الإمام الشاطبي في مقدمته:
الأول: في المقدمات العلمية المحتاج إليها في تمهيد المقصود.
والثاني: في الأحكام وما يتعلق بها من حيث تصورها والحكم بها أو عليها، كانت من خطاب الوضع أو من خطاب التكليف.
والثالث: في المقاصد الشرعية في الشريعة وما يتعلق بها من الأحكام.
والرابع: في حصر الأدلة الشرعية، وبيان ما ينضاف إلى ذلك فيها على الجملة وعلى التفصيل، وذكر مآخذها، وعلى أي وجه يحكم بها على أفعال المكلفين.
والخامس: في أحكام الاجتهاد والتقليد، والمتصفين بكل واحد منهما (3).
والكتاب مطبوع عدة طبعات، منها طبعة محققة بعناية الشيخ مشهور حسن سلمان جزاه الله خيراً.
__________
(1) "النيل" (ص 48).
(2) "الموافقات" (1/ 7).
(3) "المواقفات" (1/ 23 - 24).(مقدمة/51)
2 - الاعتصام:
وهو كتابنا الذي بين أيدينا، وسيأتي الكلام عليه.
3 - الإفادات والإنشادات:
وهذا الكتاب عبارة عن فوائد وطرف وملح وإنشادات نقلها الإمام الشاطبي عن بعض شيوخه، وعن بعض من التقى بهم من العلماء.
قال في نيل الابتهاج: "وكتاب الإفادات والإنشادات في كراسين، فيه طرف وتحف وملح أدبيات وإنشادات" (1).
وقد حققه الدكتور محمد أبو الأجفان، وطبعته مؤسسة الرسالة سنة 1403 هـ.
4 - فتاوى الإمام الشاطبي:
وهذا الكتاب لم يؤلِّفه الشاطبي، وإنما جمعه الدكتور محمد أبو الأجفان من كتب مخطوطة ومطبوعة للشاطبي.
وقد بلغت هذه الفتاوى ستين فتوى في الفقه والحديث والعقيدة ومسائل البدع.
وقد طبع هذا الكتاب سنة 1405 هـ بمطبعة الكواكب بتونس.
وأما كتبه التي لم تطبع بعد، فمنها:
1 - شرح جليل على الخلاصة في النحو: (في أربعة أسفار):
قال عنه أحمد بابا التنبكتي في النيل: "لم يؤلف عليه مثله بحثاً وتحقيقاً فيما أعلم" (2).
2 - كتاب المجالس:
قال في النيل: "شرح فيه كتاب البيوع من صحيح البخاري، فيه من
__________
(1) "نيل الابتهاج" (ص 48).
(2) نفس المرجع (ص 48).(مقدمة/52)
الفوائد والتحقيقات ما لا يعلمه إلا الله" (1).
3 - شرح رجز ابن مالك في النحو (الألفية) (2):
وقد قام بتحقيقه عدد من أساتذة جامعة أم القرى، ولم يطبع بعد.
4 - عنوان الاتفاق في علم الاشتقاق.
5 - أصول النحو.
والكتابان الأخيران ذكر أحمد بابا أنهما أتلفا في حياته (3).
__________
(1) "نيل الابتهاج" (ص 48).
(2) انظر: "الأعلام" للزركلي (1/ 71).
(3) انظر: "نيل الابتهاج" (ص 48 - 49).(مقدمة/53)
المبحث الرابع مكانته العلمية وثناء العلماء عليه
للإمام الشاطبي رحمه الله مكانة علمية رفيعة، وتبرز مكانته العلمية من خلال ثناء العلماء عليه وعلى كتبه الرائعة.
فقد أثنى عليه كثير من العلماء المتقدمين والمتأخرين، وسوف أذكر شيئاً من كلامهم على وجه الإجمال:
فمن ذلك ما ذكره أحمد بابا في ترجمته حيث قال: " ... الإمام العلامة المحقق القدوة الحافظ الجليل المجتهد، كان أصولياً، مفسراً، فقيهاً، محدثاً، لغوياً، بيانياً، نظاراً، ثبتاً، ورعاً، صالحاً، زاهداً، سنياً، إماماً مطلقاً، بحاثاً مدققاً، جدلياً، بارعاً في العلوم، من أفراد العلماء المحققين الأثبات، وأكابر الأئمة المتفننين الثقات، له القدم الراسخ والإمامة العظمى في الفنون فقهاً وأصولاً وتفسيراً وحديثاً وعربية وغيرها، مع التحري والتحقيق، له استنباطات جليلة، ودقائق منيفة، وفوائد لطيفة، وأبحاث شريفة، وقواعد محررة محققة، على قدم راسخ من الصلاح
والعفة والتحري والورع، حريصاً على اتباع السنة، مجانباً للبدع والشبهة، ساعياً في ذلك، مع تثبت تام، منحرف عن كل ما ينحو للبدع وأهلها ... " (1).
وقال عنه الإمام الحفيد ابن مرزوق فيما نقل عنه في النيل: "الإمام المحقق العلامة الصالح أبو إسحاق" (2).
وقال عنه تلميذه عبد الله المجاري: "الإمام العلامة الشهير، نسيج
__________
(1) "نيل الابتهاج" (ص 47).
(2) نفس المرجع (ص 47).(مقدمة/54)
وحده، وفريد عصره، أبو إسحاق ... " (1).
وهذا بعض ما أثنى عليه به المتقدمون، وأما ثناء المتأخرين عليه فهو كثير، وأكتفي بذكر شيء من كلام الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله في مقدمته على الاعتصام، حيث قال: "لولا أن هذا الكتاب ألف في عصر ضعف العلم والدين في المسلمين، لكان مبدأ نهضة جديدة لإحياء السنة، وإصلاح شؤون الأخلاق والاجتماع، ولكان المصنف بهذا الكتاب وبصنوه كتاب "الموافقات" -الذي لم يسبق إلى مثله سابق أيضاً- من أعظم المجددين في الإسلام، فمثله كمثل الحكيم الاجتماعي عبد الرحمن بن خلدون، كل منهما جاء بما لم يسبق إلى مثله، ولم تنتفع الأمة كما كان يجب بعلمه" (2).
هذا بعضٌ من ثناء العلماء عليه رحمه الله.
ومن أهم الأسباب التي جعلته يحتل هذه المكانة، وينال هذا الذكر الحسن: ما كان يتحلى به من الصدق مع الله تعالى، وتحرِّي الحق، وتطلُّبه ولزومه، والثبات عليه، وإن خالفه أكثر الناس. وهذا أمر واضح لمن نظر في سيرته، وقرأ كلامه، سيما مقدمته للاعتصام، حيث صدع بالحق، ونهى عن البدع وثبت على موقفه صابراً محتسباً، مع كثرة الاتهامات والافتراءات التي وجهت إليه بسبب ذلك. وكان من نتيجة ذلك عنايته بموضوع البدع وتصنيفه فيه.
__________
(1) "برنامج المجاري" (ص 116).
(2) "الاعتصام" (1/ 4).(مقدمة/55)
المبحث الخامس عقيدته (1)
ليس للإمام الشاطبي رحمه الله مؤلف مستقل في أبواب العقيدة حتى يمكن الباحث معرفة رأيه في كل مسألة على وجه الدقة، ولكن كتبه لا تخلو من الكلام على بعض المسائل العقدية التي تأتي عَرَضاً في كلامه.
ومن خلال النظر في هذه المسائل نجد أن للمؤلف ميلاً إلى المذهب الأشعري. وقبل ذكر أمثلة من المسائل التي مال فيها الإمام الشاطبي إلى مذهب الأشاعرة، تجدر الإشارة إلى بعض الأفكار المنهجية عند المؤلف في مسائل العقيدة، ومن أهمها:
1 - يرى الإمام الشاطبي أن خبر الآحاد دليل ظني، وأنه لا يؤخذ به في الأمور القطعية، إلا إذا شهد له أصل قطعي كآية قرآنية أو سنة متواترة.
وهذا الرأي للإمام الشاطبي هو مضمون كلامه في عدة مواضع من كتبه، ومن ذلك قوله أثناء رده على المبتدعة الذين يردون أحاديث الآحاد جملة: " .. فعلى كل تقدير خَبَرِ وَاحِدٍ صَحَّ سَنَدُهُ، فَلَا بُدَّ مِنَ اسْتِنَادِهِ إِلَى أَصْلٍ فِي الشَّرِيعَةِ قَطْعِيٍّ فَيَجِبُ قبوله، ومن هنا قبلناه مطلقاً ... " (2).
وقال في معرض رده على المبتدعة الذين يستحسنون بعض البدع، ويحتجون على ذلك بحديث: "مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ
__________
(1) استفدت في هذا المبحث من رسالة ماجستير في الجامعة الإسلامية بعنوان: "الإمام الشاطبي عقيدته وموقفه من البدع وأهلها"، للطالب عبد الرحمن آدم علي، وقد أشرف على الرسالة الدكتور أحمد سعد حمدان، وتوفي الطالب رحمه الله قبل مناقشتها.
(2) "الاعتصام" للشاطبي (1/ 236).(مقدمة/56)
حسن" (1)، قال: "وَالثَّانِي أَنَّهُ خَبَرٌ وَاحِدٌ فِي مَسْأَلَةٍ قَطْعِيَّةٍ فلا يسمع" (2).
وقال في موطن آخر: "كل دليل شرعي إما أن يكون قطعياً أو ظنياً، فإن كان قطعياً، فلا إشكال في اعتباره، وإن كان ظنياً، فإما أن يرجع إلى أصل قطعي أو لا، فإن رجع إلى قطعي فهو معتبر أيضاً، وإن لم يرجع وجب التثبت فيه ولم يصح إطلاق القول بقبوله ... " (3).
وقد تكلم الإمام الشاطبي في المسألة في مواطن أخرى (4)، إلا أنها تدور حول ما تقدم.
وهذا الرأي للإمام الشاطبي متأثر برأي بعض الأشاعرة في المسألة (5)، وهو رأي مخالف لقول أهل السنة الذين يرون أن خبر الآحاد يفيد العلم إذا احتفَّت به القرائن، وتلقته الأمة بالقبول، وينبني على ذلك الاحتجاج به في المسائل القطعية وغيرها، دون تفريق بين مسائل الاعتقاد أو غيرها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "مذهب أصحابنا أن أخبار الآحاد المتلقاة بالقبول تصلح لإثبات أصول الديانات" (6).
وقال الإمام ابن القيم نقلاً عن شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما القسم الثاني من الأخبار فهو ما لا يرويه إلا الواحد العدل ونحوه، ولم يتواتر لفظه ولا معناه، ولكن تلقته الأمة بالقبول عملاً به أو تصديقاً له .. ، فهذا يفيد العلم اليقيني عند جماهير أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - من الأولين والآخرين" (7).
__________
(1) ذكره الشيخ الألباني في "السلسلة الضعيفة" وقال: "لا أصل له مرفوعاً، وإنما ورد موقوفاً على ابن مسعود"، وعزاه لأحمد برقم (3600)، والطيالسي في "مسنده" (ص 23)، وأبي سعيد بن الأعرابي في "معجمه" (84/ 2)، ثم حسن الشيخ الألباني إسناده موقوفاً على ابن مسعود. انظر: "السلسلة الضعيفة" برقم (532) (2/ 17).
(2) انظر: "الاعتصام" (2/ 152).
(3) "الموافقات" للشاطبي (3/ 15).
(4) ومن ذلك ما في "الموافقات" (3/ 17، 25، 26).
(5) انظر: "أصول الدين" للبغدادي (ص 18)، "المستصفي" للغزالي (1/ 145).
(6) "المسودة" (ص 248).
(7) "مختصر الصواعق المرسلة" (2/ 481 - 482).(مقدمة/57)
وقال في موضع آخر: "وأما الجزم بصحته فإنه يحتف به من القرائن ما يوجب العلم، إذ القرائن المجردة قد تفيد العلم بمضمونها، فكيف إذا احتفت بالخبر .. " (1).
وقال الإمام ابن أبي العز: "وخبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول، عملاً به، وتصديقاً له، يفيد العلم اليقيني عند جماهير الأمة، وهو أحد مسمى التواتر، ولم يكن بين سلف الأمة في ذلك نزاع" (2).
2 - جعل الإمام الشاطبي نصوص الصفات من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله، وهذا القول خلاف قول أهل السنة الذين يجعلونها من المحكم (3)، فيؤمنون بما دلت عليه من المعاني التي تليق به سبحانه، ويفوضون كيفيتها إلى الله سبحانه، فإن علم كيفيتها من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه.
ومما يدل على ذلك من كلامه: قوله: "وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا وَجَدَ فِي الشَّرْعِ أَخْبَارًا تَقْتَضِي ظَاهِرًا خَرْقَ الْعَادَةِ الْجَارِيَةِ الْمُعْتَادَةِ، فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُقَدِّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ الْإِنْكَارَ بِإِطْلَاقٍ، بَلْ لَهُ سَعَةٌ فِي أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُصَدِّقَ بِهِ عَلَى حَسَبِ مَا جَاءَ، وَيَكِلُ عِلْمَهُ إِلَى عَالِمِهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7] يَعْنِي الْوَاضِحَ الْمُحْكَمَ، وَالْمُتَشَابِهَ الْمُجْمَلَ، إِذْ لَا يَلْزَمُهُ الْعِلْمُ بِهِ، وَلَوْ لَزِمَ الْعِلْمُ بِهِ لَجُعِلَ لَهُ طريقٌ إِلَى مَعْرِفَتِهِ، وَإِلَّا كَانَ تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ، وَإِمَّا أَنْ يَتَأَوَّلَهُ عَلَى مَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ مَعَ الْإِقْرَارِ بِمُقْتَضَى الظَّاهِرِ، لِأَنَّ إِنْكَارَهُ إنكارٌ لِخَرْقِ الْعَادَةِ فِيهِ.
وَعَلَى هَذَا السَّبِيلِ يَجْرِي حُكْمُ الصِّفَاتِ الَّتِي وَصَفَ الْبَارِي بِهَا نَفْسَهُ، لِأَنَّ مَنْ نَفَاهَا نَفَى شِبْهَ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ، وَهَذَا مَنْفِيٌّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، فَبَقِيَ الْخِلَافُ فِي نَفْيِ عَيْنِ الصفة أو إثباتها، فالمثبت أثبتها صفة على شرط نفي
__________
(1) "مختصر الصواعق المرسلة" (2/ 374).
(2) "شرح الطحاوية" (ص 355).
(3) فصّل شيخ الإسلام الكلام في المسألة في "الفتاوى" (13/ 294 - 313). وكذلك في "التدمرية" (القاعدة الخامسة).(مقدمة/58)
التَّشْبِيهِ، وَالْمُنْكِرُ لِأَنْ يَكُونَ ثَمَّ صِفَةٌ غَيْرُ شَبِيهَةٍ بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ مُنْكِرٌ لِأَنْ يَثْبُتَ أَمْرٌ إلا على وفق المعتاد" (1).
وقال في موضع آخر ضمن كلامه على انحراف المبتدعة واتباعهم للمتشابه: "ومثاله في ملة الإسلام: مذهب الظَّاهِرِيَّةِ فِي إِثْبَاتِ الْجَوَارِحِ لِلرَّبِّ الْمُنَزَّهِ عَنِ النقائص؛ من العين واليد والرجل والوجه المحسوسات، والجهة، وغير ذلك من الثابت للمحدثات" (2).
3 - يذهب الإمام الشاطبي إلى القول بتأويل بعض الصفات إذا احتيج إلى التأويل، ويرى أن هناك سعة لمن يأخذ به عند الحاجة.
وقد تقدم كلامه في الفقرة السابقة (3)، وهو رأي الأشاعرة في هذه المسألة.
4 - يرى الإمام الشاطبي رحمه الله أن الخلاف الواقع بين أهل السنة وبين أهل البدع في الصفات خلاف في الفروع، لا في الأصول، ولا سيما إذا وقع ذلك منهم بقصد حسن.
قال رحمه الله وهو يتحدَّث عن عدم تكفير المبتدعة، وأن منهم من ليس بمتبع للهوى بإطلاق: "وَأَيْضًا فَقَدْ ظَهَرَ مِنْهُمُ اتِّحَادُ الْقَصْدِ مَعَ أهل السنة على الجماعة مِنْ مَطْلَبٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الِانْتِسَابُ إِلَى الشَّرِيعَةِ. وَمِنْ أَشَدِّ مَسَائِلِ الْخِلَافِ -مَثَلًا- مَسْأَلَةُ إِثْبَاتِ الصِّفَاتِ؛ حَيْثُ نَفَاهَا مَنْ نَفَاهَا، فَإِنَّا إِذَا نَظَرْنَا إِلَى مَقَاصِدَ الْفَرِيقَيْنِ وَجَدْنَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَائِمًا حَوْلَ حِمَى التَّنْزِيهِ وَنَفْيِ النَّقَائِصِ وَسِمَاتِ الْحُدُوثِ، وَهُوَ مَطْلُوبُ الْأَدِلَّةِ. وَإِنَّمَا وَقَعَ اخْتِلَافُهُمْ فِي الطَّرِيقِ، وَذَلِكَ لَا يُخِلُّ بِهَذَا الْقَصْدِ فِي الطَّرَفَيْنِ مَعًا، فَحَصَلَ فِي هَذَا الخلاف أشبه الواقع بينه وبين الخلاف والواقع في الفروع" (4).
5 - نص الإمام الشاطبي على أن مذهب السلف هو الصواب وأنه
__________
(1) "الاعتصام" (2/ 327).
(2) نفس المصدر (1/ 240).
(3) وانظر أيضاً ما ذكره في: "الاعتصام" (2/ 328 - 329).
(4) انظر: "الاعتصام" (2/ 187).(مقدمة/59)
أسلم، إلا أنه ظن أن مذهب السلف في الصفات هو مجرد التصديق والتفويض المطلق. والسلف إنما فوضوا الكيفية وأثبتوا المعنى.
يقول الشاطبي: "وأما مسائل الخلاف وإن كثرت، فليست من المتشابهات بإطلاق، بل فيها ما هو منها وهو نادر كالخلاف الواقع فيما أمسك عنه السلف الصالح فلم يتكلموا فيه بغير التسليم له والإيمان بغيبة المحجوب أمره عن العباد؛ كمسائل الاستواء والنزول وأشباه ذلك. وحين سلك الأولون فيها مسلك التسليم وترك الخوض في معانيها دل على أن ذلك هو الحكم عندهم فيها، وهو ظاهر القرآن" (1).
وقال بعد ذكره لما ذهب إليه بعض المتأخرين من تأويل الصفات: "وهي مسألة اجتهادية، ولكن الصواب من ذلك ما كان عليه السلف" (2).
ويتضح من آراء الشاطبي المتقدمة أنه متأثر بالأشاعرة في الصفات كما يتضح أنه لم يكن متعصباً لهذا المذهب.
ولا يبدو موقف الشاطبي واضحاً أمام مسائل الصفات، فنجد أنه أثنى على مذهب السلف وعدَّه أصوب، كما نجد أنه عذر من تأولها، وعَدَّ الجميع مجتهدين.
ولعل سبب هذا الموقف للشاطبي ظنه بأن مذهب السلف تفويض معاني هذه الصفات، وأنه لا يفهم منها شيء، وإلا لو أنه ذهب فيها مذهب أهل السنة والجماعة من إثبات معانيها على الوجه الذي يليق به سبحانه، وتفويض كيفيتها إليه سبحانه، لما وسعه إعذار من تأولها وصرفها عن ظاهرها.
وأيضاً هناك سبب آخر لموقف الإمام الشاطبي وهو أنه عَدَّ الخلاف في هذه المسائل شِبْهَ الخلاف الواقع في الفروع، فهو مسألة اجتهادية.
والصواب أن الخلاف في هذه المسائل العقدية ليس كالخلاف في
__________
(1) "الموافقات" (3/ 94).
(2) المصدر السابق (3/ 99).(مقدمة/60)
مسائل الفروع الاجتهادية، فالخلاف في مسائل الفروع مستساغ، ولكنه في مسائل العقيدة مذموم، ولا يعذر أحد في ترك الحق الذي سار عليه أهل السنة والجماعة الذين أثبتوا معاني هذه الصفات على ما يليق بجلال الله سبحانه، وفوضوا كيفيتها إلى الله تعالى، ويجب توضيح الحق لمن خالف منهجهم ورد هذه الصفات أو صرفها عن ظاهرها لتقوم عليه الحجة ويقطع عذره أمام الله تعالى.
ومما ينبغي التنبيه عليه أن الإمام الشاطبي رغم تأثره بالفكر الأشعري إلا أنا نجده يقدم النقل على العقل، ويعدُّ الدليل حاكماً على العقل بإطلاق (1)، ويذم طريقة الفلاسفة ومنهجهم (2).
وأين هذا الموقف من موقف متعصبي الأشاعرة الذين يرون تقديم العقل على النقل عند التعارض (3).
وسوف أذكر الآن موقف الشاطبي من بعض المسائل العقدية التي تأثر فيها بعقيدة الأشاعرة وذلك من خلال كلامه رحمه الله:
أولاً: مسألة كلام الله تعالى:
قال الشاطبي رحمه الله في معرض رده على المعتزلة (4) الذين كان من شبههم في نفي صفة الكلام عن الله تعالى قولهم: فَالْكَلَامُ لَا يُعْقَلُ إِلَّا بِأَصْوَاتٍ وَحُرُوفٍ، وَكُلُّ ذلك من صفات المحدثات .. ، قال: "وَأَمَّا كَوْنُ الْكَلَامِ هُوَ الْأَصْوَاتُ وَالْحُرُوفُ، فَبِنَاءً عَلَى عَدَمِ النَّظَرِ فِي الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ، وَهُوَ مذكور في الأصول" (5).
__________
(1) انظر: "الاعتصام" (1/ 318).
(2) انظر كلامه في ذمهم في: "الموافقات" (1/ 55 - 56، 58، 59 - 60)، (2/ 405)، و"النص المحقق" (ص 71).
(3) وقد ألف شيخ الإسلام ابن تيمية كتابه: "درء تعارض العقل والنقل" في الرد على هذا القول الباطل.
(4) سيأتي التعريف بهم. انظر النص المحقق (ص 30).
(5) انظر: "الاعتصام" (2/ 330).(مقدمة/61)
فالمؤلف يرى أن في قول الأشاعرة بالكلام النفسي مخرجاً من هذا الإشكال الذي أورده المعتزلة.
وقال أيضاً: "وهل للقرآن مأخذ في النظر على أن جميع سوره كلام واحد بحسب خطاب العباد، لا بحسبه في نفسه؟ فإن كلام الله في نفسه كلام واحد لا تعدد فيه بوجه ولا باعتبار حسبما تبين في علم الكلام" (1).
وقال أيضاً: "كتاب الله هو أصل الأصول والغاية التي تنتهي إليها أنظار النظار، ومدارك أهل الاجتهاد، وليس وراءه مرمى، لأنه كلام الله القديم" (2).
وهذا الكلام للشاطبي موافق لقول الأشاعرة في المسألة (3).
ثانياً: مسألة رؤية الله تعالى يوم القيامة:
قال الإمام الشاطبي في معرض رده على الذين أنكروا خوارق العادات "وَالسَّابِعُ: رُؤْيَةُ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ جَائِزَةٌ، إِذْ لَا دَلِيلَ فِي الْعَقْلِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا رُؤْيَةَ إِلَّا عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ عِنْدَنَا، إِذْ يُمْكِنُ أَنْ تَصِحَّ الرُّؤْيَةُ عَلَى أَوْجُهٍ صَحِيحَةٍ لَيْسَ فِيهَا اتِّصَالُ أَشِعَّةٍ، وَلَا مُقَابَلَةٌ وَلَا تَصَوُّرُ جِهَةٍ وَلَا فَضْلُ جِسْمٍ شَفَّافٍ، وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ، وَالْعَقْلُ لَا يَجْزِمُ بِامْتِنَاعِ ذَلِكَ بَدِيهَةً، وَهُوَ إِلَى الْقُصُورِ فِي النَّظَرِ أَمْيَلُ، وَالشَّرْعُ قَدْ جَاءَ بِإِثْبَاتِهَا، فَلَا مَعْدِلَ عن التصديق" (4).
وهذا النص واضح في إثبات الإمام الشاطبي للرؤية على طريقة
__________
(1) "الموافقات" (3/ 224).
(2) المصدر السابق.
(3) انظر كلام الأشاعرة في هذه المسألة في: "كتاب أصول الدين" للبغدادي (ص 106 - 108)، "الإرشاد" للجويني (ص 128 - 137)، "الإنصاف" للباقلاني (ص 96 - 97)، "شرح الباجوري على الجوهرة" (ص 64 - 66، 84).
وانظر في رد أهل السنة عليهم: "فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" (12/ 579 - 581) (6/ 295 - 296)، "مختصر الصواعق المرسلة" لابن القيم (2/ 426)، "شرح العقيدة الطحاوية" لابن أبي العز (ص 184 - 188).
(4) انظر: "الاعتصام" (2/ 330).(مقدمة/62)
الأشاعرة الذين ينفون رؤية الله في جهةٍ، بناءً على نفيهم العلو والفوقية له سبحانه (1).
قال الإمام ابن أبي العز (2): "ومن قال: يرى لا في جهة فليراجع عقله، فإما أن يكون مكابراً لعقله وفي عقله شيء، وإلا فإذا قال يرى لا أمام الرائي، ولا خلفه، ولا عن يمينه، ولا عن يساره، ولا فوقه، ولا تحته؛ رد عليه كل من سمعه بفطرته السليمة، ولهذا ألزم المعتزلة من نفي العلو بالذات بنفي الرؤية، وقالوا كيف تعقل رؤية بلا مقابلة بغير جهة ... ".
ثالثاً: مسألة الاستواء:
قال رحمه الله أثناء حديثه عن المتشابهات: "وأما مسائل الخلاف وإن كثرت، فليست من المتشابهات بإطلاق، بل فيها ما هو منها، وهو نادر، كالخلاف الواقع فيما أمسك عنه السلف الصالح، فلم يتكلموا فيه بغير التسليم له والإيمان بغيبه المحجوب أمره عن العباد؛ كمسائل الاستواء وأشباه ذلك، وحين سلك الأولون فيها مسلك التسليم، وترك الخوض في معانيها، دل على أن ذلك هو الحكم عندهم فيها، وهو ظاهر القرآن، لأن الكلام فيما لا يحاط به جهل، ولا تكليف يتعلق بمعناها" (3).
وقال في موضع آخر -مبيناً لقوله: لا تكليف يتعلق بمعناها-: "المراد أن يتعلق تكليف بمعناه المراد عند الله تعالى، وقد يتعلق به التكليف من حيث هو مجمل، وذلك بأن يؤمن أنه من عند الله، وبأن يجتنب فعله إن كان أفعال العباد، ويجتنب النظر فيه إن كان غير أفعال العباد كقوله:
__________
(1) انظر قول الأشاعرة في: "الملل والنحل" للشهرستاني (ص 100)، "الإنصاف" للباقلاني (ص 72 - 74، 252)، "أصول الدين" للبغدادي (ص 97 - 102).
وانظر في رد أهل السنة عليهم: "الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (16/ 84، 87)، "درء تعارض العقل والنقل" له أيضاً (1/ 250)، "شرح العقيدة الطحاوية" لابن أبي العز (ص 195).
(2) "شرح الطحاوية" (ص 195).
(3) "الموافقات" للشاطبي (3/ 94).(مقدمة/63)
{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه: 5] وأشباه ذلك، هذا معنى أنه لا يتعلق به تكليف، وإلا فالتكليف متعلق بكل موجود، من حيث يعتقد على ما هو عليه، أو يتصرف فيه إن صح تصرف العباد فيه، إلى غير ذلك من وجوه النظر" (1).
وفي هذه العبارات يذكر المؤلف أن السلف لم يخوضوا في معنى هذه الصفة ونحوها من الصفات، بل ينهي عن النظر في معناها كما في النص الأخير.
وهذا الكلام للإمام الشاطبي في هذه الصفة موافق لقول بعض الأشاعرة الذين يفوضون معنى الاستواء إلى الله، ويدعون أنه غير معلوم، ظناً منهم أن ذلك مذهب السلف، ومنهم من ذهب إلى تأويل الاستواء بالاستيلاء (2).
رابعاً: مسألة علو الله تعالى:
قال الإمام الشاطبي متحدثاً عما يلزم مفسر القرآن معرفته: "ومن ذلك معرفة عادات العرب في أقوالها وأفعالها ومجاري أحوالها حالة التنزيل، وإن لم يكن ثَمَّ سبب خاص لا بد لمن أراد الخوض في علم القرآن منه، وإلا وقع في الشبه والإشكالات التي يتعذر الخروج منها إلا بهذه المعرفة، ولا بد من ذكر أمثلة تعين على فهم المراد، وإن كان مفهوماً: قوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50]، {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16] وأشباه ذلك، إنما جرى على معتادهم في اتخاذ الآلهة في الأرض، وإن كانوا مقرين بإلهية الواحد الحق، فجاءت الآيات بتعيين الفوق وتخصيصه
__________
(1) "الموافقات" للشاطبي (3/ 344).
(2) انظر كلام الأشاعرة في هذه المسألة في: "أصول الدين" للبغدادي (ص 112 - 114)، "الملل والنحل" للشهرستاني (ص 92)، "تفسير الفخر الرازي" (14/ 106، 121).
وانظر في رد أهل السنة عليهم: "الفتاوى" (4/ 67 - 68)، (5/ 34 - 36)، "درء تعارض العقل والنقل" لابن تيمية (1/ 14 - 16)، "مختصر الصواعق المرسلة" لابن القيم (1/ 54 - 55)، "شرح العقيدة الطحاوية" لابن أبي العز (ص 280 - 281).(مقدمة/64)
تنبيهاً على نفي ما ادعوه في الأرض، فلا يكون فيه دليل على إثبات جهة البتة، ولذلك قال تعالى: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 26]، فتأمله، واجر على هذا المجرى في سائر الآيات والأحاديث" (1).
ومن كلامه أيضاً: قوله عند تقسيمه للبدع إلى مكفرة وغير مكفرة: "لَا شَكَّ فِي أَنَّ الْبِدَعَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا مَا هُوَ كُفْرٌ، كَاتِّخَاذِ الْأَصْنَامِ لتقربَهم إِلَى اللَّهِ زُلْفَى، وَمِنْهَا مَا لَيْسَ بكفر كالقول بالجهة عند جماعة" (2).
ولفظ الجهة وإن كان من الألفاظ المحدثة التي ينبغي أن يُسأل عنها لمعرفة المراد بها، لاحتمالها الحق والباطل، إلا أنا إذا نظرنا إلى النص الأول تبين لنا أن مراد الشاطبي نفي صفة العلو، وهو مذهب الأشاعرة، وهو مخالف لمذاهب أهل السنة الذين يثبتون علو الله تعالى وفوقيته سبحانه بأدلة الكتاب والسنة (3).
خامساً: بقية الصفات السمعية:
(النزول - الضحك - اليد - القدم - الوجه - العين).
ذهب الإمام الشاطبي في هذه الصفات إلى ما ذهب إليه في صفة الاستواء من القول بتفويض معناها، وأن ظاهرها غير مراد، وهو قول بعض الأشاعرة (4).
وأوضحُ عبارات الشاطبي في ذلك: ما ذكره في الاعتصام ذاماً لأهل
__________
(1) "الموافقات" للشاطبي (3/ 351).
(2) "الاعتصام" للشاطبي (2/ 197).
(3) انظر المسألة في: "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (2/ 297 - 298)، (5/ 122، 126، 227، 231)، "الملل والنحل" للشهرستاني (ص 100)، "شرح العقيدة الطحاوية" لابن أبي العز (ص 282)، "مختصر الصواعق المرسلة" لابن القيم (2/ 369 - 375).
(4) انظر قولهم في: "الإرشاد" للجويني (ص 146)، "الملل والنحل" للشهرستاني (ص 92)، "أصول الدين" للبغدادي (ص 109 - 112)، "أقاويل الثقات" لمرعي بن يوسف الكرمي (ص 136).(مقدمة/65)
البدع الذين يتبعون المتشابهات، فقال: "ومثاله في ملة الإسلام مذهب الظَّاهِرِيَّةِ فِي إِثْبَاتِ الْجَوَارِحِ لِلرَّبِّ الْمُنَزَّهِ عَنِ النقائص: من العين والرجل والوجه المحسوسات، والجهة وغير ذلك من الثابت للمحدثات" (1).
وقال أيضاً في سياق كلامه على المتشابه الإضافي:
"وأما مسائل الخلاف وإن كثرت فليست من المتشابهات بإطلاق، بل فيها ما هو منها وهو نادر، كالخلاف الواقع فيما أمسك عنه السلف الصالح، فلم يتكلموا فيه بغير التسليم له، والإيمان بغيبه المحجوب أمره عن العباد، كمسائل الاستواء والنزول والضحك واليد والقدم والوجه وأشباه ذلك، وحين سلك الأولون فيها مسلك التسليم وترك الخوض في معانيها دل على أن ذلك هو الحكم عندهم فيها، وهو ظاهر القرآن، لأن الكلام فيما لا يحاط به جهل، ولا تكليف يتعلق بمعناها" (2).
وقال في موضع آخر: "وإن سُلِّم فالمراد أن لا يتعلق تكليف بمعناه المراد عند الله تعالى، وقد يتعلق به التكليف من حيث هو مجمل، وذلك بأن يؤمن أنه من عند الله، وبأن يجتنب فعله إن كان من أفعال العباد، ويجتنب النظر فيه إن كان من غير أفعال العباد" (3).
وفي هذه النصوص ما يكفي لبيان موقف الشاطبي من هذه الصفات، وهو خلاف قول أهل السنة فيها، حيث أثبتوا معانيها على الوجه الذي يليق به سبحانه، وفوضوا كيفيتها إلى الله (4).
__________
(1) "الاعتصام" (1/ 240).
(2) "الموافقات" (3/ 94).
(3) "الموافقات" (3/ 344).
(4) انظر في الرد على مذهب الأشاعرة: "فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" (4/ 67 - 68)، (5/ 34، 35، 36)، و"درء تعارض العقل والنقل" له أيضاً (1/ 14 - 16)، و"مختصر الصواعق المرسلة" لابن القيم (ص 54 - 55).(مقدمة/66)
الباب الثاني التعريف بالكتاب وطبعاته ونُسَخِه الخَطِّيَّة:
* وفيه فصلان:
الفصل الأول: التعريف بالكتاب.
الفصل الثاني: التعريف بطبعات الكتاب ونُسَخِه الخَطيَّة.(مقدمة/67)
الفصل الأول التعريف بالكتاب
* وفيه خمسة مباحث:
المبحث الأول: اسم الكتاب.
المبحث الثاني: موضوع الكتاب.
المبحث الثالث: سبب تأليف الكتاب.
المبحث الرابع: توثيق نسبة الكتاب إلى مؤلِّفه.
المبحث الخامس: قيمة الكتاب العلمية.(مقدمة/69)
المبحث الأول اسم الكتاب
لقد نص المؤلف في المقدمة على أن اسم كتابه هذا "الاعتصام"، حيث قال (1): "فَاسْتَخَرْتُ اللَّهَ تَعَالَى فِي وَضْعِ كِتَابٍ يَشْتَمِلُ عَلَى بَيَانِ الْبِدَعِ وَأَحْكَامِهَا وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا من المسائل أصولاً وفروعاً، وسميته بالاعتصام ... ".
وجاءت هذه التسمية صراحة على الصفحة الأولى من النسخة المدنية المرموز لها بـ (م)، والنسخة المصرية المرموز لها بـ (خ) والنسخة التونسية الثانية المرموز لها بـ (ت)، غير أن اسمه في (م) و (خ) هكذا: "هذا كتاب الاعتصام في ذم البدع".
وأما النسخة المغربية الأولى المرموز لها بـ (ر)، فلم يذكر اسم الكتاب فيها في مقدمة الشاطبي، بل جاء في موضعه بياض بعد قوله: "وسَمِّيته"، ومثلها المغربية الثانية المرموز لها بـ (غ)، وجاء اسم الكتاب على غلاف المغربية الأولى (ر) هكذا: "كتاب الحوادث والبدع في الحض على اتباع أهل السنة واجتناب أهل البدع"، ومن المفترض أن يذكر هذا الاسم أيضاً على المغربية الثانية (غ)؛ لأنها منسوخة عنها كما سيأتي، غير أنه جاء في موضع التسمية فيها بياض، فلا ندري أهكذا جاء في الأصل، أو هو تصرف ممن قام بالتصوير؟!.
ونص جميع الذين ترجموا للمؤلف على أن اسم كتابه: "الاعتصام"، إلا تلميذه عبد الله المجاري (2)؛ فإنه سمَّاه (3) "كتاب الحوادث والبدع"،
__________
(1) في "مقدمة الكتاب" (1/ 43).
(2) تقدمت ترجمته ضمن تلاميذ المؤلف.
(3) في "برنامجه" (ص 118).(مقدمة/70)
فلعله وقعت له النسخة المغربية (ر)، أو نسخة أخرى شبيهة بها، والله أعلم.
ولا شكَّ بأن هذه التسمية غير صحيحة؛ لأن صاحب البيت أدرى بما فيه، وليس بعد تصريح المؤلف باسمه ما يدعو للخلاف، وأما "كتاب الحوادث والبدع"، فالمعروف بهذا الاسم هو كتاب أبي بكر الطرطوشي رحمه الله، فلعل الذي سمَّى كتاب الشاطبي بهذا الاسم نظر إلى موضوع الكتاب، وربطه بشهرة كتاب الطرطوشي رحمه الله، ولم يرد في نسخته ما ذكره المؤلِّف في المقدمة، أو لم يتنبَّهْ له، والله أعلم.(مقدمة/71)
المبحث الثاني موضوع الكتاب
لقد نص الإمام الشاطبي على موضوع كتابه في المقدمة حيث قال: "فَاسْتَخَرْتُ اللَّهَ تَعَالَى فِي وَضْعِ كِتَابٍ يَشْتَمِلُ عَلَى بَيَانِ الْبِدَعِ وَأَحْكَامِهَا، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا من المسائل أصولاً وفروعاً ... " (1).
وقد جعل المؤلف هذا الكتاب في مقدمة وعشرة أبواب.
فأما المقدمة فتحدَّث فيها المؤلف عن غُربة الإسلام يوم بدأ، وأنه سيعود غريباً كما بدأ، مبيِّناً ذلك بحال النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ رَضِيَ الله عنهم، وما كانوا فيه من القلة والضعف في أول الإسلام، ثم ما من الله به عليهم من القوة والنصر واكتمال الدين، وأن الأمر بقي على هذا الحال حتى عاد الإسلام غريباً كما بدأ، وذلك بسبب فُشُوِّ البدع، وظهور الفرق الضالة، وقلة المنكرين لها.
وقد ذكر المؤلف أنه اتبع الكتاب والسنة وصبر على ذلك، مع كثرة المخالفين، ومع كثرة اتهاماتهم له ... ، وأنه تتبع البدع لعله يجتنبها، والسنن لعلها يظهرها بالعمل.
ثم ذكر أنه استشار واستخار في وضع كتاب في هذا الموضوع لأهميته وشدة الحاجة إليه.
وأما أبواب الكتاب العشرة فنسوقها إليك باختصار.
فالباب الأول: في تعريف البدعة وشرح التعريف.
__________
(1) انظر النص المحقق (ص 43).(مقدمة/72)
والباب الثاني: في ذم البدع وسوء منقلب أهلها من القرآن والسنة وكلام الصحابة والتابعين وغيرهم.
والباب الثالث: في أن ذم البدع عام من غير تخصيص، وبيان أقسام المبتدعة من حيث الاجتهاد والتقليد، والرد على من ذهب إلى تقسيم البدع إلى حسن وقبيح، أو إلى واجب ومندوب ومباح وحرام ومكروه.
والباب الرابع: في مأخذ أهل البدع في الاستدلال، ومناهجهم في الاحتجاج على بدعهم.
والباب الْخَامِسُ: فِي أَحْكَامِ الْبِدَعِ الْحَقِيقِيَّةِ وَالْإِضَافِيَّةِ وَالْفَرْقِ بينهما.
والباب السَّادِسُ: فِي أَحْكَامِ الْبِدَعِ، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَى رتبة واحدة، بل هي متفاوتة، فمنها المحرم ومنها المكروه، والمحرم ليس على رتبة واحدة .. ، ومنها الكبيرة ومنها الصغيرة.
والباب السَّابِعُ: فِي الِابْتِدَاعِ، هَلْ يَدْخُلُ فِي الْأُمُورِ العادية؟ أم يختص بالأمور العبادية؟.
والباب الثَّامِنُ: فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْبِدَعِ وَالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ والاستحسان.
والباب التاسع: في السبب الذي من أجله افترقت فرق المبتدعة عن جماعة المسلمين. وقد ذكر المؤلف فيه أحاديث الافتراق وبسط الكلام في مسائلها.
والباب العاشر: فِي بَيَانِ مَعْنَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي انْحَرَفَتْ عَنْهُ سُبُلُ أَهْلِ الِابْتِدَاعِ فضلَّت عَنِ الْهُدَى بعد البيان، ولم يُتِمَّ المؤلف هذا الباب، وكل جُلُّ ما فيه عن الجهات التي يقع منها الابتداع، وهي الجهل بأدوات الفهم، والجهل بمقاصد الشريعة، وتحسين الظن بالعقل، واتباع الهوى.(مقدمة/73)
المبحث الثالث سبب تأليف الكتاب
ذكر المؤلف في مقدمة الكتاب سبب تأليفه، وهو ظهور البدع، وانكباب الناس على العمل بها، وسكوت المتأخرين عن الإنكار لها، مع أن هذه البدع قد فشت حتى التبست عند الكثير بالسنة (1).
وذكر أيضاً رحمه الله أنه كان قد اجتمع له في البدع والسنن أصول وفروع، فمالت إلى بَثِّها النفس (2).
ولعل من أهم أسباب تأليف الكتاب: ما ذكره المؤلف من أنه قَلَّما صُنِّف في هذا الموضوع على الخصوص تصنيف، وأن ما صُنِّف فيها غير كاف (3).
وقال المؤلف رحمه الله في تقرير هذا المعنى: " ... وَأَنَا أَرْجُو أَنْ يَكُونَ كَتْبُ هَذَا الْكِتَابِ الَّذِي وَضَعْتُ يَدِي فِيهِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، لِأَنِّي رَأَيْتُ بَابَ الْبِدَعِ فِي كَلَامِ الْعُلَمَاءِ مُغْفلاً جِدّاً، إِلَّا مِنَ النَّقْلِ الجَلِىِّ؛ كَمَا نَقَلَ ابْنُ وضَّاح (4)، أَوْ يُؤْتَى بِأَطْرَافٍ مِنَ الْكَلَامِ لَا يَشْفِي الْغَلِيلَ بِالتَّفَقُّهِ فِيهِ كَمَا يَنْبَغِي، وَلَمْ أَجِدْ عَلَى شِدَّةِ بَحْثِي عَنْهُ إِلَّا مَا وَضَعَ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ الطَّرْطُوشِيُّ (5)، وهو يسير في جانب مَا يُحتاج إِلَيْهِ فِيهِ، وَإِلَّا مَا وَضَعَ النَّاسُ فِي الفِرَقِ الثِّنْتَيْنِ وَالسَّبْعِينَ، وَهُوَ فَصْلٌ مِنْ فُصُولِ الْبَابِ وَجُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ، فَأَخَذْتُ نَفْسِي بِالْعَنَاءِ فِيهِ، عَسَى أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ واضعه وقارئه وناشره
__________
(1) انظر النص المحقق (ص 36).
(2) الموضع السابق.
(3) الموضع السابق.
(4) تأتي ترجمته في الجزء المحقق (ص 39).
(5) تأتي ترجمته في الجزء المحقق (ص 261).(مقدمة/74)
وَكَاتِبُهُ وَالْمُنْتَفِعُ بِهِ وَجَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ، إِنَّهُ وليُّ ذلك ومُسْديه بسعة رحمته (1).
هذه هي الأسباب التي دفعت المؤلف إلى تأليف هذا الكتاب.
__________
(1) "الاعتصام" (2/ 117 - 118).(مقدمة/75)
المبحث الرابع توثيق نسبة الكتاب إلى مؤلِّفه
لم تَخْلُ نسخة من نسخ الكتاب الخطية من نسبة هذا الكتاب إلى الإمام الشاطبي رحمه الله.
وقد ذكره ضمن تصانيف المؤلف تلميذه عبد الله المجاري (1) في كتابه "برنامج المجاري" (2).
وذكره أيضاً أحمد بابا التنبكتي في نيل الابتهاج ضمن تصانيفه رحمه الله (3).
وذكره محمد بن مخلوف في شجرة النور الزكية ضمن مؤلفاته (4)، والكتاني في فهرس الفهارس (5)، وسركيس في معجم المطبوعات العربية (6)، ورضا كحالة في معجم المؤلفين (7).
ومما يؤكد نسبة هذا الكتاب إلى الإمام الشاطبي: إحالاته فيه إلى كتابه الموافقات، ومن ذلك ما في المقدمة (ص 25)، والباب الثالث (ص 401)، والباب الثامن (2/ 135)، والباب التاسع (2/ 224).
ويؤكد هذه النسبة أيضاً أسلوب المؤلف في هذا الكتاب، فهو أسلوبه في الموافقات.
__________
(1) تقدمت ترجمته ضمن تلاميذ المؤلف (ص 38).
(2) انظر: "برنامج المجاري" (ص 118).
(3) "نيل الابتهاج" (ص 48).
(4) "شجرة النور الزكية" (ص 231).
(5) "فهرس الفهارس" (1/ 191).
(6) "معجم المطبوعات العربية" (1/ 1090 - 1091).
(7) "معجم المؤلفين" (1/ 118 - 119).(مقدمة/76)
المبحث الخامس قيمة الكتاب العلمية
يُعَدُّ كتاب الاعتصام للإمام الشاطبي أحسن ما أُلِّف في التحذير من البدع وبيان أحكامها، فلا نكاد نجد كتاباً تناول البدعة وأحكامها كما تناولها هذا الكتاب، وأغلب من ألف في هذا الموضوع بعد الإمام الشاطبي استفاد منه وتأثر به تأثراً واضحاً.
وتقدم ذكر كلام المؤلف في إشارته إلى من سبقه ممن كتب في هذا الموضوع، وبيَّن أنها قليلة وغير كافية في هذا الموضوع (1).
وقد فاق هذا الكتاب غيره من الكتب في هذا الموضوع بأمورِ عِدَّة، من أهمها:
1 - دقة المؤلف في تعريف البدعة، حيث عرفها بتعريف دقيق، ثم شرح التعريف شرحاً وافياً حدد به معنى البدعة على وجه الدقة، وأزال به ما يقع للكثير من اللبس وعدم التفريق بين البدع والمحرمات بل والمباحات.
2 - سعة جمعه للأدلة في الحث على السنة والنهي عن البدعة، سواء من الآيات أو الأحاديث أو الآثار الواردة عن الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم، ودراسة هذه الأدلة والنقول دراسة دقيقة تنبئ عن دِقَّةٍ في الاستنباط، وبراعة في الفهم.
3 - حسن ترتيب المؤلف لموضوعات الكتاب، وتقسيمه له على أبواب وفصول ومسائل، وتدرجه في ترتيب هذه الأبواب بحسب موضوعاتها مما يعين القارئ على الفهم والاستيعاب.
__________
(1) انظر النص المحقق (ص 36).(مقدمة/77)
4 - سعة البحث وطول النفس مع الجودة والإتقان في تحرير المسائل والأحكام المتعلقة بالبدع، وهذه منقبة واضحة لهذا الكتاب جعلته يفوق غيره مما أُلِّف في هذا الباب.
5 - تركيز المؤلف على المسائل التي تلتبس على كثير من الناس، ويتخذها المبتدعة وسيلة لترويج بعض البدع، حيث حرر المؤلف القول فيها، وأزال عنها الاشتباه، وذلك كمسألة تقسيم البدعة إلى حسنة وقبيحة، أو تقسيمها بأقسام أحكام الشريعة الخمسة (1)، وكمسألة التفريق بين البدع والمصالح المرسلة والاستحسان (2)، ونحوها من المسائل.
6 - قوة المؤلف العلمية، وتأهله لخوض هذا الموضوع، فقد اجتمع له علوم أهلته لهذه المهمة، من علم بالعربية، والأصول، ومقاصد الشريعة ونصوصها، مع قوة في الاستنباط، ورصانة في العبارة.
ومزايا هذا الكتاب تفوت الحصر، نسأل الله أن يجزي مؤلفه خير الجزاء.
__________
(1) تناول المؤلف هذه المسألة في الباب الثالث (ص 321 وما بعدها، وص 337 وما بعدها).
(2) أفرد المؤلف لهذه المسألة الباب الثامن من الكتاب.(مقدمة/78)
الفصل الثاني التعريف بطبعات الكتاب ونُسَخِه الْخَطِّيَّة
* وفيه مبحثان:
المبحث الأول: التعريف بطبعات الكتاب.
المبحث الثاني: التعريف بنسخ الكتاب الخطِّيَّة.(مقدمة/79)
المبحث الأول التعريف بطبعات الكتاب
طُبع كتاب "الاعتصام" للشاطبي عدة طبعات، أهمها طبعات ثلاث، وهي:
1 - الطبعة الأولى: بتعليق وتصحيح الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله:
وهي أول طبعة تخرج للكتاب، وقد طُبعت الطبعة الأولى منها في مطبعة المنار بمصر سنة 1331 هـ.
وذكر الشيخ رشيد رضا في مقدمته أن اعتماده كان على "نسخة بخط مغربي في كتب الشيخ محمد محمود الشنقيطي، المحفوظة في دار الكتاب الخديوية" (1).
وهذه النسخة هي إحدى النسخ التي اعتمدناها في طبعتنا هذه، ورمزنا لها بالرمز (خ)، وسيأتي وصفها.
وقد طُبعت هذه الطبعة مرتين:
المرة الأولى: في ثلاثة أجزاء: الجزء الأول من أول الكتاب إلى نهاية الباب الرابع، ويقع في 388 صفحة.
الجزء الثاني: من أول الباب الخامس إلى نهاية الثامن، ويقع في 356 صفحة.
الجزء الثالث: من أول الباب التاسع إلى نهاية الكتاب، ويقع في 279 صفحة.
__________
(1) انظر مقدمة رشيد رضا لـ: "الاعتصام" (1/ 7).(مقدمة/80)
وفي نهاية الكتاب جدول بالأخطاء المطبعية يقع في 8 صفحات.
وقد قدم الشيخ رشيد رضا رحمه الله لهذه الطبعة بمقدمة أثنى فيها على الشاطبي، وبيَّن فيها أهمية الكتاب، ومنجهه في التعليق والتصحيح، واعتذر عن التقصير بسبب كثر مشاغله في تلك الفترة، وأنه لم يتسنَّ له وقت كافي للتعليق وتخريج أحاديث الكتاب، وظهر من عبارته أنه لم يحقق نص الكتاب، وإنما حققه شخص آخر، وأعطيت النسخة لرشيد رضا لمراجعة النص والتعليق عليه. ويظهر أن المحقق للنص تصرّف -اجتهاداً- في بعض المواضع، كما أن التحقيق تم على نسخة واحدة، مما أدى إلى ظهور خللٍ بَيِّنٍ في النص.
ولا يوجد تخريج للأحاديث والآثار في هذه النسخة إلا حديث: "بدأ الإسلام غريباً" في بداية الكتاب.
ولكثرة فوائد هذه التعليقات التي سطرها يراع رشيد رضا تم نقلها بتمامها في بعض المواضع من الكتاب.
وهذه الطبعة نادرة الوجود لقدمها.
المرة الثانية: ثم أعيد طبع الكتاب في جزئين، أُصلحت فيها الأخطاء المطبعية، وطبعته المكتبة التجارية الكبرى في مصر.
ينتهي الجزء الأول من هذه الطبعة بنهاية منتصف الباب الخامس، ويقع في 368 صفحة.
ويبدأ الجزء الثاني من منتصف الباب الخامس إلى نهاية الكتاب، ويقع في 362 صفحة.
وهذه الطبعة هي الطبعة المشهورة والمتداولة بين الناس، وهي التي تم الاعتماد عليها في هذا التحقيق في نقل أقوال رشيد رضا، وبيان فروقها في بعض أجزاء الكتاب، ورمزنا لها بالرمز (ط).
2 - الطبعة الثانية: طبعة دار ابن عفان بتحقيق الشيخ سليم الهلالي:(مقدمة/81)
وقد تمت طباعتها سنة 1412 هـ، نشرتها دار ابن عفان في الخبر في المملكة العربية السعودية.
ويقع الكتاب في جزئين: الجزء الأول من بداية الكتاب إلى نهاية الباب الخامس، في 514 صفحة.
والجزء الثاني من بداية الباب السادس إلى نهاية الكتاب، في 365 صفحة.
وقد حقق الكتاب على مخطوط واحد، وهي النسخة المدنية، وسيأتي التعريف بها.
ولكثرة الملاحظات على هذه الطبعة أطال الشيخ مشهور (1) في نقدها؛ بحيث استغرق نقده لها (60) صفحة تقريباً.
3 - الطبعة الثالثة: طبعة مكتبة التوحيد بتحقيق الشيخ مشهور بن حسن آل سلمان:
وكانت طباعتها سنة 1421 هـ، وصدرت عن مكتبة التوحيد بالمنامة - البحرين، وهي أحسن طبعات الكتاب السابقة، وقد صدرت في أربعة مجلدات مع الفهارس، وكان الاعتماد في تحقيقها على طبعة الشيخ رشيد رضا، بالإضافة لنسختين خطيتين، هما: نسخة المدينة النبوية التي رمزنا لها بالرمز (م)، وإحدى النسخ المغربية، وهي التي رمزنا لها بالرمز (ر).
وكان من دواعي نشر طبعتنا هذه -مع وجود طبعة الشيخ مشهور- ثلاثة أمور:
أولاً: أن هذا العمل كان موجوداً وشبه مكتمل وشُرع في طباعته وتكميله قبل خروج عمل الشيخ مشهور، فأصله -كما تقدم- رسائل جامعية نوقشت في سنتي (1413 هـ- 1415 هـ)، ومن المعلوم أنه يعزُّ على المرء ذهاب جهده الذي أفنى فيه بعض عمره، وكم من الأعمال الموجودة
__________
(1) في مقدمة طبعته التي سيأتي التعريف بها (1/ 108 - 168).(مقدمة/82)
في مكتبات العالم الإسلامي بتحقيقات متعددة، ومنها: الكتب الستة وغيرها.
ثانياً: وجود بعض الاختلاف بين طبعتنا هذه وطبعة الشيخ مشهور، في مواضع من نص كتاب الشاطبي والتعليق عليه، وهو اختلاف له فائدته لطالب العلم ولا شك، ولا نرى ما يستدعي ذكره، فضلاً عن عيب عمل الشيخ وتتبع أخطائه (1)، فالساحة العلمية تستوعب العملين وزيادة، وأهل العلم سيستفيدون من كلا العملين إن شاء الله، فكلّ منهما يكمِّل الآخر.
علماً بأن هناك مقالة نشرت في ملتقى أهل الحديث بعنوان: "ملحوظات على تحقيق الشيخ مشهور بن حسن آل سلمان لكتاب الاعتصام للشاطبي"، كتبها أبو زرعة التميمي النجدي في 22/ 6/1424 هـ، ولم يعتمد في ملاحظاته على نسخة خطية، ولا يعني ذكرنا لهذه المقالة موافقة الكاتب، مع أنه كان يصحبه الأدب فيما كتب -جزاه الله خيراً- ولكن من الملاحظات ما قد يوافق عليه، ومنها ما هو اختلاف في وجهات النظر، أو هكذا وقع للشيخ مشهور في ما بين يديه من النسخ، والتفصيل في ذلك ليس من مقصودنا.
ثالثاً: تَوَفُّرُ ست نسخ خطِّيَّة عندنا اعتمدناها في التحقيق -كما سيأتي- منها أربع نسخ زائدة على النسخ التي اعتمدها الشيخ مشهور، إحداها الأصل الذي طُبعت عليه نسخة رشيد رضا رحمه الله.
__________
(1) فنحن لا نرى صواباً ما اعتاده كثير من المحققين؛ من تتبع عيوب المحققين الآخرين، ومحاولة إسقاط أعمالهم، والتطاول عليهم، واتهامهم في علمهم ونيَّاتهم، إلا في أحايين يستدعيها الوضع القائم، بعدل وإنصاف، وبقدر الضرورة، مع الحرص على أن لا يُذْكَرَ إلا ما لا بُدَّ من ذكره بقصد بيان حق، أو تحذير من باطل أو خطأ يضرُّ الأمة، فهذا من النصيحة لله سبحانه، ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولأئمة المسلمين وعامَّتهم، نسأل الله صلاح النية.(مقدمة/83)
المبحث الثاني التعريف بنسخ الكتاب الخطِّيَّة
توفر لدينا ست نسخ خطية لكتاب الاعتصام، وفيما يلي وصفها:
النسخة الأولى:
النسخة المغربية الأولى المحفوظة في الخزانة العامة بالرباط تحت رقم (1693)، وتقع في (155) ورقة، في كل ورقة صفحتان، في الصفحة (31) سطراً، في السطر (17) كلمة تقريباً.
وهي بخط مغربي جيد ومتقن ومشكول في بعض المواضع، وقد لحق بعض صفحاتها شيء من التلف الذي ذهب ببعض الجمل، بل والأسطر أحياناً.
وهي أجود النسخ وأكملها، وبها يستقيم نص الكتاب، وينتفي كثير مما قيل عن صعوبة أسلوب الشاطبي الذي كان بسبب سقط وتصحيف وقع في طبعات الكتاب السابقة.
على أن هذه النسخة لا تخلو من بعض السقط والخطأ، ولكنه قليل في جانب كثير صوابها.
ولم يذكر عليها اسم الناسخ، ولا تاريخ النسخ، غير أنه يغلب على الظن أنها أقدم النسخ كما يظهر من خطها، بخلاف باقي النسخ التي ذُكِر تاريخ نسخها، فجميعها متأخرة بعد المئتين وألف للهجرة.
وكتب اسم الكتاب على غلافها هكذا: "كتاب الحوادث والبدع في الحض على اتباع أهل السنة واجتناب أهل البدع، تأليف الشيخ الفقيه الإمام(مقدمة/84)
العالم العلامة المحدث الناقد الراوية الأستاذ النحوي الخطيب البليغ أبي إسحاق الشاطبي رحمه الله تعالى ورضي عنه بمنِّه ويمنه".
وهذا يخالف التسمية المعروفة التي نصَّ عليها المصنف في مقدمة الكتاب: "الاعتصام"، فإما أن تكون النسخة ... (وتقدمت مناقشة تسمية الكتاب) فالذي يظهر أن المكتوب على غلاف الكتاب ليس بخط الناسخ، فلعل التلف ذهب بالغلاف، ثم اجتهد أحد المطالعين بعد أن رأى موضوع الكتاب يتعلق بالحث على اتباع السنن واجتناب البدع، ولا يعرف عنوان كتاب الشاطبي، وكان مستحضراً لعنوان كتاب أبي بكر الطرطوشي "الحوادث والبدع "، فأثبته عليه، ولم يقرأ مقدمة الكتاب التي نصَّ فيها الشاطبي رحمه الله على تسمية كتابه هذا بـ "الاعتصام"، والله أعلم.
وقد رمزنا لها بالرمز (ر).
النسخة الثانية:
هي النسخة المغربية الثانية، وهي من محفوظات القصر الملكي بالرباط، وأصلها من مكتبة جامع علي بن يوسف بمراكش، وتقع في (459) صفحة حسب الترقيم المكتوب على صفحاتها، وهو غير صحيح (مع ملاحظة أن ترقيم الصفحات فيه خطأ حيث جاء بعد (ص 257) صفحة رقم (268) ولا يوجد في الحقيقة سقط، بل الكلام متصل ومستقيم).
ويوجد في كل صفحة (25) سطراً.
في كل سطر من (12 إلى 15) كلمة تقريباً.
وخطها مغربي.
ولم يُذكر اسم الناسخ، ولا تاريخ النسخ.
وقد رمزنا لها بالرمز (غ).
ونكاد نجزم بأنها منسوخة عن النسخة المغربية السابقة (ر)؛ لأن ناسخها يبيض المواضع التي لحقها التلف في نسخة (ر)، وهي أكثر النسخ(مقدمة/85)
موافقة لها في فروقها، ولم نجد في بداية مصورتها ذكراً لاسم الكتاب، وإنما كُتِب على غلافها ما نَصُّه: "تأليف الشيخ الفقيه الإمام العالم العلامة المحدث الناقد الراوية الأستاذ النحوي الخطيب البليغ أبي إسحاق الشاطبي رحمه الله تعالى ورضي عنه"، وهي نفس العبارة التي على نسخة (ر)، سوى عنوان الكتاب، فإنه لم يظهر على مصورتها، فإما أن يكون الناسخ رأى أن العنوان خطأ فتركه، أو يكون كتبه ولكنه طمس فلم يظهر في المصورة، والله أعلم.
النسخة الثالثة:
النسخة المدنية المحفوظة في مكتبة المسجد النبوي تحت رقم (29/ 214)، وعنها نسخة مصورة في مركز البحث العلمي بجامعة أم القرى برقم (339).
تقع هذه النسخة في (265) ورقة، في الورقة صفحتان، وفي الصفحة (25) سطراً، في كل سطر ما بين (10) إلى (12) كلمة تقريباً.
وقد كتبت بخط مغربي، سنة (1248 هـ)، ولم يذكر اسم ناسخها، وقد كُتب في أعلى الغلاف ما نصُّه: "ملك محمد بن عاشور غفر الله له".
ثم في أسفل منه: "هذا كتاب الاعتصام في ذم البدع للإمام أبي إسحاق الشاطبي، تملكه فقير ربه المعتمد على مولاه الأكرم محمد بن ( ...... ... ) في ثاني الجمادين سنة 1248". ثم أسفل منه: "ملك الهمام الفاضل الشيخ سيدي محمد بن عاشور المالكي مذهباً، غفر الله له ولمشايخه ولوالديه والمسلمين آمين".
وفي بدايتها تعريف موجز بالكتاب وصاحبه وثناء عليهما، ثم فهرس لمحتويات الكتاب.
وقد رمزنا لها بالرمز (م).
النسخة الرابعة:
النسخة المصرية التي اعتمد عليها رشيد رضا في تحقيقه لهذا الكتاب،(مقدمة/86)
وهي محفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم (32 فقه مالكي).
ومسطرتها 32×21 سم تقريباً.
وتقع في جزئين: الجزء الأول في 274 صفحة، والجزء الثاني في 256 صفحة.
في كل صفحة 23 سطراً.
في كل سطر ما بين 9 إلى 12 كلمة.
وكتبت بخط مغربي.
ناسخها هو: حسن بن محمد الشلبي (أو: الشبلي).
تاريخ نسخها: سنة 1295 هـ.
وقد جاء في طُرَّتها ما نصُّه:
"هذا كتاب الاعتصام في ذم البدع؛ للإمام أبي إسحاق الشاطبي برَّد الله ثراه، وجعل الجنة مأواه، آمين يا الله".
ثم في أسفل هذا العنوان هِبَة هذه النسخة من صاحبها لشيخه محمد محمود، ثم وقفيَّة الشيخ هذا الكتاب، وهذا نص الهبة والوقفية: "الحمد لله، وصلى الله وسلم على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه وسلم، اللذين من اعتصم بهم هُدي إلى الصراط المستقيم، وبعد فيقول راقم هذه الحروف: إني وهبت هذا الكتاب الْمُسَمّى بالاعتصام لشيخنا وأستاذنا العالم العلامة سيدي محمد محمود، جعلنا الله وإياه من الفائزين في اليوم الموعود، كتبه فقير ربه محمد العربي زروق، في 19 شوال المبارك، سنة 1303.
الحمد لله وحده، وصلى الله على من لا نبي بعده. ثم وقفه مالكه محمد محمود بن التلاميد التركزي في 19 شوال سنة 1303 على عصبته بعده وقفاً مؤبَّداً، فمن بدَّله فإثمه عليه، وكتبه محمد محمود لطف الله به، في 19 شوال سنة 1303".(مقدمة/87)
وفي آخر النسخة ما نصه:
"انْتَهَى الْقَدْرُ الَّذِي وُجِدَ مِنْ هَذَا التَّأْلِيفِ، ولم يكمله المؤلف رحمه الله تعالى، والحمد لله أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً، وصلى الله على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. تم نسخ الجزء الثاني من الاعتصام للإمام الشاطبي في 25 المحرم الحرام، فاتح شهور سنة 1295، جعله الله مباركاً علينا وعلى المسلمين أجمعين، على يد كاتبه العبد الفقير الذليل المعترف بالذنب والتقصير: حسن بن محمد الشلبي (أو: الشبلي) الشريف الأمين ( ... ) كان رحمه الله ورحم المسلمين أجمعين، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ العظيم، فهو حسبي ونعم الوكيل، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً تسليماً كثيراً. انتهي".
وقد رمزنا لهذه النسخة بالرمز (خ).
النسخة الخامسة:
هي النسخة التونسية الأولى المحفوظة في دار الكتب الوطنية بتونس، تحت رقم (544).
وتقع في () صفحة.
في كل صفحة قرابة (34) سطراً.
في كل سطر قرابة (14) كلمة.
الناسخ: علي الطوسي.
تاريخ النسخ: 1281 هـ.
وقد جاء في آخر النسخة ما نصه: "انتهي القدر الذي وجد من هذا الكتاب، وهذا التأليف الجليل، رحمة الله على مؤلفه، ورضي عنه، على يد كاتبه: علي الطوسي، ختم الله له بخير في 10 من ثاني الجمادين عام 1281".(مقدمة/88)
ولم يتم تصوير هذه النسخة بشكل يمكن معه الاستفادة منها؛ فقد جاء كثير من أوراقها سوداء لا تمكن قراءتها، وأولها أفضل بكثير من آخرها، بالإضافة إلى أنه ليس فيها فروق تستحق من يعتني بها، ولأننا لم نعثر على الجزء الأول من النسخة التونسية الآتية، فقد تم الاستفادة من هذه النسخة في تحقيق الأبواب الثلاثة الأولى، ورمز لها محقق القسم الأول بالرمز (ت)، وهو عين الرمز للنسخة التونسية التالية في باقي الكتاب.
النسخة السادسة:
النسخة التونسية الثانية المحفوظة في دار الكتب الوطنية بتونس تحت رقم (496) وتقع في جزئين، الجزء الأول مفقود حتى لدى الناسخ؛ كما يتضح من بدايتها والفهرس الذي ذكر في أولها، وأما الجزء الثاني فهو الذي اعتمدناه في هذا التحقيق، ويقع في 316 صفحة، ويبدأ بالباب السابع، إلى آخر ما وجد من الكتاب.
وعدد الأسطر في كل صفحة: 22 سطراً.
وفي كل سطر: 7 إلى 12 كلمة تقريباً.
ناسخها: عبده الحاج حموده بوس.
تاريخ النسخ: 1284 هـ.
وخطها مغربي يصاحبه الشكل لبعض الكلمات.
وفي بدايتها ما نصُّه: "بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد النبي المصطفي الأكرم الكريم، وعلى آله وصحبه وسلم"، ثم تعريف موجز بالكتاب وصاحبه وثناء عليهما، ثم فهرس لمحتويات هذا الجزء الذي وجد من الكتاب، ثم في صفحة الغلاف ما نصُّه: "هذا النصف الثاني من كتاب الاعتصام"، ثم في بداية النسخة ما نصُّه: "بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. قال العلامة النحرير، ناصر السنة، ولسان الدين، النظار المحقق، الشيخ أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله تعالى آمين".(مقدمة/89)
وجاء في آخرها ما نصه:
"انْتَهَى الْقَدْرُ الَّذِي وُجِدَ مِنْ هَذَا التَّأْلِيفِ، ولم يكمله المؤلف رحمه الله تعالى، ووافق الفراغ من نسخ هذا المقدار الموجود على يد كاتبه الفقير إلى ربه المحسن عبده الحاج حموده بوس، كان الله له، وختم بالحسنى عمله، وبلغه فيما يرجوه من ربه أمله. آمين.
بحمد الله وتوفيقه وحسن عونه صبيحة يوم الجمعة رابع شهر ذي الحجة الحرام كمال عام 1284 أربع وثمانين ومائتين وألف من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله بكرة وعشية، ورضي الله تعالى عن أصحاب رسول الله أجمعين، وعن التابعين وتابع التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، آمين آمين آمين".
وبالهامش تصحيحات وفروق تدل على أنها قوبلت على نسخة أخرى، ولكن يكثر فيها السقط والبياض، بحيث يصل السقط فيها أحياناً قرابة الصفحتين، وأما البياض فهو كثير يصل أحياناً إلى سطرين، وقد استفدنا منها في تحقيق الباب السابع، إلى آخر الكتاب، ورمزنا لها بالرمز (ت).(مقدمة/90)
نماذج للمخطوطات(مقدمة/91)
صورة غلاف النسخة المغربية الأولى المرموز لها ب (ر)(مقدمة/93)
الورقة الأولي من نسخة (ر)(مقدمة/94)
نهاية الكتاب في نسخة (ر)(مقدمة/95)
الورقة الأخيرة من نسخة (ر)(مقدمة/96)
صورة غلاف النسخة المغربية الثانية المرموز لها بالرمز (غ)(مقدمة/97)
الورقة الأولى من نسخة (غ)(مقدمة/98)
الورقة الأخيرة من نسخة (غ)(مقدمة/99)
صورة غلاف النسخة المدنية المرموز لها بالرمز (م)(مقدمة/100)
الورقة التي بعد الغلاف من نسخة (م)(مقدمة/101)
أول النسخة (م)، وفيها تعريف بالكتاب ومؤلفه وبداية فهرسته(مقدمة/102)
نهاية فهرسة الكتاب الواقعة في بداية النسخة (م)(مقدمة/103)
بداية الكتاب في النسخة (م)(مقدمة/104)
نهاية الكتاب في النسخة (م)(مقدمة/105)
صورة غلاف النسخة المصرية المرموز لها بالرمز (خ) وهي التي اعتمدها رشيد رضا في طبعته(مقدمة/106)
بداية النسخة المصرية (خ)(مقدمة/107)
نهاية النسخة المصرية (خ)(مقدمة/108)
صورة الصفحة الأولي من المخطوطة التونسية الأولى المرموز لها بـ (ت) وهي المعتمدة في أول الكتاب في الأبواب الثلاثة الأولى(مقدمة/109)
صورة الصفحة الأخيرة للمخطوطة التونسية الأولى (ت)(مقدمة/110)
صورة بداية الموجود (وهي النصف الثاني) من النسخة التونسية الثانية المرموز لها بالرمز (ت)، والمعتمدة في الباب السابع وما بعده إلى نهاية الكتاب وفيها تعريف بالكتاب ومؤلفه وفهرس لمحتويات هذا القسم(مقدمة/111)
نهاية الفهرس في بداية النسخة التونسية الثانية (ت)(مقدمة/112)
غلاف بداية النصف الثاني من النسخة التونسية الثانية (ت)(مقدمة/113)
بداية النصف الثاني (وهو الموجود) من النسخة التونسية الثانية (ت)(مقدمة/114)
نهاية الكتاب في النسخة التونسية الثانية (ت)(مقدمة/115)
نهاية النسخة التونسية الثانية (ت)(مقدمة/116)
القسم الثاني النص المحقق(مقدمة/117)
الاعتصام(/)
حقوق الطبع محفوظة لدار ابن الجوزي
الطبعة الأولى
محرم 1429 هـ - 2008 م
حقوق الطبع محفوظة 1429 هـ، لا يسمح بإعادة نشر هذا الكتاب أو أي جزء منه بأي شكل من الأشكال أو حفظه ونسخه في أي نظام ميكانيكي أو إلكتروني يمكن من استرجاع الكتاب أو ترجمته إلى أي لغة أخرى دون الحصول على إذن خطي مسبق من الناشر.
دار ابن الجوزي
للنشر والتوزيع
المملكة العربية السعودية: الدمام -شارع الملك فهد- ت: 8428146 - 8467593، ص ب: 2982 - الرمز البربدي: 31461 - فاكس: 8412100 - الرياض -حي الفلاح- مقابل جامعة الإمام - تلفاكس: 2742855 - جوال: 0503857988 - الإحساء- ت: 5883122 - جدة- ت: 6341973 - 6813706 - الخبر- ت: 8999356 - فاكس: 8999357 - بيروت- هاتف: 869600/ 03 - فاكس: 641801/ 01 - القاهرة-ج. م. ع- محمول: 0106823783 - تلفاكس: 0244344970
البريد الإلكتروني: aljawzi@hotmail.com - www.aljawzi.com(/)
بسم الله الرحمن الرحيم
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْمَحْمُودِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، الَّذِي بِحَمْدِهِ يُسْتَفْتَحُ كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ، خَالِقِ الْخَلْقِ لِمَا شَاءَ، وَمُيَسِّرِهِمْ (1) عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ وَإِرَادَتِهِ ـ لَا عَلَى وَفْقِ أَغْرَاضِهِمْ ـ لِمَا سَرَّ وَسَاءَ، وَمُصَرِّفِهِمْ بِمُقْتَضَى الْقَبْضَتَيْنِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (2)، وهاديهم (3) النَّجْدَيْنِ (4)، فَمِنْهُمْ قَرِيبٌ وَبَعِيدٌ، وَمُسَوِّيهِمْ عَلَى قَبُولِ الْإِلْهَامَيْنِ (5) فَفَاجِرٌ وَتَقِيٌّ، كَمَا قَدَّرَ أَرْزَاقَهُمْ بِالْعَدْلِ عَلَى حُكْمِ الطَّرَفَيْنِ، فَفَقِيرٌ وَغَنِيٌّ، كُلٌّ مِنْهُمْ جَارٍ عَلَى ذَلِكَ الْأُسْلُوبِ فَلَا يَعْدُوهُ، فَلَوْ تمالؤوا (6) على أن يسدوا ذلك البَثْقَ (7) لَمْ يَسُدُّوهُ، أَوْ يَرُدُّوا ذَلِكَ (8) الْحُكْمَ السَّابِقَ لَمْ يَنْسَخُوهُ وَلَمْ يَرُدُّوهُ، فَلَا إِطْلَاقَ لَهُمْ عَلَى تَقْيِيدِهِ وَلَا انْفِصَالَ {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلاَلُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} (9).
وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى (سَيِّدِنَا وَمَوْلَانَا) (10) مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرحمة،
_________
(1) في (ر): "وميسيرهم".
(2) يشير المؤلف إلى أحاديث القدر مثل حديث أنس عند أبي يعلى "إن الله قبض قبضة فقال: هذه إلى الجنة برحمتي، وقبض قبضة فقال: هذه إلى النار ولا أبالي"، انظر مسند أبي يعلى (6/ 144)، وصححه الألباني كما في السلسلة الصحيحة تحت رقم (47).
(3) هكذا في (غ) و (ر)، وفيه بقية النسخ: "وهداهم".
(4) يشير إلى قوله تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ *} سورة البلد: آية (10) وهما الطريقان: طريق الخير وطريق الشر. انظر تفسير ابن كثير (4/ 180).
(5) يريد قوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا *}، سورة الشمس: آية (8).
(6) مالأه على كذا (ممالأة): ساعده، وتمالؤا على الأمر اجتمعوا عليه. الصحاح للجوهري (1/ 73).
(7) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "السبق". قال في القاموس ص865: "بثق النهر .. : كسر شطة لِينبثق الماء، واسم ذلك الموضع: البَثْق".
(8) ساقطة من (غ).
(9) سورة الرعد، آية (15).
(10) ما بين المعكوفين ساقطة من (ت) و (غ) وأصل (خ)، وهو مثبت في هامش (خ).(1/5)
وَكَاشِفِ الغُمَّة (1)، الَّذِي نَسَخَتْ شَرِيعَتُهُ كُلَّ شَرِيعَةٍ، وَشَمَلَتْ دَعْوَتُهُ كُلَّ أُمَّةٍ، فَلَمْ يبقَ لِأَحَدٍ حُجَّةٌ دُونَ حُجَّتِهِ، وَلَا اسْتَقَامَ لِعَاقِلٍ طَرِيقٌ سِوَى لَاحِبِ (2) مَحَجَّته (3)، وَجَمَعَتْ تَحْتَ حِكْمَتِهَا كُلَّ مَعْنًى مُؤْتَلِفٍ، فَلَا يُسْمَعُ بَعْدَ وَضْعِهَا خِلَافُ مُخَالِفٍ، وَلَا قَوْلُ مُخْتَلِفٍ، فَالسَّالِكُ سَبِيلَهَا مَعْدُودٌ فِي الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ، وَالنَّاكِبُ (4) عَنْهَا مَصْدُودٌ إِلَى الْفِرَقِ الْمُقَصِّرَةِ أَوِ الْفِرَقِ الْغَالِيَةِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ (5) الَّذِينَ اهْتَدَوْا بِشَمْسِهِ الْمُنِيرَةِ، وَاقْتَفَوْا آثَارَهُ اللَّائِحَةَ، وَأَنْوَارَهُ الْوَاضِحَةَ وُضُوحَ الظَّهِيرَةِ، وَفَرَّقُوا بِصَوَارِمِ أَيْدِيهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ بَيْنَ كُلِّ نَفْسٍ فَاجِرَةٍ وَمَبْرُورَةٍ، وَبَيْنَ كُلِّ حُجَّةٍ بَالِغَةٍ وَحُجَّةٍ مُبِيرَةٍ (6)، وَعَلَى التَّابِعِينَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ السبيل، وسائر الْمُنْتَمِينَ إِلَى ذَلِكَ الْقَبِيلِ (7)، (وَسَلِّمْ تَسْلِيمًا كَثِيرًا) (8).
أما بعد فإني أذاكرك (9) أَيُّهَا الصَّدِيقُ الْأَوْفَى، وَالْخَالِصَةُ الْأَصْفَى، فِي مُقَدِّمَةٍ يَنْبَغِي تَقْدِيمُهَا قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْمَقْصُودِ، وَهِيَ مَعْنَى قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَدَأَ (10) الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بدأ فطوبى (11)
_________
(1) الغُمَّة: الكربة، ويقال: أمر غمّه أي مبهم ملتبس. الصحاح (5/ 1998)، والمراد: غمّة الجاهلية وظلامها.
(2) في (ط): "لأحب" بالهمزة، وفي (غ) و (ر): "لاجب" وهو خطأ، واللاحب الطريق الواضح، والتحب فلان محجة الطريق إذا ركبها. لسان العرب لابن منظور (1/ 737).
(3) المحجة بفتحتين: جادة الطريق. الصحاح (1/ 228).
(4) نكب عن الطريق: عدل. ويقال: نكب عنه تنكيباً وتنكب عنه تنكباً، أي مال وعدل. الصحاح للجوهري (1/ 228).
(5) ساقطة من (ت).
(6) مبيرة أي فاسدة هالكة. انظر لسان العرب (4/ 86).
(7) القبيل: الجماعة تكون من الثلاثة فصاعداً من قوم شتّى. الصحاح (5/ 1797).
(8) ما بين المعكوفين ساقطة من (ت).
(9) في (ط): "أذكرك".
(10) في (ط): "بدئ"، وضبطت الكلمة (في خ وط بضم الباء وكسر الدال)
قال الإمام النووي: "بدأ الإسلام" كذا ضبطناه بدأ بالهمز من الابتداء". انظر صحيح مسلم بشرح النووي (2/ 176).
(11) قال الإمام النووي: "وطوبى فعلى من الطيب قاله الفراء، قال: وإنما جاءت الواو لضمة الطاء، قال: وفيها لغتان، تقول العرب: طوباك وطوبى لك، وأما معنى طوبى =(1/6)
لِلْغُرَبَاءِ، قِيلَ: وَمَنِ الْغُرَبَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الَّذِينَ يُصْلِحُونَ عِنْدَ فَسَادِ النَّاسِ (1) " (2).
وَفِي رواية: قيل: ومن الغرباء (3)؟ قال: "النُّزَّاع (4) من القبائل" (5)،
_________
= فاختلف المفسّرون في معنى قوله تعالى: {طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ}، فروى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ معناه فرح وقرّة عين، وقال عكرمة: نعم ما لهم ... وقيل: شجرة في الجنّة، وكل هذه الأقوال محتملة في الحديث، والله أعلم". انظر صحيح مسلم بشرح النووي (2/ 176).
(1) في (غ): "الزمان".
(2) رواه الإمام الآجري في كتاب الغرباء عن عبد الله بن مسعود (ص19)، والإمام الداني في كتاب السنن الواردة في الفتن (25/ 1) عنه أيضاً. وفي إسناده أبو إسحاق السبيعي مدلس وقد عنعنه. قال عنه الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب: اختلط بآخره (2/ 73)، وانظر تهذيب التهذيب (8/ 63).
ولكن الحديث صح بشواهده، قال الشيخ الألباني: له شاهدان من حديث سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمرو بن العاص عند الداني بإسنادين صحيحين، ومن شواهده حديث جابر بن عبد الله، وحديث سهل بن سعد، وحديث عبد الرحمن بن سنه، وأصل الحديث في مسلم عن أبي هريرة وليس فيه السؤال (2/ 176). وصححه الألباني كما في السلسلة الصحيحة (3/ 267) برقم (1273)، وقد استقصى روايات حديث الغربة ودرس أسانيدها الشيخ سليمان العودة في كتابه الغرباء الأولون (ص27 ـ 47).
(3) في (ط): "ومن الغرباء يا رسول الله".
(4) في (ط): "النزوع". والنزاع جمع نزيع وهو الغريب الذي نزع عن أهله وعشيرته، والنزائع من الإبل: الغرائب. انظر شرح السنة للإمام البغوي (1/ 118).
(5) روى الحديث بهذه الزيادة الإمام ابن ماجه في سننه في كتاب الفتن، باب بدأ الإسلام غريباً عن عبد الله بن مسعود ولفظه: "إن الإسلام بدأ غريباً، وسيعود غريباً، فطوبى للغرباء. قال: قيل: ومن الغرباء؟ قال: النزاع من القبائل"، برقم (3988) (2/ 1320)، ورواه الإمام الدارمي في كتاب الرقاق عن ابن مسعود بنحوه ورقمه (12755) (2/ 402)، ورواه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص72)، وابن أبي شيبة في المصنف (13/ 236)، والخطيب البغدادي في شرف أصحاب الحديث (ص23)، والطحاوي في مشكل الآثار (1/ 297)، والآجري في الغرباء (ص21 ـ 22)، والبيهقي في الزهد الكبير (ص208)، والبغوي في شرح السنة في كتاب الإيمان وقال: صحيح غريب (1/ 118) كلهم عن حفص بن غياث عن الأعمش عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن ابن مسعود.
وإسناد الحديث ضعيف لأن أبا إسحاق مدلس كان قد اختلط وقد عنعنه في جميع =(1/7)
وَهَذَا مُجْمَلٌ، وَلَكِنَّهُ (1) مُبَيَّنٌ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى. وَجَاءَ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ: "بَدَأَ (2) الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكُونَ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ (3)، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ حِينَ يَفْسُدُ النَّاسُ" (4).
وَفِي رِوَايَةٍ لِابْنِ وَهْبٍ (5) قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ (6) وَالسَّلَامُ: "طُوبَى لِلْغُرَبَاءِ الَّذِينَ يُمْسِكُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ حِينَ يُتْرَكُ (7)، وَيَعْمَلُونَ بِالسُّنَّةِ حِينَ تُطفى" (8).
وَفِي رِوَايَةٍ: "إن الإسلام بدأ (9) غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى
_________
= طرقه، وتقدم الكلام عنه في الحديث الذي قبله. وانظر كلام الشيخ الألباني عن هذه الزيادة في السلسلة الصحيحة عند ذكر حديث الغربة (3/ 270).
(1) في (خ): "مجمل بل ولكنه ... ".
(2) في (خ): "بدأ"، وفي (ط): "بدئ".
(3) في (م): "بدى"، وكذلك في (ط).
(4) رواه ابن وضاح في البدع والنهي عنها، باب في نقض عرى الإسلام عن سالم بن عبد الله يقول: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذكره مع تكرار قوله: "فطوبى للغرباء ... " (72)، ورواه البيهقي في الزهد الكبير عن عبد الله بن عمر برقم (203) (ص147)، وفي سنده يحيى بن المتوكل وهو شديد الضعف جداً. انظر: تهذيب التهذيب (11/ 270)، وميزان الاعتدال للذهبي (1/ 404).
(5) هو عبد الله بن وهب بن مسلم، الإمام شيخ الإسلام، أبو محمد الفهري، مولاهم المصري الحافظ، مولده سنة 125هـ. لقي بعض صغار التابعين، وكان من أوعية العلم، ومن كنوز العمل. حدّث عنه خلق كثير وبَعُد صيته. قال عنه ابن عيينة: هذا شيخ أهل مصر، وقال الذهبي: موطأ ابن وهب كبير لم أرَه، وله كتاب الجامع، وكتاب البيعة وغيرها. مات سنة 197هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي (9/ 223)، ترتيب المدارك للقاضي عياض (1/ 421)، تهذيب التهذيب لابن حجر (6/ 71).
(6) ساقطة من (غ) و (ر).
(7) في (غ): "يتركون".
(8) أخرجه الإمام ابن وضاح في كتاب البدع والنهي عنها، باب في نقض عرى الإسلام عن بكر بن عمرو المعافري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم "طوبى للغرباء ... " وذكره بلفظه (ص72)، وبكر بن عمرو قال عنه ابن حجر صدوق عابد من السادسة، مات في خلافة أبي جعفر بعد الأربعين. انظر: التقريب (1/ 106).
وهذه الطبقة لم تلق الصحابة رضي الله عنهم كما بيَّن ذلك ابن حجر في مقدمته على التقريب (1/ 6)، وقال الذهبي: "مات شاباً ما أحسبه تكهل، وكان ذا فضل وتعبّد، محله الصدق". انظر: الميزان (1/ 347)، تهذيب الكمال (1/ 158)، فالحديث بهذا الإسناد معضل.
(9) في (خ): "بدأ"، في الموضعين، وفي (ط): "بدى" كذلك في الموضعين.(1/8)
لِلْغُرَبَاءِ"، قَالُوا (1): يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَكُونُ غَرِيبًا؟ قَالَ: "كَمَا يُقَالُ لِلرَّجُلِ فِي حَيِّ كَذَا وَكَذَا (2): إِنَّهُ لَغَرِيبٌ" (3).
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْغُرَبَاءِ: قَالَ (4): "الَّذِينَ يُحْيُونَ مَا أَمَاتَ النَّاسُ مِنْ سُنَّتِي" (5).
وَجُمْلَةُ (6) الْمَعْنَى فِيهِ مِنْ جِهَةِ وَصْفِ الْغُرْبَةِ مَا ظَهَرَ بِالْعِيَانِ وَالْمُشَاهَدَةِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ وَآخِرِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، وَفِي جَاهِلِيَّةٍ جَهْلَاءَ، لَا تَعْرِفُ مِنَ الْحَقِّ رسماً (7)، ولا تقيم له (8) فِي مَقَاطِعِ الْحُقُوقِ حُكْمًا، بَلْ كَانَتْ تَنْتَحِلُ (9) ما وجدت عليه آباءها، وما استحسنته أَسْلَافُهَا، مِنَ الْآرَاءِ الْمُنْحَرِفَةِ، والنِّحَل الْمُخْتَرَعَةِ، وَالْمَذَاهِبِ المبتدعة.
_________
(1) في (غ) و (ر): "قيل".
(2) ساقطة من (غ).
(3) أخرجه ابن وضاح في البدع والنهي عنها، باب في نقض عرى الإسلام، وفي سنده مبارك بن فضالة يدلس ويسوّى. قال أبو زرعة عنه: "إذا قال ثنا فهو ثقة". انظر: الكاشف للذهبي (3/ 104)، تقريب التهذيب (2/ 227)، وقد عنعن الحديث هنا، وهو من مراسيل الحسن.
(4) في (غ): "فقال".
(5) رواه الإمام الترمذي في كتاب الإيمان من سننه، باب ما جاء أن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً برقم (2630) عن كثير بن عبد الله بن عمرو عن أبيه عن جده وذكره بلفظ أطول آخره: "فطوبى للغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس من بعدي من سنّتي" وقال: حسن صحيح (5/ 19)، ورواه أبو نعيم في الحلية (2/ 10)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفي آخره: "قيل: يا رسول الله ومن الغرباء؟ قال: الذين يحيون سنتي ويعلمونها عباد الله" (2/ 120)، والخطيب في شرف أصحاب الحديث كالذي عند ابن عبد البر (ص23)، وكذلك البيهقي في الزهد الكبير برقم (207) (ص150)، والفسوي في المعرفة والتاريخ (1/ 350)، والبغوي في شرح السنة (1/ 121). ومدار الحديث على كثير بن عبد الله المزني قال عنه ابن حجر: "ضعيف ومنهم من نسبه إلى الكذب". انظر: التقريب (2/ 132)، وقال عنه الذهبي في الكاشف: "واه، قال أبو داود: كذاب" (3/ 5).
(6) في (غ) و (ر): "وجملة ما فيه".
(7) الرسم: الأثر. الصحاح (5/ 1932).
(8) في (ط): "به".
(9) تنتحل كذا: أي تدين به، والنحلة الديانة، وقيل: الدعوى. انظر: لسان العرب لابن منظور (11/ 650)، الصحاح للجوهري (5/ 1826).(1/9)
فَحِينَ قَامَ فِيهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشِيرًا، وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ، وَسِرَاجًا منيراً، سرعان (1) مَا عَارَضُوا مَعْرُوفَهُ بِالنُّكْرِ، وَغَيَّرُوا (2) فِي (3) وجهِ صَوَابِهِ بِالْإِفْكِ (4)، وَنَسَبُوا إِلَيْهِ ـ إِذْ خَالَفَهُمْ فِي الشِّرْعَة (5)، وَنَابَذَهُمْ فِي النِّحْلَة ـ كُلَّ مُحَالٍ، وَرَمَوْهُ بِأَنْوَاعِ الْبُهْتَانِ، فَتَارَةً (6) يَرْمُونَهُ بِالْكَذِبِ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ، الَّذِي لَمْ يُجَرِّبُوا عَلَيْهِ قَطُّ خَبَرًا بِخِلَافِ مَخْبَرِهِ، وَآوِنَةً يَتَّهِمُونَهُ بِالسِّحْرِ، وَفِي عِلْمِهِمْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ وَلَا مِمَّنْ يَدَّعِيهِ، وكَرَّة يَقُولُونَ: إِنَّهُ مَجْنُونٌ مَعَ تَحَقُّقِهِمْ (7) بِكَمَالِ عَقْلِهِ، وَبَرَاءَتِهِ مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ وَخَبَلِهِ.
وَإِذَا (8) دَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ الْمَعْبُودِ بِحَقٍّ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، قَالُوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ *} (9) مَعَ الْإِقْرَارِ (10) بِمُقْتَضَى هَذِهِ الدَّعْوَةِ (11) الصَّادِقَةِ (12): {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (13).
وَإِذَا أَنْذَرَهُمْ بَطْشَةَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَنْكَرُوا مَا يشاهدون من (14) الأدلة على إمكانه، وقالوا: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} (15).
وَإِذَا خَوَّفَهُمْ نِقْمَةَ اللَّهِ، قَالُوا: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (16)، اعْتِرَاضًا عَلَى صِحَّةِ مَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ (17) مِمَّا هو كائن لا محالة.
_________
(1) في (خ) و (ت) و (ط): "فسرعان".
(2) في (غ) و (ر): "غبروا" بالباء.
(3) في (غ): "ما في".
(4) الإفك: الكذب، والأفّاك: الكذاب. الصحاح (4/ 1572).
(5) الشرعة هي الشريعة، ومنه قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}. الصحاح (3/ 1236).
(6) في (م) و (خ) (ت) و (ط): "فتراه".
(7) في (ت): "تحقيقهم".
(8) في (ط): "وإذ".
(9) سورة ص، آية (5).
(10) في (غ): "مع إقرارهم".
(11) في (غ): "الدعوى".
(12) في (ط): "لصادقة".
(13) سورة العنكبوت، آية (65).
(14) ساقطة من (غ).
(15) سورة ق، آية (3).
(16) سورة الأنفال، آية (32).
(17) ساقطة من (ت).(1/10)
وَإِذَا جَاءَهُمْ بِآيَةٍ خَارِقَةٍ افْتَرَقُوا فِي الضَّلَالَةِ عَلَى فِرَقٍ، وَاخْتَرَقُوا (1) فِيهَا بِمُجَرَّدِ الْعِنَادِ مَا لَا يَقْبَلُهُ أَهْلُ التَّهَدِّي إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، كُلُّ ذَلِكَ دُعَاءٌ مِنْهُمْ إِلَى التَّأَسِّي بِهِمْ وَالْمُوَافَقَةِ لَهُمْ عَلَى مَا يَنْتَحِلُونَ، إِذْ (2) رَأَوْا خِلَافَ الْمُخَالِفِ لَهُمْ فِي بَاطِلِهِمْ رَدًّا لِمَا هُمْ عَلَيْهِ، وَنَبْذًا لِمَا شَدُّوا عَلَيْهِ يَدَ الظِّنَّة (3)، وَاعْتَقَدُوا إِذْ لَمْ يَتَمَسَّكُوا بِدَلِيلٍ أَنَّ الْخِلَافَ يُوهِنُ الثِّقَةَ، وَيُقَبِّحُ جِهَةَ الِاسْتِحْسَانِ، وَخُصُوصًا حِينَ اجْتَهَدُوا فِي الِانْتِصَارِ بِعِلْمٍ، فَلَمْ يَجِدُوا أَكْثَرَ مِنْ تَقْلِيدِ الْآبَاءِ.
وَلِذَلِكَ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ (4) إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي مُحَاجَّةِ قَوْمِهِ:
{مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} (5)، فَحَادُوا كَمَا تَرَى عَنِ الْجَوَابِ الْقَاطِعِ الْمُورَدِ مَوْرِدَ السُّؤَالِ إِلَى الِاسْتِمْسَاكِ بِتَقْلِيدِ الْآبَاءِ.
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ *} (6)، فَرَجَعُوا عَنْ جَوَابِ مَا أُلْزِمُوا إِلَى التَّقْلِيدِ، فَقَالَ تَعَالَى: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} (7)، فَأَجَابُوا بِمُجَرَّدِ الْإِنْكَارِ، رُكُونًا إِلَى مَا ذَكَرُوا مِنَ التَّقْلِيدِ، لَا بِجَوَابِ السُّؤَالِ.
فَكَذَلِكَ كَانُوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْكَرُوا مَا تَوَقَّعُوا مَعَهُ زَوَالَ مَا بِأَيْدِيهِمْ، لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ مُعْتَادِهِمْ، وَأَتَى بِخِلَافِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ كُفْرِهِمْ وَضَلَالِهِمْ، حَتَّى أَرَادُوا أَنْ يستزلوه (8) عَلَى وَجْهِ السِّيَاسَةِ فِي زَعْمِهِمْ، لِيُوقِعُوا بَيْنَهُمْ
_________
(1) التخرّق لغة: في التخلق من الكذب، وخرق الكذب اختلقه. لسان العرب (11/ 361)، الصحاح (4/ 1467).
(2) في (م) و (ت): "إذا".
(3) الظنّة: التهمة، والجمع الظنن. الصحاح للجوهري (6/ 2160).
(4) في (م) و (خ) و (ت): "على".
(5) سورة الشعراء، آية (70 ـ 74).
(6) سورة الزخرف، آية (21).
(7) سورة الزخرف، آية (24).
(8) في (م) و (ت) "يستنزلوا".(1/11)
وبينه (1) الْمُؤَالَفَةَ وَالْمُوَافَقَةَ وَلَوْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، أَوْ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، أَوْ عَلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَيَقْنَعُوا مِنْهُ بِذَلِكَ، لِيَقِفَ لَهُمْ بِتِلْكَ الْمُوَافَقَةِ وَاهِي بِنَائِهِمْ، فَأَبَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَّا الثُّبُوتَ عَلَى مَحْضِ الْحَقِّ، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى خَالِصِ (2) الصَّوَابِ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ *لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ *} (3) إِلَى آخِرِ السُّورَةِ، فَنَصَبُوا لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ حَرْبَ (4) الْعَدَاوَةِ، وَرَمَوْهُ بِسِهَامِ الْقَطِيعَةِ، وَصَارَ أَهْلُ السلم كلهم حرباً (5) عليه (6) وعاد (7) الْوَلِيُّ الْحَمِيمُ عَلَيْهِ كَالْعَذَابِ الْأَلِيمِ (8)، فَأَقْرَبُهُمْ إِلَيْهِ (9) نَسَبًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ عَنْ مُوَالَاتِهِ، كَأَبِي جَهْلٍ وَغَيْرِهِ، وَأَلْصَقُهُمْ بِهِ رَحِمًا، كَانُوا (10) أَقْسَى قُلُوبًا عَلَيْهِ، فَأَيُّ غُرْبَةٍ تُوَازِي هَذِهِ الْغُرْبَةَ؟ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَمْ يَكِلْه اللَّهُ إِلَى نَفْسِهِ، وَلَا سَلَّطَهُمْ عَلَى النَّيْلِ مِنْ أَذَاهُ، إِلَّا (11) نيل المضعوفين (12)، بَلْ حَفِظَهُ وَعَصَمَهُ، وَتَوَلَّاهُ بِالرِّعَايَةِ وَالْكِلَاءَةِ، حَتَّى بَلَّغَ رِسَالَةَ رَبِّهِ.
ثُمَّ مَا زَالَتِ الشَّرِيعَةُ فِي أَثْنَاءِ نُزُولِهَا، وَعَلَى تَوَالِي تَقْرِيرِهَا، تُبْعِدُ بَيْنَ (13) أَهْلِهَا وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ (14)، وَتَضَعُ الْحُدُودَ بَيْنَ حقّها وبين ما ابتدعوا، لكن (15) عَلَى وَجْهٍ مِنَ الْحِكْمَةِ عَجِيبٍ (16)، وَهُوَ التَّأْلِيفُ بَيْنَ أَحْكَامِهَا وَبَيْنَ أَكَابِرِهِمْ فِي أَصْلِ الدِّينِ الأوّل والأصيل، ففي العرب نسبتهم (17) إلى أبيهم
_________
(1) في (ط): "وبين".
(2) ساقطة من (غ).
(3) سورة الكافرون، آية (1 ـ 2).
(4) في (م) و (ت): "حزب"، وبياض في (غ).
(5) في (ت): "حزباً".
(6) في (ت): تحتمل "عليهم".
(7) في (ط): "عاد" بدون الواو.
(8) بياض في (غ).
(9) في (غ) و (ر): "منه".
(10) في (غ) و (ر): "كان".
(11) بياض في (غ).
(12) في (م) و (ت): "المصقوفين"، وفي (خ) و (ط): "المصلوفين".
(13) في (غ) و (ر): "ما بين".
(14) في (ت): "غيرها".
(15) في (ط): "ولكن".
(16) في (م) و (ت): "عجيبة".
(17) في (غ): "نسبتها".(1/12)
إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَفِي غَيْرِهِمْ لِأَنْبِيَائِهِمُ الْمَبْعُوثِينَ فِيهِمْ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ كَثِيرٍ مِنَ الأنبياء عليهم السلام: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (1)، وقوله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ... } (2).
وما زال عليه السلام يدعو إليها (3)، فيؤوب إِلَيْهِ الْوَاحِدُ بَعْدَ الْوَاحِدِ عَلَى حُكْمِ الِاخْتِفَاءِ؛ خَوْفًا مِنْ عَادِيَةِ الْكُفَّارِ زَمَانَ (4) ظُهُورِهِمْ عَلَى دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ، فَلَمَّا اطَّلَعُوا عَلَى الْمُخَالَفَةِ أَنِفُوا، وَقَامُوا وَقَعَدُوا، فَمِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ مَنْ لَجَأَ إِلَى قَبِيلِهِ فَحَمَوْهُ عَلَى إِغْمَاضٍ (5)، أَوْ عَلَى دَفْعِ الْعَارِ فِي الْإِخْفَارِ (6)، وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّ مِنَ الْإِذَايَةِ وَخَوْفِ الغِرَّة (7)، هِجْرَةً إِلَى اللَّهِ وَحُبًّا فِي الْإِسْلَامِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ (8) وَزَرٌ (9) يَحْمِيهِ، وَلَا مَلْجَأٌ يَرْكَنُ إِلَيْهِ (10)، فَلَقِيَ مِنْهُمْ مِنَ الشِّدَّةِ وَالْغِلْظَةِ وَالْعَذَابِ أَوِ الْقَتْلِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ، حَتَّى زَلَّ مِنْهُمْ من زلّ (11) فروجع (12) أَمْرُهُ بِسَبَبِ الرُّجُوعِ إِلَى الْمُوَافَقَةِ، وَبَقِيَ مِنْهُمْ مَنْ بَقِيَ صَابِرًا مُحْتَسِبًا، إِلَى أَنْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الرُّخْصَةَ فِي النُّطْقِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى حُكْمِ الْمُوَافَقَةِ (ظَاهِرًا، لِيَحْصُلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الناطق
_________
(1) سورة الأنعام، آية (90).
(2) سورة الشورى، آية (13).
(3) في (ط): "لها".
(4) في (غ) و (ر): "زمن".
(5) أي حموه على غض للبصر وتساهل في أمره مع عدم الرغبة الحقيقية في حمايته.
(6) الخفير هو المجير، وخفرت الرجل إذا أجرته وكنت له خفيراً تمنعه. الصحاح للجوهري (2/ 1648).
(7) الغرة: الغفلة، واغترّه أي أتاه على غرّة منه. الصحاح للجوهري (2/ 768).
(8) ساقطة من (غ).
(9) الوَزَرُ: الملجأ، وأصل الوزر الجبل. الصحاح للجوهري (2/ 845).
(10) ساقطة من (ت)، وفي (غ): "ولا يركن ملجأ إليه".
(11) وهذا نادر في الصحابة رضي الله عنهم، فلا يفهم من السياق انقسامهم فريقين: فريق زلّ وفريق بقي.
(12) في (خ): "فرجوع"، وفي (ن) و (ط): "فرجع".(1/13)
الْمُوَافَقَةُ (1)) (2)، وَتَزُولَ الْمُخَالَفَةُ، فَنَزَلَ إِلَيْهَا مَنْ نَزَلَ عَلَى حُكْمِ التَّقِيَّةِ، رَيْثَمَا يَتَنَفَّسُ (3) مِنْ كَرْبِهِ، ويَتَرَوَّحُ (4) مِنْ خِنَاقِهِ، وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ، وَهَذِهِ غربة أيضاً ظاهرة.
وإنما كان هذا كله (5) جَهْلًا مِنْهُمْ بِمَوَاقِعِ الْحِكْمَةِ، وَأَنَّ مَا جَاءَهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْحَقُّ ضِدَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ، فَمَنْ جَهِلَ شَيْئًا عَادَاهُ، فَلَوْ عَلِمُوا لَحَصَلَ الْوِفَاقُ، وَلَمْ يُسْمَعِ (6) الْخِلَافُ (7)، وَلَكِنَّ سَابِقَ الْقَدَرِ حتَّم عَلَى الْخَلْقِ مَا هُمْ عَلَيْهِ (8)، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (9).
ثُمَّ اسْتَمَرَّ مَزِيدُ (10) الْإِسْلَامِ، وَاسْتَقَامَ طَرِيقُهُ عَلَى (11) مُدَّةِ حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْ (12) بَعْدِ مَوْتِهِ، وَأَكْثَرِ قَرْنِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ الله تعالى عَنْهُمْ، إِلَى أَنْ نَبَغَتْ فِيهِمْ نَوَابِغُ الْخُرُوجِ عَنِ السُّنَّةِ، وَأَصْغَوْا (13) إِلَى الْبِدَعِ الْمُضِلَّةِ: كَبِدْعَةِ القدر (14)،
_________
(1) في (غ) و (ر): "المؤالفة".
(2) ما بين المعكوفين ساقط من أصل (ت)، وقد أثبت في هامشها.
(3) في (ر): "يتمقس".
(4) الروح بالفتح من الاستراحة، وكذا الراحة. الصحاح (1/ 368).
(5) ساقطة من (م) و (خ) و (ط) و (ت).
(6) في (غ) و (ر): "يسع".
(7) لا يلزم من علمهم حصول الوفاق، فقد علموا الحق، وقامت عليهم الحجّة، وإنما ضلّوا باتباع الهوى، والإعراض عن الحق.
(8) وليس لهم في سابق القدر حجة، فقد جعل الله لهم قدرة واختياراً، وحجب عنهم العلم بما قدّر.
(9) سورة هود، آية (118 ـ 119)، وسيذكر المؤلف الآية وتفسيرها في بداية الباب التاسع (2/ 165) من طبعة كتابنا هذا.
(10) في (خ) و (ت) و (ط): "تزيد".
(11) (12) ساقطة من (غ) و (ر).
(13) في (غ) و (ر): "والصغو".
(14) في (غ) و (ر): "القدرية" وهي القول بإنكار القدر، وأن الأمر أنف، وأوّل من قال بهذه البدعة معبد الجهني المقتول في بدعته سنة 80هـ، وذلك في آخر زمن الصحابة، وقد تبرّأ الصحابة من مذهبه كابن عمر وأنس وغيرهما رضي الله عنهم، وقد تبعه على بدعته غيلان الدمشقي الذي قتله هشام بن عبد الملك، والمعتزلة تنفي القدر إلاّ قليل منهم، وكذلك تسمى الجبرية المحتجّون بالقدر (قدرية): أيضاً، والتسمية على الطائفة الأولى أغلب. انظر: الفرق بين الفرق للبغدادي (ص14)، صحيح مسلم بشرح النووي (1/ 150).=(1/14)
وَبِدْعَةِ الْخَوَارِجِ (1)، وَهِيَ الَّتِي نَبَّهَ عَلَيْهَا الْحَدِيثُ بِقَوْلِهِ: "يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ، ويَدَعُون أَهْلَ الْأَوْثَانِ، يقرؤون الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ (2) " (3)، يَعْنِي لَا يَتَفَقَّهُونَ (4) فِيهِ، بَلْ يَأْخُذُونَهُ عَلَى الظَّاهِرِ (5)، كَمَا بيَّنه حديث ابن عمر (6) رضي الله عنهما الْآتِي بِحَوْلِ اللَّهِ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي آخِرِ عهد الصحابة رضي الله عنهم.
ثُمَّ لَمْ تَزَلِ الْفِرَقُ تَكْثُرُ حَسْبَمَا (7) وَعَدَ بِهِ الصَّادِقُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي قَوْلِهِ: "افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى (8) وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، (وَالنَّصَارَى مِثْلُ ذَلِكَ، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وسبعين فرقة (9) " (10).
_________
= وانظر في موضوع القدر: الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم (3/ 22 وما بعدها، 4/ 192)، مقالات الإسلاميين للأشعري (1/ 298)، شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز (1/ 79).
(1) هم الذين خرجوا على عليّ ـ رضي الله عنه ـ يوم صفين لإنكارهم التحكيم، فقاتلهم في النهروان وهزمهم، وتشعبت فرقهم، وبلغت العشرين وأشهرها: المحكمة الأولى والنجدات والأزارقة والصفرية والإباضية، ولهم أفكار ضالّة يكادون يجتمعون عليها وهي: تكفير مرتكب الكبيرة، والقول بخلوده في النار، وجواز الخروج على الأئمة الجائرين، وجواز الإمامة في غير قريش، وإنكار التحكيم، ومن أسمائهم الحرورية والشراة والنواصب.
انظر: الفرق بين الفرق للبغدادي (ص49)، الملل والنحل للشهرستاني (ص114)، مقالات الإسلاميين للأشعري (1/ 86)، الفصل لابن حزم (4/ 188).
(2) التراقي: جمع ترقوة، وهي العظم الذي بين ثغرة النحر والعاتق، وهما ترقوتان من الجانبين. انظر: النهاية في غريب الحديث لابن الأثير (1/ 187).
(3) أخرجه البخاري عن أبي سعيد في كتاب التوحيد (13/ 416 مع الفتح)، ومسلم في كتاب الزكاة (7/ 162، شرح النووي)، وأبو داود في كتاب السنة باب في قتال الخوارج (4/ 243)، والنسائي في كتاب الزكاة (5/ 87)، والإمام أحمد في المسند (3/ 15).
(4) في (ت): "يتفقون".
(5) في (ت): "الظر".
(6) رواه الإمام البخاري في كتاب استتابة المرتدين من صحيحه، باب قتل الخوارج والملحدين (12/ 283).
(7) في (غ): "كما".
(8) في (ت): "ثلاث".
(9) زاد في (خ) و (ر): "والنصارى مثل ذلك"، وذلك بعد ذكر الحديث وهو خطأ من الناسخ.
(10) أخرجه أبو داود في كتاب السنة من سننه، باب شرح السنة عن أبي هريرة برقم =(1/15)
وَفِي (1)) الْحَدِيثِ الْآخَرِ: "لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبٍّ (2) لَاتَّبَعْتُمُوهُمْ". قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: "فَمَنْ" (3)، وَهَذَا (الحديث (4) أَعَمُّ مِنَ الْأَوَّلِ) (5)، فَإِنَّ الْأَوَّلَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ خَاصٌّ بِأَهْلِ الْأَهْوَاءِ (6)، وَهَذَا الثَّانِي عَامٌّ فِي الْمُخَالَفَاتِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْحَدِيثِ قَوْلُهُ: "حَتَّى لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبٍّ (7) لَاتَّبَعْتُمُوهُمْ". وَكُلُّ صَاحِبِ مُخَالَفَةٍ (8) فَمِنْ شأنه أن
_________
= (4596) (4/ 197)، والترمذي، كتاب الإيمان، باب افتراق هذه الأمة، وقال: حسن صحيح، ورقمه (2640) (5/ 25)، وابن ماجه في كتاب الفتن، باب افتراق الأمم برقم (3991) (2/ 1321)، وليس فيه ذكر النصارى، والإمام أحمد في مسنده وليس فيه ذكر النصارى (2/ 232)، والآجري في الشريعة (ص15)، وابن نصر المروزي في السنة برقم (58) (ص23)، وابن أبي عاصم في السنة وليس فيه ذكر النصارى برقم (66)، والحاكم في المستدرك وقال: "صحيح على شرط مسلم" ووافقه الذهبي، ورواه ابن حبان في صحيحه (8/ 48 مع الإحسان)، ورواه غيرهم. وذكره المؤلف مع رواياته في الباب التاسع من الكتاب مصححاً له، وذكره الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (203)، (1/ 356).
(1) ما بين المعكوفين ساقط من (ت).
(2) في (غ) و (ر): "ضب خرب".
(3) أخرجه الإمام البخاري في كتاب الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، عن أبي سعيد بلفظ: "حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه". انظر: البخاري مع الفتح (6/ 495)، وأخرجه في موضع آخر وهو كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: "لتتبعن سنن من كان قبلكم" (13/ 300)، وأخرجه مسلم في كتاب العلم في النهي عن الاختلاف في القرآن (16/ 219 بشرح النووي)، وأحمد في المسند عنه أيضاً (3/ 84)، وابن أبي عاصم في السنة برقم (74)، (1/ 37)، ورواه ابن ماجه عن أبي هريرة في كتاب الفتن، باب افتراق الأمم برقم (3994)، (3/ 1322). والحديث مروي عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم.
(4) ساقطة من (ط).
(5) ما بين المعكوفين ساقط من (ت)، ويظهر استدراك الناسخ له في الهامش.
(6) هذا هو اختيار المؤلف ـ رحمه الله ـ كما ذهب إليه في الباب التاسع، عند المسألة الثانية، وذلك بعد ذكره لاحتمالات أخرى، فقال: "غير أن الأكثر في نقل أرباب الكلام وغيرهم أن الفرقة إنما هي بسبب الابتداع في الشرع على الخصوص وعلى ذلك حمل الحديث من تكلم عليه من العلماء، ولم يعدوا منها المفترقين بسبب المعاصي التي ليست ببدع، وعلى ذلك يقع التفريع إن شاء الله"، انظر: الاعتصام (2/ 194).
(7) في (غ): "ضب خرب".
(8) من هنا بياض في (غ).(1/16)
يدعو غيره إليها، ويحضّ سِوَاهُ عَلَيْهَا (1)، إِذِ التَّأَسِّي فِي الْأَفْعَالِ وَالْمَذَاهِبِ موضوع طلبه في الجِبِلَّة (2) (3)، وبسببه تقع من الْمُخَالِفِ الْمُخَالَفَةُ، وَتَحْصُلُ مِنَ الْمُوَافِقِ الْمُؤَالَفَةُ، وَمِنْهُ تنشأ العداوة والبغضاء للمختلفين (4).
وكان (5) الْإِسْلَامُ فِي أَوَّلِهِ وجِدَّته (6) (مُقَاوِمًا بَلْ) (7) ظَاهِرًا، وأهله غالبين (8)، وَسَوَادُهُمْ أَعْظَمُ الْأَسْوِدَةِ، فَخَلَا مِنْ وَصْفِ الْغُرْبَةِ بِكَثْرَةِ الْأَهْلِ وَالْأَوْلِيَاءِ النَّاصِرِينَ، فَلَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِمْ ـ مِمَّنْ لَمْ يَسْلُكْ سَبِيلَهُمْ، أَوْ سَلَكَهُ وَلَكِنَّهُ ابْتَدَعَ فِيهِ ـ صولةٌ يَعْظُمُ مَوْقِعُهَا، وَلَا قُوَّةٌ يضعف دونها حزب الله المفلحون، فسار (9) عَلَى اسْتِقَامَةٍ، وَجَرَى عَلَى اجْتِمَاعٍ وَاتِّسَاقٍ، فَالشَّاذُّ مَقْهُورٌ مُضْطَهَدٌ، إِلَى أَنْ أَخَذَ اجْتِمَاعُهُ فِي الِافْتِرَاقِ الْمَوْعُودِ، وَقُوَّتُهُ إِلَى الضَّعْفِ الْمُنْتَظَرِ، وَالشَّاذُّ عَنْهُ تَقْوَى صَوْلَتُهُ، وَيَكْثُرُ سَوَادُهُ.
وَاقْتَضَى (10) سِرُّ التَّأَسِّي الْمُطَالَبَةَ بِالْمُوَافَقَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْغَالِبَ أَغْلَبُ، فَتَكَالَبَتْ عَلَى سَوَادِ السُّنَّةِ الْبِدَعُ وَالْأَهْوَاءُ (11)، فَتَفَرَّقَ أَكْثَرُهُمْ شِيَعًا.
وَهَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ فِي الْخَلْقِ: أَنَّ أَهْلَ الْحَقِّ فِي جَنْبِ أَهْلِ الْبَاطِلِ قَلِيلٌ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ *} (12)، وقوله:
_________
(1) في (خ): "ويحض سؤاله بل سواه عليها"، وناسخ (خ) يفعل هذا إذا أخطأ حيث يضرب عن الخطأ بقوله بل، ثم يأتي بالصواب.
(2) الجبلة: الخلقة، ومنه قوله تعالى: {وَالْجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ}، والجمع الجبلات. الصحاح للجوهري (4/ 1651).
(3) كتب في (خ) بعد كلمة الجبلة كلمة غير واضحة، ولعلها "بداهة".
(4) في (ر): "بين المختلفين".
(5) في (ط): "كان".
(6) قال في الصحاح: جد الشيء يجد بالكسرة جدة: صار جديداً، وهو نقيض الخلق الصحاح (2/ 454).
(7) ما بين المعكوفين ساقط من أصل (خ) ومثبت في هامشها.
(8) هكذا في (م) و (خ) و (ت)، وفي (ط): "غالبون"، على أنها خبر "وأهله"، والذي يظهر أن قوله غالبين صحيح أيضاً، على تقدير "وكان أهله غالبين".
(9) في (خ) و (م) و (ط): "فصار".
(10) في (ر): "فاقتضى".
(11) في (م): "البدع الأهواء" بدون واو، وفي (غ): "سباع الأهوى".
(12) سورة يوسف، آية (103).(1/17)
{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (1)، وَلِيُنْجِزَ (2) اللَّهُ مَا وَعَدَ بِهِ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عَوْدِ وَصْفِ الْغُرْبَةِ إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْغُرْبَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا مَعَ فَقْدِ الْأَهْلِ أَوْ قِلَّتِهِمْ، وَذَلِكَ حِينَ يَصِيرُ الْمَعْرُوفُ مُنْكَرًا، وَالْمُنْكَرُ مَعْرُوفًا، وَتَصِيرُ السُّنَّةُ بِدْعَةً، وَالْبِدْعَةُ سُنَّةً، فَيُقَامُ عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ بِالتَّثْرِيبِ (3) وَالتَّعْنِيفِ، كَمَا كَانَ أَوَّلًا يُقَامُ عَلَى أَهْلِ الْبِدْعَةِ، طَمَعًا مِنَ الْمُبْتَدِعِ أَنْ تَجْتَمِعَ كَلِمَةُ الضَّلَالِ، وَيَأْبَى اللَّهُ أَنْ تَجْتَمِعَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، فَلَا تَجْتَمِعُ الْفِرَقُ كُلُّهُا ـ عَلَى كَثْرَتِهَا ـ عَلَى مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ عَادَةً وَسَمْعًا، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ تَثْبُتَ جَمَاعَةُ أَهْلِ السُّنَّةِ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ (4)، غَيْرَ أَنَّهُمْ ـ لِكَثْرَةِ مَا (5) تُنَاوِشُهُمُ (6) الْفِرَقُ الضَّالَّةُ، وَتُنَاصِبُهُمُ (7) الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ، اسْتِدْعَاءً إِلَى مُوَافَقَتِهِمْ ـ لَا يَزَالُونَ فِي جِهَادٍ وَنِزَاعٍ، وَمُدَافَعَةٍ وَقِرَاعٍ (8)، آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَبِذَلِكَ يُضَاعِفُ اللَّهُ لَهُمُ الْأَجْرَ الْجَزِيلَ، وَيُثِيبُهُمْ الثَّوَابَ الْعَظِيمَ.
فقد تلخّص مما تقدم أن مطالبة المخالف (9) بِالْمُوَافَقَةِ جارٍ مَعَ الْأَزْمَانِ لَا يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ، فَمَنْ وَافَقَ فَهُوَ عِنْدَ الْمُطَالِبِ الْمُصِيبُ (10) عَلَى أَيِّ حالٍ كَانَ، وَمَنْ خَالَفَ فَهُوَ الْمُخْطِئُ الْمُصَابُ، وَمَنْ وَافَقَ فَهُوَ الْمَحْمُودُ السَّعِيدُ، وَمَنْ خَالَفَ فَهُوَ الْمَذْمُومُ الْمَطْرُودُ (11)، وَمَنْ وَافَقَ فَقَدْ سَلَكَ سَبِيلَ الْهِدَايَةِ، وَمَنْ خَالَفَ فقد تاه في طرق (12) الضلالة (13) والغواية.
_________
(1) سورة سبأ، آية (13).
(2) في (غ) و (ر): "وينجز".
(3) التثريب هو التعيير والاستقصاء في اللّوم، وثرب عليه تثريباً قبح عليه فعله. الصحاح (1/ 92).
(4) صحت الأحاديث عن عدد من الصحابة في هذا المعنى، بل صرّح عدد من العلماء بتواتر الحديث كابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 69)، والسيوطي في قطف الأزهار المتناثرة (ص216)، وقد جمع الشيخ سلمان بن فهد العودة هذه الأحاديث ودرسها في كتابه صفة الغرباء (ص137 ـ 233).
(5) ساقطة من (ت).
(6) التناوش: التناول والانتياش مثله. انظر: اللسان (6/ 349).
(7) في (ط): "تناضبهم" بالضاد.
(8) في (ر): "وخداع".
(9) في (ت): "المخالفة".
(10) في (ت): "مصيب".
(11) في (ت): "الطريد".
(12) في (ت): "طريق".
(13) في (م): "الظلال". وقد رسمت في جميع النسخ بالظاء، وهو كالمنهج في هذه النسخ. وسوف لن أشير إلى هذا الخلاف إلاّ نادراً.(1/18)
وَإِنَّمَا قَدَّمْتُ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ لِمَعْنًى أَذْكُرُهُ: وَذَلِكَ أَنِّي ـ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ ـ لَمْ أَزَلْ مُنْذُ فَتَقَ لِلْفَهْمِ عَقْلِي، وَوُجِّهَ شَطْرَ (1) الْعِلْمِ طَلَبِي، أَنْظُرُ فِي عَقْلِيَّاتِهِ وَشَرْعِيَّاتِهِ، وَأُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ، لَمْ أَقْتَصِرْ مِنْهُ عَلَى (2) عِلْمٍ (دُونَ عِلْمٍ) (3)، وَلَا أَفْرَدْتُ من (4) أَنْوَاعِهِ نَوْعًا دُونَ آخَرَ، حَسْبَمَا اقْتَضَاهُ الزَّمَانُ والإمكان، وَأَعْطَتْهُ المُنَّة (5) الْمَخْلُوقَةُ فِي أَصْلِ فِطْرَتِي، بَلْ خُضْتُ فِي لُجَجِهِ (6) خَوْضَ الْمُحْسِنِ لِلسِّبَاحَةِ، وَأَقْدَمْتُ فِي مَيَادِينِهِ إِقْدَامَ الْجَرِيءِ، حَتَّى كِدْتُ أَتْلَفُ في بعض أعماقه، أو أنقطع (7) من (8) رُفْقَتِي الَّتِي بِالْأُنْسِ بِهَا تَجَاسَرْتُ عَلَى مَا قُدِّرَ لِي، غَائِبًا عَنْ مَقَالِ الْقَائِلِ، وَعَذْلِ الْعَاذِلِ، وَمُعْرِضًا عَنْ صَدِّ الصَّادِّ، وَلَوْمِ اللَّائِمِ، إلى أن مَنَّ عليّ الرب الكريم الرؤوف الرَّحِيمُ، فَشَرَحَ لِي مِنْ مَعَانِي الشَّرِيعَةِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي حِسَابِي، وَأَلْقَى فِي نَفْسِي إلقاء بصيرة (9) أن كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم لَمْ يَتْرُكَا فِي سَبِيلِ الْهِدَايَةِ لقائلٍ مَا يقول، ولا أبقيا لغيرهما مجالاً يعتدّ به (10) فِيهِ، وَأَنَّ الدِّينَ قَدْ كَمُلَ، وَالسَّعَادَةَ الْكُبْرَى فِيمَا وَضَعَ، والطِّلْبَةُ (11) فِيمَا شَرَعَ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَضَلَالٌ وَبُهْتَانٌ، وَإِفْكٌ وَخُسْرَانٌ، وَأَنَّ الْعَاقِدَ عليهما بكلتا يديه مستمسك بالعروة الوثقى، ومحصل (12) لكلية (13) الْخَيْرِ دُنْيَا وَأُخْرَى، وَمَا سِوَاهُمَا فَأَحْلَامٌ وَخَيَالَاتٌ وَأَوْهَامٌ، وَقَامَ لِي عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ الْبُرْهَانُ الذي لا شبهة تطرق (14) حول
_________
(1) شطر العلم أي نحو العلم، ومنه قوله تعالى: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}. انظر: الصحاح (2/ 697).
(2) ساقطة من (م).
(3) ما بين المعكوفين ساقط من (ت).
(4) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "عن".
(5) المنّة بالضم: القوة. يقال: هو ضعيف المنّة. الصحاح (6/ 2207).
(6) لجة الماء بالضم معظمه، وكذا (اللج) ومنه بحر لجي. الصحاح (1/ 3380).
(7) في (ر): "وأنقطع".
(8) في (ط): "في".
(9) عبارة (م) و (خ) و (ط): "وألقى في نفسي القاصرة".
(10) ساقطة من (ط).
(11) الطِلبة بكسر اللام: الشيء المطلوب. الصحاح (1/ 172).
(12) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "محصل".
(13) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "لكلمتي".
(14) في (غ): "تطير"، وفي (ر): "تطور".(1/19)
حِمَاهُ، وَلَا تَرْتَمِي نَحْوَ مَرْمَاهُ {ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ} (1)، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَالشُّكْرُ كَثِيرًا كَمَا هُوَ (أَهْلُهُ.
فمن) (2) هنالك قصرت (3) نَفْسِي عَلَى الْمَشْيِ فِي طَرِيقِهِ بِمِقْدَارِ مَا يسَّر اللَّهُ فِيهِ، فَابْتَدَأْتُ بِأُصُولِ الدِّينِ عَمَلًا وَاعْتِقَادًا، ثُمَّ بِفُرُوعِهِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى تِلْكَ الْأُصُولِ، وَفِي خِلَالِ ذَلِكَ أَتَبَيَّنُ (4) مَا هُوَ مِنَ السُّنَنِ أَوْ مِنَ الْبِدَعِ، كَمَا أَتَبَيَّنُ (5) مَا هُوَ مِنَ الْجَائِزِ وَمَا هُوَ مِنَ الْمُمْتَنِعِ، وأعرض كل (6) ذَلِكَ عَلَى عِلْمِ الْأُصُولِ الدِّينِيَّةِ وَالْفِقْهِيَّةِ، ثُمَّ أطلب نَفْسِي بِالْمَشْيِ مَعَ الْجَمَاعَةِ الَّتِي سَمَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ (7)، فِي الْوَصْفِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ (8)، وَتَرْكِ الْبِدَعِ الَّتِي نَصَّ عَلَيْهَا الْعُلَمَاءُ أَنَّهَا بدع مضلّة (9)، وأعمال مختلقة (10).
وَكُنْتُ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ قَدْ دَخَلْتُ فِي بعض خطط الجمهور من الخطابة والإمامة (11) ونحوهما (12)، فلما أردت الاستقامة على الطريق (13)، وَجَدْتُ نَفْسِي غَرِيبًا فِي جُمْهُورِ أَهْلِ الْوَقْتِ، لِكَوْنِ خُطَطِهِمْ قَدْ غَلَبَتْ عَلَيْهَا الْعَوَائِدُ، وَدَخَلَتْ عَلَى سُنَنِهَا (14) الْأَصْلِيَّةِ (15) شَوَائِبُ مِنَ الْمُحْدَثَاتِ الزَّوَائِدِ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِدْعًا فِي الْأَزْمِنَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَكَيْفَ فِي زَمَانِنَا هَذَا؟ فَقَدْ رُوِيَ عَنِ السلف
_________
(1) سورة يوسف، آية (38).
(2) بياض في (غ).
(3) المثبت ما في (ر) و (غ)، وفي بقية النسخ (قوت).
(5) (4) في (خ) و (ت) و (ط): "أبين".
(6) ساقطة من جميع النسخ عدا (غ).
(7) سيذكر المؤلف الحديث بتمامه في الباب الثاني (ص74 ـ 76)، وسأذكر تخريجه هناك.
(8) يشير المؤلف رحمه الله إلى قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عندما سئل عن الفرقة الناجية، فقال: "ما أنا عليه وأصحابي"، وسيذكره المؤلف في الباب التاسع (2/ 190)، وقد رواه الترمذي وغيره. انظر: سنن الترمذي (5/ 26) برقم (2641)، وحسَّنه الألباني، انظر: صحيح سنن الترمذي برقم (2129).
(9) ساقطة من جميع النسخ عدا (غ).
(10) في (م) و (غ): "مختلة". وفي (ط): "مختلفة".
(11) في (ر): "من الإمامة والخطابة".
(12) في جميع النسخ: "ونحوها"، عدا (غ).
(13) في (م) و (ت): "طريق".
(14) في (غ): "سنيتها".
(15) في (م) و (ت): "الأصيلة".(1/20)
الصَّالِحِ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ، كَمَا روي عن أبي الدرداء رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: "لَوْ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْكُمْ (1) مَا عَرَفَ شَيْئًا مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ إِلَّا الصَّلَاةَ" (2). قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ (3): فَكَيْفَ لَوْ كَانَ الْيَوْمَ؟ قَالَ عِيسَى بْنُ يُونُسَ (4): فَكَيْفَ لَوْ أَدْرَكَ الْأَوْزَاعِيُّ هَذَا الزَّمَانَ؟
وَعَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ (5) قَالَتْ: "دَخَلَ أبو الدرداء وَهُوَ غَضْبَانُ، فَقُلْتُ: مَا أَغْضَبَكَ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَعْرِفُ فِيهِمْ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ مُحَمَّدٍ (ص) (6)، إلاَّ أنهم يصلّون جميعاً" (7).
_________
(1) في (ر) و (غ): "إليكم".
(2) رواه عن أبي الدرداء ابن وضاح في البدع والنهي عنها، باب في نقض عرى الإسلام ودفن الدين (ص68)، وروى الإمام ابن بطة في الإبانة عن أبي الدرداء أنه قال: "لو أن رجلاً كان يعلم الإسلام وأهمّه، ثم تفقّده اليوم ما عرف منه شيئاً" (1/ 184). وقول الأوزاعي وعيسى بن يونس (الآتي) مذكور في نفس الموضع عند ابن وضاح.
(3) هو عبد الرحمن بن عمرو بن أبي عمرو الأوزاعي الفقيه، شيخ الإسلام وعالم أهل الشام، نزل بيروت في آخر عمره فمات بها مرابطاً سنة 158هـ، وقيل غير ذلك.
انظر في ترجمته: تهذيب التهذيب (6/ 238)، سير أعلام النبلاء (7/ 107)، طبقات ابن سعد (7/ 488)، البداية والنهاية (10/ 115).
(4) هو عيسى بن يونس بن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله، الإمام القدوة، الحافظ، الحجة، أبو عمرو، وأبو محمد الهمداني، السبيعي الكوفي، وثّقه أحمد وأبو حاتم والنسائي، وطائفة، وكان سنة في الغزو وسنّة في الحج، وكان من أصحاب الأعمش. مات سنة 187هـ.
انظر: التاريخ الكبير (6/ 406)، سير أعلام النبلاء (8/ 489)، تذكرة الحفاظ (1/ 279)، تهذيب التهذيب (8/ 237).
(5) هي زوج أبي الدرداء، اسمها هجيمة، وقيل: جهيمة الأوصابية الدمشقية، وهي الصغرى، وأما الكبرى فاسمها خيرة، ولا رواية لها في هذه الكتب، والصغرى ثقة فقيهة، عابدة، كبيرة القدر، كان الرجال يقرأون عليها ويتفقهون في الحائط الشمالي بجامع دمشق، وكان عبد الملك بن مروان يجلس في حلقتها وهو خليفة. ماتت سنة 81هـ.
انظر: الكاشف للذهبي (3/ 440)، تقريب التهذيب لابن حجر (2/ 621)، البداية والنهاية لابن كثير (9/ 50).
(6) في (غ): "فيهم من أمر محمد شيئاً".
(7) رواه البخاري في كتاب الأذان، باب فضل صلاة الفجر في جماعة برقم (650)، والإمام أحمد في الزهد (5/ 195)، ورواه ابن وضاح في البدع النهي عنها، باب في نقض عرى الإسلام (ص74)، ورواه الإمام أحمد في الزهد عند ترجمة أبي الدرداء (ص172)، ورواه ابن بطة في الإبانة الكبرى (2/ 574)، وذكره أبو بكر الطرطوشي في الحوادث والبدع، (ص111).(1/21)
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "مَا أَعْرِفُ مِنْكُمْ مَا كُنْتُ أَعْهَدُهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَ قَوْلِكُمْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ"، قُلْنَا: بَلَى يَا أَبَا حَمْزَةَ؟ قَالَ: "قَدْ صَلَّيْتُمْ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، أَفَكَانَتْ تِلْكَ صَلَاةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم"؟ (1).
وعن الحسن (2) قَالَ (3): "لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَدْرَكَ السَّلَفَ الْأَوَّلَ ثُمَّ بُعِثَ الْيَوْمَ مَا عَرَفَ مِنَ الْإِسْلَامِ شَيْئًا"، قَالَ: وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى خَدِّهِ ثُمَّ قَالَ: "إلاَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ"، ثُمَّ قَالَ: "أَمَا والله على ذلك لمن عاش في هذه (4) النكراء (5) وَلَمْ (6) يُدْرِكْ ذَلِكَ (7) السَّلَفَ الصَّالِحَ، فَرَأَى مُبْتَدِعًا يَدْعُو إِلَى بِدْعَتِهِ (8)، وَرَأَى صَاحِبَ (9) دُنْيَا يَدْعُو إلى دنياه، فعصمه الله عن (10) ذَلِكَ، وَجَعَلَ قَلْبَهُ يَحِنُّ إِلَى ذَلِكَ السَّلَفِ الصَّالِحِ، يَسْأَلُ عَنْ سُبُلِهِمْ، وَيَقْتَصُّ آثَارَهُمْ، وَيَتَّبِعُ سبيلهم، ليعوّضنّ (11) أجراً عظيماً،
_________
(1) رواه الإمام البخاري في كتاب مواقيت الصلاة من صحيحه، باب تضييع الصلاة عن وقتها عن أنس، وذكر روايتين عنه بنحو ما ذكر المؤلف (2/ 13)، ورواه الترمذي عن أنس في كتاب صفة القيامة والرقائق والورع وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه من حديث أبي عمران الجوني، وقد روي من غير وجه عن أنس، ورقمه (2447) (4/ 545)، ورواه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها بلفظ المؤلف، باب في نقض عرى الإسلام (ص73)، وأخرجه ابن المبارك في الزهد (1512). ورواه ابن بطة في الإبانة الكبرى عنه بروايتين (2/ 573 ـ 574)، ورواه ابن عبد البر عنه في جامع بيان العلم (2/ 200)، وذكره الطرطوشي في الحوادث والبدع (ص112)، انظر فتح الباري (2/ 13). قال الإمام ابن حجر في الفتح: صح أن الحجاج وأميره الوليد وغيرهما كانوا يؤخرون الصلاة عن وقتها، والآثار في ذلك مشهورة. ثم قال تنبيه: إطلاق أنس محمول على ما شاهده من أمراء الشام والبصرة خاصة وإلا سيأتي في هذا الكتاب أنه قدم المدينة، فقال: "ما أنكرت شيئاً إلاَّ أنكم لا تقيمون الصفوف". الفتح (2/ 14).
(2) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "أنس"، والصواب المثبت كما في نسخة (غ) وكما في كتاب البدع والنهي عنها لابن وضاح.
(3) ساقطة من (ت).
(4) ساقطة من (ط)، وفي (ت): "ذلك".
(5) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "النكر".
(6) في (م) و (ت): "أو لم".
(7) ساقطة من (ت).
(8) في (ت): "بدعة".
(9) ساقطة من (ت).
(10) في (ط): "من".
(11) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "ليعوض".(1/22)
فكذلك (1) فَكُونُوا (2) إِنْ شَاءَ اللَّهُ" (3).
وَعَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ (4) قَالَ: "لَوْ أَنَّ رَجُلًا أُنْشِرَ (5) فِيكُمْ من (6) السلف ما عرف فيكم (7) غير هذه القبلة" (8).
وعن (أبي) سهيل (9) بْنِ مَالِكٍ (10) عَنْ أَبِيهِ (11) قَالَ: "مَا أَعْرِفُ شَيْئًا مِمَّا أَدْرَكْتُ عَلَيْهِ النَّاسَ إِلَّا النِّدَاءَ بالصلاة" (12).
_________
(1) في (ط): "وكذلك".
(2) في (خ) و (ت): "فكانوا".
(3) أخرجه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها، باب في نقض عرى الإسلام بنفس اللفظ عن الحسن (ص74).
(4) هو الإمام الحجة، عالم الجزيرة ومفتيها، أبو أيوب الجزري الرقي، أعتقته امرأة من بني نصر بن معاوية بالكوفة، فنشأ بها، ثم سكن الرقة، حدّث عن أبي هريرة، وعائشة، وابن عباس، وابن عمر، قيل: ولد عام 40هـ. وثقه جماعة، وقال أحمد: هو أوثق من عكرمة، وكان ولي خراج الجزيرة وقضاءها، وكان من العابدين. توفي سنة 117هـ، وقيل: 116هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء (5/ 71)، طبقات ابن سعد (7/ 477)، حلية الأولياء (4/ 82).
(5) في (ر): "انتشر".
(6) ساقطة من (م)، وأصل (ت)، وكتبت في هامش (ت).
(7) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط).
(8) رواه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها، باب في نقض عرى الإسلام (ص74)، وذكره عنه الإمام ابن الجوزي في صفة الصفوة (4/ 194).
(9) في (م) و (ط): "عن سهل"، وفي (خ) و (ت) و (غ) و (ر): "وعن سهيل"، والمثبت هو الصواب كما في رواية ابن وضاح، وابن عبد البر، والطرطوشي، كما سيأتي في تخريجه.
(10) هو نافع بن مالك بن أبي عامر الأصبحي التيمي، أبو سهيل المدني، ثقة من الرابعة، روى عن ابن عمر، وسهل بن سعد، وروى عنه ابن أخيه مالك والدراوردي، ثقة مقرئ بقي إلى زمن السفاح.
انظر: تقريب التقريب (2/ 296)، الكاشف للذهبي (3/ 174).
(11) أبوه هو مالك بن أبي عامر الأصبحي جد مالك الإمام، روى عن عمر وعثمان، وروى عنه بنوه أنس وأبو سهيل نافع والربيع. مات سنة 74هـ.
انظر: الكاشف (3/ 101)، تقريب التهذيب (2/ 225).
(12) رواه عنه الإمام مالك في الموطأ من رواية يحيى بن يحيى (1/ 72)، ورواه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها، باب في نقض عرى الإسلام (ص73) عن عمّه أبي =(1/23)
إِلَى مَا أَشْبَهَ هَذَا مِنَ الْآثَارِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْمُحْدَثَاتِ تَدْخُلُ فِي الْمَشْرُوعَاتِ، وَأَنَّ ذلك قد كان قبل زماننا، وأنها (1) تَتَكَاثَرُ عَلَى تَوَالِي الدُّهُورِ إِلَى الْآنَ.
فَتَرَدَّدَ النَّظَرُ بَيْنَ أَنْ أَتَّبِعَ السُّنَّةَ عَلَى شَرْطِ مُخَالَفَةِ مَا اعْتَادَ النَّاسُ، فَلَا بُدَّ مِنْ حصول نحو مما حصل لمخالفي العوائد، لا سِيَّمَا إِذَا ادَّعَى أَهْلُهَا أَنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ هُوَ السُّنَّةُ لَا سِوَاهَا، إِلَّا أَنَّ فِي ذَلِكَ الْعِبْءِ الثَّقِيلِ مَا فِيهِ مِنَ الْأَجْرِ الْجَزِيلِ، (وَبَيْنَ أَنْ أَتْبَعَهُمْ) (2) عَلَى شَرْطِ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ وَالسَّلَفِ الصَّالِحِ، فَأَدْخُلَ تَحْتَ تَرْجَمَةِ الضُّلَّالِ، عَائِذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، إِلَّا أَنِّي أُوَافِقُ الْمُعْتَادَ، وَأُعَدُّ مِنَ الْمُؤَالِفِينَ (3) لَا مِنَ الْمُخَالِفِينَ، فَرَأَيْتُ أَنَّ الْهَلَاكَ فِي اتِّبَاعِ السُّنَّةِ هُوَ النَّجَاةُ، وَأَنَّ النَّاسَ لَنْ يُغْنُوا عَنِّي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، فَأَخَذْتُ فِي ذَلِكَ عَلَى حُكْمِ التَّدْرِيجِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ، فَقَامَتْ عَلَيَّ القيامة، وتواترت (4) الْمَلَامَةُ، وفَوَّق (5) إِلَيَّ الْعِتَابُ سِهَامَهُ، وَنُسِبْتُ إِلَى الْبِدْعَةِ وَالضَّلَالَةِ، وَأُنْزِلْتُ مَنْزِلَةَ أَهْلِ الْغَبَاوَةِ وَالْجَهَالَةِ، وَإِنِّي لَوِ الْتَمَسْتُ لِتِلْكَ الْمُحْدَثَاتِ مَخْرَجًا لَوَجَدْتُ، غَيْرَ أَنَّ ضِيقَ الْعَطَنِ (6)، وَالْبُعْدَ عَنْ أَهْلِ الْفِطَنِ، رَقَى بِي (7) مُرْتَقًى صَعْبًا، وَضَيَّقَ عَلَيَّ مَجَالًا رَحْبًا، وَهُوَ كَلَامٌ يُشِيرُ (8) بِظَاهِرِهِ إِلَى أن اتّباع
_________
= سهيل بن مالك عن أبيه وذكره، ورواه الإمام ابن عبد البر في جامع بيان العلم، قال: حدثنا القعنبي عن مالك عن عمّه أبي سهيل بن مالك عن أبيه وذكره (2/ 199)، وذكره الطرطوشي في الحوادث والبدع (ص111).
(1) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "وإنما".
(2) ما بين المعكوفين كتب في (ت): "ولئن اتبعتهم".
(3) في (غ): "المولفين".
(4) في (ط): "وتواترت على الملامة".
(5) الفوق هو موضع الوتر من السهم، والجمع أفواق. يقال: فوقت السهم أي جعلت له فوقاً. وأفقت السهم، أي وضعت فوقه في الوتر لأرمي به.
لسان العرب (10/ 320)، الصحاح للجوهري (4/ 1546).
(6) في (م) و (خ) وأصل (ت): "الطعن". قال الجوهري في الصحاح: "يقال فلان واسع العطن والبلد، إذا كان رحب الذراع". انظر: الصحاح (6/ 2165).
(7) في (م) و (خ) و (غ): "في".
(8) من هنا ينتقل ناسخ (غ) إلى قول المؤلف في الباب الأول: "للسلوك عليها .. " (ص45).(1/24)
الْمُتَشَابِهَاتِ، لِمُوَافَقَاتِ الْعَادَاتِ، أَوْلَى مِنِ اتِّبَاعِ الْوَاضِحَاتِ، وَإِنْ خَالَفَتِ السَّلَفَ الْأَوَّلَ.
وَرُبَّمَا أَلَمُّوا ـ فِي تَقْبِيحِ مَا وَجَّهْتُ إِلَيْهِ وِجْهَتِي ـ بِمَا تَشْمَئِزُّ منه القلوب، أو صرحوا (1) بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَعْضِ الْفِرَقِ الْخَارِجَةِ عَنِ السُّنَّةِ شَهَادَةً سَتُكْتَبُ وَيُسْأَلُونَ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
فَتَارَةً نُسِبْتُ إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الدُّعَاءَ لَا يَنْفَعُ، وَلَا فَائِدَةَ فِيهِ ـ كَمَا يُعْزَى إِلَى بَعْضِ النَّاسِ (2) ـ بِسَبَبِ أَنِّي لَمْ أَلْتَزِمِ الدُّعَاءَ بِهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ فِي أَدْبَارِ الصَّلَاةِ حَالَةَ الْإِمَامَةِ، وَسَيَأْتِي مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمُخَالَفَةِ لِلسُّنَّةِ وَلِلسَّلَفِ الصَّالِحِ وَالْعُلَمَاءِ (3).
وَتَارَةً نُسِبْتُ إِلَى الرَّفْضِ (4) وَبُغْضِ الصَّحَابَةِ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ـ، بِسَبَبِ أَنِّي لَمْ أَلْتَزِمْ ذِكْرَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْهُمْ فِي الْخُطْبَةِ عَلَى الْخُصُوصِ، إِذْ لَمْ (5) يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِ (6) السَّلَفِ فِي خُطَبِهِمْ، وَلَا ذَكَرَهُ أَحَدٌ من العلماء المعتبرين
_________
(1) في (خ) و (ط): "خرجوا".
(2) الذي نسب ذلك إلى الإمام الشاطبي هو شيخه أبو سعيد بن لب. انظر: المعيار المعرب (6/ 369 ـ 370).
(3) سيتناول المؤلف هذه المسألة في الباب الخامس، ويبين أنها بدعة، ويرد حجة من قال بها. انظر: الاعتصام المطبوع (1/ 349 ـ 368، 2/ 3 ـ 6).
(4) الروافض هم الشيعة، من الإمامية الاثنى عشرية والإسماعيلية، وكلّهم يعتقد أن علياً رضي الله عنه أولى بالإمامة بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غيره، وأنه استحق ذلك بالوصية والتعيين مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد عدّوا الأئمة بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اثني عشر مبتدئين بعليّ ثم الحسن ثم الحسين رضي الله عنهم وهكذا، ثم افترقوا بعد جعفر الصادق فصارت منهم إمامية، وإسماعيلية، ومن عقائدهم المتفق عليها القول بالتولّي والتبرّي قولاً وفعلاً وعقداً إلاّ في حال التقية، وبين عقائدهم من الخلاف ما لا يحصر، وسبب تسميتهم بالروافض رفضهم لنصرة زيد بن علي عند خروجه لما علموا منه موالاة أبي بكر وعمر، فقال: رفضتموني، فسموا رافضة.
انظر: الملل والنحل للشهرستاني (ص146 ـ 155)، مقالات الإسلاميين (ص65)، دراسة عن الفرق في تاريخ المسلمين لأحمد الجلي (ص179).
(5) في (ر): "ولم يكن".
(6) في (ط): "شأن من السلف".(1/25)
فِي أَجْزَاءِ الْخُطَبِ. وَقَدْ سُئل أَصْبَغُ (1) عَنْ دُعَاءِ الْخَطِيبِ لِلْخُلَفَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ فَقَالَ: "هُوَ بِدْعَةٌ وَلَا يَنْبَغِي الْعَمَلُ بِهِ (2)، وَأَحْسَنُهُ أَنْ يَدْعُوَ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً"، قِيلَ لَهُ (3): فَدُعَاؤُهُ لِلْغُزَاةِ وَالْمُرَابِطِينَ؟ قَالَ: "مَا أَرَى (4) بِهِ بَأْسًا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَأَمَّا (5) أَنْ يَكُونَ شَيْئًا (يَصْمُدُ) (6) لَهُ فِي خُطْبَتِهِ دَائِمًا فَإِنِّي أَكْرَهُ ذَلِكَ" (7).
ونصَّ أَيْضًا عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ (8) عَلَى أَنَّ الدُّعَاءَ لِلْخُلَفَاءِ (9) فِي الْخُطْبَةِ بِدْعَةٌ غَيْرُ محبوبة (10).
_________
(1) هو أصبغ بن الفرج بن سعيد بن نافع، مولى عبد العزيز بن مروان، كان كاتب ابن وهب. روى عنه الذهلي والبخاري وابن وضاح، كان فقيهاً حسن القياس عالماً بمذهب مالك. له كتاب الأصول، وتفسير غريب الموطأ، وكتاب الرد على أهل الأهواء وغيرها. توفي بمصر سنة 225هـ.
انظر: ترتيب المدارك في ترجمة أصحاب مالك للقاضي عياض (1/ 561)، سير أعلام النبلاء (10/ 656)، تقريب التهذيب (1/ 81)، الكاشف للذهبي (1/ 84).
(2) انظر: فتاوى ابن تيمية (1/ 129)، البحر الرائق (2/ 156)، المدخل (2/ 270)، تحفة المحتاج (1/ 460)، الإبداع في مضار الابتداع (75)، الدين الخالص (4/ 211، 306)، إصلاح المساجد (70)، فتاوى محمد رشيد رضا (4/ 1356).
(3) ساقطة من (م) و (ر).
(4) في (م): "أراي".
(5) في (ط): "وإما".
(6) في (م) وأصل (خ) و (ت): "يحمد"، والمثبت هو ما صححت به الكلمة في هامش (خ) و (ت) و (ط)، وهي كذلك في المعيار المعرب كما سيأتي.
(7) انظر قوله رحمه الله في المعيار المعرب للونشريسي (6/ 386).
(8) هو عز الدين شيخ الإسلام أبو محمد عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القسم بن الحسن الإمام العلامة، وحيد عصره، وسلطان العلماء، السلمي الدمشقي ثم المصري، الشافعي، ولد سنة 577هـ، وقيل 578هـ. وكان آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، مع الزهد والورع، أزال كثيراً من بدع الخطباء، وقد بلغ مرتبة الاجتهاد، برع في الفقه والأصول والعربية، اختصر نهاية المطلب، وله القواعد الكبرى، والقواعد الصغرى، ومقاصد الرعاية وغير ذلك. توفي سنة 660هـ.
انظر: طبقات الشافعية الكبرى للسبكي (8/ 209)، شذرات الذهب (5/ 301)، فوات الوفيات للكتبي (2/ 350).
(9) ساقطة من (ت).
(10) سئل عز الدين بن عبد السلام في كتاب الفتاوى له: هل يستحب للخطيب ذكر الصحابة في الخطب على ما جرت به العادة في زماننت بألفاظ مسجعة؟ أم تركه أولى لموافقته السلف؟ فأجاب بقوله: "ذكر الصحابة والخلفاء والسلاطين بدعة غير محبوبة، =(1/26)
وَتَارَةً أُضِيفَ (1) إِلَيَّ الْقَوْلُ بِجَوَازِ الْقِيَامِ عَلَى الأئمة، وما أضافوه إلاّ من عدم ذكرهم (2) في الخطبة، وذكرهم فيها مُحْدَثٌ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ مَنْ تَقَدَّمَ.
وَتَارَةً أحمل (3) عَلَيَّ الْتِزَامُ الْحَرَجِ، وَالتَّنَطُّعُ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا حَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَنِّي الْتَزَمْتُ ـ فِي التَّكْلِيفِ وَالْفُتْيَا ـ الْحَمْلَ عَلَى مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ الْمُلْتَزَمِ، لَا أَتَعَدَّاهُ، وَهُمْ يَتَعَدَّوْنَهُ وَيُفْتُونَ بِمَا يُسَهِّلُ عَلَى السَّائِلِ وَيُوَافِقُ هَوَاهُ، وَإِنْ كَانَ شَاذًّا فِي الْمَذْهَبِ الْمُلْتَزَمِ أَوْ فِي غَيْرِهِ. وَأَئِمَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ وَلِلْمَسْأَلَةِ بَسْطٌ فِي كِتَابِ الْمُوَافَقَاتُ (4).
وَتَارَةً نُسِبْتُ إِلَى مُعَادَاةِ أَوْلِيَاءِ الله تعالى، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنِّي عَادَيْتُ بَعْضَ الْفُقَرَاءِ الْمُبْتَدِعِينَ الْمُخَالِفِينَ لِلسُّنَّةِ، الْمُنْتَصِبِينَ ـ بِزَعْمِهِمْ ـ لِهِدَايَةِ الْخَلْقِ، وَتَكَلَّمْتُ لِلْجُمْهُورِ عَلَى جُمْلَةٍ مِنْ أَحْوَالِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَسَبُوا أَنْفُسَهُمْ إِلَى الصُّوفِيَّةِ وَلَمْ يَتَشَبَّهُوا بِهِمْ (5).
وَتَارَةً نُسِبْتُ إِلَى مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، بِنَاءً منهم على أن الجماعة
_________
= ولا يذكر في الخطب إلاّ ما يوافق مقاصدهم من الثناء، والدعاء، والترغيب، والترهيب، وتلاوة القرآن ... " (ص48).
وقد روى الإمام ابن سعد في الطبقات أن عمر بن عبد العزيز كتب: "لا تخصوني بشيء من الدعاء، أدعوا للمؤمنين والمؤمنات عامّة، فإن أكن منهم أدخل فيهم". انظر طبقات ابن سعد (5/ 378).
(1) في (ت): "أضاف".
(2) في (خ) و (ط): "ذكرى لهم".
(3) في (م): "حمل".
(4) ذكر المؤلف هذه المسألة في كتاب الموافقات له عند المسألة الثالثة من كتاب الاجتهاد، وذلك ضمن كلام طويل حول النهي عن تتبع الرخص، وما يلزم المستفتي والمفتي من الآداب. انظر الموافقات (4/ 146).
(5) يريد المؤلف بالصوفية هنا أئمة الصوفية المشهورين بالزهد والعبادة، مثل الفضيل بن عياض، وإبراهيم بن أدهم وغيرهم، وسوف يفرد المؤلف فصلاً مستقلاً في الباب الثاني يذكر فيه أقوالهم في الحثّ على اتّباع الكتاب والسنة والنهي عن البدع (ص160)، ثم إن المؤلف سيتكلم عن مصطلح التصوّف بشكل مفصل في الباب الثالث، يبيّن فيه ما هو مقبول منه، وما هو مردود (ص383) وما بعده.
وقد تقدم ذكر هذه الاتّهامات وبيان بطلانها في قسم الدراسة (ص24 ـ 37).(1/27)
الَّتِي أُمِرَ (1) بِاتِّبَاعِهَا ـ وَهِيَ النَّاجِيَةُ ـ مَا عَلَيْهِ العموم [وجماعة الناس في كل زمان وإن خالف السلف الصالح] (2)، وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ الْجَمَاعَةَ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ بِحَوْلِ اللَّهِ (3).
وَكَذَبُوا عَلَيَّ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ (4)، أَوْ وَهِمُوا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
فَكُنْتُ (عَلَى حَالَةٍ) (5) تُشْبِهُ حَالَةَ الْإِمَامِ الشَّهِيرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بُطَّة (6) الْحَافِظِ مَعَ أَهْلِ زَمَانِهِ، إِذْ حَكَى عَنْ نَفْسِهِ فَقَالَ: "عَجِبْتُ مِنْ حَالِي فِي سَفَرِي وَحَضَرِي (7) مَعَ الْأَقْرَبِينَ مِنِّي وَالْأَبْعَدِينَ، وَالْعَارِفِينَ وَالْمُنْكِرِينَ، فَإِنِّي وَجَدْتُ بِمَكَّةَ وَخُرَاسَانَ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَمَاكِنِ أَكْثَرَ مَنْ لَقِيتُ بِهَا ـ مُوَافِقًا أَوْ مُخَالِفًا ـ دَعَانِي إِلَى مُتَابَعَتِهِ عَلَى مَا يَقُولُهُ، وَتَصْدِيقِ قَوْلِهِ، وَالشَّهَادَةِ لَهُ، فَإِنْ كُنْتُ صدّقته (8) فِيمَا يَقُولُ وَأَجَزْتُ لَهُ ذَلِكَ ـ كَمَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ هَذَا الزَّمَانِ ـ سَمَّانِي مُوَافِقًا، وَإِنْ وَقَفْتُ فِي حَرْفٍ مِنْ قَوْلِهِ، أَوْ فِي (9) شَيْءٍ مِنْ فِعْلِهِ سَمَّانِي مُخَالِفًا، وَإِنْ ذَكَرْتُ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا أَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ بِخِلَافِ ذَلِكَ وارد (10)، سمّاني خارجياً (11)، وإن قرئ عليّ حديث (12) في التوحيد سمّاني
_________
(1) في (خ): "أمرت".
(2) ما بين المعكوفين زيادة من (ر).
(3) سيذكر المؤلف الأحاديث في الحثّ على الجماعة، وأقوال العلماء في المراد بها، في الباب التاسع، وذلك في المسألة السادسة عشرة والسابعة عشرة منه (2/ 258 ـ 267) من المطبوع.
(4) في (ر): "وكذبوا في جميع ذلك عليّ".
(5) ما بين المعكوفين ساقط من أصل (ت)، ويظهر استدراك الناسخ له في الهامش.
(6) هو عبد الرحمن بن أبي عبد الله محمد بن إسحاق بن منده بن بطه العبدي الأصبهاني، إمام، محدث، مصنّف، كان سيفاً على أهل البدع، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر. مات سنة (470هـ).
انظر: السير للذهبي (18/ 349)، ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب (3/ 28)، تكملة الإكمال لابن نقطة (1/ 304).
(7) في (ت): "في حضري وسفري".
(8) في (م): "صدقت".
(9) في (م) و (ت): "وفي" بدل قوله "أو في".
(10) ساقطة من (ت).
(11) تقدم التعريف بالخوارج (ص11).
(12) هكذا في (م) و (خ) و (ت) وفي (ط): "قرأت عليه حديثاً"، وهي هكذا في هامش (خ)، ويظهر التعديل في نسخة (ت) إلى ما في (ط).(1/28)
مُشَبِّهًا (1)، وَإِنْ كَانَ فِي الرُّؤْيَةِ سَمَّانِي سَالِمِيًّا (2)، وإن كان في الإيمان سمّاني مرجئياً (3)، (وَإِنْ كَانَ فِي الْأَعْمَالِ، سَمَّانِي قَدَرِيًّا (4)) (5)، وَإِنْ كَانَ فِي الْمَعْرِفَةِ سَمَّانِي كَرَامِيًّا (6)، وَإِنْ كَانَ فِي فَضَائِلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ سَمَّانِي نَاصِبِيًّا (7)، وإن
_________
(1) المشبهة: هم الذين يشبّهون الخالق سبحانه بالمخلوقين سواء في الذات أو الصفات، وأول صدور التشبيه من الروافض كالسبئية، والبيانية، والمغيرية، والهشامية وغيرهم. وأهل البدع يتهمون أهل السنة بالتشبيه لإثباتهم الصفات الثابتة في القرآن والسنة على ما يليق بجلاله سبحانه.
انظر: الفَرْق بين الفِرَق للبغدادي (ص170)، الملل والنحل للشهرستاني (ص103).
(2) هم المنسوبون إلى أبي عبد الله محمد بن سالم المتوفى سنة 297هـ، وابنه أبو الحسن أحمد بن محمد بن سالم، وقيل: أسسها سهل التستري، وقيل من رجالها أبو طالب المكي صاحب قوت القلوب، وعزا إليهم شيخ الإسلام ابن تيمية بعض الأقوال المحدثة في كلام الله تعالى. انظر: الفتاوى (12/ 319 ـ 320، 527)، وشذرات الذهب لابن العماد (3/ 36).
(3) المرجئة: هم الذين أخرجوا العمل عن مسمى الإيمان، فالإيمان عندهم هو معرفة الله ومحبته والإقرار بوحدانيته وترك الاستكبار عليه، ويرون أن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان، وأكثرهم على أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وكانوا يقولون لا تضرّ مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة، وقيل: إن أول من قال بالإرجاء غيلان الدمشقي، قال الشهرستاني: "والمرجئة أربعة أصناف: مرجئة الخوارج، ومرجئة القدرية، ومرجئة الجبرية، والمرجئة الخالصة". وأشهر فرق المرجئة الجهمية والأشاعرة ومرجئة الفقهاء.
انظر: الفَرْق بين الفِرَق للبغدادي (ص151)، الملل والنحل للشهرستاني (ص139 ـ 146)، مقالات الإسلاميين للأشعري (1/ 132 ـ 154)، التنبيه والرد للملطي (ص47).
(4) تقدم التعريف بهم (ص11).
(5) ما بين المعكوفين ساقط من (ت)، واستدرك في هامشها.
(6) هم أصحاب محمد بن كرام السجستاني المتوفى سنة 255هـ، وهم طوائف بلغ عددهم إلى اثنتي عشرة فرقة، ومن ضلالاتهم زعمهم أن الله تعالى جسم له حد ونهاية، وكذلك قولهم بأن الإيمان هو الإقرار باللسان فقط، دون التصديق بالقلب، ودون سائر الأعمال، وقولهم بوجوب معرفة الله بالعقل، وقولهم بالحسن والقبح العقليين، وتجويزهم عقد البيعة لإمامين في قطرين، ولابن كرام ضلالات في الفقه كقوله بصحة الصلاة في الثوب النجس، وعلى الأرض النجسة، ومع نجاسة ظاهر البدن.
انظر: الفرق بين الفرق (ص116)، الملل والنحل (ص108)، الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم (4/ 45، 204 ـ 205).
(7) النواصب من أسماء الخوارج كما مرّ (ص11)، ويطلق على من ناصب علياً ـ رضي الله عنه ـ العداء.(1/29)
كَانَ فِي فَضَائِلِ أَهْلِ الْبَيْتِ سَمَّانِي رَافِضِيًّا (1)، وَإِنْ سَكَتُّ (2) عَنْ تَفْسِيرِ آيَةٍ أَوْ حَدِيثٍ، فَلَمْ أُجِبْ فِيهِمَا [إِلَّا بِهِمَا] (3)، سَمَّانِي ظَاهِرِيًّا (4)، وَإِنْ أَجَبْتُ (5) بِغَيْرِهِمَا سَمَّانِي بَاطِنِيًّا (6)، وَإِنْ أَجَبْتُ بِتَأْوِيلٍ سَمَّانِي أَشْعَرِيًّا (7)، وَإِنْ جَحَدْتُهُمَا (8) سَمَّانِي مُعْتَزِلِيًّا (9)،
_________
(1) مضى ذكرهم (ص23).
(2) في (ر): "سئلت".
(3) ساقطة من (ر).
(4) الظاهرية: مذهب فقهي أسّسه داود بن علي الأصبهاني الظاهري المتوفى سنة 270هـ، كما يعد الإمام ابن حزم المؤسس الثاني والمقعد لهذا المذهب، ويرى أصحاب هذا المذهب أن مصدر الفقه هو النص فحسب، فلا يأخذون بالقياس، ولا الاستحسان، ولا المصالح المرسلة، قال ابن كثير عن داود الظاهري: قد كان من الفقهاء المشهورين، ولكن حصر نفسه بنفيه للقياس الصحيح، فضاق بذلك ذرعه في أماكن كثيرة من الفقه، وروى عن الإمام أحمد أنه تكلّم فيه بسبب كلامه في القرآن، وأن لفظه به مخلوق.
انظر: البداية والنهاية لابن كثير (11/ 51)، تاريخ المذاهب الإسلامية لأبي زهرة (ص544).
(5) في (خ): "أجبتهم"، وفي (ر): "أجبته" في الموضعين.
(6) هم الذين قالوا بأن لكل ظاهر باطناً، ولكل تنزيل تأويلاً، وهو من أشهر ألقاب الشيعة الإسماعيلية، وقد زعموا أن محمداً صلّى الله عليه وسلّم أوتي علم التنزيل، وعليّ رضي الله عنه أوتي علم التأويل، وقد تأوّلوا نصوص القرآن والسنّة على ما يوافق أسسهم الضالّة، لهدم الإسلام، وعقائدهم قد خالطتها الفلسفة، بل طغت عليها، ومن المؤسّسين لهذه الدعوة ميمون بن ديصان القداح ومحمد بن الحسين الملقب بدندان، ومنهم حمدان بن قرمط المنسوب إليه القرامطة.
انظر: الملل والنحل للشهرستاني (ص191)، الفَرْق بين الفِرَق (ص213)، تاريخ المذاهب الإسلامية لأبي زهرة (ص54).
(7) هم المنتسبون إلى أبي الحسن الأشعري المتوفى سنة ثلاثين وثلاثمائة ونيف، وقد أثبتوا سبعاً من الصفات، وتأوّلوا غيرها من الصفات الخبرية، وقالوا في القدر بالكسب، وفي كلام الله بأنه كلام نفسي إلى غير ذلك مما ذهبوا إليه، وقد تأثر مذهبهم بالمعتزلة من جهة وبالسلف من جهة أخرى، علماً بأن أبا الحسن الأشعري قد عاد إلى مذهب أحمد بن حنبل رحمه الله كما نصّ على ذلك في كتبه، ومن رجالهم أبو بكر الباقلاني، والغزالي، والبيضاوي، والرازي.
انظر: الملل والنحل (ص94)، تاريخ المذاهب الإسلامية (ص160)، منهج الأشاعرة في العقيدة للدكتور سفر الحوالي.
(8) في (م) و (ط): "حجدتهما".
(9) المعتزلة: هم أصحاب واصل بن عطاء الغزال، وعمرو بن عبيد بعده، وسموا معتزلة =(1/30)
وَإِنْ كَانَ فِي السُّنَنِ مِثْلَ الْقِرَاءَةِ سَمَّانِي شَفْعَوِيًّا، وَإِنْ كَانَ فِي الْقُنُوتِ سَمَّانِي حَنَفِيًّا (1)، وَإِنْ كَانَ فِي الْقُرْآنِ سَمَّانِي حَنْبَلِيًّا (2)، وَإِنْ ذكرت رجحان ما ذهب كل واحد منهم (3) إِلَيْهِ مِنَ الْأَخْبَارِ ـ إِذْ لَيْسَ فِي الْحُكْمِ وَالْحَدِيثِ مُحَابَاةٌ ـ قَالُوا: طَعَنَ [فِي تَزْكِيَتِهِمْ] (4).
ثُمَّ أعجب من ذلك أنهم يسمونني ـ فيما يقرؤون عَلَيَّ مِنْ أَحَادِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا (5) يَشْتَهُونَ مِنْ هَذِهِ الْأَسَامِي، وَمَهْمَا وَافَقْتُ بَعْضَهُمْ عَادَانِي غَيْرُهُ، وَإِنْ دَاهَنْتُ جَمَاعَتَهُمْ أَسْخَطْتُ اللَّهَ (6) تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَلَنْ يُغْنُوا عني من الله شيئاً. وأنا (7) مُسْتَمْسِكٌ (8) بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ" (9).
هَذَا تَمَامُ الْحِكَايَةِ، فَكَأَنَّهُ ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ تَكَلَّمَ عَلَى لسان الجميع، فقلما
_________
= لاعتزال واصل بن عطاء حلقة الحسن البصري بعد قوله المبتدع في مرتكب الكبيرة، وقيل لاعتزالهم المسلمين ومخالفتهم لهم في هذه القضية، ويسمون القدرية والعدلية وأهل التوحيد، ومن ضلالاتهم نفي صفات الله تعالى، ونفي القدر، والقول بخلق القرآن، ونفي رؤية الله تعالى في الآخرة، والحكم على مرتكب الكبيرة بالخلود في النار إذا مات ولم يتب، ووجوب الخروج على الإمام الظالم، إلى غير ذلك من البدع، وعندهم غلوّ وتعظيم للعقل، وهم فرق كثيرة ربت على العشرين. وقد ابتلي أهل السنة بسببهم بلاء عظيماً.
انظر: الملل والنحل بلشهرستاني (ص43)، الفَرْق بين الفِرَق للبغدادي (ص78)، تاريخ المذاهب الإسلامية لأبي زهرة (ص124)، التنبيه والرد للملطيّ (ص40)، المعتزلة وأصولهم الخمسة للدكتور عواد المعتق.
(1) وذلك لأن الأحناف يوجبون القنوت في الوتر، والواجب مرتبة عندهم بين السنّة والفرض. انظر: بدائع الصنائع للكاساني (2/ 685 ـ 688).
(2) لعلّهم يسمونه بذلك إذا جاء بدليل يقرر قول الإمام أحمد في أن القرآن كلام الله غير مخلوق، لأنها مسألة اشتهرت عنه رحمه الله.
(3) ساقطة من (ط).
(4) ساقط من (ر).
(5) في (م) و (خ): "بما".
(6) في (خ): "أسخطت عليهم الله".
(7) في (ط): "واني".
(8) في (ر): "متمسك".
(9) ذكر هذا القول للإمام عبد الرحمن بن منده الإمام الذهبي في تذكرة الحفاظ مع اختصار شيء من كلامه. انظر: التذكرة (3/ 1166 ـ 1167)، وذكرها أيضاً في السير (18/ 351)، وذكرها الإمام ابن رجب في ذيل طبقات الحنابلة (3/ 28).(1/31)
تَجِدُ عَالِمًا مَشْهُورًا، أَوْ فَاضِلًا مَذْكُورًا، إِلَّا وقد نبز (1) بِهَذِهِ الْأُمُورِ أَوْ بَعْضِهَا، لِأَنَّ الْهَوَى قَدْ يُدَاخِلُ الْمُخَالِفَ، بَلْ سَبَبُ الْخُرُوجِ عَنِ السُّنَّةِ الْجَهْلُ بِهَا، وَالْهَوَى الْمُتَّبَعُ الْغَالِبُ عَلَى أَهْلِ الْخِلَافِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ حُمِلَ عَلَى صَاحِبِ السُّنَّةِ أَنَّهُ غَيْرُ صَاحِبِهَا، وَرُجِعَ (2) بِالتَّشْنِيعِ عَلَيْهِ، وَالتَّقْبِيحِ لِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ، حَتَّى يُنْسَبَ هَذِهِ الْمَنَاسِبَ.
وَقَدْ نُقِلَ عَنْ سَيِّدِ العُبَّاد بَعْدَ الصَّحَابَةِ أُويس الْقَرَنِيِّ (3) أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ، والنهي عن المنكر لم يدع (4) لِلْمُؤْمِنِ صَدِيقًا، نَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ فَيَشْتُمُونَ أَعْرَاضَنَا، وَيَجِدُونَ على ذَلِكَ أَعْوَانًا مِنَ الْفَاسِقِينَ، حَتَّى وَاللَّهِ لَقَدْ رَمَوْنِي بِالْعَظَائِمِ، وَايْمُ اللَّهِ لَا أَدَعُ أَنْ أَقُومَ فِيهِمْ بِحَقِّهِ" (5).
فَمِنْ هَذَا الْبَابِ يَرْجِعُ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، لِأَنَّ الْمُؤَالِفَ فِيهِ ـ عَلَى وَصْفِهِ الْأَوَّلِ ـ قَلِيلٌ، فَصَارَ الْمُخَالِفُ هُوَ الكثير، فاندرست رسوم السنّة حين (6) مَدَّتِ الْبِدَعُ أَعْنَاقَهَا، فَأُشْكِلَ مَرْمَاهَا (7) عَلَى الْجُمْهُورِ، فظهر مصداق الحديث الصحيح.
وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيَّ (8) مِنَ الْإِنْكَارِ (9) مَا وَقَعَ ـ مع ما هدى الله إليه وله
_________
(1) في (ط): "نبذ".
(2) في (خ) و (ت): "روجع".
(3) هو أويس بن عامر القرني، سيد التابعين، وكان زاهداً عابداً. بشر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم به، وأوصى به أصحابه، سأله عمر أن يدعو له، لورود الخبر في فضله، واستجابة دعوته، فاستغفر له، ذهب إلى الكوفة، فلما اشتهر أمره اختفى عن الناس. قيل: توفي في صفين، وكان مع علي رضي الله عنه. انظر طبقات ابن سعد (6/ 161) حلية الأولياء لأبي نعيم (2/ 79) وصفة الصفوة لابن الجوزي (3/ 43)، تقريب التهذيب (1/ 86).
(4) في (خ) "لم يتركا" وفي (ط): "لم يدعا"، والمثبت موافق لما ذكره ابن الجوزي.
(5) رواه ابن سعد في الطبقات عن أُويس رحمه الله بلفظ أطول (6/ 165)، وأشار إلى طرف منه أبو نعيم في الحلية (2/ 83)، وذكره ابن الجوزي في صفة الصفوة بلفظ أطول من هذا (3/ 54)، وأخرجه ابن أبي الدنيا في الأمر بالمعروف (8).
(6) في (خ) و (ط): "حتى".
(7) في (م): "مراماها".
(8) ساقطة من (ت)، واستدركت في هامشها.
(9) في (ر): "ولما وقع من الإنكار علي".(1/32)
الحمد ـ لم أزل أتتبّع (1) الْبِدَعَ الَّتِي نَبَّهَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحذَّر مِنْهَا، وبيَّن (2) أَنَّهَا ضَلَالَةٌ، وَخُرُوجٌ عَنِ الْجَادَّةِ (3)، وَأَشَارَ الْعُلَمَاءُ إِلَى تَمْيِيزِهَا، وَالتَّعْرِيفِ بِجُمْلَةٍ مِنْهَا، لَعَلِّي أَجْتَنِبُهَا (4) فِيمَا اسْتَطَعْتُ، وَأَبْحَثُ عَنِ السُّنَنِ (5) الَّتِي كَادَتْ تُطْفِئُ نُورَهَا تِلْكَ الْمُحْدَثَاتُ، لَعَلِّي أَجْلُو بِالْعَمَلِ سَنَاهَا (6)، وأُعدّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَنْ أَحْيَاهَا؛ إِذْ مَا مِنْ بِدْعَةٍ تُحْدَثُ إِلَّا وَيَمُوتُ مِنَ السُّنَنِ مَا هُوَ فِي مُقَابَلَتِهَا، حَسْبَمَا جَاءَ عَنِ السلف في ذلك.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قَالَ: "مَا يَأْتِي عَلَى النَّاسِ مِنْ عَامٍ، إِلَّا أَحْدَثُوا فِيهِ بِدْعَةً، وَأَمَاتُوا فِيهِ سُنَّةً، حتى تحيا البدع (7)، وَتَمُوتَ السُّنَنُ" (8).
وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ: "لَا يُحْدِثُ رَجُلٌ (9) بِدْعَةً إِلَّا تَرَكَ مِنَ السُّنَّةِ مَا هو خيرٌ منها" (10).
وعن لقمان (عن) (11) أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ (12) أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: "مَا
_________
(1) في (م) و (ر): "أتبع".
(2) في (م): "وأبين".
(3) الجادة معظم الطريق، الجمع جواد. الصحاح للجوهري (2/ 452).
(4) في (م): "احتسبها".
(5) في (خ): "وأبحث عنها عن السنن".
(6) السنا مقصور: ضوء البرق. الصحاح (6/ 2383).
(7) في (ط): "البدعة".
(8) رواه عن ابن عباس الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها، باب تغير البدع (ص45 ـ 46)، والإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى "1/ 178، 350)، والإمام محمد بن نصر في السنة (ص32)، ورواه الإمام اللالكائي في أصول الاعتقاد (1/ 92). وعزاه الهيثمي في مجمع الزوائد إلى الطبراني في الكبير، وقال: رجاله موثقون (1/ 193)، وذكره الطرطوشي في الحوادث والبدع (ص117).
(9) في (ر): "الرجل".
(10) أخرجه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها، باب تغير البدع، عن خلاس بن عمرو يرفعه (ص45)، وروى الإمام محمد بن نصر المروزي قريباً منه مرفوعاً في كتاب السنة، وضعف المحقق سنده (ص32).
(11) في جميع النسخ: "بن"، وهو خطأ، والصواب المثبت كما في مصادر الأثر.
(12) هو عائذ الله بن عبد الله الخولاني، ولد في حياة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يوم حنين، وسمع من كبار الصحابة كأبي ذر وحذيفة وأبي الدرداء، تولّى القضاء بدمشق، وكان عالم الشام بعد أبي الدرداء. =(1/33)
أحدثت أمة في دينها بدعة، إلا رفع بها عنهم (1) سنة" (2).
وعن حسان بن عطية (3) قَالَ: "مَا أَحْدَثَ قَوْمٌ بِدْعَةً فِي دِينِهِمْ إِلَّا نَزَعَ اللَّهُ (4) مِنْ سُنَّتِهِمْ مِثْلَهَا، ثُمَّ لَمْ يُعِدْهَا إِلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" (5)، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَ فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ مُشَاهَدٌ مَعْلُومٌ حَسْبَمَا يَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شاء الله (6).
وَجَاءَ مِنَ التَّرْغِيبِ فِي إِحْيَاءِ السُّنَنِ مَا جَاءَ، فَقَدْ خرَّج ابْنُ وَهْبٍ (7) حَدِيثًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بَعْدِي، فَإِنَّ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلَ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنَ النَّاسِ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ (8) من أجورهم
_________
= انظر: تقريب التهذيب لابن حجر (1/ 390)، طبقات ابن سعد (7/ 448)، البداية والنهاية (9/ 36)، الكاشف للذهبي (2/ 52).
(1) في (ت): "عنهم بها".
(2) رواه ابن وضاح في البدع والنهي عنها، باب تغير البدع عن أبي إدريس بلفظ أطول وهو: "لأن أسمع بناحية المسجد بنار تحترق أحب إليّ من أن أسمع فيه ببدعة ليس لها مغير، وما أحدثت أمة .. وذكره". وروى الإمام ابن نصر المروزي في السنة الشطر الأول من الأثر دون الثاني (ص32).
(3) هو الإمام الحجة أبو بكر حسان بن عطية المحاربي، مولاهم الدمشقي، ثقة، فقيه، عابد، نبيل. روى عن أبي أمامة وسعيد بن المسيب، وروى عنه الأوزاعي وغيره، قال الأوزاعي: ما رأيت أحداً أكثر عملاً في الخير من حسان بن عطية، وقيل: كان من أهل بيروت، قال الذهبي: قال يحيى بن معين: كان قدرياً، ثم قال: قلت لعله رجع وتاب. بقي إلى حدود سنة 130هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي (5/ 466)، تقريب التهذيب لابن حجر (1/ 162)، الكاشف للذهبي (1/ 157)، حلية الأولياء (6/ 70).
(4) في (م): "إلا نزع من سنتهم" دون ذكر لفظ الجلالة.
(5) رواه عن حسان بن عطية الإمام الدارمي في سننه (1/ 58) برقم (98)، وأبو نعيم في الحلية (6/ 73)، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 93)، والإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها، باب تغير البدع (ص44)، وابن بطة في الإبانة الكبرى (1/ 351)، وذكره الخطيب التبريزي في مشكاة المصابيح، وصحح الألباني سنده (1/ 66).
(6) سيأتي الكلام على هذه النقطة في الباب الثاني (ص219 ـ 221).
(7) تقدمت ترجمته رحمه الله (ص4).
(8) ساقطة من (م)، وكتبت في (ت) فوق السطر.(1/34)
شَيْئًا، وَمَنِ ابْتَدَعَ بِدْعَةً ضَلَالَةً لَا يَرْضَاهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَإِنَّ عَلَيْهِ إِثْمُ مَنْ عَمِلَ بِهَا لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِ النَّاسِ شَيْئًا"، وخرَّجه (1) التِّرْمِذِيُّ [بِاخْتِلَافٍ فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ مَعَ اتِّفَاقِ الْمَعْنَى، وَقَالَ فِيهِ: حَدِيثٌ حَسَنٌ (2).
وفي الترمذي] (3) عن أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا بُنَيَّ إِنْ قَدَرْتَ أَنْ (4) تُصْبِحَ وَتُمْسِيَ لَيْسَ (5) فِي قَلْبِكَ غِشٌّ لِأَحَدٍ، فَافْعَلْ"، ثُمَّ قَالَ لِي: "يَا بُنَيَّ وَذَلِكَ مِنْ سُنَّتِي، وَمَنْ أَحْيَا سُنَّتِي فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَحَبَّنِي كَانَ معي في الجنّة" حديث حسن (6).
_________
(1) في (ط): "وأخرجه".
(2) رواه الإمام الترمذي في سننه، كتاب العلم برقم (2677)، عن كثير بن عبد الله عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وسلّم قال لبلال بن الحجارث: "اعلم: قال: ما أَعْلَمُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: اعْلَمْ يَا بلال، قال: ما أَعْلَمُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: إِنَّهُ مَنْ أحيا سنة من سنتي ... الحديث"، وقال: حديث حسن (5/ 44)، وأخرجه ابن ماجه في مقدمة سننه عن كثير بن عبد الله كذلك (1/ 76)، ورواه ابن وضاح في البدع والنهي عنها، باب تغير البدع (ص40)، والبيهقي في الاعتقاد والهداية، باب الاعتصام بالسنة (ص153)، والبغوي في شرح السنة، وقال: هذا حديث حسن (1/ 233)، وروى جزءاً منه ابن أبي عاصم في السنة برقم (42)، كلّهم عن كثير بن عبد الله، وذكره المنذري في الترغيب والترهيب، وعزاه لابن ماجه والترمذي (وذكر تحسين الترمذي، وقال: بل كثير بن عبد الله متروك كما تقدم)، ولكن للحديث شواهد (1/ 88)، وأورده الخطيب في المشكاة، وضعّفه الألباني بسبب كثير بن عبد الله، ورد تحسين الترمذي، ثم قال: كيف لا، وقد قال الشافعي وأبو داود في كثير هذا: "ركن من أركان الكذب"، وقال ابن حبان: "له عن أبيه عن جده نسخة موضوعة"، ولهذا لا يعتمد العلماء على تصحيح الترمذي كما قال الذهبي. انظر: مشكاة المصابيح (1/ 60).
(3) ما بين المعكوفتين سقط من (ر).
(4) ساقطة من (ت).
(5) في (ت): "وليس".
(6) رواه الإمام الترمذي في كتاب العلم من سننه، باب ما جاء في الأخذ بالسنة، واجتناب البدع، وفي سنده علي بن زيد بن جدعان ضعيف كما في التقريب (2/ 37)، وأورده التبريزي في المشكاة وعزاه للترمذي، وضعّفه الألباني كما في تعليقه على الكتاب بسبب علي بن زيد (1/ 62)، وروى الإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى عن أنس قوله صلّى الله عليه وسلّم: "من أحيا سنتي فقد أحبّني، ومن أحبّني كان معي في الجنة" (1/ 211)، وكذلك رواه اللالكائي في أصول الاعتقاد (1/ 53)، ولا يخلو إسناد كلٍّ منهما من مجاهيل، وأورده الشيخ الألباني في ضعيف الجامع وضعفه. وهو برقم (5360)، (ص773).(1/35)
فَرَجَوْتُ بِالنَّظَرِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ (1) الِانْتِظَامَ فِي سلك من أحيا سنّة، وأمات بدعة.
وَعَلَى طُولِ (2) الْعَهْدِ (3)، وَدَوَامِ النَّظَرِ اجْتَمَعَ لِي في البدع والسنن أصول قرّرت (4) أحكامها الشريعة، [وَفُرُوعٌ طَالَتْ أَفْنَانُهَا (5)، لَكِنَّهَا تَنْتَظِمُهَا تِلْكَ الْأُصُولُ، وَقَلَّمَا تُوجَدُ عَلَى التَّرْتِيبِ الَّذِي سَنَحَ فِي الْخَاطِرِ، فَمَالَتْ إِلَى بَثِّهَا النَّفْسُ، وَرَأَتْ أَنَّهُ مِنَ الْأَكِيدِ الطَّلَبِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ رَفْعِ الِالْتِبَاسِ النَّاشِئِ بَيْنَ السُّنَنِ وَالْبِدَعِ (6)، لِأَنَّهُ لَمَّا كَثُرَتِ الْبِدَعُ وعمَّ ضَرَرُهَا، وَاسْتَطَارَ شَرَرُهَا، وَدَامَ الْإِكْبَابُ (7) عَلَى الْعَمَلِ بِهَا، وَالسُّكُوتُ (8) مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ عَنِ الْإِنْكَارِ لَهَا، وَخَلَفَتْ بَعْدَهُمْ خُلُوفٌ جَهِلُوا (9) أَوْ غَفَلُوا عَنِ الْقِيَامِ بِفَرْضِ الْقِيَامِ فِيهَا، صَارَتْ كَأَنَّهَا سُنَنٌ مُقَرَّرَاتٌ، وَشَرَائِعُ مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ (10) مُحَرَّرَاتٌ، فَاخْتَلَطَ الْمَشْرُوعُ بِغَيْرِهِ، فَعَادَ الرَّاجِعُ إِلَى مَحْضِ السُّنَّةِ كَالْخَارِجِ عَنْهَا كَمَا تَقَدَّمَ، فَالْتَبَسَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، فَتَأَكَّدَ الْوُجُوبُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ عِنْدَهُ فِيهَا عِلْمٌ، وَقَلَّمَا صُنِّفَ فِيهَا عَلَى الْخُصُوصِ تَصْنِيفٌ، وَمَا صُنِّفَ فِيهَا فَغَيْرُ كافٍ فِي هَذِهِ الْمَوَاقِفِ، مَعَ أَنَّ الدَّاخِلَ فِي هَذَا الْأَمْرِ الْيَوْمَ فَاقِدُ الْمُسَاعِدِ، عَدِيمُ المعين، فالموالي له (11) يَخْلُدْ بِهِ إِلَى الْأَرْضِ، وَيُلْقِي لَهُ بِالْيَدِ إِلَى الْعَجْزِ عَنْ بَثِّ الْحَقِّ، بَعْدَ رُسُوخِ العوائد في القلوب، والمعادي (12) يرميه (13) بالدردبيس (14)، وَيَرُومُ (15) أَخْذَهُ بِالْعَذَابِ الْبَئِيسِ، لِأَنَّهُ يَرُدُّ (16) عَوَائِدَهُ
_________
(1) في (خ) و (ت): "الموضوع".
(2) في (ر): "طوال".
(3) في (خ): "العمر".
(4) في (ر): "قدرت".
(5) قال في اللسان: والفَنَن الغصن، وقيل: الغصن القضيب يعني المقضوب، والفنن ما تشعب منه، والجمع أفنان، انظر: لسان العرب لابن منظور (13/ 327).
(6) ساقطة من (م) و (ت) و (غ)، وأثبتت في هامش (ت).
(7) ساقطة من (غ).
(8) ما بين المعكوفين ساقط من (ر).
(9) في (ر): "ذهلوا".
(10) في (غ) و (ر): "الشريعة".
(11) ساقطة من (م).
(12) ساقطة من (ت).
(13) في (ط): "يريسه".
(14) في (ط): "الأردبيس"، والصواب المثبت. والدردبيس: الداهية. انظر: الصحاح (3/ 928).
(15) في (ر): "ويدوم".
(16) لعل أصلها "يرى".(1/36)
الرَّاسِخَةَ فِي الْقُلُوبِ، الْمُتَدَاوَلَةَ فِي (الْأَعْمَالِ) (1)، دِينًا يُتَعَبَّدُ بِهِ، وَشَرِيعَةً يُسْلَكُ عَلَيْهَا، لَا حُجَّةَ له عليها (2) (إِلَّا عَمَلُ (3)) (4) الْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ، مَعَ بَعْضِ الْأَشْيَاخِ المعلمين (5)، كَانُوا مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ أَمْ لَا، وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى أَنَّهُمْ عِنْدَ موافقتهم للآباء والأشياخ مخالفون للسلف الصالح.
فالمتعرض لمثل هذا الأمر بالقول (6) يَنْحُو نَحْوَ (7) عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْعَمَلِ، حَيْثُ قَالَ: "أَلَا وَإِنِّي أُعَالِجُ أَمْرًا لَا يُعِينُ عَلَيْهِ إِلَّا اللَّهُ، قَدْ فَنِيَ عَلَيْهِ الْكَبِيرُ، وكَبُر عَلَيْهِ الصَّغِيرُ، وَفَصُحَ عَلَيْهِ الْأَعْجَمِيُّ، وَهَاجَرَ عَلَيْهِ الْأَعْرَابِيُّ، حَتَّى حَسِبُوهُ دِينًا لَا يَرَوْنَ الْحَقَّ غَيْرَهُ" (8).
وَكَذَلِكَ مَا نَحْنُ (9) بِصَدَدِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، غَيْرَ أَنَّهُ أَمْرٌ لَا سَبِيلَ إِلَى إِهْمَالِهِ وَلَا يسع أحداً ممن له مُنَّة فيه (10) إِلَّا الْأَخْذُ بِالْحَزْمِ وَالْعَزْمِ فِي بَثِّهِ، بَعْدَ تَحْصِيلِهِ عَلَى كَمَالِهِ، وَإِنْ كَرِهَ الْمُخَالِفُ فَكَرَاهِيَتُهُ لَا حُجَّةَ فِيهَا عَلَى الْحَقِّ إِلَّا يُرَفْعُ مناره، ولا تخسف أَنْوَارُهُ (11)، فَقَدْ خرَّج أَبُو الطَّاهِرِ السَّلَفِيُّ (12) بِسَنَدِهِ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: "يَا أَبَا هُرَيْرَةَ عَلِّمِ النَّاسَ الْقُرْآنَ وتعلَّمه، فَإِنَّكَ إِنْ مِتَّ وَأَنْتَ كَذَلِكَ زَارَتِ الْمَلَائِكَةُ قَبْرَكَ كَمَا يُزَارُ الْبَيْتُ الْعَتِيقُ، وعلِّم النَّاسَ سُنَّتِي وَإِنْ كَرِهُوا ذَلِكَ، وَإِنْ أَحْبَبْتَ أَلَّا تُوقَفَ عَلَى الصِّرَاطِ طرفة
_________
(1) في (م) و (ت) و (خ): "العمال"، والمثبت هو ما صححت به الكلمة في هامش (خ)، وهي كذلك في (ط).
(2) ساقطة من (ط).
(3) ساقطة من (غ).
(4) ما بين المعكوفين ساقطة من (م) وأصل (خ) و (ت)، ومثبت في (ط) وهامش (خ) و (ت).
(5) هكذا في (ر)، وفي بقية النسخ: "العالمين".
(6) في (غ): "هذا الأمر بالقول ينمو".
(7) النحو: القصد والطريق. يقال: نحا نحوه أي قصد قصده. الصحاح (6/ 253).
(8) انظر: سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم (ص42).
(9) ساقطة من أصل (ت) ومثبتة في هامشها.
(10) ساقط من جميع النسخ عدا (ر).
(11) هكذا في جميع النسخ الخطية، وفي (ط) وهامش (خ): "ولا تكشف وتجلي أنواره" وهي أصوب.
(12) هو أحمد بن محمد بن إبراهيم سلفة الحافظ الكبير المعمر، أبو طاهر السلفي الأصبهاني، وكان يلقب بصدر الدين وكان شافعي المذهب، أخذ اللغة عن الخطيب التبريزي، وسمع الحديث الكثير، وقد نزل الإسكندرية، وبنيت له فيها مدرسة تعرف باسمه، وأمّا أماليه وكتبه وتعاليقه فكثيرة جداً. توفي سنة 576هـ.
انظر: البداية والنهاية (12/ 328)، طبقات الشافعية (4/ 230)، شذرات الذهب (4/ 27).(1/37)
عَيْنٍ حَتَّى تَدْخُلَ الْجَنَّةَ فَلَا تُحْدِثْ فِي دِينِ اللَّهِ حَدَثًا بِرَأْيِكَ" (1).
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْقَطَّانِ (2): "وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ كُلَّهُ، مِنْ إِقْرَاءِ كِتَابِ اللَّهِ، وَالتَّحْدِيثِ بِالسُّنَّةِ، أَحَبَّ النَّاسُ أَمْ كَرِهُوا، وَتَرْكِ الْحَدَثِ، حَتَّى إِنَّهُ (3) كَانَ لَا يَتَأَوَّلُ شَيْئًا مِمَّا رَوَى، تَتْمِيمًا لِلسَّلَامَةِ مِنَ الْخَطَأِ".
عَلَى أَنَّ أَبَا الْعَرَبِ التَّمِيمِيِّ (4) حَكَى عَنِ ابْنِ فَرُّوخَ (5) أنه كتب إلى
_________
(1) في (ر): "تدخلوا".
(2) أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد (4/ 380)، وعزاه الألباني في السلسلة الضعيفة (1/ 285) لأبي الفرج ابن مسلمة في مجلس من الأمالي (120/ 2)، وإلى السلفي في الأربعين (20/ 1)، وطرق أربعين السلفي لابن عساكر (54/ 1 ـ 2)، وقد أورده ابن الجوزي في الموضوعات (1/ 264)، وقال: لا يصح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد غطى بعض الرواة عورة عواره بأن قال: حدثنا أبو همام القرشي وهذا عندي من أعظم الخطأ أن يهرج بكذاب، واسمه محمد بن مجيب، قال يحيى بن معين: كذاب عدوّ الله. وقال أبو حاتم الرازي: ذاهب الحديث، وتعقبه السيوطي في اللآلئ المصنوعة بقوله: قلت له طريق آخر. قال أبو نعيم: حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر حدثنا محمد بن عبد الرحيم بن شبيب عن محمد بن قدامة المصيصي عن جرير عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة. انظر: الحلية (1/ 222). ثم قال الألباني معقباً على هذا السند: وأنا أتّهم به ابن شبيب هذا، فإن رجال إسناده كلهم ثقات غيره، واتّهمه بالجهالة. وقد حكم عليه الألباني بالوضع كما في السلسلة الضعيفة، وله كلام جيد في هذا الموضع (1/ 285).
(3) لم يتبين لي المراد بابن القطان هنا.
(4) في (ت): "إن"، وسقطت من (ر).
(5) هو محمد بن أحمد بن تميم بن تمام التميمي، سمع من جماعة أصحاب سحنون، وأكثر رجال أفريقية. وكان رجلاً صالحاً ثقة، عالماً بالسنن والرجال، كثير الكتب، حسن التقييد. ألّف طبقات علماء أفريقية، وكتاب عباد أفريقية، ومسند حديث مالك، وكتاب التاريخ. توفي سنة 333هـ.
انظر: ترتيب المدارك للقاضي عياض (2/ 334)، سير أعلام النبلاء (15/ 394).
(6) هو أبو محمد عبد الله بن فروخ الفارسي، فقيه القيروان في وقته، كان مولده سنة 115هـ، ثم انتقل إلى أفريقية فسكن القيروان وأوطنها، ثم رحل إلى المشرق ولقي جماعة من العلماء منهم مالك وأبو حنيفة والثوري، وكان اعتماده في الحديث والفقه على مالك بن أنس وبصحبته اشتهر، وكان فقيهاً ورعاً رحمه الله. توفي بمصر سنة 175هـ.
انظر: ترتيب المدارك للقاضي عياض (1/ 339)، الكاشف للذهبي (2/ 105)، تقريب التهذيب لابن حجر (1/ 440).(1/38)
مالك بن أنس (رضي الله عنه) (1): أن بلدنا كثير البدع، وأنه ألف لهم (2) كَلَامًا (3) فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ يَقُولُ لَهُ: "إِنْ ظَنَنْتَ ذَلِكَ بِنَفْسِكَ خِفْتُ أَنْ تَزِلَّ فَتَهْلِكَ، لَا يَرُدُّ عَلَيْهِمْ إِلَّا مَنْ كَانَ ضَابِطًا عَارِفًا بِمَا يَقُولُ لَهُمْ لَا يَقْدِرُونَ (4) أَنْ يُعَرِّجُوا عَلَيْهِ، فَهَذَا لَا بَأْسَ بِهِ وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَلِّمَهُمْ فَيُخْطِئَ فَيَمْضُوا عَلَى خَطَئِهِ أَوْ يَظْفَرُوا مِنْهُ بِشَيْءٍ، فَيَطْغَوْا وَيَزْدَادُوا تَمَادِيًا عَلَى ذَلِكَ" (5)، انْتَهَى (6).
وَهَذَا الْكَلَامُ يَقْضِي لِمِثْلِي بِالْإِحْجَامِ دون الإقدام، وشياع هذا المنكر (7)، وَفُشُوُّ الْعَمَلِ بِهِ، وَتَظَاهَرُ أَصْحَابِهِ يَقْضِي لِمَنْ لَهُ (بِهَذَا (8) الْمَقَامِ مُنَّة) (9) بِالْإِقْدَامِ دُونَ الْإِحْجَامِ؛ لِأَنَّ الْبِدَعَ قَدْ عمَّت، وَجَرَتْ أَفْرَاسُهَا مِنْ غَيْرِ مُغَيِّرٍ (10) مِلْءَ أَعِنَّتِهَا.
وَحَكَى (ابْنُ وَضَّاحٍ (11) عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ: أَنَّ) (12) أَسَدَ بْنَ مُوسَى (13)
_________
(1) ساقطة من (غ).
(2) ساقطة من (ط).
(3) في (ت) وهامش (خ): "كتاباً".
(4) في (م) و (ت): "يقدروا".
(5) انظر: طبقات علماء إفريقية (ص110)، وترتيب المدارك عند ترجمة ابن فروخ (1/ 345)، ورياض النفوس (1/ 118).
(6) ساقطة من (ط).
(7) في (م) و (ط): "النكر".
(8) في (م) و (خ): "بها"، وفي (ر): "في هذا".
(9) ساقطة من (غ).
(10) في (ر): "مغبز".
(11) هو الإمام الحافظ، محدث الأندلس، أبو عبد الله محمد بن وضاح بن بزيع المرواني، مولى صاحب الأندلس عبد الرحمن بن معاوية الداخل، ولد سنة 199هـ، كان عالماً بالحديث بصيراً بطرقه وعلله، ورعاً زاهداً، صبوراً على نشر العلم، رحل إلى المشرق وطلب الحديث، نفع الله به أهل الأندلس. ومن كتبه: البدع والنهي عنها، والقطعان، والعباد والعوابد. توفي سنة 287هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء (13/ 445)، الأعلام للزركلي (7/ 358)، تذكرة الحفاظ (2/ 646)، لسان الميزان (5/ 416).
(12) ما بين المعكوفين بياض في (غ).
(13) هو أسد بن موسى بن إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك بن مروان الأموي، يقال له أسد السنة، روى عن ابن أبي ذئب والليث بن سعد وشعبة، وكانت ولادته سنة 132هـ، سنة زوال دولة آبائه بني أمية، وقد طلب العلم، ولقي الكبار، ورحل وجمع وصنّف، وله كتاب الزهد وغيره، وكان حريصاً على السنة، شديداً على أهل البدع، عاش ثمانين سنة ثم توفي سنة 212هـ.=(1/39)
كَتَبَ إِلَى أَسَدِ بْنِ الْفُرَاتِ (1): "اعْلَمْ يَا أَخِي أَنَّ مَا حَمَلَنِي عَلَى الكَتْب إِلَيْكَ مَا أَنْكَرَ (أَهْلُ بِلَادِكَ مِنْ صَالِحِ مَا) (2) أَعْطَاكَ اللَّهُ مِنْ إِنْصَافِكَ النَّاسَ، وَحُسْنِ حَالِكَ مِمَّا أَظْهَرْتَ مِنَ السُّنَّةِ، وَعَيْبِكَ (لِأَهْلِ الْبِدَعِ، (وَكَثْرَةِ ذِكْرِكَ لَهُمْ) (3)) (4)، وَطَعْنِكَ عَلَيْهِمْ، فَقَمَعَهُمُ اللَّهُ بِكَ (5)، وَشَدَّ بِكَ ظَهَرَ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَقَوَّاكَ عَلَيْهِمْ بِإِظْهَارِ عَيْبِهِمْ، وَالطَّعْنِ عَلَيْهِمْ، وأذلَّهم اللَّهُ بذلك، وصاروا ببدعتهم مستترين. فأبشر أي أَخِي (6) بِثَوَابِ اللَّهِ (7)، وَاعْتَدَّ بِهِ مِنْ أَفْضَلِ حَسَنَاتِكَ مِنَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ. وَأَيْنَ تَقَعُ هَذِهِ الْأَعْمَالُ مِنْ إِقَامَةِ كِتَابِ اللَّهِ، وإحياء سنّة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! وَقَدْ قَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: "من أَحْيَا شَيْئًا مِنْ سُنَّتِي كُنْتُ أَنَا وَهُوَ فِي الْجَنَّةِ كَهَاتَيْنِ" وَضَمَّ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ (8)، وَقَالَ: "أَيُّمَا داعٍ (9) دَعَا إِلَى هُدًى (10) فَاتُّبِعَ عَلَيْهِ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ تَبِعَهُ إِلَى يوم القيامة" (11).
_________
= انظر: سير أعلام النبلاء (10/ 162)، تهذيب التهذيب لابن حجر (1/ 260)، الكاشف للذهبي (1/ 66).
(1) هو الإمام العلامة، القاضي الأمير، مقدم المجاهدين، أبو عبد الله الحراني ثم المغربي، ولد بحرّان سنة 144هـ وكان أبوه الفرات بن سنان من أعيان الجند. روى أسد عن مالك الموطأ، وغلب عليه علم الرأي، وكتب علم أبي حنيفة وأخذ عنه شيخه أبو يوسف القاضي، وحصلت بأفريقية له رياسة وإمرة، وأخذوا عنه، وتفقهوا به، توفي بعدما افتتح بلداً من جزيرة صقلية سنة 213هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء (10/ 220)، ترتيب المدارك (2/ 465)، وفيات الأعيان (3/ 182)، العبر (1/ 364)، الإحاطة في أخبار غرناطة (1/ 422).
(2) بياض في (غ).
(3) ما بين القوسين ساقط من (ت).
(4) ما بين المعقوفتين بياض في (غ).
(5) في (ر): "لك".
(6) في (خ) و (ط): "يا أخي"، وفي (ت): "أيا أخي"، والمثبت هو ما في (م) و (غ)، وكذلك في البدع والنهي عنها لابن وضاح.
(7) في (غ): "ذلك"، ثم بياض إلى قوله: "والحج".
(8) مضى تخريجه مع اختلاف في اللفظ، ولم أجده بهذا اللفظ تماماً. انظر (ص34).
(9) ساقطة من (ت).
(10) في (ط): "هذه".
(11) رواه ابن ماجه في مقدمة سننه عن أنس، ولفظه: "أيما داع دعا إلى ضلالة فاتبع، فإن له مثل أوزار من اتّبعه، ولا ينقص من أوزارهم شيئاً، وأيما داع دعا إلى هدى فاتبع، فإن له مثل أجور من اتّبعه، ولا ينقص من أجورهم شيئاً" (1/ 75)، وفي سنده =(1/40)
فَمَنْ يُدْرِكُ ـ يَا أَخِي ـ هَذَا بِشَيْءٍ مِنْ عمله؟!
وذكر أيضاً: "إن (1) عِنْدَ كُلِّ بِدْعَةٍ كِيدَ بِهَا الْإِسْلَامُ وَلِيًّا لِلَّهِ يَذُبُّ عَنْهَا، وَيَنْطِقُ بِعَلَامَتِهَا" (2). فَاغْتَنِمْ يَا أَخِي هَذَا الْفَضْلَ وكُنْ مِنْ أَهْلِهِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ فَأَوْصَاهُ، وَقَالَ: "لِأَنْ يهدي الله بك رجلاً (3) خَيْرٌ لَكَ مِنْ كَذَا وَكَذَا" (4). وَأَعْظَمَ الْقَوْلَ فِيهِ، فَاغْتَنِمْ ذَلِكَ، وَادْعُ إِلَى السُّنَّةِ حَتَّى يَكُونَ لَكَ فِي ذَلِكَ أُلفة وَجَمَاعَةٌ يَقُومُونَ مَقَامَكَ إِنْ حَدَثَ بِكَ حَدَثٌ (5)، فَيَكُونُونَ أَئِمَّةً بعدك، فيكون لك ثواب ذلك إلى يوم القيامة كما جاء الأثر (6).
_________
= سعد بن سنان. قال عنه ابن حجر في التقريب: صدوق له أفراد. تقريب التهذيب (1/ 287).
ويشهد للحديث حديث أبي هريرة في مسلم وغيره بلفظ: "من دعا إلى هدى كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً". صحيح مسلم بشرح النووي (8/ 62)، وقد صحح الألباني الحديث كما في صحيح الجامع برقم (2712)، (1/ 526).
(1) في (غ): "إن لله".
(2) روى هذا الأثر الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها عن ابن مسعود وزاد: "فاغتنموا حضور تلك المواطن وتوكّلوا على الله" (ص11)، ورواه أبو نعيم في الحلية عن أبي هريرة مرفوعاً، وقال: تفرّد به عبد الغفار عن سعيد وعنه عباد. انظر: الحلية (10/ 400)، وانظر: الضعفاء للعقيلي (3/ 100)، وراجع السلسلة الضعيفة للألباني (869).
(3) في (ط): "رجلاً واحداً".
(4) روى حديث معاذ رضي الله عنه الإمام أحمد في المسند بلفظ: "يا معاذ إن يهدي الله على يديك رجلاً من أهل الشرك خير لك من أن يكون لك حُمُر النعم" (5/ 238). وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد عن معاذ، باب فيمن يسلم على يديه أحد. وقال: رواه أحمد ورجاله ثقات، إلا أن دويد بن نافع لم يدرك معاذاً (5/ 334). ولكن قد صحّ نحوه عن سهل بن سعد وهو في الصحيحين، وذلك في قصة فتح خيبر عندما أعطى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عليّاً رضي الله عنه الراية، وكان مما قاله له: "فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً خير لك من أن يكون لك حمر النعم". انظر فتح الباري، كتاب الجهاد، باب فضل من أسلم على يديه رجل (6/ 144)، وصحيح مسلم بشرح النووي في كتاب فضائل الصحابة (15/ 178)، ومسند أحمد (5/ 333).
(5) في (غ): "حادث".
(6) مرّ قريباً في نفس النص.(1/41)
فاعمل على بصيرة، ونية (1) وحسبة (2)، فَيَرُدُّ اللَّهُ بِكَ الْمُبْتَدِعَ وَالْمَفْتُونَ الزَّائِغَ الْحَائِرَ، فَتَكُونُ خَلَفًا مِنْ نَبِيِّكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأحيِ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ، فَإِنَّكَ لَنْ تَلْقَى اللَّهَ بِعَمَلٍ يُشْبِهُهُ" (3).
انْتَهَى مَا قَصَدْتُ إِيرَادَهُ مِنْ كَلَامِ أَسَدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ مِمَّا يُقَوِّي (4) جَانِبَ الْإِقْدَامِ، مَعَ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ فَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ كَلَامِهِ فِي خُطْبَتِهِ، أَنْ قَالَ: "وَاللَّهِ إِنِّي (5) لَوْلَا أَنْ أُنْعِشَ (6) سُنَّةً قَدْ أُمِيتَتْ، أو أميت (7) بدعة قد أحييت، ما أحببت (8) أَنْ أَعِيشَ فِيكُمْ فُوَاقاً (9) " (10).
وَخَرَّجَ ابْنُ وَضَّاحٍ في كتاب القطعان (11) من حديث (12) الْأَوْزَاعِيِّ (13) أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنِ الْحَسَنِ، أَنَّهُ قَالَ: "لَنْ يَزَالَ لِلَّهِ نُصَحَاءُ فِي الْأَرْضِ مِنْ عِبَادِهِ يَعْرِضُونَ أَعْمَالَ الْعِبَادَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ فَإِذَا وَافَقُوهُ حَمِدُوا اللَّهَ، وَإِذَا خَالَفُوهُ عَرَفُوا بِكِتَابِ اللَّهِ ضَلَالَةَ مَنْ ضَلَّ، وَهُدَى مَنِ اهتدى، فأولئك خلفاء الله" (14).
_________
(1) ساقطة من (غ).
(2) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "حسنة".
(3) أورد هذا النص عن أسد بن موسى الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص12).
(4) في (ت): "مقوي" بدل قوله "مما يقوي".
(5) ساقطة من (ت).
(6) أنعش أي أرفع. ونعشه الله أي رفعه. الصحاح للجوهري (3/ 1021).
(7) في (خ) و (ط) و (ر): "أو أن أميت".
(8) ساقطة من (م) و (خ) و (ت).
(9) الفواق والفواق ما بين الحلبتين من الوقت، لأنها تحلب ثم تترك سويعة يرضعها الفصيل لتدر، ثم تحلب. يقال: ما أقام عنده إلا فواقاً. الصحاح للجوهري (4/ 1546).
(10) رواه ابن سعد في الطبقات عنه (5/ 344)، وأبو نعيم في الحلية عند ترجمة عمر بن عبد العزيز ضمن خطبة له (5/ 297)، وابن نصر المروزي في السنة بلفظ أطول (ص13)، وابن عبد الحكم في سيرة عمر بن عبد العزيز (ص42).
(11) هو كتاب لابن وضاح في الحديث. انظر ترجمته (ص39).
(12) في جميع النسخ: "وحديث"، والمثبت ما في (غ) و (ر).
(13) تقدمت ترجمته (ص18).
(14) لم أعثر على تخريجه لعدم وجود كتاب القطعان.(1/42)
وَفِيهِ عَنْ سُفْيَانَ (1) قَالَ: "اسْلُكُوا سَبِيلَ الْحَقِّ، ولا تستوحشوا من قلة أهله" (2).
فوقع التردد (3) بَيْنَ النَّظَرَيْنِ.
ثُمَّ إِنِّي أَخَذْتُ فِي ذَلِكَ مَعَ بَعْضِ الْإِخْوَانِ الَّذِينَ أَحْلَلْتُهُمْ مِنْ قَلْبِي مَحَلَّ السُّوَيْدَاءِ (4)، وَقَامُوا لِي فِي عَامَّةِ أَدْوَاءِ نَفْسِي مَقَامَ الدَّوَاءِ، فَرَأَوْا أَنَّهُ مِنَ الْعَمَلِ الَّذِي لَا شُبْهَةَ فِي طَلَبِ الشَّرْعِ نَشْرُهُ، وَلَا إِشْكَالَ فِي أَنَّهُ بِحَسَبِ الْوَقْتِ مِنْ أَوْجَبِ الْوَاجِبَاتِ، فَاسْتَخَرْتُ اللَّهَ تَعَالَى فِي وَضْعِ كِتَابٍ يَشْتَمِلُ عَلَى بَيَانِ الْبِدَعِ وَأَحْكَامِهَا، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الْمَسَائِلِ أُصُولًا وَفُرُوعًا، وَسَمَّيْتُهُ (5) بالاعتصام (6)، وَاللَّهَ أَسْأَلُ (7) أَنْ يَجْعَلَهُ عَمَلًا خَالِصًا، وَيَجْعَلَ ظِلَّ الْفَائِدَةِ بِهِ مَمْدُودًا لَا قَالِصًا، وَالْأَجْرَ عَلَى الْعَنَاءِ فِيهِ كَامِلًا لَا نَاقِصًا (8)، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.
وَيَنْحَصِرُ الْكَلَامُ فِيهِ بِحَسَبِ الْغَرَضِ الْمَقْصُودِ فِي عشرة (9) أَبْوَابٍ، وَفِي كُلِّ بَابٍ مِنْهَا فُصُولٌ اقْتَضَاهَا بَسْطُ الْمَسَائِلِ الْمُنْحَصِرَةِ فِيهِ، وَمَا انْجَرَّ مَعَهَا من الفروع المتعلقة به (10).
_________
(1) هو ابن عيينة كما وضحته رواية أبي نعيم وابن الجوزي.
(2) رواه أبو نعيم في الحلية عن سفيان بن عيينة (7/ 306)، وذكره ابن الجوزي في صفة الصفوة عنه رحمه الله (2/ 235)، كلاهما يرويه عنه أنه قال: كان يقال: وذكره.
(3) المثبت من (غ) و (ر)، وفي بقية النسخ: "الترديد".
(4) سواد القلب: حبّته، وكذلك أسوده، وسوداؤه، وسويداؤه. الصحاح للجوهري (2/ 492).
(5) ساقطة من (غ).
(6) ساقطة من (م) و (غ)، ومثبتة في هامش (م).
(7) في (ر): "أسأله".
(8) في أصل (خ): "كاملاً ناقصاً"، وصححت في هامشها.
(9) هكذا في (غ) و (ر)، وفي بقية النسخ: "جملة".
(10) ساقطة من (غ) و (ر).(1/43)
الباب (1) الأول
في تَعْرِيفُ الْبِدَعِ وَبَيَانُ مَعْنَاهَا وَمَا اشْتُقَّ مِنْهُ لفظاً (2)
وأصل مادة بَدَعَ لِلِاخْتِرَاعِ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَابِقٍ، وَمِنْهُ قول الله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (3)، أي مخترعهما مِنْ غَيْرِ مِثَالٍ سَابِقٍ (4) مُتَقَدِّمٍ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} (5)، أَيْ مَا كُنْتُ أَوَّلَ (6) مَنْ جَاءَ بِالرِّسَالَةِ مِنَ اللَّهِ إِلَى الْعِبَادِ، بَلْ تَقَدَّمَنِي كَثِيرٌ مِنَ الرُّسُلِ. وَيُقَالُ: ابْتَدَعَ فَلَانٌ (بِدْعَةً يَعْنِي ابْتَدَأَ) (7) طَرِيقَةً لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيْهَا سَابِقٌ. وَهَذَا أَمْرٌ بَدِيعٌ، يُقَالُ فِي الشَّيْءِ الْمُسْتَحْسَنِ (الَّذِي لَا مِثَالَ لَهُ فِي الْحُسْنِ) (8)، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ مَا هُوَ مِثْلُهُ وَلَا مَا يُشْبِهُهُ.
وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى سُمِّيَتِ الْبِدْعَةُ بِدْعَةً، فَاسْتِخْرَاجُهَا لِلسُّلُوكِ عَلَيْهَا هُوَ الِابْتِدَاعُ، وَهَيْئَتُهَا (9) هِيَ الْبِدْعَةُ، وقد يسمّى العمل المعمول على ذلك الوجه بدعة.
_________
(1) في (ت): "الفصل الأول"، وصححت في هامشها.
(2) التبويب وما بعده ساقط من (م)، إلى قوله: "وأصل مادة بدع"، وعبارة (ت): "الفصل الأول في اشتقاق لفظ البدعة"، وعبارة (غ): "الباب الأول في تحقيق البدعة".
(3) سورة البقرة، آية (117).
(4) ساقطة من (م) و (خ) و (غ) و (ر)، وأثبتت في هامش (خ).
(5) سورة الأحقاف، آية (9).
(6) بياض في (غ)، وأثبتت في هامشها.
(7) ساقط من (غ).
(8) ساقط من (غ).
(9) في (م): "وهيتها".(1/45)
فَمِنْ (1) هَذَا الْمَعْنَى سُمِّيَ الْعَمَلُ الَّذِي لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ فِي الشَّرْعِ بِدْعَةً، وَهُوَ إِطْلَاقٌ أَخَصُّ (2) مِنْهُ فِي اللُّغَةِ حَسْبَمَا يُذْكَرُ بِحَوْلِ الله.
فنقول (3): ثَبَتَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ أَنَّ الْأَحْكَامَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِأَفْعَالِ الْعِبَادِ وَأَقْوَالِهِمْ ثَلَاثَةٌ: حُكْمٌ يَقْتَضِيهِ مَعْنَى الْأَمْرِ، كَانَ لِلْإِيجَابِ أَوِ النَّدْبِ (4)، وَحُكْمٌ يَقْتَضِيهِ مَعْنَى النَّهْيِ، كَانَ لِلْكَرَاهَةِ أَوِ التَّحْرِيمِ، وَحُكْمٌ يَقْتَضِيهِ مَعْنَى التَّخْيِيرِ، وَهُوَ الْإِبَاحَةُ.
فَأَفْعَالُ الْعِبَادِ وَأَقْوَالُهُمْ لَا تَعْدُو هَذِهِ الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ: مَطْلُوبٌ فِعْلُهُ، وَمَطْلُوبٌ تَرْكُهُ، وَمَأْذُونٌ فِي فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ.
وَالْمَطْلُوبُ تَرْكُهُ لَمْ يُطْلَبْ تَرْكُهُ إِلَّا لِكَوْنِهِ مخالفاً للقسمين الآخرين (5)، لَكِنَّهُ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُطْلَبَ تَرْكُهُ، وينهى عنه لكونه مخالفة خاصة، مع تجرّد (6) النَّظَرِ عَنْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَهُوَ إِنْ كَانَ محرماً سمّى فعله (7) مَعْصِيَةً وَإِثْمًا وَسُمِّيَ (8) فَاعِلُهُ عَاصِيًا وَآثِمًا، وَإِلَّا لَمْ يُسَمَّ بِذَلِكَ، وَدَخَلَ فِي حُكْمِ الْعَفْوِ حَسْبَمَا هُوَ مبيَّن فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ (9). وَلَا يُسَمَّى بِحَسَبِ الْفِعْلِ جَائِزًا وَلَا مُبَاحًا، لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْجَوَازِ وَالنَّهْيِ جَمْعٌ بَيْنَ مُتَنَافِيَيْنِ (10).
وَالثَّانِي: أَنْ يُطْلَبَ تَرْكُهُ، وَيُنْهَى عَنْهُ لكونه مخالفة تضاهي (11) التَّشْرِيعِ، مِنْ جِهَةِ ضَرْبِ الْحُدُودِ، وَتَعْيِينِ الْكَيْفِيَّاتِ، وَالْتِزَامِ الْهَيْئَاتِ الْمُعَيَّنَةِ، أَوِ الْأَزْمِنَةِ الْمُعَيَّنَةِ، مَعَ الدَّوَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَهَذَا هُوَ الِابْتِدَاعُ وَالْبِدْعَةُ، ويسمّى فاعله مبتدعاً.
_________
(1) ساقطة من (ر).
(2) في (ت): "أخصر".
(3) ساقط من جميع النسخ عدا (غ)، وفي (ت): "فصل"، والصواب المثبت.
(4) في (ت): "للندب".
(5) في (خ) و (ط): "الأخيرين".
(6) في (ط): "مجرد".
(7) في (خ) و (ط): "فعلا".
(8) في (ر): "سمي".
(9) يريد والله أعلم المكروه، لأنه منهي عنه، لكنه ليس كالمحرم، فلا يسمّى فاعل المكروه عاصياً ولا آثماً، ولا يسمى فعله معصية وإثماً.
(10) في (م): "متنافين".
(11) هكذا في (غ) و (ر) وهو الأصوب، وفي بقية النسخ: "لظاهر".(1/46)
فَالْبِدْعَةُ إِذَنْ عِبَارَةٌ عَنْ: "طَرِيقَةٍ فِي الدِّينِ مُخْتَرَعَةٍ، تُضَاهِي الشَّرْعِيَّةَ، يُقْصَدُ بِالسُّلُوكِ عَلَيْهَا الْمُبَالَغَةُ فِي التَّعَبُّدِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ".
وَهَذَا عَلَى رَأْيِ مَنْ لَا يُدْخِلُ الْعَادَاتِ فِي مَعْنَى (1) الْبِدْعَةِ، وَإِنَّمَا يَخُصُّهَا بِالْعِبَادَاتِ (2)، وَأَمَّا عَلَى رَأْيِ مَنْ أَدْخَلَ الْأَعْمَالَ الْعَادِيَّةَ فِي مَعْنَى الْبِدْعَةِ فَيَقُولُ: "الْبِدْعَةُ طَرِيقَةٌ فِي الدِّينِ مُخْتَرَعَةٌ، تُضَاهِي الشَّرْعِيَّةَ (3)، يُقْصَدُ بِالسُّلُوكِ عَلَيْهَا مَا يُقْصَدُ بِالطَّرِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ أَلْفَاظِ هَذَا الْحَدِّ، فالطريقة والطريق والسبيل والسنن وَاحِدٍ (4)، وَهُوَ مَا رُسِمَ لِلسُّلُوكِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا قُيِّدَتْ بِالدِّينِ، لِأَنَّهَا فِيهِ تُخْتَرَعُ، وَإِلَيْهِ يُضِيفُهَا (5) صَاحِبُهَا. وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَتْ طَرِيقَةً مُخْتَرَعَةً فِي الدُّنْيَا عَلَى الْخُصُوصِ لَمْ تُسَمَّ بِدْعَةً، كَإِحْدَاثِ الصَّنَائِعِ وَالْبُلْدَانِ الَّتِي لَا عَهْدَ بِهَا فِيمَا تَقَدَّمَ.
وَلَمَّا كَانَتِ الطَّرَائِقُ فِي الدِّينِ تَنْقَسِمُ ـ فَمِنْهَا: مَا لَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرِيعَةِ وَمِنْهَا مَا لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِيهَا ـ خُصَّ مِنْهَا مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْحَدِّ، وَهُوَ الْقِسْمُ الْمُخْتَرَعُ، أي ابْتُدِعَتْ (6) عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ تَقَدَّمَهَا مِنَ الشَّارِعِ؛ إِذِ الْبِدْعَةُ إِنَّمَا خَاصَّتُهَا أَنَّهَا خَارِجَةٌ عَمَّا رَسَمَهُ الشَّارِعُ، وَبِهَذَا الْقَيْدِ انْفَصَلَتْ عَنْ كُلِّ مَا ظَهَرَ لِبَادِي الرَّأْيِ أَنَّهُ مُخْتَرَعٌ، مِمَّا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالدِّينِ، كَعِلْمِ النَّحْوِ، وَالتَّصْرِيفِ، وَمُفْرَدَاتِ اللُّغَةِ، وَأُصُولِ الْفِقْهِ، وَأُصُولِ الدِّينِ، وَسَائِرِ الْعُلُومِ الْخَادِمَةِ لِلشَّرِيعَةِ، فَإِنَّهَا وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ فِي الزمان الأول، فأصولها موجودة
_________
(1) ساقطة من أصل (ت)، ومثبتة في هامشها.
(2) أما دخول البدعة في العبادات فهو محل اتفاق، وأما دخولها في العادات فمحل خلاف. والذي عليه المؤلف أن البدعة لا تدخل في الأمور العادية إلاّ بضوابط معينة ذكرها في الباب السابع، حيث أفرد هذا الباب لهذا الموضوع (2/ 73).
(3) في (م) و (خ) و (ت): "الشريعة"، والصواب المثبت إلحاقاً بما قبلها في التعريف السابق.
(4) في (م) و (ت) وأصل (خ): "وهو واحد"، وفي (ط): "وهي بمعنى واحد".
(5) في (ر): "يضفه".
(6) في (ط) وهامش (خ) و (ت): "أي طريقة ابتدعت".(1/47)
فِي الشَّرْعِ؛ إِذِ الْأَمْرُ بِإِعْرَابِ الْقُرْآنِ مَنْقُولٌ (1)، وَعُلُومُ اللِّسَانِ (2) هَادِيَةٌ لِلصَّوَابِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَحَقِيقَتُهَا إِذًا أَنَّهَا فِقْهُ التَّعَبُّدِ بِالْأَلْفَاظِ الشَّرْعِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى مَعَانِيهَا كَيْفَ تُؤْخَذُ وَتُؤَدَّى. وَأُصُولُ الْفِقْهِ إِنَّمَا مَعْنَاهَا اسْتِقْرَاءُ كُلِّيَّاتِ الْأَدِلَّةِ، حَتَّى تَكُونَ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ نُصْبَ عَيْنٍ، وَعِنْدَ الطَّالِبِ سَهْلَةُ الْمُلْتَمَسِ (3).
وَكَذَلِكَ أُصُولُ الدِّينِ، وَهُوَ عِلْمُ الْكَلَامِ، إِنَّمَا حَاصِلُهُ تَقْرِيرٌ لِأَدِلَّةِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، أَوْ مَا يَنْشَأُ عَنْهَا فِي التَّوْحِيدِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، كَمَا كَانَ الْفِقْهُ تَقْرِيرًا لِأَدِلَّتِهَا في الفروع العملية (4) (5).
_________
(1) عزا الإمام السيوطي إلى عمر رضي الله عنه الحثّ عليه، كما في الإتقان في علوم القرآن (1/ 488)، وذكر الشيخ الألباني أحاديث في الحثّ عليه، وكلّها ضعيفة كما في سلسلة الأحاديث الضعيفة (3/ 521)، وضعيف الجامع (ص133)، وذكر المؤلف في الباب الثالث: أن أَهْلَ الْعَرَبِيَّةِ يَحْكُونَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هُوَ الَّذِي أَشَارَ عَلَيْهِ بِوَضْعِ شَيْءٍ في النحو، وكذلك ذكر أن ذلك مرويٌّ عن عمر. ثم قال: وَإِذَا كَانَتِ الْإِشَارَةُ مِنْ وَاحِدٍ مِنَ الْخُلَفَاءِ الراشدين صار النحو والنظر في الكلام العربي من سنّة الخلفاء الراشدين، وإن سلم أنه ليس كذلك، فقاعدة المصالح تعمّ علوم العربية، أي تكون من قبيل المشروع. انظر (ص369).
(2) في (ت): "الدين".
(3) في (م): "الملتبس".
(4) في (م): "العماية"، وصححت في الهامش "العملية"، وفي (خ) و (ت) و (ط): "العبادية".
(5) سمّى المؤلف أصول الدين هنا علم الكلام، فإن كان يريد بهذا العلم جمع أدلة القرآن والسنّة في العقيدة سواء في التوحيد أو الصفات أو القدر أو غيرها، وتقريرها على منهج أهل السنة والجماعة والسلف الصالح، فلا إشكال إلاّ في تسمية أصول الدين بعلم الكلام. (وهذا قد يكون بسبب إطلاق البعض لهذه التسمية).
وأمّا إذا أراد بعلم الكلام العلم المبتدع الذي ذمّه السلف ونهوا عنه، وسمّاه المبتدعة أصول الدين، والتوحيد، فقوله غير مسلم، فكيف يكون علم الكلام هو أصول الدين، مع أنه مبتدع نهى عنه سلفنا الصالح، وحذّروا منه، ومن مجالسة أهله بكلام لا يسعنا سرده في هذا الموضع. فأصول الدين حقيقة ما كان من ميراث النبوّة من الكتاب والسنة، فقد اشتمل كتاب الله وسنّة نبيّه صلّى الله عليه وسلّم على مسائل أصول الدين الحقيقية، وقرّراها بأحسن تقرير، وأصح دليل، وأحسن عبارة، وأمّا ما سوى ذلك فلا يصح أن يسمّى أصولاً للدين، فإن أصول الدين هي أهمّ أمور الدين، فكيف لا يبلِّغها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لنا وهي كذلك؟ وقد أدخل المبتدعة في هذا المسمى ما ليس من الدين، من المسائل والدلائل الفاسدة، مثل نفي الصفات والقدر، ونحو ذلك من المسائل، ومثل الاستدلال على حدوث العالم بحدوث الأعراض ... إلى غير ذلك =(1/48)
فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّ تَصْنِيفَهَا عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ مُخْتَرَعٌ.
فَالْجَوَابُ: أَنَّ لَهُ أَصْلًا فِي الشَّرْعِ، فَفِي (1) الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ (2)، وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى الْخُصُوصِ، فَالشَّرْعُ بِجُمْلَتِهِ يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِهِ، وَهُوَ مُسْتَمَدٌّ مِنْ قَاعِدَةِ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ، وَسَيَأْتِي بَسْطُهَا بِحَوْلِ اللَّهِ (3).
فَعَلَى الْقَوْلِ بِإِثْبَاتِهَا أَصْلًا شَرْعِيًّا لَا إِشْكَالَ فِي أَنَّ كُلَّ عِلْمٍ خَادِمٍ لِلشَّرِيعَةِ دَاخِلٌ تَحْتَ أَدِلَّتِهِ الَّتِي لَيْسَتْ بِمَأْخُوذَةٍ مِنْ جزئي واحد، فليس (4) بِبِدْعَةٍ أَلْبَتَّةَ.
وَعَلَى الْقَوْلِ بِنَفْيِهَا لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْعُلُومُ مُبْتَدَعَاتٍ، وَإِذَا دَخَلَتْ في قسم (5) الْبِدَعِ كَانَتْ قَبِيحَةً؛ لِأَنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ من غير استثناء (6)، كَمَا يَأْتِي (7) بَيَانُهُ (8) إِنْ شَاءَ اللَّهُ (9).
وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ كَتْبُ الْمُصْحَفِ، وَجَمْعُ الْقُرْآنِ قَبِيحًا، وَهُوَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَلَيْسَ إِذًا ببدعة (10).
_________
= مما يعلم بالاضطرار أن نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم لم يأتِ به، ولم يَدْعُ إليه، فعلى هذا فعلم الكلام مبتدع، وليس كعلم الفقه ولا غيره. انتهى مع اقتباس من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل (1/ 26 ـ 43).
(1) في (ت): "وفي".
(2) يريد قوله صلّى الله عليه وسلّم: "عليكم بسنتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديين"، فإذا ثبت عن عمر أو عليّ رضي الله عنهما الأمر بوضع قواعد النحو، فهو من سنّة الخلفاء الراشدين المأمور بها، وليس من البدع، وقد اعتمد المؤلف على الحديث في الإجابة على مثل هذا، وكذلك استدلّ بكتابة الحديث في زمنه صلّى الله عليه وسلّم. (1/ 347 ـ 348).
(3) سوف يفرد المؤلف الباب الثامن لهذه القاعدة، ويضرب لها عشرة أمثلة، ويذكر الفرق بينها وبين الابتداع، وكذلك الفرق بين الاستحسان والابتداع (2/ 111).
(4) في (م) و (ر) و (خ) و (ت) و (ط): "فليست".
(5) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "علم".
(6) المثبت من (ر)، وفي بقية النسخ: "إشكال".
(7) في (ر): "سيأتي".
(8) ساقطة من (م) و (غ) و (ر).
(9) سيتناول ذلك في نهاية الباب الثاني (ص254)، وبداية الباب الثالث (ص267).
(10) سيتكلم المؤلف عن جمع القرآن، وكتابة المصحف في الباب الثالث (ص345 ـ 346)، وكذلك سيجعله مثالاً من أمثلة المصالح المرسلة في الباب الثامن (2/ 115).(1/49)
ويلزم أيضاً (1) أَنْ يَكُونَ لَهُ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ، وَلَيْسَ إِلَّا هَذَا النَّوْعُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ، وَهُوَ الْمَأْخُوذُ مِنْ جُمْلَةِ الشَّرِيعَةِ.
وَإِذَا ثَبَتَ جُزْئِيٌّ فِي الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ، (ثَبَتَ مُطْلَقُ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ) (2).
فَعَلَى هَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُسَمَّى عِلْمُ النَّحْوِ، أَوْ غَيْرُهُ مِنْ عُلُومِ اللِّسَانِ، أَوْ عِلْمُ الْأُصُولِ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْعُلُومِ الْخَادِمَةِ لِلشَّرِيعَةِ بِدْعَةً أَصْلًا.
وَمَنْ سَمَّاهُ بِدْعَةً، فَإِمَّا عَلَى الْمَجَازِ كَمَا سَمَّى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قيام الناس (في المسجد) (3) فِي لَيَالِي رَمَضَانَ بِدْعَةً (4)، وَإِمَّا جَهْلًا بِمَوَاقِعِ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ، فَلَا يَكُونُ قَوْلُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ مُعْتَدًّا بِهِ، وَلَا مُعْتَمَدًا عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِّ: (تُضَاهِي الشَّرْعِيَّةَ)، يَعْنِي أَنَّهَا تُشَابِهُ الطَّرِيقَةَ الشَّرْعِيَّةَ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ فِي الحقيقة كذلك، بل هي مضادّة لها، (وبيان مشابها) (5) مِنْ أَوْجُهٍ مُتَعَدِّدَةٍ:
مِنْهَا: وَضَعُ الْحُدُودِ كَالنَّاذِرِ لِلصِّيَامِ قَائِمًا لَا يَقْعُدُ، ضَاحِيًا لَا يَسْتَظِلُّ،
_________
(1) ساقط من جميع النسخ عدا (غ).
(2) ما بين المعكوفين ساقط من أصل (خ)، ومثبت في هامشها.
(3) ساقط من جميع النسخ عدا (غ) و (ر).
(4) أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، كتاب صلاة التراويح، باب فضل من قام رمضان عن عبد الرحمن بن عبد القاريّ أنه قال: خرجت مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ليلة في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرّقون يصلّي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل. ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلّون بصلاة قارئهم، قال عمر: نعم البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون ـ يريد آخر الليل ـ وكان الناس يقومون أوّله. البخاري مع الفتح (4/ 250)، ورواه مالك في الموطأ كتاب الصلاة في رمضان، باب ما جاء في قيام رمضان (1/ 114).
(5) ما بين القوسين ساقط من جميع النسخ عدا (غ) و (ر)، وعبارة (غ): "وبيان مشابهته".(1/50)
والاختصاء (1) في الانقطاع للعبادة، والاقتصار من المأكل أو الملبس (2) عَلَى صِنْفٍ دُونَ صِنْفٍ (3) مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ.
وَمِنْهَا: الْتِزَامُ الْكَيْفِيَّاتِ وَالْهَيْئَاتِ الْمُعَيَّنَةِ، كَالذِّكْرِ بِهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ، وَاتِّخَاذُ يَوْمِ وِلَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِيدًا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
وَمِنْهَا: الْتِزَامُ الْعِبَادَاتِ الْمُعَيَّنَةِ فِي أَوْقَاتٍ مُعَيَّنَةٍ لَمْ يُوجَدْ لَهَا ذَلِكَ التَّعْيِينُ فِي الشَّرِيعَةِ، كَالْتِزَامِ صِيَامِ يَوْمِ النِّصْفِ مِنْ شعبان وقيام ليلته.
وثم (4) أوجه أُخر (5) تُضَاهِي بِهَا الْبِدْعَةُ الْأُمُورَ الْمَشْرُوعَةَ (6)، فَلَوْ كَانَتْ لَا تُضَاهِي الْأُمُورَ الْمَشْرُوعَةَ لَمْ تَكُنْ بِدْعَةً، لِأَنَّهَا تَصِيرُ مِنْ بَابِ الْأَفْعَالِ الْعَادِيَّةِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ صَاحِبَ الْبِدْعَةِ إِنَّمَا يَخْتَرِعُهَا لِيُضَاهِيَ بِهَا السُّنَّةَ حَتَّى يَكُونَ مُلَبِّسًا بِهَا عَلَى الْغَيْرِ، أَوْ تَكُونَ هِيَ مِمَّا تَلْتَبِسُ عَلَيْهِ بِالسُّنَّةِ، إذ الإنسان لا يقصد الاستنان (7) بِأَمْرٍ لَا يُشَابِهُ الْمَشْرُوعَ؛ لِأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ لَا يَسْتَجْلِبُ بِهِ فِي ذَلِكَ الِابْتِدَاعِ نَفْعًا، وَلَا يَدْفَعُ بِهِ ضَرَرًا، وَلَا يُجِيبُهُ غَيْرُهُ إِلَيْهِ.
وَلِذَلِكَ تَجِدُ الْمُبْتَدِعَ يَنْتَصِرُ لِبِدْعَتِهِ بِأُمُورٍ تُخَيِّلُ التَّشْرِيعَ، وَلَوْ بِدَعْوَى الِاقْتِدَاءِ بِفُلَانٍ الْمَعْرُوفِ مَنْصِبُهُ فِي أَهْلِ الْخَيْرِ.
فَأَنْتَ تَرَى الْعَرَبَ الْجَاهِلِيَّةَ فِي تَغْيِيرِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كيف تأوّلوا ـ فيما أحدثوه ـ احتجاجاً منهم له (8)؛ كَقَوْلِهِمْ فِي أَصْلِ الْإِشْرَاكِ: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (9)، وكترك الحمس (10) الوقوف بعرفة
_________
(1) المثبت هو ما في (غ) و (ر)، وفي بقية النسخ: "الاختصاص"، والمثبت هو الصواب.
(2) في (ط): "من المأكل والملبس".
(3) في (غ) و (ر): "غيره".
(4) في (ر): "ثم" دون الواو.
(5) زيادة في (غ).
(6) في (غ): "الشرعية".
(7) المثبت هو ما في (غ) و (ر)، وفي م (الاستناع) وفي بقية النسخ (الاستتباع).
(8) ساقطة من جميع النسخ عدا (غ).
(9) سورة الزمر، آية (3).
(10) في (م) و (خ): "الحسن"، وكتب في هامش (خ): "الحمس"، كما كتب في هامش (م): "الحمس وهم قريش ومن تبعهم".(1/51)
لِقَوْلِهِمْ: لَا نَخْرُجُ مِنَ الْحَرَمِ اعْتِدَادًا بِحُرْمَتِهِ (1)، وَطَوَافِ مَنْ طَافَ مِنْهُمْ بِالْبَيْتِ عُرْيَانًا (2) قَائِلِينَ: لَا نَطُوفُ بِثِيَابٍ عَصَيْنَا اللَّهَ فِيهَا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا وَجَّهُوهُ ليصيِّروه (3) بِالتَّوْجِيهِ كَالْمَشْرُوعِ، فَمَا ظَنُّكَ (4) بِمَنْ عُدّ أَوْ عَدَّ نَفْسَهُ مِنْ خَوَاصِّ أَهْلِ الْمِلَّةِ؟ فَهُمْ أَحْرَى بِذَلِكَ، وَهُمُ الْمُخْطِئُونَ وَظَنُّهُمُ الْإِصَابَةَ، وَإِذَا تبيَّن هَذَا ظَهَرَ أَنَّ مُضَاهَاةَ الْأُمُورِ الْمَشْرُوعَةِ ضَرُورِيَّةُ الْأَخْذِ فِي أَجْزَاءِ الْحَدِّ.
وَقَوْلُهُ: (يُقْصَدُ بِالسُّلُوكِ عَلَيْهَا الْمُبَالَغَةُ فِي التَّعَبُّدِ لِلَّهِ تَعَالَى)، هُوَ تَمَامُ مَعْنَى الْبِدْعَةِ؛ إِذْ هُوَ الْمَقْصُودُ بِتَشْرِيعِهَا.
وَذَلِكَ أن أصل الدخول فيها الحثّ (5) عَلَى الِانْقِطَاعِ إِلَى الْعِبَادَةِ، وَالتَّرْغِيبِ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ *} (6)، فَكَأَنَّ الْمُبْتَدِعَ رَأَى أَنَّ الْمَقْصُودَ هَذَا الْمَعْنَى، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ أَنَّ مَا وَضَعَهُ الشَّارِعُ ـ فِيهِ ـ مِنَ الْقَوَانِينِ وَالْحُدُودِ كَافٍ، فَرَأَى (7) مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَا بُدَّ (8) ـ لِمَا أُطْلِقَ الْأَمْرُ فِيهِ ـ مِنْ قَوَانِينَ مُنْضَبِطَةٍ، وَأَحْوَالٍ مُرْتَبِطَةٍ، مَعَ ما يداخل (9) النفوس من حب الظهور [والذكر بالمناقب التي ينفرد بها الأفراد، واستنباط الفوائد التي لا عهد بها، إذ الدخول في غمار الخلق يميت الهوى، لعدم الظُّهُورِ] (10)، أَوْ عَدَمِ مَظِنَّتِهِ، فَدَخَلَتْ فِي هَذَا الضبط شائبة البدعة.
_________
(1) نقل الإمام ابن كثير في تفسيره عند قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} قولاً لعائشة رضي الله عنها حيث قال: كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة، وكانوا يسمون الحمس، وسائر العرب يقفون بعرفات، فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يأتي عرفات ثم يقف بها ثم يفيض منها، فذلك قوله: {مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ}.
وانظر: الخبر في صحيح البخاري، كتاب الحج، باب الوقوف بعرفة (1665)، وصحيح مسلم، كتاب الحج، باب في الوقوف (1219).
(2) ساقطة من أصل (م) ومثبتة في هامشها.
(3) في (ت): "ليصير".
(4) ساقطة من أصل (ت)، ومثبتة في هامشها.
(5) في (ط): "يحث".
(6) سورة الذاريات، آية (56).
(7) في (م) و (غ): "فؤاد".
(8) في (غ): "لا بد من".
(9) في (غ): "يخالط".
(10) ما بين المعكوفين ساقط من جميع النسخ عدا (غ) و (ر).(1/52)
وَأَيْضًا، فَإِنَّ النُّفُوسَ قَدْ تَمَلُّ وَتَسْأَمُ مِنَ الدوام على العبادات (المشتركة) (1)، فَإِذَا جُدِّدَ لَهَا أَمْرٌ لَا تَعْهَدُهُ حَصَلَ (2) لها نَشَاطٌ آخَرُ لَا يَكُونُ لَهَا مَعَ الْبَقَاءِ عَلَى الْأَمْرِ الْأَوَّلِ، وَلِذَلِكَ قَالُوا: لِكُلِّ جَدِيدٍ لذّة، فحكم (3) هذا المعنى، قول (4) من (5) قَالَ: "كَمَا تُحدث لِلنَّاسِ أَقْضِيَةٌ بِقَدْرِ مَا أَحْدَثُوا مِنَ الْفُجُورِ (6)، (فَكَذَلِكَ تُحدث لَهُمْ مُرَغِّبَاتٌ فِي الْخَيْرِ بِقَدْرِ (مَا حَدَثَ لَهُمْ مِنَ الْفُتُورِ) (7)) (8) " (9).
وَفِي حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "فَيُوشِكُ قَائِلٌ أَنْ يَقُولَ: مَا هُمْ بِمُتَّبِعِيَّ فَيَتَّبِعُونِي وَقَدْ قَرَّأْتُ (10) الْقُرْآنَ، فَلَا يَتَّبِعُنِّي (11) حَتَّى أَبْتَدِعَ لَهُمْ غَيْرَهُ (12)، فَإِيَّاكُمْ وَمَا ابتدع، فإن ما ابتدع ضلالة" (13).
_________
(1) في (ط) وهامش (خ) و (ت): "المرتبة".
(2) في (خ): "جعل"، وصححت في هامشها بالمثبت.
(3) هكذا في (غ)، وفي بقية النسخ: "بحكم".
(4) ساقط من جميع النسخ عدا (غ).
(5) في (خ): "كمن".
(6) النص إلى هذا الموضع معزوّ إلى عمر بن عبد العزيز رحمه الله، وقد قال عنه المؤلف في الباب الثالث: وَأَمَّا مَا يُرْوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَلَمْ أرَه ثَابِتًا مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ. انظر (ص349).
(7) ما بين القوسين كتب في (م) و (خ): "ما أحدثوا من الفجور"، وصححت في هامشهما المثبت.
(8) ما بين المعكوفين ساقط من أصل (ت)، ومثبت في هامشها.
(9) هذه المقولة لشيخ الإمام الشاطبي أبي سعيد بن لب كما في المعيار المعرب للونشريسي (6/ 370).
(10) في (خ) و (ط): "قرأتك"، وفي (م): "قرأته".
(11) في (م): ما بمتبعي"، وفي (ط): "فلا يتتبعني"، وفي (غ): ما هم بمتبعي".
(12) ساقطة من (ت).
(13) رواه الإمام أبو داود في كتاب السنة من سننه، باب لزوم السنة عن ابن شهاب، أن أبا إدريس الخولاني عائذ الله أخبره، أن يزيد بن عميرة، وكان من أصحاب معاذ بن جبل، أخبره، قال: كان لا يجلس مجلساً للذكر حين يجلس إلاّ قال: الله حكم قسط هلك المرتابون، فقال معاذ بن جبل يوماً: إن من ورائكم فتناً يكثر فيها المال، ويفتح فيها القرآن حتى يأخذه المؤمن والمنافق والرجل والمرأة والصغير والكبير والعبد والحرّ، فيوشك قائل أن يقول: ما للناس لا يتّبعوني وقد قرأت القرآن؟ ما هم بمتبعي =(1/53)
وَقَدْ تَبَيَّنَ بِهَذَا الْقَيْدِ أَنَّ الْبِدَعَ لَا تَدْخُلُ فِي الْعَادَاتِ (1)، فَكُلُّ مَا اخْتُرِعَ مِنَ الطُّرُقِ فِي الدِّينِ مِمَّا يُضَاهِي الْمَشْرُوعَ، وَلَمْ يُقْصَدْ بِهِ التَّعَبُّدُ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ، كَالْمَغَارِمِ الْمُلْزَمَةِ (2) عَلَى الْأَمْوَالِ وَغَيْرِهَا عَلَى نِسْبَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَقَدْرٍ مَخْصُوصٍ مِمَّا يُشْبِهُ فَرْضَ الزَّكَوَاتِ (3)، وَلَمْ يَكُنْ إِلَيْهَا ضَرُورَةٌ (4)، وَكَذَلِكَ اتِّخَاذُ الْمَنَاخِلِ، وَغَسْلُ الْيَدِ بِالْأُشْنَانِ (5)، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ (6) قَبْلُ، فَإِنَّهَا لا تسمى بدعاً على إحدى الطريقتين.
_________
= حَتَّى أَبْتَدِعَ لَهُمْ غَيْرَهُ، فَإِيَّاكُمْ وَمَا ابْتُدِعَ، فَإِنَّ مَا ابتُدِعَ ضَلَالَةٌ، وَأُحَذِّرُكُمْ زَيْغَةَ الْحَكِيمِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَقُولُ كَلِمَةَ الضَّلَالَةِ عَلَى لِسَانِ الْحَكِيمِ، وَقَدْ يَقُولُ الْمُنَافِقُ كَلِمَةَ الْحَقِّ، قال: قلت لمعاذ: ما يدريني رحمك الله أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة، وَأَنَّ الْمُنَافِقَ قَدْ يَقُولُ كَلِمَةَ الْحَقِّ؟ قَالَ: بلى، اجتنب من كلام الحكيم المشتهرات التي يقال لها ما هذه، ولا يثنيك ذَلِكَ عَنْهُ، فَإِنَّهُ لَعَلَّهُ أَنْ يُرَاجِعَ، وَتَلَقَّ الحق إذا سمعته فإن على الحق نوراً، (4/ 201). ورواه الإمام الدارمي في المقدمة من سننه، باب تغير الزمان وما يحدث فيه مع اختلاف يسير (1/ 78)، وأخرجه ابن وضاح في البدع والنهي عنها بلفظ مختصر قريب من لفظ المؤلف (ص32)، وأخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/ 111)، وأخرجه اللالكائي في أصول الاعتقاد بلفظين متقاربين (1/ 88)، وأخرجه ابن بطة في الإبانة الكبرى (1/ 308)، وأخرجه الآجري في الشريعة بلفظين (ص47، 48)، وأخرجه أبو نعيم في الحلية عند ترجمة معاذ رضي الله عنه (1/ 232).
(1) في (غ): "العبادات".
(2) في (غ) و (ر): "الملتزمة".
(3) في (ت): "الزكاة".
(4) يرى المؤلف جواز أخذ هذه المغارم من الناس عند الضرورة، كخلو بيت المال، مع ارتفاع حاجة الجند إلى ما يكفيهم، فللإمام إذا كان عدلاً أن يوظف على الأغنياء ما يراه كافياً لهم في الحال، إلى أن يظهر مال بيت المال، وذلك لسدّ الثغور، وحماية الملك المتّسع الأقطار. وقد كانت بلاد الأندلس في زمن المؤلف في حالة خطيرة وحاجة شديدة، لقرب العدوّ، وضعف المسلمين، وبعد ديار المسلمين عنهم. انظر ما قاله المؤلف في الباب الثامن (2/ 121).
وأمّا إن لم يكن هناك ضرورة، فلا يرى هذا بدعة وإنما يراه معصية وظلماً، ولكن إن فشا وصار معمولاً به كالزكاة المشروعة فيراه بدعة، انظر قوله في الباب السابع (2/ 80).
(5) الأشنان والإشنان من الحمض، الذي يغسل به الأيدي. لسان العرب (13/ 18).
(6) في (م): "لم يكن".(1/54)
وَأَمَّا الْحَدُّ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْأُخْرَى، فَقَدْ تَبَيَّنَ مَعْنَاهُ إِلَّا قَوْلُهُ: (يُقْصَدُ بِهَا مَا يُقْصَدُ بِالطَّرِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ).
وَمَعْنَاهُ أَنَّ الشَّرِيعَةَ إِنَّمَا جَاءَتْ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي عَاجِلَتِهِمْ وَآجِلَتِهِمْ، لِتَأْتِيَهُمْ فِي الدَّارَيْنِ عَلَى أَكْمَلِ وُجُوهِهَا، فَهُوَ الَّذِي يَقْصِدُهُ (1) الْمُبْتَدِعُ بِبِدْعَتِهِ (2)؛ لِأَنَّ الْبِدْعَةَ إِمَّا أَنْ تَتَعَلَّقَ بِالْعَادَاتِ أَوِ الْعِبَادَاتِ (3)، فَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِالْعِبَادَاتِ فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهَا أَنْ يَأْتِيَ تَعَبُّدَهُ عَلَى أَبْلَغِ مَا يَكُونُ فِي زَعْمِهِ، لِيَفُوزَ بِأَتَمِّ الْمَرَاتِبِ فِي الْآخِرَةِ فِي ظَنِّهِ، وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِالْعَادَاتِ فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا وَضَعَهَا لِتَأْتِيَ أُمُورُ دُنْيَاهُ عَلَى تَمَامِ الْمَصْلَحَةِ فِيهَا. فَمَنْ يَجْعَلُ الْمَنَاخِلَ فِي قِسْمِ الْبِدَعِ فَظَاهِرٌ أَنَّ التَّمَتُّعَ عِنْدَهُ بِلَذَّةِ الدَّقِيقِ الْمَنْخُولِ أَتَمُّ مِنْهُ بِغَيْرِ الْمَنْخُولِ، وَكَذَلِكَ الْبِنَاءَاتُ الْمُشَيَّدَةُ الْمُحْتَفِلَةُ (4) التَّمَتُّعُ بِهَا أَبْلَغُ مِنْهُ بِالْحُشُوشِ (5) وَالْخَرِبِ (6)، وَمِثْلُهُ الْمُصَادَرَاتُ فِي الْأَمْوَالِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أُولِي الْأَمْرِ وَقَدْ أَبَاحَتِ الشَّرِيعَةُ التَّوَسُّعَ فِي التَّصَرُّفَاتِ، فَيَعُدُّ الْمُبْتَدِعُ هَذَا مِنْ ذَلِكَ.
وَقَدْ ظَهَرَ مَعْنَى الْبِدْعَةِ، وَمَا هِيَ في الشرع والحمد لله.
_________
(1) في (ر): "يقصد".
(2) في (خ): "بان ببدعته".
(3) في (ر): "بالعبادات أو العادات".
(4) في (غ) و (ر): "المختلفة".
(5) الحش: ما يخرج فيه لقضاء الحاجة. الصحاح (3/ 1001).
(6) الخربة: موضع الخراب، والجمع خربات وخرب. لسان العرب (1/ 347).(1/55)
فصل
وفي الْحَدِّ أَيْضًا مَعْنًى آخَرُ مِمَّا يُنْظَرُ فِيهِ (1)، وَهُوَ أَنَّ الْبِدْعَةَ مِنْ حَيْثُ قِيلَ فِيهَا: إِنَّهَا طَرِيقَةٌ فِي الدِّينِ مُخْتَرَعَةٌ ـ إِلَى آخِرِهِ ـ يَدْخُلُ فِي عُمُومِ لَفْظِهَا الْبِدْعَةُ التَّرْكية، كَمَا يَدْخُلُ فِيهِ الْبِدْعَةُ غَيْرُ التَّرْكِيَّةِ، فَقَدْ يَقَعُ الِابْتِدَاعُ بِنَفْسِ التَّرْكِ تَحْرِيمًا لِلْمَتْرُوكِ (2) أَوْ غَيْرَ تحريم، فإن الفعل ـ مثلاً (3) ـ قد يَكُونُ حلَالًا بِالشَّرْعِ فَيُحَرِّمُهُ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ، أو يقصد تركه قصداً. فهذا (4) التَّرْكِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِأَمْرٍ يُعْتَبَرُ مِثْلُهُ شَرْعًا أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ لِأَمْرٍ يُعْتَبَرُ فَلَا حَرَجَ فِيهِ، إِذْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَرَكَ مَا يَجُوزُ تَرْكُهُ، أَوْ (5) مَا يُطْلَبُ بِتَرْكِهِ، كَالَّذِي يُحَرِّمُ عَلَى نَفْسِهِ الطَّعَامَ الْفُلَانِيَّ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يَضُرُّهُ فِي جِسْمِهِ أَوْ عَقْلِهِ أَوْ دِينِهِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَلَا مَانِعَ هُنَا مِنَ التَّرْكِ، بَلْ إِنْ قُلْنَا بِطَلَبِ التداوي للمريض كان (6) الترك هنا مطلوباً، وَإِنْ قُلْنَا بِإِبَاحَةِ التَّدَاوِي فَالتَّرْكُ مُبَاحٌ (7).
فَهَذَا رَاجِعٌ إِلَى الْعَزْمِ عَلَى الْحَمِيَّةِ مِنَ الْمُضِرَّاتِ، وأصله قوله عليه الصلاة السلام: "يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ (8) فليتزوج"، (إلى
_________
(1) ساقطة من (م) و (ت).
(2) في (غ) و (ر): "للفعل".
(3) ساقطة من (ت).
(4) في (ط): "فبهذا".
(5) في (غ): "لا".
(6) في (خ) و (ط): "فإن"، وفي (ت): "لأن".
(7) والجمهور على استحباب التداوي، كما نقل ذلك الإمام النووي في شرح مسلم، كتاب السلام، باب لكل داء دواء واستحباب التداوي (14/ 191)، والمستحب مطلوب شرعاً.
(8) قال الإمام النووي في شرح مسلم: واختلف العلماء في المراد بالباءة هنا على قولين =(1/56)
أَنْ قَالَ) (1): "وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، [فإنه له وجاء" (2) فأمر عليه الصلاة والسلام بِالصَّوْمِ] (3) الَّذِي يَكْسِرُ مِنْ شَهْوَةِ الشَّبَابِ حَتَّى لَا تَطْغَى عَلَيْهِ الشَّهْوَةُ، فَيَصِيرَ إِلَى الْعَنَتِ (4).
وَكَذَلِكَ إِذَا تَرَكَ مَا لَا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا مِمَّا (5) بِهِ الْبَأْسُ، فَذَلِكَ مِنْ أَوْصَافِ الْمُتَّقِينَ، وَكَتَارِكِ الْمُتَشَابِهِ حَذَرًا مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ، وَاسْتِبْرَاءً لِلدِّينِ وَالْعِرْضِ.
وَإِنْ كَانَ التَّرْكُ (6) لِغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَدَيُّنًا أَوْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَدَيُّنًا فَالتَّارِكُ عَابِثٌ بِتَحْرِيمِهِ الْفِعْلَ، أَوْ بِعَزِيمَتِهِ عَلَى التَّرْكِ. وَلَا يُسَمَّى هَذَا التَّرْكُ بِدْعَةً؛ إِذْ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ لَفْظِ الْحَدِّ إِلَّا عَلَى الطَّرِيقَةِ الثَّانِيَةِ الْقَائِلَةِ إِنَّ (7) الْبِدْعَةَ تَدْخُلُ فِي (8) الْعَادَاتِ. وَأَمَّا على الطريقة الأولى، فلا يدخل (9). لَكِنَّ هَذَا (10) التَّارِكَ يَصِيرُ عَاصِيًا بِتَرْكِهِ أَوْ باعتقاده التحريم فيما أحلّ الله.
_________
= يرجعان إلى معنى واحد أصحهما أن المراد معناها اللغوي وهو الجماع، فتقديره: من استطاع منكم الجماع لقدرته على مؤنه وهي مؤن النكاح فليتزوج ... والقول الثاني أن المراد هنا بالباءة مؤن النكاح سمّيت باسم ما يلازمها، وتقديره: من استطاع منكم مؤن النكاح فليتزوج. (مسلم بشرح النووي 9/ 173).
(1) ما بين المعكوفين ساقط من (ت).
(2) أخرجه الإمام البخاري في كتاب النكاح من صحيحه، باب قول النبي "من استطاع منكم الباءة فليتزوج ... "، عن ابن مسعود وذكره (9/ 106 مع الفتح)، وأخرجه أيضاً في كتاب الصيام (4/ 119)، وأخرجه مسلم في كتاب النكاح (9/ 172 بشرح النووي)، والنسائي في كتاب النكاح من سننه (6/ 57)، وابن ماجه في كتاب النكاح من سننه (1/ 592)، والدارمي في كتاب النكاح من سننه (2/ 177)، والإمام أحمد في مواضع من المسند (1/ 378، 424).
(3) ما بين المعكوفين ساقط من جميع النسخ عدا (غ) و (ر).
(4) العنت: الإثم، وأيضاً الوقوع في أمر شاقّ. الصحاح (1/ 258 ـ 259).
(5) في (م) و (ت): "لما".
(6) ساقطة من (ت).
(7) في (ر): "بأن".
(8) في (ت): "على".
(9) في (غ): "تدخل".
(10) ساقطة من (غ).(1/57)
وَأَمَّا إِنْ كَانَ التَّرْكُ (1) تَدَيُّنًا، فَهُوَ الِابْتِدَاعُ فِي الدِّينِ عَلَى كِلْتَا الطَّرِيقَتَيْنِ، إِذْ قَدْ فَرَضْنَا الْفِعْلَ جَائِزًا شَرْعًا (2) فَصَارَ التَّرْكُ الْمَقْصُودُ مُعَارَضَةً لِلشَّارِعِ فِي شَرْعِ التَّحْلِيلِ (3). وَفِي مِثْلِهِ نزل قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ *} (4)، فَنَهَى أَوَّلًا عَنْ تَحْرِيمِ الْحَلَالِ، ثُمَّ جَاءَتِ الآية تشعر بأن ذلك اعتداء، (وأن من اعتدى) (5) لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ، وَسَيَأْتِي لِلْآيَةِ تَقْرِيرٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ (6).
لِأَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ همَّ أَنْ يُحَرِّمَ عَلَى نَفْسِهِ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ، وَآخَرَ (7) الْأَكْلَ بِالنَّهَارِ، وَآخَرَ إِتْيَانَ النِّسَاءِ، وَبَعْضُهُمْ هَمَّ بِالِاخْتِصَاءِ (8)، مُبَالَغَةً فِي تَرْكِ شَأْنِ (9) النِّسَاءِ. وَفِي أَمْثَالِ ذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي" (10).
فَإِذَا كُلُّ مَنْ مَنَعَ نَفْسَهُ مِنْ تَنَاوُلِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ ـ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ ـ فَهُوَ خَارِجٌ عَنْ سُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، (وَالْعَامِلُ بِغَيْرِ السُّنَّةِ تَدَيُّنًا هُوَ الْمُبْتَدِعُ بِعَيْنِهِ) (11).
فَإِنْ قِيلَ: فَتَارِكُ الْمَطْلُوبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ ـ نَدْبًا أو وجوباً ـ هل يسمى
_________
(1) في (م) و (خ): "التارك".
(2) في (ت): "شرعياً".
(3) في (ط): "التحيلل".
(4) سورة المائدة، آية (87).
(5) ما بين المعكوفين ساقط من (ط).
(6) وذلك في الباب الخامس، حيث يفرد لها المؤلف فصلاً يبين فيه سبب نزولها، ويذكر فيه مسائلها (1/ 323).
(7) في (ت): "والآخر".
(8) غير واضحة في (ت).
(9) في (م): "شبان".
(10) رواه الإمام البخاري في كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح (9/ 104)، ورواه مسلم في كتاب النكاح (9/ 175)، والنسائي في نفس الكتاب (6/ 60)، والإمام أحمد في المسند (3/ 241) جميعهم عن أنس رضي الله عنه في قصة الثلاثة الذين تقالوا عبادة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فأرادوا أن يصنعوا ما ذكر فكان من ردّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: "فمن رغب عن سنّتي فليس مني"، ورواه أيضاً الدارمي عن سعد بن أبي وقاص في قصة رد التبتّل على عثمان بن مظعون (2/ 179).
(11) ما بين المعكوفين ساقط من (ت).(1/58)
مُبْتَدِعًا أَمْ لَا؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ التَّارِكَ لِلْمَطْلُوبَاتِ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتْرُكَهَا لِغَيْرِ التَّدَيُّنِ، إِمَّا كَسَلًا، أَوْ تَضْيِيعًا، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الدَّوَاعِي النَّفْسِيَّةِ، فَهَذَا الضَّرْبُ رَاجِعٌ إِلَى الْمُخَالَفَةِ لِلْأَمْرِ، فَإِنْ كَانَ فِي وَاجِبٍ فَمَعْصِيَةٌ، وَإِنْ كَانَ فِي نَدْبٍ فَلَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ إِذَا كَانَ التَّرْكُ جُزْئِيًّا، وَإِنْ كَانَ (1) كُلِيًّا فَمَعْصِيَةٌ حَسْبَمَا تبيَّن فِي الْأُصُولِ (2).
وَالثَّانِي: أَنْ يَتْرُكَهَا تَدَيُّنًا، فَهَذَا الضَّرْبُ مِنْ قَبِيلِ الْبِدَعِ حَيْثُ تَدَيَّنَ بِضِدِّ مَا شَرَعَ اللَّهُ، وَمِثَالُهُ أهل الإباحة القائلون بإسقاط التكليف (3) إِذَا بَلَغَ السَّالِكُ عِنْدَهُمُ الْمَبْلَغَ الَّذِي حَدُّوهُ (4).
فإذا قوله في الحدّ: (طريقة [في الدين] (5) مُخْتَرَعَةٌ تُضَاهِي الشَّرْعِيَّةَ)، يَشْمَلُ (6) الْبِدْعَةَ التَّرْكِيَّة كَمَا يَشْمَلُ غَيْرَهَا (7)؛ لِأَنَّ الطَّرِيقَةَ الشَّرْعِيَّةَ أَيْضًا تَنْقَسِمُ إِلَى تَرْكٍ وَغَيْرِهِ.
وَسَوَاءٌ عَلَيْنَا قُلْنَا: إِنَّ التَّرْكَ فِعْلٌ، أَمْ قُلْنَا: إِنَّهُ نَفْيُ الْفِعْلِ، على (8) الطريقتين المذكورتين في أصول الفقه (9).
_________
(1) ساقطة من (ط).
(2) وقد تكلّم المؤلف رحمه الله في الموافقات عن هذا فقال: "إذا كان الفعل مندوباً بالجزء كان واجباً بالكل، كالأذان في المساجد الجوامع أو غيرها، وصلاة الجماعة وصلاة العيدين، وصدقة التطوّع، والنكاح، والوتر، والفجر، والعمرة، وسائر النوافل الرواتب، فإنها مندوب إليها بالجزء. ولو فرض تركها جملة لجرح التارك لها. ألا ترى أن في الأذان إظهاراً لشعائر الإسلام، ولذلك يستحق أهل المصر القتال إذا تركوه. وكذلك صلاة الجماعة من داوم على تركها يجرح، فلا تقبل شهادته ... فالترك لها جملة مؤثر في أوضاع الدين إذا كان دائماً، أمّا إذا كان في بعض الأوقات، فلا تأثير له فلا محظور في الترك"، الموافقات (1/ 132).
(3) في (ط): "التكاليف".
(4) يريد بهم غلاة المتصوّفة الذين يسقطون التكليف عن السالك إذا بلغ مرتبة الولاية. انظر كلام المؤلف في الباب الرابع (1/ 246).
(5) ساقط من جميع النسخ عدا (ر).
(6) في (خ): "يشمل على البدعة".
(7) في (ر): "الطريق".
(8) ساقطة من (ط).
(9) اختلف علماء الأصول في الترك هل هو فعل أو نفي للفعل، فذهب جمهور =(1/59)
وَكَمَا يَشْمَلُ الْحَدُّ التَّرْكَ يَشْمَلُ أَيْضًا ضِدَّ ذَلِكَ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: قِسْمُ الِاعْتِقَادِ، وَقِسْمُ الْقَوْلِ، وَقِسْمُ الْفِعْلِ، فَالْجَمِيعُ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ.
وَبِالْجُمْلَةِ، فَكُلُّ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْخِطَابُ الشَّرْعِيُّ يَتَعَلَّقُ به الابتداع، (والله أعلم) (1).
_________
= الأصوليين على أن الترك فعل، وهو كفّ النفس عن الفعل، بناء على أنه لا تكليف إلاّ بفعل، وذهب أبو هاشم وكثير من الأصوليين إلى أن الترك نفي للفعل وليس فعلاً، بناء على أنه يجوز التكليف بغير فعل.
انظر: المحصول في علم أصول الفقه للرازي (1/ 350)، الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (1/ 194)، بيان المختصر شرح مختصر ابن الحاجب (1/ 429)، حاشية البناني على شرح جمع الجوامع للسبكي (1/ 214)، نزهة الخاطر العاطر شرح روضة الناظر لعبد القادر الدودمي (1/ 128).
(1) ساقطة من جميع النسخ عدا (غ) و (ر).(1/60)
الْبَابُ الثَّانِي
فِي ذَمِّ الْبِدَعِ (1) وَسُوءِ مُنْقَلَبِ أصحابها
لَا خَفَاءَ أَنَّ الْبِدَعَ (1) مِنْ حَيْثُ تَصَوُّرِهَا يَعْلَمُ الْعَاقِلُ ذَمَّهَا؛ لِأَنَّ اتِّبَاعَهَا خُرُوجٌ عَنِ الصراط المستقسم وَرَمْيٌ فِي عَمَايَةٍ.
وَبَيَانُ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ، وَالنَّقْلِ الشَّرْعِيِّ الْعَامِّ (2):
أَمَّا النَّظَرُ فَمِنْ وجوه:
أحدها: أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ بِالتَّجَارِبِ (3) وَالْخِبْرَةِ (4) السَّارِيَةِ فِي الْعَالَمِ (5) مِنْ أَوَّلِ الدُّنْيَا إِلَى الْيَوْمِ أَنَّ الْعُقُولَ غَيْرُ مُسْتَقِلَّةٍ بِمَصَالِحِهَا، اسْتِجْلَابًا لَهَا، أَوْ مَفَاسِدِهَا، اسْتِدْفَاعًا لَهَا، لِأَنَّهَا إِمَّا دُنْيَوِيَّةٌ أَوْ أُخْرَوِيَّةٌ.
(فَأَمَّا الدُّنْيَوِيَّةُ) (6) فَلَا يُسْتَقَلُّ بِاسْتِدْرَاكِهَا عَلَى التَّفْصِيلِ أَلْبَتَّةَ، لَا فِي ابْتِدَاءِ وَضْعِهَا أَوَّلًا، وَلَا فِي اسْتِدْرَاكِ مَا عَسَى أَنْ يَعْرِضَ فِي طَرِيقِهَا، إِمَّا فِي السَّوَابِقِ، وَإِمَّا فِي اللَّوَاحِقِ، لِأَنَّ وَضْعَهَا أَوَّلًا لَمْ يَكُنْ إِلَّا بِتَعْلِيمِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أُنْزِلَ إِلَى (7) الْأَرْضِ عُلِّم كَيْفَ يَسْتَجْلِبُ مَصَالِحَ دُنْيَاهُ؛ إِذْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ مَعْلُومِهِ أَوَّلًا، إِلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إن
_________
(1) في (ت): "البدعة".
(2) سيذكر المؤلف أوجه ذم البدع من القرآن والسنة وكلام الصحابة والتابعين، وحتى من كلام الصوفية أنفسهم. انظر (ص73 وما بعده".
(3) في (م): "بالتجاوز"، وفي (ت): "بالتجار".
(4) في (م): "بالتجاوب الخبرة" بدون الواو.
(5) في (م): "العام".
(6) ما بين المعكوفين ساقط من (م) و (خ) و (ت)، وأثبت في هامش (خ) و (ت).
(7) ساقطة من (م).(1/61)
ذَلِكَ دَاخِلٌ تَحْتَ مُقْتَضَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} (1)، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ تَعْلِيمًا غَيْرَ عَقْلِيٍّ، ثُمَّ تَوَارَثَتْهُ ذُرِّيَّتُهُ كَذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ، لَكِنْ فَرَّعَتِ الْعُقُولُ مِنْ أُصُولِهَا تَفْرِيعًا تَتَوَهَّمُ اسْتِقْلَالَهَا بِهِ.
وَدَخَلَ (2) فِي الْأُصُولِ الدَّوَاخِلُ حَسْبَمَا أَظْهَرَتْ ذَلِكَ أزمنة الفترات؛ إذ لم تجر مصالح أهل (3) الْفَتَرَاتِ عَلَى اسْتِقَامَةٍ، لِوُجُودِ الْفِتَنِ وَالْهَرْجِ (4)، وَظُهُورِ أوجه الفساد (5).
فلولا أن الله تعالى منّ (6) على الخلق ببعثة الأنبياء عليهم السلام لَمْ تَسْتَقِمْ (7) لَهُمْ حَيَاةٌ، وَلَا جَرَتْ أَحْوَالُهُمْ عَلَى كَمَالِ مَصَالِحِهِمْ، وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالنَّظَرِ (8) فِي أَخْبَارِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ.
وَأَمَّا الْمَصَالِحُ الأُخروية، فَأَبْعَدُ عن مجاري (9) العقول (10) مِنْ جِهَةِ وَضْعِ أَسْبَابِهَا، وَهِيَ الْعِبَادَاتُ مَثَلًا، فَإِنَّ الْعَقْلَ لَا يَشْعُرُ بِهَا عَلَى الْجُمْلَةِ فَضْلًا عَنِ الْعِلْمِ بِهَا عَلَى التَّفْصِيلِ، وَمِنْ جِهَةِ تَصَوُّرِ الدَّارِ الْأُخْرَى وَكَوْنِهَا آتِيَةً، فَلَا بُدَّ وَأَنَّهَا (11) دَارُ جَزَاءٍ عَلَى الْأَعْمَالِ، فَإِنَّ الَّذِي يُدْرِكُ الْعَقْلُ مِنْ ذَلِكَ مُجَرَّدُ الْإِمْكَانِ أن يشعر به (12).
_________
(1) سورة البقرة، آية (31)، وقد روى نحو هذا القول عن قتادة. انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (1/ 282).
(2) في (م) و (ر) و (ت): "دخل"، بدون الواو.
(3) ساقطة من جميع النسخ عدا (غ).
(4) الهرج هو القتل كما فسّره النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فعن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا تقوم الساعة حتى يكثر الهرج، قالوا: وما الهرج يا رسول الله؟ قال: القتل، القتل"، رواه مسلم (18/ 31 مع شرح النووي).
ومن معاني الهرج الفتنة والاختلاط. الصحاح (1/ 350).
(5) أشار المؤلف إلى هذا المعنى في كتاب الموافقات (2/ 48).
(6) في (ط): "فلولا أن منَّ الله".
(7) في (م) و (خ) و (ت): "يستقيم"، وكلا اللفظين صحيح في اللغة.
(8) ساقطة من (ت).
(9) في (م): "مجار"، وفي (ط): "مصالح".
(10) في (ط): "المعقول".
(11) ساقطة من (م) و (ت).
(12) في (خ) و (ط): "بها".(1/62)
وَلَا يَغْتَرَّنَّ ذُو الْحِجَى بِأَحْوَالِ الْفَلَاسِفَةِ الْمُدَّعِينَ لِإِدْرَاكِ الْأَحْوَالِ الْأُخْرَوِيَّةِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ، قَبْلَ النَّظَرِ فِي الشَّرْعِ، فَإِنَّ دَعْوَاهُمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ فِي الْمَسْأَلَةِ بِخِلَافِ مَا عَلَيْهِ الْأَمْرُ فِي نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الشَّرَائِعَ لَمْ تَزَلْ وَارِدَةً عَلَى بَنِي آدَمَ مِنْ جِهَةِ (1) الرُّسُلِ، وَالْأَنْبِيَاءُ أَيْضًا لَمْ يَزَالُوا موجودين في العالم، وهم أكثر، كل ذَلِكَ مِنْ لَدُنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى أَنِ انْتَهَتْ بِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ (2)، غَيْرَ أَنَّ الشَّرِيعَةَ كَانَتْ إِذَا أَخَذَتْ فِي الدُّرُوسِ (3) بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا مِنْ أَنْبِيَائِهِ يبيِّن (4) لِلنَّاسِ مَا خُلقوا لِأَجْلِهِ، وَهُوَ التَّعَبُّدُ لِلَّهِ.
فَلَا بُدَّ أَنْ يَبْقَى مِنَ الشَّرِيعَةِ الْمَفْرُوضَةِ ـ مَا بَيْنَ زَمَانِ أَخْذِهَا فِي الِانْدِرَاسِ وَبَيْنَ إِنْزَالِ الشَّرِيعَةِ بعدها ـ بعض الأصول معلومة (5)، فَأَتَى الْفَلَاسِفَةُ إِلَى تِلْكَ الْأُصُولِ فَتَلَقَّفُوهَا، أَوْ تلقفوا منها، ما أرادوا (6) أَنْ يُخَرِّجُوهُ عَلَى مُقْتَضَى عُقُولِهِمْ، وَجَعَلُوا ذَلِكَ عَقْلِيًّا لَا شَرْعِيًّا، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمُوا، فَالْعَقْلُ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ أَلْبَتَّةَ، وَلَا يَنْبَنِي عَلَى غَيْرِ أَصْلٍ، وَإِنَّمَا (7) يَنْبَنِي عَلَى أَصْلٍ مُتَقَدِّمٍ مُسَلَّمٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَلَا يُمْكِنُ فِي أَحْوَالِ الآخرة تصوّر (8) أَصْلٌ مُسَلَّمٌ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ، وَلِهَذَا المعنى بسطٌ سيأتي إن شاء الله تعالى (9).
فَعَلَى الْجُمْلَةِ، الْعُقُولُ لَا تَسْتَقِلُّ بِإِدْرَاكِ مَصَالِحِهَا دُونَ الْوَحْيِ.
فَالِابْتِدَاعُ مُضَادٌّ لِهَذَا الْأَصْلِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ (10) مُسْتَنَدٌ شَرْعِيٌّ بِالْفَرْضِ، فَلَا يَبْقَى إلا ما ادّعوه من العقل.
_________
(1) ساقطة من (ر).
(2) ساقطة من أصل (خ)، وأثبتت في هامشها.
(3) درس الرسم إذا عفا، ودرس الثوب إذا أخلق. الصحاح (3/ 927 ـ 928).
(4) في (ت): "فيبين".
(5) في (ط): "المعلومة".
(6) المثبت من (ر)، وفي بقية النسخ: "فأرادوا".
(7) في (ت): "فإنما".
(8) في (م) و (خ): "تسلم"، وفي (ط): "قبلهم"، وعبارة (ت): "قبلهم تسلم أصل مسلم".
(9) وذلك في الباب العاشر حيث جعل المؤلف تحسين الظن بالعقل من أسباب الابتداع في الشريعة، وبسط الكلام عليه هناك. (2/ 318 وما بعدها) من المطبوع.
(10) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط).(1/63)
فَالْمُبْتَدِعُ لَيْسَ عَلَى ثِقَةٍ مِنْ بِدْعَتِهِ أَنْ يَنَالَ بِسَبَبِ الْعَمَلِ بِهَا مَا رَامَ تَحْصِيلَهُ مِنْ جِهَتِهَا، فَصَارَتْ كَالْعَبَثِ.
هَذَا إِنْ قُلْنَا (1): إِنَّ الشَّرَائِعَ جَاءَتْ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ.
وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ، فَأَحْرَى أَنْ لَا يَكُونَ صَاحِبُ الْبِدْعَةِ عَلَى ثِقَةٍ مِنْهَا؛ لِأَنَّهَا إِذْ ذَاكَ مُجَرَّدُ تَعَبُّدٍ وَإِلْزَامٍ مِنْ جِهَةِ الْآمِرِ لِلْمَأْمُورِ، وَالْعَقْلُ بِمَعْزِلٍ عَنْ هَذِهِ الْخُطَّةِ حَسْبَمَا تَبَيَّنَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ (2).
وَنَاهِيكَ مِنْ نِحْلَةٍ يَنْتَحِلُهَا صَاحِبُهَا فِي أَرْفَعِ مُطَالَبَةٍ لَا ثِقَةَ بِهَا، وَيُلْقِي مِنْ يَدِهِ مَا هُوَ عَلَى ثِقَةٍ منه:
والثاني (3): أن الشريعة جاءت كاملة تامّة (4) لَا تَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ وَلَا النُّقْصَانَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِيهَا: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} (5).
وَفِي حَدِيثِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ (6): وَعَظَنَا رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم موعظة (7)
_________
(1) ساقطة من أصل (م)، ومثبتة في هامشها، وفي (غ): "إذا".
(2) تناول المؤلف هذه القضية في كتاب الموافقات، وذلك في مقدمة قدّمها حول مقاصد الشريعة، وأنها جاءت لمصالح العباد الدنيوية والأخروية. انظر كتاب الموافقات للمؤلف (2/ 6 ـ 7)، ثم قال: وزعم الرازي أن أحكام الله ليست معلّلة بعلّة البتّة، وأخذ في الردّ عليه. قلت: هذا هو مذهب الأشاعرة الذين نفوا الحكمة الإلهية، وكذلك نفوا أن تكون أحكام الله معلّلة، وانظر قولهم أيضاً في كتاب التمهيد للباقلاني (ص30)، وقد ردّ عليهم أهل السنة والجماعة في كتبهم، فانظر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى (16/ 96 وما بعدها)، ومنهاج السنة له (1/ 141 وما بعدها)، والنبوات له (ص358)، وقد أطال الإمام ابن القيم في الرد عليهم في شفاء العليل (ص391 ـ 521).
(3) أي من وجوه ذم البدعة من جهة النظر.
(4) ساقطة من جميع النسخ عدا (غ) و (ر).
(5) سورة المائدة، آية (3).
(6) هو أبو نجيح العرباض بن سارية السلمي، صحابي، كان من أعيان أهل الصفة، سكن حمص، وروى أحاديث، روى عنه جبير بن نفير وعده، توفي سنة 75هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء (3/ 419)، الإصابة لابن حجر (2/ 473)، الحلية لأبي نعيم (2/ 13).
(7) في (م): "وعظة".(1/64)
ذَرَفَتْ مِنْهَا الْأَعْيُنُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَمَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟ قَالَ: "تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ، لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، وَلَا يَزِيغُ عَنْهَا (1) بَعْدِي إِلَّا هالك، من (2) يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِمَا عرفتم من سنّتي، وسنّة الخلفاء الراشدين المهديين (3) مِنْ بَعْدِي" (4) الْحَدِيثَ.
وَثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَمُتْ حَتَّى أَتَى بِبَيَانِ جَمِيعِ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي أَمْرِ (5) الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَهَذَا لَا مُخَالِفَ عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ.
فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَالْمُبْتَدِعُ إِنَّمَا مَحْصُولُ قَوْلِهِ بِلِسَانِ حَالِهِ أَوْ (6) مَقَالِهِ: إِنَّ الشَّرِيعَةَ لَمْ تَتِمَّ، وَأَنَّهُ بَقِيَ مِنْهَا أَشْيَاءُ يَجِبُ أَوْ يُسْتَحَبُّ اسْتِدْرَاكُهَا (7)، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُعْتَقِدًا لِكَمَالِهَا وَتَمَامِهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، لَمْ يَبْتَدِعْ (8)، وَلَا اسْتَدْرَكَ عَلَيْهَا، وَقَائِلُ هَذَا ضَالٌّ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.
قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ (9): سَمِعْتُ مالكاً يقول: "من ابتدع في الإسلام
_________
(1) في (م) و (ر) و (خ): "عليها"، وفي (ط): "عنها".
(2) في (ط): "ومن".
(3) ساقطة من جميع النسخ عدا (غ).
(4) رواه الإمام ابن ماجه عن العرباض بن سارية في باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين (1/ 16)، ورواه الإمام أحمد في المسند (4/ 126)، ورواه أبو داود، برقم (4607)، (4/ 200)، وليس فيه: "تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا وَلَا يَزِيغُ عنها بعدي إلاّ هالك"، ورواه الترمذي برقم (2671)، وليس فيه: "تركتكم على البيضاء ... "، وقال: هذا حديث حسن صحيح، والحاكم (1/ 95)، والبيهقي (10/ 114)، وابن حبان (1/ 104)، واللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 74)، والمروزي في السنة (ص26)، والآجري في الشريعة (ص47)، وابن أبي عاصم في السنّة، وقال الألباني في تعليقه على الكتاب: "حديث صحيح" (1/ 27). وانظر صحيح الجامع الصغير للألباني (1/ 499).
(5) ساقطة من (ت).
(6) في (ت): "و".
(7) في (غ): "إدراكها".
(8) في (م) و (خ): "لم يبدع".
(9) هو عبد الملك بن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة ابن الماجشون، أبو مروان، المدني الفقيه، كان مفتي أهل المدينة، روى عن أبيه وعن مالك، وكان رفيق الشافعي، وهو صدوق، وله أغلاط في الحديث، توفي سنة 214هـ.
انظر: تقريب التهذيب لابن حجر (1/ 520)، الكاشف للذهبي (2/ 186).(1/65)
بدعة يراها حسنة، فقد زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَانَ الرِّسَالَةَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (1)، فَمَا لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ دِينًا، فَلَا يَكُونُ الْيَوْمَ دِينًا" (2).
وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمُبْتَدِعَ مُعَانِدٌ لِلشَّرْعِ وَمَشَاقٌّ لَهُ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ قَدْ عيَّن لِمَطَالِبِ الْعَبْدِ طُرُقًا خَاصَّةً، عَلَى وُجُوهٍ خَاصَّةٍ، وَقَصَرَ الْخَلْقَ عَلَيْهَا بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ الْخَيْرَ فِيهَا، وَأَنَّ الشَّرَّ فِي تعدِّيها، إلى غيرها (3)؛ لِأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا أَرْسَلَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ.
فَالْمُبْتَدِعُ رَادٌّ (4) لِهَذَا كُلِّهِ، فَإِنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ ثَمَّ طُرُقًا أُخَر، لَيْسَ (5) مَا حَصَرَهُ الشَّارِعُ بِمَحْصُورٍ، وَلَا مَا عَيَّنَهُ بمتعيِّن، وأن (6) الشَّارِعَ يَعْلَمُ وَنَحْنُ أَيْضًا نَعْلَمُ، بَلْ رُبَّمَا يَفْهَمُ مِنِ اسْتِدْرَاكِهِ الطُّرُقَ عَلَى الشَّارِعِ، أَنَّهُ عَلِمَ مَا لَمْ يَعْلَمْهُ الشَّارِعُ.
وَهَذَا إِنْ كَانَ مَقْصُودًا لِلْمُبْتَدِعِ، فَهُوَ كُفْرٌ بِالشَّرِيعَةِ وَالشَّارِعِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَقْصُودٍ، فَهُوَ ضَلَالٌ مُبِينٌ.
وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، إِذْ كَتَبَ لَهُ عَدِيُّ بْنُ أَرْطَأَةَ (7) يَسْتَشِيرُهُ فِي بَعْضِ الْقَدَرِيَّةِ (8)، فكتب إليه:
_________
(1) سورة المائدة، آية (3).
(2) رواه عنه بسنده الإمام ابن حزم في الإحكام في أصول الأحكام (6/ 85).
(3) المثبت من (ر)، وفي بقية النسخ: "إلى غير ذلك".
(4) في (م): "زائد".
(5) في (غ) و (ر): "وليس".
(6) في (ت): "لأن"، وفي (خ) و (ط): "كأن".
(7) هو عدي بن أرطاة الفزاري الدمشقي، كان أمير البصرة لعمر بن عبد العزيز، روى عن أبي أمامة وغيره، وذكره ابن حبان في الثقات، قتله معاوية بن يزيد بن المهلب سنة اثنتين ومائة.
انظر: سير أعلام النبلاء (5/ 53)، تقريب التهذيب (2/ 16)، شذرات الذهب لابن العماد (1/ 124).
(8) تقدم ذكرهم والترجمة لهم في المقدمة (ص11).(1/66)
"أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَالِاقْتِصَادِ فِي أَمْرِهِ، وَاتِّبَاعِ سُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم، وترك ما أحدث المحدثون مما (1) قَدْ جَرَتْ سُنَّتُهُ (2)، وَكُفُوا مُؤْنَتَهُ، فَعَلَيْكَ بِلُزُومِ السُّنَّةِ، فَإِنَّ السُّنَّةَ إِنَّمَا سنَّها مَنْ قَدْ عَرَفَ مَا فِي خِلَافِهَا مِنَ الْخَطَأِ وَالزَّلَلِ وَالْحُمْقِ وَالتَّعَمُّقِ، فارضَ لِنَفْسِكَ بِمَا (3) رَضِيَ بِهِ الْقَوْمُ (4) لِأَنْفُسِهِمْ، فَإِنَّهُمْ عَلَى عِلْمٍ وَقَفُوا، وَبِبَصَرٍ نافذ قد كفوا، ولهم (5) كانوا على كشف الأمور أقوى، وبفضل لو كان (6) فِيهِ أَحْرَى، فَلَئِنْ قُلْتُمْ: أَمْرٌ حَدَثَ بَعْدَهُمْ، مَا أَحْدَثَهُ بَعْدَهُمْ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَ غَيْرَ سُنَنِهِمْ، وَرَغِبَ بِنَفْسِهِ عَنْهُمْ، إِنَّهُمْ لَهُمُ السَّابِقُونَ (7)، فَقَدْ تَكَلَّمُوا مِنْهُ بِمَا يَكْفِي، وَوَصَفُوا مِنْهُ مَا يَشْفِي، فَمَا دُونَهُمْ مُقَصِّرٌ، وَمَا فَوْقَهُمْ محسر (8)، لقد قصر عنهم (أقوام فجفوا، وطمح عنهم) (9) آخرون فَغَلَوْا (10)، وَأَنَّهُمْ بَيْنَ ذَلِكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ" (11).
_________
(1) في (خ) و (ط) و (غ): "فيما".
(2) في (م): "سنة".
(3) في (ت): "ما".
(4) في (خ): "العموم".
(5) في (ط): "وهم".
(6) في (م) و (ت): "لو كانوا"، وفي (خ) و (ط): "وبفضل كانوا فيه".
(7) في (غ) و (ر): "الغابنون".
(8) ساقطة من (غ) و (ر)، وفي رواية أبي داود: "فما دونهم من مقصر، وما فوقهم من محسر" (4/ 202)، قال في عون المعبود بعد ذكره أن معنى القصر الحبس، وأن معنى الحسر الكشف: "وحاصله أن السلف الصالحين قد حبسوا أنفسهم عن كشف ما لم يحتج إلى كشفه من أمر الدين حبساً لا مزيد عليه، وكذلك كشفوا ما احتيج إلى كشفه من أمر الدين كشفاً لا مزيد عليه" عون المعبود (12/ 370).
(9) ما بين المعكوفتين ساقط من جميع النسخ، وقد أثبته من سنن أبي داود (4/ 202)، والبدع والنهي عنها لابن وضاح (ص37)، إذ لا يستقيم المعنى إلاّ به.
(10) في (ط): "فقلوا".
(11) رواه عن عمر بن عبد العزيز الإمام أبو داود في سننه، كتاب السنة، باب لزوم السنة، تحت رقم (4612)، ولفظه أطول من لفظ المؤلف (4/ 202)، ورواه ابن وضاح في البدع والنهي عنها، باب كل محدثة بدعة (ص37)، ورواه ابن بطة في الإبانة الكبرى (1/ 321)، ورواه أبو نعيم في الحلية ضمن ترجمة عمر بن عبد العزيز (5/ 338)، ورواه الإمام أحمد في كتاب الزهد (ص360)، وذكره ابن كثير في البداية والنهاية ضمن ترجمته (9/ 224).(1/67)
ثُمَّ خُتِمَ الْكِتَابُ بِحُكْمِ مَسْأَلَتِهِ (1):
فَقَوْلُهُ: "فَإِنَّ (2) السُّنَّةَ إِنَّمَا سَنَّهَا مَنْ قَدْ عَرَفَ مَا في خلافها" هو (3) مَقْصُودُ الِاسْتِشْهَادِ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّ الْمُبْتَدِعَ قَدْ نَزَّلَ نَفْسَهُ مَنْزِلَةَ الْمُضَاهِي لِلشَّارِعِ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ وَضَعَ الشَّرَائِعَ وَأَلْزَمَ الْخَلْقَ الْجَرْيَ عَلَى سُنَنِهَا، وَصَارَ هُوَ الْمُنْفَرِدَ بِذَلِكَ، لِأَنَّهُ حَكَمَ بَيْنَ الْخَلْقِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ التَّشْرِيعُ مِنْ مُدْرَكَاتِ الْخَلْقِ لَمْ (4) تُنَزَّلِ (5) الشَّرَائِعُ، وَلَمْ يَبْقَ (6) الْخِلَافُ بَيْنَ النَّاسِ، وَلَا احْتِيجَ إلى بعث الرسل عليهم السلام.
فهذا (7) الَّذِي ابْتَدَعَ فِي دِينِ اللَّهِ قَدْ صيَّر نفسه نظيراً ومضاهياً، حَيْثُ شرَّع مَعَ الشَّارِعِ، وَفَتَحَ لِلِاخْتِلَافِ بَابًا، وَرَدَّ قَصْدَ الشَّارِعِ فِي الِانْفِرَادِ بِالتَّشْرِيعِ، وَكَفَى بذلك شراً (8).
وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ اتِّبَاعٌ لِلْهَوَى، لِأَنَّ الْعَقْلَ (9) إِذَا لَمْ يَكُنْ مُتَّبِعًا لِلشَّرْعِ، لَمْ يَبْقَ لَهُ إِلَّا الْهَوَى وَالشَّهْوَةُ (10)، وَأَنْتَ تَعْلَمُ مَا فِي اتِّبَاعِ الْهَوَى، وَأَنَّهُ ضَلَالٌ مُبِينٌ، أَلَا تَرَى قول (11) الله تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ *} (12)، فَحَصَرَ الْحُكْمَ فِي أَمْرَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا عِنْدَهُ، وَهُوَ الْحَقُّ وَالْهَوَى، وَعَزَلَ الْعَقْلَ مُجَرَّدًا إِذْ لَا يُمْكِنُ فِي الْعَادَةِ إِلَّا ذَلِكَ.
_________
(1) وهي مسألة القدر كما مرّ، وكما في سنن أبي داود (4/ 202)، تحت رقم (4612)، وفيه كلام نفيس في هذه المسألة.
(2) في (خ) و (ت): "من".
(3) في جميع النسخ: "فهو" عدا (غ) و (ر).
(4) ساقطة من (م) و (خ).
(5) في (م) و (خ): "تزل".
(6) في (ر): "يقع".
(7) في جميع النسخ: "هذا"، والمثبت من (غ) و (ر).
(8) ساقطة من جميع النسخ عدا (غ) و (ر).
(9) في (ت): "العقلل".
(10) في (م) و (خ): "الشهوى".
(11) في (ر): "إلى قول".
(12) سورة ص، آية (26).(1/68)
وَقَالَ: {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} (1)، فَجَعَلَ الْأَمْرَ مَحْصُورًا بَيْنَ أَمْرَيْنِ: اتِّبَاعِ الذِّكْرِ، وَاتِّبَاعِ الْهَوَى.
وَقَالَ: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} (2)، وَهِيَ مِثْلُ مَا قَبْلَهَا، وَتَأَمَّلُوا هَذِهِ الْآيَةَ، فَإِنَّهَا صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ مَنْ لَمْ يَتَّبِعْ هُدَى اللَّهِ فِي هَوَى نَفْسِهِ، فَلَا أَحَدَ أَضَلُّ مِنْهُ.
وَهَذَا شَأْنُ الْمُبْتَدِعِ، فَإِنَّهُ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ، وَهُدَى اللَّهِ هُوَ الْقُرْآنُ.
وَمَا بيَّنته الشَّرِيعَةُ (3)، وبيَّنته الْآيَةُ أَنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى (4) عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ تَابِعًا لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، فَلَيْسَ بِمَذْمُومٍ، وَلَا صَاحِبُهُ بِضَالٍّ، كَيْفَ وَقَدْ قَدَّمَ الْهُدَى (5) فَاسْتَنَارَ بِهِ فِي طَرِيقِ هَوَاهُ، وَهُوَ شَأْنُ الْمُؤْمِنِ التَّقِيِّ (6).
وَالْآخَرُ أَنْ يَكُونَ هَوَاهُ هُوَ (7) الْمُقَدَّمُ بالقصد الأول، كان الأمر والنهي تابعين بالنسبة إِلَيْهِ أَوْ غَيْرَ تَابِعَيْنِ، وَهُوَ الْمَذْمُومُ.
وَالْمُبْتَدِعُ قدَّم هَوَى نَفْسِهِ عَلَى هُدَى (8) رَبِّهِ (9)، فَكَانَ أضلَّ النَّاسِ، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ عَلَى هُدًى.
وَقَدِ انْجَرَّ هُنَا مَعْنًى يَتَأَكَّدُ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ، وهو أن الآيات (10) الْمَذْكُورَةَ عيَّنت لِلِاتِّبَاعِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ طَرِيقَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: الشَّرِيعَةُ، وَلَا مِرْيَةَ فِي أَنَّهَا عِلْمٌ وَحَقٌّ وَهُدًى، وَالْآخَرُ الْهَوَى، وَهُوَ الْمَذْمُومُ؛ لِأَنَّهُ لم يذكر في القرآن إلاّ في سياق (11) الذَّمِّ، وَلَمْ يَجْعَلْ ثَمَّ طَرِيقًا ثَالِثًا، وَمَنْ تتبَّع الْآيَاتِ أَلْفَى ذَلِكَ كَذَلِكَ.
ثُمَّ الْعِلْمُ الَّذِي أُحيل عَلَيْهِ، وَالْحَقُّ الَّذِي حُمِدَ إِنَّمَا هُوَ الْقُرْآنُ وَمَا نَزَلَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (12).
_________
(1) سورة الكهف، آية (28).
(2) سورة القصص، آية (50).
(3) في (ر): "وبينت".
(4) في (م) و (ت): "الهدى".
(5) في (ر): "الهوى".
(6) في (ر): "المتقي".
(7) ساقطة من (غ).
(8) في (غ): "هوى"، وهو خطأ ظاهر.
(9) في (خ) و (ط): "الله".
(10) المثبت من (ر)، وفي بقية النسخ: "الآية".
(11) في (م) و (ر) و (ت): "مساق".
(12) سورة الأنعام، آية (143).(1/69)
وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ} (1).
وَقَالَ: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلاَدَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ *} (2).
وَهَذَا كُلُّهُ لِاتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ فِي التَّشْرِيعِ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ.
وَقَالَ: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} (3).
وَهُوَ اتِّبَاعُ الْهَوَى فِي التَّشْرِيعِ، إِذْ حَقِيقَتُهُ افْتِرَاءٌ عَلَى اللَّهِ.
وَقَالَ: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} (4)، أَيْ: لَا يَهْدِيهِ دُونَ اللَّهِ شَيْءٌ، وَذَلِكَ بِالشَّرْعِ لَا بِغَيْرِهِ وَهُوَ الْهُدَى (5).
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، وَأَنَّ الْأَمْرَ دَائِرٌ بَيْنَ الشَّرْعِ وَالْهَوَى تَزَلْزَلَتْ قَاعِدَةُ حُكْمِ الْعَقْلِ الْمُجَرَّدِ، فَكَأَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَقْلِ فِي هَذَا الْمَيْدَانِ مَجَالٌ إِلَّا مِنْ تَحْتِ نَظَرِ الْهَوَى، فَهُوَ إِذًا اتِّبَاعُ الْهَوَى بِعَيْنِهِ فِي تَشْرِيعِ الْأَحْكَامِ. وَدَعِ النَّظَرَ الْعَقْلِيَّ فِي الْمَعْقُولَاتِ الْمَحْضَةِ، فَلَا كَلَامَ فِيهِ هُنَا، وأن أَهْلُهُ قَدْ زَلُّوا أَيْضًا بِالِابْتِدَاعِ، فَإِنَّمَا زَلُّوا مِنْ حَيْثُ وُرُودِ الْخِطَابِ، وَمِنْ حَيْثُ التَّشْرِيعِ، وَلِذَلِكَ عُذِرَ الْجَمِيعُ قَبْلَ إِرْسَالِ الرُّسُلِ، أَعْنِي فِي خَطَئِهِمْ فِي التَّشْرِيعَاتِ وَالْعَقْلِيَّاتِ، حَتَّى جَاءَتِ الرُّسُلُ فَلَمْ يَبْقَ لِأَحَدٍ حُجَّةٌ يَسْتَقِيمُ إِلَيْهَا {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (6)، وَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ.
فَهَذِهِ قَاعِدَةٌ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مِنْ بَالِ النَّاظِرِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَإِنْ كَانَتْ أُصُولِيَّةً، فهذه نكتتها (7) مستنبطة من كتاب الله، (وبالله التوفيق) (8)، انتهى.
_________
(1) سورة الأنعام، آية (144).
(2) سورة الأنعام، آية (140).
(3) سورة المائدة، آية (103).
(4) سورة الجاثية، آية (23).
(5) في (ر): "الهوى".
(6) سورة النساء، آية (165).
(7) في (ر): "نكتبها".
(8) ما بين المعكوفتين ساقط من جميع النسخ عدا (غ).(1/70)
فصل (1)
وأمّا النقل فمن وجوه:
أحدها: مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ (2) مِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَمِّ مَنِ ابْتَدَعَ فِي دِينِ اللَّهِ تعالى فِي الْجُمْلَةِ.
فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} (3)، فهذه الآية من أَعْظَمُ الشَّوَاهِدِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ تَفْسِيرُهَا، فَصَحَّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِهِ: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} (4)، قَالَ: "فَإِذَا رَأَيْتِهِمْ فَاعْرِفِيهِمْ (5) " (6).
وَصَحَّ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم (عن هذه الآية) (7) {هُوَ
_________
(1) يتناول المؤلف في هذا الفصل وما بعده من الفصول وجوه ذم البدع من القرآن والسنّة وأقوال الصحابة والتابعين والصوفية المشهورين.
(2) في (غ): "الحكيم".
(3) سورة آل عمران، آية (7).
(4) سورة آل عمران، آية (7).
(5) في (م) و (ت): "فاعرفنهم".
(6) رواه الإمام الترمذي في كتاب التفسير من سننه برقم (2993)، وقال: حسن صحيح (5/ 207)، ورواه الإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى (2/ 604)، وقد ذكره الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي (3/ 31). وأصل الحديث في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها كما سيأتي.
(7) ما بين المعكوفين ساقط من (غ).(1/71)
الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا (رَأَيْتُمُ) (1) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ (2) فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ (3) " (4).
وَهَذَا التَّفْسِيرُ مُبْهَمٌ (5)، وَلَكِنَّهُ جَاءَ فِي رِوَايَةٍ عَنْ عَائِشَةَ أَيْضًا قَالَتْ: تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} الْآيَةَ، قَالَ: "فَإِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيهِ فَهُمُ الَّذِينَ عَنَى (6) اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ" (7)، وَهَذَا أبينَ لِأَنَّهُ جَعَلَ عَلَامَةَ الزَّيْغِ الْجِدَالَ فِي الْقُرْآنِ، وَهَذَا الْجِدَالُ مُقَيَّدٌ بِاتِّبَاعِ الْمُتَشَابِهِ.
فَإِذًا الذَّمُّ إِنَّمَا لَحِقَ مَنْ جَادَلَ فِيهِ بِتَرْكِ الْمُحْكَمِ ـ وَهُوَ أُمُّ الْكِتَابِ وَمُعْظَمُهُ ـ وَالتَّمَسُّكِ بِمُتَشَابِهِهِ (8).
وَلَكِنَّهُ بَعْدُ مُفْتَقِرٌ إِلَى تَفْسِيرٍ أَظْهَرَ، فَجَاءَ عَنْ أَبِي غَالِبٍ وَاسْمُهُ حَزَوَّر (9) قَالَ: كُنْتُ بِالشَّامِ، فبعث المهلب (10) سبعين رأساً من
_________
(1) في (م) و (خ) و (ت): "رأيتهم".
(2) ساقطة من (غ).
(3) في (م): "فاحذرهم".
(4) رواه الإمام البخاري في كتاب التفسير من صحيحه، باب منه آيات محكمات، عن عائشة وذكره (8/ 209 مع الفتح)، ورواه الإمام مسلم في كتاب العلم من صحيحه (16/ 217 بشرح النووي)، والإمام أبو داود في كتاب السنة من سننه، باب مجانبة أهل الأهواء برقم (4598) (4/ 198)، والإمام الترمذي في كتاب التفسير من صحيحه برقم (2994)، وقال: حسن صحيح (5/ 207)، والإمام الدارمي في المقدمة من سننه، باب من هاب الفتيا وكره التبدع والتنطع (1/ 66)، والإمام اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 118)، والإمام ابن أبي عاصم في السنة (1/ 9)، والإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى (2/ 603 ـ 604)، والبيهقي في دلائل النبوة (6/ 545).
(5) في (م): "منهم".
(6) في (خ): "عن".
(7) رواه الإمام أحمد في المسند (6/ 48)، والإمام ابن ماجه في المقدمة من سننه برقم (47) (1/ 18)، والإمام الآجري في الشريعة (ص26)، والإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى (2/ 602)، وصححه الشيخ الألباني كما في صحيح سنن ابن ماجه (1/ 14 ـ 15).
(8) في (خ): "بمشابهه".
(9) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "جرور"، والصواب المثبت، وهو صاحب أبي أمامة رضي الله عنه، قيل: اسمه حزور، وقيل: سعد بن الحزور، وقيل: نافع، قال ابن حجر: "صدوق يخطئ"، وضعفه النسائي، وقال ابن حبان: لا يحتجّ به.
انظر: التقريب (2/ 460)، الكاشف للذهبي (3/ 322)، تهذيب التهذيب (12/ 197).
(10) هو أبو سعيد المهلب بن أبي صفرة، واسمه ظالم بن سارق العتكي، كان من ثقات=(1/72)
الْخَوَارِجِ (1)، فَنُصِبُوا عَلَى دَرَجِ دِمَشْقَ، فَكُنْتُ عَلَى ظهر بيت لي (2)، فمرّ أبو أمامة رضي الله عنه، فَنَزَلْتُ فَاتَّبَعْتُهُ، فَلَمَّا وَقَفَ عَلَيْهِمْ دَمَعَتْ عَيْنَاهُ وقال: "سبحان الله! ما يصنع الشيطان (3) بِبَنِي آدَمَ! قَالَهَا ثَلَاثًا، كِلَابُ جَهَنَّمَ، كِلَابُ جَهَنَّمَ، كِلَابُ جَهَنَّمَ، شَرُّ قَتْلَى تَحْتَ ظِلِّ السَّمَاءِ ـ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ـ خَيْرُ قَتْلَى مَنْ قَتَلُوهُ، طُوبَى لِمَنْ قَتَلَهُمْ أَوْ قَتَلُوهُ"، ثُمَّ الْتَفَتَ إليّ فقال: "يا (4) أَبَا غَالِبٍ إِنَّكَ بِأَرْضٍ هُمْ بِهَا كَثِيرٌ فَأَعَاذَكَ اللَّهُ مِنْهُمْ"، قُلْتُ: رَأَيْتُكَ بَكَيْتَ حِينَ رَأَيْتَهُمْ، قَالَ: "بَكَيْتُ رَحْمَةً حِينَ رَأَيْتُهُمْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، هَلْ تَقْرَأُ سُورَةَ آلِ عِمْرَانَ"؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَقَرَأَ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} حَتَّى بَلَغَ {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} (5)، وَإِنَّ هَؤُلَاءِ كَانَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَزِيغَ (6) بِهِمْ، ثُمَّ قَرَأَ {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} إِلَى قَوْلِهِ: {فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (7)، قُلْتُ: هُمْ هَؤُلَاءِ يَا أَبَا أُمَامَةَ؟ قَالَ: "نَعَمْ"، قُلْتُ: مِنْ قِبَلِكَ تَقُولُ أَوْ شَيْءٌ سَمِعْتُهُ (8) مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: "إِنِّي إِذًا لَجَرِيءٌ، بَلْ سَمِعْتُهُ (مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) (9) لَا مَرَّةً وَلَا مَرَّتَيْنِ"، حَتَّى عَدَّ سَبْعًا، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَفَرَّقُوا عَلَى (10) إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تَزِيدُ عَلَيْهَا فِرْقَةً، كُلُّهُا فِي النَّارِ إِلَّا السَّوَادُ الْأَعْظَمُ"، قُلْتُ: يَا أَبَا أُمَامَةَ أَلَا تَرَى ما فعلوا؟ (11) قال: عليهم ما حملوا {وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} (12) الآية.
_________
=الأمراء، وكان عارفاً بالحرب، غزا الهند، وولي الجزيرة لابن الزبير، وحارب الخوارج. توفي غازياً بمرو الروذ سنة اثنتين وثمانين.
انظر: تقريب التهذيب لابن حجر (2/ 280)، الكاشف للذهبي (3/ 159)، سير أعلام النبلاء (4/ 383).
(1) تقدم ذكرهم والتعريف بهم في المقدمة (ص11).
(2) ساقطة من (ت).
(3) في (ط): "السلطان"، وهو خطأ.
(4) ساقطة من (ط).
(5) سورة آل عمران، آية (7).
(6) ساقطة من (خ) و (ت) و (ط) و (م).
(7) سورة آل عمران، آية (105 ـ 107).
(8) في (ط): "سمعت".
(9) ما بين المعكوفين ساقط من (غ).
(10) ساقطة من (ت).
(11) في (غ): "ما يفعلون".
(12) سورة النور، آية (54)، ونصّ الآية: {فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ}.(1/73)
خَرَّجَهُ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي (1) وَغَيْرُهُ (2).
وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ (3): "أَلَا تَرَى مَا فِيهِ (4) السَّوَادُ الْأَعْظَمُ" وَذَلِكَ فِي أَوَّلِ خِلَافَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ (5)، وَالْقَتْلُ (6) يَوْمَئِذٍ ظاهر، قال: "عليهم ما حملوا {وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} (7) ".
_________
(1) هو إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد الأزدي المالكي، قاضي بغداد، وكان إماماً حافظاً متقناً فقيهاً، صنّف المسند، وصنف علوم القرآن، وجمع حديث أيوب وحديث مالك، وصنف الموطأ، استوطن بغداد وولي قضاءها حتى مات سنة اثنتين وثمانين ومئتين.
انظر: سير أعلام النبلاء (13/ 339)، تذكرة الحفاظ (2/ 225)، شذرات الذهب (2/ 178).
(2) رواه الإمام اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة، سياق ما روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في الحثّ على اتباع الجماعة والسواد الأعظم (1/ 102 ـ 104)، وابن أبي عاصم في السنّة، باب فيما أخبر به النبيّ عليه السلام أن أمّته ستفترق، برقم (68) (1/ 34)، والمروزي في السنة (ص22)، والبيهقي في كتاب قتال أهل البغي من سننه، باب الخلاف في قتال أهل البغي (8/ 188)، وأبو نعيم الأصبهاني في ذكر أخبار أصبهان (1/ 286)، والطبراني في المعجم الكبير برقم (8035)، (8051)، (8054)، (8/ 321، 327، 328).
وروى الخبر من غير ذكر حديث الافتراق الإمام أحمد في المسند (5/ 253، 256، 269)، والترمذي في كتاب التفسير من سننه برقم (3000)، (5/ 210)، وابن ماجه في مقدمة سننه، باب في ذكر الخوارج برقم (176)، (1/ 62)، وعبد الله بن أحمد في السنة (2/ 635، 643، 644)، والآجري في الشريعة (ص35 ـ 37)، قال الإمام الهيثمي في مجمع الزوائد: "رواه الطبراني، ورجاله ثقات" (6/ 234)، وقال في موضع آخر: "رواه الطبراني في الأوسط والكبير، وفيه أبو غالب، وثّقه ابن معين وغيره، وبقية رجال الأوسط ثقات، وكذلك أحد إسنادي الكبير" المجمع (7/ 261 ـ 262). وحسّنه الألباني إن كان روى من غير طريق القطن بن عبد الله، الذي يرويه عن أبي غالب.
انظر: ظلال الجنة (1/ 34)، وقد رواه غيره من الثقات عن أبي غالب كحماد بن زيد عند البيهقي.
(3) في (م) و (ط): "قال رواته ... ".
(4) في (خ): "في"، وقد صححت في الهامش.
(5) هو الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان بن الحكم، أبو الوليد، كان طالب علم قبل الخلافة، ثم اشتغل بها. ملك ثلاث عشرة سنة استقلالاً، وقبلها منازعاً لابن الزبير تسع سنين. مات سنة ست وثمانين وقد جاوز الستين.
انظر: سير أعلام النبلاء (4/ 246)، طبقات ابن سعد (5/ 223)، تاريخ بغداد للخطيب البغدادي (10/ 388).
(6) في (ر): "القتيل".
(7) سورة النور، آية (54).(1/74)
وَخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ مُخْتَصَرًا، وَقَالَ فِيهِ: "حَدِيثٌ حَسَنٌ" (1).
وخرّجه الطحاوي (2) أيضاً (3) باختلاف في بعض الروايات (4) والألفاظ، وَفِيهِ فَقِيلَ لَهُ: يَا أَبَا أُمَامَةَ، تَقُولُ لَهُمْ هَذَا الْقَوْلَ ثُمَّ تَبْكِي! ـ يَعْنِي قَوْلَهُ: "شَرُّ قَتْلَى" إِلَى آخِرِهِ ـ قَالَ: "رَحْمَةً لَهُمْ، إِنَّهُمْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَخَرَجُوا مِنْهُ"، ثُمَّ تَلَا: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ} (5) حَتَّى خَتَمَهَا، ثُمَّ قَالَ: "هُمْ هَؤُلَاءِ"، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ... } (6) حَتَّى خَتَمَهَا، ثُمَّ قَالَ: "هُمْ هَؤُلَاءِ" (7).
وَذَكَرَ الْآجُرِّيُّ (8) عَنْ طَاوُسٍ (9) قَالَ: ذُكِرَ لِابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما الْخَوَارِجُ وَمَا يُصِيبُهُمْ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، فَقَالَ: "يؤمنون بمحكمه، ويضلّون
_________
(1) تقدم تخريجه قريباً.
(2) هو الإمام العلامة الحافظ الكبير أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الأزدي الحجري المصري الحنفي، برز في علم الحديث وفي الفقه، وكان محدث الديار المصرية وفقيهها، وصنّف كتباً تدل على سعة علمه. مات سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة.
انظر: سير أعلام النبلاء (15/ 27)، البداية والنهاية لابن كثير (11/ 186)، الوافي بالوفيات للصفدي (8/ 9).
(3) في (م) و (ت): "وأيضاً".
(4) ساقطة من جميع النسخ عدا (غ).
(5) سورة آل عمران، آية (7).
(6) سورة آل عمران، آية (106).
(7) انظر: مشكل الآثار للطحاوي (2519).
(8) هو الإمام المحدث القدوة، شيخ الحرم الشريف، أبو بكر محمد بن الحسين بن عبد الله البغدادي الآجري، صاحب التواليف، منها كتاب الشريعة في السنة وكتاب الثمانين، وأخلاق العلماء، وكان صدوقاً خيّراً عابداً صاحب سنة واتباع. مات بمكة سنة ستّين وثلاثمائة.
انظر: سير أعلام النبلاء (16/ 133)، تاريخ بغداد (2/ 243)، الوافي بالوفيات (2/ 373).
(9) هو طاوس بن كيسان اليماني، الفقيه القدوة، عالم اليمن، سمع من زيد بن ثابت وعائشة وغيرهم، ولازم ابن عباس مدّة، وهو من كبار أصحابه، وكان ثقة فقيه فاضل، وكان من عباد اليمن وسادات التابعين. توفي سنة 106هـ.
انظر: تقريب التهذيب لابن حجر (1/ 377)، الكاشف للذهبي (2/ 37)، طبقات ابن سعد (5/ 537).(1/75)
عِنْدَ مُتَشَابِهِهِ"، وَقَرَأَ: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} (1) (2).
فَقَدْ ظَهَرَ بِهَذَا التَّفْسِيرِ أَنَّهُمْ أَهْلُ الْبِدَعِ؛ لِأَنَّ أَبَا أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَعَلَ الْخَوَارِجَ (3) دَاخِلِينَ فِي عُمُومِ الْآيَةِ، وَأَنَّهَا (4) تَتَنَزَّلُ (5) عَلَيْهِمْ. وَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، إما على معنى (6) أَنَّهُمْ خَرَجُوا بِبِدْعَتِهِمْ (7) عَنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَإِمَّا عَلَى أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَخْرُجُوا عنهم، على اختلاف العلماء فيهم (8).
_________
(1) سورة آل عمران، آية (7).
(2) رواه الإمام الآجري في الشريعة (ص27)، والإمام ابن جرير في تفسيره (3/ 181)، وعزاه ابن حجر في الفتح للإمام الطبري في تهذيبه، وصحح إسناده.
انظر: فتح الباري (12/ 300)، وبحثت عنه في تهذيب الآثار فلم أجده.
(3) في (ر): "الخارج".
(4) في (ر): "لأنها".
(5) في (ت): "تنزل".
(6) ساقطة من جميع النسخ عدا (غ).
(7) فس (ت): "من ببدعتهم".
(8) اختلف العلماء في تكفير الخوارج على قولين، فقد صرح بكفرهم القاضي أبو بكر ابن العربي، كما نقل ذلك عنه الحافظ ابن حجر في الفتح (12/ 299)، وقد احتجّ على كفرهم بالأحاديث الواردة فيهم، مثل قوله صلّى الله عليه وسلّم: "يمرقون من الإسلام"، وقوله: "لأقتلنهم قتل عاد"، وفي لفظ ثمود، وكل منهما إنما هلك بالكفر وغير ذلك، وجنح إلى هذا القول من المتأخرين تقي الدين السبكي، وذكر أن حجة من كفرهم هو تكفير الخوارج لأعلام الصحابة الذين شهد لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالجنّة، وكذلك احتجّوا بحديث أبي سعيد، وفيه أنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، وأنه لا يعلق بالسهم شيء من الرمية من دم أو فرث، فهذا التمثيل ظاهر مقصوده أنهم خرجوا من الإسلام. إلى غير ذلك مما استدلّوا به وما ردوا به حجة الآخرين كما هو مبين في الفتح.
وذهب أكثر أهل الأصول من أهل السنة إلى أن الخوارج فساق، وأن حكم الإسلام يجري عليهم لتلفظهم بالشهادتين، ومواظبتهم على أركان الإسلام، وإنما فسقوا بتكفيرهم المسلمين، مستندين إلى تأويل فاسد، وجرّهم ذلك إلى استباحة دماء مخالفيهم وأموالهم، والشهادة عليهم بالكفر والشرك.
ومما احتجّوا به أيضاً قوله صلّى الله عليه وسلّم في الحديث: "كمروق السهم، فينظر الرامي إلى سهمه"، إلى أن قال: "فيتمارى في الفوقة هل علق بها شيء". قال ابن بطال: "ذهب جمهور العلماء إلى أن الخوارج غير خارجين عن جملة المسلمين لقوله: "يتمارى في الفوق"، لأن التماري من الشك، وإذا وقع الشك في ذلك لم يقطع عليهم بالخروج=(1/76)
وَجَعَلَ هَذِهِ الطَّائِفَةَ مِمَّنْ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَزِيغَ بِهِمْ.
وَهَذَا الْوَصْفُ مَوْجُودٌ فِي أَهْلِ الْبِدَعِ كُلِّهِمْ، مَعَ أَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ عَامٌّ فيهم (1) وفي غيرهم، ممن كان على وصفهم (2).
أَلَا تَرَى أَنَّ صَدْرَ هَذِهِ السُّورَةِ (3) إِنَّمَا نَزَلَ فِي نَصَارَى نَجْرَانَ (4)، وَمُنَاظَرَتِهِمْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اعْتِقَادِهِمْ فِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، حَيْثُ تَأَوَّلُوا عَلَيْهِ أَنَّهُ الْإِلَهُ، أَوْ أَنَّهُ ابْنُ اللَّهِ، أَوْ أَنَّهُ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ بِأَوْجُهٍ مُتَشَابِهَةٍ، وَتَرَكُوا مَا هُوَ الْوَاضِحُ فِي عُبُودِيَّتِهِ (5)، حَسْبَمَا نَقَلَهُ أَهْلُ السِّيَر (6).
_________
=من الإسلام، لأن من ثبت له عقد الإسلام بيقين لم يخرج منه إلاّ بيقين، قال: وقد سئل عليّ رضي الله عنه عن أهل النهر هل كفروا؟ قال: من الكفر فروا.
ويظهر ميل الإمام ابن حجر في الفتح إلى القول الأول. انظر فتح الباري (12/ 299 ـ 301). وقد ذكر الإمام النووي في شرح مسلم أن القول بعدم تكفير الخوارج هو مذهب الشافعي وجماهير أصحابه، وذكر أنه الصحيح.
انظر: صحيح مسلم بشرح النووي (7/ 160 ـ 165)، ويميل المؤلف إلى هذا القول. انظر الباب التاسع (2/ 185 ـ 186)، وانظر نيل الأوطار للإمام الشوكاني فقد نقل الخلاف في المسألة (7/ 167 ـ 168).
(1) ساقطة من (ط).
(2) في (خ) و (ط): "صفاتهم"، وفي (ر): "صفتهم".
(3) في (خ): "الصورة"، وهي سورة آل عمران.
(4) ذكر ذلك الإمام ابن كثير عند قوله تعالى: {فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ} الآية، فقال: "وكان سبب نزول هذه المباهلة وما قبلها من أول السورة إلى هنا في وفد نجران، أن النصارى لما قدموا فجعلوا يحاجون في عيسى ويزعمون فيه ما يزعمون من النبوّة والإلهية، فأنزل الله صدر هذه السورة ردّاً عليهم".
انظر: تفسير ابن كثير (1/ 551)، وانظر أسباب النزول للإمام الواحدي (ص67).
(5) في (خ): "عبوديتهم".
(6) قال الإمام محمد بن إسحاق في سيرته كما نقله عنه ابن كثير في تفسيره: "فهم يحتجّون في قولهم هو الله، بأنه كان يحيي الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص والأسقام، ويخبر بالغيوب، ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيراً، وذلك كله بأمر الله، وليجعله الله آية للناس، ويحتجّون في قولهم بأنه ابن الله يقولون لم يكن له أب يعلم، وقد تكلم في المهد بشيء لم يصنعه أحد من بني آدم قبله، ويحتجّون على قولهم بأنه ثالث ثلاثة بقول الله تعالى فعلنا وأمرنا وخلقنا وقضينا، فيقولون: لو كان واحداً ما قال إلا فعلت وأمرت وقضيت وخلقت، ولكنه هو وعيسى=(1/77)
ثُمَّ تَأَوَّلَهُ الْعُلَمَاءُ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ عَلَى قَضَايَا دَخَلَ أَصْحَابُهَا تَحْتَ حُكْمِ اللَّفْظِ كَالْخَوَارِجِ، فَهِيَ ظَاهِرَةٌ فِي الْعُمُومِ.
ثُمَّ تَلَا أَبُو أُمَامَةَ الْآيَةَ الْأُخْرَى وَهِيَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} إِلَى قَوْلِهِ: {فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (1)، وفسَّرها بمعنى (2) ما فسّر به الآية (3) الأولى (4)، فهي تقتضي (5) الْوَعِيدُ وَالتَّهْدِيدُ (6) لِمَنْ تِلْكَ صِفَتُهُ، وَنَهَى الْمُؤْمِنِينَ أن يكونوا مثلهم.
ونقل عبد بن حميد (7) عَنْ حُمَيْدِ بْنِ مِهْرَانَ (8) قَالَ: سَأَلْتُ (9) الْحَسَنَ: كَيْفَ يَصْنَعُ أَهْلُ (10) هَذِهِ (الْأَهْوَاءِ الْخَبِيثَةِ) (11) بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي آلِ عِمْرَانَ: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} (12)، قال: "نبذوها وربّ الكعبة وراء ظهورهم" (13).
_________
=ومريم، تعالى الله وتقدس وتنزّه عما يقول الظالمون والجاحدون علوّاً كبيراً، وفي كل ذلك من قولهم قد نزل القرآن". انظر تفسير ابن كثير (1/ 551).
وقد ذكر خبرهم الإمام ابن سعد في الطبقات (1/ 357)، والإمام ابن هشام في السيرة (2/ 222)، والإمام ابن كثير في البداية والنهاية (5/ 48)، والإمام ابن القيم في زاد المعاد (3/ 629)، والإمام الواحدي في أسباب النزول (ص128 ـ 129)، وانظر صحيح البخاري (8/ 93 ـ مع الفتح)، ومسند الإمام أحمد (1/ 414).
(1) سورة آل عمران، آية (105 ـ 107).
(2) في (م) و (خ) و (ت): "بالمعنى".
(3) في (ر): "الرواية".
(4) المثبت من (غ)، وفي بقية النسخ: "الأخرى"، وذلك في نفس الحديث السابق حيث فسر قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ ... }، وهذه الآية بأن المراد بهما الخوارج. وتقدم تخريج الحديث مستوفى (ص76).
(5) ساقطة من جميع النسخ عدا (غ).
(6) في (ت): "والتشديد والتهديد".
(7) المثبت هو ما في (غ)، وهو الصواب. وفي بقية النسخ: "ونقل عبيد عن حميد بن مهران ... ".
(8) هو حميد بن أبي حميد مهران الخياط الكندي، أو المالكي، ثقة، روى عن الحسن، وروى عنه مسلم وأبو عاصم. انظر الكاشف للذهبي (1/ 193)، وتقريب التهذيب (1/ 204).
(9) في (غ): "سمعت".
(10) ساقطة من (ت).
(11) بياض في (غ).
(13) سورة آل عمران، آية (105).
(12) ذكر هذا الأثر الإمام السيوطي في الدر المنثور، وعزاه لعبد بن حميد. انظر الدر المنثور (2/ 289).(1/78)
وعن أبي أمامة رضي الله عنه أَيْضًا قَالَ: "هُمُ الْحَرُورِيَّةُ" (1).
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ (2): سمعت مالكاً رضي الله عنه يَقُولُ: "مَا آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَشَدُّ عَلَى أَهْلِ الِاخْتِلَافِ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ مِنْ هذه الآية {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ} إلى قوله: {بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} (3)، قَالَ مَالِكٌ: فَأَيُّ كَلَامٍ أَبْيَنُ مِنْ هَذَا؟ "، فَرَأَيْتُهُ يَتَأَوَّلُهَا (4) لِأَهْلِ الْأَهْوَاءِ (5).
وَرَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ (6)، وَزَادَ: قَالَ لِي مَالِكٌ: "إِنَّمَا هَذِهِ الْآيَةُ لأهل الأهواء" (7) (8).
وما ذكره مالك (9) فِي الْآيَةِ قَدْ نُقِلَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ كَالَّذِي تَقَدَّمَ لِلْحَسَنِ (10).
وَعَنْ قَتَادَةَ (11) فِي قَوْلِهِ: {كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} (12) يعني أهل البدع (13).
_________
(1) وهم الخوارج، وتقدم قول أبي أمامة في الحديث أن المراد بالآية الخوارج. انظر (ص76).
(2) هو عبد الله بن وهب، المحدث الكبير، وصاحب مالك. تقدمت ترجمته، وفي (ر): "ابن يعزوها".
(3) سورة آل عمران، آية (106 107).
(4) في (م): "يناولها".
(5) انظر: الانتقاء لابن عبد البر (70)، وأحكام القرآن لابن العربي (1/ 294)، والبيان والتحصيل لابن رشد (16/ 362 ـ 363).
(6) هو أبو عبد الله عبد الرحمن بن القاسم العتقي، مولاهم المصري، صاحب الإمام مالك، كان عالم الديار المصرية ومفتيها، وكان ثقة مأموناً، صاحب ورع توفي سنة إحدى وتسعين ومائة.
انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي (9/ 120)، تقريب التهذيب (1/ 495)، ترتيب المدارك (4/ 433).
(7) في جميع النسخ: "لأهل القبلة"، والمثبت من (غ)، وهو الأنسب لما قبله.
(8) ذكر السيوطي في الدر المنثور مثل هذا القول للشعبي، وعزاه لابن أبي حاتم (2/ 292)، وأما قول الإمام مالك فلم أجده.
(9) ساقطة من (ط).
(10) تقدم (ص81)، والآيتان متجاورتان في المصحف، وقد سبق كلام أبي أمامة رضي الله عنه أن المراد بهما الخوارج (ص78)، وكذلك قول الشعبي كما في هامش (9).
(11) هو قتادة بن دعامة السدوسي، حافظ العصر، وقدوة المفسرين والمحدثين، كان من أوعية العلم، وممن يضرب به المثل في قوة الحفظ. وهو حجة بالإجماع إذا بين السماع، فإنه مدلس معروف بذلك. توفي سنة سبع عشرة ومائة.
انظر: سير أعلام النبلاء (5/ 269)، تقريب التهذيب (2/ 123)، الكاشف للذهبي (2/ 341).
(12) سورة آل عمران، آية (105).
(13) ذكره الإمام البغوي في معالم التنزيل عند الآية التي تليها عند قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} (1/ 339).(1/79)
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قوله: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} (1)، قَالَ: "تَبْيَضُّ وُجُوهُ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَتَسْوَدُّ وُجُوهُ أَهْلِ الْبِدْعَةِ" (2).
وَمِنَ الْآيَاتِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ *} (3)، فَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ سَبِيلُ اللَّهِ الَّذِي دَعَا إليه، وهو السنّة، والسُّبُل هي سبل أهل الِاخْتِلَافِ الْحَائِدِينَ (4) عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَهُمْ أَهْلُ الْبِدَعِ.
وَلَيْسَ (5) الْمُرَادُ سُبُلَ الْمَعَاصِي، لِأَنَّ الْمَعَاصِيَ مِنْ حَيْثُ هِيَ مَعَاصٍ لَمْ يَضَعْهَا أَحَدٌ طَرِيقًا (6) تُسْلَكُ دَائِمًا عَلَى مُضَاهَاةِ التَّشْرِيعِ، وَإِنَّمَا هَذَا الْوَصْفُ خَاصٌّ بِالْبِدَعِ الْمُحْدَثَاتِ.
وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا (7) مَا رَوَى إِسْمَاعِيلُ (8) عَنْ (9) سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ (10)، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ (11) عَنْ عاصم بن بهدلة (12)
_________
(1) سورة آل عمران، آية (106).
(2) أخرجه الإمام اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 72)، ولفظه: "فأما الذين ابيضّت وجوههم فأهل السنة والجماعة وأولوا العلم، وأما الذين اسودّت وجوههم فأهل البدع والضلالة"، وابن أبي حاتم في التفسير (3950)، والآجري في الشريعة (2074)، وذكره الإمام السيوطي في الدر المنثور، وعزاه لابن أبي حاتم وأبو نصر السجزي في الإبانة، والخطيب في تاريخه (2/ 291)، وذكره الإمام البغوي في معالم التنزيل (1/ 339).
(3) سورة الأنعام، آية (153).
(4) في (خ) و (ر): "الجائرين".
(5) في (م) و (ت): "ليس" بدون الواو.
(6) في (ر): "طرقا".
(7) في (ر): "ذلك".
(8) هو إسماعيل القاضي، وقد مضت ترجمته (ص76).
(9) في (ر): "بن".
(10) هو أبو أيوب سليمان بن حرب الواشحي، إمام، ثقة، حافظ، تولّى قضاء مكة سنة أربع عشرة ومائتين، ثم عزل سنة تسع عشرة ومائتين. توفي سنة أربع وعشرين ومائتين.
انظر: التاريخ الكبير للبخاري (4/ 8)، السير (10/ 330)، التقريب (1/ 322)، الكاشف (1/ 312).
(11) هو حماد بن زيد بن درهم الأزدي، أبو إسماعيل، إمام، حافظ، ثبت، قال عنه الذهبي في السير: "لا أعلم بين العلماء نزاعاً في أن حماد بن زيد من أئمة السلف، ومن أتقن الحفاظ وأعدلهم، وأعدمهم غلطاً، على سعة ما روى"، توفي سنة تسع وسبعين ومائة.
انظر: التاريخ الكبير (3/ 25)، السير (7/ 456)، الكاشف (1/ 187)، التقريب (1/ 197).
(12) في (خ) و (ط): "بهالة"، وهو خطأ، والصواب المثبت.=(1/80)
عَنْ أَبِي وَائِلٍ (1) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ (2) قَالَ: خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم يوماً، وَخَطَّ لَنَا سُلَيْمَانُ خَطًّا طَوِيلًا (3)، وَخَطَّ عَنْ يمينه وعن يساره، فقال: ((هذه (4) سَبِيلُ اللَّهِ)، ثُمَّ خَطَّ لَنَا خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ) (5)، وَقَالَ: "هَذِهِ سُبُلٌ، وَعَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ"، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} يعني الخطوط {فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (6) (7).
_________
=وهو الإمام أبو بكر عاصم بن بهدلة بن أبي النجود الأسدي، مولاهم، وهو المقرئ الكبير، قرأ القرآن على أبي عبد الرحمن السلمي، وزر بن حبيش الأسدي، وحدث عنهما وعن أبي وائل وطائفة، تصدر للإقراء مدة بالكوفة، وكان أحسن الناس صوتاً بالقرآن، قال ابن حجر: صدوق له أوهام، وقال الدارقطني: في حفظه شيء. توفي سنة سبع وعشرين مئة.
انظر: سير أعلام النبلاء (5/ 256)، تهذيب التهذيب لابن حجر (5/ 38)، الجرح والتعديل للرازي (6/ 340).
(1) هو الإمام الكبير أبو وائل شقيق بن سلمة الأسدي الكوفي، مخضرم، أدرك النبي صلّى الله عليه وسلّم ولم يره، وروى عن عدد من الصحابة وغيرهم، وكان ثقة كثير الحديث، توفي سنة اثنتين وثمانين.
انظر: تقريب التهذيب لابن حجر (1/ 354)، تهذيب التهذيب له (4/ 361)، الكاشف للذهبي (2/ 13).
(2) هو ابن مسعود رضي الله عنه.
(3) كأن الراوي يروي ما فعله سليمان بن حرب وهو يحدث أصحابه.
(4) في (ت) و (ر) و (ط): "هذا".
(5) ما بين المعكوفين ساقط من (ت).
(6) سورة الأنعام، آية (153).
(7) رواه الإمام أحمد في المسند عن ابن مسعود (1/ 435 ـ 465)، ورواه الإمام الدارمي في المقدمة من سننه (1/ 78)، ورواه الإمام المروزي في السنة عنه (ص10)، ورواه الإمام الآجري في الشريعة (ص10)، ورواه ابن جرير في تفسيره عند الآية (8/ 88)، ورواه الإمام اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنّة (1/ 80 ـ 81)، ورواه الإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى (1/ 293 ـ 294)، ورواه الإمام الحاكم في المستدرك (2/ 239)، قال: صحيح الإسناد لم يخرجاه، وراه ابن عاصم في السنّة (1/ 13)، وحسن الشيخ الألباني إسناده في تعليقه على السنة، وكذلك في تعليقه على المشكاة (1/ 58).(1/81)
قَالَ بَكْرُ (1) بْنُ الْعَلَاءِ (2): أَحْسَبُهُ أَرَادَ شَيْطَانًا من الإنس، وهي البدع، والله أعلم (3).
والحديث مخرج من طرق.
وعن عمرو (4) بْنِ سَلَمَةَ الْهَمْدَانِيِّ (5) قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا فِي حلقة ابن مسعود رضي الله عنه فِي الْمَسْجِدِ، وَهُوَ بَطْحَاءُ قَبْلَ أَنْ يُحَصِّبَ (6)، فَقَالَ لَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ (7) بْنُ عُمَرَ بْنِ الخطاب رضي الله عنهما ـ وَكَانَ أَتَى غَازِيًا ـ: "مَا الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ " قَالَ: "هُوَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ (8) الَّذِي (9) ثَبَتَ عَلَيْهِ أَبُوكَ حَتَّى دَخَلَ الْجَنَّةَ"، ثُمَّ حَلَفَ عَلَى ذَلِكَ ثَلَاثَ أَيْمَانٍ وَلَاءً، ثُمَّ خَطَّ فِي الْبَطْحَاءِ خَطًّا بِيَدِهِ، وَخَطَّ بجنبيه (10) (خطوطاً) (11)، وقال:
_________
(1) في (ت): "أبو بكر"، وهو خطأ، والصواب المثبت.
(2) هو بكر بن محمد بن العلاء بن محمد، أبو الفضل، القشيري. قاض من علماء المالكية من أهل البصرة، انتقل إلى مصر قبل سنة 330هـ، وتوفي بها عن نيف وثمانين سنة، توفي سنة 344هـ.
انظر: شذرات الذهب لابن العماد الحنبلي (2/ 366)، الأعلام للزركلي (2/ 69).
(3) لم أجد هذا القول له، وسنن إسماعيل القاضي التي ينقل عنها المؤلف غير موجودة فيما أعلم.
(4) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "عمر"، والصواب المثبت.
(5) هو عمرو بن سلمة بن عميرة بن مقاتل بن الحارث الهمداني. روى عن علي وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما. وكان شريفاً، وهو الذي بعثه الحسن بن علي بن أبي طالب مع محمد بن الأشعث في الصلح بينه وبين معاوية رضي الله عنهما، وكان ثقة قليل الحديث.
انظر: طبقات ابن سعد (6/ 171)، الجرح والتعديل للرازي (6/ 235)، تهذيب التهذيب لابن حجر (8/ 42).
(6) الحصباء: الحصى، وحصبت المسجد تحصيباً إذا فرشته بها. انظر الصحاح للجوهري (1/ 112).
(7) لفظ الجلالة ساقط من (ت)، والذي وجدته في مصادر الأثر "عبد الله"، وليس عبيد الله، وكلاهما من ولد عمر رضي الله عنه.
(8) في (م): "العكبة".
(9) العبارة في (ت): "ورب الكعبة هو الذي ... ".
(10) في (ر): "بجنبتيه".
(11) في (م) و (خ) و (ت): "خطاطاً".(1/82)
تَرَكَكُمْ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى طَرَفِهِ، وَطَرَفُهُ الْآخَرُ فِي الْجَنَّةِ، فَمِنْ ثَبَتَ عَلَيْهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ أَخَذَ فِي هَذِهِ الْخُطُوطِ هَلَكَ (1).
وَفِي رِوَايَةٍ: يَا أَبَا (2) عَبْدِ الرَّحْمَنِ، مَا الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ؟ قَالَ: "تَرَكَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَدْنَاهُ وَطَرَفُهُ فِي الْجَنَّةِ، وَعَنْ يَمِينِهِ جوادٌّ (3)، وَعَنْ يَسَارِهِ جوادُ، وَعَلَيْهَا (4) رِجَالٌ يَدْعُونَ مَنْ مَرَّ بِهِمْ: هَلُمَّ لَكَ هَلُمَّ لَكَ، فَمَنْ أَخَذَ مِنْهُمْ فِي تِلْكَ الطُّرُقِ انْتَهَتْ بِهِ إِلَى النَّارِ، وَمَنِ اسْتَقَامَ إِلَى الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ انْتَهَى بِهِ إِلَى الْجَنَّةِ"، ثُمَّ تَلَا (5) ابْنُ مَسْعُودٍ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} (6) الْآيَةَ كُلَّهُا" (7).
وَعَنْ مُجَاهِدٍ (8) فِي قَوْلِهِ: {وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} (9) قال: "البدع والشبهات" (10).
_________
(1) سأذكر تخريجه في الأثر بعده لأنه أشهر، وممن ذكر حلف ابن مسعود أن الصراط المستقيم هو ما كان عليه عمر الإمام ابن رجب في جامع العلوم والحكم (ص251).
(2) ساقطة من (ر).
(3) جواد جمع جادة. وهي معظم الطريق. انظر الصحاح للجوهري (2/ 452).
(4) في (ت): "عليهم".
(5) ساقطة من أصل (م)، ومثبتة في هامشها.
(6) سورة الأنعام، آية (153).
(7) روى هذا الأثر الإمام ابن جرير في تفسيره (8/ 89)، ورواه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها، وذكر أن السائل هو عبد الله بن عمر (ص39)، وذكره الإمام القرطبي في تفسيره وعزاه للإمام الطبري في آداب النفوس (7/ 138)، وذكره الإمام السيوطي في الدر المنثور وعزاه أيضاً إلى عبد الرزاق وابن مردويه.
انظر: الدر (3/ 386)، وكذلك فعل الإمام الشوكاني في فتح القدير (2/ 179).
(8) هو الإمام أبو الحجاج مجاهد بن جبر المكي، شيخ القراء والمفسرين، وهو تلميذ ابن عباس رضي الله عنه، أخذ عنه القرآن والتفسير والفقه، مات رحمه الله وهو ساجد سنة اثنتين ومائة.
انظر: سير أعلام النبلاء (4/ 449)، تهذيب التهذيب (10/ 42)، الكاشف (3/ 106).
(9) سورة الأنعام، آية (153).
(10) أخرجه الإمام الدارمي في المقدمة من سننه، باب في كراهية أخذ الرأي (1/ 79) (ص12)، وابن جرير في التفسير (1468)، وابن أبي حاتم (8104)، والإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى (1/ 298)، وذكره السيوطي في الدر المنثور، وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ. انظر الدر المنثور (3/ 386).(1/83)
وعن عبد الرحمن بن مهدي (1) قال (2): سُئِلَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ السُّنَّةِ؟ قَالَ: "هِيَ مَا لَا اسْمَ لَهُ غَيْرُ السُّنَّةِ، وَتَلَا {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (3) " (4).
قَالَ بَكْرُ بْنُ الْعَلَاءِ (5): يُرِيدُ ـ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ـ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَّ لَهُ خَطًّا (6)، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
فَهَذَا التَّفْسِيرُ (7) يَدُلُّ عَلَى شُمُولِ الْآيَةِ لِجَمِيعِ طُرُقِ الْبِدَعِ، لَا تَخْتَصُّ بِبِدْعَةٍ دُونَ أُخْرَى.
وَمِنَ الْآيَاتِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ *} (8)، فَالسَّبِيلُ الْقَصْدُ هُوَ طَرِيقُ الْحَقِّ، وَمَا سِوَاهُ (من الطرق) (9) جَائِرٌ عَنِ الْحَقِّ، أَيْ عَادِلٌ عَنْهُ، وَهِيَ طُرُقُ الْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ، أَعَاذَنَا (10) اللَّهُ مِنْ سُلُوكِهَا بِفَضْلِهِ، وَكَفَى بِالْجَائِرِ أَنْ يُحَذَّرَ مِنْهُ، فَالْمَسَاقُ يدل على التحذير والنهي.
_________
(1) هو أبو سعيد عبد الرحمن بن مهدي بن حسان العنبري، الإمام، الناقد، سيد الحفاظ، روى عن الإمام مالك وابن الماجشون وغيرهما، وروى عنه ابن المبارك وابن وهب وأحمد وغيرهم. وكان إماماً حجة قدوة في العلم والعمل. توفي بالبصرة سنة 198هـ.
(2) في جميع النسخ: "قد"، عدا (غ).
انظر: التاريخ الكبير (5/ 354)، الحلية (9/ 3)، السير (9/ 192)، تقريب التهذيب (1/ 499).
(3) سورة الأنعام، آية (153).
(4) انظر: كتاب الانتقاء لابن عبد البر (ص35)، وفي معناه ما ذكره القاضي عياض في ترتيب المدارك، قال: سأل رجل مالكاً من أهل السنة يا أبا عبد الله؟ قال: "الذين ليس لهم لقب يعرفون به، لا جهمي، ولا رافضي، ولا قدري". انظر: ترتيب المدارك (1/ 172).
(5) تقدمت ترجمته (ص85).
(6) في (ت): "خططاً".
(7) في (خ): "فهذا الحديث التفسير".
(8) سورة النحل، آية (9).
(9) ما بين المعكوفين ساقط من جميع النسخ، عدا (غ) و (ر).
(10) في (غ): "أنقذنا".(1/84)
وَذَكَرَ (1) ابْنُ وَضَّاحٍ (2) قَالَ: سُئِلَ عَاصِمُ بْنُ بهدلة (3) وقيل له (4): يا أبا بكر، أرأيت (5) قول الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ *} (6)؟ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو وَائِلٍ (7) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ: "خَطَّ عَبْدُ اللَّهِ (8) خَطًّا مُسْتَقِيمًا، وَخَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَخُطُوطًا عَنْ شِمَالِهِ، فَقَالَ: "خَطَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَكَذَا، فَقَالَ لِلْخَطِّ الْمُسْتَقِيمِ (هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ)، وَلِلْخُطُوطِ الَّتِي عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ (9) (هَذِهِ سُبُلٌ مُتَفَرِّقَةٌ (10)، عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ)، وَالسَّبِيلُ مُشْتَرَكَةٌ"، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} (11) إلى آخرها (12).
وعن (13) التستري (14): {قَصْدُ السَّبِيلِ} طريق السنة (15)، {وَمِنْهَا جَائِرٌ} (16) يَعْنِي إِلَى النَّارِ، وَذَلِكَ الْمِلَلُ وَالْبِدَعُ (17).
وَعَنْ مجاهد {قَصْدُ السَّبِيلِ}: "أي (18) المقتصد منها بين الغلوّ
_________
(1) في (م): "ذكر"، بدون الواو.
(2) هو الإمام محمد بن وضاح الأندلسي، محدث الأندلس. مضت ترجمته (ص39).
(3) تقدمت ترجمته (ص84).
(4) ساقطة من (م) و (ت) و (غ) و (ر).
(5) في (خ) و (ت) و (ط): "هل رأيت".
(6) سورة النحل، آية (9).
(7) تقدمت ترجمته (ص84).
(8) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "عبد الله بن عبد الله".
(9) في (ت): "وعن شماله".
(10) في (ر): "مفترقة".
(11) سورة الأنعام، آية (153).
(12) رواه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص38)، وتقدم تخريجه (ص85).
(13) في (ط): "عن" بدون الواو.
(14) هو سهل بن عبد الله بن يونس التستري، شيخ العارفين، الصوفي الزاهد، لقي ذا النون المصري وصحبه، وله كلمات نافعة، ومواعظ حسنة. توفي سنة ثلاث وثمانين ومائتين، وقيل: ثلاث وتسعين ومائتين.
انظر: سير أعلام النبلاء (13/ 330)، حلية الأولياء لأبي نعيم (10/ 189)، شذرات الذهب (2/ 182)، طبقات الصوفية للسلمي (ص206)، الرسالة القشيرية للقشيري (ص18).
(15) في (غ): "الجنة".
(16) سورة النحل، آية (9).
(17) ذكره الإمام البغوي في تفسيره، وعزاه لسهل بن عبد الله وعبد الله بن المبارك. انظر معالم التنزيل (3/ 63).
(18) ساقطة من (ت).(1/85)
وَالتَّقْصِيرِ" (1)، وَذَلِكَ يُفِيدُ أَنَّ الْجَائِرَ هُوَ الْغَالِي أَوِ الْمُقَصِّرُ، وَكِلَاهُمَا مِنْ أَوْصَافِ الْبِدَعِ.
وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا: "فَمِنْكُمْ جَائِر" (2)، قَالُوا: يَعْنِي هَذِهِ الْأُمَّةَ، فَكَأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَعَ الْآيَةِ قَبْلَهَا يَتَوَارَدَانِ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ *} (3).
هَذِهِ الْآيَةُ قَدْ جَاءَ تَفْسِيرُهَا فِي الْحَدِيثِ (4) من طريق عائشة رضي الله تعالى عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا عَائِشَةُ {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} مَنْ هُمْ؟ " قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "هُمْ أَصْحَابُ الْأَهْوَاءِ، وَأَصْحَابُ الْبِدَعِ، وَأَصْحَابُ الضَّلَالَةِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ. يَا عَائِشَةُ، إِنَّ لِكُلِّ ذَنْبٍ تَوْبَةً مَا خَلَا أَصْحَابَ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ، لَيْسَ لَهُمْ تَوْبَةٌ، وَأَنَا بَرِيءٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مني براء" (5).
_________
(1) روى ابن جرير عن مجاهد عن الآية قوله: "طريق الحق على الله" (21493)، وانظر: تفسير ابن أبي حاتم (12479).
(2) ذكره عنه الإمام السيوطي في الدر المنثور (5/ 115)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن الأنباري في المصاحف. وذكره الإمام الشوكاني في فتح القدير (3/ 151)، وذكر الإمام ابن كثير في تفسيره (2/ 873)، أنها قراءة ابن مسعود أيضاً، وكذلك ذكرها عنه الشوكاني في نفس الموضع السابق.
(3) سورة الأنعام، آية (159).
(4) في (غ) و (ر): "بعض الأحاديث".
(5) رواه الإمام الطبراني في معجمه الصغير عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (1/ 203)، ورواه الإمام ابن أبي عاصم في السنة (ص8) برقم (4)، ورواه الإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى (1/ 303)، ورواه أبو نعيم في الحلية (4/ 138)، وقال أبو نعيم: هذا حديث غريب من حديث شعبة، تفرد به بقية. وقد ذكر الحديث الإمام ابن كثير في تفسيره عند الآية، وقال: وهذا رواه ابن مردويه وهو غريب أيضاً، ولا يصح رفعه (2/ 314)، وقال عنه الهيثمي في مجمع الزوائد: فيه بقية ومجالد بن سعيد وكلاهما ضعيف (1/ 193). وقال عنه الألباني كما في ظلال الجنة: إسناده ضعيف رجاله موثقون غير مجالد، وهو ابن سعيد وليس بالقوي (ص8) برقم (4).(1/86)
قَالَ (1) ابْنُ عَطِيَّةَ (2): "هَذِهِ الْآيَةُ تَعُمُّ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ وَالشُّذُوذِ فِي الْفُرُوعِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ التَّعَمُّقِ فِي الْجِدَالِ، وَالْخَوْضِ فِي الْكَلَامِ، هَذِهِ كُلُّهُا عُرْضَةٌ لِلزَّلَلِ وَمَظِنَّةٌ لِسُوءِ الْمُعْتَقَدِ" (3).
وَيُرِيدُ ـ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ـ بِأَهْلِ التَّعَمُّقِ فِي الْفُرُوعِ مَا ذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ (4) فِي فَصْلِ ذَمِّ الرَّأْيِ مِنْ كِتَابِ الْعِلْمِ لَهُ (5)، وَسَيَأْتِي ذِكْرُهُ بِحَوْلِ اللَّهِ (6).
وَحَكَى ابْنُ بَطَّالٍ (7) فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي حنيفة رضي الله عنه أنّه
_________
(1) في (ر): "وقال".
(2) هو أبو محمد عبد الحق بن أبي بكر غالب بن عطية المحاربي الغرناطي، كان إماماً في الفقه، والتفسير، وفي العربية، وكان ذكياً فطناً مدركاً، من أوعية العلم، ووالده أحد حفاظ الحديث، تولّى قضاء المرية سنة تسع وعشرين وخمسمائة، توفي سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة.
انظر: السير (19/ 586)، العبر (4/ 43)، شذرات الذهب (4/ 59)، بغية الملتمس (ص427).
(3) ذكر ذلك الإمام ابن عطية عند قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} آية (153) من سورة الأنعام، ولم يذكر ذلك عند هذه الآية {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ} آية (159) من سورة الأنعام، ومعنى الآيتين متقارب. انظر المحرر الوجيز لابن عطية (5/ 400).
(4) هو الإمام العلامة أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري الأندلسي القرطبي، صاحب التصانيف الفائقة، طلب العلم، وأدرك الكبار، وكان حافظاً متقناً، صاحب سنة واتّباع، وكان أثرياً ظاهرياً فيما قيل، ثم تحوّل مالكياً مع ميل إلى فقه الشافعي في مسائل، وكان حافظ المغرب في زمانه، توفي سنة ثلاث وستين وأربعمائة.
انظر: سير أعلام النبلاء (18/ 153)، وفيات الأعيان لابن خلكان (7/ 66)، طبقات الحفاظ للسيوطي (ص431).
(5) ساقطة من (ت).
(6) انظر كلام الإمام ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2/ 138، 139)، وسوف يعقد المؤلف فصلاً في ذمّ الرأي وبيان المراد به ضمن هذا الباب (ص187).
(7) هو أبو الحسن علي بن خلف بن بطال البكري القرطبي، يعرف بابن اللجام. كان من كبار المالكية، وكان من أهل العلم والمعرفة، وقد عني بالحديث العناية التامة وقد شرح صحيح البخاري في عدة أسفار، توفي سنة تسع وأربعين وأربعمائة.
انظر: سير أعلام النبلاء (18/ 74)، العبر للذهبي (3/ 219)، الوافي بالوفيات للصفدي (12/ 56).(1/87)
قَالَ: "لَقِيتُ عَطَاءَ بْنَ أَبِي (1) رَبَاحٍ (2) بِمَكَّةَ فَسَأَلْتُهُ عَنْ شَيْءٍ، فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ أَنْتَ؟ قُلْتُ: مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، قَالَ: أَنْتَ مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا؟ قلت: نعم، قال: فمن (3) أَيِّ الْأَصْنَافِ أَنْتَ؟ قُلْتُ: مِمَّنْ لَا يَسُبُّ السَّلَفَ، وَيُؤْمِنُ بِالْقَدْرِ، وَلَا يُكَفِّرُ أَحَدًا بِذَنْبٍ، فَقَالَ عَطَاءٌ: عَرَفْتَ فَالْزَمْ" (4).
وَعَنِ الْحَسَنِ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمًا يَخْطُبُنَا، فَقَطَعُوا عَلَيْهِ كَلَامَهُ، فَتَرَامَوْا بِالْبَطْحَاءِ، حَتَّى جَعَلْتُ مَا أُبْصِرُ أَدِيمَ السَّمَاءِ، قَالَ: وَسَمِعْنَا صَوْتًا مِنْ بَعْضِ حُجَرِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقِيلَ: هَذَا صَوْتُ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: فَسَمِعْتُهَا وَهِيَ تَقُولُ: "أَلَا إِنَّ نَبِيَّكُمْ قَدْ بَرِئَ (5) مِمَّنْ فَرَّقَ دِينَهُ وَاحْتَزَبَ" (6)، وَتَلَتْ: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (7).
قَالَ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ (8): "أَحْسَبُهُ يَعْنِي بِقَوْلِهِ: "أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ" أُمَّ سَلَمَةَ، وَأَنَّ ذَلِكَ قَدْ ذُكِرَ فِي بَعْضِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ كَانَتْ عَائِشَةُ فِي ذلك الوقت حاجّة" (9).
_________
(1) في (م) و (ط): "عطاء بن رباح".
(2) هو الإمام أبو محمد عطاء بن أبي رباح القرشي، مولاهم، المكي، ولد في خلافة عثمان، ونشأ بمكة، وحدث عن عدد من الصحابة، كابن عباس وغيره، وكان ثقة، فقيهاً، عالماً، كثير الحديث. توفي سنة أربع عشرة ومائة.
انظر: سير أعلام النبلاء (5/ 78)، طبقات ابن سعد (5/ 467)، التاريخ للبخاري (6/ 463).
(3) في (ط): "من" بدون الفاء.
(4) أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/ 314)، وانظر: مناقب أبي حنيفة للكردي (76)، والعقد الثمين للفاسي (6/ 91).
(5) في (ت): "براء".
(6) ذكر السيوطي في الدر المنثور أثراً قريباً منه عن الحسن، وقيّده بيوم مقتل عثمان رضي الله عنه، ولفظه: عن الحسن قال: رأيت يوم قتل عثمان ذراع امْرَأَةٌ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم قد أخرجت من بين الحائط والستر، وهي تنادي: ألا إن الله ورسوله بريئان من الذين فارقوا دينهم وكانوا شيعاً. وقد عزاه إلى عبد بن حميد. انظر الدر المنثور (3/ 403).
(7) سورة الأنعام، آية (159).
(8) تقدمت ترجمته (ص76).
(9) ذكر الإمام ابن جرير عن أم سلمة أنها قالت: ليتّق الله امرؤ أن لا يكون من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في شيء، ثم قرأت: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ} (8/ 106).(1/88)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ (1).
وَعَنْ أَبِي أمامة رضي الله عنه: "هُمُ الْخَوَارِجُ" (2).
قَالَ الْقَاضِي (3): "ظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ (4) عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنِ ابْتَدَعَ فِي الدِّينِ بِدْعَةً مِنَ الْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّهُمْ إِذَا ابْتَدَعُوا تَجَادَلُوا وَتَخَاصَمُوا وتفرقوا وَكَانُوا شِيَعًا [{كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}] (5) " (6).
ومنها قوله: {وَلاَ تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ *مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ *} (7). قُرِئَ {فَارَقُواْ دِينَهُمْ} (8)، وَفُسِّرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أنهم الخوارج (9).
_________
(1) رواه عنه ابن جرير في تفسيره (8/ 105)، وذكره البخاري في خلق أفعال العباد (66)، وذكره ابن كثير عنه (2/ 314)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور أيضاً للفريابي وعبد بن حميد وابن أبي شيبة وابن المنذر، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه. انظر الدر المنثور (3/ 402).
(2) ذكره عنه الإمام ابن كثير في تفسيره، وقال: وروي عنه مرفوعاً ولا يصح (2/ 314)، وذكره الإمام السيوطي في الدر المنثور عن أبي أمامة، قال: هم الحرورية، وعزاه إلى عبد بن حميد وأبو الشيخ وابن مردويه. انظر: الدر المنثور (3/ 402).
(3) هو إسماعيل القاضي كما بينه المؤلف في الصفحة التالية.
(4) ساقطة من (غ).
(5) ما بين المعكوفتين ساقط من جميع النسخ، عدا (غ).
(6) لم أتمكن من الرجوع إلى قوله لعدم وجود كتابه.
(7) سورة الروم، آية (31 ـ 32).
(8) هي قراءة حمزة والكسائي كما ذكره الإمام أبو زرعة في كتابه حجة القراءات (ص278)، والإمام ابن الجزري في النشر في القراءات العشر (2/ 216)، وقرأ الباقون: {فَرَّقُوا دِينَهُمْ}، وهذا الخلاف في هذه الآية هو نفسه في آية الأنعام: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ} (159)، وقراءة {فارقوا دينهم} مروية عن علي رضي الله عنه، روى ذلك الإمام ابن جرير في تفسيره (8/ 104)، وذكرها القرطبي في تفسيره (14/ 32)، والشوكاني في فتح القدير (4/ 225)، والسيوطي في الدر المنثور، وعزاها أيضاً إلى الفريابي وعبد بن حميد، وابن المنذر وابن أبي حاتم. انظر الدر المنثور (3/ 402).
(9) لم أجد هذا التفسير عن أبي هريرة رضي الله عنه، والمفسّرون عند هذه الآية يفسّرونها=(1/89)
ورواه أبو أمامة رضي الله عنه مَرْفُوعًا (1).
وَقِيلَ: هُمْ أَصْحَابُ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ، قَالُوا: رَوَتْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (2).
وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا شَأْنُ مَنِ ابْتَدَعَ حَسْبَمَا قَالَهُ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي (3)، وَكَمَا تَقَدَّمَ فِي (4) الْآيِ الْأُخَرِ (5).
وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} (6).
فعن ابن عباس رضي الله عنهما أَنْ لَبَّسَكُمْ (7) شِيَعًا: هُوَ الْأَهْوَاءُ الْمُخْتَلِفَةُ (8).
وَيَكُونُ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ: {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} تَكْفِيرُ الْبَعْضِ لِلْبَعْضِ حَتَّى يَتَقَاتَلُوا (9)، كَمَا جَرَى لِلْخَوَارِجِ حِينَ خَرَجُوا عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ.
_________
=بما فسروا به آية الأنعام: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ ... } (159)، وقد تقدم قول أبي هريرة رضي الله عنه أنها في هذه الأمة (ص93).
(1) ما رواه أبو أمامة رضي الله عنه مرفوعاً ذكره الإمام السيوطي في الدر المنثور عند آية الأنعام: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ ... }، وعزاه لابن أبي حاتم والنحاس وابن مردويه (3/ 402)، وقد ذكر الإمام ابن كثير قول أبي أمامة أنهم الخوارج، ثم قال: وروي عنه مرفوعاً ولا يصح (2/ 314).
(2) تقدم ذكر الحديث (ص86).
(3) تقدم كلامه (ص93).
(4) ساقطة من (م) و (ت).
(5) يريد قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} سورة الأنعام، آية (159).
(6) سورة الأنعام، آية (65).
(7) في (ر): "لبسهم".
(8) رواه عنه الإمام ابن جرير في تفسيره (7/ 221)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور أيضاً لابن المنذر وابن أبي حاتم. انظر الدر المنثور (3/ 283)، وذكره الإمام الطرطوشي في الحوادث والبدع (ص87).
(9) قال ابن عباس في قوله تعالى: {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ}، قال: يسلط بعضكم على بعض بالقتل والعذاب. انظر الفقرة السابقة.(1/90)
وقيل: معنى {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} مَا فِيهِ إِلْبَاسٌ مِنَ الِاخْتِلَافِ (1).
وَقَالَ مُجَاهِدٌ (2) وَأَبُو الْعَالِيَةِ (3): "إِنَّ الْآيَةَ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" (4).
قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: "هُنَّ أَرْبَعٌ، ظَهَرَ اثْنَتَانِ (5) بَعْدَ (6) وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَأُلْبِسُوا شيعاً، وأذيق بعضهم (7) بَأْسَ بَعْضٍ، وَبَقِيَتِ اثْنَتَانِ، فَهُمَا وَلَا بُدَّ واقعتان: الخسف من تحت أرجلكم، والرجم (8) والمسخ من فوقكم" (9).
_________
(1) قال ابن جرير عن قوله {يَلْبِسَكُمْ}: "أو يخلطكم {شِيَعًا}: فرقاً، فهو من قولك: لبست عليه الأمر إذا خلطت". انظر تفسير ابن جرير (7/ 221)، وانظر زاد المسير لابن الجوزي (3/ 59)، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (7/ 9)، وتفسير ابن كثير (2/ 230)، وفتح القدير للشوكاني (2/ 126).
وهذه العبارة هي عبارة الإمام الطرطوشي في الحوادث والبدع (ص87).
(2) تقدمت ترجمته (ص87).
(3) هو أبو العالية رفيع بن مهران الرياحي البصري، الإمام، المقرئ المفسر، كان مولى لامرأة من بني رياح بن يربوع، أسلم في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، سمع من عدد من الصحابة، حفظ القرآن، وقرأه على أبي بن كعب، وتصدر لإفادة العلم، وبَعُد صيته. توفي سنة تسعين وقيل: ثلاث وتسعين.
انظر: سير أعلام النبلاء (4/ 207)، حلية الأولياء (2/ 217)، شذرات الذهب (1/ 102).
(4) عزو هذا القول إلى مجاهد وأبي العالية هو ما قاله الإمام الطرطوشي في الحوادث والبدع (ص87)، وقبله الإمام ابن جرير في تفسيره (7/ 222)، ورجح الإمام ابن جرير أن الآية للمشركين، إلا أن تهديدها عام لمن سلك سبيلهم من أهل الخلاف على الله ورسوله. انظر تفسير ابن جرير (7/ 225 ـ 226).
(5) في (خ) و (ت): "ثنتان".
(6) ساقطة من (ت).
(7) في (خ) و (ط): "بعضكم".
(8) ساقطة من جميع النسخ عدا (غ)، وهو الموافق لما في الحوادث والبدع للطرطوشي (ص89)، والمؤلف ينقل عنه هنا.
(9) رواه عن أبي العالية الإمام ابن جرير في تفسيره (7/ 222)، ورواه أيضاً عن أُبي بن كعب رضي الله عنه (7/ 226)، وابن أبي حاتم في تفسيره (7398)، وذكره الإمام ابن كثير في تفسيره عن أُبي بن كعب (2/ 229)، وذكره السيوطي في الدر المنثور عن أُبي بن كعب، وعزاه أيضاً لابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد، وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه وأبي نعيم في الحلية. انظر الدر المنثور (3/ 284).
وللإمام ابن حجر في الفتح بحث حسن حول الجمع بين هذا الأثر عن أُبي رضي الله عنه،=(1/91)
وَهَذَا كُلُّهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ اخْتِلَافَ الْأَهْوَاءِ مَكْرُوهٌ غَيْرُ مَحْبُوبٍ، وَمَذْمُومٌ غَيْرُ مَحْمُودٍ.
وَفِيمَا نُقِلَ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} {إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (1)، قَالَ فِي الْمُخْتَلِفِينَ: "إِنَّهُمْ أَهْلُ الْبَاطِلِ، {إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} قال: أهل (2) الحق ليس بينهم اخْتِلَافٌ" (3).
وَرُوِيَ (4) عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ الشِّخِّيرِ (5) أَنَّهُ قَالَ: "لَوْ كَانَتِ الْأَهْوَاءُ كُلُّهُا (6) وَاحِدًا لَقَالَ الْقَائِلُ: لَعَلَّ الْحَقَّ فِيهِ، فَلَمَّا تَشَعَّبَتْ وَتَفَرَّقَتْ عَرَفَ كُلُّ ذِي عَقْلٍ أَنَّ الْحَقَّ لَا يتفرّق" (7).
وعن عكرمة (8): {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} يَعْنِي فِي الْأَهْوَاءِ، {إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} هم أهل السنة" (9).
_________
=وما ورد من الأحاديث الدالّة على أن الله لا يعذّب هذه الأمة بما عذب به من قبلها. انظر فتح الباري لابن حجر (8/ 291).
(1) سورة هود، آية (118 ـ 119).
(2) في (ط): "فإن أهل الحق".
(3) رواه عنه الإمام ابن جرير في تفسيره (12/ 141)، وذكره ابن عبد البر في الجامع (1753)، وعزاه السيوطي أيضاً لأبي الشيخ. انظر الدر المنثور (4/ 491).
(4) في (م): "روى" بدون الواو.
(5) هو مطرف بن عبد الله بن الشخير العامري البصري، الإمام، القدوة، كان ثقة، عابداً، فاضلاً، حدّث عن أبيه رضي الله عنه وعدد من الصحابة، مات سنة ست وثمانين وقيل غير ذلك.
انظر: سير أعلام النبلاء (4/ 187)، تهذيب التهذيب (10/ 173)، شذرات الذهب (1/ 110).
(6) ساقطة من (ط).
(7) رواه عنه الإمام اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 149)، وذكره ابن عبد البر في الجامع (1752).
(8) هو أبو عبد الله عكرمة بن عبد الله القرشي، مولاهم، وهو مولى ابن عباس، وأصله بربري، ثقة، ثبت، عالم بالتفسير، قد روى عن عدد من الصحابة، ولم يثبت تكذيبه عن ابن عمر، ولا يثبت عنه بدعة. توفي سنة أربع ومائة، وقيل غير ذلك.
انظر: تهذيب التهذيب (7/ 263)، شذرات الذهب (1/ 130)، الجرح والتعديل (7/ 7).
(9) لم أجده بلفظه، وإنما روى عنه ابن جرير عند الآية قوله: "لا يزالون مختلفين في الهوى"، انظر تفسير ابن جرير (12/ 142)، وسنن سعيد بن منصور (5/ 368)، وتفسير ابن أبي حاتم (11289).(1/92)
ونقل أبو بكر بن ثابت الخطيب (1)، عن منصور بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (2) قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ الْحَسَنِ وَرَجُلٌ خَلْفِي قَاعِدٌ، فَجَعَلَ يَأْمُرُنِي أَنْ أَسْأَلَهُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} ({إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} (3)، قال: نعم {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} (4) عَلَى أَدْيَانٍ شَتَّى، {إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} فَمَنْ رَحِمَ غَيْرُ مُخْتَلِفٍ" (5).
وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمَالِكِ بْنِ أنس رضي الله عنهما أَنَّ أَهْلَ الرَّحْمَةِ لَا يَخْتَلِفُونَ (6).
وَلِهَذِهِ الْآيَةِ بسط يأتي بعد هذا (7)، إِنْ شَاءَ اللَّهُ (8).
وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عَمْرٍو (9) عن (10) مصعب (11) قال: سألت
_________
(1) هو أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد البغدادي، كان إماماً من أئمة الحديث وحفاظه، فقد جمع وصنّف وصحح، وعلّل وجرّح، وعدّل وأرّخ، وصار أحفظ أهل عصره على الإطلاق، وكان من كبار الشافعية، ومن أشهر كتبه تاريخ بغداد. توفي رحمه الله سنة 460هـ.
انظر: السير (18/ 70، العبر (2/ 314)، البداية والنهاية (12/ 108).
(2) في (خ) و (ط): "مَنْصُورِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ"، وهو إضراب عن الخطأ والصواب المثبت، وهو منصور بن عبد الرحمن الغداني الأشل، صدوق يهم. روى عن الحسن والشعبي، وروى عنه ابن علية وابن المفضل.
انظر: تقريب التهذيب (2/ 276)، الكاشف (3/ 156).
(3) سورة هود، الآية (118 ـ 119).
(4) ما بين المعكوفين ساقط من (ت).
(5) رواه الإمام ابن جرير في تفسيره (12/ 141)، وعزاه السيوطي أيضاً لابن أبي حاتم وأبي الشيخ. انظر الدر المنثور (4/ 491)، ورواه عبد الله بن أحمد في السنة عن منصور بن عبد الرحمن قال: سألت الحسن عن قوله: "ولا يزالون ... "، فذكره (2/ 430)، وسعيد بن منصور في السنن (5/ 367)، والخطيب في المتفق والمفترق (3/ 1923)، والآجري في الشريعة (2/ 719 ـ 721).
(6) رواه سعيد بن منصور في السنن (5/ 367)، وابن أبي حاتم في التفسير (11296)، والفريابي في القدر (61)، وانظر: تفسير ابن جرير (12/ 143)، والمحرر الوجيز لابن عطية (9/ 240)، وتفسير ابن كثير (2/ 866).
(7) ساقطة من (ط).
(8) تكلم المؤلف عن هذه الآية بشكل أوسع في الباب التاسع. انظر المطبوع (2/ 165).
(9) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "عمر".
(10) في جميع النسخ: "بن"، والتصويب من صحيح البخاري (8/ 425).
(11) مصعب هو ابن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، روى عن أبيه وطلحة، وكان ثقة. توفي بالكوفة سنة ثلاث ومائة.=(1/93)
أبي (1) {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} (2) هُمُ الْحَرُورِيَّةُ (3)؟ قَالَ: لَا، هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، أَمَّا الْيَهُودُ فَكَذَّبُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا النَّصَارَى فَكَذَّبُوا بِالْجَنَّةِ، وَقَالُوا: لَا طَعَامَ فِيهَا وَلَا شَرَابَ. وَالْحَرُورِيَّةُ {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} (4)، وكان (سعد) (5) يُسَمِّيهِمُ الْفَاسِقِينَ (6).
وَفِي تَفْسِيرِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ (7) عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: "قُلْتُ لِأَبِي {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا *} (8) أَهُمُ الْحَرُورِيَّةُ؟ قَالَ: لَا، أُولَئِكَ أَصْحَابُ الصَّوَامِعِ. ولكن الحرورية الذين قال الله (9): {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} (10) " (11).
_________
=انظر: الكاشف للذهبي (3/ 130)، تقريب التهذيب لابن حجر (2/ 251).
(1) عبارة (ط): "سألت أبي عن قوله تعالى"، والمثبت هو الموافق لرواية البخاري والمراد بأبيه هو سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. انظر فتح الباري (8/ 425).
(2) سورة الكهف، آية (103).
(3) الحرورية من أسماء الخوارج، سموا بذلك نسبة إلى حروراء، وهي قرية بظاهر الكوفة، وقيل على ميلين منها، نزل بها الخوارج الذين خالفوا علياً رضي الله عنه، وكان ابتداء خروجهم منها.
انظر: معجم البلدان لياقوت (3/ 256)، فتح الباري (8/ 425).
(4) سورة البقرة، آية (27).
(5) في جميع النسخ: "شعبة"، والتصويب من صحيح البخاري (8/ 425).
(6) رواه الإمام البخاري في صحيحه (8/ 425 مع الفتح)، والإمام ابن جرير في تفسيره (16/ 33)، وعزاه السيوطي لعبد الرزاق والنسائي، وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه. انظر الدر المنثور (5/ 465).
(7) هو أبو عثمان سعيد بن منصور بن شعبة الخراساني المروزي، الحافظ، الإمام، شيخ الحرم، ومؤلف كتاب السنن، روى عن مالك والليث وغيرهم، وروى عنه الإمام أحمد بن حنبل وأبو ثور وغيرهم. وكان ثقة صادقاً. توفي سنة سبع وعشرين ومائتين.
انظر: سير أعلام النبلاء (10/ 586)، طبقات ابن سعد (5/ 502)، الجرح والتعديل للرازي (4/ 68).
(8) سورة الكهف، آية (104).
(9) أي الذين قال الله فيهم.
(10) سورة الصف، آية (5).
(11) رواه عبد الله بن أحمد في السنة (2/ 641)، وفيه الخوارج بدل من الحرورية، ورواه الحاكم في المستدرك (2/ 370)، وابن جرير في تفسيره (16/ 33)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور لعبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه (5/ 465).(1/94)
وَخَرَّجَ عَبْدُ (1) بْنُ حُمَيْدٍ فِي تَفْسِيرِهِ هَذَا الْمَعْنَى بِلَفْظٍ آخَرَ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، فَأَتَى عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} إلى قوله: {يُحْسِنُونَ صُنْعًا} قُلْتُ: أَهُمُ (2) الْحَرُورِيَّةُ؟ قَالَ: "لَا (3)، هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. أَمَّا الْيَهُودُ فَكَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا النَّصَارَى فَكَفَرُوا بِالْجَنَّةِ، وَقَالُوا: لَيْسَ فِيهَا طَعَامٌ وَلَا شَرَابٌ، وَلَكِنَّ الْحَرُورِيَّةُ {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} (4) " (5).
[ففي هذه الروايات عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه أن قوله تعالى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} الآية، يشمل أهل البدعة؛ لأن أهل حروراء اجتمعت فيهم هذه الأوصاف التي هي نقض عهد الله وقطع ما أمر الله به أن يوصل، والإفساد في الأرض] (6).
فَالْأَوَّلُ (7): لِأَنَّهُمْ خَرَجُوا عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ بِشَهَادَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُمْ تأولوا فيه (8) التَّأْوِيلَاتِ الْفَاسِدَةَ، وَكَذَا فَعَلَ الْمُبْتَدِعَةُ، وَهُوَ بَابُهُمُ الذي دخلوا منه (9).
_________
(1) في (م) و (خ) و (ط): "عبيد"، والصواب المثبت.
وهو عبد بن حميد ويقال عبد الحميد بن نصر الكسي، ويقال الكشي، الإمام، الحافظ، الحجة، ولد بعد السبعين ومائة. حدّث عنه مسلم والترمذي والبخاري تعليقاً. كان ممن جمع وصنّف. توفي سنة تسع وأربعين ومائتين.
انظر: سير أعلام النبلاء (12/ 235)، تهذيب التهذيب لابن حجر (6/ 455)، شذرات الذهب لابن العماد (2/ 120).
(2) في (ر): "هم".
(3) ساقطة من (ت).
(4) سورة البقرة، آية (27).
(5) هذا اللفظ هو لفظ الإمام البخاري إلاّ أنه قال هنا: "كفروا بمحمد"، وقال هناك: "كذبوا بمحمد"، وقد تقدم تخريجه قريباً.
(6) ما بين المعكوفين ساقط من جميع النسخ، عدا (غ) و (ر).
(7) من هنا يبدأ المؤلف في تنزيل الصفات الواردة في الآية على الخوارج وأعمالهم، علماً بأن الآية لم تنص على الخوارج، ولم تنزل فيهم. ولكنهم داخلون بوصفهم فيها مع من دخل، وقد ذكر ذلك الإمام ابن كثير في تفسيره (1/ 101). وسوف يشير إلى ذلك المؤلف (ص105).
(8) ساقطة من جميع النسخ عدا (غ) و (ر).
(9) في جميع النسخ "فيه" عدا (غ) و (ر).(1/95)
وَالثَّانِي (1): لِأَنَّهُمْ تَصَرَّفُوا فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ هَذَا التَّصَرُّفَ.
فَأَهْلُ حَرُورَاءَ (2) وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْخَوَارِجِ قَطَعُوا قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} (3) عن قوله: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} (4) وغيرها (5).
وَكَذَا فَعَلَ سَائِرُ الْمُبْتَدِعَةِ حَسْبَمَا يَأْتِيكَ بِحَوْلِ الله (6).
ومنه (7): ما (8) روي عن عَمْرُو بْنُ مُهَاجِرٍ (9) قَالَ: (بَلَغَ عُمَرُ بْنُ
_________
(1) بعد أن تكلم المؤلف عن نقضهم لعهد الله فإنه يذكر هنا قطعهم لما أمر الله به أن يوصل.
(2) تقدم التعريف بها (ص99).
(3) سورة الأنعام: آية (57).
(4) سورة المائدة: آية (95).
(5) يشير المؤلف بهذا الكلام إلى احتجاج الخوارج الذين خرجوا على علي رضي الله عنه استنكاراً للتحكيم. فقد قالوا كيف يحكم الرجال في أمر الله، واحتجوا بقول الله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ}. وقد أرسل علي رضي الله عنه إليهم ابن عباس ليجادلهم فيما ذهبوا إليه من آراء، وقد أجاب ابن عباس رضي الله عنه عن هذه المسألة بأن الله قد قبل حكم الرجال فيما هو أهون من دماء المسلمين، وذلك مثل قبول حكم الرجال في جزاء الصيد الذي يقتله المحرم، فقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} المائدة (95)، ثم أجاب رضي الله عنه عن بقية آرائهم. فرجع منهم ألفان إلى المسلمين.
انظر هذه القصة في جامع بيان العلم لابن عبد البر (2/ 104)، كما ذكرها المؤلف في نفس الكتاب (2ج187) من المطبوع. وذكرها ابن الجوزي في تلبيس إبليس (ص112 ـ 114)، وانظر الكامل في التاريخ لابن الأثير (3/ 202 ـ 203)، وانظر فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (19/ 90، 91).
(6) تناول المؤلف مناهج المبتدعة في الاستدلال في الباب الرابع من الكتاب (1/ 220 ـ 285) من المطبوع، وخاصة (ص237 ـ 245) فإن له تعلقاً بمسألتنا هنا.
(7) أي: ومن قَطْع بعض الأدلة عن بعض فعل غيلان الدمشقي الذي قطع أول سورة الإنسان عن آخرها كما سيذكره المؤلف.
(8) ساقطة من (م).
(9) هو عمرو بن مهاجر بن أبي مسلم الأنصاري الدمشقي، ولي شرطة عمر بن عبد العزيز، وكان ثقة. توفي سنة تسع وثلاثين ومائة.
انظر: التاريخ الكبير (6/ 373)، تقريب التهذيب (2/ 79)، والكاشف للذهبي (2/ 296).(1/96)
عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ غَيْلَانَ الْقَدَرِيَّ (1) يَقُولُ فِي الْقَدَرِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ فَحَجَبَهُ أَيَّامًا، ثُمَّ أَدْخَلَهُ عَلَيْهِ فَقَالَ: يَا غَيْلَانُ، مَا هَذَا الَّذِي بَلَغَنِي عَنْكَ؟ قَالَ عَمْرُو بْنُ مُهَاجِرٍ: فَأَشَرْتُ إِلَيْهِ أَلَّا يَقُولَ شَيْئًا، قَالَ: فَقَالَ: نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا *إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا *إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا *} (2)، قَالَ عُمَرُ: اقْرَأْ إِلَى (3) آخِرِ السُّورَةِ: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا *يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا *} (4)، ثُمَّ قَالَ: مَا تَقُولُ يَا غَيْلَانُ؟ قَالَ: أَقُولُ: قَدْ كُنْتُ أَعْمَى فَبَصَّرْتَنِي، وَأَصَمَّ فَأَسْمَعْتَنِي، (وَضَالًّا فَهَدَيْتَنِي) (5). فَقَالَ عُمَرُ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ عَبْدُكَ غَيْلَانُ صَادِقًا وَإِلَّا فَاصْلُبْهُ (6). قَالَ: فَأَمْسَكَ عَنِ الْكَلَامِ فِي الْقَدَرِ، فَوَلَّاهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ دَارَ الضَّرْبِ بِدِمَشْقَ. فَلَمَّا مَاتَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأَفْضَتِ الْخِلَافَةُ إِلَى هِشَامٍ (7) تَكَلَّمَ فِي الْقَدَرِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ هِشَامٌ فَقَطَعَ يَدَهُ، فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ وَالذُّبَابُ عَلَى يَدِهِ، فَقَالَ: يَا غَيْلَانُ، هَذَا قَضَاءٌ وَقَدَرٌ. قَالَ: كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ مَا هَذَا قَضَاءٌ ولا قدر، فبعث إليه هشام فصلبه" (8).
_________
(1) هو غيلان بن مسلم الدمشقي، القدري، تنسب إليه فرقة الغيلانية من القدرية، وهو ثاني من تكلم في القدر ودعا إليه، فقد سبقه معبد الجهني، قتل بسبب بدعته وصلب على باب كيسان بدمشق.
انظر: ميزان الاعتدال (3/ 338) ولسان الميزان (4/ 424) والأعلام للزركلي (5/ 124)، والملل والنحل للشهرستاني (ص46).
(2) سورة الإنسان: آية (1 ـ 3).
(3) ساقطة من (ر).
(4) سورة الإنسان: آية (30، 31).
(5) ما بين المعكوفين ساقط من (خ).
(6) في (ط): "فاصلة"، وفي (ت): "فأصابه".
(7) هو الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك بن مروان، بويع له بالخلافة بعد أخيه يزيد بن عبد الملك، سنة خمس ومائة، وكان حازم الرأي، ذكياً، مدبراً، فيه حلم وأناة. توفي سنة خمس وعشرين ومائة.
انظر: البداية والنهاية (9/ 365)، سير أعلام النبلاء (5/ 351)، فوات الوفيات (4/ 238).
(8) روى هذه القصة الفريابي في القدر (279)، واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (4/ 712 ـ 713)، والإمام الآجري في الشريعة (ص228) بلفظ المؤلف تماماً، كما=(1/97)
وَالثَّالِثُ (1): لِأَنَّ الْحَرُورِيَّةَ جَرَّدُوا السُّيُوفَ عَلَى عِبَادِ اللَّهِ، وَهُوَ غَايَةُ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَذَلِكَ كَثِيرٌ (2) مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ شَائِعٌ، وَسَائِرُهُمْ يُفْسِدُونَ بِوُجُوهٍ مِنْ إِيقَاعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ.
وَهَذِهِ الْأَوْصَافُ الثَّلَاثَةُ تَقْتَضِيهَا الْفِرْقَةُ الَّتِي نَبَّهَ عَلَيْهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} (3)، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} (4)، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ.
وَفِي الْحَدِيثِ: (إِنَّ الْأُمَّةَ تَتَفَرَّقُ عَلَى بِضْعٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً) (5).
وَهَذَا التَّفْسِيرُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى لِمُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ (6) أَيْضًا، فَقَدْ وَافَقَ أَبَاهُ عَلَى الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ (7).
ثُمَّ فَسَّرَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ (8) أَنَّ ذَلِكَ بسبب الزيغ الحاصل فيهم، وذلك قوله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} (9)، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى آيَةِ آلِ عِمْرَانَ فِي قَوْلِهِ: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} (10) الْآيَةَ.
فَإِنَّهُ (11) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَدْخَلَ (12) الْحَرُورِيَّةُ في الآيتين بالمعنى، وهو الزيغ
_________
=ذكرها بلفظها ومن نفس الطريق الإمام ابن بطة في كتاب القدر من كتاب الإبانة الكبرى (ص339 ـ 440)، (وهو رسالة دكتوراه في جامعة أم القرى، بتحقيق الدكتور عبد الله آدم الأثيوبي)، وروى قصته أيضاً مع عمر بن عبد العزيز عبد الله بن أحمد في السنة (2/ 429).
(1) يريد الوصف الثالث في آية البقرة والرعد، وهو الفساد في الأرض.
(2) في (ر): "في كثير".
(3) سورة آل عمران: آية (105).
(4) سورة الأنعام: آية (159).
(5) تقدم تخريج حديث الافتراق وبيان صحته في المقدمة (ص12)، وسوف يذكر المؤلف حديث الافتراق وبعض رواياته في الباب التاسع (2/ 189) من المطبوع. وقد جمع الشيخ سلمان العودة أحاديث الافتراق ودرس أسانيدها في كتابه "صفة الغرباء" (ص20 ـ 50).
(6) هو ابن سعد بن أبي وقاص. تقدم ذكره (ص99).
(7) انظر: الرواية الأولى التي ذكرها المؤلف (ص99).
(8) تقدمت هذه الرواية (ص99).
(9) سورة الصف: آية (5).
(10) سورة آل عمران: آية (7).
(11) في (ر): "فكأنه".
(12) عبارة (خ) و (ط): "فإنه أدخل رضي الله عنه ... ".(1/98)
فِي إِحْدَاهُمَا (1)، وَالْأَوْصَافُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْأُخْرَى (2) لِأَنَّهَا فيهم موجودة.
فآية الرعد (3) تشمل (4) بِلَفْظِهَا، لِأَنَّ اللَّفْظَ فِيهَا يَقْتَضِي الْعُمُومَ لُغَةً، وَإِنْ حَمَلْنَاهَا عَلَى الْكُفَّارِ خُصُوصًا فَهِيَ تُعْطِي أَيْضًا فِيهِمْ (5) حُكْمًا مِنْ جِهَةِ تَرْتِيبِ الْجَزَاءِ (6) عَلَى الْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ (7) حَسْبَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي الأوصول (8).
وَكَذَلِكَ آيَةُ الصَّفِّ، لِأَنَّهَا خَاصَّةٌ بِقَوْمِ مُوسَى عليه السلام ومن هنا كان (سعد) (9) يُسَمِّيهِمُ الْفَاسِقِينَ ـ أَعْنِي الْحَرُورِيَّةَ ـ، لِأَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ وَاقِعٌ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ جَاءَ فِيهَا: {وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (10) وَالزَّيْغُ أَيْضًا كَانَ مَوْجُودًا فِيهِمْ، فَدَخَلُوا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} (11).
وَمِنْ هُنَا يُفْهَمُ (12) أَنَّهَا لَا تَخْتَصُّ مِنْ أهل البدعة بالحرورية، بل تعم
_________
(1) وهي آية الصف {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} رقم (5).
(2) وهي آية البقرة رقم (27)، وآية الرعد رقم (25)، فكلا الآيتين تناول الأوصاف الثلاثة: وهي نقض عهد الله من بعد ميثاقه، وقطع ما أمر الله به أن يوصل، والإفساد في الأرض.
(3) ذكر المؤلف آية الرعد ولم يذكر آية البقرة، فلعله اكتفى بالاستشهاد بها، علماً بأن الإمام ابن حجر في الفتح تكلم على الآية التي استشهد بها سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ على أنها آية البقرة. انظر الفتح (8/ 425).
(4) في (ر): "تشتمل".
(5) أي: في الخوارج وغيرهم من المبتدعة الذين يتصفون بما ورد في الآية من الصفات.
(6) في (ت): "الأجزاء".
(7) أي المذكورة في آية البقرة رقم (27). انظر هامش (8).
(8) يريد بهذا ـ والله أعلم ـ أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وهو قول جمهور الأصوليين. انظر: روضة الناظر لابن قدامة مع شرحه نزهة الخاطر العاطر (2/ 123)، إرشاد الفحول للشوكاني (133)، أصول الفقه الإسلامي للدكتور وهبة الزحيلي (1/ 273).
في جميع النسخ "شعبة"، والصواب "سعد" كما في صحيح البخاري، وهو سعد ابن أبي وقاص كما مر في الحديث (ص99).
(9) سورة الصف: آية (5). وتسمية سعد رضي الله عنه لهم بالفاسقين قد يكون بسبب ذكر ذلك في سورة البقرة: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ}، ثم وصفهم الله بالأوصاف المذكورة. انظر سورة البقرة: آية (26، 27).
(10) سورة الصف: آية (5).
(11) في (غ): "يعلم".(1/99)
كُلَّ مَنِ اتَّصَفَ بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ الَّتِي أَصْلُهَا الزَّيْغُ، وَهُوَ الْمَيْلُ عَنِ الْحَقِّ اتِّبَاعًا لِلْهَوَى.
وَإِنَّمَا فَسَّرَهَا سَعْدٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْحَرُورِيَّةِ، لأنه إنما سئل عنهم، (وإنما سُئِلَ عَنْهُمْ) (1) عَلَى الْخُصُوصِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، لِأَنَّهُمْ من (2) أَوَّلُ مَنِ ابْتَدَعَ فِي دِينِ اللَّهِ، فَلَا يقتضى ذلك تخصيصاً.
وأما الآية (3) المسؤول عَنْهَا أَوَّلًا، وَهِيَ آيَةُ الْكَهْفِ (4)، فَإِنَّ سَعْدًا نَفَى أَنْ تَشْمَلَ الْحَرُورِيَّةَ.
وَقَدْ جَاءَ عَنْ علي بن أبي طالب رضي الله عنه أَنَّهُ فَسَّرَ الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا بِالْحَرُورِيَّةِ أَيْضًا. فَرَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ (5) عَنْ أَبِي (6) الطُّفَيْلِ (7) قَالَ: (قَامَ (8) ابْنُ الكوَّاء (9) إِلَى عَلِيٍّ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَنِ {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
_________
(1) ما بين المعكوفين ساقط من (خ) و (ط).
(2) ساقطة من (م) و (ط).
(3) ساقطة من جميع النسخ عدا (غ) و (ر).
(4) هي آية الكهف رقم (103) وهي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرَينِ أَعْمَالاً *}.
(5) تقدم ذكره وترجمته (ص100).
(6) في (ط): "ابن".
(7) هو الصحابي عامر بن واثلة بن عبد الله بن عمرو الليثي الكناني، خاتم من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدنيا، كان من شيعة الإمام علي رضي الله عنه وكان ثقة فيما ينقله، صادقاً، عالماً. شاعراً، فارسا. شهد مع علي رضي الله عنه حروبه، وعمر دهراً طويلاً. توفي بمكة سنة عشر ومائة.
انظر: سير أعلام النبلاء (3/ 467)، الإصابة لابن حجر (4/ 113)، أسد الغابة لابن الأثير (3/ 145).
(8) ساقطة من (ت).
(9) هو عبد الله بن الكواء اليشكري. خرج مع الخوارج إلى حروراء، وجعلوه أميراً للصلاة، وكان من أول من بايع عبد الله بن وهب الراسي أمير الخوارج وقد رشحه الخوارج ليجادل الإمام علي رضي الله عنه فيما نقموا عليه، وقد رجع عن مذهب الخوارج، وعاود صحبة علي رضي الله عنه.
انظر: الكامل في التاريخ لابن الأثير (3/ 202، 203)، الملل والنحل للشهرستاني (ص117)، دراسة عن الفرق لأحمد الجلي (ص55)، والفرق بين الفرق (2/ 117)، لسان الميزان (4/ 406).(1/100)
وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا *} (1)؟ قَالَ: مِنْهُمْ أَهْلُ حَرُورَاءَ) (2).
وَهُوَ أَيْضًا مَنْقُولٌ فِي تَفْسِيرِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ (3).
وَفِي جَامِعِ ابْنِ وَهْبٍ أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنِ الْآيَةِ، فَقَالَ لَهُ: (ارْقَ إليَّ أُخْبِرْكَ) وَكَانَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَرَقِيَ إلى دَرَجَتَيْنِ، فَتَنَاوَلَهُ بِعَصًا كَانَتْ فِي يَدِهِ، فَجَعَلَ يضربه بها، ثم قال له (4) علي رضي الله عنه: (أَنْتَ وَأَصْحَابَكَ) (5).
وَخَرَّجَ عَبْدُ (بْنُ حُمَيْدٍ) (6) أَيْضًا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ (7) قَالَ: أَخْبَرَنِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي أَوْد (8) أَنَّ عَلِيًّا رضي الله عنه خَطَبَ النَّاسَ بِالْعِرَاقِ وَهُوَ يَسْمَعُ، فَصَاحَ بِهِ ابْنُ الْكَوَّاءِ مِنْ أَقْصَى الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: يَا أمير المؤمنين، من
_________
(1) سورة الكهف: آية (104).
(2) رواه ابن جرير في تفسيره (16/ 33 ـ 34)، وعبد الله بن أحمد في السنة عن أبي الطفيل (2/ 636)، وعبد الرزاق في التفسير (2/ 348)، وابن أبي حاتم في التفسير (7/ 2393)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور لعبد الرزاق والفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن علي رضي الله عنه أنه سئل عن هَذِهِ الْآيَةِ {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرَينِ أَعْمَالاً *} قال: لا أظن إلا أن الخوارج منهم. انظر الدر المنثور (5/ 465).
(3) هو أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، شيخ الإسلام، وإمام الحفاظ، قال ابن عيينة وابن معين وغيرهم: سفيان الثوري أمير المؤمنين في الحديث. وقد ساد الناس بالورع والعلم، وكان رأساً في الزهد والتأله والخوف، رأساً في الفقه، لا يخاف في الله لومة لائم. توفي سنة إحدى وستين ومائة.
انظر: سير أعلام النبلاء (7/ 229)، طبقات ابن سعد (6/ 371)، حلية الأولياء (6/ 356).
وانظر: تفسير سفيان الثوري فقد ذكر الخبر عند الآية (ص179).
(4) ساقطة من (م) و (ر).
(5) رواه الإمام ابن جرير مختصراً. انظر: تفسير ابن جرير (16/ 27).
(6) ما بين المعكوفين ساقط من (م) و (خ) و (ت) و (غ) و (ر).
(7) هو محمد بن جبير بن مطعم النوفلي، إمام، فقيه، ثبت، كان أحد العلماء الأشراف، وصاحب كتب وعناية بالعلم، روى عن أبيه وعمر وابن عباس، وروى عنه الزهري وغيره. توفي بالمدينة سنة مائة.
انظر: التاريخ الكبير (1/ 52)، السير (4/ 543)، والتقريب (2/ 150).
(8) قال السمعاني في الأنساب: الأودي بفتح الألف وسكون الواو، وفي آخرها الدال المهملة، هذه النسبة إلى أود بن صعب بن سعد العشيرة من مذحج. انظر الأنساب (1/ 226).(1/101)
الأخسرين أعمالاً؟ قال: "أنت وأصحابك (1) ". فَقُتِلَ ابْنُ الْكَوَّاءِ يَوْمَ الْخَوَارِجِ (2).
وَنَقَلَ بَعْضُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ أَنَّ ابْنَ الْكَوَّاءِ سَأَلَهُ (3) فَقَالَ: (أَنْتُمْ أَهْلُ حَرُورَاءَ، وَأَهْلُ الرِّيَاءِ، وَالَّذِينَ يُحْبِطُونَ الصَّنِيعَةَ بِالْمِنَّةِ (4).
فَالرِّوَايَةُ الْأُولَى (5) تَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَهْلَ حَرُورَاءَ بَعْضُ مَنْ شَمِلَتْهُ الْآيَةُ وَلَمَّا قَالَ سُبْحَانَهُ فِي وَصْفِهِمْ: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (6)، فوصفهم (7) بِالضَّلَالِ مَعَ ظَنِّ الِاهْتِدَاءِ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُمُ الْمُبْتَدِعُونَ فِي أَعْمَالِهِمْ عُمُومًا، كَانُوا مِنْ أَهْلِ الكتاب أو لا (8)، من حيث قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ" (9). وَسَيَأْتِي شَرْحُ ذَلِكَ بِعَوْنِ اللَّهِ (10).
فَقَدْ يَجْتَمِعُ التفسيران في الآية، تفسير سعد رضي الله عنه بأنهم اليهود والنصارى، وتفسير علي رضي الله عنه بِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْبِدْعَةِ، لِأَنَّهُمْ قَدِ اتَّفَقُوا عَلَى الابتداع. ولذلك فسر سعد (11) كُفْرَ النَّصَارَى بِأَنَّهُمْ تَأَوَّلُوا فِي الْجَنَّةِ غَيْرَ مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَهُوَ التَّأْوِيلُ بِالرَّأْيِ (12).
فَاجْتَمَعَتِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ (13) عَلَى (14) ذَمِّ الْبِدْعَةِ وَأَهْلِهَا (15)، وَأَشْعَرَ
_________
(1) ساقطة من جميع النسخ عدا (غ) و (ر).
(2) تقدم قريباً.
(3) أي: سأله عن الآية المذكورة.
(4) ذكر الماوردي في تفسيره مما قيل في الآية: أنهم من يصطنع المعروف ويمن عليه.
ولم يعزه. (2/ 510).
(5) هي رواية أبي الطفيل عند عبد بن حميد. وتقدمت (ص106).
(6) سورة الكهف: آية (104).
(7) في (ط): "وصفهم".
(8) في (ت): "أولى".
(9) سيذكر المؤلف الحديث بتمامه (ص115)، وسأذكر تخريجه هناك.
(10) تكلم المؤلف عن هذا المعنى في آخر فصل من فصول الباب الثاني (ص255).
(11) ساقطة من جميع النسخ عدا (غ).
(12) في (ر): "غير ما هو عليه، وهو التأويل بالرأي".
(13) وهي آية البقرة: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} (27)، وآية الكهف {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرَينِ أَعْمَالاً *} (103)، وآية الصف {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} (5). وقد تقدم استشهاد سعد وعلي رضي الله عنهما بتلك الآيات.
(14) ساقطة من (م).
(15) ساقطة من (ط).(1/102)
كلام سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَنَّ كُلَّ آيَةٍ اقْتَضَتْ وَصْفًا مِنْ أَوْصَافِ المبتدعة فهم مقصودون بِمَا فِيهَا مِنَ الذَّمِّ وَالْخِزْيِ وَسُوءِ الْجَزَاءِ، إِمَّا بِعُمُومِ اللَّفْظِ (1)، وَإِمَّا بِمَعْنَى الْوَصْفِ (2).
وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى (3) بِكِتَابٍ فِي كَتِفٍ فَقَالَ: (كَفَى بِقَوْمٍ حُمْقًا، أَوْ (4) قَالَ ضَلًالًا، أَنْ يَرْغَبُوا عَمَّا جَاءَهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ إِلَى غَيْرِ نَبِيِّهِمْ، أَوْ كِتَابٍ إِلَى غَيْرِ كِتَابِهِمْ)، فَنَزَلَتْ: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} (5) الآية (6).
وخرج (7) عبد بن حميد (8) عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي" (9)، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (10) إِلَى آخِرِ الْآيَةِ (11).
وَخَرَّجَ هُوَ وَغَيْرُهُ عَنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا في قول الله:
_________
(1) مثل آية البقرة (27) {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} وكذلك آية الرعد (25) فإن فيها نفس الأوصاف المذكورة في آية البقرة.
(2) مثل آية الصف (5) {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} وتقدم استشهاد سعد رضي الله عنه بهذه الآيات.
(3) في (م) و (خ) و (ت): "أوتى".
(4) في (ت): "و" بدل أو.
(5) سورة العنكبوت: آية (51).
(6) رواه الإمام الدارمي في المقدمة من سننه: باب من لم ير كتابة الحديث، عن يحيى بن جعدة مرسلاً (1/ 134)، ورواه الإمام ابن جرير الطبري في تفسيره (21/ 7)، ورواه الإمام أبو داود في المراسيل (ص454)، ورواه الإمام ابن عبد البر في جامع بيان العلم، باب مختصر في مطالعة كتب أهل الكتاب والرواية عنهم (2/ 41)، وذكره القاضي عياض في الشفا (2/ 38)، وعزاه الشوكاني في فتح القدير أيضاً للفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم (4/ 209)، وأخرجه الإسماعيلي في معجمه (384) عن يحيى بن جعدة، عن أبي هريرة مرفوعاً، وذكره بمعناه.
(7) في (خ): "وخرجه".
(8) في (ط): "عبد الحميد"، وتقدمت ترجمة عبد بن حميد (ص100).
(9) رواه الشيخان، وتقدم تخريجه (ص58).
(10) سورة آل عمران: آية (31).
(11) ذكره الإمام السيوطي في الدر المنثور وعزاه إلى عبد بن حميد (2/ 30).(1/103)
{عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ *} (1) قَالَ: (مَا قَدَّمَتْ مِنْ عَمَلِ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَمَا أَخَّرَتْ مِنْ سُنَّةٍ يُعْمَلُ بِهَا من بعدها (2) " (3).
وَهَذَا التَّفْسِيرُ قَدْ يَحْتَاجُ إِلَى تَفْسِيرٍ، فَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ (4) قَالَ: (مَا قَدَّمَتْ مِنْ خَيْرٍ، وَمَا أَخَّرَتْ مِنْ سُنَّةٍ صَالِحَةٍ يُعْمَلُ بها (5)، فَإِنَّ لَهُ مِثْلَ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَا أَخَّرَتْ مِنْ سُنَّةٍ سَيِّئَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ (6) من أوزارهم شيئاً) (7). خرجه ابن المبارك (8) وَغَيْرُهُ (9).
وَجَاءَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ (10) وَأَبِي قِلَابَةَ (11) وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُمْ قَالُوا: (كُلُّ صَاحِبِ بِدْعَةٍ أَوْ فِرْيَةٍ ذَلِيلٌ". وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا
_________
(1) سورة الانفطار: آية (5).
(2) في (خ) و (ط): "بعده".
(3) ذكره الإمام السيوطي في الدر المنثور عنه، وعزاه إلى عبد بن حميد (8/ 438)، وقريب منه عند ابن جرير في تفسيره (36557).
(4) هو ابن مسعود.
(5) في (م) و (خ) و (ت): "يعمل بها من بعدها".
(6) ساقطة من (م) و (ت) و (غ).
(7) في (م) و (خ) و (ت) و (غ): "شيء"، وما أثبته هو الموافق للرواية.
(8) في (ت): "مالك".
(9) خرج هذا الأثر عن ابن مسعود الإمام ابن المبارك في كتاب الزهد له (ص517)، وعزاه الإمام السيوطي في الدر المنثور لعبد بن حميد، وابن أبي حاتم. انظر الدر المنثور (8/ 438). وذكره الإمام البغوي في شرح السنة، باب ثواب من دعا إلى هدى أو أحيا سنة، وذكره بلفظ أخصر (1/ 232).
(10) هو سفيان بن عيينة بن أبي عمران، الإمام الكبير، حافظ العصر، طلب الحديث وهو حدث، ولقي الكبار، وأتقن وجود، وجمع وصنف، وهو ومالك نظيران في الإتقان. توفي سنة ثمان وتسعين ومائة.
انظر: سير أعلام النبلاء (8/ 454)، الجرح والتعديل للرازي (1/ 32)، وتهذيب التهذيب (4/ 117).
(11) هو عبد الله بن زيد بن عمرو، الجرمي، أبو قلابة البصري، كان ثقة فاضلاً كثير الحديث، كثير الإرسال، ابتلي في دينه وبدنه، مات بالشام هارباً من القضاء سنة أربع ومائة.
انظر: تقريب التهذيب (1/ 417)، سير أعلام النبلاء (4/ 468)، طبقات ابن سعد (7/ 183)، حلية الأولياء (2/ 282).(1/104)
الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ *} (1) " (2).
وَخَرَّجَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} (3) (يَقُولُ: (مَا قَدَّمُوا مِنْ خَيْرٍ، وَآثَارَهُمُ) (4) الَّتِي أَوْرَثُوا النَّاسَ بَعْدَهُمْ مِنَ الضَّلَالَةِ) (5).
وَخَرَّجَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَوْنٍ (6) عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ (7) أنه قال: إني
_________
(1) سورة الأعراف: آية (152).
(2) روى قول سفيان بن عيينة ابن جرير في التفسير (15161)، وأبو نعيم في الحلية، ولفظه: "ليس في الأرض صاحب بدعة إلا وهو يجد ذلة تغشاه، قال: وهي في كتاب الله، قالوا: وأين هي من كتاب الله؟ قال: أما سمعتم قوله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، قالوا: يا أبا محمد، هذه لأصحاب العجل خاصة. قال: كلا، اتلوا ما بعدها: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} فهي لكل مفتر ومبتدع إلى يوم القيامة. (انظر الحلية 7/ 280). وكذلك ذكره ابن الجوزي في زاد المسير (3/ 266)، وذكر ابن كثير قوله مختصرا. انظر تفسيره (2/ 395). وذكر قول سفيان الإمام السيوطي في الدر المنثور، وعزاه لابن أبي حاتم، والبيهقي في شعب الإيمان، وأبو الشيخ. انظر الدر المنثور (3/ 565 ـ 566). وروى قول أبي قلابة وابن جرير في التفسير (15158)، والإمام اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 143)، وذكره السيوطي عنه في الدر المنثور، وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ. انظر الدر المنثور (3/ 565).
(3) سورة يس: آية (12).
(4) ما بين المعكوفين ساقط من (ت).
(5) أخرجه سفيان الثوري في التفسير (792)، وذكره الإمام السيوطي في الدر المنثور. وعزاه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم. انظر الدر المنثور (7/ 48). وأشار إلى طرف منه الإمام ابن كثير في تفسيره (3/ 900).
(6) هو عبد الله بن عون بن أرطبان المزني، مولاهم، كان من أئمة العلم والعمل، وكان مشهوراً في الحفظ، وفي الفقه، وفي العبادة والفضل، وكان ثقة ثبتاً فاضلاً. توفي سنة إحدى وخمسين ومائة.
انظر: سير أعلام النبلاء (6/ 364)، تهذيب التهذيب (5/ 346)، شذرات الذهب (1/ 230).
(7) هو محمد بن سيرين الأنصاري الأنسي البصري، مولى أنس بن مالك رضي الله عنه، وكان رحمه الله فقيها، عالماً، ورعا، كثير الحديث. شهد له أهل العلم والفضل بذلك. توفي سنة عشر ومائة.
انظر: سير أعلام النبلاء (4/ 606)، طبقات ابن سعد (7/ 193)، حلية الأولياء (2/ 263).(1/105)
أَرَى أَسْرَعَ النَّاسِ رِدَّةً (1) أَصْحَابَ الْأَهْوَاءِ. قَالَ ابْنُ عَوْنٍ: وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ يَرَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي أَصْحَابِ الْأَهْوَاءِ (2): {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} (3) الآية (4).
وَذَكَرَ الْآجُرِّيُّ (5) عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ (6) أَنَّهُ ذَكَرَ أَصْحَابَ الْأَهْوَاءِ فَقَالَ: (وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي الْجَوْزَاءِ بِيَدِهِ لِأَنْ تَمْتَلِئَ دَارِي قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يُجَاوِرَنِي رَجُلٌ مِنْهُمْ، وَلَقَدْ دَخَلُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {هَا أَنْتُمْ أُولاَءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} إِلَى قَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (7)) (8).
وَالْآيَاتُ الْمُصَرِّحَةُ وَالْمُشِيرَةُ إِلَى ذَمِّهِمْ وَالنَّهْيِ عَنْ مُلَابَسَةِ أَحْوَالِهِمْ كَثِيرَةٌ. فَلْنَقْتَصِرْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، فَفِيهِ ـ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ـ الْمَوْعِظَةُ لِمَنِ اتَّعَظَ، والشفاء لما في الصدور.
_________
(1) عير واضحة في (ت).
(2) في (ت): "أهل الأهواء".
(3) سورة الأنعام: آية (68).
(4) أخرجه الآجري في الشريعة (2/ 889) دون قوله: "قال ابن عون .. ". رواه الإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى، باب التحذير من قوم يمرضون القلوب، عن ابن عون، قال: كان محمد يرى .. وذكره (2/ 431). وأخرج ابن أبي حاتم في التفسير (4/ 7428) الشطر الثاني منه، وذكره الذهبي في السير (4/ 610)، وذكره الإمام السيوطي في الدر المنثور عن ابن سيرين، وعزاه لعبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبو الشيخ. انظر الدر المنثور (3/ 292).
(5) تقدمت ترجمته (ص78).
(6) هو أوس بن عبد الله الربعي البصري، ثقة، من كبار العلماء، حدث عن عائشة وابن عباس وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم، وكان أحد العباد الذين قاموا على الحجاج، فقيل: إنه قتل يوم الجماجم سنة ثلاث وثمانين.
انظر: سير أعلام النبلاء (4/ 371)، تهذيب التهذيب (1/ 383)، شذرات الذهب (1/ 93).
(7) سورة آل عمران: آية (119).
(8) انظر: الشريعة (5/ 2548 ـ 2549) ورواه الإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى، باب التحذير من صحبة قوم يمرضون القلوب ويفسدون الإيمان عن أبي الجوزاء وذكره بلفظين متقاربين أحدهما لفظ المؤلف. انظر الإبانة الكبرى (2/ 468 ـ 469). ورواه الإمام اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة، سياق ما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في النهي عن مناظرة أهل البدع .. وذكره بلفظ أخصر من لفظ المؤلف، وليس فيه الاستشهاد بالآية (1/ 131)، وذكره الذهبي في السير (4/ 372).(1/106)
فصل
الْوَجْهُ الثَّانِي مِنَ النَّقْلِ: مَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ الْمَنْقُولَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَهِيَ كَثِيرَةٌ تَكَادُ تَفُوتُ الْحَصْرَ، إِلَّا أَنَّا نَذْكُرُ مِنْهَا مَا تَيَسَّرَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْبَاقِي، وَنَتَحَرَّى فِي ذَلِكَ ـ بِحَوْلِ اللَّهِ ـ مَا هُوَ أَقْرَبُ إِلَى الصِّحَّةِ.
فَمِنْ ذَلِكَ مَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا (1) مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ" (2)، وَفِي رِوَايَةٍ لمسلم: (مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ) (3).
وَهَذَا الْحَدِيثُ عَدَّهُ الْعُلَمَاءُ ثُلُثَ الْإِسْلَامِ (4)، (لأنه جمع وجوه المخالفة لأمره عليه السلام) (5).
_________
(1) في (ط): "في أمرنا هذا".
(2) رواه الإمام البخاري في كتاب الصلح من صحيحه، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود وذكره (5/ 301 مع الفتح)، ورواه مسلم في كتاب الأقضية من صحيحه، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور وذكره (12/ 16 مع النووي)، ورواه ابن ماجه في المقدمة من سننه، باب تعظيم حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وذكره (1/ 7)، ورواه الإمام أحمد في المسند (6/ 270) جميعهم عن عائشة رضي الله عنها.
(3) رواه بهذا اللفظ الإمام مسلم في نفس الموضع السابق (12/ 16).
(4) وهو مروي عن الإمام أحمد كما ذكره ابن رجب في جامع العلوم والحكم، وذكر عن الشافعي أنه قال: هذا الحديث ثلث العلم، ويدخل في سبعين بابا من الفقه. انظر: جامع العلوم والحكم لابن رجب عند شرح حديث (إنما الأعمال بالنيات) (ص5).
(5) ما بين المعكوفين ساقط من (ت).(1/107)
وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ مَا كَانَ بِدْعَةً أَوْ مَعْصِيَةً.
وَخَرَّجَ مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ (1) عَبْدِ الله (2) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ: "أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ (خَيْرَ الْحَدِيثِ) (3) كِتَابُ اللَّهِ، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ (4)) (5).
وَفِي (6) رِوَايَةٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ النَّاسَ، يَحْمَدُ (اللَّهَ وَيُثْنِي) (7) عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أهله، ثم يقول: (من يهده الله فلامضل له، ومن يضلل الله فَلَا هَادِيَ (8) لَهُ، وَخَيْرُ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ) (9).
وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ (10): (وَكُلُّ محدثة بدعة، وكل بدعة في النار) (11).
_________
(1) ساقطة من (ت).
(2) هو جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري السلمي، صحابي ابن صحابي غزا تسع عشرة غزوة، ومات بالمدينة بعد السبعين، وهو ابن أربع وتسعين انظر: الإصابة (1/ 222)، أسد الغابة (1/ 307)، السير (3/ 189).
(3) ما بين المعكوفين بياض في (ت).
(4) بياض في (ت).
(5) رواه الإمام مسلم في صحيحه عن جابر (16/ 153 مع النووي)، والإمام أحمد في المسند (3/ 319، 371)، والإمام النسائي في سننه (3/ 188)، والإمام الدارمي في سننه (1/ 80)، والإمام اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 76)، والإمام ابن نصر المروزي في السنة (ص27)، والإمام البيهقي في الاعتقاد والهداية (ص152)، والإمام الآجري في الشريعة (ص45 ـ 46)، والإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص30)، وابن أبي عاصم في السنة (1/ 16).
(6) بياض في (ت).
(7) ما بين المعكوفين بياض في (ت).
(8) بياض في (ت).
(9) روى هذه الرواية الإمام مسلم في صحيحه (16/ 156)، والإمام أحمد في المسند (3/ 371).
(10) في (ت): "النسائي".
(11) روى هذه الزيادة الإمام النسائي في سننه عن جابر بلفظ "وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضالة في النار" (3/ 188)، ورواها أيضاً الإمام الآجري في الشريعة (ص45 ـ 46). وقد صحح الشيخ ناصر الدين الألباني هذه الزيادة كما في إرواء الغليل (3/ 73)، وكذلك في تعليقه على المشكاة (1/ 51).(1/108)
وَذَكَرَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يخطب بهذه الخطبة (1).
وعن ابن مسعود رضي الله عنه مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: "إِنَّمَا هُمَا اثْنَتَانِ، الْكَلَامُ وَالْهُدَى، فَأَحْسَنُ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ، وأحسن الهدى هدى محمد صلّى الله عليه وسلّم، أَلَا وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ شَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، إِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ" (2).
وَفِي لَفْظٍ: (غَيْرَ أَنَّكُمْ سَتُحْدِثُونَ وَيُحْدَثُ لَكُمْ، فَكُلُّ مُحْدَثَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ) (3).
وَكَانَ ابْنُ مسعود يخطب بها (4) كُلَّ خَمِيسٍ (5).
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ (6): (إِنَّمَا هُمَا اثْنَتَانِ، الْهُدَى وَالْكَلَامُ، فَأَفْضَلُ الْكَلَامِ ـ أَوْ أَصْدَقُ الْكَلَامِ ـ كَلَامُ اللَّهِ، وَأَحْسَنُ الْهُدَى هُدَى محمد (7)، وشر الأمور محدثاتها، ألا (8) وَكُلُّ (9) مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، أَلَا لَا يَتَطَاوَلَنَّ (10) عَلَيْكُمُ
_________
(1) رواه عن عمر رضي الله عنه الإمام اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة برقم (1197) (4/ 659)، ورواه الإمام محمد بن نصر المروزي في السنة عنه رضي الله عنه (ص28)، ورواه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص31)، ورواه عبد الله بن أحمد في السنة، وله قصة مع الجاثليق (وهو لقب كبير من أمراء الروم) (2/ 423).
(2) رواه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها موقوفاً على ابن مسعود (ص31).
(3) رواه الإمام الدارمي في المقدمة من سننه عن ابن مسعود (1/ 72)، وابن نصر المروزي في السنة (ص29)، وقوله: "وكل ضلالة في النار" رواها ابن نصر في السنة (ص29)، وذكر قريباً منه الإمام ابن رجب في جامع العلوم والحكم وصححه (ص254).
(4) في (غ): "بهذا".
(5) تحديد ابن مسعود يوم الخميس للموعظة ذكره البخاري في كتاب العلم من صحيحه (1/ 163)،. وقد صرحت بعض الروايات بأنه كان يخطب بهذه الخطبة كل خميس كرواية ابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص31).
(6) مطموسة في (ت).
(7) في (خ): "هدى الله بل محمد". وهو خطأ أضرب عنه الناسخ.
(8) ساقط من (م) و (ت).
(9) مطموسة في (ت).
(10) في (ت): "يتطاولون".(1/109)
الْأَمْرُ فَتَقْسُوَ قُلُوبُكُمْ، وَلَا يُلْهِيَنَّكُمُ الْأَمَلُ، فَإِنَّ كُلَّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ، أَلَا إِنَّ بَعِيدًا مَا لَيْسَ آتِيًا) (1).
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ: (أَحْسَنُ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَأَحْسَنُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ، وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَ {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآَتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ *} (2)) (3).
وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ مَرْفُوعًا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ شَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ" (4).
وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ مسعود (5).
_________
(1) روى هذه الرواية عبد الرزاق في المصنف (20076)، والطبراني في الكبير (8518، وابن عبد البر في الجامع (2301)، الإمام اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة عن ابن مسعود مرفوعاً إلى قوله: "فتقسو قلوبكم". (1/ 77).
(2) سورة الأنعام: آية (134).
(3) رواه الإمام البخاري في كتاب الاعتصام بالسنة من صحيحه عن ابن مسعود موقوفاً (13/ 249) ورواه أيضاً في كتاب الأدب بلفظ أخصر (10/ 509)، ورواه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها دون ذكر الآية (ص31)، ورواه الإمام ابن نصر المروزي بلفظ أطول (ص28)، والإمام البيهقي في الاعتقاد والهداية (ص154).
(4) رواه الإمام ابن ماجه في مقدمة سننه عن ابن مسعود مرفوعاً، وما ذكره المؤلف جزء من حديث طويل. انظر سنن ابن ماجه (1/ 18)، ورواه الإمام اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة، وزاد "ألا لا يطول عليكم الأمد فتقسو قلوبكم" (1/ 77)، ورواه الإمام ابن أبي عاصم في السنة كما أورده المؤلف (1/ 16).
وفي سنده أبو إسحاق السبيعي ثقة عابد، ولكنه مدلس، وقد اختلط بآخره، ولم يصرح بالسماع. انظر تقريب التهذيب (2/ 73)، تهذيب التهذيب (8/ 63) وقال عنه الشيخ الألباني في ظلال الجنة: "حديث صحيح، رجال إسناده كلهم ثقات، رجال مسلم، غير أن أبا إسحاق وهو عمرو بن عبد الله السبيعي مدلس وكان اختلط. ولكن الحديث يشهد له ما قبله وما بعده". انظر ظلال الجنة (1/ 17) ويريد بما قبله حديث جابر المتقدم وهو في مسلم كما مر، ويريد بما بعده حديث العرباض بن سارية وفيه "اياكم والمحدثات فإن كل محدثة ضلالة".
(5) تقدم حديث جابر في مسلم مرفوعاً (ص115)، وهو في نفس المعنى، وكذلك أثر ابن مسعود هذا جاء مرفوعاً كما خرجناه في الفقرة السابقة، ثم إن أثر ابن مسعود فيه جزء له حكم الرفع وهو قوله: "وأحسن الهدي هدي محمد صلّى الله عليه وسلّم" فإن فيه إخباراً عن صفة من=(1/110)
وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من دعا إلى هدى (1) كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ يَتْبَعُهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ (2) مِثْلُ آثَامِ مَنْ يَتْبَعُهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا) (3).
وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عنه عليه السلام أَنَّهُ قَالَ: (مَنْ سَنَّ سُنَّةَ خَيْرٍ فَاتُّبِعَ عليها فله أجره ومثل أجور من اتبعه غَيْرَ مَنْقُوصٍ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ سَنَّ سُنَّةَ شَرٍّ فَاتُّبِعَ عَلَيْهَا كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهُ وَمِثْلُ أَوْزَارِ مَنِ اتَّبَعَهُ غَيْرَ مَنْقُوصٍ مِنْ أوزارهم شيئاً). خرجه التِّرْمِذِيُّ (4).
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا وَصَحَّحَهُ، وَأَبُو دَاوُدَ وغيرهما عن الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَأَنَّ هَذَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟ فَقَالَ (5): (أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ (6) وَالطَّاعَةِ (7)، وَإِنْ كَانَ عبداً حبشياً، فإنه من يعش (8) منكم
_________
=صفاته صلّى الله عليه وسلّم وهو أحد أقسام المرفوع. انظر كلام الإمام ابن حجر في الفتح (13/ 252).
(1) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "الهدى".
(2) غير واضحة في (ت).
(3) رواه الإمام مسلم في كتاب العلم من صحيحه، باب من سن سنة حسنة .. عن أبي هريرة (16/ 227 ـ مع النووي)، والإمام أبو داود في كتاب السنة من سننه برقم (4609)، و (4/ 200)، والإمام الترمذي في كتاب العلم من سننه، باب ما جاء فيمن دعا إلى هدى برقم (2674)، (5/ 42)، والإمام ابن ماجه في المقدمة من سننه، باب من سن سنة حسنة برقم (206)، (1/ 75)، والإمام أحمد في المسند (3/ 397)، والإمام ابن أبي عاصم في السنة (1/ 52)، والإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى (1/ 311).
(4) رواه الإمام مسلم في كتاب الزكاة من صحيحه عن المنذر بن جرير عن أبيه (7/ 102 ـ 104 مع النووي)، ورواه الإمام الترمذي في كتاب العلم من سننه، باب من دعا إلى هدى عن جرير بن عبد الله بلفظ المؤلف برقم (2675)، (5/ 42)، ورواه الإمام أحمد في المسند (4/ 357)، والدارمي في سننه (1/ 140)، وابن خزيمة في صحيحه (2477)، وابن أبي شيبة في المصنف (9802).
(5) في (ر): "قال".
(6) مطموسة في (ت).
(7) في (ط): "والسمع والطاعة لولاة الأمر".
(8) في (م) و (خ) و (ط): "يعيش"، والصواب ما أثبته، وبه وردت الرواية.(1/111)
بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا، (وَعَضُّوا عَلَيْهَا) (1) بِالنَّوَاجِذِ (2)، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، (وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ) (3)). وَرُوِيَ عَلَى وُجُوهٍ مِنْ طُرُقٍ (4).
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ حُذَيْفَةَ (5) (أَنَّهُ قَالَ) (6): يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ شَرٌّ؟ قَالَ: (نَعَمْ، قَوْمٌ (يَسْتَنُّونَ بِغَيْرِ سنتي) (7)، ويهتدون بغير هديي) (8)، وقال: فقلت: هل بَعْدَ ذَلِكَ [الْخَيْرِ] (9) مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: ((نَعَمْ، دعاة على نار) (10) جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا (11) قَذَفُوهُ فِيهَا)، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا قَالَ: ((نَعَمْ هُمْ مِنْ) (12) جِلْدَتِنَا، وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا). قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ؟ قَالَ (13): (تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ (14) وَإِمَامَهُمْ). قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ (15) إِمَامٌ وَلَا جَمَاعَةٌ؟ قَالَ: (فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كلها ولو (أن تعض) (16) بأصل شجرة حتى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ) (17). وَخَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ على نحو آخر (18).
_________
(1) ما بين المعكوفين بياض في (ت).
(2) النواجذ من الأسنان الضواحك، وهي التي تبدو عند الضحك. والأكثر الأشهر أنها أقصى الأسنان. انظر النهاية (5/ 20).
(3) ما بين المعكوفين ساقط من (ت).
(4) تقدم تخريج الحديث مستوفى.
(5) في (غ) و (ر): "خزيمة" وهو خطأ.
(6) ما بين المعكوفين بياض في (ت).
(7) ما بين المعكوفين بياض في (ت).
(8) في (ت): "هدى".
(9) في جميع النسخ: "الشر" والتصويب من البدع والنهي عنها لابن وضاح، ومصادر التخريج.
(10) ما بين المعكوفين بياض في (ت).
(11) ساقطة من جميع النسخ عدا (غ) و (ر).
(12) ما بين المعكوفين بياض في (ت).
(13) ساقطة من (ت).
(14) بياض في (ت).
(15) ساقطة من جميع النسخ عدا (ر).
(16) ما بين المعكوفين بياض في (ت).
(17) انظر: البدع والنهي عنها لابن وضاح (ص40).
(18) رواه الإمام البخاري في كتاب المناقب من صحيحه عن حذيفة رضي الله عنه مع اختلاف يسير في اللفظ (6/ 615 ـ مع الفتح)، وفي كتاب الفتن (13/ 35)، والإمام مسلم في كتاب الإمارة من صحيحه (12/ 236 ـ 238 ـ مع النووي)، والإمام ابن ماجه مختصرا برقم (3979)، (2/ 1317)، والإمام البغوي في شرح السنة (15/ 14)، والبيهقي في سننه (8/ 156).(1/112)
وَفِي حَدِيثِ الصَّحِيفَةِ: (الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى ثَوْرٍ (1). مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ (2) يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا (3)) (4).
وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي سِيَاقِ الْعُمُومِ، فَيَشْمَلُ كُلَّ حَدَثٍ أُحْدِثَ فِيهَا مِمَّا يُنَافِي الشَّرْعَ، وَالْبِدَعُ مِنْ أَقْبَحِ الْحَدَثِ.
وقد استدل مالك رضي الله عنه به (5) فِي مَسْأَلَةٍ تَأْتِي فِي مَوْضِعِهَا بِحَوْلِ اللَّهِ (6).
وَهُوَ وَإِنْ (7) كَانَ مُخْتَصًّا بِالْمَدِينَةِ فَغَيْرُهَا أَيْضًا يدخل في المعنى.
_________
(1) عير وثور جبلان في المدينة، انظر معجم البلدان لياقوت الحموي (3/ 26)، (6/ 246)، وانظر فتح الباري (4/ 82).
(2) كتبت في (ت): "فوق السطر".
(3) الصرف التوبة، وقيل النافلة. والعدل الفدية، وقيل الفريضة. انظر النهاية لابن الأثير (3/ 24)، وانظر غريب الحديث للقاسم بن سلام (1/ 455)، وقال الإمام ابن حجر في الفتح: واختلف في تفسيرهما، فعند الجمهور الصرف الفريضة والعدل النافلة، ورواه ابن خزيمة بإسناد صحيح عن الثوري، وعن الحسن البصري بالعكس ... ، ولم يرجح الحافظ رحمه الله. انظر الفتح (4/ 86).
(4) رواه الإمام البخاري في كتاب فضائل المدينة من صحيحه، باب حرم المدينة عن علي رضي الله عنه بلفظ أطول (4/ 81 ـ مع الفتح)، وفي كتاب الجزية والموادعة باب ذمة المسلمين وجوارهم واحدة (6/ 273)، وفي مواضع أخرى، ورواه الإمام مسلم في كتاب الحج من صحيحه، باب فضل المدينة عن علي رضي الله عنه (9/ 142 ـ 144)، والإمام أبو داود في كتاب الولاء والهبة من سننه، باب في تحريم المدينة برقم (2034)، (2/ 223)، والإمام الترمذي في كتاب الولاء والهبة من سننه، باب ما جاء فيمن تولى غير مواليه برقم (2127)، (4/ 381)، والإمام أحمد في المسند (1/ 81، 126، 151)، والإمام عبد الله بن أحمد في السنة (2/ 542)، واللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 119).
(5) في (ط): "استدل به مالك".
(6) يريد قصة وقعت لعبد الرحمن بن مهدي مع مالك رحمهما الله. وسيأتي ذكرها (ص222).
(7) في (خ): "إن" بدون الواو.(1/113)
وَفِي الْمُوَطَّأِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إِلَى الْمَقْبَرَةِ، فَقَالَ: "السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ) الْحَدِيثَ، إِلَى أَنْ قَالَ فِيهِ: (فَلَيُذَادَنَّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ، أُنَادِيهِمْ: ألا هلم، أَلَا هَلُمَّ، (أَلَا هَلُمَّ) (1)، فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ. فَأَقُولُ: فَسُحْقًا، فَسُحْقًا، فَسُحْقًا (2)) (3).
حَمَلَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى (4) أَنَّهُمْ أَهْلُ الْبِدَعِ، وَحَمَلَهُ آخَرُونَ عَلَى الْمُرْتَدِّينَ عَنِ الْإِسْلَامِ (5).
وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْأَوَّلِ مَا خَرَّجَهُ خَيْثَمَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ (6) عَنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ (7) قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسَ بن مالك رضي الله عنه فقلت (8): إن ها هنا قَوْمًا يَشْهَدُونَ عَلَيْنَا بِالْكُفْرِ وَالشِّرْكِ، وَيُكَذِّبُونَ بِالْحَوْضِ والشفاعة، فهل
_________
(1) ما بين المعكوفين ساقط من (ت).
(2) ساقطة من (ت).
(3) رواه الإمام مالك في كتاب الطهارة من الموطأ، باب جامع الوضوء عن أبي هريرة رضي الله عنه (1، 29). ورواه الإمام مسلم في كتاب الطهارة من صحيحه، باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء (3/ 137 ـ 139)، ورواه الإمام ابن ماجه في كتاب الزهد من سننه، باب ذكر الحوض (2/ 1439 ـ 1440)، ورواه الإمام أحمد في المسند (2/ 300، 408).
(4) ساقط من (ت).
(5) ذهب بعض العلماء إلى أن المراد بهم الذين ارتدوا على عهد أبي بكر رضي الله عنه فقاتلهم أبو بكر، حتى قتلوا وماتوا على الكفر، وقد ذكر عن البخاري عن قبيصة، كما ذكره الحافظ في الفتح، وهو الذي رحجه عياض والباجي. انظر الفتح (11/ 385 ـ 386). ومن العلماء من أدخل أهل الكبائر وأهل البدع في المراد بالحديث كما ذكره الحافظ عن الداودي وغيره. (نفس الموضع).
(6) هو أبو الحسن خيثمة بن سليمان بن حيدرة بن سليمان القرشي الشامي، إمام، ثقة، كان محدث الشام، وصنف "فضائل الصحابة"، قدم دمشق في آخر عمره وحدث بها، وتوفي سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة.
انظر: سير أعلام النبلاء (15/ 412)، طبقات الحفاظ (ص353)، شذرات الذهب (2/ 365).
(7) هو يزيد بن أبان الرقاشي، أبو عمرو البصري، القاص، زاهد ضعيف، مات قبل العشرين ومائة.
انظر: تقريب التهذيب لابن حجر (2/ 361)، الكاشف للذهبي (3/ 240).
(8) في (م) و (خ): "قال"، وصححت في هامش (خ)، وفي (ت): "قال فقلت".(1/114)
سمعت من رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ شَيْئًا؟ قَالَ: نَعَمْ، سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بين العبد وبين (1) الكفر أَوِ الشِّرْكِ تَرْكُ الصَّلَاةِ، فَإِذَا تَرَكَهَا فَقَدْ أَشْرَكَ، وَحَوْضِي كَمَا بَيْنَ أَيْلَةَ (2) إِلَى مَكَّةَ، أَبَارِيقُهُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ، أَوْ قَالَ: كَعَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ. لَهُ مِيزَابَانِ مِنَ الْجَنَّةِ، كُلَّمَا نَضَبَ أَمَدَّاهُ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ شَرْبَةً لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهَا أَبَدًا، وَسَيَرِدُهُ أَقْوَامٌ ذَابِلَةٌ شِفَاهُهُمْ، فَلَا يُطْعَمُونَ مِنْهُ (3) قَطْرَةً وَاحِدَةً. مَنْ كَذَّبَ بِهِ الْيَوْمَ لَمْ يُصِبْ مِنْهُ الشَّرَابَ يَوْمَئِذٍ) (4).
فَهَذَا الحديث يدل (5) عَلَى أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ.
فَنِسْبَتُهُمْ أَهْلَ الْإِسْلَامِ إِلَى الْكُفْرِ مِنْ أَوْصَافِ الْخَوَارِجِ (6)، وَالتَّكْذِيبُ بِالْحَوْضِ مِنْ أَوْصَافِ أَهْلِ الِاعْتِزَالِ (7) وَغَيْرِهِمْ. مَعَ ما
_________
(1) ساقط من (ط).
(2) أيلة بالفتح مدينة على ساحل بحر القلزم مما يلي الشام .. وقيل هي آخر الحجاز وأول الشام. انظر معجم البلدان لياقوت (1/ 391).
(3) ساقطة من (ر).
(4) أخرج أول الحديث أبو يعلى في مسنده (4100) عن أنس رضي الله عنه، كما أخرجه مسلم عن جابر (134)، وابن ماجه في السنن (1080)، والدارقطني (2/ 41)، وذكر الحافظ في الفتح ذكر آخر الحديث وعزاه إلى البيهقي، ثم قال: "ويزيد ضعيف، لكن يقويه ما مضى، ويشبه أن يكون الكلام الأخير من كلام أنس". الفتح (11/ 468). وقد بحثت عنه عند البيهقي فلم أجده. وأحاديث الحوض صحيحة متواترة. انظر هامش (6).
(5) ساقطة من (ط).
(6) وقد تقدم في التعريف بالخوارج أن من أصولهم تكفير مرتكب الكبيرة. انظر (ص11).
(7) قال ابن حجر في الفتح نقلاً عن القرطبي في المفهم: "مما يجب على كل مكلف أن يعلمه ويصدق به أن الله سبحانه وتعالى قد خص نبيه محمداً صلّى الله عليه وسلّم بالحوض المصرح باسمه وصفته وشرابه في الأحاديث الصحيحة الشهيرة التي يحصل بمجموعها العلم القطعي ... ، وأجمع على إثباته السلف وأهل السنة من الخلف، وأنكرت ذلك طائفة من المبتدعة وأحالوه على ظاهره وغلوا في تأويله من غير استحالة عقلية ولا عادية تلزم من حمله على ظاهره وحقيقته، ولا حاجة تدعو إلى تأويله، فخرق إجماع السلف وفارق مذهب أئمة الخلف". قال ابن حجر: "قلت: أنكره الخوارج وبعض المعتزلة". انظر فتح الباري (11/ 467)، وقال ابن حزم رحمه الله في الفصل: "وأما الحوض فقد صحت الآثار فيه وهو كرامة للنبي صلّى الله عليه وسلّم ولمن ورد عليه من أمته، ولا ندري لمن أنكره متعلقاً، ولا يجوز مخالفة ما صح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في هذا وغيره" (4/ 66).=(1/115)
جاء (1) فِي حَدِيثِ الْمُوَطَّأِ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلَا هَلُمَّ" لِأَنَّهُ عَرَفَهُمْ بالغُرَّة (2) وَالتَّحْجِيلِ (3) الَّذِي جَعَلَهُ مِنْ خَصَائِصِ أُمَّتِهِ (4)، وَإِلَّا فَلَوْ لَمْ يَكُونُوا مِنَ الْأُمَّةِ لَمْ يَعْرِفْهُمْ بِالْعَلَامَةِ الْمَذْكُورَةِ (5).
وَصَحَّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَوْعِظَةِ فَقَالَ: (إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ إِلَى اللَّهِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلا (6) {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} (7)، قَالَ: أَوَّلُ مَنْ (8) يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ، وَأَنَّهُ سَيُؤْتَى (9) بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي، فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ، فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ*} (10)، فَيُقَالُ: هَؤُلَاءِ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ منذ فارقتهم) (11).
_________
=وانظر في الأدلة الواردة في هذه المسألة: السنة لابن أبي عاصم (ص307 ـ 347)، الشريعة للآجري (ص352 ـ 357)، أصول اعتقاد أهل السنة لللالكائي (6/ 1116 ـ 1126).
(1) ساقطة من جميع النسخ عدا (غ) و (ر).
(2) الغُرّ جمع الأغر، من الغُرَّة: بياض الوجه. النهاية (3/ 354).
(3) أي بيض مواضع الوضوء من الأيدي والوجه والأقدام. النهاية (1/ 346).
(4) ومعرفة النبي صلّى الله عليه وسلّم لهم بهاتين العلامتين مذكور في حديث الموطأ إلا أن المؤلف اختصره.
(5) سوف يتكلم المؤلف على هذه المسألة بشكل أوسع في الباب التاسع (2/ 185 ـ 187، 202 ـ 206).
(6) الغُرْل جمع الأغرل، وهو الأقلف. والغرلة القلفة. النهاية (3/ 362).
(7) سورة الأنبياء: آية (104).
(8) في (ت): "ما".
(9) في (م) و (خ): "يستوفى"، وفي (ت) و (ط): "يستدعى".
(10) سورة المائدة: آية (117 ـ 118).
(11) رواه الإمام البخاري في كتاب الأنبياء من صحيحه، باب قول الله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} عن ابن عباس مرفوعاً (6/ 386 مع الفتح)، ورواه الإمام مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها، باب فناء الدنيا وبيان الحشر عنه أيضاً (17/ 194)، ورواه الإمام الترمذي في كتاب صفة القيامة من سننه، باب ما جاء في شأن الحشر برقم (2423)، (4/ 532)، والإمام أحمد في المسند عنه أيضاً (1/ 235).(1/116)
وَيَحْتَمِلُ هَذَا الْحَدِيثُ أَنْ يُرَادَ بِهِ أَهْلُ الْبِدَعِ كَحَدِيثِ الْمُوَطَّأِ (1)، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَنِ ارْتَدَّ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "تَفَرَّقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَالنَّصَارَى مِثْلُ ذَلِكَ، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً". حَسَنٌ صَحِيحٌ (2).
وَفِي الْحَدِيثِ رِوَايَاتٌ أُخَرُ سَيَأْتِي ذِكْرُهَا وَالْكَلَامُ عَلَيْهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ (3)، وَلَكِنَّ الْفِرَقَ فِيهَا عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ فِرَقُ أَهْلِ الْبِدَعِ (4).
وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا" (5). وَهُوَ آتٍ عَلَى وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ.
وَفِي مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ غَدًا مُسْلِمًا فَلْيُحَافِظْ (6) عَلَى هَؤُلَاءِ الصَّلَوَاتِ حَيْثُ يُنَادَى بِهِنَّ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ شَرَعَ لِنَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سنن الهدى، وإنهن من
_________
(1) تقدم (ص114).
(2) رواه الإمام الترمذي في كتاب الإيمان من سننه، باب ما جاء في افتراق هذه الأمة عن أبي هريرة برقم (2640)، وتقدم تخريج الحديث (ص12).
(3) وذلك في الباب التاسع من هذا الكتاب (2/ 189) من المطبوع.
(4) وهو اختيار المؤلف كما ذكره في الباب التاسع (2/ 194) من المطبوع.
(5) رواه الإمام البخاري في كتاب العلم من صحيحه، باب كيف يقبض العلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وذكره (1/ 194 مع الفتح)، والإمام مسلم في كتاب العلم من صحيحه، باب رفع العلم وقبضه (16/ 223 ـ 2235)، والإمام الترمذي في كتاب العلم من سننه، باب ما جاء في ذهاب العلم (5/ 30)، والإمام أحمد في المسند (2/ 162، 190)، والإمام ابن ماجه في مقدمة سننه، باب اجتناب الرأي والقياس (1/ 20)، والإمام الدارمي في مقدمة سننه، باب في ذهاب العلم (1/ 89)، والإمام ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1/ 149، 150)، والإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص87).
(6) في (م): "فيحافظ".(1/117)
سُنَنِ الْهُدَى، وَلَوْ أَنَّكُمْ صَلَّيْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ كَمَا يُصَلِّي هَذَا الْمُتَخَلِّفُ فِي بَيْتِهِ لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ، وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَضَلَلْتُمْ (1) " (2) الْحَدِيثَ.
فَتَأَمَّلُوا كَيْفَ جُعِلَ تَرْكُ السُّنَّةِ ضَلَالَةً! وَفِي رِوَايَةٍ: "لَوْ (3) تركتم سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم لَكَفَرْتُمْ" (4). وَهُوَ أَشَدُّ فِي التَّحْذِيرِ.
وَفِيهِ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إني تَارِكٌ فِيكُمْ (5) ثَقَلَيْنِ أَوَّلُهُمَا كِتَابُ اللَّهِ، فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ"، وَفِي رِوَايَةٍ "فِيهِ الْهُدَى"، "مَنِ اسْتَمْسَكَ بِهِ وَأَخَذَ بِهِ كَانَ عَلَى الْهُدَى، وَمَنْ أَخْطَأَهُ ضَلَّ"، وَفِي رِوَايَةٍ: (مَنِ اتَّبَعَهُ كَانَ عَلَى الْهُدَى وَمَنْ تَرَكَهُ كَانَ عَلَى ضَلَالَةٍ) (6).
وَمِمَّا جَاءَ فِي هَذَا الْبَابِ أَيْضًا مَا خَرَّجَ ابْنُ وَضَّاحٍ وَنَحْوُهُ لِابْنِ وَهْبٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ يَأْتُونَكُمْ بِبِدْعٍ مِنَ الْحَدِيثِ لَمْ تَسْمَعُوهُ أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ (7)، فإياكم وإياهم (8) لا يفتنونكم) (9).
_________
(1) في (م): "لظليتم".
(2) رواه الإمام مسلم في كتاب المساجد من صحيحه، باب فضل صلاة الجماعة وبيان التشديد في التخلف عنها عن ابن مسعود (5/ 156 مع النووي)، والإمام أحمد في المسند (1/ 382، 414)، والإمام ابن ماجه في كتاب المساجد من سننه، باب المشي إلى الصلاة (1/ 255)، والإمام النسائي في كتاب الإمامة من سننه، باب المحافظة على الصلوات (2/ 108)، والإمام أبو داود في كتاب الصلاة من سننه، باب في التشديد في ترك الجماعة، بلفظ: "وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم لكفرتم" (1/ 148).
(3) في (ت): "ولو" بالواو.
(4) هي رواية أبي داود كما تقدم في تخريج الحديث.
(5) في (م) و (خ): "فيهم".
(6) رواه الإمام مسلم في كتاب فضائل الصحابة من سننه، باب فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن زيد بن أرقم رضي الله عنه وذكره برواياته (15/ 179 ـ 181 مع النووي)، ورواه الإمام الدارمي في كتاب فضائل القرآن من سننه، باب فضل من قرأ القرآن (1/ 524)، ورواه الإمام أحمد في مسنده (4/ 366 ـ 367).
(7) في (ط): "آباؤهم".
(8) في (ط): "إياهم" بدون الواو.
(9) رواه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها عن أبي هريرة رضي الله عنه (ص34)،=(1/118)
وَفِي التِّرْمِذِيِّ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: "من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بَعْدِي فَإِنَّ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلَ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ (1) مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنِ ابْتَدَعَ بِدْعَةً ضَلَالَةً لَا تُرْضِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ (2) وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أَوْزَارِ (3) النَّاسِ شَيْئًا" (4). حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَلِابْنِ وَضَّاحٍ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: (مَنْ أَتَى صَاحِبَ بِدْعَةٍ لِيُوَقِّرَهُ فَقَدْ أعان على هدم الإسلام) (5). (وفي رواية (مَنْ وَقَّرَ صَاحِبَ بِدْعَةٍ فَقَدْ أَعَانَ عَلَى هدم الإسلام)) (6).
وعن الحسن رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلّم قال: ("أبى الله لصاحب بدعة بتوبة" وفي رواية: (إن الله حجز التوبة عن كل صاحب بدعة)، وقد تقدم حديث أبي هريرة رضي الله عنه وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم) (7): "أن أحببت
_________
=ورواه الإمام مسلم في مقدمة صحيحه مع اختلاف يسير في اللفظ (1/ 78 مع النووي)، ورواه الإمام أحمد في المسند عنه رضي الله عنه (2/ 349).
(1) في (ط): "أن ينقص ذلك"، وما أثبته هو الموافق لرواية الترمذي.
(2) ساقط من (غ).
(3) في (خ): "من أجورهم أوزار".
(4) تقدم تخرج الحديث (ص 34 - 35).
(5) حديث عائشة رواه ابن عدي في الكامل (2/ 736)، وضعفه لأجل الحسن بن يحيى الخشني، قال عنه ابن حجر في التقريب: صدوق كثير الغلط (1/ 172)، وأورده الإمام ابن الجوزي في الموضوعات (1/ 271). وقال السيوطي في اللآلئ المصنوعة بعد ذكر تضعيف ابن عدي وغيره للخشني: "وقد توبع على هذا الحديث فأخرجه ابن عساكر في تاريخه وساق سنده من رواية الليث بن سعد عن هشام بن عروة ... ، ثم قال: وهذه متابعة قوية. انظر اللآلئ المصنوعة (1/ 253). والحديث مروي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه مرفوعاً كما في الحلية بلفظ "من مشى إلى صاحب بدعة ... "، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد وعزاه للطبراني في الكبير، ثم قال: وفيه بقية وهو ضعيف. (1/ 193)، ورواه ابن وضاح في البدع والنهي عنها عن هشام بن عروة عن أبيه (ص55)، والإمام اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة عن إبراهيم بن ميسرة موقوفاً عليه (1/ 139)، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة تحت رقم (1862).
(6) ساقط من جميع النسخ عدا (غ).
(7) ما بين المعكوفين ساقط من جميع النسخ عدا (غ).(1/119)
أَنْ لَا تُوقَفَ عَلَى الصِّرَاطِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى تَدْخُلَ الْجَنَّةَ فَلَا تُحْدِثْ فِي دِينِ اللَّهِ حَدَثًا بِرَأْيِكَ" (1).
وَعَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: "مَنِ اقْتَدَى بِي فَهُوَ مِنِّي وَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي" (2).
وَخَرَّجَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (3): "سِتَّةٌ أَلْعَنُهُمْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَكُلُّ نَبِيٍّ مجاب: الزائد في كتاب اللَّهِ (4)، وَالْمُكَذِّبُ بِقَدَرِ اللَّهِ، وَالْمُتَسَلِّطُ بِالْجَبَرُوتِ يُذِلُّ بِهِ مَنْ أَعَزَّ اللَّهُ وَيَعِزُّ بِهِ (5) مَنْ أَذَلَّ (6) اللَّهُ، وَالتَّارِكُ لِسُنَّتِي، وَالْمُسْتَحِلُّ لِحَرَمِ اللَّهِ، وَالْمُسْتَحِلُّ مِنْ عِتْرَتِي (7) مَا حَرَّمَ اللَّهُ" (8).
وَفِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ بْنِ ثَابِتٍ الْخَطِيبِ (9): (سِتَّةٌ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَعَنْتُهُمْ) وَفِيهِ: (وَالرَّاغِبُ عَنْ سُنَّتِي إلى بدعة) (10).
_________
(1) تقدم تخريجه (ص38).
(2) سبق تخريجه ص (58).
(3) ساقطة من (ت).
(4) في (ط): "في دين الله".
(5) ساقطة من (م) و (ت) و (غ).
(6) في (م) وأصل (خ): "أضل"، وصححت في هامش (خ).
(7) عترة الرجل أخص أقاربه. وعترة النبي صلّى الله عليه وسلّم بنو عبد المطلب وقيل أهل بيته الأقربون، وهم أولاده وعلي وأولاده. النهاية (3/ 177)، وقد وقعت في (ر): "عرتي".
(8) رواه الإمام الطحاوي في مشكل الآثار عن عائشة رضي الله عنها، كما هو عند المؤلف (4/ 366 ـ 367)، والإمام الترمذي في كتاب القدر من سننه برقم (2154) (4/ 397)، ورواه الإمام ابن حبان في صحيحه، انظر الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان (13/ 60)، ورواه الإمام ابن أبي عاصم في السنة (1/ 24، 149)، ورواه الإمام الحاكم في موضعين من المستدرك وصححه، وتعقبه الإمام الذهبي في الموضع الثاني بقوله: "إسحاق وإن كان من شيوخ البخاري فإنه يأتي بطامات قال فيه النسائي ليس بثقة، وقال أبو داود: واه، وتركه الدارقطني، وأما أبو حاتم فقال صدوق، وعبد الله فلم يحتج به أحد. والحديث منكر بمرة". انظر المستدرك (1/ 36)، (4/ 90). وضعفه كذلك الشيخ الألباني كما في ظلال الجنة (1/ 24)، وكذلك ضعفه شعيب الأرناؤوط في تعليقه على الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان (13/ 60).
(9) تقدمت ترجمته (ص93).
(10) رواية الخطيب هذه ذكرها صاحب الكنز تحت رقم (44032)، وعزاها للخطيب في المتفق والمفترق، وللدارقطني في الأفراد. انظر كنز العمال (16/ 87 ـ 88)، وكلا الكتابين لم يطبع.(1/120)
وَفِي الطَّحَاوِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ (1) لِكُلِّ عَابِدٍ شِرَّة (2)، (وَلِكُلِّ شِرَّة) (3) فَتْرَةٌ، فَإِمَّا إِلَى سُّنَّةٍ وَإِمَّا إِلَى بِدْعَةٍ، فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى سُنَّتِي فَقَدِ اهْتَدَى، وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ هَلَكَ" (4).
وَفِي مُعْجَمِ الْبَغَوِيِّ (5) عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَأَبُو يَحْيَى بْنُ جَعْدَةَ (6) عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ أَصْحَابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ذَكَرُوا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْلَاةً لِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالُوا: إِنَّهَا قَامَتِ اللَّيْلَ، وَصَامَتِ النَّهَارَ (7)، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَكِنِّي أَنَامُ وَأُصَلِّي، وَأَصُومُ (8) وَأُفْطِرُ، فَمَنِ اقْتَدَى بِي فَهُوَ مِنِّي، وَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي، إِنَّ لِكُلِّ عَامِلٍ شِرَّة ثُمَّ فَتْرَةً، فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى بِدْعَةٍ فَقَدْ ضَلَّ، وَمَنْ كَانَتْ فترته إلى سنة فقد اهتدى" (9).
_________
(1) في (ت): "إنا".
(2) قال الإمام المنذري في الترغيب والترهيب عند ذكر الحديث: "الشِرَّة" بكسر الشين المعجمة وتشديد الراء وبعدها تاء تأنيث: هي النشاط والهمة، وشِرَّة الشباب أوله وحدته. (1/ 87).
(3) ما بين المعكوفين ساقط من (غ) و (ر).
(4) رواه الإمام الطحاوي في مشكل الآثار عن عبد الله بن عمرو (2/ 88)، والإمام أحمد في المسند، وذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم الحديث بعدما أمر عبد الله بن عمرو بالاعتدال في الصلاة والصيام والقراءة. انظر المسند (2/ 158، 188، 210). ورواه الإمام ابن حبان في صحيحه تحت رقم (11). انظر الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان (1/ 187)، ورواه ابن أبي عاصم في السنة، وقال الشيخ الألباني في تعليقه على السنة: إسناده صحيح على شرط الشيخين. (1/ 28).
(5) لعله يريد معجم الصحابة لأبي القاسم البغوي المتوفى سنة 317هـ، والكتاب يوجد منه قطعة في مكتبة الجامعة الإسلامية بالمدينة تحت رقم (791). انظر معجم المصنفات الواردة في فتح الباري (ص259، 395).
(6) هو يحيى بن جعدة بن هبيرة بن أبي وهب المخزومي، ثقة، وقد أرسل عن ابن مسعود ونحوه، من الثالثة.
انظر: تقريب التهذيب لابن حجر (2/ 344)، الكاشف للذهبي (3/ 221).
(7) كتب في هامش (خ): "قائمة الليل، وصائمة النهار"، وفي المسند ومشكل الآثار ورد الفعل بصيغة المضارع. وصيغة المضارع أقرب إلى الصواب لدلالتها على استمرارها على هذه الحالة.
(8) ساقطة من (ر).
(9) رواه الإمام الطحاوي في مشكل الآثار عن مجاهد عن جعدة بن هبيرة وذكره، وبإسناد=(1/121)
وعن أبي (1) وائل (2) عن عبد الله (3) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ قَتَلَ نَبِيًّا أَوْ قَتَلَهُ نَبِيٌّ، وَإِمَامُ ضَلَالَةٍ، وَمُمَثِّلٌ (4) مِنَ (الْمُمَثِّلِينَ) (5)) (6).
وفي منتقى حديث خيثمة بن (7) سليمان (8) عن عبد الله (9) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "سَيَكُونُ مِنْ بَعْدِي أُمَرَاءُ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ مَوَاقِيتِهَا، فَيُحْدِثُونَ الْبِدْعَةَ"، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: فكيف أصنع إذا أدركتهم؟ قال: "تسألني يابن أم عبد (10) كَيْفَ تَصْنَعُ. لَا طَاعَةَ لِمَنْ عَصَى اللَّهَ" (11).
وفي الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال
_________
=آخر عن مجاهد قال دخلت أنا ويحيى بن جعدة، على رجل من الأنصار وذكره (2/ 88)، ورواه الإمام أحمد في المسند (5/ 409)، وذكره الهيثمى في مجمع الزوائد وعزاه لأحمد، ثم قال: ورجاله رجال الصحيح. (3/ 196).
(1) ساقطة من (ط).
(2) تقدمت ترجمته (ص84).
(3) هو ابن مسعود رضي الله عنه.
(4) في (غ): "مثل".
(5) في المخطوط والمطبوع (المسلمين)، وما أثبته هو ما ورد به الحديث.
(6) رواه الإمام أحمد في المسند عن ابن مسعود رضي الله عنه (1/ 407)، ورواه الطبراني في معجمه الكبير عنه بلفظ: (أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ قَتَلَ نبياً أو قتله نبي، أو رجل يضل الناس بغير علم، أو مصور يصور التماثيل) (10/ 260)، وفي سند الطبراني الحارث الأعور وهو ضعيف كما قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/ 186)، وسند الإمام أحمد جيد كما قال الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (281).
(7) في (ط): "عن".
(8) تقدمت ترجمته (ص122).
(9) هو ابن مسعود رضي الله عنه.
(10) في (خ) و (ت) و (ط): "عبد الله". والصواب المثبت، وهو الموافق للرواية.
(11) رواه الإمام أحمد في المسند عن ابن مسعود (1/ 399 ـ 400، 409)، والإمام ابن ماجه في كتاب الجهاد من سننه، باب لا طاعة في معصية الله برقم (2865)، (2/ 956) والبيهقي في كتاب الصلاة من سننه، باب الإمام يؤخر الصلاة والقوم لا يخشونه (3/ 124)، والإمام الطبراني في المعجم الكبير برقم (10361)، (10/ 213 ـ 214)، قال الشيخ الألباني في الصحيحة: "قلت: وإسناده جيد على شرط مسلم". انظر السلسلة الصحيحة برقم (590)، (2/ 139).(1/122)
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَكَلَ طَيِّبًا، وَعَمِلَ فِي سُنَّةٍ، وَأَمِنَ النَّاسُ بَوَائِقَهُ (1) دَخَلَ الْجَنَّةَ"، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَذَا الْيَوْمَ فِي النَّاسِ لَكَثِيرٌ، قَالَ: "وَسَيَكُونُ فِي قُرُونٍ بَعْدِي". حَدِيثٌ غَرِيبٌ (2).
وَفِي كِتَابِ الطَّحَاوِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كَيْفَ بِكُمْ وَبِزَمَانٍ أَوْ قَالَ: يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ زَمَانٌ يُغَرْبَل (3) النَّاسُ فِيهِ غَرْبَلَةً، وَتَبْقَى حُثَالَة مِنَ النَّاسِ قَدْ مَرَجَت (4) عُهُودُهُمْ وَأَمَانَاتُهُمْ، اختلفوا فصاروا (5) هكذا" وشبك بين أصابعه، قالوا: كيف (6) بِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "تَأْخُذُونَ بِمَا تَعْرِفُونَ، وَتَذَرُونَ مَا تُنْكِرُونَ، وَتُقْبِلُونَ عَلَى أَمْرِ خاصتكم، وتذرون أمر عامتكم" (7).
_________
(1) بوائقه أي غوائله وشروره، واحدها بائقة، وهي الداهية. انظر النهاية لابن الأثير (1/ 162).
(2) رواه الإمام الترمذي في كتاب صفة القيامة من سننه عن أبي سعيد وذكره، ثم قال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث إسرائيل .. ، ثم قال: وسألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فلم يعرفه إلا من حديث إسرائيل ولم يعرف اسم أبي بشر. انظر سنن الترمذي (5/ 577 ـ 578)، وأبو بشر مجهول كما في تهذيب التهذيب لابن حجر (12/ 21)، وذكر ابن الجوزي الحديث في العلل المتناهية ثم قال: "قال أحمد: ما سمعت بأنكر من هذا الحديث، لا أعرف هلال بن مقلاص ولا أبا بشر، وأنكر الحديث إنكاراً شديداً" (2/ 263)، وضعفه الشيخ الألباني في ضعيف الجامع برقم (5476).
(3) قال ابن الأثير في النهاية بعد ذكره للحديث: "أي يذهب خيارهم، ويبقى أراذلهم. والمغربل المنتقى، كأنه نقي بالغربال". النهاية (3/ 352).
(4) في (م) و (خ) و (ت): "مزجت" بالزاي، وهو خطأ، والصواب المثبت .. قال في النهاية: "المرج الخلط. ومنه حديث ابن عمرو (قد مرجت عهودهم) أي اختلطت". (4/ 314).
(5) في (ط): "فصارت".
(6) في (ت) و (ط): "وكيف".
(7) رواه الإمام أبو داود في كتاب الملاحم من سننه، باب الأمر والنهي عن عبد الله بن عمرو بن العاص برقم (4342)، (4/ 121)، والإمام ابن ماجه في كتاب الفتن من سننه، باب التثبت في الفتنة برقم (3957)، (2/ 1307 ـ 1308)، والإمام أحمد في المسند (2/ 221)، والإمام الطحاوي في مشكل الآثار (2/ 67)، والإمام الحاكم في المستدرك وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي (4/ 435)، وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (205)، (1/ 367). وعبد القادر الأرناؤوط في تعليقه على جامع الأصول (10/ 6).(1/123)
وَخَرَّجَ ابْنُ وَهْبٍ مُرْسَلًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِيَّاكُمْ وَالشِّعَابَ" قَالُوا: وَمَا الشِّعَابُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "الْأَهْوَاءُ" (1).
وَخَرَّجَ أَيْضًا: (إِنَّ اللَّهَ لَيُدْخِلُ الْعَبْدَ الْجَنَّةَ بِالسُّنَّةِ يَتَمَسَّكُ بِهَا) (2).
وَفِي كِتَابِ السُّنَّةِ لِلْآجُرِّيِّ مِنْ طَرِيقِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ (3) عَنْ معاذ بن جبل رضي الله تعالى عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا حَدَثَ فِي أُمَّتِي الْبِدَعُ، وَشُتِمَ أَصْحَابِي، فَلْيُظْهِرِ الْعَالِمُ عِلْمَهُ، فَمَنْ لَمْ يفعل (ذلك منهم) (4) فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ" (5).
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ (6): فَقُلْتُ لِلْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ: مَا إِظْهَارُ الْعِلْمِ؟ قَالَ: (إِظْهَارُ السُّنَّةِ) (7) والأحاديث كثيرة.
_________
(1) في (غ) و (ر) "أهل الأهواء"، ولم أجده بهذا اللفظ، وقريب منه ما رواه الإمام أحمد في المسند عن معاذ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم قال: "إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم يأخذ الشاة القاصية والناحية، فإياكم والشعاب وعليكم بالجماعة والعامة والمسجد) (5/ 232 ـ 233)، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد وعزاه لأحمد والطبراني، ثم قال: ورجال أحمد ثقات إلا أن العلاء بن زياد قيل أنه لم يسمع من معاذ (5/ 222)، وأعله العراقي في المغني بالانقطاع. (2/ 207).
(2) الشفا للقاضي عياض (2/ 27).
(3) هو أبو العباس الوليد بن مسلم الدمشقي عالم أهل الشام وحافظهم، وقد كان من أوعية العلم ولكنه ردئ التدليس، فإذا قال حدثنا فهو حجة، توفي سنة خمس وتسعين ومائة.
انظر: سير أعلام النبلاء (9/ 211)، تهذيب التهذيب لابن حجر (11/ 151).
(4) ما بين المعكوفين ساقط من (ط).
(5) رواه الإمام الخلال في السنة برقم (787)، وضعف المحقق إسناده. انظر السنة للخلال (ص494 ـ 495)، ورواه الإمام الآجري بأسانيد ضعيفة عن جابر رضي الله عنه، انظر الشريعة لوحه (176)، وذكره الشيخ الألباني في السلسلة الضعيفة وعزاه لابن عساكر في تاريخه (15/ 298/1)، والديلمي (1/ 1/66)، وابن رزقويه في جزء من حديثه (ق2/ 2)، وحكم عليه الشيخ الألباني بأنه منكر. انظر السلسلة الضعيفة برقم (1506).
(6) هو عبد الله بن الحسن الساحلي كما هو في إسناد الآجري.
(7) انظر: قوله في السنة للخلال (ص495).(1/124)
وَلْيَعْلَمِ الْمُوَفَّقُ أَنَّ بَعْضَ مَا ذُكِرَ مِنَ الأحاديث تقصر (1) عن (2) رتبة الصحيح، وإنما أوتي (3) بِهَا عَمَلًا بِمَا أَصَّلَهُ الْمُحَدِّثُونَ فِي أَحَادِيثِ الترغيب والترهيب، إذ قَدْ ثَبَتَ ذَمُّ الْبِدَعِ وَأَهْلِهَا بِالدَّلِيلِ الْقَاطِعِ الْقُرْآنِيِّ وَالدَّلِيلِ السُّنِّيِّ الصَّحِيحِ، فَمَا زِيدَ مِنْ غَيْرِهِ فَلَا حَرَجَ فِي الْإِتْيَانِ بِهِ إِنْ شاء الله (4).
_________
(1) في (ط): "يقصر".
(2) في (م): "على".
(3) في (غ) و (ط): "أتي".
(4) وقد ذكر الإمام السيوطي ثلاثة شروط لرواية الحديث الضعيف والعمل به.
الأول: أن يكون الضعف غير شديد، فيخرج من انفرد من الكذابين والمتهمين بالكذب ومن فحش غلطه، (نقل العلائي الاتفاق عليه).
الثاني: أن يندرج تحت أصل معمول به.
الثالث: أن لا يعتمد عند العمل به ثبوته بل يعتقد الاحتياط.
وقيل لا يجوز العمل به مطلقاً، قاله ابن العربي. وقيل يعمل به مطلقاً، وتقدم عزو ذلك إلى أبي داود وأحمد وإنهما يريان ذلك أقوى من رأي الرجال، انتهى. انظر تدريب الراوي للسيوطي (1/ 299).
وقال الشيخ أحمد شاكر في الباعث الحثيث: "والذي أراه أن بيان الضعف في الحديث الضعيف واجب في كل حال، لأن ترك البيان يوهم المطلع عليه أنه حديث صحيح، خصوصاً إذا كان الناقل له من علماء الحديث الذين يرجع إلى قولهم في ذلك". (ص86).(1/125)
فصل
الْوَجْهُ الثَّالِثُ مِنَ النَّقْلِ مَا جَاءَ عَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ (1) مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي ذَمِّ الْبِدَعِ وَأَهْلِهَا، وَهُوَ كَثِيرٌ.
فمما جاء عن الصحابة رضي الله عنهم أجمعين مَا صَحَّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: (أَيُّهَا النَّاسُ، قَدْ سُنَّتْ لَكُمُ السُّنَنُ، وَفُرِضَتْ لَكُمُ الْفَرَائِضُ، وَتُرِكْتُمْ عَلَى الْوَاضِحَةِ، إِلَّا أَنْ تَضِلُّوا بِالنَّاسِ يَمِينًا وَشِمَالًا، وَصَفَّقَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى ثُمَّ قَالَ: إِيَّاكُمْ أَنْ تَهْلِكُوا عَنْ آيَةِ الرَّجْمِ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: لَا نَجِدُ حَدَّيْنِ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَقَدْ (2) رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَمْنَا) (3). إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ.
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ الله عنه قَالَ: "يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ اسْتَقِيمُوا فَقَدْ سَبَقْتُمْ سبقاً بعيداً، وإن أَخَذْتُمْ يَمِينًا وَشِمَالًا لَقَدْ ضَلَلْتُمْ ضَلًالًا بَعِيدًا".
_________
(1) ساقطة من (ت).
(2) كتب في (ت): "إلا بعد".
(3) رواه الإمام البخاري في كتاب الحدود من صحيحه، باب الاعتراف بالزنا، والباب الذي يليه عن عمر رضي الله عنه، مع اختلاف يسير في اللفظ (12/ 137، 144 فتح)، والإمام مسلم في كتاب الحدود من صحيحه، باب حد الزنا وذكره بلفظ البخاري الثاني (11/ 191 ـ 192)، والإمام أبو داود في كتاب الحدود من سننه، باب في الرجم، وذكره قريباً من لفظ الصحيحين (4/ 143) والإمام ابن ماجه في كتاب الحدود من سننه، باب الرجم وذكره بلفظ الصحيحين (2/ 853)، والإمام الترمذي في كتاب الحدود من سننه، باب ما جاء في تحقيق الرجم وذكره بلفظين أحدهما أخصر من الآخر (4/ 29 ـ 30)، والإمام الدارمي في كتاب الحدود من سننه، باب في حد المحصنين بالزنا (2/ 234)، ورواه الإمام مالك في كتاب الحدود من الموطأ، باب ما جاء في الرجم (2/ 824)، والإمام أحمد في مواضع من المسند (1/ 23، 29، 36).(1/126)
وَرُوِيَ عَنْهُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ أَنَّهُ كَانَ يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ فَيَقِفُ عَلَى الحِلَق (1) فَيَقُولُ: (يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ، اسْلُكُوا الطَّرِيقَ، فَلَئِنْ سَلَكْتُمُوهَا لَقَدْ سَبَقْتُمْ سَبْقًا بَعِيدًا، وَلَئِنْ أَخَذْتُمْ يَمِينًا وَشِمَالًا لقد ضللتم ضلالاً بعيداً".
وفي رواية لابن (2) الْمُبَارَكِ: (فَوَاللَّهِ لَئِنِ اسْتَقَمْتُمْ (لَقَدْ سَبَقْتُمْ) (3) سَبْقًا بَعِيدًا) (4) الْحَدِيثَ.
وَعَنْهُ أَيْضًا: (أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَى النَّاسِ اثْنَتَانِ: أَنْ يُؤْثِرُوا مَا يَرَوْنَ على ما يعلمون، وَأَنْ يَضِلُّوا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ). قَالَ سُفْيَانُ: (وَهُوَ صَاحِبُ الْبِدْعَةِ) (5).
وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ أَخَذَ حَجَرَيْنِ فَوَضَعَ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: (هَلْ تَرَوْنَ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَجَرَيْنِ مِنَ النُّورِ؟) قَالُوا: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، مَا نَرَى بَيْنَهُمَا مِنَ النُّورِ إِلَّا قَلِيلًا. قَالَ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَظْهَرَنَّ الْبِدَعُ حَتَّى لا يرى (6) من الحق إلا قدر ما بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَجَرَيْنِ مِنَ النُّورِ، وَاللَّهِ لَتَفْشُوَنَّ الْبِدَعُ حَتَّى إِذَا تُرِكَ مِنْهَا شَيْءٌ قَالُوا: تركت السنة) (7).
_________
(1) في (خ) و (ت) و (ط): "الخلق".
(2) في (خ) و (ط): "ابن".
(3) ما بين المعكوفين ساقط من (م).
(4) رواه عن حذيفة رضي الله عنه الإمام البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة من صحيحه، باب الاقتداء بسنن رسول الله (13/ 250 مع الفتح)، وعبد الله بن الإمام أحمد في السنة (1/ 139)، وابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص17 ـ 18)، والإمام ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2/ 97)، والإمام اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 90)، وأحمد بن نصر في السنة (ص30)، والإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى (1/ 336)، وأورده البغوي في شرح السنة (1/ 214). وألفاظهم متقاربة.
(5) رواه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها، باب إحداث البدع (ص43)، وفي بابٌ في نقض عرى الإسلام (ص76).
(6) في (غ): "يرى" بدون لا.
(7) رواه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها، باب في نقض عرى الإسلام ودفن الدين وإظهار البدع (ص65).(1/127)
وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: (أَوَّلُ مَا تَفْقِدُونَ مِنْ دِينِكُمُ الْأَمَانَةَ، وَآخِرُ مَا تَفْقِدُونَ الصَّلَاةَ، وَلَتُنْقَضَنَّ عُرَى الْإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً، وَلَيُصَلِّيَنَّ (1) نِسَاؤُكُمْ (2) وَهُنَّ (3) حُيّض، وَلَتَسْلُكُنَّ طَرِيقَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ القُذَّة (4) بالقُذَّة وَحَذْوَ النَّعْلِ بالنعلِ (5)، لَا تُخْطِئُونَ طَرِيقَهُمْ، وَلَا تُخْطِئُ بِكُمْ، وَحَتَّى تَبْقَى فِرْقَتَانِ مِنْ فِرَقٍ (6) كَثِيرَةٍ، تَقُولُ إِحْدَاهُمَا: مَا بَالُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ؟ لَقَدْ ضَلَّ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا، إِنَّمَا قَالَ اللَّهُ: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} (7) لا يصلون إِلَّا ثَلَاثًا، وَتَقُولُ الْأُخْرَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ كإيمان الملائكة، ما فينا (8) كَافِرٌ وَلَا مُنَافِقٌ، حَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ يَحْشُرَهُمَا مَعَ الدَّجَّالِ) (9).
وَهَذَا الْمَعْنَى مُوَافِقٌ لِمَا ثبت من حديث أبي رافع (10) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَأَلْفَيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا على أريكته (11) يأتيه الأمر من
_________
(1) في (ط): "وليطئن".
(2) في (ت): "نساؤهم"، وفي (غ) و (ر): "نساء".
(3) في (خ) و (ط): "وبن"، وهي ساقطة من (ت).
(4) قال ابن الأثير في النهاية: القُذَذ ريش السهم، واحدتها قذة، ومنه الحديث "لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة" أي كما تقدر كل واحدة منهما على قدر صاحبتها وتقطع" (4/ 28).
(5) ساقطة من (م)، و (خ) و (ت).
(6) في (ت): "فريق".
(7) سورة هود: آية (114).
(8) في (خ) و (ت) و (ط): "فيها".
(9) رواه عن حذيفة رضي الله عنه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها، باب في نقض عرى الإسلام بلفظ المؤلف (ص65)، ورواه الإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى مع اختلاف يسير في اللفظ (1/ 174)، ورواه أيضاً بلفظ أخصر وليس فيه ذكر الفرقتين (2/ 571)، ورواه الإمام الآجري في الشريعة مع اختلاف يسير في اللفظ (ص20).
(10) هو أبو رافع القبطي مولى الرسول صلّى الله عليه وسلّم، اسمه إبراهيم، وقيل: أسلم، أو ثابت أو هرمز، كان للعباس أولاً، فوهبه للنبي صلّى الله عليه وسلّم. روى عدة أحاديث، وشهد أحد والخندق. وكان ذا علم وفضل. مات في أول خلافة علي رضي الله عنه.
انظر: الإصابة (11/ 128 ـ 129)، طبقات ابن سعد (4/ 73 ـ 75)، أسد الغابة (1/ 52)، السير (2/ 16).
(11) الأريكة: السرير في الحجلة من دونه ستر، ولا يسمى منفرداً أريكة. وقيل هو كل ما اتكئ عليه من سرير أو فراش أو منصة. انظر النهاية (1/ 40).(1/128)
أَمْرِي مِمَّا أَمَرْتُ (1) بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي (2)، مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ" (3).
فَإِنَّ السُّنَّةُ جَاءَتْ مُفَسِّرَةً لِلْكِتَابِ، فَمَنْ أَخَذَ بِالْكِتَابِ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ بِالسُّنَّةِ زَلَّ عَنِ الْكِتَابِ كَمَا زَلَّ عَنِ السُّنَّةِ، فَلِذَلِكَ (4) يَقُولُ الْقَائِلُ: "لَقَدْ ضَلَّ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا" إِلَى آخِرِهِ.
وَهَذِهِ الْآثَارُ عَنْ حُذَيْفَةَ رضي الله عنه مِنْ تَخْرِيجِ ابْنِ وَضَّاحٍ (5).
وَخَرَّجَ أَيْضًا عَنْ (6) عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: (اتَّبِعُوا آثَارَنَا وَلَا تَبْتَدِعُوا فَقَدْ كُفِيتُمْ) (7).
وَخَرَّجَ عَنْهُ ابْنُ وَهْبٍ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: (عَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ، وَقَبْضُهُ بِذَهَابِ أَهْلِهِ. عَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَتَى يَفْتَقِرُ إِلَى مَا عِنْدَهُ، وَسَتَجِدُونَ أَقْوَامًا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَدْعُونَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَقَدْ نَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، فَعَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ وإياكم والتبدع والتنطع والتعمق، وعليكم بالعتيق) (8).
_________
(1) مطموسة في (ت).
(2) في (ط) كرر لفظ "لا أدري".
(3) رواه أبو داود في كتاب السنة من سننه، باب لزوم السنة عن أبي رافع (4/ 199) وابن ماجه في المقدمة من سننه، باب تعظيم حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (1/ 7)، والترمذي في كتاب العلم من سننه، باب ما نهى عنه أن يقال عند حديث النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقال حسن صحيح (5/ 36)، والإمام أحمد في المسند (6/ 8)، والحاكم وصححه (1/ 108 ـ 109)، والإمام اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 82)، والإمام الآجري في الشريعة (ص50)، والإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى (1/ 228)، والإمام البغوي في شرح السنة، وحسنه (1/ 200 ـ 201). وصححه الشيخ الألباني. انظر صحيح الجامع برقم (7049) ..
(4) في غ (فإذا).
(5) تقدم تخريجها قريباً.
(6) ساقطة من (م) و (ت).
(7) رواه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص17)، والإمام اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 86)، والإمام المروزي في السنة (ص28)، والإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى (1/ 327)، وأورده البغوي في شرح السنة (1/ 214)، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد وقال: رواه الطبراني في الكبير، ورجاله رجال الصحيح. (1/ 186).
(8) أخرجه الإمام الدارمي في المقدمة من سننه، باب من هاب الفتيا عن ابن مسعود=(1/129)
وَعَنْهُ أَيْضًا: (لَيْسَ عَامٌ إِلَّا وَالَّذِي (1) بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ. لَا أَقُولُ: عَامٌ أَمْطَرُ مِنْ عَامٍ، وَلَا عَامٌ أَخْصَبُ مِنْ عَامٍ، وَلَا أَمِيرٌ خَيْرٌ مِنْ أَمِيرٍ، وَلَكِنْ ذَهَابُ عُلَمَائِكُمْ وَخِيَارِكُمْ، ثُمَّ يُحْدِثُ قَوْمٌ يَقِيسُونَ الْأُمُورَ بِآرَائِهِمْ فَيُهْدَمُ الْإِسْلَامُ وَيُثْلَمُ) (2).
وَقَالَ أَيْضًا: (كَيْفَ أَنْتُمْ إذا ألبستكم (3) فِتْنَةً يَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ، وَيَنْشَأُ فِيهَا الصَّغِيرُ، تجرى (4) على الناس يحدثونها سنة، إذا غُيِّرَتْ قِيلَ: هَذَا مُنْكَرٌ" (5).
وَقَالَ أَيْضًا: (أَيُّهَا النَّاسُ، لَا تَبْتَدِعُوا وَلَا تَنَطَّعُوا وَلَا تَعَمَّقُوا، وَعَلَيْكُمْ بِالْعَتِيقِ، خُذُوا مَا تَعْرِفُونَ، وَدَعُوا مَا تُنْكِرُونَ) (6).
وَعَنْهُ أَيْضًا: (الْقَصْدُ فِي السُّنَّةِ خَيْرٌ من الاجتهاد في البدعة) (7).
_________
=وذكره (1/ 66)، والإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص32)، والإمام ابن عبد البر في جامع بيان العلم من قوله: (ستجدون .. إلخ) (2/ 193)، والإمام اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 87)، والإمام المروزي في السنة (ص29 ـ 30)، والإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى (1/ 324، 333)، وذكره البغوي في شرح السنة (1/ 317).
(1) وقعت الياء من الكلمة في البياض في نسخة (ت).
(2) أخرجه الإمام الدارمي في مقدمة سننه، باب تغير الزمان وما يحدث فيه عن ابن مسعود وذكره (1/ 76)، والإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص40، 87) والإمام ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/ 135 ـ 136)، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد وقال: رواه الطبراني في الكبير وفيه مجالد بن سعيد وقد اختلط. (1/ 185).
(3) في (م) و (ت) و (ط): "ألبستم"، والمثبت هو الموافق للرواية.
(4) في (ت): "يجري".
(5) رواه الإمام الدارمي في المقدمة من سننه، باب تغير الزمان عن ابن مسعود بلفظ أطول (1/ 75)، ورواه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها بلفظين الأول منهما لفظ المؤلف (ص41، 96)، ورواه الإمام اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة بلفظ أطول. (1/ 91).
(6) تقدم بمعناه (ص139).
(7) رواه الإمام الدارمي في مقدمة سننه، باب في كراهية أخذ الرأي عن ابن مسعود رضي الله عنه (1/ 83)، والإمام اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 55، 88)،=(1/130)
وَقَدْ رُوِيَ مَعْنَاهُ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عَمَلٌ قَلِيلٌ فِي سُّنَّةٍ خَيْرٌ مِنْ عَمَلٍ كَثِيرٍ (1) فِي بِدْعَةٍ" (2).
وَعَنْهُ أَيْضًا خَرَّجَهُ قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ (3) أَنَّهُ قَالَ: "أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِمَامٌ ضَالٌّ يُضِلُّ (4) النَّاسَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، وَمُصَوِّرٌ، وَرَجُلٌ قَتَلَ نَبِيًّا أَوْ قَتَلَهُ نَبِيٌّ" (5).
وَعَنْ أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أنه (6) قَالَ: (لَسْتُ تَارِكًا شَيْئًا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ) (7) عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْمَلُ بِهِ إِلَّا عَمِلْتُ بِهِ، إِنِّي أَخْشَى إِنْ تَرَكْتُ شَيْئًا من أمره أن أزيغ) (8).
_________
=والإمام محمد بن نصر في السنة (ص30)، والإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى (1/ 320، 329، 337)، وهو مروي أيضاً عن أبي الدرداء رضي الله عنه كما في أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي (1/ 88)، وكذلك في السنة للمروزي (ص32).
(1) كتب في (خ) عند هذا الموضع "من عمل"، وهي زيادة من الناسخ.
(2) ذكره صاحب الكنز تحت رقم (1096)، وعزاه للرافعي عن أبي هريرة ومسند الفردوس عن ابن مسعود (1/ 219)، ورواه عبد الرزاق في المصنف عن الحسن مرسلاً برقم (20568)، (11/ 291)، والقضاعي في مسند الشهاب (2/ 239)، وقال عند المناوي في فيض القدير: فيه أبان بن يزيد العطار ليّنه القطان (4/ 362)، وضعفه الألباني كما في ضعيف الجامع تحت رقم (3811)، (ص556).
(3) هو قاسم بن أصبغ بن محمد بن يوسف القرطبي، الإمام الحافظ العلامة، محدث الأندلس، صنف سنناً وصحيحاً، وألف كتاب بر الوالدين، وكتاب مسند مالك وكتاب المنتقى في الآثار وكتاب الأنساب، انتهى إليه علو الإسناد بالأندلس مع الحفظ والاتقان، وبراعة العربية، والتقدم في الفتوى، مات بقرطبة سنة أربعين وثلاثمائة.
انظر: سير أعلام النبلاء (15/ 472)، لسان الميزان (4/ 458)، معجم الأدباء (16/ 236).
(4) بياض في (ت).
(5) تقدم تخريج الحديث مرفوعاً (ص130).
(6) ساقطة من (ط).
(7) ما بين المعكوفين بياض في (ت).
(8) أخرجه الإمام البخاري في صحيحه (2926) أبواب الخمس، باب فرض الخمس، وأبو داود في سننه (2970) كتاب الخراج، باب في صفايا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وذكره القاضي عياض في الشفا (2/ 39)، ورواه الإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى، باب ذكر ما جاءت به السنة من طاعة رسول الله .. عن أبي بكر رضي الله عنه. (1/ 246).(1/131)
وخرج (1) ابن المبارك عن (ابن عمر رضي الله عنهما قال: بلغ) (2) عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنَّ يَزِيدَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ (3) يَأْكُلُ أَلْوَانَ الطَّعَامِ، فقال عمر رضي الله عنه لِمَوْلًى لَهُ يُقَالُ لَهُ (4): يَرْفَأُ: "إِذَا عَلِمْتَ أَنَّهُ قَدْ حَضَرَ عَشَاؤُهُ فَأَعْلِمْنِي"، فَلَمَّا حَضَرَ عشاؤه أعلمه، فأتاه عمر رضي الله عنه فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَاسْتَأْذَنَ فَأَذِنَ لَهُ، فَدَخَلَ، فقُرِّب عشاؤه، فَجَاءَ بِثَرِيدِ (5) لَحْمٍ، فَأَكَلَ عُمَرُ مَعَهُ مِنْهَا (6)، ثُمَّ قَرَّبَ شِوَاءً فَبَسَطَ يَزِيدُ يَدَهُ، وَكَفَّ عمر رضي الله عنه يَدَهُ، ثُمَّ قَالَ: (وَاللَّهِ يَا يَزِيدُ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ أَطَعَامٌ بَعْدَ طَعَامٍ؟ وَالَّذِي نَفْسُ عُمَرَ بِيَدِهِ لَئِنْ خَالَفْتُمْ (7) عَنْ سُنَّتِهِمْ لَيُخَالَفَنَّ بكم عن طريقهم" (8).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما: (صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ، مَنْ خَالَفَ السُّنَّةَ كَفَرَ) (9).
_________
(1) الواو ساقطة من (ط).
(2) ما بين المعكوفين ساقط من (ط).
(3) هو يزيد بن أبي سفيان بن حرب بن أمية الأموي، أخو معاوية من أبيه، أسلم رضي الله عنه يوم الفتح، وحسن إسلامه، وشهد حنين، وهو أحد الأمراء الأربعة الذين ندبهم أبو بكر لغزو الروم، وعلى يده كان فتح قيسارية التي بالشام. توفي رضي الله عنه في الطاعون سنة ثمان عشرة.
انظر: الاستيعاب لابن عبد البر (11/ 69)، أسد الغابة لابن الأثير (5/ 491)، سير أعلام النبلاء (1/ 328).
(4) ساقط من (ت).
(5) في (م) و (غ): "بثريدة".
(6) ساقط من (ت).
(7) في (م) و (خ): "خالفتهم"، وصححت في هامش (خ).
(8) رواه الإمام ابن المبارك في الزهد (ص203).
(9) رواه عبد الرزاق في المصنف (4281)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 422)، والبيهقي في السنن الكرى (5417)، وأبو نعيم في الحلية (7/ 7/185 ـ 186)، ورواه الإمام ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، باب فضل السنة ومباينتها لسائر أقاويل علماء الأمة عن صفوان بن محرز القارئ المأزري أنه سأل عبد الله ابن عمر عن الصلاة في السفر، فقال: "ركعتان. من خالف السنة كفر". (2/ 195)، وذكره الإمام ابن بطة في الإبانة الصغرى بلفظ (من ترك السنة كفر) (ص123).(1/132)
وَخَرَّجَ (1) الْآجُرِّيُّ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ (2) قَالَ: أتى (3) عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّا لَقِينَا رَجُلًا يَسْأَلُ عَنْ تَأْوِيلِ الْقُرْآنِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَمْكِنِّي مِنْهُ، قال: فبينما عمر (4) رضي الله عنه ذَاتَ يَوْمٍ يُغَدِّي النَّاسَ (إِذْ جَاءَهُ) (5) عَلَيْهِ ثِيَابٌ وَعِمَامَةٌ فَتَغَدَّى، حَتَّى (6) إِذَا فَرَغَ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا *فَالْحَامِلاَتِ وِقْرًا *} (7)، فَقَالَ عُمَرُ: أَنْتَ هُوَ؟ فَقَامَ إِلَيْهِ مُحْسِرًا عَنْ ذِرَاعَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ (8) يَجْلِدُهُ حَتَّى سَقَطَتْ عِمَامَتُهُ، فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ وَجَدْتُكَ مَحْلُوقًا لَضَرَبْتُ رَأْسَكَ (9)، أَلْبِسُوهُ ثِيَابَهُ وَاحْمِلُوهُ عَلَى قَتَبٍ (10)، ثُمَّ أَخْرِجُوهُ حَتَّى تَقْدَمُوا بِهِ بِلَادَهُ، ثُمَّ لِيَقُمْ خَطِيبًا، ثُمَّ لِيَقُلْ: إِنَّ صَبِيْغاً (11) طَلَبَ الْعِلْمَ فَأَخْطَأَ. فَلَمْ يَزَلْ وَضِيعًا فِي قومه حتى هلك، وكان سيد قومه) (12).
_________
(1) هذا الأثر أخره ناسخ (غ) بعد أثر أبيّ الآتي.
(2) هو السائب بن يزيد بن سعيد بن ثمامة الكندي، وقيل غير ذلك في نسبه، ويعرف بابن أخت النمر، صحابي صغير، له أحاديث قليلة، وحُج به في حجة الوداع وهو ابن سبع سنين، وولاه عمر سوق المدينة، مات سنة إحدى وتسعين وقيل: قبل ذلك، وهو آخر من مات بالمدينة من الصحابة.
انظر: أسد الغابة (2/ 321)، والاستيعاب (ص576)، الإصابة (2/ 12)، السير (3/ 437).
(3) في (ت): "أوتي".
(4) ساقطة من (خ).
(5) ما بين المعكوفين ساقط من (ت).
(6) ساقطة من (ت).
(7) سورة الذاريات: آيتان (1، 2).
(8) ساقطة من (ت).
(9) ذكر الإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى أن عمر رضي الله عنه قال ذلك، لأنه ظن أنه من الخوارج، وقد ورد في الحديث أن سيماهم التحليق. انظر: الإبانة (1/ 417). وانظر الحديث في صحيح مسلم بشرح النووي عن أبي سعيد (7/ 167)، وانظر فتح الباري (12/ 295).
(10) القِتْبُ والقَتَبُ: إكاف البعير، وقد يؤنث، والتذكير أعم، وفي الصحاح رحل صغير على قدر السنام. انظر لسان العرب لابن منظور (1/ 660).
(11) قال الحافظ ابن حجر في الإصابة: صَبِيْغ، بوزن عظيم، وآخره معجمة، ابن عسل ... ، ويقال بالتصغير، ويقال ابن سهل الحنظلي، له إدراك، وقصته مع عمر مشهورة. انظر الإصابة، وقد ذكر بعض روايات قصته مع عمر رضي الله عنه، وأمر عمر بهجره، ثم توبته بعد ذلك. انظر الإصابة (3/ 458).
(12) روى هذه القصة الإمام الآجري في الشريعة (ص73)، وعبد الرزاق في المصنف (20906)، والإمام الدارمي في مقدمة سننه، باب من هاب الفتيا، وذكر أنه تاب=(1/133)
وَخَرَّجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَغَيْرُهُ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كعب رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ (1): (عَلَيْكُمْ بِالسَّبِيلِ وَالسُّنَّةِ، فَإِنَّهُ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ عَبْدٍ عَلَى السَّبِيلِ وَالسُّنَّةِ ذَكَرَ اللَّهَ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ (2) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ أَبَدًا، وَمَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ عَبْدٍ عَلَى السَّبِيلِ وَالسُّنَّةِ ذَكَرَ اللَّهَ فِي نَفْسِهِ فَاقْشَعَرَّ جِلْدُهُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ إِلَّا كَانَ مَثَلُهُ كَمَثَلِ شَجَرَةٍ قَدْ يَبُسَ وَرَقُهَا فهي كذلك (إذ) (3) أَصَابَتْهَا رِيحٌ شَدِيدَةٌ فَتَحَاتَّ عَنْهَا وَرَقُهَا إِلَّا حَطَّ اللَّهُ عَنْهُ خَطَايَاهُ كَمَا تَحَاتَّ عَنِ الشجرة ورقها، فإن اقتصاداً في سبيل (4) وَسُنَّةً خَيْرٌ مِنِ اجْتِهَادٍ فِي خِلَافِ سَبِيلٍ (5) وَسُنَّةٍ، وَانْظُرُوا أَنْ يَكُونَ عَمَلُكُمْ إِنْ كَانَ اجْتِهَادًا وَاقْتِصَادًا أَنْ يَكُونَ عَلَى مِنْهَاجِ الْأَنْبِيَاءِ وَسُنَّتِهِمْ (6)) (7).
وَخَرَّجَ ابْنُ وَضَّاحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: (مَا يَأْتِي عَلَى النَّاسِ مِنْ عَامٍ إِلَّا أَحْدَثُوا فِيهِ بِدْعَةً، وَأَمَاتُوا فِيهِ (8) سُنَّةً، حَتَّى تَحْيَا الْبِدَعُ وَتَمُوتَ السُّنَنُ" (9).
وَعَنْهُ أَنَّهُ قال: (عليكم (بالاستقامة) (10) والأثر، وإياكم والبدع) (11).
_________
=وحسنت توبته (1/ 66 ـ 67)، والإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى (1/ 415)، والإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص63)، وانظر: الإصابة لابن حجر (3/ 370 ـ 372).
(1) كتبت في (ت): "فوق السطر".
(2) في (غ): "ربه".
(3) في جميع النسخ "إذا" عدا (غ).
(4) في (خ) و (ت) و (ط): "سبيل الله"، والمثبت هو ما في (م) و (غ)، وهو الموافق لمراجع الأثر.
(5) في (ط): "سبيل الله".
(6) ساقطة من (غ).
(7) رواه الإمام ابن المبارك في الزهد، باب لزوم السنة (2/ 21)، والإمام اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 54)، والإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى (1/ 359)، والإمام أبو نعيم في الحلية عند ترجمة أبي رضي الله عنه (1/ 253).
(8) ساقطة من (ط).
(9) تقدم تخريجه في المقدمة (ص32).
(10) في جميع النسخ "الاستفاضة" عدا (ر)، وما أثبته هو ما ورد به الأثر عند جميع من أخرجه.
(11) رواه عنه رضي الله عنه الإمام الدارمي في سننه (1/ 65)، والإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص32)، والإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى (1/ 319، 337) والإمام محمد بن نصر في السنة (ص29)، وذكره البغوي في شرح السنة (1/ 214).(1/134)
وَخَرَّجَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: (مَنْ أَحْدَثَ رَأْيًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَمْ تَمْضِ بِهِ سُنَّةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَدْرِ مَا هُوَ عَلَيْهِ إِذَا لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ) (1).
وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ يَوْمًا: (إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ فِتَنًا يَكْثُرُ فِيهَا الْمَالُ، وَيُفْتَحُ فِيهَا (2) الْقُرْآنُ، حَتَّى يَأْخُذَهُ (3) الْمُؤْمِنُ وَالْمُنَافِقُ، وَالرَّجُلُ (4) وَالْمَرْأَةُ، وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ، وَالْعَبْدُ وَالْحُرُّ، فَيُوشِكُ قَائِلٌ أَنْ يَقُولَ: مَا لِلنَّاسِ لَا يَتَّبِعُونِي وَقَدْ قَرَأْتُ الْقُرْآنَ؟! مَا هُمْ بِمُتَّبِعِيَّ حَتَّى أَبْتَدِعَ لَهُمْ غَيْرَهُ، وَإِيَّاكُمْ وَمَا ابْتُدِعَ فَإِنَّ مَا ابْتُدِعَ ضَلَالَةٌ، وَأُحَذِّرُكُمْ زَيْغَةَ الْحَكِيمِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَقُولُ كَلِمَةَ الضَّلَالَةِ عَلَى لِسَانِ الْحَكِيمِ، وَقَدْ يَقُولُ الْمُنَافِقُ كَلِمَةَ الْحَقِّ).
قَالَ الرَّاوِي: قلت (5) لمعاذ رضي الله عنه: وَمَا (6) يُدْرِينِي يَرْحَمُكَ اللَّهُ أَنَّ الْحَكِيمَ قَدْ يقول كلمة الضلالة (7)، وَأَنَّ الْمُنَافِقَ قَدْ يَقُولُ كَلِمَةَ الْحَقِّ؟ قَالَ: "بلى، اجتنب من كلام الحكيم الْمُشْتَهِرَاتِ (8) الَّتِي يُقَالُ فِيهَا (9): مَا هَذِهِ؟ وَلَا يَثْنِيَنَّكَ ذَلِكَ عَنْهُ فَإِنَّهُ لَعَلَّهُ أَنْ يُرَاجِعَ، وَتَلَقَّ الْحَقَّ إِذَا سَمِعْتَهُ فَإِنَّ عَلَى الْحَقِّ نُورًا" (10).
وَفِي رِوَايَةٍ مَكَانَ "الْمُشْتَهِرَاتِ" "الْمُشْتَبِهَاتِ" (11)، وَفُسِّرَ بِأَنَّهُ مَا تَشَابَهَ عَلَيْكَ مِنْ قَوْلٍ حَتَّى يقال: ما أراد بهذه الكلمة؟.
_________
(1) رواه عنه رضي الله عنه الإمام الدارمي في المقدمة من سننه، باب الفتيا وما فيه من الشدة (1/ 69)، والإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها، باب تغير البدع (ص45)، والبيهقي في المدخل (190)، والخطيب في الفقيه والمتفقه (1/ 183).
(2) في (م) و (خ) و (ط): "فيه"، والمثبت موافق لما ورد في مراجع الأثر.
(3) في (ت): "يأخذ".
(4) ساقطة من (ت).
(6) (5) ساقطة من (ت).
(7) في (ط): "ضلالة" غير معرفة.
(8) في (ط): "غير المشتهرات".
(9) ساقطة من (م) و (ت). ولفظ أبي داود "لها".
(10) تقدم تخريجه في الباب الأول (ص79).
(11) هي رواية صالح بن كيسان عن الزهري كما في سنن أبي داود (4/ 201)، وفي بعض المصادر "اجتنب من كلام الحكيم كل متشابه".(1/135)
ويريد ـ والله أعلم (1) ـ ما لم يشتهر (2) ظَاهِرُهُ عَلَى مُقْتَضَى السُّنَّةِ حَتَّى تُنْكِرَهُ الْقُلُوبُ، وَيَقُولَ النَّاسُ: مَا هَذِهِ؟ وَذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى مَا يُحْذَرُ مِنْ زَلَّةِ الْعَالِمِ حَسْبَمَا يَأْتِي بِحَوْلِ اللَّهِ (3).
وَمِمَّا جَاءَ عَمَّنْ بَعْدَ الصَّحَابَةِ رضي الله تعالى عَنْهُمْ مَا ذَكَرَ ابْنُ وَضَّاحٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: (صَاحِبُ الْبِدْعَةِ لَا يَزْدَادُ اجْتِهَادًا، صِيَامًا وَصَلَاةً، إِلَّا ازْدَادَ مِنَ اللَّهِ بُعْدًا" (4).
وَخَرَّجَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ (5) أَنَّهُ قَالَ: (لِأَنْ أَرَى فِي الْمَسْجِدِ نَارًا لَا أَسْتَطِيعُ إِطْفَاءَهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَرَى فِيهِ بِدْعَةً لَا أَسْتَطِيعُ تَغْيِيرَهَا) (6).
وَعَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ (7): (اتَّبِعْ طُرُقَ الْهُدَى وَلَا يَضُرُّكَ قِلَّةُ السَّالِكِينَ وَإِيَّاكَ وَطُرُقَ الضَّلَالَةِ وَلَا تَغْتَرَّ بِكَثْرَةِ الْهَالِكِينَ (8)) (9).
وَعَنِ الْحَسَنِ: (لَا تُجَالِسْ صَاحِبَ هَوًى (10) فَيَقْذِفَ فِي قَلْبِكَ مَا تَتَّبِعُهُ عَلَيْهِ فتهلك، أو تخالفه فيمرض قلبك) (11).
_________
(1) ساقطة من (م).
(2) في (م): "يستمر".
(3) سيذكر المؤلف بعض الأمثلة لعلماء وقعت منهم بعض الزلات. انظر (ص275 ـ 281).
(4) رواه عنه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها، باب كل محدثة بدعة (ص34)، وذكره ابن بطة في الإبانة الصغرى (ص134).
(5) تقدمت ترجمته في المقدمة (ص32).
(6) رواه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص43)، والإمام محمد بن نصر في السنة (ص32)، والإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى (2/ 514)، وأبو نعيم في الحلية (5/ 124).
(7) هو الفضيل بن عياض بن مسعود بن بشر اليربوعي، إمام، قدوة، ثبت مشهور بالصلاح، ولد بخراسان، وارتحل وطلب العلم، وحدث بالكوفة عن الأعمش وحميد الطويل وغيرهم، وحدث عنه ابن المبارك ويحيى القطان والشافعي وغيرهم. نزل مكة وتعبد بها إلى أن مات بها أول سنة سبع وثمانين ومائة.
انظر: سير أعلام النبلاء (8/ 421)، حلية الأولياء (8/ 84)، صفة الصفوة (2/ 237)، طبقات الصوفية للسلمي (ص6)، البداية والنهاية (10/ 206).
(8) في (غ) و (ر): "السالكين". والصواب المثبت.
(9) لم أجده في كثير من مراجع ترجمته.
(10) في (ت): "هوا".
(11) رواه عنه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها، باب النهي عن الجلوس مع أهل البدع (ص57).(1/136)
وَعَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} (1). قَالَ: (كَتَبَ اللَّهُ صِيَامَ رَمَضَانَ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ كَمَا كَتَبَهُ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ (2)، فَأَمَّا الْيَهُودُ فَرَفَضُوهُ، وَأَمَّا النَّصَارَى فَشَقَّ عَلَيْهِمُ الصَّوْمُ فَزَادُوا فِيهِ عَشْرًا، وَأَخَّرُوهُ إِلَى أَخَفِّ مَا يَكُونُ عَلَيْهِمْ فِيهِ الصَّوْمُ مِنَ (3) الْأَزْمِنَةِ) (4).
فَكَانَ الْحَسَنُ إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ قَالَ: (عمل قليل في سنة خير من كَثِيرٍ (5) فِي بِدْعَةٍ) (6).
وَعَنْ أَبِي قِلَابَةَ (7): (لَا تُجَالِسُوا أَهْلَ الْأَهْوَاءِ وَلَا تُجَادِلُوهُمْ، فَإِنِّي لَا آمَنُ أَنْ يَغْمِسُوكُمْ فِي ضَلَالَتِهِمْ، وَيُلَبِّسُوا عَلَيْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْرِفُونَ) (8).
قَالَ أَيُّوبُ (9): (وَكَانَ ـ وَاللَّهِ ـ من الفقهاء ذوي (10) الألباب) (11).
_________
(1) سورة البقرة: آية (183).
(2) في (م) و (خ) و (غ) و (ر): "قبلكم".
(3) في جميع النسخ (في)، والمثبت من (ر) و (ط).
(4) خبر صيام النصارى وتبديلهم له روي عن كثير من السلف، منهم ابن عباس وغيره. انظر الدر المنثور للسيوطي (1/ 428 ـ 430).
(5) في (ط): "من عمل كثير".
(6) تقدم تخريجه مرفوعاً (ص140).
(7) تقدمت ترجمته (ص110).
(8) رواه الإمام الدارمي في المقدمة من سننه، باب اجتناب أهل الأهواء (1/ 120)، والإمام الآجري في الشريعة (ص56)، والإمام البيهقي في الاعتقاد والهداية (ص158)، والإمام اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 134)، والإمام ابن سعد في الطبقات (7/ 184)، والإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص55) والإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى (2/ 435، 437)، وذكره البغوي في شرح السنة (1/ 227)، وعبد الله بن أحمد في السنة (1/ 137).
(9) في (ت): "أبو أيوب"، وهو أيوب بن أبي تميمة، كيسان السختياني، ثقة، ثبت، حجة، من كبار الفقهاء العباد، قال شعبة: ما رأيت مثله، كان سيد الفقهاء، مات سنة إحدى وثلاثين ومائة.
انظر: تقريب التهذيب (1/ 89)، الكاشف (1/ 92).
(10) في (ت): "ذوو".
(11) روى هذا القول لأيوب الإمام ابن سعد في الطبقات، والإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها، وذلك في نفس المواضع السابقة في تخريج قول أبي قلابة.(1/137)
وعنه (1) أيضاً أنه كان يقول: (وإن أَهْلَ الْأَهْوَاءِ أَهْلُ ضَلَالَةٍ، وَلَا أَرَى مَصِيرَهُمْ إِلَّا إِلَى النَّارِ) (2).
وَعَنِ الْحَسَنِ: "لَا تُجَالِسْ صَاحِبَ بِدْعَةٍ فَإِنَّهُ يُمْرِضُ قَلْبَكَ" (3).
وَعَنْ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: (مَا ازْدَادَ صَاحِبُ بِدْعَةٍ اجْتِهَادًا إِلَّا ازْدَادَ مِنَ اللَّهِ بُعْدًا) (4).
وَعَنْ أَبِي قِلَابَةَ: (مَا ابْتَدَعَ رَجُلٌ بِدْعَةً إِلَّا اسْتَحَلَّ السَّيْفَ) (5).
وَكَانَ أَيُّوبُ يُسَمِّي أَصْحَابَ الْبِدَعِ خَوَارِجَ، وَيَقُولُ: (إِنَّ الْخَوَارِجَ اخْتَلَفُوا فِي الِاسْمِ وَاجْتَمَعُوا عَلَى السَّيْفِ) (6).
وَخَرَّجَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: (كَانَ رَجُلٌ فَقِيهٌ) يَقُولُ: (مَا أُحِبُّ أَنِّي هَدَيْتُ النَّاسَ كُلَّهُمْ، وَأَضْلَلْتُ رَجُلًا وَاحِدًا) (7).
وَخَرَّجَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ (8): (لَا يَسْتَقِيمُ قَوْلٌ إِلَّا بِعَمَلٍ، وَلَا قَوْلٌ
_________
(1) أي: عن أبي قلابة أيضاً.
(2) رواه الإمام الدارمي في مقدمة سننه، باب اتباع السنة عن أبي قلابة بلفظ طويل شبَّه فيه أهل الأهواء بالمنافقين (1/ 58)، ورواه ابن سعد في الطبقات كما رواه الدارمي (7/ 184)، ورواه الآجري في الشريعة كما هو عند المؤلف (ص64)، وذكره الإمام ابن بطة في الإبانة الصغرى (ص138).
(3) ورواه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص54)، والإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى بلفظ "لا تجالسوا أهل الأهواء فإن مجالستهم ممرضة للقلوب، (2/ 438)، ورواه في نفس الموضع عن ابن عباس رضي الله عنه، وعن أبي عبد الله الملائي.
(4) رواه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص34)، وأبو نعيم في الحلية (3/ 9)، وذكره ابن الجوزي عنه في صفة الصفوة (3/ 295).
(5) رواه عنه الإمام الدارمي في مقدمة سننه، باب اتباع السنة (1/ 58)، والإمام اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 134)، والإمام الآجري في الشريعة (ص64)، والإمام ابن سعد في الطبقات (1/ 184)، والإمام أبو نعيم في الحلية (2/ 287)، وذكره ابن بطة في الإبانة الصغرى (ص138).
(6) رواه عنه الإمام اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 143)، والآجري في الشريعة (5/ 2549).
(7) لم يتيسر تخرجيه لكون الكتاب مخطوطاً.
(8) في (غ): "أنه قال كان يقال: لا يستقيم .. ".(1/138)
وَعَمَلٌ إِلَّا بِنِيَّةٍ، وَلَا قَوْلٌ وَلَا عَمَلٌ ولانية إِلَّا (1) مُوَافِقًا لِلسُّنَّةِ) (2).
وَذَكَرَ الْآجُرِّيُّ أَنَّ ابْنَ سِيرِينَ (3) كَانَ يَرَى أَسْرَعَ النَّاسِ رِدَّةً أَهْلَ الأهواء (4).
وعن إبراهيم (5): ((لَا تُجَالِسُوا أَصْحَابَ الْأَهْوَاءِ) (6) وَلَا تُكَلِّمُوهُمْ، فَإِنِّي (7) أَخَافُ أَنْ تَرْتَدَّ قُلُوبُكُمْ) (8).
وَعَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ (9) قَالَ: (لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْ صَاحِبِ بِدْعَةٍ صِيَامًا وَلَا صَلَاةً وَلَا حَجًّا وَلَا جِهَادًا وَلَا عُمْرَةً وَلَا صَدَقَةً (10) وَلَا عِتْقًا وَلَا صَرْفًا وَلَا عَدْلًا" (11)، زَادَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْهُ: (وَلَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَشْتَبِهُ فِيهِ
_________
(1) ساقطة من (م).
(2) أخرجه أبو نعيم في الحلية (7/ 32)، وروى نحوه الإمام اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة عن الحسن بلفظ: "لا يصح القول إلا بعمل ولا يصح قول وعمل إلا بنية ولا يصح قول وعمل ونية إلا بالسنة" (1/ 57)، وروى نحوه عن سعيد بن جبير في نفس الموضع. وروى أبو نعيم عن الأوزاعي قريباً منه. انظر الحلية (6/ 143).
(3) تقدمت ترجمته (ص111).
(4) تقدم تخريجه (ص111).
(5) في (ر): "هشام بن إبراهيم" وهو إبراهيم بن يزيد بن قيس النخعي اليماني، الإمام الخافظ، فقيه العراق، روى عن كبار التابعين، وكان بصيراً بعلم ابن مسعود رضي الله عنه. واسع الرواية، وكان مفتي أهل الكوفة هو والشعبي. توفي سنة ست وتسعين.
انظر: سير أعلام النبلاء (4/ 520)، طبقات ابن سعد (6/ 270)، وفيات الأعيان (1/ 25).
(6) ما بين المعكوفين ساقط من (م) و (خ) و (ت) و (ط).
(7) في (ط): "إني".
(8) رواه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص56)، والإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى (2/ 439)، وأبو نعيم في الحلية (4/ 222).
(9) هو هشام بن حسان الأزدي القردوسي، الإمام العالم الحافظ، محدث البصرة، احتج به أصحاب الصحاح، وله أوهام مغمورة في سعة ما روى. مات سنة ثمان وأربعين ومائة.
انظر: سير أعلام النبلاء (6/ 355)، تهذيب التهذيب (11/ 34)، الجرح والتعديل (9/ 54).
(10) ساقطة من (ر).
(11) رواه عنه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص34)، والإمام الآجري في الشريعة عن هشام بن حسان عن الحسن وذكره (ص64)، والإمام اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة عن هشام عن الحسن (1/ 139).(1/139)
الْحَقُّ وَالْبَاطِلُ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ لَمْ يَنْفَعْ فِيهِ دُعَاءٌ إِلَّا كَدُعَاءِ الغَرِق) (1).
وَعَنْ يَحْيَى بن أبي كثير (2): (إِذَا لَقِيتَ صَاحِبَ بِدْعَةٍ فِي طَرِيقٍ فَخُذْ فِي طَرِيقٍ آخَرَ) (3).
وَعَنْ بَعْضِ السَّلَفِ: (مَنْ جَالَسَ (4) صَاحِبَ بِدْعَةٍ نُزِعَتْ (5) مِنْهُ الْعِصْمَةُ، وَوُكِلَ إِلَى نَفْسِهِ) (6).
وَعَنِ الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَبٍ (7) أَنَّهُ كان يقول لابنه: (يا عيسى، أصلح الله (8) قَلْبَكَ (9)، وَأَقْلِلْ (10) مَالَكَ، وَكَانَ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَأَنْ أرى عيسى في مجالس
_________
(1) لم يتيسر تخريج هذه الزيادة، لأن الكتاب لا زال مخطوطاً.
(2) هو يحيى بن أبي كثير، أبو نصر اليمامي، الطائي مولاهم، أحد الأعلام، ثقة ثبت، لكنه يرسل، وكان من العباد العلماء الأثبات. توفي سنة تسع وعشرين ومائة.
انظر: الكاشف للذهبي (3/ 233)، تقريب (2/ 356).
(3) رواه عنه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص55)، والإمام اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 137)، والإمام الآجري في الشريعة (ص64)، والإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى (2/ 474). وهو مروي كذلك عن الفضيل بن عياض كما في الإبانة (2/ 475).
(4) في (غ) و (ر): "جلس".
(5) في (ط): "فزعت".
(6) رواه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها عن كثير أبو سعيد (ص55)، ورواه الإمام اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة عن محمد بن النضر الحارثي بلفظ "من أصغى سمعه إلى صاحب بدعة وهو يعلم أنه صاحب بدعة نزعت منه العصمة". (1/ 136)، ورواه الإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى عن محمد بن النضر بنحو لفظ اللالكائي (2/ 460)، وهو مروي عن سفيان الثوري في الإبانة أيضاً (2/ 461).
(7) هو العوام بن حوشب بن يزيد الربعي الواسطي، إمام محدث، أسلم جده يزيد علي يد علي بن أبي طالب رضي الله عنه فجعله على شرطته. ذكره أحمد فقال: ثقة ثقة. توفي سنة ثمان وأربعين ومائة. انظر: سير أعلام النبلاء (6/ 354)، تهذيب التهذيب (8/ 163)، شذرات الذهب (1/ 244).
(8) لفظ الجلالة غير موجود في (م) و (خ) و (ت) و (ط).
(9) في (غ): "أصلح الله قلبك".
(10) في (م) و (خ): "وأقل".(1/140)
أَصْحَابِ الْبَرَابِطِ (1) وَالْأَشْرِبَةِ وَالْبَاطِلِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَرَاهُ يُجَالِسُ أَصْحَابَ الْخُصُومَاتِ) (2).
قَالَ ابْنُ وضاح: (يعنى أهل البدع) (3).
وقال رجال (4) لأبي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ (5): يَا أَبَا بَكْرٍ، مَنِ السني؟ (قال: (السني) (6) الَّذِي إِذَا (7) ذُكِرَتِ الْأَهْوَاءُ لَمْ يَغْضَبْ لِشَيْءٍ مِنْهَا) (8).
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ (9): (إِنَّ الَّذِي تعرض (10) عليه السنة فيقبلها لغريب (11)، وأغرب منه صاحبها) (12).
_________
(1) البَربَط: العود، أعجمي ليس من ملاهي العرب فأعربته حين سمعت به، وفي التهذيب: البربط من ملاهي العجم شبه بصدر البط، والصدر بالفارسية بر فقيل بر بط. انظر لسان العرب لابن منظور (7/ 258).
(2) رواه عنه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص56).
(3) ذكره ابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص56).
(4) في (ت) و (غ): "رجل".
(5) هو أبو بكر بن عياش بن سالم الأسدي الكوفي، شيخ مقرئ ومحدث وفقيه، قرأ القرآن وجوده ثلاث مرات على عاصم بن أبي النجود، ذكره أحمد فقال: ثقة، ربما غلط، صاحب قرآن وخير. مات سنة ثلاث وتسعين ومائة.
انظر: سير أعلام النبلاء (8/ 495)، تاريخ البخاري الكبير (9/ 14)، حلية الأولياء (7/ 303)، شذرات الذهب (1/ 334).
(6) ما بين المعكوفين ساقط من (م) و (خ) و (ت) و (ط).
(7) ساقطة من (م) و (خ).
(8) رواه الإمام اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 65)، والآجري في الشريعة (5/ 2250).
(9) هو يونس بن عبيد بن دينار العبدي، الإمام القدوة الحجة، كان من صغار التابعين وفضلائهم، رأى أنس بن مالك، وحدث عن الحسن وابن سيرين وغيرهم، قال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث. مات سنة أربعين ومائة.
انظر: سير أعلام النبلاء (6/ 288)، طبقات ابن سعد (7/ 260)، الجرح والتعديل (9/ 242).
(10) في (خ) و (ط): "نعرض".
(11) في (خ) و (ت) و (ط): "الغريب".
(12) رواه عنه الإمام اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة بثلاث ألفاظ متقاربة (1/ 58)، وأبو نعيم في الحلية (3/ 21)، والإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى (1/ 185)، والآجري في الشريعة (5/ 2550).(1/141)
وعن يحيى بن أبي (1) (عمرو) (2) (السيباني) (3) قَالَ: (كَانَ يُقَالُ: يَأْبَى اللَّهُ لِصَاحِبِ بِدْعَةٍ بِتَوْبَةٍ، وَمَا انْتَقَلَ صَاحِبُ بِدْعَةٍ إِلَّا إِلَى شَرٍّ مِنْهَا) (4).
وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ (5): (تَعَلَّمُوا الْإِسْلَامِ، فَإِذَا تَعَلَّمْتُمُوهُ فَلَا تَرْغَبُوا عَنْهُ، وَعَلَيْكُمْ بِالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ فَإِنَّهُ الْإِسْلَامُ، وَلَا تُحَرِّفُوا يَمِينًا وَلَا شِمَالًا، وَعَلَيْكُمْ بِسُّنَّةِ نَبِيِّكُمْ وَمَا كَانَ عَلَيْهِ (6) أَصْحَابُهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَقْتُلُوا صَاحِبَهُمْ (7)، وَمِنْ قَبْلِ أَنْ يَفْعَلُوا الَّذِي فَعَلُوا. (قَدْ قَرَأْنَا الْقُرْآنَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَقْتُلُوا صَاحِبَهُمْ، وَمِنْ قَبْلِ أَنْ يَفْعَلُوا الَّذِي فَعَلُوا) (8)، وَإِيَّاكُمْ وَهَذِهِ الْأَهْوَاءَ الَّتِي تُلْقِي بَيْنَ النَّاسِ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ)، فَحُدِّثَ الْحَسَنُ بِذَلِكَ فَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: صَدَقَ وَنَصَحَ. خَرَّجَهُ ابْنُ وَضَّاحٍ وَغَيْرُهُ (9).
وَكَانَ مَالِكٌ رضي الله عنه كَثِيرًا مَا يُنْشِدُ:
وَخَيْرُ أُمُورِ الدِّينِ مَا كان سنة
وشر الأمور المحدثات البدائع (10)
_________
(1) ساقطة من (غ).
(2) في (م) و (خ) و (ت) و (ط) "عمر"، والصواب المثبت.
(3) في المخطوط والمطبوع "الشيباني"، والصحيح ما أثبته كما في توضيح المشتبه لابن ناصر الدين (5/ 245)، وهو يحيى بن أبي عمرو الشيباني، أبو زرعة الحمصي، ثقة، وروايته عن الصحابة مرسلة، عاش خمساً وثمانين سنة، وتوفي سنة ثمان وأربعين ومائة.
انظر: تقريب التهذيب (2/ 355)، الكاشف للذهبي (3/ 232)، تهذيب التهذيب (11/ 260)، تهذيب الكمال للمزي (31/ 480).
(4) رواه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص61)، وسيأتي الكلام عن توبة المبتدع وأنها ممكنة (ص232).
تقدمت ترجمته (ص95).
(5) ساقطة من (ت).
(6) ذكر أبو نعيم في الحلية أن المراد به عثمان رضي الله عنه. (2/ 218).
(7) ما بين المعكوفين ساقط من (غ) و (ر).
(8) رواه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص39)، والإمام اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 56)، والإمام ابن نصر المروزي في السنة (ص13)، والإمام الآجري في الشريعة (ص13)، والإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى بلفظ أخصر (1/ 299، 338)، وأبو نعيم في الحلية (2/ 218).
(9) ذكره القاضي عياض ضمن ترجمة الإمام مالك. انظر ترتيب المدارك (1/ 169)، وابن عبد البر في الانتقاد (ص74).(1/142)
وَعَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ (1) قَالَ: (أَهْلُ هَذِهِ الْأَهْوَاءِ آفَةُ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنَّهُمْ يَذْكُرُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَهْلَ بَيْتِهِ فَيَتَصَيَّدُونَ بِهَذَا الذِّكْرِ الْحَسَنِ الْجُهَّالِ (2) مِنَ النَّاسِ، فَيَقْذِفُونَ بِهِمْ فِي الْمَهَالِكِ، فَمَا أَشْبَهَهُمْ بِمَنْ يَسْقِي الصَّبِر (3) بِاسْمِ الْعَسَلِ، وَمَنْ يَسْقِي السُّمَّ الْقَاتِلَ بِاسْمِ التِّرْيَاقِ (4)، فَأَبْصِرْهُمْ (5)، فَإِنَّكَ إِنْ لَا تَكُنْ أَصْبَحْتَ فِي بَحْرِ الْمَاءِ فَقَدْ أَصْبَحْتَ فِي بَحْرِ الْأَهْوَاءِ الَّذِي هُوَ أَعْمَقُ غَوْرًا، وَأَشَدُّ اضْطِرَابًا، وَأَكْثَرُ صَوَاعِقَ، وَأَبْعَدُ مَذْهَبًا مِنَ الْبَحْرِ وَمَا فِيهِ، فَتِلْكَ (6) مَطِيَّتُكَ الَّتِي تَقْطَعُ بِهَا سَفَرَ الضَّلَالِ اتِّبَاعُ السُّنَّةِ) (7).
وَعَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ قَالَ: (اعْلَمْ أَيْ أخي أن الموت اليوم (8) كَرَامَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ عَلَى السُّنَّةِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، فَإِلَى اللَّهِ نَشْكُو وَحْشَتَنَا، وَذَهَابَ الْإِخْوَانِ، وَقِلَّةَ الْأَعْوَانِ، وَظُهُورَ الْبِدَعِ، وَإِلَى اللَّهِ نَشْكُو عَظِيمَ مَا حَلَّ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ ذَهَابِ الْعُلَمَاءِ وَأَهْلِ السُّنَّةِ وَظُهُورِ الْبِدَعِ) (9).
وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ (10) يَقُولُ: (اللَّهُمَّ اعْصِمْنِي بِدِينِكَ، وَبِسُّنَّةِ نَبِيِّكَ مِنَ الِاخْتِلَافِ فِي الْحَقِّ، وَمِنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى، وَمِنْ سُبُلِ الضَّلَالَةِ، ومن
_________
هو مقاتل بن حيان النبطي البلخي الخراز، إمام محدث، كان من العلماء العاملين، ذا نسك وفضل، وكان صاحب سنة. قال يحيى بن معين: ثقة. توفي في حدود الخمسين ومائة.
انظر: سير أعلام النبلاء (6/ 340)، تهذيب التهذيب (10/ 277)، تاريخ البخاري الكبير (8/ 13).
(1) في (ط): "عند الجهال".
(2) الصَّبر بكسر الباء الدواء المر. انظر الصحاح للجوهري (2/ 707).
(3) الترياق بكسر التاء دواء السموم (فارسي معرب)، والعرب تسمي الخمر ترياقا وترياقة. انظر الصحاح للجوهري (4/ 1453).
(4) في (ت): "فأبصر بهم".
(5) في (خ) و (ط): "ففلك".
(6) لم أجده في كثير من مراجع ترجمته.
(7) زيادة في (ت).
(8) رواه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها كما عند المؤلف (ص46)، وبلفظ أطول (ص88).
(9) هو إبراهيم بن يزيد بن شريك التيمي، أحد العباد الزهاد المشهورين، توفي في سجن الحجاج سنة اثنتين وتسعين، ولم يبلغ الأربعين.
انظر: الكاشف للذهبي (1/ 50)، الحلية لأبي نعيم (4/ 210)، صفة الصفوة لابن الجوزي (3/ 90).(1/143)
شُبُهَاتِ الْأُمُورِ، وَمِنَ الزَّيْغِ وَالْخُصُومَاتِ) (1).
وَعَنْ عُمَرَ بن عبد العزيز رحمه الله أنه (2) كَانَ يَكْتُبُ فِي كُتُبِهِ: (إِنِّي أُحَذِّرُكُمْ مَا مَالَتْ إِلَيْهِ الْأَهْوَاءُ وَالزِّيَغُ الْبَعِيدَةُ) (3).
وَلَمَّا بَايَعَهُ الناس صعد الْمِنْبَرِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: (أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ نَبِيِّكُمْ نَبِيٌّ، وَلَا بَعْدَ كِتَابِكُمْ كِتَابٌ، وَلَا بَعْدَ سُنَّتِكُمْ سُّنَّةٌ وَلَا بَعْدَ أُمَّتِكُمْ أُمَّةٌ، أَلَا وَإِنَّ الْحَلَالَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ حَلَالٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَلَا وَإِنَّ الْحَرَامَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَلَا وَإِنِّي لَسْتُ بِمُبْتَدِعٍ وَلَكِنِّي مُتَّبِعٌ، أَلَا وَإِنِّي لَسْتُ بِقَاضٍ وَلَكِنِّي مُنَفِّذٌ، أَلَا وَإِنِّي لَسْتُ بِخَازِنٍ وَلَكِنِّي أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْتُ، أَلَا وَإِنِّي لَسْتُ بِخَيْرِكُمْ وَلَكِنِّي أَثْقَلُكُمْ حِمْلًا (4)، أَلَا وَلَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ) (5)، ثُمَّ نزل.
وفيه قال عروة بن أذينة (6) من (7) قصيدة (8) يَرْثِيهِ بِهَا:
وَأَحْيَيْتَ فِي الْإِسْلَامِ عِلْمًا وَسُنَّةً
ولم تبتدع حكماً من الحكم أضجما (9)
_________
(1) رواه أبو نعيم في الحلية (4/ 211 ـ 212)، وذكره ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/ 1179).
(2) ساقطة من (خ) و (ط).
(3) انظر: سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم (ص71).
(4) في (ت): "حميلا".
(5) روى هذه الخطبة عنه الإمام ابن سعد في الطبقات (5/ 340)، وابن عبد الحكم في سيرة عمر بن عبد العزيز (40 ـ 41).
(6) هو عروة بن يحيى (ولقبه أذينة) بن مالك بن الحارث الليثي، شاعر غزل مقدم، من أهل المدينة، وهو معدود من الفقهاء والمحدثين أيضاً، ولكن الشعر أغلب عليه. توفي في حدود الثلاثين ومائة.
انظر: ترجمته وشيئاً من شعره في الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني (18/ 322)، فوات الوفيات (2/ 451)، الأعلام (4/ 227).
(7) في (خ) و (ت) و (ط): "عن".
(8) المثبت من (ر)، وفي بقية النسخ: "أذينة".
(9) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "أضجعا". والضجم: العوج. انظر: القاموس (1131). قال الشيخ محمد رشيد رضا في تعليقه على الكتاب: "كذا في الأصل، وهو غلط ظاهر، ولعل أصله أسحما: أي أسود حالك السواد، لأن هذا أقرب الكلم في الصورة من أضجعا، وموافق في المعنى لوصفهم البدعة بالسوداء، والسنة بالبيضاء والغراء" (1/ 87).(1/144)
فَفِي كُلِّ يَوْمٍ كُنْتَ تَهْدِمُ بِدْعَةً
وَتَبْنِي لَنَا مِنْ سُنَّةٍ مَا تَهَدَّمَا (1)
وَمِنْ كَلَامِهِ الَّذِي عُنِيَ بِهِ، وَيَحْفَظُهُ الْعُلَمَاءُ، وَكَانَ يُعْجِبُ مَالِكًا جِدًّا (2)، وَهُوَ أَنْ قَالَ: (سنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوُلَاةُ الْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ سُنَنًا، الْأَخْذُ بِهَا تَصْدِيقٌ لِكِتَابِ اللَّهِ، وَاسْتِكْمَالٌ لِطَاعَةِ اللَّهِ وَقُوَّةٌ عَلَى دِينِ اللَّهِ، لَيْسَ لِأَحَدٍ تَغْيِيرُهَا، وَلَا تَبْدِيلُهَا، وَلَا النظر في شيء خالفها. مَنْ عَمِلَ بِهَا مُهْتَدٍ، وَمَنِ انْتَصَرَ بِهَا مَنْصُورٌ، وَمَنْ خَالَفَهَا اتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَوَلَّاهُ اللَّهُ مَا تَوَلَّى، وَأَصْلَاهُ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) (3).
وَبِحَقٍّ (4) مَا كَانَ (5) يُعْجِبُهُمْ، فَإِنَّهُ كَلَامٌ مُخْتَصَرٌ جَمَعَ أُصُولًا حَسَنَةً مِنَ السُّنَّةِ، مِنْهَا مَا نَحْنُ فِيهِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: (لَيْسَ لِأَحَدٍ تَغْيِيرُهَا، وَلَا تَبْدِيلُهَا، وَلَا النَّظَرُ فِي شَيْءٍ خَالَفَهَا) (6)، قَطْعٌ لِمَادَّةِ الِابْتِدَاعِ جُمْلَةً.
وَقَوْلُهُ: (مَنْ عَمِلَ بِهَا مُهْتَدٍ) إِلَى آخِرِ الْكَلَامِ، مَدْحٌ لِمُتَّبِعِ السُّنَّةِ، وَذَمٌّ لِمَنْ خَالَفَهَا (7) بِالدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا *} (8).
_________
(1) لم أجد هذه الأبيات في ديوانه، كما لم أجد هذه الأبيات فيما اطلعت عليه من تراجمه.
(2) قال القاضي عياض بعد ذكر قول عمر بن عبد العزيز: "وكان مالك إذا حدث بهذا ارتج سروراً". انظر ترتيب المدارك (1/ 172).
(3) رواه الإمام الآجري في الشريعة عن مطرف بن عبد الله يقول: سمعت مالك بن أنس رضي الله عنه إذا ذكر عنده الزائغون في الدين يقول: قال عمر بن عبد العزيز وذكره. انظر الشريعة (ص48، 65، 307)، وأبو نعيم في الحلية ضمن ترجمة مالك (6/ 324)، وعبد الله بن أحمد في السنة (1/ 357)، واللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 94). وابن بطة في الإبانة الكبرى (1/ 352). وذكره ابن كثير في البداية والنهاية من رواية الخطيب البغدادي (9/ 225)، وذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء من قول مالك (8/ 98)، وعزاه إلى عمر بن عبد العزيز أيضاً ابن أبي زيد في الجامع (ص117)، وابن رجب في جماع العلوم والحكم (ص250) والقاضي عياض في ترتيب المدارك (1/ 172).
(4) في هامش (خ): "ولحق".
(5) في (ط): "وكان".
(6) في (ط): "من خالفها".
(7) بعد هذه الكلمة أعاد ناسخ (ت) بعض ما كان كتبه.
(8) سورة النساء: آية (115).(1/145)
ومنها: أن (1) ماسنه وُلَاةُ الْأَمْرِ مِنْ بَعْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ سُّنَّةَ، لَا بِدْعَةَ فِيهِ أَلْبَتَّةَ، وَإِنْ (2) لَمْ يُعْلَمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصٌّ عَلَيْهِ عَلَى الْخُصُوصِ. فَقَدْ جَاءَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَذَلِكَ نَصُّ حَدِيثِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ قَالَ فِيهِ: (فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ (3)، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ (4)، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ) (5).
فَقَرَنَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ كَمَا تَرَى ـ سُنَّةَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ بِسُنَّتِهِ.
وَإِنَّ مِنِ اتِّبَاعِ سُنَّتِهِ اتِّبَاعَ سُنَّتِهِمُ، وَإِنَّ الْمُحْدَثَاتِ خِلَافُ ذَلِكَ لَيْسَتْ مِنْهَا فِي شَيْءٍ، لِأَنَّهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِيمَا سَنُّوهُ، إِمَّا مُتَّبِعُونَ لِسُّنَّةِ نَبِيِّهِمْ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَفْسِهَا، وَإِمَّا مُتَّبِعُونَ لِمَا فَهِمُوا من سنته في الجملة أو (6) في (7) التفصيل، عَلَى وَجْهٍ يَخْفَى عَلَى غَيْرِهِمْ مِثْلُهُ (8)، لَا زَائِدَ عَلَى ذَلِكَ. وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ (9) بِحَوْلِ اللَّهِ.
عَلَى أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْحَاكِمَ (10) نَقَلَ عن يحيى بن آدم (11) في (12) قول
_________
(1) ساقطة من (ط).
(2) ساقطة من (ت):
(3) في (ط): "والمهتدين" بالواو.
(4) الأشهر أنها أقصى الأسنان وتقدم (ص119).
(5) تقدم تخريجه (ص119).
(6) في (ط): "و" بدل "أو".
(7) ساقطة من (م) و (ط).
(8) ساقطة من (ت).
(9) ساقطة من (ت).
(10) هو محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه الحاكم، الإمام الحافظ، شيخ المحدثين، ولد في نيسابور، وطلب الحديث، وسمع من نحو ألفي شيخ، وهو ثقة واسع العلم، بلغت تصانيفه، نحو خمس مئة جزء، وله كتاب المستدرك على الشيخين، وكان فيه تشيع قليل. توفي سنة خمس وأربعمائة.
انظر: سير أعلام النبلاء (17/ 162)، البداية والنهاية (11/ 355)، شذرات الذهب (3/ 176).
(11) هو يحيى بن آدم بن سليمان الأموي، مولاهم، الكوفي، أبو زكريا، أحد الأعلام، ثقة حافظ فاضل، روى عنه أحمد وإسحاق وغيرهم، توفي سنة ثلاث ومائتين.
انظر: طبقات ابن سعد (6/ 402)، الكاشف (3/ 218)، سير أعلام النبلاء (9/ 522)، التقريب (2/ 341).
(12) ساقطة من (ط).(1/146)
السَّلَفِ الصَّالِحِ: (سُنَّةَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ (1) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا) أَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ: أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاتَ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ السُّنَّةِ، وَأَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ مَعَ (قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى) (2) قول أحد (3).
وما قاله (4) صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ، فَهُوَ مِمَّا يَحْتَمِلُهُ حَدِيثُ الْعِرْبَاضِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَلَا زَائِدَ إِذًا عَلَى مَا ثَبَتَ فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ يُخَافُ أَنْ تَكُونَ مَنْسُوخَةً بِسُنَّةٍ أُخْرَى، فَافْتَقَرَ الْعُلَمَاءُ إِلَى النَّظَرِ فِي عَمَلِ الْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ (5)، لِيَعْلَمُوا أَنَّ ذَلِكَ هُوَ (6) الَّذِي مَاتَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ نَاسِخٌ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَأْخُذُونَ (7) بِالْأَحْدَثِ فَالْأَحْدَثِ (8) مِنْ أَمْرِهِ.
وَعَلَى هذا المعنى عوّل (9) مالك بن أنس رضي الله عنه فِي احْتِجَاجِهِ بِالْعَمَلِ، وَرُجُوعِهِ إِلَيْهِ عِنْدَ تَعَارُضِ السُّنَنِ (10).
وَمِنَ الْأُصُولِ (11) الْمُضَمَّنَةِ (12) فِي أَثَرِ عُمَرَ بن عبد العزيز أن سنة ولاة
_________
(1) ساقطة من (غ)
(2) ما بين المعكوفين ساقط من (ت).
(3) انظر: معرفة علوم الحديث للحاكم (ص84 ـ 85)، والمدخل للبيهقي (29)، والفقيه والمتفقه للخطيب (2228).
(4) في (خ) و (ط): "قال".
(5) وقع حرف العين من الكلمة في البياض في نسخة (ت).
(6) مطموسة في (ت).
(7) مطموسة في (ت).
(8) ساقطة من (غ).
(9) غير واضحة في (م)، وفي (خ)، و (ت): "عن".
(10) يريد به عمل أهل المدينة، وهو من أصول الإمام مالك التي كان يعتمد عليها، وهو مقدم عنده على خبر الواحد، وذلك في القضايا التي طريقها النقل كمسألة الأذان، وترك الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، ومسألة الصاع، وترك إخراج الزكاة من الخضروات، وغير ذلك من المسائل التي طريقها النقل، واتصل العمل بها في المدينة على وجه لا يخفى مثله، ونقل نقلاً يحج ويقطع العذر.
انظر: إحكام الفصول في أحكام الأصول لأبي الوليد الباجي (ص480 ـ 481)، وانظر المسألة في روضة الناظر لابن قدامة (1/ 298 ـ 300)، الإحكام في أصول الأحكام للآمدى (1/ 302 ـ 305).
(11) في (خ): "الأحوال".
(12) في (ت): "المتضمنة".(1/147)
الْأَمْرِ (1) وَعَمَلَهُمْ تَفْسِيرٌ لِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ (2) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِهِ: "الْأَخْذُ بِهَا تَصْدِيقٌ لِكِتَابِ اللَّهِ (3)، وَاسْتِكْمَالٌ لِطَاعَةِ اللَّهِ، وَقُوَّةٌ عَلَى دِينِ اللَّهِ". وَهُوَ أَصْلٌ مُقَرَّرٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ (4).
فَقَدْ جَمَعَ كَلَامُ عُمَرَ (5) رَحِمَهُ اللَّهُ أُصُولًا حَسَنَةً وَفَوَائِدَ مُهِمَّةً.
وَمِمَّا يعزى لأبي العباس (6) الإبياني (7): (ثَلَاثٌ لَوْ كُتِبْنَ فِي ظُفُرٍ لَوَسِعَهُنَّ، وَفِيهِنَّ خَيْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ: اتَّبِعْ لَا (8) تَبْتَدِعْ، اتَّضِعْ لا ترتفع، من (9) ورع لا يتسع) (10).
والآثار هنا كثيرة.
_________
(1) المراد بولاة الأمر الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم.
(2) في (ت): "رسول الله".
(3) في (غ): "تصديق لكتاب الله وسنة رسول الله" والزيادة لم تذكر في قوله آنفاً.
(4) وقد قرره المؤلف في كتابه الموافقات (4/ 74 ـ 80).
(5) في (ط): "عمر بن عبد العزيز".
(6) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "إلياس". والصواب المثبت".
(7) في (ط): "الألباني"، والصواب المثبت".
وهو أبو العباس عبد الله بن أحمد بن إبراهيم التونسي الإبياني، كان عالم أفريقية، وحافظ مذهب مالك، ويميل إلى مذهب الشافعي، ثقة، مأمون، توفي سنة 352هـ.
انظر: الديباج المذهب لابن فرحون (1/ 425)، ترتيب المدارك (3/ 347).
(8) في (ت): "ولا".
(9) في (ت): "ومن".
(10) عزاه إليه الإمام القرافي في الفروق (4/ 205).(1/148)
فصل
الْوَجْهُ الرَّابِعُ مِنَ النَّقْلِ مَا جَاءَ فِي ذَمِّ الْبِدَعِ وَأَهْلِهَا عَنِ الصُّوفِيَّةِ الْمَشْهُورِينَ عِنْدَ النَّاسِ (1).
وَإِنَّمَا خَصَصْنَا هَذَا الْمَوْضِعَ بِالذِّكْرِ ـ وَإِنْ كَانَ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَ النَّقْلِ كِفَايَةٌ ـ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْجُهَّالِ يَعْتَقِدُونَ فِيهِمْ أَنَّهُمْ مُتَسَاهِلُونَ فِي الِاتِّبَاعِ، وَأَنَّ اخْتِرَاعَ الْعِبَادَاتِ، وَالْتِزَامَ مَا لَمْ يَأْتِ فِي الشَّرْعِ الْتِزَامُهُ، مِمَّا يَقُولُونَ بِهِ وَيَعْمَلُونَ عَلَيْهِ، وَحَاشَاهُمْ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَعْتَقِدُوهُ أَوْ يَقُولُوا بِهِ، فَأَوَّلُ شَيْءٍ بَنَوْا عَلَيْهِ طَرِيقَتَهُمْ اتِّبَاعُ السُّنَّةِ وَاجْتِنَابُ مَا خَالَفَهَا، حَتَّى زَعَمَ مُذَكِّرُهُمْ، وَحَافِظُ مَأْخَذِهِمْ، وَعَمُودُ (2) نِحْلَتِهِمْ، أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ (3) أَنَّهُمْ إِنَّمَا اخْتُصُّوا بِاسْمِ التَّصَوُّفِ انْفِرَادًا بِهِ عَنْ أَهْلِ الْبِدَعِ، فَذَكَرَ (أَنَّ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم
_________
(1) يريد المؤلف بالصوفية هنا أوائلهم الذين اشتهروا بالعبادة والزهد كالفضيل بن عياض وإبراهيم بن أدهم ونحوهم. وسيذكر المؤلف عما قريب فساد طريقة الصوفية المتأخرين، وبعدها عن شريعة نبينا صلّى الله عليه وسلّم.
(2) في (غ): "عميد".
(3) هو أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك بن طلحة القشيري، الصوفي صاحب الرسالة، سمع الحديث، وتفقه، وتقدم في الأصول والفروع، وكان عديم النظير في السلوك والتذكير، وله كتاب الرسالة القشيرية في التصوف، وكتاب (نحو القلوب)، وكتاب الجواهر .. وغيرها. ولشيخ الإسلام ابن تيمية ملاحظات على رسالته، كما في الاستقامة لشيخ الإسلام ابن تيمية. وقد توفي رحمه الله سنة خمس وستين وأربعمائة.
انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي (18/ 227)، البداية والنهاية لابن كثير (12/ 107)، شذرات الذهب لابن العماد (3/ 319)، وفيات الأعيان (3/ 205).(1/149)
لَمْ يَتَّسِمْ (1) أَفَاضِلُهُمْ (2) فِي عَصْرِهِمْ بَاسِمِ عَلَمٍ (3) سوى الصحبة، إذ لافضيلة فَوْقَهَا، ثُمَّ سُمي (4) مَنْ يَلِيهِمُ التَّابِعِينَ وَرَأَوْا هَذَا الِاسْمَ أَشْرَفَ الْأَسْمَاءِ، ثُمَّ قِيلَ لِمَنْ بَعْدَهُمْ أَتْبَاعُ التَّابِعِينَ، ثُمَّ اخْتَلَفَ النَّاسُ وَتَبَايَنَتِ الْمَرَاتِبُ، فَقِيلَ لِخَوَاصِّ النَّاسِ مِمَّنْ لَهُ شِدَّةُ عناية بأمر الدِّينِ (5): الزُّهَّادُ وَالْعُبَّادُ.
قَالَ: ثُمَّ ظَهَرَتِ الْبِدَعُ، وَادَّعَى (6) كُلُّ فَرِيقٍ أَنَّ فِيهِمْ زُهَّادًا وَعُبَّادًا، فانفرد خواص (7) أهل السنة، المراعون أنفاسهم (8) مَعَ اللَّهِ، الْحَافِظُونَ قُلُوبَهُمْ عَنِ الْغَفْلَةِ بِاسْمِ التَّصَوُّفِ (9).
هَذَا مَعْنَى كَلَامِهِ، فَقَدْ عَدَّ هَذَا اللقب (10) لهم مَخْصُوصًا بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَمُبَايَنَةِ الْبِدْعَةِ. وَفِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ مَا يَعْتَقِدُهُ الْجُهَّالُ وَمَنْ لَا عِبْرَةَ بِهِ مِنَ الْمُدَّعِينَ لِلْعِلْمِ.
وَفِي غَرَضِي إِنْ فَسَحَ اللَّهُ فِي الْمُدَّةِ، وَأَعَانَنِي بِفَضْلِهِ، وَيَسَّرَ لِيَ الْأَسْبَابَ أَنْ أُلَخِّصَ في طريق الْقَوْمِ أُنْمُوذَجًا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى صِحَّتِهَا وَجَرَيَانِهَا
_________
(1) في (خ): "يتهم".
(2) في (ت): "فاضلهم".
(3) في (خ): "عمهم".
(4) في (ت): "سموا".
(5) في جميع النسخ "من الدين" عدا (غ) و (ر) والمثبت هو الصواب الموافق لما في الرسالة للقشيري.
(6) في (ت): "فادعى".
(7) ساقطة من (ت).
(8) في جميع النسخ "أنفسهم" عدا (غ) و (ر)، والمثبت هو الصواب الموافق لما في الرسالة للقشيري.
(9) انظر: قوله في الرسالة القشيرية (ص9)، وكلامه هنا غير مسلم، فإن الصوفية ليسوا هم أهل السنة، دعك من قوله خواص أهل السنة، بل إن فيهم مبتدعة ضلال، خارجون عن السنة وأهلها، كابن عربي الضال، وهم مع ذلك فيهم من هو من أهل السنة، ومن أهل الفضل والعبادة، سيما المتقدمون من شيوخهم كالفضيل بن عياض وغيره، وما وقع لأئمة الصوفية من الفضل والصلاح، فإنما هو بسبب اتباع السنة، والتزام أحكام الشريعة، وتقوى الله، لا بسبب التصوف وسوف ينقل المؤلف عن جملة منهم الحث على اتباع السنة، والتزام الشريعة، ليستدل بذلك على من ضل منهم.
(10) ساقطة من (ط).(1/150)
عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمُثْلَى (1)، وَأَنَّهُ إِنَّمَا دَاخَلَتْهَا الْمَفَاسِدُ (2)، وَتَطَرَّقَتْ إِلَيْهَا الْبِدَعُ مِنْ جِهَةِ قَوْمٍ تَأَخَّرَتْ أَزْمَانُهُمْ عَنْ عَهْدِ ذَلِكَ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَادَّعَوُا الدُّخُولَ فِيهَا مِنْ غَيْرِ سُلُوكٍ شَرْعِيٍّ، وَلَا فَهْمٍ لِمَقَاصِدِ أَهْلِهَا، وَتَقَوَّلُوا عَلَيْهِمْ مَا لَمْ يَقُولُوا بِهِ، حَتَّى صَارَتْ فِي هَذَا الزَّمَانِ الْأَخِيرِ كَأَنَّهَا شَرِيعَةٌ أُخْرَى غَيْرَ مَا أَتَى بِهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (3).
وَأَعْظَمُ (4) ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَتَسَاهَلُونَ فِي اتِّبَاعِ السُّنَّةِ، وَيَرَوْنَ اخْتِرَاعَ الْعِبَادَاتِ طَرِيقًا لِلتَّعَبُّدِ صَحِيحًا. وَطَرِيقَةُ الْقَوْمِ بَرِيئَةٌ مِنْ هَذَا الْخِبَاطِ بِحَمْدِ اللَّهِ.
فَقَدَ قَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ (5): (مَنْ جَلَسَ مَعَ صاحب بدعة لم يعط الحكمة) (6).
وقيل لإبراهيم بْنِ أَدْهَمَ (7): إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (8) ونحن ندعوه منذ دهر فلا يستجب لَنَا! فَقَالَ: مَاتَتْ قُلُوبُكُمْ فِي عَشَرَةِ أَشْيَاءَ: أولها: عرفتم الله ولم (9) تُؤَدُّوا حَقَّهُ. وَالثَّانِي: قَرَأْتُمْ كِتَابَ اللَّهِ وَلَمْ تَعْمَلُوا بِهِ. وَالثَّالِثُ: ادَّعَيْتُمْ حُبَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَرَكْتُمْ سُنَّتَهُ. وَالرَّابِعُ:
_________
(1) ذكر المؤلف أيضاً أنه يريد التأليف في هذا الموضوع في نهاية الباب الثالث (ص401)، ولا أعلم أن المؤلف قد ألف كتاباً مستقلاً في هذا الموضوع.
(2) في (ر): "دخلتها".
(3) ساقطة من (غ).
(4) وهذا هو الحال حتى في زماننا والله المستعان.
(5) في (م) و (ط): "وأعظم من ذلك".
(6) تقدمت ترجمته (ص146).
(7) رواه الإمام ابن بطة عنه في الإبانة الكبرى (2/ 460)، وأبو نعيم في الحلية ضمن كلام طويل في النهي عن مخالطة أهل البدع (10/ 103)، وأبو عبد الرحمن السلمي في طبقات الصوفية (ص10).
(8) هو إبراهيم بن أدهم بن منصور بن يزيد بن جابر العجلي، وقيل التميمي، إمام زاهد، قدوة، نزل الشام، وحدث عن محمد بن زياد الجمحي صاحب أبي هريرة وابن عجلان، وحدث عنه سفيان الثوري وجماعة، وقد وثقه الدارقطني والنسائي، كان من أبناء الملوك والمياسير، فآثر الآخرة، وأقبل على الزهد والورع. توفي سنة اثنتين وستين ومائة.
انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي (7/ 387)، طبقات الصوفية للسلمي (ص27)، حلية الأولياء (7/ 367)، طبقات الشعراني (1/ 81)، الرسالة للقشيري (ص9).
(9) سورة غافر: آية (60).
(10) في (ط): "وهامش" (خ): "فلم".(1/151)
ادَّعَيْتُمْ عَدَاوَةَ الشَّيْطَانِ وَوَافَقْتُمُوهُ. وَالْخَامِسُ: قُلْتُمْ نُحِبُّ الْجَنَّةَ وَمَا تَعْمَلُونَ لَهَا (1) إِلَى آخِرِ الْحِكَايَةِ.
وقال ذو النون المصري (2): (من علامات (3) المحب (4) لله مُتَابَعَةُ حَبِيبِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أخلاقه وأفعاله وأوامره (5) وسننه (6)) (7).
وَقَالَ: إِنَّمَا دَخَلَ الْفَسَادُ عَلَى الْخَلْقِ مِنْ سِتَّةِ أَشْيَاءَ: الْأَوَّلُ: ضَعْفُ النِّيَّةِ بِعَمَلِ الْآخِرَةِ. والثاني: صارت: أبدانهم رهينة (8) لِشَهَوَاتِهِمْ. وَالثَّالِثُ غَلَبَهُمْ طُولُ الْأَمَلِ مَعَ قِصَرِ الأجل. والرابع: آثروا رضى (9) المخلوقين على رضى اللَّهِ. وَالْخَامِسُ: اتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ، وَنَبَذُوا سُنَّةَ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالسَّادِسُ: جَعَلُوا زَلَّاتِ السَّلَفِ حُجَّةً لِأَنْفُسِهِمْ، وَدَفَنُوا أَكْثَرَ مَنَاقِبِهِمْ) (10).
وَقَالَ لِرَجُلٍ أَوْصَاهُ: "لِيَكُنْ آثَرَ الْأَشْيَاءِ عِنْدَكَ وَأَحَبَّهَا إِلَيْكَ إِحْكَامُ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكَ، وَاتِّقَاءُ مانهاك عنه، فإن ما تعبدك (11) اللَّهَ بِهِ خَيْرٌ لَكَ مِمَّا تَخْتَارُهُ لِنَفْسِكَ من أعمال البر التي لم (12) تَجِبُ عَلَيْكَ، وَأَنْتَ تَرَى أَنَّهَا أَبْلَغُ لَكَ فِيمَا تُرِيدُ، كَالَّذِي يُؤَدِّبُ نَفْسَهُ بِالْفَقْرِ وَالتَّقَلُّلِ وما أشبه ذلك، وإنما
_________
(1) رواه بتمامه أبو نعيم في الحلية (8/ 15 ـ 16).
(2) هو ذو النون بن إبراهيم المصري، أبو الفيض، ويقال: ثوبان بن إبراهيم، وذو النون لقب. كان واعظاً زاهداً، روى عن مالك والليث وطائفة، قال الدارقطني روى عن مالك أحاديث فيها نظر. توفي سنة خمس وأربعين ومائتين.
انظر: سير أعلام النبلاء (11/ 532)، طبقات الصوفية للسلمي (ص15)، الحلية لأبي نعيم (9/ 331)، صفة الصفوة لابن الجوزي (4/ 315)، الرسالة القشيرية لأبي القاسم القشيري (ص10).
(3) في (م) و (ط): "علامة".
(4) في (ط): "حب الله".
(5) في (ط): "وأمره".
(6) في (ط): "وسنته".
(7) رواه عنه أبو عبد الرحمن السلمي في طبقات الصوفية (ص21)، وأبو القاسم القشيري في الرسالة القشيرية (ص11).
(8) غير واضحة في (م) و (خ) و (ت) و (ط) "مهيئة"، والمثبت ما في (غ): "وهو الصواب".
(9) كتبت في (ط) بالألف الممدودة هكذا "رضاء".
(10) لم أجده.
(11) في (م): "تعبد".
(12) ساقطة من (ط).(1/152)
لِلْعَبْدِ أَنْ يُرَاعِيَ أَبَدًا مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ فَرْضٍ يُحْكِمُهُ عَلَى تَمَامِ حُدُودِهِ، وَيَنْظُرُ إِلَى مَا نُهِيَ عَنْهُ فَيَتَّقِيهِ عَلَى إِحْكَامِ مَا يَنْبَغِي، فَإِنَّ الَّذِي قَطَعَ الْعِبَادَ عَنْ رَبِّهِمْ، وَقَطَعَهُمْ عَنْ أَنْ يَذُوقُوا حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ، وَأَنْ يَبْلُغُوا حَقَائِقَ الصِّدْقِ، وَحَجَبَ قُلُوبَهُمْ عَنِ النَّظَرِ إِلَى الْآخِرَةِ، تَهَاوُنُهُمْ بِأَحْكَامِ مَا فُرِضَ عَلَيْهِمْ فِي قُلُوبِهِمْ وَأَسْمَاعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلِهِمْ وَبُطُونِهِمْ وَفُرُوجِهِمْ. وَلَوْ وَقَفُوا عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَأَحْكَمُوهَا لَأُدْخِلَ عَلَيْهِمُ الْبِرُّ إِدْخَالًا تَعْجَزُ أبدانهم وقلوبهم عن حمل ما ورثهم (1) اللَّهُ مِنْ حُسْنِ مَعُونَتِهِ، وَفَوَائِدِ كَرَامَتِهِ، وَلَكِنَّ أكثر القراء والنساك حقروا محقرات الذنوب، وتهاونوا بِالْقَلِيلِ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعُيُوبِ، فَحُرِمُوا لذة ثواب (2) الصَّادِقِينَ فِي الْعَاجِلِ) (3).
وَقَالَ بِشْرٌ الْحَافِي (4): (رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ فقال لي يابشر، تدري (5) لم رفعك الله (6) من (7) بَيْنَ أَقْرَانِكَ؟) قُلْتُ: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قال: (لا تباعك لسنتي (8)، وَحُرْمَتِكَ (9) لِلصَّالِحِينَ (10)، وَنَصِيحَتِكَ لِإِخْوَانِكَ، وَمَحَبَّتِكَ لِأَصْحَابِي وَأَهْلِ بيتي، هو الذي بلغك منازل الأبرار) (11).
_________
(1) في (ط): "رزقهم".
(2) في (م) و (خ) و (ط) و (ع): "ثواب لذة الصادقين".
(3) لم أجده.
(4) هو بشر بن الحارث بن عبد الرحمن بن عطاء المروزي البغدادي، المشهور بالحافي ولد سنة 152هـ، وارتحل في العلم وأخذ عن مالك وشريك وحماد بن زيد، وكان رأساً في الورع والإخلاص، مات رحمه الله سنة 227هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء (10/ 469)، حلية الأولياء (8/ 336)، طبقات الصوفية (ص39)، الرسالة القشيرية (ص14).
(5) هكذا في جميع النسخ عدا (ت) فإنها بالهمزة هكذا "أتدري"، وفي القشيرية "تدري" بدون همزة.
(6) لم يكتب لفظ الجلالة في (م) و (غ) وكتب في (خ) "فوق السطر".
(7) ساقطة من (ط).
(8) في (ط): "سنتي".
(9) في الرسالة القشيرية: "وخدمتك".
(10) في (م) و (غ): "الصالحين".
(11) رواه عنه أبو القاسم القشيري في الرسالة القشيرية (ص14).(1/153)
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ (1) الرَّازِيُّ (2): (اخْتِلَافُ النَّاسِ كُلِّهِمْ يَرْجِعُ إِلَى ثَلَاثَةِ أُصُولٍ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا ضِدٌّ، فَمَنْ سَقَطَ عَنْهُ وَقَعَ فِي ضِدِّهِ: التَّوْحِيدُ وَضِدُّهُ الشِّرْكُ، وَالسُّنَّةُ وَضِدُّهَا الْبِدْعَةُ، والطاعة وضدها المعصية) (3).
وقال أبو بكر الزقاق (4) وَكَانَ مِنْ أَقْرَانِ الْجُنَيْدِ: (كُنْتُ (5) مَارًّا فِي (6) تِيهِ (7) بَنِي إِسْرَائِيلَ فَخَطَرَ بِبَالِي أَنَّ عِلْمَ الْحَقِيقَةِ مُبَايِنٌ لِعِلْمِ الشَّرِيعَةِ، فَهَتَفَ بِي هَاتِفٌ: كل حقيقة لاتتبعها الشَّرِيعَةُ فَهِيَ كُفْرٌ) (8).
وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَوْزَجَانِيُّ (9): (مِنْ عَلَامَاتِ السَّعَادَةِ (10) عَلَى الْعَبْدِ تَيْسِيرُ الطَّاعَةِ عَلَيْهِ، وَمُوَافَقَةُ السُّنَّةِ فِي أَفْعَالِهِ، وَصُحْبَتُهُ لِأَهْلِ الصَّلَاحِ، وَحُسْنُ أَخْلَاقِهِ مَعَ الْإِخْوَانِ، وَبَذْلُ مَعْرُوفِهِ لِلْخَلْقِ، وَاهْتِمَامُهُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَمُرَاعَاتُهُ لأوقاته) (11).
_________
(1) في (م): "معاذ بن يحيى" وهو خطأ.
(2) هو يحيى بن معاذ بن جعفر الرازي، الواعظ، له كلام جيد ومواعظ مشهورة، خرج إلى بلخ وأقام بها مدة، ثم رجع إلى نيسابور، ومات بها سنة ثمان وخمسين ومائتين.
انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي (13/ 15)، طبقات الصوفية للسلمي (ص107)، حلية الأولياء لأبي نعيم (1/ 51)، الرسالة القشيرية (ص21).
(3) لم أجده.
(4) في (ط): "الدقاق" وهو خطأ، وهو أبو بكر أحمد بن نصر الزقاق، كان من أقران الجنيد، ومن أكابر أهل مصر. انظر أقواله في الرسالة القشيرية (ص27)، وذكره ابن الأثير في اللباب (1/ 505).
(5) مطموسة في (ت).
(6) غير واضحة في (ت).
هو الموضع الذي ضل فيه موسى عليه السلام وبنو إسرائيل. أرض بين أيلة ومصر وبحر القلزم وجبال السراة من أرض الشام.
انظر: معجم البلدان لياقوت الحموي (2/ 446)، مراصد الاطلاع للبغدادي (1/ 288).
(7) الحلية لأبي نعيم (10/ 344)، والرسالة للقشيري (21).
(8) هو أبو علي الحسن بن علي الجوزجاني، من كبار مشايخ خراسان، له التصانيف المشهورة. تكلم في علوم الآفاق والرياضات والمجاهدات، وربما تكلم أيضاً في شيء من علوم المعارف والحكم، صحب محمد بن علي الترمذي ومحمد بن الفضل وهو قريب السن منهم.
انظر: طبقات الصوفية للسلمي (ص246)، حلية الأولياء لأبي نعيم (10/ 350).
(9) في (غ) و (ر): "المساعدة".
(10) رواه عنه أبو عبد الرحمن السلمي في طبقات الصوفية (ص247).(1/154)
وَسُئِلَ كَيْفَ الطَّرِيقُ إِلَى اللَّهِ؟ فَقَالَ: (الطُّرُقُ إِلَى اللَّهِ كَثِيرَةٌ (1)، وَأَوْضَحُ (2) الطُّرُقِ، وَأَبْعَدُهَا عَنِ الشُّبَهِ اتِّبَاعُ السُّنَّةِ قَوْلًا وَفِعْلًا وَعَزْمًا وَعَقْدًا وَنِيَّةً، لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} (3)) فَقِيلَ لَهُ (4): كَيْفَ الطَّرِيقُ إِلَى السُّنَّةِ؟ فَقَالَ: (مُجَانَبَةُ الْبِدَعِ، وَاتِّبَاعُ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ، وَالتَّبَاعُدُ عَنْ مَجَالِسِ الْكَلَامِ وَأَهْلِهِ، وَلُزُومُ طَرِيقَةِ الِاقْتِدَاءِ، وَبِذَلِكَ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} (5)) (6).
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ التِّرْمِذِيُّ (7): (لَمْ يَجِدْ أَحَدٌ تَمَامَ الْهِمَّةِ بِأَوْصَافِهَا إِلَّا أَهْلُ الْمَحَبَّةِ، وَإِنَّمَا أخذوا في ذلك من اتباع (8) السُّنَّةِ وَمُجَانَبَةِ الْبِدْعَةِ، فَإِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم كان أعلى الخلق (9) همة، وأقربهم زلفى (10)) (11).
وقال أبو الحسين (12) الْوَرَّاقُ (13): (لَا يَصِلُ الْعَبْدُ إِلَى اللَّهِ إِلَّا بالله،
_________
(1) الطريق إلى الله واحد، وهو طريق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما كان عليه أصحابه رضي الله عنهم، وقد سبق أن تكلم المؤلف عن هذا المعنى عند ذكره لقول الله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}. انظر (ص83).
(2) في طبقات الصوفية: "وأصح الطرق".
(3) سورة النور: آية (54).
(4) ساقطة من (م) و (غ) و (ر).
(5) سورة النحل: آية (123).
(6) طبقات الصوفية للسلمي (ص247).
(7) هو محمد بن حامد بن محمد الترمذي، وكنيته أبو بكر، من أعيان مشايخ خراسان، وله أصحاب ينتمون إليه.
انظر عنه طبقات الصوفية للسلمي (ص280)، طبقات الشعراني (1/ 86).
(8) في (ط): "باتباع"، وكذلك هي في هامش (خ).
(9) في (ط): "أعلى الخلق كلهم".
(10) في (م) و (غ): "زلفه"، والمعنى واحد.
(11) انظر طبقات الصوفية للسلمي (ص282).
(12) في (ط): "الحسن".
(13) كتب في هامش (خ) و (ت): "الداراني".
وهو أبو الحسين محمد بن سعد الوراق النيسابوري، من كبار مشايخ نيسابور، ومن قدماء أصحاب أبي عثمان، وكان عالماً بعلوم الظاهر، ويتكلم في دقائق علوم المعاملات وعيوب الأفعال، مات قبل العشرين وثلاثمائة.
انظر: طبقات الصوفية للسلمي (ص299)، طبقات الشعراني (1/ 87).(1/155)
وَبِمُوَافَقَةِ حَبِيبِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَرَائِعِهِ وَمَنْ جَعَلَ الطَّرِيقَ إِلَى الْوُصُولِ فِي غير الاقتداء يضل من حيث يظن (1) أنه مهتدي (2)) (3).
وَقَالَ: "الصِّدْقُ اسْتِقَامَةُ الطَّرِيقِ فِي الدِّينِ، وَاتِّبَاعُ السُّنَّةِ فِي الشَّرْعِ" (4).
وَقَالَ: (عَلَامَةُ مَحَبَّةِ اللَّهِ مُتَابَعَةُ حَبِيبِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) (5).
وَمِثْلُهُ عن إبراهيم القصار (6) قَالَ: (عَلَامَةُ مَحَبَّةِ اللَّهِ إِيثَارُ طَاعَتِهِ، وَمُتَابَعَةُ نبيه) (7).
وقال أبو (على) (8) مُحَمَّدِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ (9) الثَّقَفِيُّ (10): (لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنَ الْأَعْمَالِ إِلَّا مَا كَانَ صَوَابًا، وَمِنْ صَوَابِهَا إِلَّا مَا كَانَ خَالِصًا، وَمِنْ خالصها إلا ما وافق السنة" (11).
_________
(1) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط).
(2) في (ط): "مهتد" بدون الياء، وكذلك اللفظ في طبقات الصوفية.
(3) انظر طبقات الصوفية (ص299)، وعبارة المؤلف مختصرة.
(4) انظر طبقات الصوفية للسلمي (ص300).
(5) نفس الموضع السابق.
(6) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "القمار"، والصواب المثبت، وهو إبراهيم بن داود الرقي، أبو إسحاق، من أقران الجنيد وابن الجلاء إلا أنه عمر. توفي سنة ست وعشرين وثلاثمائة.
انظر: طبقات الصوفية للسلمي (ص319)، الحلية لأبي نعيم (10/ 354)، صفة الصفوة لابن الجوزي (4/ 197).
(7) ذكره عنه أبو عبد الرحمن السلمي في طبقات الصوفية (ص321).
(8) ساقطة من جميع النسخ، وأثبتها من مصادر ترجمته.
(9) في (ت): "عبد الله".
(10) هو أبو علي محمد بن عبد الوهاب الثقفي. لقي أبا حفص وحمدون القصار، كان إماماً في أكثر علوم الشرع. عطل أكثر علومه واشتغل بعلم الصوفية، وكان أحسن المشايخ كلاماً في عيوب النفس وآفات الأعمال. مات سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة.
انظر: طبقات الصوفية (ص361)، الرسالة القشيرية (ص34)، طبقات الشعراني (1/ 91 ـ 92).
(11) روى هذا القول عنه أبو عبد الرحمن السلمي في طبقات الصوفية (ص363)، والعمل الصواب هو ما وافق السنة، فلا حاجة للعبارة الأخيرة.(1/156)
وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ شَيْبَانَ الْقِرْمِيسِينِيُّ (1) صَحِبَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْمَغْرِبِيَّ (2) وَإِبْرَاهِيمَ الْخَوَاصَّ (3)، وَكَانَ شَدِيدًا عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ، مُتَمَسِّكًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، لَازِمًا لِطَرِيقِ الْمَشَايِخِ وَالْأَئِمَّةِ، حَتَّى قَالَ فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنَازِلٍ (4): "إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَيْبَانَ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَأَهْلِ الْآدَابِ وَالْمُعَامَلَاتِ) (5).
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ سَعْدَانَ (6)، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ الْجُنَيْدِ (7) وغيره:
_________
(1) في (م) و (خ): "القرمسيني" بدون الياء الأولى. قال عنه أبو عبد الرحمن السلمي: وهو أبو إسحاق القرميسيني ... له مقامات في الورع والتقوى يعجز عنها الخلق إلا مثله. ثم ذكر ما ذكره المؤلف عنه.
انظر: طبقات الصوفية للسلمي (ص402)، حلية الأولياء لأبي نعيم (10/ 361)، الرسالة القشيرية لأبي القاسم القشيري (ص36)، السير (15/ 392).
(2) هو أبو عبد الله محمد بن إسماعيل المغربي، كان أستاذ إبراهيم الخواص وإبراهيم ابن شيبان، عاش كما قيل مائة وعشرين سنة، ومات على جبل طور سيناء سنة تسع وسبعين ومائتين وقيل تسع وتسعين.
انظر: طبقات الصوفية للسلمي (ص242)، حلية الأولياء لأبي نعيم (10/ 335)، البداية والنهاية لابن كثير (11/ 125)، صفة الصفوة لابن الجوزي (4/ 336)، القشيرية (ص30).
(3) هو أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد الخواص، أصله من سر من رأى، لكنه أقام بالري، كان من أقران الجنيد والنوري، له في السياحات والرياضات مقامات يطول شرحها. مات في جامع الري سنة إحدى وتسعين ومائتين.
انظر: طبقات الصوفية للسلمي (ص284)، حلية الأولياء (10/ 325)، صفة الصفوة لابن الجوزي (4/ 98)، الرسالة القشيرية (ص31).
(4) هو عبد الله بن محمد بن منازل، من أجل مشايخ نيسابور، صحب حمدون القصار وأخذ عنه طريقته، كتب الحديث الكثير ورواه. مات بنيسابور سنة تسع وعشرين وثلاثمائة.
انظر: طبقات الصوفية للسلمي (ص366)، الرسالة القشيرية (ص34)، طبقات الشعراني (1/ 92).
(5) هذا النص نقله المؤلف عن طبقات الصوفية لأبي عبد الرحمن السلمي (ص402)، وذكره الإمام الذهبي في السير (15/ 392).
(6) هو أبو بكر أحمد بن محمد بن أبي سعدان، بغدادي من أصحاب الجنيد والنوري وهو أعلم مشايخ الوقت بعلوم هذه الطائفة. وكان عالماً بعلوم الشرع مقدماً فيه. ينتحل مذهب الشافعي، وكان ذا لسان وبيان.
انظر ترجمته في: طبقات الصوفية للسلمي (ص420)، حلية الأولياء لأبي نعيم (10/ 377)، طبقات الشعراني (1/ 100).
(7) هو أبو القاسم الجنيد بن محمد بن الجنيد النهاوندي. شيخ الصوفية. ولد سنة نيف=(1/157)
(الِاعْتِصَامُ بِاللَّهِ هُوَ الِامْتِنَاعُ مِنَ الْغَفْلَةِ وَالْمَعَاصِي وَالْبِدَعِ وَالضَّلَالَاتِ) (1).
وَقَالَ أَبُو عُمَرَ الزَّجَّاجِيُّ (2) وَهُوَ من أصحاب الجنيد و (النوري) (3) وَغَيْرِهِمَا: (كَانَ النَّاسُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَتَّبِعُونَ مَا تَسْتَحْسِنُهُ عُقُولُهُمْ وَطَبَائِعُهُمْ، فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَدَّهُمْ إِلَى الشَّرِيعَةِ وَالِاتِّبَاعِ، فَالْعَقْلُ الصَّحِيحُ الَّذِي يَسْتَحْسِنُ مَا يَسْتَحْسِنُهُ الشَّرْعُ، وَيَسْتَقْبِحُ ما يستقبحه) (4).
وقيل لإسماعيل بن (نجيد) (5) السُّلَمِيِّ (6) جَدِّ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ (7) ـ وَلَقِيَ الْجُنَيْدَ وَغَيْرَهُ ـ: مَا الَّذِي لَا بُدَّ لِلْعَبْدِ منه؟ فقال: (ملازمة
_________
=وعشرين ومائتين، وتفقه على أبي ثور، وسمع من السري السقطي وصحبه وصحب أيضاً الحارث المحاسبي، وأتقن العلم، ثم أقبل على شأنه، وتأله وتعبد ونطق بالحكمة، وقلما روى. توفي سنة سبع وتسعين ومائتين.
انظر: سير أعلام النبلاء (14/ 66)، حلية الأولياء (10/ 255)، طبقات الصوفية (ص155)، صفة الصفوة (2/ 416)، الرسالة القشيرية (ص24).
(1) انظر طبقات الصوفية للسلمي (ص422).
(2) هو أبو عمرو محمد بن إبراهيم بن يوسف بن محمد الزجاجي، نيسابوري الأصل صحب أبا عثمان والجنيد والنوري، دخل مكة وأقام بها وصار شيخها، والمنظور إليه فيها، حج قريباً من ستين حجة. توفي بمكة سنة ثمان وأربعين ومائة.
انظر: طبقات الصوفية للسلمي (ص431)، حلية الأولياء لأبي نعيم (10/ 376)، الرسالة القشيرية (ص36).
(3) في (خ) و (ت) و (م) و (ط): "الثوري"، والصواب المثبت كما في طبقات الصوفية للسلمي (ص431). وستأتي ترجمته (ص178).
(4) انظره في طبقات الصوفية للسلمي (ص433)، والحلية لأبي نعيم (10/ 376).
(5) في جميع النسخ "محمد"، والصواب المثبت كما في مصادر ترجمته.
(6) هو أبو عمرو إسماعيل بن نجيد بن أحمد بن يوسف السلمي، الصوفي، كبير الطائفة، ومسند خراسان، سمع أبا مسلم الكجي وعبد الله بن أحمد بن حنبل وجماعة، وحدث عنه سبطه أبو عبد الرحمن السلمي وأبو عبد الله الحاكم، توفي سنة خمس وستين وثلاثمائة.
انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي (16/ 146)، طبقات الصوفية (ص454)، الرسالة للقشيري (ص37).
(7) هو محمد بن الحسين بن محمد بن موسى السلمي، أبو عبد الرحمن الصوفي، إمام=(1/158)
العبودية على السنة، ودوام المراقبة) (1).
وقال أبو عثمان المغربي (2): "التقوى (3) هِيَ الْوُقُوفُ مَعَ الْحُدُودِ، لَا يُقَصِّرُ فِيهَا وَلَا يَتَعَدَّاهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (4)) (5).
وَقَالَ أَبُو يَزِيدَ الْبَسْطَامِيُّ (6): (عَمِلْتُ فِي الْمُجَاهَدَةِ ثَلَاثِينَ سَنَةً، فَمَا وَجَدْتُ شَيْئًا أَشَدَّ مِنَ الْعِلْمِ وَمُتَابَعَتِهِ، وَلَوْلَا اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ لَشَقِيتُ (7)، وَاخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ رَحْمَةٌ إِلَّا فِي تَجْرِيدِ التَّوْحِيدِ) (8).
وَمُتَابَعَةُ العلم هي متابعة السنة لا غيرها.
_________
=حافظ محدث، كان شيخ خراسان وكبير الصوفية، حدث أكثر من أربعين سنة قراءة وإملاء، وصنف سنناً وتفسيراً، وله طبقات الصوفية، توفي سنة اثنتي عشرة وأربعمائة.
انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي (17/ 247)، البداية والنهاية لابن كثير (12/ 14) اللباب لابن الأثير (1/ 544).
(1) ذكره عنه أبو عبد الرحمن السلمي في طبقات الصوفية (ص455).
(2) هو أبو عثمان سعيد بن سلام المغربي، من ناحية قيروان، أقام بالحرم مدة، وكان شيخه. وكان أوحد في طريقته وزهده، لم ير مثله في علو الحال، وصون الوقت، وصحة الحكم بالفراسة. ورد نيسابور ومات بها سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة.
انظر: طبقات الصوفية للسلمي (ص479)، الرسالة القشيرية (ص38)، السير (16/ 320).
(3) في (ط): "التونسي".
(4) سورة الطلاق: آية (1).
(5) انظره في طبقات الصوفية للسلمي (ص481)، والرسالة القشيرية (ص39).
(6) هو أبو يزيد طيفور بن عيسى بن سروشان البسطامي، وكان جده سروشان مجوسياً فأسلم، وهم ثلاثة إخوة: آدم وطيفور وعلي، وكلهم كانوا زهاداً عباداً، أرباب أحوال، وهو من أهل بسطام، قال الذهبي: وجاء عنه أشياء مشكلة لا مساغ لها، الشأن في ثبوتها عنه، أو أنه قالها في حال الدهشة والسكر .. ، مات سنة إحدى وستين ومائتين، وقيل أربع وثلاثين ومائتين.
انظر: طبقات الصوفية (ص67)، حلية الأولياء (10/ 33)، صفة الصفوة (4/ 107)، البداية والنهاية لابن كثير (11/ 38)، الرسالة القشيرية (ص17) والسير للذهبي (13/ 88).
(7) في طبقات الصوفية: "لبقيت"، وكذلك في إحدى نسخ صفة الصفوة، وفي الحلية "لتعبت". وفي الرسالة القشيرية مثل الطبقات.
(8) عزاه إليه أبو عبد الرحمن السلمي في الطبقات (ص70)، وأبو نعيم في الحلية (10/ 36)، وابن الجوزي في صفة الصفوة (4/ 107)، وأبو القاسم القشيري في رسالته (ص17 ـ 18).(1/159)
وروى عنه أنه قال: "قم بنا حتى (1) نَنْظُرُ إِلَى هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي قَدْ شَهَّرَ نفسه بالولاية ـ وكان رَجُلًا مَقْصُودًا، مَشْهُورًا بِالزُّهْدِ ـ قَالَ الرَّاوِي: فَمَضَيْنَا، فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ رَمَى بِبُصَاقِهِ تِجَاهَ الْقِبْلَةِ (2)، فَانْصَرَفَ أَبُو يَزِيدَ وَلَمْ يُسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَقَالَ: (هَذَا غَيْرُ مَأْمُونٍ عَلَى أَدَبٍ مِنْ آدَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَيْفَ (3) يَكُونُ مَأْمُونًا عَلَى مَا يَدَّعِيهِ؟) (4).
وَهَذَا أَصْلٌ أَصَّلَهُ أَبُو يَزِيدَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِلْقَوْمِ، وَهُوَ أَنَّ الْوِلَايَةَ لَا تَحْصُلُ لِتَارِكِ السُّنَّةِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ (5) جَهْلًا مِنْهُ، فَمَا ظَنُّكَ بِهِ إِذَا كَانَ عَامِلًا بِالْبِدْعَةِ كفاحاً؟
وقال: (لقد (6) هَمَمْتُ أَنْ أَسْأَلَ اللَّهَ أَنْ يَكْفِيَنِي مُؤْنَةَ الْأَكْلِ وَمُؤْنَةَ النِّسَاءِ، ثُمَّ قُلْتُ: كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ أَسْأَلَ اللَّهَ هَذَا وَلَمْ يَسْأَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَلَمْ أَسْأَلْهُ. ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ كَفَانِي مُؤْنَةَ النِّسَاءِ حَتَّى لَا أُبَالِي اسْتَقْبَلَتْنِي امْرَأَةٌ أَمْ حَائِطٌ) (7).
وَقَالَ: (لَوْ نَظَرْتُمْ إِلَى رَجُلٍ أُعْطِيَ مِنَ الْكَرَامَاتِ حَتَّى يَرْتَقِيَ فِي الْهَوَاءِ (8) فَلَا تَغْتَرُّوا بِهِ حَتَّى تَنْظُرُوا كَيْفَ تَجِدُونَهُ عِنْدَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَحِفْظِ الْحُدُودِ، وَآدَابِ (9) الشَّرِيعَةِ) (10).
وَقَالَ سَهْلٌ التُّسْتُرِيُّ (11): (كُلُّ فِعْلٍ يَفْعَلُهُ الْعَبْدُ بِغَيْرِ اقْتِدَاءٍ ـ طاعة
_________
(1) ساقطة من (ت).
(2) في (ر): "معهوداً".
(3) وقد صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النهي عن البصاق في المسجد كما في حديث أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلّم قال: "البصاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها". رواه البخاري (1/ 511)، ومسلم (5/ 41).
(4) ساقطة من (ت).
(5) رواه عنه أبو القاسم القشيري في رسالته (ص18، 153).
(6) ساقطة من (ت).
(7) ساقطة من جميع النسخ عدا (غ) و (ر).
(8) رواه عنه أبو القاسم القشيري في رسالته (ص18).
(9) في (م) و (خ): "الهوى".
(10) في الرسالة القشيرية "وأداء".
(11) رواه عنه أبو نعيم في الحلية (10/ 40)، وذكره الإمام ابن كثير في البداية والنهاية (11/ 38) ضمن ترجمته. ورواه عنه أبو القاسم القشيري في رسالته (ص18).
(12) تقدمت ترجمته (ص89).(1/160)
كَانَ أَوْ مَعْصِيَةً ـ فَهُوَ عَيْشُ النَّفْسِ ـ (يَعْنِي بِاتِّبَاعِ الْهَوَى) (1)، وَكُلُّ فِعْلٍ يَفْعَلُهُ الْعَبْدُ بِالِاقْتِدَاءِ فَهُوَ عِتَابٌ (2) عَلَى النَّفْسِ) (3) ـ يَعْنِي لِأَنَّهُ لَا هَوَى لَهُ فِيهِ ـ وَاتِّبَاعُ الْهَوَى هُوَ الْمَذْمُومُ، وَمَقْصُودُ الْقَوْمِ تَرْكُهُ أَلْبَتَّةَ.
وَقَالَ: (أُصُولُنَا سَبْعَةُ أَشْيَاءَ: التَّمَسُّكُ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَالِاقْتِدَاءُ بِسُنَّةِ رَسُولِ الله، وَأَكْلُ الْحَلَالِ، وَكَفُّ الْأَذَى، وَاجْتِنَابُ الْآثَامِ، وَالتَّوْبَةُ، وَأَدَاءُ الْحُقُوقِ) (4).
وَقَالَ: (قَدْ أَيِسَ (5) الْخَلْقُ (6) مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ (7) الثَّلَاثِ: مُلَازَمَةُ التَّوْبَةِ، وَمُتَابَعَةُ السُّنَّةِ (وَتَرْكُ أَذَى الْخَلْقِ) (8)) (9).
(وَسُئِلَ عَنِ الفُتُوَّة (10) فَقَالَ: (اتِّبَاعُ السُّنَّةِ) (11)) (12).
وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ (13): (رُبَّمَا تَقَعُ فِي قَلْبِي النُّكْتَةُ مِنْ نُكَتِ (14) الْقَوْمِ أَيَّامًا، فَلَا أَقْبَلُ مِنْهُ (15) إِلَّا بِشَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ: الكتاب والسنة) (16).
_________
(1) ما بين المعكوفين ليس في القشيرية. ولعله من كلام المؤلف.
(2) في الرسالة القشيرية "عذاب".
(3) رواه عنه أبو القاسم القشيري في رسالته (ص19).
(4) انظره في طبقات الصوفية للسلمي (ص210).
(5) في (ت): "يئس".
(6) في طبقات الصوفية "العلماء والحكماء".
(7) في (ت) و (غ): "الخلال".
(8) ما بين المعكوفين ساقط من (ت).
(9) انظره في طبقات الصوفية للسلمي (ص210).
(10) ذكر الإمام ابن القيم هذه المنزلة في مدارج السالكين وقال عنها: هي منزلة الإحسان إلى الناس، وكف الأذى عنهم، واحتمال أذاهم. انظر المدارج (2/ 353).
(11) الرسالة (104)، وعزاه إليه الإمام ابن القيم في مدارج السالكين (2/ 356).
(12) ما بين المعكوفين ساقط من (ت).
(13) هو أبو سليمان عبد الرحمن بن عطية، ويقال عبد الرحمن بن أحمد بن عطية العنسي الداراني، زاهد العصر، ولد في حدود الأربعين ومائة، وروى عن سفيان الثوري وجماعة، وروى عنه أحمد بن أبي الحواري، توفي سنة خمس عشرة ومائتين.
انظر: سير أعلام النبلاء (10/ 182)، طبقات الصوفية للسلمي (ص75)، حلية الأولياء (9/ 254)، صفة الصفوة (4/ 223)، الرسالة القشيرية (ص19).
(14) في (م) و (خ) و (ط): "نكته".
(15) في (ت): "منها".
(16) عزاه إليه أبو عبد الرحمن السلمي في طبقات الصوفية (ص78)، وابن الجوزي في صفة الصفوة (4/ 229)، والقشيري في الرسالة (ص19).(1/161)
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْحَوَارِيِّ (1): (مَنْ عَمِلَ عَمَلًا بِلَا اتِّبَاعِ سُنَّةٍ فَبَاطِلٌ عَمَلُهُ) (2).
وَقَالَ (3) أَبُو حَفْصٍ الْحَدَّادُ (4): (مَنْ لَمْ يَزِنْ أَفْعَالَهُ وَأَحْوَالَهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَمْ يَتَّهِمْ خَوَاطِرَهُ فَلَا تَعُدَّهُ فِي دِيوَانِ الرِّجَالِ) (5).
وَسُئِلَ عَنْ الْبِدْعَةِ فَقَالَ: (التَّعَدِّي فِي الْأَحْكَامِ، وَالتَّهَاوُنُ فِي السُّنَنِ، وَاتِّبَاعُ الْآرَاءِ وَالْأَهْوَاءِ، وَتَرْكُ الِاتِّبَاعِ وَالِاقْتِدَاءِ) (6).
قَالَ: (وَمَا ظَهَرَتْ حَالَةٌ عَالِيَةٌ إلا من ملازمة أمر صحيح) (7).
_________
(1) هو أحمد بن عبد الله بن ميمون الثعلبي الغطفاني، وأبو الحواري اسم ميمون. إمام، حافظ، قدوة، شيخ أهل الشام، سمع من سفيان بن عيينة وعبد الله بن إدريس وطائفة، وحدث عنه أبو زرعة الدمشقي، وأبو زرعة الرازي وأبو داود وغيرهم، قال عنه ابن معين: أهل الشام به يمطرون، وكان من بيت ورع وزهد. توفي سنة ثلاثين ومائتين.
انظر: سير أعلام النبلاء (12/ 85)، طبقات الصوفية للسلمي (ص98)، حلية الأولياء (10/ 5)، صفة الصفوة (4/ 237)، الرسالة القشيرية (ص21).
(2) عزاه إليه أبو عبد الرحمن السلمي في الطبقات (ص101)، والذهبي في السير (12/ 88)، وابن العماد الحنبلي في شذرات الذهب (2/ 110)، وأبو القاسم القشيري في رسالته (ص22).
(3) ساقطة من (م) و (خ) و (ط).
(4) ساقطة من (ت).
وهو أبو حفص عمرو بن سلم، ويقال عمرو بن سلمة النيسابوري، تخرج به عامة الأعلام النيسابوريون، منهم أبو عثمان النيسابوري، وشاة الكرماني، وكان أحد الأئمة والسادة. توفي سنة سبع، وقيل أربع وستين ومائتين، وقيل غير ذلك.
انظر: حلية الأولياء (10/ 229)، طبقات الصوفية (ص115)، صفة الصفوة (4/ 118)، الرسالة القشيرية (ص22).
(5) انظره في حلية الأولياء (10/ 230)، صفة الصفوة (4/ 120)، الرسالة القشيرية (ص22).
(6) رواه عنه أبو عبد الرحمن السلمي في الطبقات (ص122).
(7) رواه عنه أبو عبد الرحمن السلمي في الطبقات (ص121)، وعزاه إليه ابن الجوزي في صفة الصفوة (4/ 120).(1/162)
وَسُئِلَ حَمْدُونُ الْقَصَّارُ (1): مَتَى (2) يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَكَلَّمَ عَلَى (3) النَّاسِ؟ فَقَالَ (4): (إِذَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ أداء فرض من فرائض الله في علمه، أَوْ خَافَ هَلَاكَ إِنْسَانٍ فِي بِدْعَةٍ يَرْجُو أَنْ يُنْجِيَهُ اللَّهُ مِنْهَا (5)) (6).
وَقَالَ: (مَنْ نَظَرَ فِي سِيَرِ السَّلَفِ عَرَفَ تَقْصِيرَهُ وَتَخَلُّفَهُ عَنْ دَرَجَاتِ الرِّجَالِ) (7).
وَهَذِهِ ـ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ـ إِشَارَةٌ إِلَى الْمُثَابَرَةِ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فَإِنَّهُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْجُنَيْدِ (8) لِرَجُلٍ ذَكَرَ الْمَعْرِفَةَ وَقَالَ: أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ يَصِلُونَ إِلَى تَرْكِ الْحَرَكَاتِ مِنْ بَابِ الْبِرِّ وَالتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ، فَقَالَ الْجُنَيْدِ: (إِنَّ هَذَا قَوْلُ قَوْمٍ تَكَلَّمُوا بإسقاط الأعمال، (والذي يسرق ويزني أحسن حالاً من الذي يقول هذا، وإن العارفين بالله أخذوا الْأَعْمَالِ) (9) عَنِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِلَيْهِ يَرْجِعُونَ فِيهَا). قَالَ: (وَلَوْ بَقِيتُ أَلْفَ عَامٍ لَمْ أَنْقُصْ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ ذَرَّةً، إِلَّا أَنْ يُحَالَ بي دونها) (10).
_________
(1) هو أبو صالح حمدون بن أحمد بن عمارة القصار النيسابوري، شيخ أهل الملامة بنيسابور. ومنه انتشر مذهب الملامة ـ وهو تخريب الظاهر، وعمارة الباطن، مع التزام الشريعة ـ وكان عالماً فقيهاً يذهب مذهب الثوري. توفي سنة إحدى وسبعين ومائتين.
انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي (13/ 50)، طبقات الصوفية للسلمي (ص123)، حلية الأولياء (10/ 231)، صفة الصفوة (4/ 122)، الرسالة القشيرية (ص24).
(2) بياض في (غ).
(3) في (ت): "عن"، وصححت في هامشها بما هو مثبت.
(4) في (ت): "قال".
(5) في طبقات الصوفية "يرجو أن ينجيه الله تعالى منها بعلمه".
(6) رواه عنه السلمي في الطبقات (ص125)، وأبو القاسم القشيري في رسالته (ص24).
(7) انظر قوله في طبقات الصوفية (ص27)، وكذلك هو في صفة الصفوة لابن الجوزي (4/ 122)، والرسالة القشيرية (ص24).
(8) تقدمت ترجمته (ص169).
(9) ما بين المعكوفين ساقط من جميع النسخ عدا (غ) و (ر).
(10) رواه عنه أبو عبد الرحمن السلمي في طبقات الصوفية (ص159)، وأبو نعيم في الحلية (10/ 278)، وأبو القاسم القشيري في رسالته (ص24)، وتتمته في الطبقات والحلية "وإنه لأوكد في معرفتي، وأقوى في حالي".(1/163)
وَقَالَ: (الطُّرُقُ كُلُّهُا مَسْدُودَةٌ عَلَى الْخَلْقِ (1) إِلَّا عَلَى مَنِ اقْتَفَى أَثَرَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) (2).
وَقَالَ: (مَذْهَبُنَا هَذَا مُقَيَّدٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ) (3).
وَقَالَ: (مَنْ لَمْ يَحْفَظِ الْقُرْآنَ، وَيَكْتُبِ الْحَدِيثَ لَا يُقْتَدَى بِهِ فِي هَذَا الْأَمْرِ، لِأَنَّ (4) عِلْمَنَا هَذَا مُقَيَّدٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ) (5). وَقَالَ: (علمنا (6) هَذَا مُشَيَّدٌ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم) (7).
وقال أبو عثمان (الحيري) (8): (الصُّحْبَةُ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى بِحُسْنِ الْأَدَبِ، وَدَوَامِ الْهَيْبَةِ وَالْمُرَاقَبَةِ، وَالصُّحْبَةُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاتِّبَاعِ سُنَّتِهِ، وَلُزُومِ ظَاهِرِ الْعِلْمِ، وَالصُّحْبَةُ مَعَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ بِالِاحْتِرَامِ وَالْخِدْمَةِ) (9) إِلَى آخِرِ مَا قَالَ.
وَلَمَّا تَغَيَّرَ عَلَيْهِ الْحَالُ (10) مَزَّقَ ابْنُهُ أَبُو بَكْرٍ قَمِيصًا عَلَى نَفْسِهِ، فَفَتَحَ أَبُو عُثْمَانُ عَيْنَيْهِ وَقَالَ: (خِلَافُ السُّنَّةِ يَا بُنَيَّ فِي الظَّاهِرِ (11) عَلَامَةُ رِيَاءٍ في الباطن) (12).
_________
(1) ساقطة من (ت).
(2) رواه عنه أبو عبد الرحمن السلمي في الطبقات (ص159)، وأبو نعيم في الحلية (10/ 257)، وأبو القاسم القشيري في رسالته (ص24)، وتتمة قوله في الطبقات والحلية "واتبع سنته، ولزم طريقته، فإن طرق الخيرات كلها مفتوحة عليه".
(3) انظره في حلية الأولياء (10/ 255)، والرسالة القشيرية (ص25).
(4) في (م): "لأنا".
(5) ذكره القشيري في رسالته (ص25)، وأبو نعيم في الحلية مختصراً (10/ 255).
(6) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط).
(7) انظر قوله في الرسالة القشيرية (ص25).
(8) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "الجبري".
وهو أبو عثمان سعيد بن إسماعيل بن سعيد بن منصور الحيري النيسابوري، وأصله من الري، صحب يحيى بن معاذ الرازي وشاة الكرماني وأبا حفص. ومنه انتشرت طريقة التصوف بنيسابور. مات سنة ثمان وتسعين ومائتين.
انظر ترجمته وأقواله في: طبقات الصوفية للسلمي (ص170)، حلية الأولياء (10/ 244)، صفة الصفوة (4/ 103)، الرسالة القشيرية (ص25).
(9) انظر قوله في الحلية لأبي نعيم (10/ 245)، وصفة الصفوة لابن الجوزي (4/ 105)، والرسالة للقشيري (ص26).
(10) كتب في الحلية وصفة الصفوة عند هذا الموضع "وقت وفاته".
(11) غير واضحة في (ت).
(12) انظر قوله في الحلية لأبي نعيم (10/ 245)، صفة الصفوة (4/ 106)، الرسالة القشيرية (ص25).(1/164)
وَقَالَ: (مَنْ أمَّر السُّنَّةَ عَلَى نَفْسِهِ قَوْلًا وَفِعْلًا (1) نَطَقَ بِالْحِكْمَةِ، وَمَنْ أمَّر الْهَوَى عَلَى نَفْسِهِ قَوْلًا وَفِعْلًا (2) نَطَقَ بِالْبِدْعَةِ. قَالَ اللَّهُ تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} (3)) (4).
وقال أبو الحسين (5) (النوري) (6): (مَنْ رَأَيْتَهُ يَدَّعِي مَعَ اللَّهِ حَالَةً تُخْرِجُهُ عَنْ حَدِّ الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ فَلَا تَقْرَبَنَّ مِنْهُ) (7).
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْبَلْخِيُّ (8): (ذَهَابُ الْإِسْلَامِ من أربعة: (أولها) (9) لا يعملون بما يعلمون، (والثاني) يعملون بما لا يعلمون، (والثالث) لا يتعلمون ما لا يعلمون، (والرابع) يمنعون الناس من التعلم) (10).
_________
(1) (2) في (ت): "أو فعلا".
(3) سورة النور: آية (54).
(4) انظر قوله في الحلية لأبي نعيم (10/ 244)، صفة الصفوة لابن الجوزي (4/ 105)، رسالة القشيري (ص26).
(5) في (غ): "الحسن".
(6) في جميع النسخ النووي، وهو خطأ والصحيح ما أثبته.
وهو أحمد بن محمد الخراساني، يعرف بابن البغوي، وكان شيخ الطائفة بالعراق وأحذقهم بلطائف الحقائق. وله عبارات دقيقة يتعلق بها من انحرف من الصوفية. توفي سنة خمس وتسعين ومائتين.
انظر: سير أعلام النبلاء (14/ 70)، طبقات الصوفية (ص164)، حلية الأولياء (10/ 249)، صفة الصفوة (2/ 439)، الرسالة القشيرية (ص26).
(7) انظر قوله في حلية الأولياء لأبي نعيم (10/ 252)، الرسالة القشيرية (ص26).
(8) هو محمد بن الفضل بن العباس بن حفص البلخي، ساكن سمرقند، وأصله من بلخ، ولكنه أخرج منها بسبب المذهب، صحب أحمد بن خضرويه وغيره من المشايخ، وأسند الحديث عن قتيبة بن سعيد. مات سنة تسع عشرة وثلاثمائة.
انظر: طبقات الصوفية للسلمي (ص212)، حلية الأولياء لأبي نعيم (10/ 232)، صفة الصفوة لابن الجوزي (4/ 165)، الرسالة القشيرية (ص27).
(9) قوله "أولها" ساقط من جميع النسخ، وأثبته من طبقات الصوفية ومن الحلية. وكذلك قوله: "والثاني، والثالث، والرابع".
(10) انظره في: طبقات الصوفية للسلمي (ص214)، الحلية لأبي نعيم (10/ 233)، الرسالة للقشيري (ص27).(1/165)
هَذَا مَا قَالَ، وَهُوَ وَصْفُ صُوفِيَّتِنَا الْيَوْمَ، عِيَاذًا بِاللَّهِ.
وَقَالَ: (أَعْرَفُهُمْ بِاللَّهِ أَشَدُّهُمْ مُجَاهَدَةً فِي أَوَامِرِهِ، وَأَتْبَعُهُمْ لِسُّنَّةِ نَبِيِّهِ) (1).
وَقَالَ شَاةُ الْكَرْمَانِيُّ (2): (مَنْ غَضَّ بَصَرَهُ عَنِ الْمَحَارِمِ (3)، وَأَمْسَكَ نَفْسَهُ عَنِ الشُّبُهَاتِ (4)، وَعَمَّرَ بَاطِنَهُ بِدَوَامِ الْمُرَاقَبَةِ، وَظَاهِرَهُ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ، وَعَوَّدَ نَفْسَهُ أَكْلَ الْحَلَالِ، لَمْ تُخْطِئْ (5) لَهُ فِرَاسَةٌ) (6).
وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخَرَّازُ (7): (كُلُّ بَاطِنٍ يُخَالِفُهُ ظَاهِرٌ فَهُوَ بَاطِلٌ) (8).
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ عَطَاءٍ (9) ـ وَهُوَ مِنْ أقران الجنيد ـ: (من ألزم
_________
(1) انظره في طبقات الصوفية للسلمي (ص214).
(2) هو أبو الفوارس شاه بن شجاع الكرماني، كان من أبناء الملوك فتزهد، صحب أبا تراب النخشبي وأبا عبيد البسري، وكان من أجلة الفتيان، وعلماء هذه الطبقة. وله رسالات مشهورة، والمثلثة التي سماها مرآة الحكماء. مات قبل الثلاثمائة.
انظر ترجمته وأقواله في: طبقات الصوفية للسلمي (ص192)، حلية الأولياء لأبي نعيم (10/ 237)، صفة الصفوة لابن الجوزي (4/ 67)، الرسالة للقشيري (ص29).
(3) في (ت): "الحرام".
(4) في الحلية "الشهوات"، وكذلك في الرسالة القشيرية.
(5) في (خ): "تخط".
(6) انظر قوله في الحلية لأبي نعيم (10/ 237)، صفة الصفوة لابن الجوزي (4/ 67)، الرسالة القشيرية (ص29).
(7) هو أحمد بن عيسى الخراز، من أهل بغداد، صحب ذا النون المصري وبشر بن الحارث، والسري السقطي ونظراءهم، وهو من أئمة القوم وجلة مشايخهم. مات سنة تسع وسبعين ومائتين.
انظر ترجمته وأقواله في: طبقات الصوفية للسلمي (ص228)، صفة الصفوة لابن الجوزي (2/ 435)، حلية الأولياء (10/ 246)، الرسالة القشيرية (ص29).
(8) انظره في طبقات الصوفية للسلمي (ص231)، حلية الأولياء لأبي نعيم (10/ 245) الرسالة القشيرية (ص29).
(9) هو أبو العباس أحمد بن محمد بن سهل بن عطاء الأدمي، كان من مشايخ الصوفية وعلمائهم، له لسان في فهم القرآن. صحب إبراهيم المارستاني والجنيد ومن فوقهما من المشايخ. وامتحن بسبب الحلاج. توفي سنة تسع وثلاثمائة.
انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي (14/ 255)، طبقات الصوفية للسلمي (ص265)،=(1/166)
نفسه آداب السنة (1) نوَّر اللَّهُ قَلْبَهُ بِنُورِ الْمَعْرِفَةِ، وَلَا مَقَامَ أَشْرَفَ مِنْ مَقَامِ مُتَابَعَةِ الْحَبِيبِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَوَامِرِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَخْلَاقِهِ) (2).
وَقَالَ أَيْضًا: (أَعْظَمُ الْغَفْلَةِ غَفْلَةُ الْعَبْدِ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَغَفْلَتُهُ عَنْ أَوَامِرِهِ (3)، وَغَفْلَتُهُ عَنْ آدَابِ مُعَامَلَتِهِ) (4).
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ الْخَوَّاصُ (5): (لَيْسَ الْعِلْمُ بِكَثْرَةِ الرِّوَايَةِ، وَإِنَّمَا الْعَالِمُ مَنِ اتَّبَعَ الْعِلْمَ، وَاسْتَعْمَلَهُ، وَاقْتَدَى بِالسُّنَنِ، وَإِنْ كَانَ قَلِيلَ الْعِلْمِ) (6).
وَسُئِلَ عَنِ الْعَافِيَةِ فَقَالَ: (الْعَافِيَةُ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ: دِينٌ بِلَا بِدْعَةٍ، وَعَمَلٌ بِلَا آفَةٍ، وَقَلْبٌ بِلَا شُغْلٍ وَنَفْسٌ بِلَا شَهْوَةٍ) (7).
وَقَالَ: (الصَّبْرُ: الثَّبَاتُ عَلَى أَحْكَامِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ) (8).
وَقَالَ: بُنَانٌ الْحَمَّالُ (9) ـ وَسُئِلَ عَنْ أَصْلِ (10) أَحْوَالِ الصُّوفِيَّةِ فَقَالَ ـ: (الثِّقَةُ بِالْمَضْمُونِ، وَالْقِيَامُ بِالْأَوَامِرِ، وَمُرَاعَاةُ السِّرِّ، وَالتَّخَلِّي من الكونين) (11).
_________
=حلية الأولياء لأبي نعيم (10/ 302)، صفة الصفوة لابن الجوزي (2/ 444)، القشيرية (ص30).
(1) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "الله".
(2) انظر هذا القول له في طبقات الصوفية، وله تتمة (ص268)، وحلية الأولياء (10/ 302)، وصفة الصفوة (2/ 445)، والرسالة القشيرية (ص31).
(3) في الرسالة القشيرية "أوامره ونواهيه".
(4) انظر قوله في طبقات الصوفية للسلمي (ص271)، الرسالة القشيرية (ص31).
(5) تقدمت ترجمته (ص169).
(6) رواه عنه أبو عبد الرحمن السلمي في الطبقات (ص285)، وأبو القاسم القشيري في رسالته (ص31)، وذكره الشعراني في الطبقات الكبرى (1/ 83).
(7) الرسالة (ص24).
(8) الرسالة (ص85).
(9) هو أبو الحسن بنان بن محمد بن حمدان بن سعيد الواسطي، نزيل مصر، ومن يضرب بعبادته المثل، صحب الجنيد وغيره، وكان كبير القدر، لا يقبل من الدولة شيئاً، وله جلالة عجيبة عند الخاص والعام، وقد امتحن في ذات الله فصبر. توفي سنة ست عشرة وثلاثمائة.
انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي (14/ 488)، طبقات الصوفية للسلمي (ص291)، حلية الأولياء (10/ 324)، صفة الصفوة (2/ 448)، القشيرية (ص31).
(10) في طبقات الصوفية "أجل"، وكذلك في الرسالة القشيرية.
(11) انظر قوله في طبقات الصوفية (ص293 ـ 294)، الرسالة القشيرية (ص31).(1/167)
وَقَالَ أَبُو حَمْزَةَ الْبَغْدَادِيُّ (1): (مَنْ عَلِمَ طَرِيقَ الْحَقِّ سَهُلَ عَلَيْهِ سُلُوكُهُ وَلَا دَلِيلَ عَلَى الطَّرِيقِ إِلَى اللَّهِ إِلَّا مُتَابَعَةُ سُنَّةِ (2) الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَحْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وأقواله) (3).
وقال أبو إسحاق الرقى (4): (عَلَامَةُ مَحَبَّةِ اللَّهِ إِيثَارُ طَاعَتِهِ وَمُتَابَعَةُ (5) نَبِيِّهِ) (6). انتهى.
وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (7) الآية.
وَقَالَ مَمْشَادُ الدِّينَوَرِيُّ (8): (آدَابُ الْمُرِيدِ فِي الْتِزَامِ حرمات المشايخ، وخدمة (9) الْإِخْوَانِ، وَالْخُرُوجِ عَنِ الْأَسْبَابِ، وَحِفْظِ آدَابِ الشَّرْعِ على نفسه) (10).
_________
(1) هو أبو حمزة محمد بن إبراهيم البغدادي البزاز، صحب السري السقطي وبشرا الحافي، وكان عالماً بالقراءات. توفي سنة تسع وثمانين ومائتين.
انظر: طبقات الصوفية (ص295)، الرسالة القشيرية (ص32).
(2) ساقطة من (غ).
(3) رواه عنه أبو القاسم القشيري في رسالته (ص32)، وأبو عبد الرحمن السلمي في الطبقات بلفظ أطول مما هنا (ص298).
(4) في (خ) و (ط): "الرقاشي" وهو خطأ.
وهو أبو إسحاق إبراهيم بن داود الرقي. من كبار مشايخ الشام، ومن أقران الجنيد وابن الجلاء، وقد عمر وعاش إلى سنة ست وعشرين وثلاثمائة.
انظر الرسالة القشيرية (ص32).
(5) في (خ): "ومتابعته".
(6) رواه عنه أبو القاسم القشيري في رسالته (ص33).
(7) سورة آل عمران: آية (31).
(8) هو من كبار مشايخ الصوفية، صحب يحيى الجلاء ومن فوقه من المشايخ. توفي سنة تسع وتسعين ومائتين.
انظر: طبقات الصوفية للسلمي (ص316)، حلية الأولياء لأبي نعيم (10/ 353)، صفة الصفوة لابن الجوزي (4/ 78)، الرسالة القشيرية (ص33).
(9) في (خ) و (ط): "وحرمة".
(10) رواه عنه أبو عبد الرحمن السلمي في الطبقات (ص318)، وأبو القاسم القشيري في رسالته (ص33).(1/168)
وَسُئِلَ أَبُو عَلِيٍّ الرُّوذْبَارِيُّ (1) عَمَّنْ يَسْمَعُ الْمَلَاهِيَ (2) وَيَقُولُ: هِيَ لِي حَلَالٌ، لِأَنِّي قَدْ وَصَلْتُ إِلَى دَرَجَةٍ لَا يُؤَثِّرُ فِيَّ اخْتِلَافُ (3) الْأَحْوَالِ. فَقَالَ: (نَعَمْ قَدْ وَصَلَ، وَلَكِنْ (4) إِلَى سَقَرٍ) (5).
وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنَازِلٍ (6): (لَمْ يُضَيِّعْ أَحَدٌ فَرِيضَةً مِنَ الْفَرَائِضِ إِلَّا ابتلاه الله بتضييع السنن، (ولم يبتل أحد بتضييع السنن) (7) إِلَّا يُوشِكُ أَنْ يُبْتَلَى بِالْبِدَعِ) (8).
وَقَالَ أَبُو يَعْقُوبَ النَّهْرَجُورِيُّ (9): (أَفْضَلُ الْأَحْوَالِ مَا قَارَنَ الْعِلْمَ) (10).
_________
(1) في (ط): "الروزباري" بالزاي، وهو خطأ. وهو بياض في (غ).
وهو أبو علي أحمد بن محمد بن القاسم بن منصور الروذباري، وهو من أهل بغداد، صحب الجنيد وأبا الحسين النوري، وسكن مصر، وصار شيخها، ومات بها سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة.
انظر: طبقات الصوفية للسلمي (ص354)، سير أعلام النبلاء للذهبي (16/ 227)، حلية الأولياء لأبي نعيم (10/ 356)، صفة الصفوة لابن الجوزي (2/ 454)، الرسالة القشيرية (ص34).
(2) بياض في (غ).
(3) في (م) و (ت): "باختلاف".
(4) بياض في (غ).
(5) رواه عنه أبو عبد الرحمن السلمي في طبقات الصوفية (ص356)، وأبو نعيم في الحلية (10/ 356)، والإمام الذهبي في السير (16/ 227)، والقشيري في رسالته (ص34).
(6) تقدمت ترجمته (ص169).
(7) ما بين المعكوفين ساقط من أصل (خ)، ومثبت في هامشها بلفظ "ولم يبتل بتضييع السنن أحد"، وكذلك هو في (ط).
(8) انظر قوله في طبقات الصوفية للسلمي (ص369)، والرسالة القشيرية (ص34).
(9) هو أبو يعقوب إسحاق بن محمد النهرجوري، كان من مشايخ الصوفية، صحب الجنيد وعمرو بن عثمان المكي وغيرهم، قال أبو عثمان المغربي: ما رأيت في مشايخنا أنور منه. أقام بالحرم سنين كثيرة مجاوراً، وبه مات سنة ثلاثين وثلاثمائة.
انظر: طبقات الصوفية للسلمي (ص378)، حلية الأولياء (10/ 356)، سير أعلام النبلاء (15/ 232)، الرسالة القشيرية (ص35).
(10) رواه عنه أبو القاسم القشيري في رسالته (ص35)، وانظر قوله في نتائج الأفكار القدسية لزكريا الأنصاري (1/ 195).(1/169)
وَقَالَ أَبُو عَمْرِو (1) بْنِ نُجَيْدٍ (2): (كُلُّ حَالٍ لَا يَكُونُ عَنْ نَتِيجَةِ عِلْمٍ (3) فَإِنَّ ضَرَرَهُ عَلَى صَاحِبِهِ أَكْثَرُ مِنْ نَفْعِهِ) (4).
وَقَالَ بُنْدَارُ (5) بْنُ الْحُسَيْنِ (6): (صُحْبَةُ أَهْلِ الْبِدَعِ تُورِثُ الْإِعْرَاضَ عَنِ الْحَقِّ) (7).
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الطَّمَسْتَانِيُّ (8): (الطَّرِيقُ واضح، والكتاب والسنة قائم (9) بَيْنَ أَظْهُرِنَا، وَفَضْلُ الصَّحَابَةِ مَعْلُومٌ لِسَبْقِهِمْ إِلَى الْهِجْرَةِ وَلِصُحْبَتِهِمْ. فَمَنْ صَحِبَ مِنَّا (10) الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، وَتَغَرَّبَ عَنْ نَفْسِهِ وَالْخَلْقِ، وَهَاجَرَ بِقَلْبِهِ إِلَى الله، فهو الصادق المصيب) (11).
_________
(1) في (ت): "عمر".
(2) تقدمت ترجمته (ص170).
(3) في طبقات الصوفية "علم وإن جل".
(4) انظر قوله في طبقات الصوفية للسلمي (ص455)، وذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في الاستقامة (1/ 99)، وهو في الرسالة القشيرية لأبي القاسم القشيري (ص37).
(5) في (غ) و (ر): "بنوان".
(6) هو بندار بن الحسين بن محمد بن المهلب الشيرازي. شيخ الصوفية، كان عالماً بالأصول، وكان أبو بكر الشبلي يكرمه، ويعظم قدره، كان ذا أموال فأنفقها وتزهد. توفي سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة.
انظر: طبقات الصوفية للسلمي (ص467)، سير أعلام النبلاء للذهبي (16/ 108)، حلية الأولياء لأبي نعيم (10/ 384)، الرسالة القشيرية (ص38).
(7) رواه عنه أبو عبد الرحمن السلمي في الطبقات (ص469)، وذكره القشيري في رسالته (ص38).
(8) هو أبو بكر الطمستاني الفارسي، كان من أجل المشايخ، وكان أبو بكر الشبلي يبجله، ويعرف له محله، صحب إبراهيم الدباغ وغيره. ورد نيسابور ومات بها سنة أربعين وثلاثمائة.
انظر: طبقات الصوفية للسلمي (ص471)، حلية الأولياء لأبي نعيم (10/ 382)، الرسالة القشيرية (ص38).
(9) في طبقات الصوفية: "قائمان"، وفي الحلية "قائمة".
(10) ساقطة من (غ).
(11) انظر قوله في طبقات الصوفية للسلمي (ص473)، والحلية لأبي نعيم (10/ 382)، ولفظهما أطول من لفظ المؤلف، وذكره أبو القاسم القشيري في رسالته كما هو هنا (ص38).(1/170)
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ (1) النَّصْرَابَاذِيُّ (2): (أَصْلُ التَّصَوُّفِ مُلَازَمَةُ الكتاب والسنة، وترك الأهواء والبدع (3)، وَتَعْظِيمُ حُرُمَاتِ الْمَشَايِخِ، وَرُؤْيَةُ أَعْذَارِ الْخَلْقِ، وَالْمُدَاوَمَةُ عَلَى الْأَوْرَادِ، وَتَرْكُ ارْتِكَابِ الرُّخَصِ (4) وَالتَّأْوِيلَاتِ) (5).
وَكَلَامُهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ يَطُولُ (6).
وَقَدْ نَقَلْنَا عَنْ جُمْلَةٍ مِمَّنِ اشْتُهِرَ مِنْهُمْ يَنِيفُ (7) عَلَى الْأَرْبَعِينَ شَيْخًا، جَمِيعُهُمْ يُشِيرُ أَوْ يُصَرِّحُ (8) بِأَنَّ الِابْتِدَاعَ ضَلَالٌ، وَالسُّلُوكَ عَلَيْهِ تِيهٌ، وَاسْتِعْمَالُهُ (9) رَمْيٌ فِي عَمَايَةٍ، وَأَنَّهُ مُنَافٍ لِطَلَبِ النَّجَاةِ، وَصَاحِبُهُ غَيْرُ مَحْفُوظٍ وَمَوْكُولٌ إِلَى نَفْسِهِ (10)، وَمَطْرُودٌ عَنْ نَيْلِ الْحِكْمَةِ.
وَأَنَّ الصُّوفِيَّةَ الَّذِينَ نُسِبَتْ إِلَيْهِمُ الطَّرِيقَةُ مُجْمِعُونَ عَلَى تَعْظِيمِ الشَّرِيعَةِ مُقِيمُونَ عَلَى مُتَابَعَةِ السُّنَّةِ، غَيْرُ مُخِلِّينَ بِشَيْءٍ مِنْ آدَابِهَا، أَبْعَدُ النَّاسِ عَنِ الْبِدَعِ وَأَهْلِهَا، وَلِذَلِكَ لَا نَجِدُ (11) منهم من ينسب (12) إلى فرقة (13) مِنَ الْفِرَقِ الضَّالَّةِ وَلَا مَنْ يَمِيلُ إِلَى خِلَافِ السُّنَّةِ، وَأَكْثَرُ مَنْ ذُكِرَ مِنْهُمْ عُلَمَاءُ وَفُقَهَاءُ وَمُحَدِّثُونَ، وَمِمَّنْ يُؤْخَذُ عَنْهُ الدِّينُ أُصُولًا وفروعاً، ومن لم يكن
_________
(1) ساقطة من (ت).
(2) هو أبو القاسم إبراهيم بن محمد النصراباذي، شيخ الصوفية بخراسان في وقته، سمع أبا العباس السراح وابن خزيمة وغيرهما، وحدث عنه الحاكم والسلمي وجماعة، كان يرجع إلى أنواع من العلوم: من حفظ السير وجمعها، وعلوم التواريخ وغيرها. مات في مكة مجاوراً سنة سبع وستين وثلاثمائة.
انظر: طبقات الصوفية للسلمي (ص484)، سير أعلام النبلاء للذهبي (16/ 263)، الرسالة القشيرية للقشيري (ص39)، طبقات الشعراني (1/ 144).
(3) في (ط): "البدع والأهواء".
(4) سوف تذكر مسألة اجتناب الصوفية للرخص في نهاية الباب الثالث وأنها مخالفة للسنة. انظر (ص394 ـ 395).
(5) انظر قوله في الطبقات للسلمي (ص488)، ولفظه هناك أطول، وفي الرسالة القشيرية (ص39).
(6) ساقطة من (غ).
(7) في (ر): "نيفت".
(8) في (خ): "يوح".
(9) غير واضحة في (ت).
(10) غير واضحة في (ت).
(11) في (ت): "تجد".
(12) في (ت): "من ينسب منهم".
(13) في (ت): "فرق".(1/171)
كذلك فلا بد له مِنْ أَنْ يَكُونَ فَقِيهًا فِي دِينِهِ بِمِقْدَارِ كِفَايَتِهِ (1).
وَهُمْ كَانُوا أَهْلَ الْحَقَائِقِ (2) وَالْمَوَاجِدِ، وَالْأَذْوَاقِ وَالْأَحْوَالِ وَالْأَسْرَارِ (3) التَّوْحِيدِيَّةِ.
فَهُمُ الْحُجَّةُ لَنَا عَلَى كل من ينتسب إلى طريقتهم، ولا يجري على مناهجهم (4)، بَلْ يَأْتِي بِبِدَعٍ مُحْدَثَاتٍ، وَأَهْوَاءٍ مُتَّبَعَاتٍ، وَيَنْسُبُهَا إِلَيْهِمْ، تَأْوِيلًا عَلَيْهِمْ، مِنْ قَوْلٍ مُحْتَمِلٍ، أَوْ فِعْلٍ مِنْ قَضَايَا الْأَحْوَالِ، أَوِ (5) اسْتِمْسَاكًا بِمَصْلَحَةٍ شَهِدَ الشَّرْعُ بِإِلْغَائِهَا أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
فَكَثِيرًا مَا تَرَى الْمُتَأَخِّرِينَ مِمَّنْ يَتَشَبَّهُ بِهِمْ يَرْتَكِبُ مِنَ الْأَعْمَالِ مَا أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى فَسَادِهِ شَرْعًا، وَيَحْتَجُّ بِحِكَايَاتٍ هِيَ قَضَايَا أَحْوَالٍ، وإن صَحَّتْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا حُجَّةٌ لِوُجُوهٍ عِدَّةٍ، ويترك من كلامهم وأحوالهم ما هو أوضح (6) فِي الْحَقِّ الصَّرِيحِ، وَالِاتِّبَاعِ الصَّحِيحِ، شَأْنُ مَنِ اتَّبَعَ مِنَ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ مَا تَشَابَهَ مِنْهَا (7).
وَلَمَّا كَانَ أَهْلُ التَّصَوُّفِ فِي طَرِيقِهِمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى إِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَمْرٍ كَسَائِرِ أَهْلِ الْعُلُومِ فِي عُلُومِهِمْ، أَتَيْتُ مِنْ كَلَامِهِمْ بِمَا يَقُومُ منه دليل على مدح (8) السُّنَّةِ وَذَمِّ الْبِدْعَةِ فِي طَرِيقَتِهِمْ (9)، حَتَّى يَكُونَ دَلِيلًا لَنَا (10) مِنْ جِهَتِهِمْ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ عُمُومًا، وَعَلَى الْمُدَّعِينَ فِي طَرِيقِهِمْ خُصُوصًا. وَبِاللَّهِ التوفيق.
_________
(1) ما ذكره المؤلف ليس على إطلاقه، فإن الصوفية قد تأثروا بكل الفرق، الذين نقل منهم المؤلف هم أفاضل، والتسليم لهذا الإطلاق قد يوقع في الحرج، إذ قد يُحتج علينا ببعض أقوالهم المنحرفة، والمؤلف يتألف القوم كما سيأتي أيضاً في نهاية الباب الثالث، وهذا الثناء نسبي وليس مطلقاً، فهم أفضل جنسهم، ولمعرفة حقيقة التصوف راجع: هذه هي الصوفية لعبد الرحمن الوكيل وتنبيه الغبي للبقاعي.
(2) في (ت): "التحقيق".
(3) السين غير واضحة في (ت).
(4) في (غ) و (ر): "منهاجهم".
(5) في (غ): "و".
(6) في (خ) و (ط): "واضع".
(7) في (ط): "بها".
(8) في أصل (خ): "مدع"، وكتب في هامشها "مرعى"، وفي (م) و (ت) "مدعى".
(9) في (ت): "طريقهم".
(10) ساقطة من (غ).(1/172)
فصل
الْوَجْهُ (1) الْخَامِسُ مِنَ النَّقْلِ مَا جَاءَ مِنْهُ فِي ذَمِّ الرَّأْيِ الْمَذْمُومِ (2)، وَهُوَ الْمَبْنِيُّ عَلَى غَيْرِ أُسِّ، وَالْمُسْتَنِدُ إِلَى غَيْرِ أَصْلٍ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُّنَّةٍ، لَكِنَّهُ وَجْهٌ تَشْرِيعِيٌّ فَصَارَ نَوْعًا مِنَ الِابْتِدَاعِ، بَلْ هُوَ الْجِنْسُ فِيهَا، فَإِنَّ جَمِيعَ الْبِدَعِ إِنَّمَا هِيَ رَأْيٌ عَلَى غَيْرِ أَصْلٍ، وَلِذَلِكَ وُصِفَ بِوَصْفِ الضَّلَالِ.
فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْتَزِعُ الْعِلْمَ مِنَ النَّاسِ بَعْدَ إِذْ أَعْطَاهُمُوهُ انْتِزَاعًا، وَلَكِنْ يَنْتَزِعُهُ مِنْهُمْ مَعَ قَبْضِ الْعُلَمَاءِ بِعِلْمِهِمْ، فَيَبْقَى نَاسٌ (3) جُهَّالٌ (يَسْتَفْتُونَ فَيُفْتُونَ بِرَأْيِهِمْ) (4) فَيَضِلُّونَ وَيُضِلُّونَ" (5).
فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَذَمُّ الرَّأْيِ عَائِدٌ عَلَى الْبِدَعِ بِالذَّمِّ لَا مَحَالَةَ.
وَخَرَّجَ (6) ابْنُ الْمُبَارَكِ وَغَيْرُهُ، عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ (7) قال:
_________
(1) ساقطة من (غ) و (ر).
(2) وهناك آراء محمودة ذكرها الإمام ابن القيم في أعلام الموقعين: أحدها: آراء الصحابة رضي الله عنهم، ثانياً: الآراء التي تفسر النصوص، وتبين وجه الدلالة منها، ثالثاً: الآراء التي تواطأت عليها الأمة، وتلقاها الخلف عن السلف، رابعاً: الآراء التي تكون بعد بذل الجهد في البحث عن المسألة في الكتاب والسنة وأقوال الصحابة. انظر إعلام الموقعين (1/ 79 ـ 85).
(3) في (ت): "الناس".
(4) ما بين المعكوفين ساقط من (ت).
(5) تقدم تخريجه (ص125).
(6) في (م) و (ر) و (غ): "خرج" بدون الواو.
(7) هو عوف بن مالك الأشجعي الغطفاني، صحابي من نبلاء الصحابة، شهد فتح مكة، وكانت راية قومه معه، وشهد غزوة مؤتة، مات رضي الله عنه سنة ثلاث وسبعين.
انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي (2/ 487)، الإصابة لابن حجر (5/ 43)، التاريخ الكبير (7/ 56).(1/173)
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى بِضْعٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، أَعْظَمُهَا فِتْنَةً قَوْمٌ يَقِيسُونَ الدِّينَ بِرَأْيِهِمْ، يُحَرِّمُونَ بِهِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ، وَيُحِلُّونَ بِهِ مَا حَرَّمَ الله" (1).
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ (2): (هَذَا هُوَ الْقِيَاسُ عَلَى غَيْرِ أَصْلٍ، وَالْكَلَامُ فِي الدِّينِ بِالتَّخَرُّصِ وَالظَّنِّ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ: "يُحِلُّونَ الْحَرَامَ، وَيُحَرِّمُونَ الْحَلَالَ"، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَلَالَ مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُّنَّةِ رَسُولِهِ تَحْلِيلُهُ، وَالْحَرَامَ مَا كَانَ (3) فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُّنَّةِ رسوله تحريمه، فمن جهل
_________
(1) رواه الإمام الحاكم في المستدرك، كتاب الفتن والملاحم، وصححه (4/ 430)، والإمام البزار في كشف الأستار، كتاب العلم، باب التحذير من علماء السوء (1/ 98)، والإمام ابن عدي في الكامل، عند ترجمة نعيم بن حماد الخزاعي (7/ 2483)، والإمام البيهقي في المدخل، باب ما يذكر في ذم الرأي تحت رقم (204)، (ص188)، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد عند ترجمة نعيم بن حماد تحت رقم (7285)، (13/ 307، 308)، وفي الفقيه والمتفقه له (1/ 180)، والإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى، باب ذكر افتراق الأمم في دينها برقم (251)، (1/ 227)، والإمام ابن عبد البر في جامع بيان العلم، باب ما جاء في ذم القول في دين الله بالرأي والقياس (2/ 133 ـ 134)، والحديث من طريق نعيم بن حماد عن عيسى بن يونس. ونعيم بن حماد قال عنه الحافظ في التقريب: صدوق يخطئ كثيراً (2/ 305)، وقال عنه الذهبي في الكاشف: مختلف فيه (3/ 182). وقال عبد الغني بن سعيد: وبهذا الحديث سقط نعيم بن حماد عند كثير من أهل العلم بالحديث، إلا أن يحيى بن معين لم يكن ينسبه إلى الكذب، بل كان ينسبه إلى الوهم، انظر تهذيب التهذيب لابن حجر (10/ 461).
وقد تابع نعيماً في روايته عبد الوهاب بن الضحاك وسويد الأنباري وأبو صالح الخرساني والحكم بن المبارك والنظر بن طاهر. انظر هذه المتابعات في تاريخ بغداد (13/ 310، 311)، الكامل لابن عدي (3/ 1264)، (7/ 2483)، سير أعلام النبلاء للذهبي (10/ 600 ـ 601)، ميزان الاعتدال للذهبي (4/ 267 ـ 268)، التنكيل للمعلمي (1/ 496 ـ 497)، وقال عبد الغني بن سعيد: وكل من حدث به عن عيسى بن يونس غير نعيم بن حماد، فإنما أخذه من نعيم. انظر تهذيب التهذيب (10/ 461).
وقال البيهقي في المدخل (ص188): تفرد به أبو نعيم بن حماد، وسرقه عنه جماعة من الضعفاء، وهو منكر، وفي غيره من أحاديث الصحاح الواردة في معناه كفاية.
(2) تقدمت ترجمته رحمه الله (ص91).
(3) هذه الكلمة ليست عند ابن عبد البر.(1/174)
ذَلِكَ وَقَالَ فِيمَا سُئِلَ عَنْهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَقَاسَ بِرَأْيِهِ مَا خَرَجَ مِنْهُ عَنِ السُّنَّةِ، فهذا هو (1) الذي قاس الأمور (2) بِرَأْيِهِ فَضَلَّ وَأَضَلَّ، وَمَنْ رَدَّ الْفُرُوعَ فِي عِلْمِهِ إِلَى أُصُولِهَا فَلَمْ يَقُلْ بِرَأْيِهِ) (3).
وَخَرَّجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ حَدِيثًا (4): (إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ ثَلَاثًا)، وَإِحْدَاهُنَّ: (أَنْ يُلْتَمَسَ الْعِلْمُ عِنْدَ الْأَصَاغِرِ) (5)، قِيلَ لِابْنِ الْمُبَارَكِ: مَنِ الْأَصَاغِرُ؟ قَالَ: (الَّذِينَ يَقُولُونَ بِرَأْيِهِمْ. فَأَمَّا صَغِيرٌ يَرْوِي عَنْ كَبِيرٍ فَلَيْسَ بِصَغِيرٍ) (6).
وَخَرَّجَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أَصْبَحَ أَهْلُ الرَّأْيِ أَعْدَاءَ السُّنَنِ، أَعْيَتْهُمُ (7) الْأَحَادِيثُ أن يعوها، وتفلتت منهم (أن يرووها، فاشتقوها بالرأي، وعنه أيضاً: "اتقوا الرأي في دينكم") (8).
_________
(1) ساقطة من (ط).
(2) ساقطة من (ط).
(3) انظر جامع بيان العلم لابن عبد البر (2/ 77)، ونقله عنه الإمام ابن القيم في إعلام الموقعين (1/ 53).
(4) ساقطة من (خ).
(5) رواه الإمام ابن المبارك في الزهد والرقائق عن أبي أمية الجمحي (1/ 20 ـ 21)، والإمام اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة عنه أيضاً بلفظ (إن من أشاط الساعة أن يلتمس العلم عند الأصاغر) (1/ 85)، والخطيب في الجامع لآداب الراوي والسامع (1/ 72)، وعزاه الهيثمي في مجمع الزوائد إلى معجم الطبراني الأوسط والكبير، وقال: "وفيه ابن لهيعة وهو ضعيف" (1/ 140)، ولكن رواية ابن المبارك عنه مقبولة لأنه حدث عنه قبل احتراق كتبه. انظر تهذيب التهذيب لابن حجر (5/ 373 ـ 379). وصححه الألباني كما في الصحيحة تحت رقم (695).
(6) انظر قوله في الزهد لابن المبارك (1/ 21)، وفي أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي قال ابن المبارك: الأصاغر من أهل البدع (1/ 85)، وانظر قول ابن المبارك في الجامع لآداب الراوي والسامع للخطيب البغدادي (1/ 72).
(7) قال في اللسان: "عي بالأمر عياً، وعيي وتعايا واستعيا، وهو عي وعيي وعيان عجز عنه ولم يطق إحكامه". انظر لسان العرب (15/ 111).
(8) ما بين المعكوفين ساقط من جميع النسخ عدا (غ)، وذكره الإمام ابن بطة في الإبانة الصغرى بلفظ "وتفلتت منهم فلم يعوها فقالوا بالرأي". (ص121).(1/175)
قَالَ سَحْنُونُ (1): (يَعْنِي الْبِدَعَ) (2).
وَفِي رِوَايَةٍ: (إِيَّاكُمْ وَأَصْحَابَ الرَّأْيِ فَإِنَّهُمْ (أَعْدَاءُ السُّنَنِ) (3)، أَعْيَتْهُمُ الْأَحَادِيثُ (4) أَنْ يَحْفَظُوهَا (فَقَالُوا بِالرَّأْيِ فَضَّلُوا وَأَضَلُّوا) (5)) (6).
(وَفِي رواية لابن وهب: (إِنَّ أَصْحَابَ الرَّأْيِ أَعْدَاءُ السُّنَنِ (7)، أَعْيَتْهُمْ أَنْ يَحْفَظُوهَا) (8)، وَتَفَلَّتَتْ مِنْهُمْ أَنْ يَعُوهَا، وَاسْتَحْيَوْا حِينَ سُئِلُوا (9) أَنْ يَقُولُوا: لَا نَعْلَمُ، فَعَارَضُوا السُّنَنَ بِرَأْيِهِمْ، فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاهُمْ) (10).
قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي دَاوُدَ (11): (أَهْلُ الرَّأْيِ هُمْ أَهْلُ الْبِدَعِ) (12).
_________
(1) هو أبو سعيد عبد السلام بن حبيب بن حسان التنوخي، المغربي القيرواني المالكي فقيه المغرب، وقاضي القيروان، وصاحب المدونة، ويلقب بسحنون، ارتحل وحج وسمع الحديث، ولم يتوسع فيه كما توسع في الفروع، أخذ عنه عدد كبير من الفقهاء، توفي سنة أربعين ومائتين.
انظر: سير أعلام النبلاء (12/ 63)، ترتيب المدارك للقاضي عياض (2/ 585)، وفيات الأعيان للصفدي (3/ 180).
(2) ذكره عنه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/ 134 ـ 135).
(3) ما بين المعكوفين ساقط من (ت).
(4) ساقط من (خ).
(5) ما بين المعكوفين ساقط من (خ).
(6) رواه الإمام ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2/ 135)، والإمام اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 123).
(7) في (م) و (خ) و (ط): "السنة"، وما أثبته هو ما في (ت) و (غ) وكذلك هو في جامع بيان العلم لابن عبد البر (2/ 135).
(8) ما بين المعكوفين ساقط من (خ).
(9) في (ط) و (ت): "يسألوا".
(10) أخرجه الآجري في الشريعة (48)، واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (1/ 123)، والأصبهاني في الحجة (1/ 205)، والإمام ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1/ 135) والخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه (1/ 180 ـ 181)، وقد ذكر الإمام ابن القيم ما نقل عن عمر في ذم الرأي ثم قال: وأسانيد هذه الآثار عن عمر في غاية الصحة. إعلام الموقعين (1/ 55).
(11) هو عبد الله بن سليمان بن الأشعث السجستاني، ابن الإمام أبي داود صاحب السنن، وكان علامة حافظاً، روى عن أبيه وعمه وخلق كثير، صنف السنن والمصاحف والناسخ والمنسوخ وغيرها. مات سنة ست عشرة وثلاثمائة.
انظر: سير أعلام النبلاء (13/ 221)، شذرات الذهب لابن العماد (2/ 273)، ميزان الاعتدال للذهبي (2/ 433).
(12) انظر قوله في جامع بيان العلم لابن عبد البر (2/ 135).(1/176)
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: (مَنْ أَحْدَثَ رَأْيًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَمْ تَمْضِ بِهِ سُنَّةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمْ يَدْرِ مَا هُوَ عَلَيْهِ إِذَا لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ) (1).
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (قُرَّاؤُكُمْ وعلماؤكم (2) يذهبون، ويتخذ الناس رؤوساً (3) جُهَّالًا يَقِيسُونَ الْأُمُورَ بِرَأْيِهِمْ) (4).
وَخَرَّجَ ابْنُ وَهْبٍ وغيره عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: (السُّنَّةُ مَا سَنَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، لَا تَجْعَلُوا خَطَأَ (5) الرَّأْيِ سُنَّةً لِلْأُمَّةِ) (6).
وَخَرَّجَ أَيْضًا عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ (7) عَنْ أَبِيهِ قَالَ: (لَمْ يَزَلْ أَمْرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُسْتَقِيمًا حَتَّى أَدْرَكَ فِيهِمُ الْمُوَلَّدُونَ، أَبْنَاءُ سَبَايَا الْأُمَمِ، فأخذوا فيهم بالرأي فأضلوا بني إسرائيل (8)).
_________
(1) تقدم تخريجه (ص144).
(2) ساقطة من جميع النسخ عدا (غ) و (ر).
(3) في (ط): "رؤساء".
(4) رواه عنه الإمام ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/ 136).
(5) في جميع النسخ "حظ" عدا (غ) و (ر)، وهو الموافق لما عند ابن عبد البر.
(6) رواه الإمام ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/ 136).
(7) هو هشام بن عروة بن الزبير بن العوام القرشي الأسدي، إمام، ثقة، فقيه، سمع من أبيه وعمه ابن الزبير وغيرهم، وحدث عنه شعبة ومالك والثوري وغيرهم. توفي سنة ست وأربعين ومائة.
انظر: سير أعلام النبلاء (6/ 34)، تقريب التهذيب (2/ 319)، الكاشف للذهبي (3/ 197).
(8) روي هذا الأثر مرفوعاً إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، كما روي مرسلاً عن عروة بن الزبير، والمرفوع رواه الإمام ابن ماجه في مقدمة سننه، باب اجتناب الرأي والقياس عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: "لم يزل أمر بني إسرائيل معتدلاً حتى نشأ فيهم المولدون، أبناء سبايا الأمم. فقالوا بالرأي، فضلوا وأضلوا" (1/ 31)، ورواه البزار من حديث ابن عمرو مرفوعاً. انظر كشف الأستار عن زوائد البزار (1/ 96)، ورواه الإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى عن واثلة بن الأسقع مرفوعاً (2/ 622). قال الإمام ابن حجر في الفتح بعد ذكر حديث عبد الله بن عمرو في قبض العلم: "وهي رواية الأكثر، وخالف الجميع قيس بن الربيع، وهو صدوق، ضعف من قبل حفظه، فرواه عن هشام بلفظ: (لم يزل أمر بني إسرائيل ... ) أخرجه البزار وقال تفرد به قيس، ثم قال الحافظ: والمحفوظ بهذا اللفظ ما رواه هشام فأرسله ثم ذكر=(1/177)
وَعَنِ الشَّعْبِيِّ (1): (إِنَّمَا هَلَكْتُمْ حِينَ تَرَكْتُمُ الْآثَارَ وَأَخَذْتُمْ بِالْمَقَايِيسِ) (2).
وَعَنِ الْحَسَنِ: (إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حِينَ (3) تَشَعَّبَتْ (4) بِهِمُ (5) السُّبُلُ، وَحَادُوا عَنِ الطَّرِيقِ فَتَرَكُوا الْآثَارَ، وَقَالُوا فِي الدِّينِ برأيهم، فضلوا وأضلوا" (6).
وعن دراج أبي السَّمْحِ (7)، قَالَ: (يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يُسَمِّنُ الرجل
_________
=من رواه مرسلاً، انظر الفتح (13/ 285)، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد وعزاه للبزار، وقال: فيه قيس بن الربيع وثقه شعبة والثوري، وضعفه جماعة، وقال ابن القطان: هذا إسناد حسن (1/ 185)، وضعفه الشيخ الألباني كما في ضعيف الجامع تحت رقم (4760)، وأحال على السلسلة الضعيفة برقم (4336). ورواه مرسلاً عن عروة بن الزبير الإمام الدارمي في مقدمة سننه، باب التورع عن الجواب فيما ليس فيه كتاب ولا سنة (1/ 62)، والإمام ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/ 136، 138)، والإمام البيهقي في المدخل برقم (222)، وعزاه ابن حجر في الفتح للحميدي في النوادر. انظر الفتح (13/ 285).
(1) هو عامر بن شراحيل بن عبد بن ذي كبار الهمداني الشعبي، الإمام، علامة العصر، ولد في إمرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ورأى علياً رضي الله عنه وصلى خلفه، وسمع من عدة من كبراء الصحابة، قال ابن عيينة رحمه الله: علماء الناس ثلاثة: ابن عباس في زمانه، والشعبي في زمانه، والثوري في زمانه. مات سنة خمس ومائة.
انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي (4/ 294)، طبقات ابن سعد (6/ 246)، حلية الأولياء لأبي نعيم (4/ 310)، البداية والنهاية لابن كثير (9/ 230).
(2) رواه عنه الإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى بلفظ أطول (2/ 516)، والإمام ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/ 137).
(3) في (ت): "حتى".
(4) في (ط) و (خ): "شعبت".
(5) في (ت): "فيهم".
(6) رواه الإمام ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2/ 137).
(7) في (خ) و (ط): "دراج بن السهم بن أسمح"، وفي (م): "دراج بن أسمح"، والصواب ما أثبته.
وهو دراج بن سمعان أبو السمح السهمي، مولاهم، المصري، القاص، مولى عبد الله بن عمرو، قال ابن حجر: صدوق في حديثه عن أبي الهيثم، ضعيف من الرابعة، مات سنة ست وعشرين ومائة.
انظر: تقريب التهذيب (1/ 235)، الكاشف للذهبي (1/ 226).(1/178)
رَاحِلَتَهُ حَتَّى تَعْقِدَ شَحْمًا، ثُمَّ يَسِيرُ عَلَيْهَا فِي الْأَمْصَارِ حَتَّى تَعُودَ نِقْضاً (1)، يَلْتَمِسُ مَنْ يُفْتِيهِ بِسُّنَّةٍ قَدْ عَمِلَ بِهَا، فَلَا يَجِدُ إِلَّا مَنْ يُفْتِيهِ بِالظَّنِّ) (2).
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الرَّأْيِ الْمَقْصُودِ بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ.
فَقَدْ (3) قَالَتْ طَائِفَةٌ: الْمُرَادُ بِهِ رَأْيُ أَهْلِ الْبِدَعِ الْمُخَالِفِينَ لِلسُّنَنِ، لَكِنْ فِي الِاعْتِقَادِ كَمَذْهَبِ جَهْمٍ (4) وَسَائِرِ مَذَاهِبِ أَهْلِ الْكَلَامِ، لِأَنَّهُمُ اسْتَعْمَلُوا آرَاءَهُمْ فِي رَدِّ الْأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ عَنِ (5) النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَلْ وَفِي رَدِّ ظَوَاهِرِ الْقُرْآنِ لِغَيْرِ سَبَبٍ يُوجِبُ الرَّدَّ وَيَقْتَضِي التَّأْوِيلَ، كما قالوا بنفي الرؤية رداً (6) للظاهر (7) بالمحتملات (8)، ونفي
_________
(1) النِقْض، بالكسر: البعير الذي أنضاه السفر، وكذلك الناقة، قال السيرافي: كأن السفر نقض بنيته، انظر لسان العرب (7/ 243).
(2) رواه عنه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص90)، والإمام ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1/ 155).
(3) ساقطة من (غ) و (ر).
(4) هو جهم بن صفوان أبو محرز الراسبي السمرقندي، أسّ الضلالة، ورأس الجهمية تتلمذ على الجعد بن درهم المبتدع، وكان كاتباً للحارث بن سريج، وخرج معه على الأمويين فقتلا بمرو سنة 128هـ، ومن ضلالاته، نفي صفات الله، والقول بالجبر، والقول بفناء الجنة والنار.
انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي (6/ 26)، الفرق بين الفرق للبغدادي (ص158) الملل والنحل للشهرستاني (ص86).
(5) في (خ): "على".
(6) المثبت من (غ)، وفي بقية النسخ "نفياً".
(7) غير واضحة في (ت).
(8) وذلك مثل تأويلهم للنظر بالانتظار في قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ *إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (القيامة: 22 ـ 23)، مع أن دلالة الآية ظاهرة في أن المراد هو النظر بالعين حقيقة، قال الإمام ابن أبي العز في شرح الطحاوية: "وإضافة النظر إلى الوجه، الذي هو محله، في هذه الآية، وتعديته بأداة "إلى" الصريحة في نظر العين، وإخلاء الكلام من قرينة تدل على خلافه حقيقة موضوعة صريحة في أن الله أراد بذلك نظر العين التي في الوجه إلى الرب جل جلاله". انظر شرح الطحاوية (ص189).
والذين قالوا بنفي رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة هم الجهمية والمعتزلة ومن تبعهم من الخوارج والإمامية والمرجئة. وقولهم مخالف للكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين وأئمة الدين. وانظر في أدلة أهل السنة وردهم على المبتدعة أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي (3/ 454)، والشريعة للآجري (ص251)، وشرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز (ص188)، ومختصر الصواعق المرسلة لابن القيم (2/ 353)، وفتح الباري لابن حجر (13/ 426)، ورؤية الله تعالى (للدكتور أحمد الناصر).(1/179)
عَذَابِ الْقَبْرِ (1)، وَنَفْيِ الْمِيزَانِ (2)، وَالصِّرَاطِ (3)، وَكَذَلِكَ رَدُّوا أَحَادِيثَ الشَّفَاعَةِ (4) وَالْحَوْضِ (5) إِلَى أَشْيَاءَ يَطُولُ ذِكْرُهَا، وهي مذكورة في كتب الكلام (6).
_________
(1) قال الإمام ابن أبي العز في شرح الطحاوية: "وقد تواترت الأخبار عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ثبوت عذاب القبر ونعيمه لمن كان لذلك أهلاً، وسؤال الملكين، فيجب اعتقاد ثبوت ذلك والإيمان به، ولا نتكلم في كيفيته، إذ ليس للعقل وقوف على كيفيته، لكونه لا عهد له به في هذه الدار ... ". انظر شرح الطحاوية (ص399). وقد قال بنفيه الخوارج والمعتزلة اعتماداً على العقل في أمر غيبي ليس للعقل فيه مجال، وانظر في أدلة أهل السنة وردهم على المبتدعة أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي (6/ 1127)، والشريعة للآجري (ص358)، ومقالات الإسلاميين للأشعري (2/ 116)، وشرح الطحاوية لابن أبي العز (ص396).
(2) والميزان الذي توزن به الأعمال في الآخرة ثابت بالكتاب والسنة. قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ *} سورة الأنبياء: آية (47)، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم) رواه البخاري (11/ 566)، ومسلم (17/ 19)، وقد أنكر الميزان المعتزلة وبعض الطوائف، انظر في أدلة أهل السنة والرد على المبتدعة: أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي (16/ 1170)، الشريعة للآجري (ص382)، السنة لابن أبي عاصم، باب رقم (162)، شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز (ص417)، مقالات الإسلاميين للأشعري (2/ 164)، الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم (4/ 65).
(3) قال الإمام السفاريني في لوامع الأنوار البهية: "اتفقت الكلمة على إثبات الصراط في الجملة، لكن أهل الحق يثبتونه على ظاهره من كونه جسراً مدوداً على متن جهنم، أحد من السيف، وأدق من الشعر، وأنكر هذا الظاهر القاضي عبد الجبار المعتزلي وكثير من أتباعه زعما منهم أنه لا يمكن عبوره، وإن أمكن ففيه تعذيب، ولا عذاب على المؤمنين والصلحاء يوم القيامة .. ". ثم قال: "وكل هذا باطل وخرافات لوجوب حمل النصوص على حقائقها، وليس العبور على الصراط بأعجب من المشي على الماء أو الطيران في الهواء والوقوف فيه". انظر لوامع الأنوار (2/ 193)، وانظر في الموضوع: شرح أصول الاعتقاد للالكائي (6/ 1177)، شرح العقيدة الطحاوية (ص415).
(4) الذين نفوا الشفاعة لأهل الكبائر هم الخوارج والمعتزلة، بناء على أصلهم الباطل وهو تخليد مرتكب الكبيرة في النار، وأدلة الشفاعة صحيحة متواترة، انظرها على وجه التفصيل في: السنة لابن أبي عاصم (ص350 ـ 400)، أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي (ص1089 ـ 1115)، الشريعة للآجري (ص331 ـ 351)، وانظر في الرد عليهم: الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم (4/ 63)، مقالات الإسلاميين (2/ 166)، شرح الطحاوية لابن أبي العز (ص229).
(5) تقدم التعليق على هذه المسألة (ص123).
(6) تقدم نحو هذا الإطلاق للمؤلف في الباب الأول (ص48)، حيث سمى المؤلف أصول=(1/180)
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إِنَّمَا الرَّأْيُ الْمَذْمُومُ الْمَعِيبُ الرَّأْيُ الْمُبْتَدَعُ وَمَا كَانَ مِثْلَهُ مِنْ ضُرُوبِ الْبِدَعِ، فَإِنَّ حَقَائِقَ جَمِيعِ الْبِدَعِ رُجُوعٌ إِلَى الرَّأْيِ، وَخُرُوجٌ عَنِ الشَّرْعِ (1). وَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الْأَظْهَرُ، إِذِ الْأَدِلَّةُ الْمُتَقَدِّمَةُ لَا تَقْتَضِي بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ مِنَ الْبِدَعِ نَوْعًا دُونَ (2) نَوْعٍ، بَلْ ظَاهِرُهَا يقتضي (3) الْعُمُومَ فِي كُلِّ بِدْعَةٍ حَدَثَتْ أَوْ تَحْدُثُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، كَانَتْ مِنَ (4) الْأُصُولِ أَوِ الْفُرُوعِ (5)، كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ (6) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (7) بعد ما حَكَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْخَوَارِجِ (8).
وَكَأَنَّ الْقَائِلَ بِالتَّخْصِيصِ ـ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ـ لَمْ يَقُلْ بِهِ (9) بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ، بَلْ أَتَى بِمِثَالٍ مِمَّا تَتَضَمَّنُهُ (10) الْآيَةُ، كَالْمِثَالِ الْمَذْكُورِ، فَإِنَّهُ مُوَافِقٌ لِمَا كَانَ (11) مُشْتَهِرًا في ذلك الزمان، فهو أولى مَا يُمَثَّلُ بِهِ، وَيَبْقَى مَا عَدَاهُ مَسْكُوتًا عَنْ ذِكْرِهِ عِنْدَ الْقَائِلِ بِهِ، وَلَوْ سُئِلَ عَنِ الْعُمُومِ لَقَالَ بِهِ.
وَهَكَذَا كُلُّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَقْوَالِ الْخَاصَّةِ بِبَعْضِ أَهْلِ الْبِدَعِ إِنَّمَا تَحْصُلُ عَلَى التَّفْسِيرِ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْآيَةَ الْأُولَى مِنْ سُورَةِ آلِ عمران إنما نزلت فِي قِصَّةِ نَصَارَى نَجْرَانَ؟ ثُمَّ نُزِّلت عَلَى الْخَوَارِجِ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ (12)، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُذْكَرُ فِي التَّفْسِيرِ، إِنَّمَا يَحْمِلُونَهُ عَلَى مَا يشمله
_________
=الدين علم الكلام، والصحيح أن كتب العقيدة التي قرر فيها أهل السنة عقيدتهم، وردوا فيها على المبتدعة لا تسمى كتب الكلام، لأن الكلام مذموم، وكتبه مذمومة، بل تسمى كتب العقيدة، أو كتب السنة أو نحوها، وتقدم التعليق على نحو هذا في الموضع المذكور.
(1) انظر هذا القول في جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (2/ 138).
(2) في (ت): "وبعد".
(3) في (م) و (خ) و (ط): "تقتضي".
(4) مطموسة في (ت).
(5) فالأول خَاصٌّ بِالِاعْتِقَادِ، وَهَذَا عَامٌّ فِي الْعَمَلِيَّاتِ وَغَيْرِهَا كما ذكر ذلك المؤلف في الباب العاشر (2/ 335) من طبعة رشيد رضا.
(6) تقدمت ترجمته رحمه الله (ص76).
(7) سورة الأنعام: آية (159).
(8) تقدم قوله (ص93).
(9) ساقطة من (ت).
(10) في (ت): "تضمنته".
(11) المثبت من (غ) و (ر)، وفي بقية النسخ "قال"، وهي غير واضحة في (خ).
(12) انظر الآية وحمل بعض الصحابة لها على الخوارج (ص75 ـ 81).(1/181)
الْمَوْضِعُ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ الْحَاضِرَةِ لَا بِحَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ لُغَةً.
وَهَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ تَفْهَمَ أقوال المفسرين المتقدمين، وهو الأولى بمناصبهم (1) فِي الْعِلْمِ، وَمَرَاتِبِهِمْ فِي فَهْمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى تَقْرِيرٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ (2).
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ ـ وَهُمْ فِيمَا زَعَمَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ (3) ـ: الرَّأْيُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآثَارِ هُوَ الْقَوْلُ فِي أَحْكَامِ شَرَائِعِ الدِّينِ بِالِاسْتِحْسَانِ وَالظُّنُونِ، وَالِاشْتِغَالُ بِحِفْظِ الْمُعْضِلَاتِ والأُغْلُوطَات (4)، وَرْدُّ الْفُرُوعِ وَالنَّوَازِلِ (5) بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ قِيَاسًا، دُونَ رَدِّهَا إِلَى أُصُولِهَا وَالنَّظَرِ فِي عِلَلِهَا وَاعْتِبَارِهَا، فَاسْتُعْمِلَ فِيهَا الرَّأْيُ قَبْلَ أَنْ تُنَزَّلَ، وَفُرِّعَتْ قَبْلَ أَنْ تَقَعَ، وَتُكُلِّمَ فِيهَا قَبْلَ أَنْ تَكُونَ بِالرَّأْيِ الْمُضَارِعِ (6) لِلظَّنِّ.
قَالُوا: لِأَنَّ فِي الِاشْتِغَالِ بِهَذَا وَالِاسْتِغْرَاقِ فِيهِ تَعْطِيلُ السُّنَنِ وَالْبَعْثُ عَلَى جَهْلِهَا، وَتَرْكُ الْوُقُوفِ عَلَى مَا يَلْزَمُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ مِنْهَا وَمِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَعَانِيهِ.
وَاحْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَشْيَاءَ مِنْهَا (7): أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَعَنَ مَنْ سَأَلَ عَمَّا لَمْ يَكُنْ (8)، وَمَا جَاءَ مِنَ النهي عن الأغلوطات (9) ـ وهي صعاب
_________
(1) في (م) و (خ) و (ط): "لمناصبهم".
(2) وقريب من هذا المعنى ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في أنواع اختلاف السلف في التفسير، وأن غالبه اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد. انظر مقدمة التفسير ضمن الفتاوى (13/ 333 ـ 344).
(3) انظر قولهم في جامع بيان العلم وفضله (2/ 139).
(4) الأغلوطات جمع أغلوطة. والأغلوطة بالضم ما يغلّط به من المسائل. انظر الصحاح (3/ 1147). وقال الإمام الأوزاعي: هي شواذ المسائل وصعابها. انظر: مسند الإمام أحمد (5/ 435)، الإبانة الكبرى (1/ 402)، شرح السنة للبغوي (1/ 308)، الفقيه والمتفقه للخطيب (2/ 11)، المدخل للبيهقي (ص229).
(5) في (ط): "النوازع" وهو خطأ.
(6) في (خ): "المعارض".
(7) في (ت): "ومنها".
(8) رواه الإمام الدارمي في سننه، باب كراهية الفتيا عن ابن عمر عن أبيه رضي الله عنهما (1/ 62)، والإمام ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/ 139، 143).
(9) في (غ) و (ر) "الغلوطات"، وقد رواه الإمام أبو داود في سننه، باب التوقي في الفتيا عن=(1/182)
الْمَسَائِلِ ـ، وَعَنْ كَثْرَةِ السُّؤَالِ، وَأَنَّهُ كَرِهَ الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا (1)، وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ السَّلَفِ لَمْ يَكُنْ يُجِيبُ إِلَّا عَمَّا نَزَلَ مِنَ النَّوَازِلِ دُونَ مَا لَمْ يَنْزِلْ (2).
وَهَذَا الْقَوْلُ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِمَا قَبْلَهُ، لِأَنَّ مَنْ قَالَ بِهِ قَدْ مَنَعَ مِنَ الرَّأْيِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَذْمُومٍ، لِأَنَّ الْإِكْثَارَ مِنْهُ ذَرِيعَةٌ إِلَى الرَّأْيِ الْمَذْمُومِ، وَهُوَ تَرْكُ النَّظَرِ فِي السُّنَنِ اقْتِصَارًا عَلَى الرَّأْيِ.
وَإِذَا (3) كَانَ كَذَلِكَ اجْتَمَعَ مَعَ مَا قَبْلُهُ، فَإِنَّ مِنْ عَادَةِ الشَّرْعِ أَنَّهُ إِذَا نَهَى عَنْ شَيْءٍ وَشَدَّدَ فِيهِ مَنَعَ مَا حَوَالَيْهِ وَمَا دَارَ بِهِ وَرَتَعَ حَوْلَ حِمَاهُ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "الْحَلَالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَةٌ" (4)؟ وَكَذَلِكَ
_________
=معاوية رضي الله عنه، برقم (3656)، (3/ 320)، والإمام أحمد في المسند (5/ 435)، والخطيب في الفقيه والمتفقه (2/ 11)، والبيهقي في المدخل (ص229)، وابن بطة في الإبانة الكبرى (1/ 400)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/ 139)، والطبراني في معجمه الكبير (19/ 326، 892)، والمزي في تهذيب الكمال (15/ 21)، وفي إسناده عبد الله بن سعد قال عنه الذهبي في الميزان: مجهول (2/ 428)، وانظر ضعيف الجامع للشيخ الألباني برقم (6035)، (ص869).
(1) من ذلك ما أورده الإمام البخاري من الأحاديث في باب ما يكره من كثرة السؤال ومن تكلف ما لا يعنيه. ومنها حديث المغيرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم (كان ينهى عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال) (13/ 264 فتح). ورواه كذلك الإمام مسلم في كتاب الأقضية من صحيحه، باب النهي عن كثرة المسائل (12/ 10)، والإمام أحمد في المسند (4/ 246). وانظر ما جمعه ابن عبد البر في جامع بيان العلم عن الموضوع (2/ 140).
(2) وقد روي ذلك عن عمر وزيد بن ثابت وأبي بن كعب وغيرهم رضي الله عنهم. انظر ما روي في ذلك في سنن الدارمي، باب كراهية الفتيا (1/ 62 ـ 64)، جامع بيان العلم لابن عبد البر (2/ 141 ـ 142 ـ 143)، الفقيه والمتفقه للخطيب (2/ 7 ـ 8) المدخل للبيهقي (ص225 ـ 231).
(3) في (ت): "إذا" بدون واو.
(4) رواه الإمام البخاري في كتاب الإيمان من صحيحه، باب فضل من استبرأ لدينه عن النعمان بن بشير (1/ 126)، والإمام مسلم في كتاب المساقاة، من صحيحه، باب أخذ الحلال وترك الشبهات (11/ 27)، والإمام أبو داود في كتاب البيوع من سننه، باب في اجتناب الشبهات برقم (3329)، (3/ 240)، والإمام الترمذي في كتاب البيوع من سننه، باب ما جاء في ترك الشبهات برقم (1205)، والإمام النسائي في=(1/183)
جَاءَ فِي الشَّرْعِ أَصْلُ سَدِّ الذَّرَائِعِ، وَهُوَ مَنْعُ الْجَائِزِ لِأَنَّهُ يَجُرُّ إِلَى غَيْرِ الْجَائِزِ.
وَبِحَسَبِ عِظَمِ الْمَفْسَدَةِ فِي الْمَمْنُوعِ يَكُونُ اتِّسَاعُ الْمَنْعِ فِي الذَّرِيعَةِ وَشِدَّتُهُ.
وَمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ يُبَيِّنُ لَكَ عِظَمَ الْمَفْسَدَةِ فِي الِابْتِدَاعِ، فَالْحَوْمُ حَوْلَ حِمَاهُ يَتَّسِعُ جِدًّا، وَلِذَلِكَ تَنَصَّلَ الْعُلَمَاءُ مِنَ الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ وَإِنْ كَانَ جَارِيًا عَلَى الطَّرِيقَةِ، فَامْتَنَعَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُتْيَا بِهِ قَبْلَ نُزُولِ الْمَسْأَلَةِ، وَحَكَوْا فِي ذَلِكَ حَدِيثًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "لَا تَعْجَلُوا بالبَلِيَّة قَبْلَ نُزُولِهَا، فَإِنَّكُمْ إن لا تفعلوا (1) تشتتت (2) بِكُمُ الطُّرُقُ هَاهُنَا وَهَاهُنَا" (3).
وَصَحَّ نَهْيُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ كَثْرَةِ السُّؤَالِ (4) وَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَنَهَى عَنْ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا وَعَفَا عَنْ (5) أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ لَا عَنْ نِسْيَانٍ فلا تبحثوا عنها" (6).
_________
=كتاب البيوع، باب اجتناب الشبهات (7/ 241)، والإمام أحمد في المسند (4/ 267، 269، 270)، والإمام الدارمي في كتاب البيوع في سننه، باب في الحلال بين ... برقم (2538)، (2/ 319).
(1) هكذا في (ر) ومراجع الأثر، وفي بقية النسخ: "إن تفعلوا".
(2) في (ط) و (ت): "تشتت".
(3) أخرجه الإمام الدارمي في المقدمة من سننه، باب التورع عن الجواب فيما ليس فيه كتاب ولا سنة عن وهب بن عمرو الجمحي مرفوعاً (1/ 61)، وأخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم عن معاذ مرفوعاً (2/ 142)، ورواه الإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى عن معاذ مرفوعاً (1/ 395)، ورواه أبو داود في المراسيل مرفوعاً عن معاذ (ص224)، وذكره البيهقي في المدخل (ص226 ـ 227)، ورواه الخطيب في الفقيه والمتفقه موقوفاً على معاذ (2/ 12)، وروى الموقوف أيضاً الإمام الدارمي في سننه، باب من هاب الفتيا (1/ 68)، وقال الإمام ابن حجر في الفتح بعد ذكره عن أبي سلمة مرفوعاً وعن معاذ: وهما مرسلان يقوي بعض بعضا (13/ 267 فتح)، وذكره ابن حجر في المطالب العالية (3/ 106) وقال أبو حبيب الرحمن الأعظمي معلقاً عليه: قال البوصيري رواه إسحاق بإسناد حسن وأبو بكر بن أبي شيبة. انظر المطالب العالية (3/ 106).
(4) تقدم ذكر الحديث وتخريجه (ص198) هامش (3).
(5) ساقطة من (ت).
(6) رواه الإمام الدارقطني في كتاب الرضاع من سننه عن أبي ثعلبة الخشني (4/ 184) والإمام ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/ 136)، والإمام ابن بطة في الإبانة=(1/184)
وَأَحَالَ بِهَا جَمَاعَةٌ عَلَى الْأُمَرَاءِ فَلَمْ يَكُونُوا يُفْتُونَ حَتَّى يَكُونَ الْأَمِيرُ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى ذَلِكَ، وَيُسَمُّونَهَا صَوَافِيَ الْأُمَرَاءِ (1).
وَكَانَ جَمَاعَةٌ يُفْتُونَ على الخروج عن العهدة، وأنه رأي وليس (2) بِعِلْمٍ كَمَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِذْ سُئِلَ فِي الْكَلَالَةِ (3): (أَقُولُ (4) فِيهَا بِرَأْيِي (5)، فَإِنْ كَانَ صَوَابًا فَمِنَ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنَ الشَّيْطَانِ) (6). ثُمَّ أَجَابَ.
وَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ (7) فسأله عن شيء فأملاه (8) عليه،
_________
=الكبرى (1/ 407)، والخطيب في الفقيه والمتفقه (2/ 9)، والطبراني في الكبير (22/ 589)، وأبو نعيم في الحلية (9/ 17)، وحسنه الإمام النووي كما في الأذكار (ص584)، وقال عنه الهيثمي في المجمع: ورجاله رجال الصحيح (1/ 176)، وله شاهد من حديث أبي الدرداء رواه البيهقي في سننه (10/ 12)، والإمام الحاكم في المستدرك وصححه (2/ 407)، وانظر شواهد الحديث في الفتح (13/ 267).
(1) ومن ذلك ما رواه ابن عبد البر عن هشام بن عروة قال: ما سمعت أبي يقول في شيء قط برأيه، قال وربما سئل عن الشيء فيقول هذا من خالص السلطان. انظر جامع بيان العلم (2/ 143)، وروي كذلك عن عمر بن الخطاب أنه قال لأبي مسعود عقبة بن عمرو: "ألم أنبأ أنك تفتي الناس ولست بأمير؟! ولى حارها من تولى قارها". رواه عنه ابن عبد البر في نفس الموضع، وروى نحوه الإمام الدارمي في سننه (1/ 73).
(2) في (ط): "ليس" بدون الواو.
(3) الكَلالة هو الميت الذي لا ولد له ولا والد، وهو قول أبي بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم وجمهور أهل العلم. وتطلق الكلالة على الذين يرثون الميت من عدا والده وولده. انظر: فتح القدير للشوكاني (1/ 434)، تفسير ابن كثير (1/ 904).
(4) في (خ): "أقوال".
(5) في (ت): "برأي".
(6) رواه الإمام الدارمي في كتاب الفرائض من صحيحه، باب الكلالة (2/ 462)، والإمام ابن جرير في تفسيره (4/ 284)، وجامع بيان العلم لابن عبد البر (2/ 833)، وسعيد بن منصور في سننه (1/ 168).
(7) هو سعيد بن المسيب بن حزن القرشي المخزومي، عالم أهل المدينة، وسيد التابعين في زمانه، ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر رضي الله عنه، وسمع عثمان وعلي وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم، وكان ممن برز في العلم والعمل، وكان يفتي والصحابة أحياء. توفي رحمه الله سنة أربع وتسعين. انظر: سير أعلام النبلاء (4/ 217)، طبقات ابن سعد (5/ 119)، تاريخ البخاري الكبير (3/ 510)، البداية والنهاية (9/ 99).
(8) في (م) و (غ): "فأمله".(1/185)
ثُمَّ سَأَلَهُ عَنْ رَأْيِهِ فَأَجَابَهُ، فَكَتَبَ الرَّجُلُ، فقال رجل من جلساء (1) سعيد أنكتب (2) يَا أَبَا (3) مُحَمَّدٍ رَأْيَكَ؟ فَقَالَ سَعِيدٌ لِلرَّجُلِ: نَاوِلْنِيهَا، فَنَاوَلَهُ (4) الصَّحِيفَةَ فَخَرَقَهَا (5).
وَسُئِلَ (6) الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ (7) عَنْ شَيْءٍ فَأَجَابَ، فَلَمَّا وَلَّى الرَّجُلُ دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ: لَا تَقُلْ إِنَّ الْقَاسِمَ زَعَمَ أَنَّ هَذَا هُوَ الْحَقُّ، وَلَكِنْ إِنِ اضْطُرِرْتَ (8) إِلَيْهِ عَمِلْتَ بِهِ (9).
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: (قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ تَمَّ هَذَا الْأَمْرُ وَاسْتُكْمِلَ، فَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ نَتَّبِعَ (10) آثَارَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا نَتَّبِعَ (11) الرَّأْيَ، فَإِنَّهُ مَتَى اتُّبِعَ الرَّأْيُ جَاءَ رَجُلٌ آخَرُ أَقْوَى فِي الرَّأْيِ مِنْكَ فَاتَّبَعْتَهُ، فَأَنْتَ كُلَّمَا جَاءَ رَجُلٌ غَلَبَكَ اتَّبَعْتَهُ، أَرَى هَذَا لَا يَتِمُّ) (12). ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ بِرَأْيِهِ، وَلَكِنَّ كَثِيرًا مَا كَانَ يَقُولُ بَعْدَ أَنْ يَجْتَهِدَ رَأْيَهُ فِي النَّازِلَةِ: {إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} (13) (14)، وَلِأَجْلِ الْخَوْفِ عَلَى مَنْ كَانَ يَتَعَمَّقُ فِيهِ لم يزل
_________
(1) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "حلفاء".
(2) في (خ) و (ت) و (ط): "أتكتب".
(3) ساقطة من (ت).
(4) في (ت): "فناولها له"، وكلمة الصحيفة ساقطة، وكتب في الهامش "فناوله الصحيفة".
(5) رواه عنه الإمام ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/ 144).
(6) بياض في (غ).
(7) هو القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ولد في خلافة علي رضي الله عنه، وكان إماماً قدوة حافظاً، وهو عالم المدينة في وقته مع سالم وعكرمة، مات سنة سبع ومائة.
انظر: سير أعلام النبلاء (5/ 53)، طبقات ابن سعد (5/ 187)، حلية الأولياء (2/ 183)، شذرات الذهب (1/ 135).
(8) في (م) و (خ): "اضرر".
(9) رواه عنه الإمام ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/ 144).
(10) في (ر): "تتبع".
(11) في (ر): "يتبع".
(12) رواه عنه الإمام ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/ 144).
(13) سورة الجاثية: آية (32).
(14) روى ذلك عنه الإمام ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/ 33، 146)، وأبو نعيم في الحلية (6/ 323).(1/186)
يَذُمُّهُ، وَيَذُمُّ مَنْ تَعَمَّقَ فِيهِ، فَقَدْ كَانَ يُنْحَى (1) عَلَى (2) أَهْلِ الْعِرَاقِ لِكَثْرَةِ تَصَرُّفِهِمْ بِهِ فِي الْأَحْكَامِ، فَحُكِيَ عَنْهُ فِي ذَلِكَ أَشْيَاءَ مِنْ أَخَفِّهَا قَوْلُهُ: "الِاسْتِحْسَانُ تِسْعَةُ أَعْشَارِ الْعِلْمِ، وَلَا يَكَادُ الْمُغْرِقُ (3) فِي الْقِيَاسِ إِلَّا يُفَارِقُ السُّنَّةَ" (4).
وَالْآثَارُ الْمُتَقَدِّمَةُ لَيْسَتْ عِنْدَ مَالِكٍ مَخْصُوصَةٌ بِالرَّأْيِ فِي الِاعْتِقَادِ. فَهَذِهِ كُلُّهُا تَشْدِيدَاتٌ فِي الرَّأْيِ وَإِنْ كَانَ جَارِيًا عَلَى الْأُصُولِ حَذَرًا مِنَ الْوُقُوعِ فِي الرَّأْيِ غَيْرِ الْجَارِي عَلَى أَصْلٍ.
وَلِابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ هُنَا كَلَامٌ كَثِيرٌ كَرِهْنَا الْإِتْيَانَ بِهِ (5).
وَالْحَاصِلُ مِنْ جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الرَّأْيَ الْمَذْمُومَ مَا بُنِيَ عَلَى الجهل واتباع الهوى من غير أصل (6) يُرْجَعَ إِلَيْهِ، وَمَا كَانَ مِنْهُ ذَرِيعَةً إِلَيْهِ وإن كان في أصله محموداً، وذلك (عند الإكثار منه والاشتغال به عن النظر في الأصول، وما سواه فهو محمود لأنه) (7) رَاجِعٌ إِلَى أَصْلٍ شَرْعِيٍّ، فَالْأَوَّلُ دَاخِلٌ تَحْتَ حَدِّ الْبِدْعَةِ، وَتَتَنَزَّلُ عَلَيْهِ أَدِلَّةُ الذَّمِّ، وَالثَّانِي خارج عنه ولا يكون بدعة أبداً.
_________
(1) في (ت): "يلحى".
(2) ساقطة من (غ).
(3) في (ت): "المستغرق".
(4) روى الشطر الأول من قوله الإمام ابن حزم في الإحكام (6/ 16)، وأما الجزء الثاني فلم أجده، وقد ذكره المؤلف في الباب الثامن (2/ 138) من المطبوع.
(5) ولعل المؤلف يريد ما نقله ابن عبد البر عن مالك في ذم أبي حنيفة. انظر جامع بيان العلم (2/ 147)، ولكن الإمام ابن عبد البر عاد فتكلم عن أبي حنيفة بكلام منصف. (2/ 148 ـ 150).
(6) في جميع النسخ "أن" عدا (غ).
(7) ما بين المعكوفين ساقط من جميع النسخ عدا (غ).(1/187)
فصل
الوجه السادس يُذْكَرُ فِيهِ بَعْضُ مَا فِي الْبِدَعِ مِنَ الْأَوْصَافِ الْمَحْذُورَةِ، وَالْمَعَانِي الْمَذْمُومَةِ، وَأَنْوَاعِ الشُّؤْمِ، وَهُوَ كَالشَّرْحِ لِمَا تَقَدَّمَ أَوَّلًا، وَفِيهِ زِيَادَةُ بَسْطٍ، وَبَيَانٍ زَائِدٍ (1) عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي أَثْنَاءِ الْأَدِلَّةِ. فَلْنَتَكَلَّمْ عَلَى مَا يَسَعُ ذِكْرُهُ بِحَسَبِ الْوَقْتِ وَالْحَالِ (2).
فَاعْلَمُوا أَنَّ الْبِدْعَةَ لَا يُقْبَلُ مَعَهَا عِبَادَةٌ مِنْ صَلَاةٍ وَلَا صِيَامٍ وَلَا صَدَقَةٍ وَلَا غَيْرِهَا مِنَ الْقُرُبَاتِ. وَمُجَالِسُ صَاحِبِهَا تُنْزَعُ مِنْهُ الْعِصْمَةُ وَيُوكَلُ إِلَى نَفْسِهِ، وَالْمَاشِي إِلَيْهِ وَمُوَقِّرُهُ مُعِينٌ عَلَى هَدْمِ الْإِسْلَامِ، فَمَا الظَّنُّ بِصَاحِبِهَا؟ وَهُوَ مَلْعُونٌ عَلَى لِسَانِ الشَّرِيعَةِ، وَيَزْدَادُ (3) مِنَ اللَّهِ بِعِبَادَتِهِ بُعْدًا، وَهِيَ (4) مَظِنَّةُ إِلْقَاءِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، وَمَانِعَةٌ مِنَ الشَّفَاعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، وَرَافِعَةٌ لِلسُّنَنِ الَّتِي تُقَابِلُهَا، وَعَلَى مُبْتَدِعِهَا إِثْمُ (5) مَنْ عَمِلَ بِهَا، وَلَيْسَ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ، وتلقى عليه الذلة (في الدنيا) (6) وَالْغَضَبُ مِنَ اللَّهِ، وَيُبْعَدُ عَنْ حَوْضِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُخَافُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مَعْدُودًا فِي الْكُفَّارِ الْخَارِجِينَ عَنِ الملة، وسؤ (7) الْخَاتِمَةِ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنَ الدُّنْيَا، وَيَسْوَدُّ وَجْهُهُ في الآخرة، ويعذب بِنَارِ جَهَنَّمَ، وَقَدْ تَبَرَّأَ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَبَرَّأَ مِنْهُ الْمُسْلِمُونَ، وَيُخَافُ عَلَيْهِ الْفِتْنَةُ فِي الدُّنْيَا زِيَادَةً إِلَى عذاب الآخرة.
_________
(1) في (م): "زائداً".
(2) سوف يذكر المؤلف ما في البدع من الأوصاف المذمومة على وجه الإجمال ثم يفصل القول في كل وصف على حده.
(3) في (ت): "ويزدا".
(4) أي البدعة.
(5) في (ت): "ثم"، وصححت فوق الكلمة.
(6) ما بين المعكوفين ساقط من جميع النسخ عدا (غ)، وفي (ر): "الرضا".
(7) أي ويخاف عليه سوء الخاتمة.(1/188)
فَأَمَّا (1) أَنَّ الْبِدْعَةَ لَا يُقْبَلُ مَعَهَا عَمَلٌ، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ (2) أَنَّهُ قَالَ: (كَانَ بعض أهل العلم يقول: لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْ ذِي بِدْعَةٍ صَلَاةً وَلَا صِيَامًا وَلَا صَدَقَةً وَلَا جِهَادًا وَلَا حَجًّا (3) وَلَا عُمْرَةً وَلَا صَرْفًا وَلَا عَدْلًا) (4).
وَفِيمَا كَتَبَ بِهِ أَسَدُ بْنُ مُوسَى (5): (وَإِيَّاكَ أن يكون لك من أهل (6) الْبِدَعِ أَخٌ أَوْ جَلِيسٌ أَوْ صَاحِبٌ، فَإِنَّهُ جَاءَ الْأَثَرُ (مَنْ (7) جَالَسَ صَاحِبَ بِدْعَةٍ نُزِعَتْ منه العصمة، ووكل إلى نفسه) (8)، و (من مشى إلى صاحب بدعة مشى في (9) هَدْمِ الْإِسْلَامِ) (10)، وَجَاءَ: (مَا مِنْ إِلَهٍ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَبْغَضُ إِلَى اللَّهِ مِنْ صَاحِبِ هَوًى) (11)، وَوَقَعَتِ اللَّعْنَةُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ، وَإِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنْهُمْ صَرْفًا وَلَا عدلاً فَرِيضَةً (12) وَلَا تَطَوُّعًا (13)، وَكُلَّمَا ازْدَادُوا اجْتِهَادًا ـ صَوْمًا وَصَلَاةً ـ ازْدَادُوا مِنَ اللَّهِ بُعْدًا. فَارْفُضْ مُجَالَسَتَهُمْ (14)، وأذلهم وأبعدهم كما أبعدهم الله (15) وَأَذَلَّهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأئمة الهدى بعده" (16).
_________
(1) من هنا يبدأ المؤلف بتفصيل ما أجمله.
(2) تقدمت ترجمته رحمه الله (ص17).
(3) مطموسة في (ت).
(4) رواه عنه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص11)، ورواه الإمام الآجري عن الحسن في كتاب الشريعة (ص64)، والإمام اللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (1/ 139)، وذكره الإمام ابن بطة في الإبانة الصغرى (ص142).
(5) تقدمت ترجمته (ص139). وهذه الكتابة كتبها إلى أسد بن الفرات.
(6) هذه الكلمة ساقطة من جميع النسخ عدا (غ).
(7) مطموسة في (ت).
(8) تقدم تخريجه (ص150).
(9) في جميع النسخ "إليَّ" عدا (غ).
(10) تقدم تخريجه (ص127).
(11)، روى ابن أبي عاصم في السنة مرفوعاً: "ما تحت ظل السماء إله يعبد من دون الله أعظم عند الله من هوى متبع". وأخرجه ابن عدي في الكامل (5/ 715)، والطبراني في الكبير (7502)، وابن الجوزي في الموضوعات (3/ 139)، وحكم عليه الشيخ الألباني بأنه موضوع كما في تعليقه على السنة.
(12) في (ط): "ولا فريضة"، وفي (ت): "لا فريضة" بدون الواو.
(13) تقدم تخريج الحديث (ص120).
(14) في (ر): "مجالسهم".
(15) أثبتها من (ر)، وغير موجودة في بقية النسخ.
(16) روى هذا القول لأسد بن موسى رحمه الله الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص12 ـ 14) بلفظ أطول.(1/189)
وَكَانَ أَيُّوبُ السَّخْتِيَانِيُّ (1) يَقُولُ: (مَا ازْدَادَ صَاحِبُ بِدْعَةٍ اجْتِهَادًا إِلَّا ازْدَادَ مِنَ اللَّهِ بُعْدًا) (2).
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ (3): (لَا يَقْبَلُ اللَّهُ (4) مِنْ صَاحِبِ بِدْعَةٍ صَلَاةً وَلَا صِيَامًا وَلَا زَكَاةً وَلَا حَجًّا وَلَا جِهَادًا وَلَا عُمْرَةً وَلَا صَدَقَةً وَلَا عِتْقًا وَلَا صَرْفًا وَلَا عَدْلًا) (5).
وَخَرَّجَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قَالَ: (مَنْ كَانَ يَزْعُمُ أَنَّ مَعَ اللَّهِ قَاضِيًا أَوْ رَازِقًا أَوْ يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ ضَرًّا أَوْ نَفْعًا أَوْ مَوْتًا أَوْ حَيَاةً أَوْ نُشُورًا، لَقِيَ اللَّهَ (6) فَأَدْحَضَ حُجَّتَهُ، وَأَخْرَسَ (7) لِسَانَهُ، وَجَعَلَ صَلَاتَهُ وَصِيَامَهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (8)، وَقَطَعَ بِهِ الْأَسْبَابَ، وَكَبَّهُ فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ) (9).
وَهَذِهِ الأحاديث وما كان نحوها ـ مما ذكرناه أو لم نذكره ـ (وإن لم) (10) نتضمن (11) عهدة (12) صِحَّتِهَا كُلُّهَا، فَإِنَّ الْمَعْنَى الْمُقَرَّرَ فِيهَا لَهُ فِي الشَّرِيعَةِ أَصْلٌ صَحِيحٌ لَا مَطْعَنَ فِيهِ.
أَمَّا أَوَّلًا: فَإِنَّهُ قَدْ (13) جَاءَ فِي بَعْضِهَا مَا يَقْتَضِي عَدَمَ الْقَبُولِ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ كَبِدْعَةِ الْقَدَرِيَّةِ (14) حَيْثُ قَالَ فِيهَا عَبْدُ اللَّهِ بن عمر رضي الله عنهما: (إِذَا لَقِيتَ أُولَئِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُمْ، وأنهم برآء مني، فوالذي
_________
(1) تقدمت ترجمته رحمه الله (ص147).
(2) تقدم تخريجه (ص148).
(3) تقدمت ترجمته رحمه الله (ص149).
(4) لفظ الجلالة لا يوجد في (م).
(5) تقدم تخريجه (ص149).
(6) لفظ الجلالة لا يوجد في (م)، وغير واضح في (ت).
(7) في (م) و (خ): "أخرص" بالصاد.
(8) ساقطة من (غ) و (ر).
(9) أخرجه ابن وهب في كتاب القدر برقم (4)، (25).
(10) ما بين المعكوفين مثبت في (غ) وساقط من بقية النسخ.
(11) في (ط): "تتضمن"، وفي بقية النسخ (يتضمن)، والمثبت من (غ).
(12) في (خ) و (ط): "عمدة".
(13) ساقطة من (غ).
(14) وهم نفاة القدر، وقد تقدم التعريف بهم (ص11).(1/190)
يَحْلِفُ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمْ مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبًا فَأَنْفَقَهُ مَا تَقَبَّلَهُ اللَّهُ مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ" (1). ثُمَّ اسْتَشْهَدَ بِحَدِيثِ جِبْرِيلَ الْمَذْكُورِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ (2).
وَمِثْلُهُ حَدِيثُ الْخَوَارِجِ وَقَوْلُهُ فِيهِ: (يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ)، بَعْدَ قَوْلِهِ: (تَحْقِرُونَ صَلَاتَكُمْ (مَعَ صَلَاتِهِمْ) (3) وَصِيَامَكُمْ مَعَ صِيَامِهِمْ وَأَعْمَالَكُمْ مَعَ أَعْمَالِهِمْ) (4). الْحَدِيثَ.
وَإِذَا ثَبَتَ في بعضهم هذا لأجل بدعته (5)، فكل مبتدع يخاف عليه (أن يكون) (6) مثل من ذكر (7).
وأما ثانياً: فإن كون (8) الْمُبْتَدِعُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ عَمَلٌ، إِمَّا أَنْ يُرَادَ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ لَهُ بِإِطْلَاقٍ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ وَقَعَ مِنْ وِفَاقِ سُّنَّةٍ أَوْ خِلَافِهَا، وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ (9) أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ مَا ابْتَدَعَ فِيهِ خَاصَّةً دُونَ مَا لَمْ يَبْتَدِعْ فِيهِ.
فَأَمَّا الْأَوَّلُ: فَيُمْكِنُ عَلَى أَحَدِ أَوْجُهٍ ثَلَاثَةٍ:
الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ أَنَّ كُلَّ مُبْتَدِعٍ أَيَّ بِدْعَةٍ كَانَتْ، فَأَعْمَالُهُ لَا تُقْبَلُ مَعَهَا، دَاخَلَتْهَا تِلْكَ الْبِدْعَةُ أَمْ لَا. وَيُشِيرُ إِلَيْهِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورُ آنِفًا (10)، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ وَعَلَيْهِ سَيْفٌ فِيهِ صَحِيفَةٌ مُعَلَّقَةٌ، فقال: والله ما عندنا
_________
(1) انظر قوله رضي الله عنه في صحيح مسلم، كتاب الإيمان (1/ 156)، والشريعة للآجري (ص188).
(2) وفيه سؤال جبريل عليه السلام لنبينا صلّى الله عليه وسلّم عن الإسلام والإيمان والإحسان، انظره في الموضع السابق.
(3) ما بين المعكوفين ساقط من (ت).
(4) تقدم تخريج الحديث (ص12).
(5) في (ط): "بدعة".
(6) ما بين المعكوفين مثبت في (غ)، وساقط من بقية النسخ.
(7) في (خ) و (ط): "ذكره"، وفي (ت): "ذكروا".
(8) في (ط): "كان".
(9) المثبت من (غ) و (ر)، وفي بقية النسخ (يريد).
(10) في (غ) "أيضاً".(1/191)
كِتَابٌ نَقْرَؤُهُ إِلَّا كِتَابُ اللَّهِ وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، فَنَشَرَهَا فَإِذَا فِيهَا أَسْنَانُ الْإِبِلِ، وَإِذَا فِيهَا: (الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مِنْ عَيْرٍ (1) إِلَى كَذَا. مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ (2) صَرْفًا وَلَا عَدْلًا) (3). وَذَلِكَ عَلَى رَأْيِ مَنْ فَسَّرَ الصَّرْفَ وَالْعَدْلَ بِالْفَرِيضَةِ وَالنَّافِلَةِ (4). وَهَذَا شَدِيدٌ جِدًّا عَلَى أَهْلِ الْإِحْدَاثِ فِي الدِّينِ.
الثَّانِي (5): أَنْ تَكُونَ (6) بِدْعَتُهُ أَصْلًا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ سَائِرُ الْأَعْمَالِ، كَمَا إِذَا (7) ذَهَبَ إِلَى إِنْكَارِ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ بِإِطْلَاقٍ (8)، فَإِنَّ عَامَّةَ (9) التَّكْلِيفِ مَبْنِيٌّ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ إِنَّمَا يَرِدُ عَلَى الْمُكَلَّفِ مِنْ (10) كِتَابِ اللَّهِ أَوْ مِنْ سُنَّةِ رسوله، وما تفرع منهما (11) راجع إليهما.
_________
(1) في (خ)، "يمر" وصححت في هامشها، وهو اسم جبل في المدينة، وتقدم الحديث بلفظ "من عير إلى ثور" (ص120).
(2) في (ت): "له".
(3) تقدم تخريج الحديث (ص120).
(4) وهو قول الجمهور كما ذكره الإمام ابن حجر في الفتح (4/ 86)، وتقدم الكلام عليهما (ص120).
(5) أي الوجه الثاني لعدم قبول أعمال المبتدع مطلقاً.
(6) في (ت): "يكون".
(7) ساقطة من (غ).
(8) أهل السنة والجماعة يقبلون خبر الأحاد إذا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سواء كان في المسائل العلمية أو العملية، وقد ذهب إلى إنكاره الرافضة والقاساني وابن داود وبعض أهل الظاهر، انظر نسبة ذلك إليهم في: الإحكام للآمدي (2/ 65)، روضة الناظر لابن قدامة (1/ 222)، مذكرة أصول الفقه للشيخ محمد الأمين الشنقيطي (ص107)، السنة ومكانتها في التشريع للشيخ مصطفى السباعي (ص167)، وانظر في المسألة أيضاً: المحصول للرازي (2/ 170) أصول الفقه الإسلامي للدكتور وهبة الزحيلي (1/ 467) ومن المبتدعة من ذهب إلى رد حديث الآحاد في مسائل العقيدة دون مسائل الفقه وهو قول الجهمية والمعطلة والمعتزلة والرافضة، وهو خلاف عقيدة أهل السنة والجماعة.
وانظر في الرد عليهم: الصواعق المرسلة لابن القيم (ص470 ـ 532)، شرح الطحاوية لابن أبي العز (ص354)، مذكرة أصول الفقه للشيخ الشنقيطي (ص104)، الحديث حجة بنفسه في العقائد والأحكام للشيخ الألباني، رد شبهات الإلحاد عن أحاديث الآحاد للشيخ عبد العزيز بن راشد النجدي.
(9) بياض في (غ).
(10) في (خ): تحتمل "فهي".
(11) في (م) و (ت): "منه".(1/192)
فَإِنْ كَانَ وَارِدًا مِنَ السُّنَّةِ فَمُعْظَمُ نَقْلِ السُّنَّةِ بِالْآحَادِ، بَلْ قَدْ أَعْوَزَ أَنْ يُوجَدَ حَدِيثٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) مُتَوَاتِرًا (2).
وَإِنْ كَانَ وَارِدًا مِنَ الْكِتَابِ فَإِنَّمَا تُبَيِّنُهُ السُّنَّةُ.
فَكُلُّ مَا لَمْ يُبَيَّنْ فِي الْقُرْآنِ فَلَا بُدَّ لِمُطَّرِحِ نَقْلِ الْآحَادِ أن يستعمل فيه (3) رأيه، وَهُوَ الِابْتِدَاعُ بِعَيْنِهِ.
فَيَكُونُ كُلُّ (4) فَرْعٍ يَنْبَنِي على ذلك بدعة (5)، لَا (6) يُقْبَلُ مِنْهُ شَيْءٌ (7)، كَمَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (كُلُّ عَمَلٍ لَيْسَ عَلَيْهِ (8) أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ) (9)، وَكَمَا إِذَا كَانَتِ البدعة (في النية) (10) الَّتِي يَنْبَنِي عَلَيْهَا كُلُّ عَمَلٍ، فَإِنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْأَعْمَالَ إِنَّمَا تَلْزَمُ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ الْأَوْلِيَاءِ الْمُكَاشَفِينَ بِحَقَائِقِ التَّوْحِيدِ، فَأَمَّا مَنْ رُفِعَ لَهُ الحجاب وكوشف
_________
(1) سقطت من (ت).
(2) لا شك أن الأحاديث المتواترة قليلة بالنسبة للآحاد، ولكنها في نفس الوقت ليست نادرة الوجود، فقد قال الإمام السيوطي في تدريب الراوي نقلاً عن شيخ الإسلام ما ادعاه ابن الصلاح عن عزة المتواتر، وكذا "ما ادعاه غيره من العدم ممنوع لأن ذلك نشأ عن قلة الاطلاع على كثرة الطرق وأحوال الرجال وصفاتهم المقتضية لإبعاد العادة أن يتواطؤا على الكذب، أو يحصل منهم اتفاقاً، قال: ومن أحسن ما يقرر به كون المتواتر موجوداً وجود كثرة في الأحاديث، أن الكتب المشهورة المتداولة بأيدي أهل العلم شرقاً وغرباً المقطوع عندهم بصحة نسبتها إلى مؤلفيها، إذا اجتمعت على إخراج حديث، وتعددت طرقه تعدداً تحيل العادة تواطؤهم على الكذب، أفاد العلم اليقيني بصحته إلى قائله، قال: ومثل ذلك في الكتب المشهورة كثيرة، قال الإمام السيوطي: قلت: قد ألفت في هذا النوع كتاباً لم أسبق إلى مثله، سميته الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة ... " انظر تدريب الراوي (2/ 178).
(3) ساقطة من (ط).
(4) مثبتة من (غ) و (ر)، وساقطة من بقية النسخ.
(5) ساقط من (ط).
(6) في (غ) و (ر): "فلا".
(7) غير واضحة في (ت).
(8) كتبت في (ت) فوق السطر.
(9) تقدم تخريجه (ص114).
(10) ما بين المعكوفين مثبت من (غ) وساقط من بقية النسخ.(1/193)
بِحَقِيقَةِ مَا هُنَالِكَ، فَقَدِ ارْتَفَعَ التَّكْلِيفُ عَنْهُ، بِنَاءً مِنْهُمْ عَلَى أَصْلٍ هُوَ كُفْرٌ صَرِيحٌ لا يليق في هذا الموضع ذكره (1).
ومثله (2) مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ (3) بَعْضُ الْمَارِقِينَ مِنْ إِنْكَارِ الْعَمَلِ بِالْأَخْبَارِ النَّبَوِيَّةِ جَاءَتْ تَوَاتُرًا أَوْ آحَادًا، وَأَنَّهُ إِنَّمَا يَرْجِعُ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ (4).
وَفِي الترمذي عن أبي رافع (5) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ (6): "لَا أَلْفَيَنَّ أَحَدَكُمْ متكئاً على أريكته (7) يأتيه أَمْرِي مِمَّا (8) أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ، فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي! مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ". حَدِيثٌ حَسَنٌ (9).
وَفِي رِوَايَةٍ: "أَلَا هَلْ عَسَى رَجُلٌ يَبْلُغُهُ عَنِّي الْحَدِيثُ (10) وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ فَيَقُولُ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ، قَالَ: فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَلَالًا حَلَّلْنَاهُ (11)، وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَرَامًا حَرَّمْنَاهُ، وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ" حَدِيثٌ حسن (12).
_________
(1) وقد عد شيخ الإسلام ابن تيمية هذا القول من أعظم الكفر، بل عده شر من قول اليهود والنصارى. انظر قوله رحمه الله ورده عليهم في الفتاوى (11/ 401 ـ 433)، وانظر تلبيس إبليس لابن الجوزي (ص443 ـ 445)، وهو قول غلاة الصوفية.
(2) المثبت من (غ)، وفي بقية النسخ "وأمثلة".
(3) كتبت في (ت): فوق السطر.
(4) وهذا القول الباطل منسوب إلى غلاة الروافض. ويظهر أنه قول قديم، فقد ناقش الإمام الشافعي أصحابه في كتابه الأم (7/ 250)، وانظر رد الإمام ابن حزم عليهم في الإحكام (2/ 80)، ومع تهافت هذا المذهب فقد وجد من يدعو إليه في العصر الحديث كفرقة (القرآنيون). وانظر رد شبههم في كتاب السنة ومكانتها في التشريع للشيخ مصطفى السباعي (ص153 ـ 166)، وكتاب فرقة أهل القرآن وموقف الإسلام منها لخادم إلهي بخش.
(5) تقدمت ترجمته رضي الله عنه (ص137).
(6) كتبت في (ت): فوق السطر.
(7) هو كل ما اتكئ عليه، وقيل غير ذلك. وتقدم (ص138).
(8) المثبت من (غ)، وهو الموافق للرواية، وفي بقية النسخ "فيما".
(9) تقدم تخريجه (ص138).
(10) في (ر): "الحديث عني".
(11) في (غ) و (ر): "استحللناه".
(12) وهي الرواية الثانية عند الترمذي برقم (2464).(1/194)
وَإِنَّمَا جَاءَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى الذَّمِّ، وَإِثْبَاتِ أَنَّ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ كَكِتَابِ اللَّهِ، فَمَنْ تَرَكَ ذَلِكَ فَقَدْ بَنَى أَعْمَالَهُ عَلَى رَأْيِهِ لَا عَلَى كِتَابِ اللَّهِ (1) وَلَا عَلَى سُنَّةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن الأمثلة: ما (2) إِذَا كَانَتِ الْبِدْعَةُ تُخْرِجُ صَاحِبَهَا عَنِ الْإِسْلَامِ بِاتِّفَاقٍ أَوْ بِاخْتِلَافٍ، إِذْ لِلْعُلَمَاءِ فِي تَكْفِيرِ أَهْلِ الْبِدَعِ قَوْلَانِ (3). وَفِي الظَّوَاهِرِ (4) مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي بَعْضِ روايات حديث الخوارج حين ذكر السهم بصفة (5) الخروج (6) من الرمِيَّة سَبَقَ (7) الفرث والدم (8).
ومن الآيات قوله سبحانه: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (9) الآية ونحو (ذلك من) (10) الظَّوَاهِرِ الْمُتَقَدِّمَةِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ (11): أَنَّ صَاحِبَ الْبِدْعَةِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ التَّعَبُّدِيَّةِ أَوْ غَيْرِهَا قَدْ يَجُرُّهُ اعْتِقَادُ بِدْعَتِهِ الْخَاصَّةِ إِلَى التَّأْوِيلِ الَّذِي يُصَيِّرُ اعْتِقَادَهُ فِي الشَّرِيعَةِ ضَعِيفًا، وَذَلِكَ يُبْطِلُ عليه جميع عمله.
_________
(1) لفظ الجلالة غير موجود في جميع النسخ عدا (غ) و (ر).
(2) ساقطة من (ط).
(3) وهذا القول ليس على الإطلاق في كل بدعة، وإنما المراد بعض البدع العظيمة، كبدعة الخوارج التي ذكرها المؤلف هنا. وتقدم الكلام على مسألة تكفيرهم (ص79). وسيطرق المؤلف مسألة تكفير المبتدعة أيضاً في الباب التاسع (2/ 194 ـ 198، 202 ـ206، 246 ـ 249).
(4) في (ت): "الظر".
(5) في (خ) و (ط): "بصيغة".
(6) في (م)، و (خ) و (ط): "الخوارج" وفي (ت): "الخارج"، والمثبت من (غ).
(7) في (خ) و (ت) و (ط): "بين"، والصواب المثبت، وهو الموافق للرواية.
(8) هذه الرواية في حديث أبي سعيد عند البخاري، كتاب المناقب، برقم (3610) (6/ 617 ـ 618)، ومسلم في كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة (7/ 165)، وأحمد في المسند (3/ 56)، ورواها عبد الله بن عمرو بن العاص أيضاً كما في المسند (2/ 219).
(9) سورة آل عمران: آية (106).
(10) ساقط من (ط).
(11) أي من أوجه عدم قبول أعمال المبتدع بإطلاق، وفي (ر): "والوجه".(1/195)
بيان ذلك بأمثلة (1):
منها أن يشرك (2) العقل مع الشرع في التشريع (وهي طريقة أهل التحسين والتقبيح، ولذلك يقولون إن العقل يستقل بالتشريع) (3)، وَإِنَّمَا يَأْتِي الشَّرْعُ (4) كَاشِفًا لِمَا اقْتَضَاهُ الْعَقْلُ، فَيَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ حَكَّمَ هَؤُلَاءِ فِي التَّعَبُّدِ لِلَّهِ شَرْعَهُ أَمْ عُقُولَهُمْ؟ بَلْ صَارَ الشَّرْعُ فِي نِحْلَتِهِمْ كَالتَّابِعِ الْمُعِينِ (5)، لَا حَاكِمًا مُتَّبَعًا، وَهَذَا هُوَ التَّشْرِيعُ الَّذِي لَمْ يَبْقَ لِلشَّرْعِ مَعَهُ أَصَالَةٌ، فَكُلُّ مَا عَمِلَ هَذَا الْعَامِلُ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا اقْتَضَاهُ عَقْلُهُ، وَإِنْ شَرَكَ الشَّرْعَ فَعَلَى حُكْمِ الشَّرِكَةِ، لَا عَلَى إِفْرَادِ الشَّرْعِ، فَلَا يَصِحُّ بِنَاءً عَلَى الدَّلِيلِ (6) الدَّالِّ عَلَى إِبْطَالِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيَّيْنِ، إِذْ هُوَ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْكَلَامِ (7) مِنْ مَشْهُورِ الْبِدَعِ، وكل بدعة ضلالة (8).
_________
(1) في (م) و (خ) و (ط): "أمثلة".
(2) في (ت): "يتركب" وفي (م) و (خ) و (ت): "يترك"، والمثبت ما في (غ) و (ر).
(3) ما بين المعكوفين مثبت من (غ) و (ر)، وهو ساقط من بقية النسخ.
(4) الشين غير واضحة في (ت).
(5) ساقطة من (ت).
(6) كتبت مرتين في (ت).
(7) تقدم هذا الإطلاق للمؤلف، وأنه يريد به علماء العقيدة والأولى استعمال لفظ أنسب لذم الكلام وأهله عند السلف.
(8) وهذا القول هو قول المعتزلة والكرامية وغيرهم من أهل المذاهب، فقد ذهبوا إلى أن حسن الأفعال وقبحها صفات ذاتية لها، وأن الشرع ليس له دور إلا الكشف عن تلك الصفات، ورتبوا على ذلك قولهم الباطل، وهو أنه يجب على الله ـ سبحانه وتعالى ـ فعل ما استحسنه العقل، ويحرم عليه سبحانه فعل ما استقبحه العقل، وقد بنوا على ذلك نفيهم للقدر، ولكن كثيراً ممن قال بالتحسين والتقبيح العقلي لم يقل بنفي القدر، ولا التزم بما التزم به المعتزلة، لكن القول بأنه لا يقبل لأصحاب هذا القول عمل فيه نظر.
وقد ذهب الأشاعرة ومن تبعهم من أهل المذاهب إلى نفي التحسين والتقبيح العقليين، وقالوا بأن حسن الأفعال وقبحها لا يعرف إلا بالشرع. ويلزم على قولهم لوازم فاسدة قد التزموها وقالوا بها كجواز ظهور المعجزة على يد الكاذب وأن ذلك ليس بقبيح، وأنه يجوز نسبة الكذب إلى أصدق الصادقين، وأنه لا يقبح منه، وأنه يستوي التثليث والتوحيد قبل ورود الشرع .. وغير ذلك من اللوازم التي انبنت على أن هذه الأشياء لم تقبح بالعقل، وإنما جهة قبحها السمع فقط. انظر مفتاح دار السعادة لابن القيم (2/ 42).=(1/196)
وَمِنْهَا أَنَّ (1) الْمُسْتَحْسِنَ لِلْبِدَعِ يَلْزَمُهُ عَادَةً أَنْ يَكُونَ الشَّرْعُ عِنْدَهُ لَمْ يَكْمُلْ بَعْدُ، فَلَا يَكُونُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (2) مَعْنًى يُعْتَبَرُ بِهِ (3) عِنْدَهُمْ، وَمُحْسِنُ الظَّنِّ مِنْهُمْ يَتَأَوَّلُهَا حَتَّى يُخْرِجَهَا عَنْ ظَاهِرِهَا. وَذَلِكَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْفِرَقَ الَّتِي تَبْتَدِعُ الْعِبَادَاتِ أَكْثَرُهَا مِمَّنْ يُكْثِرُ الزُّهْدَ وَالِانْقِطَاعَ وَالِانْفِرَادَ عَنِ الْخَلْقِ، وَإِلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ يَجْرِي أَغْمَارُ (4) الْعَوَامِّ، وَالَّذِي يَلْزَمُ الْجَمَاعَةَ وَإِنْ كَانَ أَتْقَى خَلْقِ اللَّهِ لَا يُعِدُّونَهُ إِلَّا مِنَ الْعَامَّةِ. وَأَمَّا الْخَاصَّةُ فَهُمْ أَهْلُ تِلْكَ الزِّيَادَاتِ، وَلِذَلِكَ تَجِدُ كَثِيرًا مِنَ المغترين بِهِمْ، وَالْمَائِلِينَ إِلَى جِهَتِهِمْ، يَزْدَرُونَ بِغَيْرِهِمْ مِمَّنْ (5) لَمْ يَنْتَحِلْ مِثْلَ مَا انْتَحَلُوا، وَيَعُدُّونَهُمْ مِنَ الْمَحْجُوبِينَ عَنْ أَنْوَارِهِمْ، فَكُلُّ مَنْ يَعْتَقِدُ هَذَا الْمَعْنَى يَضْعُفُ فِي يَدِهِ قَانُونُ الشَّرْعِ الَّذِي ضَبَطَهُ السَّلَفُ الصَّالِحُ، وَبَيَّنَ حُدُودَهُ الْفُقَهَاءُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، إِذْ لَيْسَ هُوَ عِنْدَهُ فِي طريق السلوك بمنهض حتى يدخل مداخل
_________
=وقد ذهب الأشاعرة بناء على هذا إلى نفي الحكمة عن الله تعالى، ولكن من ذهب إلى نفي التحسين والتقبيح العقليين من غير الأشاعرة لم يقل بنفي الحكمة والأسباب.
وقد توسط أهل السنة في هذه المسألة، فقالوا بأن الحسن والقبح يدركان بالعقل ولكن ذلك لا يستلزم حكماً في فعل العبد، بل يكون الفعل صالحاً لاستحقاق الأمر والنهي، والثواب والعقاب من الحكيم الذي لا يأمر بنقيض ما أدرك العقل حسنه، أو ينهى عن نقيض ما أدرك العقل قبحه، عملاً في ذلك بمقتضى الحكمة التي هي صفة من صفاته سبحانه ... وهذا قول عامة السلف وأكثر المسلمين.
انظر هذه المسألة: فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (8/ 428 ـ 436)، (11/ 676 ـ 677)، درء تعارض العقل والنقل (8/ 492)، مفتاح دار السعادة للإمام ابن القيم (ص334 ـ 446)، شفاء العليل (ص391 ـ 434)، مدارج السالكين (1/ 230)، لوامع الأنوار البهية للسفاريني (1/ 284)، حقيقة البدعة وأحكامها للأستاذ سعيد بن ناصر الغامدي، وانظر قول المعتزلة في المغني للقاضي عبد الجبار (14/ 7 ـ 180)، وقول الأشاعرة في المواقف للإيجي (ص323)، والإرشاد للجويني (ص228).
(1) ساقطة من (ت).
(2) سورة المائدة: آية (3).
(3) ساقطة من (ت).
(4) في (م) و (غ) و (ر): "غمار"، قال في الصحاح: "والغمرة: الزحمة من الناس والماء، والجمع غمار، ودخلت في غمار الناس وغمار الناس، يضم ويفتح، أي في زحمتهم وكثرتهم. ورجل غمر: لم يجرب الأمور". الصحاح للجوهري (2/ 772 ـ 773).
(5) في (ت): "مثل من".(1/197)
خاصتهم، وعند ذلك لا يبقى للعمل (1) فِي أَيْدِيهِمْ رُوحُ الِاعْتِمَادِ الْحَقِيقِيِّ، وَهُوَ بَابُ عَدَمِ الْقَبُولِ فِي (تِلْكَ) (2) الْأَعْمَالِ، وَإِنْ كَانَتْ بِحَسَبِ ظَاهِرِ الْأَمْرِ مَشْرُوعَةً، لِأَنَّ الِاعْتِقَادَ فِيهَا أَفْسَدَهَا عَلَيْهِمْ، فَحَقِيقٌ أَنْ (3) لَا يُقْبَلَ مِمَّنْ (4) هَذَا شَأْنُهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ، وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ.
وَأَمَّا الثَّانِي (5): وَهُوَ أَنْ يُرَادَ بِعَدَمِ الْقَبُولِ لِأَعْمَالِهِمْ مَا ابْتَدَعُوا فِيهِ خَاصَّةً، فَيَظْهَرُ أَيْضًا، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ الْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ: (كُلُّ عَمَلٍ لَيْسَ عليه أمرنا فهو رد) (6). وجميع (7) (ما جاء) (8) مِنْ قَوْلِهِ: (كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ) (9)، أَيْ إِنَّ صَاحِبَهَا لَيْسَ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَهُوَ مَعْنَى عدم القبول، وفاق قول الله تَعَالَى: {وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (10).
وَصَاحِبُ الْبِدْعَةِ لَا يَقْتَصِرُ فِي الْغَالِبِ عَلَى الصَّلَاةِ دُونَ الصِّيَامِ، وَلَا عَلَى الصِّيَامِ دُونَ الزَّكَاةِ، وَلَا عَلَى الزَّكَاةِ دُونَ الْحَجِّ، وَلَا عَلَى الْحَجِّ دُونَ الْجِهَادِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ، لِأَنَّ الْبَاعِثَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ حَاضِرٌ مَعَهُ فِي الْجَمِيعِ، وَهُوَ الْهَوَى وَالْجَهْلُ بِشَرِيعَةِ اللَّهِ، كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ (11).
وَفِي الْمَبْسُوطَةِ (12) عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى (13) أَنَّهُ ذكر الأعراف وأهله
_________
(1) في (ط): "لعمل".
(2) في (م) و (خ) و (ت): "ذلك".
(3) في (ت): "أنه".
(4) في (ت): "لمن".
(5) وتقدم الأول وهو أن يراد عدم قبول أعمالهم بإطلاق.
(6) تقدم تخريجه (ص114).
(7) في (خ) و (ت) و (ط)، "والجميع".
(8) ما بين المعكوفين ساقط من جميع النسخ عدا (غ) و (ر).
(9) تقدم تخريجه (ص115).
(10) سورة الأنعام: آية (153).
(11) وذلك في بداية الباب الرابع (1/ 221) من المطبوع.
(12) ذكر هذا الكتاب الإمام ابن حجر في الفتح، وعزاه لابن نافع. انظر الفتح (1/ 305)، وابن نافع هو أحد تلامذة الإمام مالك.
(13) هو أبو محمد يحيى بن يحيى بن كثير الليثي القرطبي، الإمام، الحجة، رئيس علماء الأندلس وفقيهها، سمع الموطأ من مالك، وتفقه به من لا يحصى كثرة، وبه=(1/198)
فَتَوَجَّعَ وَاسْتَرْجَعَ، ثُمَّ قَالَ: (قَوْمٌ أَرَادُوا وَجْهًا مِنَ الْخَيْرِ فَلَمْ يُصِيبُوهُ)، فَقِيلَ لَهُ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، أَفَيُرْجَى لَهُمْ مَعَ ذَلِكَ لِسَعْيِهِمْ ثَوَابٌ؟ قَالَ (1): (لَيْسَ فِي خِلَافِ السُّنَّةِ رَجَاءُ ثواب) (2).
وَأَمَّا أَنَّ صَاحِبَ الْبِدْعَةِ تُنْزَعُ مِنْهُ الْعِصْمَةُ وَيُوكَلُ إِلَى نَفْسِهِ فَقَدْ تَقَدَّمَ نَقْلُهُ (3)، وَمَعْنَاهُ ظاهر جداً، فإن الله بَعَثَ إِلَيْنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ حَسْبَمَا أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ، وَقَدْ كُنَّا قَبْلَ طُلُوعِ ذَلِكَ النُّورِ الْأَعْظَمِ لَا نَهْتَدِي سَبِيلًا، وَلَا نَعْرِفُ مِنْ مَصَالِحِنَا الدُّنْيَوِيَّةِ إِلَّا قَلِيلًا عَلَى غَيْرِ كَمَالٍ، وَلَا مِنْ مَصَالِحِنَا الْأُخْرَوِيَّةِ قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا، بَلْ كَانَ كُلُّ أَحَدٍ يَرْكَبُ هَوَاهُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ (مَا فِيهِ) (4)، وَيَطْرَحُ هَوَى غَيْرِهِ فَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ، فَلَا يَزَالُ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمْ وَالْفَسَادُ فِيهِمْ يَخُصُّ وَيَعُمُّ، حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِزَوَالِ الرَّيْبِ وَالِالْتِبَاسِ، وَارْتِفَاعِ الْخِلَافِ الْوَاقِعِ بَيْنَ النَّاسِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ} إِلَى قَوْلِهِ: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} (5)، وقوله: ({كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} معناه: فاختلفوا فبعث الله النبيين كما قال) (6) {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا} (7).
_________
=وبعيسى بن دينار انتشر مذهب مالك بالأندلس. توفي سنة 234هـ.
انظر: ترتيب المدارك للقاضي عياض (1/ 534)، شجرة النور الزكية لمحمد مخلوف (ص63 ـ 64)، تقريب التهذيب (2/ 360).
(1) في (ت): "فقال".
(2) أكثر الأقوال في المراد بأهل الأعراف أنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، وقد أورد الإمام السيوطي في الدر المنثور عند ذكر آية الأعراف أحاديث تدل على أنهم قوم قتلوا في سبيل الله وهم عاصون لآبائهم، فمنعوا الجنة بمعصية آبائهم، ومنعوا النار بقتلهم في سبيل الله. انظر: الدر المنثور (3/ 464 ـ 465)، فتح القدير للإمام الشوكاني (2/ 209)، ولعل هذا المعنى أقرب إلى مراد يحيى بن يحيى فيما نقل عنه. وهذا القول ذكره القاضي عياض في ترتيب المدارك (3/ 391).
(3) تقدم (ص105).
(4) ساقطة من (خ).
(5) سورة البقرة: آية (213).
(6) ما بين المعكوفين أثبته من (غ) و (ر)، وهو ساقط من بقية النسخ.
(7) سورة يونس: آية (19).(1/199)
وَلَمْ يَكُنْ حَاكِمًا بَيْنَهُمْ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، إِلَّا وَقَدْ جَاءَهُمْ بِمَا يَنْتَظِمُ بِهِ شَمْلُهُمْ، وَتَجْتَمِعُ بِهِ كَلِمَتُهُمْ، وَذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا اخْتَلَفُوا، وَهُوَ مَا يَعُودُ عَلَيْهِمْ بِالصَّلَاحِ فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ، وَيَدْرَأُ عَنْهُمُ الفساد على الإطلاق، فانحفظت الأديان والدماء والعقول (1) وَالْأَنْسَابُ وَالْأَمْوَالُ مِنْ طُرُقٍ يَعْرِفُ مَآخِذَهَا الْعُلَمَاءُ، وذلك الْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم (المبين بسنته) (2) قَوْلًا وَعَمَلًا وَإِقْرَارًا، وَلَمْ يُرَدُّوا إِلَى تَدْبِيرِ أَنْفُسِهِمْ، لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ ذَلِكَ، وَلَا يَسْتَقِلُّونَ بِدَرْكِ مَصَالِحِهِمْ، وَلَا تَدْبِيرِ أَنْفُسِهِمْ.
فَإِذَا تَرَكَ الْمُبْتَدِعُ هَذِهِ الْهِبَاتِ الْعَظِيمَةَ، وَالْعَطَايَا الْجَزِيلَةَ، وأخذ في استصلاح آخرته (3) أَوْ دُنْيَاهُ بِنَفْسِهِ بِمَا لَمْ يَجْعَلِ الشَّرْعُ عَلَيْهِ دَلِيلًا، فَكَيْفَ لَهُ بِالْعِصْمَةِ وَالدُّخُولِ تَحْتَ هَذِهِ الرَّحْمَةِ (4)؟ وَقَدْ حَلَّ يَدَهُ مِنْ حَبْلِ الْعِصْمَةِ إِلَى تَدْبِيرِ نَفْسِهِ، فَهُوَ حَقِيقٌ بِالْبُعْدِ عَنِ الرَّحْمَةِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا} (5) بعد قوله: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} (6)، فَأَشْعُرُ أَنَّ الِاعْتِصَامَ بِحَبْلِ اللَّهِ هُوَ تَقْوَى اللَّهِ حَقًّا وَأَنَّ مَا سِوَى ذَلِكَ تَفْرِقَةٌ لقوله: {وَلاَ تَفَرَّقُوا}، والفرقة من أخص (7) أَوْصَافِ الْمُبْتَدِعَةِ، لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ، وَبَايَنَ جَمَاعَةَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ.
رَوَى عَبْدُ (8) بْنُ حميد (9) عن عبد الله (10): (أن حبل الله الجماعة) (11).
_________
(1) في (م) و (ت) و (خ) و (ط): "العقل".
(2) ما بين المعكوفين ساقط من جميع النسخ عدا (غ)، وفي (ر): "بسنة" ..
(3) المثبت من (غ)، وفي بقية النسخ: "نفسه".
(4) في (غ): "الترجمة".
(5) سورة آل عمران: آية (103).
(6) سورة آل عمران: آية (102).
(7) ساقطة من (ت)، وفي م وخ وط (أخس).
(8) المثبت هو ما في (غ) و (ر)، وبقية النسخ عبد الله.
(9) تقدمت ترجمته (ص100).
(10) هو ابن مسعود رضي الله عنه.
(11) رواه سعيد بن منصور في سننه برقم (520) (3/ 1084)، وابن جرير في تفسيره (4/ 30)، وعزاه السيوطي في الدر المنثور لابن المنذر والطبراني، من طريق الشعبي (2/ 287)، وروى الآجري قريباً منه ضمن خطبة لابن مسعود رضي الله عنه. انظر الشريعة (ص13)، وذكره كذلك الإمام البغوي في معالم التنزيل (1/ 333).(1/200)
وَعَنْ قَتَادَةَ (1): (حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ هَذَا الْقُرْآنُ وَسُنَنُهُ (2)، وَعَهْدُهُ إِلَى عِبَادِهِ الَّذِي أَمَرَ أَنْ يعتصم به (3)، فيه الْخَيْرِ (4)، وَالثِّقَةُ أَنْ يَتَمَسَّكُوا بِهِ، وَيَعْتَصِمُوا بِحَبْلِهِ) إِلَى آخِرِ مَا قَالَ (5).
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ} (6).
وأما أن الماشي إليه وَالْمُوَقِّرُ (7) لَهُ مُعِينٌ عَلَى هَدْمِ الْإِسْلَامِ فَقَدْ تقدم من نَقْلُهُ (8).
وَرُوِيَ أَيْضًا مَرْفُوعًا: (مَنْ أَتَى صَاحِبَ بِدْعَةٍ لِيُوَقِّرَهُ فَقَدْ أَعَانَ عَلَى هَدْمِ الْإِسْلَامِ) (9).
وَعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ (10) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ وَقَّرَ صَاحِبَ بِدْعَةٍ فَقَدْ أَعَانَ عَلَى هَدْمِ الْإِسْلَامِ) (11).
وَيُجَامِعُهَا فِي الْمَعْنَى مَا صَحَّ مِنْ قَوْلِهِ عليه السلام: "مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ" الْحَدِيثَ (12).
فَإِنَّ الْإِيوَاءَ يُجَامِعُ التَّوْقِيرَ، وَوَجْهُ ذَلِكَ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ الْمَشْيَ إِلَيْهِ وَالتَّوْقِيرَ لَهُ تَعْظِيمٌ لَهُ لِأَجْلِ بِدْعَتِهِ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الشَّرْعَ يَأْمُرُ بِزَجْرِهِ وَإِهَانَتِهِ وَإِذْلَالِهِ بِمَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ هَذَا، كَالضَّرْبِ وَالْقَتْلِ (13)، فَصَارَ تَوْقِيرُهُ صُدُودًا عَنِ الْعَمَلِ
_________
(1) تقدمت ترجمته رحمه الله (ص83).
(2) غير واضحة في (م) وفي (غ) و (ر): وسنته.
(3) في (خ) و (ط): "بما".
(4) في (خ) و (ط): "من الخير".
(5) قال الإمام السيوطي في الدر المنثور: "وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ} قال: بعهد الله وبأمره". (2/ 287)، وروى عنه أنه القرآن، كما في معالم التنزيل للبغوي (1/ 333)، وزاد المسير لابن الجوزي (1/ 432 ـ 433).
(6) سورة الحج: آية (78).
(7) في (ر): "الموقر" بغير واو.
(8) تقدم (ص205)، ضمن كلام أسد بن موسى رحمه الله.
(9) تقدم تخريجه (ص127).
(10) تقدمت ترجمته (ص191).
(11) تقدم تخريجه (ص127).
(12) تقدم تخريجه (ص120).
(13) وسوف يتكلم المؤلف عن الأحكام المتعلقة بالمبتدعة من ناحية القيام عليهم من الخاصة والعامة بسبب جنايتهم على الدين. وذلك في الباب الثالث (ص325 ـ 332).(1/201)
بِشَرْعِ الْإِسْلَامِ، وَإِقْبَالًا عَلَى مَا يُضَادُّهُ وَيُنَافِيهِ، وَالْإِسْلَامُ لَا يَنْهَدِمُ إِلَّا بِتَرْكِ الْعَمَلِ بِهِ، وَالْعَمَلِ بِمَا يُنَافِيهِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ تَوْقِيرَ صَاحِبِ الْبِدْعَةِ مَظِنَّةٌ لِمَفْسَدَتَيْنِ تَعُودَانِ عَلَى الْإِسْلَامِ بِالْهَدْمِ:
إِحْدَاهُمَا: الْتِفَاتُ الْجُهَّالِ وَالْعَامَّةِ إِلَى ذَلِكَ التَّوْقِيرِ، فَيَعْتَقِدُونَ فِي الْمُبْتَدِعِ أَنَّهُ أَفْضَلُ النَّاسِ، وَأَنَّ مَا هُوَ عَلَيْهِ خَيْرٌ مِمَّا عَلَيْهِ غَيْرُهُ، فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى اتِّبَاعِهِ عَلَى بِدْعَتِهِ دُونَ اتِّبَاعِ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى سُنَّتِهِمْ.
وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ إِذَا وُقِّرَ مِنْ أَجْلِ بِدْعَتِهِ صَارَ ذَلِكَ كَالْحَادِي الْمُحَرِّضِ لَهُ عَلَى إِنْشَاءِ الِابْتِدَاعِ فِي كُلِّ شَيْءٍ.
وَعَلَى كُلِّ حَالٍ (1) فَتَحْيَا الْبِدَعُ، وَتَمُوتُ السُّنَنُ، وَهُوَ هَدْمُ الْإِسْلَامِ بِعَيْنِهِ.
وَعَلَى ذَلِكَ دَلَّ حَدِيثُ مُعَاذٍ: (فَيُوشِكُ قَائِلٌ أَنْ يَقُولَ: مَا لَهُمْ لَا يَتَّبِعُونِي وَقَدْ قَرَأْتُ الْقُرْآنَ؟ مَا هُمْ بِمُتَّبِعِيَّ حَتَّى أَبْتَدِعَ لَهُمْ غَيْرَهُ، وَإِيَّاكُمْ وَمَا ابْتُدِعَ، فَإِنَّ مَا ابْتُدِعَ ضَلَالَةٌ) (2)، فَهُوَ يَقْتَضِي أَنّ السُّنَنَ تَمُوتُ إِذَا أحييت البدع، وإذا ماتت انْهَدَمَ الْإِسْلَامُ.
وَعَلَى ذَلِكَ دَلَّ النَّقْلُ عَنِ السلف الصالح (3) زِيَادَةً إِلَى صِحَّةِ الِاعْتِبَارِ، لِأَنَّ الْبَاطِلَ إِذَا عُمِلَ بِهِ لَزِمَ تَرْكُ الْعَمَلِ بِالْحَقِّ كَمَا فِي الْعَكْسِ، لِأَنَّ الْمَحَلَّ الْوَاحِدَ لَا يَشْتَغِلُ (4) إِلَّا بِأَحَدِ الضِّدَّيْنِ.
وَأَيْضًا فَمِنَ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ تَرْكُ الْبِدَعِ. فَمَنْ عَمِلَ بِبِدْعَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَدْ تَرَكَ تِلْكَ السُّنَّةَ.
فَمِمَّا جَاءَ مِنْ ذَلِكَ ما تقدم ذكره عن حذيقة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَخَذَ حَجَرَيْنِ فَوَضَعَ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ، ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: هَلْ ترون ما بين
_________
(1) ساقطة من (ت).
(2) تقدم تخريجه (ص53).
(3) ساقطة من (ط).
(4) في (م): "يستغل"، وفي (ر): "يستقل".(1/202)
هَذَيْنِ الْحَجَرَيْنِ (1) مِنَ النُّورِ؟ قَالُوا: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، مَا نَرَى بَيْنَهُمَا (مِنَ النُّورِ) (2) إِلَّا قَلِيلًا، قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَظْهَرَنَّ (3) الْبِدَعُ حَتَّى لَا يُرَى مِنَ الْحَقِّ إِلَّا قدر ما بين هذين الحجرين من النور، وَاللَّهِ لَتَفْشُوَنَّ الْبِدَعُ حَتَّى إِذَا تُرِكَ مِنْهَا شيء قالوا: تركت السنة) (4). وله أثر آخَرُ قَدْ (5) تَقَدَّمَ (6).
وَعَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ (7) أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: (مَا أَحْدَثَتْ أُمَّةٌ فِي دِينِهَا بِدْعَةً إِلَّا رَفَعَ اللَّهُ بِهَا عَنْهُمْ سنة (8)) (9).
وعن حسان بن عطية (10) قال: (ما أَحْدَثَ قَوْمٌ بِدْعَةً فِي دِينِهِمْ إِلَّا نَزَعَ اللَّهُ مِنْ سُنَّتِهِمْ مِثْلَهَا، ثُمَّ لَمْ يُعِدْهَا إِلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" (11).
وَعَنْ بَعْضِ السَّلَفِ يَرْفَعُهُ: (لَا يُحْدِثُ رَجُلٌ فِي الْإِسْلَامِ بِدْعَةً إِلَّا تَرَكَ مِنَ السُّنَّةِ مَا هُوَ خَيْرٌ منها) (12).
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: (مَا يَأْتِي عَلَى النَّاسِ مِنْ عَامٍ إِلَّا أَحْدَثُوا فِيهِ بِدْعَةً، وَأَمَاتُوا فِيهِ سُنَّةً، حَتَّى تحيا البدع، وتموت (13) السنن" (14).
وَأَمَّا أَنَّ صَاحِبَهَا مَلْعُونٌ عَلَى لِسَانِ الشَّرِيعَةِ، فَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ والناس أجمعين" (15).
_________
(1) ساقطة من (ت).
(2) ما بين المعكوفين ساقط من جميع النسخ عدا (غ) و (ر).
(3) في (خ): "لتظهرون".
(4) تقدم تخريجه (ص136).
(5) ساقطة من (ت).
(6) تقدم (ص137).
(7) تقدمت ترجمته (ص32).
(8) في (ت)، و (ط): "سنته".
(9) تقدم تخريجه (ص32).
(10) تقدمت ترجمته (ص33).
(11) تقدم تخريجه (ص33).
(12) تقدم تخريجه (ص32).
(13) في (ت): "وتموت فيه السنن".
(14) تقدم تخريجه (ص32).
(15) تقدم تخريجه (ص120).(1/203)
وعُد مِنَ الْإِحْدَاثِ الِاسْتِنَانُ (بِسُنَّةٍ) (1) سُوءٍ لَمْ تَكُنْ.
وَهَذِهِ اللَّعْنَةُ قَدِ اشْتَرَكَ فِيهَا صَاحِبُ الْبِدْعَةِ مَعَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ إِيمَانِهِ، وَقَدْ شَهِدَ أَنَّ بَعْثَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقٌّ لَا شَكَّ فِيهَا، وَجَاءَهُ الْهُدَى مِنَ اللَّهِ وَالْبَيَانُ الشَّافِي، وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ} إِلَى قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ *} (2) إِلَى آخِرِهَا.
وَاشْتَرَكَ أَيْضًا مَعَ مَنْ كَتَمَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَبَيَّنَهُ (3) فِي كِتَابِهِ. وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاََّّعِنُونَ *} (4) إِلَى آخِرِهَا.
فَتَأَمَّلُوا الْمَعْنَى الَّذِي اشْتَرَكَ الْمُبْتَدِعُ فِيهِ (5) مَعَ هَاتَيْنِ الْفِرْقَتَيْنِ، وَذَلِكَ مُضَادَّةُ الشَّارِعِ فِيمَا شَرَعَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ الْكِتَابَ وَشَرَعَ الشَّرَائِعَ، وَبَيَّنَ الطَّرِيقَ لِلسَّالِكِينَ عَلَى غَايَةِ مَا يُمْكِنُ مِنَ الْبَيَانِ، فَضَادَّهَا الْكَافِرُ بِأَنْ جَحَدَهَا جَحْدًا (6)، وَضَادَّهَا كَاتِمُهَا بِنَفْسِ الْكِتْمَانِ، لِأَنَّ الشَّارِعَ يُبَيِّنُ وَيُظْهِرُ، وَهَذَا يَكْتُمُ وَيُخْفِي، وَضَادَّهَا الْمُبْتَدِعُ بِأَنْ وَضَعَ الْوَسِيلَةَ لِتَرْكِ مَا بَيَّنَ وَإِخْفَاءِ (7) مَا أَظْهَرَ، لِأَنَّ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُدْخِلَ الْإِشْكَالَ فِي الْوَاضِحَاتِ، (مِنْ أَجْلِ اتِّبَاعِ الْمُتَشَابِهَاتِ، لِأَنَّ الْوَاضِحَاتِ) (8) تَهْدِمُ لَهُ مَا بَنَى عليه في الْمُتَشَابِهَاتِ، فَهُوَ آخِذٌ فِي إِدْخَالِ الْإِشْكَالِ عَلَى الواضح، حتى يُترك (9)، فبحق (10) ما جاءت اللعنة في الابتداع (11) مِنَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ.
قَالَ أَبُو مصعب (12) صاحب مالك رضي الله عنه: قدم علينا ابن
_________
(1) في (م) و (خ) و (ت): "بسنته".
(2) سورة آل عمران: الآيتان (86 ـ 87).
(3) في (ت): "ونبيه".
(4) سورة البقرة: آية (159).
(5) ساقطة من (غ) و (ر).
(6) ساقطة من (غ).
(7) في (ت): "وأخفى".
(8) ما بين المعكوفين ساقط من (ت).
(9) في (ط): "يرتكب".
(10) ساقطة من جميع النسخ عدا (غ)، وفي (ر): "فيحق".
(11) في (خ) و (ط): "الابتداع به".
(12) هو أبو مصعب أحمد بن أبي بكر، واسم أبي بكر القاسم بن الحارث الزبيري، روى عن مالك الموطأ وغيره من قوله، وتفقه بأصحابه: المغيرة وابن دينار وغيرهما. تولى=(1/204)
مَهْدِيٍّ (1) ـ يَعْنِي الْمَدِينَةَ ـ فَصَلَّى وَوَضَعَ رِدَاءَهُ بَيْنَ يَدَيِ الصَّفِّ، فَلَمَّا (2) سَلَّمَ (3) الْإِمَامُ رَمَقَهُ النَّاسُ بِأَبْصَارِهِمْ، وَرَمَقُوا مَالِكًا، وَكَانَ قَدْ صَلَّى خَلْفَ الْإِمَامِ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ: مَنْ هَاهُنَا مِنَ الْحَرَسِ (4)؟ فَجَاءَهُ نَفْسَانِ، فَقَالَ: خُذَا صَاحِبَ هَذَا الثَّوْبِ فَاحْبِسَاهُ فَحُبِسَ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ ابْنُ مَهْدِيٍّ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: أَمَا خِفْتَ اللَّهَ (5) وَاتَّقَيْتَهُ أَنْ وَضَعْتَ ثَوْبَكَ بَيْنَ يَدَيْكَ فِي الصَّفِّ، وَشَغَلْتَ الْمُصَلِّينَ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ، وَأَحْدَثْتَ فِي مَسْجِدِنَا شَيْئًا مَا كُنَّا نَعْرِفُهُ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَحْدَثَ فِي مَسْجِدِنَا حَدَثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ" (6)، فَبَكَى ابْنُ مَهْدِيٍّ وَآلَى عَلَى نَفْسِهِ أَنْ لَا يَفْعَلَ ذَلِكَ أَبَدًا فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا في غيره (7).
وهذا غاية التَّوَقِّي وَالتَّحَفُّظِ فِي تَرْكِ إِحْدَاثِ مَا لَمْ يَكُنْ خَوْفًا مِنْ تِلْكَ اللَّعْنَةِ، فَمَا ظَنُّكَ بِمَا سِوَى وَضْعِ الثَّوْبِ؟
وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ الطَّحَاوِيِّ (8) (سِتَّةٌ أَلْعَنُهُمْ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ) (9)، فَذَكَرَ فِيهِمْ التَّارِكَ لسنته عليه الصلاة والسلام أخذاً بالبدعة.
وَأَمَّا أَنَّهُ يَزْدَادُ (10) مِنَ اللَّهِ بُعْدًا، فَلِمَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: (صَاحِبُ الْبِدْعَةِ ما يَزْدَادُ (11) اجْتِهَادًا (12)، صِيَامًا وَصَلَاةً (13)، إِلَّا ازْدَادَ مِنَ الله بعداً) (14).
_________
=قضاء المدينة وكان فقيهها. توفي سنة 242هـ.
انظر: ترتيب المدارك (1/ 513)، سير أعلام النبلاء (11/ 436)، تقريب التهذيب (1/ 12).
(1) تقدمت ترجمته (ص87).
(2) في (م) و (خ): "فلم".
(3) ساقطة من (م) و (خ).
(4) في (ت): "العرس".
(5) ساقطة من (غ) و (ر).
(6) لم أجد الحديث بهذا اللفظ، من تخصيص المسجد نفسه، وقد تقدم حديث علي رضي الله عنه "الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى ثَوْرٍ مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا فعليه لعنة الله ... الحديث". انظر (ص120).
(7) هذه القصة ذكرها القاضي عياض بلفظها في ترتيب المدارك (1/ 171).
(8) تقدمت ترجمته رحمه الله (ص77).
(9) تقدم تخريجه (ص128).
(10) في جميع النسخ: "يزاد" عدا (غ) و (ر).
(11) في (ت): "يزاد"، وفي (ر): "لا يزداد".
(12) في (ط): "ما يزداد من الله اجتهاداً".
(13) في (ت): "ولا صلاة".
(14) تقدم تخريجه (ص146).(1/205)
وَعَنْ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ (1) قَالَ: "مَا ازْدَادَ صَاحِبُ بِدْعَةٍ اجْتِهَادًا إِلَّا ازْدَادَ مِنَ اللَّهِ بُعْدًا) (2).
وَيُصَحِّحُ هَذَا النَّقْلَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي (3) الخوارج: "يخرج من ضئضيء (4) هذا قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم (5) " إِلَى أَنْ قَالَ: "يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ" (6).
فَبَيَّنَ أَوَّلًا اجْتِهَادَهُمْ، ثُمَّ بَيَّنَ آخِرًا بُعْدَهُمْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَهُوَ بَيِّنٌ (أَيْضًا (7) مِنْ) (8) جِهَةِ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ كَمَا تَقَدَّمَ (9)، فَكُلُّ (10) عَمَلٍ يَعْمَلُهُ عَلَى الْبِدْعَةِ فَكَمَا لَوْ لَمْ يَعْمَلْهُ، وَيَزِيدُ (11) عَلَى تَارِكِ الْعَمَلِ بِالْعِنَادِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ ابْتِدَاعُهُ، وَالْفَسَادِ الدَّاخِلِ عَلَى النَّاسِ بِهِ فِي أَصْلِ الشَّرِيعَةِ، وَفِي فُرُوعِ الْأَعْمَالِ والاعتقادات، وهو يظن مع ذلك أن
_________
(1) تقدمت ترجمته (ص147).
(2) تقدم تخريجه (ص148).
(3) ساقطة من (ت).
(4) قال الزمخشري في الفائق في غريب الحديث فِي مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يخرج من ضئضيء هذا": أي من أصله، يقال: هو من ضئضيء صدق، وضؤضؤ صدق. انظر الفائق (2/ 325)، شرح الإمام النووي لمسلم (7/ 162).
(5) في (م): "صياهم".
(6) رواه الإمام البخاري في كتاب المناقب من صحيحه، باب علامات النبوة، عن أبي سعيد رضي الله عنه بلفظ "دَعْهُ فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يُحَقِّرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرمية ... " (6/ 617 ـ 618، فتح)، وأما حديث: "يخرج من ضئضئيء هذا قوم" فقد تقدم تخريجه ص12، وليس فيه "تحقرون صلاتكم مع صلاتهم ... "، والحديث هنا رواه أيضاً الإمام مسلم في كتاب الزكاة من صحيحه (7/ 164، 166)، والإمام ابن ماجه في مقدمة سننه، باب ذكر الخوارج برقم (169)، (1/ 60)، والإمام أحمد في المسند (3/ 33).
(7) ساقطة من (غ).
(8) ساقط من (م) و (خ) و (ت).
(9) تقدم الحديث (ص120).
(10) كتب في (ت) فوق هذه الكلمة "مـ"، وكتب بإزائها في الهامش "فكأنه لم يعمله".
(11) في (ت): "وزيد".(1/206)
بِدْعَتَهُ تُقَرِّبُهُ مِنَ اللَّهِ، وَتُوَصِّلُهُ إِلَى الْجَنَّةِ، وقد ثبت النقل (1) بِأَنَّهُ (2) لَا يُقَرِّبُ (3) إِلَى اللَّهِ إِلَّا الْعَمَلُ بِمَا شَرَعَ، وَعَلَى الْوَجْهِ الَّذِي شُرِعَ ـ وَهُوَ تَارِكُهُ ـ، وَأَنَّ الْبِدَعَ تُحْبِطُ الْأَعْمَالَ ـ وَهُوَ يَنْتَحِلُهَا.
وَأَمَّا أَنَّ الْبِدَعَ مَظِنَّةُ إِلْقَاءِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ أَهْلِ (4) الْإِسْلَامِ، فَلِأَنَّهَا تَقْتَضِي التَّفَرُّقَ شِيَعًا.
وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} (5)، وَقَوْلِهِ: {وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (6)، وقوله: {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ *} (7)، وَقَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (8)، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ فِي هَذَا الْمَعْنَى.
وَقَدْ بَيَّنَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ، وَأَنَّهَا تَحْلِقُ الدِّينَ (9).
وَجَمِيعُ (10) هَذِهِ الشَّوَاهِدِ تَدُلُّ (11) عَلَى وُقُوعِ الافتراق والعداوة عند وقوع الابتداع.
_________
(1) في (خ) و (ت) و (ط): "بالنقل".
(2) في (ت): "أنه".
(3) في (ط): "يقربه".
(4) ساقطة من (ت).
(5) سورة آل عمران: آية (105).
(6) سورة الأنعام: آية (153).
(7) سورة الروم: آية (31، 32).
(8) سورة الأنعام: آية (159).
(9) رواه الإمام أبو داود في كتاب الأدب من سننه، باب في إصلاح ذات البين عن أبي الدرداء برقم (4919) (4/ 282)، والإمام الترمذي في كتاب صفة القيامة وصححه برقم (2509) (4/ 572 ـ 573)، والإمام أحمد في المسند (6/ 444 ـ 445) والإمام ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/ 150)، والإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص85 ـ 86)، وصححه الشيخ الألباني كما في غاية المرام برقم (414) (ص237).
(10) ساقطة من (ط).
(11) في (غ): "يدل".(1/207)
وَأَوَّلُ شَاهِدٍ عَلَيْهِ فِي الْوَاقِعِ قِصَّةُ الْخَوَارِجِ إِذْ (1) عَادَوْا أَهْلَ الْإِسْلَامِ حَتَّى صَارُوا يَقْتُلُونَهُمْ، ويَدَعُون الْكُفَّارَ كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُ الْحَدِيثُ (2) الصَّحِيحُ (3).
ثُمَّ يَلِيهِمْ كُلُّ مَنْ كَانَ (4) لَهُ صَوْلَةٌ منهم، وقرب (5) من (6) الْمُلُوكِ، فَإِنَّهُمْ تَنَاوَلُوا (7) أَهْلَ السُّنَّةِ بِكُلِّ نَكَالٍ وعذاب وقتل أيضاً، حسبما بينه أَهْلِ (8) الْأَخْبَارِ (9).
ثُمَّ يَلِيهِمْ كُلُّ مَنِ ابْتَدَعَ بِدْعَةً، فَإِنَّ مِنْ شَأْنِهِمْ أَنْ يُثَبِّطُوا النَّاسَ عن اتباع أهل (10) الشريعة، ويذمونهم، ويزعمون أنهم الأرجاس (11) الأنجاس، المكبون عَلَى الدُّنْيَا، وَيَضَعُونَ عَلَيْهِمْ شَوَاهِدَ الْآيَاتِ فِي ذَمِّ الدُّنْيَا وَذَمِّ الْمُكِبِّينَ عَلَيْهَا، كَمَا يُرْوَى عَنْ (عَمْرِو) (12) بْنِ عُبَيْدٍ (13) أَنَّهُ قَالَ: (لَوْ شَهِدَ عِنْدِي عَلِيٌّ وَعُثْمَانُ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ عَلَى شراك نعل ما أجزت شهادتهم" (14).
_________
(1) في (خ): "إذا".
(2) ساقطة من (م) و (خ) و (ط) و (غ).
(3) تقدم تخريجه (ص12).
(4) ساقطة من (ت).
(5) في (م) و (خ) و (ت): "وقرن"، وفي (ط) "بقرب".
(6) ساقطة من جميع النسخ عدا (غ) و (ر).
(7) في (غ): "تنالوا".
(8) في (ط): "جميع أهل".
(9) وذلك مثل نصرة بعض خلفاء بني العباس للمعتزلة، وسوف يذكر المؤلف بعض الأمثلة على ذلك في الباب الثالث (ص319 ـ 320).
(10) ساقطة من جميع النسخ عدا (غ).
(11) في جميع النسخ "الأراجس" عدا (غ) و (ر).
(12) في (م) و (خ) و (ت): "عمر".
(13) هو عمرو بن عبيد بن باب البصري، كان من رؤوس المعتزلة، بل هو المؤسس الثاني للاعتزال بعد واصل بن عطاء، روى عن أبي قلابة والحسن البصري، وكان يكذب لأجل مذهبه، ويروى عن الحسن البصري أشياء لم يقلها، وكان يغر الناس بنسكه وتقشفه. توفي سنة 142هـ أو 143هـ.
انظر عنه: سير أعلام النبلاء (6/ 104)، البداية والنهاية (10/ 78)، ميزان الاعتدال (3/ 273 ـ 280)، الضعفاء الكبير للعقيلي (3/ 277 ـ 286).
(14) روى هذه المقولة الخبيثة عنه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ضمن ترجمته (12/ 178)، ورواها عنه أيضاً ابن عدي في الكامل في ضعفاء الرجال (5/ 102).(1/208)
وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ مُعَاذٍ (1) قَالَ: قُلْتُ لِعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ: كَيْفَ حَدَّثَ (2) الْحَسَنُ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ وَرَّثَ امْرَأَةَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بَعْدَ انْقِضَاءِ عدتها؟ فقال: (إن (3) عُثْمَانَ لَمْ يَكُنْ سُنَّةً) (4).
وَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ حَدَّثَ (5) الْحَسَنُ عَنْ سَمُرَةَ فِي السَّكْتَتَيْنِ؟ (6) فَقَالَ: (ما تصنع بسمرة؟ قبح الله سمرة) (7). انتهى. بَلْ قَبَّحَ اللَّهُ عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ.
وَسُئِلَ يَوْمًا عَنْ شَيْءٍ فَأَجَابَ فِيهِ. قَالَ الرَّاوِي: قُلْتُ (8): لَيْسَ هَكَذَا يَقُولُ أَصْحَابُنَا. قَالَ: وَمَنْ أصحابك لا أبا لك؟ قلت: أيوب، ويونس، وَابْنُ عَوْنٍ، وَالتَّيْمِيُّ. قَالَ: (أُولَئِكَ أَنْجَاسٌ أَرْجَاسٌ، أموات غير أحياء" (9).
_________
(1) هو معاذ بن معاذ بن نصر بن حسان العنبري التميمي، أبو المثنى، البصري، القاضي، ثقة متقن، قال أحمد: إليه المنتهى في التثبت بالبصرة، توفي سنة 196هـ.
انظر: الكاشف للذهبي (3/ 136)، تقريب التهذيب لابن حجر (2/ 257).
(2) في الكامل لابن عدي، وتاريخ بغداد للخطيب (حديث).
(3) كتب في هامش (خ) و (ت) كلمة "فعل"، لتكون العبارة "أن فعل عثمان لم يكن سنة"، ولكني وجدت ابن عدي في الكامل رواه عنه كما هو في الأصل، دون ذكر كلمة "فعل"، وأما الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد فرواه بلفظ "أن عثمان لم يكن صاحب سنة".
(4) رواه عنه ابن عدي في الكامل (5/ 100)، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (12/ 176). قال الإمام ابن قدامة في الكافي: "وإن أبانها في مرض موته على غير ذلك، لم يرثها وورثته ما دامت في العدة، لما روي أن عثمان ورث تماضر بنت الأصبغ الكلبية من عبد الرحمن بن عوف، وكان طلقها في مرض موته فبتها، واشتهر ذلك في الصحابة فلم ينكر، فكان إجماعاً، ولأنه قصد قصداً فاسداً في الميراث، فعورض بنقيض قصده، كالقاتل". انظر الكافي (2/ 561)، المغني (6/ 329 ـ 330).
(5) في تاريخ بغداد للخطيب والكامل لابن عدي (حديث).
(6) يريد حديث الحسن عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: "سكتتان حفظتهما عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ... إذا دخل في صلاته، وإذا فرغ من القراءة ... " رواه الإمام الترمذي وحسنه برقم (251) (2/ 30 ـ 31)، وصححه الشيخ أحمد شاكر في نفس الموضع، ورواه أحمد في المنسند (5/ 7)، وأبو داود (777، 778)، وابن ماجه (844، 845)، والحاكم (1/ 215)، وابن خزيمة (1578).
(7) روى هذه المقولة الخبيثة عنه الخطيب في تاريخ بغداد (12/ 176)، ورواها عنه ابن عدي في الكامل (5/ 100)، والدارقطني في أخبار عمرو بن عبيد (رقم 1900).
(8) في (ر): "فقلت".
(9) ذكر هذه المقولة له الإمام ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث (ص80 ـ 81)،=(1/209)
فَهَكَذَا أَهْلُ الضَّلَالِ يَسُبُّونَ السَّلَفَ الصَّالِحَ لَعَلَّ بِضَاعَتَهُمْ تَنْفُقُ، {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} (1).
وَأَصْلُ هَذَا الْفَسَادِ مِنْ قِبَلِ الْخَوَارِجِ، فَهُمْ أول من أفشا (2) لَعَنَ السَّلَفَ الصَّالِحَ، وَتَكْفِيرِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الصَّحَابَةِ، وَمِثْلُ هَذَا كُلِّهِ يُورِثُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ فِرْقَةَ النَّجَاةِ ـ وَهُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ ـ مَأْمُورُونَ بِعَدَاوَةِ أَهْلِ الْبِدَعِ (3)، وَالتَّشْرِيدِ بِهِمْ، وَالتَّنْكِيلِ بِمَنِ انْحَاشَ إِلَى جِهَتِهِمْ بِالْقَتْلِ فَمَا دُونَهُ، وَقَدْ حَذَّرَ الْعُلَمَاءُ مِنْ مُصَاحَبَتِهِمْ وَمُجَالَسَتِهِمْ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ (4). وَذَلِكَ مَظِنَّةَ إِلْقَاءِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، لَكِنَّ الدَّرْكَ فِيهَا عَلَى مَنْ تَسَبَّبَ فِي الْخُرُوجِ عَنِ الْجَمَاعَةِ بِمَا أَحْدَثَهُ مِنِ اتِّبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، لَا عَلَى التَّعَادِي مُطْلَقًا. كَيْفَ وَنَحْنُ مَأْمُورُونَ بِمُعَادَاتِهِمْ، وَهُمْ مَأْمُورُونَ بِمُوَالَاتِنَا والرجوع إلى الجماعة؟
وَأَمَّا أَنَّهَا مَانِعَةٌ مِنْ شَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلِمَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: "حَلَّتْ (5) شَفَاعَتِي لِأُمَّتِي إِلَّا صَاحِبَ بِدْعَةٍ" (6).
وَيُشِيرُ إِلَى صِحَّةِ الْمَعْنَى فِيهِ مَا فِي الصَّحِيحِ قَالَ: "أَوَّلُ مَنْ يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ، وَأَنَّهُ سَيُؤْتَى بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي فيؤخذ بهم ذات الشمال ـ إلى
_________
=ورواها عنه الإمام ابن عدي في الكامل (5/ 99)، والدارقطني في أخبار عمرو بن عبيد (رقم 15)، والعقيلي في الضعفاء (3/ 284).
(1) سورة التوبة: آية (32).
(2) ساقطة من جميع النسخ عدا (غ).
(3) في (غ): "البدعة".
(4) انظر ما تقدم من أقوال الصحابة ومن بعدهم (ص146 ـ 148).
(5) ساقطة من (ت).
(6) رواه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها، باب إحداث البدع، من طريق أبي عبد السلام قال سمعت بكر بن عبد الله المزني أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فذكره. انظر البدع والنهي عنها (ص43).
وقد حكم الشيخ الألباني على الحديث بأنه منكر كما في السلسلة الضعيفة برقم (209). قال الشيخ الألباني: قلت فهذا مرسل، بكر هذا تابعي لم يدرك النبي صلّى الله عليه وسلّم، ومع إرساله، فالسند إليه ضعيف، لأن أبا عبد السلام واسمه صالح بن رستم الهاشمي مجهول كما قال الحافظ ابن حجر في التقريب (1/ 359). انظر السلسلة الضعيفة (1/ 246).(1/210)
قوله ـ فَيُقَالُ: هَؤُلَاءِ (1) لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ". الْحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ (2).
فَفِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ لهم شفاعة من النبي (3) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا قَالَ: "فَأَقُولُ (4) كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ"، وَيَظْهَرُ مِنْ أَوَّلِ الْحَدِيثِ أَنَّ ذَلِكَ الِارْتِدَادَ لَمْ يَكُنِ ارْتِدَادَ كُفْرٍ لِقَوْلِهِ: "وَإِنَّهُ سَيُؤْتَى بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي" وَلَوْ كَانُوا مُرْتَدِّينَ عَنِ (5) الْإِسْلَامِ لَمَا نُسِبُوا إِلَى أُمَّتِهِ، وَلِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَتَى بِالْآيَةِ وَفِيهَا: {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (6)، وَلَوْ عَلِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ خَارِجُونَ عَنِ الْإِسْلَامِ جُمْلَةً لَمَا ذَكَرَهَا، لِأَنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ لَا غُفْرَانَ لَهُ أَلْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا يُرْجَى الْغُفْرَانُ لِمَنْ لَمْ يُخْرِجْهُ عَمَلُهُ عَنِ الْإِسْلَامِ (7)، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (8).
وَمِثْلُ هَذَا الْحَدِيثِ حَدِيثُ الْمُوَطَّأِ لِقَوْلِهِ فِيهِ: (فأقول (9) فسحقاً فسحقاً فسحقاً (10)) (11).
وَأَمَّا أَنَّهَا رَافِعَةٌ لِلسُّنَنِ الَّتِي تُقَابِلُهَا، فَقَدْ تَقَدَّمَ الِاسْتِشْهَادُ عَلَيْهِ فِي أَنَّ الْمُوَقِّرَ (12) لِصَاحِبِهَا معين على هدم الإسلام (13).
_________
(1) ساقطة من جميع النسخ عدا (غ).
(2) تقدم تخريجه (ص124).
(3) في (ط): "رسول الله".
(4) في (ط) وهامش (خ): "فأقول لهم"، وفي (م) و (خ) و (ت) و (ط): فأقول: "سحقاً"، وكلمة "سحقاً" ليست موجودة في هذا الحديث، وإنما هي في حديث الموطأ المتقدم (ص121).
(5) في (ت): "على".
(6) سورة المائدة: آية (118).
(7) قال الشيخ محمد رشيد رضا في تعليقه على الكتاب: "فيه أن هذه الآية لا تدل على رجاء المغفرة لهم كما قاله المحققون في تفسيرها، ووجهه ختمها بقوله {فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فذكر صفتي العزة والحكمة، دون صفتي المغفرة والرحمة، ولو دلت على رجاء المغفرة لهم لدلت على رجاء المغفرة لمن اتخذ المسيح وأمه إلهين من دون الله، لأنها نزلت حكاية عما يقوله المسيح عليه السلام في شأنهم، عندما يسأله الله تعالى عن شركهم".
(8) انظر الاعتصام (1/ 121).
سورة النساء: آية (116).
(9) ساقطة من (غ) و (ر).
(10) ساقطة من (خ) و (ط).
(11) تقدم تخريجه (ص124).
(12) في (غ): "المقر".
(13) تقدم (ص219 ـ 220).(1/211)
وَأَمَّا (1) أَنَّ عَلَى مُبْتَدِعِهَا إِثْمُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} (2)، وَلِمَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وزرها ووزر من عمل بها (إلى يوم القيامة) (3)) (4) الْحَدِيثَ.
وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ الْحَدِيثُ الْآخَرُ: "مَا مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا، لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ" (5).
وَهَذَا التَّعْلِيلُ يُشْعِرُ بِمُقْتَضَى الْحَدِيثِ قَبْلَهُ، إِذْ عَلَّلَ تَعْلِيقَ (6) الْإِثْمِ عَلَى ابْنِ آدَمَ لِكَوْنِهِ (7) أَوَّلَ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَنْ سَنَّ مَا لَا يَرْضَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَهُوَ مِثْلُهُ، إِذْ لَمْ يَتَعَلَّقِ الْإِثْمُ بِمَنْ سَنَّ الْقَتْلَ لِكَوْنِهِ قَتْلًا دُونَ غَيْرِهِ، بَلْ لِكَوْنِهِ سَنَّ سُنَّةَ سُوءٍ (لم تكن) (8)، وَجَعَلَهَا طَرِيقًا مَسْلُوكَةً (9).
وَمِثْلُ هَذَا مَا جَاءَ فِي مَعْنَاهُ مِمَّا تَقَدَّمَ أَوْ يَأْتِي كَقَوْلِهِ: "من ابْتَدَعَ بِدْعَةً ضَلَالَةً لَا تُرْضِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ عَمِلَ بِهَا لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أَوْزَارِ النَّاسِ شَيْئًا" (10). وغير ذلك من الأحاديث. فليتق (11) امْرُؤٌ رَبَّهُ، وَلْيَنْظُرْ قَبْلَ الْإِحْدَاثِ (فِي أَيِّ) (12) مزلة يضع قدمه فإنه (13) في
_________
(1) ساقطة من (ت).
(2) سورة النحل: آية (25).
(3) ما بين المعكوفين ساقطة من جميع النسخ عدا (غ).
(4) تقدم تخريجه (ص118).
(5) رواه الإمام البخاري في كتاب الاعتصام من صحيحه، باب إثم من دعا إلى ضلالة عن عبد الله بن مسعود وذكره (13/ 302 مع الفتح)، والإمام مسلم في كتاب القسامة من صحيحه، باب بيان إثم من سن القتل (11/ 166)، والإمام الترمذي في كتاب العلم من سننه باب ما جاء الدال على الخير كفاعله برقم (2673) (5/ 41)، والإمام ابن ماجه في كتاب الديات، باب التغليظ في قتل مسلم ظلماً برقم (2616) (2/ 873)، والإمام أحمد في المسند (1/ 383، 430، 433).
(6) في (ت): "تعليل".
(7) في (ر): "بكونه".
(8) ساقط من (ط).
(9) في (ت): "مسلوكاً".
(10) تقدم تخريجه (ص33).
(11) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "فليتق الله".
(12) ساقط من (ت).
(13) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط).(1/212)
محصول (1) أمره (2)، يَثِقُ (3) بِعَقْلِهِ فِي التَّشْرِيعِ، وَيَتَّهِمُ رَبَّهُ فِيمَا شَرَعَ، وَلَا يَدْرِي الْمِسْكِينُ مَا الَّذِي يُوضَعُ لَهُ فِي مِيزَانِ سَيِّئَاتِهِ، مِمَّا لَيْسَ فِي حِسَابِهِ، وَلَا شَعَرَ أَنَّهُ مِنْ عَمَلِهِ، فَمَا مِنْ بِدْعَةٍ يَبْتَدِعُهَا أَحَدٌ فَيَعْمَلُ بِهَا مَنْ بَعْدَهُ، إِلَّا كُتِبَ عَلَيْهِ إِثْمُ ذَلِكَ الْعَامِلِ، زِيَادَةً إِلَى إِثْمِ ابْتِدَاعِهِ أَوَّلًا (4)، ثُمَّ عَمَلِهِ ثَانِيًا. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ تُبْتَدَعُ فَلَا تَزْدَادُ عَلَى طُولِ الزَّمَانِ إِلَّا مُضِيًّا ـ حسبما تقدم ـ واشتهاراً وانتشاراً، فعلى وزان ذَلِكَ يَكُونُ إِثْمُ الْمُبْتَدِعِ لَهَا، كَمَا أَنَّ مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً كَانَ لَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَأَيْضًا فَإِذَا كَانَتْ كُلُّ بِدْعَةٍ (5) يَلْزَمُهَا إِمَاتَةُ سُّنَّةٍ تُقَابِلُهَا، كَانَ عَلَى الْمُبْتَدِعِ إِثْمُ ذَلِكَ أَيْضًا.
فَهُوَ إِثْمٌ زَائِدٌ عَلَى إِثْمِ الِابْتِدَاعِ وَذَلِكَ الْإِثْمُ يَتَضَاعَفُ تَضَاعُفَ إِثْمِ الْبِدْعَةِ بِالْعَمَلِ بِهَا، لِأَنَّهَا كُلَّمَا (6) تَجَدَّدَتْ فِي قَوْلٍ أَوْ عمل تجددت إِمَاتَةِ السُّنَّةِ كَذَلِكَ.
وَاعْتَبَرُوا ذَلِكَ بِبِدْعَةِ الْخَوَارِجِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَّفَنَا بِأَنَّهُمْ: "يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ" (7) الْحَدِيثَ إِلَى آخِرِهِ. فَفِيهِ بَيَانُ أَنَّهُمْ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ مِنَ الدِّينِ إِلَّا مَا إِذَا نَظَرَ فِيهِ النَّاظِرُ شَكَّ فِيهِ وَتَمَارَى: هَلْ هُوَ مَوْجُودٌ فِيهِمْ أَمْ لَا؟ وَإِنَّمَا سَبَبُهُ الِابْتِدَاعُ فِي دِينِ اللَّهِ، وَهُوَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: "يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ ويدعون أهل الأوثان"، وقوله: "يقرأون الْقُرْآنَ لَا يَتَجَاوَزُ تَرَاقِيَهُمْ" (8). فَهَذِهِ بِدَعٌ ثَلَاثٌ، أعاذنا الله (9) من ذلك بفضله.
_________
(1) المثبت من (غ)، وفي بقية النسخ "مصون"، ولا معنى لها.
(2) في (ت): "أمر".
(3) كتب في هامش (خ): "قبل الإحداث منزلة ليضع قدمه في مصون أم يثق". والظاهر أن العبارتين محرفة.
(4) في (م): "ولا".
(5) ساقطة من (م).
(6) في (م): "كلمة".
(7) تقدم تخريجه (ص12).
(8) تقدم تخريجه (ص12).
(9) المثبت من (غ)، وفي بقية النسخ "إعاذة بالله".(1/213)
وَأَمَّا أَنَّ صَاحِبَهَا لَيْسَ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ (1)، فَلِمَا جَاءَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "إن الله (2) حجز (3) التَّوْبَةَ عَلَى كُلِّ صَاحِبِ بِدْعَةٍ" (4).
وَعَنْ يَحْيَى بن أبي (5) عمرو السيباني (6) قَالَ (7): (كَانَ يُقَالُ: يَأْبَى اللَّهُ لِصَاحِبِ بِدْعَةٍ بِتَوْبَةٍ، وَمَا انْتَقَلَ صَاحِبُ بِدْعَةٍ إِلَّا إِلَى أشر (8) منها) (9). ونحوه عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: (مَا كَانَ رَجُلٌ عَلَى رَأْيٍ
_________
(1) المراد بهذا الإطلاق غالب أهل البدع، وسيذكر المؤلف بعد قليل إمكان توبة المبتدع، وقد أنكر شيخ الإسلام ابن تيمية القول بعدم قبول توبته مطلقاً فقال: "قال طائفة من السلف منهم الثوري: "البدعة أحب إلى إبليس من المعصية لأن المعصية يتاب منها، والبدعة لا يتاب منها". وهذا معنى ما روي عن طائفة أنهم قالوا: "إن الله حجر التوبة على كل صاحب بدعة" بمعنى أنه لا يتوب منها، لأنه يحسب أنه على هدى، ولو تاب لتاب عليه، كما يتوب على الكافر، ومن قال: إنه لا يقبل توبة مبتدع مطلقاً، فقد غلط غلطاً منكراً، ومن قال: ما أذن الله لصاحب بدعة في توبة، فمعناه ما دام مبتدعاً يراها حسنة لا يتوب منها، كما يرى الكافر أنه على ضلال، وإلا فمعلوم أن كثيراً ممن كان على بدعة تبين له ضلالها، وتاب الله عليه منها، وهؤلاء لا يحصيهم إلا الله". انظر مجموع الفتاوى (11/ 684 ـ 685)، وسوف يتكلم المؤلف عن توبة المبتدع في الباب التاسع (2/ 267 ـ 273، 280 ـ 282)، وانظر حقيقة البدعة وأحكامها لسعيد بن ناصر الغامدي (2/ 388 ـ 414).
(2) لفظ الجلالة لم يكتب في أصل (م)، وقد أثبت في هامشها.
(3) في (م) و (خ) و (ت) و (ط) و (ر): "حجر".
(4) رواه الإمام ابن أبي عاصم في السنة، باب ما ذكر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: لا يقبل الله عمل صاحب بدعة، عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (إن الله حجز ـ أو قال حجب ـ التوبة عن كل صاحب بدعة) (1/ 21) برقم (37)، ورواه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها، باب هل لصاحب البدعة توبة، وذكره عن أنس (ص62)، وقال عنه الهيثمي في المجمع: رواه الطبراني في الأوسط، ورجاله رجال الصحيح غير هارون بن موسى الفروي وهو ثقة (10/ 154). وقد صححه الشيخ الألباني كما في السلسلة الصحيحة (4/ 154) برقم (1620).
(5) ساقطة من (ت).
(6) في المخطوط والمطبوع "الشيباني"، والصحيح المثبت كما تقدم في ترجمته (ص12).
(7) ساقطة من (ت).
(8) تقدمت روايته (ص152) بلفظ "شر"، وهو الموافق لرواية ابن وضاح في البدع والنهي عنها.
(9) تقدم تخريجه (ص152).(1/214)
مِنَ الْبِدْعَةِ فَتَرَكَهُ إِلَّا إِلَى مَا هُوَ شَرٌّ مِنْهُ) (1).
خَرَّجَ هَذِهِ الْآثَارَ ابْنُ وَضَّاحٍ (2).
وَخَرَّجَ ابْنُ وَهْبٍ (3) عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العزيز رضي الله عنه أنه كان يقول: (اثنان لا تعاتبهما (4)، صَاحِبُ طَمَعٍ وَصَاحِبُ هَوًى (5)، فَإِنَّهُمَا لَا يَنْزِعَانِ) (6).
وَعَنِ ابْنِ شَوْذَبٍ (7) قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْقَاسِمِ (8) وَهُوَ يَقُولُ: (مَا كَانَ عَبْدٌ على هوى فَتَرَكَهُ (9) إِلَّا إِلَى مَا هُوَ شَرٌّ مِنْهُ)، قَالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا فَقَالَ: (تَصْدِيقُهُ فِي حَدِيثٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ، ثُمَّ لَا يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ حَتَّى يَرْجِعَ السهم على فوقه (10) " (11).
_________
(1) رواه عنه ابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص61).
(2) تقدمت ترجمته (ص39).
(3) تقدمت ترجمته (ص4).
(4) المثبت من (غ) و (ر)، وفي بقية النسخ "نعاتبها".
(5) في (ت): "وصاحب بدعة هوى".
(6) لم يمكن تخريجه لكون كتاب ابن وهب مخطوط، وقد طبع جزء يسير منه، ولم أجد فيه شيئاً مما نقل المؤلف.
(7) هو عبد الله بن شوذب البلخي الخراساني، سكن البصرة، ثم الشام، كان صدوقاً عابداً، وقد وثقه جماعة. توفي سنة 156هـ.
انظر: تقريب التهذيب (1/ 423)، الكاشف للذهبي (2/ 86).
(8) هو عبد الله بن القاسم التيمي البصري، مولى أبي بكر الصديق، روى عن طائفة من الصحابة، وهو من أقران سعيد بن المسيب. قال عنه ابن حجر: مقبول. انظر: تهذيب التهذيب (5/ 395)، تقريب التهذيب (1/ 441)، الكاشف للذهبي (2/ 106).
(9) المثبت ما في (غ) و (ر)، وفي بقية النسخ "تركه".
(10) قال الإمام النووي في شرح مسلم: "والفوق والفوقة بضم الفاء هو الحز الذي يجعل فيه الوتر". (7/ 165).
(11) رواه الإمام البخاري في كتاب التوحيد من صحيحه، باب إقرار الفاجر والمنافق عن أبي سعيد (13/ 535 ـ 536)، والإمام أحمد في المسند (3/ 15، 64)، والقول بتمامه ذكره ابن وضاح في البدع والنهي عنها، باب هل لصاحب البدعة توبة، إلا أن ابن شوذب ليس في إسناد ابن وضاح (ص61).(1/215)
وَعَنْ أَيُّوبَ (1) قَالَ: كَانَ رَجُلٌ يَرَى رَأْيًا فَرَجَعَ عَنْهُ، فَأَتَيْتُ مُحَمَّدًا (2) فَرِحًا بِذَلِكَ أُخْبِرُهُ، فَقُلْتُ: أَشَعَرْتَ أَنَّ فُلَانًا تَرَكَ رَأْيَهُ الَّذِي كان يرى؟ فقال: "انظروا (3) إلى ما (4) يَتَحَوَّلُ؟ إِنَّ آخِرَ الْحَدِيثِ أَشُدُّ عَلَيْهِمْ مِنْ أَوَّلِهِ (5) " (يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ، ثُمَّ (6) لَا يَعُودُونَ) " (7). وهو حديث أبي ذر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "سَيَكُونُ مِنْ أُمَّتِي قَوْمٌ يقرأون الْقُرْآنَ لَا (8) يُجَاوِزُ حَلَاقِيمَهُمْ، يَخْرُجُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَخْرُجُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ ثُمَّ لَا يَعُودُونَ فِيهِ، هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ) (9).
فَهَذِهِ شَهَادَةُ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لِمَعْنَى هَذِهِ الْآثَارِ، وَحَاصِلُهَا أنه لَا (10) تَوْبَةَ لِصَاحِبِ الْبِدْعَةِ عَنْ بِدْعَتِهِ، فَإِنْ خَرَجَ عَنْهَا فَإِنَّمَا يَخْرُجُ إِلَى مَا (11) هُوَ شَرٌّ مِنْهَا كَمَا فِي حَدِيثِ أَيُّوبَ، أَوْ يَكُونُ مِمَّنْ يُظْهِرُ الْخُرُوجَ عَنْهَا وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَيْهَا بَعْدُ، كَقِصَّةِ غَيْلَانَ (12) مَعَ عُمَرَ بْنِ عبد العزيز رضي الله عنه (13).
_________
(1) هو أيوب السختياني، تقدمت ترجمته (ص147).
(2) لعله ابن سيرين.
(3) في (ط): "انظر".
(4) رسمت في (ط) هكذا "إلى م".
(5) في (ت) و (ط) كتبت العبارة "أشد عليهم من الأول، أوله ... "، وكلمة "الأول" أثبتت في هامش (خ). وهي ساقطة من (م)، وكذلك ليست في البدع والنهي عنها لابن وضاح.
(6) في (ط) "وآخره ثم لا يعودون".
(7) انظر البدع والنهي عنها لابن وضاح، باب هل لصاحب البدعة توبة (ص62). وقد روى الخطيب البغدادي نحو هذا القول عن أيوب عندما قال له رجل: إن عمرو بن عبيد قد رجع عن قوله. انظر تاريخ بغداد (12/ 174).
(8) في (ط): "ولا".
(9) رواه الإمام مسلم في كتاب الزكاة عن أبي ذر (7/ 174 مع النووي)، والإمام ابن ماجه في مقدمة سننه، باب في ذكر الخوارج (1/ 60) برقم (170)، والإمام أحمد في المسند (5/ 31)، والإمام الدارمي في كتاب الجهاد من سننه، باب في قتال الخوارج (2/ 281 برقم (2434).
(10) ساقطة من (ط).
(11) في (غ) و (ر): "لما".
(12) هو غيلان الدمشقي القدري. تقدمت ترجمته (ص102).
(13) تقدمت قصته مع عمر بن عبد العزيز (ص102).(1/216)
ويدل عليه (1) أَيْضًا حَدِيثُ الْفِرَقِ إِذْ قَالَ فِيهِ: "وَإِنَّهُ سيخرج في أمتي أقوام تَتَجَارَى بِهِمْ تِلْكَ الْأَهْوَاءُ (2) كَمَا يَتَجَارَى الكَلَب (3) بِصَاحِبِهِ، لَا يَبْقَى مِنْهُ عِرْقٌ وَلَا مَفْصِلٌ إِلَّا دَخَلَهُ" (4)، وَهَذَا النَّفْيُ يَقْتَضِي الْعُمُومَ بِإِطْلَاقٍ، وَلَكِنَّهُ قَدْ يُحْمَلُ عَلَى الْعُمُومِ الْعَادِيِّ، إِذْ لا يبعد أن يتوب بعضهم (5) عَمَّا رَأَى، وَيَرْجِعَ إِلَى الْحَقِّ، كَمَا نُقِلَ عن عبيد اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيِّ (6)، وَمَا نَقَلُوهُ فِي مناظرة ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ الحرورية الخارجين على علي رضي الله عنه (7)، وفي مناظرة عمر بن عبد العزيز
_________
(1) في (خ) و (ط) و (ر): "على ذلك".
(2) في (م): "الأهوى".
(3) الكَلَب، بالتحريك، هو داء يعرض للإنسان من عض الكَلْبِ الكَلِبِ، فيصيبه شبه الجنون، وتعرض له أعراض رديئة، ولا يشرب الماء حتى يموت عطشاً.
انظر: النهاية في غريب الحديث (4/ 195).
وقد تكلم المؤلف عن وجه تشبيه الأهواء بالكلب في الباب التاسع، المسألة الثانية والعشرون (2/ 277).
(4) رواه الإمام أبو داود في كتاب السنة من سننه، باب شرح السنة عن معاوية رضي الله عنه أنه قام فقال: ألا إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قام فينا فقال: "ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين: ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة وهي الجماعة). زاد يحيى وعمرو في حديثيهما (وإنه سيخرج من أمتي أقوام ... الحديث) (4/ 197) (4597)، ورواه الإمام الدارمي في كتاب السير من سننه، باب في افتراق هذه الأمة (دون ذكر الزيادة)، (2/ 314) برقم (2518)، والإمام أحمد في المسند (4/ 102)، والإمام الآجري في الشريعة، باب ذكر افتراق الأمم في دينهم (ص18) (دون ذكر الزيادة)، والإمام ابن أبي عاصم في السنة، باب ذكر الأهواء المذمومة (1،2) (ص7)، والإمام المروزي في السنة (ص19 ـ 20)، والإمام اللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (1/ 101، 102)، والإمام الحاكم في المستدرك وصححه ووافقه الذهبي (1/ 128)، وحسنه ابن حجر كما في تخريج أحاديث الكشاف (ص63)، وصححه الألباني كما في ظلال الجنة (ص 7 ـ 8). وقد ذكر المؤلف الحديث في الباب التاسع وأفرده بمسائل (2/ 267).
(5) مثبتة في (غ)، وساقطة من بقية النسخ.
(6) سوف يذكر المؤلف خبره، وما وقع فيه من الخطأ، ثم توبته من ذلك في الباب الثالث (ص278 ـ 281).
(7) هذه المناظرة ذكرها المؤلف في الباب التاسع (2/ 187 ـ 189)، وقد ذكرها الإمام=(1/217)
لِبَعْضِهِمْ (1)، وَلَكِنَّ الْغَالِبَ فِي الْوَاقِعِ الْإِصْرَارُ.
وَمِنْ هُنَالِكَ (2) قُلْنَا: يَبْعُدُ أَنْ يَتُوبَ بَعْضُهُمْ لِأَنَّ الْحَدِيثَ يَقْتَضِي الْعُمُومَ بِظَاهِرِهِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ بِأَبْسَطَ مِنْ هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ (3).
وَسَبَبُ ذلك (4) بعد السماع (5) أَنَّ الدُّخُولَ تَحْتَ تَكَالِيفِ الشَّرِيعَةِ صَعْبٌ عَلَى النَّفْسِ، لِأَنَّهُ أَمْرٌ مُخَالِفٌ لِلْهَوَى، وَصَادٌّ عَنْ سَبِيلِ الشَّهَوَاتِ، فَيَثْقُلُ عَلَيْهَا جِدًّا، لِأَنَّ الْحَقَّ ثَقِيلٌ، وَالنَّفْسَ إِنَّمَا تَنْشَطُ بِمَا يُوَافِقُ هَوَاهَا لَا بِمَا يُخَالِفُهُ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ فَلِلْهَوَى فِيهَا مَدْخَلٌ، لِأَنَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى نَظَرِ (6) مُخْتَرِعِهَا لَا إلى نظر الشارع، (فإن أدخل فيها نظر الشَّارِعِ) (7) فَعَلَى حُكْمِ التَّبَعِ لَا بِحُكْمِ الْأَصْلِ، مَعَ ضَمِيمَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ الْمُبْتَدِعَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ تَعَلُّقٍ بِشُبْهَةِ (8) دَلِيلٍ يَنْسِبُهَا إِلَى الشَّارِعِ، وَيَدَّعِي أَنَّ مَا ذَكَرَهُ هُوَ مَقْصُودُ الشَّارِعِ، فَصَارَ هَوَاهُ مَقْصُودًا بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ فِي زَعْمِهِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ (9) عَنْ ذَلِكَ وداعي الهوى مستمسك بجنس (10) مَا يَتَمَسَّكُ بِهِ؟ وَهُوَ الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ فِي الجملة.
_________
=ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/ 104)، والإمام ابن كثير في البداية والنهاية (7/ 291).
وانظر: تلبيس إبليس لابن الجوزي (ص112 ـ 114)، والكامل لابن الأثير (3/ 202 ـ 203)، فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (19/ 90، 91).
(1) تقدم (ص102).
(2) في (غ): ذلك.
(3) سوف يذكر المؤلف بعض الذين ابتدعوا ثم تابوا في الباب الثالث (ص275 ـ 281)، وسوف يتكلم عن توبة المبتدع في الباب التاسع (2/ 267 ـ 273، 280 ـ 282) من المطبوع.
(4) مثبتة في (غ) و (ر)، وساقطة من بقية النسخ.
(5) هكذا في (م) وأصل (خ) و (ت). وكتب في هامش (ت) "عله بعده عن التوبة" وفي (خ) كتب فوق العبارة حرف مـ أي لا معنى لها، وفي الهامش صححت بعبارة "وسبب بعده عن التوبة".
(6) غير واضحة في (ت).
(7) ما بين المعكوفين ساقط من جميع النسخ عدا (غ) و (ر).
(8) في (م): "شبهة".
(9) غير واضحة في (ت).
(10) المثبت من (غ) و (ر)، وفي بقية النسخ: "بحسن".(1/218)
وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ (1) قَالَ: (بَلَغَنِي أَنَّ مَنِ ابْتَدَعَ بِدْعَةَ خلاه (2) الشيطان والعبادة، وألقى (3) عَلَيْهِ الْخُشُوعَ وَالْبُكَاءَ كَيْ يَصْطَادَ بِهِ) (4).
وَقَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ: (أَشَدُّ النَّاسِ عِبَادَةً مَفْتُونٌ) (5)، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: "يَحْقِرُ أَحَدَكُمْ صَلَاتَهُ فِي صَلَاتِهِ وَصِيَامَهُ فِي صِيَامِهِ" (6) إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ (7).
وَيُحَقِّقُ مَا قَالَهُ الْوَاقِعُ كَمَا نُقِلَ فِي الْأَخْبَارِ عَنِ الْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ. فَالْمُبْتَدِعُ يَزِيدُ في الاجتهاد لينال في الدنيا التعظيم والجاه والمال (8) وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَصْنَافِ الشَّهَوَاتِ، بَلِ التَّعْظِيمُ أعلى (9) شَهَوَاتِ الدُّنْيَا، أَلَا (10) تَرَى إِلَى انْقِطَاعِ الرُّهْبَانِ فِي الصَّوَامِعِ وَالدِّيَارَاتِ عَنْ جَمِيعِ الْمَلْذُوذَاتِ، وَمُقَاسَاتِهِمْ فِي أَصْنَافِ الْعِبَادَاتِ، وَالْكَفِّ عَنِ الشَّهَوَاتِ؟! وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ خَالِدُونَ فِي جَهَنَّمَ، قَالَ اللَّهُ تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ *عَامِلَةٌ
_________
(1) تقدمت ترجمته رحمه الله (ص18).
(2) في (خ) و (ت) و (ط): "ضلالة"، وهو خطأ. ولا تستقيم العبارة بذلك، والمثبت هو ما في (م) و (غ) و (ر) وهو الموافق لما في الحوادث والبدع. وقد حاول الشيخ رشيد رضا تقريب العبارة فقال: ولعله: "آلفه الشيطان العبادة".
(3) في (ط): "أو ألقى".
(4) ذكر هذا القول له الإمام الطرطوشي في الحوادث والبدع (ص297)، ولعل المؤلف قد نقله منه، لأن القول الذي بعده موجود في نفس الموضع.
(5) رواه الإمام ابن وضاح عن رجل من الصحابة، ولكن بدون ذكر الحديث، وقال بعده: يعني صاحب بدعة.
انظر: البدع والنهي عنها (ص62 ـ 63)، وذكره الإمام الطرطوشي في الحوادث والبدع بتمامه (ص297).
(6) تقدم تخريجه الحديث (ص12)، وأكثر الروايات وردت بضمير الجمع في لفظة (صلاته) الثانية وكذلك (صيامه). وهذه الرواية عند الإمام البخاري (12/ 290).
(7) ذكر هذا القول لبعض الصحابة، واحتجاجهم بالحديث الإمام الطرطوشي في الحوادث والبدع (297).
(8) في (ط): "والمال والجاه".
(9) في (خ) و (ط): "على".
(10) في (ر): "أولا".(1/219)
نَاصِبَةٌ *تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً *} (1) وَقَالَ: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرَينِ أَعْمَالاً *الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا *} (2)، وَمَا (3) ذَاكَ إِلَّا لِخِفَّةٍ يَجِدُونَهَا فِي ذَلِكَ الالتزام، ونشاط يداخلهم، يَسْتَسْهِلُونَ (4) بِهِ الصَّعْبَ، بِسَبَبِ مَا دَاخَلَ النَّفْسَ مِنَ الْهَوَى، فَإِذَا بَدَا لِلْمُبْتَدِعِ مَا هُوَ عليه، رآه محبوباً عنده لاستعباده (5) لِلشَّهَوَاتِ ـ وَعَمَلِهِ مِنْ جُمْلَتِهَا (6) ـ وَرَآهُ مُوَافِقًا لِلدَّلِيلِ عِنْدَهُ، فَمَا الَّذِي يَصُدُّهُ عَنِ الِاسْتِمْسَاكِ بِهِ، وَالِازْدِيَادِ مِنْهُ، وَهُوَ يَرَى أَنَّ أَعْمَالَهُ أَفْضَلُ من أعمال غيره، واعتقاداته أوفق وأعلى؟! أفبعد البرهان مطلب؟ (7) {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (8).
وَأَمَّا أَنَّ الْمُبْتَدِعَ يُلْقَى عَلَيْهِ الذُّلُّ فِي الدُّنْيَا وَالْغَضَبُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ *} (9) حَسْبَمَا جَاءَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ (10)، وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ الْمُتَّخِذِينَ لِلْعِجْلِ إِنَّمَا ضَلُّوا بِهِ حَتَّى (11) عَبَدُوهُ، لِمَا سَمِعُوا مِنْ خُوَارِهِ، وَلِمَا (أَلْقَى) (12) إِلَيْهِمُ السَّامِرِيُّ فِيهِ، فَكَانَ فِي حَقِّهِمْ شُبْهَةً خَرَجُوا بِهَا عن الحق الذي كان في أيديهم، ثم (13) قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ}، فَهُوَ عُمُومٌ فِيهِمْ وَفِيمَنْ أَشْبَهَهُمْ، مِنْ حَيْثُ كَانَتِ الْبِدَعُ كُلُّهُا افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ حَسْبَمَا أخبر في كتابه في قوله: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلاَدَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ} (14).
_________
(1) سورة الغاشية: آيات (2 ـ 4).
(2) سورة الكهف: آيتان (103 ـ 104).
(3) في (م) و (ت): "ما" بدون الواو.
(4) في (ت): "يستهلون".
(5) المثتب من (ر)، وفي بقية النسخ "لاستبعاده".
(6) غير واضحة في (ت)، وكتب بإزائها في الهامش "جهتها" وكأنها نسخة أخرى.
(7) هكذا العبارة في (م) و (ت)، وفي (خ) و (ط): "أفيفيد البرهان مطلباً"، ويظهر تعديل الناسخ لكلمة "أفبعد" إلى "أفيفيد".
(8) سورة المدثر: آية (31).
(9) سورة الأعراف: آية (152).
(10) تقدم (ص110).
(11) ساقطة من (ت)، وفي (غ): "حيث".
(12) ساقطة من (م) وأصل (خ) و (ت)، ومثبتة في (ط) وهامش (خ) و (ت).
(13) مثبتة في (غ): وساقطة من بقية النسخ.
(14) سورة الأنعام: آية (140).(1/220)
فَإِذًا كُلُّ مَنِ ابْتَدَعَ فِي دِينِ اللَّهِ فَهُوَ ذَلِيلٌ حَقِيرٌ بِسَبَبِ بِدْعَتِهِ، وَإِنْ ظَهَرَ لبادى الرأي عزه (1) وجبريته، فَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ أَذِلَّاءُ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الذِّلَّةَ الحاضرة في الدنيا (2) مَوْجُودَةٌ فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ. أَلَا تَرَى أَحْوَالَ الْمُبْتَدِعَةِ فِي زَمَانِ التَّابِعِينَ، وَفِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ؟ حَتَّى تَلَبَّسُوا (3) بِالسَّلَاطِينِ (4)، وَلَاذُوا بِأَهْلِ الدُّنْيَا (5)، وَمَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ اسْتَخْفَى بِبِدْعَتِهِ، وَهَرَبَ بِهَا عَنْ مُخَالَطَةِ الْجُمْهُورِ، وَعَمِلَ بِأَعْمَالِهَا عَلَى التَّقِيَّةِ.
وَقَدْ (6) أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتخذوا العجل أن (7) سَيَنَالُهُمْ مَا وَعَدَهُمْ، فَأَنْجَزَ اللَّهُ وَعْدَهُ، فَقَالَ: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} (8).
وصدق (9) ذلك الواقع باليهود حيثما حلوا، وفي (10) أي زمان (11) كانوا، لا يزالوان أَذِلَّاءَ مَقْهُورِينَ {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}، وَمِنْ جُمْلَةِ الِاعْتِدَاءِ (12) اتِّخَاذُهُمُ الْعِجْلَ، هَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الذِّلَّةِ، وَأَمَّا (13) الْغَضَبُ فَمَضْمُونٌ بِصَادِقِ الْأَخْبَارِ، فَيُخَافُ أَنْ يَكُونَ الْمُبْتَدِعُ دَاخِلًا فِي حُكْمِ الغضب والله الواقي بفضله.
وَأَمَّا الْبُعْدُ عَنْ حَوْضِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلّم، فلحديث الموطأ: (فليذادن
_________
(1) في (ط): "في عزة".
(2) كتبت في (ط): "بين أيدينا".
(3) كتب بإزائها في هامش (ت): "عله تشبثوا".
(4) وذلك كاستعانة المعتزلة ببعض خلفاء بني العباس في مسألة خلق القرآن.
(5) في (خ): "بأهلها بل بأهل الدنيا"، وهو خطأ أضرب عنه الناسخ.
(6) غير واضحة في (ت).
(7) في (م) ضرب على الحرف بخط مائل.
(8) سورة البقرة: آية (61).
(9) غير واضحة في (ت).
(10) المثبت كما في (غ)، وفي بقية النسخ: "في" بدون الواو.
(11) في (خ): "في أي مكان وزمان"، وكذلك (ط)، ولعل كلمة "مكان" زيادة من الناسخ فقد كتبت فوق السطر.
(12) في (غ) و (ر): اعتدائهم.
(13) في (م) وأصل (خ): "ومن"، وفي هامش (خ) كما هو مثبت.(1/221)
رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ (1)) (2) الْحَدِيثَ.
وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَسْمَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "أَنَا عَلَى حَوْضِي أَنْتَظِرُ مَنْ يَرِدُ عَلَيَّ، فَيُؤْخَذُ بِنَاسٍ مِنْ دُونِي، فَأَقُولُ: أُمَّتِي، فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَشَوْا الْقَهْقَرَى) (3).
وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ (4): (أَنَا فَرَطُكُمْ (5) عَلَى الْحَوْضِ، لَيُرْفَعَنَّ إِلَيَّ رِجَالٌ مِنْكُمْ حَتَّى إِذَا تَأَهَّبْتُ (6) لِأَتَنَاوَلَهُمْ (7) اخْتَلَجُوا (8) دُونِي، فَأَقُولُ: أَيْ رَبِّ (9)، أَصْحَابِي، يَقُولُ: لَا تدري ما أحدثوا (10) بَعْدَكَ) (11).
وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُمْ مِنَ الدَّاخِلِينَ فِي غِمَارِ (12) هَذِهِ الْأُمَّةِ لِأَجْلِ مَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ فِيهِمْ، وَهُوَ الْغُرَّةُ وَالتَّحْجِيلُ (13)، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يكون لأهل الكفر
_________
(1) في (خ): "الضلال".
(2) تقدم تخريجه (ص121).
(3) رواه الإمام البخاري في كتاب الفتن من صحيحه، باب ما جاء في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَآصَّةً} (13/ 3)، وفي كتاب الرقاق، باب في الحوض (11/ 466)، ورواه الإمام مسلم في كتاب الفضائل من صحيحه، باب إثبات حوض نبينا صلّى الله عليه وسلّم وصفاته (15/ 55).
(4) هو ابن مسعود رضي الله عنه.
(5) قال الإمام النووي في شرح مسلم: "قال أهل اللغة: الفرط بفتح الفاء والراء، والفارط هو الذي يتقدم الوارد ليصلح لهم الحياض والدلاء ونحوها من أمور الاستقاء، فمعنى فرطكم على الحوض سابقكم إليه كالمهيىء له" (15/ 53).
(6) في (م) و (ت): "أهيت"، وفي (ط) و (غ): "أهويت".
(7) لفظ البخاري "لأناولهم".
(8) قال الإمام النووي في شرح مسلم: "أما اختلجوا، فمعناه اقتطعوا". (15/ 64).
(9) في (ت): "ربي".
(10) في (ط): "أحدثوه".
(11) رواه الإمام البخاري في كتاب الفتن، باب ما جاء في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَآصَّةً} عن ابن مسعود رضي الله عنه (13/ 3)، والإمام مسلم في كتاب الفضائل من صحيحه، باب حوض نبينا صلّى الله عليه وسلّم وصفته، مع اختلاف في بعض الألفاظ (15/ 59)، والإمام أحمد في المسند (1/ 455)، والإمام ابن أبي عاصم في السنة برقم (736، 761، 762).
(12) غمار الناس زحمتهم وكثرتهم. انظر: الصحاح (2/ 772).
(13) تقدم معنى الغرة والتحجيل (ص123)، ومعرفة النبي صلّى الله عليه وسلّم لأمته بالغرة والتحجيل=(1/222)
الْمَحْضِ، كَانَ كُفْرُهُمْ أَصْلًا أَوِ ارْتِدَادًا، وَلِقَوْلِهِ: "قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ" (1)، وَلَوْ كَانَ الْكُفْرُ، لَقَالَ: قَدْ كَفَرُوا بَعْدَكَ، وَأَقْرَبُ مَا يُحْمَلُ (2) عَلَيْهِ تَبْدِيلُ السُّنَّةِ، وَهُوَ وَاقِعٌ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ (3). ومن قال: إنهم (4) أهل (5) النِّفَاقُ فَذَلِكَ غَيْرُ خَارِجٍ عَنْ مَقْصُودِنَا، لِأَنَّ أَهْلَ النِّفَاقِ إِنَّمَا أَخَذُوا الشَّرِيعَةَ تَقِيَّةً لَا تعبدا، فوضعوها غَيْرِ مَوَاضِعِهَا وَهُوَ عَيْنُ الِابْتِدَاعِ. وَيَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى كُلُّ مَنِ اتَّخَذَ السُّنَّةَ وَالْعَمَلَ بِهَا حِيلَةً (6) وَذَرِيعَةً إِلَى نَيْلِ حُطَامِ الدُّنْيَا، لَا عَلَى التَّعَبُّدِ بِهَا لِلَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ تَبْدِيلٌ لها، وإخراج لها عن وضعها الشرعي.
وَأَمَّا الْخَوْفُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَافِرًا، فَلِأَنَّ الْعُلَمَاءَ مِنَ السَّلَفِ الْأَوَّلِ وَغَيْرَهُمُ اخْتَلَفُوا فِي تَكْفِيرِ (7) كَثِيرٍ مِنْ فِرَقِهِمْ مِثْلَ الْخَوَارِجِ (8)، وَالْقَدَرِيَّةِ (9) وَغَيْرِهِمْ (10)، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (11)، وقوله: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} (12) الْآيَةَ.
وَقَدْ حَكَمَ (13) الْعُلَمَاءُ بِكُفْرِ جُمْلَةٍ مِنْهُمْ كَالْبَاطِنِيَّةِ (14) وَسِوَاهُمْ، لِأَنَّ مَذْهَبَهُمْ رَاجِعٌ إِلَى مَذْهَبِ الْحُلُولِيَّةِ (15) الْقَائِلِينَ بِمَا يُشْبِهُ قَوْلَ النَّصَارَى فِي
_________
=وردت في حديث أبي هريرة السابق (ص121)، إلا أن المؤلف اختصره.
(1) تقدم تخريج الحديث (ص121).
(2) في (ت): "حمل".
(3) وسيتكلم المؤلف عن هذه المسألة أيضاً في المسألة السادسة من الباب التاسع (2/ 202 ـ 206).
(4) المثبت من (غ) و (ر)، وفي بقية النسخ: "إنه".
(5) ساقطة من النسخ عدا (غ).
(6) في (م) و (خ): "حلية"، وصححت في هامش (خ)، وهي غير واضحة في (ت).
(7) ساقطة من (ت).
(8) تقدم التعريف بهم (ص11).
(9) تقدم التعريف بهم (ص11).
(10) سوف يتكلم المؤلف عن مسألة تكفير المبتدعة في الباب التاسع (2/ 194 ـ 198، 202 ـ 206، 246 ـ 249)، وتقدم الكلام على تكفير الخوارج (ص79).
(11) سورة الأنعام: آية (159).
(12) سورة آل عمران: آية (106).
(13) في (م) و (ت) و (ر) و (غ): "حتم".
(14) تقدم التعريف بهم (ص28).
(15) الحلولية قوم يزعمون أنه قد حصل لهم الحلول، وهو حلول الله بذاته في الأجسام أو=(1/223)
اللَّاهُوتِ وَالنَّاسُوتِ (1).
وَالْعُلَمَاءُ إِذَا اخْتَلَفُوا فِي أَمْرٍ هَلْ هُوَ كُفْرٌ أَمْ لَا؟ فَكُلُّ عَاقِلٍ يَرْبَأُ (2) بِنَفْسِهِ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى خُطَّةِ خَسْفٍ كَهَذِهِ، بِحَيْثُ يُقَالُ لَهُ: إِنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا هَلْ أَنْتَ كَافِرٌ أَمْ ضَالٌّ غَيْرُ كَافِرٍ؟ أَوْ يُقَالُ (3): إِنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قالوا بكفرك، وأنت (4) حلال الدم.
وَأَمَّا أَنَّهُ يُخَافُ عَلَى صَاحِبِهَا سُوءُ الْخَاتِمَةِ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ، فَلِأَنَّ (5) صَاحِبَهَا مُرْتَكِبٌ إِثْمًا، وَعَاصٍ لِلَّهِ تَعَالَى حَتْمًا، وَلَا نَقُولُ الْآنَ: هُوَ عَاصٍ بِالْكَبَائِرِ أَوْ بِالصَّغَائِرِ، بَلْ نَقُولُ: هُوَ مُصِرٌّ عَلَى مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، وَالْإِصْرَارُ يُعَظِّمُ الصَّغِيرَةَ إِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً حَتَّى تَصِيرَ كَبِيرَةً، وَإِنْ (6) كَانَتْ كَبِيرَةً فَأَعْظَمُ. وَمَنْ مَاتَ مُصِرًّا عَلَى الْمَعْصِيَةِ فَيُخَافُ عَلَيْهِ، فَرُبَّمَا إِذَا كُشِفَ الْغِطَاءُ، وَعَايَنَ عَلَامَاتِ الْآخِرَةِ، اسْتَفَزَّهُ الشَّيْطَانُ وَغَلَبَهُ عَلَى قَلْبِهِ، حَتَّى يَمُوتَ عَلَى التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ، وَخُصُوصًا حِين كَانَ مُطِيعًا لَهُ (7) فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ زَمَانِهِ، مَعَ حُبِّ الدُّنْيَا الْمُسْتَوْلِي عَلَيْهِ.
قَالَ عَبْدُ (8) الْحَقِّ الْإِشْبِيلِيِّ (9): (إِنَّ سُوءَ الخاتمة لا يكون لمن استقام
_________
=المخلوقات، وأول من أظهر ذلك في الإسلام هم غلاة الرافضة، بادعائهم حلول الحق في أئمتهم، واشتهر القول بالحلول عن الحلاج ومن تبعه من زنادقة الصوفية.
انظر: اعتقادات فرق المسلمين والمشركين للرازي (ص116)، وانظر: كلام الإمام الآجري عن هذه الفرقة في كتابه الشريعة (ص285 ـ 290).
(1) يريد النصارى باللاهوت الله تعالى أو كلمته، ويريدون بالناسوت عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، وقد زعموا حلول اللاهوت بالناسوت.
انظر: الملل والنحلل للشهرستاني (ص221)، الجواب الصحيح لشيخ الإسلام ابن تيمية (1/ 160).
(2) في (م): "يرءا"، وصححت في الهامش بما هو مثبت. وفي (ت): "ينئى"، وكتب في الهامش "يرءا" على أنها نسخة أخرى.
(3) في (خ): "يقال له".
(4) في (غ): "وأنك".
(5) في (ر): "فإن".
(6) في (ر): "وأما إن".
(7) في (ت): "لله".
(8) غير واضحة في (ت).
(9) في (خ): "الإشبل"، وهو الإمام الحافظ أبو محمد عبد الحق بن عبد الرحمن بن عبد الله الأزدي الأندلسي الإشبيلي، سكن مدينة بجاية، فنشر بها علمه، وصنف=(1/224)
ظَاهِرُهُ، وَصَلُحَ بَاطِنُهُ، مَا سُمِعَ بِهَذَا (1) قَطُّ، وَلَا عُلِمَ بِهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ لمن كان (2) له فساد في (3) العقل (4)، أَوْ إِصْرَارٌ عَلَى الْكَبَائِرِ، وَإِقْدَامٌ عَلَى الْعَظَائِمِ، أَوْ لِمَنْ كَانَ مُسْتَقِيمًا ثُمَّ تَغَيَّرَتْ حَالُهُ، وخرج عن سننه، وأخذ في غَيْرِ طَرِيقِهِ (5)، فَيَكُونُ عَمَلُهُ ذَلِكَ سَبَبًا لِسُوءِ خَاتِمَتِهِ، وَسُوءِ عَاقِبَتِهِ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (6)).
وَقَدْ سَمِعْتُ بِقِصَّةِ بَلْعَامَ بْنِ بَاعُورَاءَ (7) حَيْثُ آتَاهُ اللَّهُ آيَاتِهِ فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ، إلى آخر الآية (8).
فهذا ظاهر إذا اعتبرنا البدعة (9) من حيث هي معصية، فإن (10) نَظَرْنَا إِلَى كَوْنِهَا بِدْعَةً، فَذَلِكَ أَعْظَمُ، لِأَنَّ الْمُبْتَدِعَ ـ مَعَ كَوْنِهِ مُصِرًّا عَلَى مَا نُهِيَ عَنْهُ ـ يَزِيدُ عَلَى الْمُصِرِّ بِأَنَّهُ مُعَارِضٌ لِلشَّرِيعَةِ بِعَقْلِهِ، غَيْرُ مُسَلِّمٍ لَهَا فِي تَحْصِيلِ أَمْرِهِ، مُعْتَقِدًا فِي الْمَعْصِيَةِ أَنَّهَا طَاعَةٌ، حَيْثُ حَسَّنَ مَا قَبَّحَهُ الشَّارِعُ، وَفِي الطَّاعَةِ أَنَّهَا لَا تَكُونُ طَاعَةً إِلَّا بِضَمِيمَةِ نَظَرِهِ، فَهُوَ قَدْ قَبَّحَ مَا حَسَّنَهُ الشَّارِعُ، وَمَنْ كَانَ هَكَذَا فَحَقِيقٌ بِالْقُرْبِ مِنْ سُوءِ الْخَاتِمَةِ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي جُمْلَةِ مَنْ (11) ذَمَّ: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ *} (12)، والمكر جلب السوء من
_________
=التصانيف، وله الأحكام الصغرى والوسطى والكبرى، وكتاب العاقبة في الزهد وغيرها. مات سنة 581هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء (21/ 98)، شذرات الذهب (4/ 271)، العبر (4/ 243).
(1) في (ت): "هذا".
(2) ساقطة من (ت).
(3) غير واضحة في (ت).
(4) في (م): العقد.
(5) في (ط): "في طريق غير طريقه". وكلمة طريق الأولى كتبت في هامش (خ).
(6) سورة الرعد: آية (11).
(7) انظر: خبره في تفسير الإمام ابن كثير عند الآية (2/ 419 ـ 422)، وقد ذكر عدة روايات في شأنه.
(8) سورة الأعراف: آيات (175 ـ 176).
(9) في (م) و (خ) و (ط) و (ت): "اغتر بالبدعة" والصواب المثبت.
(10) في (ط): "فإذا".
(11) في (ت) و (ر): "ممن".
(12) سورة الأعراف: آية (99).(1/225)
حَيْثُ لَا يُفْطَنُ لَهُ، وَسُوءُ الْخَاتِمَةِ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ، إِذْ يَأْتِي الْإِنْسَانَ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ بِهِ (1). اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ (2) الْعَفْوَ والعافية.
وَأَمَّا اسْوِدَادُ وَجْهِهِ فِي الْآخِرَةِ فَقَدْ تَقَدَّمَ (3) فِي ذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} (4)، وَفِيهَا أَيْضًا الْوَعِيدُ بِالْعَذَابِ لِقَوْلِهِ: {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} (5)، وَقَوْلِهِ قَبْلَ ذَلِكَ: {وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (6).
حَكَى عِيَاضٌ (7) عَنْ مَالِكٍ، مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ نَافِعٍ (8) عَنْهُ قَالَ: (لَوْ أَنَّ الْعَبْدَ ارْتَكَبَ الكبائر كلها بعد أن لا يشرك (9) بِاللَّهِ شَيْئًا، ثُمَّ نَجَا مِنْ هَذِهِ (10) الْأَهْوَاءِ لَرَجَوْتُ أَنْ يَكُونَ فِي أَعْلَى جَنَّاتِ (11) الْفِرْدَوْسِ، لِأَنَّ كُلَّ كَبِيرَةٍ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ هُوَ مِنْهَا عَلَى رَجَاءٍ، وَكُلَّ هَوًى لَيْسَ هُوَ مِنْهُ عَلَى رَجَاءٍ، إِنَّمَا يَهْوِي بِصَاحِبِهِ فِي نار جهنم) (12).
_________
(1) ساقطة من (غ) و (ر).
(2) في (م) و (خ): "نسلك".
(3) تقدم كلام ابن عباس في الآية المذكورة، وأنها تَبْيَضُّ وُجُوهُ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَتَسْوَدُّ وُجُوهُ أَهْلِ البدعة (ص83).
(4) (5) سورة آل عمران: آية (106).
(6) سورة آل عمران: آية (105).
(7) هو القاضي أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض اليحصبي الأندلسي المالكي، إمام الحديث في وقته، وأعرف الناس بعلومه، وبالنحو واللغة وكلام العرب، توفي رحمه الله سنة 544هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء (20/ 212)، الإحاطة في أخبار غرناطة (4/ 222)، البداية والنهاية (12/ 225).
(8) هو عبد الله بن نافع الصائغ، من كبار فقهاء المدينة، كان صاحب رأي مالك، وهو الذي سمع منه سحنون وكبار أتباع أصحاب مالك. توفي سنة 186هـ.
انظر: ترتيب المدارك (1/ 356)، طبقات ابن سعد (5/ 438)، سير أعلام النبلاء (10/ 371).
(9) في (م) و (خ) و (ت): "بعد الإشراك بالله".
(10) في (م): "هذ".
(11) في (غ) و (ر): "جنة".
(12) رواه القاضي عياض في ترتيب المدارك (1/ 177)، وروى نحوه الإمام أبو نعيم في الحلية (6/ 325)، وروى الإمام البيهقي في الاعتقاد والهداية قريباً من هذا عن الشافعي. ولفظه "لأن يلقى الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك خير من أن يلقاه بشيء من الهوى". (ص/158).(1/226)
وأما البراءة منه ففي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (1).
وَفِي الْحَدِيثِ: "أَنَا بَرِيءٌ مِنْهُمْ وَهُمْ بَرَاءٌ مني" (2).
قال ابن عمر رضي الله عنهما فِي أَهْلَ الْقَدَرِ: (إِذَا لَقِيتَ أُولَئِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُمْ وَأَنَّهُمْ بَرَاءٌ مِنِّي) (3).
وَجَاءَ عَنِ الْحَسَنِ: (لَا تُجَالِسْ صَاحِبَ بِدْعَةٍ فَإِنَّهُ يُمْرِضُ قَلْبَكَ) (4).
وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ (5): (مَنْ جَالَسَ صَاحِبَ بِدْعَةٍ لَمْ يَسْلَمْ مِنْ إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِتْنَةً لِغَيْرِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَقَعَ بِقَلْبِهِ شَيْءٌ يَزِلُّ بِهِ فَيُدْخِلُهُ النَّارَ، وَإِمَّا أَنْ يَقُولَ: وَاللَّهِ لَا أُبَالِي (6) مَا تَكَلَّمُوا بِهِ، وَإِنِّي وَاثِقٌ بِنَفْسِي (7) (فَمَنْ أَمِنَ (8) اللَّهَ طَرْفَةَ عَيْنٍ عَلَى دِينِهِ سَلَبَهُ إِيَّاهُ) (9) " (10).
وَعَنْ يَحْيَى بْنِ (11) أَبِي كَثِيرٍ (12) قَالَ: "إِذَا لَقِيتَ صَاحِبَ بِدْعَةٍ فِي طَرِيقٍ فَخُذْ فِي طَرِيقٍ آخَرَ" (13).
وَعَنْ أَبِي قِلَابَةَ (14) قَالَ: (لَا تُجَالِسُوا أَهْلَ الْأَهْوَاءِ، وَلَا تُجَادِلُوهُمْ، فَإِنِّي لَا آمَنُ أَنْ يَغْمُرُوكُمْ (15) فِي ضَلَالَتِهِمْ، وَيُلَبِّسُوا عَلَيْكُمْ ما كنتم تعرفون) (16).
_________
(1) سورة الأنعام: آية (159).
(2) تقدم تخريجه (ص90).
(3) تقدم تخريجه (ص207).
(4) تقدم تخريجه (ص148).
(5) تقدمت ترجمته (ص106).
(6) في (ت): "ما أبالي".
(7) في (ت): "بالله".
(8) في (خ) و (ط): "يأمن بغير الله"، وكلمة "بغير" كتبت في (خ) فوق السطر، والصواب المثبت.
(9) ما بين المعكوفين كتب في (ت): "فمن آمن بالله طرفة عين على دينه سلبه إليه"، وكتب في الهامش: "صوابه والله أعلم فمن يأمن بغير اللَّهَ طَرْفَةَ عَيْنٍ عَلَى دِينِهِ سَلَبَهُ إِيَّاهُ".
(10) أخرجه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص54).
(11) في (ت): "عن".
(12) تقدمت ترجمته رحمه الله (ص150).
(13) تقدم تخريجه (ص150).
(14) تقدمت ترجمته رحمه الله (ص110).
(15) تقدم الأثر بلفظ "يغمسوكم".
(16) تقدم تخريجه (ص147).(1/227)
وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ (1) قَالَ: (لَا تُجَالِسُوا أَصْحَابَ الْأَهْوَاءِ وَلَا تُكَلِّمُوهُمْ، فَإِنِّي (2) أَخَافُ أَنْ (3) تَرْتَدَّ قُلُوبُكُمْ) (4).
وَالْآثَارُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. وَيُعَضِّدُهَا مَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: "الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلْ" (5).
وَوَجْهُ ذَلِكَ ظَاهِرٌ مُنَبَّهٌ عَلَيْهِ فِي كَلَامِ أَبِي قِلَابَةَ، إِذْ قَدْ يَكُونُ الْمَرْءُ عَلَى يَقِينٍ (6) مِنْ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ السُّنَّةِ، فَيُلْقِي لَهُ صَاحِبُ الْهَوَى فِيهِ (7) هَوًى مِمَّا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ لَا أَصْلَ لَهُ، أَوْ يَزِيدُ لَهُ فِيهِ قَيْدًا مِنْ رَأْيِهِ فَيَقْبَلُهُ قَلْبُهُ، فَإِذَا رَجَعَ إِلَى مَا كَانَ يَعْرِفُهُ، وَجَدَهُ مُظْلِمًا، فَإِمَّا أَنْ يَشْعُرَ بِهِ فَيَرُدَّهُ بِالْعِلْمِ، أَوْ لَا يَقْدِرُ عَلَى رَدِّهِ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَشْعُرَ بِهِ فَيَمْضِيَ مَعَ مَنْ هَلَكَ.
قَالَ ابْنُ وهب: سمعت (8) مَالِكًا إِذْ جَاءَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ يَقُولُ: "أَمَّا أَنَا فَعَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي، وَأَمَّا (9) أَنْتَ فَشَاكٌّ، فَاذْهَبْ إِلَى شَاكٍّ مِثْلِكَ فَخَاصِمْهُ، ثُمَّ قَرَأَ: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} (10) الآية" (11).
فَهَذَا شَأْنُ مَنْ تَقَدَّمَ، مِنْ عَدَمِ تَمْكِينِ زائغ القلب أن يُسمع كلامه.
_________
(1) هو النخعي. تقدمت ترجمته (ص149).
(2) في (خ) و (ت) و (ط): "إذا".
(3) ساقطة من (م).
(4) تقدم تخريجه (ص149).
(5) رواه الإمام أبو داود في كتاب الأدب من سننه، باب من يؤمر أن يجالس، عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: "الرجل على دين خليله" تحت رقم (4833)، (4/ 261)، والإمام الترمذي في كتاب الزهد من سننه، برقم (2378)، (4/ 509)، والإمام أحمد في المسند (2/ 303، 334)، والحاكم في المستدرك (4/ 171)، والإمام ابن بطة في الإبانة الكبرى (2/ 431، 432)، والإمام أبو نعيم في الحلية (3/ 165)، وقد حسنه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة تحت رقم (927)، (2/ 633).
(6) غير واضحة في (ت).
(7) ساقطة من (ت).
(8) هكذا في (ر)، وفي بقية النسخ: "وسمعت".
(9) ساقطة من (م).
(10) سورة يوسف: آية (108).
(11) ذكره القاضي عياض في ترتيب المدارك (1/ 172)، ورواه الإمام ابن بطة في الإنابة الكبرى (1/ 404)، وذكره أيضاً في الإبابة الصغرى (ص151)، ورواه أبو نعيم في الحلية (6/ 324)، وذكره ابن أبي زيد القيرواني في الجامع (ص125)، والجميع لم يذكر استشهاده بالآية سوى القاضي عياض.(1/228)
ومثال (1) رَدِّهِ بِالْعِلْمِ جَوَابُهُ لِمَنْ سَأَلَهُ فِي قَوْلِهِ: {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (2) كَيْفَ اسْتَوَى؟ فَقَالَ لَهُ: "الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ، وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ، وَالسُّؤَالُ عَنْهُ (3) بِدْعَةٌ، وَأَرَاكَ (4) صَاحِبَ بِدْعَةٍ"، ثم أمر بإخراج السائل (5).
ومثال (6) مَا لَا يُقدر عَلَى رَدِّهِ مَا حَكَى الْبَاجِيُّ (7) قَالَ: قَالَ مَالِكٌ: "كَانَ يُقَالُ: لَا تُمَكِّنْ زَائِغَ الْقَلْبِ مِنْ أُذُنِكَ، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا يَعْلَقُكَ مِنْ ذَلِكَ" (8).
وَلَقَدْ سَمِعَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ ـ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ـ شَيْئًا مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْقَدَرِ، فَعَلِقَ قَلْبُهُ، فَكَانَ يَأْتِي إِخْوَانَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْصِحُهُمْ، فَإِذَا نَهَوْهُ قَالَ (9): "فَكَيْفَ بِمَا عَلِقَ قَلْبِي، لَوْ عَلِمْتُ أَنَّ اللَّهَ يَرْضَى (10) أَنْ أُلْقِيَ نَفْسِي مِنْ فَوْقِ هَذِهِ الْمَنَارَةِ فَعَلْتُ" (11).
ثُمَّ حُكِيَ أَيْضًا عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: "لَا تُجَالِسِ الْقَدَرِيَّ وَلَا تُكَلِّمْهُ إِلَّا أَنْ تَجْلِسَ إِلَيْهِ فَتُغْلِظَ عَلَيْهِ، لقوله تعالى: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
_________
(1) المثبت من (غ)، وفي بقية النسخ: "مثل".
(2) سورة طه: آية (5).
(3) ساقطة من (م) و (خ) و (ت)، ومثبتة في (ط) ومصادر قوله. وكتب في هامش (ت): "عن هذا".
(4) في (ت): "وأرك".
(5) رواه الإمام اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (3/ 398)، والإمام أبو نعيم في الحلية (6/ 325 ـ 326)، والإمام البيهقي في الأسماء والصفات (ص408) وقد جود الإمام ابن حجر طريق ابن وهب عند البيهقي فقال: وأخرج البيهقي بسند جيد عن عبد الله بن وهب ... فذكره. الفتح (13/ 406 ـ 407). وقد ذكره ابن أبي زيد القيرواني في الجامع (ص123)، والقاضي عياض في المدارك (1/ 170 ـ 171).
(6) المثبت ما في (غ)، وفي بقية النسخ: "ومثل".
(7) هو أبو الوليد سليمان بن خلف بن سعد الأندلسي القرطبي الباجي، ولي القضاء في مواضع من الأندلس، وصنف كتباً عديدة كالمنتقى في الفقه، والمعاني في شرح الموطأ، وإحكام الفصول في أحكام الأصول في أصول الفقه. توفي سنة 474هـ.
انظر: ترتيب المدارك (4/ 802)، وفيات الأعيان (2/ 408)، سير أعلام النبلاء (18/ 535).
(8) عزاه إلى مالك الإمام ابن أبي زيد القيرواني في الجامع (ص120).
(9) في (ت): "فقال".
(10) في (م): "رضى".
(11) ذكره عن مالك الإمام ابن أبي زيد القيرواني في الجامع (ص120).(1/229)
الآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللَّهُ وَرَسُولَهُ} (1) فلا توادوهم (2) " (3).
وَأَمَّا أَنَّهُ يُخْشَى عَلَيْهِ الْفِتْنَةُ. فَلِمَا حَكَى عِيَاضٌ (4) عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ (5) أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْتُ مَالِكًا عَمَّنْ أَحْرَمَ مِنَ الْمَدِينَةِ وَرَاءَ الْمِيقَاتِ، فَقَالَ: "هَذَا مُخَالِفٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، أَخْشَى عَلَيْهِ الْفِتْنَةَ فِي (6) الدُّنْيَا، وَالْعَذَابَ الْأَلِيمَ فِي الآخرة. أما سمعت قوله تعالى: {الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (7)، وَقَدْ أَمْرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُهَلَّ مِنَ الْمَوَاقِيتِ" (8).
وَحَكَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ (9) عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ (10) قَالَ (11) سَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ وَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ يَا أَبَا (12) عبد الله من أين أحرم؟ قال (13): "من ذي
_________
(1) سورة المجادلة: آية (22).
(2) في (م): "يوادوهم".
(3) ذكر ابن أبي زيد القيرواني قريباً منه عن مالك بلفظ: "لا تسلم على أهل الأهواء، ولا تجالسهم إلا أن تغلظ عليهم، ولا يعاد مريضهم، ولا تحدث عنهم الأحاديث".
انظر: الجامع (ص125).
(4) تقدمت ترجمته (ص245).
(5) تقدمت ترجمته (ص110).
(6) بياض في (ت).
(7) سورة النور: آية (63).
(8) ذكر هذا القول القاضي عياض في ترتيب المدارك ضمن ترجمة الإمام مالك رحمه الله (1/ 171 ـ 172).
(9) هو الإمام العلامة الحافظ القاضي أبو بكر بن محمد بن عبد الله بن العربي الأندلسي الإشبيلي المالكي، صاحب التصانيف، ارتحل مع أبيه إلى المشرق، فسمع ببغداد ودمشق ومصر وبيت المقدس، وتفقه وبرع، ثم عاد إلى الأندلس بإسناد عال وعلم جم، كان يقال إنه بلغ رتبة الاجتهاد. توفي سنة 543هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء (20/ 197)، وفيات الأعيان (4/ 296)، العبر (4/ 125) شذرات الذهب (4/ 141).
(10) هو الزبير بن بكار بن أبي بكر القرشي الأسدي الزبيري، كان حافظاً نسابة، تولى قضاء مكة، روى عن ابن عيينة وغيره، وحدث عنه ابن ماجه وأبو حاتم الرازي وغيرهم، وثقه الدارقطني وغيره. توفي سنة 256هـ.
انظر: ترتيب المدارك (1/ 514)، سير أعلام النبلاء (12/ 311)، تقريب التهذيب (1/ 257).
(11) عبارة ابن العربي: عن الزبير بن بكار، قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: سمعت مالك .. ".
(12) ساقطة من (م) و (ت) وأصل (خ)، ومثبت في هامش (خ)، وهو الصواب كما في أحكام القرآن لابن العربي.
(13) ساقطة من (ت).(1/230)
الْحُلَيْفَةِ مِنْ حَيْثُ أَحْرَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ". فَقَالَ: (إِنِّي (1) أُرِيدُ أَنْ أُحْرِمَ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: "لَا تَفْعَلْ") (2)، قَالَ: فَإِنِّي (3) أُرِيدُ أَنْ أُحْرِمَ مِنَ الْمَسْجِدِ مِنْ عِنْدِ الْقَبْرِ، قَالَ: "لَا تَفْعَلْ، فَإِنِّي أَخْشَى عليك (4) الفتنة" (5)، فقال وأي فتنة في (6) هَذِهِ؟ (7) إِنَّمَا هِيَ أَمْيَالٌ أَزِيدُهَا، قَالَ: "وَأَيُّ فتنة أعظم من أن ترى أنك سبقت إِلَى فَضِيلَةٍ قَصَّرَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ إِنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (8) " (9).
وَهَذِهِ الْفِتْنَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَفْسِيرُ الْآيَةِ (10) هِيَ شَأْنُ أَهْلِ الْبِدَعِ، وَقَاعِدَتُهُمُ الَّتِي يُؤَسِّسُونَ عَلَيْهَا بُنْيَانَهُمْ، فَإِنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَمَا سَنَّهُ نَبِيُّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دُونَ مَا اهْتَدَوْا إِلَيْهِ بِعُقُولِهِمْ.
وَفِي مِثْلِ ذَلِكَ قَالَ (11) ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَا رُوِيَ عنه (12) ابْنِ وَضَّاحٍ: "لَقَدْ هُدِيتُمْ لِمَا لَمْ يَهْتَدِ له نبيكم، [أو] (13) إنكم لَتُمْسِكُونَ بِذَنَبِ ضَلَالَةٍ"، إِذْ مَرَّ بِقَوْمٍ كَانَ رجل يجمعهم فَيَقُولُ (14): رَحِمَ اللَّهُ مَنْ قَالَ كَذَا وَكَذَا (15) مَرَّةً "سُبْحَانَ اللَّهِ"، فَيَقُولُ الْقَوْمُ، وَيَقُولُ رَحِمَ اللَّهُ مَنْ قَالَ كَذَا وَكَذَا مَرَّةً "الْحَمْدُ لله"، فيقول القوم (16).
_________
(1) في (م) و (ت): "فإني".
(2) ما بين المعكوفين ساقط من (خ).
(3) في (م) و (غ): "إني".
(4) في (م): "عليه".
(5) ساقطة من (م) وأصل (خ)، وأثبت في هامش (خ).
(6) ساقطة من (ط).
(7) في أحكام القرآن "هذا".
(8) سورة النور: آية (63).
(9) ذكره بسنده إلى الإمام مالك رحمه الله الإمام ابن العربي في أحكام القرآن، عند الآية (3/ 432)، وقد رواه الإمام ابن بطة في الإنابة الكبرى بلفظ أخصر من هذا (1/ 261 ـ 262).
(10) في (غ): "للآية".
(11) في (ت): "يقول قال ابن مسعود ... ".
(12) في (م) و (ط): "عن".
(13) في جميع النسخ "وإنكم"، والصواب ما أثبته، وهو لفظ الإمام ابن وضاح.
(14) المثبت من (غ) و (ر)، وفي بقية النسخ: "يقول".
(15) في (ت): "كذا كذا".
(16) رواه الإمام ابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص16، 18)، و (ص19) وهو لفظ=(1/231)
ثُمَّ إِنَّ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ مَالِكٌ مِنَ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ الْمُنَافِقِينَ حِينَ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ، وَهُمُ (1) الَّذِينَ كَانُوا يَتَسَلَّلُونَ (2) لِوَاذًا (3).
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ النِّفَاقَ مِنْ أَصْلِهِ بِدْعَةٌ، لأنه وضع (4) فِي الشَّرِيعَةِ عَلَى غَيْرِ مَا وَضَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى، وَلِذَلِكَ لَمَّا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنِ الْمُنَافِقِينَ قال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اُشْتَرَوُا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى} (5)، فمن حيث (نزلت آية النور في المنافقين شملت كل من اتصف بذلك والوصف الذي هو مظنة الفتنة، فَمِنْ حَيْثُ) (6) كَانَتْ عَامَّةً فِي الْمُخَالِفِينَ عَنْ أَمْرِهِ يَدْخُلُونَ أَيْضًا مِنْ بَابِ أَحْرَى.
فَهَذِهِ جُمْلَةٌ يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى مَا بَقِيَ، إِذْ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ فِيهَا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْمَعْنَى كَثِيرٌ، وَبَسْطُ مَعَانِيهَا طَوِيلٌ، فلنقتصر على ما ذكرنا وبالله التوفيق.
_________
=المؤلف، ورواه الإمام الدارمي في مقدمة سننه، باب في كراهية أخذ الرأي (1/ 79)، ولفظه يقع في قرابة الصفحة. وأورد الإمام الهيثمي بعض روايات هذه القصة في مجمع الزوائد (1/ 186).
وسبب نقد ابن مسعود رضي الله عنه لهم هو فعلهم هذه العبادة على هيئة لم يفعلها رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أصحابه رضوان الله عليهم، فبين ابن مسعود أن حالهم لا يخرج عن أحد أمرين: إما أنهم أفضل مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، وإما أنهم على ضلالة. وقد توسم ابن مسعود فيهم أنهم من الخوارج، فكانوا كذلك، حيث قاتلوا يوم النهروان مع الخوارج.
انظر: سنن الدارمي (1/ 79 ـ 80).
(1) في (ت): "فهم".
(2) في (ت): "يتسللون منه".
(3) قال الإمام الشوكاني في فتح القدير: "التسلل الخروج في خفية .. ، واللواذ من الملاوذة، وهو أن تستتر بشيء مخافة من يراك، وفي الآية بيان ما كان يقع من المنافقين، فإنهم كانوا يتسللون عن صلاة الجمعة متلاوذين، ينضم بعضهم إلى بعض استتاراً من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم".
انظر: فتح القدير (4/ 58)، وقال الإمام ابن الجوزي: "وقيل هذا كان في حفر الخندق، كان المنافقون ينصرفون من غير أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مختفين".
انظر: زاد المسير (6/ 69).
(4) في (ط): "وضع بدعة".
(5) سورة البقرة: آية (16).
(6) ما بين المعكوفين ساقط من جميع النسخ عدا (غ) و (ر).(1/232)
فصل
وَبَقِيَ مِمَّا هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى ذِكْرِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ شَرْحُ مَعْنًى عَامٍّ يَتَعَلَّقُ بِمَا تَقَدَّمَ. وَهُوَ أَنْ الْبِدَعَ ضَلَالَةٌ، وَأَنَّ الْمُبْتَدِعَ ضَالٌّ وَمُضِلٌّ، وَالضَّلَالَةُ مَذْكُورَةٌ فِي كَثِيرٍ مِنَ النقل المذكور، ويشير إليها في الآيات الِاخْتِلَافِ، وَالتَّفَرُّقِ شِيَعًا، وَتَفَرُّقِ الطُّرُقِ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَعَاصِي، فَإِنَّهَا لَمْ تُوصَفُ فِي الْغَالِبِ بِوَصْفِ الضَّلَالَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ بِدْعَةً أَوْ شِبْهَ (1) الْبِدْعَةِ. وَكَذَلِكَ الْخَطَأُ الْوَاقِعُ فِي الْمَشْرُوعَاتِ ـ وَهُوَ الْمَعْفُوُّ عَنْهُ (2) ـ لَا يُسَمَّى ضَلَالًا، وَلَا يُطْلَقُ عَلَى الْمُخْطِئِ اسْمُ ضَالٍّ، كَمَا لَا يُطْلَقُ على المتعمد لسائر المعاصي (اسم الضال) (3).
وَإِنَّمَا ذَلِكَ ـ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ـ لِحِكْمَةِ قَصْدِ التَّنْبِيهِ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ أَنَّ الضَّلَالَ وَالضَّلَالَةَ ضِدُّ الْهَدْيِ والهداية (4)، وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ الْهُدَى حَقِيقَةً فِي الظَّاهِرِ (5) الْمَحْسُوسِ، فَتَقُولُ: هَدَيْتُهُ الطَّرِيقَ، وَهَدَيْتُهُ إِلَى الطَّرِيقِ. وَمِنْهُ نُقِلَ إِلَى طَرِيقِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} (6)، {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ *} (7)، {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ *}، وَالصِّرَاطُ وَالطَّرِيقُ وَالسَّبِيلُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ (8)، فَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي الطَّرِيقِ الْمَحْسُوسِ، وَمَجَازٌ فِي الطَّرِيقِ الْمَعْنَوِيِّ، وَضِدُّهُ الضَّلَالُ (9)، وَهُوَ الْخُرُوجُ عَنِ الطَّرِيقِ، وَمِنْهُ البعير
_________
(1) في (م): "تشبه".
(2) ساقطة من (ط).
(3) ما بين المعكوفين ساقط من جميع النسخ عدا (غ) و (ر).
(4) في جميع النسخ: "الهدى" عدا (غ) و (ر).
(5) في (ت): "الظر".
(6) سورة الإنسان: آية (3).
(7) سورة البلد: آية (10).
(8) ساقطة من (غ) و (ر).
(9) ساقطة من (غ).(1/233)
الضَّالُّ، وَالشَّاةُ الضَّالَّةُ. وَرَجُلٌ ضَلَّ عَنِ الطَّرِيقِ إِذَا خَرَجَ عَنْهُ، لِأَنَّهُ الْتُبِسَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ هَادٍ يَهْدِيهِ، وَهُوَ الدَّلِيلُ.
فصاحب البدعة لما غلب عليه الْهَوَى مَعَ الْجَهْلِ بِطَرِيقِ السُّنَّةِ، تَوَهَّمَ أَنَّ مَا ظَهَرَ لَهُ بِعَقْلِهِ هُوَ الطَّرِيقُ الْقَوِيمُ دُونَ غَيْرِهِ، فَمَضَى عَلَيْهِ، فَحَادَ بِسَبَبِهِ عَنِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ، فَهُوَ ضَالٌّ مِنْ حَيْثُ ظَنَّ أَنَّهُ رَاكِبٌ لِلْجَادَّةِ (1)، كَالْمَارِّ بِاللَّيْلِ عَلَى الْجَادَّةِ وَلَيْسَ لَهُ دَلِيلٌ يَهْدِيهِ، يُوشِكُ أَنْ يَضِلَّ عنها، فيقع في متلفة (2)، وَإِنْ كَانَ بِزَعْمِهِ يَتَحَرَّى قَصْدَهَا.
فَالْمُبْتَدِعُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِنَّمَا ضَلَّ فِي أَدِلَّتِهَا حَيْثُ أَخَذَهَا مَأْخَذَ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ، لَا مَأْخَذَ الِانْقِيَادِ تَحْتَ أَحْكَامِ اللَّهِ. وَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُبْتَدِعِ وَغَيْرِهِ، لِأَنَّ الْمُبْتَدِعَ جَعَلَ الْهَوَى أَوَّلَ مَطَالِبِهِ، وَأَخَذَ (3) الْأَدِلَّةَ بِالتَّبَعِ، وَمِنْ شَأْنِ الْأَدِلَّةِ أَنَّهَا جَارِيَةٌ عَلَى كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْ شَأْنِ كلامها الاحتراز فيه بالظواهر، فقلما تجد (4) فيه نصاً لا يحتمل حسبما قرره من تقدم في غير هذا الْعِلْمِ، وَكُلُّ ظَاهِرٍ يُمْكِنُ (5) فِيهِ أَنْ يُصْرَفَ عَنْ مُقْتَضَاهُ فِي الظَّاهِرِ (6) الْمَقْصُودِ، وَيُتَأَوَّلُ عَلَى غَيْرِ مَا قُصِدَ فِيهِ. فَإِذَا انْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ الْجَهْلُ بِأُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَعَدَمُ الِاضْطِلَاعِ بِمَقَاصِدِهَا، كَانَ الْأَمْرُ أَشَدَّ وَأَقْرَبَ إِلَى التَّحْرِيفِ وَالْخُرُوجِ عن مقاصد الشرع. فكان المدرك أعرق (7) فِي الْخُرُوجِ عَنِ السُّنَّةِ، وَأَمْكَنُ فِي ضَلَالِ الْبِدْعَةِ، فَإِذَا غَلَبَ الْهَوَى أَمْكَنَ انْقِيَادُ أَلْفَاظِ الْأَدِلَّةِ إِلَى مَا أَرَادَ مِنْهَا.
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّكَ لَا تَجِدُ مُبْتَدِعًا (8) مِمَّنْ يُنْسَبُ إلى الملة
_________
(1) الجادة هي معظم الطريق، وجمعها جواد.
انظر: الصحاح للجوهري (2/ 452).
(2) في (خ) وأصل (م) و (ط): "متابعة". وفي (ت): "متاعب"، وفي (ر): "متلفة".
(3) في (ت): "فأخذ".
(4) في (خ) و (ط) وأصل (م): "فكما تجب"، وفي (ت): "كما تجب".
(5) في (ت): "ممكن".
(6) في (ت): "الظر".
(7) في (خ) و (ت): "أغرق".
(8) في (غ): "متبوعاً".(1/234)
إِلَّا وَهُوَ يَسْتَشْهِدُ عَلَى بِدْعَتِهِ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، فَيُنْزِلُهُ عَلَى مَا وَافَقَ عَقْلَهُ وَشَهْوَتَهُ، وَهُوَ أَمْرٌ ثَابِتٌ فِي الْحِكْمَةِ الْأَزَلِيَّةِ الَّتِي لَا مَرَدَّ لَهَا، قَالَ تَعَالَى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} (1)، وَقَالَ: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (2)، لَكِنْ إِنَّمَا يَنْسَاقُ لَهُمْ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْمُتَشَابِهُ مِنْهَا لَا الْوَاضِحُ، وَالْقَلِيلُ مِنْهَا لَا الْكَثِيرُ (3)، وَهُوَ أَدَلُّ الدَّلِيلِ عَلَى اتِّبَاعِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْمُعْظَمَ وَالْجُمْهُورَ مِنَ الْأَدِلَّةِ إِذَا دَلَّ عَلَى أمر بظاهره فهو الحق، فإن جاء مَا (4) ظَاهِرُهُ الْخِلَافُ فَهُوَ النَّادِرُ وَالْقَلِيلُ، فَكَانَ من حق الناظر (5) رَدُّ الْقَلِيلِ إِلَى الْكَثِيرِ، وَالْمُتَشَابِهِ إِلَى الْوَاضِحِ، غَيْرَ أَنَّ الْهَوَى زَاغَ بِمَنْ أَرَادَ اللَّهُ زَيْغَهُ، فَهُوَ فِي تِيهٍ، مِنْ حَيْثُ يَظُنُّ أَنَّهُ عَلَى الطَّرِيقِ، بِخِلَافِ غَيْرِ الْمُبْتَدِعِ فَإِنَّهُ إِنَّمَا جَعَلَ الْهِدَايَةَ إِلَى الْحَقِّ أَوَّلَ مَطَالِبِهِ، وَأَخَّرَ هَوَاهُ ـ إِنْ كَانَ فَجَعَلَهُ بِالتَّبَعِ، فَوَجَدَ جمهور الأدلة ومعظم الكتاب واضحاً في المطلب (6) الذي بحث عنه، فركب (7) الجادة إليه (8)، وَمَا شَذَّ لَهُ عَنْ (9) ذَلِكَ، فَإِمَّا أَنْ يَرُدَّهُ إِلَيْهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكِلَهُ إِلَى عَالِمِهِ (10)، وَلَا يَتَكَلَّفُ الْبَحْثَ عَنْ تَأْوِيلِهِ.
وَفَيْصَلُ الْقَضِيَّةِ بَيْنَهُمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} (11)، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُسَمَّى مَنْ هَذِهِ حَالُهُ مُبْتَدِعًا وَلَا ضَالًّا، وَإِنْ حَصَلَ فِي الْخِلَافِ أَوْ خَفِيَ عَلَيْهِ.
أَمَّا أَنَّهُ غَيْرُ مُبْتَدِعٍ فَلِأَنَّهُ اتَّبَعَ الْأَدِلَّةَ مُلْقِيًا إِلَيْهَا حِكْمَةَ (12) الِانْقِيَادِ، بَاسِطًا يَدَ الِافْتِقَارِ، مُؤَخِّرًا هَوَاهُ، وَمُقَدِّمًا لِأَمْرِ الله.
_________
(1) سورة البقرة: آية (26).
(2) سورة المدثر: آية (31).
(3) في (ط): "كالكثير". وهو خطأ.
(4) في (ت): "ما على ظاهره ... "، وفي (ط): "على ما ظاهره ... ".
(5) في (ط): "الظاهر"، وهو خطأ.
(6) في (م) و (ط): "الطلب".
(7) في (ط): "فوجد".
(8) ساقطة من (خ) و (ت) و (ط).
(9) في (ت): "من".
(10) في (غ): "عامله".
(11) سورة آل عمران: آية (7).
(12) لعل مراد المؤلف أحد معاني الكلمة لغة. قال في الصحاح: وحكمة اللجام: ما أحاط بالحنك. تقول منه حكمت الدابة حكماً، وأحكمتها أيضاً. الصحاح (5/ 1902). فلعل المؤلف استعار هذا المعنى.(1/235)
وَأَمَّا كَوْنُهُ غَيْرَ ضَالِّ فَلِأَنَّهُ عَلَى الْجَادَّةِ سَلَكَ، وَإِلَيْهَا (1) لَجَأَ، فَإِنْ خَرَجَ عَنْهَا يَوْمًا فَأَخْطَأَ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ (2)، بَلْ يَكُونُ مَأْجُورًا حَسْبَمَا بَيَّنَهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ: "إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ، وَإِنْ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ" (3)، وَإِنْ خَرَجَ مُتَعَمِّدًا فَلَيْسَ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ خُرُوجَهُ طَرِيقًا مَسْلُوكًا لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ، وَشَرْعًا يُدَانُ بِهِ.
عَلَى أَنَّهُ إِذَا وَقَعَ الذَّنْبُ مَوْقِعَ الِاقْتِدَاءِ قَدْ يُسَمَّى اسْتِنَانًا، فَيُعَامَلُ مُعَامَلَةُ مَنْ سَنَّهُ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "مَنْ سن سنة سيئة كان عليها وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا" (4) الْحَدِيثَ، وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: "مَا مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ (5) كِفْلٌ مِنْهَا لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ" (6)، فَسُمِّيَ الْقَتْلُ سُنَّةً بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ عَمِلَ بِهِ عَمَلًا يُقْتَدَى بِهِ فِيهِ، لَكِنَّهُ لَا يُسَمَّى بِدْعَةً لِأَنَّهُ لَمْ يُوضَعْ عَلَى أَنْ يَكُونَ تَشْرِيعًا، وَلَا يُسَمَّى ضَلَالًا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي طَرِيقِ (7) الْمَشْرُوعِ أَوْ فِي مُضَاهَاتِهِ لَهُ. وَهَذَا تَقْرِيرٌ وَاضِحٌ يَشْهَدُ لَهُ الْوَاقِعُ فِي تَسْمِيَةِ (8) الْبِدَعِ ضَلَالَاتٍ، وَيَشْهَدُ لَهُ أَيْضًا أَحْوَالُ مَنْ تَقَدَّمَ قَبْلَ
_________
(1) في (م) و (ت): "وإليه".
(2) ساقطة من (غ) و (ر).
(3) رواه الإمام البخاري في كتاب الاعتصام من صحيحه، باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ عن عمرو بن العاص أنه سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر" (13/ 318 مع الفتح)، والإمام مسلم في كتاب الأقضية من صحيحه، باب بيان أجر الحاكم، عن عمرو بن العاص، بلفظ البخاري (12/ 13)، والإمام أبو داود في كتاب الأقضية من سننه، باب في القاضي يخطئ، وذكره تحت رقم (3574)، (3/ 297 ـ 298)، والإمام ابن ماجه في كتاب الأحكام من سننه، باب الحاكم يجتهد فيصيب الحق، تحت رقم (2314)، (2/ 776)، والإمام أحمد في المسند (4/ 198 ـ 402)، كلهم يرويه عن عمرو بن العاص بنحو لفظ البخاري ورواه أحمد عنه بلفظ آخر (2/ 187، 205)، وقد رواه الإمام الترمذي عن أبي هريرة في كتاب الأحكام من سننه، باب ما جاء في القاضي يصيب ويخطىء، ولفظه قريب من لفظ البخاري المتقدم (1326)، (3/ 615)، ورواه عنه الإمام النسائي أيضاً في كتاب آداب القضاة من سننه، باب الإصابة في الحكم (8/ 223 ـ 224).
(4) تقدم تخريجه (ص118).
(5) ساقطة من (غ) و (ر).
(6) تقدم تخريجه (ص230).
(7) في (غ) و (ر): "ليس بحيرة في طريق".
(8) في (م) و (ت): "نسبة".(1/236)
الْإِسْلَامِ، وَفِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} (1)، (فَإِنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا أُمِرُوا بِالْإِنْفَاقِ شَحُّوا عَلَى أَمْوَالِهِمْ، وَأَرَادُوا أَنْ يَجْعَلُوا لِذَلِكَ الشُّحِّ مَخْرَجًا، فقالوا أنطعم من لو شاء الله أطعمه؟) (2) وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ لَوْ شَاءَ لَمْ يُحْوِجْ أَحَدًا إِلَى أَحَدٍ، لَكِنَّهُ ابْتَلَى عِبَادَهُ لِيَنْظُرَ كيف يعملون، فغطى (3) هَوَاهُمْ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْعَظِيمِ، وَاتَّبَعُوا مَا تَشَابَهَ مِنَ الْكِتَابِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، فَلِذَلِكَ قِيلَ لَهُمْ: {إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} (4).
وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} (5)، فَكَأَنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ أَقَرُّوا بِالتَّحْكِيمِ، غَيْرَ أَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يَكُونَ التَّحْكِيمُ عَلَى وَفْقِ أَغْرَاضِهِمْ زَيْغًا عَنِ الْحَقِّ، وَظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ الْجَمِيعَ حَكَمٌ، وَأَنَّ مَا يَحْكُمُ بِهِ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ (6) أَوْ غَيْرُهُ مِثْلَ مَا يَحْكُمُ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَهِلُوا أَنَّ حُكْمَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي لَا يُرَدُّ، وَأَنَّ حُكْمَ غَيْرِهِ مَعَهُ مَرْدُودٌ إِنْ لَمْ يَكُنْ جَارِيًا عَلَى حُكْمِ اللَّهِ، فَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا} (7)، لِأَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فيمن دخل في الإسلام (8)،
_________
(1) سورة يس: آية (47).
(2) ما بين المعكوفين ساقط من (ت).
(3) في (ط): "فقص".
(4) سورة يس: آية (47).
(5) سورة النساء: آية (60).
(6) في (م): "لقب من الأشراف"، وفي (خ): "لعب من الأشراف"، وكتب فوق كعب رقم 2 وكتبت في الهامش "أحد"، وفي (ت): "من الأشراف" وكلمة كعب مطموسة، وكتب في هامشها: عله أحد من الأشراف. وهو أحد زعماء اليهود في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وذكر المفسرون أنه المراد بالطاغوت، وقيل غير ذلك.
انظر: تفسر ابن كثير عند الآية (1/ 786)، زاد المسير (2/ 118 ـ 120)، فتح القدير (1/ 484).
(7) سورة النساء: آية (60).
(8) قال الإمام ابن عطية في المحرر الوجيز بعدما ذكر أن الآية نزلت في المنافقين واليهود: "وقال مجاهد: نزلت في مؤمن ويهودي، وقالت فرقة: نزلت في يهوديين"،=(1/237)
لقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ} كَذَا إِلَى آخِرِهِ. وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا: إنها (1) نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، أَوْ فِي رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ (2).
وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلاَ سَائِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ} (3) فَهُمْ (4) (شَرَّعُوا) (5) شِرْعَةً، وَابْتَدَعُوا فِي مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذِهِ الْبِدْعَةَ، تَوَهُّمًا أَنَّ ذَلِكَ يُقَرِّبُهُمْ مِنَ اللَّهِ كَمَا يُقَرِّبُ مِنَ اللَّهِ مَا جَاءَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْحَقِّ، فَزَلُّوا وَافْتَرَوْا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِذْ زَعَمُوا أَنَّ هَذَا مِنْ ذَلِكَ وَتَاهُوا فِي المشروع، فلذلك قال تَعَالَى عَلَى إِثْرِ الْآيَةِ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} (6)، وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلاَدَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ} (7)، فهذه فذلكة مجملة (8) بعد تفصيل تقدم، وهو قوله تعالى:
_________
=ثم نقل عن القاضي أبي محمد قوله عن هذين القولين: "هذان القولان بعيدان من الاستقامة على ألفاظ الآية".
انظر: المحرر الوجيز (4/ 115). وقال عن لفظ زعم: "تقول العرب: زعم فلان كذا في الأمر الذي يضعف فيه التحقيق، وتتقوى فيه شبه الإبطال، فغاية درجة الزعم إذا قوى أن يكون مظنوناً ... وكذلك زعم المنافقين أنهم يؤمنون هو مما قويت فيه شبهة الإبطال لسوء أفعالهم، حتى صححها الخبر من الله تعالى عنهم. ومن هذا قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: "بئس مطية الرجل زعموا".
انظر: المحرر الوجيز لابن عطية (4/ 113 ـ 114).
(1) في (خ) و (ط): "إنما".
(2) قال الإمام ابن كثير في سبب نزول الآية: "أنها في رجل من الأنصار ورجل من اليهود تخاصما، فجعل اليهودي يقول: بيني وبينك محمد، وذاك يقول: بيني وبينك كعب بن الأشرف، وقيل في جماعة من المنافقين ممن أظهر الإسلام، أرادوا أن يتحاكموا إلى حكام الجاهلية، وقيل غير ذلك، والآية أعم من ذلك كله، فإنها ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة، وتحاكموا إلى ما سواهما من الباطل، وهو المراد بالطاغوت هنا". (1/ 786)، وقد ذكر الإمام ابن الجوزي أربعة أقوال في سبب نزول الآية، فانظر زاد المسير (2/ 118 ـ 120)، وأسباب النزول للواحدي (ص191 ـ 194).
(3) سورة المائدة: آية (103).
(4) في (غ): "فهؤلاء".
(5) في (م) و (خ) و (ت): "أشرعوا".
(6) سورة المائدة: آية (105).
(7) سورة الأنعام: آية (140).
(8) في (م) و (خ): "بجملة"، وفي (ط): "لجملة".(1/238)
{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا} (1) الْآيَةَ. فَهَذَا تَشْرِيعٌ كَالْمَذْكُورِ قَبْلَ (2) هَذَا، ثُمَّ قَالَ: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ} (3) الآية، وَهُوَ تَشْرِيعٌ أَيْضًا بِالرَّأْيِ مِثْلُ الْأَوَّلِ، ثُمَّ قَالَ: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ} (4) إِلَى آخِرِهَا.
فَحَاصِلُ الْأَمْرِ أَنَّهُمْ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَحَرَّمُوا مَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ مِنَ الرِّزْقِ بِالرَّأْيِ عَلَى جِهَةِ التَّشْرِيعِ، فَلِذَلِكَ قَالَ تعالى: {قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} (5).
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى ـ بَعْدَ تَعْزِيرِهِمْ عَلَى هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي حَرَّمُوهَا (6)، وَهِيَ مَا فِي قَوْلِهِ: {قُلْ آلذَكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي} (7) ـ: (8) {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (9).
وَقَوْلِهِ لَا يَهْدِي يَعْنِي أَنَّهُ يُضِلُّهُ.
وَالْآيَاتُ الَّتِي قَرَّرَ فِيهَا حَالَ الْمُشْرِكِينَ فِي إِشْرَاكِهِمْ أَتَى فِيهَا بِذِكْرِ الضَّلَالِ، لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ أَنَّهُ (10) خُرُوجٌ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، لِأَنَّهُمْ وَضَعُوا آلِهَتَهُمْ لِتُقَرِّبَهُمْ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى (فِي زَعْمِهِمْ، فَقَالُوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (11)) (12)، فَوَضَعُوهُمْ مَوْضِعَ مَنْ يُتَوَسَّلُ بِهِ حَتَّى عَبَدُوهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ، إِذْ كَانَ أَوَّلُ وَضْعِهَا فيما ذكر العلماء صوراً لقوم يودونهم
_________
(1) سورة الأنعام: آية (136).
(2) في (غ): "فوق".
(3) سورة الأنعام: آية (137).
(4) سورة الأنعام: آية (138).
(5) سورة الأنعام: آية (140).
(6) ساقطة من (ت).
(7) سورة الأنعام: آية (143).
(8) من هنا تبدأ جملة مقول القول، وقد قرن الشيخ الهلالي في تحقيقه للكتاب بين المقطعين، وليسا كذلك في القرآن، ثم إن ذلك لا يؤدي مراد المؤلف.
(9) سورة الأنعام: آية (144).
(10) كتبت في (ت) فوق السطر.
(11) سورة الزمر: آية (3).
(12) ما بين المعكوفين ساقط من (ت).(1/239)
وَيَتَبَرَّكُونَ بِهِمْ، ثُمَّ عُبِدَتْ فَأَخَذَتْهَا الْعَرَبُ مِنْ (1) غَيْرِهَا عَلَى ذَلِكَ الْقَصْدِ، وَهُوَ الضَّلَالُ الْمُبِينُ.
وَقَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (2)، فَزَعَمُوا فِي الْإِلَهِ الْحَقِّ مَا زَعَمُوا مِنَ الباطل، بناء منهم (3) عَلَى دَلِيلٍ عِنْدَهُمْ مُتَشَابِهٍ فِي نَفْسِ (4) الْأَمْرِ، حَسْبَمَا ذَكَرَهُ أَهْلُ السِّيَرِ (5)، فَتَاهُوا بِالشُّبْهَةِ عَنِ الْحَقِّ، لِتَرْكِهِمُ الْوَاضِحَاتِ، وَمَيْلِهِمْ إِلَى الْمُتَشَابِهَاتِ، كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي آيَةِ آلِ عِمْرَانَ (6)، فَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ *} (7).
وَهُمُ النَّصَارَى، ضَلُّوا فِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ شَوَاهِدِ الْعُبُودِيَّةِ فِي عِيسَى: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ *} (8).
وَبَعْدَ ذِكْرِ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ وَتَقْدِيسِ الْوَاحِدِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنِ اتِّخَاذِ الْوَلَدِ، وَذِكْرِ اخْتِلَافِهِمْ فِي مَقَالَاتِهِمُ الشَّنِيعَةِ (قَالَ) (9): {لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ} (10).
وَذَكَرَ اللَّهُ (11) الْمُنَافِقِينَ وَأَنَّهُمْ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمنوا، وذلك بكونهم (12) يَدْخُلُونَ مَعَهُمْ فِي أَحْوَالِ التَّكَالِيفِ عَلَى كَسَلٍ وتقية، أن ذلك
_________
(1) مطموسة في (ت).
(2) سورة المائدة: آية (73).
(3) زيادة في (ت).
(4) طمس جزء من الكلمة في (ت).
(5) تقدم ذكر شبهتهم وموضع خبرهم عند أهل السير (ص80) هامش (6).
(6) وهي قوله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ... } الآية. سورة آل عمران: آية (7).
(7) سورة المائدة: آية (77).
(8) سورة مريم: آية (34).
(9) زيادة في (ط). والسياق يقتضيها.
(10) سورة مريم: آية (38).
(11) لفظ الجلالة ليس في (ت).
(12) في (ط): "لكونهم".(1/240)
يُخَلِّصُهُمْ (1)، أَوْ أَنَّهُ (2) يُغْنِي عَنْهُمْ شَيْئًا، وَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا يُخَادِعُونَ أَنْفُسَهُمْ، وَهَذَا هُوَ الضَّلَالُ بِعَيْنِهِ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ يَفْعَلُ شَيْئًا يَظُنُّ أَنَّهُ لَهُ، فَإِذَا هُوَ عَلَيْهِ، فَلَيْسَ عَلَى هُدًى مِنْ عَمَلِهِ، وَلَا هُوَ سَالِكٌ عَلَى سَبِيلِهِ، فَلِذَلِكَ قَالَ: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} (3).
وَقَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الرَّجُلِ الَّذِي جَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَانُ بِضُرٍّ لاَ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنْقِذُونِ *} (4).
مَعْنَاهُ كَيْفَ أَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يُغْنِي شَيْئًا، وَأَتْرُكُ إِفْرَادَ الرَّبِّ الَّذِي بِيَدِهِ الضُّرُّ وَالنَّفْعُ؟ هَذَا خُرُوجٌ عَنْ طَرِيقٍ الحق (5) إِلَى غَيْرِ طَرِيقٍ {إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ *} (6).
وَالْأَمْثِلَةُ فِي تَقْرِيرِ (7) هَذَا الْأَصْلِ كَثِيرَةٌ، جَمِيعُهَا يَشْهَدُ بِأَنَّ الضَّلَالَ فِي غَالِبِ الْأَمْرِ إِنَّمَا يستعمل في موضع (8) يَزِلُّ صَاحِبُهُ لِشُبْهَةٍ تَعْرِضُ لَهُ، أَوْ تَقْلِيدِ مَنْ عَرَضَتْ لَهُ الشُّبْهَةُ، فَيَتَّخِذُ ذَلِكَ الزَّلَلَ شَرْعًا وَدِينًا يَدِينُ بِهِ، مَعَ وُجُودِ وَاضِحَةِ الطَّرِيقِ الْحَقِّ وَمَحْضِ الصَّوَابِ.
وَلَمَّا لَمْ يَكُنِ الْكُفْرُ فِي الْوَاقِعِ مُقْتَصِرًا (9) عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ، بَلْ ثَمَّ طَرِيقٌ آخَرُ، وَهُوَ الْكُفْرُ بَعْدَ الْعِرْفَانِ عِنَادًا أَوْ ظُلْمًا، ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الصِّنْفَيْنِ فِي السُّورَةِ الْجَامِعَةِ، وَهِيَ أُمُّ الْقُرْآنِ، فَقَالَ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ *} {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}.
_________
(1) لعل الأصل: "ظنا منهم أن ذلك يخلصهم"، وقد كتب في هامش (ت): "ويزعمون أن ذلك يخلصكم أو أنه يغني عنكم شيئاً"، وكأنها نسخة أخرى، ولا أرى الكلام يستقيم بهذا.
(2) في (ت) و (خ): "أنهم".
(3) سورة النساء: آية (142 ـ 143).
(4) سورة يس: آية (23).
(5) ساقطة من جميع النسخ عدا (غ) و (ر).
(6) سورة يس: آية (24).
(7) في جميع النسخ: "تقرر"، والمثبت ما في (غ) و (ر).
(8) في (ط): "موضوع".
(9) في (م) و (ت): "مقتصراً به".(1/241)
فهذه هي المحجة (1) العظمى التي دعا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إِلَيْهَا.
ثُمَّ قَالَ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ}، فَالْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ هُمُ الْيَهُودُ، لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بَعْدَ مَعْرِفَتِهِمْ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ اللَّهِ فِيهِمْ: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} (2) يَعْنِي الْيَهُودَ.
وَالضَّالُّونَ هُمُ النَّصَارَى، لِأَنَّهُمْ ضَلُّوا فِي الْحُجَّةِ فِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (3).
وَيَلْحَقُ بِهِمْ فِي الضَّلَالِ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا غَيْرَهُ، لِأَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي أَثْنَاءِ القرآن ما يدل على ذلك، ولأن لفظ القرآن في قوله: {وَلاَ الضَّالِّينَ} يَعُمُّهُمْ وَغَيْرَهُمْ، فَكُلُّ مَنْ ضَلَّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ دَاخِلٌ فِيهِ.
وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الضَّالِّينَ يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَنْ ضَلَّ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، كَانَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَوَّلًا، إِذْ قَدْ (4) تَقَدَّمَ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ قبل هذا مثله.
_________
(1) في (ط): "الحجة".
(2) سورة البقرة: آية (146).
(3) رواه الإمام الترمذي في كتاب التفسير من سننه في تفسير سورة الفاتحة، عن عدي بن حاتم رضي الله عنه، ضمن حديث طويل، وَفِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "فإن اليهود مغضوب عليهم، وإن النصارى ضلال"، وقال حسن غريب.
انظر: الحديث برقم (2953، 2954)، (5/ 186 ـ 187)، ورواه الإمام أحمد في المسند عنه بلفظ: "إن المغضوب عليهم اليهود، وإن الضالين النصارى، (4/ 378 ـ 379)، والإمام ابن جرير الطبري (1/ 61 ـ 64)، وابن حبان كما في موارد الظمآن للهيثمي برقم (1715)، (ص424)، وصححه الشيخ الألباني كما في تعليقه على الطحاوية وقال صحيح، رواه الترمذي وغيره، وصححه ابن حبان.
انظر: شرح العقيدة الطحاوية (ص526)، صحيح الجامع برقم (8202)، (2/ 1363).
(4) في (ت): "وقد" بدل "إذ قد".(1/242)
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (1) عَامٌّ فِي كُلِّ ضَالٍّ، كَانَ ضَلَالُهُ كَضَلَالِ أهل (2) الشرك (3) والنفاق (4)، أَوْ كَضَلَالِ الْفِرَقِ الْمَعْدُودَةِ فِي الْمِلَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَهُوَ أَبْلَغُ وَأَعْلَى فِي قَصْدِ حَصْرِ أَهْلِ الضَّلَالِ، وَهُوَ اللَّائِقُ بِكُلِّيَّةِ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَالسَّبْعِ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ الَّذِي أُوتِيهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ خَرَجْنَا عَنِ الْمَقْصُودِ بعض الخروج، وَلَكِنَّهُ عَاضِدٌ لِمَا نَحْنُ فِيهِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
_________
(1) سورة الأنعام: آية (153).
(2) ساقطة من (خ) و (ط).
(3) في (ت): "الشراك".
(4) في جميع النسخ: "أو النفاق"، والمثبت ما في (غ).(1/243)
الباب الثالث
فِي أَنَّ ذَمَّ الْبِدَعِ وَالْمُحْدَثَاتِ عَامٌّ لَا يَخُصُّ مُحْدَثَةً (1) دُونَ غَيْرِهَا وَيَدْخُلُ تَحْتَ هَذِهِ الترجمة (النظر في) (2) جُمْلَةٌ مِنْ شُبَهِ الْمُبْتَدِعَةِ (3) الَّتِي احْتَجُّوا بِهَا.
فَاعْلَمُوا ـ رَحِمَكُمُ اللَّهُ ـ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ حُجَّةٌ فِي عُمُومِ الذَّمِّ مِنْ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهَا جَاءَتْ مُطْلَقَةً عَامَّةً عَلَى كَثْرَتِهَا. لَمْ يَقَعْ فِيهَا اسْتِثْنَاءٌ أَلْبَتَّةَ وَلَمْ يَأْتِ فيها شيء (4) مما يَقْتَضِي أَنَّ مِنْهَا مَا هُوَ هُدًى، وَلَا جَاءَ فِيهَا: كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ إِلَّا كَذَا وَكَذَا، وَلَا شَيْءَ مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي. فَلَوْ كَانَ هُنَالِكَ (5) مُحْدَثَةٌ يَقْتَضِي النَّظَرُ الشَّرْعِيُّ فِيهَا الِاسْتِحْسَانَ، أَوْ أَنَّهَا لَاحِقَةٌ بِالْمَشْرُوعَاتِ، لَذُكِرَ ذَلِكَ فِي آيَةٍ أَوْ حَدِيثٍ، لَكِنَّهُ لَا يُوجَدُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْأَدِلَّةَ بِأَسْرِهَا عَلَى حَقِيقَةِ ظَاهِرِهَا (6) مِنَ الْكُلِّيَّةِ الَّتِي لَا يَتَخَلَّفُ عن مقتضاها فرد من الأفراد.
والثاني: أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الْأُصُولِ الْعِلْمِيَّةِ أَنَّ كُلَّ قَاعِدَةٍ كُلِّيَّةٍ، أَوْ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ كُلِّيٍّ إذا تكررت في مواضع كَثِيرَةٍ، وَأُتِيَ بِهَا شَوَاهِدُ عَلَى مَعَانٍ أُصُولِيَّةٍ أَوْ فُرُوعِيَّةٍ، وَلَمْ (7) يَقْتَرِنْ بِهَا تَقْيِيدٌ وَلَا تخصيص، مع تكررها، وإعادة تقريرها (8)، فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى بَقَائِهَا عَلَى مُقْتَضَى لَفْظِهَا مِنَ الْعُمُومِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (9)، {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى *} (10) وما أشبه ذلك،
_________
(1) في (خ): "محدث".
(2) ساقط من جميع النسخ عدا (غ).
(3) في (ت): "المعتزلة".
(4) ساقطة من (خ) و (ط).
(5) في (ت): "هناك".
(6) في (ت): "ظواهرها".
(7) في (ر): "لم".
(8) هكذا في (ر) وفي بقية النسخ: "تقررها".
(9) سورة فاطر: آية (18).
(10) سورة النجم: آية (39).(1/245)
وَبُسِطَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى ذَلِكَ هُنَالِكَ (1).
فَمَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، إِذْ جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ الْمُتَعَدِّدَةِ وَالْمُتَكَرِّرَةِ فِي أَوْقَاتٍ شَتَّى، وَبِحَسَبِ الْأَحْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ أَنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَأَنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَمَا كَانَ نَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَارَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْبِدَعَ مَذْمُومَةٌ.
وَلَمْ يَأْتِ فِي آيَةٍ وَلَا حَدِيثٍ تَقْيِيدٌ وَلَا تَخْصِيصٌ، وَلَا مَا يُفْهَمُ مِنْهُ خِلَافُ ظَاهِرِ الْكُلِّيَّةِ فِيهَا. فَدَلَّ ذَلِكَ دَلَالَةً وَاضِحَةً على أنها على عمومها وإطلاقها.
والثالث: إِجْمَاعُ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ يَلِيهِمْ عَلَى ذَمِّهَا كَذَلِكَ (2)، وَتَقْبِيحِهَا وَالْهُرُوبِ عَنْهَا، وَعَمَّنِ اتَّسَمَ (3) بِشَيْءٍ مِنْهَا وَلَمْ يَقَعْ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ تَوَقُّفٌ وَلَا مَثْنَوِيَّةٌ (4). فَهُوَ ـ بِحَسَبِ الِاسْتِقْرَاءِ ـ إِجْمَاعٌ ثَابِتٌ، فَدَلَّ (5) عَلَى أَنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ لَيْسَتْ بِحَقٍّ، بَلْ هِيَ مِنَ الْبَاطِلِ.
والرابع: أَنَّ (6) مُتَعَقِّلَ الْبِدْعَةِ يَقْتَضِي ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ مُضَادَّةِ الشَّارِعِ، وَاطِّرَاحِ الشَّرْعِ. وَكُلُّ مَا كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَمُحَالٌ أَنْ يَنْقَسِمَ إِلَى حَسَنٍ وَقَبِيحٍ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْهُ مَا يُمْدَحُ وَمِنْهُ مَا يُذَمُّ، إِذْ لَا يَصِحُّ فِي مَعْقُولٍ وَلَا مَنْقُولٍ اسْتِحْسَانُ مُشَاقَّةِ الشَّارِعِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَسْطُ هَذَا فِي أَوَّلِ الْبَابِ الثَّانِي (7).
وَأَيْضًا فَلَوْ فُرِضَ أَنَّهُ جَاءَ فِي النَّقْلِ اسْتِحْسَانُ بَعْضِ الْبِدَعِ، أَوِ اسْتِثْنَاءُ بَعْضِهَا عَنِ الذَّمِّ لَمْ يُتَصَوَّرْ، لِأَنَّ الْبِدْعَةَ طَرِيقَةٌ تضاهي المشروعة (8) من غير
_________
(1) تناول المؤلف هذه المسألة في كتاب الموافقات، ضمن مسائل العموم والخصوص وقد ذكر من أمثلتها الآية التي ذكرها هنا وهي قوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: "لا ضرر ولا ضرار" إلى غير ذلك (3/ 306).
(2) ساقطة من (ت).
(3) في (م) و (خ) و (ت): "ارتسم".
(4) في (غ): "ثنوية".
(5) في (ر): "يدل".
(6) كتبت في (ت) فوق السطر.
(7) وذلك عند ذكر ما يدل على ذم البدع من النظر. (ص67 ـ 69).
(8) أي تضاهي الطريقة المشروعة.(1/246)
أَنْ تَكُونَ كَذَلِكَ. وَكَوْنُ الشَّارِعِ يَسْتَحْسِنُهَا دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهَا، إِذْ لَوْ قَالَ الشَّارِعُ: الْمُحْدَثَةُ الْفُلَانِيَّةُ حَسَنَةٌ لَصَارَتْ مَشْرُوعَةً، كَمَا أَشَارُوا إِلَيْهِ فِي الِاسْتِحْسَانِ حَسْبَمَا يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ (1).
وَلَمَّا ثَبَتَ ذَمُّهَا ثَبَتَ ذَمُّ صَاحِبِهَا، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَذْمُومَةٍ مِنْ حَيْثُ تَصَوُّرِهَا فَقَطْ، بَلْ مِنْ حَيْثُ اتَّصَفَ بِهَا الْمُتَّصِفُ، فَهُوَ إذًا المذموم على الحقيقة، والذم خاصة التَّأْثِيمِ، فَالْمُبْتَدِعُ مَذْمُومٌ آثِمٌ، وَذَلِكَ عَلَى الْإِطْلَاقِ والعموم. ويدل على ذلك أوجه (2):
أحدها: أَنَّ الْأَدِلَّةَ الْمَذْكُورَةَ إِنْ جَاءَتْ فِيهِمْ نَصًّا فَظَاهِرٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (3)، وَقَوْلِهِ: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} (4) إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "فَلَيُذَادَنَّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي" (5) الْحَدِيثَ ـ إِلَى سَائِرِ مَا نُصَّ فِيهِ عَلَيْهِمْ (6)، وَإِنْ كَانَتْ نَصًّا فِي الْبِدْعَةِ فَرَاجِعَةُ الْمَعْنَى إِلَى الْمُبْتَدِعِ (مِنْ غَيْرِ إِشْكَالٍ) (7)، وَإِذَا رَجَعَ الْجَمِيعُ إِلَى ذَمِّهِمْ رَجَعَ الْجَمِيعُ إِلَى تَأْثِيمِهِمْ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الشَّرْعَ قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْهَوَى هُوَ الْمُتَّبَعُ الْأَوَّلُ فِي الْبِدَعِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ السَّابِقُ فِي حَقِّهِمْ، وَدَلِيلُ الشَّرْعِ كَالتَّبَعِ فِي حَقِّهِمْ.
وَلِذَلِكَ تَجِدُهُمْ يَتَأَوَّلُونَ كُلَّ دَلِيلٍ خَالَفَ هَوَاهُمْ، وَيَتَّبِعُونَ كُلَّ شُبْهَةٍ وَافَقَتْ أَغْرَاضَهُمْ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} (8)؟ فَأَثْبَتَ لهم الزيغ أولاً، وهو الميل
_________
(1) تناول المؤلف موضوع الاستحسان، وتعلق أهل البدع به، والرد عليهم في الباب الثامن (2/ 136).
(2) في (ط): "أربعة أوجه".
(3) سورة الأنعام: آية (159).
(4) سورة آل عمران: آية (105).
(5) تقدم تخريج الحديث (ص121).
(6) تقدم ذكر المؤلف للأدلة من القرآن والسنة في ذم البدع وأهلها في الباب الثاني.
(7) ما بين المعكوفين ساقط من (ت).
(8) سورة آل عمران: آية (7).(1/247)
عَنِ الصَّوَابِ، ثُمَّ اتِّبَاعَ الْمُتَشَابِهِ، وَهُوَ خِلَافُ المحكم، والمحكم (1) الواضح المعنى هُوَ (2) أُمُّ الْكِتَابِ وَمُعْظَمُهُ. وَمُتَشَابِهُهُ عَلَى هَذَا قَلِيلٌ، فَتَرَكُوا اتِّبَاعَ الْمُعْظَمِ إِلَى اتِّبَاعِ الْأَقَلِّ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي لَا يُعْطِي مَفْهُومًا وَاضِحًا، ابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَطَلَبًا لِمَعْنَاهُ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا الله، أو يعلمه الله ويعلمه (3) الراسخون في العلم (4)، وليس ذلك (5) إِلَّا بِرَدِّهِ إِلَى الْمُحْكَمِ، وَلَمْ يَفْعَلِ الْمُبْتَدِعَةُ ذَلِكَ.
فَانْظُرُوا كَيْفَ اتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ أَوَّلًا فِي مطالب (6) الشَّرْعِ، بِشَهَادَةِ اللَّهِ.
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ} (7) الْآيَةَ. فَنَسَبَ إِلَيْهِمُ التَّفْرِيقَ، وَلَوْ كَانَ التَّفْرِيقُ مِنْ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ لَمْ يَنْسُبْهُ إِلَيْهِمْ، وَلَا أتى به في معرض الذَّمِّ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا بِاتِّبَاعِ الْهَوَى.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (8)، فَجَعَلَ طَرِيقَ الْحَقِّ وَاضِحًا مُسْتَقِيمًا، وَنَهَى عَنِ الْبُنَيَّاتِ (9). وَالْوَاضِحُ مِنَ الطُّرُقِ وَالْبُنَيَّاتُ (10)، كُلُّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالْعَوَائِدِ الْجَارِيَةِ، فَإِذَا وَقَعَ التَّشْبِيهُ بِهَا بطريق
_________
(1) ساقطة من جميع النسخ عدا (غ) و (ر).
(2) في (خ) و (ط): "الذي هو".
(3) ساقطة من (خ) و (ط).
(4) يشير المؤلف إلى الاختلاف في الوقف في آية آل عمران المذكورة، والجمهور على أن الوقف على لفظ الجلالة، وروى عن مجاهد وطائفة أن الوقف على قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}. وقد وفق شيخ الإسلام ابن تيمية بين القولين ببيان معنى التأويل، فذكر من معانيه التفسير والبيان، فعلى هذا لا إشكال في الوصل. ومن معانيه الحقيقة التي يؤول إليها الكلام كقوله تعالى: {وَقَال ياأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ}، فعلى هذا يكون الوقف على لفظ الجلالة، لأن حقائق الأمور وكنهها لا يعلمها على الجلية إلا الله عز وجل.
انظر: ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في الرسالة التدمرية (ص89 وما بعدها). وذكر هذه الأقوال ابن كثير في تفسيره عند الآية (1/ 520 ـ 521).
(5) ساقطة من جميع النسخ عدا (غ) و (ر).
(6) في (خ) و (ط): "مطالبة".
(7) سورة الأنعام: آية (159).
(8) سورة الأنعام: آية (153).
(9) بنيات الطريق هي الطرق الصغار تتشعب من الجادة، وهي الترهات.
انظر: الصحاح (6/ 2287).
(10) في جميع النسخ "البينات" عدا (غ) و (ر).(1/248)
الْحَقِّ مَعَ الْبُنَيَّاتِ فِي الشَّرْعِ فَوَاضِحٌ (1) أَيْضًا. فَمَنْ تَرَكَ الْوَاضِحَ وَاتَّبَعَ غَيْرَهُ (2) فَهُوَ مُتَّبِعٌ لِهَوَاهُ لَا لِلشَّرْعِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} (3)، فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى مَجِيءِ الْبَيَانِ (4) الشَّافِي، وَأَنَّ التَّفَرُّقَ إِنَّمَا حَصَلَ مِنْ جِهَةِ الْمُتَفَرِّقِينَ لَا مِنْ (5) جِهَةِ الدَّلِيلِ. (فَهُوَ إذًا) (6) مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ، وَهُوَ اتِّبَاعُ الْهَوَى بِعَيْنِهِ.
وَالْأَدِلَّةُ عَلَى هَذَا (كَثِيرَةٌ، تُشِيرُ) (7) أَوْ تُصَرِّحُ بِأَنَّ كُلَّ (8) مُبْتَدِعٍ إِنَّمَا يَتَّبِعُ هَوَاهُ، وَإِذَا اتَّبَعَ هَوَاهُ كَانَ مَذْمُومًا وَآثِمًا. وَالْأَدِلَّةُ عَلَيْهِ أَيْضًا (9) كَثِيرَةٌ، كَقَوْلِهِ: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} (10)، وَقَوْلِهِ: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} (11)، وَقَوْلِهِ: {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} (12) وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَإِذًا كُلُّ مُبْتَدِعٍ مَذْمُومٌ آثم (13).
والثالث: أن عامة المبتدعة قائلة (14) بالتحسين والتقبيح (15)، فَهُوَ عُمْدَتُهُمُ الْأُولَى، وَقَاعِدَتُهُمُ الَّتِي يَبْنُونَ عَلَيْهَا الشَّرْعَ، فَهُوَ الْمُقَدَّمُ فِي نِحَلِهِمْ، بِحَيْثُ لَا يَتَّهِمُونَ الْعَقْلَ، وَقَدْ يَتَّهِمُونَ الْأَدِلَّةَ إِذَا (16) لَمْ تُوَافِقْهُمْ فِي الظَّاهِرِ (17)، حَتَّى يَرُدُّوا كَثِيرًا مِنَ الأدلة الشرعية (بسببه، ولا يرد قضية من قضايا العقل بحسب معارضة الدليل الشرعي) (18).
_________
(1) في (ت) و (غ) و (ر): "واضح".
(2) بياض في (ت).
(3) سورة آل عمران: آية (105).
(4) في (خ): "البينات".
(5) بياض في (ت).
(6) ما بين المعكوفين مطموس في (ت).
(7) ما بين المعكوفين بياض في (ت).
(8) بياض في (ت).
(9) في (ت): "أيضاً عليه".
(10) سورة القصص: آية (50).
(11) سورة ص: آية (26).
(12) سورة الكهف: آية (28).
(13) في (خ): "مذموم وآثم".
(14) في (ر): "مائلة".
(15) تقدم التعليق على هذه المسألة (ص213).
(16) في (ط): "إذ".
(17) في (ت): "الظر".
(18) ما بين المعكوفين ساقط من جميع النسخ عدا (غ) و (ر).(1/249)
وَقَدْ عَلِمْتَ أَيُّهَا النَّاظِرُ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا يَقْضِي بِهِ الْعَقْلُ يَكُونُ حَقًّا (1)، وَلِذَلِكَ تَرَاهُمْ يَرْتَضُونَ الْيَوْمَ مَذْهَبًا، وَيَرْجِعُونَ عَنْهُ (2) غَدًا، (ثُمَّ يَصِيرُونَ بَعْدَ غَدٍ) (3) إِلَى رَأْيٍ ثَالِثٍ. وَلَوْ كَانَ كُلُّ مَا يَقْضِي بِهِ حَقًّا (4) لَكَفَى فِي إِصْلَاحِ مَعَاشِ الْخَلْقِ وَمَعَادِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ لِبَعْثَةِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ (السَّلَامُ فَائِدَةٌ، وَلَكَانَ (5) عَلَى هَذَا الْأَصْلِ تُعَدُّ (6)) (7) الرِّسَالَةُ (8) عَبَثًا لَا مَعْنَى لَهُ، وَهُوَ كُلُّهُ بَاطِلٌ، فَمَا (9) أَدَّى إِلَيْهِ مِثْلُهُ.
فَأَنْتَ تَرَى أَنَّهُمْ قَدَّمُوا أَهْوَاءَهُمْ عَلَى الشَّرْعِ، وَلِذَلِكَ سُمُّوا ـ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ، وَفِي إِشَارَةِ الْقُرْآنِ ـ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ (10)، وَذَلِكَ لِغَلَبَةِ الْهَوَى عَلَى عُقُولِهِمْ وَاشْتِهَارِهِ فِيهِمْ، لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ بالمشتق إنما تطلق (11) إِطْلَاقَ اللَّقَبِ إِذَا غَلَبَ مَا اشْتُقَّتْ مِنْهُ عَلَى الْمُسَمَّى بِهَا، فَإِذًا تَأْثِيمُ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ مَرْجِعَهُ إِلَى اتِّبَاعِ الرَّأْيِ، وهو اتباع الهوى المذكور آنفاً.
والرابع: أَنَّ كُلَّ رَاسِخٍ لَا يَبْتَدِعُ أَبَدًا، وَإِنَّمَا يقع الابتداع ممن لم يتمكن في (12) الْعِلْمِ الَّذِي ابْتَدَعَ فِيهِ، حَسْبَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الحديث (13)، ويأتي تقريره بحول الله (14).
_________
(1) تقدم الكلام على العقل وقصوره في بداية الباب الثاني (ص62 ـ 64).
وسيفرد المؤلف لهذا الموضوع فصلاً مستقلاً في الباب العاشر، حيث سيذكره كسبب من أسباب الابتداع (2/ 318 ـ 337).
(2) ساقطة من (غ) و (ر).
(3) ما بين المعكوفين ساقط من (ت).
(4) مطموسة في (ت).
(5) في (غ): ولو كان.
(6) في (م): "يعد"، وفي (خ): "بعده"، وفي (غ): "بعد"، وفي (ر): "بعث".
(7) ما بين المعكوفين مطموس في (ت).
(8) في (غ) و (ر): الرسل.
(9) في (م): "مما".
(10) أما الحديث الذي سموا فيه بأهل الأهواء، فهو حديث عائشة وقد مر ذكره والحكم عليه (ص90)، وأما الآيات فقد تقدم ذكر المؤلف لها في الوجه الخامس من أوجه ذم البدع من جهة النظر (ص70 ـ 72).
(11) في (م) و (خ) و (ط): "يطلق".
(12) في (ط): "من".
(13) لعله يريد حديث عبد الله بن عمرو المتقدم: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ من الناس) إلى قوله: حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ اتَّخَذَ النَّاسُ رؤوساً جهالاً فسألوهم فأفتوهم فضلوا وأضلوا)، وقد تقدم في الباب الثاني (ص125).
(14) وذلك في الفصل الآتي (ص275)، وانظر بداية الباب الرابع أيضاً.(1/250)
فَإِنَّمَا يُؤْتَى النَّاسُ مِنْ قِبَلِ جُهَّالِهِمُ الَّذِينَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عُلَمَاءُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَاجْتِهَادُ من اجتهد منهم (1) مَنْهِيٌّ عَنْهُ إِذْ لَمْ يَسْتَكْمِلْ (2) شُرُوطَ الِاجْتِهَادِ، فَهُوَ عَلَى أَصْلِ الْعُمُومِيَّةِ. وَلَمَّا كَانَ الْعَامِّيُّ حَرَامًا عَلَيْهِ النَّظَرُ فِي الْأَدِلَّةِ وَالِاسْتِنْبَاطِ، (كَانَ الْمُخَضْرَمُ الَّذِي بَقِيَ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ الْجَهَالَاتِ (3) مِثْلَهُ فِي تَحْرِيمِ الِاسْتِنْبَاطِ) (4) وَالنَّظَرِ الْمَعْمُولِ بِهِ، فَإِذَا أَقْدَمَ عَلَى مُحَرَّمٍ عَلَيْهِ كَانَ آثِمًا بِإِطْلَاقٍ.
وَبِهَذِهِ الْأَوْجُهِ الْأَخِيرَةِ ظَهَرَ وَجْهُ تَأْثِيمِهِ، وَتَبَيَّنَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُجْتَهِدِ الْمُخْطِئِ فِي اجْتِهَادِهِ، وَسَيَأْتِي لَهُ تَقْرِيرٌ أَبْسَطُ مِنْ هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ (5).
وَحَاصِلُ مَا ذُكِرَ هُنَا أَنَّ كُلَّ مُبْتَدِعٍ آثِمٌ، وَلَوْ فُرِضَ عَامِلًا بِالْبِدْعَةِ الْمَكْرُوهَةِ ـ إِنْ ثَبَتَ فِيهَا كَرَاهَةُ التَّنْزِيهِ (6) ـ، لِأَنَّهُ: إِمَّا مُسْتَنْبِطٌ لَهَا فَاسْتِنْبَاطُهُ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ غَيْرُ جَائِزٍ، وَإِمَّا: نَائِبٌ عَنْ صَاحِبِهَا مُنَاضِلٌ عَنْهُ فِيهَا بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ يَجْرِي مَجْرَى الْمُسْتَنْبِطِ الْأَوَّلِ لَهَا، فَهُوَ آثِمٌ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ.
لَكِنْ يَبْقَى هُنَا نَظَرٌ فِي الْمُبْتَدِعِ وَصَاحِبِ الْهَوَى، بِحَيْثُ يَتَنَزَّلُ دَلِيلُ الشَّرْعِ عَلَى مَدْلُولِ اللَّفْظِ فِي الْعُرْفِ الَّذِي وقع التخاطب به، إذ قد (7) يَقَعُ الْغَلَطُ أَوِ التَّسَاهُلُ (8)، فَيُسَمَّى مَنْ لَيْسَ بِمُبْتَدِعٍ مُبْتَدِعًا، وَبِالْعَكْسِ إِنْ تُصُوِّرَ، فَلَا بُدَّ مِنْ فَضْلِ (9) اعْتِنَاءٍ بِهَذَا الْمَطْلَبِ حَتَّى يَتَّضِحَ بِحَوْلِ اللَّهِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
وَلْنُفْرِدُهُ فِي فَصْلٍ منعزل (10):
_________
(1) ساقطة من (م) و (ط).
(2) في (غ): "يكمل".
(3) في (ط): "الجهلات".
(4) ما بين المعكوفين ساقط من (ت)، ولعله وقع سبق نظر للناسخ، فانتقل من كلمة "الاستنباط" الأولى إلى ما بعد الثانية.
(5) وذلك في الفصل الآتي.
(6) وقد قال المؤلف: "فَلَا يَكَادُ يُوجَدُ فِي الْبِدَعِ ـ بِحَسَبِ الْوُقُوعِ ـ مكروه لا زائد فيه على الكراهة. والله أعلم".
انظر: (ص324). وانظر تقسيم المؤلف للبدع في الباب السادس (2/ 36).
(7) ساقط من (م) و (ط).
(8) في (ت): "والتساهل".
(9) في (خ) و (م) و (ت): "فصل".
(10) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "فتقول".(1/251)
فصل
لَا يَخْلُو الْمَنْسُوبُ إِلَى الْبِدْعَةِ أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا فِيهَا أَوْ مُقَلِّدًا. وَالْمُقَلِّدُ إِمَّا مُقَلِّدٌ مَعَ الْإِقْرَارِ بِالدَّلِيلِ الَّذِي زَعَمَهُ الْمُجْتَهِدُ دَلِيلًا، وَالْأَخْذُ فِيهِ بِالنَّظَرِ، وَإِمَّا مُقَلِّدٌ لَهُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ كَالْعَامِّيِّ الصِّرْفِ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ:
فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا أَنْ يَصِحَّ كَوْنُهُ مُجْتَهِدًا، فَالِابْتِدَاعُ مِنْهُ لَا يَقَعُ إِلَّا فَلْتَةً، وَبِالْعَرَضِ لَا بِالذَّاتِ، وَإِنَّمَا تُسَمَّى غَلْطَةً أَوْ زَلَّةً، لِأَنَّ صَاحِبَهَا لَمْ يَقْصِدْ اتِّبَاعَ الْمُتَشَابِهِ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ، وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِ الْكِتَابِ، أَيْ لَمْ يَتَّبِعْ هَوَاهُ، وَلَا جَعَلَهُ عُمْدَةً (1). وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إِذَا ظَهَرَ لَهُ الْحَقُّ أَذْعَنَ لَهُ، وَأَقَرَّ بِهِ.
وَمِثَالُهُ: مَا يُذْكَرُ عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ (2) بْنِ مَسْعُودٍ (3) أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ بِالْإِرْجَاءِ (4) ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ، وَقَالَ:
وَأَوَّلُ مَا أُفَارِقُ غَيْرَ شك (5)
أفارق ما يقول المرجئونا (6)
_________
(1) في (غ) و (ر): "عمدته".
(2) ساقطة من (ت).
(3) هو عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مسعود الإمام، القدوة، العابد أبو عبد الله الهذلي الكوفي، أخو فقيه المدينة عبيد الله. حدث عن أبيه، وأخيه، وابن المسيب، وابن عباس، وعبد الله بن عمرو وطائفة، وحدث عنه أبو حنيفة، ومسعر، والمسعودي، وآخرون، وثقه أحمد وغيره، توفي سنة بضع عشرة ومائة.
انظر: طبقات ابن سعد (6/ 313)، تاريخ البخاري (7/ 13)، تهذيب التهذيب (8/ 171)، السير (5/ 103).
(4) تقدمت ترجمة المرجئة (ص27).
(5) في (ط): "شاك". والمثبت هو الذي في جميع النسخ، وهو المروي عنه.
(6) في (م) و (ت) و (ط): "المرجئون"، وكتب في هامش (خ): "المرجئيون".
وقد ذكر هذا البيت عنه الإمام المزي في تهذيب الكمال (22/ 457)، والإمام ابن حجر في تهذيب التهذيب (8/ 172)، وكلهم يذكر رجوعه عن الإرجاء.(1/252)
وَذَكَر مُسْلِمٌ (1) عَنْ يَزِيدَ بْنِ صُهَيْبٍ الْفَقِيرِ (2) قَالَ: كُنْتُ قَدْ شَغَفَنِي رَأْيٌ مِنْ رَأْيِ الْخَوَارِجِ، فَخَرَجْنَا (3) فِي عِصَابَةٍ ذَوِي عَدَدٍ نُرِيدُ أَنْ نَحُجَّ، ثُمَّ نَخْرُجَ عَلَى النَّاسِ. قَالَ: فَمَرَرْنَا عَلَى الْمَدِينَةِ، فَإِذَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ الله يحدث القوم ـ جَالِسٌ (4) إِلَى سَارِيَةٍ ـ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: وَإِذَا هُوَ قَدْ ذَكَرَ الْجَهَنَّمِيِّينَ (5)، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ (6): يَا صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ، مَا هَذَا الَّذِي تُحَدِّثُونَ؟ وَاللَّهُ يَقُولُ: {إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} (7)، وَ {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} (8)، فَمَا هَذَا الَّذِي تَقُولُونَ (9)؟ قَالَ: (فَقَالَ: أَفَتَقْرَأُ) (10) الْقُرْآنَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ (11): فَهَلْ سَمِعْتَ بِمَقَامِ محمد ((ص)؟ ـ يَعْنِي الَّذِي يَبْعَثُهُ اللَّهُ) (12) فِيهِ ـ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنَّهُ مَقَامُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ (عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَحْمُودُ الَّذِي يُخْرِجُ اللَّهُ بِهِ مَنْ يخرج) (13).
قال: ثم نعت وضع الصراط، ومر النَّاسِ عَلَيْهِ. قَالَ: وَأَخَافُ أَلَّا أَكُونَ أَحْفَظُ ذَلِكَ (14). قَالَ (15): غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ زَعَمَ (16) أَنَّ قوماً يخرجون من النار بعد
_________
(1) وذلك في كتاب الإيمان من صحيحه (3/ 50 ـ 52 بشرح النووي).
(2) هو يزيد بن صهيب الفقير أبو عثمان الكوفي، ثقة مقل، حدث عن ابن عمر وجابر وأبي سعيد الخدري، وحدث عنه الحكم وعبد الكريم الجزري ومسعر وعده، وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَأَبُو زُرْعَةَ، وَقَالَ أَبُو حاتم صدوق، لقب بالفقير، لأنه اشتكى فقار ظهره، وهو من كبار شيوخ أبي حنيفة.
انظر: التارخ الكبير (8/ 342)، السير (5/ 227)، الكاشف للذهبي (3/ 245)، تقريب التهذيب (2/ 366).
(3) في (ت): "خرجنا".
(4) في صحيح مسلم "جالساً"، ونصبها على الحال، وبالرفع على الخبرية.
(5) في (ط): "لجهنميين"، وهم الذين يخرجهم الله من النار بعد أن كانوا فيها.
(6) ساقطة من (ت).
(7) سورة آل عمران: آية (192).
(8) سورة السجدة: آية (20).
(9) في (غ) و (ر): "تقول".
(10) ما بين المعكوفين مطموس في (ت).
(11) في (غ): "فقال".
(12) ما بين المعكوفين مطموس في (ت).
(13) ما بين المعكوفين مطموس في (ت)، وفي (ط): "من يخرج من النار"، والزيادة في هامش (خ) أيضاً، والمثبت هو الموافق لما في صحيح مسلم أيضاً.
(14) في (ر): "ذاك".
(15) ساقطة من (ر).
(16) زعم هنا بمعنى قال كما قال النووي في شرح مسلم (3/ 51).(1/253)
أَنْ يَكُونُوا (1) فِيهَا. قَالَ: يَعْنِي فَيَخْرُجُونَ كَأَنَّهُمْ عِيدَانُ السَّمَاسِمِ (2)، فَيَدْخُلُونَ نَهْرًا مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ، فَيَغْتَسِلُونَ فِيهِ، فَيَخْرُجُونَ كَأَنَّهُمُ الْقَرَاطِيسُ (3).
فَرَجَعْنَا وَقُلْنَا (4): وَيْحَكُمْ! أَتَرَوْنَ الشَّيْخَ يَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! فَرَجَعْنَا فَلَا وَاللَّهِ مَا خَرَجَ (5) مِنَّا غَيْرُ رَجُلٍ وَاحِدٍ، أَوْ كَمَا قَالَ (6).
وَيَزِيدُ الْفَقِيرُ مِنْ ثِقَاتِ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ (7)، وَأَبُو زُرْعَةَ (8)، وَقَالَ أبو حاتم (9): صدوق (10)، وخرج عنه البخاري.
_________
(1) في (ط): "يونوا".
(2) قال الإمام النووي في شرح مسلم عن السماسم: "وهو هذا السمسم المعروف الذي يستخرج منه الشيرج. قال ابن الأثير: معناه والله أعلم أن السماسم جمع سمسم، وعيدانه تراها إذا قلعت وتركت في الشمس ليؤخذ حبها دقاقاً سوداً كأنها محترقة، فشبه بها هؤلاء ... " صحيح مسلم بشرح النووي (3/ 51).
(3) قال الإمام النووي: القراطيس جمع قرطاس بكسر القاف وضمها لغتان، وهو الصحيفة التي يكتب فيها. شبههم بالقراطيس لشدة بياضهم بعد اغتسالهم، وزوال ما كان عليهم من السواد. صحيح مسلم بشرح النووي (3/ 52).
(4) في (غ) و (ر): "قلنا".
(5) في (غ) و (ر): "لا يخرج".
(6) في صحيح مسلم: أو كما قال أبو نعيم. قال الإمام النووي: المراد بأبي نعيم الفضل بن دكين بضم الدال المهملة المذكور في أول الإسناد، وهو شيخ شيخ مسلم، وهذا الذي فعله أدب معروف من آداب الرواه، وهو أنه ينبغي للراوي إذا روى بالمعنى أن يقول عقب روايته أو كما قال احتياطاً وخوفاً من تغيير حصل. صحيح مسلم بشرح النووي (3/ 52).
(7) هو يحيى بن معين بن عون الغطفاني، مولاهم، أبو زكريا البغدادي، إمام المحدثين، وإمام الجرح والتعديل، فضائله كثيرة، توفي سنة 223هـ.
انظر: التاريخ الكبير (8/ 307)، تقريب التهذيب لابن حجر (2/ 358). الكاشف للذهبي (3/ 235).
(8) هو عبد الرحمن بن عمرو بن عبد الله بن صفوان النصري، أبو زرعة الدمشقي محدث الشام، ثقة، حافظ، مصنف، مات سنة 281هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء (13/ 311)، تقريب التهذيب (1/ 493)، الكاشف (2/ 158).
(9) هو محمد بن إدريس بن المنذر بن داود بن مهران الحنظلي الغطفاني، كان شيخ المحدثين، وكان من بحور العلم، جمع وصنف، وجرح وعدل، وكان إماماً حافظاً. توفي سنة 277هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء (13/ 247)، تقريب التهذيب (2/ 143، الكاشف (3/ 16).
(10) انظر: كلام الأئمة فيه ضمن ترجمته (ص276).(1/254)
وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيُّ (1) كَانَ مِنْ ثقات (2) أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَمِنْ كِبَارِ الْعُلَمَاءِ الْعَارِفِينَ بِالسُّنَّةِ، إِلَّا أَنَّ النَّاسَ رَمَوْهُ بِالْبِدْعَةِ بِسَبَبِ قَوْلٍ حُكِيَ عَنْهُ، مِنْ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ مُصِيبٌ، حَتَّى كَفَّرَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ (3) وَغَيْرُهُ. وَحَكَى الْقُتَيْبِيُّ (4) عَنْهُ (5) كَانَ يَقُولُ: "إِنَّ الْقُرْآنَ يَدُلُّ عَلَى الِاخْتِلَافِ، فَالْقَوْلُ بِالْقَدَرِ صَحِيحٌ وَلَهُ أَصْلٌ فِي الْكِتَابِ وَالْقَوْلُ بِالْإِجْبَارِ صَحِيحٌ وَلَهُ أَصْلٌ فِي الْكِتَابِ، وَمَنْ قَالَ بِهَذَا فَهُوَ مُصِيبٌ (6)، لِأَنَّ الْآيَةَ الْوَاحِدَةَ رُبَّمَا دَلَّتْ عَلَى وَجْهَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ (7) " (8).
وَسُئِلَ يَوْمًا عَنْ أَهْلِ الْقَدَرِ وَأَهْلِ الْإِجْبَارِ، فقال (9): "كُلٌّ مُصِيبٌ، هَؤُلَاءِ قَوْمٌ عَظَّمُوا اللَّهَ، وَهَؤُلَاءِ قَوْمٌ نَزَّهُوا اللَّهَ". قَالَ: "وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الْأَسْمَاءِ، فَكَلُّ مَنْ سَمَّى الزَّانِيَ مُؤْمِنًا فَقَدْ أصاب، ومن سماه كافراً فقد
_________
(1) هو عبيد الله بن الحسن بن الحصين بن أبي الحر العنبري البصري، قاضي البصرة ثقة فقيه، روى عن الجريري وطبقته، وروى عنه عبد الرحمن بن مهدي وطائفة ولكن عابوا عليه مسألة تكافؤ الأدلة. مات سنة 168هـ.
انظر: التاريخ الكبير للبخاري (5/ 376 ـ 377)، طبقات ابن سعد (7/ 285)، تقريب التهذيب لابن حجر (1/ 531)، الكاشف للذهبي (2/ 197)، تهذيب التهذيب (7/ 7).
(2) في (خ) و (ت) و (ط): "ثقة".
(3) لم يتبين لي المراد به، هل هو ابن العربي أو الباقلاني أو غيرهما؟
(4) هو أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، وقيل المروزي، ويقال القتيبي والقتبي، الكاتب الكبير، صاحب التصانيف، نزل بغداد وصنف وجمع وبعد صيته، قال أبو بكر الخطيب: كان ثقة ديناً فاضلاً، من تصانيفه غريب القرآن، وغريب الحديث والمعارف، وكتاب مشكل القرآن، وكان رأساً في علم اللسان العربي. توفي سنة 276هـ.
انظر: السير (13/ 296)، تاريخ بغداد للخطيب (10/ 170)، شذرات الذهب (2/ 169).
(5) ساقطة من جميع النسخ عدا (ر).
(6) في تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة "ومن قال بهذا فهو مصيب، ومن قال بهذا فهو مصيب".
(7) ساقطة من (ت).
(8) تتمة الجملة عند ابن قتيبة "واحتملت معنيين متضادين".
(9) ساقطة من (م) وأصل (خ)، وفي هامش (خ): "قال". والمثبت هو ما في (ت) وهو كذلك عند ابن قتيبة.(1/255)
أَصَابَ، وَمَنْ قَالَ: هُوَ فَاسِقٌ وَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ وَلَا كَافِرٍ فَقَدْ أَصَابَ (1)، وَمَنْ قَالَ: هُوَ كَافِرٌ وَلَيْسَ بِمُشْرِكٍ فَقَدْ أَصَابَ (2)، لِأَنَّ الْقُرْآنَ يَدُلُّ عَلَى كُلِّ هَذِهِ الْمَعَانِي".
قَالَ: "وَكَذَلِكَ السُّنَنُ الْمُخْتَلِفَةُ، كَالْقَوْلِ بِالْقُرْعَةِ وَخِلَافِهِ، وَالْقَوْلِ بِالسِّعَايَةِ وَخِلَافِهِ، وَقَتْلِ الْمُؤْمِنِ بِالْكَافِرِ، وَلَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ، وَبِأَيِّ ذَلِكَ أَخَذَ الْفَقِيهُ فَهُوَ مُصِيبٌ". قَالَ: "وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: إِنَّ الْقَاتِلَ فِي النَّارِ كَانَ مُصِيبًا، (وَلَوْ قَالَ: فِي الْجَنَّةِ كان مصيباً) (3)، ولو وقف فيه (4) وَأَرْجَأَ أَمْرَهُ كَانَ مُصِيبًا إِذَا (5) كَانَ إِنَّمَا (6) يُرِيدُ بِقَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ تَعَبَّدَهُ بِذَلِكَ وَلَيْسَ عليه علم المغيب (7) " (8).
قَالَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ (9): أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ بْن أَبِي شَيْخٍ (10)، قَالَ: "كَانَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الحسن بن الحصين (11) بن أبي الحر يعني (12) العنبري البصري
_________
(1) وفي تأويل مختلف الحديث زيادة، وهي: "ومن قال: هو منافق وليس بمؤمن ولا كافر فقد أصاب".
(2) زاد ابن قتيبة: "ومن قال: هو كافر مشرك فقد أصاب".
(3) ما بين المعكوفين ساقط من (غ).
(4) زيادة في (غ) و (ر).
(5) في تأويل مختلف الحديث "إذ".
(6) ساقطة من (غ).
(7) في (م) و (ت) و (ط): "الغيب"، والمثبت هو ما في (خ) و (غ)، وهو كذلك في تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة.
(8) ذكر هذا الخبر بطوله الإمام ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث (ص46 ـ 47). ثم قال الإمام ابن قتيبة: "وكان يقول في قتال علي لطلحة والزبير وقتالهما له: إن ذلك كله طاعة لله تعالى".
ثم قال: "وفي هذا القول من التناقض والخلل ما ترى، وهو رجل من أهل الكلام والقياس وأهل النظر". (ص47).
(9) هو الحافظ الكبير المجود أحمد بن أبي خيثمة صاحب التاريخ الكبير، سمع أباه زهير بن حرب، وأبا نعيم، وأحمد بن حنبل، وكان ثقة عالماً متقناً حافظاً بصيراً بأيام الناس، راوية للأدب، مات سنة 279هـ وقد بلغ أربعاً وتسعين سنة.
انظر: تاريخ بغداد (4/ 162)، سير أعلام النبلاء (11/ 492)، لسان الميزان (1/ 174).
(10) لم أجد ترجمته.
(11) في (ط): "الحسين" وهو غلط.
(12) المثبت من (غ) و (ر) وفي بقية النسخ "الحريقي"، حيث دمجت الكلمتين.(1/256)
اتهم بأمر عظيم، روي عَنْهُ كَلَامٌ رَدِيءٌ" (1).
قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: هَذَا الكلام (2) الَّذِي ذَكَرَهُ (3) ابْنُ أَبِي شَيْخٍ عَنْهُ قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ لَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ الصواب، وقال: "إذا أرجع وأنا صاغر (4)، وَلِأَنْ (5) أَكُونَ ذَنَبًا فِي الْحَقِّ، أَحَبُّ إِلَيَّ من (6) أن أكون (7) رأساً في الباطل" (8). انتهى.
فَإِنْ ثَبَتَ عَنْهُ مَا قِيلَ فِيهِ، فَهُوَ عَلَى جِهَةِ الزَّلَّةِ مِنَ الْعَالِمِ، وَقَدْ رَجَعَ عَنْهَا رُجُوعَ الْأَفَاضِلِ إِلَى الْحَقِّ، لِأَنَّهُ بِحَسَبِ ظَاهِرِ حَالِهِ فِيمَا نُقِلَ عَنْهُ إِنَّمَا اتَّبَعَ ظَوَاهِرَ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فِيمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ، وَلَمْ (9) يَتَّبِعْ عَقْلَهُ، وَلَا صَادَمَ الشَّرْعَ بِنَظَرِهِ، فَهُوَ أقرب إلى (10) مُخَالَفَةِ الْهَوَى. وَمِنْ ذَلِكَ الطَّرِيقِ ـ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ـ وفق للرجوع (11) إلى الحق.
وكذلك يزيد الفقير (12) فيما ذكر عَنْهُ، لَا كَمَا عَارَضَ الْخَوَارِجَ عَبْدُ اللَّهِ ابن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، إِذْ طَالَبَهُمْ بِالْحُجَّةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: "لَا تُخَاصِمُوهُ فَإِنَّهُ مِمَّنْ قَالَ الله (13) فيه: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} (14) " (15)،
_________
(1) نقل هذا القول الإمام ابن حجر في تهذيب التهذيب (7/ 8).
(2) ساقطة من (خ) و (ط).
(3) في (غ) و (ر): "ذكر".
(4) في (م): "وأنا أصاغر"، وفي (ت): "أرجع أصاع"، وفي (خ): "وأنا أصاغ"، وقد كتب فوق الكلمة رقم (3) وكتب في الهامش بإزائها "وأنا من الأصاغر"، والمثبت من (غ) و (ر).
(5) الواو ساقطة من (م) و (غ).
(6) ساقطة من (ط).
(7) ساقطة من (م).
(8) ذكر رجوعه إلى الصواب الإمام ابن حجر في تهذيب التهذيب (7/ 8)، وعزاه إلى محمد بن إسماعيل الأزدي في ثقاته، وأما قوله: "إذا أرجع وأنا من الأصاغر"، فذكره أيضاً، ولكن في مسألة وقعت بينه وبين ابن مهدي.
انظر: تهذيب التهذيب (7/ 7)، تهذيب الكمال (19/ 25).
(9) في (م) و (غ): "لم" بدون الواو.
(10) في جميع النسخ (من) عدا (غ) و (ر).
(11) في (م) و (خ) و (ط) و (غ): "إلى الرجوع".
(12) تقدمت ترجمته وخبره (ص276).
(13) لم يكتب لفظ الجلالة في أصل (ت)، وإنما كتب في هامشها.
(14) سورة الزخرف: آية (58).
(15) تقدم بيان مواضع هذه المناظرة (ص236) هامش (2)، إلا أن المؤلف هناك ذكرها=(1/257)
فَرَجَّحُوا الْمُتَشَابِهَ عَلَى الْمُحْكَمِ، وَنَاصَبُوا بِالْخِلَافِ السَّوَادَ الأعظم.
وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَصِحَّ بِمِسْبَارِ (1) الْعِلْمِ أَنَّهُ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ، فَهُوَ الْحَرِيُّ بِاسْتِنْبَاطِ مَا خَالَفَ الشَّرْعَ كَمَا تَقَدَّمَ، إِذْ قَدِ اجْتَمَعَ لَهُ مَعَ الْجَهْلِ بِقَوَاعِدِ الشَّرْعِ الْهَوَى الْبَاعِثُ عَلَيْهِ في الأصل، وهوى (2) التَّبَعِيَّةُ، إِذْ قَدْ (3) تَحْصُلُ لَهُ مَرْتَبَةُ الْإِمَامَةِ وَالِاقْتِدَاءِ، وَلِلنَّفْسِ (4) فِيهَا مِنَ اللَّذَّةِ مَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ يَعْسُرُ خُرُوجُ حُبِّ الرِّئَاسَةِ مِنَ الْقَلْبِ إِذَا انْفَرَدَ، حَتَّى قَالَ الصُّوفِيَّةُ: (حب الرئاسة آخر ما يخرج من رؤوس (5) الصِّدِّيقِينَ)، فَكَيْفَ (6) إِذَا انْضَافَ إِلَيْهِ الْهَوَى مِنْ أَصْلٍ، وَانْضَافَ إِلَى هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ دَلِيلٌ ـ فِي ظَنِّهِ ـ شَرْعِيٌّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ، فيتمكن (7) الهوى من القلب (8) (9) تَمَكُّنًا لَا يُمْكِنُ فِي الْعَادَةِ الِانْفِكَاكُ عَنْهُ، وَجَرَى مِنْهُ مَجْرَى الكَلَبِ (10) مِنْ صَاحِبِهِ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ الْفِرَقِ (11). فَهَذَا النَّوْعُ ظَاهِرٌ أَنَّهُ آثِمٌ فِي ابْتِدَاعِهِ إِثْمَ مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً.
وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ أَنَّ الْإِمَامِيَّةَ مِنَ الشِّيعَةِ (12) تَذْهَبُ إِلَى وَضْعِ خَلِيفَةٍ دُونَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَزَعُمُ أَنَّهُ مِثْلُ النبي في العصمة، بناء على أصل لهم متوهم،
_________
=مثالاً لمن يتوب من البدع، وهنا على العكس، وقد تاب عدد كبير منهم بعد هذه المناظرة، فالمؤلف جعل التائبين منهم مثالاً على إمكان توبة المبتدع إذا كانت بدعته بسبب اجتهاد خاطئ، كما جعل المعرضين منهم مثالاً على عدم إمكان توبة المبتدع إذا اتبع هواه وعارض الأدلة.
(1) ساقطة من (ت). والمسبار هو ما يسبر به الجرح.
انظر: الصحاح (2/ 675).
(2) في (خ) و (ط): "وهو".
(3) ساقطة من (غ) و (ر).
(4) في (خ) و (ط): "والنفس".
(5) في (ط): "قلوب".
(6) في (ط): "فكيك".
(7) في (خ) و (ت) و (ط): "فيمكن".
(8) في (ط): "قلبه".
(9) كتب في (م) في هذا الموضع: "إذا انفرد حتى قال الصوفية" وهي إعادة من الناسخ لبعض ما تقدم.
(10) تقدم بيان المراد به (ص235) ..
(11) تقدم الحديث وتخريجه (ص235).
(12) تقدم التعريف بهم (ص23).(1/258)
فَوَضَعُوهُ عَلَى أَنَّ الشَّرِيعَةَ أَبَدًا مُفْتَقِرَةٌ إِلَى شَرْحٍ (1) وَبَيَانٍ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ، إِمَّا بِالْمُشَافَهَةِ أَوْ بِالنَّقْلِ مِمَّنْ شَافَهَ الْمَعْصُومَ (2).
وَإِنَّمَا وَضَعُوا ذَلِكَ بِحَسَبِ مَا ظَهَرَ لَهُمْ بَادِيَ الرَّأْيِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ عَقْلِيٍّ وَلَا نَقْلِيٍّ، بَلْ (3) بِشُبْهَةٍ زَعَمُوا أَنَّهَا عَقْلِيَّةٌ، وَشُبَهٍ مِنَ النَّقْلِ بَاطِلَةٍ، إِمَّا فِي أَصْلِهَا، وَإِمَّا فِي تَحْقِيقِ مَنَاطِهَا. وَتَحْقِيقُ مَا يَدَّعُونَ وَمَا يُرُدُّ عَلَيْهِمْ بِهِ (4) مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْأَئِمَّةِ (5)، وَهُوَ يَرْجِعُ فِي الحقيقة إلى دعاو إذا (6) طُولِبُوا بِالدَّلِيلِ عَلَيْهَا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ، إِذْ لَا بُرْهَانَ لَهُمْ مِنْ جِهَةٍ مِنَ الْجِهَاتِ. وَأَقْوَى شُبَهِهِمْ مَسْأَلَةُ اخْتِلَافِ الْأُمَّةِ (7)، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وَاحِدٍ يَرْتَفِعُ بِهِ الْخِلَافُ، لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ *إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} (8)، وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ إِلَّا إِذَا أُعْطِيَ الْعِصْمَةَ كَمَا أُعْطِيَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه وارثه (9)، وإلا فكل محق ومبطل (10) يَدَّعِي أَنَّهُ الْمَرْحُومُ، وَأَنَّهُ الَّذِي وَصَلَ إِلَى الْحَقِّ دُونَ مَنْ سِوَاهُ، فَإِنْ طُولِبُوا (11) بِالدَّلِيلِ عَلَى الْعِصْمَةِ لَمْ يَأْتُوا بِشَيْءٍ، غَيْرَ أَنَّ لَهُمْ مَذْهَبًا يُخْفُونَهُ، وَلَا يُظْهِرُونَهُ إِلَّا لِخَوَاصِّهِمْ، لأنه كفر محض ودعوى بغير برهان (12).
_________
(1) في (م) و (ت) و (خ): "شرع".
(2) قال الشيخ محمد رشيد رضا معلقاً: "كذا والمعنى إما بالمشافهة من المعصوم، وإما بالنقل ممن أو عمن شافه المعصوم، ولكن الذي ينقل عمن ينقل عن المعصوم مشافهة مثله، مهما تعدد لا تعتبر فيه إلا الثقة بفهمه ونقله، لأن من شافهه كمن شافه من شافههم، كل منهم غير معصوم، فيكتفي منه بالعدالة في الرواية، فلا حاجة إذا إلى غير الرسول من المعصومين، وهو قد بين الشريعة أحسن تبيين".
(3) في (ط): "بلى".
(4) ساقطة من (ط).
(5) في (غ): الأمية، ولا تخلو كتب الفرق والمقالات قديماً وحديثاً من ذكر بدعتهم، وأكاذيبهم، والرد عليها، ومن أشهرها كتاب منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية، حيث عرض لأدلتهم النقلية والعقلية وأتى عليها من جذورها.
(6) في (خ) و (ت) و (ط): "وإذا".
(7) في (غ): "الأمم".
(8) سورة هود: آيتان (118 ـ 119).
(9) المثبت من (غ) و (ر)، وفي بقية النسخ: "وارث".
(10) في (خ) و (ط): "أو مبطل".
(11) في (خ): "طالبوا".
(12) والمشهور عن خواصهم إبطان الإلحاد، وإظهار حب آل البيت، ليتستروا به، وإلا=(1/259)
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ (1) فِي كِتَابِ الْعَوَاصِمِ (2): (خَرَجْتُ مِنْ بِلَادِي عَلَى الْفِطْرَةِ (3)، فَلَمْ أَلْقَ فِي طريقي إلا مهتدياً، حتى بَلَغْتُ هَذِهِ الطَّائِفَةَ ـ يَعْنِي (4) الْإِمَامِيَّةَ وَالْبَاطِنِيَّةَ (5) مِنْ فرق الشيعة ـ فهي أول بدعة لقيت، فلو (6) فجأتني بدعة مشتبهة (7) كَالْقَوْلِ بِالْمَخْلُوقِ (8)، أَوْ نَفْيِ الصِّفَاتِ (9)، أَوِ الْإِرْجَاءِ (10) لم آمن الشيطان. فَلَمَّا رَأَيْتُ حَمَاقَاتِهِمْ أَقَمْتُ عَلَى حَذَرٍ، وَتَرَدَّدْتُ فِيهَا (11) عَلَى أَقْوَامٍ أَهْلِ عَقَائِدَ سَلِيمَةٍ، وَلَبِثْتُ بَيْنَهُمْ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ (12)، ثُمَّ خَرَجْتُ إِلَى الشَّامِ فَوَرَدْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَأَلْفَيْتُ فِيهَا (13) ثَمَانِيَ وَعِشْرِينَ حلقة ومدرستين، مدرسة للشافعية (14) بباب الأسباط وأخرى للحنفية، وكان
_________
=فلديهم من العقائد الضالة ما لا يقبله دين الإسلام بحال من الأحوال، كغلوهم في أئمتهم إلي أن أوصلوهم درجة الألوهية، وادعاؤهم تحريف القرآن، وبغضهم للصحابة ولعنهم لهم ـ رضى الله عن الضحابة ـ وعلى الشيعة من الله ما يستحقون.
(1) تقدمت ترجمته رحمه الله (ص250).
(2) كتاب العواصم من القواصم من كتب الإمام ابن العربي، ذكر فيه ما حل بالمسلمين من المصائب، وما يعصم الله به المسلمين، وذكر فيه مواقف الصحابة رضي الله عنهم وما وجهه إليهم الأعداء من التهم، فرد عليهم وذب عن الصحابة، وقد ألفه سنة 536هـ، وقد نشره شيخ النهضة الجزائرية عبد الحميد بن باديس في جزئين، معتمداً على نسخة واحدة، ثم نشر الشيخ محب الدين الخطيب ما يتعلق بالصحابة منه، ثم نشره كاملاً، مقارناً على أربع نسخ الأستاذ عمار الطالبي.
(3) مشطوبة في أصل (م)، ومثبتة في هامشها، وفي (ت): "الفرطة".
(4) قوله: "يعني الإمامية والباطنية من فرق الشيعة" من كلام المؤلف، وليس من كلام ابن العربي في العواصم، وذلك لأن ابن العربي قد استفتح كلامه بكلام حول مذهبهم، وكذلك قوله: "فهي أول بدعة لقيت" ليست في العواصم.
(5) تقدم التعريف بالباطنية (ص28).
(6) في (ط): "ولو".
(7) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "مشبهة".
(8) لعله يريد القول بخلق القرآن، وهو قول الجهمية ومن تبعهم من المعتزلة والأشاعرة.
(9) وهو قول المعتزلة ومن تبعهم أيضاً كما مر في التعريف بهم (ص29).
(10) تقدم الكلام على المرجئة (ص27).
(11) أي في هذه الأرض، لأنه قد حذف بعض الكلام لابن العربي يدل على ما ذكرت.
(12) حذف هنا من كلام ابن العربي ما يقارب أربعة أسطر، ذكر فيها ما رأى من الضلالات.
(13) في كتاب العواصم: "فيه".
(14) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "الشافعية".(1/260)
فيه (1) من رؤوس العلماء، ورؤوس الْمُبْتَدِعَةِ (2)، وَمِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَثِيرٌ، فَوَعَيْتُ الْعِلْمَ، وَنَاظَرْتُ (3) كُلَّ طَائِفَةٍ بِحَضْرَةِ شَيْخِنَا أَبِي بَكْرٍ الْفِهْرِيِّ (4) وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ.
ثُمَّ نزلت إلى الساحل لأغراض (5)، وكان مملؤاً مِنْ هَذِهِ النِّحَلِ الْبَاطِنِيَّةِ وَالْإِمَامِيَّةِ، فَطُفْتُ فِي مُدُنِ السَّاحِلِ لِتِلْكَ الْأَغْرَاضِ (6) نَحْوًا مِنْ (7) خَمْسَةِ أَشْهُرٍ، وَنَزَلْتُ عَكَّا (8)، وَكَانَ رَأْسَ الْإِمَامِيَّةِ بِهَا حِينَئِذٍ (9) أَبُو الْفَتْحِ الْعَكِّيُّ، وَبِهَا مِنْ أَهْلِ السنة شيخ يقال له: الفقيه الدبيقي (10)، فَاجْتَمَعْتُ بِأَبِي الْفَتْحِ فِي مَجْلِسِهِ وَأَنَا ابْنُ الْعِشْرِينَ، فَلَمَّا رَآنِي صَغِيرَ السِّنِّ، كَثِيرَ الْعِلْمِ، مُتَدَرِّبًا (11)، وَلِعَ بِي، وَفِيهِمْ ـ لَعَمْرُ اللَّهِ، وَإِنْ كَانُوا عَلَى بَاطِلٍ ـ انْطِبَاعٌ وَإِنْصَافٌ وَإِقْرَارٌ بِالْفَضْلِ إذا ظهر (12)، فكان لا يفارقني، ويساومني (13)
_________
(1) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "فيها".
(2) نص كتاب العواصم: "وكان فيه من رؤوس العلماء، ورؤوس المبتدعة، على اختلاف طبقاتهم كثير، ومن أحبار اليهود والنصارى والسمرة جمل لا تحصى، فأوفيت على المقصد من طريقه، ووعيت العلم بتحقيقه، ونظرت إلى كل طائفة تناظر، وناظرتها بحضرة شيخنا أبي بكر الفهري .. ". العواصم (ص61).
(3) في (ت): "وناظرة"، وكتب بإزائها في الهامش "عله وناظرت".
(4) هو الإمام العلامة، شيخ المالكية، أبو بكر محمد بن الوليد بن خلف الفهري الأندلسي الطرطوشي الفقيه، عالم الإسكندرية، لازم القاضي أبا الوليد الباجي، وأخذ عنه مسائل الخلاف، نزل بغداد وبيت المقدس، ثم تحول إلى الثغر، ألف كتاب سراج الملوك للمأمون بن البطائحي، وله كتاب الحوادث والبدع. توفي سنة 520هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء (19/ 490)، شذرات الذهب (4/ 62)، العبر (4/ 48).
(5) نص كتاب العواصم: "لأغراض نصصتها في كتاب ترتيب الرحلة، وكان الساحل المذكور مملوءاً من هذه النحل الملحدية، والمذاهب الباطنية، والإمامية .. ". العواصم (ص61).
(6) في كتاب "العواصم": "الأغراض الدينية".
(7) في (ط): "مى".
(8) في (ط): "بعكا"، وفي (ت): "عكى"، وفي معجم البلدان لياقوت الحموي "عكة" بالهاء، وهي بلد على ساحل بحر الشام من عمل الأردن. معجم البلدان لياقوت (4/ 143).
(9) كتب مكان هذه الكلمة في (ت): "ح".
(10) في (خ) و (ت) و (ط): "الديبقي".
(11) في (ر): "مستدرباً".
(12) في (ت): "ظهر به".
(13) نص كتاب العواصم: "ويسارعني في السؤال والجدال ولا يفاترني".(1/261)
الجدال ولا يفاترني (1)، فتكلمت على إبطال (2) مذهب الإمامية، والقول بالتعليم (3) مِنَ الْمَعْصُومِ بِمَا يَطُولُ ذِكْرُهُ.
وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ لِلَّهِ فِي عِبَادِهِ أَسْرَارًا وَأَحْكَامًا، وَالْعَقْلُ لَا يَسْتَقِلُّ بِدَرْكِهَا، فَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ إِلَّا مِنْ قِبَلِ إِمَامٍ مَعْصُومٍ (4) فَقُلْتُ لَهُمْ: أَمَاتَ الْإِمَامُ الْمُبَلِّغُ عَنِ اللَّهِ لِأَوَّلِ مَا أَمَرَهُ بِالتَّبْلِيغِ أَمْ هُوَ مُخَلَّدٌ؟ فَقَالَ لِي (5): "مَاتَ"، وَلَيْسَ هَذَا بِمَذْهَبِهِ، وَلَكِنَّهُ تَسَتَّرَ مَعِي (6)، فَقُلْتُ: هَلْ خَلَفَهُ أَحَدٌ؟ فَقَالَ: خَلَفَهُ وَصِيُّهُ عَلِيٌّ (7)، قُلْتُ: فَهَلْ قَضَى بِالْحَقِّ وَأَنْفَذَهُ؟ قَالَ: لَمْ يَتَمَكَّنْ لِغَلَبَةِ (8) الْمُعَانِدِ، قُلْتُ: فَهَلْ أَنْفَذَهُ حِينَ قَدَرَ؟ قَالَ: مَنَعَتْهُ التَّقِيَّةُ (9) وَلَمْ تُفَارِقْهُ إِلَى الْمَوْتِ (10)، إِلَّا أَنَّهَا كَانَتْ تَقْوَى تَارَةً، وَتَضْعُفُ أُخْرَى (11)، فَلَمْ يُمْكِنْ إِلَّا المداراة (12) لئلا تنفتح (13) عليه أبواب الاختلال،
_________
(1) في (ت): "يفاتر بي".
(2) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط).
(3) في جميع النسخ: "التعميم"، عدا نسخة (غ) ففيها المثبت.
(4) في هذا الموضع كلام لابن العربي يقع في ستة أسطر يتهمهم فيه بأن قولهم راجع إلى القول بالحلول. انظر: العواصم (ص62 ـ 63).
(5) في (غ): "ما".
(6) في كتاب العواصم: "ولكنه تستر معي به، وإنما حقيقة مذهبه أن الله سبحانه يحل في كل معصوم، فيبلغ عنه، فالمبلغ هو الله، ولكن بواسطة حلوله في آدمي فقلت هل خلفه .. ". العواصم (ص63).
(7) في (ت): "عكى".
(8) في (م) و (ت) و (غ) و (ر): "بغلبه".
(9) وهي من دين الشيعة، يتسترون بها ليخفوا ما يبطنون من الضلال، وينسبونها إلى أئمتهم، كزعمهم أن جعفر الصادق قال؛ "التقية ديني ودين آبائي"، وقد فسروا بها موقف علي رضي الله عنه مع الخلفاء قبله، وكذلك موقف الحسن مع معاوية رضي الله عنهم.
انظر: كتاب دراسة عن الفرق في تاريخ المسلمين لأحمد الجلي (ص217).
(10) في العواصم: "ولم تفارقه من يوم العهد إلى يوم الموت". العواصم (ص63).
(11) في العواصم: "وتضعف أخرى، فلما ولي بقيت من التقية بقية، فلم يمكن إلا المداراة للأصحاب لئلا ينفتح عليه من الاختلال أبواب .. ".
(12) رسمت في (م) و (خ) و (ت): "المدارات".
(13) في (م) و (خ) و (ت): ينفتح، وفي (ر): "تنفتح".(1/262)
قلت وهذه المداراة (1) حَقٌّ أَمْ لَا؟ فَقَالَ: بَاطِلٌ أَبَاحَتْهُ الضَّرُورَةُ. قُلْتُ: فَأَيْنَ الْعِصْمَةُ؟ قَالَ (2): إِنَّمَا تُغْنِي (3) الْعِصْمَةُ مَعَ الْقُدْرَةِ، قُلْتُ: فَمَنْ بَعْدَهُ إِلَى الْآنَ وَجَدُوا الْقُدْرَةَ أَمْ لَا؟ قَالَ: لَا، قُلْتُ: فَالدِّينُ مُهْمَلٌ، وَالْحَقُّ مَجْهُولٌ مُخْمَلٌ (4)؟ قَالَ: سَيَظْهَرُ، قُلْتُ: بِمَنْ؟ قَالَ: بِالْإِمَامِ الْمُنْتَظَرِ، قُلْتُ: لَعَلَّهُ الدَّجَّالُ، فَمَا بَقِيَ أَحَدٌ إِلَّا ضَحِكَ، وَقَطَعْنَا الْكَلَامَ عَلَى غَرَضٍ مِنِّي لِأَنِّي خِفْتُ أَنْ أفحمه (5) فَيَنْتَقِمُ مِنِّي فِي بِلَادِهِ.
ثُمَّ قُلْتُ: وَمِنْ أَعْجَبِ مَا فِي هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا أَوْعَزَ (6) إِلَى مَنْ لَا قُدْرَةَ لَهُ فَقَدْ ضَيَّعَ فَلَا عِصْمَةَ لَهُ. وَأَعْجَبُ مِنْهُ أَنَّ الْبَارِيَ تَعَالَى ـ عَلَى مَذْهَبِهِ ـ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا عِلْمَ إِلَّا بِمُعَلِّمٍ، وَأَرْسَلَهُ عَاجِزًا (7) مضعوفاً (8)، لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ مَا عَلِمَ، فَكَأَنَّهُ مَا عَلَّمَهُ وَمَا بَعَثَهُ. وَهَذَا عَجْزٌ مِنْهُ وَجَوْرٌ، لَا سِيَّمَا عَلَى مَذْهَبِهِمْ (9). فَرَأَوْا مِنَ الكلام ما لا يُمْكِنْهُمْ أَنْ يَقُومُوا مَعَهُ بِقَائِمَةٍ (10)، وَشَاعَ الْحَدِيثُ، فَرَأَى رَئِيسُ الْبَاطِنِيَّةِ الْمُسَمَّيْنَ بِالْإِسْمَاعِيلِيَّةِ (11) أَنْ يَجْتَمِعَ مَعِي، فَجَاءَنِي أَبُو الْفَتْحِ إِلَى مَجْلِسِ الْفَقِيهِ الدبيقي، وقال لي (12): إِنَّ رَئِيسَ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ رَغِبَ فِي الْكَلَامِ مَعَكَ، فقلت أنا مشغول، فقال: هاهنا (13) مَوْضِعٌ مُرَتَّبٌ (14) قَدْ جَاءَ إِلَيْهِ، وَهُوَ مَحْرَسُ الطَّبَرَانِيِّينَ، مَسْجِدٌ فِي قَصْرٍ عَلَى الْبَحْرِ، وَتَحَامَلَ عَلَيَّ، فَقُمْتُ مَا بَيْنَ حِشْمَةٍ وَحِسْبَةٍ، وَدَخَلْتُ
_________
(1) رسمت كسابقتها "المدارات".
(2) ساقطة من (ط).
(3) في العواصم: "تتعين"، وفي إحدى نسخ العواصم: "تغنى".
(4) في (ت): "مجمل".
(5) في (م) و (خ) و (ط): "ألجمه"، والمثبت هو ما في (ت)، وهو كذلك في العواصم.
(6) في (ط): "أوصى"، وفي (ت): "أعوز أوعز".
(7) في (خ): كلمة زائدة في هذا الموضع، وكأنها "بمعنى".
(8) في (خ) و (ت) و (ط): "مضطرباً".
(9) لأنهم يقولون لا بد من إمام معصوم يرتفع به الخلاف.
(10) في (ت): "لقائمة".
(11) تقدم التعريف بهم ضمن الكلام على الباطنية (ص28).
(12) ساقطة من (ط).
(13) في (خ) و (ط): "هنا".
(14) في العواصم: "قريب".(1/263)
قصر المحرس، وصعدنا (1) إِلَيْهِ فَوَجَدْتُهُمْ قَدِ اجْتَمَعُوا فِي زَاوِيَةِ الْمَحْرَسِ الشَّرْقِيَّةِ، فَرَأَيْتُ النُّكْرَ فِي وُجُوهِهِمْ، فَسَلَّمْتُ، ثُمَّ قَصَدْتُ جِهَةَ الْمِحْرَابِ، فَرَكَعْتُ عِنْدَهُ رَكْعَتَيْنِ، لَا عَمَلَ لِي فِيهِمَا إِلَّا تَدْبِيرُ الْقَوْلِ مَعَهُمْ، وَالْخَلَاصُ مِنْهُمْ. فَلَعَمْرُ (2) الَّذِي قَضَى عَلَيَّ بِالْإِقْبَالِ إِلَى أَنْ أُحَدِّثَكُمْ، إِنْ (3) كُنْتُ رَجَوْتُ الْخُرُوجَ من (4) ذَلِكَ الْمَجْلِسِ أَبَدًا، وَلَقَدْ كُنْتُ أَنْظُرُ فِي الْبَحْرِ يَضْرِبُ فِي حِجَارَةٍ سُودٍ مُحَدَّدَةٍ تَحْتَ طَاقَاتِ الْمَحْرَسِ، فَأَقُولُ: هَذَا قَبْرِي الَّذِي يَدْفِنُونِي فِيهِ، وَأُنْشِدُ فِي سِرِّي:
أَلَا هَلْ إِلَى الدُّنْيَا مَعَادٌ؟ وَهَلْ لَنَا ... سِوَى الْبَحْرِ قَبْرٌ؟ أَوْ سِوَى (5) الْمَاءِ أَكْفَانُ؟
وَهِيَ كَانَتِ الشِّدَّةَ الرابعة من شدائد عمري التي أَنْقَذَنِي اللَّهُ مِنْهَا. فَلَمَّا سَلَّمْتُ اسْتَقْبَلْتُهُمْ وَسَأَلْتُهُمْ عَنْ أَحْوَالِهِمْ عَادَةً (6)، وَقَدِ اجْتَمَعَتْ إِلَيَّ نَفْسِي، وَقُلْتُ: أَشْرَفُ مِيتَةٍ فِي أَشْرَفِ مَوْطِنٍ أُنَاضِلُ فِيهِ عَنِ الدِّينِ. فَقَالَ لِي أَبُو الْفَتْحِ ـ وَأَشَارَ إِلَى فَتًى حَسَنِ الْوَجْهِ ـ: هَذَا سَيِّدُ الطائفة ومقدمها، فدعوت له فسكت، فبدرني وقال: قد بلغتني مجالسك (7)، وانتهى (8) إِلَيَّ كَلَامُكَ، وَأَنْتَ تَقُولُ (9): قَالَ اللَّهُ وَفَعَلَ الله (10)، فَأَيُّ شَيْءٍ هُوَ اللَّهُ الَّذِي تَدْعُو إِلَيْهِ؟! أَخْبِرْنِي وَاخْرُجْ عَنْ هَذِهِ الْمَخْرَقَةِ (11) الَّتِي جَازَتْ لَكَ عَلَى هَذِهِ الطَّائِفَةِ (12) الضَّعِيفَةِ (وَقَدِ احْتَدَّ نَفْسًا، وَامْتَلَأَ غَيْظًا، وَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَلَمْ أَشُكَّ أَنَّهُ لَا يُتِمُّ (13) الْكَلَامَ إِلَّا) (14) وَقَدِ اختطفني أصحابه قبل الجواب
_________
(1) في (م): "وصقنا"، وفي (خ) و (ت) و (ط): "وطلعنا".
(2) في (ط): "فلعمرى".
(3) إن هنا بمعنى (ما).
(4) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "عن".
(5) في (ت): "وسوى".
(6) في (ت): "غادة".
(7) في (م) و (ت): "مجالستك".
(8) في (خ) و (ط): "وأنهى".
(9) ساقطة من (ت).
(10) زيادة في (غ).
(11) قال في الصحاح؛ "والتخرق: لغة من التخلق من الكذب" (4/ 1467)، وقال في الرائد: "المخرقة: الكذب والاختلاق" معجم الرائد لجبران مسعود (1343).
(12) في (ت): "طائفة".
(13) في (ر): "لا يتمم".
(14) ما بين المعكوفين ساقطة من (خ) و (ت) و (ط).(1/264)
فَعَمَدْتُ ـ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ ـ إِلَى كِنَانَتِي، وَاسْتَخْرَجْتُ مِنْهَا سَهْمًا أَصَابَ حَبَّةَ قَلْبِهِ فَسَقَطَ لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِ.
وَشَرْحُ (1) ذَلِكَ (2): أَنَّ الْإِمَامَ أَبَا بَكْرٍ أَحْمَدَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ الْإِسْمَاعِيلِيَّ الْحَافِظَ الْجُرْجَانِيَّ (3) قَالَ: كُنْتُ (4) أُبَغِّضُ النَّاسَ فِيمَنْ يَقْرَأُ عِلْمَ الْكَلَامِ، فَدَخَلْتُ يوماً إلى الري (5)، فدخلت (6) جَامِعَهَا أَوَّلَ دُخُولِي، وَاسْتَقْبَلْتُ سَارِيَةً أَرْكَعُ عِنْدَهَا، وَإِذَا (7) بِجِوَارِي رَجُلَانِ يَتَذَاكَرَانِ عِلْمَ الْكَلَامِ، فَتَطَيَّرْتُ بِهِمَا (8)، وَقُلْتُ: أَوَّلَ مَا دَخَلْتُ هَذَا (9) الْبَلَدَ سَمِعْتُ فِيهِ مَا أَكْرَهُ، وَجَعَلْتُ أُخَفِّفُ الصَّلَاةَ حَتَّى أَبْعُدَ عَنْهُمَا، فَعَلِقَ بِي مِنْ قَوْلِهِمَا: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْبَاطِنِيَّةَ أَسْخَفُ خَلْقِ اللَّهِ عُقُولًا، وينبغي للنحرير ألا يتكلف لهم دليلاً، ولكن (10)
_________
(1) من هنا يذكر ابن العربي قصة وقعت للحافظ أبي بكر الجرجاني، وكيف استفاد منها، ثم يعود للحديث عن قصته مع الإسماعيلي.
(2) ساقطة من (م) و (ت).
(3) هو أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن العباس أبو بكر الإسماعيلي الجرجاني الحافظ الكبير، الرحال، سمع الكثير، وحدث، وخرج، وصنف فأفاد وأجاد، وأحسن الانتقاد والاعتقاد، صنف كتاباً على صحيح البخاري فيه فوائد كثيرة، وعلوم غزيرة. توفي سنة 371هـ.
انظر: البداية والنهاية لابن كثير (11/ 318)، سير أعلام النبلاء للذهبي (16/ 292).
(4) من هنا غير واضح في (غ) إلى قوله: يتذاكران.
(5) هي مدينة مشهورة، من أمهات البلاد، وأعلام المدن، بينها وبين نيسابور مائة وستون فرسخاً.
انظر: معجم البلدان ليلقوت الحموي (3/ 116).
(6) في (خ) و (ط): "ودخلت".
(7) في (خ) و (ط): "وإذ".
(8) لقد ورد النهي عن الطِيَرة في أحاديث عديدة منها حديث أبي هريرة في البخاري قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: (لا طيرة، وخيرها الفأل. قالوا: وما الفأل؟ قال: الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم). صحيح البخاري (10/ 212 مع الفتح)، وفي سنن أبي داود عن عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: (الطيرة شرك) ثلاثاً. قال ابن مسعود: وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل. سنن أبي داود، كتاب الطب (4/ 16) إلى غير ذلك من النصوص. ولعل الإمام الإسماعيلي كره ما سمع من الرجلين فعبر عن كراهيته بالتطير.
(9) في (خ) و (ط): "هذه".
(10) في (ت): "واليكن"، وفي (م) و (خ): "وليكن".(1/265)
يطالبهم "بلم" فَلَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا. وَسَلَّمْتُ مُسْرِعًا.
وَشَاءَ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ كَشَفَ رَجُلٌ مِنَ الْإِسْمَاعِيلِيَّةِ الْقِنَاعَ فِي الْإِلْحَادِ، وَجَعَلَ يُكَاتِبُ وَشْمَكِيرَ (1) الْأَمِيرَ يَدْعُوهُ إِلَيْهِ (2)، وَيَقُولُ لَهُ: إِنِّي لَا أَقْبَلُ دِينَ مُحَمَّدٍ إِلَّا بِالْمُعْجِزَةِ، فَإِنْ أَظْهَرْتُمُوهَا رَجَعْنَا إِلَيْكُمْ (3)، وَانْجَرَّتِ الْحَالُ إِلَى أَنِ اخْتَارُوا مِنْهُمْ رَجُلًا لَهُ دَهَاءٌ وَمُنَّة (4)، فَوَرَدَ عَلَى وَشْمَكِيرَ رَسُولًا، فَقَالَ لَهُ: إِنَّكَ أَمِيرٌ، وَمِنْ شَأْنِ الْأُمَرَاءِ وَالْمُلُوكِ أَنْ تَتَخَصَّصَ عَنِ الْعَوَامِّ، ولا تقلد أحداً (5) في عقيدتها (6)، وإنما حقهم أن يفحصوا (7) عَنِ الْبَرَاهِينِ. فَقَالَ وَشْمَكِيرُ: اخْتَرْ (8) رَجُلًا مِنْ أَهْلِ مَمْلَكَتِي، وَلَا أُنْتَدَبُ لِلْمُنَاظَرَةِ بِنَفْسِي، فَيُنَاظِرُكَ بَيْنَ يَدَيَّ. فَقَالَ لَهُ الْمُلْحِدُ: أَخْتاَرُ (9) أَبَا بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيَّ، لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ (10) لَيْسَ مِنْ أَهْلِ عِلْمِ التَّوْحِيدِ (11)، وَإِنَّمَا كَانَ إِمَامًا فِي الْحَدِيثِ، ولكن كان وشمكير (12) ـ بعاميته (13) يَعْتَقِدُ (14) أَنَّهُ أَعْلَمُ أَهْلِ الْأَرْضِ بِأَنْوَاعِ الْعُلُومِ.
_________
(1) في (ت): "وشميكر"، وهو وشمكير بن زيار ملك الري، واستولى على جرجان، وكانت وفاته سنة 357هـ.
انظر: الكامل في التاريخ لابن الأثير (7/ 76، 112، 145، 167).
(2) في العواصم: "يدعوه إلى الإلحاد".
(3) كفى بالقرآن آية ومعجزة، وإن من حكمة الله أن أبقى هذه الآية ليبقى التحدي بها إلى آخر الدهر، وليس القرآن وحده آية نبينا صلّى الله عليه وسلّم، بل إن آياته ومعجزاته تفوق الحصر، حتى ألفت في ذلك المجلدات كما فعل البيهقي والماوردي وغيرهما، ثم إنه ليس الدليل على صدق نبينا المعجزة فحسب، بل إن خلقه العظيم وسيرته العطرة، وكمال شريعته، ونصرة الله له، أدلة قاطعة وبراهين ساطعة تشهد بصدقه صلّى الله عليه وسلّم.
(4) المنة: القوة. الصحاح (6/ 2207).
(5) ساقطة من (ت) و (غ).
(6) في (ط): "عقيدة".
(7) في (م) و (ط): "يفصحوا".
(8) في (خ) و (ط): "أختار".
(9) في (خ) و (ط): "اختر"، وفي العواصم: "اخترت".
(10) في (ر): "أنه".
(11) يريد علم الكلام، وقد سمى التوحيد، وليس بصحيح، فما أبعد علم الكلام عن التوحيد. وتقدم الكلام عليه في الباب الأول (ص48) هامش (5) ..
(12) في (ت): "وشميكر".
(13) في (ط): "لعامية"، وفي (م) و (خ) و (ط) و (ت): "بعامية فيه".
(14) ساقطة من (م) و (ت).(1/266)
فَقَالَ وَشْمَكِيرُ: ذَلِكَ مُرَادِي، فَإِنَّهُ (1) رَجُلٌ جَيِّدٌ، فَأَرْسَلَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيِّ بِجُرْجَانَ (2)، لِيَرْحَلَ إليه إلى غزنة (3)، فلم يبق أحد من العلماء (4) إِلَّا يَئِسَ مِنَ الدِّينِ، وَقَالَ: سَيَبْهَتُ الْإِسْمَاعِيلِيُّ الكافر مذهباً الإسماعيلي الحافظ [نسباً] (5)، وَلَمْ يُمْكِنْهُمْ أَنْ يَقُولُوا لِلْمَلِكِ: إِنَّهُ لَا علم عنده بذلك لئلا يتهمهم (6). فلجأوا (7) إِلَى اللَّهِ فِي نَصْرِ دِينِهِ.
قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ الْحَافِظُ (8): فَلَمَّا جَاءَنِي الْبَرِيدُ، وَأَخَذْتُ فِي الْمَسِيرِ، وتدانت بي (9) الدَّارُ قُلْتُ: إِنَّا لِلَّهِ. وَكَيْفَ أُنَاظِرُ فِيمَا لَا أَدْرِي؟ هَلْ أَتَبَرَّأُ عِنْدَ الْمَلِكِ وَأُرْشِدُهُ إلى من يحسن الجدل، ويعلم حجج (10) الله على دينه؟ (11) وندمت (12) على ما سلف من عمري ولم أَنْظُرْ فِي شَيْءٍ مِنْ عِلْمِ الْكَلَامِ، ثُمَّ أَذْكَرَنِي اللَّهُ مَا كُنْتُ سَمِعْتُهُ مِنَ الرَّجُلَيْنِ بِجَامِعِ الرَّيِّ، فَقَوِيَتْ نَفْسِي، وَعَوَّلْتُ عَلَى أَنْ أَجْعَلَ ذَلِكَ عُمْدَتِي، وَبَلَغْتُ الْبَلَدَ، فَتَلَقَّانِي الْمَلِكُ ثُمَّ جَمِيعُ الْخَلْقِ، وَحَضَرَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ الْمَذْهَبِ مَعَ الْإِسْمَاعِيلِيِّ النَّسَبِ، وَقَالَ الْمَلِكُ لِلْبَاطِنِيِّ (13): أُذْكُرْ قَوْلَكَ يَسْمَعُهُ الْإِمَامُ. فَلَمَّا أَخَذَ فِي ذِكْرِهِ وَاسْتَوْفَاهُ، قال له الحافظ: "لم"؟ فلما سَمِعَهَا الْمُلْحِدُ قَالَ: هَذَا إِمَامٌ قَدْ عَرَفَ مقالتي، فبهت (14).
_________
(1) ساقطة من (م) و (ت) و (غ).
(2) جرجان: مدينة عظيمة مشهورة بقرب طبرستان، بناها يزيد بن المهلب بن أبي صفرة.
انظر: آثار البلاد وأخبار العباد للقزويني (ص348).
(3) قوله: (إلى غزنة) ساقطة من (غ) و (ر)، وغزنة: مدينة عظيمة، وولاية واسعة في طرف خراسان، وهي الحد بين خراسان والهند.
انظر: معجم البلدان لياقوت الحموي (4/ 201).
(4) في (خ) و (ط): "فلم يبق من العلماء أحد".
(5) في الأصول (مذهباً)، والتصويب من العواصم.
(6) في العواصم: "لئلا يتهمهم بالحسد".
(7) في (م): "فلجوا".
(8) ساقطة من (م) و (ت) و (غ) و (ر).
(9) في (خ) و (ط): "لي".
(10) في (خ) و (ط): "بحجج".
(11) في العواصم: "ويعلم حجج الله في خلقه على صحة دينه".
(12) في (خ) و (ت) و (ط): "ندمت" بدون الواو.
(13) في (ط): "الباطني"، وفي العواصم: "وقال الملك للإسماعيلي الباطني".
(14) في (خ) و (ت) و (ط): "ففهمت"، وبعد هذه اللفظة ذكر ابن العربي بعض العبارات=(1/267)
قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: فَخَرَجْتُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ (1)، وَأَمَرْتُ بِقِرَاءَةِ عِلْمِ الْكَلَامِ، وَعَلِمْتُ أَنَّهُ عُمْدَةٌ مِنْ عُمَدِ الْإِسْلَامِ (2).
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَحِينَ (3) انْتَهَى بي الْأَمْرُ إِلَى ذَلِكَ الْمَقَامِ (4) قُلْتُ: إِنْ كَانَ في الأجل نساء (5) فَهَذَا شَبِيهٌ بِيَوْمِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ، فَوَجَّهْتُ (6) إِلَى أَبِي الفتح الإمامي (7)، وَقُلْتُ لَهُ: لَقَدْ كُنْتُ فِي لَا شَيْءَ، وَلَوْ خَرَجْتُ مِنْ عَكَّا قَبْلَ أَنْ أَجْتَمِعَ بِهَذَا الْعَالِمِ مَا رَحَلْتُ إِلَّا عَرِيًّا عَنْ نادرة الأيام، انظر (8) إِلَى حِذْقِهِ بِالْكَلَامِ وَمَعْرِفَتِهِ حَيْثُ (9) قَالَ لِي: أَيُّ شَيْءٍ هُوَ اللَّهُ؟ وَلَا يَسْأَلُ بِمِثْلِ هذا إلا مثله. ولكن بقيت ها هنا نُكْتَةٌ، لَا بُدَّ مِنْ أَنْ نَأْخُذَهَا الْيَوْمَ عَنْهُ، وَتَكُونُ ضِيَافَتُنَا عِنْدَهُ. لِمَ قُلْتَ: (أَيُّ شَيْءٍ هُوَ اللَّهُ؟)، فَاقْتَصَرْتَ مِنْ حُرُوفِ الِاسْتِفْهَامِ على "أي"، وتركت الهمزة وهل وكيف وأين (10) وكم وما، وهي (11) أَيْضًا مِنْ ثَوَانِي حُرُوفِ الِاسْتِفْهَامِ، وَعَدَلْتَ عَنِ اللام (12) من حروفه (13)، فهذا (14) سؤال ثان عن حكمة ثانية، ولأي معنيان (15) في
_________
=الفارسية التي ذكرهاالملك، ثم قال: فرد مناظره وطرده.
(1) ساقطة من (م)، وفي (ت) كتبت فوق السطر.
(2) المعروف عن علم الكلام أن ضرره أكثر من نفعه، وما فيه من نفع فقليل، والوصول إليه عسير، ثم إن في كتاب الله وسنة رسوله من البراهين والحجج العقلية ما يكفي في الرد على الملاحدة وغيرهم، فإذا وجد الإنسان من نفسه قصوراً عن مناظرة الملاحدة وإفحامهم، فقد يكون من تقصيره في تدبر حجج الله، وقد يكون من ضعفه الشخصي، وعدم قدرته على الجدل، ثم إني لا أرى في القصة ما يثنى به على علم الكلام، فضلاً عن أن يقال إنه عمدة من عمد الإسلام.
وانظر: ما نقله شيخ الإسلام ابن تيمية عن الغزالي في ذم الكلام، وبيان قلة جدواه وهو كلام خبير به. درء تعارض العقل والنقل (7/ 163).
(3) في (خ) و (ط): "وأنا حين".
(4) ساقطة من (ط).
(5) في (م) و (ت): "نفساً"، وفي (خ) و (ط): "تنفس".
(6) في العواصم: "فرددت وجهي إلى أبي الفتح الإمامي".
(7) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "الإمام".
(8) في (خ) و (ط): "نظر".
(9) ساقطة من (م) و (ت) و (ر).
(10) في (خ) و (ط): "وأنى".
(11) في (خ) و (ت) و (ط): "هي" بدون الواو.
(12) في (ر) والعواصم: "الأم".
(13) في العواصم: "وعدلت من اللام عن حروفه".
(14) في (خ) و (ط): "وهذا".
(15) في (خ) و (ط): "وهو أن لأي معنيين"، والمثبت هو ما في (م) و (ت)، وكذلك في العواصم.(1/268)
الِاسْتِفْهَامِ. فَأَيَّ الْمَعْنَيَيْنِ قَصَدْتَ بِهَا؟ وَلِمَ سَأَلْتَ بِحَرْفٍ مُحْتَمِلٍ؟ وَلَمْ تَسْأَلْ بِحَرْفٍ مُصَرِّحٍ بِمَعْنًى واحد؟ هل وقع ذلك منك (1) بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا قَصْدِ حِكْمَةٍ؟ أَمْ بِقَصْدِ حِكْمَةٍ؟ فَبَيِّنْهَا لَنَا.
فَمَا هُوَ إِلَّا أَنِ افْتَتَحْتُ هَذَا الْكَلَامَ، وَانْبَسَطْتُ فِيهِ، وَهُوَ يَتَغَيَّرُ، حَتَّى اصْفَرَّ آخِرًا مِنَ الْوَجَلِ، كَمَا اسْوَدَّ أَوَّلًا مِنَ الْحِقْدِ، وَرَجَعَ أَحَدُ أَصْحَابِهِ الَّذِي كَانَ عَنْ (2) يَمِينِهِ إِلَى آخَرَ كَانَ بِجَانِبِهِ، وَقَالَ لَهُ: مَا هَذَا الصَّبِيُّ إِلَّا بَحْرٌ زَاخِرٌ مِنَ الْعِلْمِ، مَا رَأَيْنَا مِثْلَهُ قَطُّ، وهم ما (3) رأوا أحداً (4) بِهِ رَمَقٌ (إِلَّا أَهْلَكُوهُ) (5)، لِأَنَّ الدَّوْلَةَ لَهُمْ، وَلَوْلَا مَكَانُنَا مِنْ رِفْعَةِ دَوْلَةِ (6) مَلِكِ الشَّامِ، وأن (7) والي عكا (8) كان يحظينا (9)، مَا تَخَلَّصْتُ مِنْهُمْ فِي الْعَادَةِ أَبَدًا.
وَحِينَ سَمِعْتُ تِلْكَ الْكَلِمَةَ مِنْ إِعْظَامِي قُلْتُ: هَذَا مَجْلِسٌ عَظِيمٌ، وَكَلَامٌ طَوِيلٌ، يَفْتَقِرُ إِلَى تَفْصِيلٍ، وَلَكِنْ نَتَوَاعَدُ (10) إِلَى يَوْمٍ آخَرَ، وَقُمْتُ وَخَرَجْتُ فَقَامُوا كُلُّهُمْ مَعِي، وَقَالُوا: لَا بُدَّ أَنْ تَبْقَى قَلِيلًا، فَقُلْتُ: لَا، وَأَسْرَعْتُ حَافِيًا وَخَرَجْتُ عَلَى الْبَابِ أَعْدُو (11) حَتَّى أَشْرَفْتُ عَلَى قَارِعَةِ الطريق وبقيت هنالك (12) مُبَشِّرًا نَفْسِي بِالْحَيَاةِ، حَتَّى خَرَجُوا (بَعْدِي وَأَخْرَجُوا) (13) لي لا لكي (14)،
_________
(1) زيادة في (غ).
(2) ساقطة من (م)، وكتبت في (ت) فوق السطر.
(3) ساقطة من (م)، وكتبت في (ت) فوق السطر.
(4) في (ط): "واحداً".
(5) ما بين المعكوفين ساقط من (م) و (ت) و (غ)، وكتب في هامش (ت): "عله به رمق إلا هلكوه أو قتلوه".
(6) في (م) و (ت): "الدولة".
(7) ساقطة من (خ) و (ت) و (ط).
(8) في (خ) و (ت): "عكة".
(9) قال في الصحاح: "ورجل حظي، إذا كان ذا حظوة ومنزلة، وقد حظي عند الأمير واحتظى به بمعنى". الصحاح (6/ 2316).
(10) في (م) و (ر): "يتوعد".
(11) (م): "أغدو" وفي (خ): "أعدوا".
(12) في (ط): "هناك".
(13) ما بين المعكوفين ساقط من (خ).
(14) في (خ) و (ط): "لا يكي"، ويظهر أن المراد به الحذاء.(1/269)
وَلَبِسْتُهَا (1) وَمَشَيْتُ مَعَهُمْ مُتَضَاحِكًا، وَوَعَدُونِي بِمَجْلِسٍ آخَرَ فَلَمْ أُوَفِّ لَهُمْ، وَخِفْتُ وَفَاتِي فِي وَفَائِي (2).
قال ابن العربي: وقد كان (3) قَالَ لِي أَصْحَابُنَا النَّصْرِيَّةُ (4) بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى: إِنَّ شَيْخَنَا أَبَا الْفَتْحِ نَصْرَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ الْمَقْدِسِيَّ (5) اجتمع برئيس من الشيعة الإمامية (6)، فَشَكَا إِلَيْهِ فَسَادَ الْخَلْقِ، وَأَنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا يَصْلُحُ إِلَّا بِخُرُوجِ الْإِمَامِ الْمُنْتَظَرِ، فَقَالَ له (7) نصر: هل لخروجه ميقات أم لا؟ فقال الشِّيعِيُّ: نَعَمْ، قَالَ لَهُ أَبُو الْفَتْحِ: وَمَعْلُومٌ هُوَ أَوْ مَجْهُولٌ؟ قَالَ: مَعْلُومٌ. قَالَ نَصْرٌ: وَمَتَى يَكُونُ؟ قَالَ: إِذَا فَسَدَ الْخَلْقُ. قَالَ أبو الفتح: فلم (8) تَحْبِسُونَهُ عَنِ الْخَلْقِ وَقَدْ (9) فَسَدَ جَمِيعُهُمْ إِلَّا أَنْتُمْ، فَلَوْ فَسَدْتُمْ لَخَرَجَ، فَأَسْرِعُوا بِهِ وَأَطْلِقُوهُ مِنْ سِجْنِهِ، وَعَجِّلُوا بِالرُّجُوعِ إِلَى مَذْهَبِنَا، فَبُهِتَ. قال (10) وأظن أنه (11) سَمِعَهَا عَنْ شَيْخِهِ أَبِي الْفَتْحِ سُلَيْمَانَ بْنِ أيوب الرازي (12) الزاهد (13). انتهى ما
_________
(1) في (غ): ولبست.
(2) قال في العواصم: "وفي ترتيب الرحلة بقية الحديث". (ص71).
(3) ساقطة من (ط).
(4) الذي يظهر أن هذه النسبة إلى شيخهم نصر بن إبراهيم.
(5) هو أبو الفتح نصر بن إبراهيم بن نصر المقدسي، الفقيه، الشافعي، الإمام القدوة المحدث، صاحب كتاب الحجة على تارك المحجة، تفقه على الدارمي وغيره، وتفقه به الغزالي وغيره، وكان صاحب زهد وتقشف. توفي سنة 490هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء (19/ 136)، شذرات المذهب (3/ 395)، العبر (3/ 329).
(6) ساقطة من (م) و (ت)، وتقدم الكلام على الشيعة (ص23).
(7) زيادة في (غ).
(8) في (خ) و (ت) و (ط): "فهل". والمثبت هو ما في (م)، وهو كذلك في العواصم.
(9) في (م): "قد" بدون واو.
(10) زيادة في (غ).
(11) في (خ) و (ط): "وأظنه". والمثبت هو ما في (م) و (ت)، وكذلك هو في العواصم.
(12) هو سليم بن أيوب بن سليم، أبو الفتح، الرازي الشافعي، تفقه بأبي حامد الإسفراييني، وكان فقيهاً، محدثاً، مقرئاً، وقد سكن الشام مرابطاً، ناشراً للعلم احتساباً. توفي سنة 447هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء (17/ 645)، العبر (3/ 213)، طبقات الشافعية (4/ 388).
(13) إلى هنا ينتهي ما نقله المؤلف من كتاب العواصم لابن العربي. وهو في العواصم من (ص59) إلى (ص72)، مع وجود بعض الكلام الذي لم ينقله المؤلف.(1/270)
حَكَاهُ ابْنُ (1) الْعَرَبِيِّ وَغَيْرُهُ، وَفِيهِ غُنْيَةٌ لِمَنْ عرج على (2) تَعَرُّفِ أُصُولِهِمْ، وَفِي أَثْنَاءِ الْكِتَابِ مِنْهُ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ.
الْقِسْمُ (3) الثَّانِي: يَتَنَوَّعُ أَيْضًا، وَهُوَ الَّذِي لَمْ يَسْتَنْبِطْ بِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا اتَّبَعَ غَيْرَهُ مِنَ الْمُسْتَنْبِطِينَ، لَكِنْ بِحَيْثُ أَقَرَّ بِالشُّبْهَةِ وَاسْتَصْوَبَهَا، وَقَامَ بِالدَّعْوَةِ بِهَا مَقَامَ مَتْبُوعِهِ، لِانْقِدَاحِهَا فِي قَلْبِهِ، فَهُوَ مِثْلُ الْأَوَّلِ، وَإِنْ لَمْ يَصِرْ إِلَى تِلْكَ الْحَالِ، وَلَكِنَّهُ تَمَكَّنَ حُبُّ الْمَذْهَبِ مِنْ قَلْبِهِ حَتَّى عَادَى عَلَيْهِ وَوَالَى.
وَصَاحِبُ هَذَا الْقِسْمِ لَا يَخْلُو مِنِ اسْتِدْلَالٍ وَلَوْ عَلَى أَعَمِّ مَا يَكُونُ. فَقَدْ يَلْحَقُ بِمَنْ نَظَرَ فِي الشُّبْهَةِ وَإِنْ كَانَ عَامِيًّا، لِأَنَّهُ (4) عَرَضَ نفسه (5) لِلِاسْتِدْلَالِ، وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ النَّظَرَ، وَلَا مَا يَنْظُرُ فِيهِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يَبْلُغُ مَنِ اسْتَدَلَّ (6) بِالدَّلِيلِ الْجُمْلِيِّ مَبْلَغَ مَنِ استدل على التفصيل،، وفرق ما (7) بَيْنَهُمَا فِي التَّمْثِيلِ: إِنَّ الْأَوَّلَ أَخَذَ شُبُهَاتٍ متبوعة (8) فَوَقَفَ وَرَاءَهَا، حَتَّى إِذَا طُولِبَ فِيهَا بِالْجَرَيَانِ عَلَى مُقْتَضَى الْعِلْمِ تَبَلَّدَ وَانْقَطَعَ، أَوْ خَرَجَ إِلَى مَا لَا يُعْقَلُ، وَأَمَّا الثَّانِي فَحَسَّنَ الظَّنَّ بِصَاحِبِ الْبِدْعَةِ فَتَبِعَهُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ دَلِيلٌ عَلَى التَّفْصِيلِ يَتَعَلَّقُ بِهِ، إِلَّا تَحْسِينُ الظن بالمتبوع (9) خَاصَّةً. وَهَذَا الْقِسْمُ فِي الْعَوَامِّ كَثِيرٌ.
فَمِثَالُ الْأَوَّلِ: حَالُ حَمْدَانَ (10) بْنِ (11) قَرْمَطٍ الْمَنْسُوبِ إِلَيْهِ القرامطة (12)،
_________
(1) في (ط): "أبى"، وفي (ت): "بن" بدون ألف.
(2) في (خ) و (ط): "عن".
(3) في (غ) و (ر): "والقسم".
(4) مطموسة في (ت).
(5) مثبتة في (غ) و (ر)، وساقطة من بقية النسخ.
(6) في (خ) و (ط): "استدلال".
(7) ساقطة من (خ) و (ت) و (ط) و (غ).
(8) في (خ) و (ط): "مبتدعة".
(9) في (خ) و (ت) و (ط): "بالمبتدع".
(10) في (خ) و (ت): "أحمد".
(11) ساقطة من (غ) و (ر).
(12) القرامطة نسبة إلى حمدان بن قرمط كما ذكر المؤلف، وهي دعوة إسماعيلية باطنية ابتدأت من سواد الكوفة على يد هذا الضال، وانتشرت، وعظمت مصيبتها حتى صارت تهدد الخلافة الإسلامية، وقد اتخذوا الأحساء عاصمة لهم، وهاجموا الحجيج، وقتلوا المسلمين في الحرم، وسرقوا الحجر الأسود زمناً، وهدف دعوتهم=(1/271)
إذ كان أحد دعاة الباطنية القرامطة (1) فَاسْتَجَابَ لَهُ جَمَاعَةٌ نُسِبُوا إِلَيْهِ، وَكَانَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ مَائِلًا إِلَى الزُّهْدِ فَصَادَفَهُ (2) أحد دعاة الباطنية (في طريق) (3) وَهُوَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى قَرْيَتِهِ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ بَقَرٌ (4) يسوقها (5)، فقال له حمدان ـ وهو لا يعرفه ولا يعرف حاله (6) ـ: أَرَاكَ سَافَرْتَ عَنْ مَوْضِعٍ بَعِيدٍ، فَأَيْنَ مَقْصِدُكَ؟ فَذَكَرَ مَوْضِعًا هُوَ قَرْيَةُ حَمْدَانَ، فَقَالَ لَهُ حمدان: اركب بقرة من هذه (7) الْبَقَرِ لِتَسْتَرِيحَ بِهِ عَنْ تَعَبِ الْمَشْيِ، فَلَمَّا رَآهُ مَائِلًا إِلَى الدِّيَانَةِ أَتَاهُ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ وَقَالَ: إِنِّي لَمْ أُومَرْ (8) بِذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ (9): وَكَأَنَّكَ لَا تَعْمَلُ إِلَّا بِأَمْرٍ، فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ (10) حَمْدَانُ: وَبِأَمْرِ مَنْ تَعْمَلُ؟ قَالَ: بِأَمْرِ مَالِكِي وَمَالِكِكَ وَمَنْ لَهُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ، قال: ذلك إذا (11) هو رب العالمين، قال: قد (12) صَدَقْتَ (13)، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهَبُ مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ، قَالَ: وَمَا غَرَضُكَ فِي الْبُقْعَةِ الَّتِي أَنْتَ متوجه إليها؟ قال (14) أُمِرْتُ أَنْ أَدْعُوَ (15) أَهْلَهَا مِنَ الْجَهْلِ إِلَى الْعِلْمِ، وَمِنَ الضَّلَالِ إِلَى الْهُدَى، وَمِنَ الشَّقَاوَةِ إِلَى السَّعَادَةِ، وَأَنْ أَسْتَنْقِذَهُمْ مِنْ (16) وَرَطَاتِ الذُّلِّ والفقر، وأملكهم بما يَسْتَغْنُونَ بِهِ عَنِ الْكَدِّ (17) وَالتَّعَبِ، فَقَالَ لَهُ حمدان: أنقذني أنقذك الله، وأفض على
_________
=نشر الإلحاد، وإبطال الشرائع، عن طريق الدعوة السرية، وأخذ المواثيق والعهود للإمام. انظر: الفرق بين الفرق للبغدادي (ص213 وما بعدها)، تلبيس إبليس لابن الجوزي (ص126)، دراسة عن الفرق لأحمد الجلي (ص288).
(1) زيادة في (غ).
(2) في (م) و (خ) و (ت): "فصاده".
(3) ساقط من (خ) و (ط).
(4) في (م): "معز".
(5) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "يسوقه".
(6) في (ط): "وهو لا يعرف حاله".
(7) في (م) و (خ) وت) و (ط): "هذا".
(8) في (خ) و (ط): "إني لم أومن بل أومر".
(9) ساقطة من (م) و (ت) و (غ).
(10) في (غ): "قال".
(11) ساقطة من (خ) و (ت) و (ط).
(12) ساقطة من (م) و (ت) و (ط) و (غ).
(13) في (م) و (ت): "قصدت".
(14) في (م) و (غ): "فقال".
(15) في (خ) و (ت): و (ط) و (غ): "أدعوا" بالألف بعد الواو.
(16) ساقطة من (م) و (ت).
(17) في (غ) و (ر): "الكل".(1/272)
من العلم ما تحييني (1) به، فما أشد احتياجي إلى مثل (2) مَا (ذَكَرْتَهُ (3)، فَقَالَ لَهُ (4): وَمَا أُمِرْتُ) (5) أَنْ أُخْرِجَ السِّرَّ الْمَكْنُونَ إِلَى كُلِّ (6) أَحَدٍ إِلَّا بَعْدَ الثِّقَةِ بِهِ، وَالْعَهْدِ (إِلَيْهِ، فَقَالَ) (7): فَمَا (8) عَهْدُكَ؟ فَاذْكُرْهُ فَإِنِّي مُلْتَزِمٌ لَهُ.
فَقَالَ: أَنْ تَجْعَلَ لِي وَلِلْإِمَامِ عَهْدَ اللَّهِ عَلَى (9) نَفْسِكَ (10) وَمِيثَاقَهُ (11) أَلَّا تُخْرِجَ سِرَّ الْإِمَامِ الَّذِي أُلْقِيهِ إِلَيْكَ، وَلَا تُفْشِي سِرِّي أَيْضًا، فَالْتَزَمَ حَمْدَانُ عَهْدَهُ، ثُمَّ انْدَفَعَ (12) الدَّاعِي فِي تَعْلِيمِهِ فُنُونَ جَهْلِهِ، حَتَّى اسْتَدْرَجَهُ وَاسْتَغْوَاهُ، وَاسْتَجَابَ (13) لَهُ فِي جَمِيعِ مَا ادَّعَاهُ، ثُمَّ انْتُدِبَ لِلدَّعْوَةِ، وَصَارَ أَصْلًا (14) مِنْ أُصُولِ هَذِهِ الْبِدْعَةِ، فَسُمِّيَ أَتْبَاعُهُ القرامطة (15).
ومثال الثاني ما حكاه الله تعالى (عن الكفار) (16) فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا .. } (17)، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ *أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ *قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ *} (18).
وَحَكَى الْمَسْعُودِيُّ (19): أَنَّهُ كَانَ فِي أَعْلَى صَعِيدِ مصر رجل من القبط
_________
(1) في (م): "يحييني".
(2) في (خ) و (ط): "لمثل".
(3) في (خ) و (ط): "ذكرت".
(4) ساقطة من (م).
(5) ما بين المعكوفين بياض في (ت).
(6) ساقطة من (غ) و (ر).
(7) ما بين المعكوفين بياض في (ت).
(8) في (م) و (غ): "ما".
(9) بياض في (ت).
(10) في (م): "ونفسك"، وفي (ت) الواو والنون في البياض.
(11) في (خ) و (ط): "وميثاقك".
(12) ساقطة من (ت).
(13) نصف الكلمة الأول يقع في البياض في (ت).
(14) في (ت): "أصيلاً".
(15) ذكر هذه القصة بتمامها الإمام ابن الجوزي في تلبيس إبليس (ص127).
(16) ما بين المعكوفين ساقط من (ط).
(17) سورة المائدة: آية (104).
(18) سورة الشعراء: الآيتان (72 ـ 74).
(19) هو أبو الحسن علي بن الحسين بن علي من ذرية ابن مسعود، عداده في البغاددة، نزل مصر مدة، وكان أخبارياً، صاحب ملح وغرائب وعجائب وفنون، وله كتاب مروج الذهب وغيره من التواريخ، كان معتزلياً. مات سنة 345هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء (15/ 569)، شذرات الذهب (2/ 371)، العبر (2/ 269).(1/273)
ممن يظهر دين النصرانية (ورأي اليعقوبية) (1)، وَكَانَ يُشَارُ إِلَيْهِ بِالْعِلْمِ وَالْفَهْمِ، فَبَلَغَ خَبَرُهُ أَحْمَدَ بْنَ طُولُونَ (2)، فَاسْتَحْضَرَهُ وَسَأَلَهُ عَنْ أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ، مِنْ جُمْلَتِهَا: أَنَّهُ أَمَرَ فِي بَعْضِ الأيام ـ وقد أحضر مَجْلِسَهُ ـ بَعْضُ أَهْلِ النَّظَرِ لِيَسْأَلَهُ (3) عَنِ الدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ دِينِ النَّصْرَانِيَّةِ، فَسَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ، فقال: دليلي على صحتها وجودي إِيَّاهَا مُتَنَاقِضَةً مُتَنَافِيَةً، تَدْفَعُهَا الْعُقُولُ، وَتَنْفِرُ مِنْهَا (4) النُّفُوسُ، لِتَبَايُنِهَا وَتَضَادِّهَا، لَا نَظَرَ يُقَوِّيهَا، وَلَا جَدَلَ يُصَحِّحُهَا، وَلَا بُرْهَانَ يُعَضِّدُهَا مِنَ الْعَقْلِ والحس عند أهل التأمل فيها (5)، وَالْفَحْصِ عَنْهَا، وَرَأَيْتُ مَعَ ذَلِكَ أُمَمًا كَثِيرَةً، وَمُلُوكًا عَظِيمَةً، ذَوِي مَعْرِفَةٍ، وَحُسْنِ سِيَاسَةٍ، وَعُقُولٍ رَاجِحَةٍ، قَدِ انْقَادُوا إِلَيْهَا، وَتَدَيَّنُوا بِهَا، مَعَ مَا ذَكَرْتُ مِنْ تَنَاقُضِهَا فِي الْعَقْلِ، فَعَلِمْتُ أَنَّهُمْ لَمْ يَقْبَلُوهَا، وَلَا تَدَيَّنُوا بِهَا، إِلَّا لدلائل (6) شاهدوها، وآيات علموها (7)، وَمُعْجِزَاتٍ عَرَفُوهَا، أَوْجَبَ انْقِيَادَهُمْ إِلَيْهَا، وَالتَّدَيُّنَ بِهَا.
فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ: وَمَا (8) التَّضَادُّ الَّذِي فِيهَا؟ (9) فَقَالَ: وَهَلْ يُدْرَكُ ذَلِكَ أَوْ تُعْلَمُ غَايَتُهُ؟ مِنْهَا: قَوْلُهُمْ بِأَنَّ الثَّلَاثَةَ وَاحِدٌ، وَأَنَّ الْوَاحِدَ ثَلَاثَةٌ، وَوَصْفُهُمْ لِلْأَقَانِيمِ وَالْجَوْهَرِ وَهُوَ الثَّالُوثِيُّ (10)، وَهَلِ الأقانيم في أنفسها قادرة عالمة أم
_________
(1) ما بين المعكوفين ـ أثبته من (غ) و (ر)، وهو ساقط من بقية النسخ.
(2) هو أبو العباس أحمد بن طولون التركي، صاحب مصر، أجاد حفظ القرآن، وطلب العلم، وتنقلت به الأحوال، وتأمر، وولي ثغور الشام، ثم إمرة دمشق، ثم ولي الديار المصرية، وكان بطلاً، شجاعاً، جواداً، من دهاة الملوك، وكان جيد الإسلام، معظماً لشعائر الله. توفي بمصر سنة 270هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء (13/ 94)، الوافي بالوفيات (6/ 430)، النجوم الزاهرة (3/ 1 ـ 21).
(3) في (م): "يسأله"، والكلمة غير واضحة في (ت).
(4) كتبت مرتين في (ت)، وكتب في هامشها "عله فيها".
(5) في (م) و (ت) و (غ): "لها".
(6) في (غ) و (ر): بدلائل.
(7) مثبتة في (غ)، وساقطة من بقية النسخ.
(8) في (خ): "وأما".
(9) مطموسة في (ت).
(10) أراد النصارى قاتلهم الله أن يوفقوا بين عقيدتهم الشركية القائلة بثلاثة آلهة وهم الأب والابن وروح القدس، وبين ما في التوراة من نصوص التوحيد والنهي عن الشرك، فقالوا بأن الأب والابن وروح القدس أقانيم، وهي في نفس الوقت جوهر واحد وإله=(1/274)
لَا؟ وَفِي اتِّحَادِ رَبِّهِمُ الْقَدِيمِ بِالْإِنْسَانِ الْمُحْدَثِ، وَمَا جَرَى فِي وِلَادَتِهِ (1) وَصَلْبِهِ وَقَتْلِهِ. وَهَلْ في التشنيع أكبر وأفحش من إله قد (2) صُلِبَ وَبُصِقَ فِي (3) وَجْهِهِ، وَوُضِعَ عَلَى رَأْسِهِ إِكْلِيلُ الشَّوْكِ، وَضُرِبَ رَأْسُهُ بِالْقَضِيبِ، وَسُمِّرَتْ قَدَمَاهُ، ونخس (4) بِالْأَسِنَّةِ وَالْخَشَبِ جَنْبَاهُ. وَطَلَبَ (5) الْمَاءَ (6) فَسُقِيَ الْخَلَّ مِنْ بِطِّيخِ الْحَنْظَلِ؟ فَأَمْسَكُوا عَنْ مُنَاظَرَتِهِ، لِمَا قد أعطاهم من تناقض مذهبه وفساده (7). انتهى.
وَالشَّاهِدُ مِنَ الْحِكَايَةِ الِاعْتِمَادُ عَلَى الشُّيُوخِ وَالْآبَاءِ من غير برهان ولا دليل، (ولا شبهة دَلِيلٍ) (8).
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: يَتَنَوَّعُ أَيْضًا وَهُوَ الَّذِي قَلَّدَ غَيْرَهُ عَلَى الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ ثَمَّ مَنْ هُوَ أَوْلَى بِالتَّقْلِيدِ مِنْهُ، بِنَاءً عَلَى التَّسَامُعِ الْجَارِي بَيْنَ الْخَلْقِ بالنسبة إلى رجوع (9) الْجَمِّ (10) الْغَفِيرِ إِلَيْهِ فِي أُمُورِ دِينِهِمْ مِنْ عالم وغيره، وتعظيمهم له بخلاف ذلك (11) الْغَيْرِ، أَوْ لَا يَكُونُ ثَمَّ مَنْ هُوَ أولى منه، لكنه لَيْسَ فِي إِقْبَالِ الْخَلْقِ عَلَيْهِ وَتَعْظِيمِهِمْ لَهُ ما يبلغ تلك الرتبة، فإن
_________
=واحد ورب واحد، وأخذوا يحملون النصوص ما لا تحتمل لإثبات شركهم، فخالفوا كتب الله من ناحية، كما خالفوا العقول من ناحية أخرى.
انظر: الجواب الصحيح لابن تيمية (2/ 245)، محاضرات في النصرانية لأبي زهرة (ص120).
(1) في (م) و (غ) و (ر): "ولادة".
(2) ساقطة من (خ) و (ت) و (ط).
(3) مطموسة في (ت).
(4) رسمت في (خ) هكذا "نخـ"، وفي (ط): "نخز".
(5) في (خ): "وطلبت"، وفي (م): "وصَلُبَ".
(6) ساقطة من (م).
(7) لم أجد هذه القصة في مروج الذهب للمسعودي، فلعلها في كتابه أخبار الزمان، وهو كتاب يقع في ثلاثين مجلداً، وهو مفقود عدا أحد أجزائه فإنه مخطوط.
انظر: الأعلام للزركلي (4/ 27).
(8) ما بين المعكوفين ساقط من (خ) و (ت) و (ط).
(9) ساقطة من (خ) و (ط).
(10) في (غ): "الجماء".
(11) زيادة من (غ) و (ر).(1/275)
كَانَ هُنَاكَ (1) مُنْتَصِبُونَ، فَتَرَكَهُمْ هَذَا الْمُقَلِّدُ، وَقَلَّدَ غَيْرَهُمْ فَهُوَ آثِمٌ، إِذْ لَمْ يَرْجِعْ إِلَى مَنْ أُمِرَ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ، بَلْ تَرَكَهُ وَرَضِيَ لِنَفْسِهِ بِأَخْسَرِ (2) الصَّفْقَتَيْنِ، فَهُوَ غَيْرُ مَعْذُورٍ، إِذْ قلد دِينِهِ (3) مَنْ لَيْسَ بِعَارِفٍ بِالدِّينِ فِي حُكْمِ الظَّاهِرِ (4)، فَعَمِلَ بِالْبِدْعَةِ (وَهُوَ يَظُنُّ) (5) أَنَّهُ عَلَى الصِّرَاطِ (6) الْمُسْتَقِيمِ.
وَهَذَا (7) حَالُ مَنْ بُعِثَ فِيهِمْ (رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ) (8) عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُمْ تركوا دينه (9) الْحَقَّ، وَرَجَعُوا إِلَى بَاطِلِ (آبَائِهِمْ، وَلَمْ يَنْظُرُوا) (10) نظر المستبصر حتى يُفَرِّقُوا (11) بَيْنَ الطَّرِيقَيْنِ، وَغَطَّى الْهَوَى عَلَى عُقُولِهِمْ دُونَ (12) أَنْ يُبْصِرُوا الطَّرِيقَ، فَكَذَلِكَ أَهْلُ هَذَا النوع.
وقل ما تَجِدُ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ إِلَّا وَهُوَ يُوَالِي فِيمَا ارْتَكَبَ وَيُعَادِي بِمُجَرَّدِ التَّقْلِيدِ.
خَرَّجَ الْبَغْوِيُّ (في معجمه) (13) عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ الْكِنَانِيِّ (14) أَنَّ رَجُلًا وُلِدَ لَهُ غُلَامٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ، وَأَخَذَ بِجَبْهَتِهِ فَنَبَتَتْ شَعْرَةٌ بِجَبْهَتِهِ (15) كَأَنَّهَا هُلْبَةُ (16) فَرَسٍ، قَالَ فَشَبَّ الْغُلَامُ، فَلَمَّا كَانَ زَمَنُ الْخَوَارِجِ أجابهم فسقطت الشعرة عن جبهته، فأخذه
_________
(1) في (م) و (غ) و (ر): "هنالك".
(2) في (م) و (غ) و (ر): "بأخس".
(3) في (خ) و (ط): "في دينه".
(4) في (ت): "الظر".
(5) ما بين المعكوفين بياض في (ت).
(6) في (م): "الطريق".
(7) في (غ) و (ر): "وهذه".
(8) ما بين المعكوفين ساقط من (ت).
(9) في (خ) و (ط): "دينهم".
(10) ما بين المعكوفين بياض في (ت).
(11) في (ط): "حتى لم يفرقوا".
(12) بياض في (ت).
(13) ساقطة من (خ) و (ت) و (ط).
(14) وقع جزء من الكلمة في البياض في نسخة (ت).
(15) في (غ): "في جبهته".
(16) في (خ) و (ت) و (ط): "سلفة"، وفي (م): "هلبة"، وفي هامشها الهلب بالضم الشعر كله أو ما غلظ منه. وقال في النهاية عن هلبات الفرس: "أي شعرات، أو خصلات من الشعر، واحدتها هلبة، والهلب الشعر. وقيل هو ما غلظ من شعر الذنب وغيره". النهاية في غريب الحديث (5/ 269).(1/276)
أَبُوهُ فَقَيَّدَهُ وَحَبَسَهُ مَخَافَةَ أَنْ يَلْحَقَ بِهِمْ (1)، قال فدخلنا عليه فوعظناه وَقُلْنَا لَهُ: أَلَمْ تَرَ بَرَكَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَعَتْ؟ قَالَ: فَلَمْ نَزَلْ (2) بِهِ (3) حَتَّى رَجَعَ عَنْ رَأْيِهِمْ، قَالَ: فَرَدَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الشَّعْرَةَ فِي جَبْهَتِهِ إِذْ تاب (4).
وإن لم يكن هناك منتصبون إلا (5) هَذَا الْمُقَلِّدِ الْخَامِلِ بَيْنَ النَّاسِ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ نَصَّبَ نَفْسَهُ مَنْصِبَ الْمُسْتَحِقِّينَ، فَفِي تَأْثِيمِهِ نَظَرٌ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ: إِنَّهُ آثِمٌ. وَنَظِيرُهُ مَسْأَلَةُ أَهْلِ الْفَتَرَاتِ (6)، الْعَامِلِينَ تَبَعًا لِآبَائِهِمْ، وَاسْتِقَامَةً (7) لِمَا عَلَيْهِ أَهْلُ عَصْرِهِمْ، مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ يَقُولُونَ فِي حُكْمِهِمْ: إِنَّهُمْ عَلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ غابت
_________
(1) في (ط): "يلحق بهم أحد".
(2) في (م) و (ت) و (غ): "يزل".
(3) ساقطة من (م) و (ت) و (غ).
(4) أخرجه الإمام أحمد في المسند (5/ 456)، وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان، ضعيف.
انظر: تقريب التهذيب لابن حجر (4734)، والكاشف للذهبي (3975).
(5) في جميع النسخ "إلى"، عدا (غ) و (ر).
(6) وهم الذين كانوا في الأزمنة التي فيها انقطاع من الرسل، وقد اختلف العلماء في حكمهم، وأرجح الأقوال فيهم أن الله يمتحنهم يوم القيامة، وبذلك ورد الحديث، فعن الأسود بن سريع أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أربعة يوم القيامة: رجل أصم لا يسمع شيئاً، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في فترة، فأما الأصم فيقول: رب لقد جاء الإسلام وما أسمع شيئاً، وأما الأحمق فيقول: رب لقد جاء الإسلام والصبيان يحذفوني بالبعر، وأما الهرم فيقول رب لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئاً، وأما الذي مات في الفترة، فيقول رب ما أتاني لك رسول، فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه، فيرسل إليهم أن ادخلوا النار قال فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم برداً وسلاماً". رواه أحمد (4/ 24)، والإمام البيهقي في الاعتقاد والهداية (ص111)، وصحح إسناده، ورواه ابن أبي عاصم في السنة عن أبي هريرة (1/ 176)، وعزاه الهيثمي إلى أحمد والبزار والطبراني، وقال عن لفظ أحمد والبزار: ورجاله رجال الصحيح. المجمع (7/ 219)، وصححه الشيخ الألباني.
انظر: ظلال الجنة (1/ 176)، والسلسلة الصحيحة برقم (1434).
وانظر المسألة في: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية (8/ 401)، طريق الهجرتين لابن القيم (ص396)، أضواء البيان للشنقيطي (3/ 374).
(7) في (خ) و (ط) و (غ): "واستنامه".(1/277)
عَلَيْهِ (1) الشَّرِيعَةُ، وَلَمْ يَدْرِ مَا (2) يَتَقَرَّبُ بِهِ (3) إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، (فَوَقَفَ عَنِ الْعَمَلِ) (4) بِكُلِّ مَا يَتَوَهَّمُهُ الْعَقْلُ (5) أَنَّهُ يُقَرِّبُ (6) إِلَى اللَّهِ، وَرَأَى مَا أَهْلُ عَصْرِهِ عَامِلُونَ بِهِ، مِمَّا لَيْسَ لَهُمْ فِيهِ مُسْتَنَدٌ إِلَّا اسْتِحْسَانُهُمْ، فَلَمْ يَسْتَفِزَّهُ (7) ذَلِكَ عَلَى (8) الْوُقُوفِ عَنْهُ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الدَّاخِلُونَ حَقِيقَةً تَحْتَ عُمُومِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (9).
وَقِسْمٌ لَابَسَ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ عَصْرِهِ مِنْ عبادة غير الله، والتحريم والتحليل (10) بالرأي، ووافقهم (11) في اعتقاد ما اعتقدوه من الباطل، فهؤلاء قد (12) نص العلماء على أنهم غير معذورين، وأنهم (13) مُشَارِكُونَ لِأَهْلِ عَصْرِهِمْ فِي الْمُؤَاخَذَةِ، لِأَنَّهُمْ وَافَقُوهُمْ في العمل والموالاة والمعادات على تلك الشرعة (14)، فصاروا (15) مِنْ أَهْلِهَا، فَكَذَلِكَ مَا نَحْنُ فِي الْكَلَامِ عَلَيْهِ، إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا (16).
وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يُطْلِقُ الْعِبَارَةَ وَيَقُولُ (17): كَيْفَمَا كَانَ لَا يُعَذَّب أحد إلا بعد مجيء (18) الرُّسُلِ وَعَدَمِ الْقَبُولِ مِنْهُمْ، وَهَذَا إِنْ ثَبَتَ قَوْلًا هَكَذَا، فَنَظِيرُهُ فِي مَسْأَلَتِنَا أَنْ يَأْتِيَ عَالِمٌ أَعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ الْمُنْتَصِبِ يُبَيِّنُ السُّنَّةَ مِنَ الْبِدْعَةِ، فَإِنْ رَاجَعَهُ هَذَا الْمُقَلِّدُ فِي أَحْكَامِ دِينِهِ، وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى الْأَوَّلِ، فَقَدْ أَخَذَ بِالِاحْتِيَاطِ الَّذِي هُوَ شَأْنُ الْعُقَلَاءِ وَرَجَاءَ (19) السلامة، وإن اقتصر على الأول
_________
(1) في (غ): "عنده"، وفي (ر): "عنه".
(2) في (غ): "بما".
(3) ساقطة من (م) و (ت) و (غ).
(4) ما بين المعكوفين غير واضح في (ت).
(5) في (غ): "الحق العقل".
(6) في (م) و (غ): "تقرب"، وغير واضح في (ت).
(7) في (غ) و (ر): "يستفززه".
(8) في (غ) و (ر): "عن".
(9) سورة الإسراء: آية (15).
(10) في (غ): "التحليل والتحريم".
(11) في (خ) و (ت) و (ط): "ووافقوهم".
(12) ساقطة من (خ) و (ط).
(13) ساقطة من (خ) و (ت) و (ط).
(14) في (غ): الشريعة.
(15) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "فصار".
(16) سيزيد المؤلف هذا الموضوع بياناً في الفصل الآتي.
(17) في (غ) و (ر): "فيقول".
(18) زيادة في (غ) و (ر).
(19) في (خ) بغير همزة، وكتب في هامش (ت): "ورجى" على أنها نسخة أخرى، وهو=(1/278)
ظهر عناده، لأنه مع هذا الفرق لَمْ يَرْضَ بِهَذَا الطَّارِئِ، وَإِذَا لَمْ يَرْضَهُ كَانَ (1) ذَلِكَ لِهَوًى دَاخَلَهُ، وَتَعَصُّبٍ جَرَى فِي قَلْبِهِ مَجْرَى الكَلَب (2) فِي صَاحِبِهِ، وَهُوَ إِذَا بَلَغَ هَذَا الْمَبْلَغَ لَمْ يَبْعُدْ (3) أَنْ يَنْتَصِرَ لِمَذْهَبِ صَاحِبِهِ، وَيُحَسِّنَهُ (4)، وَيَسْتَدِلَّ عَلَيْهِ بِأَقْصَى مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فِي عُمُومِيَّتِهِ. وَحُكْمُهُ قَدْ تَقَدَّمَ فِي الْقِسْمِ قَبْلَهُ.
فَأَنْتَ تَرَى صَاحِبَ الشَّرِيعَةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ حِينَ بُعِثَ إِلَى أصحاب (5) أهواء (6) وبدع قد (7) اسْتَنَدُوا إِلَى آبَائِهِمْ وَعُظَمَائِهِمْ فِيهَا، وَرَدُّوا مَا جَاءَ (بِهِ النَّبِيُّ) (8) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَغَطَّى عَلَى قُلُوبِهِمْ رَيْنُ الْهَوَى حَتَّى (الْتَبَسَتْ عَلَيْهِمُ الْمُعْجِزَاتُ) (9) بِغَيْرِهَا ـ كَيْفَ صَارَتْ شَرِيعَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ (10) وَالْعُمُومِ، وَصَارَ الْمَيِّتُ مِنْهُمْ مَسُوقًا (11) إِلَى النَّارِ (عَلَى الْعُمُومِ) (12)، مِنْ غَيْرِ تَفْرِقَةٍ بَيْنَ الْمُعَانِدِ صَرَاحًا وَغَيْرِهِ، وَمَا (13) ذَاكَ إِلَّا لِقِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، بِمُجَرَّدِ بَعْثَتِهِ (14) وَإِرْسَالِهِ لَهُمْ مُبَيِّنًا لِلْحَقِّ الَّذِي خَالَفُوهُ. فَمَسْأَلَتُنَا شَبِيهَةٌ بِذَلِكَ، فَمَنْ أَخَذَ بِالْحَزْمِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ، وَمَنْ تَابَعَ الْهَوَى خيف عليه الهلاك، وحسبنا الله.
_________
=معطوف على الاحتياط، وإن كان غير مهموز فهو معطوف على أخذ، على أنه فعل ماض.
(1) ساقطة من (غ).
(2) هو الداء المعروف، وتقدم (ص231).
(3) في (غ) و (ر): "يعد".
(4) ساقطة من (ط).
(5) غير واضحة في (ت).
(6) في (م): "أهوى".
(7) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "وقد".
(8) غير واضح في (ت).
(9) ما بين المعكوفين غير واضح في (ت).
(10) في (ت): "الطلاق".
(11) في (غ): "مسبوقاً".
(12) ساقط من (غ).
(13) في (م) و (ت) و (غ): "ما" بدون الواو.
(14) في (غ): "بعثته إليهم"، وفي (ر): "بعثه".(1/279)
فصل
وَلْنَزِدْ هَذَا الْمَوْضِعَ شَيْئًا مِنَ الْبَيَانِ فَإِنَّهُ أَكِيدٌ، لِأَنَّهُ (1) تَحْقِيقُ مَنَاطِ (2) الْكِتَابِ وَمَا احْتَوَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَسَائِلِ. فَنَقُولُ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ:
إِنَّ لَفْظَ "أَهْلِ الْأَهْوَاءِ"، وَعِبَارَةَ "أَهْلِ الْبِدَعِ" إِنَّمَا تُطْلَقُ حَقِيقَةً عَلَى الَّذِينَ ابْتَدَعُوهَا، وَقَدَّمُوا (3) فِيهَا شَرِيعَةَ (4) الْهَوَى، بِالِاسْتِنْبَاطِ وَالنَّصْرِ لَهَا، وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى صِحَّتِهَا فِي زَعْمِهِمْ، حَتَّى عُدَّ خِلَافُهُمْ خِلَافًا، وَشُبَهُهُمْ مَنْظُورًا فِيهَا، وَمُحْتَاجًا إِلَى رَدِّهَا وَالْجَوَابِ عنها، كما تقول فِي أَلْقَابِ الْفِرَقِ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ (5) وَالْقَدَرِيَّةِ (6) وَالْمُرْجِئَةِ (7) والخوارج (8) والباطنية (9) ومن أشبههم فإنها (10) أَلْقَابٌ لِمَنْ قَامَ بِتِلْكَ النِّحَلِ، مَا بَيْنَ مُسْتَنْبِطٍ لَهَا، وَنَاصِرٍ لَهَا، وَذَابٍّ عَنْهَا، كَلَفْظِ "أَهْلِ (11) السُّنَّةِ"، إِنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى نَاصِرِيهَا (12)، وَعَلَى من استنبط على وفقها، والحامين (13) لذمارها (14).
_________
(1) في (م) و (غ): "فإنه".
(2) مناط الشيء علته. انظر: علم أصول الفقه لعبد الوهاب خلاف (ص68).
(3) في (م) و (ت): "وأقوموا"، وفي هامش (ت): "وقدموا"، وفي (غ) و (ر): "وأقاموا".
(4) في (غ) و (ر): "شرعة".
(5) تقدم التعريف بهم (ص29).
(6) تقدم التعريف بهم (ص11).
(7) تقدم التعريف بهم (ص27).
(8) تقدم التعريف بهم (ص11).
(9) تقدم التعريف بهم (ص28).
(10) في (خ) و (ت) و (ط): "بأنها".
(11) ساقطة من (ر).
(12) في (ر): "ناصر لها".
(13) في (م) و (غ): "والحاملين على لذمارها"، وفي (ت): "والحاملين لذمارها". قال في الصحاح: الذمار: ما وراء الرجل مما يحق عليه أن يحميه. (2/ 665).
(14) وكذلك يدخل العوام في مسمى أهل السنة والجماعة، إذا اقتدوا بأئمة أهل السنة وهم الصحابة وخيار التابعين وأهل الحديث.
انظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم (2/ 271).(1/280)
وَيُرَشِّحُ ذَلِكَ (1) أَنَّ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} (2) يشعر بإطلاق اللفظ على من فعل (3) ذَلِكَ الْفِعْلَ الَّذِي هُوَ التَّفْرِيقُ، وَلَيْسَ إِلَّا الْمُخْتَرِعُ أَوْ مَنْ قَامَ مَقَامَهُ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تعالى: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} (4)، وقوله تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} (5)، فَإِنَّ اتِّبَاعَ الْمُتَشَابِهِ مُخْتَصٌّ بِمَنِ انْتَصَبَ مَنْصِبَ الْمُجْتَهِدِ (6) لَا بِغَيْرِهِمْ (7).
وَكَذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ عالم اتخذ الناس رؤوساً (8) جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم" (9)، فأقاموا (10) أَنْفُسَهُمْ مَقَامَ الْمُسْتَنْبِطِ لِلْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، الْمُقْتَدَى (11) بِهِ فِيهَا، بِخِلَافِ الْعَوَامِّ، فَإِنَّهُمْ مُتَّبِعُونَ لِمَا تَقَرَّرَ عِنْدَ عُلَمَائِهِمْ، لِأَنَّهُ (12) فَرْضُهُمْ، فَلَيْسُوا بِمُتَّبِعِينَ لِلْمُتَشَابِهِ حَقِيقَةً، وَلَا هُمْ مُتَّبِعُونَ لِلْهَوَى. وَإِنَّمَا يَتَّبِعُونَ مَا يُقَالُ لَهُمْ كَائِنًا مَا كَانَ، فَلَا يُطْلَقُ عَلَى الْعَوَامِّ لَفْظُ "أَهْلِ الْأَهْوَاءِ" حَتَّى يخوضوا بأنظارهم فيها، ويحسنوا بها (13) وَيُقَبِّحُوا. وَعِنْدَ ذَلِكَ يَتَعَيَّنُ لِلَفْظِ "أَهْلِ الْأَهْوَاءِ" و"أهل البدع" مدلول واحد، وهو من (14) انتصب للابتداع ولترجيحه على غيره.
أما (15) أهل الغفلة عن ذلك، والسالكون سبيل (16) رُؤَسَائِهِمْ (17) بِمُجَرَّدِ التَّقْلِيدِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ، فَلَا (18).
_________
(1) ساقطة من (م) و (ت).
(2) سورة الأنعام: آية (159).
(3) في (خ) و (ط): "جعل"، وهي غير واضحة في (ت).
(4) سورة آل عمران: آية (105).
(5) سورة آل عمران: آية (7).
(6) ساقطة من (غ).
(7) في (خ) و (ط): "لا بغير".
(8) في (خ) و (غ): "رؤساء"، وكلاهما روايتان في الحديث.
(9) تقدم تخريج الحديث (ص125).
(10) في (خ) و (ط): "لأنهم قاموا".
(11) في (خ): "المنتدا".
(12) في (ت): "لأن".
(13) في (خ) و (ط): "ويحسنوا بنظرهم".
(14) في (خ) و (ط): وهو أن من انتصب .. ".
(15) في (ط): "وأما".
(16) في (خ) و (ط): "سبل".
(17) في (غ) و (ر): وسائلهم.
(18) سوف يبين المؤلف فيما يأتي أن المقلدين لأئمة المبتدعة عندهم نوع استدلال يدخلهم في مسمى أهل الابتداع.(1/281)
فَحَقِيقَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهَا تَحْتَوِي عَلَى قِسْمَيْنِ: مُبْتَدِعٍ وَمُقْتَدٍ بِهِ.
فَالْمُقْتَدِي بِهِ كَأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْعِبَارَةِ بِمُجَرَّدِ الِاقْتِدَاءِ، لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ التبع (1)، وَالْمُبْتَدِعُ هُوَ الْمُخْتَرِعُ، أَوِ الْمُسْتَدِلُّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ الِاخْتِرَاعِ، وَسَوَاءٌ عَلَيْنَا أَكَانَ ذَلِكَ الِاسْتِدْلَالُ مِنْ قَبِيلِ الْخَاصِّ (2) بِالنَّظَرِ (3) فِي الْعِلْمِ، أَوْ كَانَ مِنْ قَبِيلِ الِاسْتِدْلَالِ الْعَامِّيِّ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ ذَمَّ أَقْوَامًا قَالُوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} (4)، فكأنهم استندوا (5) إِلَى دَلِيلٍ جُمْلِيٍّ، وَهُوَ الْآبَاءُ إِذْ (6) كَانُوا عندهم (7) من أهل العقل والنظر (8)، وَقَدْ كَانُوا عَلَى هَذَا الدِّينِ، وَلَيْسَ إِلَّا لِأَنَّهُ صَوَابٌ، فَنَحْنُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ خطأ لما ذهبوا إليه.
وهو نظير استدلال (9) مَنْ يَسْتَدِلُّ عَلَى صِحَّةِ الْبِدْعَةِ بِعَمَلِ الشُّيُوخِ وَمَنْ يُشَارُ إِلَيْهِ بِالصَّلَاحِ، وَلَا يُنْظَرُ إِلَى كَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِي الشَّرِيعَةِ أَوْ من أهل التقليد، ولا إلى (10) كَوْنِهِ يَعْمَلُ بِعِلْمٍ أَوْ بِجَهْلٍ (11)، وَلَكِنَّ مِثْلَ هَذَا يُعَدُّ اسْتِدْلَالًا فِي الْجُمْلَةِ، مِنْ حَيْثُ جُعِلَ عُمْدَةً فِي اتِّبَاعِ الْهَوَى، وَاطِّرَاحِ مَا سِوَاهُ. فَمَنْ أَخَذَ بِهِ فَهُوَ آخِذٌ بِالْبِدْعَةِ (12) بِدَلِيلٍ مِثْلِهِ، وَدَخَلَ فِي مُسَمَّى أَهْلِ الِابْتِدَاعِ (13)، إذ كان من حق من (14) هذا (15) سبيله أن ينظر في الحق إذ (16) جاءه، ويبحث عنه (17)، ويتأنى ويسأل حتى يتبين له الحق (18) فيتبعه، أو الباطل (19) فيجتنبه.
_________
(1) في (ط): "المتبع".
(2) في (غ): "الخواص".
(3) في (غ) و (ر): "بالناظرين".
(4) سورة الزخرف: آية (22).
(5) في (ط): "استدلوا".
(6) في (خ) و (ط): "إذا".
(7) في (م): "عنهم".
(8) ساقطة من (خ) و (ط).
(9) ساقطة من (خ) و (ط).
(10) ساقطة من (خ) و (ت) و (ط).
(11) في (خ): "أو يجهل".
(12) في (غ) و (ر): "للبدعة".
(13) ساقطة من (م)، وفي (غ): "الابتداع".
(14) ساقطة من (ت).
(15) في (خ) و (ط): "من كان هذا سبيله".
(16) في (خ) و (ط)؛ "أن".
(17) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط).
(18) ساقطة من (خ) و (ط).
(19) في (م) و (غ): "والباطل".(1/282)
وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى رَدًّا عَلَى الْمُحْتَجِّينَ بِمَا (1) تَقَدَّمَ: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} (2)، وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} (3)، فَقَالَ تَعَالَى: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ} (4)، وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: {أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} (5)، وأمثال ذلك كثير.
وَعَلَامَةُ مَنْ هَذَا شَأْنُهُ أَنْ يَرُدَّ خِلَافَ مذهبه بما قدر (6) عَلَيْهِ مِنْ شُبْهَةِ دَلِيلٍ تَفْصِيلِيٍّ أَوْ إِجْمَالِيٍّ، وَيَتَعَصَّبُ لِمَا هُوَ عَلَيْهِ، غَيْرَ مُلْتَفِتٍ إِلَى غيره، وهو عين اتباع الهوى، (وإذا ظهر اتِّبَاعِ الْهَوَى) (7) فَهُوَ الْمَذْمُومُ حَقًّا، وَعَلَيْهِ يَحْصُلُ الإثم، فإن كان (8) مسترشداً مال إلى الحق حيثما (9) وَجَدَهُ، وَلَمْ يَرُدَّهُ. وَهُوَ (10) الْمُعْتَادُ فِي طَالِبِ الحق، ولذلك بادر المحقون (11) إِلَى اتِّبَاعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ. فَإِنْ لَمْ يَجِدْ سِوَى مَا تَقَدَّمَ لَهُ مِنِ الْبِدْعَةِ، ولم يدخل مع المتعصبين (12)، لَكِنَّهُ عَمِلَ بِهَا، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ أَهْلَ الْفَتْرَةِ مُعَذَّبُونَ عَلَى الْإِطْلَاقِ إِذَا اتَّبَعُوا مَنِ اخْتَرَعَ مِنْهُمْ، فَالْمُتَّبِعُونَ لِلْمُبْتَدَعِ إِذَا (13) لَمْ يَجِدُوا مُحِقًّا مُؤَاخَذُونَ أَيْضًا، وَإِنْ قُلْنَا: لَا يُعَذَّبُونَ حَتَّى يُبْعَثَ لَهُمُ الرَّسُولُ (14) وَإِنْ عَمِلُوا بِالْكُفْرِ، فهؤلاء لا يؤاخذون ما لم يكن فيهم (15) محق (16)، فإذ ذاك
_________
(1) في (غ) و (ر): "لما".
(2) سورة الزخرف: آية (24).
(3) سورة البقرة: آية (170).
(4) نفس الآية السابقة.
(5) سورة لقمان، آية (21).
(6) ساقطة من (خ) و (ط).
(7) ما بين المعكوفين ساقط من (خ) و (ط).
(8) في (خ) و (ط): "من كان".
(9) في (خ) و (ط): "حيث".
(10) في (غ): "وهذا".
(11) في (ط): "المحققون".
(12) في (خ) و (ط): "المتعاصيين"، وفي (م) و (ت): "المتعاصبين".
(13) في (م): "إذ".
(14) في (غ): "الرسل".
(15) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "فيه".
(16) وإعذار المبتدع الجاهل الذي يشبه أهل الفترة هو رأي شيخ الإسلام ابن تيمية، كما في الفتاوى (35/ 164 ـ 165)، وقد فصل الكلام في هذه الأحكام وجمع أقوال العلماء فيها الأستاذ سعيد بن ناصر الغامدي في كتابه حقيقة البدعة وأحكامها (وهي رسالة جامعية) (2/ 223 ـ 327).(1/283)
يُؤَاخَذُونَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمْ (1) مَعَهُ بَيْنَ (2) أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَتَّبِعُوهُ عَلَى طَرِيقِ الْحَقِّ فيتركوا ما هم عليه، وإما ألا يَتَّبِعُوهُ، فَلَا بُدَّ مِنْ عِنَادٍ مَا وَتَعَصُّبٍ، فَيَدْخُلُونَ إِذْ ذَاكَ تَحْتَ عِبَارَةِ "أَهْلِ الْأَهْوَاءِ" فيأثمون.
وكل (3) من (4) اتبع بيان بن (5) سَمْعَانَ (6) فِي بِدْعَتِهِ الَّتِي اشْتُهِرَتْ (7) عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، مقلداً لها (8) على حكم الرضى (9) بِهَا، وَرَدَّ مَا سِوَاهَا، فَهُوَ فِي الْإِثْمِ مَعَ مَنِ اتَّبَعَ، فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ مَعْبُودَهُ في صورة إنسان (10)، وَأَنَّهُ (11) يَهْلِكُ كُلُّهُ إِلَّا وَجْهَهُ (12)، ثُمَّ زَعَمَ أَنَّ رُوحَ الْإِلَهِ حَلَّ فِي عَلِيٍّ، ثُمَّ فِي فُلَانٍ، ثُمَّ فِي بَيَانِ نَفْسِهِ (13).
وَكَذَلِكَ مَنِ اتَّبَعَ الْمُغِيرَةَ (14) بْنَ (سَعِيدٍ) (15) الْعِجْلِيَّ (16) الَّذِي ادعى
_________
(1) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "إنه".
(2) في (خ) كتب قوله: "معه بين" بلفظ "معذبين" وكأن الناسخ دمج الكلمتين معاً.
(3) في (غ) و (ر): "فكل".
(4) ساقطة من (م) و (ت).
(5) ساقطة من (م) و (ت) و (خ) و (ط).
(6) هو بيان بن سمعان التميمي، وهو من غلاة الشيعة القائلين بإلهية علي رضي الله عنه، فقد قال أنه حل في علي جزء إلهي، ثم انتقل من بعده في ابنه محمد بن الحنفية، ثم في أبي هاشم ولد ابن الحنفية، ثم في بيان نفسه، وقد دعا إلى نفسه وكتب إلى محمد بن علي بن الحسين الباقر يدعوه إلى نفسه، وقد قتله خالد بن عبد الله القسري بالعراق وأحرقه بالنار قبل عام 126هـ.
انظر: الملل والنحل للشهرستاني (ص152)، ميزان الاعتدال للذهبي (1/ 357)، الفرق بين الفرق للبغدادي (ص194).
(7) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "استمرت".
(8) في (خ) و (ط): "فيها".
(9) في (خ) و (ط): "الرضاء" بالهمزة.
(10) في (ط): "الإنسان".
(11) في (م): "وأن".
(12) في (خ) و (ط): "وجه".
(13) انظر: هذه الضلالات المنقولة عنه في مراجع ترجمته.
(14) في (م): "الغيرة".
(15) في جميع النسخ: "سعد"، والصحيح "سعيد" كما في مصادر ترجمته.
(16) هو المغيرة بن سعيد العجلي الذي تنسب إليه فرقة المغيرية من غلاة الشيعة، وكان مولى لخالد القسري، وقد ادعى النبوة، وغلا في حق علي رضي الله عنه وجاء بضلالات في وصف الخالق سبحانه، وقد قتله خالد القسري سنة 120هـ.=(1/284)
النُّبُوَّةَ مُدَّةً، وَزَعَمَ أَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى بِالِاسْمِ الْأَعْظَمِ، وَأَنَّ لِمَعْبُودِهِ أَعْضَاءً عَلَى حُرُوفِ الْهِجَاءِ، عَلَى كَيْفِيَّةٍ يَشْمَئِزُّ مِنْهَا قَلْبُ الْمُؤْمِنِ، إِلَى إِلْحَادَاتٍ أُخَرَ (1).
وَكَذَلِكَ مَنِ اتَّبَعَ الْمَهْدِيَّ الْمَغْرِبِيَّ (2) الْمَنْسُوبَ إِلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ بِدَعِ الْمَغْرِبِ، فَهُوَ في التسمية والإثم (3) مَعَ مَنِ اتَّبَعَ، إِذَا انْتَصَبَ نَاصِرًا لَهَا، وَمُحْتَجًّا عَلَيْهَا.
وَقَانَا اللَّهُ شَرَّ التَّعَصُّبِ عَلَى غير بصيرة من الحق بفضله ورحمته.
_________
=انظر: الملل والنحل للشهرستاني (ص176)، ميزان الاعتدال للذهبي (4/ 160)، الكامل لابن الأثير (4/ 428).
(1) انظر: ما كان يقوله من ضلالات في مراجع ترجمته.
(2) هو محمد بن عبد الله بن تومرت البربري، المدعى أنه علوي حسني، وأنه الإمام المعصوم، حصل أطرافاً من العلم، وألف عقيدة لقبها بالمرشدة، فيها توحيد وخير بانحراف، فحمل عليها أتباعه، وسماهم الموحدين، ونبز من خالف المرشدة بالتجسيم، وأباح دمه. توفي سنة 524هـ، وترجمته في السير فيها خير وشر، وقال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية أنه دخل في أمور منكرة، وفعل أموراً حسنة.
انظر: منهاج السنة (4/ 99)، سير أعلام النبلاء (19/ 539).
وسوف يتكلم المؤلف عن بعض أعمال أتباعه في (ص320 ـ 321)، وكذلك في المجلد الثاني (من المطبوع) (2/ 226، 348).
(3) في (خ) و (ط): "الإثم والتسمية"، وفي (غ): "وفي الإثم".(1/285)
فصل
وإذا (1) ثبت أن المبتدع آثم، فليس (2) الإثم الْوَاقِعُ عَلَيْهِ عَلَى رُتْبَةٍ وَاحِدَةٍ، بَلْ هُوَ عَلَى مَرَاتِبَ مُخْتَلِفَةٍ، (وَاخْتِلَافُهَا يَقَعُ مِنْ جِهَاتٍ بِحَسَبِ النَّظَرِ الْفِقْهِيِّ، فَيَخْتَلِفُ) (3) مِنْ جِهَةِ كَوْنِ صاحبها (مدعياً للاجتهاد فيها أو مقلداً أو من جهة وقوعها في الضروريات أو الحاجيات أو التحسينيات، وكل مرتبة منها لها في نفسها مراتب، وَمِنْ جِهَةِ كَوْنِ صَاحِبِهَا) (4) مُسْتَتِرًا بِهَا أَوْ معلناً، (ومن جهة كونه داعياً لها أو غير داع لها، وَمِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مَعَ الدُّعَاءِ إِلَيْهَا خَارِجًا عَلَى غَيْرِهِ أَوْ غَيْرَ خَارِجٍ) (5)، وَمِنْ جِهَةِ كَوْنِ الْبِدْعَةِ حَقِيقِيَّةً (6) أَوْ إِضَافِيَّةً، وَمِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا بَيِّنَةً أَوْ مُشْكِلَةً، وَمِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا كُفْرًا أَوْ غَيْرَ كُفْرٍ، وَمِنْ جِهَةِ الْإِصْرَارِ عَلَيْهَا أَوْ عَدَمِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي (7) يُقْطَعُ مَعَهَا بِالتَّفَاوُتِ فِي عِظَمِ الْإِثْمِ وَعَدَمِهِ، أَوْ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ.
وَهَذَا الْمَعْنَى، وَإِنْ لَمْ يَخْفَ عَلَى الْعَالِمِ بِالْأُصُولِ، فَلَا (يَنْبَغِي أَنْ) (8) يُتْرَكَ التَّنْبِيهُ عَلَى وَجْهِ التَّفَاوُتِ بِقَوْلٍ جَمْلِيٍّ، فَهُوَ الْأَوْلَى فِي هَذَا الْمَقَامِ.
فَأَمَّا الِاخْتِلَافُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِ صَاحِبِهَا مُدَّعِيًا لِلِاجْتِهَادِ أَوْ مُقَلِّدًا فَظَاهِرٌ، لِأَنَّ الزَّيْغَ فِي قَلْبِ النَّاظِرِ فِي الْمُتَشَابِهَاتِ ابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهَا أمكن منه (9) في قلب
_________
(1) في (غ) و (ر): "إذا".
(2) في (غ) و (ر): "فعليه".
(3) ما بين المعكوفين ساقط من (خ) و (ت) و (ط).
(4) ما بين المعكوفين أثبته من (غ) و (ر)، وسقط من بقية النسخ.
(5) ما بين المعكوفين ساقط من (خ) و (ط).
(6) في (خ): "حقيقة".
(7) في (ت): "الذي".
(8) ما بين المعكوفين ساقط من (خ) و (ط).
(9) ساقطة من (م)، وكتبت في (ت) فوق السطر.(1/286)
الْمُقَلِّدِ، وَإِنِ ادَّعَى النَّظَرَ أَيْضًا، لِأَنَّ الْمُقَلِّدَ النَّاظِرَ لَا بُدَّ مِنِ اسْتِنَادِهِ إِلَى مُقَلَّدِهِ في بعض الأصول التي يبني عليها، والمقلد (1) قد انفرد بها دونه، فهو آخذ بحظ لَمْ (2) يَأْخُذْ فِيهِ الْآخَرُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمُقَلِّدُ نَاظِرًا لِنَفْسِهِ، فَحِينَئِذٍ (3) لَا يَدَّعِي رُتْبَةَ التَّقْلِيدِ، فَصَارَ فِي دَرَجَةِ الْأَوَّلِ، وَزَادَ عَلَيْهِ الْأَوَّلُ بِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ تِلْكَ السُّنَّةَ السَّيِّئَةَ، فَيَكُونُ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عمل بها. وهذا الثاني قد (4) عَمِلَ بِهَا، فَيَكُونُ عَلَى الْأَوَّلِ مِنْ إِثْمِهِ مَا عَيَّنَهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ، فَوِزْرُهُ أَعْظَمُ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ.
وَالثَّانِي دُونَهُ، لِأَنَّهُ إِنْ نَظَرَ وعاند (5) الحق، واحتج لرأيه، فليس له النظر (6) إلا فِي (7) أَدِلَّةٍ جُمْلِيَّةٍ لَا تَفْصِيلِيَّةٍ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ، فَإِنَّ الْأَدِلَّةَ التَّفْصِيلِيَّةَ أَبْلَغُ فِي الِاحْتِجَاجِ عَلَى عَيْنِ (8) الْمَسْأَلَةِ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْجُمْلِيَّةِ، فَتَكُونُ الْمُبَالَغَةُ فِي الْوِزْرِ (9) بِمِقْدَارِ الْمُبَالَغَةِ فِي الِاسْتِدْلَالِ.
وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ مِنْ جِهَةِ وُقُوعِهَا فِي الضَّرُورِيَّاتِ (10) أَوْ غَيْرِهَا فَالْإِشَارَةُ إِلَيْهِ سَتَأْتِي عِنْدَ التَّكَلُّمِ عَلَى أَحْكَامِ الْبِدَعِ (11).
وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ مِنْ جِهَةِ الإسرار (12) والإعلان، فظاهر أن المسر (13) لها (14) ضَرَرُهُ (15) مَقْصُورٌ عَلَيْهِ، لَا يَتَعَدَّاهُ إِلَى غَيْرِهِ، فَعَلَى أَيِّ صُورَةٍ فُرِضَتِ الْبِدْعَةُ، مِنْ كَوْنِهَا كَبِيرَةً أَوْ صَغِيرَةً أَوْ مَكْرُوهَةً (16)، هِيَ بَاقِيَةٌ على
_________
(1) في (خ) و (ت) و (ط): "أو المقلد".
(2) في جميع النسخ: "ما لم" عدا (ر) و (غ).
(3) في (ت) كتبت هكذا "فح"، وكذلك في (غ).
(4) في (خ) و (ط): "من".
(5) في (م): "وعناد".
(6) ساقطة من (خ) و (ط).
(7) ساقطة من (خ) و (ط).
(8) في (غ) و (ر): "غير".
(9) في (غ): "الوزن".
(10) هي الضروريات الخمس، وهي الدين والنفس والنسل والعقل والمال.
(11) وذلك في الباب السادس (2/ 38 ـ 49).
(12) في (غ) و (ر): "الإصرار".
(13) في (غ): "المصر".
(14) في (ط): "بها".
(15) في (غ) و (ر): "ضرورة".
(16) تناول المؤلف هذه الأحكام للبدعة في الباب السادس (2/ 36، 57 ـ 72).(1/287)
أَصْلِ حُكْمِهَا. فَإِذَا أَعْلَنَ بِهَا ـ وَإِنْ لَمْ يَدْعُ إِلَيْهَا ـ فَإِعْلَانُهُ بِهَا (1) ذَرِيعَةٌ إِلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِ.
وَسَيَأْتِي ـ بِحَوْلِ اللَّهِ ـ أَنَّ الذَّرِيعَةَ قَدْ تجري مجرى المتذرع إليه (2) أو تقاربه (3)، فَانْضَمَّ إِلَى وِزْرِ الْعَمَلِ بِهَا وِزْرُ نَصْبِهَا لمن يقتدى به فيها، فالوزر (4) فِي ذَلِكَ أَعْظَمُ بِلَا إِشْكَالٍ.
وَمِثَالُهُ مَا حَكَى الطَّرْطُوشِيُّ (5) فِي أَصْلِ الْقِيَامِ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيِّ (6) قَالَ: "لَمْ يَكُنْ عِنْدَنَا بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ صَلَاةُ الرَّغَائِبِ هَذِهِ الَّتِي تُصَلَّى فِي رَجَبَ وَشَعْبَانَ (7). وَأَوَّلُ مَا أُحْدِثَتْ (8) عِنْدَنَا فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ وأربعمئة، قدم علينا في بيت المقدس رجل (9) يُعْرَفُ بِابْنِ أَبِي الْحَمْرَاءِ، وَكَانَ حَسَنَ التِّلَاوَةِ، فَقَامَ فَصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَأَحْرَمَ خَلْفَهُ رَجُلٌ، ثُمَّ انْضَافَ إِلَيْهِمَا ثَالِثٌ وَرَابِعٌ، فَمَا خَتَمَهَا إِلَّا وَهُوَ (10) فِي جَمَاعَةٍ كَبِيرَةٍ، ثُمَّ جَاءَ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ فَصَلَّى مَعَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ، وَشَاعَتْ فِي الْمَسْجِدِ، وَانْتَشَرَتِ الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَبُيُوتِ النَّاسِ وَمَنَازِلِهِمْ، ثُمَّ اسْتَمَرَّتْ (11) كَأَنَّهَا سُنَّةٌ إِلَى يومنا هذا (12) ".
_________
(1) ساقطة من (غ) و (ر).
(2) في (غ): "إليها".
(3) في (خ) و (ط): "تفارقه"، والمسألة يأتي الكلام عليها في الباب الخامس (1/ 344).
(4) في (خ) و (ط): "والوزر".
(5) تقدمت ترجمته (ص285).
(6) قال الإمام أبو شامة بعدما ذكر كلام الطرطوشي هنا: قلت: أبو محمد هذا أظنه عبد العزيز بن أحمد بن عمر بن إبراهيم المقدسي، روى عنه مكي بن عبد السلام الرميلي الشهيد، ووصفه بالشيخ الصالح الثقة، والله أعلم.
انظر: الباعث على إنكار البدع والحوادث (ص51).
(7) قال الإمام أبو شامة في التعريف بهذه الصلاة: "وأما الألفية: فصلاة ليلة النصف من شعبان، سميت بذلك لأنها يقرأ فيها ألف مرة سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ *}، لأنها مئة ركعة، في كل ركعة يقرأ الفاتحة مرة وبعدها سورة الإخلاص عشر مرات، وهي صلاة طويلة مستثقلة .. ". الباعث على إنكار البدع (ص50).
(8) في (م) و (غ): "حدثت".
(9) في (خ) و (ط): "قدم علينا رجل في بيت المقدس".
(10) في (م) و (ت): "وهم".
(11) في (غ) و (ر): "استقرت".
(12) ساقطة من (م) و (غ).(1/288)
فقلت له: فأنا (1) رأيتك (2) تُصَلِّيهَا فِي جَمَاعَةٍ، قَالَ: "نَعَمْ! وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ منها" (3).
وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ مِنْ جِهَةِ الدَّعْوَةِ إِلَيْهَا وَعَدَمِهَا (4)، فَظَاهَرٌ أَيْضًا، لِأَنَّ غَيْرَ الدَّاعِي، وَإِنْ كَانَ عرضه للاقتداء (5)، فَقَدْ لَا يُقْتَدَى بِهِ، وَيَخْتَلِفُ النَّاسُ فِي تَوَفُّرِ دَوَاعِيهِمْ (6) عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِ، إِذْ قَدْ يَكُونُ خَامِلَ الذِّكْرِ، وَقَدْ يَكُونُ مُشْتَهِرًا وَلَا يُقْتَدَى بِهِ لِشُهْرَةِ مَنْ هُوَ أَعْظَمُ عِنْدَ الناس منزلة منه.
وأما (7) الداعي (8) إذا دعى إليها فمظنة الاقتداء أحرى (9) وَأَظْهَرُ، وَلَا سِيَّمَا (10) الْمُبْتَدَعِ اللَّسِنِ (11) الْفَصِيحِ الْآخِذِ بِمَجَامِعِ الْقُلُوبِ، إِذَا أَخَذَ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَأَدْلَى بِشُبْهَتِهِ (12) الَّتِي تُدَاخِلُ الْقَلْبَ بِزُخْرُفِهَا (13)، كَمَا كَانَ مَعْبَدٌ الْجُهَنِيُّ (14) يَدْعُو النَّاسَ إِلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْقَدَرِ، وَيَلْوِي بِلِسَانِهِ نسبته إلى الحسن البصري (15).
_________
(1) مثبتة في (غ) وساقطة من بقية النسخ.
(2) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "فرأيتك".
(3) ذكره الطرطوشي في الحوادث والبدع (ص266).
(4) في (م) و (ت): "وعدمه".
(5) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "بالاقتداء".
(6) في (م): "تداعيهم".
(7) في (م) و (غ): "فأما".
(8) ساقطة من (م) و (ت)، و (غ).
(9) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "أقوى".
(10) في (م) و (ت): "يسمى"، وهي ساقطة من (غ).
(11) ساقطة من (غ).
(12) في (غ): "بشبهه".
(13) في (م): "يزخرفها".
(14) هو المبتدع القدري معبد بن خالد الجهني، ويقال إنه ابن عبد الله بن عكيم. وهو أول من أظهر القدر بالبصرة في زمن الصحابة، وقد أخذ بدعته عن رجل نصراني يقال له سوسن، وقد أخذ عنه غيلان الدمشقي، وقتل معبد صلبا في زمن عبد الملك بن مروان سنة 80هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء (4/ 185)، الكاشف للذهبي (3/ 142)، تقريب التهذيب (2/ 262).
(15) الذي يظهر أن المراد "عمرو بن عبيد"، وليس "معبد الجهني"، لأن عمرو بن عبيد هو الذي أخذ عن الحسن، وهو الذي كان يكذب عليه، ويدل على أنه المراد القصة التي سيوردها المؤلف عنه.(1/289)
فَرُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ (1): أَنَّ عَمْرَو بْنَ عُبَيْدٍ (2) سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَأَجَابَ فِيهَا، وَقَالَ: (هُوَ مِنْ رَأْيِ الْحَسَنِ) فَقَالَ لَهُ الرجل: إِنَّهُمْ (3) يَرْوُونَ عَنِ الْحَسَنِ خِلَافَ هَذَا، فَقَالَ: ((إِنَّمَا قُلْتُ) (4) لَكَ: هَذَا مِنْ رَأْيِي (5) الْحَسَنِ) يُرِيدُ نَفْسَهُ (6).
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ (7): كَانَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ إِذَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ قَالَ: (هَذَا مِنْ قَوْلِ (8) الْحَسَنِ)، فَيُوهِمُ أَنَّهُ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ، وَإِنَّمَا هو قوله (9).
وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ خَارِجًا عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ أَوْ غَيْرَ خَارِجٍ، فَلِأَنَّ غَيْرَ الْخَارِجِ لَمْ يَزِدْ عَلَى الدَّعْوَةِ مَفْسَدَةً أُخْرَى يترتب عليها إِثْمٌ، وَالْخَارِجُ زَادَ الْخُرُوجَ عَلَى الْأَئِمَّةِ ـ وَهُوَ مُوجِبٌ لِلْقَتْلِ ـ وَالسَّعْيَ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ (10)، وَإِثَارَةَ الفتن والحروب (11)، زيادة (12) إلى حصول
_________
(1) تقدمت ترجمته رحمه الله (ص110).
(2) تقدمت ترجمته وحكاية بعض أقواله الرديئة (226).
(3) ساقطة من (م).
(4) ساقطة من (ت).
(5) في (م) و (خ) و (ت): رأي بياء واحدة، والصواب المثبت كما في الكامل لابن عدي. وقال الشيخ رشيد رضا: "رأيي هنا بيائين، الثانية ياء المتكلم، وهذا هو معنى "لي اللسان بالكلام"، لأجل التدليس والإيهام، ولكن الناسخ كتبها بياء واحدة كالتي قبلها، لأنه لم يفهم، ولم يعرف الرواية، ولأجل هذا لم يكن يقول: هذا رأي الحسن، وهذا قول الحسن، إذ لا يحتمل هذا إلا معنى واحداً، فإذا قال: من رأيي الحسن، ومن قولي الحسن، تحذف ياء المتكلم لالتقاء الساكنين، فيكون المسموع: هذا من رأي الحسن، وهذا من قول الحسن، فيقع الإيهام المراد".
(6) رواه عنه من طريق سفيان بن عيينة الإمام ابن عدي في كتاب الكامل في ضعفاء الرجال (5/ 97).
(7) هو محمد بن عبد الله بن المثنى بن عبد الله بن أنس بن مالك الأنصاري، قضى بالبصرة في أيام الرشيد، وكان ثقة. توفي سنة 215هـ.
انظر: تهذيب الكمال (25/ 539)، طبقات ابن سعد (7/ 294)، تقريب التهذيب (2/ 180).
(8) في (ر): "قولي" بياء.
(9) رواه الإمام ابن عدي في الكامل (5/ 103).
(10) في (م): "الفساد".
(11) في (غ): "الحرب".
(12) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط).(1/290)
الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ أُولَئِكَ الْفِرَقِ، فَلَهُ مِنَ الْإِثْمِ الْعَظِيمِ أَوْفَرُ حَظٍّ.
وَمِثَالُهُ قِصَّةُ الْخَوَارِجِ (1) الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ، ويَدَعُون أَهْلَ الْأَوْثَانِ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ) (2) وَأَخْبَارُهُمْ شَهِيرَةٌ.
وَقَدْ لَا يَخْرُجُونَ هَذَا الْخُرُوجَ، بَلْ يَقْتَصِرُونَ عَلَى الدَّعْوَةِ، لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ أَدْعَى إِلَى الْإِجَابَةِ، لِأَنَّ فِيهِ (3) نَوْعًا مِنَ الْإِكْرَاهِ وَالْإِخَافَةِ، فَلَا هُوَ مُجَرَّدُ دعوة، ولا هو شق للعصا (4) مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. وَذَلِكَ أَنْ يَسْتَعِينَ عَلَى دعوته (5) بِأُولِي الْأَمْرِ مِنَ الْوُلَاةِ وَالسَّلَاطِينِ، فَإِنَّ الِاقْتِدَاءَ هُنَا أَقْوَى بِسَبَبِ (6) خَوْفِ الْوُلَاةِ فِي الْإِيقَاعِ بِالْآبِي سِجْنًا أَوْ ضَرْبًا أَوْ قَتْلًا، كَمَا اتفق لبشر المريسي (7) في زمان (8) الْمَأْمُونِ (9)، وَلِأَحْمَدَ بْنِ أَبِي (دُؤَادَ) (10) فِي خِلَافَةِ
_________
(1) تقدم التعريف بهم (ص11).
(2) تقدم تخريج الحديث (ص12).
(3) ساقطة من (غ).
(4) في (ت) و (ط): "العصا".
(5) في (خ) و (ط): "دعوة".
(6) في (غ) و (ر): "لسبب".
(7) هو بشر بن غياث بن أبي كريمة العدوي مولاهم البغدادي المريسي، كان من الفقهاء، فلما نظر في الكلام غلب عليه، فانسلخ من الورع والتقوى، وجرد القول بخلق القرآن، ودعا إليه، حتى كان عين الجهمية في عصره، وعالمهم، فمقته أهل العلم، وكفره عدة. توفي سنة 118هـ.
انظر: تاريخ بغداد (7/ 56) العبر (1/ 373)، سير أعلام النبلاء (10/ 199).
(8) في (خ) و (ط) و (غ): "زمن".
(9) هو أبو العباس عبد الله بن هارون الرشيد، الخليفة العباسي المشهور، ولد سنة 170هـ، وقرأ العلم والأدب والأخبار والعقليات وعلوم الأوائل، وأمر بتعريب كتبهم وبالغ، ومحاسنه كثيرة في الجملة، وكان يحب العلم، ولم يكن له بصيرة نافذة فيه، فتأثر بمذهب الاعتزال، واعتقده، وامتحن أهل السنة بسببه، فأخذه الله، وكان كثير الغزو. توفي سنة 218هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء (10/ 272)، البداية والنهاية (10/ 287)، شذرات الذهب (2/ 39).
(10) في (م) و (خ) و (ت) و (غ): "داود" والصواب المثبت.
وهو أحمد بن أبي دؤاد الإيادي المعتزلي الجهمي، ولي قضاء القضاة للمعتصم ثم للواثق، وكان موصوفاً بالجود والسخاء والأدب، غير أنه أعلن بمذهب الجهمية، وحمل السلطان على امتحان الناس بخلق القرآن، وأن الله لا يرى في الآخرة، وقد أصيب قبل موته بالفالج أربع سنين، ثم هلك سنة 240هـ.=(1/291)
الْوَاثِقِ (1)، وَكَمَا اتَّفَقَ لِعُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ بِالْأَنْدَلُسِ إِذْ صارت ولايتها للمهدويين (2)، فَمَزَّقُوا (3) كُتُبَ الْمَالِكِيَّةِ، وَسَمَّوْهَا كُتُبَ الرَّأْيِ، وَنَكَّلُوا بِجُمْلَةٍ مِنَ الْفُضَلَاءِ بِسَبَبِ أَخْذِهِمْ فِي الشَّرِيعَةِ بِمَذْهَبِ مَالِكٍ، وَكَانُوا هُمْ مُرْتَكِبِينَ لِلظَّاهِرِيَّةِ (4) الْمَحْضَةِ، الَّتِي هِيَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ بِدْعَةٌ ظَهَرَتْ بَعْدَ المئتين من الهجرة (5)، ويا ليتهم وقفوا (6) على (7) مَذْهَبَ دَاوُدَ (8) وَأَصْحَابِهِ، لَكِنَّهُمْ (9) تَعَدَّوْا ذَلِكَ إِلَى أَنْ قَالُوا بِرَأْيِهِمْ، وَوَضَعُوا لِلنَّاسِ مَذَاهِبَ لَا عَهْدَ لَهُمْ (10) بِهَا فِي الشَّرِيعَةِ، وَحَمَلُوهُمْ عَلَيْهَا طَوْعًا أَوْ كُرْهًا، حَتَّى عَمَّ دَاؤُهَا فِي النَّاسِ، وَثَبَتَتْ (11) زَمَانًا طَوِيلًا، ثُمَّ ذَهَبَ مِنْهَا جملة، وبقيت أخرى إلى اليوم.
_________
=انظر: البداية والنهاية لابن كثير (10/ 333)، سير أعلام النبلاء (11/ 169)، العبر (1/ 431).
(1) هو الخليفة العباسي أبو جعفر هارون بن المعتصم بالله، ولى الأمر بعهد من أبيه سنة 227هـ، وقد استولى أحمد بن أبي دؤاد على الواثق، وحمله على التشدد في المحنة، والدعاء إلى خلق القرآن، وقيل إنه رجع عن ذلك قبيل موته. وكانت خلافته خمس سنين ونصفاً، وقد مات سنة 232هـ.
انظر: البداية والنهاية (10/ 321)، سير أعلام النبلاء (10/ 306)، تاريخ بغداد (14/ 15).
(2) في (خ) و (ط): "للمهديين"، وهم أتباع المهدي المغربي. وقد تقدم التعريف به (ص312).
(3) في (غ) و (ر): "فخرقوا".
(4) تقدم التعريف بالظاهرية في المقدمة (ص28).
(5) وممن حكم على هذا المذهب بالبدعة الإمام ابن العربي، بل عدهم فرقة من الخوارج، مكفرة على أحد الوجهين.
انظر: عارضة الأحوذي (10/ 10)، وكذلك الإمام ابن رشد كما في المعيار المعرب للونشريسي (2/ 341)، ولكن قول المالكية شديد في الظاهرية بسبب العداء المذهبي. وقد قال الذهبي في السير عنهم: " ... وبكل حال فلهم أشياء أحسنوا فيها، ولهم مسائل مستهجنة يشغب عليهم بها". السير (13/ 106).
(6) في (خ) و (ت) و (ط): "وافقوا".
(7) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط).
(8) هو داود بن علي بن خلف الأصبهاني، رئيس أهل الظاهر، سمع الحديث وارتحل وناظر وصنف، وكان ورعاً زاهداً. توفي سنة 270هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء (13/ 97)، البداية والنهاية (11/ 51)، وفيات الأعيان (2/ 255).
في (غ): "لكن".
(9) ساقطة من (م) و (ت) و (غ).
(10) في (م) و (خ) و (ت): "وثبت".(1/292)
وَلَعَلَّ الزَّمَانَ يَتَّسِعُ إِلَى ذِكْرِ جُمْلَةٍ مِنْهَا فِي أَثْنَاءِ الْكِتَابِ بِحَوْلِ اللَّهِ (1).
فَهَذَا (2) الْوَجْهُ الْوِزْرُ فِيهِ أَعْظَمُ (3) مِنْ مُجَرَّدِ الدَّعْوَةِ (4) مِنْ وجهين:
الأول: الإخافة والإكراه بالإيلام (5) وَالْقَتْلِ.
وَالْآخَرُ: كَثْرَةُ الدَّاخِلِينَ فِي الدَّعْوَةِ، لِأَنَّ الْإِعْذَارَ وَالْإِنْذَارَ الْأُخْرَوِيَّ قَدْ لَا يَقُومُ لَهُ كَثِيرٌ (مِنَ النُّفُوسِ) (6)، بِخِلَافِ الدُّنْيَوِيِّ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ شُرِعَتِ الْحُدُودُ وَالزَّوَاجِرُ فِي الشَّرْعِ، وَ (إِنَّ اللَّهَ (7) يَزَعُ (8) بِالسُّلْطَانِ مَا لَا يَزَعُهُ (9) بِالْقُرْآنِ) (10)، فالمبتدع إذا (11) لم ينتهض (12) لإجابة (13) دَعْوَتِهِ بِمُجَرَّدِ الْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ الَّذِي يَعِظُ (14) بِهِ (15)، حَاوَلَ الِانْتِهَاضَ بِأُولِي الْأَمْرِ، لِيَكُونَ (16) ذَلِكَ أَحْرَى بالإجابة.
وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِ الْبِدْعَةِ حَقِيقِيَّةً أَوْ إِضَافِيَّةً، فَإِنَّ الْحَقِيقِيَّةَ أَعْظَمُ وِزْرًا، لِأَنَّهَا التي باشرها النهي (17) بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَلِأَنَّهَا (18) مُخَالَفَةٌ مَحْضَةٌ، وَخُرُوجٌ عَنِ السنة ظاهر، كالقول بالقدر (19)، والقول (20) بالتحسين
_________
(1) سوف يتكلم المؤلف عنهم في المجلد الثاني من المطبوع (2/ 90 ـ 92، 226، 348).
(2) في (م): "فهو ذا".
(3) في (م) و (غ): "أعظم فيه الوزر".
(4) في (خ): "الدعوى".
(5) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "بالإسلام".
(6) ساقط من (غ).
(7) سقط لفظ الجلالة من (م) وأصل (ت)، وكتب في هامش (ت).
(8) في (خ) و (ط): "ليزع".
(9) في (م): "ينزع"، وفي (ت) و (غ): "يزع".
(10) انظر: تاريخ ابن شبّة (3/ 988).
(11) في (ت): "إذ".
(12) في (غ): "ينتضر"، وفي بقية النسخ: "ينتصر" عدا (ر).
(13) في (ط): "بإجابة".
(14) في (م): "بعضه"، وفي (ت): "يعضه"، وفي (غ) و (ر): "يقص".
(15) ساقطة من (غ).
(16) في (غ): "فيكون".
(17) في (خ) و (ط): "المنتهي"، وفي (م) و (ت): "المنهي".
(18) في (خ) و (غ): "لأنها" بدون الواو، وفي (ت): كتبت الواو بين السطرين.
(19) تقدم التعريف بالقدرية (ص11).
(20) ساقطة من (خ) و (ت) و (ط).(1/293)
وَالتَّقْبِيحِ (1)، وَالْقَوْلِ بِإِنْكَارِ خَبَرِ الِوَاحِدِ (2)، وَإِنْكَارِ الْإِجْمَاعِ (3)، وَإِنْكَارِ (4) تَحْرِيمِ الْخَمْرِ (5)، وَالْقَوْلِ بِالْإِمَامِ الْمَعْصُومِ (6)، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
فَإِذَا فُرِضَتْ إِضَافِيَّةً، فَمَعْنَى الْإِضَافِيَّةِ أَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ مِنْ وَجْهٍ، وَرَأْيٍ مُجَرَّدٍ مِنْ وَجْهٍ، إِذْ يَدْخُلُهَا مِنْ جِهَةِ الْمُخْتَرِعِ رَأْيٌ فِي بَعْضِ أَحْوَالِهَا (7)، فَلَمْ تُنَافِ الْأَدِلَّةَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. هَذَا وَإِنْ كَانَتْ تَجْرِي مَجْرَى الحقيقية (8)، وَلَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ (9).
وَبِحَسَبِ ذَلِكَ الِاخْتِلَافِ يَخْتَلِفُ الْوِزْرُ. ومثاله جعل المصاحف في المساجد (10) للقراءة (11) (إثر (12) صلاة (13) الصبح) (14).
قَالَ مَالِكٌ: (أَوَّلُ مَنْ جَعَلَ مُصْحَفًا الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ) (15). يُرِيدُ (أَنَّهُ) (16) أَوَّلُ مَنْ رَتَّبَ الْقِرَاءَةَ فِي الْمُصْحَفِ إِثْرَ صَلَاةِ الصُّبْحِ فِي المسجد.
_________
(1) تقدم الكلام على هذه المسألة (ص213).
(2) تقدم الكلام على هذه المسألة (ص208).
(3) الذين أنكروا حجية الإجماع هم الخوارج والشيعة والنظام.
انظر: نزهة الخاطر شرح روضة الناظر (1/ 276)، أصول الفقه الإسلامي للزحيلي (1/ 539).
(4) في (م) و (غ): "أو إنكار".
(5) وهم الذين يستحلون الخمر ويسمونها بغير اسمها، وسيتكلم المؤلف عن هذه البدعة في الباب السابع (2/ 87 ـ 89).
(6) وهو قول الشيعة الإمامية كما تقدم.
(7) وذلك كالعبادات المشروعة التي يدخل المبتدع فيها رأيه، فيغير من كيفياتها أو أحوالها أو تفصيلاتها لما لم يقم عليه دليل.
(8) أي في أنها بدعة محرمة.
(9) وذلك في الباب الخامس، حيث جعله المؤلف في هذا الموضوع (1/ 286).
(10) في (م) و (غ): "المسجد".
(11) في (غ): "للقراءة فيها".
(12) في (ط): "آخر". وساقطة من (غ).
(13) في (م): "صلاة فيها".
(14) ما بين المعكوفين ساقط من (ت)، ومثبت في هامشها على أنه نسخة أخرى، ونص نسخة (خ) "للقراءة إثر صلاة الصبح بدعة".
(15) عزاه إلى مالك الإمام الطرطوشي في الحوادث والبدع (ص300).
(16) في جميع النسخ "أن"، وفي (ط): "أنه"، وبها تستقيم العبارة. وهي ساقطة من (غ) و (ر).(1/294)
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ (1): مِثْلَ مَا يُصْنَعُ عِنْدَنَا إِلَى الْيَوْمِ (2).
فَهَذِهِ (3) مُحْدَثَةٌ (4) ـ أَعْنِي وَضْعَهُ فِي الْمَسْجِدِ ـ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ فِي الْمَسْجِدِ مَشْرُوعَةٌ (5) فِي الجملة، معمول به، إِلَّا أَنَّ تَخْصِيصَ الْمَسْجِدِ بِالْقِرَاءَةِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ هُوَ (6) الْمُحْدَثُ.
وَمِثْلُهُ وَضْعُ الْمَصَاحِفِ فِي زماننا للقراءة فيها (7) يوم الجمعة وتحبيسها على ذلك القصد.
وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا ظَاهِرَةَ الْمَأْخَذِ أو مشكلة، فلأن الظاهرة عِنْدَ الْإِقْدَامِ عَلَيْهَا مَحْضُ مُخَالَفَةٍ، فَإِنْ كَانَتْ مشكلة فليست بمحض مخالفة، لإمكان ألا تَكُونَ بِدْعَةً، وَالْإِقْدَامُ عَلَى الْمُحْتَمَلِ أَخْفَضُ رُتْبَةً مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَى الظَّاهِرِ (8)، وَلِذَلِكَ عَدَّ الْعُلَمَاءُ تَرْكَ الْمُتَشَابِهِ مِنْ قَبِيلِ الْمَنْدُوبِ إِلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَنَبَّهَ الْحَدِيثُ (9) عَلَى أَنَّ تَرْكَ الْمُتَشَابِهِ لِئَلَّا يَقَعَ فِي الْحَرَامِ، فَهُوَ حِمًى لَهُ، وأن من (10) وَاقَعَ (11) المتشابه وَقَعَ (12) فِي الْحَرَامِ، وَلَيْسَ (13) تَرْكُ الْحَرَامِ فِي الْجُمْلَةِ مِنْ قَبِيلِ الْمَنْدُوبِ، بَلْ مِنْ قَبِيلِ الْوَاجِبِ، فَكَذَلِكَ حُكْمُ الْفِعْلِ الْمُشْتَبَهِ فِي الْبِدْعَةِ، فَالتَّفَاوُتُ بينهما بين.
_________
(1) هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي، شيخ المالكية، وقاضي الجماعة بقرطبة، كان فقيهاً عالماً عارفاً بالفتوى، بصيراً بأقوال أئمة المالكية، نافذاً في علم الفرائض والأصول، صنف شرح العتبية فبلغ فيه الغاية. توفي سنة 520هـ.
انظر: السير (19/ 501)، العبر (4/ 47)، شجرة النور الزكية (1/ 129).
(2) البيان والتحصيل (18/ 130).
(3) في (غ) و (ر): "فهذا".
(4) في (م) و (غ) و (ر): "محدث".
(5) في (م) و (خ) و (ت): "مشروع".
(6) ساقطة من (خ) و (ط).
(7) ساقطة من (خ) و (ت) و (ط).
(8) في (ت): "الظر".
(9) هو حديث النعمان بن بشير: "الحلال بين والحرام بين .. "، وتقدم تخريجه (ص199).
(10) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط).
(11) في (خ) و (ط): "راتع"، كتب في هامش (خ): "وإن واقع المتشابه واقع" على أنها نسخة أخرى، وفي (ت): "وأن قدم واقع .. ".
(12) في (خ) و (ط): "راتع".
(13) في (خ): "وليس في ترك .. ".(1/295)
وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ تَرْكَ الْمُتَشَابِهِ مِنْ بَابِ الْمَنْدُوبِ، وَإِنَّ مُوَاقَعَتَهُ مِنْ بَابِ الْمَكْرُوهِ، فَالِاخْتِلَافُ أَيْضًا وَاقِعٌ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، فَإِنَّ الْإِثْمَ فِي الْمُحَرَّمَةِ هُوَ الظَّاهِرُ (1)، وَأَمَّا الْمَكْرُوهَةِ فَلَا إِثْمَ فِيهَا فِي الْجُمْلَةِ، مَا لَمْ يَقْتَرِنْ بها (2) ما يوجبه (3)، كَالْإِصْرَارِ عَلَيْهَا، إِذِ الْإِصْرَارُ عَلَى الصَّغِيرَةِ يُصَيِّرُهَا كَبِيرَةً، فَكَذَلِكَ الْإِصْرَارُ عَلَى الْمَكْرُوهِ فَقَدْ يُصَيِّرُهُ صَغِيرَةً، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ فِي مُطْلَقِ التَّأْثِيمِ، وَإِنْ حَصَلَ الْفَرْقُ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، بِخِلَافِ الْمَكْرُوهِ مَعَ الصَّغِيرَةِ (4).
وَالشَّأْنُ فِي البدع ـ وإن كانت مكروهة ـ الدَّوَامِ (5) عَلَيْهَا، وَإِظْهَارِهَا مِنَ الْمُقْتَدَى بِهِمْ فِي مَجَامِعِ النَّاسِ وَفِي الْمَسَاجِدِ، فَقَلَّمَا تَقَعُ (6) مِنْهُمْ عَلَى أَصْلِهَا مِنَ الْكَرَاهِيَةِ إِلَّا وَيَقْتَرِنُ بِهَا مَا يُدْخِلُهَا فِي مُطْلَقِ التَّأْثِيمِ، مِنْ إِصْرَارٍ أَوْ تَعْلِيمٍ (7) أَوْ إِشَاعَةٍ أَوْ تَعَصُّبٍ لَهَا أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
فَلَا يَكَادُ يُوجَدُ فِي الْبِدَعِ ـ بِحَسَبِ الْوُقُوعِ ـ مَكْرُوهٌ لَا زَائِدَ فيه على الكراهية. والله أعلم.
وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ بِحَسَبِ الْإِصْرَارِ عَلَيْهَا أَوْ عَدَمِهِ، فَلِأَنَّ الذَّنْبَ قَدْ يَكُونُ صَغِيرًا فَيَعْظُمُ بِالْإِصْرَارِ عَلَيْهِ. كَذَلِكَ الْبِدْعَةُ تَكُونُ صَغِيرَةً فَتَعْظُمُ بِالْإِصْرَارِ (8) عليها (9). فإذا كانت (10) فلتة فَهِيَ أَهْوَنُ مِنْهَا إِذَا دَاوَمَ عَلَيْهَا. وَيَلْحَقُ بِهَذَا الْمَعْنَى إِذَا (11) تَهَاوَنَ بِهَا الْمُبْتَدِعُ وَسَهَّلَ أَمْرَهَا، نَظِيرَ الذَّنْبِ إِذَا تَهَاوَنَ بِهِ، فَالْمُتَهَاوِنُ أعظم وزراً من غيره.
وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا كُفْرًا وَعَدَمَهُ فظاهر أيضاً؛ لأن ما هو
_________
(1) في (ت): "الظر".
(2) في (ر): "لها".
(3) في (خ) و (ت) و (ط): "يوجبها".
(4) سوف يتكلم المؤلف عن هذه الأحكام على وجه التفصيل في الباب السادس (2/ 36).
(5) في (خ) و (ت) و (ط): "في الدوام عليها".
(6) في (خ) و (ط): "فقلما تقدم بل تقع .. ".
(7) في (خ) و (ط): "وتعليم".
(8) في (خ): "بالإسرار".
(9) ساقطة من (غ) و (ر).
(10) في (غ): "كان".
(11) في (م): "لا إذا". وفي (غ): "ما إذا".(1/296)
كُفْرٌ جَزَاؤُهُ التَّخْلِيدُ فِي الْعَذَابِ ـ عَافَانَا اللَّهُ ـ وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَا لَمْ يَبْلُغْ مَبْلَغَهُ (1)، حُكْمُ سَائِرِ الْكَبَائِرِ مَعَ الْكُفْرِ فِي الْمَعَاصِي.
فَلَا بِدْعَةَ أَعْظَمُ وِزْرًا مِنْ بِدْعَةٍ تُخْرِجُ عَنِ الْإِسْلَامِ، كَمَا أَنَّهُ لَا ذَنْبَ أَعْظَمُ مِنْ (2) ذَنْبٍ يُخْرِجُ عَنِ الْإِسْلَامِ، فَبِدْعَةُ الْبَاطِنِيَّةِ (3) وَالزَّنَادِقَةِ ليست كَبِدْعَةِ الْمُعْتَزِلَةِ (4) وَالْمُرْجِئَةِ (5) وَأَشْبَاهِهِمْ.
وَوُجُوهُ التَّفَاوُتِ كَثِيرَةٌ، وَلِظُهُورِهَا عِنْدَ الْعُلَمَاءِ لَمْ نَبْسُطِ الْكَلَامَ عَلَيْهَا والله المستعان بفضله (6).
_________
(1) ساقطة من (خ) و (ت) و (ط).
(2) في (خ): "منه من ذنب ... ".
(3) تقدم التعريف بهم (ص28).
(4) تقدم التعريف بهم (ص29).
(5) تقدم التعريف بهم (ص27).
(6) ساقطة من (غ) و (ر).(1/297)
فصل
وَيَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْفَصْلِ أَمْرٌ آخَرُ، وَهُوَ الْحُكْمُ فِي الْقِيَامِ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ مِنَ الْخَاصَّةِ أَوِ الْعَامَّةِ.
وَهَذَا (1) بَابٌ كَبِيرٌ فِي الْفِقْهِ، تَعَلَّقَ بِهِمْ مِنْ جِهَةِ جِنَايَتِهِمْ عَلَى الدِّينِ، وَفَسَادِهِمْ فِي الْأَرْضِ، وَخُرُوجِهِمْ عَنْ جَادَّةِ الْإِسْلَامِ إِلَى بُنَيَّاتِ الطَّرِيقِ (2) الَّتِي نَبَّهَ عَلَيْهَا قَوْلُ الله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (3). وَهُوَ فَصْلٌ مِنْ تَمَامِ الْكَلَامِ عَلَى التَّأْثِيمِ (4)، لَكِنَّهُ مُفْتَقِرٌ إِلَى النَّظَرِ فِي شُعَبٍ كَثِيرَةٍ، مِنْهَا مَا تَكَلَّمَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ، وَمِنْهَا مَا (5) لَمْ يَتَكَلَّمُوا عَلَيْهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ حَدَثَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُجْتَهِدِينَ وَأَهْلِ الْحِمَايَةِ لِلدِّينِ، فَهُوَ بَابٌ يَكْثُرُ التَّفْرِيعُ فِيهِ بِحَيْثُ يَسْتَدْعِي تَأْلِيفًا مُسْتَقِلًّا.
فَرَأَيْنَا أَنَّ بَسْطَ ذَلِكَ يَطُولُ (6)، مَعَ أَنَّ الْعَنَاءَ فِيهِ قَلِيلُ الْجَدْوَى فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ، لِتَكَاسُلِ الْخَاصَّةِ عَنِ النَّظَرِ فِيمَا يُصْلِحُ الْعَامَّةَ، وَغَلَبَةِ الْجَهْلِ عَلَى الْعَامَّةِ، حَتَّى إِنَّهُمْ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ، بَلْ قَدِ انْقَلَبَ الْحَالُ إِلَى أَنْ عَادَتِ (7) السُّنَّةَ بِدْعَةً، (والبدعة سنة) (8)، فقاموا في غير
_________
(1) في (غ): "وهو".
(2) في (غ) و (ر): "الطرق".
(3) سورة الأنعام: آية (153).
(4) وقد سبق كلام المؤلف على تأثيم المبتدع، وأن الإثم الواقع عليه ليس على درجة واحدة. (ص 247، 249، 215) وتوسع في (ص 286)
(5) ساقطة من (ت).
(6) في (غ) و (ر): "طويل".
(7) في (ر): "عدت".
(8) ما بين المعكوفين ساقط من (ط).(1/298)
مَوْضِعِ الْقِيَامِ، وَاسْتَقَامُوا إِلَى غَيْرِ مُسْتَقَامٍ (1)، فَعَمَّ الدَّاءُ، وَعُدِمَ الْأَطِبَّاءُ، حَسْبَمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ.
فرأينا أن لانفرد هذا المعنى بباب يخصه، وأن لانبسط الْقَوْلَ فِيهِ، وَأَنْ نَقْتَصِرَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى لَمْحَةٍ تَكُونُ خَاتِمَةً لِهَذَا الْبَابِ، فِي الْإِشَارَةِ إِلَى أَنْوَاعِ الْأَحْكَامِ الَّتِي يُقَامُ عَلَيْهِمْ بِهَا (2) فِي الْجُمْلَةِ لَا فِي التَّفْصِيلِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
فَنَقُولُ: إِنَّ الْقِيَامَ عَلَيْهِمْ بِالتَّثْرِيبِ أَوِ التَّنْكِيلِ أَوِ الطَّرْدِ أَوِ الْإِبْعَادِ أَوِ الْإِنْكَارِ هُوَ بِحَسَبِ حَالِ الْبِدْعَةِ فِي نَفْسِهَا، مِنْ كَوْنِهَا عَظِيمَةَ الْمَفْسَدَةِ فِي الدِّينِ أَوْ لَا (3)، وَكَوْنِ صَاحِبِهَا مُشْتَهِرًا بِهَا أَوْ لَا، وَدَاعِيًا إِلَيْهَا أو لا، ومستظهراً بالأتباع (أولا) (4)، وخارجاً على (5) النَّاسِ أَوْ لَا، وَكَوْنِهِ (6) عَامِلًا بِهَا عَلَى جهة الجهل بها (7) أو لا.
وكل من (8) هذه الأقسام له اجتهاد (9) يَخُصُّهُ، إِذْ لَمْ يَأْتِ فِي الشَّرْعِ فِي الْبِدْعَةِ (10) حَدٌّ (11) لَا يُزَادُ عَلَيْهِ، وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ، كَمَا جَاءَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَعَاصِي، كَالسَّرِقَةِ وَالْحِرَابَةِ وَالْقَتْلِ وَالْقَذْفِ وَالْجِرَاحِ وَالْخَمْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. لَا جَرَمَ أَنَّ الْمُجْتَهِدِينَ مِنَ الْأُمَّةِ نَظَرُوا فِيهَا بِحَسَبِ النَّوَازِلِ، وَحَكَمُوا بِاجْتِهَادِ الرَّأْيِ، تَفْرِيعًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ لَهُمْ فِي بَعْضِهَا مِنَ النَّصِّ، كَمَا جَاءَ فِي الْخَوَارِجِ (12) مِنَ الأمر (13) بِقَتْلِهِمْ (14)، وَمَا جَاءَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
_________
(1) في (غ) و (ر): "واستناموا في غير مستنام".
(2) في (غ): "بها عليهم".
(3) في (خ) و (ط): "أم لا".
(4) ما بين المعكوفين ساقط من (خ) و (ط).
(5) في (خ) و (ط): "عن".
(6) في (غ): "وكون".
(7) ساقطة من (ط).
(8) ساقطة من (م) و (غ) وكتبت في (ت) فوق السطر.
(9) في (خ) و (ط): "له حكم اجتهادي".
(10) في (ر): "للبدع".
(11) عبارة (غ): "إذا لم يأت في الشرع للبدعة حد".
(12) تقدم التعريف بهم (ص11).
(13) في (خ) و (ط): "الأثر".
(14) والأحاديث في هذا كثيرة، ومنها حديث علي رضي الله عنه: " .. فإذا لقيتموهم=(1/299)
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي صَبِيغٍ الْعِرَاقِيِّ (1).
فَخَرَجَ مِنْ مَجْمُوعِ مَا تَكَلَّمَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ أَنْوَاعٌ:
أَحَدُهَا: الْإِرْشَادُ وَالتَّعْلِيمُ وَإِقَامَةُ الْحُجَّةِ، كَمَسْأَلَةِ ابْنِ عباس رضي الله عنهما حِينَ ذَهَبَ إِلَى الْخَوَارِجِ فَكَلَّمَهُمْ حَتَّى رَجَعَ مِنْهُمْ أَلْفَانِ أَوْ ثَلَاثَةُ آلَافٍ (2)، (وَمَسْأَلَةُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مَعَ غَيْلَانَ (3)، وَشِبْهُ ذَلِكَ) (4).
وَالثَّانِي: الْهُجْرَانُ، وَتَرْكُ الْكَلَامِ وَالسَّلَامِ، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ عَنْ جُمْلَةٍ مِنَ السَّلَفِ فِي هُجْرَانِهِمْ لِمَنْ تَلَبَّسَ بِبِدْعَةٍ، وَمَا جَاءَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ الله عنه في (5) قصة صبيغ العراقي (6).
والثالث: التغريب (7) كما غرب عمر (بن الخطاب) (8) صَبِيغًا، وَيَجْرِي مَجْرَاهُ السَّجْنُ وَهُوَ:
الرَّابِعُ: كَمَا سجنوا الحلاج (9) قبل قتله سنين عدة (10).
_________
=فاقتلوهم فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم عند الله يوم القيامة". رواه مسلم (7/ 169 مع النووي).
(1) في (غ): "الغراقي"، وتقدمت ترجمته (ص143). وانظر قصته وتخريجها في نفس الموضع.
(2) تقدمت الإشارة إلى هذه المناظرة (ص236)، وقد بينت مواضع ذكرها هناك.
(3) تقدمت هذه المناظرة (ص102)، وقد روى ابن سعد عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنه كان يأمر عامله بدعوة الخوارج إلى الكتاب والسنة قبل قتالهم. انظر: طبقات ابن سعد (5/ 357 ـ 358).
(4) ما بين المعكوفين ساقط من (خ) و (ط).
(5) في (خ) و (ط): "من".
(6) ساقطة من (م) و (غ).
(7) أثبتها من (غ) و (ر)، وهي ساقطة من بقية النسخ.
(8) ساقط من (خ) و (ط).
(9) هو الحسين بن منصور بن محمى الفارسي البيضاوي الصوفي، الزنديق، تبرأ منه سائر الصوفية والمشايخ والعلماء من سوء سيرته ومروقه، ومنهم من نسبه إلى الحلول، ومنهم من نسبه إلى الزندقة وإلى الشعبذة، وقد تستر به طائفة من ذوي الضلال والانحلال، وانتحلوه، وروجوا به على الجهال، وقد أفتى العلماء بقتله فقتل سنة 311هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء (14/ 313)، البداية والنهاية (11/ 141)، مجموع الفتاوى (35/ 110، 119).
(10) في (خ) و (ط): "عديدة"، وقد روى ابن سعد في الطبقات عن عمر بن عبد العزيز أنه=(1/300)
والخامس (1): ذِكْرُهُمْ بِمَا (2) هُمْ عَلَيْهِ، وَإِشَاعَةُ بِدْعَتِهِمْ كَيْ يحذروا لئلا (3) يُغْتَرَّ بِكَلَامِهِمْ، كَمَا جَاءَ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ السلف في ذلك (4).
والسادس: القتال إِذَا نَاصَبُوا الْمُسْلِمِينَ، وَخَرَجُوا عَلَيْهِمْ، كَمَا قَاتَلَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْخَوَارِجَ وَغَيْرُهُ مِنْ خلفاء السنة.
والسابع: القتل إن لم يرجعوا مع الاستتابة، في من (5) أَظْهَرَ بِدْعَتَهُ، وَأَمَّا مَنْ أَسَرَّهَا، وَكَانَتْ (6) كُفْرًا أَوْ مَا يَرْجِعُ (7) إِلَيْهِ، فَالْقَتْلُ بِلَا اسْتِتَابَةٍ (8) وهو:
الثامن: لأنه من باب النفاق كالزندقة (9).
والتاسع: تَكْفِيرُ (10) مَنْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى كُفْرِهِ، كَمَا إِذَا كَانَتِ الْبِدْعَةُ صَرِيحَةً فِي الْكُفْرِ، كَالْإِبَاحِيَّةِ (11)، والقائلين بالحلول
_________
=كتب إلى أحد ولاته: "ومن أخذت من أسراء الخوارج فاحبسه حتى يحدث خيراً". قال الراوي: "فلقد مات عمر بن عبد العزيز وفي حبسه منهم عدة".
انظر الطبقات (5/ 358).
(1) في (م) و (ت): "الخامس" بدون الواو.
(2) في (غ) و (ر): "ما".
(3) في (خ) و (ط): "ولئلا".
(4) ومن ذلك ما روى اللالكائي عن الحسن أنه قال: "ليس لصاحب بدعة ولا لفاسق يعلن بفسقه غيبة". شرح أصول الاعتقاد (1/ 140)، وروى اللالكائي أيضاً عن عاصم الأحول أنه قَالَ: جَلَسْتُ إِلَى قَتَادَةَ فَذَكَرَ عَمْرَو بْنَ عبيد، فوقع فيه، فقلت: لا أَرَى الْعُلَمَاءَ يَقَعُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ، فَقَالَ: "يا أحول، أو لا تدري أن الرجل إذا ابتدع فينبغي أن يذكر حتى يحذر .. ".
انظر: ميزان الاعتدال للذهبي (3/ 273)، شرح أصول الاعتقاد لللالكائي مع بعض الاختلاف اللفظي (4/ 748).
(5) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "وهو قد".
(6) في (ت): "أو كانت".
(7) في (ت): "ترجع".
(8) في (خ): "فالقتل بالاستتابة".
(9) في (خ) و (ط) و (غ): "كالزنادقة".
(10) في (خ) و (غ): "الحكم بكفر".
(11) في (غ): "لا كالإباحية"، قال البغدادي في الفرق بين الفرق عن أصحاب الإباحة من الخرمية: "فهؤلاء صنفان، صنف منهم كانوا قبل دولة الإسلام كالمزدكية الذين استباحوا المحرمات وزعموا أن الناس شركاء في الأموال والنساء، والصنف الثاني الخرمدينية، ظهروا في دولة الإسلام، وهم فريقان بابكية ومازيارية، وكلتاهما معروفة=(1/301)
كالباطنية (1)، أو كانت المسألة من (2) بَابِ التَّكْفِيرِ بِالْمَآلِ (3)، فَذَهَبَ الْمُجْتَهِدُ إِلَى التَّكْفِيرِ، كَابْنِ الطَّيِّبِ (4) فِي تَكْفِيرِهِ جُمْلَةً مِنَ الْفِرَقِ. وينبني (5) عَلَى ذَلِكَ:
(الْوَجْهُ الْعَاشِرُ) (6): وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَرِثُهُمْ وَرَثَتُهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَرِثُونَ أَحَدًا منهم، ولا يغسلون إذا ماتوا، ولا يصلى عَلَيْهِمْ، وَلَا يُدْفَنُونَ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، مَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَتِرًا (7)، فَإِنَّ الْمُسْتَتِرَ يُحْكَمُ لَهُ بحكم الظاهر (8)، وورثته أعرف به (9) بالنسبة إلى الميراث.
والحادي عَشَرَ: الْأَمْرُ بِأَنْ لَا يُنَاكَحُوا، وَهُوَ مِنْ ناحية الهجران، وعدم المواصلة.
والثاني عَشَرَ: تَجْرِيحُهُمْ عَلَى الْجُمْلَةِ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ (10)، ولا
_________
=بالمحمرة، فالبابكية منهم أتباع بابك الخرمي الذي ظهر بأذربيجان .. واستباح المحرمات، وقتل الكثير من المسلمين .. حتى صلبه المعتصم، وأما مازيار فظهر بجرجان .. ، وعظمت فتنته، وصلبه أيضاً المعتصم.
انظر: الفرق بين الفرق (ص201 ـ 202).
(1) تقدم التعريف بهم (ص28).
(2) في (ط): "في".
(3) يريد المؤلف والله أعلم التكفير بلازم القول، وقد ذكر رحمه الله في الباب التاسع أَنَّ مَذْهَبَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ: أَنَّ الكفر بالمآل ليس بكفر في الحال.
انظر: الباب التاسع (2/ 197).
(4) هو القاضي أبو بكر محمد بن الطيب بن محمد البغدادي ابن الباقلاني، أوحد المتكلمين، ومقدم الأصوليين، صاحب التصانيف، كان يضرب به المثل في ذكائه صنف في الرد على الرافضة والمعتزلة والخوارج وغيرهم، وقد انتصر لطريقه أبي الحسن الأشعري، وقد يخالفه. توفي سنة 403هـ.
انظر: السير (17/ 190)، تاريخ بغداد (5/ 379)، ترتيب المدارك (4/ 585).
(5) في (غ): "فينبني".
(6) ما بين المعكوفين بياض في (ت).
(7) في (خ) و (ت) و (ط): "المستتر"، وفي (غ) و (ر): "ما خلا المستسر".
(8) في (ت): "الظر".
(9) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط).
(10) والمسألة ليست محل اتفاق، وقد يختلف الحكم بالنسبة للداعي للبدعة وغيره.
انظر: المغني لابن قدامة (ص165 ـ 166)، الطرق الحكمية لابن القيم (ص173 ـ 175).(1/302)
روايتهم (1)، ولا يكونون ولاة (2) وَلَا قُضَاةً، وَلَا يُنَصَّبُونَ فِي مَنَاصِبِ الْعَدَالَةِ مِنْ إِمَامَةٍ أَوْ خَطَابَةٍ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ جُمْلَةٍ مِنَ السَّلَفِ رِوَايَةُ جَمَاعَةٍ منهم، واختلفوا في الصلاة (خلف أهل البدع بالجواز والكراهة والمنع، ومنهم من جعل ترك الصَّلَاةِ) (3) خَلْفَهُمْ مِنْ بَابِ الْأَدَبِ لِيَرْجِعُوا عَمَّا هم عليه.
_________
(1) وفي المسألة خلاف، فمن العلماء من يرى رد رواية المبتدع مطلقاً كالإمام مالك رحمه الله، ومنهم من يرى رد رواية المبتدع الداعي إلى بدعته، أو من كانت بدعته مكفرة، أو روايته مؤيدة لبدعته .. إلخ، وهو قول الإمام أحمد وأكثر أهل العلم، ويرى الإمام الشافعي وغيره قبول رواية أهل الأهواء الذين لا يعرف منهم استحلال الكذب، ولا يشهدون لمن وافقهم، إلا الخطابية فلا يروي عنهم.
انظر: المسألة في الكفاية في علم الرواية للخطيب (ص121)، فتح المغيث (1/ 327)، قواعد التحديث للقاسمي (ص192 ـ 193). رسالة "البدعة وأثرها في الدراية والرواية" للشيخ عائض القرني.
(2) في (م) و (ت) و (غ) و (ر): "والين".
(3) ما بين المعكوفين ساقط من (م) و (خ) و (ت) و (ط)، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما الصلاة خلف أهل الأهواء والبدع، وخلف أهل الفجور، ففيه نزاع مشهور، وتفصيل ليس هذا موضع بسطه، لكن أوسط الأقوال في هؤلاء أن تقديم الواحد من هؤلاء في الإمامة لا يجوز مع القدرة على غيره، فإن من كان مظهراً للفجور أو البدع يجب الإنكار عليه ونهيه عن ذلك، وأقل مراتب الإنكار هجره لينتهي عن فجوره وبدعته، ولهذا فرق جمهور الأئمة بين الداعية وغير الداعية، فإن الداعية أظهر المنكر فاستحق الإنكار عليه، بخلاف الساكت فإنه بمنزلة من أسر بالذنب، فهذا لا ينكر عليه في الظاهر ... ، فإذا كان داعية منع من ولايته وإمامته وشهادته وروايته، لما في ذلك من النهى عن المنكر لا لأجل فساد الصلاة أو اتهامه في شهادته وروايته، فإذا أمكن لإنسان ألا يقدم مظهراً للمنكر في الإمامة وجب ذلك. لكن إذا ولاه غيره ولم يمكنه صرفه عن الإمامة، أو كان هو لا يتمكن من صرفه إلا بشر أعظم ضرراً من ضرر ما أظهره من المنكر، فلا يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير، ولا دفع أخف الضررين بتحصيل أعظم الضررين .. ، فإذا لم يمكن منع المظهر للبدعة والفجور إلا بضرر زائد على ضرر إمامته، لم يجز ذلك، بل يصلي خلفه ما يمكنه فعلها إلا خلفه، كالجمع والأعياد والجماعة إذا لم يكن هناك إمام غيره، ولهذا كان الصحابة يصلون خلف الحجاج والمختار بن أبي عبيد الثقفي وغيرهما الجمعة والجماعة .. ".
انظر: فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (23/ 342 ـ 343)، شرح العقيدة الطحاوية (ص373 ـ 377).(1/303)
والثالث عَشَرَ: تَرْكُ عِيَادَةِ مَرْضَاهُمْ، وَهُوَ مِنْ بَابِ الزجر والعقوبة.
والرابع عشر: ترك شهود جنائزهم كذلك.
والخامس عَشَرَ: الضَّرْبُ، كَمَا ضَرَبَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَبِيغًا.
وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْقَائِلِ بِالْمَخْلُوقِ (1): (أَنَّهُ يُوجَعُ ضَرْبًا، ويسجن حتى يتوب (2)) (3).
وَرَأَيْتُ فِي بَعْضِ تَوَارِيخِ بَغْدَادَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أنه قال: (حكمي (4) فِي أَصْحَابِ الْكَلَامِ أَنْ يُضْرَبُوا بِالْجَرَائِدِ، وَيُحْمَلُوا عَلَى الْإِبِلِ، وَيُطَافَ بِهِمْ فِي الْعَشَائِرِ وَالْقَبَائِلِ، وَيُقَالَ: هَذَا جَزَاءُ مَنْ تَرَكَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، وأخذ في الكلام) (5)، يعني أهل البدع.
_________
(1) أي بخلق القرآن.
(2) في (خ) و (ط): "يموت".
(3) روى نحوه عن مالك الإمام اللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (2/ 314 ـ 315)، قال مالك في القائل بخلق القرآن: "زنديق فاقتلوه". ترتيب المدارك (1/ 174).
(4) في (ت) و (ط): "حكم".
(5) رواه عن الإمام الشافعي الإمام أبو نعيم في الحلية (9/ 116)، وابن عبد البر في الانتقاء (ص80)، والبيهقي في مناقب الشافعي (1/ 462)، وذكره ابن الجوزي في تلبيس إبليس (ص102)، والبغوي في شرح السنة (1/ 218).(1/304)
فصل (1)
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ هَذَا؟ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الشَّرِيعَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَخْصِيصِ تِلْكَ الْعُمُومَاتِ، وَتَقْيِيدِ تِلْكَ الْمُطْلَقَاتِ، وَفَرَّعَ الْعُلَمَاءُ مِنْهَا كَثِيرًا مِنَ الْمَسَائِلِ، وَأَصَّلُوا مِنْهَا أُصُولًا يُحْتَذَى حَذْوُهَا، عَلَى وَفْقِ مَا ثَبَتَ نَقْلُهُ، إِذِ الظَّوَاهِرُ تَخْرُجُ عَلَى (2) مُقْتَضَى ظُهُورِهَا بِالِاجْتِهَادِ، وَبِالْحَرِيِّ إِنْ كَانَ مَا يُسْتَنْبَطُ بِالِاجْتِهَادِ مَقِيسًا عَلَى مَحَلِّ التَّخْصِيصِ، فَلِذَلِكَ قَسَّمَ النَّاسُ الْبِدَعَ، وَلَمْ يَقُولُوا بِذَمِّهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ.
وَحَاصِلُ مَا ذَكَرُوا مِنْ ذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: مَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً كَانَ لَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا" (3).
وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ
_________
(1) يذكر المؤلف في هذا الفصل القول بانقسام البدعة إلى حسنة وقبيحة، وحجة هذا القول، ثم يشرع في الرد عليه من ص339 إلى نهاية الفصل.
(2) في (غ) و (ر): "عن".
(3) رواه الإمام مسلم في كتاب الزكاة من صحيحه، باب الحث على الصدقة، عن المنذر بن جرير عن أبيه، وله قصة (7/ 102 ـ 104)، وفي كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة، عن جرير بن عبد الله (16/ 225 ـ 226)، ورواه الإمام ابن ماجه في المقدمة من سننه، باب من سن سنة حسنة أو سيئة عنه برقم (207) (1/ 74)، والإمام أحمد في المسند (4/ 357 ـ 359).(1/305)
فله مثل (1) أَجْرُ فَاعِلِهِ" (2).
وَخَرَّجَ أَيْضًا عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ سَنَّ سُنَّةَ خَيْرٍ فَاتُّبِعَ عَلَيْهَا فَلَهُ أَجْرُهُ وَمِثْلُ أُجُورِ (3) مَنِ اتبعه غير منقوص (4) من أجورهم شيئا، ومن سَنَّ سُنَّةَ شَرٍّ فَاتُّبِعَ عَلَيْهَا كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهُ (5) وَمِثْلُ أَوْزَارِ مَنِ اتَّبَعَهُ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (6) مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا" حَسَنٌ صَحِيحٌ (7).
فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ صَرِيحَةٌ فِي (8) أَنَّ مَنْ سَنَّ سُنَّةَ خَيْرٍ فَذَلِكَ خَيْرٌ، وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ فِيمَنِ ابْتَدَعَ قوله (9): "مَنْ سَنَّ"، فَنُسِبَ الِاسْتِنَانُ إِلَى الْمُكَلَّفِ دُونَ الشَّارِعِ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ: مَنْ عَمِلَ سُنَّةً ثَابِتَةً فِي الشَّرْعِ، لَمَا قَالَ: "مَنْ سَنَّ"، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا، لأنه (10) أول من سن القتل" (11). "فسن" هاهنا على حقيقته (12)، لأنه اختراع (13) لَمْ يَكُنْ قَبْلُ مَعْمُولًا بِهِ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ وُجُودِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: "مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً" أَيْ مَنِ اخْتَرَعَهَا مِنْ نَفْسِهِ، لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ حَسَنَةً، فَلَهُ مِنَ الْأَجْرِ مَا ذُكِرَ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ مَنْ عَمِلَ سُنَّةً ثَابِتَةً، وَإِنَّمَا الْعِبَارَةُ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى أَنْ يُقَالَ: مَنْ عَمِلَ بِسُنَّتِي أو بسنة (14) من سنتي، وما أشبه (15) ذلك.
_________
(1) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط).
(2) رواه الإمام مسلم في كتاب الإمارة من صحيحه، باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله بمركوب، عن أبي مسعود البدري (13/ 38، 39)، والإمام الترمذي في كتاب العلم من سننه، باب ما جاء الدال على الخير كفاعله برقم (2671)، (5/ 40)، والإمام أبو داود في كتاب الأدب من سننه، باب في الدال على الخير برقم (5129)، (4/ 336)، والإمام أحمد في المسند (4/ 120).
(3) في (غ): "فله أجره وأجر من اتبعه".
(4) في (خ): "منقص".
(5) في (خ) و (ط): "وزرها"، والمثبت هو الموافق للرواية.
(6) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "منقص".
(7) تقدم تخريج الحديث (ص118).
(8) ساقطة من (م) و (ت) و (غ) و (ر) و (ط).
(9) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط).
(10) في (غ): "ذلك لأنه".
(11) تقدم تخريج الحديث (ص23).
(12) في (خ) و (ط): "حقيقة".
(13) في (ط): "اخترع".
(14) في (خ) و (ط): "سنة".
(15) في (غ): "أما أشبه".(1/306)
كَمَا خَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِبِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ (1): "اعْلَمْ" قال: [ما] (2) أَعْلَمُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "اعْلَمْ يَا بلال" قال: [ما] أَعْلَمُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: "إِنَّهُ مَنْ أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي، فَإِنَّ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلَ مَنْ عَمِلَ بها، من غير أن ينقص (3) مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنِ ابْتَدَعَ بِدْعَةً ضَلَالَةً، لَا تُرْضِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ، كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ آثَامِ (4) مَنْ عَمِلَ بِهَا، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ من أوزار (5) النَّاسِ شَيْئًا" حَدِيثٌ حَسَنٌ (6).
وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا بُنَيَّ، إِنْ قَدَرْتَ أَنْ تُصْبِحَ وَتُمْسِيَ لَيْسَ فِي قَلْبِكَ غِشٌّ لِأَحَدٍ فَافْعَلْ" ثُمَّ قَالَ لِي: "يَا بُنَيَّ، وَذَلِكَ مِنْ سُنَّتِي، وَمَنْ أَحْيَا سُنَّتِي فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَحَبَّنِي كَانَ مَعِي فِي الْجَنَّةِ". حَدِيثٌ حَسَنٌ (7).
فَقَوْلُهُ: "مَنْ أَحْيَا سُنَّةً مِنْ سُنَّتِي قَدْ أُمِيتَتْ بَعْدِي" وَاضِحٌ فِي الْعَمَلِ بِمَا ثَبَتَ أَنَّهُ سُنَّةٌ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: "مَنْ أَحْيَا سُنَّتِي فَقَدْ أَحَبَّنِي" ظَاهِرٌ فِي السُّنَنِ الثَّابِتَةِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: مَنْ سَنَّ كَذَا، فإنه ظاهر فِي الِاخْتِرَاعِ أَوَّلًا، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا فِي السُّنَّةِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ لِبِلَالِ بْنِ الحارث: "ومن ابتدع بدعة ضلالة"، فظاهر في (8) أَنَّ (9) الْبِدْعَةَ لَا تُذَمُّ بِإِطْلَاقٍ، بَلْ بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ ضَلَالَةً، وَأَنْ تَكُونَ لَا يَرْضَاهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ.
فَاقْتَضَى (هَذَا كُلُّهُ) (10) أَنَّ الْبِدْعَةَ إِذَا لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يَلْحَقْهَا ذَمٌّ،
_________
(1) هو بلال بن الحارث بن عصم بن سعيد المزني، من أهل المدينة، أقطعه النبي صلّى الله عليه وسلّم العقيق، وكان صاحب لواء مزينة يوم الفتح، أحاديثه في السنن وغيرها، مات سنة 60هـ.
انظر: الإصابة لابن حجر (1/ 170)، أسد الغابة لابن الأثير (1/ 242).
(2) ما بين المعكوفين من سنن الترمذي.
(3) في (خ) و (ط): "ينقص ذلك".
(4) في (خ) و (ط): "إثم".
(5) في (خ) و (ط): "آثام"، والمثبت هو الموافق للرواية.
(6) تقدم تخريجه (ص33).
(7) تقدم تخريج الحديث (ص34).
(8) زيادة في (م).
(9) في (غ): "بأن".
(10) ما بين المعكوفين ساقط من (م) و (ت) و (غ).(1/307)
وَلَا تَبِعَ صَاحِبَهَا وِزْرٌ، فَعَادَتْ إِلَى أَنَّهَا سُنَّةٌ حَسَنَةٌ، وَدَخَلَتْ تَحْتَ الْوَعْدِ بِالْأَجْرِ.
وَالثَّانِي (1): أَنَّ السَّلَفَ الصَّالِحَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ـ وَأَعْلَاهُمُ الصَّحَابَةُ ـ قَدْ عَمِلُوا بِمَا لَمْ يَأْتِ بِهِ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ، مِمَّا رَأَوْهُ حَسَنًا، وَأَجْمَعُوا عَلَيْهِ، وَلَا تَجْتَمِعُ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ضَلَالَةٍ، وَإِنَّمَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى هُدًى (2) وَمَا هُوَ حَسَنٌ.
فَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى جَمْعِ الْقُرْآنِ وكَتْبه فِي الْمَصَاحِفِ، وَعَلَى جَمْعِ النَّاسِ عَلَى الْمَصَاحِفِ الْعُثْمَانِيَّةِ، وَاطِّرَاحِ مَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْقِرَاءَاتِ الَّتِي كَانَتْ مُسْتَعْمَلَةً فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يكن في ذلك (3) نص ولا حظر (4)، ثُمَّ اقْتَفَى النَّاسُ أَثَرَهُمْ فِي ذَلِكَ الرَّأْيِ الحسن، فجمعوا العلم، ودونوه، وكتبوه، ومن سباقهم في ذلك مالك بن أنس رضي الله عنه، وَقَدْ كَانَ مِنْ أَشَدِّهِمُ اتِّبَاعًا، وَأَبْعَدِهِمْ مِنَ الابتداع.
هذا وإن كانوا (5) قَدْ نُقِلَ عَنْهُمْ كَرَاهِيَةُ كَتْبِ الْعِلْمِ مِنَ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ فَإِنَّمَا هُوَ مَحْمُولٌ: إِمَّا عَلَى الخوف من الاتكال على الكتب استغناء به عَنِ الْحِفْظِ وَالتَّحْصِيلِ، وَإِمَّا عَلَى مَا كَانَ رَأْيًا دُونَ مَا كَانَ نَقْلًا مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ ثُمَّ اتَّفَقَ النَّاسُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى تَدْوِينِ الْجَمِيعِ لَمَّا ضَعُفَ الْأَمْرُ، وَقَلَّ الْمُجْتَهِدُونَ فِي التَّحْصِيلِ، فَخَافُوا عَلَى الدِّينِ الدُّرُوسَ (6) جُمْلَةً.
قَالَ اللَّخْمِيُّ (7) ـ لَمَّا ذُكِرَ كَلَامُ مَالِكٍ وغيره في كراهية بيع كتب العلم
_________
(1) أي الوجه الثاني في احتجاج من يقسم البدعة إلى حسنة وقبيحة.
(2) في (خ) و (ط): "هذا".
(3) في (م) و (ت) و (غ): "ولم يكن إذ ذاك".
(4) في (م) و (ت) و (غ) "حصر" بالصاد، وفي (خ): "حضر" بالضاد، والناسخ يجعل الظاء ضاداً، وما في (م) و (ت) لعله مثل (خ) إلا أن النقطة لم تكتب.
(5) في (خ) و (ط): "كان".
(6) ساقطة من (خ) و (ط).
(7) هو علي بن محمد الربعي، المعروف باللخمي القيرواني، رئيس الفقهاء في وقته، له تعليق على المدونة سماه التبصرة، مشهور معتمد في المذهب. توفي سنة 478هـ انظر شجرة النور الزكية لمخلوف (1/ 117).(1/308)
وَالْإِجَارَةِ عَلَى تَعْلِيمِهِ، وَخَرَّجَ عَلَيْهِ الْإِجَارَةَ عَلَى كتبه، وحكى الخلاف ـ قال (1): (ولا (2) أرى أن يختلف اليوم (3) فِي ذَلِكَ أَنَّهُ جَائِزٌ، لِأَنَّ حِفْظَ النَّاسِ وَأَفْهَامَهُمْ قَدْ نَقَصَتْ، وَقَدْ كَانَ كَثِيرٌ مِمَّنْ تَقَدَّمَ لَيْسَتْ لَهُمْ كُتُبٌ".
قَالَ مَالِكٌ: وَلَمْ يَكُنْ لِلْقَاسِمِ (4) وَلَا لِسَعِيدٍ (5) كُتُبٌ، وَمَا كُنْتُ أقرأ العلم (6) عَلَى أَحَدٍ يَكْتُبُ (7) فِي هَذِهِ الْأَلْوَاحِ، وَلَقَدْ قُلْتُ لِابْنِ شِهَابٍ (8): (أَكُنْتَ تَكْتُبُ الْعِلْمَ؟)، فَقَالَ: (لا)، فقلت: (أكنت تسألهم (9) أن يعيدوا (10) عَلَيْكَ الْحَدِيثَ؟) فَقَالَ: (لَا) (11).
فَهَذَا كَانَ شَأْنُ الناس، فلو سار (12) الناس اليوم (13) بسيرتهم (14)، لضاع العلم (15)، ولم يكن يبقى (16) منه رسمه (17)، وهذا الناس اليوم يقرأون كُتُبَهُمْ، ثُمَّ هُمْ فِي التَّقْصِيرِ عَلَى مَا هم عليه.
_________
(1) في (خ) و (ت) و (ط): "وقال".
(2) في (خ) و (ط): "لا" بدون واو.
(3) العبارة في (خ) و (ط): "ولا أرى اليوم أن يختلف".
(4) هو القاسم بن محمد، وقد تقدمت ترجمته (ص201).
(5) هو سعيد بن المسيب، وقد تقدمت ترجمته (ص201).
(6) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط).
(7) في (غ): "ولا يكتب".
(8) هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب، أبو بكر القرشي الزهري حافظ زمانه، وكان فقيهاً حافظاً، متفق على جلالته وإتقانه، وكان أعلم أهل المدينة. توفي سنة 125هـ.
انظر: التاريخ الكبير للبخاري (1/ 220)، السير (5/ 326)، التقريب (2/ 207)، الكاشف (3/ 85).
(9) في (خ) و (ت) و (ط): "تحب"، وساقطة من (م).
(10) في (م) و (ت): "يقيدوا"، وفي (خ) و (ط): "القيدوا".
(11) ذكر ابن عبد البر عن مالك أنه قال: (لم يكن مع ابن شهاب كتاب إلا كتاب فيه نسب قومه، قال: ولم يكن القوم يكتبون، إنما كانوا يحفظون). انظر جامع بيان العلم (1/ 64).
(12) في (م) و (خ) و (ت): "صار".
(13) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط).
(14) في (خ) و (ط): "سيرتهم"، وفي (م) و (ت): "لسيرتهم".
(15) كتبت في (ت) فوق السطر.
(16) ساقطة من (خ) و (ط).
(17) نص العبارة في (خ) و (ط): "ولم يكن بينا منه ولو رسمه أو اسمه".(1/309)
وأيضاً فإنه لا خلاف عندنا في مسائر الْفُرُوعِ أَنَّ الْقَوْلَ فِيهَا بِالِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ وَاجِبٌ، وإذا كان كذلك كان إهمال كتابة (1) كُتُبِهَا (2) وَبَيْعِهَا يُؤَدِّي إِلَى التَّقْصِيرِ فِي الِاجْتِهَادِ، وَأَنْ لَا يُوضَعَ مَوَاضِعَهُ، لِأَنَّ فِي (3) مَعْرِفَةِ أَقْوَالِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالتَّرْجِيحِ بَيْنَ أَقَاوِيلِهِمْ قُوَّةً وَزِيَادَةٌ فِي وَضْعِ الِاجْتِهَادِ مَوَاضِعَهُ) (4).
انْتَهَى مَا قَالَهُ اللَّخْمِيُّ. وَفِيهِ إِجَازَةُ الْعَمَلِ بِمَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ مَنْ تَقَدَّمَ، لِأَنَّ لَهُ وَجْهًا صَحِيحًا.
فَكَذَلِكَ نَقُولُ: كُلُّ مَا كَانَ مِنَ الْمُحْدَثَاتِ لَهُ وَجْهٌ صَحِيحٌ فَلَيْسَ بِمَذْمُومٍ، بَلْ هُوَ مَحْمُودٌ، وَصَاحِبُهُ الَّذِي سَنَّهُ مَمْدُوحٌ، فَأَيْنَ ذَمُّهَا بِإِطْلَاقٍ، أَوْ عَلَى الْعُمُومِ؟!
وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (تَحْدُثُ لِلنَّاسِ أَقْضِيَةٌ بِقَدْرِ مَا أَحْدَثُوا مِنَ الْفُجُورِ) (5).
فَأَجَازَ ـ كَمَا تَرَى ـ إِحْدَاثَ الْأَقْضِيَةِ وَاخْتِرَاعَهَا عَلَى قَدْرِ اخْتِرَاعِ الْفُجَّارِ لِلْفُجُورِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لتلك المحدثات أصل.
(ومن ذلك تضمين الصناع (6)، وهو محكي عن الخلفاء رضي الله عنهم) (7)، وَقَتْلُ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ (8).
وَأَخَذَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ بِقَوْلِ الْمَيِّتِ: دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ، وَلَمْ يَأْتِ لَهُ فِي
_________
(1) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط).
(2) في (م): "كتبه كتبها".
(3) ساقطة من (غ).
(4) كتاب التبصرة للخمي غير مطبوع، ولا أعلم له كتاباً آخر مطبوعاً.
(5) سيأتي تضعيف المؤلف لهذا القول (ص349).
(6) سيتكلم المؤلف عن هذه المسألة في الباب الثامن، حيث جعلها مثالاً من أمثلة المصالح المرسلة (2/ 119).
(7) ما بين المعكوفين ساقط من (خ) و (ط).
(8) سيذكر المؤلف هذه المسألة كمثال للمصالح المرسلة، انظر الباب الثامن (2/ 125).(1/310)
الموطأ بأصل سماعي، وإنما علل بأمر مصلحي (1)، وَفِي مَذْهَبِهِ مِنْ ذَلِكَ مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ (2).
فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا، مَعَ أَنَّهُ مُخْتَرَعٌ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ مِثْلُهُ وَقَدِ اجْتَمَعَا فِي الْعِلَّةِ؟ لِأَنَّ الْجَمِيعَ مَصَالِحُ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ جَائِزًا، فَلِمَ اجْتَمَعُوا عَلَى جُمْلَةٍ مِنْهَا (3)، وَفَرَّعَ غَيْرُهُمْ عَلَى بَعْضِهَا (4)؟ وَلَا يَبْقَى إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ يتابعون على ما عمل به (5) هؤلاء منها (6) دُونَ غَيْرِهِ (7)، وَإِنِ اجْتَمَعَا فِي الْعِلَّةِ الْمُسَوِّغَةِ لِلْقِيَاسِ. وَعِنْدَ ذَلِكَ يَصِيرُ الِاقْتِصَارُ تَحَكُّمًا، وَهُوَ بَاطِلٌ، فَمَا أَدَّى إِلَيْهِ مِثْلُهُ، فَثَبَتَ أَنَّ الْبِدَعَ تَنْقَسِمُ (8).
"فَالْجَوَابُ" وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ أَنْ نَقُولَ:
أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ، فَإِنَّ (9) قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً" الْحَدِيثَ، ليس الْمُرَادُ بِهِ الِاخْتِرَاعَ أَلْبَتَّةَ، وَإِلَّا لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ، إِنْ زَعَمَ مُورِدُ السُّؤَالِ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنَ الدَّلِيلِ مَقْطُوعٌ بِهِ، فَإِنْ زَعَمَ أَنَّهُ مَظْنُونٌ فَمَا تَقَدَّمَ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى ذَمِّ الْبِدَعِ مَقْطُوعٌ به، فيلزم منه (10) التَّعَارُضُ بَيْنَ الْقَطْعِيِّ وَالظَّنِّيِّ، وَالِاتِّفَاقُ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ (أن لا تعارض بينهما لسقوط الظني وعدم اعتباره، فلم يبق إلا أن يقال إنه من قبيل العام والخاص، ولا تعارض بينهما عند المحققين) (11) ولكن لا دليل (12) فيه من وجهين:
_________
(1) أثبته من (غ) و (ر)، وفي بقية النسخ: "مصطلحي".
(2) في (ت): "كثرة".
(3) ساقطة من (خ) و (ط).
(4) نص العبارة في (ت): "وفرع بعضهم على غيرها غيرهم على بعضها"، وكأنه صحح الأولى بالثانية.
(5) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط).
(6) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط).
(7) في (خ) و (ط): "غيرهم".
(8) إلى هنا ينتهي ما ذكره المؤلف عن القائلين بانقسام البدع إلى حسن وقبيح، ثم يشرع في الجواب عما قالوه.
(9) في (ت): "وهو".
(10) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط).
(11) ما بين المعكوفين ساقط من (م) و (خ) و (ت) و (ط).
(12) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط).(1/311)
أحدهما: أن (1) يُقَالُ: إِنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْمُتَعَارِضَيْنِ إِذْ تَقَدَّمَ (2) أَوَّلًا أَنَّ أَدِلَّةَ الذَّمِّ تَكَرَّرَ عُمُومُهَا فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ (3)، وَإِذَا (4) تَعَاضَدَتْ (5) أَدِلَّةُ الْعُمُومِ مِنْ غَيْرِ (6) تَخْصِيصٍ، لَمْ يُقْبَلْ (7) بعد ذلك التخصيص.
والثاني: على التنزل (8) بفقد (9) التَّعَارُضِ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ الِاسْتِنَانَ بِمَعْنَى الِاخْتِرَاعِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ الْعَمَلُ بِمَا ثَبَتَ مِنَ السنة النبوية، وذلك من وجهين (10):
أحدهما: أن السبب الذي لأجله جاء (11) الْحَدِيثُ هُوَ الصَّدَقَةُ الْمَشْرُوعَةُ، بِدَلِيلِ مَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ (جَرِيرِ) (12) بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَدْرِ النَّهَارِ، فَجَاءَهُ قَوْمٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ مُجْتَابِي النِّمَارِ (13) ـ أو العباء (14) ـ متقلدي السيوف، عامتهم من (15) مضر، بل كلهم من مضر، فتمعر (16) وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما رأى بهم (17) مِنَ الْفَاقَةِ، فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ، فَأَمَرَ بِلَالًا فأذن وأقام، فصلى ثم خطب، فقال: " {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} (18) الآية،
__________
(1) في (ط): "أنه".
(2) في (م) و (غ) و (ر): "إذ قد مر".
(3) في (ط): "تخصيصن".
(4) في (م) و (غ) و (ر): "إذا" بدون الواو.
(5) في (خ) و (ت) و (ط): "تعارضت".
(6) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط).
(7) في (م) و (غ): "تقبل".
(8) في (خ): "التنزيل".
(9) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "لفقد".
(10) في (خ) و (ط): "وذلك لوجهين".
(11) في (خ) و (ط): "جاء لأجله".
(12) في جميع النسخ "جابر"، والصواب المثبت إذ هو راوي الحديث.
(13) في (خ) و (ت): "الثمار"، وهو خطأ، والصواب المثبت.
قال الإمام النووي في شرح مسلم: (النمار بكسر النون جمع نمرة بفتحها، وهي ثياب صوف فيها تنمير، والعباء بالمد وبفتح العين جمع عباءة وعباية لغتان وقوله مجتابي النمار أي خرقوها وقوروا وسطها) (7/ 102).
(14) في (غ): "والعباء".
(15) ساقطة من (خ) و (ط).
(16) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "فقمص". وهي خلاف الرواية أيضاً.
(17) في (خ) و (ت) و (ط): "لما راءهم".
(18) سورة النساء: آية (1).(1/312)
وَالْآيَةُ الَّتِي فِي سُورَةِ الْحَشْرِ: {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} (1)، تَصَدَّقَ (2) رَجُلٌ مِنْ (3) دِينَارِهِ، مِنْ دِرْهَمِهِ، مِنْ ثَوْبِهِ، مِنْ صَاعِ بُرِّهِ، مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ، حتى قال: ولو بشق تمرة" قال: فجاء (4) رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ بِصُرَّةٍ كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجِزُ عَنْهَا، بَلْ قَدْ عَجَزَتْ. قَالَ: ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ حَتَّى رَأَيْتُ كَوْمَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَثِيَابٍ، حتى رأيت وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَهَلَّلُ (5) كَأَنَّهُ مُذْهَبَةٌ (6)، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا (7) بَعْدَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً، كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ" (8).
فَتَأَمَّلُوا أَيْنَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ("مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً" وَ) (9) "مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً"، تَجِدُوا ذَلِكَ فِيمَنْ عَمِلَ بِمُقْتَضَى الْمَذْكُورِ عَلَى أَبْلَغِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، حيث (10) أتى (11) بِتِلْكَ الصُّرَّةِ، فَانْفَتَحَ بِسَبَبِهِ (12) بَابُ الصَّدَقَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَبْلَغِ، فَسُرَّ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى قَالَ: "مَن سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً" الْحَدِيثَ، فَدَلَّ (13) عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ هَاهُنَا مِثْلُ مَا فَعَلَ ذَلِكَ الصَّحَابِيُّ، وَهُوَ الْعَمَلُ بِمَا ثَبَتَ كَوْنُهُ سُنَّةً، وَأَنَّ الْحَدِيثَ مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: "من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي" الحديث إلى
_________
(1) سورة الحشر: آية (18).
(2) غير واضحة في (ت).
(3) ساقطة من (م) و (خ) و (ت).
(4) في (ط): "فجاءه".
(5) قال الإمام النووي في شرح مسلم: (يتهلل: أي يستنير فرحاً وسروراً) (7/ 103).
(6) قال الإمام النووي في شرح مسلم: (وعلى هذا ذكر القاضي وجهين في تفسيره: أحدهما: معناه فضة مذهبة، فهو أبلغ في حسن الوجه وإشراقه، والثاني شبهه في حسنه ونوره بالمذهبة من الجلود، وجمعها مذاهب، وهي شيء كانت العرب تصنعه من جلود، وتجعل فيها خطوطاً مذهبه يرى بعضها أثر بعض). شرح مسلم للنووي (7/ 103).
(7) ساقطة من (ت).
(8) تقدم تخريج الحديث (ص333).
(9) ما بين المعكوفين ساقط من (ط).
(10) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "حتى".
(11) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط).
(12) في (غ): "بنيته".
(13) في (م) و (ت): "يدل".(1/313)
قَوْلِهِ: "وَمَنِ ابْتَدَعَ بِدْعَةً ضَلَالَةً" (1)، فَجَعَلَ مُقَابِلَ تِلْكَ السُّنَّةِ الِابْتِدَاعَ، فَظَهَرَ أَنَّ السُّنَّةَ الْحَسَنَةَ ليست بمبتدعة، وكذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم: "وَمَنْ أَحْيَا سُنَّتِي فَقَدْ أَحَبَّنِي" (2).
وَوَجْهُ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ ظَاهِرٌ، لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم لما حض (3) عَلَى الصَّدَقَةِ أَوَّلًا، ثُمَّ جَاءَ ذَلِكَ الْأَنْصَارِيُّ بِمَا جَاءَ بِهِ، فَانْثَالَ (4) بَعْدَهُ الْعَطَاءُ إِلَى الْكِفَايَةِ، فَكَأَنَّهَا كَانَتْ سُنَّةً أَيْقَظَهَا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِفِعْلِهِ، فَلَيْسَ مَعْنَاهُ مَنِ اخْتَرَعَ سُنَّةً وَابْتَدَعَهَا وَلَمْ تَكُنْ ثَابِتَةً.
وَنَحْوَ هَذَا (5) الْحَدِيثِ فِي رَقَائِقِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، مِمَّا يُوضِّحُ معناه، عن حذيفة رضي الله تعالى عنه، قَالَ: قَامَ سَائِلٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَ، فَسَكَتَ الْقَوْمُ، ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا أَعْطَاهُ، فَأَعْطَاهُ الْقَوْمُ، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اسْتَنَّ خَيْرًا فَاسْتُنَّ بِهِ، فَلَهُ أَجْرُهُ وَمِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، غَيْرَ مُنْتَقِصٍ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنِ اسْتَنَّ شَرًّا فَاسْتُنَّ بِهِ، فَعَلَيْهِ وِزْرُهُ وَمِثْلُ أَوْزَارِ مَنْ تَبِعَهُ، غَيْرَ مُنْتَقِصٍ من أوزارهم شيئاً (6) " (7).
فإذن قَوْلُهُ: "مَنْ سَنَّ سُنَّةً" مَعْنَاهُ مَنْ عَمِلَ بِسُنَّةٍ، لَا مَنِ اخْتَرَعَ سُنَّةً (8).
وَالْوَجْهُ (9) الثَّانِي مِنْ وَجْهَيِ الْجَوَابِ (10): أَنَّ قَوْلَهُ: "مَنْ سَنَّ سنة
_________
(1) تقدم تخريجه (ص33).
(2) تقدم تخريجه (ص34).
(3) في (خ) و (ط): "مضى".
(4) انثال: أي انصب، قال في الصحاح: وتناثل الناس إليه، أي انصبوا. انظر الصحاح (5/ 1825).
(5) ساقطة من (م) و (ت) و (غ) و (ر).
(6) ساقطة من (خ) و (ط).
(7) رواه الإمام ابن المبارك في الزهد والرقائق (ص513)، والإمام أحمد في المسند (5/ 387)، والبزار في مسنده كما في كشف الأستار (1/ 89) برقم (150)، والطبراني في معجمه الأوسط كما في مجمع البحرين (1/ 222 ـ 223) برقم (238) وقال الهيثمي في المجمع: رجاله رجال الصحيح إلا أبا عبيدة بن حذيفة وقد وثقه ابن حبان (1/ 172)، ويشهد له حديث أبي هريرة عند مسلم، وتقدم تخريجه (ص118) وحديث جرير بن عبد الله عند مسلم وغيره، وتقدم تخريجه (ص119).
(8) عبارة (غ): "لا من اخترعها".
(9) في (خ): "والجواب".
(10) أي من وجهي الجواب على أن المراد بحديث "من سن سنة" العمل بما ثبت من السنة لا الاختراع.(1/314)
حسنة" و"من سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً" لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الِاخْتِرَاعِ مِنْ أَصْلٍ، لِأَنَّ كَوْنَهَا حَسَنَةً أَوْ سَيِّئَةً لَا يُعْرَفُ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ، لِأَنَّ التَّحْسِينَ وَالتَّقْبِيحَ مُخْتَصٌّ بِالشَّرْعِ، لَا مَدْخَلَ لِلْعَقْلِ فِيهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ جَمَاعَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ (1). وَإِنَّمَا يَقُولُ بِهِ الْمُبْتَدِعَةُ، أَعْنِي التَّحْسِينَ وَالتَّقْبِيحَ بِالْعَقْلِ، فَلَزِمَ أَنْ تَكُونَ (2) السُّنَّةُ فِي الْحَدِيثِ إما حسنة بالشرع (3)، وإما قبيحة بالشرع، فلا تصدق (4) إِلَّا عَلَى مِثْلِ الصَّدَقَةِ الْمَذْكُورَةِ وَمَا أَشْبَهَهَا مِنَ السُّنَنِ الْمَشْرُوعَةِ، وَتَبْقَى السُّنَّةُ السَّيِّئَةُ مُنَزَّلَةٌ عَلَى الْمَعَاصِي الَّتِي ثَبَتَ بِالشَّرْعِ كَوْنُهَا مَعَاصِيَ، كَالْقَتْلِ الْمُنَبَّهِ عَلَيْهِ فِي حَدِيثِ ابْنِ آدَمَ، حَيْثُ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ" (5)، وَعَلَى الْبِدَعِ، لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ ذَمُّهَا، وَالنَّهْيُ عَنْهَا بِالشَّرْعِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَأَمَّا قوله: "ومن (6) ابْتَدَعَ بِدْعَةً ضَلَالَةً"، فَهُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ، لِأَنَّ سَبَبَ الْحَدِيثِ لَمْ يُقَيِّدْهُ بِشَيْءٍ، فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ كَالْعُمُومَاتِ الْمُبْتَدَأَةِ التي لم يثبت (7) لَهَا أَسْبَابٌ.
وَيَصِحُّ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى نَحْوِ ذَلِكَ قَوْلُهُ: "وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً" أَيْ مَنِ اخْتَرَعَهَا، وَشَمَلَ (8) مَا كَانَ مِنْهَا مُخْتَرَعًا ابْتِدَاءً مِنَ الْمَعَاصِي، كَالْقَتْلِ مِنْ أَحَدِ ابْنَيْ آدَمَ، وَمَا كَانَ مُخْتَرَعًا بِحُكْمِ الْحَالِ، إِذْ (9) كَانَتْ قَبْلُ مُهْمَلَةً مُتَنَاسَاةً فَأَثَارَهَا عَمَلُ هَذَا الْعَامِلِ.
فَقَدْ عَادَ الْحَدِيثُ ـ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ ـ حُجَّةً عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ مِنْ جِهَةِ لَفْظِهِ، وَشَرْحِ الْأَحَادِيثِ الْأُخَرِ لَهُ.
وَإِنَّمَا يَبْقَى النَّظَرُ فِي قَوْلِهِ: "وَمَنِ ابْتَدَعَ بِدْعَةً ضَلَالَةً"، وَأَنَّ تَقْيِيدَ
_________
(1) تقدم التعليق على مسألة التحسين والتقبيح (ص213).
(2) في (م): "يكون".
(3) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "في الشرع".
(4) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "يصدق".
(5) تقدم تخريج الحديث (ص230).
(6) في (خ) و (ط): "من" بدون الواو.
(7) في (خ) و (ط): "تثبت".
(8) في (غ): "ويشمل".
(9) في (خ) و (ت): "إذا".(1/315)
الْبِدْعَةِ بِالضَّلَالَةِ يُفِيدُ مَفْهُومًا (1)، وَالْأَمْرُ فِيهِ قَرِيبٌ، لِأَنَّ الْإِضَافَةَ فِيهِ لَمْ تُفِدْ مَفْهُومًا.
وَإِنْ قُلْنَا بِالْمَفْهُومِ عَلَى رَأْيِ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ (2)، فَإِنَّ (3) الدَّلِيلَ دَلَّ عَلَى تَعْطِيلِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، كَمَا دَلَّ دَلِيلُ تَحْرِيمِ الرِّبَا قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ عَلَى تَعْطِيلِ الْمَفْهُومِ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} (4) (5)، وَلِأَنَّ الضَّلَالَةَ لَازِمَةٌ لِلْبِدْعَةِ (6) بِإِطْلَاقٍ، بِالْأَدِلَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَلَا مَفْهُومَ أَيْضًا.
وَالْجَوَابُ (7) عَنِ الْإِشْكَالِ الثَّانِي (8): أَنَّ جَمِيعَ مَا ذُكِرَ فِيهِ مِنْ قَبِيلِ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ، لَا مِنْ قَبِيلِ الْبِدْعَةِ الْمُحْدَثَةِ. وَالْمَصَالِحُ الْمُرْسَلَةُ قَدْ عَمِلَ بِمُقْتَضَاهَا السَّلَفُ الصَّالِحُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، فَهِيَ مِنَ الْأُصُولِ الْفِقْهِيَّةِ الثَّابِتَةِ عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ، وَإِنْ كَانَ فيها خلاف بينهم (9)، ولكن لا يعود (10) ذلك بقدح (11) على ما نحن فيه.
_________
(1) وهو مفهوم المخالفة، فإذا كانت البدعة المذمومة هي بدعة الضلالة، فالبدعة الحسنة ليست بمذمومة، وسيبين المؤلف بطلان هذا الاستدلال.
(2) والقول بمفهوم المخالفة هو رأي الجمهور بضوابطه، والأحناف لا يعدونه حجة.
انظر: المستصفى للغزالي (2/ 42)، والإحكام للآمدي (2/ 153)، وإرشاد الفحول للشوكاني (178)، أصول الفقه الإسلامي للدكتور وهبة الزحيلي (1/ 367)، أصول الفقه للشيخ أبو زهرة (ص148).
(3) في (م) و (غ): "لأن".
(4) سورة آل عمران: آية (130).
(5) مفهوم المخالفة المنفي عن الآية هو جواز أكل القليل من الربا إذا لم يكن أضعافاً مضاعفة، وهو مفهوم باطل لأن المراد بتقييد الربا هنا بالأضعاف المضاعفة هو التنفير مما كان يفعله أهل الجاهلية، من الزيادة على رأس المال، ومضاعفة هذه الزيادة سنة بعد أخرى. والذي دل على كون القيد للتنفير هو قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} سورة البقرة: آية (279).
انظر: أصول الفقه للدكتور وهبة الزحيلي (1/ 372 ـ 373)، أصول الفقه للشيخ أبو زهرة (ص151 ـ 152).
(6) في (م): "البدعة".
(7) ساقطة من (م)، وبياض في (غ).
(8) وهو احتجاجهم بأن الصحابة ومن بعدهم قد عملوا بما لم يأت به كتاب ولا سنة، كجمع القرآن.
(9) انظر هذه المسألة في الباب الثامن (2/ 111 ـ 112).
(10) في (خ) و (ط): "يعد".
(11) في (م) و (خ) و (ت): "قدح".(1/316)
أَمَّا جَمْعُ الْمُصْحَفِ، وَقَصْرُ النَّاسِ عَلَيْهِ، فَهُوَ عَلَى الْحَقِيقَةِ مِنْ هَذَا الْبَابِ، إِذْ أُنْزِلَ (1) الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ كُلُّهُا شَافٍ كَافٍ، تَسْهِيلًا عَلَى الْعَرَبِ الْمُخْتَلِفَاتِ اللُّغَاتِ (2)، فَكَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي ذَلِكَ ظَاهِرَةً، إِلَّا أَنَّهُ عَرَضَ فِي إِبَاحَةِ ذَلِكَ بَعْدَ زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتْحٌ لِبَابِ الِاخْتِلَافِ فِي الْقُرْآنِ، حَيْثُ (3) اخْتَلَفُوا فِي الْقِرَاءَةِ (4) حَسْبَمَا يَأْتِي بِحَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى (5)، فَخَافَ الصَّحَابَةُ ـ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمُ ـ اخْتِلَافَ الْأُمَّةِ فِي يَنْبُوعِ الْمِلَّةِ، فَقَصَرُوا النَّاسَ عَلَى مَا ثَبَتَ مِنْهَا فِي مصاحف عثمان رضي الله تعالى عَنْهُ، وَاطَّرَحُوا مَا سِوَى ذَلِكَ، عِلْمًا بِأَنَّ مَا اطَّرَحُوهُ مُضَمَّنٌ فِيمَا أَثْبَتُوهُ، لِأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْقِرَاءَاتِ الَّتِي يُؤَدَّى بِهَا الْقُرْآنُ.
ثُمَّ ضبطوا ذلك أيضاً (6) بِالرِّوَايَةِ حِينَ فَسَدَتِ الْأَلْسِنَةُ، وَدَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ أَهْلُ الْعُجْمَةِ، خَوْفًا مِنْ فَتْحِ بَابٍ آخَرَ مِنَ الْفَسَادِ، وَهُوَ أَنْ يُدْخِلَ أَهْلُ الْإِلْحَادِ فِي الْقُرْآنِ أَوْ فِي الْقِرَاءَاتِ مَا لَيْسَ مِنْهَا، فَيَسْتَعِينُوا بِذَلِكَ فِي بَثِّ إِلْحَادِهِمْ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ (7) لَمَّا لَمْ يُمْكِنُهُمُ الدُّخُولُ مِنْ هَذَا الْبَابِ دَخَلُوا مِنْ جِهَةِ التَّأْوِيلِ وَالدَّعْوَى فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ، حَسْبَمَا يَأْتِي ذِكْرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (8).
فَحَقٌّ مَا فَعَلَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّ لَهُ أصْلًا يَشْهَدُ لَهُ فِي الْجُمْلَةِ، وَهُوَ الْأَمْرُ بِتَبْلِيغِ الشَّرِيعَةِ، وَذَلِكَ لَا خِلَافَ فِيهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} (9)، وَأُمَّتُهُ مِثْلُهُ، وَفِي الْحَدِيثِ: (لِيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الغائب) (10) وأشباهه.
_________
(1) في (م): "نزل".
(2) أي اللهجات.
(3) غير واضحة في (ت).
(4) في (غ) و (ر): "القراءات".
(5) سوف يتكلم المؤلف عن مسألة جمع القرآن بشيء من البسط في الباب الثامن (2/ 115 ـ 117).
(6) زيادة في (م).
(7) في (ت): "أنهم".
(8) سيتكلم المؤلف عن مآخذ المبتدعة في الاستدلال في الباب الرابع.
(9) سورة المائدة: آية (67).
(10) رواه الإمام البخاري في كتاب العلم من صحيحه، باب قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: "رب مبلغ=(1/317)
وَالتَّبْلِيغُ كَمَا لَا يَتَقَيَّدُ بِكَيْفِيَّةٍ مَعْلُومَةٍ، لِأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْمَعْقُولِ الْمَعْنَى، فَيَصِحُّ بِأَيِّ شَيْءٍ أمكن من الحفظ والتلقين والكتابة (1) وغيرها، كذلك لَا يَتَقَيَّدُ حِفْظُهُ عَنِ التَّحْرِيفِ وَالزَّيْغِ بِكَيْفِيَّةٍ دُونَ أُخْرَى إِذَا لَمْ يَعُدْ عَلَى الْأَصْلِ بالإبطال (2)، كَمَسْأَلَةِ الْمُصْحَفِ، وَلِذَلِكَ أَجْمَعَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ.
وَأَمَّا مَا سِوَى الْمُصْحَفِ فَالْأَمْرُ فِيهِ أَسْهَلُ، فقد ثبت في السنة أصل (3) كِتَابَةُ الْعِلْمِ، فَفِي الصَّحِيحِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اكْتُبُوا لِأَبِي (4) شَاهٍ" (5)، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: (لَيْسَ أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم أكثر حديثاً عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مني (6)، إِلَّا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو (7)، فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ، وَكُنْتُ لَا أَكْتُبُ) (8).
وَذَكَرَ أَهْلُ السِّيَرِ أَنَّهُ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ (9) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم كتاب يكتبون له الوحي
_________
=أوعى من سامع" عن أبي بكرة رضي الله عنه (1/ 157 ـ 158) ومسلم في كتاب القسامة من صحيحه، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال (167 ـ 172)، والإمام الدارمي في كتاب المناسك، باب في الخطبة يوم النحر برقم (1916) (2/ 93)، والإمام ابن ماجه في المقدمة من سننه، باب من بلغ علماً برقم (223) (1/ 85)، والإمام أحمد في المسند (5/ 37).
(1) ساقطة من (غ).
(2) في (م) و (ت): "الابطال".
(3) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط).
(4) في (خ): "لي".
(5) رواه الإمام البخاري في كتاب العلم من صحيحه، باب كتابة العلم عن أبي هريرة (1/ 205)، وفي كتاب اللقطة، باب كيف تعرف لقطة مكة (5/ 86 ـ 87)، والإمام أبو داود في كتاب المناسك من سننه، باب تحريم حرم مكة برقم (2017) (2/ 218 ـ 219)، والإمام الترمذي في كتاب العلم من سننه، باب ما جاء في الرخصة "في كتابة العلم" برقم (2667) (5/ 38)، والإمام أحمد في المسند (2/ 238).
(6) ساقطة من (م) و (ت)، وقدمت في (خ) و (ط) على قوله: "رسول الله ... ".
(7) في (خ) و (ت): "عمر" وهو خطأ.
(8) رواه الإمام البخاري في كتاب العلم من صحيحه، باب كتابة العلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه (1/ 206)، والإمام الترمذي في كتاب العلم من سننه، باب ما جاء في الرخصة في "كتابة العلم" برقم (2668) (5/ 39)، وفي كتاب المناقب برقم (3841) (5/ 644)، والإمام أحمد في المسند (2/ 248 ـ 249).
(9) لفظ الجلالة ليس في (ت).(1/318)
وَغَيْرَهُ، مِنْهُمْ عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَمُعَاوِيَةُ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَغَيْرُهُمْ (1).
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْكِتَابَةَ مِنْ قَبِيلِ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ إِذَا تَعَيَّنَ لِضَعْفِ الْحِفْظِ، وَخَوْفِ انْدِرَاسِ الْعِلْمِ، كَمَا خِيفَ (على القرآن فِي زَمَانِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فدليل كَتْب العلم إذا خيف) (2) دروسه عتيد (3). وَهُوَ الَّذِي نَبَّهَ عَلَيْهِ اللَّخْمِيُّ فِيمَا تَقَدَّمَ (4) وَإِنَّمَا كَرِهَ (5) الْمُتَقَدِّمُونَ كَتْبَ الْعِلْمِ لِأَمْرٍ آخَرَ (6)، لَا لِكَوْنِهِ بِدْعَةً، فَكُلُّ مِنْ سَمَّى كَتْبَ الْعِلْمِ بِدْعَةً فَإِمَّا مُتَجَوِّزٌ، وَإِمَّا غَيْرُ عَارِفٍ بوضع (7) لَفْظِ الْبِدْعَةِ. فَلَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ على صحة العمل بالبدع.
وإن تعلق بِمَا وَرَدَ مِنَ الْخِلَافِ فِي الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ، وَأَنَّ الْبِنَاءَ عَلَيْهَا غَيْرُ (8) صَحِيحٍ عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ (9)، (فَالْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ) (10) إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى الْمُصْحَفِ وَالرُّجُوعِ إِلَيْهِ، وَإِذَا ثَبَتَ اعْتِبَارُهَا (11) فِي صُورَةٍ ثَبَتَ اعْتِبَارُهَا مُطْلَقًا، وَلَا يَبْقَى بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ نِزَاعٌ إِلَّا فِي الْفُرُوعِ.
وَفِي الصَّحِيحِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ" (12)، فَأَعْطَى الْحَدِيثُ ـ كَمَا تَرَى ـ أَنَّ مَا سَنَّهُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ
_________
(1) وممن ذكر كتَّابه صلّى الله عليه وسلّم الإمام ابن القيم في زاد المعاد (1/ 117)، والتنبيه والإشراف للمسعودي (245 ـ 246).
(2) ما بين المعكوفين ساقط من (م) و (خ) و (ت) و (ط).
(3) في (خ) و (ط): "حينئذ"، وعتيد يعني: حاضر.
(4) تقدم (ص337).
(5) في (ت): "ذكر".
(6) تقدم سبب كراهتهم لذلك (ص336).
(7) في (م) و (ت): "بموضع"، وغير واضحة في (غ).
(8) ساقطة من (م) و (ت).
(9) سيتكلم المؤلف عن هذه المسألة في بداية الباب الثامن (2/ 111 ـ 112).
(10) ساقط من (غ).
(11) في (غ): "اعتبار".
(12) تقدم تخريج الحديث (ص66).(1/319)
لَاحِقٌ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّ مَا سَنُّوهُ لَا يَعْدُو أَحَدَ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، فَذَلِكَ سُنَّةٌ لَا بِدْعَةٌ، وَإِمَّا بِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَمَعَاذَ اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ دَلِيلٌ عَلَى إِثْبَاتِهِ سُنَّةً، إِذْ قَدْ أَثْبَتَهُ كذلك صاحب الشريعة صلّى الله عليه وسلّم.
فدليله مِنَ الشَّرْعِ ثَابِتٌ، فَلَيْسَ بِبِدْعَةٍ، وَلِذَلِكَ أَرْدَفَ الأمر (1) باتباعهم (2) بِالنَّهْيِ عَنِ الْبِدَعِ بِإِطْلَاقٍ، وَلَوْ كَانَ عَمَلُهُمْ ذَلِكَ بِدْعَةً لَوَقَعَ فِي الْحَدِيثِ التَّدَافُعُ.
وَبِذَلِكَ يُجَابُ عَنْ مَسْأَلَةِ قَتْلِ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ (3)، لِأَنَّهُ مَنْقُولٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهُوَ أَحَدُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَتَضْمِينُ الصُّنَّاعِ (4)، وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَأَمَّا مَا يُرْوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَلَمْ أَرَهُ ثَابِتًا مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ (5)، وَإِنْ سُلِّمَ فَرَاجِعٌ: إِمَّا لِأَصْلِ الْمَصَالِحِ المرسلة (وإما لباب تحقيق المناط، وكذلك الأخذ بقول الميت دمي عند فلان من باب الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ) (6) ـ إِنْ لَمْ نَقُلْ: إِنَّ أَصْلَهُ قِصَّةُ الْبَقَرَةِ (7) ـ، وَإِنْ (8) ثَبَتَ أَنَّ الْمَصَالِحَ الْمُرْسَلَةَ مَقُولٌ بِهَا عِنْدَ السَّلَفِ ـ مَعَ أَنَّ الْقَائِلِينَ بها يذمون البدع وأهلها، ويتبرأون مِنْهُمْ ـ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْبِدَعَ مُبَايِنَةٌ لَهَا، وَلَيْسَتْ مِنْهَا فِي شَيْءٍ، وَلِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَابٌ تذكر فيه (بعد إن شاء الله) (9) (10).
_________
(1) ساقطة من (خ) و (ت) و (ط).
(2) في (خ) و (ط): "اتباعهم".
(3) تكلم المؤلف عن هذه المسألة في الباب الثامن (2/ 125 ـ 126).
(4) تكلم المؤلف عن هذه المسألة في الباب الثامن (2/ 119).
(5) وهو قول عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: (تَحْدُثُ لِلنَّاسِ أَقْضِيَةٌ بقدر ما أحدثوا من الفجور)، وتقدم (ص338).
(6) ما بين المعكوفين ساقط من (م) و (خ) و (ت) و (ط).
(7) أراد القصة المذكورة في سورة البقرة، والشاهد أنه لما أحياه الله أخبرهم بقاتله، فبنوا الحكم على قوله.
(8) في (غ) و (ر): "وإذا".
(9) ما بين المعكوفين ساقط من (خ) و (ط).
(10) وهو الباب الثامن الذي بين فيه المؤلف الفرق بين المصالح المرسلة والبدع.(1/320)
فصل (1)
وَمِمَّا يُورَدُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ الْعُلَمَاءَ قَسَّمُوا الْبِدَعَ بِأَقْسَامِ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ الْخَمْسَةِ، وَلَمْ يَعُدُّوهَا قِسْمًا وَاحِدًا مَذْمُومًا، فَجَعَلُوا مِنْهَا مَا هُوَ وَاجِبٌ وَمَنْدُوبٌ وَمُبَاحٌ وَمَكْرُوهٌ وَمُحَرَّمٌ.
وَبَسَطَ ذَلِكَ الْقَرَافِيُّ (2) بَسْطًا شَافِيًا (3)، وَأَصْلُ مَا أَتَى به من ذلك لشيخه (4) عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ (5)، وَهَا أَنَا آتِي بِهِ عَلَى نَصِّهِ، فَقَالَ: "اعْلَمْ أَنَّ الْأَصْحَابَ ـ فِيمَا رَأَيْتُ ـ مُتَّفِقُونَ عَلَى إِنْكَارِ الْبِدَعِ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ (6) وَغَيْرُهُ (7)، وَالْحَقُّ التَّفْصِيلُ، وَأَنَّهَا خَمْسَةُ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ وَاجِبٌ، وَهُوَ مَا تَنَاوَلَتْهُ قَوَاعِدُ الْوُجُوبِ وَأَدِلَّتُهُ مِنَ الشرع، كتدوين القرآن
_________
(1) ويذكر المؤلف في هذا الفصل القائلين بانقسام البدع إلى أقسام الشريعة الخمسة، ثم يشرع في الرد عليهم (ص356).
(2) هو أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن، أبو العباس، شهاب الدين الصنهاجي القرافي، من علماء المالكية، له مصنفات جليلة في الفقه والأصول منها أنوار البروق في أنواء الفروق، وكتاب الفروق، وكتاب الذخيرة، توفي سنة 684هـ.
انظر: الأعلام للزركلي (1/ 94 ـ 95)، حسن المحاضرة للسيوطي (1/ 316)، الديباج المذهب (1/ 236).
(3) وذلك في كتابه الفروق (4/ 202 ـ 205).
(4) في (م) و (خ) و (ط): "شيخه".
(5) تقدمت ترجمته رحمه الله (ص24).
(6) هو أبو محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني، المالكي، ويقال له: مالك الصغير وكان أحد من برز في العلم والعمل، وهو الذي لخص المذهب، صنف النوادر والزيادات، والعتبية، والرسالة وغيرها. توفي رحمه الله سنة 389هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء (17/ 10)، النجوم الزاهرة (4/ 200)، شذرات الذهب (3/ 131).
(7) ومن المواضع التي ذكر فيها ابن أبي زيد ذم البدع وأهلها ما ذكره في كتابه الجامع في السنن والآداب (ص105 ـ 126).(1/321)
وَالشَّرَائِعِ إِذَا (1) خِيفَ عَلَيْهَا الضَّيَاعُ، فَإِنَّ (2) التَّبْلِيغَ لِمَنْ بَعْدَنَا مِنَ الْقُرُونِ وَاجِبٌ إِجْمَاعًا وَإِهْمَالُ ذَلِكَ حَرَامٌ إِجْمَاعًا، فَمِثْلُ هَذَا النَّوْعِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِي وُجُوبِهِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: الْمُحَرَّمُ، وَهُوَ كُلُّ بِدْعَةٍ تَنَاوَلَتْهَا قَوَاعِدُ التَّحْرِيمِ وَأَدِلَّتُهُ مِنَ الشَّرِيعَةِ، كَالْمُكُوسِ، وَالْمُحْدَثَاتِ مِنَ الْمَظَالِمِ، وَالْمُحْدَثَاتِ الْمُنَافِيَةِ لِقَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ، كَتَقْدِيمِ الْجُهَّالِ عَلَى الْعُلَمَاءِ، وَتَوْلِيَةِ الْمَنَاصِبِ الشَّرْعِيَّةِ مَنْ لَا يَصْلُحُ لها (3) بِطَرِيقِ (4) التَّوْرِيثِ، وَجَعْلِ الْمُسْتَنَدِ فِي ذَلِكَ كَوْنَ الْمَنْصِبِ كَانَ لِأَبِيهِ، وَهُوَ فِي نَفْسِهِ لَيْسَ بأهل.
القسم الثالث من (5) البدع مَنْدُوبٌ (6) إِلَيْهِ، وَهُوَ مَا تَنَاوَلَتْهُ قَوَاعِدُ النَّدْبِ وأدلته، كصلاة التراويح، وإقامة صُوَرِ الْأَئِمَّةِ وَالْقُضَاةِ وَوُلَاةِ الْأُمُورِ (7) عَلَى خِلَافِ مَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ أَنَّ الْمَصَالِحَ وَالْمَقَاصِدَ الشَّرْعِيَّةَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِعَظَمَةِ الْوُلَاةِ فِي نُفُوسِ النَّاسِ، وَكَانَ الناس في زمان (8) الصحابة رضوان الله عليهم مُعْظَمُ تَعْظِيمِهِمْ إِنَّمَا هُوَ بِالدِّينِ وَسَبْقِ الْهِجْرَةِ، ثم اختل النظام، وذهب ذلك القرن، وحدث قَرْنٌ آخَرُ لَا يُعَظِّمُونَ إِلَّا بِالصُّوَرِ، فَتَعَيَّنَ تَفْخِيمُ الصُّوَرِ حَتَّى تَحْصُلَ الْمَصَالِحُ.
وَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَأْكُلُ خُبْزَ الشَّعِيرِ وَالْمِلْحِ، وَيَفْرِضُ لِعَامِلِهِ نِصْفَ شَاةٍ في (9) كُلَّ يَوْمٍ، لِعِلْمِهِ بِأَنَّ الْحَالَةَ الَّتِي هُوَ عليها لَوْ عَمِلَهَا (10) غَيْرُهُ لَهَانَ فِي نُفُوسِ النَّاسِ، ولم يحترموه، وتجاسروا عليه
_________
(1) في (خ) و (ت) و (ط): "إذ".
(2) في (خ) و (ت) و (ط): "وإن".
(3) زيادة في (م).
(4) في (غ): "بطريقة".
(5) في (خ) و (ط): "أن من"، والمثبت هو الموافق لما في الفروق.
(6) في (خ) و (ط) وهامش (ت): "ما هو مندوب إليه .. ".
(7) المراد تحسين مظاهرهم من ملبس ومطعم ومسكن ونحوه، كما سيتبين ذلك فيما يأتي.
(8) في (خ) و (ط): "زمن".
(9) ساقطة من (خ) و (ط) و (ر).
(10) في (خ): "علمها".(1/322)
بِالْمُخَالَفَةِ، فَاحْتَاجَ إِلَى أَنْ يَضَعَ غَيْرَهُ فِي صُورَةٍ أُخْرَى تَحْفَظُ النِّظَامَ.
وَلِذَلِكَ (1) لَمَّا قَدِمَ الشَّامَ وَجَدَ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ قَدِ اتَّخَذَ الْحُجَّابَ، وَاتَّخَذَ الْمَرَاكِبَ النَّفِيسَةَ، وَالثِّيَابَ الْهَائِلَةَ الْعَلِيَّةَ (2)، وَسَلَكَ مَا سَلَكَهُ الْمُلُوكُ، فَسَأَلَهُ عَنْ ذلك، فقال له (3): إِنَّا بِأَرْضٍ نَحْنُ فِيهَا مُحْتَاجُونَ لِهَذَا، فَقَالَ لَهُ: لَا آمُرُكَ وَلَا أَنْهَاكَ، وَمَعْنَاهُ أَنْتَ أَعْلَمُ بِحَالِكَ هَلْ أَنْتَ مُحْتَاجٌ إِلَى هَذَا (4) (فيكون حسناً (5)، أَوْ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ) (6)، فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ عُمَرَ وَغَيْرِهِ عَلَى أَنَّ أَحْوَالَ الْأَئِمَّةِ وَوُلَاةِ الأمور تختلف باختلاف الأمصار والأعصار (7) والقرون والأحوال.
فَكَذَلِكَ يُحْتَاجُ (8) إِلَى تَجْدِيدِ زَخَارِفَ وَسِيَاسَاتٍ لَمْ تَكُنْ قَدِيمَةً، وَرُبَّمَا وَجَبَتْ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ.
القسم الرابع: بدع (9) مَكْرُوهَةٌ، وَهِيَ مَا تَنَاوَلَتْهُ أَدِلَّةُ الْكَرَاهَةِ مِنَ الشَّرِيعَةِ وَقَوَاعِدِهَا، كَتَخْصِيصِ الْأَيَّامِ الْفَاضِلَةِ أَوْ غَيْرِهَا بنوع من العبادة، ولذلك جاء (10) في الصحيح، خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ تَخْصِيصِ يَوْمِ الجمعة بصيام، أو ليلته (11) بِقِيَامٍ (12).
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ الزِّيَادَةُ فِي الْمَنْدُوبَاتِ المحدودات، كما ورد في
_________
(1) في (م) و (ت): "وكذلك".
(2) في (غ) و (ر): "العالية".
(3) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط).
(4) في (خ) و (ط): "محتاج إليه".
(5) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط).
(6) ما بين المعكوفين ساقط من (خ) و (ت) و (ط).
(7) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط).
(8) في (م): "تحتاجون"، وفي (غ) و (ر): "يحتاجون".
، والتنبيه والإشراف للمسعودي (245 ـ 246).
(9) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط).
(10) في (خ) و (ت) و (ط): "ليله".
(11) رواه الإمام مسلم في كتاب الصيام من صحيحه، باب كراهة إفراد يوم الجمعة بصوم لا يوافق عادته عن أبي هريرة (8/ 18 ـ 19 نووي) وروى البخاري في الصحيح النهي عن صيام يوم الجمعة (1984، 1985)، والإمام أحمد في المسند عن أبي الدرداء (6/ 444).(1/323)
التسبيح عقب (1) الفريضة ثلاثاً وثلاثين، فتفعل مئة، وَوَرَدَ (2) صَاعٌ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ، فَيَجْعَلُ عَشَرَةَ أَصْوُعٍ (3)، بِسَبَبِ أَنَّ الزِّيَادَةَ فِيهَا إِظْهَارُ الِاسْتِظْهَارِ عَلَى الشَّارِعِ، وَقِلَّةُ أَدَبٍ مَعَهُ، بَلْ شَأْنُ الْعُظَمَاءِ إِذَا حَدَّدُوا شَيْئًا وُقِفَ عِنْدَهُ، وَعُدَّ الْخُرُوجُ عَنْهُ قِلَّةَ أَدَبٍ.
وَالزِّيَادَةُ فِي الْوَاجِبِ أَوْ عَلَيْهِ أَشَدُّ فِي الْمَنْعِ، لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْأَصْلُ وَالْمَزِيدُ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ نَهَى مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عنه عن إيصال صيام (4) سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ، لِئَلَّا يُعْتَقَدَ أَنَّهَا من رمضان (5).
وخرج أبو داود في (سننه) (6) أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ إِلَى مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصَلَّى الْفَرْضَ، وَقَامَ (7) لِيُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ (بْنُ الْخَطَّابِ) (8): (اجلس حتى تفصل بين فرضك ونفلك، فبهذا (9) هلك مَنْ قَبْلَنَا)، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَصَابَ اللَّهُ بِكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ" (10)، يُرِيدُ عُمَرَ إِنَّ مَنْ قَبْلَنَا وَصَلُوُا النَّوَافِلَ بِالْفَرَائِضِ وَاعْتَقَدُوا الْجَمِيعَ وَاجِبًا، وَذَلِكَ تَغْيِيرٌ لِلشَّرَائِعِ، وَهُوَ حَرَامٌ إِجْمَاعًا.
الْقِسْمُ الْخَامِسُ: الْبِدَعُ المباحة، وهي ما تناولته أدلة الإباحة
_________
(1) في (ت) و (غ) و (ر): "عقيب".
(2) في (م) و (ت) و (غ) و (ر): "وورود".
(3) في (خ) و (ت) و (ط): "أصواع". والمثبت ذكره الجوهري في الصحاح في جمع صاع (3/ 1247).
(4) ساقطة من (خ) و (ط).
(5) قال الإمام ابن رشد بعدما ذكر أن صيام الست من شوال مندوب: "إلا أن مالكاً كره ذلك، إما مخافة أن يلحق الناس برمضان ما ليس في رمضان، وإما لأنه لعله لم يبلغه الحديث أو لم يصح عنده وهو الأظهر". انظر بداية المجتهد (1/ 308 ـ 309).
(6) في جميع النسخ: "مسنده"، والمثبت هو ما في الفروق، والحديث في سنن أبي داود كما سيأتي.
(7) في (ت): "وكام".
(8) كتبت في (ت) فوق السطر.
(9) في (م): "فهذا"، وفي (خ) و (ت) و (ط): "فهكذا".
(10) رواه الإمام أبو داود في كتاب الصلاة من سننه، باب في الرجل يتطوع في مكانه الذي صلى فيه المكتوبة برقم (1007)، (1/ 263)، والحاكم في المستدرك (1/ 270)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 269)، وضعفه الشيخ الألباني في ضعيف سنن أبي داود (ص98 ـ 99).(1/324)
وَقَوَاعِدُهَا مِنَ الشَّرِيعَةِ، كَاتِّخَاذِ الْمَنَاخِلِ لِلدَّقِيقِ، فَفِي الْآثَارِ: (أَوَّلُ شَيْءٍ أَحْدَثَهُ النَّاسُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتِّخَاذُ الْمَنَاخِلِ)، لِأَنَّ تَلْيِينَ الْعَيْشِ وَإِصْلَاحَهُ مِنَ الْمُبَاحَاتِ، فَوَسَائِلُهُ مُبَاحَةٌ.
فَالْبِدْعَةُ إِذَا عُرِضَتْ تُعْرَضُ عَلَى قَوَاعِدِ الشَّرْعِ وَأَدِلَّتِهِ، فَأَيُّ شَيْءٍ تَنَاوَلَهَا مِنَ الْأَدِلَّةِ وَالْقَوَاعِدِ أُلْحِقَتْ بِهِ، مِنْ إِيجَابٍ أَوْ تَحْرِيمٍ أو غيرهما، وَإِنْ نُظِرَ إِلَيْهَا مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ بِالنَّظَرِ إِلَى كَوْنِهَا بِدْعَةً مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ فِيمَا يَتَقَاضَاهَا كُرِهَتْ. فَإِنَّ الْخَيْرَ (1) كُلَّهُ فِي الِاتِّبَاعِ، وَالشَّرَّ كُلَّهُ فِي الِابْتِدَاعِ (2). (انْتَهَى مَا ذَكَرَهُ الْقَرَافِيُّ) (3).
وَذَكَرَ شَيْخُهُ (4) فِي قَوَاعِدِهِ (5)، فِي فَصْلِ البدع منها ـ بعد ما قَسَّمَ أَحْكَامَهَا إِلَى الْخَمْسَةِ ـ أَنَّ الطَّرِيقَ فِي مَعْرِفَةِ ذَلِكَ أَنْ تُعْرَضَ الْبِدْعَةُ عَلَى قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ، فَإِنْ دَخَلَتْ فِي قَوَاعِدِ الْإِيجَابِ فَهِيَ وَاجِبَةٌ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَلِلْبِدَعِ الْوَاجِبَةِ أَمْثِلَةٌ:
أحدها: الاشتغال (بعلم النحو) (6) الَّذِي (7) يُفْهَمُ بِهِ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَلَامُ رسوله صلّى الله عليه وسلّم، وذلك واجب، لأن حفظ الشريعة واجب، [ولا يتأتى حفظها إلا بمعرفة ذلك، وما لا يتم الواجب إلا به فهو وَاجِبٌ] (8).
وَالثَّانِي: حِفْظُ غَرِيبِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنَ اللغة.
والثالث: تدوين أصول الفقه.
_________
(1) في (ط): "الخبر".
(2) ذكر هذا التقسيم الإمام القرافي في كتابه الفروق (4/ 202 ـ 205).
(3) ما بين المعكوفين ساقط من (ط).
(4) هو العز بن عبد السلام رحمه الله، وتقدمت ترجمته (ص24).
(5) هو كتاب قواعد الأحكام في مصالح الأنام (2/ 195 ـ 196).
(6) ما بين المعكوفين ساقط من (م) و (خ) و (ت) و (ط).
(7) في (خ) و (ط): "بالذي". وكتبت كذلك لتستقيم العبارة، لأن ما بين المعكوفين كان ساقطاً.
(8) ما بين المعكوفين ساقط من (م) و (خ) و (ت) و (ط).(1/325)
وَالرَّابِعُ: الْكَلَامُ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ، لِتَمْيِيزِ (1) الصَّحِيحِ من السقيم.
ثم قال: وللبدع المحرمة أمثلة:
مِنْهَا (2) مَذْهَبُ الْقَدَرِيَّةِ (3)، وَمَذْهَبُ الْجَبْرِيَّةِ (4)، وَالْمُرْجِئَةِ (5)، وَالْمُجَسِّمَةِ (6)، وَالرَّدُّ عَلَى هَؤُلَاءِ مِنَ الْبِدَعِ الْوَاجِبَةِ.
قَالَ: وَلِلْمَنْدُوبِ أَمْثِلَةٌ: مِنْهَا إِحْدَاثُ (7) الرُّبَطِ، وَالْمَدَارِسِ، وَبِنَاءُ الْقَنَاطِرِ (8)، وَمِنْهَا كُلُّ إِحْسَانٍ لَمْ يُعْهَدْ (9) فِي العصر (10) الأول، (ومنها صلاة التراويح) (11)، (وَمِنْهَا الْكَلَامُ فِي دَقَائِقِ التَّصَوُّفِ، وَالْكَلَامُ فِي الْجَدَلِ) (12)، وَمِنْهَا جَمْعُ الْمَحَافِلِ (13) لِلِاسْتِدْلَالِ فِي الْمَسَائِلِ، إِنْ قُصِدَ بِذَلِكَ وَجْهُهُ تَعَالَى.
قَالَ (14): وَلِلْمَكْرُوهَةِ (15) أمثلة: منها زخرفة المساجد، وتزويق (16) المصاحف.
_________
(1) في (خ): "أو تمييز".
(2) في (غ): "منه".
(3) تقدم التعريف بهم (ص11).
(4) هم القائلون بأن العبد مجبور على فعله من إيمان أو كفر ومن خير أو شر، وأن العبد لا اختيار له ولا قدرة، وأن الله تعالى هو الذي جبر العباد على الكفر أو الإيمان، وممن قال به الجهمية والنجارية والضرارية.
انظر: الملل والنحل (ص87)، البرهان للسكسكي (ص42).
(5) تقدم التعريف بهم (ص27).
(6) المجسمة هم القائلون بأن الله جسم من الأجسام، وشبهوه سبحانه بالمخلوقات، وهو مذهب فرق من الشيعة الغلاة، ومن المبتدعة من يلمز أهل السنة بهذا الوصف.
انظر: مقالات الإسلاميين للأشعري (1/ 102 ـ 105)، دائرة المعارف الإسلامية (6/ 460).
(7) في (خ): "أحد".
(8) في (غ): "القناطير".
(9) في (غ) و (ر): "يعين".
(10) في (خ) و (ط): "الصدر".
(11) ما بين المعكوفين ساقط من (ط).
(12) ما بين المعكوفين ساقط من (غ).
(13) عبارة قواعد الأحكام: "ومنها الكلام في الجدل في جمع المحافل .. ".
(14) بياض في (غ).
(15) في (خ) و (ت) و (ط): "وللكراهة".
(16) زوّق الكلام والكتاب حسنه وقومه. انظر الصحاح (4/ 1492)، ولعل مراده ما حدث من التفنن في كتابة المصاحف.(1/326)
وَأَمَّا تَلْحِينُ الْقُرْآنِ بِحَيْثُ تَتَغَيَّرُ (1) أَلْفَاظُهُ عَنِ الْوَضْعِ الْعَرَبِيِّ، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ مِنَ الْبِدَعِ الْمُحَرَّمَةِ.
قال: وللبدع المباحة (2) أمثلة: منها المصافحة عقيب (3) صَلَاةِ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ، وَمِنْهَا التَّوَسُّعُ فِي اللَّذِيذِ مِنَ الْمَأْكَلِ (4) وَالْمَشْرَبِ (5) وَالْمَلَابِسِ وَالْمَسَاكِنِ، وَلِبْسِ الطَّيَالِسَةِ (6)، وَتَوْسِيعِ الْأَكْمَامِ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ (7) فِي بَعْضِ ذَلِكَ، فَجَعَلَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنِ الْبِدَعِ الْمَكْرُوهَةِ، وَجَعَلَهُ (8) آخَرُونَ مِنَ السُّنَنِ الْمَفْعُولَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا بَعْدَهُ، كَالِاسْتِعَاذَةِ وَالْبَسْمَلَةِ فِي الصَّلَاةِ (9). انْتَهَى مَحْصُولُ مَا قَالَ.
وَهُوَ يُصَرِّحُ مَعَ مَا قَبْلَهُ (10) بِأَنَّ الْبِدَعَ تَنْقَسِمُ بِأَقْسَامِ الشَّرِيعَةِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ تُحْمَلَ أَدِلَّةُ ذَمِّ الْبِدَعِ عَلَى الْعُمُومِ، بَلْ لَهَا مُخَصَّصَاتٌ.
وَالْجَوَابُ (11): أَنَّ هَذَا التَّقْسِيمَ أَمْرٌ مُخْتَرَعٌ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ، بَلْ هو في نَفْسُهُ مُتَدَافِعٌ، لِأَنَّ مِنْ حَقِيقَةِ الْبِدْعَةِ أَنْ لَا يَدُلَّ عَلَيْهَا دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ لَا مِنْ نُصُوصِ الشَّرْعِ، وَلَا مِنْ قَوَاعِدِهِ، إِذْ لَوْ كَانَ هُنَالِكَ مَا يَدُلُّ مِنَ الشَّرْعِ عَلَى وُجُوبٍ أَوْ نَدْبٍ أَوْ إِبَاحَةٍ لَمَا كَانَ ثَمَّ بِدْعَةٌ، وَلَكَانَ الْعَمَلُ دَاخِلًا فِي عُمُومِ الأعمال المأمور بها، أو المخير فيها.
_________
(1) في (م) و (ت): "يتغير".
(2) ساقطة من (خ).
(3) في (خ) و (ط): "عقب".
(4) في (غ): "المآكل".
(5) في (غ) و (ر): "المشارب".
(6) قال في اللسان: "والطيلس والطيلسان ضرب من الأكسية .. ، والجمع طيالس وطيالسة". وقال في حاشية الكتاب: قوله: "ضرب من الأكسية" أي الأسود.
انظر: اللسان (6/ 125).
(7) في (م) و (ت) و (غ) و (ر): "يختلف".
(8) في (غ): "ويجعله".
(9) ذكر هذه الأقسام العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام (2/ 195 ـ 196).
(10) وهو كلام الإمام القرافي السابق.
(11) من هنا يبدأ المؤلف في الرد على ما قاله الإمام القرافي وشيخه العز بن عبد السلام من انقسام البدعة إلى واجبة ومحرمة .. ، وسوف يستغرق هذا الرد أكثر ما تبقى من هذا الباب، مع بعض الاستطرادات في مسائل التصوف.(1/327)
فَالْجَمْعُ بَيْنَ كَوْنِ (1) تِلْكَ الْأَشْيَاءِ بِدَعًا، وَبَيْنَ (2) كَوْنِ الْأَدِلَّةِ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِهَا أَوْ نَدْبِهَا أَوْ إِبَاحَتِهَا، جَمْعٌ بَيْنَ مُتَنَافِيَيْنِ.
أَمَّا الْمَكْرُوهُ مِنْهَا وَالْمُحَرَّمُ (3) فَمُسَلَّمٌ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا بِدَعًا، لَا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، إِذْ لَوْ دَلَّ الدليل على منع أمر ما (4)، أَوْ كَرَاهَتِهِ (5)، لَمْ يُثْبِتْ بِذَلِكَ (6) كَوْنَهُ بِدْعَةً، لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ (7) مَعْصِيَةً، كَالْقَتْلِ وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَنَحْوِهَا. فَلَا بِدْعَةَ يُتَصَوَّرُ فِيهَا ذَلِكَ التَّقْسِيمُ أَلْبَتَّةَ، إِلَّا الْكَرَاهِيَةَ وَالتَّحْرِيمَ، حَسْبَمَا يُذْكَرُ في بابه (8) (إن شاء الله) (9).
فما ذكره الْقَرَافِيُّ (10) عَنِ الْأَصْحَابِ مِنَ الِاتِّفَاقِ عَلَى إِنْكَارِ الْبِدَعِ صَحِيحٌ، وَمَا قَسَّمَهُ فِيهَا غَيْرُ صَحِيحٍ.
ومن العجب حكايته (11) الِاتِّفَاقِ مَعَ (12) الْمُصَادَمَةِ بِالْخِلَافِ، وَمَعَ (13) مَعْرِفَتِهِ بِمَا يَلْزَمُهُ فِي خَرْقِ الْإِجْمَاعِ، وَكَأَنَّهُ إِنَّمَا اتَّبَعَ فِي هَذَا التَّقْسِيمِ شَيْخَهُ مِنْ غَيْرِ تَأَمُّلٍ، فإن ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ ظَاهِرٌ مِنْهُ أَنَّهُ سَمَّى الْمَصَالِحَ الْمُرْسَلَةَ بِدَعًا، بِنَاءً ـ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ـ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَدْخُلْ أَعْيَانُهَا تَحْتَ النُّصُوصِ الْمُعَيَّنَةِ، وَإِنْ كَانَتْ تُلَائِمُ قَوَاعِدَ الشَّرْعِ، فَمِنْ هُنَالِكَ جعل القواعد هي الدالة على استحسانها، فتسميته (14) لها بلفظ البدع هو (15) مِنْ حَيْثُ فُقْدَانِ الدَّلِيلِ الْمُعَيَّنِ عَلَى الْمَسْأَلَةِ المعيّنة (16) واستحسانها من حيث دخولها تحت
_________
(1) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط).
(2) ساقطة من (غ) و (ر).
(3) في (غ) و (ر): "أو المحرم".
(4) زيادة في (م) و (غ).
(5) في (م): "كراهية"، وفي (ت): "كراهيته".
(6) في (خ) و (ط): "ذلك".
(7) في (غ) و (ر): "تكون".
(8) وهو الباب السادس من هذا الكتاب (2/ 36).
(9) ما بين المعكوفين ساقط من (م) و (ط) و (ت) و (خ).
(10) تقدم قوله وترجمته (ص350).
(11) في (ط): "حكاية".
(12) في (غ) و (ر): "ثم".
(13) في (م) و (ت) و (غ): "مع" بدون الواو.
(14) في (خ) و (ط): "بتسميته"، والباء غير واضحة في (ت).
(15) في (خ) و (ط): "وهو".
(16) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط).(1/328)
الْقَوَاعِدِ، وَلَمَّا بَنَى عَلَى اعْتِمَادِ تِلْكَ الْقَوَاعِدِ اسْتَوَتْ عِنْدَهُ مَعَ الْأَعْمَالِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ النُّصُوصِ الْمُعَيَّنَةِ، وَصَارَ مِنَ الْقَائِلِينَ بِالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ، وَسَمَّاهَا بِدَعًا فِي اللَّفْظِ، كَمَا سَمَّى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْجَمْعَ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ فِي الْمَسْجِدِ بِدْعَةً (1)، كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
أَمَّا الْقَرَافِيُّ فَلَا عُذْرَ لَهُ فِي نَقْلِ تِلْكَ الْأَقْسَامِ عَلَى غَيْرِ مُرَادِ شَيْخِهِ وَلَا عَلَى مُرَادِ النَّاسِ، لِأَنَّهُ خَالَفَ الْكُلَّ فِي ذَلِكَ التَّقْسِيمِ فَصَارَ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ (2).
ثُمَّ نَقُولُ: أَمَّا قِسْمُ الْوَاجِبِ فَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ آنِفًا فَلَا نُعِيدُهُ (3)، وَأَمَّا قِسْمُ التَّحْرِيمِ فَلَيْسَ فِيهِ مَا هُوَ بِدْعَةٌ هَكَذَا بِإِطْلَاقٍ، بَلْ ذَلِكَ كُلُّهُ مُخَالَفَةٌ لِلْأَمْرِ الْمَشْرُوعِ، فَلَا يَزِيدُ عَلَى تَحْرِيمِ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ إِلَّا من جهة كونه موضوعاً على وزان الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ اللَّازِمَةِ، كَالزَّكَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ، وَالنَّفَقَاتِ الْمُقَدَّرَةِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (4)، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ منه طرف (5).
فإذن لَا يَصِحُّ أَنْ يُطْلَقَ الْقَوْلُ فِي هَذَا القسم بأنه بدعة دون أن يقسم الأمر في ذلك.
وَأَمَّا قِسْمُ الْمَنْدُوبِ فَلَيْسَ مِنِ الْبِدَعِ بِحَالٍ، ويتبين (6) ذَلِكَ بِالنَّظَرِ فِي الْأَمْثِلَةِ الَّتِي مَثَّلَ لَهَا (7) فصلاة (8) التراويح في رمضان جماعة في المسجد، قد (9) قام بها رسول الله (10) صلى الله عليه وسلم في المسجد، واجتمع الناس خلفه.
_________
(1) تقدم تخريج قوله رضي الله عنه في الباب الأول (ص50)، وسيذكره المؤلف قريباً.
(2) في هذا تحامل على الإمام القرافي رحمه الله، فإن قوله هو قول شيخه العز بن عبد السلام، والتماس العذر لأحدهما دون الآخر غير مقبول.
(3) وهو جمع القرآن كما تقدم (ص345).
(4) وذلك في الباب السابع (2/ 80 ـ 82).
(5) وذلك (ص54).
(6) في (م) و (ح) و (ت) و (ط): "وتبيين".
(7) في (م) و (غ): "بها".
(8) في (خ) و (ط): "بصلاة".
(9) في (خ) و (ط): "فقد".
(10) في (ط): "النبي".(1/329)
فَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: صُمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) رَمَضَانَ فَلَمْ يَقُمْ بِنَا شَيْئًا مِنَ الشَّهْرِ حَتَّى بَقِيَ سَبْعٌ، فَقَامَ بِنَا حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ، فَلَمَّا كَانَتِ السَّادِسَةُ لَمْ يَقُمْ بِنَا، فَلَمَّا كَانَتِ الْخَامِسَةُ قَامَ بِنَا حَتَّى ذَهَبَ شَطْرُ اللَّيْلِ، فَقُلْنَا (2): يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ نَفَّلْتَنَا قِيَامَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ، قَالَ: فَقَالَ: "إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ حُسِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ"، قَالَ: فَلَمَّا كَانَتِ الرَّابِعَةُ لَمْ يَقُمْ، فَلَمَّا كَانَتِ الثَّالِثَةُ جَمَعَ أَهْلَهُ وَنِسَاءَهُ، وَالنَّاسَ، فَقَامَ بِنَا حَتَّى خَشِينَا أَنْ يَفُوتَنَا الْفَلَاحُ، قَالَ: قُلْتُ: وَمَا الْفَلَاحُ؟ قَالَ: السَّحُورُ (3)، ثُمَّ لَمْ يَقُمْ بنا بقية الشهر. ونحوه في الترمذي قال (4) فيه: حسن صحيح (5).
لكنه صلّى الله عليه وسلّم لَمَّا خَافَ افْتِرَاضَهُ (6) عَلَى الْأُمَّةِ أَمْسَكَ عَنْ (7) ذَلِكَ، فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تعالى عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (8) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَصَلَّى بِصَلَاتِهِ نَاسٌ، ثُمَّ صَلَّى الْقَابِلَةَ فَكَثُرَ النَّاسُ، ثم اجتمعوا من (9) اللَّيْلَةَ الثَّالِثَةَ أَوِ الرَّابِعَةَ، فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمُ رسول الله (10) صلى الله عليه وسلم، فلما أَصْبَحَ قَالَ: "قَدْ رَأَيْتُ الَّذِي صَنَعْتُمْ، فَلَمْ يمنعني من الخروج إلا أني
_________
(1) زاد ناسخ (غ) بعض الكلمات هنا ثم عاد إلى رواية الحديث كما هو هنا.
(2) في (غ): "فقلت".
(3) في (ط): "السجود".
(4) في (ط): "وقال".
(5) رواه الإمام الترمذي في كتاب الصوم من سننه، باب ما جاء في قيام شهر رمضان عن أبي ذر رضي الله عنه، وقال: حسن صحيح، وهو برقم (806) (3/ 169) والإمام أبو داود في كتاب الصلاة، باب في قيام شهر رمضان برقم (1375) (2/ 51)، والإمام النسائي في كتاب قيام الليل وتطوع النهار من سننه، باب قيام شهر رمضان (3/ 202)، والإمام ابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في قيام شهر رمضان برقم (1327) (1/ 420)، والإمام أحمد في المسند (5/ 159 ـ 160)، والإمام الدارمي في كتاب الصوم من سننه، باب في فضل قيام شهر رمضان (1777) (2/ 42)، والإمام البيهقي في سننه (2/ 494)، وصححه الشيخ الألباني كما في صحيح الجامع برقم (1615).
(6) في (ت): "على افتراضه".
(7) ساقطة من (غ).
(8) في (ط): "أن النبي".
(9) ساقطة من (خ) و (ت) و (ط).
(10) في (ط): "فلم يخرج إليهم النبي".(1/330)
خَشِيتُ أَنْ يُفْرَضَ (1) عَلَيْكُمْ" (2)، وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ، وَخَرَّجَهُ (3) مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ. فَتَأَمَّلُوا، فَفِي هَذَا (4) الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهَا سُنَّةً، فَإِنَّ قِيَامَهُ أَوَّلًا (5) بِهِمْ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ الْقِيَامِ فِي الْمَسْجِدِ جَمَاعَةً فِي رَمَضَانَ، وَامْتِنَاعَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْخُرُوجِ خَشْيَةَ الِافْتِرَاضِ لَا يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِهِ مُطْلَقًا، لِأَنَّ زَمَانَهُ كَانَ زَمَانَ وَحْيٍ وَتَشْرِيعٍ، فَيُمْكِنُ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ إِذَا عَمِلَ بِهِ النَّاسُ بِالْإِلْزَامِ، فَلَمَّا زَالَتْ عِلَّةُ التَّشْرِيعِ بِمَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَعَ الْأَمْرُ إِلَى أَصْلِهِ، وَقَدْ ثَبَتَ الْجَوَازُ، فَلَا نَاسِخَ لَهُ. وَإِنَّمَا لَمْ يُقِمْ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَحَدِ أمرين:
إما لأنه رأى من (6) قيام الناس في (7) آخر الليل، وقوتهم (8) عليه ما (9) كَانَ أَفْضَلَ عِنْدَهُ مِنْ جَمْعِهِمْ عَلَى إِمَامٍ أَوَّلَ اللَّيْلِ. ذَكَرَهُ الطَّرْطُوشِيُّ (10).
وَإِمَّا لِضِيقِ زَمَانِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّظَرِ فِي هَذِهِ الْفُرُوعِ، مَعَ شُغْلِهِ بِأَهْلِ الرِّدَّةِ (11)، وَغَيْرِ ذَلِكَ مما هو أوكد (12) من صلاة التراويح.
_________
(1) في (خ): "يعرض".
(2) رواه الإمام البخاري في كتاب صلاة التراويح من صحيحه، باب فضل من قام رمضان عن عائشة رضي الله عنها (4/ 250 ـ 251 فتح)، والإمام مسلم في كتاب المسافرين من صحيحه، باب الترغيب في صلاة التراويح (6/ 41 نووي)، والإمام أبو داود في كتاب الصلاة من سننه، باب في قيام شهر رمضان برقم (1373) (2/ 50)، والإمام النسائي في كتاب قيام الليل وتطوع النهار من سننه، باب قيام شهر رمضان (3/ 202)، والإمام أحمد في المسند (6/ 182 ـ 183)، والإمام مالك في الموطأ (1/ 113).
(3) في (غ): "خرجه".
(4) ساقط من (ر).
(5) في (خ): "أولى".
(6) في (خ) و (ت) و (ط): "أن".
(7) ساقطة من (خ) و (ط) و (ر).
(8) في (خ) و (ط): "وما هم به عليه"، وفي (ت): "ومن بهم عليه".
(9) ساقطة من (خ) و (ط).
(10) تقدمت ترجمة الإمام الطرطوشي (ص285)، وقوله هذا في كتاب الحوادث والبدع (ص134 ـ 135). وقد راعيت في اختيار الألفاظ ما هو أقرب إلى نص الإمام الطرطوشي.
(11) وكذلك هذا السبب ذكره الإمام الطرطوشي في نفس الموضع السابق.
(12) في (ت) و (غ) و (ر): "آكد".(1/331)
فلما تمهد الإسلام في زمان (1) عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَرَأَى النَّاسَ فِي الْمَسْجِدِ أَوْزَاعًا (2) كَمَا جَاءَ فِي الْخَبَرِ، قَالَ: لَوْ جُمِعَتِ النَّاسُ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ لَكَانَ أَمْثَلَ، فَلَمَّا تَمَّ لَهُ ذَلِكَ نَبَّهَ عَلَى أَنَّ قِيَامَهُمْ آخِرَ اللَّيْلِ أَفْضَلُ، ثُمَّ اتَّفَقَ السَّلَفُ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ وَإِقْرَارِهِ (3)، وَالْأُمَّةُ لَا تجتمع على ضلالة.
وقد نص الأصوليون على (4) أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ (5) (6).
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ سَمَّاهَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِدْعَةً، وَحَسَّنَهَا بِقَوْلِهِ: (نِعْمَتِ الْبِدْعَةُ هذه) (7)، وإذا ثبتت (8) بدعة ما (9) مُسْتَحْسَنَةٌ فِي الشَّرْعِ ثَبَتَ مُطْلَقُ الِاسْتِحْسَانِ فِي البدع (10).
فالجواب (11): أنه (12) إِنَّمَا سَمَّاهَا بِدْعَةً بِاعْتِبَارِ ظَاهِرِ الْحَالِ، مِنْ حَيْثُ تَرَكَهَا رَسُولُ (اللَّهِ صَلَّى) (13) اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاتَّفَقَ أَنْ لَمْ تَقَعْ فِي زَمَانِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لَا أَنَّهَا بِدْعَةٌ فِي الْمَعْنَى، فَمَنْ سَمَّاهَا بِدْعَةً بِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَلَا مُشَاحَةَ فِي الْأَسَامِي، وَعِنْدَ ذَلِكَ لا (14) يَجُوزُ (15) أَنْ (16) يُسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى جَوَازِ الِابْتِدَاعِ بِالْمَعْنَى الْمُتَكَلَّمِ فِيهِ، لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ تَحْرِيفِ
_________
(1) في (خ) و (ط): "زمن".
(2) قال الحافظ ابن حجر في الفتح: "أوزاع: بسكون الواو بعدها زاي أي جماعة متفرقون". (4/ 250). وانظر الصحاح (3/ 1297).
(3) جزء من هذه الكلمة واقع في البياض في نسخة (ت).
(4) ساقطة من (خ) و (ط).
(5) بياض في (ت).
(6) انظر في هذه المسألة: الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (1/ 322 ـ 325)، والرسالة للشافعي (472)، أصول الفقه الإسلامي للدكتور وهبة الزحيلي (1/ 586)، أصول الفقه للشيخ أبي زهرة (ص208).
(7) تقدم تخريجه (ص50).
(8) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "ثبت".
(9) زيادة في (غ) و (ر).
(10) في (غ) و (ر): "الفدع".
(11) جزء من الكلمة في البياض في نسخة (ت).
(12) ساقطة من (خ) و (ط).
(13) بياض في (ت).
(14) في (خ) و (ط): "فلا".
(15) بياض في (ت).
(16) بياض في (ت).(1/332)
الْكَلِمِ (1) عَنْ مَوَاضِعِهِ. فَقَدْ (2) قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا: (إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (3) ليدع العمل وهو يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ خَشْيَةَ أَنْ يَعْمَلَ به الناس فيفرض عليهم) (4) (5).
وقد نهى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْوِصَالِ (6) رَحْمَةً بِالْأُمَّةِ، وَقَالَ: "إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ، إِنِّي (7) أَبِيتُ (8) عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي" (9).
وَوَاصَلَ النَّاسُ بَعْدَهُ لعلمهم بوجه العلة (10) في (11) النَّهْيِ (12) حَسْبَمَا يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
_________
(1) جزء من الكلمة في البياض في نسخة (ت).
(2) في (غ) و (ر): "وقد".
(3) بياض في (ت).
(4) جزء من الكلمة في البياض في نسخة (ت).
(5) رواه الإمام البخاري في كتاب التهجد من صحيحه، باب تحريض النبي صلّى الله عليه وسلّم على صلاة الليل والنوافل (3/ 10)، والإمام مسلم في كتاب صلاة المسافرين من صحيحه، باب استحباب صلاة الضحى (5/ 228 ـ 229)، والإمام أبو داود في كتاب الصلاة من سننه، باب صلاة الضحى برقم (1293) (2/ 28)، والإمام أحمد في المسند (6/ 34 ـ 35، 168، 170).
(6) الوصال هو صوم يومين فصاعداً من غير أكل أو شرب بينهما. انظر شرح مسلم للنووي (7/ 211).
(7) بياض في (ت).
(8) جزء من الكلمة في البياض في نسخة (ت).
(9) رواه الإمام البخاري في كتاب الصوم من صحيحه، باب الوصال ومن قال ليس في الليل صيام عن عائشة رضي الله عنها (4/ 202)، والإمام مسلم في كتاب الصيام من صحيحه، باب النهي عن الوصال (7/ 211)، والإمام أحمد في مسنده (3/ 8)، والإمام مالك في الموطأ في كتاب الصيام، باب النهي عن الوصال (1/ 301).
(10) في (ط): "علة".
(11) ساقطة من (ط).
(12) لا يفهم من هذا أن جميع الناس قد واصلوا، بل الوصال مختلف في حكمه، فمن الناس من يرى جوازه، وهو مروي عن ابن الزبير وغيره من السلف، ومنهم من يراه غير جائز، وهو مروي عن مالك وأبي حنيفة والشافعي والثوري رحمهم الله، ومنهم من يرى أنه يجوز من السحر إلى السحر، وهو مروي عن أحمد وإسحاق. انظر هذه الأقوال وأدلتها في زاد المعاد لابن القيم (2/ 35 ـ 38)، شرح مسلم للنووي (7/ 211 ـ 212)، فتح الباري لابن حجر (4/ 204 ـ 205).(1/333)
وَذَكَرَ الْقَرَافِيُّ مِنْ (1) جُمْلَةِ الْأَمْثِلَةِ: إِقَامَةُ صُوَرِ الأئمة والقضاة، إلى آخر مَا قَالَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ (2) مِنْ قَبِيلِ الْبِدَعِ بِسَبِيلٍ:
أَمَّا أَوَّلًا: فَإِنَّ التَّجَمُّلَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَوِي الْهَيْئَاتِ وَالْمَنَاصِبِ الرَّفِيعَةِ مَطْلُوبٌ، وَقَدْ كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُلَّةٌ يَتَجَمَّلُ بِهَا لِلْوُفُودِ، وَمِنَ الْعِلَّةِ فِي ذَلِكَ مَا قَالَهُ الْقَرَافِيُّ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ أَهْيَبُ وَأَوْقَعُ في النفوس، (وأحرى بحصول) (3) (التَّعْظِيمَ فِي الصُّدُورِ) (4)، وَمِثْلُهُ التَّجَمُّلُ لِلِقَاءِ (5) الْعُظَمَاءِ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَشَجِّ (6) عَبْدِ الْقَيْسِ (7).
وَأَمَّا ثَانِيًا: فَإِنْ سَلَّمْنَا أَنْ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ بِخُصُوصِهِ، فَهُوَ مِنْ (8) قَبِيلِ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ، وَقَدْ مَرَّ أَنَّهَا ثَابِتَةٌ فِي الشَّرْعِ (9).
وَمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَأْكُلُ خُبْزَ الشَّعِيرِ، وَيَفْرِضُ لِعَامِلِهِ نِصْفَ شَاةٍ، فَلَيْسَ فِيهِ تَفْخِيمُ صُورَةِ الْإِمَامِ وَلَا عَدَمُهُ، بَلْ فَرَضَ لَهُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ خَاصَّةً، وَإِلَّا فَنِصْفُ شَاةٍ لِبَعْضِ الْعُمَّالِ قَدْ لَا يَكْفِيهِ لِكَثْرَةِ عيال، وطروق
_________
(1) في (ط): "مي".
(2) ساقطة من (غ).
(3) ما بين المعكوفين ساقط من (م) و (خ) و (ت) و (ط).
(4) ما بين المعكوفين كتب في (خ) و (ط): "من تعظيم العظماء".
(5) في (خ) و (ت): "لالقاء".
(6) في (م): "الشيخ"، وفي (ت): "اشيخ".
(7) يشير المؤلف إلى حديث زارع، وكان في وفد عبد القيس، قال: لما قدمنا المدينة فجعلنا نتبادر من رواحلنا، فنقبل يد النبي صلّى الله عليه وسلّم ورجله، قال: وانتظر المنذر الأشج حتى أتى عيبته، فلبس ثوبيه، ثم أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ له: "إن فيك خلتين يحبهما الله: الحلم والأناة"، قال: يا رسول الله أنا أتخلق بهما أم الله جبلني عليهما؟ قال: "بل الله جبلك عليهما" قل الحمد لله الذي جبلني على خلتين يحبهما الله ورسوله. رواه الإمام أبو داود، واللفظ له، في كتاب الأدب، باب في قبلة الجسد برقم (5224) (4/ 358)، والإمام ابن ماجه في كتاب الزهد من سننه، باب الحلم برقم (4187) (2/ 1401) والإمام أحمد في المسند (4/ 206)، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود (3/ 181) دون قوله: "إن فيك .. " فإنها في صحيح مسلم عن ابن عباس في كتاب الإيمان من صحيحه، باب ذكر وفد عبد القيس (1/ 189)، والإمام الترمذي في كتاب البر والصلة من سننه، باب ما جاء في التأني والعجلة برقم (2011) (4/ 322).
(8) ساقطة من (م).
(9) تقدم القول بإثباتها (ص50).(1/334)
ضَيْفٍ، وَسَائِرِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ لِبَاسٍ وَرُكُوبٍ وَغَيْرِهِمَا، فَذَلِكَ قَرِيبٌ مِنْ أَكْلِ الشَّعِيرِ فِي الْمَعْنَى، وَأَيْضًا فَإِنَّ مَا يَرْجِعُ إِلَى الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ لَا تَجَمُّلَ فِيهِ (1) بِالنِّسْبَةِ إِلَى الظُّهُورِ لِلنَّاسِ.
وَقَوْلُهُ: (فَكَذَلِكَ يَحْتَاجُونَ إِلَى تَجْدِيدِ زَخَارِفَ وَسِيَاسَاتٍ لَمْ تَكُنْ قَدِيمَةً، وَرُبَّمَا وَجَبَتْ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ (2)) مُفْتَقِرٌ إِلَى التَّأَمُّلِ، فَفِيهِ ـ عَلَى الْجُمْلَةِ ـ أَنَّهُ مُنَاقِضٌ لِقَوْلِهِ فِي (3) آخِرِ الْفَصْلِ (الْخَيْرُ كُلُّهُ فِي الِاتِّبَاعِ، وَالشَّرُّ كُلُّهُ في الابتداع) مع ما ذكر قبله.
فإن هذا (4) كَلَامٌ يَقْتَضِي أَنَّ الِابْتِدَاعَ شَرٌّ كُلُّهُ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْتَمِعَ مَعَ فَرْضِ الْوُجُوبِ، وَهُوَ قَدْ ذَكَرَ أَنَّ الْبِدْعَةَ قَدْ تَجِبُ، وَإِذَا وجبت لزم العمل بها، وهي كما قال تتضمن (5) الشَّرِّ كُلِّهِ، فَقَدِ اجْتَمَعَ فِيهَا الْأَمْرُ بِهَا، والأمر بتركها، ولا يمكن فيها (6) الِانْفِكَاكُ ـ وَإِنْ كَانَا مِنْ جِهَتَيْنِ ـ لِأَنَّ الْوُقُوعَ يَسْتَلْزِمُ الِاجْتِمَاعَ (7)، وَلَيْسَا كَالصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ (8)، لِأَنَّ الِانْفِكَاكَ فِي الْوُقُوعِ مُمْكِنٌ، وَهَاهُنَا إِذَا وَجَبَتْ فَإِنَّمَا تَجِبُ عَلَى (9) الْخُصُوصِ، وَقَدْ فَرَضَ أَنَّ الشَّرَّ فِيهَا عَلَى الْخُصُوصِ فَلَزِمَ التَّنَاقُضَ.
وَأَمَّا عَلَى التَّفْصِيلِ، فَإِنَّ تَجْدِيدَ الزَّخَارِفِ فِيهِ مِنَ الْخَطَأِ مَا لَا يَخْفَى. وَأَمَّا السِّيَاسَاتُ، فَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً عَلَى مُقْتَضَى الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ فَلَيْسَتْ بِبِدَعٍ، وَإِنْ خَرَجَتْ عَنْ ذَلِكَ فَكَيْفَ يُنْدَبُ إِلَيْهَا (10)؟ وَهِيَ مَسْأَلَةُ النِّزَاعِ.
وَذَكَرَ فِي قِسْمِ (11) الْمَكْرُوهِ أَشْيَاءَ هِيَ مِنْ قَبِيلِ (الْبِدَعِ في) (12) الجملة
_________
(1) ساقطة من (غ).
(2) في (خ) و (ت): "الأموال".
(3) ساقطة من (م) و (ت) و (غ).
(4) في (خ) و (ط): "فهذا".
(5) عبارة (م) و (خ) و (ت) و (ط): "لما باتت ضمن".
(6) في (ط) و (غ): "فيهما".
(7) في (غ): "الإجماع".
(8) العبارة في (ت): "وليسا كالدار المغصوبة".
(9) جزء منها في البياض في نسخة (ت).
(10) جزء منها في البياض في نسخة (ت).
(11) في (غ): "القسم".
(12) بعض أجزاء الكلمتين واقع في البياض في نسخة (ت).(1/335)
وَلَا كَلَامَ فِيهَا، أَوْ مِنْ قَبِيلِ الِاحْتِيَاطِ عَلَى الْعِبَادَاتِ الْمَحْضَةِ (أَنْ لَا) (1) يُزَادَ فِيهَا، وَلَا يُنْقَصَ مِنْهَا (2)، وَذَلِكَ صَحِيحٌ، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فيها (3)، والنقصان منها (4) بدع منكرة، ممآلاتها (5) وَذَرَائِعُهَا يُحْتَاطُ بِهَا فِي جَانِبِ النَّهْيِ.
وَذَكَرَ فِي قِسْمِ الْمُبَاحِ مَسْأَلَةَ الْمَنَاخِلِ، وَلَيْسَتْ ـ فِي الْحَقِيقَةِ ـ مِنَ الْبِدَعِ بَلْ هِيَ مِنْ بَابِ التَّنَعُّمِ، وَلَا يُقَالُ فِيمَنْ تَنَعَّمَ بِمُبَاحٍ: إِنَّهُ قَدِ ابْتَدَعَ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ ذَلِكَ ـ إِذَا اعْتُبِرَ ـ إِلَى جِهَةِ الْإِسْرَافِ فِي الْمَأْكُولِ، لِأَنَّ الْإِسْرَافَ كَمَا يَكُونُ فِي جِهَةِ الْكَمِّيَّةِ، كَذَلِكَ (6) يَكُونُ فِي جِهَةِ الْكَيْفِيَّةِ، فَالْمَنَاخِلُ لَا تَعْدُو (7) الْقِسْمَيْنِ، فإن كان الإسراف مما له (8) بال (9) كُرِهَ (10)، وَإِلَّا اغْتُفِرَ، مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ الْجَوَازُ.
وَمِمَّا يَحْكِيهِ أَهْلُ التَّذْكِيرِ مِنَ الْآثَارِ أَنَّ (11) أَوَّلَ مَا أَحْدَثَ النَّاسُ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ: الْمَنَاخِلُ، والشبع، وغسل اليد (12) بالأُشْنَان (13) بَعْدَ الطَّعَامِ، وَالْأَكْلُ عَلَى الْمَوَائِدِ.
وَهَذَا كُلُّهُ ـ إِنْ ثَبَتَ نَقْلًا ـ لَيْسَ بِبِدْعَةٍ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ إِلَى أَمْرٍ آخَرَ، وَإِنْ سُلِّمَ أَنَّهُ بِدْعَةٌ فَلَا نُسَلِّمُ (14) أَنَّهَا مُبَاحَةٌ، بَلْ هِيَ ضلالة ومنهي عنها، ولكنا لا نقول (15) بذلك.
_________
(1) بياض في (ت).
(2) في (م) و (ت): "فيها".
(3) ساقطة من (م) و (ت) و (غ) و (ر).
(4) في (م) و (ت) و (غ) و (ر): "فيها".
(5) جزء من الكلمة في البياض في نسخة (ت) و (غ)، وفي (م) و (ط): "فحالاتها".
(6) زيادة في (م).
(7) في (غ) و (ر): "لا تعدى".
(8) في (ط): "من ماله".
(9) ساقطة من (خ) و (ط).
(10) في (خ) و (ط): "فإن كره"، وفي (ت): "اكره".
(11) ساقطة من (م) و (ت) و (غ) و (ر).
(12) في (خ) و (ط): "اليدين".
(13) الأشنان والإشنان من الحمض، الذي يغسل به الأيدي. لسان العرب (13/ 18).
(14) في (ط): "لسلم".
(15) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "نقول" بدون "لا".(1/336)
فَصْلٌ
وَأَمَّا مَا قَالَهُ عِزُّ الدِّينِ (1)، فَالْكَلَامُ فِيهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، فَأَمْثِلَةُ الْوَاجِبِ مِنْهَا مِنْ قَبِيلِ (2) مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ ـ كَمَا قَالَ ـ، فَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَعْمُولًا بِهِ فِي السَّلَفِ، وَلَا أَنْ يَكُونَ له أصل في الشريعة على الخصوص، لأنه (3) مِنْ بَابِ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ لَا مِنَ (4) الْبِدَعِ (5).
أَمَّا هَذَا الثَّانِي فَقَدْ تَقَدَّمَ (6)، وَأَمَّا الْأَوَّلُ (7)، فلأنه لَوْ كَانَ ثَمَّ مَنْ يَسِيرُ إِلَى فَرِيضَةِ الْحَجِّ طَيَرَانًا فِي الْهَوَاءِ (8)، أَوْ مَشْيًا عَلَى الْمَاءِ، لَمْ (9) يُعَدَّ مُبْتَدِعًا بِمَشْيِهِ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِنَّمَا هُوَ التَّوَصُّلُ إِلَى مَكَّةَ لِأَدَاءِ الْفَرْضِ، وَقَدْ حَصَلَ عَلَى الْكَمَالِ، فَكَذَلِكَ هَذَا.
على أن هذه الأشياء (10) قَدْ ذَمَّهَا بَعْضُ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْمُصَنِّفِينَ فِي طَرِيقَةِ التَّصَوُّفِ، وَعَدَّهَا مِنْ جُمْلَةِ مَا ابْتَدَعَ النَّاسُ، وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَيَكْفِي فِي رَدِّهِ إِجْمَاعُ النَّاسِ قَبْلَهُ عَلَى خِلَافِ مَا قَالَ.
عَلَى أَنَّهُ نُقِلَ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مخيمرة (11) أنه ذكرت عنده (12) العربية،
_________
(1) هو العز بن عبد السلام، وقد تقدم قوله في أقسام البدع (ص354 ـ 356).
(2) في (ط): "قبل".
(3) في (م) و (ت) و (غ) و (ر): "ولأنه".
(4) زيادة في (م) و (غ).
(5) عبارة (ت): "لأن البدع".
(6) وهو ما كان من المصالح المرسلة.
(7) وهو ما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب.
(8) في (م) و (غ): "الهوى".
(9) في (م) و (ت): "ثم".
(10) في (ط): "أشياء".
(11) هو القاسم بن مخيمرة، أبو عروة، الهمداني، الكوفي، الإمام الحافظ، نزيل دمشق، روى عن بعض الصحابة رضي الله عنهم، وكان ثقة فاضلاً. توفي سنة مائة أو إحدى ومائة.
انظر: الكاشف للذهبي (2/ 339)، تقريب التهذيب لابن حجر (2/ 120).
(12) ساقطة من (م) و (ت) و (غ) و (ر).(1/337)
فَقَالَ: (أَوَّلُهَا كِبْرٌ وَآخِرُهَا (1) بَغْيٌ) (2).
وَحُكِيَ أَنَّ بَعْضَ السَّلَفِ قَالَ: "النَّحْوُ يُذْهِبُ الْخُشُوعَ مِنَ القلب، ومن (3) أَرَادَ أَنْ يَزْدَرِيَ النَّاسَ كُلَّهُمْ فَلْيَنْظُرْ فِي النحو"، ونقل نحواً (4) من هذا (5).
وَهَذِهِ كُلُّهَا لَا دَلِيلَ فِيهَا عَلَى الذَّمِّ، لِأَنَّهُ لَمْ يُذَمَّ النَّحْوُ مِنْ حَيْثُ هُوَ بِدْعَةٌ، بَلْ مِنْ حَيْثُ مَا يُكْتَسَبُ بِهِ أَمْرٌ زَائِدٌ، كَمَا يُذَمُّ سَائِرُ عُلَمَاءِ السُّوءِ، لَا لِأَجْلِ عُلُومِهِمْ، بَلْ لِأَجْلِ مَا يَحْدُثُ لَهُمْ بِالْعَرَضِ مِنَ الْكِبْرِ بِهِ وَالْعُجْبِ وَغَيْرِهِمَا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ كَوْنُ الْعِلْمِ بِدْعَةً، فَتَسْمِيَةُ الْعُلُومِ الَّتِي يُكْتَسَبُ بِهَا أَمْرٌ مَذْمُومٌ بِدَعًا، إِمَّا عَلَى الْمَجَازِ الْمَحْضِ، مِنْ حَيْثُ لم يحتج إليها أولاً، ثم احتيج إليها (6) بَعْدُ، أَوْ مِنْ عَدَمِ الْمَعْرِفَةِ بِمَوْضُوعِ الْبِدْعَةِ، إِذْ مِنَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ مَا يُدَاخِلُ صَاحِبَهَا الْكِبْرُ وَالزَّهْوُ وَغَيْرُهُمَا، وَلَا يَعُودُ ذَلِكَ عَلَيْهَا بذم.
ومما حكى هذا (7) الْمُتَصَوِّفَةِ (8) عَنْ بَعْضِ عُلَمَاءِ الْخَلَفِ، قَالَ: (الْعُلُومُ تِسْعَةٌ، أَرْبَعَةٌ مِنْهَا سُنَّةٌ مَعْرُوفَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَخَمْسَةٌ مُحْدَثَةٌ لَمْ تَكُنْ تُعْرَفُ فِيمَا سلف، قال (9): فَأَمَّا الْأَرْبَعَةُ الْمَعْرُوفَةُ: فَعِلْمُ الْإِيمَانِ وَعِلْمُ الْقُرْآنِ، وَعِلْمُ الْآثَارِ، وَالْفَتَاوَى، وَأَمَّا الْخَمْسَةُ الْمُحْدَثَةُ: فَالنَّحْوُ، وَالْعَرُوضُ، وَعِلْمُ الْمَقَايِيسِ (10)، وَالْجَدَلِ فِي الْفِقْهِ، وَعِلْمُ الْمَعْقُولِ بِالنَّظَرِ). انْتَهَى (11).
وَهَذَا ـ إِنْ صَحَّ نَقْلُهُ ـ فَلَيْسَ أَوَّلًا كَمَا قَالَ، فَإِنَّ أَهْلَ الْعَرَبِيَّةِ يحكون
_________
(1) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "آخرها" بدون الواو.
(2) اقتضاء العلم العمل للخطيب (ص91).
(3) في (م) و (ت) و (غ) و (ر): "من" بدون الواو.
(4) في (خ) و (ت) و (ط): "نحو" بدون ألف.
(5) في (خ) و (ط): "هذه".
(6) زيادة في (غ).
(7) في (خ) و (ط): "بعض هذه".
(8) في (م) و (غ) و (ر): "المتصوف".
(9) زيادة في (م) و (ر).
(10) في (م): "المقايس".
(11) ساقطة من (خ) و (ط).(1/338)
عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيِّ (1) أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هُوَ الَّذِي أَشَارَ عَلَيْهِ بِوَضْعِ شَيْءٍ فِي النَّحْوِ، حِينَ سمع الأعرابي (2) قَارِئًا يَقْرَأُ (3): {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} (4) بالجر، (فقال برئت مما برئ الله منه، فبلغت علياً رضي الله عنه، فأشار على أبي الأسود فوضع النحو) (5).
وقد روى عن ابن أبي مُلَيْكَةَ (6) أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عنه أمر أن لا يقرئ (7) الْقُرْآنَ إِلَّا عَالِمٌ بِاللُّغَةِ، وَأَمَرَ أَبَا الْأَسْوَدِ فَوَضَعَ النَّحْوَ. وَالْعَرُوضُ مِنْ جِنْسِ النَّحْوِ، وَإِذَا كَانَتِ الْإِشَارَةُ مِنْ وَاحِدٍ مِنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ صَارَ النَّحْوُ وَالنَّظَرُ فِي الْكَلَامِ (8) الْعَرَبِيِّ (9) مِنْ سُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَإِنْ سُلِّمَ أَنَّهُ لَيْسَ (10) كَذَلِكَ، فَقَاعِدَةُ الْمَصَالِحِ تَعُمُّ (11) عُلُومَ الْعَرَبِيَّةِ، أَيْ (12) (تَكُونُ مِنْ) (13) قَبِيلِ الْمَشْرُوعِ، فَهِيَ مِنْ جِنْسِ كَتْبِ الْمُصْحَفِ، وَتَدْوِينِ الشَّرَائِعِ.
وَمَا ذُكِرَ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُخَيْمِرَةَ قَدْ رَجَعَ عَنْهُ، فَإِنَّ (14) أحمد بن يحيى
_________
(1) هو ظالم بن عمرو بن سفيان، أبو الأسود الديلي، ويقال الدؤلي، ولد في أيام النبوة، وحدث عن عمر وعلي وأبي وغيرهم، وحدث عنه ابنه ويحيى بن يعمر وآخرون، قال أحمد والعجلي: ثقة، كان أول من تكلم في النحو، وقد تولى قضاء البصرة. توفي سنة 99هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء (4/ 81)، تقريب التهذيب (2/ 391)، الكاشف (3/ 271).
(2) في (خ) و (ط): "أعرابياً".
(3) زيادة في (م).
(4) سورة براءة: آية (3).
(5) ما بين المعكوفين ساقط من (م) و (خ) و (ت) و (ط) و (ر).
(6) هو عبد الله بن عبيد الله بن عبد الله بن أبي مليكة التيمي، المدني، أدرك ثلاثين مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد ولي القضاء لابن الزبير والأذان أيضاً، وكان عالماً مفتياً، صاحب حديث وإتقان، وقد وثقه أبو زرعة وأبو حاتم. توفي سنة 117هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء (5/ 88)، تقريب التهذيب (1/ 431)، الكاشف (2/ 95).
(7) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "يقرأ".
(8) في (م) و (ت) و (غ) و (ر): "كلام".
(9) ساقطة من (م) و (ت)، وفي (غ): "العرب".
(10) ساقطة من (غ) و (ر).
(11) في (غ) و (ر): "تضم".
(12) في (م) و (ت) و (غ) و (ر): "إلى".
(13) ما بين المعكوفين ساقط من (م) و (ت).
(14) في (خ) و (ت) و (ط) و (غ): "قال".(1/339)
ثَعْلَبًا (1) قَالَ: كَانَ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ فِي الدِّينِ يَعِيبُ النَّحْوَ، وَيَقُولُ: (أَوَّلُ تَعَلُّمِهِ شُغْلٌ، وَآخِرُهُ بغي (2) يزدري العالم بِهِ النَّاسُ)، فَقَرَأَ يَوْمًا: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (3) (بِرَفْعِ اللَّهِ، وَنَصْبِ الْعُلَمَاءِ) (4)، فقيل له: كفرت من حيث لم (5) تَعْلَمُ. تَجْعَلُ اللَّهَ يَخْشَى الْعُلَمَاءَ؟ فَقَالَ: (لَا طعنت (6) على (7) علم يؤول (8) بي (9) إِلَى مَعْرِفَةِ هَذَا أَبَدًا).
قَالَ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّانِيُّ (10): الْإِمَامُ الَّذِي ذَكَرَهُ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى هُوَ الْقَاسِمُ بْنُ مُخَيْمِرَةَ (11). قَالَ: وَقَدْ جَرَى لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ مَعَ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ كَلَامٌ، وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ يَنْتَقِصُ النَّحْوِيِّينَ، فَاجْتَمَعَا فِي جِنَازَةٍ فَقَرَأَ ابْنُ سِيرِينَ: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} بِرَفْعِ اسْمِ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ: كَفَرْتَ يَا أَبَا بَكْرٍ، تَعِيبُ عَلَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُقِيمُونَ كِتَابَ اللَّهِ؟ فَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: إِنْ كُنْتُ أَخْطَأْتُ فَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ.
وَأَمَّا عِلْمُ الْمَقَايِيسِ فَأَصْلُهُ فِي السُّنَّةِ، ثُمَّ فِي علم السلف بالقياس، نعم (12) قَدْ جَاءَ فِي ذَمِّ الْقِيَاسِ أَشْيَاءُ حَمَلُوهَا عَلَى الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ، (وَهُوَ الْقِيَاسُ عَلَى غَيْرِ أَصْلٍ، وَهُوَ عُمْدَةُ كُلِّ مُبْتَدَعٍ؛ وَأَمَّا الْجَدَلُ في
_________
(1) هو أحمد بن يحيى بن يزيد الشيباني مولاهم، البغدادي، إمام النحو، صاحب "الفصيح والتصانيف"، وكان يقول: سمعت من القواريري مائة ألف حديث، قال الخطيب: ثقة حجة، دين صالح، مشهور بالحفظ. مات سنة 291هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء (14/ 5)، معجم الأدباء (5/ 102)، النجوم الزاهرة (3/ 133).
(2) ساقطة من (خ) و (ط).
(3) سورة فاطر: آية (28).
(4) ما بين المعكوفين ساقط من (م) و (ت) و (غ) و (ر).
(5) في (ط): "لا".
(6) في (م): "حصنت"، وفي (ت): "ضعنت".
(7) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط).
(8) في (خ) و (ط): "يدل".
(9) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط).
(10) هو عثمان بن سعيد بن عثمان الداني، الإمام المقرئ، عالم الأندلس، مصنف التيسير، وجامع البيان، وكان أحد الأئمة في علم القرآن، رواياته وتفسير معانيه وإعرابه، مع البراعة في علم الحديث والتفسير والنحو. توفي سنة 444هـ.
انظر: السير (18/ 77)، العبر (3/ 207)، معرفة القراء الكبار (1/ 325).
(11) غير واضحة في (خ).
(12) في (خ) و (ت) و (ط): "ثم".(1/340)
الْفِقْهِ) (1)، فَذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ النَّظَرِ فِي الْأَدِلَّةِ، وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ يَجْتَمِعُونَ لِلنَّظَرِ فِي الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ الَّتِي لَا نَصَّ فِيهَا لِلتَّعَاوُنِ عَلَى اسْتِخْرَاجِ الْحَقِّ، فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَمِنْ قَبِيلِ الْمُشَاوَرَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا (2)، فَكِلَاهُمَا مَأْمُورٌ بِهِ.
وَأَمَّا عِلْمُ الْمَعْقُولِ بِالنَّظَرِ، فَأَصْلُ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى احْتَجَّ فِي الْقُرْآنِ عَلَى الْمُخَالِفِينَ لِدِينِهِ بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، كَقَوْلِهِ: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (3)، وَقَوْلُهُ: {هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ} (4)، وَقَوْلُهُ: {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ} (5).
وَحَكَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُحَاجَّتَهُ لِلْكَفَّارِ بِقَوْلِهِ: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي} (6) إلى آخرها.
وَفِي الْحَدِيثِ حِينَ ذُكِرَتِ الْعَدْوَى: (فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ؟) (7) إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ، فَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّهُ مِنَ الْبِدَعِ؟
وَقَوْلُ عِزِّ الدِّينِ: (إِنَّ الرَّدَّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ (8)، وَكَذَا ((غَيْرُهُمْ) (9) مِنْ أَهْلِ (10) الْبِدَعِ) (11) مِنَ الْبِدَعِ الْوَاجِبَةِ) غَيْرُ جَارٍ عَلَى الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ، وَلَوْ سُلِّمَ فَهُوَ مِنَ المصالح المرسلة.
_________
(1) ما بين المعكوفين ساقط من (خ) و (ط).
(2) في (ط): "به".
(3) سورة الأنبياء: آية (22).
(4) سورة الروم: آية (40).
(5) سورة فاطر: آية (40).
(6) سورة الأنعام: آية (76).
(7) رواه الإمام البخاري في كتاب الطب من صحيحه، باب لا عدوى، عن أبي هريرة وَفِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لا عدوى"، فقام أعرابي فقال: أرأيت الإبل تكون في الرمال أمثال الظباء، فيأتيها البعير الأجرب فتجرب، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: "فمن أعدى الأول"، ورواه الإمام مسلم في كتاب السلام، باب لا عدوى ولا طيرة (14/ 213)، والإمام أبو داود في كتاب الطب، باب في الطيرة برقم (3911) (4/ 16)، والإمام أحمد في المسند (1/ 328).
(8) تقدم التعريف بهم (ص11).
(9) زيادة من (ط)، وبها تستقيم العبارة.
(10) ساقطة من (ت).
(11) ما بين المعكوفين ساقط من (م) و (غ) و (ر).(1/341)
(وَأَمَّا أَمْثِلَةُ الْبِدَعِ الْمُحَرَّمَةِ فَظَاهِرَةٌ) (1).
وَأَمَّا أَمْثِلَةُ البدع (2) الْمَنْدُوبَةِ: فَذَكَرَ مِنْهَا إِحْدَاثَ الرُّبْطِ وَالْمَدَارِسِ، فَإِنْ عَنَى بِالرُّبْطِ مَا بُنِيَ مِنَ الْحُصُونِ وَالْقُصُورِ قَصْدًا لِلرِّبَاطِ (3) فِيهَا، فَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ مَشْرُوعٌ بِشَرْعِيَّةِ (4) الرِّبَاطِ، وَلَا بِدْعَةَ فِيهِ، وَإِنْ عنى بالربط ما بني لالتزام سكناها قصداً (5) للانقطاع (6) للعبادة (7)، فَإِنَّ (8) إِحْدَاثَ الرُّبْطِ الَّتِي شَأْنُهَا أَنْ تُبْنَى تَدَيُّنًا لِلْمُنْقَطِعِينَ لِلْعِبَادَةِ ـ فِي زَعْمِ الْمُحْدَثِينَ ـ وَيُوقَفُ (9) عَلَيْهَا أَوْقَافٌ يَجْرِي مِنْهَا عَلَى الْمُلَازِمِينَ لَهَا مَا يَقُومُ بِهِمْ فِي مَعَاشِهِمْ مِنْ طَعَامٍ ولباس (10) وَغَيْرِهِمَا، لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ لَهَا (11) أَصْلٌ فِي الشَّرِيعَةِ أَمْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لها (12) أَصْلٌ دَخَلَتْ فِي الْحُكْمِ تَحْتَ قَاعِدَةِ الْبِدَعِ الَّتِي هِيَ ضَلَالَاتٌ، فَضْلًا عَنْ أَنْ تَكُونَ مُبَاحَةً، فَضْلًا عَنْ أَنْ تَكُونَ مُنْدُوبًا إِلَيْهَا، وإن كان لها أصل فليست بِبِدْعَةٍ فَإِدْخَالُهَا تَحْتَ جِنْسِ الْبِدَعِ غَيْرُ صَحِيحٍ.
ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ تَكَلَّمَ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنَ الْمُصَنِّفِينَ فِي التَّصَوُّفِ تَعَلَّقُوا بالصُّفَّة (13) الَّتِي كَانَتْ فِي مَسْجِدِ (14) رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْتَمِعُ فِيهَا فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ نَزَلَ فِيهِمْ: {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ... } (15) الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} (16) الآية، فوصفهم (17) بِالتَّعَبُّدِ وَالِانْقِطَاعِ إِلَى اللَّهِ بِدُعَائِهِ قَصْدًا لِلَّهِ خَالِصًا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمُ انْقَطَعُوا لِعِبَادَةِ اللَّهِ (18)، لَا يَشْغَلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ شَاغِلٌ، فَنَحْنُ إِنَّمَا صنعنا صُفَّةً مثلها أو تقاربها
_________
(1) ما بين المعكوفين ساقط من (غ).
(2) مثبتة من (ر)، وساقطة من بقية لانسخ.
(3) في (م) و (ت): "للرابط".
(4) ساقطة من (غ).
(5) في (خ) و (ط): "قصد".
(6) في (خ) و (ط): "الانقطاع".
(7) في (خ) و (ط): "إلى العبادة".
(8) في (خ) و (ت) و (ط): "لأن".
(9) في (ر): "يوقف".
(10) في (م) و (ت): "أو لباس".
(11) في (ر): "له".
(12) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط).
(13) عبارة (خ): "تعلقوا بالضبط بالصفة".
(14) في (غ): "مساجد".
(15) سورة الأنعام: آية (52).
(16) سورة الكهف: آية (28).
(17) في (خ) و (ط): "فوصفهم الله".
(18) في (خ) و (ت) و (ط): "لعبادة الله قصداً لله خالصاً، لا يشغلهم .. "، وهو سبق نظر من الناسخ.(1/342)
ليجتمع (1) فِيهَا مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْقَطِعَ (2) إِلَى اللَّهِ، وَيَلْتَزِمَ الْعِبَادَةَ، وَيَتَجَرَّدَ عَنِ الدُّنْيَا وَالشُّغْلِ بِهَا، وَذَلِكَ كَانَ شَأْنُ الْأَوْلِيَاءِ أَنْ (3) يَنْقَطِعُوا (4) عَنِ النَّاسِ، وَيَشْتَغِلُوا (5) بِإِصْلَاحِ بَوَاطِنِهِمْ، وَيُوَلُّوا (6) وُجُوهَهُمْ شَطْرَ الْحَقِّ، فَهُمْ عَلَى سِيرَةِ مَنْ تَقَدَّمَ. وَإِنَّمَا يُسَمَّى ذَلِكَ بِدْعَةً بِاعْتِبَارٍ مَا، بَلْ هِيَ سُنَّةٌ، وَأَهْلُهَا مُتَّبِعُونَ لِلسُّنَّةِ، فَهِيَ طَرِيقَةٌ خَاصَّةٌ لأناس خاصة (7)، وَلِذَلِكَ لَمَّا قِيلَ لِبَعْضِهِمْ: فِي (8) كَمْ تَجِبُ الزَّكَاةُ؟ قَالَ (9): عَلَى مَذْهَبِنَا أَمْ عَلَى مَذْهَبِكُمْ؟ ثُمَّ قَالَ: (أَمَّا عَلَى مَذْهَبِنَا فَالْكُلُّ لِلَّهِ، وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِكُمْ فَكَذَا وَكَذَا، أَوْ كَمَا قَالَ. وَهَذَا كُلُّهُ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي جَرَتْ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ هَكَذَا غَيْرَ مُحَقَّقَةٍ، وَلَا مُنَزَّلَةٍ عَلَى الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ، وَلَا عَلَى أَحْوَالِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ.
وَلَا بُدَّ مِنْ بَسْطِ طَرْفٍ مِنَ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِحَوْلِ اللَّهِ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْحَقُّ فِيهَا لِمَنْ أَنْصَفَ، وَلَمْ يُغَالِطْ نَفْسَهُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
وَذَلِكَ أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ كَانَتِ الْهِجْرَةُ وَاجِبَةً عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ بِاللَّهِ (10)، مِمَّنْ كَانَ بِمَكَّةَ (11) أَوْ غَيْرِهَا، فَكَانَ مِنْهُمْ مَنِ احْتَالَ عَلَى نَفْسِهِ، فهاجر بماله أو بشيء (12) مِنْهُ، فَاسْتَعَانَ بِهِ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ فِي حِرْفَتِهِ الَّتِي كَانَ يَحْتَرِفُ مِنْ تِجَارَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، كَأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَإِنَّهُ هَاجَرَ بِجَمِيعِ مَالِهِ، وَكَانَ خَمْسَةَ آلَافٍ (أو ستة آلاف) (13).
_________
(1) في (خ) و (ط): "يجتمع".
(2) في (خ) و (ط): "الانقطاع".
(3) ساقطة من (خ) و (ت) و (ط).
(4) في (ط): "ينقطعون"، وقد كتب هكذا مع الأفعال بعده بناء على أن أداة النصب غير موجودة.
(5) في (ط): "ويشتغلون".
(6) في (ط): "ويولون".
(7) ساقطة من (ط).
(8) في (م) و (ت): "فيم"، وفي (خ): "فيما".
(9) في (خ) و (ت) و (غ) و (ر): "فقال".
(10) في (غ) و (ر): "إليه".
(11) في (غ): "مكة" بدون الباء.
(12) في (خ) و (ط): "شيء".
(13) ما بين المعكوفين ساقط من (م) و (خ) و (ت) و (ط).(1/343)
وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّ بِنَفْسِهِ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى اسْتِخْلَاصِ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ، فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ صِفْرَ الْيَدَيْنِ.
وَكَانَ الْغَالِبُ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ الْعَمَلَ فِي حَوَائِطِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ، فَلَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِمْ معهم كبير فضل في العمل.
فكان (1) مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مَنْ أَشْرَكَهُمُ الْأَنْصَارُ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَهُمُ الْأَكْثَرُونَ، بِدَلِيلِ قِصَّةِ بَنِي (2) النَّضِيرِ، فَإِنَّ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: (لَمَّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِيَ النَّضِيرِ قَالَ لِلْأَنْصَارِ: "إِنْ شِئْتُمْ قَسَّمْتُهَا بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَتَرَكْتُمْ نَصِيبَكُمْ فِيهَا (3)، وَخَلَّى الْمُهَاجِرُونَ (4) بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ دُورِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، فَإِنَّهُمْ عِيَالٌ عَلَيْكُمْ"، فَقَالُوا: نَعَمْ، فَفَعَلَ ذَلِكَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، غَيْرَ أَنَّهُ أَعْطَى أَبَا دُجَانَةَ وَسَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ، وَذَكَرَ أَنَّهُمْ (5) فَقُرَاءُ) (6).
وَقَدْ قَالَ الْمُهَاجِرُونَ أَيْضًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا رَأَيْنَا قَوْمًا أَبْذَلَ مِنْ كَثِيرٍ، وَلَا أَحْسَنَ مُوَاسَاةً مِنْ قَلِيلٍ، مِنْ قَوْمٍ نَزَلْنَا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ ـ يَعْنِي الْأَنْصَارَ ـ لَقَدْ كَفَوْنَا الْمُؤْنَةَ، وَأَشْرَكُونَا فِي الْمَهْنَأِ، حَتَّى لَقَدْ خِفْنَا أَنْ يَذْهَبُوا بِالْأَجْرِ كُلِّهِ)، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا (7)، مَا دَعَوْتُمُ اللَّهَ لَهُمْ، وَأَثْنَيْتُمْ عليهم" (8).
_________
(1) في (خ) و (ط): "وكان".
(2) في (م): "أبي".
(3) في (غ): "منها".
(4) في (غ): "المهاجرين".
(5) ساقطة من (م) و (ت) و (غ) و (ر).
(6) رواه الإمام أبو داود في كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب في خبر النضير عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن رجل مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع اختلاف في اللفظ.
انظر: السنن برقم (3004)، (3/ 155 ـ 156)، ورواه الإمام ابن جرير في تفسيره (28/ 41)، وصحح الشيخ الألباني إسناده كما في صحيح سنن أبي داود (2/ 582).
(7) في (ر): "إلا".
(8) رواه الإمام الترمذي في كتاب صفة القيامة من سننه عن أنس رضي الله عنه برقم (2487)، وقال: هذا حديث صحيح حسن غريب من هذا الوجه (4/ 565 ـ 566) والإمام البخاري في الأدب المفرد، باب من لم يجد المكافأة فليدع له (ص87) برقم (217)، والبيهقي في شعب الإيمان (6/ 514)، والإمام الحاكم في المستدرك وقال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي (2/ 63).(1/344)
ومنهم من كان يلتقط نوى التمر فيرضخها (1)، وَيَبِيعُهَا عَلَفًا لِلْإِبِلِ، وَيَتَقَوَّتُ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَجِدْ وَجْهًا يَكْتَسِبُ بِهِ لقوت ولا سكنى (2)، فَجَمَعَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صُفَّةٍ كَانَتْ فِي مَسْجِدِهِ، وَهِيَ سَقِيفَةٌ كَانَتْ مِنْ جُمْلَتِهِ (3)، إِلَيْهَا يَأْوُونَ، وَفِيهَا (4) يَقْعُدُونَ، إِذْ لم يجدوا (منزلاً، كما لَمْ يَجِدُوا) (5) مَالًا وَلَا أَهْلًا، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحُضُّ النَّاسَ عَلَى إِعَانَتِهِمْ (6) وَالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ، وَقَدْ وَصَفَهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عَنْهُ إِذْ كَانَ مِنْ جُمْلَتِهِمْ، وَهُوَ أَعْرَفُ النَّاسِ بِهِمْ، قَالَ فِي الصَّحِيحِ: (وَأَهْلُ الصُّفَّةِ أَضْيَافُ الْإِسْلَامِ، لَا يَأْوُونَ عَلَى أَهْلٍ وَلَا مَالٍ، وَلَا عَلَى أَحَدٍ، إِذَا أَتَتْهُ ـ يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ صَدَقَةٌ بَعَثَ بِهَا إِلَيْهِمْ، وَلَا يَتَنَاوَلُ (7) مِنْهَا شَيْئًا، وَإِذَا أَتَتْهُ هَدِيَّةٌ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ، وَأَصَابَ مِنْهَا، وَأَشْرَكَهُمْ فِيهَا) (8).
فَوَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ أَضْيَافُ الْإِسْلَامِ، وَحَكَمَ لَهُمْ ـ كَمَا تَرَى ـ بِحُكْمِ الْأَضْيَافِ (9)، وَإِنَّمَا وَجَبَتِ الضِّيَافَةُ فِي الْجُمْلَةِ، لِأَنَّ مَنْ نَزَلَ بِالْبَادِيَةِ لَا يَجِدُ مَنْزِلًا وَلَا طَعَامًا لِشِرَاءٍ، إِذْ لَمْ يَكُنْ (10) لِأَهْلِ الْوَبَرِ أَسْوَاقٌ يَنَالُ مِنْهَا مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، مِنْ طَعَامٍ يُشْتَرَى، وَلَا خَانَاتٌ يؤوى (11) إِلَيْهَا، فَصَارَ الضَّيْفُ مُضْطَرًّا، وَإِنْ كَانَ ذَا مَالٍ، فَوَجَبَ عَلَى أَهْلِ الْمَوْضِعِ ضِيَافَتُهُ (12) وَإِيوَاؤُهُ (13) حَتَّى يَرْتَحِلَ، فَإِنْ كَانَ لَا مَالَ لَهُ فذلك أحرى.
_________
(1) في (خ): "فيرضعها"، وفي (م) و (ت) و (ط): "فيرضها"، قال في القاموس: "والمرضاخ: حجر يرضخ به النوى" (ص251).
(2) في (خ) و (ط): "لسكنى".
(3) في (ت): "حملته".
(4) في (غ): "فيها" بدون الواو.
(5) ما بين المعكوفين ساقط من (خ) و (ت) و (ط).
(6) في (م) و (ت) و (غ) و (ر): "إغاثتهم".
(7) في (غ) و (ر): "ولم يتناول".
(8) رواه الإمام البخاري في كتاب الرقاق من صحيحه، باب كيف كان عيش النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، عن أبي هريرة رضي الله عنه (11/ 281 فتح).
(9) في (غ) و (ر): "الأوضاف".
(10) ساقطة من (ت).
(11) في (خ) و (ت) و (ط): "يأوي".
(12) في (غ) و (ر): "إغاثته"، وهي ساقطة من (م) و (ت).
(13) ساقطة من (م) و (ت) و (غ) و (ر).(1/345)
فَكَذَلِكَ أَهْلُ الصُّفَّةِ لَمَّا لَمْ يَجِدُوا مَنْزِلًا آوَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَسْجِدِ حَتَّى يَجِدُوا، كَمَا أَنَّهُمْ حِينَ لَمْ يَجِدُوا مَا يَقُوتُهُمْ نَدَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى إِعَانَتِهِمْ.
وَفِيهِمْ نَزَلَ قَوْلُ الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ}، إِلَى قَوْلِهِ: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (1) الْآيَةَ، فَوَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَوْصَافٍ مِنْهَا أَنَّهُمْ أَحُصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَيْ مُنِعُوا وَحُبِسُوا حِينَ قَصَدُوا الْجِهَادَ مَعَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم كأن العدو (2) أحصرهم، فلا يستطيعون ضرباً في الأرض، لا (3) لِاتِّخَاذِ الْمَسْكَنِ وَلَا لِلْمَعَاشِ، لِأَنَّ (4) الْعَدُوَّ قَدْ كَانَ (5) أَحَاطَ بِالْمَدِينَةِ، فَلَا هُمْ يَقْدِرُونَ عَلَى الْجِهَادِ حَتَّى يَكْسِبُوا مِنْ غَنَائِمِهِ، وَلَا هُمْ يتصرفون (6) لِلتِّجَارَةِ (7) أَوْ غَيْرِهَا لِخَوْفِهِمْ (8) مِنَ الْكُفَّارِ، وَلِضَعْفِهِمْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، فَلَمْ يَجِدُوا سَبِيلًا لِلْكَسْبِ أصلاً.
وقد قيل: في (9) قَوْلَهُ تَعَالَى: {لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ} (10) أَنَّهُمْ قَوْمٌ أَصَابَتْهُمْ جِرَاحَاتٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصَارُوا زَمْنَى (11).
وَفِيهِمْ أَيْضًا نَزَلَ (قَوْلُهُ تَعَالَى) (12): {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ
_________
(1) سورة البقرة: الآيتان (267 ـ 273).
(2) في (م) و (ت): "العذر".
(3) ساقطة من (م) و (غ) و (ر).
(4) في (خ) و (ت) و (ط): "كأن".
(5) ساقطة من (خ) و (ط).
(6) في (خ) و (ت) و (ط): "يتفرغون".
(7) في (غ) و (ر): "بتجارة".
(8) في (غ) و (ر): "لخروجهم".
(9) في (خ) و (ط): "أن"، وساقطة من (م) و (ت).
(10) سورة البقرة: آية (273).
(11) زمنى جمع زمن وهو المبتلى. الصحاح للجوهري (5/ 2131).
وقد ذكر القولين في سبب نزول الآية الإمام ابن الجوزي في زاد المسير (1/ 327 ـ 328)، والإمام الشوكاني في فتح القدير (1/ 293).
(12) ما بين المعكوفين ساقط من (خ) و (ط).
والآية نزلت في أهل الصفة وغيرهم من فقراء المهاجرين، فلا يفهم من عبارة المؤلف التخصيص.(1/346)
دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} (1)، أَلَا تَرَى كَيْفَ قَالَ: {أُخْرِجُوا}، وَلَمْ يَقُلْ خَرَجُوا (مِنْ دِيَارِهِمْ) (2) وَأَمْوَالِهِمْ (3)، فَإِنَّهُ (4) قَدْ كَانَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَخْرُجُوا اخْتِيَارًا، فَبَانَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا خرجوا منها اضْطِرَارًا، وَلَوْ وَجَدُوا سَبِيلًا أَنْ لَا يَخْرُجُوا (5) لفعلوا (6)، ففيه دليل (7) على أن الخروج عن (8) الْمَالِ اخْتِيَارًا لَيْسَ بِمَقْصُودٍ لِلشَّارِعِ، وَهُوَ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ أَدِلَّةُ (9) الشَّرِيعَةِ، فَلِأَجْلٍ ذَلِكَ بَوَّأَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصُّفَّةَ.
فَكَانُوا فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ مَا بَيْنَ طَالِبٍ لِلْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، كَأَبِي هُرَيْرَةَ، فَإِنَّهُ (10) قَصَرَ (11) نَفْسَهُ عَلَى ذَلِكَ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ: "وَكُنْتُ أَلْزَمُ رَسُولَ (12) (اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ) (13) عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مِلْءِ بَطْنِي، فَأَشْهَدُ إِذَا غَابُوا، وَأَحْفَظُ إِذَا نَسُوا" (14).
وَكَانَ (15) مِنْهُمْ (16) مَنْ يَتَفَرَّغُ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، فَإِذَا غَزَا رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ) (17) عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزَا مَعَهُ، وَإِذَا أَقَامَ أَقَامَ مَعَهُ، حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ، فصاروا إلى ما صار إليه
_________
(1) سورة الحشر: آية (8).
(2) ما بين المعكوفين ساقط من (خ) و (ت) و (ط).
(3) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط).
(4) في (ط): "فأن".
(5) في (م) و (ت): "لا خرجوا"، وعبارة (غ) و (ر): "سبيلاً إلى إخراجها".
(6) غير واضحة في (غ).
(7) في (م) و (غ) و (ر): "ما يدل"، واللفظ غير واضح في (ت).
(8) في (خ): "على"، وفي (ط): "من".
(9) غير واضحة في (ت).
(11) (10) غير واضحة في (ت).
(12) جزء من الكلمة في البياض في نسخة (ت).
(13) ما بين المعكوفين غير واضح في (ت).
(14) رواه الإمام البخاري في مواضع من صحيحه.
انظر: باب حفظ العلم من كتاب العلم (1/ 213)، والباب الأول من كتاب البيوع، وهو بتمام لفظه هنا (4/ 287)، وفي كتاب الحرث والمزارعة، باب ما جاء في الغرس (5/ 28)، وفي كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة (13/ 321).
(15) جزء من الكلمة في البياض في نسخة (ت).
(16) غير واضحة في (ت).
(17) غير واضح في (ت).(1/347)
غَيْرُهُمْ (1)، مِمَّنْ كَانَ لَهُ (2) أَهْلٌ وَمَالٌ، مِنْ طَلَبِ (3) الْمَعَاشِ (4) وَاتِّخَاذِ الْمَسْكَنِ (5)، لِأَنَّ الْعُذْرَ الَّذِي حَبَسَهُمْ فِي الصُّفَّةِ قَدْ زَالَ، فَرَجَعُوا (6) إِلَى الأصل لما زال العارض.
فالذي تحصل (7) أَنَّ الْقُعُودَ فِي الصُّفَّةِ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا لِنَفْسِهِ، وَلَا بِنَاءَ الصُّفَّةِ لِلْفُقَرَاءِ مَقْصُودًا بِحَيْثُ يُقَالُ: إِنَّ ذَلِكَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، وَلَا هِيَ رُتْبَةٌ (8) شَرْعِيَّةٌ تُطْلَبُ بِحَيْثُ يُقَالُ: إِنَّ تَرْكَ الِاكْتِسَابِ، وَالْخُرُوجَ عَنِ الْمَالِ، وَالِانْقِطَاعَ إِلَى الزَّوَايَا يُشْبِهُ حَالَةَ أَهْلِ الصُّفَّةِ، وَهِيَ الرُّتْبَةُ (9) الْعُلْيَا، لِأَنَّهَا (10) تَشَبُّهٌ بِأَهْلِ صُفَّةِ رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ) (11) عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ (12) وَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ: {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} (13) الْآيَةَ (14)، وَقَوْلِهِ: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} (15) الْآيَةَ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَلَى مَا زَعَمَ هَؤُلَاءِ، بَلْ كَانَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ.
والدليل (على ذلك) (16) من العمل أن القعود (17) بِالصُّفَّةِ لَمْ يَدُمْ، وَلَمْ يُثَابِرْ أَهْلُهَا وَلَا غَيْرُهُمْ عَلَى الْبَقَاءِ فِيهَا، وَلَا عُمِّرَتْ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَوْ كَانَ مِنْ قَصْدِ الشَّارِعِ ثُبُوتُ تِلْكَ الْحَالَةِ، لَكَانُوا هُمْ أَحَقَّ بِفَهْمِهَا أَوَّلًا، ثُمَّ بِإِقَامَتِهَا وَالْمُكْثِ فِيهَا عَنْ كُلِّ شُغْلٍ، وَأَوْلَى بِتَجْدِيدِ مَعَاهِدِهَا، لكنهم لم يفعلوا ذلك البتة.
_________
(1) عبارة (م) و (خ) و (ت) و (ط): "فَصَارُوا إِلَى مَا صَارَ النَّاسُ إِلَيْهِ غَيْرُهُمْ".
(2) في (خ) و (ط): "ذا".
(3) في (خ) و (ط): "وطلب"، وهي غير واضحة في (ت).
(4) في (خ) و (ط): "للمعاش".
(5) في (غ) و (ر): "السكن والمسكن".
(6) غير واضحة في (ت).
(7) في (م) و (ت) و (غ) و (ر): "حصل".
(8) ساقطة من (ط).
(9) في (غ) و (ر): "المرتبة".
(10) في (غ): "لأنه".
(11) ساقط من (ت).
(12) في (ر): "وهم الذين".
(13) سورة والأنعام: آية (52).
(14) ساقطة من (ط).
(15) سورة الكهف: آية (28).
(16) ما بين المعكوفين ساقط من (خ) و (ت) و (ط).
(17) في (خ) و (ت) و (ط): "المقصود".(1/348)
فَالتَّشَبُّهُ (1) بِأَهْلِ الصُّفَّةِ إِذًا فِي إِقَامَةِ ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَاتِّخَاذِ الزَّوَايَا وَالرَّبْطِ لَا يَصِحُّ (2).
فَلْيَفْهَمِ الْمُوَفَّقُ هَذَا الْمَوْضِعَ، فَإِنَّهُ مَزَلَّةُ قَدَمٍ لِمَنْ لَمْ يَأْخُذْ دِينَهُ عَنِ السَّلَفِ الْأَقْدَمِينَ، وَالْعُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ.
وَلَا يَظُنُّ الْعَاقِلُ أَنَّ الْقُعُودَ عَنِ الْكَسْبِ، وَلُزُومَ الرَّبْطِ مُبَاحٌ، أَوْ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، أَوْ (3) أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ، إِذْ لَيْسَ (4) ذَلِكَ بِصَحِيحٍ، وَلَنْ يَأْتِيَ (5) آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِأَهْدَى مِمَّا (6) كَانَ عَلَيْهِ أَوَّلُهَا.
وَيَكْفِي (7) الْمِسْكِينَ الْمُغْتَرَّ بِعَمَلِ (8) الشُّيُوخِ (9) الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ (10) صُدُورَ هَذِهِ الطَّائِفَةِ المتصفين (11) بِالصُّوفِيَّةِ (12) لَمْ يَتَّخِذُوا (13) رِبَاطًا (14) وَلَا زَاوِيَةً، وَلَا بَنَوْا بِنَاءً يُضَاهُونَ بِهِ الصُّفَّةَ لِلِاجْتِمَاعِ عَلَى التَّعَبُّدِ وَالِانْقِطَاعِ (15) عَنْ أَسْبَابِ الدُّنْيَا كَالْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ، وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ، وَالْجُنَيْدِ، وَإِبْرَاهِيمَ الْخَوَّاصِ، وَالْحَارِثِ الْمُحَاسَبِيِّ (16). وَالشِّبْلِيِّ (17)، وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ سَابَقَ فِي هذا الميدان.
_________
(1) في (ط) و (غ): "فالتشبيه".
(2) في (ر): "له لا يصح".
(3) ساقطة من (خ) و (ت) و (ط).
(4) في (غ): "وليس".
(5) بياض في (ت).
(6) في (ط): "ممن".
(7) في (خ) و (ط): "ولا كفى".
(8) بياض في (ت).
(9) جزء من الكلمة في البياض في نسخة (ت).
(10) في (ط): "إلى".
(11) في (م): "المتسمين".
(12) عبارة (غ) و (ر): "المنتسبون إلى التصوف".
(14) (13) جزء من الكلمتين في البياض في نسخة (ت).
(15) جزء من الكلمة في البياض في نسخة (ت).
(16) هو أبو عبد الله الحارث بن أسد البغدادي المحاسبي، صاحب التصانيف الزهدية وهو كبير القدر، وقد دخل في شيء يسير من الكلام، فنقم عليه، وورد أن الإمام أحمد أثنى على حال الحارث من وجه، وحذر منه. مات سنة 243هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء (12/ 110)، الحلية (10/ 73)، تاريخ بغداد (8/ 211)، طبقات الصوفية (ص56).
(17) هو دلف بن جعفر الشبلي البغدادي، صاحب الجنيد وغيره، وكان فقيهاً عارفاً بمذهب مالك، وكتب الحديث عن طائفة، وقال الشعر، وله ألفاظ وحكم وحال وتمكن. توفي سنة 334هـ.=(1/349)
وَإِنَّمَا مَحْصُولُ هَؤُلَاءِ (1) أَنَّهُمْ خَالَفُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخَالَفُوا السَّلَفَ الصَّالِحَ، وَخَالَفُوا شُيُوخَ الطَّرِيقَةِ الَّتِي انْتَسَبُوا إِلَيْهَا، وَلَا تَوْفِيقَ إِلَّا بِاللَّهِ.
وَأَمَّا الْمَدَارِسُ: فَلَا (2) يَتَعَلَّقُ (3) بِهَا أَمْرٌ تَعَبُّدِيٌّ يُقَالُ فِي (4) مِثْلِهِ (5) بِدْعَةٌ إِلَّا عَلَى فَرْضِ أَنْ يَكُونَ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ لَا يُقْرَأَ الْعِلْمُ إِلَّا بِالْمَسَاجِدِ (6)، وَهَذَا (7) لَا يُوجَدُ، بَلِ الْعِلْمُ كَانَ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ يُبَثُّ بِكُلِّ (8) مَكَانٍ مِنْ مَسْجِدٍ أَوْ مَنْزِلٍ، أَوْ سَفَرٍ، أَوْ حَضَرٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، حَتَّى فِي الْأَسْوَاقِ.
فَإِذَا أَعَدَّ أَحَدٌ من الناس (لقراءة العلم) (9) مَدْرَسَةً يُعِينُ (10) بِإِعْدَادِهَا الطَّلَبَةَ، فَلَا يَزِيدُ ذَلِكَ على إعداده (11) له (12) مَنْزِلًا مِنْ مَنَازِلِهِ، أَوْ حَائِطًا مِنْ حَوَائِطِهِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَأَيْنَ مَدْخَلُ الْبِدْعَةِ هُاهُنَا؟
وَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الْبِدْعَةَ فِي تَخْصِيصِ ذَلِكَ الموضع (13) دون غيره، فالتخصيص (14) هَاهُنَا لَيْسَ بِتَخْصِيصٍ تَعْبُدِيٍّ، وَإِنَّمَا هُوَ (15) تَعْيِينٌ بِالْحَبْسِ، كَمَا تَتَعَيَّنُ سَائِرُ الْأَمْوَالِ (16) الْمُحْبَسَةِ، وَتَخْصِيصُهَا لَيْسَ بِبِدْعَةٍ، فَكَذَلِكَ مَا نَحْنُ فِيهِ، بِخِلَافِ الربط، فإنها خصت تشبيهاً بالصُّفَّة، فهما (17) لِلتَّعَبُّدِ، فَصَارَتْ تَعَبُّدِيَّةً بِالْقَصْدِ وَالْعُرْفِ، حَتَّى إِنَّ سَاكِنِيهَا مُبَايِنُونَ لِغَيْرِهِمْ فِي النِّحْلَةِ وَالْمَذْهَبِ وَالزِّيِّ والاعتقاد.
_________
=انظر: سير أعلام النبلاء (15/ 367)، المنتظم لابن الجوزي (6/ 347)، حلية الأولياء (10/ 366)، تاريخ بغداد (14/ 389).
(1) يريد الصوفية المتأخرين.
(2) في (خ) و (ط): "فلم".
(3) في (ط): "يتلق".
(5) (4) بعض أجزاء الكلمة في البياض في نسخة (ت).
(7) (6) بعض أجزاء الكلمة في البياض في نسخة (ت).
(8) في (ر): "في كل".
(9) ما بين المعكوفين ساقط من (م) و (خ) و (ت) و (ط).
(10) في (خ) و (ط): "يعني".
(11) في (ط): "إعدادها".
(12) في (ر): "لها".
(13) بعد هذه اللفظة أعاد ناسخ (ت) بعض ما كان كتبه.
(14) كذا في (ر)، وفي بقية النسخ: "والتخصيص".
(15) ساقطة من (ت).
(16) في (خ) و (ط): "الأمور"، وفي (ت): "الأموال".
(17) في (ط): "بهما".(1/350)
وَكَذَلِكَ مَا ذُكِرَ مِنْ بِنَاءِ الْقَنَاطِرِ (1): فَإِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى إِصْلَاحِ الطُّرُقِ، وَإِزَالَةِ الْمَشَقَّةِ عَنْ سَالِكِيهَا، وَلَهُ أَصْلٌ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَهُوَ إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يعد في البدع بحال.
وقوله: (وكذلك (2) كل (3) إِحْسَانٍ لَمْ (4) يُعْهَدْ (5) فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ)، فِيهِ تَفْصِيلٌ، فَلَا يَخْلُو (6) الْإِحْسَانُ الْمَفْرُوضُ (7) أَنْ يُفْهَمَ من الشريعة أنه مقيد بقيد تعبدي أو لا، فَإِنْ كَانَ مُقَيَّدًا بِالتَّعَبُّدِ الَّذِي لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُعْمَلَ بِهِ إِلَّا عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُقَيَّدٍ فِي أَصْلِ التَّشْرِيعِ بِأَمْرٍ (8) تَعَبُّدِيٍّ، فَلَا يُقَالُ (9): إِنَّهُ غَيْرُ بِدْعَةٍ (10) عَلَى أَيِّ وَجْهٍ وَقَعَ إِلَّا عَلَى أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يخرم (11) أَصْلًا شَرْعِيًّا، مِثْلَ الْإِحْسَانِ الْمُتْبَعِ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى، وَالصَّدَقَةِ مِنَ الْمِدْيَانِ الْمَضْرُوبِ عَلَى يَدِهِ، وَمَا أشبه ذلك، ويكون (12) إِذْ ذَاكَ مَعْصِيَةً.
وَالثَّانِي: أَنْ يَلْتَزِمَ عَلَى وَجْهٍ لَا يُتَعَدَّى، بِحَيْثُ يَفْهَمُ مِنْهُ الْجَاهِلُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ، فَحِينَئِذٍ (13) يَكُونُ الِالْتِزَامُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ (14) بِدْعَةً مَذْمُومَةً وَضَلَالَةً، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى (15)، فلا تكون إذا مستحبة.
_________
(1) في (غ): "القناطير".
(2) ساقطة من (خ) و (ط).
(3) ساقطة من (م) و (ت).
(4) ساقطة من (م).
(5) في (م): "العهد".
(6) في (خ) و (ر): "تحيلو".
(7) أي الذي نفترض وقوعه، لأن العز بن عبد السلام أطلق العبارة.
(8) في (ط): "بأمري".
(9) في (م) و (ر): "مقال".
(10) لعلها: "إنه بدعة"؛ إذ تستقيم العبارة بحذف كلمة: "غير".
(11) في (خ) و (ط): "يخرج".
(12) في (م) و (ت): "يكون" بدون الواو، وفي (غ) و (ر): "فيكون".
(13) في (ت) و (غ): "فح" وهي كالاختصار لِلَّفظة، وقد تقدم مثل ذلك في هذه النسخة.
(14) في (خ) و (ط): "المشار إليه البدعة بل بدعة مذمومة .. "، وناسخ (خ) إذا أخطأ في بعض الألفاظ أضرب عنها بـ (بل) وأعاد كتابة اللفظ الصحيح.
(15) انظر: الباب الخامس (1/ 293).(1/351)
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَجْرِيَ عَلَى رَأْيِ مَنْ يَرَى (1) الْمَعْقُولَ الْمَعْنَى وَغَيْرَهُ بِدْعَةً مَذْمُومَةً، كَمَنْ كَرِهَ تَنْخِيلَ الدَّقِيقِ فِي الْعَقِيقَةِ (2)، فَلَا تَكُونُ عِنْدَهُ الْبِدْعَةُ مُبَاحَةً وَلَا مُسْتَحَبَّةً.
وَصَلَاةُ التَّرَاوِيحِ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا (3).
(وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي دَقَائِقَ التَّصَوُّفِ) فَلَيْسَ بِبِدْعَةٍ بِإِطْلَاقٍ، وَلَا هُوَ مِمَّا صَحَّ بِالدَّلِيلِ بِإِطْلَاقٍ، بَلِ الْأَمْرُ يَنْقَسِمُ، وَلَفْظُ التَّصَوُّفِ لَا بُدَّ مِنْ شَرْحِهِ أَوَّلًا حَتَّى يَقَعَ الْحُكْمُ عَلَى أَمْرٍ مَفْهُومٍ، لِأَنَّهُ أَمْرٌ مُجْمَلٌ عِنْدِ هَؤُلَاءِ (4) الْمُتَأَخِّرِينَ، فَلْنَرْجِعْ إِلَى مَا قَالَ فِيهِ الْمُتَقَدِّمُونَ.
وَحَاصِلُ مَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ (5) لَفْظُ التصوف عندهم معنيان:
أحدهما: أنه (6) التَّخَلُّقُ بِكُلِّ خُلُقٍ سَنِيّ، وَالتَّجَرُّدُ عَنْ كُلِّ خُلُقٍ (7) دَنِيّ (8).
وَالْآخَرُ: أَنَّهُ الْفَنَاءُ عَنْ نَفْسِهِ، والبقاء بربه (9).
وهما في التحقيق (10) يرجعان (11) إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، إِلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا يَصْلُحُ التَّعْبِيرُ بِهِ عَنِ (الْبِدَايَةِ، وَالْآخِرَ يَصْلُحُ التَّعْبِيرُ بِهِ عَنِ) (12) النِّهَايَةِ، وَكِلَاهُمَا اتِّصَافٌ، إِلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ لَا يُلْزِمُهُ الْحَالُ (13)، وَالثَّانِي يُلْزِمُهُ الْحَالُ.
_________
(1) في (م): "رأى".
(2) في (ط): "الصيغة"، وتنقص الكلمة بعض الحروف في نسخة (خ).
وانظر: المسألة في الباب السابع (2/ 73 ـ 74، 77).
(3) في (غ) و (ر): "فيها"، وتقدم الكلام عليها (ص359 ـ 363).
(4) ساقطة من (غ).
(5) في (خ) و (ت) و (ط): "فيه".
(6) ساقطة من (خ) و (ط).
(7) بياض في (ت).
(8) وهذا التعريف منقول عن أبي محمد الجريري كما في الرسالة القشيرية (ص165).
(9) في (خ) و (ط): "لربه".
(10) جزء من الكلمة في البياض في نسخة (ت).
(11) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط).
(12) ما بين المعكوفين ساقط من (ت).
(13) قال القشيري في رسالته: "والحال عند القوم معنى يرد على القلب، من غير تعمد منهم، ولا اجتلاب، ولا اكتساب لهم، من طرب أو حزن أو بسط أو قبض أو=(1/352)
وقد يعتبر (1) فيهما بلحظ آخَرَ، فَيَكُونُ الْأَوَّلُ عَمَلًا تَكْلِيفِيًّا، وَالثَّانِي نَتِيجَتَهُ، وَيَكُونُ الْأَوَّلُ اتِّصَافَ الظَّاهِرِ (2)، وَالثَّانِي اتِّصَافَ الْبَاطِنِ، وَمَجْمُوعُهُمَا هُوَ التَّصَوُّفُ.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالتَّصَوُّفُ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ لَا بِدْعَةَ فِي الْكَلَامِ فِيهِ، لأنه إنما يرجع (3) إلى التفقه (4) الذي (5) يَنْبَنِي عَلَيْهِ الْعَمَلُ، وَتَفْصِيلُ آفَاتِهِ وَعَوَارِضِهِ، وَأَوْجُهِ تَلَافِي الْفَسَادِ الْوَاقِعِ فِيهِ بِالْإِصْلَاحِ، وَهُوَ فِقْهٌ صَحِيحٌ، وَأُصُولُهُ (6) فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ظَاهِرَةٌ، فَلَا يُقَالُ فِي مَثَلِهِ بِدْعَةٌ، إِلَّا إِذَا أَطْلَقَ على فروع الفقه التي لم يُؤْلَف (7) مِثْلُهَا فِي السَّلَفِ الصَّالِحِ، أَنَّهَا بِدْعَةٌ، كَفُرُوعِ أَبْوَابِ السَّلَمِ، وَالْإِجَارَاتِ، وَالْجِرَاحِ، وَمَسَائِلِ السَّهْوِ، وَالرُّجُوعِ عَنِ الشَّهَادَاتِ، وَبُيُوعِ الْآجَالِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْعُلَمَاءِ إِطْلَاقُ لَفْظِ الْبِدْعَةِ عَلَى الْفُرُوعِ الْمُسْتَنْبَطَةِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ فِيمَا سَلَفَ، وَإِنْ دَقَّتْ مَسَائِلُهَا، فَكَذَلِكَ لَا يُطْلَقُ عَلَى دَقَائِقَ فُرُوعِ الْأَخْلَاقِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ أَنَّهَا بِدْعَةٌ، لِأَنَّ الْجَمِيعَ يَرْجِعُ إِلَى أُصُولٍ شَرْعِيَّةٍ (8).
وَأَمَّا بِالْمَعْنَى الثَّانِي (9) فَهُوَ عَلَى أَضْرُبٍ:
أَحَدُهَا: يَرْجِعُ إِلَى الْعَوَارِضِ الطَّارِئَةِ عَلَى السَّالِكِينَ، إِذَا دَخَلَ عَلَيْهِمْ نُورُ التَّوْحِيدِ الْوِجْدَانِيُّ، فَيُتَكَلَّمُ فِيهَا بِحَسَبَ الْوَقْتِ وَالْحَالِ، وَمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي النَّازِلَةِ الْخَاصَّةِ، رُجُوعًا إِلَى الشَّيْخِ الْمُرَبِّي، وَمَا تبين (10) له في تحقيق
_________
=شوق .. "، ثم ذكر أن بعضهم يرى بقاءه، وبعضهم يرى أنه يأتي ويزول.
انظر: الرسالة (1/ 206).
(1) في (خ) و (ط): "يعبر".
(2) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "بلفظ".
(3) في (ت): "الظر".
(4) في (ط): "يرجل".
(5) في (خ) و (ط): "تفقه".
(6) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط).
(7) في (غ): "أصوله" بدون الواو.
(8) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "يلف".
(9) في (غ): "الشريعة".
(10) وهو قولهم أن التصوف: الفناء عن نفسه والبقاء بربه.
(11) في (م): "يبن"، وهي غير واضحة في (ت)، وفي (خ) و (ط) و (غ) و (ر): "بين".(1/353)
مَنَاطِهَا بِفِرَاسَتِهِ الصَّادِقَةِ فِي السَّالِكِ بِحَسَبِهِ وَبِحَسَبِ (1) الْعَارِضِ، فَيُدَاوِيهِ بِمَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الْوَظَائِفِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالْأَذْكَارِ الشَّرْعِيَّةِ، أَوْ بِإِصْلَاحِ مَقْصِدِهِ إِنْ عَرَضَ فِيهِ الْعَارِضُ، فَقَلَّمَا يَطْرَأُ الْعَارِضُ (2) إِلَّا عِنْدَ الْإِخْلَالِ بِبَعْضِ الْأُصُولِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي بُنِي عَلَيْهَا فِي بِدَايَتِهِ، فَقَدْ قَالُوا: (إِنَّمَا حُرِمُوا الْوُصُولَ بِتَضْيِيعِهِمُ الْأُصُولَ) (3).
فَمِثْلُ هَذَا لَا بِدْعَةَ فِيهِ لِرُجُوعِهِ إِلَى أَصْلٍ شَرْعِيٍّ، فَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَهُ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَقَالُوا (4): يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا (5) نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا الشَّيْءَ يَعْظُمُ (6) أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهِ، أَوِ الْكَلَامُ بِهِ، مَا نُحِبُّ أَنَّ لَنَا وَأَنَّا تَكَلَّمْنَا به، قال: (أو قد وَجَدْتُمُوهُ؟) قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: (ذَلِكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ (7)) (8).
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَحَدَنَا يَجِدُ فِي نَفْسِهِ، يُعَرِّض بِالشَّيْءِ، لَأَنْ يَكُونَ حُمَمَة (9) أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، قال: (الله أكبر (10)، الله أكبر، اللَّهُ أَكْبَرُ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيْدَهُ إلى الوسوسة) (11).
_________
(1) في (م): "وبحسبه".
(2) في (خ) و (ط): "العامل بل العارض"، وهو إضراب عن الخطأ، وقد تقدم كثيراً في نسخة (خ).
(3) ذكره القشيري في رسالته، وعزاه إلى الشيوخ ـ يريد شيوخ الصوفية ـ الرسالة (ص211).
(4) في (خ) و (غ) و (ر): "قالوا".
(5) ساقطة من (م) و (ت) و (غ).
(6) في (غ): "نعظم".
(7) في (خ) و (ت) و (ط): "في الإيمان".
(8) رواه الإمام مسلم في كتاب الإيمان من صحيحه، باب الوسوسة في الإيمان، عن أبي هريرة رضي الله عنه وذكره (2/ 153 نووي)، والإمام أبو داود في كتاب الأدب، باب في رد الوسوسة برقم (5111)، (4/ 331)، والإمام أحمد في المسند، (2/ 397).
(9) هي واحدة الحمم، وهي الرماد والفحم وكل ما احترق من النار. الصحاح (5/ 1905).
(10) في (م) و (خ): كتبت "الله أكبر" مرة واحدة، والصواب المثبت.
(11) رواه الإمام أبو داود في كتاب الأدب من سننه، باب في رد الوسوسة عن ابن عباس رضي الله عنه برقم (5112)، (4/ 332)، والإمام أحمد في المسند (1/ 235)،=(1/354)
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: (مَنْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَلْيَقُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ) (1).
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فِي مِثْلِهِ: (إِذَا وَجَدْتَ (2) شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَقُلْ: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ *} (3)) (4)، إِلَى أَشْبَاهِ ذَلِكَ وَهُوَ أصل (5) صَحِيحٌ مَلِيحٌ.
وَالثَّانِي: يَرْجِعُ إِلَى النَّظَرِ فِي الكرامات، وخوارق العادات، وما يتعلق بهما (6)، مِمَّا هُوَ خَارِقٌ (7) فِي الْحَقِيقَةِ أَوْ غَيْرُ خَارِقٍ، وَمَا هُوَ مِنْهَا يَرْجِعُ إِلَى أَمْرٍ نَفْسِيٍّ أَوْ (8) شَيْطَانِيٍّ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِهَا، فَهَذَا النَّظَرُ (9) لَيْسَ بِبِدْعَةٍ (كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ بِبِدْعَةٍ) (10) النَّظَرُ فِي الْمُعْجِزَاتِ وَشُرُوطِهَا، والفرق بين النبي والمتنبي، وهو فن (11) من علم الأصول فحكمه حكمه.
والضرب (12) الثالث: مَا يَرْجِعُ إِلَى النَّظَرِ فِي مُدْرَكَاتِ النُّفُوسِ مِنَ الْعَالِمِ الْغَائِبِ، وَأَحْكَامِ التَّجْرِيدِ النَّفْسِيِّ، وَالْعُلُومِ المتعلقة بعالم الأرواح،
_________
=والإمام ابن أبي عاصم في السنة برقم (658) (1/ 296)، وحسن الشيخ الألباني إسناد ابن أبي عاصم ثم قال عن إسناد أبي داود وأحمد: "قلت وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين".
انظر: ظلال الجنة (1/ 296).
(1) رواه الإمام مسلم في كتاب الإيمان، باب الوسوسة في الإيمان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: هذا خلق الله الخلق فمن خلق الله؟ فمن وجد ... الحديث" (2/ 153)، والإمام أبو داود في كتاب السنة، باب في الجهمية برقم (4721) (4/ 230).
(2) في (غ) و (ر): "وجد".
(3) سورة الحديد: آية (3).
(4) رواه الإمام أبو داود في كتاب الأدب من سننه، باب في رد الوسوسة عن ابن عباس موقوفاً عليه برقم (5110) (4/ 331)، وقد حسن الشيخ الألباني إسناده كما في صحيح سنن أبي داود (3/ 962).
(5) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط).
(6) في (خ) و (ط) و (ر): "بها".
(7) في (غ): "النظر فيه".
(8) في (غ): "و".
(9) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط).
(10) ما بين المعكوفين ساقط من (غ).
(11) ساقط من (خ) و (ط) و (ت) و (غ).
(12) ساقطة من (م) و (ت) و (غ) و (ر).(1/355)
وَذَوَاتِ الْمَلَائِكَةِ وَالشَّيَاطِينِ، وَالنُّفُوسِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَالْحَيَوَانِيَّةِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَهُوَ بِلَا شَكٍّ بِدْعَةٌ مَذْمُومَةٌ إِنْ وَقَعَ النَّظَرُ فِيهِ، وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ بِقَصْدِ جَعْلِهِ عِلْمًا يُنْظَرُ فِيهِ، وَفَنًّا يُشْتَغَلُ بِتَحْصِيلِهِ بِتَعَلُّمٍ أَوْ رِيَاضَةٍ، فَإِنَّهُ لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهُ فِي السَّلَفِ الصَّالِحِ.
وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ نَظَرٌ فَلْسَفِيٌّ، إِنَّمَا يَشْتَغِلُ بِاسْتِجْلَابِهِ، وَالرِّيَاضَةِ لِاسْتِفَادَتِهِ أَهْلُ الْفَلْسَفَةِ الْخَارِجُونَ عَنِ السُّنَّةِ، الْمَعْدُودُونَ (1) فِي الْفَرْقِ الضَّالَّةِ، فَلَا يَكُونُ الْكَلَامُ فِيهِ مُبَاحًا، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مَنْدُوبًا إِلَيْهِ.
نَعَمْ قَدْ يَعْرِضُ مِثْلُهُ (2) لِلسَّالِكِ، فَيَتَكَلَّمُ فِيهِ مَعَ الْمُرَبِّي حَتَّى يُخْرِجَهُ عَنْ طَرِيقِهِ، وَيُبْعِدَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ فَرِيقِهِ، لِمَا فِيهِ مِنْ إِمَالَةِ مَقْصِدِ (3) السَّالِكِ إِلَى أَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ، زِيَادَةً إِلَى الْخُرُوجِ عَنِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ بِتَتَبُّعِهِ وَالِالْتِفَاتِ إِلَيْهِ، إِذِ الطَّرِيقُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْإِخْلَاصِ التَّامِّ بِالتَّوَجُّهِ الصَّادِقِ، وَتَجْرِيدِ التَّوْحِيدِ عَنْ الِالْتِفَاتِ (4) إِلَى (5) الْأَغْيَارِ، وَفَتْحِ بَابِ الْكَلَامِ (6) فِي هَذَا الضَّرْبِ مضاد لذلك كله.
والضرب (7) الرابع: يَرْجِعُ إِلَى النَّظَرِ فِي حَقِيقَةِ الْفَنَاءِ، مِنْ حَيْثُ الدُّخُولُ فِيهِ، وَالِاتِّصَافُ بِأَوْصَافِهِ، وَقَطْعُ أَطْمَاعِ النَّفْسِ عَنْ كُلِّ جِهَةٍ (8) تُوَصِّلُ إِلَى غَيْرِ الْمَطْلُوبِ، وَإِنْ دَقَّتْ، فَإِنَّ أَهْوَاءَ النُّفُوسِ تَدُقُّ وَتَسْرِي مَعَ السَّالِكِ فِي الْمَقَامَاتِ، فَلَا يَقْطَعُهَا إِلَّا مَنْ حَسَمَ مَادَّتَهَا، وَبَتَّ طَلَاقَهَا، وَهُوَ بَابُ الْفَنَاءِ الْمَذْكُورِ.
وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْفِقْهِ الْمُتَعَلِّقِ بِأَهْوَاءِ النُّفُوسِ، وَلَا يُعَدُّ مِنَ البدع
_________
(1) في (غ): "المعدون".
(2) ساقطة من (خ) و (ط).
(3) في (غ) و (ر): "قصد".
(4) في (م) و (ت): "التفات".
(5) ساقطة من (ت).
(6) عبارة (خ): "وفتح باب الأغيار الكلام .. " وكتب فوق كلمة الأغيار "سقط"، ولا معنى لها في الجملة.
(7) ساقطة من (م) و (ت) و (غ) و (ر).
(8) في (غ) و (ر): "وجهة".(1/356)
لِدُخُولِهِ تَحْتَ جِنْسِ الْفِقْهِ، لِأَنَّهُ ـ وَإِنْ دَقَّ ـ رَاجِعٌ إِلَى مَا جَلَّ مِنَ الْفِقْهِ، وَدِقَّتُهُ وَجِلَّتُهُ إِضَافِيَّانِ، وَالْحَقِيقَةُ وَاحِدَةٌ.
وَثَمَّ أَقْسَامٌ أُخَرُ، جميعها يرجع: إما (1) إِلَى فِقْهِ شَرْعِيٍّ حَسَنٍ فِي الشَّرْعِ، وَإِمَّا إِلَى ابْتِدَاعٍ لَيْسَ بِشَرْعِيٍّ، وَهُوَ قَبِيحٌ فِي الشَّرْعِ.
وَأَمَّا الْجَدَلُ وَجَمْعُ الْمَحَافِلِ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْمَسَائِلِ فَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ فِيهِ (2).
وَأَمَّا أَمْثِلَةُ الْبِدَعِ الْمَكْرُوهَةِ فَعُدَّ مِنْهَا زَخْرَفَةُ الْمَسَاجِدِ، وَتَزْوِيقُ الْمَصَاحِفِ، وَتَلْحِينُ الْقُرْآنِ بِحَيْثُ تَتَغَيَّرُ (3) أَلْفَاظُهُ عَنِ الْوَضْعِ الْعَرَبِيِّ (4)، فَإِنْ أَرَادَ مُجَرَّدَ الْفِعْلِ مِنْ غَيْرِ اقْتِرَانِ أَمْرٍ آخَرَ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ، وَإِنْ أَرَادَ مَعَ اقْتِرَانِ قَصْدِ (5) التَّشْرِيعِ فَصَحِيحٌ مَا قَالَ، إِذِ (6) الْبِدْعَةُ لَا تَكُونُ بِدْعَةً إِلَّا مَعَ اقْتِرَانِ هَذَا الْقَصْدِ، فَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ فَهِيَ مَنْهِيٌّ عَنْهَا غَيْرُ بِدَعٍ.
وَأَمَّا أَمْثِلَةُ البدع المباحة: فعد منها المصافحة عقيب (7) صَلَاةِ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ، أَمَّا أَنَّهَا بِدَعٌ فَمُسَلَّمٌ، وَأَمَّا أَنَّهَا مُبَاحَةٌ فَمَمْنُوعٌ، إِذْ لَا دَلِيلَ فِي الشَّرْعِ يَدُلُّ عَلَى تَخْصِيصِ تِلْكَ الْأَوْقَاتِ بِهَا، بَلْ هِيَ مَكْرُوهَةٌ، إِذْ يُخَافُ بِدَوَامِهَا إلحاقها بالصلوات (8) المذكورة، كما خاف مالك رحمه الله وَصْلَ سِتَّةِ أَيَّامٍ (9) مِنْ شَوَّالٍ بِرَمَضَانَ لِإِمْكَانِ أَنْ يَعُدَّهَا مِنْ رَمَضَانَ، وَكَذَلِكَ وَقَعَ.
فَقَدْ قَالَ الْقَرَافِيُّ (10): (قَالَ لِي (11) الشَّيْخُ (12) زَكِيُّ الدِّينِ عبد العظيم (13)
_________
(1) في (خ) و (ط): "إما يرجع".
(2) انظر: (ص371).
(3) في (م): "يتغير"، وفي (ت): "تحتمل الوجهين".
(4) في (غ): "وضع العرب".
(5) في (خ) و (ت) و (ط): "أصل".
(6) في (خ) و (ط): "إن".
(7) في (خ) و (ط): "عقب".
(8) في (ط): "الصلوات" بدون الباء.
(9) ساقطة من (م).
(10) تقدمت ترجمته رحمه الله (ص350).
(11) ساقطة من (خ) و (ط).
(12) في (ر): "شيخي الشيخ".
(13) هو زكي الدين أبو محمد عبد العظيم بن عبد القوي بن عبد الله المنذري الشافعي الحافظ، المحقق، كان عديم النظير في علم الحديث، وقد عمل المعجم، واختصر=(1/357)
الْمُحَدِّثُ: إِنَّ الَّذِي خَشِيَ مِنْهُ مَالِكٌ رَضِيَ الله تعالى عَنْهُ قَدْ وَقَعَ بِالْعَجَمِ، فَصَارُوا يَتْرُكُونَ الْمُسَحِّرِينَ على عادتهم (1)، وَالْبَوَّاقِينَ وَشَعَائِرَ رَمَضَانَ إِلَى آخَرِ السِّتَّةِ (2) الْأَيَّامِ، فَحِينَئِذٍ (3) يُظْهِرُونَ شَعَائِرَ الْعِيدِ، قَالَ: وَكَذَلِكَ شَاعَ عند عوام (4) مِصْرَ أَنَّ الصُّبْحَ رَكْعَتَانِ إِلَّا فِي يَوْمِ الْجُمْعَةَ، فَإِنَّهُ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ الْإِمَامَ يُوَاظِبُ عَلَى قِرَاءَةِ سُورَةِ (5) السَّجْدَةِ يَوْمَ الجمعة (في صلاة الصبح) (6)، ويسجد فيها (7)، فَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ تِلْكَ رَكْعَةٌ أُخْرَى وَاجِبَةٌ قَالَ: وَسَدُّ هَذِهِ الذَّرَائِعِ مُتَعَيَّنٌ فِي الدِّينِ، وَكَانَ مالك رحمه الله شديد المبالغة في (8) سد الذرائع (9)).
وَعَدَّ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ مِنَ الْبِدَعِ الْمُبَاحَةِ التَّوَسُّعَ فِي الْمَلْذُوذَاتِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ (10).
وَالْحَاصِلُ مِنْ جَمِيعِ مَا ذُكِرَ فِيهِ قَدْ (11) وَضَحَ (12) مِنْهُ أَنَّ الْبِدَعَ لَا تَنْقَسِمُ إِلَى ذَلِكَ الِانْقِسَامِ، بَلْ هِيَ مِنْ قَبِيلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، إِمَّا كَرَاهَةً (13)، وَإِمَّا (14) تَحْرِيمًا، حَسْبَمَا يَأْتِي إن شاء الله تعالى (15).
_________
=مسلم، وشرح التنبيه، وكان متين الديانة، ذا نسك وورع. توفي سنة 656هـ.
انظر: السير (23/ 319)، البداية والنهاية (13/ 224 ـ 225).
(1) في (ط): "عاداتهم".
(2) في (م): "ستة".
(3) في (ت): "فح"، وهو مصطلح عند ناسخ (ت) لهذه الكلمة.
(4) في (خ) و (ط): "عامة".
(5) ساقطة من (م) و (ت) و (ر).
(6) ما بين المعكوفين ساقط من (م) و (ت) و (غ) و (ر).
(7) ساقطة من (م) و (ر).
(8) في (غ) و (ر): "فيها" وقوله: "سد الذرائع" ساقط من (غ) و (ر).
(9) في (م) و (ت): "شديد المبالغة فيها".
(10) تقدم (ص356).
(11) ساقطة من (غ).
(12) في (غ): "واضح".
(13) في (ر): "كراهية".
(14) في (ت): "أو".
(15) وذلك في الباب السادس (2/ 36، 49).(1/358)
فَصْلٌ (1)
وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ بَعْضُ الْمُتَكَلِّفِينَ (2) أَنَّ الصُّوفِيَّةَ هُمُ الْمَشْهُورُونَ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ، الْمُقْتَدُونَ بِأَفْعَالِ السلف الصالح (3)، المثابرون في أقوالهم وأفعالهم (4) عَلَى الِاقْتِدَاءِ التَّامِّ، وَالْفِرَارِ عَمَّا يُخَالِفُ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ جَعَلُوا طَرِيقَتَهُمْ مَبْنِيَّةً عَلَى أَكْلِ الْحَلَالِ، وَاتِّبَاعِ السُّنَّةِ، وَالْإِخْلَاصِ، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ (5)، وَلَكِنَّهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأُمُورِ يَسْتَحْسِنُونَ أَشْيَاءَ لَمْ تَأْتِ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ، وَلَا عَمِلَ بأمثالها السلف الصالح (6)، فَيَعْمَلُونَ بِمُقْتَضَاهَا، وَيُثَابِرُونَ عَلَيْهَا (7)، وَيُحَكِّمُونَهَا طَرِيقًا لَهُمْ مهيعاً (8)، وسنة لا تخالف (9)، بل ربما (10) أوجبوها في
_________
(1) يذكر المؤلف في هذا الفصل كلام قوم يرون انقسام البدع إلى محمود ومذموم احتجاجاً ببعض أعمال الصوفية، وسوف يبين المؤلف وجه احتجاجهم، ثم يجيب عنه.
(2) في (م) و (ت): "المكلفين".
(3) ساقطة من (م) و (ت) و (غ) و (ر).
(4) في (م) و (ت) و (غ) و (ر): "أفعالهم وأقوالهم".
(5) ما ذكره بعض المتكلفين عن الصوفية أمر غير صحيح، ومتى كان الصوفية هم المشهورون باتباع السنة؟ بل المعروف أنهم أحدثوا أموراً ليست من السنة، ولا من عمل السلف الصالح، ثم إن هذا الكلام متناقض في ذاته، فإن هذا المتكلف أثنى عليهم بأنهم المشهورون باتباع السنة، ثم ذكر أنهم عملوا أموراً لم تأت في كتاب ولا سنة، ثم أكد هذا بالأمثلة كما سيأتي، وأحسن ما في هذا الكلام نقده لزلات الصوفية، وأما الاحتجاج به على انقسام البدع فهو باطل كما سيأتي.
(6) ساقطة من (م) و (ت) و (غ) و (ر).
(7) في (خ): "عليهم بل عليها"، وهو إضراب عن الخطأ. وقد مر كثيراً.
(8) في (خ): "مهيفاً". والطريق المهيع هو الواضح الواسع.
انظر: لسان العرب (10/ 258).
(9) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "تخلف".
(10) في (ت): "ربا".(1/359)
بَعْضِ الْأَحْوَالِ، فَلَوْلَا أَنَّ فِي ذَلِكَ رُخْصَةً لَمْ يَصِحَّ لَهُمْ مَا بَنَوْا عَلَيْهِ.
فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَعْتَمِدُونَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْكَامِ عَلَى الْكَشْفِ وَالْمُعَايَنَةِ، وَخَرْقِ الْعَادَةِ، فَيَحْكُمُونَ بِالْحِلِّ والحرمة، ويبنون (1) عَلَى ذَلِكَ الْإِقْدَامَ وَالْإِحْجَامَ (2)، كَمَا يُحْكَى عَنِ المحاسبي (3) أنه كان إذا تناول طعاماً فيه شُبْهَةٍ يَنْبِضُ (4) لَهُ عِرْقٌ فِي إِصْبَعِهِ فَيَمْتَنِعُ مِنْهُ (5).
وَقَالَ (6) الشِّبْلِيُّ (7): (اعْتَقَدْتُ وَقْتًا أَنْ (8) لَا آكُلَ إِلَّا (9) مِنْ حَلَالٍ (10)، فَكُنْتُ أَدُورُ فِي الْبَرَارِيِّ، فَرَأَيْتُ شَجَرَةَ تِينٍ، فَمَدَدْتُ يَدَيْ إِلَيْهَا لِآكُلَ، فَنَادَتْنِي الشَّجَرَةُ: احْفَظْ عَلَيْكَ (11) عَهْدَكَ (12)، لَا تَأْكُلْ مِنِّي فَإِنِّي لِيَهُودِيٍّ (13)) (14).
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ الْخَوَّاصُ (15) [رحمه الله] (16): (دَخَلْتُ خَرِبَةً فِي بَعْضِ الْأَسْفَارِ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ بِاللَّيْلِ، فَإِذَا فِيهَا سَبْعٌ عَظِيمٌ، فَخِفْتُ، فَهَتَفَ بِي هَاتِفٌ اثْبُتْ، فَإِنَّ حَوْلَكَ سَبْعِينَ أَلْفَ مَلِكٍ يَحْفَظُونَكَ) (17).
فَمِثْلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إِذَا عُرِضَتْ عَلَى قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ ظَهَرَ عَدَمُ الْبِنَاءِ عَلَيْهَا (18)، إِذِ الْمُكَاشَفَةُ، أَوِ الْهَاتِفُ الْمَجْهُولُ، أَوْ تحرك (19) بَعْضِ الْعُرُوقِ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّحْلِيلِ وَلَا التحريم (20) لإمكانه في نفسه (21)، وإلا
_________
(1) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "ويثبتون".
(2) في (ر): "الإحجام".
(3) تقدمت ترجمته (ص380).
(4) في (م) و (ت): "يقبض".
(5) ذكر ذلك القشيري في رسالته (ص14).
(6) غير واضحة في (غ).
(7) في (ت) و (ط): "الشيلي".
(8) ساقطة من (ت).
(9) ساقطة من (ت).
(10) في (غ): "الجلال"، وفي (ر): "الحلال".
(11) ساقطة من (غ) و (ر).
(12) في (غ) و (ر): "عقدك".
(13) في (غ): "اليهودي".
(14) انظر: الموافقات (2/ 461)، والرسالة للقشيري (ص12) ..
(15) تقدمت ترجمته (ص381).
(16) ما بين المعكوفين ساقط من (م) و (غ).
(17) الرسالة للقشيري (ص168).
(18) في (غ): "بها عليها".
(19) في (م) و (ت) و (غ) و (ر): "تحريك".
(20) في (غ): "أو التحريم".
(21) في (غ): "أنفاسه".(1/360)
لو (1) حضر ذلك الطعام (2) حاكم أو غيره أكان (3) يجب عليه أو يندب إلى (4) الْبَحْثُ عَنْهُ حَتَّى يَسْتَخْرِجَ مِنْ يَدِ وَاضِعِهِ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ إِلَى مُسْتَحَقِّهِ؟
وَلَوْ (5) هَتَفَ هَاتِفٌ بأن (6) فلاناً قتل المقتول الفلاني، أو (7) أَخَذَ مَالَ فُلَانٍ، أَوْ زَنَى، أَوْ سَرَقَ، أكان يجب عليه العمل بقوله؟ أو يكون شاهداً في بعض تلك (8) الْأَحْكَامِ؟ بَلْ لَوْ تَكَلَّمَتِ شَجْرَةٌ أَوْ حَجُرٌ بِذَلِكَ، أَكَانَ يَحْكُمُ الْحَاكِمُ بِهِ؟ أَوْ يُبنى (9) عَلَيْهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ؟ هَذَا مِمَّا لَا يُعْهَدُ فِي الشَّرْعِ مِثْلُهُ. وَلِذَلِكَ قَالَ الْعُلَمَاءُ: لَوْ أَنَّ نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ادَّعَى الرِّسَالَةَ، وَقَالَ: آيتي (10) أن أدعو (11) هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتُكَلِّمَنِي، ثُمَّ دَعَاهَا فَأَتَتْ وَكَلَّمَتْهُ (12)، وَقَالَتْ: إِنَّكَ كَاذِبٌ، لَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى صِدْقِهِ، لَا دَلِيلًا عَلَى كَذِبِهِ، لِأَنَّهُ تَحَدَّى (13) بأمر جاء (14) عَلَى وَفْقِ مَا ادَّعَاهُ، وَكَوْنُ الْكَلَامِ تَصْدِيقًا أَوْ تَكْذِيبًا أَمْرٌ خَارِجٌ عَنْ (15) مُقْتَضَى الدَّعْوَى، لَا حُكْمٌ لَهُ.
فَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي هَذِهِ المسألة: إذا فرضنا أن انباض (16) الْعِرْقِ لَازِمٌ لِكَوْنِ الطَّعَامِ حَرَامًا، لَا يَدُلُّ ذلك على الحكم (17) بالإمساك عنه (18)، إذ (19) لَمْ يَدُلُّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ مُعْتَبَرٌ فِي الشَّرْعِ معلوم.
_________
(1) في (غ) و (ر): "فلو".
(2) ساقطة من (م) (خ) و (ت) و (ط).
(3) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "لكان".
(4) ساقطة من (خ) و (ت) و (ط).
(5) في (م) و (غ) و (ر): "أولو".
(6) في (ت): "فإن".
(7) في (م) و (ت): "و" بدل "أو".
(8) ساقطة من (خ) و (ت) و (ط).
(9) في (ت): "يبقى".
(10) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "إنني".
(11) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "أدع".
(12) في (غ): "فكلمته".
(13) في (غ): "تحرى".
(14) في (خ) و (ط) و (ر): "جاءه".
(15) في (م) و (ت): "على".
(16) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "انقباض".
(17) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "أن الحكم".
(18) من هنا الخط غير واضح في (غ).
(19) في (خ) و (ت) و (ط): "إذا".(1/361)
وكذلك مَسْأَلَةُ الْخَوَاصِّ، فَإِنَّ التَّوَقِّيَ مِنْ مَظَانِّ الْمُهْلِكَاتِ (1) مَشْرُوعٌ، فَخِلَافُهُ يَظْهَرُ أَنَّهُ خِلَافُ الْمَشْرُوعِ، وَهُوَ مُعْتَادٌ فِي أَهْلِ هَذِهِ (2) الطَّرِيقَةِ.
وَكَذَلِكَ كَلَامُ الشَّجَرَةِ لِلشِّبْلِيِّ (3) مِنْ جُمْلَةِ الْخَوَارِقِ، وَبِنَاءَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ غَيْرُ مَعْهُودٍ.
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَبْنُونَ طَرِيقَهُمْ عَلَى اجْتِنَابِ الرُّخَصِ جُمْلَةً، حَتَّى إِنَّ شيخهم المصنف (4) الَّذِي مَهَّدَ لَهُمُ الطَّرِيقَةَ أَبَا الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيَّ (5)، قَالَ فِي بَابِ وَصِيَّةِ الْمُرِيدِينَ مِنْ رِسَالَتِهِ: "إن اختلفت (6) عَلَى الْمُرِيدِ فَتَاوَى الْفُقَهَاءِ يَأْخُذُ بِالْأَحْوَطِ، وَيَقْصِدُ أَبَدًا الْخُرُوجَ عَنِ (7) الْخِلَافِ، فَإِنَّ الرُّخَصَ فِي الشَّرِيعَةِ لِلْمُسْتَضْعَفِينَ، وَأَصْحَابِ الْحَوَائِجِ وَالْأَشْغَالِ، وَهَؤُلَاءِ الطَّائِفَةُ ـ يَعْنِي الصُّوفِيَّةَ ـ لَيْسَ لَهُمْ شُغْلٌ سِوَى الْقِيَامِ بِحَقِّهِ سُبْحَانَهُ، وَلِهَذَا قِيلَ: إِذَا انْحَطَّ الْفَقِيرُ عَنْ (8) دَرَجَةِ الْحَقِيقَةِ إِلَى رُخْصَةِ الشَّرِيعَةِ، فَقَدْ فَسَخَ عَقْدَهُ (مَعَ اللَّهِ) (9)، وَنَقَضَ عَهْدَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ" (10).
فَهَذَا الْكَلَامُ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِمُ التَّرَخُّصُ فِي مَوَاطِنِ الترخص المشروع، وهو خلاف (11) مَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالسَّلَفُ الصَّالِحُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ.
فَالْتِزَامُ الْعَزَائِمِ مَعَ وُجُودِ مَظَانِّ (12) الرُّخَصِ ـ الَّتِي قال فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ (13) يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ، كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ" (14) ـ فِيهِ مَا فِيهِ.
_________
(1) في (ر): "الهلكات".
(2) في (م) و (خ) و (ط): "هاته".
(3) في (خ) و (ت): "للشبيلي".
(4) ساقطة من (خ) و (ط).
(5) تقدمت ترجمته (ص160).
(6) في (ط): "اختلف".
(7) في (م) و (ت) و (ر): "على".
(8) في (خ): "على".
(9) ما بين المعكوفين ساقط من (خ) و (ط)، وفي (ت): سقط لفظ الجلالة فقط.
(10) انظر: قوله في الرسالة القشيرية (ص213).
(11) ساقطة من (خ) و (ط).
(12) في (ط): "مضار".
(13) لفظ الجلالة أثبت في هامش (م)، وكتب في (ت) فوق السطر.
(14) رواه الإمام الطبراني في المعجم الكبير عن ابن عباس رضي الله عنه برقم (11880) =(1/362)
وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ بِدْعَةٌ اسْتَحْسَنُوهَا قَمْعًا لِلنَّفْسِ عَنْ الِاسْتِرْسَالِ فِي الْمَيْلِ إِلَى الرَّاحَةِ، وَإِيثَارًا إِلَى (1) مَا يُبْنَى (2) عَلَيْهِ مِنَ الْمُجَاهَدَةِ.
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْقُشَيْرِيَّ جَعَلَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَبْنِي عَلَيْهِ مَنْ أَرَادَ الدُّخُولَ فِي طَرِيقِهِمْ (الْخُرُوجَ (3) عن المال، فإن ذلك الذي (4) يميل به (5) عن الحق، ولم يوجد مريد دخل (6) فِي هَذَا الْأَمْرِ وَمَعَهُ عَلَاقَةٌ مِنَ الدُّنْيَا إلا جرته تلك العلاقة (7) عَنْ قَرِيبٍ إِلَى مَا مِنْهُ خَرَجَ .. ) (8) إِلَى آخَرِ مَا قَالَ.
وَهُوَ فِي غَايَةِ الْإِشْكَالِ مَعَ ظَوَاهِرِ الشَّرِيعَةِ، لِأَنَّا نَعْرِضُ ذَلِكَ عَلَى الحالة الأولى، وهي حَالَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَصْحَابِهِ الْكِرَامِ، إِذْ لَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا بِالْخُرُوجِ عَنْ مَالِهِ، وَلَا أَمَرَ صَاحِبَ صَنْعَةٍ (9) بِالْخُرُوجِ عَنْ صَنْعَتِهِ، وَلَا صَاحِبَ تِجَارَةٍ بِتَرْكِ (10) تِجَارَتِهِ، وَهُمْ كَانُوا أَوْلِيَاءَ اللَّهِ حَقًّا، وَالطَّالِبُونَ لِسُلُوكِ طَرِيقِ الْحَقِّ صِدْقًا، وَإِنْ سَلَكَ مَنْ بعدهم ألف سنة، لم يدرك (11) شَأْوَهُمْ، وَلَمْ يَبْلُغْ هُدَاهُمْ (12).
ثُمَّ إِنَّهُ كَمَا يَكُونُ الْمَالُ شَاغِلًا فِي الطَّرِيقِ عَنْ بُلُوغِ الْمُرَادِ، فَكَذَلِكَ يَكُونُ فَرَاغُ الْيَدِ مِنْهُ جُمْلَةً شاغلاً عنه، وليس (أحد
_________
= (11/ 323)، وأبو نعيم في الحلية (8/ 276)، والبزار في مسنده كما في كشف الأستار (1/ 469)، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد، وقال: رواه الطبراني في الكبير، والبزار، ورجال البزار ثقات، وكذلك رجال الطبراني. المجمع (3/ 165) وصحح الألباني إسناده في إرواء الغليل (3/ 11).
(1) في (غ): "على".
(2) في (م) و (غ) و (ر): "بنى".
(3) قال القشيري في الرسالة: "وإذا أراد الخروج عن العلائق، فأولها: الخروج ... " وذكر ما نقل هنا.
(4) ساقطة من (غ).
(5) في (خ) و (ط): "يميل إليه به ... ".
(6) عبارة (م) و (خ) و (ت) و (ط): "من يدخل".
(7) في (ط): "لعلاقة".
(8) انظر: الرسالة القشيرية، باب الوصية للمريدين (ص213).
(9) في (خ): "صنعته".
(10) في (خ): "بمن بل بترك تجارته"، وهو إضراب عن الخطأ.
(11) في (خ) و (ت) و (ط): "يبلغ".
(12) في (ر): "مداهم".(1/363)
الْعَارِضِينَ) (1) أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ مِنَ الْآخَرِ، فَأَنْتَ تَرَى كَيْفَ جُعِلَ هَذَا النَّوْعُ ـ الَّذِي لَمْ يُوجَدْ في السلف ـ عمدة (2) وأصلاً (3) فِي سُلُوكِ الطَّرِيقِ، وَهُوَ كَمَا تَرَى مُحْدَثٌ، فما ذاك (4) إِلَّا لِأَنَّ الصُّوفِيَّةَ اسْتَحْسَنُوهُ، لِأَنَّهُ بِلِسَانِ جَمِيعِهِمْ يَنْطِقُ.
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّهُ لَا يَصِحُّ لِلشُّيُوخِ التَّجَاوُزُ عَنْ زَلَّاتِ الْمُرِيدِينَ، لِأَنَّ ذَلِكَ تَضْيِيعٌ لِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى (5)، وَهَذَا النَّفْيُ (6) الْعَامُ يُسْتَنْكَرُ فِي الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، أَلَا تَرَى إِلَى (7) مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: "أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ، وَذَلِكَ فِيمَا لَمْ يَكُنْ حَدَّا مِنْ حُدُودِ اللَّهِ" (8)، فَلَوْ كَانَ الْعَفْوُ غَيْرَ صَحِيحٍ لَكَانَ مُخَالِفًا لِهَذَا الدَّلِيلِ، وَلَمَا جَاءَ مِنْ فَضْلِ الْعَفْوِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ (9)، (وَيَرْضَى بِهِ) (10)، وَيُعِينُ عَلَيْهِ مَا لَا يُعِينُ عَلَى الْعُنْفِ، وَمِنْ جُمْلَةِ الرِّفْقِ شَرْعِيَّةُ التَّجَاوُزِ وَالْإِغْضَاءِ، إِذِ الْعَبْدُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ زَلَّةٍ وَتَقْصِيرٍ، وَلَا مَعْصُومَ إِلَّا من عصمه (11) الله.
_________
(1) هكذا في (غ) و (ر) وفي أصل (م): "العاضين"، وصححت في هامشها بما هو مثبت بين المعكوفين، وفي بقية النسخ "الماضي".
(2) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "عهده".
(3) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "أصلاً" بدون واو.
(4) في (خ) و (ط) و (ر): "ذلك".
(5) انظر: هذا الكلام لهم في الرسالة للقشيري (ص213).
(6) في (خ) و (ط): "الفقير"، وفي (م) و (ت): "البغي".
(7) ساقطة من (خ) و (ط).
(8) رواه الإمام أبو داود في كتاب الحدود من سننه، باب في الحد يشفع فيه عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود" (4/ 131)، ورواه الإمام أحمد في المسند (6/ 181)، وأبو نعيم في الحلية (9/ 43)، والطحاوي في مشكل الآثار (3/ 129)، وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن أبي داود (3/ 827).
وانظر: السلسلة الصحيحة برقم (638).
(9) في (غ): "العفو".
(10) ما بين المعكوفين ساقط من (ت).
(11) في (م) و (ت) و (غ) و (ر): "عصم".(1/364)
ومن ذَلِكَ أَخْذُهُمْ عَلَى الْمُرِيدِ أَنْ يُقَلِّلَ مِنْ غِذَائِهِ، لَكِنْ بِالتَّدْرِيجِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ (1)، لَا مَرَّةً (2) وَاحِدَةً (3)، وَأَنْ يُدِيمَ الْجُوعَ وَالصِّيَامَ، وَأَنْ يترك التزوج (4) ما دام في سلوكه، ويعد (5) ذلك (6) كُلُّهُ مِنْ مُشْكِلَاتِ التَّشْرِيعِ، بَلْ هُوَ شَبِيهٌ بِالتَّبَتُّلِ الَّذِي رَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ، حَتَّى قَالَ: "مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي" (7).
وَإِذَا تؤمل (8) مَا ذَكَرُوهُ فِي شَأْنِ التَّدْرِيجِ فِي تَرْكِ الغذاء (9) وُجد (10) غَيْرَ مَعْهُودٍ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ، وَالْقَرْنِ الْأَفْضَلِ.
وَمِنْ ذَلِكَ أَشْيَاءُ أَلْزَمُوهَا الْمُرِيدَ حَالَةَ السَّمَاعِ، مِنْ طَرْحِ الْخَرْقِ، وَأَنَّ مِنْ حَقِّ الْمُرِيدِ أَنْ لَا يَرْجِعَ فِي شَيْءٍ خَرَجَ عَنْهُ (11)، أَلْبَتَّةَ، إِلَّا أَنْ يُشِيرَ عَلَيْهِ الشَّيْخُ بِالرُّجُوعِ فِيهِ، فَلْيَأْخُذْهُ (12) عَلَى نِيَّةِ الْعَارِيَّةِ بِقَلْبِهِ، ثُمَّ يَخْرُجُ عَنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُوحِشَ قَلْبَ الشَّيْخِ (13)، إِلَى أَشْيَاءَ اخْتَرَعُوهَا فِي ذَلِكَ لَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهَا فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ، وذلك من نتائج مجالس (14) السماع الذي اعتادوه (15).
وَالسَّمَاعُ فِي طَرِيقَةِ التَّصَوُّفِ لَيْسَ مِنْهَا، لَا بِالْأَصْلِ وَلَا بِالتَّبَعِ، وَلَا اسْتَعْمَلَهُ أَحَدٌ مِنَ السَّلَفِ مِمَّنْ يُشَارُ إِلَيْهِ حَاذِيًا (16) فِي طَرِيقِ الخير، وإنما
_________
(1) في (ط): "من" بدون الواو.
(2) انظر: هذا الكلام في باب الوصية للمريدين من رسالة القشيري (ص214).
(3) في (غ) و (ر): "لا بمرة".
(4) ساقطة من (غ).
(5) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "التزويج".
(6) في (م) و (غ) و (ر): "بعد".
(7) في (م) و (غ) و (ر): "وذلك"، وفي (ت): "ذاك".
(8) تقدم تخريجه الحديث (ص58).
(9) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "تأمل".
(10) في (خ): "العقد بل الغذاء" وتقدم نظيره.
(11) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "وجده".
(12) في (ر): "منه".
(13) في (م): "فليأخذ".
(14) انظر: هذا الكلام في باب الوصية للمريدين من رسالة القشيري (ص217).
(15) في (غ): "مسائل".
(16) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "اعتمدوه".
(17) في (م) و (ت) و (غ): "حادياً".(1/365)
رَأَيْتُهُ مَأْخُوذًا بِهِ فِي ذَلِكَ وَفِي غَيْرِهِ عِنْدَ الْفَلَاسِفَةِ الْآخِذَةِ لِلتَّكْلِيفِ الشَّرْعِيِّ بِالتَّبَعِ (1).
وَلَوْ تُتُبِّعَ هَذَا الْبَابُ لَكَثُرَتْ مَسَائِلُهُ وَانْتَشَرَتْ، وَظَاهِرُهَا أَنَّهَا اسْتِحْسَانَاتٌ (2) اتُّخِذَتْ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ، وَالْقَوْمُ ـ كَمَا تَرَى ـ مُسْتَمْسِكُونَ بِالشَّرْعِ، فَلَوْلَا أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْأُمُورِ لَاحِقٌ بِالْمَشْرُوعَاتِ، لَكَانُوا أَبْعَدَ الناس منها، فدل (3) عَلَى أَنَّ مِنَ الْبِدَعِ (4) مَا لَيْسَ بِمَذْمُومٍ، بل إن منها ما هو محمود (5) وَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
(وَالْجَوَابُ) (6) أَنْ نَقُولَ ـ أَوَّلًا ـ: كُلُّ مَا عَمِلَ بِهِ الْمُتَصَوِّفَةُ الْمُعْتَبَرُونَ فِي هَذَا الشَّأْنِ لَا يَخْلُو: إِمَّا (7) أَنْ يَكُونَ مِمَّا ثبت له أصل في الشريعة أو (8) لَا، فَإِنْ كَانَ لَهُ أَصْلٌ فَهُمْ خُلَقَاءُ بِهِ، كَمَا أَنَّ السَّلَفَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ خُلَقَاءُ بِذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرِيعَةِ فَلَا عَمَلَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ السُّنَّةَ حُجَّةٌ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ، وَلَيْسَ عَمَلُ أَحَدٍ مِنَ الْأُمَّةِ حُجَّةً عَلَى السُّنَّةِ، لِأَنَّ السُّنَّةَ مَعْصُومَةٌ عَنِ الْخَطَأِ، وَصَاحِبَهَا مَعْصُومٌ، وَسَائِرُ الْأُمَّةِ لَمْ تَثْبُتْ لَهُمْ عِصْمَةٌ إِلَّا (9) مَعَ إِجْمَاعِهِمْ خاصة، وإذا اجتمعوا تضمن إجماعهم دَلِيلًا شَرْعَيًّا، كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ.
فَالصُّوفِيَّةُ كَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَمْ تَثْبُتْ لَهُ الْعِصْمَةُ، فَيَجُوزُ عَلَيْهِمُ الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَالْمَعْصِيَةُ كَبِيرَتُهَا وَصَغِيرَتُهَا، فَأَعْمَالُهُمْ لَا تَعْدُو الْأَمْرَيْنِ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْعُلَمَاءُ: كُلُّ كلام منه (10) مأخوذ ومتروك (11)، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلّم.
_________
(1) ساقطة من (ط).
(2) في (غ) و (ر): "مستحسنات".
(3) في (م) و (ت): "يدل"، وفي (خ) و (ط): "ويدل".
(4) في (غ) و (ر): "ابتدع".
(5) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "ممدوح".
(6) من هنا يبدأ المؤلف يجيب عن الكلام المتقدم، وهو كلام حسن لولا ما فيه من الاختصار، لأن المؤلف لم يجب عن كل مسألة على حدة، مع أن الموضع مناسب لرد هذه المحدثات. ويظهر في كلام المؤلف مداراة ظاهرة كما سيأتي.
(7) ساقطة من (غ) و (ر).
(8) في (م) و (خ) و (ط): "أم".
(9) في (خ) و (ت): "ولا".
(10) ساقطة من (خ) و (ت) و (ط).
(11) في (خ) و (ط): "أو متروك".(1/366)
وَقَدْ قَرَّرَ ذَلِكَ الْقُشَيْرِيُّ أَحْسَنَ (1) تَقْرِيرٍ، فَقَالَ: (فإن قيل: فهل يكون الولي معصوماً؟ (2) قِيلَ: أَمَّا وُجُوبًا كَمَا يُقَالُ فِي الْأَنْبِيَاءِ فَلَا (3)، وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ مَحْفُوظًا حَتَّى لَا يُصِرَّ عَلَى الذُّنُوبِ ـ وَإِنْ حَصَلَتْ مِنْهُمْ (4) آفَاتٌ أَوْ زَلَاتٌ ـ فَلَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ فِي وَصْفِهِمْ، قال: ولقد (5) قيل للجنيد (6): العارف يَزْنِي؟ (7) فَأَطْرَقَ مَلِيًّا، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَقَالَ: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} (8)) (9).
فَهَذَا كَلَامُ منصف، فكما يجوز على غيرهم المعاصي، فالابتداع وَغَيْرِهِ كَذَلِكَ يَجُوزُ عَلَيْهِمْ، فَالْوَاجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَقِفَ مَعَ الِاقْتِدَاءِ بِمَنْ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ الْخَطَأُ، ونقف عن (10) الِاقْتِدَاءِ بِمَنْ لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ الْخَطَأُ، إِذَا ظَهَرَ فِي الِاقْتِدَاءِ بِهِ إِشْكَالٌ، بَلْ نَعْرِضُ مَا جَاءَ عَنِ الْأَئِمَّةِ عَلَى (11) الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَمَا قَبِلَاهُ قَبِلْنَاهُ، وَمَا لَمْ يَقْبَلَاهُ تَرَكْنَاهُ، ولا علينا إذا قَامَ لَنَا الدَّلِيلُ عَلَى اتِّبَاعِ الشَّرْعِ، وَلَمْ يَقُمْ لَنَا دَلِيلٌ عَلَى اتِّبَاعِ (12) أَقْوَالِ الصُّوفِيَّةِ وَأَعْمَالِهِمْ إِلَّا بَعْدَ عَرْضِهَا، وَبِذَلِكَ وَصَّى شُيُوخُهُمْ، وإن كل (13) مَا جَاءَ بِهِ صَاحِبُ الْوَجْدِ وَالذَّوْقِ مِنَ الْأَحْوَالِ وَالْعُلُومِ وَالْفُهُومِ، فَلْيَعْرِضْ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَإِنْ قَبِلَاهُ صَحَّ، وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ، فَكَذَلِكَ مَا رَسَمُوهُ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَأَوْجُهِ الْمُجَاهِدَاتِ، وَأَنْوَاعِ الالتزامات (14).
_________
(1) في (غ): "بأحسن".
(2) كتب في هذا الموضع في (خ) و (ط): "حتى لا يصر على الذنوب"، وهو سبق نظر من الناسخ.
(3) ساقطة من (م) و (خ).
(4) في (خ) و (ط) و (م): "معناه".
(5) في (خ) و (ت): "لقد" بدون الواو.
(6) تقدمت ترجمته (ص169).
(7) في (خ): "أيزنى العارف"، وفي (ت): "العارف يرب يزني".
(8) سورة الأحزاب: آية (38).
(9) انظر: هذا القول في الرسالة القشيرية (ص187).
(10) في (خ) و (ط): "على".
(11) ساقطة من (م).
(12) ساقطة من (غ) و (ر).
(13) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "كان".
(14) والأقرب من هذا كله اتباع الدليل مباشرة، ففي كتاب الله سبحانه وسنة رسوله (ص) =(1/367)
ثُمَّ نَقُولُ ـ ثَانِيًا ـ: إِذَا نَظَرْنَا فِي رُسُومِهِمُ الَّتِي حَدُّوا، وَأَعْمَالِهِمُ الَّتِي امْتَازُوا بِهَا عَنْ غَيْرِهِمْ، بِحَسَبِ تَحْسِينِ الظَّنِّ، وَالتَّمَاسِّ أَحْسَنِ الْمَخَارِجَ، وَلَمْ نَعْرِفْ لَهَا مَخْرَجًا، فَالْوَاجِبُ عَلَيْنَا (1) التَّوَقُّفُ عن الاقتداء والعمل، وَإِنْ كَانُوا مِنْ جِنْسِ مَنْ يُقْتَدَى بِهِمْ (2)، لا رداً له (3) وَاعْتِرَاضًا (4)، بَلْ لِأَنَّا لَمْ نَفْهَمْ وَجْهَ رُجُوعِهِ إِلَى الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ، كَمَا فَهِمْنَا غَيْرَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّا نَتَوَقَّفُ عَنِ (5) الْعَمَلِ بِالْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ الَّتِي يُشْكِلُ عَلَيْنَا وَجْهُ الْفِقْهِ فِيهَا (6)؟ فَإِنْ سَنَحَ بَعْدَ ذَلِكَ لِلْعَمَلِ بِهَا وَجْهٌ جَارٍ على الأدلة قبلناه، وإلا فلسنا مطلوبين (7) بذلك، ولا ضرر علينا في هذا (8) التَّوَقُّفِ، لِأَنَّهُ تَوَقُّفُ مُسْتَرْشِدٍ، لَا تَوَقُّفُ رَادٍّ مُطَّرِحٍ (9)، فَالتَّوَقُّفُ هُنَا بِتَرْكِ الْعَمَلِ أَوْلَى وَأَحْرَى (10).
ثُمَّ نَقُولُ ـ ثَالِثًا ـ: إِنَّ هَذِهِ الْمَسَائِلَ وَأَشْبَاهَهَا قَدْ صَارَتْ مَعَ ظَاهِرِ (11) الشَّرِيعَةِ كَالْمُتَدَافِعَةِ، فَيُحْمَلُ كَلَامُ الصُّوفِيَّةِ وَأَعْمَالُهُمْ مَثَلًا عَلَى أَنَّهَا مُسْتَنِدَةٌ إِلَى دَلَائِلَ شَرْعِيَّةٍ، إِلَّا أَنَّهُ (12) عَارَضَهَا فِي النقل أدلة أوضح منها (13) فِي أَفْهَامِ الْمُتَفَقِّهِينَ (14)، وَأَنْظَارِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَأَجْرَى عَلَى المعهود في سائر
_________
=ما يغني المسلم عن هذا العناء، فالمطلوب اتباع الدليل لا البحث عن الدليل الذي يعضد أعمال الصوفية أو غيرهم.
(1) ساقطة من (ر).
(2) هذا الكلام غير مسلم، بل قدوتنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وخير الهدي هدي محمد صلّى الله عليه وسلّم.
(3) في (خ) و (ت) و (ط): "لهم".
(4) في (غ) و (ر): "ولا اعتراضاً عليه".
(5) في (غ): "على".
(6) وأين هذا من هذا، وما الذي يوقع المسلم في هذ الإشكال وهو في غنى عنه، وهل صارت أعمال الصوفية أدلة شرعية حتى نتعامل معها كذلك!
(7) في (م) و (غ): "بمطلوبين".
(8) زيادة في (غ) و (ر).
(9) في (ط): "مقترح".
(10) بل هو الواجب على المسلم، لأن الاقتداء بالصوفية في أقوالهم وأعمالهم أمر مردود، فكيف إذا تعارض مع أدلة الشرع.
(11) في (غ) و (ر): "ظواهر".
(12) في (غ): "أنها".
(13) ساقطة من (غ) و (ر).
(14) هذا الحمل لا ينبغي، لأن الأدلة الشرعية واضحة بينة، فلو كانت أقوالهم وأفعالهم معتمدة على دليل لاتضح ذلك، ولم يخف على العلماء الذين نقدوا طريقتهم.(1/368)
أصناف العلماء، وأنص (1) فِي أَلْفَاظِ الشَّارِعِ مِمَّا ظَنَنَّاهُ مُسْتَنَدَ الْقَوْمِ.
وَإِذَا تَعَارَضَتِ الْأَدِلَّةُ، وَلَمْ يَظْهَرْ فِي بَعْضِهَا نَسْخٌ، فَالْوَاجِبُ التَّرْجِيحُ، وَهُوَ إِجْمَاعٌ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ أَوْ كَالْإِجْمَاعِ (2).
وَفِي مَذْهَبِ الْقَوْمِ الْعَمَلُ بِالِاحْتِيَاطِ هُوَ الْوَاجِبُ، كَمَا أَنَّهُ مَذْهَبُ غَيْرِهِمْ، فَوَجَبَ بِحَسْبَ الْجَرَيَانِ عَلَى آرَائِهِمْ فِي السُّلُوكِ أَنْ لَا يُعْمَلَ بِمَا رَسَمُوهُ مِمَّا فِيهِ مُعَارَضَةٌ لِأَدِلَّةِ الشَّرْعِ، وَنَكُونُ (3) فِي ذَلِكَ مُتَّبِعِينَ لِآثَارِهِمْ، مُهْتَدِينَ بِأَنْوَارِهِمْ، خِلَافًا لِمَنْ يُعْرِضُ عَنِ الْأَدِلَّةِ، وَيُصَمِّمُ عَلَى تَقْلِيدِهِمْ فِيمَا لَا يَصِحُّ تَقْلِيدُهُمْ فيه على مذهبهم، فالأدلة الشرعية (4)، وَالْأَنْظَارُ الْفِقْهِيَّةُ، وَالرُّسُومُ الصُّوفِيَّةُ (5) تَرُدُّهُ وَتَذُمُّهُ، وَتَحْمَدُ مَنْ تَحَرَّى وَاحْتَاطَ، وَتَوَقَّفَ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ، وَاسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ.
وَبَقِيَ الْكَلَامُ عَلَى أَعْيَانِ مَا ذكر في السؤال، من أقوالهم وقواعدهم (6)، وَمَا يَتَنَزَّلُ مِنْهَا عَلَى مُقْتَضَى الْأَدِلَّةِ، وَكَيْفَ وجه تنزيلها، لَا حَاجَةَ لَنَا (7) إِلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى جُمْلَةٍ مِنْهَا (8) فِي كِتَابِ الْمُوَافَقَاتِ (9)، وَإِنْ فَسَحَ اللَّهُ فِي الْمُدَّةِ، وَأَعَانَ بِفَضْلِهِ بَسَطْنَا (10) الْكَلَامَ فِي هَذَا الْبَابِ في كتاب شرح (11) مَذْهَبِ أَهْلِ التَّصَوُّفِ (12)، وَبَيَانِ مَا أُدْخِلَ فِيهِ مِمَّا لَيْسَ بِطَرِيقٍ لَهُمْ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.
_________
(1) في (خ) و (ط): "وأنظر".
(2) اعتبار أقوال الصوفية وأعمالهم في منزلة الأدلة الشرعية التي يرجح بينها أمر غير صحيح، والأولى المصارحة بالحق إلا أن المؤلف أراد أن يتألف الصوفية رغبة منه في هدايتهم.
(3) في (م): "ويكون".
(4) ساقطة من (خ) و (ت) و (ط).
(5) في (م): "للصوفية".
(6) في (خ) و (ت) و (ط): "وعوائدهم".
(7) في (غ) و (ر): "بنا".
(8) في (غ): "منه".
(9) ومن ذلك ما ذكر في المجلد الثاني (2/ 243، 248، 268 ـ 273).
(10) في (م): "ببسطنا".
(11) ساقطة من (م) و (خ) و (ت) و (ط).
(12) لا أعلم أن للمؤلف كتاباً بهذا العنوان.(1/369)
وقد تبين (مما تقدم) (1) أَنْ لَا دَلِيلَ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَحْتَجُّ (2) به (أهل البدع) (3) على بدعهم (4) والحمد لله. انتهى (5)
_________
(1) ما بين المعكوفين ساقط من (م) و (خ) و (ت) و (ط).
(2) في (خ) و (ط): "يحكم".
(3) ما بين المعكوفين ساقط من (خ) و (ت) و (ط).
(4) في (م) و (خ) و (ت) و (ط): "بدعتهم".
(5) ساقطة من (ر) و (ط).(1/370)
بسم الله الرحمن الرحيم
الباب الرابع
في مأخذ أهل البدع في الاستدلال
كُلُّ خَارِجٍ عَنِ السُّنَّةِ مِمَّنْ يَدَّعِي الدُّخُولَ فِيهَا، وَالْكَوْنَ مَنْ أَهلها، لَا بُدَّ لَهُ من تكلف الاستدلال بأَدلتها على خصوصات مَسَائِلِهِمْ، وإِلا كَذَّبَ اطراحُها دَعْوَاهُمْ، بَلْ كُلُّ مبتدع من هذه الأُمة إِنما (1) يدَّعي أَنه (2) هُوَ صَاحِبُ السُّنَّةِ دُونَ (3) مَنْ خالفه من الفرق، فلا يمكنه إِلا (4) الرُّجُوعُ إِلى التَّعَلُّقِ بِشُبَهِهَا (5)، وإِذا رَجَعَ إِليها كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَن يأْخذ الِاسْتِدْلَالَ مأْخذ أَهله الْعَارِفِينَ (6) بِكَلَامِ الْعَرَبِ وَكُلِّيَّاتِ الشَّرِيعَةِ وَمَقَاصِدِهَا، كَمَا كَانَ السَّلَفُ الأَول يأْخُذُونها. إِلا أَن هَؤُلَاءِ (7) ـ كَمَا يَتَبَيَّنُ بَعْدُ ـ لَمْ يَبْلُغُوا مَبْلَغَ النَّاظِرِينَ فِيهَا بإِطلاق (8)، إِما لِعَدَمِ الرُّسُوخِ فِي مَعْرِفَةِ كَلَامِ الْعَرَبِ وَالْعِلْمِ بِمَقَاصِدِهَا، وإِما (9) لِعَدَمِ الرُّسُوخِ فِي الْعِلْمِ بِقَوَاعِدَ الأُصول؛ الَّتِي مِنْ جهتها تستنبط الأَحكام الشرعية، وإمّا للأَمرين (10) جَمِيعًا، فبِالْحَرِيّ أَن تَصِيرَ مَآخِذُهُمْ للأَدلة مُخَالَفَةً لمأْخذ مَنْ تَقَدَّمَهُمْ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ للأَمرين.
وإِذا تَقَرَّرَ هَذَا فَلَا بُدَّ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى تِلْكَ الْمَآخِذِ؛ لِكَيْ تُحْذَرَ وتُتَّقَى، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ (11).
_________
(1) في (خ): "إما أن يدَّعي"، وفي (م): "إما يدَّعي".
(2) قوله: "أنه" ليس في (خ).
(3) في (غ): "هو" بدل "دون".
(4) قوله: "إلا" من (غ) و (ر) فقط.
(5) في (غ) و (ر): "بشبهتها".
(6) قوله: "العارفين" سقط من (غ).
(7) في (خ): "إلا أن أهل بل هؤلاء".
(8) في (غ) و (ر): "بالإطلاق".
(9) من قوله: "لعدم الرسوخ" إلى هنا سقط من (غ).
(10) في (خ): "وإما لعدم الأمرين".
(11) قوله: "وبالله التوفيق" ليس في (خ).(2/5)
فَنَقُولُ: قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} (1)، وَذَلِكَ أَن هَذِهِ الْآيَةَ شَمَلَتْ قِسْمَيْنِ هُمَا أَصل الْمَشْيِ عَلَى طَرِيقِ الصَّوَابِ، أَو عَلَى طَرِيقِ الخطأَ:
أَحدهما: الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، وَهُمُ الثَّابِتُو الأَقدام فِي عِلْمِ الشَّرِيعَةِ. وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ متعذِّراً إِلا عَلَى مَنْ حَصَّلَ الأَمرين الْمُتَقَدِّمَيْنِ، لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنَ الْمَعْرِفَةِ بِهِمَا مَعًا عَلَى حَسَبِ مَا تُعْطِيهِ المُنَّة (2) الإِنسانية، وإِذ ذَاكَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنه رَاسِخٌ فِي الْعِلْمِ. وَمُقْتَضَى الْآيَةُ مَدْحُهُ، فَهُوَ إِذاً أَهلٌ لِلْهِدَايَةِ وَالِاسْتِنْبَاطِ. وَحِينَ خَصَّ أَهل الزَّيْغِ بِاتِّبَاعِ الْمُتَشَابِهِ، دلَّ التَّخْصِيصُ عَلَى أَنَّ الرَّاسِخِينَ لَا يَتْبَعُونَهُ، فَإِذًا؛ لَا يَتَّبِعُونَ إِلا الْمُحْكَمَ، وَهُوَ أُمُّ الْكِتَابِ ومُعْظَمُه.
فَكُلُّ دَلِيلٍ خَاصٍّ أَو عَامٍّ شَهِدَ لَهُ مُعْظَمُ الشَّرِيعَةِ فَهُوَ الدَّلِيلُ الصَّحِيحُ، وَمَا سِوَاهُ فَاسِدٌ، إِذ لَيْسَ بَيْنَ الدليل (3) الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ وَاسِطَةٌ فِي الأَدلّة يُستند إِليها؛ إِذ لَوْ كَانَ ثمَّ ثَالِثٌ لنصَّت عَلَيْهِ الْآيَةُ.
ثُمَّ لَمَّا خُصَّ الزَّائِغُونَ بِكَوْنِهِمْ يَتَّبِعُونَ الْمُتَشَابِهَ، ولم يوصف الراسخون بذلك؛ دل على (4) أَنَّهم لا يتبعون تأَويله؛ أَي: مآله؛ يريد طلب معناه؛ ليحكموا به على مقتضى أَهوائهم في طلب الفتنة (5) أَيضاً (6). فإِن تأَوّلوه فبالرَّد إِلى المحكم، فإن (7) أَمكن حمله على المحكم بمقتضى القواعد؛ فهو (8) الْمُتَشَابِهُ الإِضافي لَا الْحَقِيقِيُّ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ نَصٌّ عَلَى حُكْمِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلى الرَّاسِخِينَ، فَلْيَرْجِعْ عِنْدَهُمْ إِلى الْمُحْكَمِ الَّذِي هُوَ أُمّ الْكِتَابِ. وإِن لَمْ يتأَوَّلُوه فَبِنَاءً عَلَى أَنه مُتَشَابِهٌ حقيقي، فيقابلونه بالتسليم
_________
(1) سورة آل عمران: الآية (7).
(2) المُنَّة: القُوَّة. "لسان العرب" (13/ 415).
(3) قوله: "الدليل" ليس في (خ) و (م).
(4) قوله: "على" من (ر) فقط.
(5) من قوله: "ولم يوصف الراسخون" إلى هنا سقط من (خ) و (م).
(6) في (خ) و (م)، بعد قوله: "أيضاً" زيادة: "علم أن الراسخين لا يتبعونه".
(7) في (خ) و (م): "بأن".
(8) في (خ): "فهذا".(2/6)
وَقَوْلِهِمْ: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}، وَهَؤُلَاءِ هُمْ أُولو الأَلباب.
وَكَذَلِكَ ذَكَرَ فِي أَهل الزَّيْغِ أَنهم يَتَّبِعُونَ الْمُتَشَابِهَ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ، فَهُمْ يَطْلُبُونَ بِهِ أَهواءهم لِحُصُولِ الْفِتْنَةِ، فَلَيْسَ نَظَرِهِمْ إِذاً فِي الدَّلِيلِ نظرَ الْمُسْتَبْصِرِ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَحْتَ حُكْمِهِ، بَلْ نَظَرُ مَنْ حَكَمَ بِالْهَوَى، ثُمَّ أَتى بِالدَّلِيلِ كَالشَّاهِدِ لَهُ، وَلَمْ يَذَكُرْ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الرَّاسِخِينَ، فَهُمْ إِذن بِضِدِّ (1) هَؤُلَاءِ؛ حَيْثُ وَقَفُوا فِي الْمُتَشَابِهِ فلم يحكموا فيه ولا عليه بشيء (2) سِوَى التَّسْلِيمِ. وَهَذَا الْمَعْنَى خَاصٌّ بِمَنْ طَلَبَ الْحَقَّ مِنَ الأَدلة، لَا يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ طَلَبَ فِي الأَدلة مَا يُصَحِّحُ هَوَاهُ السَّابِقَ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَنْ لَيْسَ بِرَاسِخٍ فِي الْعِلْمِ، وهو الزائغ، فحصل له في الآية وَصْفَانِ:
أَحَدُهُمَا: بِالنَّصِّ، وَهُوَ الزَّيْغُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ}، وَالزَّيْغُ هُوَ: الْمَيْلُ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ. وَهُوَ ذم لهم.
والوصف (3) الثاني بِالْمَعْنَى الَّذِي أَعطاه التَّقْسِيمُ: وَهُوَ عَدَمُ الرُّسُوخِ فِي الْعِلْمِ، وَكُلٌّ منفيٌّ عَنْهُ الرُّسُوخُ فإِلى الجهل ما هو (4)، وَمِنْ جِهَةِ الْجَهْلِ حَصَلَ لَهُ الزَّيْغُ؛ لأَن من بقي عليه في (5) طريق الاستنباط واتباع الأدلة بعض (6) الجَهالات، لم يحلّ أن يتبع الأَدلة المحكمة (7) ولا المتشابهة. فلو (8) فَرَضْنَا أَنه يَتْبَعُ الْمُحْكَمَ؛ لَمْ يَكُنْ اتِّباعه مُفِيدًا لِحُكْمِهِ؛ لإِمكان (9) أَن يَتْبَعَهُ عَلَى وَجْهٍ وَاضِحِ الْبُطْلَانِ، أَو مُتَشَابِهٍ، فَمَا ظَنُّكَ بِهِ إِذا اتبع نفس (10) المتشابه؟
ثم اتِّباعه للمتشابه ـ لو (11) كَانَ مِنْ جِهَةِ الِاسْتِرْشَادِ بِهِ لَا لِلْفِتْنَةِ به ـ
_________
(1) في (غ) و (ر): "على ضد".
(2) قوله: "بشيء" ليس في (خ) و (م).
(3) قوله: "الوصف" من (خ) فقط.
(4) في (خ): "ما هو مائل".
(5) في (خ): "نفي عنه" بدل: "بقي عليه في".
(6) في (خ): "لبعض".
(7) في (غ) و (ر): "لا المحكمة".
(8) في (خ): "ولو".
(9) في (م): "بإمكان".
(10) قوله: "نفس" ليس في (خ).
(11) في (خ): "ولو".(2/7)
لم يحصل به مقصود على حال، فما ظنك به إِذا اتبعه (1) ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ؟ وَهَكَذَا الْمُحْكَمُ إِذا اتَّبَعَهُ ابتغاءَ الْفِتْنَةِ بِهِ. فَكَثِيرًا مَا تَرَى الْجُهَّالَ يَحْتَجُّونَ لأَنفسهم بأَدلة فَاسِدَةٍ، وبأَدلة صَحِيحَةٍ اقْتِصَارًا بِالنَّظَرِ عَلَى دَلِيلٍ مَا، واطِّراحاً لِلنَّظَرِ فِي غيرهِ من الأدلة الأُصولية، أو الفروعية (2) الْعَاضِدَةِ لِنَظَرِهِ، أَو الْمُعَارَضَةِ لَهُ.
وَكَثِيرٌ مِمَّنْ يدَّعي الْعِلْمَ يَتَّخِذُ هَذَا الطَّرِيقَ مَسْلَكًا، وَرُبَّمَا أَفتى بِمُقْتَضَاهُ، وَعَمِلَ عَلَى وَفْقِهِ إِذا كَانَ له فيه غرض (3).
وأَعرف مَنْ عَرَضَ لَهُ غَرَضٌ (4) فِي الْفُتْيَا؛ بِجَوَازِ (5) تَنْفِيلِ الإِمام الْجَيْشَ جَمِيعَ مَا غَنِمُوا عَلَى طَرِيقَةِ "مَنْ عَزَّ بَزَّ" (6)، لَا طَرِيقَةَ الشَّرْعِ، بناء على نقل عن (7) بعض العلماء: "أَنه يجيز (8) تَنْفِيلُ السَّرِيَّةِ جَمِيعَ مَا غَنِمَتْ" (9) ثُمَّ عَزَا ذَلِكَ ـ وَهُوَ مَالِكِيُّ الْمَذْهَبِ ـ إِلى مَالِكٍ؛ حَيْثُ قَالَ فِي كَلَامٍ رُوِيَ عَنْهُ (10): "مَا نَفَلَ الإِمام فَهُوَ جَائِزٌ"، فأَخذ هَذِهِ الْعِبَارَةَ نَصًّا عَلَى جَوَازِ تَنْفِيلِ الإِمام الْجَيْشَ جَمِيعَ مَا غنم، ولم يلتفت في النَّقْل (11) إِلى أَن السَّرِيَّةَ هِيَ الْقِطْعَةُ مِنَ الْجَيْشِ الداخل (12) لبلاد العدو تُغير (13) على العدو،
_________
(1) في (خ) و (م): "اتبع".
(2) في (خ) و (م): "والفروعية".
(3) في (ر): "عرض" بالعين.
(4) في (خ): "أو أعرض عن غرض له عرض"، وفي (م): "وأعرض" بدل "وأعرف".
(5) في (خ) يشبه أن تكون: "كجواز".
(6) هذا مثل تقوله العرب، ومعناه: من غلب سلب. انظر: "مجمع الأمثال" للميداني (2/ 307)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (3/ 204).
(7) قوله: "عن" ليس في (خ) و (م).
(8) في (خ): "يجوز".
(9) قال النووي في "شرح مسلم" (12/ 55): "وأجاز النخعي أن تنفل السرية جميع ما غنمت دون باقي الجيش، وهو خلاف ما قاله العلماء كافة". اهـ. وانظر "فتح الباري" (6/ 240).
(10) انظر "الموطأ" (2/ 455 و456).
(11) في (غ) و (ر): "يلتفت للنقل".
(12) في (م): "المداخل".
(13) في (خ): "لتغير".(2/8)
ثُمَّ تَرْجِعَ إِلى الْجَيْشِ، لَا أَن (1) السَّرِيَّةَ هي الجيش بعينه، ولا التفت (2) أَيضاً إِلى أَن (3) النَّفْلَ عِنْدَ مَالِكٍ لَا يَكُونُ إِلا مِنَ الْخُمُسِ (4)، لَا اخْتِلَافَ عَنْهُ فِي ذَلِكَ أَعلمه، وَلَا عَنْ أَحد مِنْ أَصحابه، فَمَا نَفَلَ الإِمام مِنْهُ فَهُوَ جَائِزٌ؛ لأَنه محمول على الاجتهاد.
وكذلك الأَمر أَبداً (5) في كل مسأَلة يُتَّبع فِيهَا الْهَوَى أَولاً، ثُمَّ يَطْلُبُ لَهَا الْمَخْرَجَ مِنْ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ، أَو مِنْ أَدلة الشَّرْعِ. وكلام العرب أَبداً ـ لاتساعه وتصرفه ـ يحتمل أَنحاء (6) كَثِيرَةٌ، لَكِنْ يَعْلَمُ الرَّاسِخُونَ الْمُرَادَ مِنْهُ مِنْ أَوّله، أَو (7) آخره، أَو فحواه (8)، أَو بِسَاطِ حَالِهِ، أَو قَرَائِنِهِ. فَمَنْ لَا يَعْتَبِرُهُ مِنْ أَوله إِلى آخِرِهِ وَيَعْتِبَرُ مَا ابْتَنَى (9) عَلَيْهِ زَلَّ فِي فَهْمِهِ. وَهُوَ شأْن مَنْ يأْخذ الأَدلة مِنْ أَطراف الْعِبَارَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَا يَنْظُرُ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ، فَيُوشِكُ أَن يَزِلَّ. وَلَيْسَ هَذَا مِنْ شأْن الرَّاسِخِينَ، وإِنما هُوَ مِنْ شأْن مَنِ اسْتَعْجَلَ (10) طَلَبًا لِلْمَخْرَجِ فِي دَعْوَاهُ.
فَقَدْ حَصَلَ مِنَ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ: أَن الزَّيْغَ (11) لَا يَجْرِي عَلَى طَرِيقِ الرَّاسِخِ بِغَيْرِ حُكْمِ الِاتِّفَاقِ، وأَن الرَّاسِخَ لَا زَيْغَ مَعَهُ بالقصد البتّة.
_________
(1) في (غ) و (ر): "لأن".
(2) في (م): "ولا التفت إليه".
(3) قوله: "أن" سقط من (م).
(4) انظر الموضع السابق من "الموطأ".
(5) قوله: "أبداً" ليس في (خ).
(6) في (خ): "واحتمالاتها" بدل: "يحتمل أنحاء"، وفي (م): "يحتمل أنها".
(7) في (خ): "إلى".
(8) في (خ): "وفحواه"، وفي (م): "أفحواه".
(9) في (غ) و (ر): "ما انبنى".
(10) في (غ) و (ر): "من استعجل الرتبة".
(11) في (غ) و (ر): "الزائغ".(2/9)
فَصْلٌ
إِذا ثَبَتَ هَذَا رَجَعْنَا مِنْهُ إِلى مَعْنَى آخَرَ فَنَقُولُ:
إِذا تَبَيَّنَ (1) أَن لِلرَّاسِخِينَ طَرِيقًا يَسْلُكُونَهَا فِي اتِّبَاعِ الْحَقِّ، وأَن الزَّائِغِينَ على طريق (2) غير طريقهم؛ احتجنا (3) إِلى بيان الطريق التي سلكها هؤلاء لنَجْتَنِبَها (4)، كما بُيِّن (5) الطَّرِيقَ الَّتِي سَلَكَهَا الرَّاسِخُونَ لِنَسْلُكَهَا، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ أَهل أُصول الْفِقْهِ وَبَسَطُوا الْقَوْلَ فِيهِ، وَلَمْ يَبْسُطُوا الْقَوْلَ فِي طَرِيقِ الزَّائِغِينَ، فَهَلْ يُمْكِنُ حَصْرُ مَآخِذِهَا أَوْ (6) لَا؟ فَنَظَرْنَا فِي آيَةٍ أُخرى تَتَعَلَّقُ بِهِمْ كَمَا تَتَعَلَّقُ بِالرَّاسِخِينَ، وهي (7) قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى (8): {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (9)، فأَفادت الْآيَةُ أَن طَرِيقَ الْحَقِّ وَاحِدَةٌ، وأَن لِلْبَاطِلِ طُرُقًا مُتَعَدِّدَةً لَا وَاحِدَةً، وَتَعَدُّدُهَا لَمْ ينحصر بِعَدَدٍ مَخْصُوصٍ. وَهَكَذَا الْحَدِيثُ المفسِّر لِلْآيَةِ، وَهُوَ قول ابن مسعود رضي الله عنه: خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم يوماً (10) خَطًّا؛ فَقَالَ: "هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ"، ثُمَّ خَطَّ لَنَا خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَيَسَارِهِ وَقَالَ: "هَذِهِ سُبُلٌ، على (11) كل (12) سبيل منها شيطان (13) يدعو
_________
(1) قوله: "إذا تبين" ليس في (خ).
(2) قوله: "طريق" من (خ) فقط.
(3) في (خ): "فاجتمعنا".
(4) في (خ): "لنتجنبها".
(5) في (خ): "نبين".
(6) في (غ) و (ر): "أم لا".
(7) في (م): "وهو".
(8) في (خ): "قوله تعالى".
(9) سورة الأنعام: الآية (153).
(10) قوله: "يوماً" ليس في (خ) و (م).
(11) قوله: "على" سقط من (م).
(12) من قوله: "سبيل الله" إلى هنا سقط من (خ)، وحاول رشيد رضا إصلاحه، وعلَّق عليه بقوله: "كان الحديث محرّفاً، وفيه حذف".
(13) في (خ): "عليه شيطان".(2/10)
إِليه"، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ (1).
فَفِي الْحَدِيثِ أَنها خُطُوطٌ مُتَعَدِّدَةٌ غَيْرُ مَحْصُورَةٍ بِعَدَدٍ، فَلَمْ يَكُنْ لَنَا سَبِيلٌ إِلى حَصْرِ عَدَدِهَا مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ، وَلَا لَنَا أَيضاً سَبِيلٌ إِلى حَصْرِهَا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ أَو الِاسْتِقْرَاءِ.
أَما الْعَقْلُ؛ فإِنه لَا يَقْضِي (2) بِعَدَدٍ دُونَ آخَرٍ؛ لأَنه غَيْرُ رَاجِعٍ إِلى أَمر مَحْصُورٍ. أَلا تَرَى أَن الزَّيْغَ رَاجِعٌ إِلى الْجَهَالَاتِ؟ وَوُجُوهُ الْجَهْلِ لَا تَنْحَصِرُ، فَصَارَ طَلَبُ حَصْرِهَا عَنَاءً مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ.
وأَما الاستقراءُ؛ فَغَيْرُ نَافِعٍ أَيضاً فِي هَذَا المَطْلَب؛ لأَنا لَمَّا نَظَرْنَا في
_________
(1) أخرجه البزار في "مسنده" (5/ 99 رقم 1677) من طريق جرير، عن منصور، عن أبي وائل، عن عبد الله، فذكره.
قال البزار: "وهذا الحديث قد رواه غير واحد عن أبي وائل".
وسنده صحيح.
وأخرجه أيضاً (5/ 113 ـ 114 رقم 1694) من طريق أبي معاوية محمد بن خازم، عن الأعمش، عن أبي وائل، به.
وسنده صحيح أيضاً.
وأخرجه البزار أيضاً (5/ 251 رقم 1865) من طريق سفيان الثوري، عن أبيه، عن منذر الثوري، عن الربيع بن خثيم، عن ابن مسعود، به.
ثم قال البزار: "وهذا الكلام قد روي عن عبد الله من غير وجه نحوه أو قريباً منه".
وسنده صحيح أيضاً.
وأشهر طرقه ما رواه حماد بن زيد، عن عاصم بن بهدلة، عن أبي وائل، عن عبد الله؛ قال: خطّ لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خطًّا فقال: "هذا سبيل الله"، ثم خطّ خطوطاً عن يمينه وعن شماله، فقال: "وهذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه"، ثم تلا: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}.
أخرجه سعيد بن منصور في "سننه" (5/ 112 رقم 935) وهذا لفظه. وأخرجه الطيالسي في "مسنده" (ص33 رقم 244)، والإمام أحمد في "المسند" (1/ 435)، والدارمي (1/ 60 رقم 208)، وابن أبي عاصم في "السنة" (1/ 13 رقم 17)، والبزار (5/ 131 رقم 1718)، ومحمد بن نصر المروزي في "السنة" (ص5)، والنسائي في "التفسير" (1/ 485 رقم 194)، وابن جرير الطبري في "تفسيره" (12/ 230 رقم 14168)، وابن حبان في "صحيحه" (1/ 180 ـ 181 رقم 6 و7/ الإحسان)، والحاكم (2/ 318) وصححه.
وفي عاصم بن بهدلة كلام يسير في حفظه، وحديثه حسن، ويتقوى بالطرق السابقة.
(2) في (غ) و (ر): "لا يمضي".(2/11)
طرق البدع من حين نبغت، وَجَدْنَاهَا تَزْدَادُ عَلَى الأَيام، وَلَا يأْتي زَمَانٌ إِلا وَغَرِيبَةٌ مِنْ غَرَائِبِ الِاسْتِنْبَاطِ تَحْدُثُ، إِلى زَمَانِنَا هَذَا.
وإِذا كَانَ كَذَلِكَ فَيُمْكِنُ أَن يَحْدُثَ بَعْدَ زَمَانِنَا اسْتِدْلَالَاتٌ أُخر لَا عَهْدَ لَنَا بِهَا فِيمَا تَقَدَّمَ، لَا سِيَّمَا عِنْدَ كَثْرَةِ الْجَهْلِ، وَقِلَّةِ الْعِلْمِ، وَبُعْدِ النَّاظِرِينَ فِيهِ عَنْ دَرَجَةِ الِاجْتِهَادِ، فَلَا يُمْكِنُ إِذاً حَصْرُهَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَلَا يُقَالُ: إِنها تَرْجِعُ إِلى مخالفة الطريق (1) الْحَقِّ؛ فإِن وُجُوهَ الْمُخَالَفَاتِ (2) لَا تَنْحَصِرُ أَيضاً.
فَثَبَتَ أَن تَتَبُّعَ هَذَا الْوَجْهِ عَنَاءٌ، لَكِنَّا نَذْكُرُ مِنْ ذَلِكَ أَوجهاً كُلِّيَّةً يُقَاسُ عَلَيْهَا مَا سِوَاهَا.
فَمِنْهَا: اعْتِمَادُهُمْ عَلَى الأَحاديث الْوَاهِيَةِ الضَّعِيفَةِ، وَالْمَكْذُوبِ فِيهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالَّتِي لَا يَقْبَلُهَا أَهل صِنَاعَةِ الْحَدِيثِ (3) فِي الْبِنَاءِ عَلَيْهَا؛ كَحَدِيثِ الِاكْتِحَالِ يوم عاشوراء (4)، وإِكرام الديك
_________
(1) في (خ): "طريق".
(2) في (خ): "أوجه المخالفة".
(3) في (غ) و (ر): "التحديث".
(4) قوله: "عاشوراء" سقط من (غ).
وحديث الاكتحال يوم عاشوراء هذا: أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (3/ 367 رقم 3797) عن شيخه أبي عبد الله الحاكم بسنده إلى جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم: "من اكتحل بالإثمد يوم عاشوراء لم يرمد أبداً".
وكان قد قال قبل إخراجه الحديث: "وأما الاكتحال؛ فإنما روي في ذلك بإسناد ضعيف بمرّة". ثم قال بعد إخراج الحديث: "جويبر ضعيف، والضحاك لم يلق ابن عباس".
وأخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات" (2/ 573 ـ 574 رقم 1143) من طريق البيهقي، ثم قال: "قال الحاكم: أنا أبرأ إلى الله من عهدة جويبر، فإن الاكتحال يوم عاشوراء لم يُرْوَ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيه أثر، وهو بدعة ابتدعها قَتَلة الحسين عليه السلام، قال أحمد: لا يُشتغل بحديث جويبر، وقال يحيى: ليس بشيء، وقال النسائي والدارقطني: متروك".
وقال ابن القيم في "المنار المنيف" (ص112 ـ 113) في الكلام على يوم عاشوراء: "وأما حديث الاكتحال والادهان والتطيب فمن وضع الكذابين، وقابلهم آخرون فاتخذوه يوم تألم وحزن، والطائفتان مبتدعتان خارجتان عن السنة، وأهل السنة=(2/12)
الأَبيض (1)، وأَكل الْبَاذِنْجَانِ بنيَّة (2)، وأَن النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وسلّم تواجد واهتزّ
_________
=يفعلون فيه ما أمر به النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ من الصوم، ويجتنبون ما أمر به الشيطان من البدع".
ونقل المناوي في "فيض القدير" (6/ 82) عن الزركشي أنه قال: "لا يصح فيه أثر، وهو بدعة"، وعن ابن رجب قوله: "كل ما روي في فضل الاكتحال والاختضاب والاغتسال فيه موضوع لا يصح"، وعن ابن حجر قوله: "إسناده واهٍ جداً"، وعن السخاوي قوله: "هو موضوع".
والحديث حكم عليه الشيخ الألباني رحمه الله بالوضع في "السلسلة الضعيفة" (2/ 89 رقم 624).
(1) حديث إكرام الديك الأبيض: أخرجه الطبراني في "الأوسط" (1/ 210 رقم 677)، و"مسند الشاميين" (1/ 28 رقم 10) من طريق معلَّل بن نُفَيل، عن محمد بن محصن، عن إبراهيم بن أبي عبلة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "اتخذوا الديك الأبيض؛ فإن داراً فيها ديك أبيض لا يقربها شيطان ولا ساحر، ولا الدويرات حولها".
وذكر الطبراني أنه لم يروه عن إبراهيم بن أبي عبلة إلا محمد بن محصن. ومحمد هذا هو ابن إسحاق بن إبراهيم بن محمد بن عكاشة بن محصن العكاشي، الأسدي، نسب إلى جده الأعلى، وهو آفة هذا الحديث؛ قال ابن حجر في "التقريب" (ترجمة رقم 6308): "كذبوه".
وللحديث طرق أخرى لا يصح منها شيء ذكرها ابن الجوزي في "الموضوعات" (3/ 135 ـ 137 رقم 1348 و1349) في باب في الديك الأبيض، وذكر أحاديث أخرى (3/ 133 رقم 1347) في باب فضل الديك، و (3/ 138 ـ 142 رقم 1350 ـ 1354) في باب فضل الديك الأبيض الأفرق، وباب ما ذكر أن في السماء ديكاً، وحكم عليها جميعها بالوضع، فانظرها إن شئت.
وقال ابن القيم في "المنار المنيف" (ص56 رقم 79): "وبالجملة فكل أحاديث الديك كذب، إلا حديثاً واحداً: "إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله، فإنها رأت ملكاً" اهـ.
قلت: وحديث آخر أيضاً أخرجه أبو داود (5/ 398 رقم 5060) من حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "لا تسبوا الديك؛ فإنه يوقظ للصلاة".
وسنده صحيح.
(2) حديث أكل الباذنجان بنيّة: ذكره الديلمي في "فردوس الأخبار" (3/ 295 رقم 4755) عن أبي هريرة بلفظ: "كلوا الباذنجان، فإنها شجرة رأيتها في جنة المأوى شهدت لله بالحق، ولي بالنبوة، ولعلي بالولاية، فمن أكلها على أنها داء كانت داء، ومن أكلها=(2/13)
عِنْدَ السَّمَاعِ حَتَّى سَقَطَ الرداءُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ (1)، وَمَا أَشبه ذَلِكَ، فإِن أَمثال هَذِهِ الأَحاديث ـ على ما هو معلوم ـ لا يُبنى عيها حكم، ولا تُجعل أَصلاً في
_________
=على أنها دواء كانت له دواء". ولم يذكر له ولده سنداً.
وذكر السخاوي في "المقاصد الحسنة" (ص141 رقم 279) حديث: "الباذنجان لما أكل له"، وقال: "باطل لا أصل له، وإن أسنده صاحب تاريخ بلخ"، ثم ذكر حديث الديلمي السابق وأحاديث أخرى، وقال: "كلها باطلة"، ونقل عن بعض الحفاظ قوله: "إنه من وضع الزنادقة"، ونقل عن الزركشي قوله: "وقد لهج به العوام، حتى سمعت قائلاً منهم يقول: هو أصح من حديث "ماء زمزم لما شرب له"، وهذا خطأ قبيح". وانظر "كشف الخفاء" (1/ 278 ـ 279 رقم 874). وأخرج ابن الجوزي في "الموضوعات" (3/ 124 ـ 126 رقم 1338) حديث: "إنما الباذنجان شفاء من كل داء، ولا داء فيه"، وقال: "هذا حديث موضوع على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلا سقى الله الغيث قبر من وضعه؛ لأنه قصد شَيْنَ الشريعة ... " إلخ ما قال.
وانظر حاشية محقق "الموضوعات"، و"لسان الميزان" (5/ 37).
(1) حديث تواجد النبي صلّى الله عليه وسلّم واهتزازه عند السماع:
أخرجه محمد بن طاهر المقدسي في كتاب: "السماع" ـ كما في "لسان الميزان" (5/ 264 ـ 265) ـ، ومن طريقه رواه السهروردي في "عوارف المعارف" (ص108 ـ 109)، من طريق الهيثم بن كليب الشاشي، عن أبي بكر عمار بن إسحاق، عن سعيد بن عامر، عن شعبة، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنشده أعرابي:
قد لَسَعَتْ حيّة الهوى كبدي ... فلا طبيب لها ولا راقي
إلا الحبيب الذي شُغفت به ... فعنده رقيتي وترياقي
فتواجد حتى سقطت البردة عن منكبيه، فقال معاوية: ما أحسن لهوكم! فقال: "مهلاً يا معاوية! ليس بكريم من لم يتواجد عند ذكر الحبيب".
قال السهروردي: "فهذا الحديث أوردناه مسنداً كما سمعناه ووجدناه، وقد تكلم في صحته أصحاب الحديث ... ، ويخالج سري أنه غير صحيح ... ".
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية هذا الحديث في "الفتاوى" (11/ 563) عن ابن طاهر والسهروردي، ثم قال: "فهو حديث مكذوب موضوع باتفاق أهل العلم بهذا الشأن ... ".
ونقل السخاوي في "المقاصد" (ص333 رقم 856) كلام شيخ الإسلام هذا وأقرّه.
واتهم الذهبي في "الميزان" (3/ 164) عمار بن إسحاق بهذا الحديث، فقال: "كأنه واضع هذه الخرافة التي فيها: قد لسعت حية الهوى كبدي، فإن الباقين ثقات".
وانظر "السلسلة الضعيفة" (2/ 34 رقم 558) للشيخ الألباني.(2/14)
التَّشْرِيعِ أَبداً، وَمَنْ جَعَلَهَا كَذَلِكَ فَهُوَ جَاهِلٌ أَو مُخْطِئٌ (1) فِي نَقْلِ الْعِلْمِ، فَلَمْ يُنقل الأَخدُ بشيء منها عَمَّن يُعْتَدّ بِهِ فِي طَرِيقَةِ (2) الْعِلْمِ، وَلَا طَرِيقَةِ السُّلُوكِ.
وإِنما أَخذ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِالْحَدِيثِ الْحَسَنِ؛ لإِلحاقه (3) عند بعض (4) المحدِّثين بِالصَّحِيحِ؛ لأَن سَنَدَهُ لَيْسَ فِيهِ مَنْ يُعاب بجرْحَةٍ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا. وَكَذَلِكَ أَخذ مَنْ أَخذ مِنْهُمْ بِالْمُرْسَلِ، لَيْسَ إِلاَّ مِنْ حَيْثُ لحق (5) بالصحيح في أَن المتروك (6) ذكره كالمذكور المُعَدَّل (7)، فأَما (8) مَا دُونُ ذَلِكَ فَلَا يُؤْخَذُ بِهِ بِحَالٍ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ.
وَلَوْ كَانَ مِنْ شأْن أَهل الإِسلام الذَّابِّين (9) عَنْهُ الأَخذ مِنَ الأَحاديث بِكُلِّ مَا جَاءَ عَنْ كُلِّ مَنْ جَاءَ، لَمْ يَكُنْ لِانْتِصَابِهِمْ لِلتَّعْدِيلِ وَالتَّجْرِيحِ مَعْنًى ـ مَعَ أَنهم قَدْ أَجمعوا عَلَى ذَلِكَ ـ، وَلَا كَانَ لِطَلَبِ الإِسناد مَعْنًى يَتَحَصَّلُ، فَلِذَلِكَ جَعَلُوا الإِسناد مِنَ الدِّينِ (10)، وَلَا يَعْنُونَ: "حَدَّثَنِي فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ" مُجَرَّداً، بَلْ يُرِيدُونَ ذَلِكَ لِمَا تضمَّنه مِنْ مَعْرِفَةِ الرِّجَالِ الَّذِينَ يحدَّث عَنْهُمْ، حتى لا يسند عن مجهول، ولا مُجَرَّح، ولا متهم (11)، ولا عَمَّن لا تَحْصُلُ (12) الثِّقَةُ بِرِوَايَتِهِ؛ لأَن رُوحَ الْمَسْأَلَةِ أَن يَغْلِبَ عَلَى الظَّنِّ مِنْ غَيْرِ رِيبَةٍ أَن ذَلِكَ الْحَدِيثَ قَدْ قَالَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِنَعْتَمِدَ (13) عَلَيْهِ فِي الشَّرِيعَةِ، وَنُسْنِدَ (14) إِليه الأَحكام.
_________
(1) في (خ): "جاهل ومخطئ".
(2) في (م): "يعتمد به طريقه".
(3) في (غ) و (ر): "للحاقة".
(4) قوله: "بعض" ليس في (خ).
(5) في (خ): "ألحق".
(6) يعني الراوي الساقط من الإسناد في الحديث المرسل.
(7) في (خ): "والمعدل".
(8) في (غ) و (ر): "وأما".
(9) في (خ): "اذابين".
(10) أخرج مسلم في "مقدمة صحيحه" (1/ 15) عن ابن المبارك أنه قال: "الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء".
(11) في (غ) و (ر): "ولا عن متّهم".
(12) في (خ): "إلا عمن تحصل".
(13) في (غ) و (ر): "ليعتمد".
(14) في (غ) و (ر): "وتسند" وفي (م): "ويسند".(2/15)
والأَحاديث الضَّعِيفَةُ الإِسناد لَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهَا، فَلَا يُمْكِنُ أَن يُسْنَدَ إِليها حُكْمٌ، فَمَا ظَنُّكَ بالأَحاديث الْمَعْرُوفَةِ الْكَذِبِ؟
نَعَمْ؛ الْحَامِلُ عَلَى اعْتِمَادِهَا فِي الْغَالِبِ إِنما هُوَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْهَوَى المتَّبع، وَهَذَا كُلُّهُ (1) عَلَى فَرْضِ أَن لَا يُعَارِضَ الْحَدِيثَ أَصل مِنْ أُصول الشَّرِيعَةِ، وأَما إِذا كَانَ لَهُ مُعَارَضٌ فأَحْرَى أَن لا يُؤخذ به؛ لأَن الأَخذ به (2) هَدْمٌ لأَصل مِنْ أُصول الشَّرِيعَةِ، والإِجماع عَلَى مَنْعِهِ إِذا كَانَ صَحِيحًا فِي الظَّاهِرِ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى الْوَهْمِ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ، أَو الغلط (3)، أَو النِّسْيَانِ، فَمَا الظَّنُّ بِهِ إِذا لَمْ يَصِحَّ؟ عَلَى أَنه قَدْ رُوِيَ عَنْ أَحمد بْنِ حَنْبَلٍ أَنه قَالَ: الْحَدِيثُ الضَّعِيفُ خَيْرٌ من القياس (4). وظاهره يقتضي العمل
_________
(1) في (غ) و (ر): "كله إنما هو".
(2) قوله: "لأن الأخذ به" سقط من (خ)، ولذا علق رشيد رضا على قوله "هدم"، فقال: كذا!! ولعل الأصل: "فهو هدم"، أو: "لأنه هدم".
(3) في (خ): "أو الغلط من بعض الرواة".
(4) أخرجه ابن حزم في "المحلى" (1/ 68) من طريق عبد الله بن أحمد، عن أبيه أنه قال: "الحديث الضعيف أحب إلينا من الرأي". وقال ابن الجوزي في "التحقيق" (1/ 143): "ومن مذهب أحمد تقديم الحديث الضعيف على القياس".
وقد علق رشيد رضا رحمه الله بعد هذا الموضع بأسطر بتعليق أخذه عن ابن القيم وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمهما الله، فقال: "قال العلامة ابن القيم في "أعلام الموقعين" عند بيان ترجيح أحمد الحديث الضعيف والمرسل على القياس بشرطه ما نصه: وليس المراد بالضعيف عنده الباطل ولا المنكر، ولا ما في روايته متهم بحيث لا يسوغ الذهاب إليه فالعمل به؛ بل الحديث الضعيف عنده قسيم الصحيح وقسم من أقسام الحسن. ولم يكن يقسم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف، بل إلى صحيح وضعيف، وللضعيف عنده مراتب اهـ.
وسبقه إلى مثله شيخه ابن تيمية رحمهما الله تعالى، فصرح بأن أول من قسم الحديث إلى ثلاثة أقسام: صحيح وحسن وضعيف: الترمذي، وأن الضعيف الذي يرجحه أحمد على الرأي هو الحسن عند الترمذي ومن اختار تقسيمه، كحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وحديث إبراهيم الهجري. فما ضعفوه بعلة تقتضي الترك لا يأخذ به أحمد ولا يرجحه على القياس، وما ضعفوه بعلة من علل الحديث لا تقتضي الترك يأخذ به، ويرجحه على القياس إذا لم يكن ثَمَّ شيء يدفعه من حديث صحيح أو قول صحابي أو إجماع. وهذا الذي يقول به أحمد كان عليه عمل جمهور الفقهاء في عصره الذي تحرر فيه نقد الحديث، أي: لم يكونوا يتركون العمل بكل=(2/16)
بِالْحَدِيثِ غَيْرِ الصَّحِيحِ؛ لأَنَّه قدَّمه عَلَى الْقِيَاسِ الْمَعْمُولِ بِهِ (1) عِنْدَ جُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ هُوَ إِجماع السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. فَدَلَّ عَلَى أَنه عنده أَعلى رتبة في العمل من القياس.
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا: أَنه كَلَامُ مُجْتَهِدٍ يَحْتَمِلُ في (2) اجْتِهَادُهُ الْخَطَأَ وَالصَّوَابَ، إِذ لَيْسَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلٌ يَقْطَعُ الْعُذْرَ، وإِن سُلِّمَ فَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِهِ؛ لإِجماعهم عَلَى طَرْحِ الضَّعِيفِ الإِسناد؛ فَيَجِبُ تأْويله عَلَى أَن يَكُونَ أَراد بِهِ الْحَسَنَ السَّنَدِ وَمَا دَارَ بِهِ (3) ـ على القول بإِعماله ـ. أَو أَراد أَنه (4) "خَيْرٌ مِنَ الْقِيَاسِ" لَوْ كَانَ مأْخوذاً بِهِ، فكأَنه يَرُدُّ الْقِيَاسَ بِذَلِكَ الْكَلَامِ مُبَالَغَةً فِي مُعَارَضَةِ مَنِ اعْتَمَدَهُ أَصلاً حَتَّى ردَّ بِهِ الأَحاديث. وَقَدْ كَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَمِيلُ إِلى نَفْيِ الْقِيَاسِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: مَا زِلْنَا نلعن أَهل الرأْي ويلعنوننا (5)، حتى جاءَ الشافعي فَمَزَجَ (6) بَيْنَنَا. أَو أَراد بِالْقِيَاسِ الْقِيَاسَ الْفَاسِدَ الَّذِي لَا أَصل لَهُ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ وَلَا إِجماع، فَفَضَّلَ عَلَيْهِ الْحَدِيثَ الضَّعِيفَ وإِن لم يعمل به أَيضاً (7). فإِذا أَمكن أَن يُحمل كَلَامُ أَحمد عَلَى مَا يُسَوَّغُ، لَمْ يَصِحَّ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ فِي معارضة كلام الأَئمة رضي الله تعالى عنهم.
_________
=ما أعله المحدثون، بل ما أعلوه بمثل عدم الثقة بأحد رواته. أما من ضعفوه بالتفرد بزيادة في حديث لم يروها من هم أوثق منه فقد يعمل بحديثه؛ لأن زيادة الثقة حجة. وقد قدم أبو حنيفة حديث القهقهة في الصلاة، وحديث الوضوء بنبيذ التمر، وحديث أكثر الحيض؛ على القياس. وقد ذكر الإمام أحمد جماعة من الضعفاء الذين يروي عنهم في "المسند" وذكر أنه يروي عنهم للاعتبار، ولتأييد بعض الروايات ببعض لا للاحتجاج. ومن ذلك قوله في ابن لهيعة: ما كان حديثه بذاك، وما أكتب حديثه إلا للاعتبار به والاستدلال. أنا قد أكتب حديث الرجل كأني أستدل به مع حديث غيره يشتد به، لا أنه حجة إذا انفرد. اهـ.
(1) قوله: "به" ليس في (م).
(2) قوله: "في" ليس في (خ).
(3) كذا في جميع النسخ، وفي هامش (م) كتب بخط يشبه خط الناسخ: "وما قاربه"، وكأنه تصويب، والمعنى متقارب، فالمقارب للحديث الحسن هو الحديث الذي فيه ضعف لم يقطع معه بتركه، وهو معنى قول بعضهم في تعريف الحسن: "هو ما فيه ضعف قريب محتمل"، وهذا بمعنى قوله: "وما دار به"؛ أي: دار في فلكه.
(4) قوله: "أنه" ليس في (خ) و (م).
(5) في (خ) و (م): "ويلعنونا".
(6) في (خ) و (م): "فخرج".
(7) في (خ): "وأيضاً".(2/17)
فإِن قيل: هذاكله ردٌّ على الأَئمة الذي اعْتَمَدُوا عَلَى الأَحاديث الَّتِي لَمْ تَبْلُغْ دَرَجَةَ الصَّحِيحِ، فإِنهم كَمَا نَصُّوا عَلَى اشْتِرَاطِ صِحَّةِ الإِسناد، كَذَلِكَ نَصُّوا أَيضاً (1) عَلَى أَن أَحاديث التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ لَا يُشْتَرَطُ فِي نَقْلِهَا لِلِاعْتِمَادِ عليها (2) صحةُ الإِسناد، بل إِن كان كذلك (3) فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وإِلا فَلَا حَرَجَ عَلَى مَنْ نقلها واستند إِليها، فقد فعله الأَئمة كمالك فِي "الْمُوَطَّأِ"، وَابْنِ الْمُبَارَكِ فِي "رَقَائِقِهِ" (4)، وأَحمد بْنِ حَنْبَلٍ فِي "رَقَائِقِهِ" وَسُفْيَانَ (5) فِي "جَامِعِ الْخَيْرِ"، وَغَيْرِهِمْ.
فَكُلُّ مَا فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْمَنْقُولَاتِ رَاجِعٌ إِلى التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وإِذا جَازَ اعْتِمَادُ مِثْلِهِ، جَازَ فِيمَا كَانَ نَحْوَهُ مما يرجع إِليه؛ كصلاة الرغائب (6)،
_________
(1) في (خ): "كذلك أيضاً نصوا أيضاً".
(2) قوله: "عليها" سقط من (خ) و (م).
(3) في (خ) و (م): "ذلك".
(4) يعني كتابي "الزهد" لابن المبارك وأحمد بن حنبل.
(5) أي: الثوري.
(6) حديث صلاة الرغائب: أخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات" (2/ 436 ـ 438 رقم 1008) من طريق علي بن عبد الله بن جهضم الصوفي، عن علي بن محمد بن سعيد البصري؛ قال: حدثنا أبي؛ قال: حدثنا خلف بن عبد الله ـ وهو الصغاني ـ، عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم: "رجب شهر الله، وشعبان شهري، ورمضان شهر أمتي ... "، وهو حديث طويل، وموضع الشاهد منه قوله: "ولكن لا تغفلوا عن أول ليلة جمعة في رجب، فإنها ليلة تسميها الملائكة: الرغائب، وذلك أنه إذا مضى ثلث الليل لا يبقى ملك في جميع السموات والأرض إلا ويجتمعون في الكعبة وحواليها، ويطلع الله عز وجل عليهم اطلاعة، فيقول: ملائكتي! سلوني ما شئتم، فيقولون: يا ربنا! حاجتنا إليك أن تغفر لصُوّام رجب، فيقول الله عز وجل: قد فعلت ذلك". ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "وما من أحد يصوم يوم الخميس أول خميس في رجب، ثم يصلي فيما بين العشاء والعتمة ـ يعني ليلة الجمعة ـ اثنتي عشرة ركعة، يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة، و {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ *} ثلاث مرات، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ *} اثنتي عشرة مرة، يفصل بين كل ركعتين بتسليمة ... " إلخ.
قال ابن الجوزي عقب إخراجه: "وهذا حديث موضوع على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد اتهموا به ابن جهضم ونسبوه إلى الكذب، وسمعت شيخنا عبد الوهاب الحافظ يقول: رجاله مجهولون، وقد فتشت عليهم جميع الكتب، فما وجدتهم ... " إلخ ما قال.=(2/18)
والمعراج (1)،
_________
=وذكر الحافظ ابن حجر في "لسان الميزان" (5/ 250 رقم 5983) أن أبا موسى المديني أخرجه في "وظائف الأوقات"، ثم قال ـ أي المديني ـ: "غريب لا أعلم أني كتبته إلا من رواية ابن جهضم، ورجاله غير معروفين إلى حميد".
وذكر الذهبي في "الميزان" (3/ 142) أن علي بن عبد الله بن جهضم الزاهد هذا هو المتهم بوضع هذا الحديث.
وقال النووي في "شرح مسلم" (8/ 20) عند شرحه لحديث النهي عن تخصيص يوم الجمعة بصلاة، أو ليلها بصلاة: "واحتج به العلماء على كراهة هذه الصلاة المبتدعة التي تسمى: الرغائب، قاتل الله واضعها ومخترعها؛ فإنها بدعة منكرة من البدع التي هي ضلالة وجهالة، وفيها منكرات ظاهرة".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (23/ 135) بعد أن سئل عن صلاة الرغائب هل هي مستحبة أو لا: "هذه الصلاة لم يصلها رسول الله، ولا أحد من أصحابه، ولا التابعين، ولا أئمة المسلمين، ولا رغّب فيها رسول الله، ولا أحد من السلف، ولا الأئمة ... " إلى أن قال رحمه الله:
"والحديث المروي في ذلك عن النبي كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بذلك، ولهذا قال المحققون: إنها مكروهة غير مستحبة، والله أعلم".
وقال ابن القيم رحمه الله في "المنار المنيف" (ص95 رقم 167): "وكذلك أحاديث صلاة الرغائب ليلة أول جمعة من رجب، كلها كذب مختلق على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم".
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح (11/ 55): " ... فإن أصل صلاة النافلة سنة مرغب فيها، ومع ذلك فقد كره المحققون تخصيص وقت بها دون وقت، ومنهم من أطلق تحريم مثل ذلك؛ كصلاة الرغائب التي لا أصل لها ... ".
(1) صلاة المعراج ـ يعني ليلة سبع وعشرين من رجب ـ: وردت من حديث سلمان الفارسي وأنس ومن قول ابن عباس رضي الله عنهم.
أما حديث سلمان: فأخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (3/ 373 ـ 374 رقم 3811)، وفي "فضائل الأوقات" (ص95 ـ 96 رقم 11)، من طريق خالد بن الهيَّاج، عن أبيه، عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان، عن سلمان الفارسي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "في رجب يوم وليلة، من صام ذلك اليوم وقام تلك الليلة كان كمن صام من الدهر مائة سنة وقام مائة سنة، وهو لثلاث بقين من رجب، وفيه بعث محمد صلّى الله عليه وسلّم". والحديث ضعفه البيهقي.
ومن طريق البيهقي أخرجه ابن حجر في "تبيين العجب" (ص29 ـ 30)، ثم قال: "هذا حديث منكر إلى الغاية، وهيّاج هو ابن بسطام التميمي الهروي، روى عن جماعة من التابعين، وضعفه ابن معين، وقال أبو داود: تركوه، وقال صالح بن محمد الحافظ الملقب بجزرة: الهيَّاج منكر الحديث، لا يكتب من حديثه إلا حديثان=(2/19)
وليلة النصف من شعبان (1)،
_________
=أو ثلاثة للاعتبار، ولم أكن أعلم أنه بكل هذا حتى قدمت هراة، فرأيت عندهم أحاديث مناكير كثيرة له، قال الحاكم أبو عبد الله: وهذه الأحاديث التي رآها صالح من حديث الهيَّاج الذنب فيها لابنه خالد، والحمل فيها عليه. وقال يحيى بن أحمد بن زياد الهروي: كل ما أنكر على الهيَّاج فهو من جهة ابنه خالد".
وذكر الشوكاني هذا الحديث في "الفوائد المجموعة" (ص439 رقم 3) ونقل عن السيوطي أنه قال في "الذيل": "في إسناده هيَّاج، تركوه".
وأما حديث أنس: فأخرجه البيهقي أيضاً في "الشعب" برقم (3812) و"فضائل الأوقات" برقم (12)، من طريق محمد بن الفضل بن عطية، عن أبان، عن أنس، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: "في رجب ليلة يكتب للعامل فيها حسنات مائة سنة، وذلك لثلاث بقين من رجب، فمن صلى فيها اثنتي عشرة ركعة ... " الحديث.
قال ابن حجر في "تبيين العجب" (ص30) عقب حديث سلمان المتقدم: "وروينا قريباً من هذا المتن من حديث أنس بإسناد مظلم رواه البيهقي أيضاً ... " ثم ذكره.
وفي إسناده محمد بن الفضل بن عطية وقد كذبوه كما في "التقريب" (6265). وشيخه أبان بن أبي عياش متروك كما في "التقريب" (143).
وأما حديث ابن عباس: فقد أخرجه ابن حجر في "تبيين العجب" (ص21) من طريق محمد بن زياد اليشكري، عن ميمون بن مهران، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "من صلى ليلة سبع وعشرين من رجب ثنتي عشرة ركعة ... " الحديث.
وفي سنده محمد بن زياد اليشكري الطحّان، الأعور وقد كذبوه كما في "التقريب" (5927).
وقد قال الملا علي القاري في "الأسرار المرفوعة" (ص289): "وكذا صلاة عاشوراء، وصلاة الرغائب موضوع بالاتفاق، وكذا بقية صلوات ليالي رجب، وليلة السابع والعشرين من رجب ... " وقال العجلوني في "كشف الخفاء" (2/ 421): "وباب صلاة الرغائب، وصلاة نصف شعبان، وصلاة نصف رجب، وصلاة الإيمان، وصلاة ليلة المعراج، وصلاة ليلة القدر، وصلاة كل ليلة من رجب، وشعبان، ورمضان، وهذه الأبواب لم يصح فيها شيء أصلاً".
(1) حديث قيام ليلة النصف من شعبان: ورد من حديث علي وابن عمر ومعاذ بن جبل وأبي هريرة وأنس بن مالك رضي الله عنهم، ومرسل محمد بن علي الباقر رحمه الله.
أما حديث علي رضي الله عنه: فله عنه ثلاث طرق:
1 ـ الطريق الأولى: أخرجها ابن ماجه (1388)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (3822)، والفاكهي في "أخبار مكة" (1837)، جميعهم من طريق ابن أبي سبرة، عن إبراهيم بن محمد، عن معاوية بن عبد الله بن جعفر، عن أبيه، عن علي بن=(2/20)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
_________
=أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "إذا كانت ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها، وصوموا نهارها، فإن الله ينزل فيها لغروب الشمس إلى سماء الدنيا ... " الحديث.
وفي سنده ابن أبي سبرة، وهو أبو بكر بن عبد الله بن محمد بن أبي سبرة، وقد رموه بالوضع كما في التقريب (8030)، فالحديث موضوع من طريقه.
2 ـ الطريق الثانية: أخرجها ابن الجوزي في "الموضوعات" (2/ 440 رقم 1010) من طريق علي بن الحسن، عن سفيان الثوري، عن ليث، عن مجاهد، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: "يا علي! من صلى مائة ركعة في ليلة النصف من شعبان ... " الحديث بطوله.
وقد حكم عليه ابن الجوزي بالوضع، وأعلّه بجهالة بعض رواته وضعف بعضهم، وأقره السيوطي في "اللآلئ" (2/ 57 ـ 59).
وقال الذهبي في "تلخيص الموضوعات" (ص185 ـ 186 رقم 435): "والظاهر أنه من وضع علي هذا"، يعني علي بن الحسن بن يعمر السامي الراوي لهذا الحديث عن سفيان الثوري، فإنه ذكر الحديث في ترجمته في "ميزان الاعتدال" (3/ 119 ـ 120) وقال: "وهو باطل، وهو على هذا في عداد المتروكين عفا الله عنه"، وكان قد نقل عن ابن حبان قوله في علي هذا: "لا يحلّ كتب حديثه إلا على جهة التعجب". ونقل الحافظ ابن حجر في "اللسان" (5/ 211 ـ 212) عن الدارقطني قوله: "مصري يكذب يروي عن الثقات البواطيل".
3 ـ الطريق الثالثة: أخرجها البيهقي في "شعب الإيمان" (3/ 386 ـ 387 رقم 3841)، وابن الجوزي في "الموضوعات" (2/ 444 ـ 445 رقم 1014)، كلاهما من طريق عثمان بن سعيد بن كثير، عن محمد بن المهاجر، عن الحكم بن عتيبة، عن إبراهيم؛ قال: قال علي: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة النصف من شعبان قام فصلى أربع عشرة ركعة ... الحديث.
قال البيهقي: "يشبه أن يكون هذا الحديث موضوعاً، وهو منكر، وفي [رواته]ـ مثل عثمان بن سعيد ـ مجهولون".
وقال ابن الجوزي: "وهذا موضوع أيضاً، وإسناده مظلم، وكأن واضعه يكتب من الأسماء ما يقع له، ويذكر قوماً ما يعرفون، وفي الإسناد محمد بن مهاجر، قال ابن حبان: يضع الحديث".
وقال الذهبي في "تلخيص الموضوعات" (ص186 رقم 438): "إسناده مظلم، وفيه كذاب".
وأما حديث ابن عمر: فأخرجه ابن الجوزي أيضاً برقم (1011) من طريق الحسين بن إبراهيم، قال: أنبأنا محمد بن جابان المذكِّر ... ، فساقه بسنده إلى يزيد بن محمد،=(2/21)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
_________
=عن أبيه محمد بن مروان، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "من قرأ ليلة النصف من شعبان ألف مرّة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ *} في مائة ركعة ... " الحديث.
وأعله ابن الجوزي بأن في رواته مجاهيل، وقال الذهبي في "تلخيص الموضوعات" (ص186 رقم 436): "وهذا من عمل الحسين بن إبراهيم أو شيخه، والإسناد ظلمة" وتعقب السيوطي في "اللآلئ" (2/ 59) ابن الجوزي بطريق أخرجها الديلمي من طريق محمد بن عبد الرحمن العرزمي، عن عمرو بن ثابت، عن محمد بن مروان الذهلي، عن أبي يحيى قال: حدثني أربعة وثلاثون من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم؛ قالوا: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فذكر مثله سواء.
وهذا حديث موضوع أيضاً. فمحمد بن عبد الرحمن العرزمي قال عنه الدارقطني: "متروك الحديث" كما في "لسان الميزان" (6/ 319)، وعمرو بن ثابت الحداد رافضي متروك، وقد فصّلت القول فيه في "سنن سعيد بن منصور" (2/ 540)، ومحمد بن مروان الذهلي قال عنه الذهبي في "الميزان" (4/ 33): "لا يكاد يعرف"، وأبو يحيى لم أعرفه، ولا أظنه القتّات.
وأما حديث معاذ بن جبل: فأخرجه الأصبهاني في "الترغيب والترهيب" (1/ 248 ـ 249 رقم 374) من طريق سويد بن سعيد، ثنا عبد الرحمن بن زيد، عن أبيه، عن وهب بن منبه، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "من أحيا الليالي الخمس وجبت له الجنة: ليلة التروية، وليلة عرفة، وليلة النحر، وليلة النصف من شعبان"، ولم يذكر الخامسة.
وأخرجه نصر المقدسي في "جزء من الأمالي" ـ كما في "السلسلة الضعيفة" (522) للشيخ الألباني ـ، وذكر أن الليالي أربع، وذكر ليلة الفطر بدل ليلة النصف من شعبان.
وفي إسناد الأصبهاني تصحيف في موضعين:
الأول: قوله: "عبد الرحمن بن زيد"، والصواب: "عبد الرحيم بن زيد" كما في إسناد المقدسي.
الثاني: تصحف فيه "وهب" إلى: "دهب".
والحديث ضعيف جداً؛ فيه ثلاث علل:
1 ـ سويد بن سعيد الحدثاني ضعيف، وفي "التقريب" (2705): "صدوق في نفسه، إلا أنه عمي، فصار يتلقن ما ليس من حديثه، فأفحش فيه ابن معين القول".
2 ـ عبد الرحيم بن زيد العَمِّي متروك، كذبه ابن معين كما في "التقريب" (4083).
3 ـ زيد بن الحواري العَمِّي ضعيف كما في "التقريب" (2143). وقد حكم عليه الشيخ الألباني ـ في الموضع السابق ـ بالوضع.
وأما حديث أبي هريرة: فأخرجه ابن الجوزي (2/ 443 ـ 444 رقم 1013) من طريق=(2/22)
وَلَيْلَةِ أَول جُمْعَةٍ مِنْ رَجَبٍ (1)، وَصَلَاةِ الإِيمان (2) والأُسبوع (3)، وصلاة بر
_________
=بقيّة بن الوليد، عن ليث بن أبي سليم، عن القعقاع بن شور الشيباني، عن أبي هريرة، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: "من صلى ليلة النصف من شعبان ثنتي عشرة ركعة ... " الحديث.
قال ابن الجوزي: "وهذا موضوع أيضاً، وفيه جماعة مجهولون، وقبل أن نصل إلى بقية وليث وهما ضعيفان، فالبلاء ممن قبلهم".
وأقرّه عليه السيوطي في "اللآلئ" (2/ 59).
وقال الذهبي في "تلخيص الموضوعات" (ص186 رقم 437): "وإسناده ظلمات إلى بقية".
وأما حديث أنس بن مالك: فيرويه محمد بن سعيد الميلي، عن محمد بن عمرو البجلي، عن النضر بن شميل، عن شعيب بن عبد الملك، عن الحسن البصري، عن أنس مرفوعاً: "من صلى ليلة النصف من شعبان خمسين ركعة ... " فذكر حديثاً طويلاً في فضل من صلى هذه الركعات في تلك الليلة.
رواه ابن ناصر كما في "ميزان الاعتدال" للذهبي (3/ 565 ـ 566)، وقد أعله الذهبي بمحمد بن سعيد الميلي، فقال: "لا يُدرى من هو"، وقال عن شيخه محمد بن عمرو البجلي: "مجهول مثله".
ثم قال الذهبي: "فقبّح الله من وضعه! فلقد فاه من الكذب والإفك ما لا يوصف ... ، فما أتعجَّب إلا من قلّة ورع ابن ناصر، كيف روى هذا وسكت عن توهينه؟ فإنا لله! ".
وأما مرسل محمد بن علي الباقر: فأخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات" (2/ 442 ـ 443 رقم 1012) من طريق جعفر بن محمد، عن أبيه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "من قرأ ليلة النصف من شعبان ألف مرة قل هو الله أحد في مائة ركعة ... " الحديث.
وفي سنده إلى جعفر عدة مجاهيل، ولذلك عقَّب عليه ابن الجوزي وعلى حديثي علي وابن عمر بقوله: "هذا الحديث لا يُشك في أنه موضوع، وجمهور رواته في الطرق الثلاثة مجاهيل، وفيهم ضعفاء بمرة ... " إلخ ما قال.
(1) قوله: "وليلة أول جمعة من رجب": هي صلاة الرغائب التي تقدم تخريجها.
(2) لم أجد فيها شيئاً.
(3) صلاة الأسبوع: هي عدة أحاديث ذكرها ابن الجوزي في الموضوعات (2/ 417 ـ 428 رقم 993 ـ 1001) في فضل صلاة ليلة السبت ويومه، والأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة، وحكم عليها بالوضع، واتهم بها الحسين بن إبراهيم وغيره.
وذكرها ابن القيم في "المنار المنيف" (ص48 ـ 49)، وقال: "واستمرَّ هذا الكذاب=(2/23)
الوالدين (1) ويوم عاشوراء (2)، وصيام رجب (3)،
_________
=الخبيث على حديث طويل فيه من هذه المجازفات، وهو من عمل الحسين بن إبراهيم؛ كذاب يروي عن محمد بن طاهر، ووضع من هذا الضرب أحاديث صلاة يوم الأحد، وليلة الأحد، وصلاة يوم الاثنين، وليلة الاثنين، ويوم الثلاثاء، وليلة الثلاثاء، وهكذا في سائر أيام الأسبوع ولياليه".
وقال في موضع آخر (ص95): "ومنها: أحاديث صلوات الأيام والليالي؛ كصلاة يوم الأحد، وليلة الأحد، ويوم الاثنين، وليلة الاثنين ... ، إلى آخر الأسبوع، كل أحاديثها كذب". وانظر: "اللآلئ المصنوعة" (2/ 48 ـ 52)، و"تلخيص الموضوعات" (ص180 ـ 183 رقم 418 ـ 426)، و"الفوائد المجموعة" (ص44 ـ 46 رقم 87 ـ 102).
(1) لم أجد فيها شيئاً.
(2) حديث صلاة يوم عاشوراء: أخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات" (2/ 433 رقم 1005) من طريق الحسين بن إبراهيم بإسناده إلى محمد بن سهل، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "من صلى يوم عاشوراء ما بين الظهر والعصر أربعين ركعة ... " الحديث.
قال ابن الجوزي: "وهذا موضوع، وكلمات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منزهة عن هذا التخليط، والرواة مجاهيل، والمتهم به الحسين". وأقرّه الذهبي في "تلخيص الموضوعات" (ص184 رقم 430)، والسيوطي في "اللآلئ" (2/ 54 ـ 55).
وأخرج ابن الجوزي قبله (2/ 432 رقم 1004) حديثاً من طريق العشاري، بسنده إلى عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "من أحيا ليلة عاشوراء فكأنما عَبَدَ الله تعالى بمثل عبادة أهل السموات ... " الحديث، ثم قال: "هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد أُدخل على بعض المتأخرين من أهل الغفلة، على أن عبد الرحمن بن أبي الزناد مجروح؛ قال أحمد: هو مضطرب الحديث، وقال يحيى: لا يحتجّ به".
ثم أعاده بطوله (2/ 567 ـ 569 رقم 1140) وحكم عليه بالوضع ونقد متنه.
والذي يظهر أن ابن أبي الزناد بريء من عهدته، والحمل فيه على أبي طالب العشاري محمد بن علي بن الفتح، فقد قال عنه الذهبي في "ميزان الاعتدال" (3/ 656): "شيخ صدوق معروف، لكن أدخلوا عليه أشياء، فحدّث بها بسلامة باطن، منها حديث موضوع في فضل ليلة عاشوراء".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "منهاج السنة" (7/ 433): "وليس في عاشوراء حديث صحيح غير الصوم، وكذلك ما يروى في فضل صلوات معينة فيه، فهذا كله كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة، ولم ينقل هذه الأحاديث أحد من أئمة أهل العلم في كتبهم".
(3) حديث صيام رجب: أخرجه أبو الفضل محمد بن ناصر في "أماليه" كما في "تبيين العجب" (ص13 ـ 15)، وابن الجوزي في "الموضوعات" (2/ 576 رقم 1147)،=(2/24)
والسابع والعشرين مِنْهُ (1)، وَمَا أَشبه ذَلِكَ، فإِن جميعَها رَاجِعٌ إِلى التَّرْغِيبِ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَالصَّلَاةُ عَلَى الْجُمْلَةِ ثابتٌ أَصلها، وَكَذَلِكَ الصِّيَامُ وَقِيَامُ اللَّيْلِ، كُلُّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلى خيرٍ نُقلت فضيلتُه عَلَى الْخُصُوصِ.
وإِذا ثَبَتَ هَذَا فَكُلُّ مَا نُقلت فضيلتُه فِي الأَحاديث فَهُوَ مِنْ بَابِ الترغيب، فلا يلزم فيه ـ بشهادة (2) أَهل الحديث ـ صحّة (3) الإِسناد، بخلاف أَحاديث (4) الأَحكام.
_________
=كلاهما من طريق أبي بكر محمد بن الحسن النقاش، عن أبي عمرو أحمد بن العباس الطبري؛ قال: حدثنا الكسائي؛ قال: حدثنا أبو معاوية؛ قال: حدثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: "رجب شهر الله، وشعبان شهري، ورمضان شهر أمتي، فمن صام رجب إيماناً واحتساباً استوجب رضوان الله الأكبر ... " الحديث بطوله، واللفظ لابن الجوزي.
قال ابن ناصر: "وهذا حديث غريب عالٍ من حديث أبي معاوية الضرير، عن الأعمش، وهو غريب من حديث علقمة عن أبي سعيد، تفرد به أبو عمرو الطبري، ولا يعرف إلا من روايته، ولم نسمعه إلا من رواية أبي بكر النقاش عنه".
وتعقبه الحافظ ابن حجر بقوله: "هذا الكلام لا يليق بأهل النقد، وكيف يروج مثل هذا الباطل على ابن ناصر مع تحققه بأن النقاش وضاع دجال ـ نسأل الله العافية ـ، فوالله! ما حدث أبو معاوية ولا من فوقه بشيء من هذا قط، وليس الكسائي علي بن حمزة المقدسي النحوي، فقد جزم بأنه غيره الإمام أبو الخطاب ابن دحية، فقال: الكسائي المذكور لا يدرى من هو. وقال بعد أن أخرج الحديث: هذا موضوع".
وكان ابن حجر قد قال قبل ذكره للحديث: "وورد في فضل رجب من الأحاديث الباطلة أحاديث لا بأس بالتنبيه عليها لئلا يُغترّ بها ... ".
وقال ابن الجوزي عقب الحديث: "هذا حديث موضوع على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والكسائي لا يعرف، والنقاش مُتّهم".
وأقره السيوطي في "اللآلئ" (2/ 114 ـ 115)، وابن عراق في "تنزيه الشريعة" (2/ 151 ـ 152).
وقال الذهبي في "تلخيص الموضوعات" (ص208 رقم 507): "رواه أبو بكر النقاش وهو مُتّهم ... ، وهذا الكسائي لا يعرف".
وقد ذكر ابن الجوزي وابن حجر أحاديث أخرى في فضل صيام بعض أيام من رجب، وبينا عللها.
(1) وهو داخل في حديث صلاة المعراج التي تقدم الكلام عنها.
(2) في (خ) و (م): "شهادة".
(3) في (خ): "بصحة".
(4) قوله: "أحاديث" ليس في (خ) و (م).(2/25)
فإِذاً هذا الوجه من الاستدلال من طرق (1) الراسخين، لا من طرق (1) الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ، حَيْثُ فَرَّقُوا (2) بَيْنَ أَحاديث الأَحكام فَاشْتَرَطُوا فِيهَا الصِّحَّةَ، وَبَيْنَ أَحاديث التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ فَلَمْ يَشْتَرِطُوا فِيهَا ذَلِكَ.
فَالْجَوَابُ: أَن مَا ذَكَرَهُ علماءُ الْحَدِيثِ مِنَ التَّسَاهُلِ في أَحاديث الترغيب والترهيب (3) لا ينتظم مسأَلتنا (4) المفروضة، بيانه (5): أَن الْعَمَلَ المتكلَّم فِيهِ إِما أَن يَكُونَ مَنْصُوصًا عَلَى أَصله جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، أَو لَا يَكُونُ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ لَا جُمْلَةً (6) وَلَا تَفْصِيلًا، أَو يَكُونُ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ جُمْلَةً لَا تَفْصِيلًا.
فالأَول: لَا إِشكال فِي صِحَّتِهِ، كَالصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ (7)، وَالنَّوَافِلِ الْمُرَتِّبَةِ لأَسباب وَغَيْرِ أَسباب (8)، وَكَالصِّيَامِ الْمَفْرُوضِ (9)، أَو الْمَنْدُوبِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَعْرُوفِ، إِذَا فُعِلَتْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي نُصَّ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ زيادة ولا
_________
(1) في (خ): "طريق".
(2) أي: الراسخون في العلم.
(3) مَا ذَكَرَهُ عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ مِنَ التَّسَاهُلِ فِي أحاديث الترغيب والترهيب يعني قول كثير منهم: "إذا روينا في الثواب والعقاب وفضائل الأعمال تساهلنا في الأسانيد وتسامحنا في الرجال، وإذا روينا في الحلال والحرام والأحكام تشددنا في الأسانيد وانتقدنا الرجال"، وردت هذه العبارة عن عبد الرحمن بن مهدي كما في "المستدرك" للحاكم (1/ 490)، و"دلائل النبوة" للبيهقي (1/ 34). وورد معناها عن يحيى القطان، وابن المبارك، والإمام أحمد كما في "دلائل النبوة" (1/ 35 ـ 38)، و"النكت على كتاب ابن الصلاح" (2/ 888)، و"تدريب الراوي" (1/ 298)، وقد علق رشيد رضا رحمه الله على هذا الموضع بقوله: "نذكر هنا ما شرطه المحدثون لجواز العمل بالضعيف في الترغيب والترهيب. قال الحافظ السخاوي في القول البديع ـ بعد ذكر المسألة وخلاف القاضي أبي بكر ابن العربي فيها إذ جزم بعدم جواز العمل بالضعيف مطلقاً ـ؛ قال: وقد سمعت شيخنا (أي الحافظ ابن حجر) مراراً يقول وكتبه لي بخطه: إن شرائط العمل بالضعيف ثلاثة: الأول: متفق عليه؛ أن يكون الضعف غير شديد. فيخرج من انفرد من الكذابين والمتهمين بالكذب، ومن فحش غلطه. الثاني: أن يكون مندرجاً تحت أصل عام، فيخرج ما يخترع بحيث لا يكون له أصل أصلاً. الثالث: أن لا يعتقد عند العمل به ثبوته، لئلا ينسب إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم ما لم يقله. قال: والأخيران عن ابن عبد السلام وعن صاحبه ابن دقيق العيد، والأول نقل العلائي الاتفاق عليه" اهـ.
(4) في (خ): "مع مسألتنا".
(5) في (خ): "وبيانه".
(6) في (غ) و (ر): "منصوصا عليه جملة".
(7) في (غ): "المفروضة".
(8) في (خ): "وغيرها" بدل "وغير أسباب".
(9) في (خ): "المفرض".(2/26)
نُقْصَانٍ؛ كَصِيَامِ عَاشُورَاءَ (1)، أَو يَوْمَ (2) عَرَفَةَ (3)، وَالْوَتَرِ بَعْدَ نَوَافِلَ اللَّيْلِ (4)، وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ (5). فَالنَّصُّ جاءَ فِي هَذِهِ الأَشياء صَحِيحًا عَلَى مَا شَرَطُوا، فَثَبَتَتْ (6) أَحكامها مِنَ الْفَرْضِ وَالسُّنَّةِ وَالِاسْتِحْبَابِ، فإِذا ورد في مثلها أَحاديثُ تُرَغِّب (7) فيها، أَو تحذِّر (8) مِنْ تَرْكِ الْفَرْضِ مِنْهَا، وَلَيْسَتْ بَالِغَةً مَبْلَغَ الصِّحَّة، وَلَا هِيَ أَيضاً مِنَ الضَّعْف بِحَيْثُ لَا يَقْبَلُهَا أَحد، أَو كَانَتْ مَوْضُوعَةً لَا يَصِحُّ الِاسْتِشْهَادُ بِهَا، فَلَا بأْس بِذِكْرِهَا وَالتَّحْذِيرِ بِهَا وَالتَّرْغِيبِ، بَعْدَ ثُبُوتِ أَصلها مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ.
وَالثَّانِي: ظَاهِرٌ أَنه غَيْرُ صَحِيحٍ، وَهُوَ عين البدعة؛ لأَنه لا يرجع إِلاَّ إِلى مجرد (9) الرأْي الْمَبْنِيّ على الهوى، وهو أَبْعَدُ (10) البدع وأَفحشها؛
_________
(1) أخرج مسلم في "صحيحه" (1162) من حديث أبي قتادة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلّم قال: "وصيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفّر السنة التي قبله".
وأمر صلّى الله عليه وسلّم بصيامه في حديثي ابن عباس وأبي موسى رضي الله عنهما عند البخاري (2004 و2005).
(2) في (غ) و (ر): "ويوم".
(3) جاء في حديث أبي قتادة السابق عند مسلم أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: "صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده".
(4) ورد في الحث على الوتر بعد نوافل الليل أحاديث كثيرة، حتى لقد أفرد البخاري في "صحيحه" كتاباً خاصاً بالوتر وأحكامه، ومن جملة ما أخرج فيه: حديث ابن عمر برقم (990): أن رجلاً سأل رسول الله (ص) عن صلاة الليل، فقال: "صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلَّى".
وأخرجه مسلم برقم (749).
(5) ورد في مشروعية الصلاة عند كسوف الشمس عدة أحاديث، حتى لقد أفرد لها البخاري ومسلم كتابين مستقلين في "صحيحيهما"، وأخرجا فيهما عدة أحاديث، منها: حديث المغيرة بن شعبة؛ قال: كسفت الشمس على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم مات إبراهيم، فقال الناس: كسفت الشمس لموت إبراهيم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "إن الشمس والقمر لا تنكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم فصلوا وادعوا الله"، أخرجه البخاري برقم (1043)، ومسلم برقم (915).
(6) في (م): "فثبت".
(7) في (خ) و (م): "ترغيب".
(8) في (خ): "أو تحذير".
(9) في (خ): "إلا لمجرد".
(10) في (خ): "أبدع".(2/27)
كالرَّهْبَانيَّة المنْفِيَّة عَنِ الإِسلام (1)، والخِصَاء لِمَنْ خَشِيَ العَنَت (2)، والتعبُّد بِالْقِيَامِ فِي الشَّمس (3)، أَو بالصَّمْتِ مِنْ غَيْرِ كَلَامِ أَحد (4)، فَالتَّرْغِيبُ فِي مِثْلِ هَذَا لَا يَصِحُّ؛ إِذ لَا يُوجَدُ فِي الشَّرْعِ، وَلَا أَصل لَهُ يُرَغَّب فِي مِثْلِهِ، أَو يحذَّر من مخالفته.
_________
(1) قوله: كالرهبانية المنفية عن الإسلام: يدل عليها قوله تعالى في الآية (27) من سورة الحديد: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ}. وسيأتي تخريجه بلفظ: "لا رهبانية في الإسلام" (ص212) من هذا المجلد.
وأخرج أبو داود في "سننه" (4868)، وأبو يعلى في "مسنده" (3694) من طريق عبد الله بن وهب، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء؛ أن سهل بن أبي أمامة حدثه: أنه دخل هو وأبوه على أنس بن مالك بالمدينة، فقال أنس: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقول: "لا تشددوا على أنفسكم فيشدَّد عليكم، فإن قوماً شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات، {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ}.
وسنده ضعيف؛ تفرد به سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء، ولم أجد مَنْ وثقه، سوى أن ابن حبان ذكره في "ثقاته" (6/ 354)، ولذلك قال الحافظ في "التقريب" (2366): "مقبول" والحديث ضعفه الشيخ الألباني في "ضعيف الجامع" (6232) وانظر ما سيأتي (ص201 ـ 202).
(2) أخرج البخاري في صحيحه (8/ 276 رقم 4615) كتاب التفسير، باب لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم.
من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كنا نغزو مع النبي صلّى الله عليه وسلّم وليس معنا نساء، فقلنا: ألا نختصي؛ فنهانا عن ذلك، فرخص لنا بعد ذلك أن نتزوج المرأة بالثوب، ثم قرأ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ}. [المائدة: 87].
(3) أخرج البخاري في "صحيحه" (6704) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما؛ قال: بينا النبي صلّى الله عليه وسلّم يخطب؛ إذا هو برجل قائم، فسأل عنه، فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: "مره فليتكلم، وليستظل، وليقعد وليتمّ صومه".
قال ابن خزيمة في صحيحه (3/ 352) بعد أن أشار إلى الحديث: "فأمره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالوفاء بالصوم الذي هو طاعة، وترك القيام في الشمس، وإن كان القيام في الشمس ليس بمعصية، إلا أن يكون فيه تعذيب، فيكون حينئذٍ معصية".
(4) أخرج البخاري في "صحيحه" (3834) من حديث قيس بن أبي حازم؛ قال: دخل أبو بكر على امرأة من أحْمَسَ يقال لها: زينب، فرآها لا تكلَّم، فقال: ما لها لا تكلم؟ قالوا: حجَّت مُصْمِتَةً، قال لها: تكلمي، فإن هذا لا يحلّ، هذا من عمل الجاهلية، فتكلمت ... ، الحديث.(2/28)
وَالثَّالِثُ: رُبَّمَا يَتَوَهَّمُ أَنه كالأَول؛ مِنْ جِهَةِ أَنه إِذا ثَبَتَ أَصل عِبَادَةٍ فِي الْجُمْلَةِ، فيُسْتَسْهَلُ (1) فِي التَّفْصِيلِ نَقْلُهُ مِنْ طَرِيقٍ غَيْرِ مُشْتَرَطِ الصِّحَّةِ. فَمُطْلَقُ التنفُّل (2) بِالصَّلَاةِ مَشْرُوعٌ، فإِذا جَاءَ تَرْغِيبٌ فِي صَلَاةِ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ (3) فَقَدْ عَضَّدَهُ أَصل التَّرْغِيبِ فِي صَلَاةِ النَّافِلَةِ. وكذلك إِذا ثبت أَصل صيام النافلة (4)، ثَبَتَ صِيَامُ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ (5)، وَمَا أَشبه ذَلِكَ. وَلَيْسَ كَمَا توهَّموا؛ لأَن الأَصل إِذا ثَبَتَ فِي الْجُمْلَةِ لَا يَلْزَمُ إِثباته فِي التَّفْصِيلِ، فإِذا ثَبَتَ مُطْلَقُ الصَّلَاةِ لَا يلزم منه إِثبات الظهر أَو العصر (6) أَو الْوَتَرِ أَو غَيْرِهَا حَتَّى يُنَصّ عَلَيْهَا عَلَى الْخُصُوصِ، وَكَذَلِكَ إِذا ثَبَتَ مُطْلَقُ الصِّيَامِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ إِثبات صَوْمِ رَمَضَانَ أَو عَاشُورَاءَ أَو شَعْبَانَ أَو غَيْرِ ذَلِكَ، حَتَّى يثبت التفصيل (7) بِدَلِيلٍ صَحِيحٍ، ثُمَّ يَنْظُرَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَحاديث التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ بِالنِّسْبَةِ إِلى ذَلِكَ الْعَمَلِ الْخَاصِّ الثَّابِتِ بِالدَّلِيلِ الصَّحِيحِ.
وَلَيْسَ فِيمَا ذَكَرَ فِي السُّؤَالِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، إِذ لَا ملازمة بين ثبوت التنفُّل الليلي أَو النهاري (8) فِي الْجُمْلَةِ، وَبَيْنَ قِيَامِ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ بِكَذَا وَكَذَا رَكْعَةٍ، يقرأُ فِي كُلِّ رَكْعَةِ مِنْهَا بِسُورَةِ (9) كَذَا عَلَى الْخُصُوصِ كَذَا وَكَذَا مَرَّةٍ. وَمَثْلُهُ صِيَامُ الْيَوْمِ الْفُلَانِيِّ مِنَ الشَّهْرِ الْفُلَانِيِّ، حَتَّى تَصِيرَ تِلْكَ الْعِبَادَةُ مَقْصُودَةً عَلَى الْخُصُوصِ، لَيْسَ فِي شيءٍ مِنْ ذَلِكَ مَا يَقْتَضِيهِ مطلقُ شَرْعِيَّةِ التنفُّل بِالصَّلَاةِ أَو الصِّيَامِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ: أَن تَفْضِيلَ يَوْمٍ مِنَ الأَيام أَو زَمَانٍ مِنَ الأَزمنة بِعِبَادَةٍ مَا يَتَضَمَّنُ حُكْمًا شَرْعَيًّا فِيهِ عَلَى الْخُصُوصِ، كما ثبت لعاشوراء مثلاً
_________
(1) في (خ): "فيسهل".
(2) في (غ): "التنفيل".
(3) تقدم تخريجه (ص20).
(4) قوله: "النافلة" ليس في (خ)، و (م).
(5) انظر ما تقدم (ص19).
(6) في (خ): "والعصر".
(7) في (خ) و (م): "بالتفصيل".
(8) في (خ): "الليلي والنهاري" وفي (م): "أو النهار".
(9) في (غ) و (ر): "سور".(2/29)
أَو لِعَرَفَةَ (1)، أَو لِشَعْبَانَ (2) مزيَّةٌ عَلَى مُطْلَقِ التَّنَفُّلِ بِالصِّيَامِ، فإِنه ثَبَتَ لَهُ (3) مَزِيَّةٌ عَلَى الصِّيَامِ فِي مُطْلَقِ الأَيام. فَتِلْكَ الْمَزِيَّةُ اقْتَضَتْ مَرْتَبَةً فِي الأَحكام أَعلى مِنْ غَيْرِهَا، بِحَيْثُ (4) لا تفهم (5) من مطلق مشروعية الصيام (6) النَّافِلَةِ؛ لأَن مُطْلَقَ الْمَشْرُوعِيَّةِ يَقْتَضِي أَن الْحَسَنَةَ فيه (7) بِعَشْرِ أَمثالها، إِلى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ (8) فِي الْجُمْلَةِ، وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ يَقْتَضِي أَنه يُكَفِّرُ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ (9)، فَهُوَ (10) أَمر زَائِدٌ عَلَى مُطْلَقِ الْمَشْرُوعِيَّةِ، وَمَسَاقُهُ يُفِيدُ لَهُ مزيَّة فِي الرُّتْبَةِ، وَذَلِكَ رَاجِعٌ إِلى الْحُكْمِ.
فإِذاً هَذَا التَّرْغِيبُ الخاص يقتضي مرتبة في نوع الْمَنْدُوبِ (11) خَاصَّةً، فَلَا بُدَّ مِنْ رُجُوعِ إِثبات الحكم إِلى الأَحاديث الصحيحة بناءً عل قَوْلِهِمْ: "إِن الأَحكام لَا تُثْبَتُ إِلا مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ" (12)، وَالْبِدَعُ الْمُسْتَدَلُّ عَلَيْهَا بِغَيْرِ الصَّحِيحِ لا بد فيها من زيادة (13) على المشروعات؛ كالتقييد بزمان مّا،
_________
(1) تقدم في (ص27) تخريج ما ورد في فضل عاشوراء وعرفة.
(2) أخرج البخاري في "صحيحه" (1969)، ومسلم (1156/ 175) من حديث عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ: لَا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نقول: لا يصوم. وما رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم استكمل صيام شهر إلا رمضان، وما رأيته أكثر صياماً منه في شعبان.
(3) في (غ): "فيه".
(4) في (غ): "من بحيث"، وكأنه ضرب على "من".
(5) في (م): "لا نفهم".
(6) في (خ): "الصلاة".
(7) قوله: "فيه" ليس في (خ).
(8) أخرج البخاري (7501)، ومسلم (128) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله: إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها، فإذا عملها فاكتبوها بمثلها، وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة، وإذا أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة، فإذا عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها، إلى سبعمائة".
(9) تقدم في (ص27) تخريج ما ورد في فضل صيام عاشوراء.
(10) في (غ) و (ر): "فهذا".
(11) في (خ): "من المندوب".
(12) تقدم هذا القول (ص26) والتعليق عليه.
(13) في (خ): "الزيادة".(2/30)
أَو عدد ما، أَو كيفية ما (1)، فيلزم أَن تكون (2) أَحكام تلك الزيادة (3) ثَابِتَةً بِغَيْرِ الصَّحِيحِ، وَهُوَ نَاقِضٌ لِمَا أَسَّسَهُ (4) العلماءُ.
وَلَا يُقَالُ: إِنهم يُرِيدُونَ أَحكام الْوُجُوبِ وَالتَّحْرِيمِ فَقَطْ؛ لأَنا (5) نَقُولُ: هَذَا تَحَكُّمٌ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، بَلِ الأَحكام خَمْسَةٌ. فَكَمَا لَا يثبت الوجوب إِلا بالصحيح، كذلك الندب (6) والإِباحة وغيرهما (7) لا تثبت (8) إِلا بِالصَّحِيحِ (9)، فإِذا ثَبَتَ الْحُكْمُ فَاسْتَسْهِلْ (10) أَن يَثْبُتَ فِي أَحاديث التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَلَا عَلَيْكَ.
فَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ: كُلُّ مَا رُغِّب (11) فِيهِ إِن ثبت حكمه أو مرتبته في المشروعات من طريق صحيح، فالترغيب (12) بِغَيْرِ الصَّحِيحِ مُغْتَفَر، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ التَّرْغِيبِ، فَاشْتَرِطِ الصِّحَّةَ أَبَدًا، وَإِلَّا (13) خَرَجْتَ عَنْ طَرِيقِ الْقَوْمِ الْمَعْدُودِينَ فِي أَهْلِ الرسوخ. فلقد غلط في هذا الْمَكَانِ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ يُنسب إِلَى الْفِقْهِ، وَيَتَخَصَّصُ عَنِ الْعَوَامِّ بِدَعْوَى رُتْبَةِ الخَوَاصّ. وَأَصْلُ هَذَا الغلط: عدم فهم معنى (14) كلام المحدِّثين في الموضعين، وبالله التوفيق.
_________
(1) في (خ): "بزمان أو عدد أو كيفية ما"، وفي (م): "بزمان أو عدد ما أو كيفية ما".
(2) في (خ) و (م): "يكون".
(3) في (خ) و (م): "الزيادات".
(4) في (خ) و (م): "ناقض إلى ما أسسه".وعلق عليه رشيد رضا بقوله: الظاهر أن يقال: "لما".اهـ.
(5) في (م): "لا".
(6) في (غ) و (ر): "المندوب".
(7) في (غ) و (ر): "وغيرها".
(8) في (م): "لا يثبت".
(9) من قوله: "كذلك الندب ... " إلى هنا سقط من (خ).
(10) في (خ): "فاشتهل".
(11) في (غ) و (ر): "كل مرغب".
(12) علق رشيد رضا هنا بقوله: لعله سقط من هنا لفظ "فيه".
(13) في (غ) و (ر): "وإن" بدل: "وإلا".
(14) قوله: "معنى" من (غ) و (ر).(2/31)
فَصْلٌ
وَمِنْهَا ضِدُّ هَذَا؛ وَهُوَ رَدُّهم لِلْأَحَادِيثِ التي جاءت (1) غير موافقة لأغراضهم ومذاهبم، وَيَدَّعُونَ أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِلْمَعْقُولِ (2)، وغيرُ جاريةٍ عَلَى مُقْتَضَى الدَّلِيلِ، فَيَجِبُ رَدُّهَا؛ كَالْمُنْكِرِينَ لِعَذَابِ الْقَبْرِ (3)، والصراط (4)، والميزان (5)،
_________
(1) في (خ) و (م): "جرت".
(2) في (غ) و (ر): "للعقول".
(3) عذاب القبر ثابت بالكتاب والسنة. فأما الكتاب: فقوله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ *} سورة غافر: الآية (46).
(4) وأما السنة: فأخرج البخاري في "صحيحه" رقم (1372) من حديث عائشة رضي الله عنها: أن يهودية دخلت عليها، فذكرت عذاب القبر، فقالت لها: أعاذك الله من عذاب القبر. فسألت عائشة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن عذاب القبر، فقال: "نعم، عذاب القبر حق". قالت عائشة رضي الله عنها: فما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعدُ صلى صلاة إلا تعوذ من عذاب القبر.
(5) الصراط ثابت بالسنة الصحيحة. فأخرج البخاري في "صحيحه" رقم (7439)، ومسلم في "صحيحه" رقم (183)، كلاهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه حديث الرؤية الطويل، وفيه: "ثم يؤتى بالجسر فيجعل بين ظهري جهنم، قلنا: يا رسول الله! وما الجسر؟ قال: مدحضةٌ مَزِلَّة ... " الحديث. قال الحافظ في "مقدمة الفتح" (ص98): قوله: "ثم يؤتى بالجسر"؛ أي: الصراط، وهو القنطرة بين الجنة والنار يمر عليها المؤمنون.
(6) الميزان ثابت بالكتاب والسنة.
قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} سورة الأنبياء: الآية (47). وقال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ *فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ *} سورة القارعة: الآيتان (6، 7). وأخرج البخاري في "صحيحه" رقم (6405)، ومسلم في "صحيحه" رقم (2694)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم".(2/32)
وَرُؤْيَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْآخِرَةِ (1). وَكَذَلِكَ حديث الذباب ومَقْلِه، وأنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ دَاءً وفِي الْآخَرِ دَوَاءً، وَأَنَّهُ يقدِّم الَّذِي فِيهِ الدَّاءُ (2). وَحَدِيثُ الَّذِي أَخَذَ أَخَاهُ بطنُه فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَقْيه الْعَسَلَ (3)، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمَنْقُولَةِ نَقْلَ الْعُدُولِ.
وربما قَدَحُوا فِي الرُّوَاةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رَضِيَ الله تعالى عنهم ـ وحاشاهم (4) ـ، وَمَنِ (5) اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ مِنَ المحدِّثين عَلَى عَدَالَتِهِمْ وَإِمَامَتِهِمْ، كُلُّ ذَلِكَ لِيَرُدُّوا بِهِ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ فِي الْمَذْهَبِ، وَرُبَّمَا رَدُّوا فَتَاوِيَهُمْ وَقَبَّحُوهَا فِي أَسْمَاعِ الْعَامَّةِ؛ لينفِّروا الْأُمَّةَ (6) عَنْ أَتْبَاعِ السنة وأهلها، كما روي (7) عن بكر بن حمران قَالَ: قَالَ عَمْرُو (8) بْنُ عُبَيْدٍ: لَا يُعْفَى عن اللص
_________
(1) رؤية الله جل وعلا ثابتة بالكتاب والسنة:
قال تَعَالَى: {وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ *إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ *} سورة القيامة: الآيتان (22، 23).
وفي حديث أبي سعيد المتقدم في التعليق قبل السابق، الذي أخرجه البخاري ومسلم في ذكر الصراط: قوله: قلنا: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: "هل تضارون في رؤية الشمس والقمر إذا كانت صحواً؟ " قلنا: لا. قال: "فإنكم لا تضارون في رؤية ربكم يومئذ إلا كما تضارون في رؤيتهما ... " الحديث.
(2) حديث الذباب: أخرجه البخاري في "صحيحه" رقم (3320) من حديث عبيد بن حنين، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: "إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه، فإن في إحدى جناحيه داء والأخرى شفاء".
وأخرجه أبو داود (3844)، وابن خزيمة برقم (105)، وابن حبان برقم (1246/ الإحسان) من طريق سعيد المقبري عن أبي هريرة، وفيه: "وإنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء".
(3) حديث العسل: أخرجه البخاري في "صحيحه" رقم (5684)، ومسلم في "صحيحه" رقم (2217) كلاهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(4) قوله: "وحاشاهم" ليس في (غ) و (ر) و (م).
(5) في (خ): "فمن".
(6) في (خ): "لينفروا الأئمة بل الأمة"، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: نص النسخة: "لينفروا الأئمة بل الأمة". اهـ، وانظر التعليق بعد الآتي.
(7) أخرج القصة العقيلي في "الضعفاء" (3/ 286)، وابن عدي في "الكامل" (5/ 101)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (12/ 178).
(8) في (خ): "رسول بل عمرو"، وعلق عليه رشيد رضا بقوله: نص النسخة: "رسول بل عمرو"، وكلاهما من الإضراب عن الغلط مع إبقائه، وتقدم مثله مراراً. اهـ.(2/33)
دُونَ السُّلْطَانِ. قَالَ: فَحَدَّثْتُهُ بِحَدِيثِ صَفْوَانَ بْنِ أُمية عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ: "فَهَلَّا (1) قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ؟ " (2) قَالَ: أَتَحْلِفُ بِاللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم
_________
(1) في (خ): "فهل".
(2) حديث صفوان: "فهلا قبل أن تأتيني به":
أخرجه أبوداود (4394)، والنسائي (4883) ـ واللفظ له ـ، وابن الجارود (828)، والدارقطني (3/ 204 رقم 362)، والحاكم (4/ 380)، والضياء في "المختارة" (8/ 19 رقم 9)، جميعهم من طريق عمرو بن حماد بن طلحة، عن أسباط، عن حميد ابن أخت صفوان بن أمية، عن صفوان بن أمية قال: كنت نائماً في المسجد على خميصة لي ثمنها ثلاثون درهماً، فجاء رجل فاختلسها مني، فأُخذ الرجل فأتي به النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأمر به ليقطع، فأتيته فقلت: أتقطعه من أجل ثلاثين درهماً؟! أنا أبيعه وأنسئه ثمنها. قال: "فهلا كان هذا قبل أن تأتيني به؟ ".
وفي سنده حميد ابن أخت صفوان وهو مقبول كما في "التقريب" (1578)، واختلف في اسمه؛ فقال بعضهم: "جعيد".
وقد توبع حميد هذا:
فأخرجه أحمد (3/ 401) و (6/ 465)، ومن طريقه النسائي (4879)، من طريق محمد بن جعفر، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن عطاء، عن طارق بن مرقع، عن صفوان، به.
وطارق بن مرقع هذا مقبول كما في "التقريب" (3023).
وقد أخرجه النسائي قبل هذا (4878) من طريق يزيد بن زريع، عن سعيد بن أبي عروبة، فجعله من رواية عطاء عن صفوان، وأسقط من الإسناد طارق بن مرقع.
ثم أخرجه النسائي أيضاً (4880) من طريق الأوزاعي؛ قال: حدثني عطاء بن أبي رباح؛ أن رجلاً سرق ... ، فذكره هكذا مرسلاً. وكذا رواه البيهقي في "السنن" (8/ 265) من طريق بكار بن الخصيب، عن حبيب، عن عطاء مرسلاً.
وله طرق أخرى عن صفوان:
فأخرجه النسائي (4881) من طريق عبد الملك بن أبي بشير، عن عكرمة، عن صفوان بن أمية، به.
قال ابن القطان في "بيان الوهم" (3/ 570): "ولكن الطريق المذكورة يمكن أن تكون منقطعة، فإنها من رواية عبد الملك المذكور، عن عكرمة، عن صفوان بن أمية، وعكرمة لا أعرف أنه سمع من صفوان، وإنما يرويه عن ابن عباس".
وابن القطان هنا يشير إلى ما رواه النسائي أيضاً (4882)، والدارمي (2/ 172) من طريق أشعث بن سوّار، عن عكرمة، عن ابن عباس؛ قال: كان صفوان نائماً ... ، فذكره. قال النسائي عقبه: "أشعث ضعيف".
وأخرجه الإمام أحمد في "المسند" (6/ 465 ـ 466) من طريق عفان، عن وهيب،=(2/34)
قاله؟ قلت: أفتحلف أنت بِاللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يقله؟ قال: فحلف بالله
_________
=عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن صفوان، به.
وهذا سند صحيح إن كان طاوس سمع من صفوان، وقد قال ابن عبد البر في "التمهيد" (11/ 219): "وطاوس سماعه من صفوان بن أمية ممكن؛ لأنه أدرك زمن عثمان".
وحكم الشيخ الألباني على هذا الإسناد بالصحة على شرط الشيخين، وذكر كلام ابن عبد البر، ثم قال: "زد على ذلك أن طاوساً ليس موصوفاً بالتدليس، فمثله يحمل حديثه على الاتصال، فالسند صحيح".
قلت: يمكن التسليم بما ذكره الشيخ ـ رحمه الله ـ على مذهب مسلم بن الحجاج ومن تبعه، أما على مذهب البخاري فلا.
ومما يغلب جانب الانقطاع: أن الحديث أخرجه معمر في "جامعه" الملحق بـ"المصنف" لعبد الرزاق (10/ 230 رقم 18939) عن عبد الله بن طاوس، عن طاوس قال: قيل لصفوان ... ، فذكره هكذا مرسلاً.
وقد أخرجه النسائي (4884) من طريق حماد بن سلمة، عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن صفوان، به. وخولف حماد بن سلمة.
فرواه زكريا بن إسحاق وإبراهيم بن ميسرة عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس.
أما رواية زكريا بن إسحاق: فأخرجها الدارقطني (3/ 205 ـ 206 رقم 366)، والحاكم (4/ 380) من طريق أبي عاصم الضحاك بن مخلد عنه.
وأما رواية إبراهيم بن ميسرة: فأخرجها الطبراني في "الكبير" (8/ 47 رقم 7326).
قال الحاكم: "صحيح الإسناد"، ووافقه الذهبي.
وتعقبهما الألباني بقوله: "وهو كما قالا، ولكني أتعجب منهما كيف لم يصححاه على شرط الشيخين؛ فإنه من طريقين عن أبي عاصم الضحاك بن مخلد الشيباني، ثنا زكريا بن إسحاق، وهذا رجاله كلهم ثقات من رجال الشيخين، وزكريا هذا ثقة اتفاقاً، فلا يضرّه مخالفة حماد بن سلمة له في إسناده ... ، ويبدو أن طاوساً كان له في هذا الحديث إسنادان: أحدهما: عن ابن عباس، والآخر: عن صفوان، وأنه كان تارة يرويه عن هذا، وتارة عن هذا، فرواه عمرو بن دينار عنه على الوجهين، وابنه على الوجه الآخر، والله أعلم".
وأخرجه البيهقي في "السنن" (8/ 265) من طريق الشافعي، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن طاوس، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم مرسلاً. وهذا يقوي رواية معمر السابقة، وأن الصواب في رواية طاوس الإرسال.
وأخرجه الإمام مالك في "الموطأ" (2/ 834 رقم 28) عن الزهري، عن صفوان بن عبد الله بن صفوان؛ أن صفوان بن أمية قيل له ... ، فذكره هكذا مرسلاً.=(2/35)
ـ الذي لا إله إلا هو ـ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقُلْهُ (1). فَحَدَّثْتُ بِهِ ابْنَ عَوْنٍ. قَالَ: فَلَمَّا عَظُمت الحلقة قال (2): [يا بكر] (3) حَدِّث القوم (4).
وَقَدْ جَعَلُوا الْقَوْلَ بِإِثْبَاتِ الصِّرَاطِ وَالْمِيزَانِ وَالْحَوْضِ قَوْلًا بِمَا لَا يُعْقَلُ. وَقَدْ سُئِلَ بَعْضُهُمْ: هَلْ يَكْفُرُ مَنْ قَالَ بِرُؤْيَةِ الْبَارِي فِي الْآخِرَةِ؟ فَقَالَ: لَا يَكْفُرُ؛ لِأَنَّهُ قَالَ مَا لَا يَعْقِلُ، وَمَنْ قَالَ مَا لَا يَعْقِلُ فَلَيْسَ بِكَافِرٍ (5).
وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى نَفْيِ أَخْبَارِ الْآحَادِ جُمْلَةً (6)، وَالِاقْتِصَارِ عَلَى مَا اسْتَحْسَنَتْهُ (7) عُقُولُهُمْ فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ، حَتَّى أَبَاحُوا الْخَمْرَ بِقَوْلِهِ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الْآيَةَ (8). فَفِي هؤلاءِ وَأَمْثَالِهِمْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا أُلفينّ أَحدكم مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ يأْتيه الأَمر مِنْ أَمري مِمَّا أَمرت بِهِ أَو نَهَيْتُ عَنْهُ، فَيَقُولُ: لا أَدري، ما وجدنا في
_________
=فالحديث بطرقه السابقة موصولها ومرسلها يغلب على الظن ثبوته، وقد صححه ابن عبد الهادي في "التنقيح" كما في "نصب الراية" (3/ 369)، وقال ابن كثير في "تحفة الطالب" (ص223): "وهذا الحديث روي من طرق كثيرة متعددة يشد بعضها بعضاً، ومن الرواة من أرسله، ومنهم من وصله".
وصححه الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله في "إرواء الغليل" (7/ 345 رقم 2317).
(1) من قوله: "قال: فحلف بالله" إلى هنا سقط من (م) و (خ)، والمثبت من (غ) و (ر) ومن مصادر التخريج.
(2) أي: ابن عون.
(3) في جميع النسخ: "يا أبا بكر"، وهو خطأ، والمثبت هو الصواب كما في مصادر التخريج، وكما في أول السياق، وجاءت على الخطأ في "الكامل" المطبوع، ولكنها على الصواب في مخطوطة أحمد الثالث (ل612/ب)، وتصحف "حمران" في "تاريخ بغداد" إلى: "حمدان"، وانظر "الجرح والتعديل" (2/ 383 رقم 1495).
(4) قوله: "القوم" سقط من (خ) و (م).
(5) أعاد المؤلف هذا الكلام في (ص45) بأبسط مما هنا.
(6) سيأتي رد المصنف عليهم (ص43 و45).
(7) في (خ): "ما استحسنه".
(8) سورة المائدة، الآية (93).(2/36)
كتاب الله اتبعناه (1) (2).
_________
(1) في (م) و (غ): "اتبعنا" بدون هاء.
(2) أخرجه الحميدي في "مسنده" (551)، والشافعي في "الأم" (7/ 15)، وفي "الرسالة" (295)، وأبو داود في "سننه" (4605)، والترمذي (2663)، وابن ماجه (13)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 209)، والطبراني في "المعجم الكبير" (1/ 316 رقم 934 و935)، وابن حزم في "الإحكام" (2/ 210)، جميعهم من طريق سفيان بن عيينة، عن سالم أبي النضر، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبي رافع، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم بنفس السياق الذي ذكره الشاطبي.
وتابع سفيان على روايته هكذا: ابن لهيعة عند الإمام أحمد في "المسند" (6/ 8). وأخرجه الحميدي في الموضع السابق عن سفيان بن عيينة، عن محمد بن المنكدر، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم مرسلاً.
وأخرجه الترمذي والطحاوي والطبراني مقروناً بالرواية السابقة؛ من طريق سفيان بن عيينة، عن محمد بن المنكدر، عبيد الله بن أبي رافع، عن أبي رافع، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم.
قال الترمذي: "هذا حديث حسن. وروى بعضهم عن سفيان عن ابن المنكدر، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم مرسلاً، وسالم أبي النضر، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبيه، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم. وكان ابن عيينة إذا روى هذا الحديث مع الانفراد بيَّن حديث محمد بن المنكدر من حديث سالم أبي النضر، وإذا جمعهما روى هكذا".اهـ.
وأخرج الحاكم في "المستدرك" (2/ 108 ـ 109) هذا الحديث من طريق الشافعي والحميدي عن سفيان عن سالم أبي النضر، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبيه، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم قال الحاكم: "قد أقام سفيان بن عيينة هذا الإسناد، وهو صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. والذي عندي أنهما تركاه لاختلاف المصريين في هذا الإسناد".
ثم أخرجه من طريقين فيهما اختلاف مع طريق سفيان، ثم قال: "أنا على أصلي الذي أصّلته في خطبة هذا الكتاب: أن الزيادة من الثقة مقبولة، وسفيان بن عيينة حافظ ثقة ثبت، وقد خبر وحفظ، واعتمدنا على حفظه بعد أن وجدنا للحديث شاهدين بإسنادين صحيحين".
وقد عرض الدارقطني هذا الاختلاف في الحديث في "العلل" (7/ 7 ـ 10 رقم 1172) ثم قال: "والصواب: قول من قال: عن أبي النضر، عن ابن أبي رافع، عن أبيه".
وهي رواية سفيان بن عيينة ومن وافقه.
وللحديث شاهد من حديث المقدام بن مَعْدِي كَرِب الكندي؛ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا يوشك رجل يَنْثَني شبعاناً على أريكته يقول: عليكم بالقرآن، فما وجدتم فيه من حلالٍ=(2/37)
وهذا وعيد شديد تضمَّنه النهي اللاحِقُ (1) بمن ارتكب ردَّ السُّنَّة.
ولما ردّوها بتحكيم (2) الْعُقُولِ؛ كَانَ الْكَلَامُ مَعَهُمْ رَاجِعًا إِلَى أَصْلِ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ، وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي الأُصول، وسيأْتي لَهُ بَيَانٌ إِن شاءَ اللَّهُ.
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ النَّضْرِ: سُئِلَ عَمْرُو (3) بْنُ عُبَيْدٍ يَوْمًا عَنْ شيءٍ ـ وَأَنَا عِنْدَهُ ـ، فَأَجَابَ فِيهِ (4). فَقُلْتُ لَهُ: لَيْسَ هَكَذَا يَقُولُ أَصْحَابُنَا. قَالَ: وَمَنْ أصحابك لا أَبا لك؟! قلت: أيوب، ويونس، وَابْنُ عَوْنٍ، وَالتَّيْمِيُّ. قَالَ: أُولَئِكَ أَنْجَاسٌ أَرْجَاسٌ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ (5) (6).
وَقَالَ ابْنُ عُلَيَّة: حَدَّثَنِي الْيَسَع؛ قَالَ: تَكَلَّمَ وَاصِل ـ يَعْنِي ابْنَ عَطَاءٍ ـ
_________
=فأَحِلّوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرِّموه ... " الحديث.
أخرجه الإمام أحمد في "المسند" (4/ 130 ـ 131 رقم 17174)، وأبو داود في "سننه" (4604)، وابن حبان في "صحيحه" (12/الإحسان)، ثلاثتهم من طريق عبد الرحمن بن أبي عوف الجُرَشي، عن المقدام، به. وسنده صحيح.
وأخرجه الإمام أحمد أيضاً (4/ 132 رقم 17194)، والدارمي (1/ 144)، والترمذي (2664)، وابن ماجه (12)، والحاكم في "المستدرك" (1/ 109)، جميعهم من طريق معاوية بن صالح، عن الحسن بن جابر، عن المقدام بن معدي كرب، به نحو سابقه، وزاد: "ألا وإن ما حرّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مثل ما حرّم الله".
قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه"، وصححه الحاكم.
(1) في (خ) و (م): "لاحق".
(2) في (خ) و (م): "بتحكم".
(3) في (خ) و (م): "عمر".
(4) قوله: "فيه" ليس في (غ) و (ر).
(5) قوله: "أموات غير أحياء" ليس في (غ).
(6) حكاية عمر بن النضر مع عمرو بن عبيد: أخرجها ابن قتيبة في "تأويل مختلف الحديث" (ص93)، والعقيلي في "الضعفاء" (3/ 284)، وابن عدي في "الكامل" (5/ 98 ـ 99)، ثلاثتهم من طريق يحيى بن حميد الطويل، عن عمر بن النضر، فذكر القصة.
كذا وقع هنا وعند ابن عدي في "الكامل": عمر بن النضر.
وعند ابن قتيبة: "عمرو بن النضر". وفي "الضعفاء" للعقيلي: "يحيى بن النضر"، وهو تصحيف فيما يظهر. وقد علق الذهبي في "الميزان" (3/ 274) القصة عن يحيى بن حميد، عن عمرو بن النضر، كذا سماه. ولم أجد من ترجم لعمر بن النضر، وأما عمرو بن النضر ففي "لسان الميزان" (5/ 366) ترجمة لعمرو بن النضر الذي يروي عن إسماعيل بن أبي خالد، وهو مجهول.(2/38)
يَوْمًا، قَالَ: فَقَالَ عَمْرُو (1) بْنُ عُبَيْدٍ: أَلا تسمعون؟ ما كلام الحسن وابن سيرين عند ما تسمعون إلا خِرْقَةُ حَيْضَةٍ مُلقاة.
وكان وَاصِلُ بْنُ عَطَاءٍ أَوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الِاعْتِزَالِ، فَدَخَلَ مَعَهُ فِي ذَلِكَ عَمْرُو (1) بْنُ عُبَيْدٍ فأُعجب بِهِ، فَزَوَّجَهُ أُخته، وَقَالَ لَهَا (2): زَوَّجْتُكِ بِرَجُلٍ مَا يَصْلُحُ إِلا أَن يَكُونَ خَلِيفَةً (3).
ثُمَّ تَجَاوَزُوا الْحَدَّ حَتَّى رَدُّوا الْقُرْآنَ بِالتَّلْوِيحِ وَالتَّصْرِيحِ لرأْيهم السُّوءِ.
فَحَكَى عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ: أَنه سَمِعَ مِمَّنْ يَثِقُ بِهِ؛ أَنه قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عَمْرِو (4) بْنِ عُبَيْدٍ ـ وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى دُكَّانِ عُثْمَانَ الطَّوِيلِ ـ، فأَتاه رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَبا عُثْمَانَ! مَا سَمِعْتُ مِنَ الْحَسَنِ يَقُولُ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} (5)؟ قَالَ: تُرِيدُ أَنْ (6) أُخْبِرَكَ برأْيٍ حَسَنٍ؟ قَالَ: لَا أُريد إِلا مَا سَمِعْتَ مِنَ الْحَسَنِ. قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ: كَتَبَ اللَّهُ عَلَى قَوْمٍ الْقَتْلَ فَلَا يَمُوتُونَ إِلَّا قَتْلًا، وَكَتَبَ عَلَى قَوْمٍ الْهَدْمَ فَلَا يَمُوتُونَ إِلَّا هَدْمًا، وَكَتَبَ عَلَى قَوْمٍ الْغَرَقَ فَلَا يَمُوتُونَ إِلَّا غَرَقًا، وَكَتَبَ عَلَى قَوْمٍ الْحَرِيقَ فَلَا يَمُوتُونَ إِلَّا حَرْقًا. فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ الطَّوِيلُ: يَا أَبَا عُثْمَانَ! لَيْسَ هَذَا قَوْلَنَا. قَالَ عَمْرٌو (7): قد قلت: أتريد (8) أن أخبرك (9) برأي الحسن (10)، فأبى،
_________
(1) في (خ) و (م) "عمر".
(2) قوله: "لها" من (خ) فقط.
(3) في (م): "ما يصلح أن يكون إلا خليفة".
وقول ابن علية هذا: أخرجه العقيلي في "الضعفاء" (3/ 285)، وابن عدي في "الكامل" (5/ 103)، كلاهما من طريق مؤمل بن هشام، عن إسماعيل بن علية، به.
ومن قوله: "وكان وَاصِلُ بْنُ عَطَاءٍ أَوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الاعتزال ... " إلى آخره هو من قول إسماعيل، وسنده صحيح، وأما احتقار عمرو بن عبيد للحسن وابن سيرين، فهو من رواية إسماعيل، عن اليسع بن قيس أبي مسعدة ولم أجد من وثقه.
(4) في (خ) و (م): "عمر".
(5) الآية (154) من سورة آل عمران.
(6) قوله: "أن" ليس في (خ).
(7) في (خ) و (م) "عمر".
(8) في (خ) و (م): "أريد".
(9) في (م): "أخبر".
(10) كذا في جميع النسخ و"الكامل" لابن عدي الذي نقلت منه هذه الحكاية ـ كما سيأتي ـ، وحق العبارة أن يقال: "برأي حسن".(2/39)
أفأكذب (1) عَلَى الْحَسَنِ (2)؟
وَعَنِ الأَثرم، عَنْ أَحمد بْنِ حَنْبَلٍ؛ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذٌ؛ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عَمْرِو (2) بْنِ عُبَيْدٍ، فجاءَه عُثْمَانُ بْنُ فُلَانٍ، فَقَالَ: يَا أَبا عُثْمَانَ! سَمِعْتُ ـ وَاللَّهِ ـ بِالْكُفْرِ! قَالَ: مَا هُوَ؟ لَا تَعْجَلْ بِالْكُفْرِ؛ قَالَ: هَاشِمٌ الأَوقص زَعَمَ أَنَّ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ *} (3)، وَقَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا *} (4): لَمْ يَكُنْ هَذَا فِي أُم الْكِتَابِ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {حم *وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ *إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ *وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ *} (5)، فَمَا الْكُفْرُ إِلَّا هَذَا؟ فَسَكَتَ سَاعَةً ثُمَّ تَكَلَّمَ فَقَالَ: وَاللَّهِ! لَوْ كَانَ الأَمر كَمَا تَقُولُ مَا كَانَ عَلَى أَبِي لَهَبٍ مِنْ لَوْمٍ، وَلَا كَانَ عَلَى الْوَحِيدِ مِنْ لَوْمٍ. قَالَ عُثْمَانُ ـ فِي مَجْلِسِهِ ـ: هَذَا وَاللَّهِ الدِّينُ. قَالَ مُعَاذٌ: ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهِ: فَذَكَرْتُهُ لِوَكِيعٍ، فَقَالَ: يُسْتَتَابُ قَائِلُهَا فَإِنْ تَابَ، وَإِلَّا ضربت عنقه (6).
_________
(1) في (خ): "فأنا أكذب"، وفي (م): "فأبى أكذب"، والمثبت من (غ) و (ر).
(2) حكاية عمرو بن علي عمن يثق به، عن عمرو بن عبيد: علّقها ابن عدي في "الكامل" (5/ 102) عن عمرو بن علي. وسندها ضعيف لجهالة من حدّث عمرو بن علي بها.
(3) سورة المسد: الآية (1).
(4) سورة المدثر: الآية (11).
(5) سورة الزخرف الآيات: (1 ـ 4).
(6) أخرج هذه القصة ابن عدي في "الكامل" (5/ 104 ـ 105) من طريق إسحاق، عن الأثرم، فذكرها بتمامها إلى قوله: "هذا والله الدين"، ونسب عثمان، فقال: "عثمان بن خاش، وهو أخو السميري"، ثم قال ابن عدي: "وحكى عمرو بن علي، عن مُعَاذٌ، ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهِ: "فَذَكَرْتُهُ لِوَكِيعٍ؛ قال: يُسْتَتَابُ قَائِلُهَا، فَإِنْ تابَ وَإِلَّا ضُرِبَتْ عُنُقُهُ".
ومعاذ هو ابن معاذ العنبري. وسند القصة صحيح، عدا قول وكيع، فإن ابن عدي علقه عن عمرو بن علي، عن معاذ، ولم يسنده، وأسنده الخطيب البغدادي في "تاريخه" (12/ 172) بسند صحيح.
وأخرج القصة من طريق معاذ دون قول وكيع: الفسوي في "تاريخه" (2/ 262)، والنسائي في "الكنى" ـ كما في "لسان الميزان" (5/ 136) ـ، والعقيلي في "الضعفاء" (3/ 284 ـ 285)، واللالكائي في "شرح أصول الاعتقاد" (4/ 813 رقم 1369 و1370)، والخطيب في "تاريخه" (12/ 170 ـ 171).(2/40)
وَمِثْلُ هَذَا مَحْكِيّ، لَكِنْ (1) عَنْ (2) بَعْضِ الْمَرْمُوقِينَ من أئمة الحديث (3).
فروي عن عليّ بن المديني (4)، عن مُؤَمَّل، عن الحسن بن وهب الجُمَحِي؛ قال: كان الذي (5) بَيْنِي وَبَيْنَ فُلَانٍ (6) خَاصٌّ، فَانْطَلَقَ بأَهله إِلَى بِئْرِ مَيْمُونٍ، فَأَرْسَلَ إليَّ: أَن ائْتِنِي، فأَتيته عَشِيَّةً فبِتُّ عِنْدَهُ. قَالَ: فَهُوَ فِي فُسْطَاط وَأَنَا فِي فُسْطَاطٍ آخَرَ، فَجَعَلْتُ أَسْمَعُ صَوْتَهُ اللَّيْلَ كُلَّهُ كأَنه دَوِيّ النَّحْل. قَالَ: فَلَمَّا أَصبحنا جاءَ بِغَدَائِهِ فتغدَّينا. قَالَ: ثُمَّ ذَكَرَ (7) مَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ مِنَ الإِخاء وَالْحَقِّ. قَالَ (8): فَقَالَ لِي: أَدعوك إِلَى رأْي الْحَسَنِ (9). قَالَ: وَفَتَحَ لِي شَيْئًا مِنَ الْقَدَرِ. قَالَ: فَقُمْتُ مِنْ عِنْدِهِ فَمَا كَلَّمْتُهُ بِكَلِمَةٍ حَتَّى لَقِيَ الله. قال: فإني (10) يوماً خارج من الطَّوَافِ (11) وَهُوَ دَاخِلٌ ـ أَوْ أَنا (12) دَاخِلٌ وَهُوَ خارج ـ، فأَخذ بيدي فقال: يا أَبا عمرو! (13) حَتَّى مَتَى؟ حَتَّى مَتَى؟ قَالَ (14): فَلَمْ أكلِّمْه، فقال (15) لِي (16): أَرأَيت لَوْ أَن رَجُلًا قَالَ: إِنَّ (17) {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} لَيْسَتْ مِنَ الْقُرْآنِ، ما كنت قائلاً (18) لَهُ؟ قَالَ (19): فَنَزَعْتُ يَدِي مِنْ يَدِهِ. قَالَ عَلِيٌّ: قَالَ مُؤَمَّلٌ: فَحَدَّثْتُ بِهِ سُفْيَانَ بْنَ عيينة، فقال (20): ما
_________
(1) قوله: "لكن" ليس في (ر) و (غ).
(2) قوله: "عن" ليس في (م).
(3) يعني: عبد الله بن أبي نجيح.
(4) في (خ): "المدائني"، وفي (م): "المذنبي"، وفي (غ): "المدني".
(5) في (خ) و (م): "الذي كان".
(6) لم يفصح المصنف باسمه، وفي الموضع الآتي من "الضعفاء" للعقيلي: "ابن نجيح"، وصوابه: "ابن أبي نجيح".
(7) في (خ): "قال: وذكر".
(8) قوله: "قال" ليس في (غ) و (ر).
(9) كذا في جميع النسخ والموضع الآتي من "الضعفاء" للعقيلي الذي نقل عنه المصنف.
(10) في (خ) و (م): "فأنا".
(11) في (خ) و (م): "خارج من الطريق في الطواف".
(12) في (غ) و (ر): "وأنا".
(13) في (خ): "يا أبا عمر".
(14) قوله: "قال" ليس في (غ).
(15) في (غ) و (ر) و (م): "قال".
(16) في (خ) و (م): "مالي".
(17) قوله: "إن" ليس في (خ).
(18) في (خ): "تقول".
(19) في (م): "قال قال".
(20) في (غ) و (ر): "قال".(2/41)
كنت (1) أرى بلغ (2) هذا كله (3).
قال عليّ: وسمعت [أبا] (4) أحمد (5) ـ[يعني الزبيري] (6) ـ؛ قال: حدثني أَنَا (7) سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ عَنْ مُعَلَّى الطّحَّان بِبَعْضِ حَدِيثِهِ (8)، فَقَالَ: مَا أَحوج صَاحِبَ (9) هَذَا (10) إِلَى أَنْ يُقْتَلَ؟ (11).
فَانْظُرُوا إِلَى تَجَاسُرِهِمْ عَلَى كتاب الله تعالى وسنة نبيه (ص)! كُلُّ ذَلِكَ تَرْجِيحٌ لِمَذَاهِبِهِمْ عَلَى مَحْض الْحَقِّ، وأَقربهم إلى هيئة (12) الشريعة من يتطلّب لها المخرج، فيتأَوّل لها (13) الواضحات، ويتبع المتشابهات،
_________
(1) في (خ) و (م): "فقال لي كنت".
(2) علق رشيد رضا هنا بقوله: كذا! ولعل أصله: "ما كنت أرى أنه بلغ" إلخ. اهـ.
(3) سند هذه القصة ضعيف، فشيخ علي بن المديني هو مُؤَمَّل بن إسماعيل البصري، وهو صدوق، لكنه سيء الحفظ كما في "التقريب" (7078).
والراوي للقصة الحسن بن وهب الجمحي، قاضي مكة، مترجم في "الجرح والتعديل" (3/ 39 رقم 170)، ولم أجد من وثقه.
وأخرج هذه القصة العقيلي في "الضعفاء" (2/ 317 ـ 318)، وعنه أخذ المصنف.
(4) في (غ) و (ر): "أنا".
(5) في (خ): "وسمعته أنا وأحمد بن" وفي (م): "وسمعته أنا أحمد بن"، وعلق رشيد رضا هنا بقوله: "بياض في الأصل".
(6) ما بين المعقوفين سقط من (ر)، و (غ)، وفي موضعه بياض في (خ) و (م)، فأثبته من مصادر التخريج.
(7) في (م): "أبان".
(8) أي: ببعض حديث ابن أبي نجيح كما في مصادر التخريج.
(9) قوله: "صاحب" ليس في (غ) و (ر).
(10) في (خ): "هذا الرأي"، وفي (م): "هذا الران"، والمثبت من (ر) و (غ)، وهو الموافق لما في مصادر التخريج.
(11) قول سفيان هذا أخرجه العقيلي في "الضعفاء" (4/ 214 ـ 215)، وابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (1/ 48 ـ 49) و (8/ 331)، وابن عدي في "الكامل" (6/ 372).
وسنده إلى سفيان صحيح، لكن العمدة في هذا النقل على مُعَلّى الطّحّان، وهو متّهم، فلا يليق الاعتماد في هذا والذي قبله ـ قصة الحسن بن وهب ـ على ما لم يثبت عن ابن أبي نجيح الذي تحرّج المصنف من الإفصاح عن اسمه، فإن ثبت مثله من طرق غير هذه فطريقة أهل العلم معروفة فيمن تلبّس ببدعة وهو متأوِّل، مع كونه ثقة في حديثه، فيقبلون حديثه، ويردّون عليه بدعته، وأمره إلى الله.
(12) في (خ) و (م): "هيبة".
(13) قوله: "لها" ليس في (غ) و (ر).(2/42)
وسيأْتي. وَالْجَمِيعُ دَاخِلُونَ تَحْتَ ذَمِّهَا.
وَرُبَّمَا احْتَجَّ طائفة من نابغة الْمُبْتَدَعَةِ عَلَى رَدِّ الأَحاديث بأَنها إِنما تُفِيدُ الظَّنَّ (1)، وَقَدْ ذُمّ الظنُّ فِي الْقُرْآنِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ} (2)، وَقَالَ: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} (3)، وَمَا جاءَ فِي مَعْنَاهُ، حَتَّى أَحَلُّوا أَشياءَ مِمَّا حَرَمَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَيْسَ تَحْرِيمُهَا فِي القرآن نصاً، وإنما قصدوا بذلك (4) أَنْ يَثْبُتَ لَهُمْ مِنْ أَنظار عُقُولِهِمْ مَا استحسنوا.
والظن المراد في الآيات (5) وَفِي الْحَدِيثِ (6) أَيْضًا غَيْرُ مَا زَعَمُوا، وَقَدْ وجدنا له (7) محامل (8) ثلاثة:
أحدها: أنه (9) الظَّنُّ فِي أُصول الدِّينِ، فَإِنَّهُ لَا يُغْنِي عِنْدَ الْعُلَمَاءِ؛ لِاحْتِمَالِهِ النَّقِيضَ عِنْدَ الظَّانِّ، بِخِلَافِ الظَّنِّ فِي الْفُرُوعِ فَإِنَّهُ مَعْمُولٌ بِهِ عِنْدَ أهل الشريعة للدليل الدالّ على إعماله، فكأنّ الظن مذموم (10)، إِلَّا مَا تَعَلَّقَ بِالْفُرُوعِ مِنْهُ (11)، وَهَذَا صَحِيحٌ ذكره العلماءُ في الْمَوْضِعِ (12).
وَالثَّانِي: أَنَّ الظَّنَّ هُنَا هُوَ تَرْجِيحُ أَحَدِ النَّقِيضَيْنِ عَلَى الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ مرجِّح، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مَذْمُومٌ هُنَا؛ لِأَنَّهُ مِنَ التحكُّم، وَلِذَلِكَ أُتْبِعَ فِي الْآيَةِ بِهَوَى النَّفْسِ فِي قَوْلِهِ: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ}، فَكَأَنَّهُمْ مَالُوا إِلَى أَمْرٍ بِمُجَرَّدِ (13) الْغَرَضِ وَالْهَوَى، لَا بِاتِّبَاعِ الْهُدَى الْمُنَبِّهِ
_________
(1) في (غ) و (ر): "ظنا".
(2) سورة النجم: الآية (23).
(3) سورة النجم: الآية (28).
(4) في (خ): "من ذلك".
(5) في (خ) و (م): "الآية".
(6) يعني حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إيّاكم والظن! فإن الظن أكذب الحديث .... " إلخ. أخرجه البخاري في "صحيحه" (5143 و6064 و6066 و6724)، ومسلم (2563).
(7) قوله: "له" ليس في (غ) و (ر).
(8) في (خ) و (م) "محال".
(9) قوله: "أنه" ليس في (خ) و (م).
(10) في (خ): "مذموماً".
(11) في (خ): "منه بالفروع".
(12) علق رشيد رضا هنا بقوله: كذا! ولعل الأصل: "في هذا الموضع".
(13) في (ر) و (غ): "مجرد".(2/43)
عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} (1)، وَلِذَلِكَ أَثْبَتَ ذَمَّهُ (2)، بِخِلَافِ الظَّنِّ الَّذِي أَثَارَهُ دَلِيلٌ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مَذْمُومٍ فِي الْجُمْلَةِ؛ لأَنه خَارِجٌ عَنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى، وَلِذَلِكَ أُثبت وعُمل بِمُقْتَضَاهُ حَيْثُ يَلِيقُ الْعَمَلُ بِمِثْلِهِ؛ كَالْفُرُوعِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ الظَّنَّ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
1 ـ ظَنٌّ يَسْتَنِدُ إِلَى أَصْلٍ قَطْعِيٍّ، وَهَذِهِ (3) هِيَ الظُّنُونُ الْمَعْمُولُ بِهَا في الشريعة أينما وقعت؛ لأنها إذا (4) اسْتَنَدَتْ إِلَى أَصل مَعْلُومٍ، فَهِيَ مِنْ قَبِيلِ المعلوم، ومن جِنْسُهُ (5).
2 ـ وَظَنٌّ لَا يَسْتَنِدُ إِلَى قَطْعِيٍّ، بَلْ إِمَّا مُسْتَنِدٌ إِلَى غَيْرِ شيءٍ (6) أَصْلًا، وَهُوَ مَذْمُومٌ ـ كَمَا تَقَدَّمَ ـ، وَإِمَّا مُسْتَنِدٌ إِلَى ظَنٍّ مثله، فذلك الظَّنُّ إِنِ اسْتَنَدَ أَيضاً إِلَى قَطْعِيٍّ، فكالأَول، أَو إِلى ظَنِيٍّ (7)، رَجَعْنَا إِلَيْهِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَسْتَنِدَ إِلَى قَطْعِيٍّ، وَهُوَ مَحْمُودٌ، أَو إِلى غَيْرِ شيءٍ، وَهُوَ مَذْمُومٌ.
فَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ: كُلُّ خَبَرِ واحدٍ صَحَّ سَنَدُهُ، فَلَا بُدَّ مِنَ اسْتِنَادِهِ إِلَى أَصل فِي الشَّرِيعَةِ قَطْعِيٍّ، فَيَجِبُ قَبُولُهُ، وَمِنْ هُنَا قَبِلْنَاهُ مُطْلَقًا (8)، كَمَا أَنَّ ظُنُونَ الْكُفَّارِ غَيْرُ مُسْتَنِدَةٍ إِلَى شيءٍ، فَلَا بُدَّ مِنْ رَدِّهَا وَعَدَمِ اعْتِبَارِهَا، وَهَذَا الْجَوَابُ الأَخير مُسْتَمَدٌّ مَنْ أَصلٍ وَقَعَ بَسْطُهُ فِي كِتَابِ "الْمُوَافَقَاتِ" (9) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ.
وَلَقَدْ بالغ بعض الغالين (10) فِي رَدِّ الْأَحَادِيثِ، وَرَدِّ قَوْلِ مَنِ اعْتَمَدَ عَلَى مَا فِيهَا (11)، حَتَّى عَدُّوا الْقَوْلَ بِهِ مُخَالِفًا لِلْعَقْلِ، وَالْقَائِلَ بِهِ مَعْدُودًا (12) فِي الْمَجَانِينِ.
_________
(1) من قوله: "لا باتباع الهدى" إلى هنا سقط من (خ).
(2) قوله: "ولذلك أثبت ذمه" ليس في (غ) و (ر)، وقوله: "ذمه" ليس في (م).
(3) في (م): "وهذا".
(4) قوله: "إذا" ليس في (خ) و (م).
(5) في (خ): "وجنسه".
(6) في (غ) و (ر): "إما غير مستند إلى شيء".
(7) في (م): "ظن".
(8) مقولة المصنف هنا سرت إليه بسبب تأثره بالأشاعرة وعلم الكلام، وسيأتي له مقولة شبيهة بها (ص238)، فانظر تعليقي عليها هناك إن شئت.
(9) انظر: "الموافقات" (3/ 184 وما بعدها).
(10) في (غ): "القائلين" وفي (خ) و (م): "الضالين".
(11) في (م): "من فيها".
(12) في (خ) و (م): "معدود".(2/44)
فحكى أبو بكر (1) ابن الْعَرَبِيِّ (2) عَنْ بَعْضِ مَنْ لَقِيَ بِالْمَشْرِقِ مِنَ الْمُنْكِرِينَ لِلرُّؤْيَةِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: هَلْ يَكْفُرُ مَنْ يَقُولُ بإِثبات رُؤْيَةِ الْبَارِي أَم لَا؟ فَقَالَ (3): لَا! لأَنه قَالَ بِمَا (4) لَا يَعْقِلُ، ومن قال بما لا يعقل فلا (5) يَكْفُرُ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: فَهَذِهِ مَنْزِلَتُنَا عِنْدَهُمْ، فليعتبر الموفَّق فيما يُؤَدِّي إِلَيْهِ اتِّبَاعُ الْهَوَى، أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ بِفَضْلِهِ.
وَزَلَّ بَعْضُ الْمَرْمُوقِينَ فِي زَمَانِنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَزَعَمَ أَن خَبَرَ الْوَاحِدِ زعم كله (6)، بعد ما حكى الأَثر (7): "بئس مطية الرجل زعموا" (8)،
_________
(1) قوله: "أبو بكر" من (خ) فقط.
(2) في "العواصم" (ص33 ـ 34).
(3) في (غ) و (م) و (ر): "قال".
(4) في (ر) و (غ): "ما".
(5) في (خ): "لا".
(6) في (خ): "كله زعم".
(7) في (خ): "وهو ما حكي في الأثر".
(8) أخرجه ابن المبارك في "الزهد" (377)، والإمام أحمد في "المسند" (4/ 119) و (5/ 401)، والبخاري في "الأدب المفرد" (762)، وأبو داود في "سننه" (4933)، والطحاوي في "شرح مشكل الآثار" (186)، جميعهم من طريق الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي قلابة، عن أبي مسعود الأنصاري؛ قال: قيل له: ما سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول في زعموا؟ قال: "بئس مطية الرجل".
وعند بعضهم: "عن أبي قلابة قال: قال أبو عبد الله لأبي مسعود، أو قال أبو مسعود لأبي عبد الله".
وفي رواية أحمد سمى أبا عبد الله هذا، فقال: "يعني حذيفة".
وقال أبو داود عقب روايته: "أبو عبد الله: حذيفة".
وأخرجه القضاعي في "مسند الشهاب" (1335) من طريق الأوزاعي، ثم قال: "أظن أبا عبد الله المذكور في هذا الحديث: حذيفة بن اليمان؛ لأنه كان مع أبي مسعود بالكوفة، وكانوا يتجالسون ويسأل بعضهم بعضاً، وكنية حذيفة: أبو عبد الله".
وقد أعلّ الحافظ ابن حجر في "الفتح" (10/ 551) هذه الرواية، واستظهر من طريقة البخاري إعلاله للحديث أيضاً؛ فإن البخاري بوّب بقوله: "باب ما جاء في زعموا"، ثم أخرج برقم (6158) حديث أم هانئ بنت أبي طالب في قولها للنبي صلّى الله عليه وسلّم: "زعم ابن أمي أنه قاتلٌ رجلاً قد أجرته: فلان بن هبيرة"، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ! ".
فذكر ابن حجر ـ في شرحه لهذا الحديث ـ حديث أبي مسعود، ثم قال: "أخرجه أحمد وأبو داود، ورجاله ثقات، إلا أن فيه انقطاعاً. وكأن البخاري أشار إلى ضعف هذا الحديث بإخراجه حديث أم هانئ وفيه قولها: "زعم ابن أمي"، فإن أم=(2/45)
والأَثر الْآخَرُ: "إِياكم وَالظَّنَّ! فَإِنَّ الظَّنَّ أَكذب الْحَدِيثِ" (1)، وَهَذِهِ مِنْ كَلَامِ هَذَا المتأَخر وَهْلَة (2)، عفا الله عنه.
_________
=هانئ أطلقت ذلك في حق علي ولم ينكر عليها النبي صلّى الله عليه وسلّم".
ومقصود ابن حجر بالانقطاع: أي بين أبي قلابة وأبي مسعود وحذيفة، فإنه لم يسمع منهما.
وقد أوضح ذلك ابن عساكر في: "الأطراف" ـ كما في "تحفة الأشراف" (3/ 45)، فقال ـ عقب الحديث ـ: "لم يسمع منهما أبو قلابة".
ويشكل على هذا الإعلال: رواية الطحاوي في "شرح مشكل الآثار" (185)، والحسن بن سفيان في "مسنده" ـ كما في "النكت الظراف" (3/ 45 ـ 46) ـ للحديث من طريق الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، وفيها يقول أبو قلابة: "حدثني أبو عبد الله؛ قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم".
وقد اعتمد ابن حجر على هذه الرواية في نفي كون أبي عبد الله هذا هو حذيفة، فقال في "النكت": "وفي تفسير "أبي عبد الله" في هذا الحديث بأنه حذيفة نظر؛ لأن الوليد بن مسلم روى هذا الحديث ... "، ثم ذكره، ثم قال: "فعلى هذا فأبو عبد الله آخر غير حذيفة؛ لأن أبا قلابة ما أدرك حذيفة".
وقال في "التهذيب" (4/ 548 ـ 549): "وأبو قلابة لم يسمع من حذيفة، فالظاهر أنه غيره".
لكن صنيعه هنا ينافي إعلاله له في "فتح الباري" بالانقطاع، بل قال في "الإصابة" (11/ 241 ـ 242) عن رواية الحسن بن سفيان في "مسنده" من طريق الوليد: "وسنده صحيح متصل أُمن فيه من تدليس الوليد وتسويته ... "، ثم ذكر قول أبي داود: "أبو عبد الله هذا هو حذيفة بن اليمان"، ثم تعقبه بقوله: "كذا قال! وفيه نظر؛ لأن أبا قلابة لم يدرك حذيفة، وقد صرّح في رواية الوليد بأن أبا عبد الله حدثه، والوليد أعرف بحديث الأوزاعي من وكيع".
قلت: هذا لو كان المخالف للوليد وكيعاً فقط، أما وقد تابعه أئمة حفاظ؛ كابن المبارك، وروايته في كتاب "الزهد"، وكأبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، وروايته عند البخاري في "الأدب المفرد" والطحاوي في "شرح مشكل الآثار"، فإن رواية الوليد تُعَدّ شاذة؛ لمخالفته ثلاثة من الأئمة الحفاظ، وعليه فالراجح ضعف هذا الحديث للانقطاع بين أبي قلابة وبين حذيفة وأبي مسعود، والله أعلم.
(1) تقدم تخريجه (ص43).
(2) في (غ) و (ر): "ونقله"، وعلق رشيد رضا هنا بقوله: لعله: "زلَّة".اهـ.(2/46)
فَصْلٌ
وَمِنْهَا تَخَرُّصُهُم عَلَى الْكَلَامِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الْعَرَبِيَّيْنِ، مَعَ العرْوِ (1) عَنْ عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ الذي به يفهم (2) عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَيَفْتَاتُونَ عَلَى الشَّرِيعَةِ بِمَا فَهِمُوا، وَيَدِينُونَ بِهِ، وَيُخَالِفُونَ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ، وإنما دخلوا في ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ تَحْسِينِ الظَّنِّ بأَنفسهم، وَاعْتِقَادِهِمْ أَنهم مِنْ أَهل الِاجْتِهَادِ وَالِاسْتِنْبَاطِ، وَلَيْسُوا كَذَلِكَ، كَمَا حُكي عَنْ بَعْضِهِمْ أَنه سُئِلَ عَنْ قول الله تعالى: {رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ} (3)، فَقَالَ: هُوَ هَذَا الصَّرْصَرُ؛ يَعْنِي صَرَّار اللَّيْلِ (4)، وَعَنِ النَّظَّام أَنه كَانَ يَقُولُ: إِذَا آلَى المرءُ (5) بِغَيْرِ اسْمِ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ مُوْلِياً. قَالَ: لأَن الإِيلاء مُشْتَقٌّ مِنَ اسْمِ اللَّهِ (6).
وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} (7): إنه أُتْخِمَ من أكل الشَّجْرَةِ (8)، يَذْهَبُونَ إِلَى قَوْلِ الْعَرَبِ: "غَوِيَ الْفَصِيلُ": إِذَا أَكْثَرَ مِنَ اللَّبَنِ حَتَّى بَشِمَ (9)، وَلَا يُقَالُ فِيهِ غَوَى وَإِنَّمَا غَوَى مِنَ الغَيّ (10).
_________
(1) في (غ): "العدول".
(2) في (خ): "يفهم به".
(3) سورة آل عمران: الآية (117).
(4) ذكر هذه الرواية ابن قتيبة في "تأويل مختلف الحديث" (ص12) نقلاً عن الطاعنين على أصحاب الحديث.
(5) قوله: "المرء" ليس في (غ) و (م) و (ر).
(6) ذكر قول النظام هذا ابن قتيبة في المرجع السابق (ص22).
(7) سورة طه: الآية (121).
(8) في (خ): "لكثرة أكله من الشجرة"، وفي (م): "أتخم من الشجرة".
(9) في (غ) و (ر): "يبشم". وقد حكى هذا القول ابن قتيبة أيضاً (ص73).
(10) علق رشيد رضا هنا بقوله: يعني أن مصدر: "غوى الرجل": الغي، ومثله الغواية،=(2/47)
وفي قوله سبحانه: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} (1): أَيْ أَلقينا فِيهَا، كأَنه عِنْدَهُمْ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: "ذَرَّتُهُ الرِّيحُ" وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ؛ لأَنَّ (2) ذرأْنا مهموز، وذرته غير مهموز، وكذلك لا يكون (3) من "أَذْرَتْهُ الدابة عن ظهرها"؛ لعدم الهمز (4)، وَلَكِنَّهُ رُبَاعِيٌّ، وذرأْنا ثُلَاثِيٌّ.
وَحَكَى ابْنُ قُتَيْبَةِ (5) عَنْ بِشْر الْمِرِّيْسِي أَنه كَانَ يَقُولُ لِجُلَسَائِهِ (6): قَضَى اللَّهُ لَكُمُ الْحَوَائِجَ عَلَى أَحسن الْوُجُوهِ وأهيؤُها (7)، فَسَمِعَ قَاسِمٌ التَّمَّار قَوْمًا يَضْحَكُونَ، فَقَالَ: هَذَا كما قال الشاعر:
إِنَّ سُلَيْمَى واللهُ يَكْلَؤُها ... ضَنَّت بشيءٍ ما كان يَرْزَؤُها
وَبِشْرٌ المِرِّيسي (8) رَأْسٌ فِي الرأْي، وَقَاسِمٌ التَّمَّار رأْس فِي أَصْحَابِ الْكَلَامِ (9).
قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ (10): وَاحْتِجَاجُهُ لِبِشْرٍ (11) أَعْجَبُ مِنْ لَحْنِ بِشْرٍ.
وَاسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ عَلَى تَحْلِيلِ شَحْمِ الْخِنْزِيرِ بِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} (12)، فَاقْتَصَرَ عَلَى تَحْرِيمِ اللَّحْمِ دُونَ غَيْرِهِ (13)، فَدَلَّ عَلَى أَنه حَلَالٌ.
وَرُبَّمَا سلَّم بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مَا قَالُوا، وَزَعَمَ أَن الشَّحْمَ إِنما حَرُمَ بالإِجماع، والأَمر أَيسر مِنْ ذَلِكَ، فإِن اللَّحْمَ يُطلق (14) على الشحم وغيره
_________
=وهي بالفتح مصدر "غِوَى" كرِضى، وأما مصدر "غَوِيَ الفصيل"، فهو الغَوَى. اهـ.
(1) الآية (179) من سورة الأعراف.
(2) في (م): "لأنا".
(3) في (خ): "وكذلك إذا كان"، وفي (م): "وكذلك يكون".
(4) حكاه أيضاً ابن قتيبة (ص73 ـ 74).
(5) في (خ) و (م): "ابن تيمية"، والمثبت من (غ)، وهو الصواب؛ فهذه الحكاية في "تأويل مختلف الحديث" (ص87).
(6) في (خ): "لجسائه".
(7) في (غ) و (ر): "أهيئها"، وهو الصواب لغة، لكن الحكاية سيقت لإثبات لحن بشر.
(8) قوله: "المريسي" سقط من (ر).
(9) في (خ): "في علم الكلام".
(10) في الموضع السابق.
(11) في (خ): "ببشر".
(12) سورة البقرة: آية (173)، وسورة المائدة: آية (3)، وسورة النحل: آية (115).
(13) ذكر هذا ابن قتيبة أيضاً (ص66).
(14) في (غ) و (ر): "ينطلق".(2/48)
حَقِيقَةً، حَتَّى إِذَا خُصّ بِالذِّكْرِ قِيلَ: شَحْمٌ؛ كما قيل (1): عِرْق، وعَصَب، وجلد. ولوكان عَلَى مَا قَالُوا؛ لَزِمَ أَن لَا يَكُونُ العِرْق ولا العصب (2) وَلَا الْجِلْدُ وَلَا المُخّ وَلَا النُّخَاع وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا خُصَّ بِالِاسْمِ مُحَرَّمًا، وَهُوَ خُرُوجٌ عَنْ الْقَوْلِ بِتَحْرِيمِ الْخِنْزِيرِ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ خَفِيِّ هَذَا الْبَابِ: مَذْهَبُ الْخَوَارِجِ في زعمهم أنه (3) لا تحكيم للرجال (4)؛ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} (5)، فَإِنَّهُ مَبْنيٌّ عَلَى أَن اللَّفْظَ وَرَدَ بِصِيغَةِ الْعُمُومِ، فَلَا يَلْحَقُهُ تَخْصِيصٌ، فَلِذَلِكَ أَعْرَضُوا عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} (6)، وقوله: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} (7)، وَإِلَّا فَلَوْ عَلِمُوا تَحْقِيقًا قَاعِدَةَ الْعَرَبِ فِي (8) أَن الْعُمُومَ يُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ (9)؛ لَمْ يُسْرِعُوا (10) إلى الإنكار، ولقالوا في أنفسهم: لَعَلَّ (11) هذا العام مخصوص! فيتأَوَّلون.
وفي (12) الموضع وَجْهٌ آخَرُ مَذْكُورٌ فِي مَوْضِعٍ غَيْرِ هَذَا.
وَكَثِيرًا مَا يُوقِعُ (13) الْجَهْلُ بِكَلَامِ الْعَرَبِ فِي مخازٍ (14) لَا يَرْضَى بِهَا عَاقِلٌ، أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنَ الْجَهْلِ وَالْعَمَلِ بِهِ بِفَضْلِهِ.
فَمِثْلُ هَذِهِ الِاسْتِدْلَالَاتِ لا يُعْبَأُ بها، وتسقط مكالمة أصحابها (15)،
_________
(1) في (خ): "يقال".
(2) في (خ): "العرق والعصب".
(3) في (خ): "أن".
(4) قوله: "للرجال" ليس في (خ) و (م).
(5) سورة الأنعام: آية (57)، وسورة يوسف: الآيتان (40، 67).
(6) سورة النساء: آية (35).
(7) سورة المائدة: آية (95).
(8) قوله: "في" ليس في (غ) و (ر).
(9) في (خ): "لم يرد به الخصوص". وعلق عليه رشيد رضا بقوله: كذا! والمعنى المراد: أن من العموم ما يراد به الخصوص. اهـ.
(10) في (غ) و (ر): "يتسرعوا".
(11) في (خ): "هل" بدل "لعل".
(12) في (غ) و (ر): "في".
(13) في (م): "يقع".
(14) في (خ) و (م): "مجاز".
(15) في (خ): "أهلها".(2/49)
ولا يُعَدُّ خلاف أمثالهم خلافاً. فكلّ (1) ما اسْتَدَلُّوا (2) عَلَيْهِ مِنَ الْأَحْكَامِ الْفُرُوعِيَّةِ أَو الأُصولية فَهُوَ عَيْنُ الْبِدْعَةِ، إِذْ هُوَ (3) خُرُوجٌ عَنْ طَرِيقَةِ كَلَامِ الْعَرَبِ إِلَى اتِّبَاعِ الْهَوَى.
فَحَقٌّ مَا حُكي عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ قَالَ: "إِنَّمَا هَذَا الْقُرْآنُ كلام [الله] (4)، فضعوه على (5) مواضعه، ولا تتبعوا فيه (6) أهواءَكم" (7)؛ أَيْ: فَضَعُوهُ عَلَى مَوَاضِعِ الْكَلَامِ، وَلَا تخرجوه عن
_________
(1) قوله: "خلافاً فكل" سقط من (خ). وعلق رشيد رضا على قوله: "أمثالهم" بقوله: "أي لا يُعَدّ خلافاً فيذكر في المسائل التي يختلف فيها العلماء لتعارض الأدلة، إذ لا دليل عليه، ولا شبهة دليل؛ لأنه مبني على الغلط والجهل بمدلولات الألفاظ. قال الشاعر:
وليس كل خلاف جاء معتبراً
إلا خلاف له حظ من النظر"
(2) في (خ): "وما استدلوا".
(3) في (غ) و (ر): "أو هو".
(4) ما بين المعقوفين من مصادر التخريج.
(5) قوله: "على" ليس في (خ) و (م).
(6) في (خ) و (م): "به" بدل "فيه".
(7) أخرجه بهذا اللفظ الإمام أحمد في "الزهد" (ص62 رقم 191) من طريق رشدين، عن يونس، عن ابن شهاب، عن عمر.
ورشدين هو ابن سعد، وهو ضعيف كما في "التقريب" (1953).
وابن شهاب الزهري لم يدرك عمر رضي الله عنه.
وقد أخرجه البيهقي في "الأسماء والصفات" (1/ 592 رقم 523) من طريق عبد الله بن وهب، عن يونس، به بلفظ: "القرآن كلام الله".
فهذه متابعة لرشدين، فيبقى الأثر ضعيفاً لإرساله.
وله طريقان آخران عن عمر رضي الله عنه.
الأول: طريق جرير، عن ليث بن أبي سليم، عن سلمة بن كهيل، عن أبي الزعراء عبد الله بن هانئ، عن عمر رضي الله عنه أنه قال: "إن هذا القرآن كلام الله، فلا أعرفنّكم ما عطفتموه على أهوائكم".
أخرجه الدارمي في "سننه" (2/ 440 ـ 441)، وعثمان بن سعيد في "الرد على الجهمية" (304)، وعبد الله بن أحمد في "السنة" (117 و118)، والآجري في "الشريعة" (168)، وابن بطة في "الإبانة" (21 الرد على الجهمية)، والبيهقي في "الأسماء والصفات" (521).
ورواه ابن بطة برقم (22) بلفظ: "إن هذا القرآن إنما هو كلام الله، فضعوه مواضعه".
ومداره على ليث بن أبي سليم وهو ضعيف، وفي "التقريب" (5721): "صدوق اختلط جداً، ولم يتميز حديثه فتُرك".
الثاني: طريق أبي عبد الرحمن السلمي؛ قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول على منبره: "أيها الناس! إن هذا القرآن كلام الله، فلا أعرفن ما عطفتموه=(2/50)
ذَلِكَ، فَإِنَّهُ خُرُوجٌ عَنْ طَرِيقِهِ الْمُسْتَقِيمِ إِلَى اتِّبَاعِ الْهَوَى.
وَعَنْهُ أَيْضًا: "إِنَّمَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ رَجُلَيْنِ: رَجُلٌ تأوَّل الْقُرْآنَ عَلَى غَيْرِ تأْويله، وَرَجُلٌ يُنْفِسُ الْمَالَ عَلَى أَخِيهِ" (1).
وَعَنِ الْحَسَنِ رضي الله تعالى عنه أَنه قِيلَ لَهُ: أَرَأَيت الرَّجُلَ يَتَعَلَّمُ الْعَرَبِيَّةَ لِيُقِيمَ بِهَا لِسَانَهُ وَيُقِيمَ بِهَا مَنْطِقَهُ؟ قَالَ: نعم، فليتعلَّمْها، فإِن الرجل
_________
=على أهوائكم ... " إلخ.
أخرجه الآجري في "الشريعة" (167)، وابن بطة في "الإبانة" (23/ الرد على الجهمية)، كلاهما من طريق أبي جعفر محمد بن صالح بن ذريح، عن محمد بن عبد الحميد التميمي، عن أبي إسحاق الفزاري، عن الحسن بن عبيد الله النخعي، عن سعد بن عبيدة، عن أبي عبد الرحمن، به.
وفي سنده محمد بن عبد الحميد التميمي ولم أجد من ترجمه، وكذا قال محقق "الإبانة"، والدكتور الدميجي في تحقيقه لـ"الشريعة" (1/ 490 رقم 155)، وأما الأخ الوليد بن محمد في تحقيقه لـ"الشريعة" الذي صار العزو إليه، فرجّح أنه محمد بن عبد المجيد التميمي المترجم عند الخطيب في "تاريخ بغداد" (2/ 392)، وهو ضعيف، ولم يذكر الخطيب أنه يروي عن أبي إسحاق الفزاري، ولا عنه محمد بن صالح بن ذريح، فالله أعلم.
(1) كذا جاء لفظ هذا الأثر في جميع النسخ. وقد ذكره المؤلف في "الموافقات" (4/ 280) باللفظ نفسه، إلا أنه قال: "ينافس الملك على أخيه". ولفظه في "الموافقات" أخرجه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (2364) من طريق عمرو بن دينار،؛ قال: قال عمر رضي الله عنه ... ، فذكره.
وسنده منقطع، فعمرو بن دينار لم يدرك عمر.
وأخرج البزار في "مسنده" (1/ 407 رقم 286) من طريق أبي معشر، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، وعن عمر بن عبد الله مولى غُفرة؛ قالا: قدم على أبي بكر مال من البحرين ... ، فذكر حديثاً طويلاً فيه ذكر مقتل عمر، واستخلافه للنفر الستة، وفيه يقول عمر رضي الله عنه: "وإنما أتخوف عليكم أحد رجلين: رجل تأوّل القرآن على غير تأويله فيقاتل عليه، ورجل يرى أنه أحق بالملك من صاحبه فيقاتل عليه".
قال البزار: "وهذا الحديث قد روي نحو كلامه عن عمر في صفة مقتله من وجوه، ولا نعلم روي عن زيد بن أسلم عن أبيه بهذا التمام إلا من حديث أبي معشر عن زيد، عن أبيه".
وأبو معشر هذا اسمه نجيح بن عبد الرحمن السندي، وهو ضعيف أسنّ واختلط كما في "التقريب" (7150).
وذكر الهيثمي هذا الحديث في "مجمع الزوائد" (5/ 620 ـ 623) وقال: "في الصحيح طرف منه، رواه البزار، وفيه أبو معشر نجيح ضعيف يعتبر بحديثه".(2/51)
يقرأُ بالآية فَيَعْيَا بوجهها (1) فَيَهْلَكُ (2).
وَعَنْهُ أَيضاً قَالَ: أَهلكتهم (3) الْعُجْمَةُ (4)، يتأَوَّلون (5) القرآن على غير تأْويله (6).
_________
(1) في (خ): "فيعياه توجيهها".
(2) أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" (ص350)، وسعيد بن منصور في "سننه" (1/ 167 رقم 38)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (2/ 260)، ثلاثتهم من طريق حماد بن زيد، عن يحيى بن عتيق؛ قال: قلت للحسن ... ، فذكره.
وسنده صحيح كما بينته في تعليقي على "سنن سعيد بن منصور".
(3) في (خ): "أهلكتكم".
(4) في (غ) و (ر) و (م): "العجمية".
(5) في (خ): "تتأولون".
(6) أخرجه البخاري في "خلق أفعال العباد" (ص98 رقم 312) من طريق سليمان بن حرب، وفي "التاريخ" (5/ 93 ـ 94) و (6/ 84) من طريق الحكم بن المبارك، كلاهما عن حماد بن زيد، عن زيد النميري، عن الحسن قال: "أهلكتهم العجمة".
كذا وقع في "خلق أفعال العباد": "زيد النميري"، وفي "التاريخ": "عبيدة بن زيد"، وهو اختلاف في اسم هذا الراوي، وهناك من يقول أيضاً: "عبد الله بن زيد النميري"، وهو جد عمر بن شبة.
انظر: الخلاف في تسميته في الموضعين السابقين من "تاريخ البخاري"، و"بيان خطأ البخاري" (ص56 رقم 256)، وتعليق الشيخ عبد الرحمن المعلمي عليه، وانظر: "الثقات" لابن حبان (7/ 35).
والنميري هذا مجهول الحال لم أجد من وثقه من المعتبرين، فالأثر ضعيف لأجله.(2/52)
فَصْلٌ
وَمِنْهَا: انْحِرَافُهُمْ عَنِ الأُصول الْوَاضِحَةِ إِلَى اتِّبَاعِ الْمُتَشَابِهَاتِ الَّتِي لِلْعُقُولِ فِيهَا مَوَاقِفُ، وَطَلَبُ الأَخذ بِهَا تأْويلاً كَمَا أَخبر اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ إِشَارَةً إِلَى النَّصَارَى فِي قَوْلِهِمْ بِالثَّالُوثِيِّ؛ بِقَوْلِهِ (1): {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} (2). وَقَدْ عَلِمَ العلماءُ أَن كُلَّ دَلِيلٍ فِيهِ اشْتِبَاهٌ وإِشكال لَيْسَ بِدَلِيلٍ فِي الْحَقِيقَةِ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ مَعْنَاهُ وَيَظْهَرَ الْمُرَادُ مِنْهُ. وَيُشْتَرَطُ فِي ذَلِكَ أَن لَا يُعَارِضَهُ أَصل قَطْعِيٌّ. فَإِذَا لَمْ يَظْهَرْ مَعْنَاهُ لإِجمال أَو اشْتِرَاكٍ، أَو عَارَضَهُ قَطْعِيٌّ؛ كَظُهُورِ تَشْبِيهٍ، فَلَيْسَ بِدَلِيلٍ؛ لأنَّ حَقِيقَةَ الدَّلِيلِ أَن يَكُونَ ظَاهِرًا فِي نَفْسِهِ، وَدَالًّا عَلَى غَيْرِهِ، وَإِلَّا احْتِيجَ إِلَى دَلِيلٍ عَلَيْهِ (3)، فَإِنْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى عَدَمِ صِحَّتِهِ فأَحْرَى أَن لَا يَكُونَ دَلِيلًا (4).
وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تعارِض الفروعُ الجزئيةُ الأُصولَ الكليةَ؛ لأنَّ الْفُرُوعَ الْجُزْئِيَّةَ إِنْ لَمْ تَقْتَضِ عَمَلًا، فَهِيَ فِي مَحَلِّ التوقُّف، وَإِنِ اقْتَضَتْ عَمَلًا فَالرُّجُوعُ إلى الأُصول هو الصراط المستقيم، وتُتَأوَّلُ (5) الجزئيّات حتى
_________
(1) في (غ) و (ر): "فقوله.
(2) سورة آل عمران: الآية (7).
(3) قوله: "عليه" ليس في (خ).
(4) من المعلوم أن لنفاة الصفات مسلكين في النفي، وهما: 1 ـ التأويل. 2 ـ التفويض.
وكلام الشاطبي رحمه الله هنا، وفي مواضع عدّة من كتبه يدل على أنه ممن سلك مسلك المفوِّضة الذين يجعلون نصوص الصفات من المتشابه الذي لا يعقل معناه، وقد جمع الشيخ ناصر الفهد ـ وفقه الله ـ شتات كلام الشاطبي في هذا، ورد على شبهته في كتابه "الإعلام بمخالفات الموافقات والاعتصام" (ص30 ـ 39)، فانظره إن شئت.
(5) في (م): "ويتأول"، وفي (خ): "ويتناول".(2/53)
تَرْجِعَ (1) إِلَى الكلِّيَّات، فَمَنْ عَكْسَ الأَمر حَاوَلَ شَطَطًا، وَدَخَلَ فِي حُكْمِ الذَّمِّ؛ لأَن مُتَّبِعَ المتشابهات (2) مَذْمُومٌ، فَكَيْفَ يُعْتَدُّ بِالْمُتَشَابِهَاتِ دَلِيلًا؟ أَوْ يُبْنَى (3) عَلَيْهَا حُكْمٌ مِنَ الأَحكام؟ وَإِذَا لَمْ تَكُنْ دَلِيلًا فِي نَفْسِ الأَمر، فَجَعْلُهَا دَلِيلًا (4) بِدْعَةٌ محدثة (5).
وَمِثَالُهُ فِي مِلَّة الْإِسْلَامِ: مَذَاهِبُ (6) الظَّاهِرِيَّةِ فِي إِثبات الْجَوَارِحِ (7) لِلرَّبِّ ـ المنزَّه عَنِ النَّقَائِصِ ـ؛ مِنَ العين واليد والرجل والوجه المحسوسات، وَالْجِهَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الثَّابِتِ لِلْمُحْدَثَاتِ (8).
وَمِنَ الْأَمْثِلَةِ أَيْضًا: أَن جَمَاعَةً زَعَمُوا أَن الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ؛ تعلُّقاً بِالْمُتَشَابِهِ (9)، وَالْمُتَشَابُهُ الَّذِي تعلَّقوا بِهِ على وجهين: عقلي ـ في زعمهم ـ، وسمعي.
_________
(1) قوله: "ترجع" ليس في (خ).
(2) في (خ): "الشبهات".
(3) في (غ) و (ر): "ويبنى".
(4) قوله: "دليلاً" ليس في (خ).
(5) في (خ): "فجعلها بدعة محدثة هو الحق".
(6) في (خ): "مذهب".
(7) في (غ): "الجوار"؛ سقطت الحاء.
(8) علق رشيد رضا رحمه الله على هذا الموضع بقوله: "إن كان يريد بالظاهرية: المجسِّمة المشبِّهة الذين زعموا أن لله تعالى جوارح كأعضاء البشر، فهو مصيب، وإن أراد بهم أهل الأثر الذين أثبتوا له تعالى ما أثبته لنفسه على لسان رسوله صلّى الله عليه وسلّم؛ من العلو والصفات المعبَّر عنها بأسماء الجوارح، مع تنزيهه عن مشابهة الخلق فهو مخطئ؛ لأن هؤلاء هم أهل السنة، ومن عداهم المبتدعة؛ لمخالفتهم للسلف. ولا فرق بين أسماء الجوارح وأسماء المعاني؛ كالعلم والكلام، فإن علم الله ليس كعلم البشر، ويده التي أثبتها لنفسه ليست كيد الإنسان أيضاً، وعقيدة التنزيه هي التي تنفي التشبيه".اهـ.
ومن الواضح من تتبع كلام الإمام الشاطبي رحمه الله في كتابه هذا وفي "الموافقات" أن مراده هم أهل الأثر الذين أثبتوا صفات الله عز وجل كما يليق بجلاله؛ حيث مشى رحمه الله في هذا الباب على طريقة الأشاعرة.
وقد تتبع هذه المواضع الأخ ناصر بن حمد الفهد في رسالة "الإعلام بمخالفات الموافقات والاعتصام"، وناقشها ببيان الحق الذي أخطأه المؤلف فيها.
أما تعليق سليم الهلالي على هذا الموضع بأن مراد الشاطبي هم المشبهة، ثم قوله: "فمن تتبع عقيدة المصنف من سياق كتابه وجد ما يثلج صدره"، فهو كلام من لم يتتبع عقيدة المصنف في سياق كتابه!!
(9) في (غ) و (ر): "بالمتشابهات".(2/54)
فَالْعَقْلِيُّ: أَن صِفَةَ الْكَلَامِ مِنْ جُمْلَةِ الصِّفَاتِ، وذات الله تعالى عندهم بريئة من التركيب جملة، وإثبات صفات للذات (1) قَوْلٌ بِتَرْكِيبِ الذَّاتِ، وَهُوَ مُحَالٌ؛ لأَنه وَاحِدٌ عَلَى الإِطلاق، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُتَكَلِّمًا بِكَلَامٍ قَائِمٍ بِهِ، كَمَا لَا يَكُونُ قَادِرًا بِقُدْرَةٍ قَائِمَةٍ بِهِ، أَو عَالِمًا بِعِلْمٍ قَائِمٍ بِهِ، إِلَى سَائِرِ الصِّفَاتِ.
وأَيضاً فَالْكَلَامُ لَا يُعْقَلُ إِلَّا بأَصوات وَحُرُوفٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْمُحْدَثَاتِ، وَالْبَارِي مُنَزَّه عَنْهَا.
وَبَعْدَ هَذَا الأَصل يَرْجِعُونَ إِلَى تأْويل قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (2) وأَشباهه.
وأَما السَّمْعي (3): فَنَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (4)، وَالْقُرْآنُ إِما (5) أَن يَكُونَ شَيْئًا، أَو لَا شَيْءَ، وَلَا شَيْءٌ عَدَمٌ، وَالْقُرْآنُ ثَابِتٌ، هَذَا خِلْفٌ. وَإِنْ كَانَ شَيْئًا فَقَدْ شَمِلَتْهُ الْآيَةُ، فَهُوَ إِذًا مَخْلُوقٌ، وَبِهَذَا اسْتَدَلَّ الْمَرِيسِيُّ عَلَى عبد العزيز المكِّي رحمه الله تعالى (6).
وَهَاتَانِ الشُّبْهَتَانِ أَخذٌ فِي التعلُّق بِالْمُتَشَابِهَاتِ، فإِنهم قَاسُوا (7) الْبَارِي عَلَى البريَّة، وَلَمْ يَعْقِلُوا مَا وَرَاءَ ذَلِكَ، فَتَرَكُوا مَعَانِيَ الْخِطَابِ، وَقَاعِدَةَ الْعُقُولِ.
أَما تَرْكُهُمْ لِلْقَاعِدَةِ: فَلَمْ يَنْظُرُوا فِي قَوْلِهِ تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (8)، وهذه الآية نقلية عَقْلِيَّةٌ؛ لأَن الْمُشَابِهَ (9) لِلْمَخْلُوقِ فِي وَجْهٍ مَا مَخْلُوقٌ مِثْلُهُ؛ إِذْ مَا وَجَبَ للشيءِ وَجَبَ لمثله، فكما تكون الآية دليلاً على
_________
(1) في (م) و (خ): "الذات".
(2) سورة النساء: الآية (164).
(3) في (غ) و (ر): "وإما سمعي".
(4) سورة الزمر: آية (62).
(5) في (م): "إما شيء"، وكأنه ضرب على قوله: "شيء".
(6) انظر: الإشارة إلى هذه المناظرة والكلام حول هذا الاستدلال ورد أهل العلم عليه في "فتح الباري" (13/ 532).
(7) في (غ) و (ر): "قالوا".
(8) سورة الشورى: آية (11).
(9) في (خ): "المتشابه".(2/55)
المشبِّهة (1)، تكون دليلاً على هؤلاء (2)؛ لأَنهم عَامَلُوهُ فِي التَّنْزِيهِ مُعَامَلَةَ الْمَخْلُوقِ؛ حَيْثُ توهَّموا أَن اتِّصاف ذَاتِهِ بِالصِّفَاتِ يَقْتَضِي التَّرْكِيبَ فِي الذَّات (3).
وأَما تَرْكُهُمْ لِمَعَانِي الْخِطَابِ (4): فَإِنَّ الْعَرَبَ لَا تَفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: "السَّمِيعُ الْبَصِيرُ"، أو "السميع (5) الْعَلِيمُ"، أَو "الْقَدِيرُ" ـ وَمَا أَشبه ذَلِكَ ـ إِلا مَنْ لَهُ سَمْعٌ وَبَصَرٌ وَعِلْمٌ وَقُدْرَةٌ اتَّصف بِهَا، فإِخراجها عَنْ (6) حَقَائِقِ مَعَانِيهَا الَّتِي نَزَلَ الْقُرْآنُ بِهَا خُرُوجٌ عَنْ أُم الْكِتَابِ إِلى اتِّبَاعِ مَا تَشَابَهُ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ؛ حيث (7) رَدُّوا هَذِهِ الصِّفَاتِ إِلى الأَحوال الَّتِي هِيَ الْعَالِمِيَّةُ وَالْقَادِرِيَّةُ، فَمَا أَلزموه فِي الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ لَازِمٌ لَهُمْ فِي الْعَالِمِيَّةِ وَالْقَادِرِيَّةِ؛ لأَنها إِما مَوْجُودَةٌ، فَيَلْزَمُ التَّرْكِيبُ، أَو مَعْدُومَةٌ، وَالْعَدَمُ نَفْيٌ مَحْضٌ.
وَأَمَّا كَوْنُ الْكَلَامِ هُوَ الأَصوات وَالْحُرُوفُ، فبناءً على النظر في كلام النفس (8)، وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي الأُصول (9).
وأَما الشُّبْهَةُ السَّمْعِيَّةُ: فكأَنها عِنْدَهُمْ بالتَّبَعِ؛ لأَن الْعُقُولَ عِنْدَهُمْ هِيَ الْمُعْتَمِدَةُ (10)، وَلَكِنَّهُمْ يُلْزِمُهُمْ بِذَلِكَ الدَّلِيلُ مِثْلُ مَا فرّوا منه؛ لأَن قوله
_________
(1) في (غ) و (ر): "على الشبهة"، وفي (خ): "على نفي الشبه".
(2) في (خ) و (م): "دليلاً لهؤلاء".
(3) قوله: "في الذات" ليس في (خ).
(4) في (غ) و (ر) و (م): "وأما معاني الخطاب".
(5) في (خ): "والسميع".
(6) في (غ) و (ر): "على" بدل "عن".
(7) في (خ): "وحيث".
(8) في (خ): "على عدم النظر في الكلام النفسي".
(9) مشى المؤلف رحمه الله هنا على طريقة الأشاعرة في القول بأن كلام الله عز وجل معنى نفسي لا تعدد فيه، وليس بحرف ولا صوت. وذلك منهم فرار من إثبات الحرف والصوت في كلام الله عز وجل لما توهّموه في ذلك من التشبيه.
ومعتقد أهل السنة: أن كلام الله عز وجل قديم النوع حادث الآحاد، وأنه يتكلم بصوت، وأنه لم يزل متكلماً إذا شاء ومتى شاء.
انظر تفصيل ذلك في: "الرد على من أنكر الحرف والصوت للسجزي"، و"فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" (5/ 463، 533، 553)، (6/ 632 ـ 639)، و"مختصر الصواعق" لابن القيم (ص500).
(10) في (خ): "هي العمدة المعتمدة".(2/56)
تعالى: {اللَّهِ (1) خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} إِما أَن يَكُونَ عَلَى عُمُومِهِ لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهُ شيءٌ، أَو لَا؟ فَإِنْ كَانَ عَلَى عمومه لزمهم في ذاته وأحوالها التي أثبتوها عوضاً من الصفات، وإن لم يكن عَلَى عُمُومِهِ (2)، فَتَخْصِيصُهُ إِمَّا بِغَيْرِ دَلِيلٍ ـ وَهُوَ التحكُّم ـ، وَإِمَّا بِدَلِيلٍ، فأَبرزوه حَتَّى نَنْظُرَ (3) فِيهِ، وَيَلْزَمُ مِثْلُهُ فِي الإِرادة إِن رَدُّوا الْكَلَامَ إِلَيْهَا، وَكَذَلِكَ غَيْرُهَا مِنَ الصِّفَاتِ إِنْ أَقرُّوا بِهَا، أَوِ الأَحوال إِن أَنْكَرُوهَا، وَهَذَا الْكَلَامُ معهم بحسب الوقت.
والذي يليق بموضوع المسألة (4) أَنواع أُخر مِنَ الأَدلة الَّتِي تَقْتَضِي كَوْنَ هَذَا الْمَذْهَبِ بِدْعَةً لَا يُلَائِمُ قَوَاعِدَ الشَّرْعِ (5).
ومن أغرب (6) ما يوضع ههنا: مَا حَكَاهُ الْمَسْعُودِيُّ (7) ـ وَذَكَرَهُ الآجُرِّي فِي كِتَابِ "الشريعة" (8)
_________
(1) لفظ الجلالة: "الله" ليس في (غ) و (ر).
(2) من قوله: "لزمهم في ذاته" إلى هنا سقط من (خ) و (م).
(3) في (خ) و (ر) و (غ): "تنظر".
(4) في (خ): "يليق بالمسألة".
(5) في (خ): "الشريعة".
(6) في (غ) و (ر): "ومن أقرب".
(7) في "مروج الذهب" (4/ 216 ـ 220) بلا إسناد.
(8) (1/ 239 ـ 244 رقم 216) عن شيخه أبي عبد الله جعفر بن إدريس القزويني، عن أحمد بن الممتنع بن عبد الله القرشي التيمي، عن صالح بن علي، به.
وشيخ الآجري جعفر بن إدريس القزويني ضعفه الدارقطني كما في "لسان الميزان" (2/ 312 رقم 1991).
ولكنه لم ينفرد بها، بل تابعه أحمد بن سندي الحداد؛ قال: قرئ على أحمد بن الممتنع ـ وأنا أسمع ـ؛ قيل له: أخبركم صالح بن علي بن يعقوب بن المنصور الهاشمي ... ، فذكرها.
أخرج هذه الرواية الخطيب في "تاريخه" (10/ 75 ـ 78)، ومن طريقه ابن الجوزي في "مناقب الإمام أحمد" (ص432 ـ 436).
وأحمد بن الممتنع الذي عليه مدار هذا الطريق قال عنه الدارقطني: "صالح" كما في "تاريخ بغداد" (5/ 170).
وصالح بن علي الهاشمي لم يتبين من حاله سوى ما جاء في رواية الآجري: "وكان من وجوه بني هاشم وأهل الجلالة والشأن منهم".
ولما أخرج الخطيب الرواية السابقة قال: "أخبرنا أبو بكر عبد الله بن حمويه بن أبزك=(2/57)