على الخطأ إلا أنهما رأيا ذلك باجتهادهما فكان فرضهما ما فعلاه إذ هما من أهل الاجتهاد.. إلى أن قال: "والذي قلناه من أنهم اجتهدوا فأصاب علي وأخطأ طلحة والزبير هو الصحيح الذي يلزم اعتقاده فلعلي أجران لموافقته الحق باجتهاده ولطلحة والزبير أجر لاجتهادهما وبالله التوفيق"1.
15- وقال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله تعالى: "ولا يجوز أن ينسب إلى أحد من الصحابة خطأ مقطوع به، إذ كانوا كلهم اجتهدوا فيما فعلوه وأرادوا الله عز وجل وهم كلهم لنا أئمة، وقد تعبدنا بالكف عما شجر بينهم وألا نذكرهم إلا بأحسن الذكر لحرمة الصحبة ولنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن سبهم2 وأن الله غفر لهم وأخبر بالرضا عنهم هذا مع ما قد ورد من الأخبار من طرق مختلفة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن طلحة شهيد يمشي على وجه الأرض3 فلو كان ما خرج إليه من الحرب عصياناً لم يكن بالقتل فيه شهيداً وكذلك لو كان ما خرج إليه خطأ في التأويل وتقصيراً في الواجب عليه لأن الشهادة لا تكون إلا بقتل في طاعة فوجب حمل أمرهم على ما بيناه ومما يدل على ذلك ما قد صح وانتشر من أخبار علي بأن قاتل الزبير في النار4 وقوله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بشر قاتل ابن صفية بالنار" 5 وإذا كان كذلك فقد ثبت أن طلحة والزبير غير عاصيين ولا آثمين بالقتال لأن ذلك لو كان كذلك لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم في طلحة "شهيد" ولم يخبر أن قاتل الزبير في النار وكذلك من قعد غير مخطيء في التأويل بل صواب أراهم الله الاجتهاد وإذا كان كذلك لم يوجب ذلك لعنهم والبراءة منهم وتفسيقهم وإبطال فضائلهم وجهادهم وعظيم عنائهم في الدين
__________
1ـ البيان والتحصيل 16/360-361.
2ـ انظر صحيح البخاري 2/292، صحيح مسلم 4/1967، مسند أحمد 3/11.
3ـ انظر سنن الترمذي 5/307-308، سنن ابن ماجه 1/46، جامع الأصول 10/5.
4ـ انظر الطبقات الكبرى لابن سعد 3/101، 110، الاعتقاد للبيهقي ص/195، وانظر البداية والنهاية 7/272.
5ـ أورده الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية 7/272، والمحب الطبري في "الرياض النضرة" 4/289.(2/737)
رضي الله عنهم"أ. هـ1.
16- وقال الإمام النووي رحمه الله تعالى عند قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار" واعلم أن الدماء التي جرت بين الصحابة رضي الله عنهم ليست بداخلة في هذا الوعيد ومذهب أهل السنة والحق إحسان الظن بهم والإمساك عما شجر بينهم وتأويل قتالهم وأنهم مجتهدون متأولون لم يقصدوا معصية ولا محض الدنيا بل اعتقد كل فريق أنه المحق ومخالفه باغ فوجب عليه قتاله ليرجع إلى أمر الله وكان بعضهم مصيباً وبعضهم مخطئاً معذوراً في الخطأ لأنه لاجتهاد والمجتهد إذا أخطأ لا إثم عليه وكان علي رضي الله عنه هو المحق المصيب في تلك الحروب هذا مذهب أهل السنة وكانت القضايا مشتبهة حتى إن جماعة من الصحابة تحيروا فيها فاعتزلوا الطائفتين ولم يقاتلوا ولم يقاتلوا ولم يتيقنوا الصواب، ثم تأخروا عن مساعدته منهم"أ. هـ2.
وقال في موضع آخر مبيناً سبب الحروب التي وقعت بين الصحابة: "واعلم أن سبب تلك الحروب أن القضايا كانت مشتبهة، فلشدة اشتباهها اختلف اجتهادهم وصاروا ثلاثة أقسام:
قسم: ظهر لهم بالاجتهاد أن الحق في هذا الطرف، وأن مخالفه باغ، فوجب عليهم نصرته وقتال الباغي عليه فيما اعتقدوه ففعلوا ذلك ولم يكن يحل لمن هذه صفته التأخر عن مساعدة إمام العدل في قتال البغاة في اعتقاده.
وقسم: عكس هؤلاء ظهر لهم بالاجتهاد أن الحق في الطرف الآخر فوجب عليهم مساعدته وقتال الباغي عليه.
وقسم ثالث: اشتبهت عليهم القضية وتحيروا فيها ولم يظهر لهم ترجيح أحد الطرفين فاعتزلوا الفريقين وكان هذا الاعتزال هو الواجب في حقهم لأنه
__________
1ـ الجامع لأحكام القرآن 16/321-322.
2ـ شرح النووي 18/11.(2/738)
لا يحل الإقدام على قتال مسلم حتى يظهر أنه مستحق لذلك"1 وهذا هو التفسير الصحيح لمواقف الصحابة رضي الله عنهم في تلك الحروب وهو اللائق بحالهم رضي الله عنهم.
17- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في صدد عرضه لعقيدة أهل السنة والجماعة فيما شجر بين الصحابة: "ويمسكون عما شجر بين الصحابة ويقولون: إن هذه الآثار المروية في مساويهم منها ما هو كذب ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغير عن وجهه والصحيح منه هم فيه معذورون إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون"2.أ. هـ
18- وقال الإمام الذهبي: " ... تقرر الكف عن كثير مما شجر بين الصحابة وقتالهم رضي الله عنهم أجمعين وما زال يمر بنا ذلك في الدواوين والكتب والأجزاء ولكن أكثر ذلك منقطع وضعيف، وبعضه كذب وهذا فيما بأيدينا وبين علمائنا فينبغي طيه وإخفاؤه، بل إعدامه لتصفوا القلوب، وتتوفر على حب الصحابة والترضي عنهم، وكتمان ذلك متعين عن العامة وآحاد العلماء وقد يرخص في مطالعة ذلك خلوة للعالم المنصف العري من الهوى، بشرط أن يستغفر لهم كما علمنا الله تعالى حيث يقول: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا} فالقوم لهم سوابق وأعمال مكفرة لما وقع منهم وجهاد محاء وعبادة ممحصة"3.
19- وقال الحافظ ابن كثير: "وأما ما شجر بينهم بعده عليه الصلاة والسلام فمنه ما وقع عن غير قصد كيوم الجمل ومنه ما كان عن اجتهاد كيوم صفين والاجتهاد يخطيء ويصيب ولكن صاحبه معذور وإن أخطأ ومأجور أيضاً:
__________
1ـ المصدر السابق 15/149.
2ـ العقيدة الواسطية مع شرحها لمحمد خليل هراس ص/173.
3ـ سير أعلام النبلاء 10/92.(2/739)
وأما المصيب فله أجران اثنان"1.
20- وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى حاكياً للإجماع على وجوب المنع من الطعن على واحد من الصحابة بسبب ما حصل بينهم ولو عرف المحق منهم حيث قال: "واتفق أهل السنة على وجوب منع الطعن على أحد من الصحابة بسبب ما وقع لهم من ذلك ولو عرف المحق منهم لأنهم لم يقاتلوا في تلك الحروب إلا عن اجتهاد بل ثبت أنه يؤجر أجراً واحداً، وأن المصيب يؤجر أجرين"2.
فهذه طائفة من كلام أكابر علماء أهل السنة والجماعة تبين منها الموقف الواجب على المسلم أن يقفه من الآثار المشتملة على نيل أحد من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين بسبب ما وقع بينهم من شجار وخلاف ومقاتلة خاصة في حرب الجمل بين الخليفة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ومن معه وبين أم المؤمنين عائشة وطلحة والزبير ومن معهم. وأيضاً في حرب صفين بين علي ومعاوية وهو صيانة القلم واللسان عن ذكر ما لا يليق بهم وإحسان الظن بهم والترضي عنهم أجمعين، ومعرفة حقهم ومنزلتهم والتماس أحسن المخارج لما ثبت صدوره من بعضهم واعتقاد أنهم مجتهدون والمجتهد مغفور له خطؤه إن أخطأ، وأن الأخبار المروية في ذلك منها ما هو كذب، ومنها ما قد زيد فيه أو نقص منه حتى تحرف عن أصله وتشوه، كما تبين من هذه النقول المتقدم ذكرها أن عقيدة الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة فيما شجر بينهم هو الإمساك، ومعنى الإمساك عما شجر بينهم وهو عدم الخوض فيما وقع بينهم من الحروب والخلافات على سبيل التوسع وتتبع التفصيلات ونشر ذلك بين العامة أو التعرض لهم بالتنقص لفئة والانتصار لأخرى وقد تقدم معنا قريباً من قول الذهبي رحمه الله تعالى: "بأن كثيراً مما حدث بين الصحابة من شجار وخلاف ينبغي طيه وإخفاؤه بل إعدامه
__________
1ـ الباعث الحثيث ص/182.
2ـ فتح الباري 13/34.(2/740)
وأن كتمان ذلك متعين على العامة بل آحاد العلماء " لأنه لا مصلحة شرعية ولا علمية من وراء نشر ذلك، أما من ناحية النظر العلمي المستقيم المهتدي بنصوص الشريعة فإن البحث في هذا الموضوع لا يمتنع إذا قصد به تبين أحكام الشريعة1 وما كان ذكر العلماء المعتبرين للحروب والخلافات التي وقعت بين الصحابة رضي الله عنهم إلا على هذا السبيل، أو لبيان المواقف الصحيحة، وتصحيح الأغاليط التاريخية التي أثيرت حول مواقفهم في تلك الحروب رضي الله عنهم فعلى المسلم أن يعتقد فيما صح مما جرى بين الصحابة من خلاف أنهم فيه مجتهدون، إما مصيبون فلهم أجر الاجتهاد وأجر الإصابة، وإما مخطئون فلهم أجر الاجتهاد، وخطؤهم مغفور وهم ليسوا معصومين بل هم بشر يصيبون ويخطئون ولكن ما أكثر صوابهم بالنسبة لصواب غيرهم، وما أقل خطأهم إذا نسب إلى خطأ غيرهم، وقد وعدوا من الله بالمغفرة والرضوان، كما أنه يجب على كل مسلم أن يكون لسانه رطباً بالذكر الحسن والثناء الجميل على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحاول جهده في ذكر محاسنهم العظيمة وسيرتهم الحميدة ويتجنب ذكر ما شجر بينهم، هذه طريقة الصدر الأول من هذه الأمة والتي اتخذها أهل السنة والجماعة منهاجاً في موقفهم نحو الصحابة رضي الله عنهم جميعاً.
قال العوام2 بن حوشب: أدركت من أدركت من صدر هذه الأمة بعضهم يقول لبعض: اذكروا محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لتأتلف عليها القلوب ولا تذكروا ما شجر بينهم فتحرشوا3 الناس عليهم4.
وبعبارة أخرى أنه قال: "أدركت صدر هذه الأمة يقولون: اذكروا
__________
1ـ انظر في تفصيل هذا الموضوع ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" 4/434.
2ـ هو: العوام بن حوشب بن يزيد الشيباني أبو عيسى الواسطي ثقة، ثبت، فاضل من السادسة، مات سنة ثمان وأربعين "تقريب التهذيب" 2/89، التهذيب 8/163-164.
3ـ التحريش: هو الإغراء بين الناس "مختار الصحاح" ص/130، لسان العرب 6/279.
4ـ كتاب الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة لابن بطة ص/165.(2/741)
محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تألف عليهم القلوب ولا تذكروا ما شجر بينهم فتجسروا1 الناس عليهم"2.
فأهل السنة مجمعون على وجوب السكوت عن الخوض في الفتن التي جرت بين الصحابة رضي الله عنهم بعد قتل عثمان رضي الله عنه والترحم عليهم وحفظ فضائل الصحابة والاعتراف لهم بسوابقهم ونشر محاسنهم رضي الله عنهم وأرضاهم.
__________
1ـ أي: تشجعوهم "انظر لسان العرب" 4/136.
2ـ ذكره القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" 18/33.(2/742)
المبحث الخامس: خلافة الحسن بن علي رضي الله عنه
لما استشهد الخليفة الرابع علي رضي الله عنه بقتل أحد الخوارج له وهو عبد الرحمن بن عمرو المرادي في شهر رمضان لسبع عشرة ليلة خلت منه سنة أربعين للهجرة النبوية1 بويع بالخلافة بعده ابنه الحسن رضي الله عنه واستمر خليفة على الحجاز واليمن والعراق وخراسان وغير ذلك نحو سبعة أشهر، وقيل: ثمانية أشهر، وقيل ستة أشهر وكانت خلافته هذه المدة خلافة راشدة حقه لأن تلك المدة كانت مكملة لمدة الخلافة الراشدة التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن مدتها ثلاثون سنة ثم تصير ملكاً.
فقد روى الترمذي بإسناده إلى سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الخلافة في أمتي ثلاثون سنة ثم ملك بعد ذلك" 2.
وعند الإمام أحمد من حديث سفينة أيضاً بلفظ: "الخلافة ثلاثون عاماً ثم يكون بعد ذلك الملك" 3.
وعند أبي داود بلفظ: "خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم يؤتي الله الملك من يشاء أو ملكه من يشاء" 4.
ولم يكن في الثلاثين بعده صلى الله عليه وسلم إلا الخلفاء الأربعة وأيام الحسن وقد قرر
__________
1ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 3/37، تاريخ الطبري 5/143، الكامل لابن الأثير 3/387، البداية والنهاية 7/387، وانظر تاريخ خليفة بن خياط ص/199، الطبقات له ص/5.
2ـ سنن الترمذي 3/341.
3ـ المسند 5/220-221.
4ـ سنن أبي داود 2/515.(2/743)
جمع من أهل العلم عند شرحهم لقوله صلى الله عليه وسلم: "الخلافة في أمتي ثلاثون سنةـ" أن الأشهر التي تولى فيها الحسن بن علي بعد موت أبيه كانت داخلة في خلافة النبوة ومكملة لها.
فقد قال أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى: "فنفذ الوعد الصادق في قوله صلى الله عليه وسلم: "الخلافة في أمتي ثلاثون سنة ثم تعود ملكاً" فكانت لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وللحسن منها ثمانية أشهر لا تزيد ولا تنقص يوماً فسبحان المحيط لا رب ـ غيره"1.
وقال القاضي عياض: "لم يكن في ثلاثين سنة إلا الخلفاء الراشدون الأربعة والأشهر التي بويع فيها الحسن بن علي ... والمراد في حديث: " الخلافة ثلاثون سنة" خلافة النبوة وقد جاء مفسراً في بعض الروايات "خلافة النبوة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكاً" 2.
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: "والدليل على أنه أحد الخلفاء الراشدين الحديث الذي أوردناه في دلائل النبوة3 من طريق سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكاً" وإنما كملت الثلاثون بخلافة الحسن بن علي"4.
وقال شارح الطحاوية: وكانت خلافة أبي بكر الصديق سنتين وثلاثة أشهر، وخلافة عمر عشر سنين ونصفاً، وخلافة عثمان اثنتي عشرة سنة وخلافة علي أربع سنين وتسعة أشهر، وخلافة الحسن ستة أشهر"5.
__________
1ـ أحكام القرآن لابن العربي 4/1720.
2ـ شرح النووي على صحيح مسلم 12/201.
3ـ يشير إلى باب عقده في البداية والنهاية وعنون له هكذا "باب في دلائل النبوة الحسية وهي سماوية وأرضية" وهذا الباب في الجزء السادس ص/87، والحديث الذي أشار إليه اورده في نفس الجزء ص/250.
4ـ البداية والنهاية 8/18.
5ـ شرح الطحاوية ص/545.(2/744)
وقال المناوي بعد ذكره لقوله صلى الله عليه وسلم: "ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين" قال: وكان ذلك فلما بويع له بعد أبيه وصار هو الإمام الحق مدة ستة أشهر تكملة للثلاثين سنة التي أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم إنها مدة الخلافة وبعدها يكون ملكاً عضوضاً"1.
ولما كان رضي الله عنه هو المبايع بالخلافة بعد أبيه وأنه الإمام الحق تلك المدة التي كانت مكملة لخلافة النبوة رأى أنه لا بد من أن يكون أمره نافذاً على بلاد الشام التي كان الأمر فيها حينئذ لمعاوية رضي الله عنه فتوجه نحو بلاد الشام بكتائب2 كأمثال الجبال وبايعه منهم أربعون ألفاً على الموت فلما ترائى الجمعان علم أنه لا يغلب أحدهما حتى يقتل الفريق الآخر فنزل لمعاوية عن الخلافة لا لقلة ولا لذلة بل رحمة للأمة حتى لا يقتل بعضها بعضاً واشترط على معاوية رضي الله عنه شروطاً التزمها، ووفى بها وعلى وفقها جرى الصلح بينهما وقد روى قصة الصلح بينهما الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه.
فقد روى بإسناده إلى الحسن البصري حيث قال: "استقبل والله الحسن بن علي معاوية بكتائب أمثال الجبال فقال عمرو بن العاص: إني لأرى كتائب لا تولي حتى تقتل أقرانها فقال له معاوية ـ وكان والله خير الرجلين ـ: أي عمرو إن قتل هؤلاء هؤلاء وهؤلاء هؤلاء من لي بأمور الناس من لي بنسائهم، من لي بضيعتهم؟ فبعث إليه رجلين من قريش من بني عبد شمس ـ عبد الرحمن بن سمرة وعبد الله بن عامر بن كريز ـ فقال: اذهبا إلى هذا الرجل فاعرضا عليه وقولا له واطلبا إليه فأتياه فدخلا عليه فتكلما وقالا له وطلبا إليه فقال لهما الحسن بن علي: إنا بنو عبد المطلب قد أصبنا من هذا المال وإن هذه الأمة قد عاثت في دمائها قالا: فإنه يعرض عليك كذا كذا، ويطلب إليك ويسألك
__________
1ـ فيض القدير 2/409.
2ـ الكتيبة: القطعة العظيمة من الجيش والجمع الكتائب "النهاية في غريب الحديث 4/148.(2/745)
قال: فمن لي بهذا؟ قالا نحن لك به فما سألهما شيئاً إلا قالا: نحن لك به فصالحه فقال الحسن: ولقد سمعت أبا بكرة يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر ـ والحسن بن علي إلى جنبه وهو يقبل على الناس مرة وعليه أخرى ويقول: "إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين" 1.
وبقبوله الصلح مع معاوية حصل مصداق قوله صلى الله عليه وسلم فيه: "فكان كما قال: أصلح الله تعالى به بين أهل الشام وأهل العراق بعد الحروب الطويلة والواقعات المهولة"2.
وهذا الإصلاح الذي حصل بين فريقي الحسن بن علي ومعاوية رضي الله عنهما مما يحبه ـ الرب جل وعلا ـ ورسوله صلى الله عليه وسلم وهو من أكبر مناقب الحسن رضي الله عنه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وهذا الحديث يبين أن الإصلاح بين الطائفتين كان ممدوحاً يحبه الله ورسوله، وأن ما فعله الحسن من ذلك كان من أعظم فضائله ومناقبه التي أثنى بها عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولو كان القتال واجباً مستحباً لم يثن النبي صلى الله عليه وسلم بترك واجب أو مستحب"3.
وقد ذكر بن العربي أسباباً هيأت الحسن لقبول الصلح مع معاوية رضي الله عنه حيث قال: "وعمل الحسن بمقتضى حاله فإنه صالح حين استشرى الأمر عليه وكان ذلك بأسباب سماوية ومقادير أزلية ومواعيد من الصادق صادقة منها: ما رأى من تشتت آراء من معه.
ومنها: أنه طعن حين خرج إلى معاوية فسقط عن فرسه وداوى جرحه حتى برأ فعلم من ينافق عليه ولا يأمنه على نفسه.
__________
1ـ صحيح البخاري 2/114.
2ـ تفسير القرآن العظيم لابن كثير 6/376.
3ـ منهاج السنة 2/202.(2/746)
ومنها: أنه رأى الخوارج أحاطوا بأطرافه، وعلم أنه إن اشتغل بحرب معاوية استولى الخوارج على البلاد، وإن اشتغل بالخوارج استولى عليه معاوية.
ومنها: أنه تذكر وعد جده الصادق عند كل أحد صلى الله عليه وسلم في قوله: "إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين" وإنه لما سار الحسن إلى معاوية بالكتائب في أربعين ألفاً وقدم قيس بن سعد بعشرة آلاف قال عمرو بن العاص لمعاوية: إني أرى كتيبة لا تولي أولاها حتى تدبر أخراها فقال معاوية لعمرو: من لي بذراري المسلمين فقال: أنا فقال: عبد الله بن عامر وعبد الرحمن بن سمرة: تلقاه فتقول له: الصلح فصالحه فنفذ الوعد الصادق في قوله: "إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين" 1.
وكان ذلك الصلح المبارك الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيكون علي يد سبطه الحسن بن علي عام واحد وأربعين هجرية "فإنه نزل عن الخلافة لمعاوية في ربيع الأول من سنة إحدى وأربعين وذلك كمال ثلاثين سنة من موت رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه توفي في ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة وهذا من دلائل ـ نبوته ـ صلوات الله وسلامه عليه وسلم تسليماً، وقد مدحه رسول الله صلى الله عليه وسلم على صنيعه هذا وهو تركه الدنيا الفانية ورغبته في الآخرة الباقية، وحقنه دماء هذه الأمة فنزل عن الخلافة وجعل الملك بيد معاوية حتى تجتمع الكلمة على أمير واحد"2 وتسليم الحسن الأمر لمعاوية يعتبر عقد بيعة منه له بالخلافة وكان ذلك في موضع يقال له: "مسكن"3 ولما نزل الحسن عن الخلافة لمعاوية بايعه "الأمراء من الجيشين واستقبل بأعباء الأمة فسمي ذلك العام عام الجماعة لاجتماع الكلمة فيه على رجل واحد"4 ولاجتماع المسلمين بعد الفرقة وتفرغهم
__________
1ـ أحكام القرآن لابن العربي 4/1719-1720.
2ـ البداية والنهاية 8/18.
3ـ مسكن: موضع قريب من أونا على نهر دجيل، "معجم البلدان" 5/127.
4ـ البداية والنهاية 6/250.(2/747)
للحروب الخارجية والفتوح، ونشر دعوة الإسلام بعد أن عطل قتلة عثمان سيوف المسلمين عن هذه المهمة نحو خمس سنوات. "ولما تسلم معاوية البلاد ودخل الكوفة وخطب بها واجتمعت عليه الكلمة في سائر الأقاليم والآفاق وحصل على بيعته عامئذ الإجماع والاتفاق ـ رحل الحسن بن علي ومعه أخوه الحسين وبقية إخوتهم، وابن عمهم عبد الله بن جعفر من أرض العراق إلى أرض المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، وجعل كما مر بحي من شيعتهم يبكتونه على ما صنع من نزوله عن الأمر لمعاوية وهو في ذلك ـ هو البار الراشد الممدوح، وليس يجد في صدره حرجاً ولا تلوماً ولا ندماً، بل هو راض بذلك مستبشر به وإن كان قد ساء هذا خلقاً من ذويه وأهله وشيعتهم ولا سيما بعد ذلك بمدد، وهلم جراً والحق في ذلك اتباع السنة ومدحه فيما حقن به دماء الأمة، كما مدحه على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم في الحديث الصحيح ولله الحمد والمنة"1.
والحاصل مما تقدم أن أهل السنة والجماعة يعتقدون أن خلافة الحسن بن علي كانت خلافة حقة وأنها جزء مكمل لخلافة النبوة التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن مدتها ستكون ثلاثين سنة وكذلك كانت كما أخبر عليه الصلاة والسلام.
__________
1 ـ البداية والنهاية 8/21.(2/748)
الباب الثالث: سلامة قلوب وألسنة أهل السنة والجماعة للصحابة الكرام رضي الله عنهم
الفصل الأول: وجوب محبتهم والدعاء والاستغفار لهم والشهادة لمن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة منهم
المبحث الأول: وجوب محبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
...
المبحث الأول: وجوب محبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
من عقائد أهل السنة والجماعة وجوب محبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمهم وتوقيرهم وتكريمهم والاحتجاج بإجماعهم والاقتداء بهم، والأخذ بآثارهم، وحرمة بغض أحد منهم لما شرفهم الله به من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم والجهاد معه لنصرة دين الإسلام، وصبرهم على أذى المشركين والمنافقين، والهجرة عن أوطانهم وأموالهم وتقديم حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على ذلك كله، وقد دلت النصوص الكثيرة على وجوب حب الصحابة رضي الله عنهم جميعاً، وقد فهم أهل السنة والجماعة ما دلت عليه النصوص في هذا واعتقدوا ما تضمنته مما يجب لهم من المحبة على وجه العموم رضي الله عنهم وأرضاهم، ومن تلك النصوص:
1- قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 1.
وهذه الآية دليل على وجوب محبة الصحابة لأنه جعل لمن بعدهم حظاً في الفيء ما أقاموا على محبتهم وموالاتهم والاستغفار لهم، وأن من سبهم أو واحداً منهم أو اعتقد فيه شراً أنه لا حق له في الفيء، روى ذلك عن مالك وغيره، قال مالك: "من كان يبغض أحداً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أو كان في قلبه عليهم غل فليس له حق في فيء المسلمين، ثم قرأ {وَالَّذِينَ جَاءُوا
__________
1ـ سورة الحشر آية/10.(2/757)
مِنْ بَعْدِهِمْ} 1.
2- روى الترمذي بإسناده إلى عبد الله بن مغفل المزني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضاً بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه" 2.
هذا الحديث تضمن الحث لكل إنسان يأتي بعد الصحابة في أن يحفظ حقهم، والمعنى: لا تنقصوا من حقهم ولا تسبوهم، بل عظموهم ووقروهم، ولا تتخذوهم هدفاً ترمونهم بقبيح الكلام، كما يرمى الهدف بالسهم، وبين عليه الصلاة والسلام أن حبهم ما استقر في قلب إنسان إلا بسبب حبه للنبي صلى الله عليه وسلم، أو بسبب حب النبي صلى الله عليه وسلم إياهم وما وجد بغضهم في قلب إنسان إلا بسبب ما فيه من البغض للنبي صلى الله عليه وسلم، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "يوشك أن يأخذه": أي: يعاقبه في الدنيا أو في الآخرة3. فالحديث دل على وجوب حب الصحابة رضي الله عنهم وخطورة بغضهم.
قال المناوي في قوله صلى الله عليه وسلم: "الله الله في أصحابي" أي: اتقوا الله فيهم ولا تلمزوهم بسوء أو اذكروا الله فيهم، وفي تعظيمهم وتوقيرهم، وكرره إيذاناً بمزيد الحث على الكف عن التعرض لهم بمنقص "فمن أحبهم فبحبي أحبهم" أي: فبسبب حبهم إياي، أو حبي إياهم، أي: إنما أحبهم لحبهم إياي، أو لحبي إياهم. "ومن أبغضهم فببغضي" أي: فبسبب بغضه إياي، "أبغضهم" يعني إنما أبغضهم لبغضه إياي ... وخص الوعيد بها لما اطلع عليه مما سيكون بعده من ظهور البدع وإيذاء بعضهم زعماً منهم الحب لبعض آخر، وهذا من
__________
1ـ الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 18/32.
2ـ سنن الترمذي 5/358، وقال عقبه: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ورواه الإمام أحمد في مسنده 4/87، والبيهقي في الاعتقاد ص/161.
3ـ انظر تحفة الأحوذي 10/365، الفتح الرباني للساعاتي 22/169.(2/758)
باهر معجزاته، وقد كان في حياته حريصاً على حفظهم والشفقة عليهم.
أخرج البيهقي عن ابن مسعود: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "لا يبلغني أحد منكم عن أحد من أصحابي شيئاً فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر"، وإن تعرض إليهم ملحد وكفر نعمة قد أنعم الله بها عليهم، فجهل منه وحرمان، وسوء فهم، وقلة إيمان، إذ لو لحقهم نقص لم يبق في الدين ساق قائمة لأنهم النقلة إلينا، فإذا جرح النقلة دخل من الآيات والأحاديث التي بها ذهاب الأنام، وخراب الإسلام إذ لا وحي بعد المصطفى صلى الله عليه وسلم وعدالة المبلغ شرط لصحة التبليغ1.
3- وروى الإمام البخاري في صحيحه من حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار" 2.
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم هذا: "أن علامات كمال إيمان الإنسان، أو نفس إيمانه حب مؤمني الأوس والخزرج لحسن وفائهم بما عاهدوا الله عليه من إيواء نبيه صلى الله عليه وسلم ونصره على أعدائه زمن الضعف والعسرة وحسن جواره ورسوخ صدقاتهم وخلوص مودتهم ولا يلزم منه ترجيحهم على المهاجرين الذين فارقوا أوطانهم وأهليهم وحرموا أموالهم حباً له وروماً لرضاه.."وآية النفاق" بالمعنى الخاص "بغض الأنصار"، صرح به مع فهمه مما قبله لاقتضاء المقام التأكيد، ولم يقابل الإيمان بالكفر الذي هو ضده، لأن الكلام فيمن ظاهره الإيمان، وباطنه الكفر فميزه عن ذوي الإيمان الحقيقي، فلم يقل آية الكفر لكونه غير كافر ظاهراً، وخص الأنصار بهذه المنقبة العظمى، لما امتازوا به من الفضائل، فكان اختصاصهم بها مظنة الحسد الموجب للبغض، فوجب التحذير من بغضهم
__________
1ـ فيض القدير للمناوي 2/98.
2ـ صحيح البخاري 1/12.(2/759)
والترغيب في حبهم، وأبرز ذلك في هذين التركيبين المفيدين للحصر لأن المبتدأ والخبر فيهما معرفتان، فجعل ذلك آية الإيمان والنفاق على منهج القصر الإدعائي، حتى كأنه: لا علامة للإيمان إلا حبهم، وليس حبهم إلا علامته، ولا علامة للنفاق إلا بغضهم، وليس بغضهم إلا علامته تنويهاً بعضيم فضلهم، وتنبيهاً على كريم فعلهم، وإن كان من شاركهم في المعنى مشاركاً لهم في الفضل كل بقسطه"1.
4- وروى مسلم بإسناده إلى عدي بن ثابت، قال: سمعت البراء يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الأنصار: "لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق من أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله".
قال شعبة: قلت لعدي: سمعته من البراء؟ قال: إياي حدث2.
5- وروى أيضاً: بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر" 3.
6- وروى الإمام أحمد بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحب الأنصار أحبه الله، ومن أبغض الأنصار أبغضه الله" 4.
7- وروى الحافظ الطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من أحب الأنصار فبحبي أحبهم، ومن أبغض الأنصار فببغضي أبغضهم" 5.
__________
1ـ فيض القدير للمناوي 1/62.
2ـ صحيح مسلم 1/85.
3ـ المصدر السابق 1/86.
4ـ المسند 2/501، ورواه ابن ماجه من حديث البراء بن عازب 1/57، وأورده الشيخ الألباني في الصحيحة برقم "991".
5ـ أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 10/39، وقال عقبه: "ورجاله رجال الصحيح غير أحمد بن حاتم(2/760)
8- وروى الإمام أحمد بإسناده إلى البراء بن عازب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحب الأنصار إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق من أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله" 1.
9- وروى أيضاً: بإسناده إلى سعد بن عبادة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا الحي من الأنصار محنة 2 حبهم إيمان وبغضهم نفاق" 3.
10- وروى أيضاً: بإسناده إلى الحارث بن زياد الساعدي أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق وهو يبايع الناس على الهجرة فقال: يا رسول الله بايع هذا، قال: "ومن هذا" قال: ابن عمي حوط بن يزيد أو يزيد بن حوط، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا أبايعك إن الناس يهاجرون إليكم ولا تهاجرون إليهم، والذي نفس محمد صلى الله عليه وسلم بيده لا يحب رجل الأنصار حتى يلقى الله تبارك وتعالى إلا لقي الله ـ تبارك وتعالى ـ وهو يحبه، ولا يبغض رجل الأنصار حتى يلقى الله ـ تبارك وتعالى ـ إلا لقي الله ـ تبارك وتعالى ـ وهو يبغضه" 4.
11- وروى الإمام مسلم بإسناده إلى علي رضي الله عنه أنه قال: "والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي صلى الله عليه وسلم إلى أن لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق"5.
فهذه الأحاديث كلها دلت على وجوب حب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
= وهو ثقة"، وذكر أيضاً: أن الطبراني رواه بهذا اللفظ عن معاوية بن أبي سفيان ورجاله رجال الصحيح غير النعمان بن مرة وهو ثقة أهـ". وأورده أيضاً الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 2/724.
1ـ المسند 4/283.
2ـ معناه: أن الله تعالى يمتحن الناس بحبهم وبغضهم، فمن أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله.
3ـ المسند 5/285، قال الساعاتي في كتابه "الفتح الرباني" 22/174: "لم أقف عليه لغير الإمام أحمد عن سعد بن عبادة، وسنده جيد ورجاله ثقات". ورواه عبد الرزاق في المصنف 11/59.
4ـ المسند 3/429، وأورده الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 4/235، ورواه أيضاً عبد الرزاق في المصنف 11/59.
5ـ صحيح مسلم 1/186.(2/761)
جميعاً مهاجرين وأنصار، ولا يقال إن ظاهر لفظها في الأنصار فلا يدخل فيها المهاجرون، بل الصحيح أنه يدخل فيها كل فرد من أفراد الصحابة لتحقق مشترك الإكرام لما لهم من حسن الغناء في الدين رضي الله عنهم أجمعين.
كما اشتملت على ذكر الجزاء الذي ينتظر من يكن لهم المحبة في قلبه ومن يكن لهم البغض، فمن أحبهم فاز بحب الله له، ومن أبغضهم أبغضه الله، وشتان بين الجزائين، كما دلت على أن القلب الذي امتلأ ببغضهم إنما هو قلب ينضح بالنفاق، خذل صاحبه بعدم الإيمان والعياذ بالله.
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى مبيناً المراد في قوله صلى الله عليه وسلم: "آية المنافق بغض الأنصار، وآية المؤمن حب الأنصار"، وفي الرواية الأخرى: "لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، ومن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله" وفي الأخرى: "لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر" وفي حديث علي رضي الله عنه: "والذي خلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن لا يحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق".
الآية: هي العلامة، ومعنى هذه الأحاديث أن من عرف مرتبة الأنصار وما كان منهم في نصرة دين الإسلام والسعي في إظهاره وإيواء المسلمين وقيامهم في مهمات دين الإسلام حق القيام، وحبهم النبي صلى الله عليه وسلم، وحبه إياهم، وبذلهم أموالهم وأنفسهم بين يديه، وقتالهم ومعاداتهم سائر الناس إيثاراً للإسلام، وعرف من علي بن أبي طالب رضي الله عنه قربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحب النبي صلى الله عليه وسلم له، وما كان منه في نصرة الإسلام، وسوابقه فيه، ثم أحب الأنصار وعلياً لهذا كان ذلك من دلائل صحة إيمانه، وصدقه في إسلامه لسروره بظهور الإسلام والقيام بما يرضي الله ـ سبحانه وتعالى ـ ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن أبغضهم كان بضد ذلك، واستدل به على نفاقه وفساد سريرته والله أعلم1.
__________
1ـ شرح النووي على صحيح مسلم 2/63-64.(2/762)
وقال الذهبي رحمه الله تعالى مبيناً العلة من جعله صلى الله عليه وسلم حب الأنصار علامة الإيمان وبغضهم علامة النفاق حيث قال: "وما ذاك إلا لسابقتهم ومجاهدتهم أعداء الله بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك حب علي رضي الله عنه من الإيمان وبغضه من النفاق، وإنما يعرف فضائل الصحابة رضي الله عنهم من تدبر أحوالهم وسيرتهم وآثارهم في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد موته من المسابقة إلى الإيمان، والمجاهدة للكفار ونشر الدين وإظهار شعائر الإسلام وإعلاء كلمة الله ورسوله وتعليم فرائضه وسننه ولولاهم ما وصل إلينا من الدين أصل ولا فرع ولا علمنا من الفرائض والسنن سنة ولا فرضاً، ولا علمنا من الأحاديث والأخبار شيئاً1.
وقال العيني رحمه الله تعالى شارحاً لقوله صلى الله عليه وسلم: "آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار" المقصود من الحديث الحث على حب الأنصار وبيان فضلهم، لما كان منهم من إعزاز الدين وبذل الأموال والأنفس والإيثار على أنفسهم والإيواء والنصر وغير ذلك، قالوا: وهذا جار في أعيان الصحابة كالخلفاء وبقية العشرة والمهاجرين بل في كل الصحابة إذ كل واحد منهم له سابقة وسالفة وغناء في الدين وأثر حسن فيه، فحبهم لذلك المعنى محض الإيمان وبغضهم محض النفاق ويدل عليه ما روي مرفوعاً في فضل أصحابه كلهم: " من أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم".
وقال القرطبي: "وأما من أبغض والعياذ بالله أحداً منهم من غير تلك الجهة لأمر طاريء من حدث وقع لمخالفة غرض أو لضرر ونحوه لم يصر بذلك منافقاً ولا كافراً، فقد وقع بينهم حروب ومخالفات، ومع ذلك لم يحكم بعضهم على بعض بالنفاق، وإنما كان حالهم في ذلك حال المجتهدين في الأحكام، فإما أن يقال: كلهم مصيب، أو المصيب واحد والمخطيء معذور، مع أنه مخاطب بما
__________
1ـ كتاب الكبائر ص/234-235.(2/763)
يراه ويظنه، فمن وقع له بغض في أحد منهم والعياذ بالله لشيء من ذلك، فهو عاص يجب عليه التوبة، ومجاهدة نفسه بذكر سوابقهم وفضائلهم، وما لهم على كل من بعدهم من الحقوق إذ لم يصل أحد من بعدهم لشيء من الدين والدنيا إلا بهم وبسببهم قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} 1 الآية أ. هـ.
وقد وفق الله الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة لاعتقاد ما دلت عليه النصوص المتقدم ذكرها من أن حب الصحابة واجب على كل مسلم، فقد سئل الحسن البصري رحمه الله تعالى: حب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما سنة؟ قال: لا، فريضة2.
وقال الطحاوي رحمه الله تعالى مبيناً ما يجب على المسلم اعتقاده في محبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نفرط في حب أحد منهم ولا نتبرأ من أحد منهم ونبغض من يبغضهم وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير، وحبهم دين وإيمان وإحسان وبغضهم كفر ونفاق وطغيان"3.
وقال أبو عبد الله بن بطة في صدد عرضه لعقيدة أهل السنة: "ويحب جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على مراتبهم ومنازلهم أولاً فأولاً: من أهل بدر والحديبية وبيعة الرضوان وأحد فهؤلاء أهل الفضائل الشريفة والمنازل المنيفة الذين سبقت لهم السوابق رحمهم الله أجمعين"4.
فعلى المسلم أن يسلك في حب الصحابة مسلك أهل الحق من أهل السنة
__________
1ـ عمدة القاري شرح صحيح البخاري 1/152، والآية رقم 10 من سورة الحشر.
2ـ رواه خيثمة بن سليمان في كتاب "الرقائق والحكايات"، ص/171.
3ـ شرح الطحاوية ص/467.
4ـ الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة ص/271.(2/764)
والجماعة بحيث يحبهم جميعاً، ولا يفرط في حب أحد منهم وأن يتبرأ من طريقة الشيعة الرافضة الذين يتدينون ببغضهم وسبهم، ومن طريقة النواصب والخوارج الذين ابتلوا بإيذاء أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليعلم كل مسلم أن أهل السنة والجماعة يتبرؤون من طريقة هذه الفرق فيهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "ويبترؤون من طريقة الروافض والشيعة الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم، وطريقة النواصب والخوارج الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل"1.
فمن أراد السلامة لدينه وأن يسلم له إيمانه فليحبهم جميعاً، وأن يختم ذلك على نفسه، وعلى كل أبناء جنسه لأن ذلك واجب على جميع الأمة واتفق على ذلك الأئمة، فلا يزوغ عن حبهم إلا هلك، ولا يزوغ عن وجوب ذلك إلا آفك2.
__________
1ـ العقيدة الواسطية مع شرحها، لمحمد خليل هراس ص/173، وانظر قطف الثمر في عقيدة أهل الأثر ص/103.
2ـ انظر لوامع الأنوار البهية للسفاريني 2/354.(2/765)
المبحث الثاني: الدعاء والاستغفار لهم
من حق الصحابة الكرام رضي الله عنهم على كل من جاء بعدهم من عباد الله المؤمنين أن يدعو لهم ويستغفر لهم، ويترحم عليهم، لما لهم من القدر العظيم، ولما حازوه من المناقب الحميدة، والسوابق القديمة، والمحاسن المشهورة، ولما لهم من الفضل الكبير على كل من أتى بعدهم، فهم الذين نقلوا إلى من بعدهم الدين الحنيف الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، ففضلهم مستمر على كل مسلم جاء بعدهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وقد ندب الله ـ جل وعلا ـ كل من جاء بعدهم من أهل الإيمان إلى أن يدعو لهم، ويترحم عليهم، وأثنى على من استجاب منهم لذلك بقوله ـ جل وعلا ـ {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 1.
فالآية مشتملة على بيان موقف أهل الإيمان ممن تقدمهم من الصحابة، فقد بين ـ تعالى ـ أن موقفهم من أولئك الصفوة أنهم يثنون عليهم، ويدعون لهم ابتهاجاً بما آتاهم الله من الفضل وغبطة لهم فيما وفقوا له من الأعمال المصحوبة بالإخلاص واليقين، وهذا الموقف المبارك ينطبق على أهل السنة والجماعة، فقد وفقهم الله للثناء الجميل والقول الحسن في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم الذين يترضون عنهم جميعاً ويستغفرون لهم، وحرم هذا الموقف العظيم الشيعة الرافضة الذين جعلوا رأس مالهم سبهم وبغضهم والحقد عليهم، وهذا خذلان أيما خذلان
__________
1ـ سورة الحشر آية/10.(2/766)
أعاذنا الله منه.
وقد فهم متقدموا أهل السنة والجماعة ومتأخروهم أن المراد من الآية السابقة الأمر بالدعاء والاستغفار من اللاحق للسابق، ومن الخلف للسلف، الذين هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإليك طائفة من أقوالهم التي دلت على عمق معرفتهم بما دل عليه كتاب ربهم جل وعلا:
1- روى الإمام مسلم بإسناده إلى هشام بن عروة عن أبيه قال: قالت لي عائشة: "يا ابن أختي أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسبوهم"1.
2- وعند ابن أبي شيبة بلفظ: "أمروا بالاستغفار لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فسبوهم"2.
3- وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف وابن مردوية عن عائشة رضي الله عنها، قالت: "أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فسبوهم، ثم قرأت الآية {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ} 3.
قال النووي رحمه الله تعالى: قولها: "أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسبوهم" قال القاضي: الظاهر أنها قالت هذا عندما سمعت أهل مصر يقولون في عثمان ما قالوا: وأهل الشام في علي ما قالوا، والحرورية في الجميع ما قالوا: وأما الأمر بالاستغفار الذي أشارت إليه فهو قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ} وبهذا احتج مالك في أنه لا حق في الفيء لمن سب الصحابة رضي الله عنهم
__________
1ـ صحيح مسلم 4/2317.
2ـ المصنف لابن أبي شيبة 12/179.
3ـ الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي 8/113.(2/767)
لأن الله ـ تعالى ـ إنما جعله لمن جاء بعدهم ممن يستغفر الله لهم والله أعلم"1.
4- وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "لا تسبوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فإن الله قد أمرنا بالاستغفار لهم وهو يعلم أنهم سيقتتلون"2.
5- ذكر الإمام البغوي رحمه الله تعالى عند تفسيره لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} الآية. عن مالك بن مغول قال: قال عامر بن شراحيل الشعبي: يا مالك تفاضلت3 اليهود والنصارى الرافضة بخصلة سئلت اليهود من خير أهل ملتكم، فقالت: أصحاب موسى عليه السلام، وسئلت النصارى: من خير أهل ملتكم، فقالوا: حواري عيسى عليه السلام، وسئلت الرافضة: من شر أهل ملتكم، فقالوا: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. أمروا بالاستغفار لهم فسبوهم فالسيف عليهم مسلول إلى يوم القيامة، لا تقوم لهم راية، ولا يثبت لهم قدم، ولا تجتمع لهم كلمة كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله بسفك دمائهم وتفريق شملهم وإدحاض حجتهم، أعاذنا الله وإياكم من الفتن المضلة"4.
6- وروى أبو نعيم بإسناده إلى عمر بن ذر، قال: أقبلت أنا وأبي دار عامر، فقال له أبي: يا أبا عمرو، قال: لبيك، قال: ما تقول فيما قال فيه الناس من هذين الرجلين، قال عامر: أي هذين الرجلين؟ قال: علي وعثمان قال: إني والله لغني أن أجيء يوم القيامة خصيماً لعلي وعثمان رضي الله تعالى عنهما وغفر لنا ولهما"5.
__________
1ـ شرح النووي على صحيح مسلم 18/158-159.
2ـ الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة لابن بطة ص/119، وأورده القرطبي في تفسيره 18/33.
3ـ أي: فضلت. فقد جاء في شرح الطحاوية، ص/531: "بل قد فضلهم اليهود والنصارى بخصلة".
4ـ تفسير البغوي على حاشية تفسير الخازن 7/54، وذكره القرطبي في الجامع لأحكام القرآن 18/33، وانظر منهاج السنة 1/6-7، شرح الطحاوية ص/531-352.
5ـ حلية الأولياء 4/321، ورواه ابن أبي شيبة في المصنف 12/179.(2/768)
7- أخرج عبد بن حميد عن الضحاك بن مزاحم رحمه الله تعالى، أنه قال في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} الآية: "إمروا بالاستغفار لهم وقد علم ما أحدثوا"1.
8- وأخرج ابن جرير الطبري بإسناده إلى قتادة بن دعامة السدوسي أنه قال بعد قراءته لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} الآية: "إنما أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يؤمروا بسبهم"2.
فهذه جملة صالحة من أقوال السلف الصالح كلها دلت على أن كل من جاء بعد الرعيل الأول من الصحابة رضي الله عنهم مأمور بالدعاء والاستغفار لهم، والترحم عليهم، وأنه يجب على كل مسلم أن يطهر قلبه من الغل والحقد عليهم، وقد استنبط أهل العلم من الصحابة ومن جاء بعدهم من علماء أهل السنة والجماعة أن من لم يستغفر لهم وكان في قلبه غل عليهم أنه بعيد من أهل الإسلام، ولا حظ له في الفيء وما يغنمه المسلمون.
9- أخرج ابن مردوية عن ابن عمر أنه سمع رجلاً وهو يتناول بعض المهاجرين فقرأ عليه {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} الآية.. ثم قال: هؤلاء المهاجرون فمنهم أنت؟ قال: لا ثم قرأ عليه {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالأِيمَانَ} الآية، ثم قال: هؤلاء الأنصار، أفأنت منهم؟ قال: لا، ثم قرأ عليه {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} 3 ثم قال: أفمن هؤلاء أنت؟ قال: أرجو، قال: لا ليس من هؤلاء من يسب هؤلاء"4.
10- وأخرج ابن مردوية من وجه آخر عن ابن عمر أنه بلغه أن رجلاً نال من عثمان، فدعاه، فأقعده بين يديه، فقرأ عليه {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ}
__________
1ـ الدر المنثور في التفسير بالمأثور 8/113.
2ـ جامع البيان للطبري 28/44-45.
3ـ الآيات رقم 10.9.8 من سورة الحشر.
4ـ الدر المنثور في التفسير بالمأثور 8/113-114.(2/769)
الآية، قال: من هؤلاء أنت؟ قال: لا، ثم قرأ {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} الآية، قال: من هؤلاء أنت؟ قال: أرجو أن أكون منهم، قال: لا والله ما يكون منهم من يتناولهم وكان في قلبه الغل عليهم1.
ولم يذكر الآية الواردة في الأنصار لكون الرجل تناول عثمان رضي الله عنه وهو من المهاجرين.
11- روى ابن بطة وغيره من حديث أبي بدر، قال: "حدثنا عبد الله بن زيد عن طلحة بن مصرف عن مصعب بن سعد عن سعد بن أبي وقاص قال: الناس على ثلاثة منازل، فمضت منزلتان، وبقيت واحدة، فأحسن ما أنتم عليه كائنون أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت ثم قرأ: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً} هؤلاء المهاجرون وهذه منزلة قد مضت، ثم قرأ: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} ، ثم قال: هؤلاء الأنصار وهذه منزلة قد مضت، ثم قرأ: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} ، فقد مضت هاتان وبقيت هذه المنزلة التي بقيت أن تستغفروا لهم"2.
ولا يتردد من له أدنى علم في أن الشيعة الرافضة خارجون من هذه المنزلة لأنهم لم يترحموا على الصحابة ولم يستغفروا لهم بل سبوهم وحملوا لهم الغل في قلوبهم، فحرموا من تلك المنزلة التي يجب على المسلم أن يكون فيها ولا يحيد عنها بحال حتى يلقى ربه ـ جل وعلا ـ.
__________
1ـ الدر المنثور في التفسير بالمأثور 8/113-114.
2ـ وأورده شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "منهاج السنة" 1/153، ورواه الحاكم في المستدرك 2/484، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.(2/770)
12- وقال الإمام مالك رحمه الله تعالى: "من يبغض أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كان في قلبه عليهم غل فليس له حق في فيء المسلمين، ثم تلا: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} حتى أتى على هذه الآية {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالأِيمَانَ} {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} إلى قوله: {رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 1.
13- وقال أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} يعني التابعين إلى يوم القيامة.
قال الزجاج: والمعنى: ما أفاء الله على رسوله فلله وللرسول ولهؤلاء المسلمين وللذن يجيئون من بعدهم إلى يوم القيامة ما أقاموا على محبة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودليل هذا قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} أي: الذين جاءوا في حال قولهم: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا} فمن ترحم على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن في قلبه غل لهم فله حظ من فيء المسلمين بنص الكتاب"2.أ. هـ
14- وقال البغوي رحمه الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} يعني: التابعين، وهم الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار إلى يوم القيامة، ثم ذكر أنهم يدعون لأنفسهم ولمن سبقهم بالإيمان والمغفرة ... ـ إلى أن قال ـ: "فكل من كان في قلبه غل على أحد من الصحابة ولم يترحم على جميعهم فإنه ليس ممن عناه الله بهذه الآية، لأن الله ـ تعالى ـ رتب المؤمنين على ثلاثة منازل: المهاجرين والأنصار والتابعين الموصوفين بما ذكر، فمن لم يكن من التابعين بهذه الصفة كان خارجاً من أقسام المؤمنين.
__________
1ـ انظر قول مالك في: "أحكام القرآن لابن العربي" 4/1778، زاد المسير في علم التفسير 8/216، تفسير البغوي على حاشية تفسير الخازن 7/54، وانظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير 6/609.
2ـ زاد المسير في علم التفسير 8/216.(2/771)
قال ابن أبي ليلى: الناس على ثلاثة منازل: المهاجرين، والذين تبوءوا الدار والإيمان، والذين جاءوا من بعدهم فاجتهد أن لا تكون خارجاً من هذه المنازل"1.
15- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بعد أن ذكر آيات الحشر الثلاث من قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} إلى قوله: {رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 2.
قال رحمه الله: "وهذه الآيات تتضمن الثناء على المهاجرين والأنصار وعلى الذين جاءوا من بعدهم يستغفرون لهم ويسألون الله ألا يجعل في قلوبهم غلاً لهم وتتضمن أن هؤلاء الأصناف هم المستحقون للفيء، ولا ريب أن هؤلاء الرافضة خارجون من الأصناف الثلاثة، فإنهم لم يستغفروا للسابقين وفي قلوبهم غل عليهم، ففي الآيات الثناء على الصحابة وعلى أهل السنة الذين يتولونهم وإخراج الرافضة من ذلك، وهذا ينقض مذهب الرافضة"3.
16- وقال الحافظ ابن كثير: "قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ} الآية.. هؤلاء هم القسم الثالث ممن يستحق فقراؤهم من مال الفيء وهم المهاجرون ثم الأنصار، ثم التابعون لهم بإحسان، كما قال في آية براءة: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} 4.
فالتابعون لهم بإحسان هم المتبعون لآثارهم الحسنة وأوصافهم الجميلة الداعون لهم في السر والعلانية ولهذا قال تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ} أي: قائلين: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا
__________
1ـ تفسير البغوي على حاشية تفسير الخازن 7/54.
2ـ الآيات أرقام 10.9.8.
3ـ منهاج السنة 1/153، وانظر شرح الطحاوية ص/529.
4ـ آية رقم 100.(2/772)
بِالأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ} أي: بغضاً وحسداً {لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} وما أحسن ما استنبط الإمام مالك رحمه الله من هذه الآية الكريمة أن الرافضي الذي يسب الصحابة ليس له في مال الفيء نصيب لعدم اتصافه بما مدح الله به هؤلاء في قوله: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 1أ. هـ.
17- وقال الشوكاني رحمه الله تعالى بعد أن ذكر قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} الآية: "أمرهم الله ـ سبحانه ـ بعد الاستغفار للمهاجرين والأنصار أن يطلبوا من الله ـ سبحانه ـ أن ينزع من قلوبهم الغل للذين آمنوا على الإطلاق، فيدخل في ذلك الصحابة دخولاً أولياً لكونهم أشرف المؤمنين، ولكون السياق فيهم، فمن لم يستغفر للصحابة على العموم ويطلب رضوان الله لهم فقد خالف ما أمره الله به في هذه الآية فإن وجد في قلبه غلاً لهم فقد أصابه نزغ من الشيطان وحل به نصيب وافر من عصيان الله بعداوة أوليائه وخير أمة نبيه صلى الله عليه وسلم وانفتح له باب من الخذلان يفد به على نار جهنم إن لم يتدارك نفسه باللجأ إلى الله ـ سبحانه ـ والاستغاثة به بأن ينزع عن قلبه ما طرقه من الغل لخير القرون وأشرف هذه الأمة، فإن جاوز ما يجده من الغل إلى شتم أحد منهم، فقد انقاد للشيطان بزمام ووقع في غضب الله وسخطه، وهذا الداء العضال إنما يصاب به من ابتلي بمعلم من الرافضة أو صاحب من أعداء خير الأمة الذين تلاعب بهم الشيطان وزين لهم الأكاذيب المختلقة والأقاصيص المفتراة والخرافات الموضوعة، وصرفهم عن كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وعن سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المنقولة إلينا بروايات الأئمة الأكابر في كل عصر من العصور فاشتروا الضلالة بالهدى واستبدلوا الخسران العظيم بالربح الوافر وما زال الشيطان الرجيم ينقلهم من منزلة إلى منزلة، ومن
__________
1ـ تفسير القرآن العظيم 6/609.(2/773)
رتبة إلى رتبة حتى صاروا أعداء كتاب الله وسنة رسوله وخير أمته وصالحي عباده وسائر المؤمنين وأهملوا فرائض الله وهجروا شعائر الدين وسعوا في كيد الإسلام وأهله كل السعي ورموا الدين وأهله بكل حجر ومدر والله من ورائهم محيط1أ. هـ.
فهذه النصوص التي سقناها في هذا المبحث عن المتقدمين والمتأخرين من أهل السنة والجماعة كلها تبين أنهم هم الفائزون بسلامة الصدور من الغل والحقد لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنهم يعتقدون أن من حق الصحابة الكرام على من بعدهم الترحم عليهم والاستغفار لهم فأهل السنة والجماعة يترحمون على جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم صغيرهم وكبيرهم أولهم وآخرهم، ويذكرون محاسنهم وينشرون فضائلهم ويقتدون بهديهم ويقتفون آثارهم، ويعتقدون أن الحق في كل ما قالوه والصواب فيما فعلوه2.
فمن لم يترحم على الصحابة ويستغفر لهم فهو ليس من أهل السنة والجماعة وليس له حظ في شيء من في المسلمين.
__________
1ـ فتح القدير 5/202.
2ـ انظر كتاب الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة لابن بطة ص/264-265.(2/774)
البحث الثالث: الشهادة لمن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة منهم
...
المبحث الثالث: الشهادة لمن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة منهم
من عقائد أهل السنة والجماعة أنهم يشهدون لمن شهد له المصطفى صلى الله عليه وسلم بالجنة من الصحابة الكرام رضي الله عنهم فهناك أشخاص أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم من أهل الجنة، وهناك آخرون أخبر ببعض النعيم المعد لهم في الجنة، وكل ذلك شهادة منه صلى الله عليه وسلم لهم بالجنة، وسواء ذكر المصطفى صلى الله عليه وسلم الشخص من أهل الجنة أو أخبر أن له كذا أو مكانته في الجنة كذا أو أخبر أنه رآه في الجنة الكل يشهد له أهل السنة والجماعة بالجنة تصديقاً منهم لخبر الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم فلقد أخبر صلى الله عليه وسلم عن عشرة من المهاجرين بأنهم في الجنة وسماهم بأعيانهم وبشرهم بها وأولئك العشرة هم:
1- أبو بكر: عبد الله بن عثمان الصديق الأكبر.
2- أبو حفص: عمر بن الخطاب.
3- أبو عبد الله: عثمان بن عفان.
4- أبو الحسن: علي بن أبي طالب.
5- أبو محمد: طلحة بن عبيد الله.
6- أبو عبد الله: الزبير بن العوام.
7- أبو إسحاق: سعد بن أبي وقاص.
8- أبو محمد: عبد الرحمن بن عوف.
9- أبو عبيدة: عامر بن عبد الله بن الجراح.
10- أبو الأعور: سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل.(2/775)
وهؤلاء العشرة رضي الله عنهم انتظم تبشيرهم بالجنة حديث واحد.
روى الإمام الترمذي وغيره عن سعيد بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "عشرة في الجنة: أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعلي وعثمان والزبير وطلحة وعبد الرحمن وأبو عبيدة، وسعد بن أبي وقاص" قال: فعد هؤلاء التسعة، وسكت عن العاشر، فقال القوم ننشدك الله يا أبا الأعور من العاشر؟، قال: "نشدتموني بالله أبو الأعور في الجنة"1.
هؤلاء هم العشرة المبشرون بالجنة رضي الله عنهم وكلهم من المهاجرين وتبشير العشرة هؤلاء بالجنة لا ينافي تبشير غيرهم، فقد جاء تبشير غيرهم في غير ما خبر، ولأن العدد في الحديث لا ينفي الزائد وممن بشر بالجنة سوى هؤلاء العشرة كثير منهم:-
11- "بلال بن رباح":
بلال بن رباح الحبشي المؤذن واسم أمه حمامة اشتراه أبو بكر الصديق من المشركين لما كانوا يعذبونه على التوحيد، فأعتقه، فلزم النبي صلى الله عليه وسلم، وأذن له، شهد بدراً وأحداً وسائر المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآخى بينه وبين أبي عبيدة بن الجراح، خرج رضي الله عنه مجاهداً بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن مات بالشام زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه2.
وقد بشر رضي الله عنه بالجنة في غير ما حديث، فقد روى البخاري رحمه الله من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "رأيتني دخلت الجنة فإذا أنا بالرميصاء 3 امرأة أبي طلحة وسمعت خشفة
__________
1ـ سنن الترمذي 3/311-312، وسنن أبي داود 2/515-516، وابن ماجه 1/48.
2ـ انظر ترجمته في الطبقات الكبرى لابن سعد 3/232-239، الاستيعاب على حاشية الإصابة 1/145-150، أسد الغابة 1/206-209، تهذيب الأسماء واللغات 1/136-137، سير أعلام النبلاء 1/347، الإصابة 1/169، تهذيب التهذيب 1/502.
3ـ جاء في النهاية: 2/263: "يقال غمصت العين ورمصت والرمص وهو البياض الذي =(2/776)
فقلت: من هذا؟ فقال: هذا بلال" 1.
وعند مسلم بلفظ: "..ثم سمعت خشخشة أمامي فإذا بلال" 2.
وروى الإمام مسلم بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال عند صلاة الغداة: "يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته عندك في الإسلام منفعة، فإني سمعت الليلة خشف نعليك بين يدي في الجنة"، قال بلال: ما عملت عملاً في الإسلام أرجى عندي منفعة من أني لا أتطهر طهوراً تاماً في ساعة من ليل ولا نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب الله لي أن أصلي 3.
12- "زيد بن حارثة":
هو زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي بن عبد العزى بن زيد بن امريء القيس وزيد هذا هو ولد أسامة بن زيد بن زيد الحب ابن الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يدعى زيد بن محمد حتى نزلت: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ} 4، استشهد في مؤتة من أرض الشام سنة ثمان من الهجرة رضي الله عنه5.
ومما جاء في بشارته بالجنة ما أخرجه ابن عساكر عن زيد بن الحباب: حدثني حسين بن واقد عن عبد الله بن بريدة عن أبيه مرفوعاً، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "دخلت الجنة فاستقبلتني جارية شابة، فقلت: لمن أنت؟ قالت: أنا
__________
= تقطعه العين ويجتمع في زوايا الأجفان والرمص الرطب والغمص اليابس".
1ـ صحيح البخاري 2/293.
2ـ صحيح مسلم 4/1908.
3ـ صحيح مسلم 4/1910.
4ـ من الآية رقم 5 من سورة الأحزاب.
5ـ انظر ترجمته في طبقات ابن سعد 3/40-47، الجرح والتعديل 3/559، الاستيعاب على حاشية الإصابة 1/525-530، أسد الغابة 2/224-227، تهذيب الأسماء واللغات 1/202-203، سير أعلام النبلاء 1/220-230، مجمع الزوائد 9/274-275، الإصابة 1/545-546.(2/777)
لزيد بن حارثة" 1.
فهذا الحديث اشتمل على منقبة ظاهرة لزيد بن حارثة حيث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه أحد الذين رأى لهم بعض النعيم المعد لهم في الجنة.
13- "حاطب بن أبي بلتعة":
هو حاطب بن أبي بلتعة اللخمي من ولد لخم بن عدي، يكنى أبا عبد الله، وقيل يكنى أبا محمد واسم أبي بلتعة عمرو بن راشد بن معاذ اللخمي، حليف قريش، ويقال: إنه من مذجح، وقيل: هو حليف للزبير بن العوام، وهو من أهل اليمن، والأكثر أنه حليف لبني أسد بن عبد العزى، شهد بدراً والحديبية، ومات سنة ثلاثين بالمدينة، وهو ابن خمس وستين سنة وصلى عليه ذو النورين عثمان2.
وقد جاء النص عليه في أنه من أصحاب الجنة، وممن يقطع له بدخولها فيما رواه مسلم بإسناده إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنه: أن عبداً لحاطب جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو حاطباً، فقال: يا رسول الله ليدخلن حاطب النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كذبت لا يدخلها، فإنه شهد بدراً والحديبية" 3.
فهذا الحديث تضمن فضيلة لأهل بدر والحديبية على وجه العموم ولحاطب
__________
1ـ أورده السيوطي في "الجامع الصغير" وعزاه للروياني والضياء في المختارة عن بريدة. انظر: فيض القدير للمناوي 3/521، وذكره الألباني في كتابه "سلسلة الأحاديث الصحيحة" 4/474، وقال: رواه ابن عساكر 6/399/2، من طريقين عن زيد بن الحباب ... إلخ السند المذكور، ثم قال: وهذا سند صحيح على شرط مسلم، وأورده أيضاً في: صحيح الجامع 3/141، وقال عقبه: صحيح.
2ـ انظر ترجمته في الطبقات الكبرى لابن سعد 3/114-115، الاستيعاب على حاشية الإصابة 1/347-350، سير أعلام النبلاء 2/43-45، البداية والنهاية 7/171، الإصابة 1/299-300.
3ـ صحيح مسلم 4/1942.(2/778)
على وجه الخصوص، حيث نص عليه باسمه أنه من أهل الجنة وأن النار لا تمسه رضي الله عنه وأرضاه.
14- "عكاشة بن محصن":
هو عكاشة بن محصن بن حرثان بن مرة بن بكير بن غنم بن دودان بن أسيد بن خزيمة الأسدي حليف بني عبد شمس من السابقين الأولين البدريين أهل الجنة، قتل شهيداً في قتال أهل الردة زمن أبي بكر الصديق قتله طليحة بن خويلد الأسدي الذي ادعى النبوة وقد هداه الله ـ عز وجل ـ فرجع إلى الإسلام1.
شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة.
فقد روى البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: "عرضت علي الأمم فجعل يمر النبي معه الرجل والنبي معه الرجلان والنبي معه الرهط، والنبي ليس معه أحد ورأيت سواداً كثيراً سد الأفق، فرجوت أن تكون أمتي، فقيل: هذا موسى وقومه، ثم قيل لي: انظر فرأيت سواداً كثيراً سد الأفق، فقيل لي: انظر هكذا وهكذا، فرأيت سواداً كثيراً سد الأفق فقيل: هؤلاء أمتك، ومع هؤلاء سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب" فتفرق الناس، ولم يبين لهم فتذاكر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: أما نحن فولدنا في الشرك، ولكنا آمنا بالله ورسوله، ولكن هؤلاء هم أبناؤنا، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "هم الذين لا يتطيرون ولا يكتوون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون" فقام عكاشة بن محصن، فقال: أمنهم أنا يا رسول الله؟ قال: "نعم" فقام آخر، فقال: أمنهم أنا؟ فقال: "سبقك بها عكاشة" 2.
__________
1ـ انظر ترجمته في الطبقات الكبرى لابن سعد 3/92-93، الجرح والتعديل 7/39، حلية الأولياء 2/12-13، الاستيعاب على حاشية الإصابة 3/155-157، تهذيب الأسماء واللغات 1/338، الإصابة 2/487-489.
2ـ صحيح البخاري 4/18-19، وانظر صحيح مسلم 1/199.(2/779)
وعند الإمام مسلم من حديث عمران بن حصين، قال: قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب" قالوا: ومن هم يا رسول الله؟ قال: "هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون" فقام عكاشة بن محصن، فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، قال: "أنت منهم" 1.
فهذان الحديثان فيهما منقبة لعكاشة بن محصن رضي الله عنه وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه من المقطوع لهم بدخول الجنة.
15- "سعد بن معاذ":
هو أبو عمرو سعد بن معاذ بن النعمان بن امريء القيس بن زيد بن عبد الأشهل بن جشم بن الحارث بن الخزرج بن النبيت بن مالك بن الأوس الأنصاري الأشهلي سيد الأوس، وأمه كبشة بنت رافع، لها صحبة، أسلم رضي الله عنه بالمدينة بين العقبة الأولى والثانية علي يدي مصعب بن عمير، ثم كان سبباً في إسلام قومه كلهم، شهد بدراً، وأحداً، والخندق، ورمي يوم الخندق بسهم فعاش بعد ذلك شهراً حتى حكم في بني قريظة حكمه المشهور2 الذي وافق حكم الله من فوق سبع سموات، وبعد ذلك مات بسبب انتقاض جرحه وذلك سنة خمس3.
وقد أخبر صلى الله عليه وسلم ببعض ما أعد الله له في الجنة من النعيم، فقد روى الشيخان
__________
1ـ صحيح مسلم 1/198.
2ـ وهو أن من أنبت منهم قتل ومن لم ينبت خلي سبيله، انظر حديث عطية القرظي في سنن أبي داود 2/453، سنن الترمذي 3/72، وقال: "هذا حديث حسن صحيح".
3ـ انظر ترجمته في انظر ترجمته في الطبقات الكبرى لابن سعد 3/420-436، الجرح والتعديل 4/93، الاستيعاب على حاشية الإصابة 2/25-30، أسد الغابة 2/296-299، تهذيب الأسماء واللغات 1/214-215، سير أعلام النبلاء 1/279-297، البداية والنهاية 4/143-146، الإصابة 2/35.(2/780)
من حديث البراء رضي الله عنه قال: أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم حلة حرير، فجعل أصحابه يمسونها ويعجبون من لينها، فقال: "تعجبون من لين هذه؟ لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير منها وألين" 1.
ورويا أيضاً من حديث أنس رضي الله عنه قال: أهدي للنبي صلى الله عليه وسلم جبة2 سندس وكان ينهى عن الحرير فعجب الناس منها فقال: "والذي نفس محمد بيده إن مناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا" 3.
ففي هذين الحديثين: إشارة إلى عظيم منزلة سعد في الجنة، وأن أدنى ثيابه فيها التي هي المناديل خير من تلك الجبة التي أثارت العجب في نفوس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن المناديل أدنى الثياب فغيره أفضل، وفيها إثبات الجنة لسعد بن معاذ رضي الله عنه4.
16- "ثابت بن قيس بن شماس":
هو: ثابت بن قيس بن شماس من مالك بن امريء القيس بن مالك بن الأغر بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج الأنصاري الخزرجي، وأمه امرأة من طيء، يكنى أبا محمد بابنه محمد، وقيل: أبا عبد الرحمن، كان رضي الله عنه خطيب الأنصار، ويقال له: خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، شهد أحداً وما بعدها من المشاهد، وقتل يوم اليمامة شهيداً في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه5.
__________
1ـ صحيح البخاري 2/95، صحيح مسلم 4/1916، وانظر اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان 3/158.
2ـ الجبة: هي ما قطع من الثياب مشمراً. هدي الساري، ص/96، وانظر شرح النووي 16/23-24.
3ـ صحيح البخاري 2/95، صحيح مسلم 4/1916، وانظر اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان 3/158.
4ـ انظر شرح النووي على صحيح مسلم: 16/23.
5ـ انظر ترجمته في الاستيعاب على حاشية الإصابة 1/193-197، تهذيب الأسماء واللغات 1/139-140، سير أعلام النبلاء 1/308-314، تهذيب التهذيب: 2/12-13، الإصابة 1/197.(2/781)
وقد وردت بشارته بالجنة فيما رواه البخاري بإسناده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم افتقد ثابت بن قيس، فقال رجل: يا رسول الله أنا أعلم لك علمه، فأتاه فوجده جالساً في بيته منكساً رأسه، فقال له: ما شأنك؟ فقال: شر. كان يرفع صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم، فقد حبط عمله، وهو من أهل النار فأتى الرجل1 النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنه قال كذا وكذا، فقال موسى2: فرجع إليه المرة الآخرة ببشارة عظيمة، فقال: "اذهب إليه، فقل له: إنك لست من أهل النار، ولكنك من أهل الجنة" 3.
وروى الإمام مسلم بإسناده إلى أنس بن مالك أنه قال: لما نزلت هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} 4 إلى آخر الآية، جلس ثابت بن قيس في بيته، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ فقال: "يا أبا عمر، وما شأن ثابت؟ أشتكى5"؟ قال سعد: إنه لجاري وما علمت له بشكو، قال: فأتاه سعد فذكر له قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ثابت: أنزلت هذه الآية ولقد علمتم أني من أرفعكم صوتاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنا من أهل النار، فذكر ذلك سعد للنبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل هو من أهل الجنة".
وفي رواية أخرى له عن أنس قال: لما نزلت هذه الآية. واقتص الحديث6 ولم يذكر سعد بن معاذ، وزاد: فكنا نراه يمشي بين أظهرنا رجل من أهل الجنة7.
__________
1ـ هذا الرجل هو سعد بن معاذ كما في رواية مسلم التي ستأتي بعد هذا الحديث.
2ـ هو ابن أنس راوي الحديث عن أنس. انظر: فتح الباري 8/592.
3ـ صحيح البخاري: 3/191.
4ـ سورة الحجرات آية/2.
5ـ أشتكى: الهمزة للاستفهام أي: أمرض، فالشكوى هنا المرض وهمزة الوصل ساقطة كما في قوله تعالى: {أصطفى البنات على البنين} .
6ـ أي: وروى الحديث على وجهه.
7ـ الحديثان في صحيح مسلم: 1/110-111.(2/782)
هذه الأحاديث تضمنت منقبة عظيمة لثابت بن قيس رضي الله عنه وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه من أهل الجنة رضي الله عنه وأرضاه.
17- "حارثة بن سراقة":
هو حارثة بن سراقة بن الحارث بن عدي بن مالك بن عدي بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار الأنصاري، أمه الربيع بنت النضر عمة أنس بن مالك، شهد بدراً، وقتل يومئذ شهيداً، قتله حبان بن العرقة بسهم وهو يشرب من الحوض، وكان خرج نظاراً يوم بدر ورماه فأصاب حنجرته فقتله، وهو أول قتيل قتل ببدر من الأنصار1.
وقد شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بأنه من أهل الجنة، فقد روى البخاري رحمه الله تعالى بإسناده إلى أنس رضي الله عنه قال: "أصيب حارثة يوم بدر وهو غلام، فجاءت أمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله قد عرفت منزلة حارثة مني، فإن يكن في الجنة أصبر وأحتسب، وإن تكن الأخرى تر ما أصنع، فقال: "ويحك ـ أو هبلت ـ أو جنة واحدة هي؟ إنها جنات كثيرة، وإنه في جنة الفردوس" 2.
وروى أيضاً: بإسناده إلى أنس بن مالك أن أم حارثة بن سراقة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا نبي الله ألا تحدثني عن حارثة ـ وكان قتل يوم بدر أصابه سهم غرب ـ فإن كان في الجنة صبرت وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء، قال: "يا أم حارثة إنها جنان في الجنة وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى" 3.
في هذين الحديثين منقبة ظاهرة لحارثة بن سراقة وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر
__________
1ـ انظر ترجمته في الطبقات الكبرى لابن سعد 3/510-511، الاستيعاب على حاشية الإصابة 1/284، الإصابة في تمييز الصحابة 1/297، فتح الباري 7/305، أسد الغابة 1/355-356.
2ـ صحيح البخاري 3/7.
3ـ صحيح البخاري 2/139.(2/783)
أمه بأنه في الجنة وأنه أصاب من الجنان أعلاها، وهي الفردوس.
18- حارثة بن النعمان:
هو: حارثة بن النعمان بن نقع بن زيد بن عبيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار الأنصاري، يكنى أبا عبد الله، شهد بدراً وأحداً والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان من فضلاء الصحابة، توفي رضي الله عنه في خلافة معاوية بن أبي سفيان1.
وحارثة هذا وردت بشارته بالجنة فيما صح من الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد روى الإمام أحمد بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نمت فرأيتني في الجنة فسمعت صوت قاريء يقرأ فقلت: من هذا؟، قالوا: حارثة بن النعمان" فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كذاك البر كذاك البر" وكان أبر الناس بأمه"2.
ورواه أبو عبد الله الحاكم بلفظ: "دخلت الجنة فسمعت فيها قراءة فقلت: من هذا؟ قالوا: حارثة بن النعمان" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كذلكم البر كذلكم البر" 3.
قال الطيبي في قوله صلى الله عليه وسلم: "كذلكم البر كذلكم البر" المشار إليه ما سبق والمخاطبون الصحابة، فإن المصطفى صلى الله عليه وسلم رأى هذه الرؤيا وقصها على أصحابه، فلما بلغ إلى قوله النعمان نبههم على سبب نيل تلك الدرجة بقوله
__________
1ـ انظر ترجمته في الطبقات الكبرى لابن سعد 3/487-488، طبقات خليفة ص/90، المستدرك 3/208، الاستيعاب على حاشية الإصابة 1/282-284، أسد الغابة 1/358-359، سير أعلام النبلاء 2/378-380، الإصابة 1/298-299.
2ـ المسند 6/151-152، قال الحافظ: إسناده صحيح. الإصابة 1/298.
3ـ المستدرك 3/208، وقال عقبه: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وأقره الذهبي. وأورده السيوطي في الجامع الصغير ورمز له بالصحة. انظر فيض القدير للمناوي 3/519، وأورده الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 2/616.(2/784)
"كذلكم البر"، أي: حارثة، نال تلك الدرجة بسبب البر وموقع هذه الجملة التذييل كقوله تعالى: {وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} ، وفيه من المبالغة أنه جعل جزاء البر براً، وعرف الخبر بلام الجنس تنبيهاً على أن هذه الدرجة القصيا لا تنال إلا ببر الوالدين والتكرار للاستيعاب. أ.هـ1.
19- "عبد الله بن سلام":
هو: عبد الله بن سلام بن الحارث أبو يوسف من ذرية يوسف بن يعقوب صلى الله عليه وسلم، كان حليفاً للأنصار، وهو أحد أحبار اليهود أسلم رضي الله عنه حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وكان اسمه في الجاهلية الحصين، فلما أسلم سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله، توفي بالمدينة في خلافة معاوية سنة ثلاث وأربعين2.
أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة.
روى البخاري ومسلم في صحيحهما من حديث سعد بن أبي وقاص قال: ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على الأرض "إنه من أهل الجنة"، إلا لعبد الله بن سلام، قال: وفيه نزلت هذه الآية: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ} 3 الآية.
ورويا أيضاً ـ عن قيس بن عباد، قال: كنت جالساً في مسجد المدينة، فدخل رجل على وجهه أثر الخشوع، فقالوا: هذا رجل من أهل الجنة، فصلى ركعتين تجوز فيهما، ثم خرج، وتبعته، فقلت: إنك حين دخلت المسجد قالوا: هذا رجل من أهل الجنة، قال: والله ما ينبغي لأحد4 أن يقول ما لا يعلم،
__________
1ـ ذكره عنه المناوي في فيض القدير 3/519 والآية رقم 34 من سورة النمل.
2ـ انظر ترجمته في الاستيعاب في أسماء الأصحاب لابن عبد البر على حاشية الإصابة 2/374-376، أسد الغابة 3/176، البداية والنهاية 8/30، الإصابة 2/312-313.
3ـ صحيح البخاري 2/314، صحيح مسلم 4/1930، والآية رقم 10 من سورة الأحقاف.
4ـ هذا إنكار من عبد الله بن سلام حيث قطعوا له بالجنة فيحمل على أن هؤلاء بلغهم خبر سعد بن(2/785)
وسأحدثك لم ذاك رأيت رؤيا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقصصتها عليه، ورأيت كأني في روضة ذكر من سعتها وخضرتها وسطها عمود من حديد أسفله في الأرض وأعلاه في السماء، في أعلاه عروة1 فقيل له: ارقه، قلت: لا أستطيع فأتاني منصف2 فرفع ثيابي من خلفي فرقيت حتى كنت في أعلاها فأخذت العروة فقيل له: استمسك فاستيقطت وإنها لفي يدي، فقصصتها على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "تلك الروضة الإسلام، وذلك العمود عمود الإسلام، وتلك العروة عروة الوثقى، فأنت على الإسلام حتى تموت" وذاك الرجل عبد الله بن سلام"3.
وفي سنن الترمذي من حديث طويل عن معاذ بن جبل، قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ـ أي في ابن سلام ـ "إنه عاشر عشرة4 في الجنة"5.
هذه الأحاديث تضمنت الشهادة بالجنة لعبد الله بن سلام وأنه من المقطوع لهم بها.
قال ابن كثير في ترجمة عبد الله بن سلام: "وهو ممن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة وهو ممن يقطع له بدخولها"6.
__________
= أبي وقاص بأن ابن سلام من أهل الجنة ولم يسمع هو، ويحتمل أنه كره الثناء عليه بذلك تواضعاً وإيثاراً للخمول وكراهة للشهرة. شرح النووي: 16/42، فتح الباري 7/131.
1ـ العروة: هي مقبض الشيء. انظر لسان العرب 15/45.
2ـ هو الخادم الصغير المدرك للخدمة. شرح النووي 16/42، النهاية في غريب الحديث 5/66.
3ـ صحيح البخاري 2/314-315، صحيح مسلم 4/1930-1931، وانظر اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان 3/164.
4ـ جاء في تحفة الأحوذي: 10/307: "عاشر عشرة في الجنة" أي: مثل عاشر عشرة، أو المعنى يدخل بعد تسعة نفر من الصحابة في الجنة ذكره السيد جمال الدين. قال القاريء: وفيه أنه يلزم تقدمه على بعض العشرة، فلعله العاشر من الذين أسلموا من اليهود، أو مما عدا العشرة فيدخل الجنة بعد تسعة عشر من الصحابة. أهـ.
5ـ سنن الترمذي 5/336، وقال عقبه: وفي الباب عن سعد هذا حديث حسن غريب.
6ـ البداية والنهاية 8/30.(2/786)
20- "أم سليم بنت ملحان":
هي: أم سليم بنت ملحان بن خالد بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار، اختلف في اسمها، فقيل: سهلة، وقيل: رميلة، وقيل: رميثة، وقيل: مليكة، ويقال: الغميصاء أو الرميصاء كانت تحت مالك بن النضر، أبي أنس بن مالك في الجاهلية، فولدت أنساً في الجاهلية، وأسلمت مع السابقين إلى الإسلام من الأنصار، فغضب مالك وخرج إلى الشام، فمات، فتزوجت بعده أبا طلحة الأنصاري1.
أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه رآها وسمع صوت حركة مشيها في الجنة.
فقد روى البخاري بإسناده إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "رأيتني دخلت الجنة فإذا أنا بالرميصاء2 امرأة أبي طلحة" 3.
وعند مسلم بلفظ: "أريت الجنة، فرأيت امرأة أبي طلحة" 4.
وروى مسلم بإسناده إلى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "دخلت الجنة فسمعت خشفة 5 فقلت: من هذا؟ قالوا: هذه الغميصاء بنت ملحان أم أنس بن مالك" 6.
فهذه الأحاديث تضمنت شهادة النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة لأم سليم رضي الله عنها.
__________
1ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 8/424-434، الجرح والتعديل 9/464، الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/437-438، سير أعلام النبلاء 2/304-311، الإصابة 4/441-442، تهذيب التهذيب 12/471.
2ـ الرمص: قذى يابس وغير يابس يكون في أطراف العينين. انظر شرح النووي: 16/11، النهاية في غريب الحديث 2/263.
3ـ صحيح البخاري 2/293.
4ـ صحيح مسلم 4/1908.
5ـ هي: حركة المشي وصوته. انظر: شرح النووي 16/11، النهاية في غريب الحديث 2/34.
6ـ صحيح مسلم 4/1908.(2/787)
وهناك جماعة من أهل بيت النبوة غير علي بن أبي طالب رضي الله عنه وردت نصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها دلالة واضحة في أنهم ممن يقطع لهم بدخول الجنة، منهم أم المؤمنين خديجة بنت خويلد بن أسد، فقد بشرها النبي صلى الله عليه وسلم ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب1، وابنته فاطمة رضي الله عنها أخبر بأنها سيدة نساء أهل الجنة2 وولداها الحسن والحسين فقد بين عليه الصلاة والسلام بأنهما سيدا شباب أهل الجنة3، وحمزة بن عبد المطلب وجعفر بن أبي طالب رضي الله عنهما، فقد أخبر عليه الصلاة والسلام أنه دخل الجنة فنظر فيها فإذا جعفر يطير مع الملائكة وإذا حمزة متكيء على سرير4.
فكل من تقدم ذكره شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة على سبيل التنصيص عليه باسمه منفرداً، كما شهد صلى الله عليه وسلم بالجنة لخلق كثير من الصحابة على سبيل الجمع كأهل بدر وأهل بيعة الرضوان، فأهل بدر كان عددهم رضي الله عنهم بضعة5 عشر وثلاثمائة6، فهؤلاء أخبر عنهم صلى الله عليه وسلم أنهم من أهل الجنة فقد روى البخاري من حديث طويل عن علي رضي الله عنه، وفيه أنه قال: "لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة، أو فقد غفرت لكم" 7.
__________
1ـ صحيح البخاري 2/315-316، صحيح مسلم 4/1887.
2ـ انظر صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 6/627-628، المستدرك 3/151.
3ـ انظر المسند 3/3، سنن الترمذي 5/321، سنن ابن ماجه 1/44، وأورده السيوطي في الجامع الصغير ورمز له بالصحة. انظر فيض القدير للمناوي 3/415.
4ـ انظر المستدرك 3/209، الجامع الصغير للسيوطي. انظر فيض القدير للمناوي 3/521، صحيح الجامع الصغير للألباني 3/140-141.
5ـ البضع: في العدد بالكسر وقد يفتح ما بين الثلاث إلى التسع، وقيل ما بين الواحد إلى العشرة لأنه قطعة من العدد. النهاية في غريب الحديث 1/133.
6ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 7/290-291.
7ـ صحيح البخاري 3/7.(2/788)
وأما أهل بيعة الرضوان فقد كان عددهم ألفاً وأربعمائة1 وكلهم شهد لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة، وأنهم ممن يقطع لهم بدخولها، فقد قال صلى الله عليه وسلم كما في حديث جابر عند مسلم رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد الذين بايعوا تحتها" 2.
فقد قال أهل العلم: "معناه لا يدخلها أحد منهم قطعاً ... وإنما قال: إن شاء الله للتبرك لا للشك" 3.
فأهل السنة والجماعة يشهدون بالجنة لكل من قدمنا ذكره في هذا المبحث 4، بل يشهدون بالجنة لجميع الصحابة من مهاجرين وأنصار حيث إن الله تعالى وعدهم جميعاً بالحسنى كما قال: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} 5.
__________
1 ـ ذكر البخاري ثلاثة أقوال في عددهم وأرجحها ما أوردناه هنا. انظر صحيح البخاري 3/42-43، وشرحه فتح الباري 7/440.
2ـ صحيح مسلم 4/1942.
3ـ شرح النووي على صحيح مسلم 16/58.
4ـ انظر كتاب الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة لابن بطة ص/261-264، عقيدة السلف وأصحاب الحديث لأبي عثمان الصابوني ضمن مجموعة الرسائل المنيرية 1/128، لمعة الاعتقاد لابن قدامة ص/28، العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية مع شرحها لمحمد خليل هراس ص/169، قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر لصديق حسن خان ص/98.
5ـ سورة الحديد آية/10.(2/789)
الفصل الثاني: إثبات عدالتهم رضي الله عنهم
المبحث الأول: معنى العدالة في اللغة والاصطلاح
...
المبحث الأول: معنى العدالة في اللغة والاصطلاح
أولاً: معنى العدالة في اللغة:
جاء في الصحاح1 للجوهري: "العدل خلاف الجور، يقال: عدل عليه في القضية فهو عادل، وبسط الوالي عدله ومعدلته، وفلان من أهل المَعْدلة، أي: من أهل العدل، ورجل عدل، أي: رضا ومقنع في الشهادة، وهو في الأصل مصدر، وقوم عدل وعدول أيضاً: وهو جمع عدل وقد عدل الرجل بالضم عدالة.. إلى أن قال: وتعديل الشيء: تقويمه، يقال: عدلته فاعتدل، أي: قومته فاستقام".
وجاء في لسان العرب2: "رجل عدل بين العدل والعدالة: وصف بالمصدر معناه ذو عدل، قال في موضعين: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} 3، ويقال: رجل عدل ورجلان عدل، ورجال عدل، وامرأة عدل، ونسوة عدل، كل ذلك على معنى رجال ذوو عدل، ونسوة ذوات عدل، فهو لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث، فإن رأيته مجموعاً، أو مثنى أو مؤنثاً، فعلى أنه قد أجري مجرى الوصف الذي ليس بمصدر"أ. هـ.
وجاء في المصباح المنير: "وعدلت الشاهد نسبته إلى العدالة ووصفته بها و"عُدِّل" هو بالضم، عدالة وعدولة فهو "عدل"أي: مرضي يقنع به ويطلق "العدل" على الواحدة وغيره بلفظ واحد، وجاز أن يطابق في التثنية
__________
1ـ 5/1760-1761، مختار الصحاح ص/415-416.
2ـ 11/430.
3ـ سورة الطلاق آية/2.(2/795)
والجمع فيجمع على عدول، قال ابن الأنباري: وأنشدنا أبو العباس:
وتعاقد العقد الوثيق وأشهدا من كل قوم مسلمين عدولاً
وربما طابق في التأنيث، وقيل: امرأة عدلة1.
وجاء في القاموس2: "العدل ضد الجور، وما قام في النفوس أنه مستقيم كالعدالة والعدولة والمعدلة والمعدلة"أ. هـ.
فمن هذه التعاريف اللغوية تبين أن معنى العدالة في اللغة الاستقامة، وأن العدل هو الذي لم تظهر منه ريبة3 وهو الذي يرضى الناس عنه، ويقبلون شهادته ويقنعون بها4.
ثانياً: تعريف العدالة في الاصطلاح:
أما تعريف العدالة في الاصطلاح فقد تنوعت فيها عبارات العلماء من محدثين وأصوليين وفقهاء:
1- روى الخطيب البغدادي بإسناده إلى القاضي أبي بكر محمد بن الطيب أنه قال: العدالة المطلوبة في صفة الشاهد والمخبر هي العدالة الراجعة إلى استقامة دينه، وسلامة مذهبه، وسلامته من الفسق، وما يجري مجراه مما اتفق على أنه مبطل العدالة من أفعال الجوارح والقلوب المنهي عنها5.
2- وعرفها الخطيب البغدادي بقوله: "العدل هو من عرف بأداء فرائضه ولزوم ما أمر به وتوقي ما نهى عنه، وتجنب الفواحش المسقطة وتحري الحق والواجب في أفعاله ومعاملته والتوقي في لفظه مما يثلم الدين والمروءة فمن
__________
1ـ المصباح المنير 2/397.
2ـ 4/13.
3ـ انظر لسان العرب 11/431، الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف 11/282.
4ـ انظر المصباح 2/397.
5ـ الكفاية ص/102.(2/796)
كانت هذه حاله فهو الموصوف بأنه عدل في دينه ومعروف بالصدق في حديثه وليس يكفيه في ذلك اجتناب كبائر الذنوب التي يسمى فاعلها فاسقاً حتى يكون مع ذلك متوقياً لما يقول كثير من الناس أنه لا يعلم أنه كبير1.
3- وعرفها الغزالي بقوله: "والعدالة: عبارة عن استقامة السيرة والدين ويرجع حاصلها إلى هيئة راسخة في النفس تحمل على ملازمة التقوى والمروءة جميعاً حتى تحصل ثقة النفوس بصدقه فلا ثقة بقول من لا يخاف الله تعالى خوفاً وازعاً عن الكذب، ثم لا خلاف في أنه لا يشترط العصمة من جميع المعاصي ولا يكفي أيضاً: اجتناب الكبائر بل من الصغائر ما يرد به كسرقة بصلة وتطفيف في حبة قصداً، وبالجملة كل ما يدل على ركاكة دينه إلى حد يستجريء على الكذب بالأغراض الدنيوية كيف وقد شرط في العدالة التوقي عن بعض المباحات القادحة في المروءة نحو الأكل في الطريق والبول في الشارع وصحبة الأراذل وإفراط المزح وضابط ذلك فيما جاوز محل الإجماع أن يرد إلى اجتهاد الحاكم فما دل عنده على جرأته على الكذب رد الشهادة به وما لا، فلا"2.
4- وعرفها ابن الحاجب3 بقوله: العدالة: هي محافظة دينية تحمل على ملازمة التقوى والمروءة ليس معها بدعة، وتتحقق باجتناب الكبائر وترك الإصرار على الصغائر وبعض المباح كاللعب بالحمام والاجتماع مع الأراذل والحرف الدنية مما لا يليق به ولا ضرورة"4.
5- وعرفها الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى بقوله: "المراد بالعدل من له
__________
1ـ الكفاية ص/103.
2ـ المستصفى للغزالي 1/157.
3ـ هو عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس بن عمرو جمال الدين بن الحاجب فقيه مالكي من كبار العلماء بالعربية ولد في أسنا من صعيد مصر سنة سبعين وخمسمائة، وتوفي سنة ست وأربعين وستمائة هجرية. انظر ترجمته في: سير أعلام النبلاء 23/264-266، البداية والنهاية 13/168، الأعلام للزركلي 4/374، معجم المؤلفين 6/265.
4ـ مختصر منتهى الأصولي مع شرح القاضي عضد الملة والدين 2/63.(2/797)
ملكة تحمله على ملازمة التقوى والمروءة، والمراد بالتقوى: اجتناب الأعمال السيئة من شرك أو فسق أو بدعة"1.
6- وعرفها أيضاً بتعريف آخر فقال: "والعدل والرضا عند الجمهور من يكون مسلماً مكلفاً حراً غير مرتكب كبيرة ولا مصر على صغيرة. زاد الشافعي: وأن يكون ذا مروءة"2.
واشتراط الحرية فيه نظر.
7- وذكر علاء الدين أبو الحسن علي بن سليمان المرداوي عدة تعريفات للعدالة في كتابه "الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف"3 حيث قال: "العدالة: هي استواء أحواله في دينه واعتدال أقواله وأفعاله، وقيل: العدل من لم تظهر منه ريبة".
وذكر أبو محمد الجوزي في العدالة: "اجتناب الريبة وانتفاء التهمة". زاد في الرعاية: "وفعل ما يستحب وترك ما يكره"أ. هـ.
8- وقال السيوطي في تعريف العدالة: "حدها الأصحاب: بأنها ملكة أي: هيئة راسخة في النفس تمنع من اقتراف كبيرة أو صغيرة دالة على الخسة أو مباح يخل بالمروءة وهذه أحسن عبارة في حدها وأضعفها قول من قال: اجتناب الكبائر والإصرار على الصغائر لأن مجرد الاجتناب من غير أن تكون عنده ملكة وقوة تردعه عن الوقوع فيما يهواه غير كاف في صدق العدالة، ولأن التعبير بالكبائر بلفظ الجمع يوهم أن ارتكاب الكبيرة الواحدة لا يضر وليس كذلك، ولأن الإصرار على الصغائر من جملة الكبائر فذكره في الحد تكرار"4.
__________
1ـ نزهة النظر شرح نخبة الفكر ص/29، وانظر شرح تنقيح الفصول في اختصار المحصول في الأصول للقرافي ص/361.
2ـ فتح الباري 5/251-252، وانظر تيسير التحرير 3/44.
3ـ 12/43.
4ـ الأشباه والنظائر ص/384-385.(2/798)
هذه تعريفات أهل العلم للعدالة في الاصطلاح، وهي وإن تنوعت عباراتها إلا أنها ترجع إلى معنى واحد وهو أن العدالة ملكة في النفس تحمل صاحبها على ملازمة التقوى والمروءة ولا تتحقق للإنسان إلا بفعل المأمور وترك المنهي وأن يبعد عما يخل بالمروءة، وأيضاً: لا تتحقق إلا بالإسلام، والبلوغ، والعقل، والسلامة من الفسق.
والمراد بالفسق: ارتكاب كبيرة من كبائر الذنوب والإصرار على صغيرة من الصغائر لأن الإصرار على فعل الصغائر يصيرها من الكبائر.
والمروءة التي يعبر عنها أهل العلم: هي الآداب النفسية التي تحمل صاحبها على الوقوف عند مكارم الأخلاق، ومحاسن العادات وما يخل بالمروءة يعود إلى سببين:
الأول: ارتكاب الصغائر من الذنوب التي تدل على الخسة كسرقة شيء حقير كبصلة أو تطفيف في حبة قصداً.
الثاني: فعل بعض الأشياء المباحة التي ينتج عنها ذهاب كرامة الإنسان أو هيبته وتورث الاحتقار، وذلك مثل كثرة المزاح المذموم.
ولم تتحقق العدالة في أحد تحققها في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجميعهم رضي الله عنهم عدول تحققت فيهم صفة العدالة ومن صدر منه ما يدل على خلاف ذلك كالوقوع في معصية فسرعان ما يحصل منه التوجه إلى الله تعالى بالتوبة النصوح الماحية التي تحقق رجوعه وتغسل حوبته فرضي الله عنهم أجمعين.(2/799)
المبحث الثاني: تعديل الله ورسوله للصحابة
لقد تضافرت الأدلة من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على تعديل الصحابة الكرام رضي الله عنهم، مما لا يبقى معها شك لمرتاب في تحقيق عدالتهم، فكل حديث له سند متصل بين من رواه وبين المصطفى صلى الله عليه وسلم لم يلزم العمل به إلا بعد أن تثبت عدالة رجاله ويجب النظر في أحوالهم سوى الصحابي الذي رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأن عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم وإخباره عن طهارتهم واختياره لهم بنص القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ومن ذلك:
1- قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} 1.
ووجه الاستدلال بهذه الآية على عدالة الصحابة رضي الله عنهم أن وسطاً بمعنى "عدولاً خياراً"2، ولأنهم المخاطبون بهذه الآية مباشرة.
وقد ذكر بعض أهل العلم أن اللفظ وإن كان عاماً إلا أن المراد به الخصوص، وقيل: "إنه وارد في الصحابة دون غيرهم"3.
وقد بين الرازي المعنى لقوله تعالى في الآية: {وسطاً} من وجوه:
__________
1ـ سورة البقرة آية/143.
2ـ انظر جامع البيان 2/7، الجامع لأحكام القرآن 2/153، تفسير القرآن العظيم لابن كثير 1/335.
3ـ انظر الكفاية للخطيب البغدادي ص/64.(2/800)
أحدها: أن الوسط حقيقة في البعد عن الطريفين فكان معتدلاً فاضلاً.
الثاني: إنما سمي العدل وسطاً لأنه لا يميل إلى أحد الخصمين والعدل هو: المعتدل الذي لا يميل إلى أحد الطرفين.
الثالث: لا شك أن المراد بقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} طريقة المدح لهم لأنه لا يجوز أن يذكر الله تعالى وصفاً ويجعله كالعلة في أن جعلهم شهوداً له، ثم يعطف على ذلك شهادة الرسول إلا وذلك مدح فثبت أن المراد بقوله وسطاً: ما يتعلق بالمدح في باب الدين ولا يجوز أن يمدح الله الشهود حال حكمه عليهم بكونهم شهوداً إلا بكونهم عدولاً، فوجب أن يكون المراد من الوسط العدالة.
الرابع: أن أعدل بقاع الشيء وسطه لأن حكمه مع سائر أطرافه على سواء وعلى اعتدال، والأطراف يتسارع إليها الخلل والفساد والأوساط محمية محوطة، فلما صح ذلك في الوسط صار كأنه عبارة عن المعتدل الذي لا يميل إلى جهة دون جهة"1أ. هـ.
فالآية ناطقة بعدالة الصحابة رضي الله عنهم قبل غيرهم ممن جاء بعدهم من هذه الأمة.
2- قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} 2.
ووجه دلالة هذه الآية على عدالة الصحابة رضي الله عنهم أنها أثبتت الخيرية المطلقة لهذه الأمة على سائر الأمم قبلها وأول من يدخل في هذه الخيرية المخاطبون بهذه الآية مباشرة عند النزول وهم الصحابة الكرام رضي الله عنهم، وذلك يقتضي استقامتهم في كل حال وجريان أحوالهم على الموافقة دون المخالفة، ومن
__________
1ـ تفسير الرازي 4/97.
2ـ سورة آل عمران آية/110.(2/801)
البعيد أن يصفهم الله ـ عز وجل التي بأنهم خير أمة ولا يكونوا أهل عدل واستقامة، وهل الخيرية إلا ذلك، كما أنه لا يجوز أن يخبر الله تعالى بأنه جعلهم أمة وسطاً ـ أي: عدولاً ـ وهم على غير ذلك.
والخطاب في هاتين الآيتين وإن كان موجهاً لمن كان موجوداً مع النبي صلى الله عليه وسلم وقت نزول الآيتين إلا أنه يشمل جميع الأمة ويكون الصحابة هم أولى الناس بالدخول فيه لما لهم من المآثر الجليلة والأعمال الخيرية النبيلة التي جعلتهم أهلاً لأن يتصفوا بتلك الصفات الواردة في الآيتين.
قال الشاطبي1 رحمه الله تعالى: سنة الصحابة رضي الله عنهم سنة يعمل عليها ويرجع إليها، ومن الدليل على ذلك أمور:
أحدها: ثناء الله عليهم من غير مثنوية ومدحهم بالعدالة وما يرجع إليها كقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} ، وقوله {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} ، ففي الآية الأولى: إثبات الأفضلية على سائر الأمم، وذلك يقضي باستقامتهم في كل حال، وجريان أحوالهم على الموافقة دون المخالفة.
وفي الثانية: إثبات العدالة مطلقاً، وذلك يدل على ما دلت عليه الأولى. ولا يقال إن هذا عام في الأمة، فلا يختص بالصحابة دون من بعدهم لأنا نقول:
أولاً: ليس كذلك بناء على أنهم المخاطبون على الخصوص ولا يدخل معهم من بعدهم إلا بقياس وبدليل آخر.
__________
1ـ هو: إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي المالكي الشيهر بالشاطبي، أبو إسحاق، محدث، فقيه، أصولي، لغوي، مفسر، مات في شعبان سنة تسعين وسبعمائة. انظر ترجمته في "فهرس الفهارس" 1/134، الأعلام للزركلي 1/71، معجم المؤلفين: 1/118.(2/802)
ثانياً: على تسليم التعميم أنهم أول داخل في شمول الخطاب، فإنهم أول من تلقى ذلك من الرسول عليه الصلاة والسلام وهم المباشرون للوحي.
ثالثاً: أنهم أولى بالدخول من غيرهم، إذ الأوصاف التي وصفوا بها لم يتصف بها على الكمال إلا هم فمطابقة الوصف للاتصاف شاهد على أنهم أحق من غيرهم بالمدح، وأيضاً: فإن من بعد الصحابة من أهل السنة عدلوا الصحابة على الإطلاق والعموم فأخذوا عنهم رواية ودراية من غير استثناء ولا محاشاة، بخلاف غيرهم فلم يعتبروا منهم إلا من صحت إمامته وثبتت عدالته وذلك مصدق لكونهم أحق بذلك المدح من غيرهم، فيصح أن يطلق على الصحابة أنهم خير أمة بإطلاق، وأنهم وسط، أي: عدول بإطلاق، وإذا كان كذلك فقولهم معتبر وعملهم مقتدى به1.
3- قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} 2.
ففي هذه الآية وصف الله تعالى عموم المهاجرين والأنصار بالإيمان الحق ومن شهد الله له بهذه الشهادة فقد بلغ أعلى مرتبة العدالة.
4- قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 3.
ووجه دلالة هذه الآية على عدالتهم رضي الله عنهم أن الله تعالى أخبر فيها برضاه عنهم ولا يثبت الله رضاه إلا لمن كان أهلاً للرضا، ولا توجد الأهلية لذلك إلا لمن كان من أهل الاستقامة في أموره كلها عدلاً في دينه.
__________
1ـ الموافقات 4/40-41.
2ـ سورة الأنفال آية/74.
3ـ سورة التوبة آية/100.(2/803)
ومن أثنى الله تعالى عليه بهذا الثناء كيف لا يكون عدلاً وإذا كان التعديل يثبت بقول اثنين من الناس فكيف لا تثبت عدالة صفوة الخلق وخيارهم بهذا الثناء الصادر من رب العالمين.
5- قوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} 1.
وهذه الآية فيها دلالة واضحة على تعديل الصحابة الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، وقد تقدم ذكر عدتهم وأنهم كانوا ألفاً وأربعمائة ووجه دلالة الآية على تعدليهم رضي الله عنهم أن ـ الباري جل وعلا ـ أخبر برضاه عنهم، وشهد لهم بالإيمان وزكاهم بما استقر في قلوبهم من الصدق والوفاء والسمع والطاعة ولا تصدر تلك التزكية العظيمة من ـ الرب جل وعلا ـ إلا لمن بلغ الذروة في تحقيق الاستقامة على وفق ما أمر الله به والصحابة رضي الله عنهم كانوا في مقدمة من استقاموا في جميع الأحوال.
فالآية فيها بيان أن طاعة الله والرسول وجدت من أهل بيعة الرضوان أما طاعة الله فالإشارة إليها بقوله: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} وأما طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فبقوله: {إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} بقي الموعود به وهو إدخال الجنة أشار إليه بقوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} لأن الرضا يكون معه إدخال الجنة، كما قال ـ عز وجل ـ {وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} 2
6- قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى
__________
1ـ سورة الفتح آية/18.
2ـ انظر التفسير الكبير للرازي 28/95، والآية 22 من سورة المجادلة.(2/804)
عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} 1.
فهذا الوصف الذي وصفهم الله به في كتبه، وهذا الثناء الذي أثنى به عليهم لا يتطرق إلى النفس معه شك في عدالتهم؟.
قال القرطبي رحمه الله تعالى عند تفسيره لهذه الآية: "فالصحابة كلهم عدول، أولياء الله تعالى وأصفياؤه، وخيرته من خلقه بعد أنبيائه ورسله، هذا مذهب أهل السنة والذي عليه الجماعة من أئمة هذه الأمة، وقد ذهبت شرذمة لا مبالاة بهم إلى أن حال الصحابة كحال غيرهم، فيلزم البحث عن عدالتهم، ومنهم من فرق بين حالهم في بداءة الأمر، فقال: إنهم كانوا على العدالة إذ ذاك، ثم تغيرت بهم الأحوال، فظهرت فيهم الحروب وسفك الدماء، فلا بد من البحث وهذا مردود فإن خيار الصحابة وفضلاءهم كعلي وطلحة والزبير وغيرهم رضي الله عنهم ممن أثنى الله عليهم وزكاهم ورضي عنهم وأرضاهم ووعدهم الجنة بقوله تعالى: {مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} ، وخاصة العشرة المقطوع لهم بالجنة بإخبار الرسول هم القدوة مع علمهم بكثير من الفتن والأمور الجارية عليهم بعد نبيهم بإخباره لهم بذلك وذلك غير مسقط من مرتبتهم وفضلهم إذ كانت تلك الأمور مبنية على الاجتهاد2.
7- قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} 3.
فالصحابة رضي الله عنهم هم السابقون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى كل خير، وإلى تحصيل كل قربة فيها رضى الرب جل وعلا، ولا يصدر ذلك إلا ممن تحقق
__________
1ـ سورة الفتح آية/29.
2ـ الجامع لأحكام القرآن 16/299.
3ـ سورة الواقعة آية/10-12.(2/805)
بوصف العدالة.
قال أبو محمد بن حزم بعد أن ذكر أفضلية جماعات الصحابة حسب سبقهم إلى الإسلام وحسب المشاهد، قال: "فكل من تقدم ذكره من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم إلى تمام بيعة الرضوان فإنا نقطع على غيب قلوبهم وأنهم كلهم مؤمنون صالحون، ماتوا على الإيمان والهدى والبر كلهم من أهل الجنة لا يلج أحد منهم النار البتة لقول الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} 1 وقوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} 2 الآية ـ إلى أن قال: ـ فمن أخبر الله عنهم بذلك فلا يحل لأحد أن يتوقف في أمرهم ولا الشك فيهم البتة3.
8- قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 4.
فالصادقون هم المهاجرون، والمفلحون هم الأنصار، بهذا فسر أبو بكر الصديق هاتين الكلمتين من الآيتين حيث قال في خطبته يوم السقيفة مخاطباً الأنصار: "إن الله سمانا "الصادقين" وسماكم "المفلحين"، وقد أمركم أن تكونوا حيثما كنا، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} 5،
__________
1ـ سورة الواقعة آية/10-12.
2ـ سورة الفتح آية/18.
3ـ ابن حزم الأندلسي ورسالته في المفاضلة بين الصحابة ص/265-266.
4ـ سورة الحشر آية/8-9.
5ـ العواصم من القواصم ص/44-45، والآية رقم 119 من سورة التوبة.(2/806)
فهذه الصفات الحميدة في هاتين الآيتين كلها حققها المهاجرون والأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واتصفوا بها ولذلك ختم الله صفات المهاجرين بالحكم بأنهم صادقون وختم صفات الذين آزروهم ونصروهم وآثروهم على أنفسهم بالحكم لهم بأنهم مفلحون، وهذه الصفات العالية لا يمكن أن يحققها قوم ليسوا بعدول.
فهذه الآيات التي أسلفناها من الآيات البينة الدالة على عدالة الصحابة رضي الله عنهم، فعدالتهم ثابتة بنص القرآن.
وأما دلالة السنة على تعديلهم رضي الله عنهم:
فقد وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث يطول تعدادها وأطنب في تعظيمهم وأحسن الثناء عليهم بتعدليهم ومن تلك الأحاديث:
1- ما رواه الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "..ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب" الحديث1.
وجه دلالة الحديث على عدالتهم رضي الله عنهم أن هذا القول صدر من النبي صلى الله عليه وسلم في أعظم جمع من الصحابة في حجة الوداع وهذا من أعظم الأدلة على ثبوت عدالتهم حيث طلب منهم أن يبلغوا ما سمعوه منه من لم يحضر ذلك الجمع دون أن يستثني منهم أحداً.
قال ابن حبان رحمه الله تعالى: "وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب" أعظم دليل على أن الصحابة كلهم عدول ليس فيهم مجروح ولا ضعيف إذ لو كان فيهم أحد غير عدل لاستثنى في قوله صلى الله عليه وسلم وقال: ألا ليبلغ فلان منكم الغائب فلما أجملهم في الذكر بالأمر بالتبليغ من بعدهم دل ذلك على أنهم كلهم عدول وكفى بمن عدله رسول الله صلى الله عليه وسلم شرفاً"2أ. هـ.
__________
1ـ صحيح البخاري 1/31، صحيح مسلم 3/1306.
2ـ الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان 1/91.(2/807)
2- روى الشيخان في صحيحيهما من حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثاً. .الحديث1.
3- روى البخاري بإسناده إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته"2.
4- وروى بإسناده إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: صلينا المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قلنا: لو جلسنا حتى نصلي معه العشاء، قال: فجلسنا، فخرج علينا فقال: "ما زلتم ههنا" قلنا: يا رسول الله، صلينا معك المغرب ثم قلنا: نجلس حتى نصلي معك العشاء، قال: "أحسنتم أو أصبتم" قال: فرفع رأسه إلى السماء وكان كثيراً ما يرفع رأسه، فقال: "النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون" 3.
هذه الثلاثة الأحاديث فيها دلالة واضحة على أن الصحابة عدول على الإطلاق حيث شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخيرية المطلقة كما أخبر بأنهم أمان للأمة من ظهور البدع والحوادث في الدين ولا يخبر صلى الله عليه وسلم بهذا إلا لمن كانوا عدولاً مستقيمين على الصراط المستقيم.
5- روى البخاري بإسناده إلى أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ
__________
1ـ صحيح البخاري 2/287-288، صحيح مسلم 4/1964.
2ـ صحيح البخاري 2/288، وانظر صحيح مسلم 4/1963.
3ـ صحيح مسلم 4/1961.(2/808)
مد أحدهم ولا نصيفه" 1.
وجه الاستدلال بهذا الحديث على عدالة الصحابة رضي الله عنهم "أن الوصف لهم بغير العدالة سب لا سيما وقد نهى صلى الله عليه وسلم بعض من أدركه وصحبه عن التعرض لمن تقدمه لشهود المواقف الفاضلة فيكون من بعدهم بالنسبة لجميعهم من باب أولى2.
فالصحابة كلهم عدول بتعديل الله لهم وثنائه عليهم، وثناء رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، فليسوا بحاجة إلى تعديل أحد من الخلق.
قال الخطيب البغدادي في كتابه الكفاية3: "باب ما جاء في تعديل الله ورسوله للصحابة وأنه لا يحتاج إلى سؤال عنهم وإنما يجب فيمن دونهم ـ ثم قال ـ: كل حديث اتصل إسناده بين من رواه وبين النبي صلى الله عليه وسلم لم يلزم العمل به إلا بعد ثبوت عدالة رجاله ويجب النظر في أحوالهم سوى الصحابي الذي رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم وإخباره عن طهارتهم واختياره لهم في نص القرآن".
ثم ساق جملة من الآيات الدالة على ذلك وقد سبق لنا قريباً ذكر بعضها وكذلك جملة من الأحاديث إلى أن قال: "والأخبار في هذا المعنى تتسع وكلها مطابقة لما ورد في نص القرآن، وجميع ذلك يقتضي طهارة الصحابة والقطع على تعديلهم ونزاهتهم فلا يحتاج أحد منهم مع تعديل الله تعالى لهم المطلع على بواطنهم إلى تعديل أحد من الخلق له".
ثم قال: "على أنه لو لم يرد من الله ـ عز وجل ـ ورسوله فيهم شيء مما ذكرناه لأوجبت الحال التي كانوا عليها من الهجرة والجهاد والنصرة وبذل
__________
1ـ صحيح البخاري 2/292.
2ـ فتح المغيب شرح ألفية الحديث 3/110-111.
3ـ ص/63-67.(2/809)
المهج والأموال وقتل الآباء والأولاد، والمناصحة في الدين وقوة الإيمان واليقين القطع على عدالتهم والاعتقاد لنزاهتهم، وأنهم أفضل من جميع المعدلين والمزكين الذين يجيئون بعدهم أبد الآبدين".
فلقد صدق رحمه الله تعالى لو لم تكن عدالتهم منصوصاً عليها في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لجزم أهل العقول الصحيحة والقلوب السليمة بعدالتهم استناداً إلى ما تواترت به الأخبار عنهم من الأعمال الجليلة والخيرات الوفيرة التي قدموها لنصرة الدين الحنيف، فقد بذلوا ما أمكنهم بذله في سبيل نصرة الحق ورفع رايته وإرساء قواعده ونشر أحكامه في جميع الأقطار رضي الله عنهم أجمعين.
والعدالة المرادة هنا ليس المقصود بها عدم الوقوع في الذنوب والخطايا فإن هذا لا يكون إلا لمعصوم.
قال ابن الأنباري: وليس المراد بعدالتهم ثبوت العصمة لهم واستحالة المعصية منهم، وإنما المراد قبول رواياتهم من غير تكلف البحث عن أسباب العدالة وطلب التزكية إلا أن ثبت ارتكاب قادح ولم يثبت ذلك ولله الحمد فنحن على استصحاب ما كانوا عليه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يثبت خلافه، ولا التفات إلى ما يذكره أهل السير، فإنه لا يصح وما صح فله تأويل صحيح"1.
__________
1ـ فتح المغيب شرح ألفية الحديث 3/115.(2/810)
المبحث الثالث: الإجماع على عدالتهم رضي الله عنهم
أجمع أهل السنة والجماعة على أن الصحابة جميعهم عدول بلا استثناء من لابس الفتن وغيرها ولا يفرقون بينهم الكل عدول إحساناً للظن بهم ونظراً لما أكرمهم الله به من شرف الصحبة لنبيه عليه الصلاة والسلام ولما لهم من المآثر الجليلة من مناصرتهم للرسول صلى الله عليه وسلم والهجرة إليه والجهاد بين يديه والمحافظة على أمور الدين والقيام بحدوده فشهاداتهم ورواياتهم مقبولة دون تكلف بحث عن أسباب عدالتهم بإجماع من يعتد بقوله.
وقد نقل الإجماع على عدالتهم جم غفير من أهل العلم، ومن تلك النقول:
1- قال الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى بعد أن ذكر الأدلة من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي دلت على عدالة الصحابة وأنهم كلهم عدول، قال: "هذا مذهب كافة العلماء ومن يعتد بقوله من الفقهاء"1.
2- قال أبو عمر بن عبد البر: "ونحن وإن كان الصحابة رضي الله عنهم قد كفينا البحث عن أحوالهم لإجماع أهل الحق من المسلمين وهم أهل السنة والجماعة على أنهم كلهم عدول فواجب الوقوف على أسمائهم"2.
3- حكى الإجماع على عدالتهم إمام الحرمين وعلل حصول الإجماع على عدالتهم بقوله: "ولعل السبب فيه أنهم نقلة الشريعة، فلو ثبت توقف في
__________
1ـ الكفاية ص/67.
2ـ الاستيعاب على حاشية الإصابة 1/8.(2/811)
رواياتهم لانحصرت الشريعة على عصر الرسول صلى الله عليه وسلم ولما استرسلت على سائر الأعصار"1.
4- وقال الغزالي: "والذي عليه سلف الأمة وجماهير الخلق أن عدالتهم معلومة بتعديل الله ـ عز وجل ـ إياهم وثنائه عليهم في كتابه، فهو معتقدنا فيهم، إلا أن يثبت بطريق قاطع ارتكاب واحد لفسق مع علمه به وذلك مما لا يثبت فلا حاجة لهم إلى التعديل ـ ثم ذكر بعض ما دل على عدالتهم من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ثم قال: "فأي تعديل أصح من تعديل علام الغيوب ـ سبحانه ـ وتعديل رسوله صلى الله عليه وسلم كيف ولو لم يرد الثناء لكان فيما اشتهر وتواتر من حالهم في الهجرة والجهاد وبذل المهج والأموال وقتل الآباء والأهل في موالاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصرته كفاية في القطع بعدالتهم"2.
5- ذكر ابن الصلاح أن الإجماع على عدالة الصحابة خصيصة فريدة تميزوا بها عن غيرهم، فقد قال: "للصحابة بأسرهم خصيصة وهي أنه لا يسأل عن عدالة أحد منهم، بل ذلك أمر مفروغ منه لكونهم على الإطلاق معدلين بنصوص الكتاب والسنة وإجماع من يعتد به في الإجماع من الأمة".
وقال أيضاً: "إن الأمة مجمعة على تعديل جميع الصحابة ومن لابس الفتن منهم، فكذلك بإجماع العلماء الذين يعتد بهم في الإجماع إحساناً للظن بهم ونظراً إلى ما تمهد لهم من المآثر، وكأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ أتاح الإجماع على ذلك لكونهم نقلة الشريعة والله أعلم"3.
6- قال الإمام النووي رحمه الله تعالى بعد أن ذكر أن الحروب التي وقعت بينهم كانت عن اجتهاد وأن جميعهم معذورون رضي الله عنهم فيما حصل بينهم قال: "ولهذا اتفق أهل الحق ومن يعتد به في الإجماع على قبول شهاداتهم
__________
1ـ فتح المغيب شرح ألفية الحديث 3/112، وذكره السيوطي في تدريب الراوي 2/214.
2ـ المستصفى 1/164.
3ـ مقدمة ابن الصلاح ص/146-147.(2/812)
ورواياتهم وكمال عدالتهم رضي الله عنهم"1.
وقال في التقريب: "الصحابة كلهم عدول من لابس الفتن وغيرهم بإجماع من يعتد به"2.
7- وقال الحافظ ابن كثير: "والصحابة كلهم عدول عند أهل السنة والجماعة لما أثنى الله عليهم في كتابه العزيز، وبما نطقت به السنة النبوية في المدح لهم في جميع أخلاقهم وأفعالهم وما بذلوه من الأموال والأرواح بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم رغبة فيما عند الله من الثواب الجزيل والجزاء الجميل"3.
8- وقال العراقي في شرح ألفيته بعد ذكره لبعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الدالة على عدالة الصحابة: "إن جميع الأمة مجمعة على تعديل من لم يلابس الفتن منهم، وأما من لابس الفتن منهم وذلك من حين مقتل عثمان فأجمع من يعتد به أيضاً: في الإجماع على تعدليهم إحساناً للظن بهم وحملاً لهم في ذلك على الاجتهاد"4.
9- قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى مبيناً أن أهل السنة مجمعون على عدالة الصحابة فقال: "اتفق أهل السنة على أن الجميع عدول، ولم يخالف في ذلك إلا شذوذ من المبتدعة"5.
10- وقال السخاوي: "وهم رضي الله عنهم باتفاق أهل السنة عدول كلهم مطلقاً كبيرهم وصغيرهم لابس الفتنة أم لا وجوباً لحسن الظن، ونظراً إلى ما تمهد لهم من المآثر من امتثال أوامره بعده صلى الله عليه وسلم وفتحهم الأقاليم وتبليغهم عنه الكتاب والسنة وهدايتهم الناس ومواظبتهم على الصلاة والزكاة وأنواع القربات
__________
1ـ شرح النووي على صحيح مسلم 15/149.
2ـ تقريب النواوي مع شرحه تدريب الراوي 2/214.
3ـ الباعث الحثيث ص/181-182.
4ـ شرح ألفية الحديث المسماة بالتبصرة والتذكرة 3/13-14.
5ـ الإصابة 1/17.(2/813)
مع الشجاعة والبراعة والكرم والإيثار والأخلاق الحميدة التي لم تكن في أمة من الأمم المتقدمة"1.
وقال الألوسي رحمه الله تعالى: "اعلم أن أهل السنة ـ إلا من شذ ـ أجمعوا على أن جميع الصحابة عدول يجب على الأمة تعظيمهم، فقد أخلصوا الأعمال من الرياء نفلاً وفرضاً واجتهدوا في طاعة مولاهم ليرضى وغضوا أبصارهم عن الشهوات غضاً، فإذا أبصرتهم رأيت قلوباً صحيحة وأجساداً مرضى، وعيوناً قد ألفت السهر، فما تكاد تطعم غمضاً بادروا أعمارهم لعلمهم أنها ساعات تنقضي ولله در من قال فيهم شعراً:
لله در أناس أخلصوا عملاً ... على اليقين ودانوا بالذي أمروا
أولاهم ـ نعماً فازداد شكرهم ... ثم ابتلاهم فأرضوه بما صبروا
وفوا له ثم وافوه بما عملوا ... سيوفيهم يوماً إذا نشروا2
فهذه النقول المباركة للإجماع من هؤلاء الأئمة كلها فيها بيان واضح ودليل قاطع على أن ثبوت عدالة الصحابة عموماً أمر مفروغ منه ومسلم فلا يبقى لأحد شك ولا ارتياب بعد تعديل الله ورسوله وإجماع الأمة على ذلك وهناك مذاهب ذهب أصحابها إلى القول بخلاف هذا الإجماع وأصحابها ممن لا يعتد بقولهم ولا عبرة بخلافهم وهي لا تستحق أن تذكر وإنما تذكر لبيان بطلانها ومجانبتها للحق والصواب، وتلك المذاهب هي:
1- مذهب الشيعة الرافضة:
الشيعة الرافضة يعتقدون أن الصحابة الكرام رضي الله عنهم ليسوا بعدول بل يعتقدون ضلال كل من لم يعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على أن الخليفة من بعده بلا فصل هو علي رضي الله عنه، ويعتقدون أن جميع الناس هلكوا وارتدوا بعد
__________
1ـ فتح المغيب شرح ألفية الحديث 3/108.
2ـ الأحوبة العراقية على الأسئلة اللاهورية ص/10.(2/814)
أن قبض النبي صلى الله عليه وسلم إلا نفراً يسيراً منهم يعدون بالأصابع، وسبب تكفيرهم لهم أنهم يزعمون أنهم بايعوا بالخلافة غير علي رضي الله عنه، ولم يعملوا بالنص عليه ومعتقدهم هذا طافحة به كتبهم.
فقد روى محمد بن محمد بن النعمان العكبري البغدادي الملقب بالشيخ المفيد في كتابه الاختصاص عن الحارث بن المغيرة، قال: سمعت عبد الملك بن أعين يسأل أبا عبد الله عليه السلام، فلم يزل يسأله حتى قال: فهلك الناس إذاً، فقال: أي والله يا ابن أعين هلك الناس أجمعون، قلت أهل الشرق والغرب؟ قال: إنها فتحت على الضلال أي والله هلكوا إلا ثلاثة نفر سلمان الفارسي وأبو ذر والمقداد ولحقهم عمار وأبو ساسان الأنصاري1 وحذيفة وأبو عمرة2 فصاروا سبعة.
وفي رواية بعدها أنه قال: ارتد الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة نفر: المقداد بن الأسود وأبو در الغفاري وسلمان الفارسي، ثم إن الناس عرفوا ولحقوا بعد3.
ولا شك أن من اعتقد كفر الصحابة وارتدادهم أنه كافر لأنه لم يبق له أي علاقة في الدين لأن الكتاب والسنة إنما تلقاهما من جاء بعد الصحابة من الصحابة فمن اعتقد هذا المعتقد في خيار الخلق بعد النبيين والمرسلين ماذا بقي له من الدين؟ وبناء على ذلك المعتقد الفاسد الذي يعتقده الشيعة الرافضة في الصحابة رضي الله عنهم، يكون من البعيد جداً أن يقولوا بعدالة الصحابة بعد أن وصفوهم بالضلال والارتداد عن الإسلام، وهذا المذهب يحكم ببطلانه وضلال
__________
1ـ هو الصحابي الجليل بشير بن عمر الأنصاري النجاري. انظر ترجمته في الاستيعاب 1/157، الإصابة 4/141.
2ـ هو حصين بن المنذر بن الحارث الرقاشي. انظر ترجمته في تهذيب التهذيب 2/395.
3ـ الروايتان في كتاب "الاختصاص" للمفيد ص/6، وانظر كتاب "الروضة" من الكافي للكليني، حديث رقم 356.(2/815)
أهله كل من ألقى السمع لما ذكر الله في كتابه وذكره رسوله صلى الله عليه وسلم، وما قام عليه إجماع أهل الحق ممن يعتد بقوله من بيان مكانة الصحابة الكرام رضي الله عنهم وكل ما قدمنا في المبحث الثاني من هذا الفصل من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية كلها تقضي بفساد هذا المذهب وخبث قائليه وسوء ما تنطوي عليه سرائرهم في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والناظر بعين البصيرة في شبههم التي يبنون عليها معتقدهم هذا يجد أنها من زخرف القول تارة يقولونها من عند أنفسهم، وتارة ينسبونها إلى أهل البيت وهم رضي الله عنهم بريئون من هذا المعتقد ويتبرءون من كل من استطال بلسانه على الصحابة بالسباب والشتائم، فقد كان موقف أهل بيت النبوة من الصحابة الكرام هو أنهم كانوا في مقدمة العاملين بقوله جل وعلا: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 1. وكانوا ينكرون على من يزعم التشيع لهم ولا يعمل بما دلت عليه هذه الآية ويدعون عليهم ويطردونهم من مجالسهم ويتوعدونهم بالخروج من الإسلام.
فقد ذكر القرطبي: أن محمد بن علي بن الحسين رضي الله عنهم روى عن أبيه، أن نفراً من أهل العراق جاءوا إليه فسبوا أبا بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ ثم عثمان رضي الله عنه، فأكثروا، فقال لهم: أمن المهاجرين الأولين أنتم؟ قالوا: لا. فقال: أفمن الذين تبؤوا الدار والإيمان من قبلهم؟ فقالوا: لا فقال: قد تبرأتم من هذين الفريقين، أنا أشهد انكم لستم من الذين قال الله ـ عز وجل ـ: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} قوموا فعل الله بكم وفعل.
__________
1ـ سورة الحشر آية/10.(2/816)
وذكر أيضاً: عن جعفر بن محمد بن علي عن أبيه عن جده علي بن الحسين رضي الله عنه أنه جاءه رجل فقال له: يا ابن بنت رسول الله ما تقول في عثمان، فقال له: يا أخي أنت من قوم قال الله فيهم: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} الآية، قال: لا، قال: فوالله لئن لم تكن من أهل الآية فأنت من قوم قال الله فيهم: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالأِيمَانَ} الآية. قال: لا، قال: فوالله لئن لم تكن من أهل الآية الثالثة لتخرجن من الإسلام وهي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ} 1.
فمذهب الشيعة الرافضة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مذهب باطل بنص كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة حيث دلت هذه الأدلة كلها على عدالة جميع الصحابة صغيرهم وكبيرهم ذكراناً وإناثاً.
2- مذهب المعتزلة:
أما مذهب المعتزلة فقد اضطربت آراؤهم في عدالة الصحابة إلى ثلاثة أقوال وإليك هذه الأقوال الثلاثة مع اقتران كل قول ببيان بطلانه:
القول الأول: ذهب جمهورهم إلى أن الصحابة كلهم عدول إلا من قاتل علياً، فالجمهور منهم صوبوا علياً في حروبه وخطئوا من قاتله فنسبوا طلحة والزبير وعائشة ومعاوية إلى الخطأ2 وانتفاء العدالة عنهم وأسوق الرد على هذا القول ببعض ما قرره أهل العلم من أهل السنة والجماعة فيما يجب على المسلم اعتقاده حيال ما جرى بين الصحابة من الشجار:
فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وكذلك نؤمن بالإمساك عما شجر بينهم ونعلم أن بعض المنقول في ذلك كذب وهم كانوا مجتهدين إما مصيبين لهم أجران، أو مثابين على عملهم الصالح مغفور لهم خطؤهم وما كان لهم من
__________
1ـ الجامع لأحكام القرآن 18/31-32، والآية رقم 10 من سورة الحشر.
2ـ مقالات الإسلاميين 2/145، الفرق بين الفرق ص/120-121.(2/817)
السيئات ـ وقد سبق لهم من الله الحسنى ـ فإن الله يغفرها لهم، إما بتوبة أو بحسنات ماحية، أو مصائب مكفرة أو غير ذلك، فإنهم خير قرون هذه الأمة وهذه خير أمة أخرجت للناس، ونعلم مع ذلك أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان أفضل وأقرب إلى الحق من معاوية وممن قاتله معه لما ثبت عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين تقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق "1، وفي هذا الحديث دليل على أنه مع كل طائفة حق، وأن علياً رضي الله عنه أقرب إلى الحق"أ. هـ2.
وقال الحافظ ابن كثير مبيناً فساد معتقد المعتزلة في عدالة الصحابة "وقول المعتزلة الصحابة عدول إلا من قاتل علياً قول باطل مرذول ومردود وقد ثبت في صحيح البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال عن ابن بنته الحسن بن علي وكان معه على المنبر: "إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين" 3 وظهر مصداق ذلك في نزول الحسن لمعاوية عن الأمر بعد موت أبيه علي واجتمعت الكلمة على معاوية وسمي "عام الجماعة" وذلك سنة أربعين من الهجرة، فسمي الجميع "مسلمين" وقال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} 4 فسماهم مؤمنين مع الاقتتال"5.
وممن بين بطلان هذا القول الشوكاني رحمه الله تعالى، فإنه قال في صدد عرضه للأقوال في عدالة الصحابة: "القول الرابع: أنهم كلهم عدول إلا من قاتل علياً وبه قال جماعة من المعتزلة والشيعة، ويجاب عنه بأن تمسكهم بما تمسكوا
__________
1ـ انظر الحديث في صحيح مسلم 2/745.
2ـ مجموع الفتاوى 3/406-407.
3ـ صحيح البخاري 2/114.
4ـ سورة الحجرات آية/9.
5ـ الباعث الحثيث ص/182.(2/818)
به من الشبه يدل على أنهم لم يقدموا على ذلك جراءة على الله، وتهاوناً بدينه، وجناب الصحبة أمر عظيم، فمن انتهك أعراض بعضهم فقد وقع في هوة لا ينجو منها سالماً، وقد كان في أهل الشام صحابة صالحون عرضت لهم شبه لولا عروضها لم يدخلوا في تلك الحروب ولا غمسوا فيها أيديهم، وقد عدلوا تعديلاً عاماً بالكتاب والسنة فوجب علينا البقاء على عموم التعديل والتأويل لما يقتضي خلافه"1.
فهذا القول الذي قاله جمهور المعتزلة من نفي العدالة عمن قاتل علياً من الصحابة قول باطل لأن الحروب التي جرت بينهم كانت لكل طائفة منهم شبهة اعتقدت تصويب نفسها بسببها فكلهم عدول رضي الله عنهم ولم يخرج بشيء من تلك الحروب أحد من العدالة، لأنهم مجتهدون اختلفوا في مسائل من محل الاجتهاد، كما يختلف المجتهدون بعدهم في مسائل من الدماء وغيرها ولا يلزم من ذلك نقص أحد منهم رضي الله عنهم"2.
القول الثاني: قول واصل بن عطاء:
فقد ذهب إلى أن أحد الفريقين المتخاصمين من الصحابة في موقعتي الجمل وصفين كان مخطئاً لا بعينه كالمتلاعنين، فإن أحدهما فاسق لا محالة "وأقل درجات الفريقين أنه غير مقبول الشهادة كما لا تقبل شهادة المتلاعنين"3.
وبناء على معتقده هذا فإنه لم يحكم بشهادة رجلين أحدهما من أصحاب علي والآخر من أصحاب الجمل فقد قال: "لو شهدت عندي عائشة وعلي وطلحة على باقة بقل لم أحكم بشهادتهم"4.
__________
1ـ إرشاد الفحول ص/70.
2ـ انظر الرد على الرافضة لأبي محمد المقدسي ص/316-317.
3ـ انظر الملل والنحل للشهرستاني 1/49.
4ـ ميزان الاعتدال للذهبي 4/329، وانظر الفرق بين الفرق ص/120، الملل والنحل للشهرستاني 1/49.(2/819)
وقال بقبول شهادة رجلين من أصحاب علي وشهادة رجلين من أصحاب طلحة والزبير1 إذ قد يكون أحد الفريقين عدلاً وعلي صواب وهذا الرأي قال به وتبناه ضرار بن عمرو وأبو الهذيل ومعمر بن عياد السلمي حيث قالوا جميعاً: "نحن نتولى كل واحد من الفريقين على انفراد"2.
وهذا القول كما هو واضح أصحابه قد شكوا في عدالة علي وطلحة والزبير وهو قول ظاهر البطلان وهو أحقر من أن يرد عليه لأن عدالة علي وطلحة والزبير وغيرهم من الصحابة ثابتة بتعديل الله ورسوله إياهم، وبإجماع من قوله معتبر من أهل السنة والجماعة وكفى بعلي وطلحة والزبير شرفاً ورفعة أنهم من أصحاب الجنة بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم لهم بذلك، وإضافة إلى تلك المنزلة الرفيعة دخولهم في أهل بيعة الرضوان الذين عدلهم الله وزكاهم من فوق سبع سموات بقوله ـ جل وعلا ـ {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} 3 فأي تعديل وأي شرف أعظم لمن كان من جملة هؤلاء، فمن تجرأ على تجريح هؤلاء فهو الجدير بالجرح وهو الأولى به، ومن قال بكفرهم فهو الكافر وهو من الذين ضلوا عن سواء السبيل.
القول الثالث: قول عمرو بن عبيد:
أما عمرو بن عبيد فإنه تقدم خطوة أخرى على من تقدم ذكره من المعتزلة فإنه يعتقد أن الطرفين المتحاربين في موقعتي الجمل وصفين قد فسقوا جميعاً، وقال: "لا أقبل شهادة الجماعة منهم سواء كانوا من أحد الفريقين أو كان بعضهم من حزب علي وبعضهم من حزب الجمل"4.
وبلغ به الإزراء بهم والتنقص
__________
1ـ انظر الفرق بين الفرق ص/120، ص/320.
2ـ مقالات الإسلاميين 2/145.
3ـ سورة الفتح آية/18.
4ـ انظر الفرق بين الفرق ص/121، التبصير في الدين ص69، الملل والنحل للشهرستاني 1/49.(2/820)
منهم إلى أن قال: "لو شهد عندي علي وطلحة والزبير وعثمان على شراك نعل ما أجزت شهادتهم"1.
وهذه الكلمة الخبيثة التي خرجت منه تنبيء عما يكنه لهم من الكراهية وما عود عليه لسانه من سبهم وشتمهم وهذه الكلمة لا يجرؤ أن ينطق بها من كان قلبه مثقال درة من إيمان.
وقد ذكر الشوكاني رحمه الله تعالى مذهب عمرو بن عبيد وتولى الرد عليه حيث قال: "القول الثالث: إنهم كلهم عدول قبل الفتن لا بعدها فلا يجب البحث عنهم، وأما بعدها فلا يقبل الداخلون فيها مطلقاً ـ أي من الطرفين ـ لأن الفاسق من الفريقين غير معين وبه قال عمرو بن عبيد من المعتزلة، ثم قال رحمه الله مبيناً بطلان هذا القول ـ: "وهذا القول في غاية الضعف لاستلزامه إهدار غالب السنة فإن المعتزلين لتلك الحروب هم طائفة يسيرة بالنسبة إلى الداخلين فيها، وفيه أيضاً: أن الباغي غير معين من الفريقين وهو معين بالدليل الصحيح، وأيضاً التمسك بما تمسكت به كل طائفة يخرجها من إطلاق اسم البغي عليها على تسليم أن الباغي من الفريقين غير معين"أ. هـ2.
ويرد عليه أيضاً: أن الواجب على كل مسلم "أن يحمل كل ما جرى بينهم من الفتن على أحسن حال وإن كان ذلك إنما لما أدى إليه اجتهاد كل فريق من اعتقاده أن الواجب ما صار إليه، وأنه أوفق للدين وأصلح للمسلمين وعلى هذا "فإما أن يكون كل مجتهد مصيباً، أو أن المصيب واحد والآخر مخطيء في اجتهاده، وعلى كلا التقديرين فالشهادة والرواية من الفريقين لا تكون مردودة"3.
__________
1ـ ميزان الاعتدال 3/275.
2ـ إرشاد الفحول ص/70.
3ـ الإحكام في أصول الأحكام للآمدي: 1/274.(2/821)
فقول عمرو بن عبيد في عدالة الصحابة قول ظاهر البطلان ومردود عليه.
المذهب الثالث:
أن حكمهم في العدالة حكم من بعدهم في لزوم البحث عن عدالتهم عند الرواية1، وقد عزا هذا القول السخاوي والشوكاني إلى أبي الحسين بن القطان2 من علماء الشافعية.
وشبهته أنه قال: "فوحشي قتل حمزة وله صحبة. والوليد شرب الخمر فمن ظهر عليه خلاف العدالة لم يقع عليه اسم الصحبة والوليد ليس بصحابي لأن الصحابة إنما هم الذين كانوا على طريقته"3.
وهذا الشبهة حكم عليها السخاوي بأنها ساقطة إذ الكل أصحابه باتفاق وقتل وحشي لحمزة كان قبل إسلامه ثم أسلم، وليس ذلك مما يقدح به فالإسلام يجب ما قبله وأما قوله: والوليد ليس بصحابي ـ إلخ كلامه ـ فلم يقل قائل من أهل العلم إن ارتكاب المعصية يخرج من كان صحابياً عن صحبته وقد كف النبي صلى الله عليه وسلم من لعن بعضهم بقوله: "لا تلعنوه فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله" 4. كما كف عمر عن حاطب رضي الله عنه ـ لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: " إنه شهد بدراً وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" 5 لا سيما وهم مخلصون في التوبة فيما لعله صدر منهم، والحدود كفارات، بل قيل في الوليد بخصوصه: إن بعض أهل الكوفة
__________
1ـ المصدر السابق 1/274، شرح مختصر المنتهى 2/67.
2ـ هو أحمد بن محمد بن القطان البغدادي من كبار الشافعية له مصنفات في أصول الفقه وفروعه، توفي سنة تسع وخمسين وثلاثمائة. انظر ترجمته في تاريخ بغداد 4/365، تهذيب الأسماء واللغات للنووي 2/214-215.
3ـ انظر فتح المغيب شرح ألفية الحديث للسخاوي 3/112، وإرشاد الفحول للشوكاني ص/69.
4ـ صحيح البخاري 3/172، من حديث عمر رضي الله عنه.
5ـ صحيح البخاري 3/7، صحيح مسلم 4/1942، من حديث علي رضي الله عنه.(2/822)
تعصبوا عليه فشهدوا عليه بغير الحق وبالجملة فترك الخوض في هذا ونحوه متعين"1.
فقول أبي الحسين القطان قول لا يعتد به إذ هو في هذه المسألة أحد الأقوال التي جانبت الصواب.
المذهب الرابع: أن العدالة لا تثبت إلا لمن لازم النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه دون من رآه، أو زاره، أو وفد عليه لمدة قليلة وهذا قول المازري من علماء المالكية، فقد حكى عنه الحافظ ابن حجر أنه قال: "في شرح البرهان لسنا نعني بقولنا الصحابة عدول كل من رآه صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم يوماً ما أو زاره لماماً أو اجتمع به لغرض وانصرف عن كثب وإنما نعني به الذين لازموه وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون"2
ويرد على كلام المازري بأنه لم يوافق عليه بل اعترضه جماعة من الفضلاء ـ كما قال الحافظ ابن حجر ـ وذكر أن الشيخ صلاح الدين العلائي قال: "هو غريب يخرج كثيراً من المشهورين بالصحبة والرواية عن الحكم بالعدالة كوائل بن حجر ومالك بن الحويرث وعثمان بن أبي العاص وغيرهم ممن وفد عليه صلى الله عليه وسلم ولم يقم عنده إلا قليلاً وانصرف وكذلك من لم يعرف إلا برواية الحديث الواحد ولم يعرف مقدار إقامته من أعراب القبائل والقول بالتعميم هو الذي صرح به الجمهور وهو المعتبر والله ـ سبحانه وتعالى ـ أعلم"أ. هـ3.
فقول المازري هذا غير معتبر وهو قول ضعيف كما هو واضح "لاستلزامه إخراج جماعة من خيار الصحابة الذين أقاموا مع النبي صلى الله عليه وسلم قليلاً ثم
__________
1ـ فتح المغيب شرح ألفية الحديث 3/112-113.
2ـ الإصابة في تمييز الصحابة 1/19.
3ـ الإصابة في تمييز الصحابة 1/19-20، فتح المغيب شرح ألفية الحديث 3/113-114.(2/823)
انصرفوا1 منهم من ذكر في قول صلاح الدين العلائي.
فهذه هي المذاهب التي خالف فيها أصحابها إجماع أهل السنة والجماعة في مسألة عدالة الصحابة وهي كما رأينا مبنية على شبه واهية لا تزيدها إلا ضعفاً، فالواجب على المسلم أن يعتقد ما اعتقدته الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة من أن عموم الصحابة عدول ويحرم على كل إنسان ثلبهم بما يشينهم، ولا عبرة بخلاف من خالف في ذلك من الطوائف المخذولة أهل البدع والأهواء مثل الرافضة والمعتزلة والزنادقة وغيرهم ولا من سلك طريقهم في العصر الحديث من الكفرة المستشرقين الذين يزعمون أنهم يعتنون بالدراسات الإسلامية والبحث فيها هم ومن قلدهم من أبناء المسلمين الواقعين في حرمات الله باسم حرية البحث العلمي ويقولون إن كل إنسان له أن يقول ما شاء حتى ولو كان في ذلك اعتداء على حرمات المؤمنين وتكذيب القرآن الكريم وسنة سيد المرسلين تحت ستار حرية الرأي والبحث، وهذا الاتجاه مرفوض عند علماء المسلمين حيث إن للعلم قواعد وأصول وضوابط شرعية يلتزم بها المؤمن حتى يكون بحثه واجتهاده في نطاقها، أما حرية البحث التي فتن بها أهل الأهواء ممن ينتسبون إلى الإسلام وقلدوا فيها الأعداء وطبقوها حسب ما تلقوها، فليست من سنن المؤمنين ولا سبيل المسلمين، ولذلك كانت بحوثهم مناقضة للقواعد الشرعية والأحكام الإسلامية فالذين يجرحون الصحابة ويطعنون في عدالتهم إنما غرضهم من وراء ذلك هو التشكيك في الإسلام، وهدم قواعده التي قام عليها، وهذا ما فطن له أبو زرعة الرازي في القرن الثالث الهجري، فقد روى الخطيب البغدادي بإسناده إلى أبي زرعة الرازي أنه قال: "إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق وذلك أن الرسول عندنا حق والقرآن حق وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يريدون أن يجرحوا
__________
1ـ انظر إرشاد الفحول للشوكاني ص/70.(2/824)
شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة والجرح بهم أولى وهم زنادقة"1.
فقد صدق رحمه الله فلا يتجرأ على تجريح الصحابة إلا مجروح فتح لنفسه باباً يلج منه إلى الزندقة، فمن يرد السلامة لدينه فعليه أن يعتقد ما اعتقده أهل السنة والجماعة في عدالة الصحابة وهو أنهم كلهم عدول من لابس الفتن ومن لم يلابسها، وهذا هو المذهب الحق الذي يجب المصير إليه، وما أحسن ما قاله الإمام الذهبي رحمه الله تعالى في هذه المسألة حيث قال: "فأما الصحابة رضي الله عنهم فبساطهم مطوي وإن جرى ما جرى إذ على عدالتهم وقبول ما نقلوه العمل وبه ندين الله تعالى2.
__________
1ـ الكفاية ص/67.
2ـ الرواة المتكلم فيهم بما لا يوجب الرد ص/46.(2/825)
الفصل الثالث: تحريم سبهم رضي الله عنهم
المبحث الأول: تحريم سبهم بنص الكتاب العزيز
...
المبحث الأول: تحريم سبهم بنص الكتاب العزيز
إن سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم محرم بنص الكتاب العزيز وهو ما تعتقده وتدين به الفرقة الناجية من هذه الأمة، وقد جاءت الإشارة إلى تحريم سبهم في غير ما آية من كتاب الله ـ جل وعلا ـ من ذلك:
1- قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} الآية.
ووجه دلالة الآية على تحريم سبهم أن الله تعالى رضي عنهم رضى مطلقاً، فرضي عن السابقين من غير اشتراط إحسان ولم يرض عن التابعين إلا أن يتبعوهم بإحسان والرضى من الله صفة قديمة فلا يرضى إلا عن عبد علم أنه يوافيه على موجبات الرضى، ومن رضي الله عنه لم يسخط عليه أبداً، وقد بين تعالى في آخر هذه الآية أن هؤلاء الذين رضي الله عنهم هم من أهل الثواب في الآخرة يموتون على الإيمان الذي به يستحقون ذلك حيث قال: {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 1
ولذا لما كان هؤلاء الأخيار بهذه المنزلة العظيمة والمكانة الرفيعة أمر الله من جاء بعدهم أن يستغفروا لهم ويدعوا الله ألا يجعل في قلوبهم غلاً لهم، ومن هنا علم إن الاستغفار وطهارة القلب من الغل لهم أمر يحبه الله ويرضاه، ويثني على فاعله كما أنه قد أمر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} 2.
__________
1ـ سورة التوبة آية/100.
2ـ سورة محمد آية/19.(2/831)
وقال تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} 1، ومحبة الشيء كراهته لضده، فيكون الله يكره السب لهم، الذي هو ضد الاستغفار، والبغض لهم الذي هو ضد الطهارة، وهذا معنى قول عائشة رضي الله عنها: "أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسبوهم"2.
2- قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً} 3.
هذه الآية تضمنت التهديد والوعيد بالطرد والإبعاد من رحمة الله والعذاب المهين لمن آذاه ـ جل وعلا ـ بمخالفة أوامره وارتكاب زواجره وإصراره على ذلك4 وإيذاء رسوله "يشمل كل أذية قولية أو فعلية من سب وشتم أو تنقص له أو لدينه، أو ما يعود إليه بالأذى"5 ومما يؤذيه صلى الله عليه وسلم سب أصحابه وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن إيذاءهم إيذاء له، ومن آذاه فقد آذى الله6 وأي أذية للصحابة أبلغ من سبهم فالآية فيها إشارة قوية ظاهرة إلى أنه يحرم سبهم رضي الله عنهم.
3- قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} 7.
وهذه الآية فيها التحذير من إيذاء المؤمنين والمؤمنات بما ينسب إليهم مما هم منه براء لم يعملوه، ولم يفعلوه، والبهت الكبير أن يحكي أو ينقل عن المؤمنين
__________
1ـ سورة آل عمران آية/159.
2ـ انظر الصارم المسلول على شاتم الرسول ص/572-575، وحديث عائشة في صحيح مسلم 4/2317.
3ـ سورة الأحزاب آية/57.
4ـ تفسير القرآن العظيم لابن كثير 5/514.
5ـ تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 6/121.
6ـ انظر المسند للإمام أحمد 4/87.
7ـ سورة الأحزاب آية/58.(2/832)
والمؤمنات ما لم يفعلوه على سبيل العيب والتنقص لهم1.
ووجه دلالة الآية على تحريم سب الصحابة رضي الله عنهم أنهم في صدارة المؤمنين فإنهم المواجهون بالخطاب في كل آية مفتتحة بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} 2، ومثل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} 3 في جميع القرآن فالآية دلت على تحريم سب الصحابة لأن لفظ المؤمنين أول ما ينطلق عليهم لأن الصدارة في المؤمنين لهم رضي الله عنهم وسبهم والنيل منهم من أعظم الأذى، وأن من نال منهم بذلك فقد آذى خيار المؤمنين بما لم يكتسبوا وأن من اتخذ شتمهم والنيل منهم ديناً له فإن الوعيد المذكور في الآية يصيبه.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى عند هذه الآية: "ومن أكثر من يدخل في هذا الوعيد الكفرة بالله ورسوله، ثم الرافضة الذين ينتقصون الصحابة ويعيبونهم بما قد برأهم الله منه، ويصفونهم بنقيض ما أخبر الله عنهم، فإن الله ـ عز وجل ـ قد أخبر أنه قد رضي عن المهاجرين والأنصار ومدحهم وهؤلاء الجهلة الأغبياء يسبونهم ويتنقصونهم ويذكرون عنهم ما لم يكن ولا فعلوه أبداً فهم في الحقيقة منكسوا القلوب يذمون الممدوحين ويمدحون المذمومين"4أ. هـ.
وكما هو معلوم "أن سب آحاد المؤمنين موجب للتعزير بحسب حالته وعلو مرتبته، فتعزير من سب الصحابة أبلغ وتعزير من سب العلماء وأهل الدين أعظم من غيرهم"5.
4- قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ
__________
1ـ تفسير القرآن العظيم 5/514-515.
2ـ سورة البقرة آية/104.
3ـ سورة الكهف آية/107.
4ـ تفسير القرآن العظيم 5/515.
5ـ تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 6/121.(2/833)
ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} 1 الآية.
ووجه دلالة الآية على تحريم سب الصحابة رضي الله عنهم أنه لا يسبهم شخص إلا لما وجد في قلبه من الغيظ عليهم، وقد بين تعالى في هذه الآية إنما يغاظ بهم الكفار، فدلت على تحريم سبهم، والتعرض لهم بما وقع بينهم على وجه العيب لهم.
قال أبو عبد الله القرطبي: روى أبو عروة الزبيري من ولد الزبير: كنا عند مالك بن أنس، فذكروا رجلاً ينتقص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ مالك هذه الآية: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} حتى بلغ {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} ، فقال مالك: من أصبح من الناس في قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية ـ ثم قال ـ: "لقد أحسن مالك في مقالته وأصاب في تأويله فمن نقص واحداً منهم أو طعن عليه في روايته فقد رد على الله رب العالمين وأبطل شرائع المسلمين، ثم ذكر طائفة من الآيات التي تضمنت الثناء عليهم والشهادة لهم بالصدق والفلاح، ثم قال عقبها: "وهذا كله مع علمه تبارك وتعالى بحالهم ومآل أمرهم"2.أ. هـ
فهذه الآية اشتملت على تحريم سب الصحابة لأن سبهم، إنما يصدر ممن امتلأ قلبه غيظاً عليهم، لا محل فيه للإيمان3 نعوذ بالله من الخذلان.
5- قوله تعالى: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} 4.
__________
1ـ سورة الفتح آية/29.
2ـ الجامع لأحكام القرآن 16/296، وانظر قول مالك في شرح السنة للبغوي 1/229.
3ـ انظر ما قاله مالك فيمن يسب الصحابة في تفسير ابن كثير 5/365.
4ـ سورة الحجرات آية/12.(2/834)
وهذه الآية الكريمة تضمنت النهي لجميع العباد عن أن يقول بعضهم في بعض بظهر الغيب ما يكره المقول فيه، ذلك أن يقال له في وجهه والغيبة قد فسرها الشارع كما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قيل يا رسول الله ما الغيبة؟، قال صلى الله عليه وسلم: " ذكرك أخاك بما يكره "، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟، قال صلى الله عليه وسلم: "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته" 1.
وبتفسير الشارع للغيبة في هذا الحديث يتبين وجه دلالة الآية على تحريم سب الصحابة وذلك أن سبهم وازدراءهم والتنقص من مكانتهم الرفيعة التي أنزلهم الله فيها إنما هو من البهت لهم بما ليس فيهم، فكل من عابهم وطعن فيهم أو في أحد منهم كل ذلك من البهتان المبين ومن الوقوع في أعراضهم الذي يعد من أربى الربا عند الله ـ جل وعلا ـ، فقد روى ابن أبي حاتم بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "أي الربا أربى عند الله"؟، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "أربى الربا عند الله استحلال عرض امريء مسلم"، ثم قرأ {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} 2.
فإذا كان الكلام في عرض أي مسلم كان من أربى الربا عند الله عز وجل فما الشأن بالاستطالة والسب على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هم في مقدمة عباد الله المتقين وعباده الصالحين، ولا يشك مسلم في أن النيل منهم بالقول السيء من سب وغيره أنه انتهاك لحرمة أمر الله عز وجل باحترام الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
__________
1ـ سنن أبي داود 2/567، سنن الترمذي 3/220-221، وقال: حسن صحيح.
2ـ ذكره الحافظ ابن كثير في تفسيره 5/515، وأورده السيوطي في الدر المنثور 6/658.(2/835)
6- قوله تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} 1.
ووجه دلالة الآية على تحريم سب الصحابة يتضح بما قاله السلف في تفسير هذه الآية، فقد قال عبد الله بن عباس رضي الله عنه بعد أن سئل عن قوله: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} ، قال: طعان، "لمزة"، قال: مغتاب2.
وقال مجاهد: الهمزة الطعان في الناس، واللمزة الذي يأكل لحوم الناس3.
وقال قتادة: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} قال: يأكل لحوم الناس ويطعن عليهم"4.
وقال أبو العالية: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} قال: تهمزه في وجهه وتلمزه من خلفه5.
..، فهذه التفاسير لهذه الآية عن هؤلاء الأئمة من السلف تدل على تحريم اغتياب عموم المؤمنين وهي تنطبق على من أطلقوا ألسنتهم بالوقوع في الصحابة من الرافضة وغيرهم فهم الهمازون لهم بالقول بحيث يزدرونهم وينتقصونهم بالسب والشتم وينسبون إليهم ما لم يقولوه وما لم يفعلوه، ولا شك أن العذاب الذي توعد الله به في هذه الآية سيصيب كل من اتخذ الطعن فيهم ديدنه إن لم يتب ويقلع عن ذلك ويجعل لسانه رطباً بذكرهم بالجميل والترضي عنهم والترحم عليهم والاستغفار لهم كما جاء الأمر به لكل من جاء بعدهم من أهل الإيمان، والحاصل مما تقدم ذكره أن تحريم سب الصحابة جاءت الإشارة إليه في القرآن الكريم وأن الواجب على كل مسلم أن يعتقد أن الله تعالى حرم سبهم وازدراءهم وعيبهم بما جرى بينهم وأن يحذر طريقة الروافض الذين لم يراعوا لهم حرمة ولم يقدروهم حق قدرهم وأن من سلك طريقهم ألقى نفسه في المهالك التي لا نجاة منها إلا بالرجوع إلى طريقة أهل الحق من أهل السنة والجماعة والتوبة مما أسلفه من جناية في حق الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين.
__________
1ـ سورة الهمزة آية/1.
2ـ الدر المنثور 8/624.
3ـ المصدر السابق.
4ـ الدر المنثور 8/624.
5ـ المصدر السابق.(2/836)
المبحث الثاني: دلالة السنة على تحريم سب الصحابة
لقد دلت السنة النبوية المطهرة على تحريم سب الصحابة والتعرض لهم بما فيه نقص وحذر النبي صلى الله عليه وسلم من الوقوع في ذلك لأن الله ـ تعالى ـ اختارهم لصحبة نبيه ونشر دينه وإعلاء كلمته، وبلغوا الذروة في محبة النبي صلى الله عليه وسلم، فكان له وزراء وأنصاراً يذبون عنه وسعوا جاهدين منافحين لتمكين الدين في أرض الله حتى بلغ الأقطار المختلفة ووصل إلى الأجيال المتتابعة كاملاً غير منقوص، ولمقامهم الشريف ولما لهم من القيام التام بأنواع العبادات، وصنوف الطاعات والقربات جاءت النصوص النبوية القطعية بتحريم سبهم وتجريهم أو الطعن فيهم والحط من قدرهم ومن تلك النصوص:
1- ما روا الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه" 1.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد أيضاً بلفظ: قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء فسبه خالد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أحداً من أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه" 2.
2- وعند الإمام أحمد من حديث أنس رضي الله عنه قال: كان بين خالد
__________
1ـ صحيح البخاري 2/292.
2ـ صحيح مسلم 4/1967-1968.(2/837)
ابن الوليد وعبد الرحمن بن عوف كلام، فقال خالد لعبد الرحمن بن عوف تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها ـ فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ـ، فقال: "دعوا لي أصحابي، فوالذي نفسي بيدي لو أنفقتم مثل أحد ذهباً أو مثل الجبال ذهباً لما بلغتم أعمالهم" 1.
هذان الحديثان اشتملا على النهي والتحذير من سب الصحابة رضي الله عنهم، وفيهما التصريح بتحريم سبهم، وقد عد بعض أهل العلم سبهم "من المعاصي الكبائر"2.
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: "واعلم أن سب الصحابة رضي الله عنهم حرام من فواحش المحرمات، سواء من لابس الفتن منهم وغيره لأنه مجتهدون في تلك الحروب متأولون"3.
والنهي في هذين الحديثين المتقدمين كان موجهاً من النبي صلى الله عليه وسلم لمن كانت له صحبة متأخرة، أن يسب من كانت له صحبة متقدمة "لامتيازهم عنهم من الصحبة بما لا يمكن أن يشركوهم فيه حتى لو أنفق حدهم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه، فإذا كان هذا حال الذين أسلموا بعد الحديبية، وإن كان قبل فتح مكة، فكيف حال من ليس من الصحابة بحال مع الصحابة رضي الله عنهم"4.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "فإن قيل: فلم نهى خالداً عن أن يسب أصحابه إذا كان من أصحابه أيضاً؟، وقال: "لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه".
__________
1ـ المسند 3/266، وأورده السيوطي في الجامع الصغير ورمز له بالصحة. انظر فيض القدير: 3/531، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني 4/556.
2ـ انظر شرح النووي على صحيح مسلم 16/93.
3ـ المصدر السابق.
4ـ شرح الطحاوية ص/529-530.(2/838)
قلنا: لأن عبد الرحمن بن عوف ونظراءه هم من السابقين الأولين الذين صحبوه في وقت كان خالد وأمثاله يعادونه فيه، وأنفقوا أموالهم قبل الفتح وقاتلوا وهم أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد الفتح وقاتلوا، وكلاً وعد الله الحسنى، فقد انفردوا من الصحبة بما لم يشركهم فيه خالد ونظراؤه ممن أسلم بعد الفتح الذي هو صلح الحديبية وقاتل، فنهي أن يسب أولئك الذين صحبوه قبله، ومن لم يصحبه قط نسبته إلى من صحبه كنسبة خالد إلى السابقين وأبعد.
وقوله: "لا تسبوا أصحابي" خطاب لكل أحد أن لا يسب من انفرد عنه بصحبته عليه الصلاة والسلام، وهذا كقوله عليه الصلاة والسلام في حديث آخر: "أيها الناس إني أتيتكم فقلت: إني رسول الله إليكم، فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر صدقت فهل أنتم تاركوا لي صاحبي. فهل أنتم تاركوا لي صاحبي" 1.. أو كما قال بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم قال ذلك لما عاير بعض الصحابة أبا بكر، وذلك الرجل من فضلاء أصحابه ولكن امتاز أبو بكر عنه بصحبته وانفرد بها عنه"أ. هـ2.
فالنهي عن سبهم عام لكل من وجد على ظهر الأرض أيا كان عن أن يسب أي واحد من الصحابة.
قال المناوي بعد قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: "دعوا لي أصحابي": "الإضافة للتشريف تؤذن باحترامهم وزجر سابهم ... "لو أنفقتم مثل أحد ذهباً ما بلغتم أعمالهم" أي: ما بلغتم من إنفاقكم بعض أعمالهم لما قارنها من مزيد إخلاص وصدق نية وكمال يقين، وقوله: "أصحابي" مفرد مضاف فيعم كل صاحب له لكنه عموم مراد به الخصوص ... يدل على أن الخطاب لخالد وأمثاله ممن تأخر إسلامه وأن المراد هنا متقدموا الإسلام منهم الذي كانت له الآثار الجميلة والمناقب
__________
1ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 8/303، من حديث أبي الدرداء.
2ـ الصارم المسلول على شاتم الرسول ص/576-577.(2/839)
الجليلة في نصرة الدين من الإنفاق في سبيل الله واحتمال الأذى في سبيل الله ومجاهدة أعدائه، ويصح أن يكون من بعد الصحابة مخاطباً بذلك حكماً إما بالقياس أو بالتبعية"1.
4- روى الحافظ الطبراني بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أصحابي، لعن الله من سب أصحابي" 2.
5- وروى أيضاً بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من سب أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" 3.
6- وروى أيضاً بإسناده إلى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله من سب أصحابي"4.
هذه الأحاديث الثلاثة مشتملة على لعن من سب الصحابة ودلت على أن سبهم من الكبائر، وقد جمع الإمام الذهبي الذنوب التي هي كبائر وعد سب الصحابة منها5، فعلى المسلم أن يحذر من سبهم أو يتعرض لهم بما يشينهم رضي الله عنهم "وسبهم معناه: شتمهم معنى قوله صلى الله عليه وسلم " فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" الطرد والإبعاد عن مواطن الأبرار، ومنازل الأخيار، والسب والدعاء من الخلق وتحريم سبهم يشمل من لابس الفتن ومن لم يلابسها، لأنهم مجتهدون في تلك الحروب متأولون فسبهم كبيرة ونبسبتهم إلى الضلال
__________
1ـ فيض القدير 3/531.
2ـ أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 10/21، وقال: رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح غير علي بن سهل وهو ثقة.
3ـ ذكره السيوطي في الجامع الصغير ورمز له "بالحسن". انظر فيض القدير 6/146، وأورده الألباني في صحيح الجامع الصغير 5/299، وقال: حسن، وأشار إلى أنه أورده في سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم 2340.
4ـ ذكره السيوطي في الجامع الصغير ورمز له "بالصحة" انظر فيض القدير: 5/274، وأورده الألباني في كتابه "صحيح الجامع الصغير" 5/23، وقال: حسن.
5ـ انظر كتاب الكبائر للذهبي ص/233-237.(2/840)
أو الكفر كفر"1.
7- روى الإمام أحمد وغيره من حديث سعيد بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إن من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق" 2.
فكل من أطلق لسانه بالسب لهم فهو مستطليل عليهم بغير حق وهو أفاك أثيم إذ لفظ المسلم في الحديث أول ما ينطلق عليهم إذ هم مقدمة المسلمين الذين انقادوا لله تعالى بالطاعة وأخلصوا العبادة له وحده لا شريك له "وأدنى أحوال الساب لهم أن يكون مغتاباً"3.
8- روى الشيخان من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" 4
فإذا كان هذا الوعيد يلحق من سب كل أي مسلم كان فما الشأن بمن يسب خيار المسلمين والأبرار من عباده المتقين وهم الصحابة الكرام رضي الله عنهم.
قال النووي رحمه الله تعالى: "السب في اللغة الشتم والتكلم في عرض الإنسان بما يعيبه والفسق في اللغة الخروج والمراد به في الشرع الخروج عن الطاعة، وأما معنى الحديث فسب المسلم بغير حق حرام بإجماع الأمة وفاعله فاسق كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم5، وعلى هذا فالرافضة والخوارج ومن سلك طريقهم من أهل البدع الذين يشتمون الصحابة ويتكلمون فيهم بما يعيبهم بغير حق فهم أكثر من يدخل في وصف الفسق كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
قال المناوي مبيناً معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "سباب المسلم فسوق" أي: مسقط
__________
1ـ فيض القدير للمناوي 6/146-147.
2ـ المسند 1/190، سنن أبي داود 2/567، صحيح الجامع الصغير 2/242.
3ـ الصارم المسلول على شاتم الرسول ص/571.
4ـ صحيح البخاري 1/18، صحيح مسلم 1/81.
5ـ شرح النووي على صحيح مسلم 2/53-54.(2/841)
للعدالة والمرتبة، وفيه تعظيم حق المسلم والحكم على من سبه بالفسق وأن الإيمان ينقص ويزيد لأن الساب إذا فسق نقص إيمانه وخرج عن الطاعة فضره ذنبه لا كما زعم المرجئة، أنه لا يضر مع التوحيد ذنب1.
فكل من سب الصحابة رضي الله عنهم أو واحداً منهم أسقط نفسه من العدالة وفسق بذلك وأدى إلى نقصان إيمانه بخروجه عن الطاعة.
9- روى أبو القاسم الطبراني من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ساب الموتى كالمشرف على الهلكة" 2.
"أراد: الموتى المؤمنين وإيذاء المؤمن الميت أغلظ من الحي لأن الحي يمكن استحلاله والميت لا يمكن استحلاله فلذا توعد عليه بالوقوع في الهلاك"3.
10- وروى أبو القاسم الطبراني أيضاً: عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ساب المؤمن كالمشرف على الهلكة"4.
ومعنى الحديث: أي يكاد أن يقع في الهلاك الأخروى، وأراد في ذلك المؤمن المعصوم والقصد به التحذير من السب5
وهذا الحدي والذي قبله تضمنا العقوبة الشديدة التي تلحق ساب أي ميت من المسلمين وأي مؤمن كان فما الشأن بمن سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هم خيار موتى المؤمنين وأفضل المؤمنين بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فكل من سبهم يعد من أهلك الهالكين وأخسر الخاسرين بنص هذين الحديثين،
__________
1ـ فيض القدير 4/84.
2ـ أورده السيوطي في الجامع الصغير ورمز له بالصحة، انظر فيض القدير 4/79.
3ـ فيض القدير 4/79.
4ـ ذكره السيوطي في الجامع الصغير ورمز له بالصحة. انظر فيض القدير للمناوي 4/79، وأورده الألباني في صحيح الجامع الصغير 3/196، وعزاه للبزار وقال: حسن كما أورده في سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم 1878.
5ـ فيض القدير للمناوي 4/79.(2/842)
فلا يجوز سب أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأي وجه، وقد كان صلى الله عليه وسلم ينهى عن أي كلام يصدر من بعض الصحابة لآخرين منهم يتضمن الأذى وكان يحذر من ذلك أشد تحذير.
11- فقد روى أبو القاسم الطبراني من حديث عبد الله بن أبي أوفى قال: شكا عبد الرحمن بن عوف خالداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "يا خالد لا تؤذ رجلاً من أهل بدر فلو أنفقت مثل أحد ذهباً لم تدرك عمله"، فقال يقعون في فأرد عليهم"، فقال: "لا تؤذوا خالداً فإنه سيف من سيوف الله صبه الله على الكفار" 1.
فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل أي كلام يتضمن الأذى من بعض الصحابة لآخرين منهم، فما الشأن بحال من ليس من الصحابة ويطلق لسانه عليهم بالسب القبيح الذي يستحي المؤمن من حكايته عنهم، لا شك أن من كان هذا شأنه فإنه أنزل نفسه أقبح المنازل وتجرأ على خيار المؤمنين، وعصى سيد المرسلين في أمره بوجوب الإمساك عن الكلام في شأنهم إذا ذكروا.
12- فقد روى الحافظ الطبراني من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا ذكر أصحابي فأمسكوا، وإذا ذكرت النجوم فأمسكوا، وإذا ذكر القدر فأمسكوا" 2.
فمعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا ذكر أصحابي" بما شجر بينهم من الحروب
__________
1ـ أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 9/349، وقال عقبه: رواه الطبراني في الصغير والكبير باختصار والبزار بنحوه، ورجال الطبراني ثقات وأخرج الحاكم منه ما يخص خالداً في المستدرك 3/298، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وأخرجه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد 12/150.
2ـ أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 7/202، وقال: رواه الطبراني وفيه مسهر بن عبد الملك وثقه ابن حبان وغيره وفيه خلاف وبقية رجاله رجال الصحيح، ورواه أبو نعيم في الحلية 4/108، وأورده السيوطي في الجامع الصغير ورمز له بالحسن. انظر فيض القدير للمناوي 1/347-348، وأورده الألباني في صحيح الجامع الصغير 1/209، وقال عقبه: صحيح وأورده في الصحيحة 1/42.(2/843)
والمنازعات "فأمسكوا" وجوباً عن الطعن فيهم والخوض في ذكرهم بما لا يليق فإنهم خير الأمة وخير القرون، ولما جرى بينهم محامل1، فالذي يشغل نفسه بما حصل بينهم من الوقائع ويتخذ ذلك ذريعة لسبهم والطعن فيهم فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم في أمره بالإمساك عن الكلام فيهم إذا ذكر ما شجر بينهم وعصاه أيضاً: في أمره بالإحسان إليهم وأمره بحفظه فيهم.
13- فقد روى الإمام أحمد بإسناده إلى إلى جابر بن سمرة، قال: خطب عمر الناس بالجابية، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام في مثل مقامي هذا فقال: "أحسنوا إلى أصحابي ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" 2.
فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بالإحسان إلى جميع الصحابة والإحسان يكون بالقول كما يكون بالفعل، فيجب على جميع الناس بعدهم أن يحسنوا إليهم بكف ألسنتهم "عن غمطهم أو الوقيعة فيهم بلوم أو تعنيف لبذلهم نفوسهم وإطراحها بين يدي الله تعالى في الحروب وقتالهم القريب والبعيد في ذات الله، وبذلهم أموالهم وخروجهم من ديارهم وصبرهم على البلاء والجهد الذي لا يطيقه غيرهم، وليس ذلك إلا عن أمر عظيم ملك البواطن وصرفها على حكم محبة الله ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستوجبوا بذلك الرعاية وكمال العناية"3. فالذي يسبهم ويطعن فيهم لم يحسن إليهم ولم يمتثل أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، وإنما أتى بعكس ما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أنه فعل ضد ما أمر به وهو الإساءة إليهم بالقول السيء نعوذ بالله من ذلك.
والأحاديث التي اشتملت على تحريم سب الصحابة والنهي عنه كثيرة فالواجب على كل مسلم أن يحذر من الوقوع في ذلك ويعتقد حرمة ذلك وأنه من
__________
1ـ فيض القدير للمناوي 1/347.
2ـ المسند 1/26، قال أحمد شاكر في تعليقه على المسند 1/230: إسناده صحيح. وأورده الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم 431.
3ـ فيض القدير للمناوي 1/197.(2/844)
أعظم الذنوب التي لا يقع فيها إلا رافضي غال جعل للشيطان على نفسه سبيلاً يتبعه في كل شيء يأمره به مما فيه معصية لله ـ عز وجل ـ.
والحاصل مما تقدم أن السنة دلت على أن سب الصحابة من أكبر الكبائر، وأفجر الفجور، وأن من ابتلي بذلك فهو من الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، وقد وفق الله الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة لاحترامهم ومعرفة حقهم وذكرهم بالجميل اللائق بهم، وحفظوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم حيث اعتقدوا ما دل عليه الكتاب والسنة من حرمة سبهم فهم العاملون بكتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم فيما يجب لهم من الحق على الخلق بعدهم حفظ الله أحياءهم ورحم موتاهم ...(2/845)
المبحث الثالث: من كلام السلف في تحريم سب الصحابة
إن النصوص الواردة عن سلف الأمة وأئمتها من الصحابة ومن جاء بعدهم من التابعين لهم بإحسان التي تقضي بتحريم سب الصحابة والدفاع عنهم كثيرة جداً ومتنوعة في ذم وعقوبة من أطلق لسانه على أولئك البررة الأخيار وأقوال السلف التي كانوا يواجهون بها الذين ابتلوا بالنيل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت في غاية الإنكار على من وقع في ذلك وبيان الخسارة الكبيرة التي يكسبها من أراد الله فتنته بالوقوع والنيل من خير القرون.
1- فقد روى ابن أبي حاتم بإسناده إلى يوسف بن سعد عن محمد بن حاطب قال: ونزل في داري حيث ظهر علي رضي الله عنه على أهل البصرة، فقال لي يوماً: لقد شهدت أمير المؤمنين علياً رضي الله عنه وعنده عمار وصعصعة1 والأشتر ومحمد بن أبي بكر رضي الله عنهم، فذكروا عثمان رضي الله عنه فنالوا منه، فكان علي رضي الله عنه على السرير ومعه عود في يده، فقال قائل منهم: إن عندكم من يفصل بينكم فسألوه، فقال علي رضي الله عنه: كان عثمان رضي الله عنه من الذين قال الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} 2، قال: والله عثمان وأصحاب عثمان رضي الله عنهم قالها ثلاثاً: قال يوسف: فقلت لمحمد بن حاطب آلله لسمعت هذا من علي
__________
1ـ هو صعصعة بن صوحان العبدي نزيل الكوفة تابعي كبير مخضرم فصيح ثقة مات في خلافة معاوية. انظر ترجمته في التقريب 1/337، تهذيب التهذيب 4/422.
2ـ سورة الأحقاف آية/16.(2/846)
رضي الله عنه، قال: آلله لسمعت هذا من علي رضي الله عنه"1.
2- وكان رضي الله عنه يعاقب بالجلد الموجع على الكلام الذي فيه إيماء أو إشارة إلى النيل من أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فقد ذكر ابن الأثير أن رجلين وقفا على باب الدار2 الذي نزلت فيه أم المؤمنين بالبصرة، فقال أحدهما: جزيت عنا أمناً عقوقاً.
وقال الآخر: يا أمي توبي فقد أخطأت ـ فبلغ ذلك علياً ـ فبعث القعقاع بن عمرو إلى الباب فأقبل بمن كان عليه، فأحالوا على رجلين من أزد الكوفة وهما عجلان، وسعد ابنا عبد الله فضربها مائة سوط وأخرجهما من ثيابهما"3.
3- روى أبو داود بإسناده إلى رباح بن الحارث قال: كنت قاعداً عند فلان4 في مسجد الكوفة، وعنده أهل الكوفة، فجاء سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل فرحب به وحياه وأقعده عند رجله على السرير، فجاء رجل من أهل الكوفة يقال له قيس بن علقمة، فاستقبله فسب وسب، فقال سعيد: من يسب هذا الرجل؟ قال: يسب علياً، فقال: ألا أرى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسبون عندك ثم لا تنكر ولا تغير؟، أنا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ـ وإني لغني أن أقول عنه ما لم يقل فيسألني عنه غداً إذا لقيته ـ " أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة وعثمان في الجنة وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وسعد بن مالك في الجنة وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة"، وسكت عن العاشر، قالوا: من هو العاشر؟ فقال:
__________
1ـ ذكره الحافظ ابن كثير في تفسيره 6/283.
2ـ هي دار عبد الله بن خلف وهي أعظم دار بالبصرة نزلت بها عائشة رضي الله عنها بعد انتهاء وقعة الجمل.
3ـ الكامل في التاريخ 3/257.
4ـ هو المغيرة بن شعبة كما في عون المعبود 12/402.(2/847)
سعيد بن زيد ـ يعني نفسه ـ ثم قال: والله لمشهد رجل منهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يغبر فيه وجهه خير من عمل أحدكم ولو عمَّر عمر نوح"1.
زاد رزين2: ثم قال: "لا جرم لما انقطعت أعمارهم، أراد الله أن لا يقطع الأجر عنهم إلى يوم القيامة، والشقي من أبغضهم، والسيعد من أحبهم"3.
4- وذكر ابن الأثير عن رزين من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قيل لعائشة: إن ناساً يتناولون، أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حتى أبا بكر وعمر، فقالت: وما تعجبون من هذا؟ انقطع عنهم العمل فأحب الله أن لا ينقطع عنهم الأجر"4.
5- روى ابن بطة بإسناد صحيح إلى ابن عباس رضي الله عنه قال: "لا تسبوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فلمقام أحدهم ساعة ـ يعني مع النبي صلى الله عليه وسلم ـ خير من عمل أحدكم أربعين سنة"5.
__________
1ـ سنن أبي داود 2/516.
2ـ هو رزين بن معاوية بن عمار العبدري، السرقسطي الأندلسي أبو الحسن إمام الحرمين نسبته إلى سرقسطة من بلاد الأندلس جاور بمكة زمناً طويلاً وتوفي بها، له تصانيف منها التجريد للصحاح الستة. انظر ترجمته في الرسالة المستطرفة ص/130-131، شذرات الذهب 4/106، الأعلام 3/46.
3ـ جامع الأصول 9/411.
4ـ جامع الأصول 9/408-409، مسند عائشة للسيوطي ص/164، وعزاه لابن عساكر وذكره شارح الطحاوية ص/530، وعزاه إلى مسلم وتعقبه الألباني بقوله: "هذا حديث غريب عندي وعزوه لمسلم أغرب فإني لم أقف عليه فيه بعد الاستعانة عليه بكل الوسائل الممكنة ... ثم تيقنت عدم وجوده فيه بعد أن فرغت منذ بضعة سنين من اختصار صحيح مسلم. والأمر كما قال الشيخ الألباني وهو عدم وجوده في صحيح مسلم فإني بحثت عنه قبل أطلع على كلام الشيخ الألباني هذا.
5ـ ذكره شارح الطحاوية ص/530، وانظر الشرح والإبانة لابن بطة ص/119، فإنه أخرج الجزء الأول من قول ابن عباس هذا.(2/848)
وفي رواية وكيع: "خير من عبادة أحدكم عمره"1.
6- وروى أبو نعيم بإسناده أن يزيد بن هزاري أنه لقي سعيد بن جبير بأصبهان، فقال له: إن رأيت أن تفيدني مما عندك؟ فحبس دابته وقال: قال لي ابن عباس: احفظ عني ثلاثاً: إياك والنظر في النجوم فإنه يدعو إلى الكهانة، وإياك والنظر في القدر، فإنه يدعو إلى الزندقة وإياك وشتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكبك الله في النار على وجهك يوم القيامة"2.
7- وروى محمد بن عبد الواحد المقدسي إلى عريب3 بن حميد قال: قام رجل فنال من عائشة رضي الله عنها، فقام عمار رضي الله عنه يتخطى الناس فقال: اجلس مقبوحاً4 منبوحاً5 أنت تقع في حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فوالله إنها لزوجته في الدنيا والآخرة"6.
8- وروى أبو يعلى والطبراني عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت لأبي عبد الله الجدلي: "يا أبا عبد الله أيسب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكم، قلت: أنى يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: أليس يسب علي ومن يحبه، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه"7.
9- وروى محمد بن عبد الواحد المقدسي رحمه الله بإسناده إلى سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، قال: "قلت لأبي8: ما تقول في رجل سب أبا بكر؟،
__________
1ـ ذكره أيضاً شارح الطحاوية ص/531.
2ـ أخبار أصبهان 1/324.
3ـ هو: عريب بن حميد أبو عمار الدهني كوفي ثقة من الثالثة. التقريب 3/20، التهذيب 7/191.
4ـ أي: مبعداً، النهاية في غريب الحديث والأثر 4/3.
5ـ أي: مشتوماً. النهاية في غريب الحديث 5/5.
6ـ كتاب النهي عن سب الصحابة وما فيه من الإثم والعقاب ص/21-22، وأورده ابن الأثير في النهاية 4/3.
7ـ مجمع الزوائد 9/130، وقال عقبه: "رواه الطبراني في الثلاثة وأبو يعلى ورجال الطبراني رجال الصحيح، غير أبي عبد الله الجدلي وهو ثقة.
8ـ هو عبد الرحمن بن أبزى الخزاعي مولاهم، صحابي صغير، وكان في عهد عمر رجلاً، وكان =(2/849)
قال: يقتل، قلت: سب عمر؟، قال: يقتل"1.
هذه تسعة نماذج عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها توضيح للطريقة التي كانوا يواجهون بها من أزاغ الله قلبه عن معرفة ما يجب لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتن بسبهم والنيل منهم، فقد كان إنكارهم عظيماً على من صدر منه ذلك، فلم يسكتوا عن المتقولين فيهم بل كانوا يردون عليهم إما بذكر فضائلهم ومالهم عند الله من المنزلة العظيمة التي لا يلحقهم فيها غيرهم مهما قدم من العمل، وإما أن يعاقبوا بجلدهم بالسياط، وقد حصل الأمران في موقف علي رضي الله عنه ممن نال من عثمان وعائشة رضي الله عنها، وبعض الصحابة كان يعتبر سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سباً للرسول صلى الله عليه وسلم كما تقدم ذلك عن أم سلمة، وبعضهم كان يفتي بقتل من سب أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، وكل ذلك يدل على عظم الجرم الذي يقع فيه من امتلأ قلبه ببغضهم وخبث لسانه بالقول القبيح فيهم الذي لا يليق إلا بمن صدر منه وقد سلك التابعون بإحسان من أهل السنة والجماعة في مواجهة السابين لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم طريقة الغلظة والشدة عليهم ولم يسكتوا عن أي تعريض بهم، بل اعتبروا الطعن في الصحابة والسب لهم مروقاً من الدين أعاذنا الله من ذلك.
10- فقد روى أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي بإسناده إلى محمد بن علي بن الحسين بن علي أنه قال لجابر الجعفي: يا جابر بلغني أن قوماً بالعراق يزعمون أنهم يحبونا ويتناولون أبا بكر وعمر، ويزعمون أني آمرهم بذلك، فأبلغهم عني أني إلى الله منهم بريء والذي نفس محمد بيده لو وليت لتقربت إلى الله بدمائهم لا نالتني شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم إن لم أكن أستغفر لهما وأترحم عليهما إن أعداء الله لغافلون عن فضلهما، فأبلغهم أني بريء منهم وممن تبرأ من
__________
= على خراسان لعلي "انظر ترجمته في الإصابة 2/381، تهذيب التهذيب 6/132-133، تقريب التهذيب 1/472.
1ـ كتاب النهي عن سب الأصحاب وما فيه من الإثم والعقاب ص/23.(2/850)
أبي بكر وعمر رضي الله عنهما"1.
11- وروى أيضاً بإسناده إلى عبد الله بن الحسن بن علي أنه قال: "ما أرى رجلاً يسب أبا بكر وعمر تيسر له توبة أبداً"2.
12- وقال عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي: "من شتم أبا بكر الصديق رضي الله عنه فقد ارتد عن دينه وأباح دمه"3.
13- وقال مالك بن أنس رحمه الله تعالى: "الذي يشتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس له سهم أو قال نصيب في الإسلام"4.
14- روى محمد بن عبد الواحد المقدسي بإسناده إلى الحسن بن الربيع قال: سمعت أبا الأحوص5 يقول: لو أن الروم أقبلت من موضعها يعني تقتل ما بين يديها وتقبل حتى تبلغ النخيلة ثم خرج رجل بسيفه فاستنقذ ما في أيديها وردها إلى موضعها ولقي الله وفي قلبه شيء على بعض أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ما رأينا أن ذلك ينفعه"6.
15- وروى أيضاً: بإسناده إلى عبد الله بن مصعب7 قال: قال لي أمير المؤمنين ـ المهدي ـ ما تقول في الذين يشتمون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم،
__________
1ـ كتاب النهي عن سب الأصحاب وما فيه من الإثم والعقاب ص/12، وأورده الحافظ ابن كثير في كتابه البداية والنهاية 9/349، والسياق له.
2ـ النهي عن سب الأصحاب وما فيه من الإثم والعقاب، ص/17.
3ـ الشرح والأبانة، لابن بطة ص/162.
4ـ المصدر السابق ص/162.
5ـ هو سلام بن سليم الحنفي مولاهم أبو الأحوص الكوفي ثقة متقن من السابعة مات سنة تسع وسبعين ومائة. التقريب 1/342.
6ـ كتاب النهي عن سب الأصحاب وما فيه من الإثم والعقاب ص/22.
7ـ هو عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير أبو بكر القرشي الأسدي أمير من أهل العدل والورع والشعر والفصاحة، ولد بالمدينة سنة إحدى عشرة ومائة وتوفي بالرقة سنة أربعة وثمانين ومائة. ألزمه الرشيد بولاية المدينة وعمره سبعون سنة انظر ترجمته في تاريخ بغداد" 10/173-176، البداية والنهاية لابن كثير: 10/211، تهذيب التهذيب 10/162، الأعلام للزركلي 4/281-282.(2/851)
فقلت: زنادقة يا أمير المؤمنين، قال: ما علمت أحداً قال هذا غيرك فكيف ذلك؟ قلت: إنما قوم أرادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجدوا أحداً من الأمة يتابعهم على ذلك فيه فشتموا أصحابه رضي الله عنهم يا أمير المؤمنين ما أقبح بالرجل أن يصحب صحابة السوء فكأنهم قالوا رسول الله صلى الله عليه وسلم صحب صحابة السوء، فقال لي: ما أرى الأمر إلا كما قلت1.
16- روى أبو عبيد الله بن بطه إلى أبي بكر بن عياش2 أنه قال: "لا أصلى على رافضي ولا حروري لأن الرافضي يجعل عمر كافراً، والحروري يجعل علياً كافراً"3.
17- روى محمد بن عبد الواحد المقدسي بإسناده إلى يعقوب بن حميد قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: حج هارون الرشيد أمير المؤمنين فدعاني فقال: يا سفيان إن أبا معاوية الضرير حدثني عن أبي جناب الكلبي عن أبي سليمان الهمداني عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"سيكون بعدي قوم لهم نبز يسمون الرافضة وآية ذلك أنهم يسبون أبا بكر وعمر، فإذا وجدتموهم فاقتلوهم فإنهم مشركون، فقلت: يا أمير المؤمنين اقتلهم بكتاب الله، فقال: يا سفيان وأين موضع ذلك من كتاب الله، فقلت: أعوذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} . ..إلى قوله: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} 4، يا أمير المؤمنين، فمن غاظه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر5.
__________
1ـ كتاب النهي عن سب الأصحاب وما فيه من الإثم والعقاب ص/22-23، وأخرجه الخطيب في تاريخ بغداد 10/175.
2ـ هو أبو بكر بن عياش بن سالم الأسدي المقريء مشهور بكنيبته والأصح أنها اسمه ثقة عابد إلا أنه لما كير ساء حفظه وكتابه صحيح، مات سنة أربع وتسعين ومائة. وقيل قبل ذلك. التقريب 2/399.
3ـ الشرح والإبانة لابن بطة ص/160.
4ـ سورة الفتح آية/29.
5ـ كتاب النهي عن سب الأصحاب ص/24-25، وروى الطبراني عن ابن عباس قال: كنت =(2/852)
18- وقال أيضاً: من نطق في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلمة فهو صاحب هوى1.
19- ذكر القرطبي عن عمر بن حبيب2 قال: حضرت مجلس هارون الرشيد فجرت مسألة تنازعها الحضور وعلت أصواتهم فاحتج بعضهم بحديث يرويه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع بعضهم الحديث وزادت المرافعة والخصام، حتى قال قائلون منهم: "لا يقبل هذا الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن أبا هريرة متهم فيما يرويه وصرحوا بتكذيبه، ورأيت الرشيد قد نحا نحوهم، ونصر قولهم، فقلت أنا: الحديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو هريرة صحيح النقل صدوق فيما يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم وغيره فنظر إلي الرشيد نظر مغضب وقمت من المجلس فانصرفت إلى منزلي، فلم ألبث حتى قيل: صاحب البريد بالباب، فدخل فقال لي: أجب أمير المؤمنين إجابة مقتول وتحنط وتكفن، فقلت: اللهم إنك تعلم أني دفعت عن صاحب نبيك وأجللت نبيك أن يطعن على أصحابه فسلمني منه، فأدخلت على الرشيد وهو جالس على كرسي..حاسر عن ذراعيه بيده السيف، وبين يديه النطع3، فلما بصر بي قال لي: يا عمر ابن حبيب ما تلقاني أحد من الرد والدفع لي بمثل ما تلقيتني به، فقلت: يا أمير المؤمنين إن الذي قلته وجادلت عنه فيه ازدراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى ما جاء
__________
= عند النبي صلى الله عليه وسلم وعنده علي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا علي سيكون في أمتي قوم ينتحلون حب أهل البيت لهم نبز يسمون الرافضة قاتلوهم فإنهم مشركون. قال الهيثمي: رواه الطبراني وإسناده حسن "مجمع الزوائد" 10/22.
1ـ ذكره عبد القادر الجيلاني في كتابه "الغنية لطالبي طريق الحق" 1/79.
2ـ هو عمر بن حبيب بن محمد العدوي قاضي من رجال الحديث ولي قضاء البصرة، ثم الشرقية للمأمون العباسي، وكان صلباً في القضاء، حسن السياسة، هابه الناس وأمنوا ضياع حقوقهم في أيامه، توفي سنة سبع ومائتين. انظر ترجمته في أخبار القضاة لوكيع 2/142، تهذيب التهذيب 7/431-432، التقريب 2/52، الأعلام للزركلي 5/201.
3ـ النطع: بالكسر بساط من الجلد يفرش تحت المحكوم عليه بالعذاب أو بقطع الرأس، أو يفرش للأكل أو اللعب.(2/853)
به إذا كان أصحابه كذابين فالشريعة باطلة، والفرائض والأحكام في الصيام والصلاة والطلاق والنكاح والحدود كله مردود غير مقبول، فرجع إلى نفسه ثم قال: أحييتني يا عمر بن حبيب أحياك الله"1.
20- روى أبو عبيد الله بن بطة بإسناده إلى هارون بن زياد، قال: سمعت الفريابي2 ورجل يسأله عمن شتم أبا بكر، فقال: كافر، قال فنصلي عليه، قال: لا فسألته: كيف نصنع به وهو يقول: لا إله إلا الله قال: لا تمسوه بأيديكم، ادفعوه بالخشب حتى تواروه في حفرته"3.
21- وقال بشر بن الحارث4: "من شتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر وإن صام وصلى وزعم أنه من المسلمين"5.
22- وقال أبو بكر المروزي: سألت أبا عبد الله عمن شتم أبا بكر وعمر وعثمان وعائشة رضي الله عنهم، فقال: "ما أراه على الإسلام"6.
23- وقال محمد بن بشار7: قلت لعبد الرحمن بن مهدي: أحضر جنازة من سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "لو كان من عصبتي ما ورثته"8.
24- وروى محمد بن عبد الواحد المقدسي بإسناده إلى إسماعيل بن
__________
1ـ الجامع لأحكام القرآن 16/298-299.
2ـ هو محمد بن يوسف بن واقد بن عثمان الضبي مولاهم الفرياني، ثقة فاضل مات سنة اثنتي عشرة ومئتين وروى له الجماعة. التقريب 2/221، تهذيب التهذيب 9/535-537.
3ـ الشرح والإبانة ص/160.
4ـ هو بشر بن الحارث المروزي أبو نصر الحافي الزاهد الجليل المشهور ثقة قدوة مات سنة سبع وعشرين ومائتين. التقريب 1/98.
5ـ الشرح والإبانة لابن بطة ص/162.
6ـ الشرح والإبانة ص/161.
7ـ هو محمد بن بشار بن عثمان العبدي البصري أبو بكر بندار ثقة، مات سنة اثنتين وخمسين ومائتين. روى له الجماعة التقريب 2/147.
8ـ الشرح والإبانة ص/160.(2/854)
القاسم، قال: قال لي عبد الله بن سليمان: يا إسماعيل ما تقول فيمن يسب أبا بكر وعمر، قلت: يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، قال لي القتل؟، قلت: نعم، قال: وأنى لك هذا، قلت: بآية من كتاب الله تعالى، فقال: وآية من كتاب الله؟ قلت: نعم، قال: وأي هي من كتاب الله تعالى، قلت له: قال الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا} 1، ولا فساد في الأرض أعظم من سب أبي بكر ومر عليهما السلام، قال لي: أحسنت يا إسماعيل"2.
وهذه الآثار عن هؤلاء الأئمة كلها دلت على تحريم سب الصحابة عموماً وفيها بيان الخسارة الواضحة التي تلحق من أقحم نفسه في هذا الجرم الكبير وأن من ابتلي بداء المبغضين لخيار الأمة وحمله ذلك على سبهم وتجريحهم إنما رام الطعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم وإبطال الشريعة الإسلامية من أساسها لأن الصحابة إذا كانوا كذابين فجميع أحكام دين الإسلام باطلة، إذ الدين لم يصل إلينا إلا عن طريقهم فهم الذين تلقوه من الرسول صلى الله عليه وسلم ومن جاء بعدهم لم يأخذه إلا عنهم، ومن طعن فيهم، أو جرحهم ماذا يبقى له من الدين وكما دلت تلك الآثار عن أولئك الأسلاف على تحريم سب الصحابة دلت كذلك على أن من تكلم فيهم بكلام لا ينبغي فإنه لا يضرهم وإنما يضر نفسه، فهم رضي الله عنهم قدموا على ما قدموا، وقد قدموا الخير الكثير من الأعمال الجليلة والمآثر الحميدة في نصرة دين الإسلام والكلام فيهم بغير حق يكون ذلك زيادة في حسناتهم ورفعة لدرجاتهم، لأن المتكلم فيهم بغير حق إن كانت له حسنات فإنهم يأخذون يأخذون من حسناته ويضاف ذلك إلى حسناتهم ويزدادون بذلك رفعة عند الله تعالى، وإن لم يكن للمتكلم فيهم حسنات فلا تأثير لكلامه فيهم ولا مضرة عليهم، إذ الذي مدحه الله وأثنى عليه لا يضيره ذم الخلق وتنقصهم.
__________
1ـ سورة المائدة آية/33.
2ـ كتاب النهي عن سب الأصحاب وما فيه من الإثم والعقاب ص/25.(2/855)
المبحث الرابع: حكم ساب الصحابة وعقوبته
اختلف أهل العلم في الحكم والعقوبة التي يستحقها من سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو جرحهم هل يكفر بذلك وتكون عقوبته القتل، أو أنه يفسق بذلك ويعاقب بالتعزير.
1- ذهب جمع من أهل العلم إلى القول بتكفير من سب الصحابة رضي الله عنهم أو انتقصهم وطعن في عدالتهم وصرح ببغضهم وأن من كانت هذه صفته أباح دم نفسه وحل قتله، إلا أن يتوب من ذلك ويترحم عليهم.
وممن ذهب إلى هذا القول من السلف الصحابي الجليل عبد الرحمن بن أبزى1 وعبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي2 وأبو بكر بن عياش3 وسفيان بن عيينة4 ومحمد بن يوسف الفريابي5 وبشر بن الحارث المروزي6 ومحمد بن بشار العبدي7 وغيرهم كثير، فهؤلاء الأئمة صرحوا بكفر من سب الصحابة وبعضهم صرح مع ذلك أنه يعاقب بالقتل، وإلى هذا القول ذهب بعض العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية.
__________
1ـ انظر كتاب النهي عن سب الأصحاب وما فيه من الإثم والعقاب ص/23، فتاوى السبكي 2/580.
2ـ انظر الشرح والإبانة لابن بطة ص/162.
3ـ المصدر السابق ص/160.
4ـ كتاب النهي عن سب الأصحاب وما فيه من الإثم والعقاب ص/24-25.
5ـ الشرح والإبانة ص/160، الصارم المسلول على شاتم الرسول ص/570.
6ـ الشرح والإبانة ص/162.
7ـ المصدر السابق ص/160.(2/856)
قال الإمام الطحاوية في عقيدته: "وحبهم ـ أي الصحابة رضي الله عنهم ـ دين وإيمان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان"1 ومن سبهم وطعن فيهم فقد زاد على بغضهم. وقال السرخسي2 وهو أحد كبار علماء الحنفية: "فأما من طعن في السلف من نفاة القياس لاحجاجهم بالرأي في الأحكام فكلامه كما قال الله تعالى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً} 3 لأن الله تعالى أثنى عليهم في غير موضع من كتابه، كما قال الله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} 4 ورسول الله صلى الله عليه وسلم وصفهم بأنهم خير الناس فقال: "خير الناس قرني الذي أنا فيهم"5، والشريعة بلغتنا بنقلهم، فمن طعن فيهم فهو ملحد منابذ للإسلام، دواءه السيف إن لم يتب"6.
وقال الحميدي القرشي تلميذ الشافعي وشيخ البخاري موضحاً العقيدة التي يجب على المسلم أن يلتزمها: "والسنة عندنا أن يؤمن الرجل بالقدر خيره وشره حلوه ومره".. إلى أن قال: "والترحم على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كلهم فإن الله ـ عز وجل ـ قال: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ} فلم نؤمر إلا بالاستغفار لهم فمن سبهم أو بعضهم أو أحداً منهم، فليس على السنة وليس له في الفيء حق أخبرنا بذلك غير واحد عن مالك بن أنس أنه قال: قسم الله الفيء فقال: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ
__________
1ـ شرح الطحاوية ص/528.
2ـ هو محمد بن أحمد بن سهل أبو بكر قاضي من كبار الأحناف مجتهد من أهل فارس سرخس "في خراسان" توفي سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة هجرية. انظر ترجمته في الفوائد البهية في تراجم الحنفية، ص/158-159، الأعلام للزركلي 6/208.
3ـ سورة الكهف آية/5.
4ـ سورة الفتح آية/29.
5ـ انظر صحيح البخاري 2/287-289، صحيح مسلم 4/1963-1965.
6ـ أصول السرخسي 2/134.(2/857)
أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} ، ثم قال: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا} الآية ... فمن لم يقل هذا لهم فليس ممن جعل له الفيء"1.
وقد تقدم في المبحث الذي قبل هذا عن الإمام مالك أنه قال: "والذي يشتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس له سهم، أو قال: نصيب في الإسلام"2.
وقال القرطبي بعد أن ذكر قول مالك: "من أصبح من الناس في قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} إلى قوله: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} 3 قال: "لقد أحسن مالك في مقالته وأصاب في تأويله، فمن نقص واحداً منهم أو طعن عليه في روايته فقد رد على الله رب العالمين وأبطل شرائع المسلمين"4.
وقد ذكر القاضي عياض عن بعض المالكية أنه ذهب إلى أن عقوبة ساب الصحابة أنه يقتل حيث قال: "وقال بعض المالكية يقتل"5.
وذكر الألوسي أن القاضي حسين6 من علماء الشافعية ذهب إلى أن سب الشيخين كفر وإن لم يكن بما فيه إكفارهما ـ ثم قال ـ وإلى ذلك ذهب معظم الحنفية7.
__________
1ـ مسند الحميدي 2/546.
2ـ الشرح والإبانة ص/162.
3ـ سورة الفتح آية/29.
4ـ الجامع لأحكام القرآن 16/297.
5ـ شرح النووي على صحيح مسلم 16/93.
6ـ هو أبو علي الحسين بن محمد بن أحمد المروزي ويقال له أيضاً المرورذي بالذال المعجمة وتشديد الراء الثانية وتخفيفها ـ قال النووي: "وهو القاضي حسين من أصحابنا ويأتي كثيراً معرفاً بالقاضي حسين وكثيراً مطلقاً القاضي فقط كان كبير القدر مرتفع الشأن" توفي سنة اثنتين وستين وأربعمائة رحمه الله. انظر ترجمته في تهذيب الأسماء واللغات 1/164-165.
7ـ الأجوبة العراقية ص/50.(2/858)
وقال الإمام الذهبي مبيناً حكم الطاعن في الصحابة والساب لهم: "فمن طعن فيهم أو سبهم فقد خرج من الدين ومرق من ملة المسلمين لأن الطعن لا يكون إلا عن اعتقاد مساويهم وإضمار الحقد فيهم وإنكار ما ذكره الله تعالى في كتابه من ثنائه عليهم وما لرسول الله صلى الله عليه وسلم من ثنائه عليهم وفضائلهم ومناقبهم وحبهم ولأنهم أرضى الوسائل من المأثور والوسائط من المنقول والطعن في الوسائط طعن في الأصل والإزدراء بالناقل ازدراء بالمنقول وهذا ظاهر لمن تدبره وسلم من النفاق ومن الزندقة والألحاد في عقيدته"1.
وقد ذكر الحافظ ابن حجر اختلاف أهل العلم في عقوبة ساب الصحابة ونص على أن بعض الشافعية يرى قتله، فقد قال رحمه الله: "واختلف في ساب الصحابي، فقال عياض: ذهب الجمهور إلى أنه يعزر، وعن بعض المالكية يقتل2 وخص بعض الشافعية ذلك بالشيخين والحسنين فيحكى القاضي حسين في ذلك وجهين: وقواه السبكي في حق من كفر الشيخين، وكذا من كفر من صرح النبي صلى الله عليه وسلم بإيمانه أو تبشيره بالجنة إذا تواتر الخبر بذلك عنه لما تضمن من تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم"3أ. هـ
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى مبيناً أن من علماء الحنابلة من ذهب إلى القول بتكفير من يعتقد سب الصحابة حيث قال: "وصرح جماعات من أصحابنا بكفر الخوارج المعتقدين البراءة من علي وعثمان وبكفر الرافضة المعتقدين لسب جميع الصحابة الذين كفروا الصحابة وفسقوهم وسبوهم ـ ثم قال ـ وقال أبو بكر عبد العزيز4 في المقنع: فأما الرافضي فإن
__________
1ـ الكبائر ص/235.
2ـ انظر شرح النووي 16/93.
3ـ فتح الباري 7/36، وانظر تحفة الأحوذي 10/368، وانظر فتاوى السبكي 2/580.
4ـ هو الإمام عبد العزيز بن جعفر بن أحمد يزداد بن معروف أبو بكر المعروف بغلام الخلال كان أحد أهل الفهم موثوقاً به في العلم، متسع الرواية مشهوراً بالديانة توفي سنة ثلاثة وستين وثلاثمائة =(2/859)
كان يسب فقد كفر فلا يزوج ولفظ بعضهم وهو الذي نصره القاضي أبو يعلى1 أنه إن سبهم سباً يقدح في دينهم وعدالتهم كفر بذلك، وإن سبهم سباً يقدح ـ مثل أن يسب أبا أحدهم أو يسبه سباً يقصد به غيظه ونحو ذلك لم يكفر"2.
وجاء في كتاب "الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف"3: "وقال في نهاية المبتدي: "من سب صحابياً كفر وإلا فسق، وقيل: وعنه يكفر"أ. هـ
وأما أبو محمد بن حزم الظاهري فإنه ذهب إلى أن ساب الصحابة لا بد من تعليمه وتعريفه أولاً بما يجب للصحابة، فإن تمادى بعد ذلك يكون فاسقاً، وأما إذا عاند ما جاء عن الله ورسوله فيهم، فهنا يكون كافراً مشركاً حيث قال: "حكمه ـ أي: ساب الصحابة ـ أن يعلم ويعرف، فإن تمادى فهو فاسق وإن عاند في ذلك الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم فهو كافر مشرك"أ. هـ4
فهذه النقول فيها توضيح أن طائفة من أهل العلم يرون كفر ساب الصحابة ومنهم من قرن هذا الحكم عليه أن يعاقب معه بقتله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وقد قطع طائفة من الفقهاء من أهل الكوفة وغيرهم بقتل من سب الصحابة وكفر الرافضة"5. وقد استدل أصحاب هذا القول بأمور منها:-
__________
= انظر ترجمته في طبقات الحنابلة 2/119-127.
1ـ هو محمد بن الحسين بن خلف بن الفراء أبو يعلى عالم عصره في الأصول والفروع وأنواع الفنون من أهل بغداد ارتفعت مكانته عند القادر والقائم العباسيين ولد سنة ثمانين وثلاثمائة، وتوفي سنة ثمان وخمسين وأربعمائة. انظر ترجمته في طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى 2/193-230، تاريخ بغداد 2/256، شذرات الذهب 3/306، الأعلام للزركلي 6/331.
2ـ الصارم المسلول على شاتم الرسول ص/570.
3ـ 10/324.
4ـ الإحكام في أصول الأحكام 1/149.
5ـ الصارم المسلول على شاتم الرسول ص/569-570.(2/860)
1- إن سب الصحابة وانتقاصهم والطعن فيهم إيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم وانتقاص له وحط من مكانته عليه الصلاة والسلام، لأنهم أصحابه الذين رباهم وزكاهم وذكرهم بخير وأوصى بهم خيراً ومن المعلوم أن إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم كفر فيكون سب أصحابه كفراً.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأذى الله ورسوله كفر موجب للقتل، كما تقدم، وبهذا يظهر الفرق بين أذاهم قبل استقرار الصحبة وأذى سائر الناس وبين أذاهم بعد صحبتهم له، فإنه على عهد قد كان الرجل ممن يظهر الإسلام يمكن أن يكون منافقاً ويمكن أن يكون مرتداً، فأما إذا مات مقيماً على صحبة النبي صلى الله عليه وسلم وهو غير مزنون1 بنفاق فأذاه أذى مصحوبه قال عبد الله بن مسعود: اعتبروا الناس بأخدانهم، وقالوا:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدي
وقال مالك رضي الله عنه: "إنما هؤلاء أقوام أرادوا القدح في النبي عليه الصلاة والسلام، فلم يمكنهم ذلك فقدحوا في أصحابه حتى يقال: رجل سوء ولو كان رجلاً صالحاً لكان أصحابه صالحين، أو كما قال، وذلك أنه ما منهم رجل إلا كان ينصر الله ورسوله ويذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه وماله ويعينه على إظهار دين الله وإعلاء كلمة الله وتبليغ رسالات الله وقت الحاجة، وهو حينئذ لم يستقر أمره ولم تنتشر دعوته ولم تطمئن قلوب أكثر الناس بدينه، ومعلوم أن رجلاً لو عمل به بعض الناس نحو هذا ثم آذاه أحد لغضب له صاحبه، وعد ذلك أذى له وإلى هذا أشار ابن عمر، قال نسير بن ذعلوق2: سمعت ابن عمر رضي الله عنه يقول: "لا تسبوا أصحاب محمد، فإن مقام أحدهم خير من عملكم كله" رواه اللالكائي، وكأنه أخذه من قول النبي صلى الله عليه وسلم:
__________
1ـ أي: غير متهم. انظر النهاية في غريب الحديث 2/316.
2ـ هو نسير بن ذعلوق ـ بضم المعجمة واللام ـ بينهما مهملة ساكنة، الثوري مولاهم، أبو طعمة الكوفي صدوق لم يصب من ضعفه من الرابعة. التقريب 2/298.(2/861)
"لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم أو نصيفه"1، وهذا تفاوت عظيم جداً2.
2- إن الطعن في الصحابة والتجريح لهم مفاده إبطال جميع أحكام الشريعة الإسلامية إذ هم نقلتها والمبلغون لها.
قال عمر بن حبيب بن محمد العدوي مخاطباً هارون الرشيد عندما جرت مسألة في مجلسه تنازعها الحاضرون واحتج بعضهم بحديث يرويه أبو هريرة رضي الله عنه، فقال قائلون منهم: لا يقبل الحديث لأن أبا هريرة متهم فيما يرويه، ودافع عنه عمر بن حبيب ومن ضمن ما قاله للرشيد: "إذا كان أصحابه كذابين فالشريعة باطلة، والفرائض والأحكام في الصيام والصلاة والطلاق والنكاح والحدود كله مردود غير مقبول"3. فاقتنع الرشيد بقوله وأيده عليه.
وقال القرطبي: "فمن نقص واحداً منهم أو طعن عليه في روايته فقد رد على الله رب العالمين وأبطل شرائع المسلمين"4.
3- إن الطعن في الصحابة يؤدي إلى إنكار ما قام عليه الإجماع "قبل ظهور المخالف من فضلهم وشرفهم ومصادمة المتواتر من الكتاب والسنة الدالين على أن لهم الزلفى من ربهم"5.
ولا شك أن من يعارض كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقبل ما دلا عليه فإنه على خطر عظيم، بل إنه لو أنكر حرفاً من القرآن فإن ذلك يخرجه من الإسلام، ويدخله في الكفر والعياذ بالله.
__________
1ـ انظر صحيح البخاري 2/292.
2ـ الصارم المسلول على شاتم الرسول ص/580.
3ـ الجامع لأحكام القرآن 16/299.
4ـ المصدر السابق 16/297.
5ـ الأجوبة العراقية ص/49.(2/862)
قال محمد صديق حسن خان: "من خالف الله ورسوله في أخبارهما وعصاهما بسوء العقيدة في خلص عباده، ونخبة عباده فكفره بواح لا سترة عليه"1.أ. هـ
4- ما رواه الشيخان في صحيحيهما من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار" 2.
ورويا أيضاً: من حديث البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الأنصار: "لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق، من أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله" 3.
وعند مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر" 4.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "فمن سبهم فقد زاد على بغضهم، فيجب أن يكون منافقاً لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، وإنما خص الأنصار ـ والله أعلم ـ لأنهم هم الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبل المهاجرين وآووا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصروه ومنعوه، وبذلوا في إقامة الدين النفوس والأموال وعادوا الأحمر والأسود من أجله وآووا المهاجرين وواسوهم في الأموال، وكان المهاجرون إذ ذاك قليلاً غرباء فقراء مستضعفين، ومن عرف السيرة وأيام رسول الله عليه الصلاة والسلام وما قاموا به من الأمر، ثم كان مؤمناً يحب الله ورسوله، لم يملك أن لا يحبهم، كما أن المنافق لا يملك أن لا يبغضهم وأراد بذلك ـ والله أعلم ـ أن يعرف الناس قدر الأنصار لعلمه بأن الناس يكثرون
__________
1ـ الدين الخالص 3/382.
2ـ صحيح البخاري 1/12، صحيح مسلم 1/85.
3ـ صحيح البخاري 2/310، صحيح مسلم 1/85.
4ـ صحيح مسلم 1/86.(2/863)
والأنصار يقلون وأن الأمر سيكون في المهاجرين فمن شارك الأنصار في نصر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بما أمكنه فهو شريكهم في الحقيقة، كما تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ} 1 فبغض من نصر الله ورسوله من أصحابه نفاق"أ. هـ2.
هذه بعض أدلة الفريق الأول من أهل العلم التي استدلوا بها على ما ذهبوا إليه من أن ساب الصحابة يكفر بسبه وانتقاصه لهم وطعنه في عدالتهم.
2- ذهب فريق آخر من أهل العلم إلى أن ساب الصحابة لا يكفر بسبهم بل يفسق ويضلل ولا يعاقب بالقتل، بل يكتفي بتأديبه وتعزيره تعزيراً شديداً يردعه ويزجره حتى يرجع عن ارتكاب هذا الجرم الذي يعتبر من كبائر الذنوب وفواحش المحرمات، وإن لم يرجع تكرر عليه العقوبة حتى يظهر التوبة.
فقد روى اللالكائي: عن الحارث بن عتبة، قال: إن عمر بن عبد العزيز أتي برجل سب عثمان، فقال: ما حملك على أن سببته؟، قال: أبغضه، قال: وإن أبغضت رجلاً سببته؟، قال: فأمر به فجلد ثلاثين سوطاً3.
وروى الإمام أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا عاصم4 الأحول قال: أتيت برجل قد سب عثمان، قال: فضربته عشرة أسواط، قال: ثم عاد لما قال، فضربته عشرة أخرى، قال فلم يزل يسبه حتى ضربته سبعين سوطاً"5.
وممن ذهب من الأئمة إلى ما ذهب إليه عمر بن عبد العزيز وعاصم الأحول
__________
1ـ سورة الصف آية/14.
2ـ الصارم المسلول على شاتم الرسول ص/581-582.
3ـ ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في المصدر السابق ص/569.
4ـ هو: عاصم بن سليمان الأحول أبو عبد الرحمن البصري ثقة من الرابعة لم يتكلم فيه إلا القطان وكأنه بسبب دخوله في الولاية، مات سنة أربعين ومائة هجرية. التقريب 1/384، التهذيب: 5/42-43.
5ـ ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه الصارم المسلول ص/569.(2/864)
الإمام مالك والإمام أحمد وكثير من العلماء ممن جاء بعدهما.
قال القاضي عياض مبيناً ما ذهب إليه الإمام مالك وبعض علماء المالكية في هذه المسألة: "وقد اختلف العلماء في هذا، فمشهور مذهب مالك في ذلك الاجتهاد والأدب الموجع، قال مالك رحمه الله: "من شتم النبي صلى الله عليه وسلم قتل، ومن شتم أصحابه أدب" وقال أيضاً: من شتم أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أو عمر أو عثمان أو معاوية أو عمرو بن العاص فإن قال: كانوا على ضلال وكفر، قتل، وإن شتمهم بغير هذا من مشاتمة الناس نكل نكالاً شديداً.
وقال ابن حبيب1: "من غلا من الشيعة إلى بغض عثمان والبراءة منه أدب أدباً شديداً ومن زاد إلى بغض أبي بكر وعمر فالعقوبة عليه أشد ويكرر ضربه ويطال سجنه حتى يموت ولا يبلغ به القتل إلا في سب النبي صلى الله عليه وسلم"أ. هـ2
قال إسحاق بن راهوية: "من شتم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يعاقب ويحبس"3.
وقال سحنون4: من كفر أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم علياً أو عثمان أو غيرهما يوجع ضرباً.
وحكى أبو محمد بن أبي زيد عن سحنون فيمن قال في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي إنهم كانوا على ضلال وكفر قتل، ومن شتم غيرهم
__________
1ـ هو: عبد الملك بن حبيب بن سليمان بن هارون السلمي الألبيري القرطبي أبو مروان عالم الأندلس، وفقيهها في عصره، ولد سنة أربع وسبعين ومائة وتوفي سنة ثمان وثلاثين ومائتين. انظر ترجمته في الديباج المذهب ص/154-156، ميزان الاعتدال 2/652، الأعلام 4/302.
2ـ الشفاء 2/267.
3ـ ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه الصارم المسلول على شاتم الرسول ص/568.
4ـ هو: عبد السلام بن سعيد بن حبيب التنوخي من علماء المالكية، توفي سنة أربعين ومائتين هجرية. انظر: ترجمته في الديباج المذهب ص/160-166، وفيات الأعيان 3/180، 182، الأعلام 4/129.(2/865)
من الصحابة بمثل هذا نكل النكال الشديد"1.
وقال الإمام أحمد رحمه الله: "ومن السنة ذكر محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم أجمعين، والكف عن الذي جرى بينهم، فمن سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو واحداً منهم فهو مبتدع رافضي حبهم سنة، والدعاء لهم قربة والاقتداء بهم وسيلة والأخذ بآثارهم فضيلة لا يجوز لأحد أن يذكر شيئاً من مساويهم ولا يطعن على أحد منهم، فمن فعل ذلك فقد وجب على السلطان تأديبه وعقوبته ليس له أن يعفو عنه، بل يعاقبه ثم يستتيبه، فإن تاب قبل منه، وإن لم يتب أعاد عليه العقوبة وخلده في الحبس حتى يتوب ويراجع"2.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد أن ساق قول أحمد هذا: "وحكى الإمام أحمد هذا عمن أدركه من أهل العلم وحكاه الكرماني عنه وعن إسحاق والحميدي وسعيد بن منصور وغيرهم.
وقال الميموني: سمعت أحمد يقول ما لهم ولمعاوية؟، نسأل الله العافية، وقال لي: يا أبا الحسن: إذا رأيت احداً يذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوء، فاتهمه على الإسلام" فقد نص رضي الله عنه على وجوب تعزيره واستتابته حتى يرجع بالجلد، وإن لم ينته حبس حتى يموت أو يراجع، وقال: ما أراه على الإسلام وقال: وأتهمه على الإسلام، وقال: أجبن عن قتله".
وقال رحمه الله بعد قول إسحاق بن راهوية المتقدم: "وهذا قول كثير من أصحابنا منهم ابن أبي موسى، قال: ومن سب السلف من الروافض فليس بكفؤ ولا يزوج، وهذا في الجملة قول عمر بن عبد العزيز وعاصم الأحول وغيرهما من التابعين"3.
__________
1ـ الشفاء للقاضي عياض 2/167.
2ـ السنة للإمام أحمد ص/17، الصارم المسلول ص/568، طبقات الحنابلة 1/30.
3ـ الصارم المسلول على شاتم الرسول ص/568.(2/866)
وفي مسائل الإمام أحمد رواية ابنه عبد الله أنه قال: سألته عمن شتم رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، رضي الله عنهم؟ فقال أبي: أرى أن يضرب، فقلت له حد؟ فقال: فلم يقف على الحد إلا أنه قال: يضرب وقال: ما أراه إلا متهماً على الإسلام"1.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: قال أحمد في رواية أبي طالب في الرجل يشتم عثمان: هذا زندقة، وقال في رواية المروزي: "من شتم أبا بكر وعمر وعائشة ما أراه على الإسلام".
قال القاضي أبو يعلى: فقد أطلق القول فيه أنه يكفر بسبه لأحد من الصحابة وتوقف في رواية عبد الله وأبي طالب عن قتله، وكمال الحد وإيجاب التعزير يقتضي أنه لم يحكم بكفره، قال: فيحتمل أن يحمل قوله: "ما أراه على الإسلام" إذا استحل سبهم بأنه يكفر بلا خلاف ويحمل إسقاط القتل على من لم يستحل ذلك بل فعله مع اعتقاده لتحريمه كمن يأتي المعاصي قال: ويحتمل قوله: "ما أراه على الإسلام على سب يطعن في عدالتهم نحو قوله: ظلموا، وفسقوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم وأخذوا الأمر بغير حق ويحمل قوله في إسقاط القتل على سب لا يطعن في دينهم نحو قوله: كان فيهم قلة علم، وقلة معرفة بالسياسة والشجاعة، وكان فيهم شح ومحبة للدينا، ونحو ذلك، قال: ويحتمل أن يحمل كلامه على ظاهره فتكون في سابهم روايتان: إحداهما يكفر، والثانية يفسق، وعلى هذا استقر قول القاضي وغيره، حكوا في تكفيرهم روايتين"2.
وقال ملا علي القاري حاكياً الإجماع في حكم سب الصحابة: "من سب أحداً من الصحابة فهو فاسق ومبتدع بالإجماع، إلا إذا اعتقد أنه مباح أو يترتب عليه ثواب كما عليه بعض الشيعة أو اعتقد كفر الصحابة فإنه كافر
__________
1ـ مسائل الإمام أحمد رواية ابنه عبد الله ص/431، تحقيق: زهير الشاويش.
2ـ الصارم المسلول على شاتم الرسول ص/571.(2/867)
بالإجماع"أ. هـ1
فهذه النقول فيها توضيح أن طائفة من أهل العلم ومنهم عمر بن عبد العزيز وعاصم الأحول والإمام مالك وأحمد وكثير من الفقهاء ذهبوا إلى أن ساب الصحابة فاسق ومبتدع ليس كافراً، يجب على السلطان تأديبه تأديباً شديداً لا يبلغ به القتل.
واستدلوا لما ذهبوا إليه بأدلة منها: -
1- ما رواه الشيخان في صحيحيهما من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لخالد بن الوليد وقد سب عبد الرحمن بن عوف: "لا تسبوا أصحابي.. الحديث"2.
ووجه الدلالة من هذا الحديث أن سب الصحابة وقع على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وسمع ذلك، فلم يقل أن الساب كافر ولا أهدر دمه وإنما اكتفى صلى الله عليه وسلم بالنهي عن ذلك.
2- ما رواه الإمام أحمد بإسناده إلى أبي برزة الأسلمي قال: "أغلظ رجل لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، قال: فقال أبو برزة ألا أضرب عنقه، قال: فانتهره وقال: ما هي لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم"3.
3- إن الله تعالى ميز بين مؤذي الله ورسوله ومؤذي المؤمنين فجعل الأول ملعوناً في الدنيا والآخرة، وقال في الثاني: {فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} 4، ومطلق البهتان والإثم ليس بموجب للقتل وإنما هو موجب للعقوبة في الجملة، فتكون عليه عقوبة مطلقة، ولا يلزم من العقوبة جواز القتل،
__________
1ـ ذكره ابن عابدين في كتاب تنبيه الولاة والحكام ضمن مجموعة رسائله 1/367.
2ـ صحيح البخاري 2/292، صحيح مسلم 4/1967.
3ـ المسند 1/9، مسائل الإمام أحمد رواية ابنه عبد الله ص/431، سنن النسائي 7/109.
4ـ سورة النساء آية/112.(2/868)
ولأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "لا يحل دم امريء مسلم يشهد ن لا إله إلا الله إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زنى بعد إحصان، أو رجل قتل نفساً فيقتل بها" 1.
ومطلق السب لغير الأنبياء لا يستلزم الكفر، لأن بعض من كان على عهد النبي عليه الصلاة والسلام كان ربما سب بعضهم بعضاً، ولم يكفر أحد بذلك ولأن أشخاص الصحابة لا يجب الإيمان بهم بأعيانهم، فسب الواحد لا يقدح في الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر"2.
هذه أدلة من ذهب من أهل العلم إلى أن ساب الصحابة غير كافر ولا مهدور الدم وإنما يفسق ويضلل ويبدع، هذا ما قرره أهل العلم في حكم ساب الصحابة، فقد اختلفوا في حكمه كما تقدم على قولين، فمن قائل بأنه كافر يجب قتله ومن قائل بأنه فاسق مبتدع يعاقب بما دون القتل، وكل له أدلة على ما ذهب إليه، والقول الذي تطمئن إليه النفس ويرتاح إليه قلب المؤمن أن من أبغضهم جميعاً أو أكثرهم أو سبهم سباً يقدح في دينهم وعدالتهم، فإنه يكفر بهذا لأن هذا يؤدي إلى إبطال الشريعة بكاملها، أو أكثرها لأن الصحابة هم الناقلون لها، ومن اعتقد أنهم مجروحون وغير عدول فقد طعن في تلك الواسطة التي تلقت الشريعة عن المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومن المستحيل أن تطمئن النفوس إلى شريعة نقلتها مطعون فيهم مجروحون.
قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: "وكذلك نقطع بتكفير كل قائل قال قولاً يتوصل به إلى تضليل الأمة وتكفير جميع الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم إذ لم تقدم علياً، وكفرت علياً إذ لم يتقدم ويطلب حقه في التقديم فهؤلاء قد كفروا من وجوه لأنهم أبطلوا الشريعة بأسرها، إذ قد انقطع نقلها ونقل القرآن إذ ناقلوه
__________
1ـ انظر صحيح البخاري 4/188، صحيح مسلم 3/1302-1303.
2ـ الصارم المسلول ص/578-579.(2/869)
كفرة على زعمهم وإلى هذا والله أعلم أشار مالك في أحد قوليه بقتل من كفر الصحابة، ثم كفروا من وجه آخر بسبهم النبي صلى الله عليه وسلم على مقتضى قولهم وزعمهم أنه عهد إلى علي رضي الله عنه وهو يعلم أنه يكفر بعده على قولهم1 لعنة الله عليهم وصلى الله على رسوله وآله"2أ. هـ
وكذا يكفر من أبغض واحداً من الصحابة أو أكثر لأمر يرجع إلى الصحبة أو النصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو الجهاد معه إذ هذا يؤدي إلى إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم، وأما إذا كان البغض لأمر لا يرجع إلى الصحبة ولا إلى النصرة فحكم هذا أنه فاسق مبتدع على الحاكم أن ينكل به نكالاً شديداً لا يبلغ به القتل حتى يظهر التوبة ويرجع عن طعنه في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعرف لهم حقهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "من لعن أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم كمعاوية وعمرو بن العاص أو من هو أفضل من هؤلاء كأبي موسى الأشعري وأبي هريرة أو من هو أفضل من هؤلاء كطلحة والزبير وعثمان أو علي أو أبي بكر أو عمر أو عائشة أو نحو هؤلاء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم فإنه يستحق العقوبة البليغة باتفاق المسلمين"أ. هـ3.
مطلب في حكم ساب أزواجه صلى الله عليه وسلم وعقوبته:
إن أمهات المؤمنين رضي الله عنهن وأرضاهن داخلات في عموم الصحابة رضي الله عنهم لأنهن منهم، وكل ما جاء في تحريم سب الصحابة من آيات قرآنية وأحاديث نبوية فإن ذلك يشملهن ولما لهن من المنزلة العظيمة وقوة قرابتهن من
__________
1ـ تكفير جميع الأمة من عقائد الكاملية إحدى فرق الشيعة أتباع رجل من الرافضة يعرف بأبي كامل. انظر "مقالات الإسلاميين" 1/89 التبصير في الدين للإسفراييني ص/35، الفرق بين الفرق للبغدادي ص/54-56، اعتقاد فرق المسلمين والمشركين للرازي ص/60، الملل والنحل للشهرستاني 1/174-175.
2ـ الشفاء للقاضي عياض: 2/247-248.
3ـ مختصر فتاوي ابن تيمية لبدر الدين البعلي ص/478-479.(2/870)
سيد الخلق صلى الله عليه وسلم لم يغفل أهل العلم حكم سابهن وعقوبته بل بينوا ذلك أوضح بيان في أقوالهم المأثورة ومؤلفاتهم المختلفة، وفي هذا المطلب أجمع شتات بعض ما ورد في ذلك وليكن البدء بذكر حكم من سب عائشة أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها فنقول: إن أهل العلم من أهل السنة والجماعة أجمعوا قاطبة على أن من طعن فيها بما برأها الله منه وبما رماها به المنافقون من الإفك فإنه كافر مكذب بما ذكره الله في كتابه من إخباره ببراءتها وطهارتها، وقالوا إنه يجب قتله.
وقد ساق أبو محمد بن حزم الظاهري بإسناده إلى هشام بن عمار، قال: سمعت مالك بنت أنس يقول: من سب أبا بكر وعمر جلد، ومن سب عائشة قتل، قيل له: لم يقتل في عائشة؟، قال: لأن الله تعالى يقول في عائشة رضي الله عنها {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 1.
قال مالك: فمن رماها فقد خالف القرآن ومن خالف القرآن قتل.
قال أبو محمد رحمه الله: "قول مالك ههنا صحيح وهي ردة تامة وتكذيب لله تعالى في قطعه ببراءتها"أ. هـ2
وحكى أبو الحسن الصقلي أن القاضي أبا بكر بن الطيب قال: إن الله تعالى إذا ذكر في القرآن ما نسبه إليه المشركون سبح نفسه لنفسه كقوله: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ} 3 في آي كثيرة وذكر تعالى ما نسبه المنافقون إلى عائشة فقال: {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ} 4 سبح نفسه في تبرئتها من السوء كما سبح نفسه في تبرئته من
__________
1ـ سورة النور آية/17.
2ـ المحلى 13/504، وانظر أحكام القرآن لابن العربي 3/1356، الشفاء للقاضي عياض: 2/267.
3ـ سورة الأنبياء آية/26.
4ـ سورة النور آية/16.(2/871)
السوء، وهذا يشهد لقول مالك في قتل من سب عائشة ومعنى هذا والله أعلم، أن الله لما عظم سبها كما عظم سبه وكان سبها سباً لنبيه وقرن سب نبيه وأذاه بأذاه تعالى وكان حكم مؤذيه تعالى القتل كان مؤذي نبيه كذلك"أ. هـ1
وقال أبو بكر بن العربي: "إن أهل الإفك رموا عائشة المطهرة بالفاحشة فبرأها الله، فكل من سبها بما برأها الله منه فهو مكذب لله، ومن كذب الله فهو كافر فهذا طريق قول مالك، وهي سبيل لائحة لأهل البصائر ولو أن رجلاً سب عائشة بغير ما برأها الله منه لكان جزاؤه الأدب"2.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بعض الوقائع التي قتل فيها من رماها رضي الله عنها بما برأها الله منه حيث قال: "وقال أبو بكر بن زياد النيسابوري: سمعت القاسم بن محمد يقول لإسماعيل بن إسحاق أتى المأمون بالرقة برجلين شتم أحدهما فاطمة والآخر عائشة، فأمر بقتل الذي شتم فاطمة وترك الآخر، فقال إسماعيل: ما حكمهما إلا أن يقتلا لأن الذي شتم عائشة رد القرآن.
قال شيخ الإسلام: وعلى هذا مضت سيرة أهل الفقه والعلم من أهل البيت وغيرهم.
قال أبو السائب القاضي: "كنت يوماً بحضرة الحسن بن زيد الداعي بطبرستان، وكان بحضرته رجل فذكر عائشة بذكر قبيح من الفاحشة، فقال: يا غلام اضرب عنقه، فقال له العلويون: هذا رجل من شيعتنا، فقال: معاذ الله، هذا رجل طعن على النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} 3.
فإن كانت عائشة خبيثة فالنبي صلى الله عليه وسلم خبيث، فهو كافر فاضربوا عنقه،
__________
1ـ الشفاء للقاضي عياض 2/267-268.
2ـ أحكام القرآن لابن العربي 3/1356.
3ـ سورة النور آية/26.(2/872)
فضربوا عنقه وأنا حاضر". رواه اللالكائي.
وروى عن محمد بن زيد أخي الحسن بن زيد أنه قدم عليه رجل من العراق فذكر عائشة بسوء فقام إليه بعمود فضرب به دماغه، فقتله، فقيل له: هذا من شيعتنا ومن بني الآباء، فقال: هذا سمى جدي قرنان1، ومن سمى جدي قرنان استحق القتل فقتلته"2.
هذا هو موقف أهل البيت من نسل علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيرهم ممن أطلق لسانه بالنيل من أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إنه موقف الغيور على الدين الذي لم يرض الله لعباده سواه فمن نال من عائشة رضي الله عنها بما برأها الله منه فإنما ذلك معاندة للقرآن وتكذيب لله رب العالمين وطعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عقوبة أنجع مع من أقدم على مثل هذا العمل المناقض لدين الإسلام لأن من كذب الله في أخباره وطعن بقول السوء في سيد الخلق عليه الصلاة والسلام لا يختلف اثنان في أنه خرج من ملة الإسلام إلى الكفر.
قال القاضي أبو يعلى: من قذف عائشة بما برأها الله منه كفر بلا خلاف وقد حكى الإجماع على هذا غير واحد، وصرح غير واحد من الأئمة بهذا الحكم3.
وقال ابن أبي موسى4: "ومن رمى عائشة رضي الله عنها بما برأها الله منه
__________
1ـ قرنان: على وزن سكران، وهو الذي لا غيرة له، قال الأزهري: هذا قول الليث وهو من كلام الحاضرة ولا يعرفه أهل البادية. المصباح المنير 2/501.
2ـ الصارم المسلول ص/566-567.
3ـ المصدر السابق.
4ـ هو عبد الخالق بن عيسى بن أحمد بن جعفر الهاشمي، إمام الحنابلة ببغداد في عصره كان ثقة زاهداً درس بجامع المنصور وبجامع المهدي وصنف كتاباً منها "رؤوس المسائل" و"أدب الفقه" وكان شديداً على أهل البدع، ولد سنة إحدى عشرة وأربعمائة، وتوفي سنة سبعين وأربعمائة. انظر ترجمته في طبقات الحنابلة 2/237-241، الذيل على طبقات الحنابلة 1/15-26، مناقب الإمام أحمد ص/521-523، الأعلام 4/63.(2/873)
فقد مرق من الدين ولم ينعقد له نكاح على مسلمة"1.
وقال ابن قدامة المقدسي: "ومن السنة الترضي عن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين المطهرات المبرآت من كل سوء أفضلهن خديجة بنت خويلد وعائشة الصديقة بنت الصديق التي برأها الله في كتابه زوج النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، فمن قذفها بما برأها الله منه فقد كفر بالله العظيم"أ. هـ2.
وقال الإمام النووي في صدد تعداده الفوائد التي اشتمل عليها حديث الإفك: "الحادية والأربعون براءة عائشة رضي الله عنها من الإفك وهي براءة قطعية بنص القرآن العزيز، فلو تشكك فيها إنسان والعياذ بالله صار كافراً مرتداً بإجماع المسلمين، قال ابن عباس وغيره: لم تزن امرأة نبي من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وهذا إكرام من الله تعالى لهم"أ. هـ3.
وقد حكى العلامة ابن القيم اتفاق الأمة على كفر قاذف عائشة رضي الله عنها حيث قال: "واتفقت الأمة على كفر قاذفها"4.
وقال الحافظ ابن كثير عند قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 5 قال: "أجمع العلماء رحمهم الله قاطبة على أن من سبها بعد هذا ورماها بما رماها به بعد هذا الذي ذكر في هذه الآية فإنه كافر لأنه معاند للقرآن"أ. هـ6
وقال بدر الدين الزركشي: "من قذفها فقد كفر لتصريح القرآن الكريم ببرائتها"7.
__________
1ـ الصارم المسلول على شاتم الرسول ص/568.
2ـ لمعة الاعتقاد ص/29.
3ـ شرح النووي على صحيح مسلم 17/117-118.
4ـ زاد المعاد في هدي خير العباد 1/106.
5ـ سورة النور آية/23.
6ـ تفسير القرآن العظيم 5/76.
7ـ الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة ص/45.(2/874)
وقال السيوطي عند آيات سورة النور التي نزلت في براءة عائشة رضي الله عنها من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} الآيات قال: نزلت في براءة عائشة فيما قذفت به، فاستدل به الفقهاء على أن قاذفها يقتل لتكذيبه لنص القرآن.
قال العلماء: قذف عائشة كفر لأن الله سبح نفسه عند ذكره1 فقال سبحانك هذا بهتان عظيم، كما سبح نفسه عند ذكر ما وصفه به المشركون من الزوجة والولد"أ. هـ2
هذه الأقوال المتقدمة عن هؤلاء الأئمة كلها فيها بيان واضح أن الأمة مجمعة على أن من سب أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وقذفها بما رماها به أهل الإفك فانه كافر حيث كذب الله فيما أخبر به من براءتها وطهارتها رضي الله عنها، وأن عقوبته أن يقتل مرتداً عن ملة الإسلام.
وأما حكم من سب غير عائشة من أزواجه صلى الله عليه وسلم ففيه قولان:
أحدهما: أنه كساب غيرهن من الصحابة على حسب ما تقدم ذكره.
الثاني: وهو الأصح من القولين على ما سيتضح من أقوال أهل العلم أن من قذف واحدة منهن فهو كقذف عائشة رضي الله عنها وإلى ما قرره أهل العلم في هذه المسألة.
فقد أخرج سعيد بن منصور وابن جرير3 والطبراني وابن مردوية عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ سورة النور ففسرها، فلما أتى على هذه الآية {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ} قال: هذه في عائشة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجعل لمن فعل ذلك توبة وجعل لمن رمى امرأة من المؤمنات من غير
__________
1ـ الضمير يعود على قصة الإفك.
2ـ الإكليل في استنباط التنزيل ص/190.
3ـ جامع البيان عن تأويل آي القرآن 18/104.(2/875)
أزواج النبي صلى الله عليه وسلم التوبة ثم قرأ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} إلى قوله: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا} ، ولم يجعل لمن قذف امرأة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم توبة ثم تلا هذه الآية: {لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} ، فهم بعض القوم أن يقوم إلى ابن عباس فيقبل رأسه لحسن ما فسر"1.
"فقد بين ابن عباس أن هذه الآية إنما نزلت فيمن يقذف عائشة وأمهات المؤمنين لما في قذفهن من الطعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعيبه، فإن قذف المرأة أذى لزوجها كما هو أذى لابنها، لأنه نسبة له إلى الدياثة وإظهار لفساد فراشه، فإن زناء امرأته يؤذيه أذى عظيماً ولهذا جوز له الشارع أن يقذفها إذا زنت ودرء الحد عنه باللعان ولم يبح لغيره أن يقذف امرأة بحال"2.
وقد قال كثير من أهل العلم أن بقية أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لهن حكم أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
فقد أبو محمد بن حزم بعد أن ذكر أن رمي عائشة رضي الله عنها ردة تامة وتكذيب للرب ـ جل وعلا ـ في قطعه ببراءتها، قال: "وكذلك القول في سائر أمهات المؤمنين ولا فرق لأن الله تعالى يقول: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} 3 فكلهن مبرآت من قول إفك والحمد لله رب العالمين"4.
وذكر القاضي عياض عن ابن شعبان5 أنه قال: "ومن سب غير عائشة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ففيها قولان:
__________
1ـ الدر المنثور في التفسير بالمأثور 6/165.
2ـ الصارم المسلول على شاتم الرسول ص/45.
3ـ سورة النور آية/26.
4ـ المحلى 13/504.
5ـ هو محمد بن القاسم بن شعبان أبو إسحاق ابن القرطبي ويقال له ابن شعبان من نسل عمار بن(2/876)
أحدهما: يقتل لأن سب النبي صلى الله عليه وسلم بسب حليلته.
والآخر: أنها كسائر الصحابة يجلد حد المفتري، قال: "وبالأول أقول"1.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وأما من سب غير عائشة من أزواجه صلى الله عليه وسلم ففيه قولان:
أحدهما: أنه كساب غيرهن من الصحابة.
والثاني: وهو الأصح أنه من قذف واحدة من أمهات المؤمنين فهو كقذف عائشة رضي الله عنها ... وذلك لأن هذا فيه عار وغضاضة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذى له أعظم من أذاه بنكاحهن"أ. هـ2
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى بعد قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 3 "هذا وعيد من الله تعالى للذين يرمون المحصنات الغافلات، وخرج مخرج الغالب المؤمنات، فأمهات المؤمنين أولى بالدخول في هذا من كل محصنة ولا سيما التي كانت سبب النزول، وهي عائشة بنت الصديق رضي الله عنها ـ إلى أن قال ـ "وفي بقية أمهات المؤمنين قولان: أصحهما أنهن كهي والله أعلم"أ. هـ4
ومما يرجح القول بأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم غير عائشة مثل عائشة في الحكم وجوه:-
__________
= ياسر، رأس الفقهاء المالكيين بمصر في وقته مع التفنن في التاريخ والأدب ولد سنة سبعين ومائتين، وتوفي سنة خمس وخمسين وثلاثمائة هجرية. انظر ترجمته في ترتيب المدارك 5/274-275، الديباج المذهب ص/248.
1ـ الشفاء للقاضي عياض 2/269.
2ـ الصارم المسلول ص/567.
3ـ سورة النور آية/23.
4ـ تفسير القرآن العظيم 5/76.(2/877)
الوجه الأول: أن لعنة الله في الدنيا والآخرة لا تستوجب بمجرد القذف أن اللام في قوله: {الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} لتعريف المعهود والمعهود هنا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لأن الكلام في قصة الإفك ووقوع من وقع في أم المؤمنين عائشة ـ أو قصر اللفظ العام على سببه للدليل الذي يوجب ذلك.
الوجه الثاني: أن الله ـ سبحانه ـ رتب هذا الوعيد على قذف محصنات غافلات مؤمنات، وقال في أول ـ سورة النور ـ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} 1 الآية، فترتب الجلد وردّ الشهادة والفسق على مجرد قذف المحصنات، فلا بد أن تكون المحصنات الغافلات المؤمنات لهن مزية على مجرد المحصنات وذلك ـ والله أعلم ـ لأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مشهود لهن بالإيمان لأنهن أمهات المؤمنين وهن أزواج نبيه في الدنيا والآخرة وعوام المسلمات إنما يعلم منهن في الغالب ظاهر الإيمان ولأن الله سبحانه قال في قصة عائشة: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 2 فتخصيصه بتولي كبره دون غيره دليل على اختصاص بالعذاب العظيم وقال: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 3 فعلم أن العذاب العظيم لا يمس كل من قذف وإنما يمس متولي كبره فقط وقال هنا {لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} فعلم أنه الذي رمى أمهات المؤمنين ويعيب بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وتولى كبر الإفك وهذه صفة المنافق ابن أبي.
الوجه الثالث: لما كان رمي أمهات المؤمنين أذى للنبي صلى الله عليه وسلم لعن صاحبه في الدنيا والآخرة، ولهذا قال ابن عباس: "ليس فيها توبة، لأن مؤذي النبي صلى الله عليه وسلم لا تقبل توبته إذا تاب من القذف حتى يسلم إسلاماً جديداً وعلى هذا فرميهن
__________
1ـ الآية رقم: 4.
2ـ سورة النور آية: 11.
3ـ سورة النور آية 14.(2/878)
نفاق مبيح للدم إذا قصد به أذى النبي صلى الله عليه وسلم أو أذاهن بعد العلم بأنهن أزواجه في الآخرة، فإنه ما لعنت امرأة نبي قط.
ومما يدل على أن قذفهن أذىً للنبي صلى الله عليه وسلم ما خرجاه في الصحيحين في حديث الإفك عن عائشة، قالت: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر: "يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي فوالله ما علمت على أهلي إلا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً، وما كان يدخل على أهلي إلا معي" فقام سعد بن معاذ الأنصاري، فقال: "أنا أعذرك منه يا رسول الله إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك" 1.
فهذه الوجوه الثلاثة فيها تقوية وترجيح لقول من ذهب إلى أن قذف غير عائشة رضي الله عنها من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حكمه كقاذف عائشة رضي الله عنها لما فيه من العار والغضاضة على النبي صلى الله عليه وسلم كما أن في ذلك أذى عظيماً للنبي عليه الصلاة والسلام.
__________
1ـ صحيح البخاري 3/163، صحيح مسلم 4/2129-2136.(2/879)
الجزء الثالث
الباب الرابع: ردود أهل السنة على الفرق النحرفة في اعتقادها نحو الصحابة
الفصل الأول: ردود على مطاعن الشيعة في الصحابة
المبحث الأول: تعريف التشيع والرفض لغة واصطلاحا
...
المبحث الأول: تعريف التشيع والرفض لغة واصطلاحاً
الشيعة في اللغة:
قال الجوهري رحمه الله: شيعة الرجل: أتباعه وأنصاره، يقال: شايعه كما يقال: والاه من الولي ... وتشيع الرجل أي: ادعى دعوى الشيعة وتشايع القوم من الشيعة وكل قوم أمرهم واحد يتبع بعضهم رأي بعض فهم شيع وقوله تعالى: {كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ} 1 أي: بأمثالهم من الشيع الماضية"أ. هـ2.
وقال العلامة ابن الجوزي: "الشيع: جمع شيعة وهي الطائفة المجتمعة على أمر، ويقال: هؤلاء شيعة فلان: أي: أتباعه"أ. هـ3.
وجاء في لسان العرب: الشيعة: أتباع الرجل وأنصاره وجمعها شيع وأشياع، جمع الجمع ويقال: شايعه كمال يقال: والاه ـ إلى أن قال ـ: "وأصل الشيعة الفرقة من الناس ويقع على الواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث بلفظ واحد ومعنى واحد، وقد غلّب هذا الاسم على من يتولى علياً وأهل بيته جميعاً4
__________
1ـ سورة سبأ آية/54.
2ـ الصحاح 3/1240، مختار الصحاح للرازي ص/353، وانظر المفردات في غريب القرآن للراغب ص/271.
3ـ نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر ص/376.
4ـ كل مسلم يجب عليه تولي أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وموالاتهم ومحبتهم، وقد كان القسط الأكبر والحظ الأوفر من هذا لأهل السنة والجماعة أما دعوى الشيعة في أنهم هم الذين اختصوا بموالاتهم دعوى بلا برهان ولكن يقال: إنهم اختصوا بالغلو المذموم نحوهم وبمعاداة من يحبهم أهل البيت وأهل البيت يحبون جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يكنون أي عداوة لأحد منهم رضي الله عنهم جميعاً.(3/889)
حتى صار لهم اسماً خاصاً، فإذا قيل فلان من الشيعة عرف أنه منهم وفي مذهب الشيعة كذا أي: عندهم وأصل ذلك من المشايعة وهي المتابعة والمطاوعة"1.
وجاء في القاموس: "شيعة الرجل بالكسر أتباعه والفرقة على حده، ويقع على الواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث، وقد غلب هذا الاسم على من يتولى علياً وأهل بيته حتى صار اسماً خاصاً لهم والجمع أشياع وشيع كعنب"2.
وجاء في المصباح المنير3: "والشيعة الأتباع والأنصار، وكل قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة، ثم صارت "الشيعة" نبزاً لجماعة مخصوصة والجمع "شيع" مثل سدرة وسدر، والأشياع جمع الجمع "وشيعت رمضان بست من شوال أتبعته بها"أ. هـ
فالشيعة: من حيث مدلولها اللغوي تعني: القوم والصحب والأتباع والأعوان وقد ورد هذا المعنى في بعض آيات القرآن الكريم كما في قوله تعالى: {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} 4، وقوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإٍبْرَاهِيمَ} 5، فلفظ الشيعة في الآية الأولى تعني القوم، وفي الثانية: تشير إلى الأتباع الذين يوافقون على الرأي والمنهج ويشاركون فيهما.
تعريف الشيعة اصطلاحاً:
كلمة "شيعة" اتخذت معنى اصطلاحياً مستقلاً حيث أطلقت على جماعة اعتقدوا أن الإمامة ليست من المصالح العامة التي ترجع إلى نظر الأمة ويتعين القائم بها
__________
1ـ لسان العرب 8/188-189.
2ـ القاموس 3/49.
3ـ 1/329.
4ـ سورة القصص آية/15.
5ـ سورة الصافات آية/83.(3/890)
بتعيينهم، بل إنها ركن الدين وقاعدة الإسلام، ولا يجوز لنبي إغفالها ولا تفويضها إلى الأمة، بل يجب عليه أن يعين الإمام للأمة"1.
فقد قال أبو الحسن الأشعري في صدد ذكره للشيعة: "وإنما قيل لهم الشيعة: لأنهم شايعوا علياً رضوان الله عليه، ويقدمونه على سائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم"2.
وقال أبو محمد بن حزم الظاهري مبيناً حد الشيعي: "ومن وافق الشيعة في أن علياً رضي الله عنه أفضل الناس بعد الرسول صلى الله عليه وسلم وأحقهم بالإمامة وولده من بعده فهو شيعي"3.
وقال الشهرستاني معرفاً للشيعة: "الشيعة هم الذين شايعوا علياً رضي الله عنه على الخصوص، وقالوا: بإمامته وخلافته نصاً ووصية إما جلياً، وإما خفياً، واعتقدوا أن الإمامة لا تخرج من أولاده وإن خرجت فبظلم يكون من غيره أو بتقية من عنده"أ. هـ4
وقال عبد الرحمن بن خلدون: "اعلم أن الشيعة لغة هم الصحب والأتباع ويطلق في عرف الفقهاء والمتكلمين من الخلف والسلف على أتباع علي وبنيه رضي الله عنهم ومذهبهم جميعاً متفقين عليه أن الإمامة ليست من المصالح العامة التي تفوض إلى نظر الأمة، ويتعين القائم بها بتعيينهم بل هي ركن الدين وقاعدة الإسلام ولا يجوز لنبي إغفاله ولا تفويضه إلى الأمة بل يجب عليه تعيين الإمام لهم ويكون معصوماً من الكبائر والصغائر وإن علياً رضي الله عنه هو الذي عينه صلوات الله وسلامه عليه بنصوص ينقلونها ويؤولونها على مقتضى مذهبهم لا يعرفها جهابذة السنة ولا نقلة الشريعة، بل أكثرها موضوع أو مطعون في
__________
1ـ انظر مقدمة ابن خلدون ص/196-197.
2ـ مقالات الإسلاميين 1/65.
3ـ الفصل في الملل والأهواء والنحل 2/113.
4ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/146.(3/891)
طريقه أو بعيد عن تأويلاتهم الفاسدة"1.
وقال الجرجاني: "الشيعة هم الذين شايعوا علياً رضي الله عنه: قالوا: إنه الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتقدوا أن الإمامة لا تخرج عنه وعن أولاده"أ. هـ2
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله معرفاً التشيع بقوله: "والتشيع محبة علي وتقديمه على الصحابة فمن قدمه على أبي بكر وعمر فهو غال في تشيعه ويطلق عليه رافضي، وإلا فشيعي، فإن انضاف إلى ذلك السب والتصريح بالبغض فغال في الرفض وإن اعتقد الرجعة إلى الدنيا فأشد في الغلو"3.
فهذه ستة تعاريف من أهل العلم لبيان المقصود بالشيعة وهي تتقارب في مدلولها، فقد أوضحوا فيها أن الشيعة طائفة من الناس يعتقدون أفضلية علي رضي الله عنه على سائر الصحابة وأحقيته هو وبنوه بالإمامة وأنها لا تخرج عنهم "إلا في حال التقية إذا خافوا بطش ظالم"4 كما يزعمون.
تعريف الرافضة:
الرفض لغة: الترك وقد رفضه يرفضه رفضاً ورفضاً والشيء رفيض ومرفوض والروافض: جند تركوا قائدهم وانصرفوا والرافضة فرقة من الشيعة.
قال الأصمعي: "سموا بذلك لتركهم زيد بن علي رضي الله عنه"5.
وجاء في المصباح المنير: "رفضته "رفضاً" من باب ضرب وفي لغة من
__________
1ـ مقدمة ابن خلدون ص/196-197.
2ـ كتاب التعريفات للجرجاني ص/129.
3ـ هدي الساري مقدمة فتح الباري ص/459.
4ـ انظر الملل والنحل للشهرستاني 1/146.
5ـ الصحاح للجوهري 3/1078، لسان العرب 7/157.(3/892)
باب "قتل" تركته والرافضة فرقة من شيعة الكوفة سموا بذلك لأنهم "رفضوا" أي: تركوا: زيد بن علي عليه السلام حين نهاهم عن الطعن في الصحابة"1.
فالرفض في اللغة معناه الترك والتخلي عن الشيء.
وأما في الاصطلاح:
فالرفض يطلق على "قوم من الشيعة سموا بذلك لأنهم تركوا زيد بن علي".
قال الأصمعي: "كانوا بايعوه ثم قالوا له: ابرأ من الشيخين نقاتل معك، فأبى، وقال: كانا وزيري جدي فلا أبرأ منهما، فرفضوه وارفضوا عنه فسموا رافضة، وقالوا: الروافض ولم يقولوا الرفاض لأنهم عنوا الجماعة"2.
قال عبد الله بن أحمد رحمه الله: قلت لأبي: "من الرافضي؟ قال: الذي يشتم ويسب أبا بكر وعمر"3.
فالرافضة اصطلاحاً قوم من الشيعة ابتلوا بالنيل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عموماً والبراءة من الشيخين خصوصاً.
سبب تسميتهم بهذا الاسم:
قال الرازي: إنما سموا بالروافض لأن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب خرج على هشام بن عبد الملك فطعن عسكره على أبي بكر فمنعهم من ذلك، فرفضوه، ولم يبق معه إلا مائتا فارس، فقال لهم ـ أي زيد بن علي ـ رفضتموني، قالوا: نعم، فبقي عليهم هذا الاسم"4.
__________
1ـ المصباح 1/232.
2ـ لسان العرب 7/157.
3ـ مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص/165، السنة للخلال ص/492.
4ـ اعتقادات فرق المسلمين ص/52.(3/893)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "الخلفاء الراشدون الأربعة" ابتلوا بمعادات بعض المنتسبين إلى الإسلام من أهل القبلة ولعنهم وبغضهم وتكفيرهم، فأبو بكر وعمر أبغضتهما الرافضة ولعنتهما دون غيرهم من الطوائف، ولهذا قيل للإمام أحمد: من الرافضي؟ قال: الذي يسب أبا بكر وعمر، وبهذا سميت الرافضة فإنهم رفضوا زيد بن علي لما تولى الخليفتين أبا بكر وعمر لبغضهم لهما، فالمبغض لهما هو الرافضي، وقيل: إنما سموا رافضة لرفضهم أبا بكر وعمر"أ. هـ1
وقال أيضاً رحمه الله: "ومن زمن خروج زيد افترقت الشيعة إلى رافضة وزيدية، فإنه لما سئل عن أبي بكر وعمر فترحم عليهما رفضه قوم، فقال لهم: رفضتموني، فسموا رافضة لرفضهم إياه، وسمي من لم يرفضه من الشيعة زيدياً لانتسابهم إليه"2.
وقال الحافظ ابن كثير في صدد بيانه ما حدث سنة ثنتين وعشرين ومائة: "فيها كان مقتل زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وكان سبب ذلك: أنه لما أخذ البيعة ممن بايعه من أهل الكوفة أمرهم في أول هذه السنة بالخروج والتأهب له، فشرعوا في أخذ الأهبة لذلك، فانطلق رجل يقال له سليمان بن سراقة إلى يوسف بن عمر نائب العراق فأخبره ـ وهو بالحيرة يومئذ ـ خبر زيد بن علي هذا ومن معه من أهل الكوفة فبعث يوسف بن عمر يتطلبه ويلح في طلبه، فلما علمت الشيعة ذلك اجتمعوا عند زيد بن علي فقالوا له: ما قولك ـ يرحمك الله ـ في أبي بكر وعمر؟ فقال: غفر الله لهما ما سمعت أحداً من أهل بيتي تبرأ منهما، وأنا لا أقول فيهما إلا خيراً، قالوا: فلم تطلب إذاً بدم أهل البيت؟ فقال: إنا كنا أحق الناس بهذا الأمر ولكن القوم استأثروا علينا به
__________
1ـ مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 4/435.
2ـ منهاج السنة 1/8.(3/894)
ودفعونا عنه، ولم يبلغ ذلك عندنا بهم كفراً قد ولوا فعدلوا وعملوا بالكتاب والسنة، قالوا: فلم تقاتل هؤلاء إذاً؟ قال: إن هؤلاء ليسوا كأولئك، إن هؤلاء ظلموا الناس وظلموا أنفسهم، وإني أدعو إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وإحياء السنن وإماتة البدع، فإن تسمعوا يكن خيراً لكم ولي وإن تأبوا فلست عليكم بوكيل، فرفضوه وانصرفوا عنه ونقضوا بيعته وتركوه، فلهذا سموا الرافضة من يؤمئذ"1.
وقال صاحب روضات الجنات: "فالروافض هم أولئك الذين رفضوا من أهل الكوفة صحبة زيد بن علي رضي الله عنه حين منعهم من الطعن في الخلفاء الراشدين الذين سبقوا علياً رضي الله عنهم جميعاً وتبرأوا منه حيث لم يتبرأ منهم"2.
ومما تقدم تبين أن سبب تسميتهم بالرافضة أنهم رفضوا زيد بن علي بن الحسين بن علي حين نهاهم عن الطعن في الصحابة وذلك أنهم لما عرفوا أنه يتولى الشيخين ولا يبرأ منهما رفضوه فاستعمل هذا اللقب في كل من غلا في هذا المذهب وأجاز الطعن في الصحابة وقد أطلق عليهم هذا الاسم سنة اثنتين وعشرين ومائة هجرية" 3.
__________
1 ـ البداية والنهاية 9/370-371.
2 ـ روضات الجنات في أحوال العلماء والسادات لميرزا محمد الباقر 1/324.
3 ـ انظر تاريخ الأمم والملوك 7/180-181، الكامل لابن الأثير 5/242-243، البداية والنهاية 9/370-371.(3/895)
المبحث الثاني: بداية نشأة التشيع
لقد قرر المحققون من أهل العلم بالتاريخ والمقالات أن أول من زرع فكرة التشيع هو عبد الله بن سبأ اليهودي الذي تظاهر بالإسلام بغية الكيد له ولأهله بنشر العقائد الفاسدة وزعزعة العقيدة الإسلامية الصافية من قلوب الناس وقد ظهر ابن السوداء ـ عبد الله بن سبأ ـ أيام الخليفة الثالث ذي النورين عثمان رضي الله عنه وأرضاه حيث تظاهر بالإسلام وأخذ في التنقل في البلدان، فقد اتجه من المدينة إلى البصرة، ثم إلى الكوفة ثم إلى مصر وأخذ ينفث سمومه وينشر أفكاره الخبيثة، وقد نشط ببث فكرتين أساسيتين لمخططه اليهودي:
الأولى: دعوته إلى اعتقاد رجعة النبي صلى الله عليه وسلم وكان يقول: "عجباً ممن يزعم أن عيسى سيرجع ويكذب بأن محمداً سيرجع وقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} 1.
الثانية: دعوته إلى اعتقاد "أن لكل نبي وصياً وعلي وصي لمحمدن ومحمد خاتم الأنبياء وعلي خاتم الأوصياء، ومن أظلم ممن لم يجز وصية رسول الله ووثب على حق وصيه وتناول أمر الأمة".
وقد استجاب له والتف حوله لفيف من الفاسدين والحاقدين وألفوا جماعة من ضعاف النفوس ويتسترون باسم الدين ويدعون إلى المطالبة بإسناد الأمر إلى علي رضي الله عنه نظراً إلى اعتقادهم الفاسد أنه خاتم أوصياء محمد وأخذ ابن سبأ يأمر أتباعه الذين استجابوا له بتحريك هذا الأمر والبدء بالطعن على الأمراء
__________
1ـ سورة القصص آية/85.(3/896)
والتظاهر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لاستمالة الناس إلى دعوتهم وكان لابن سبأ تأثير في سامعيه، فكان الذين يجتمعون إليه يتأثرون به ويقبلون قوله ويستعظمونه، وما زال هذا اليهودي الماكر المتظاهر بالإسلام ينشط هو وجماعته ضد الخليفة الثالث رضي الله عنه، وأمرائه، حتى أوسعوا الأرض إذاعة وكانوا يكتبون الكتب التي تنسب إليهم العيوب الكثيرة وتدس عليهم الدسائس، ويرسلونها إلى وجوه الناس في الأمصار إعدادً للفتنة الكبرى المدبرة في رأس عبد الله بن سبأ الخبيث حتى بلغ أهل المدينة طائفة من رسائلهم، فجاؤوا إلى عثمان رضي الله عنه يسألونه: هل أتاه من الأمصار مثل ما أتاهم؟ فقال لهم: والله ما جاءني إلا السلامة فأخبروه الخبر، فقال لهم: أنتم شركائي وشهود المؤمنين فأشيروا علي، فأشاروا عليه أن يرسل أشخاصاً ممن يثق فيهم إلى الأمصار ليخبروا أهلها بأنهم لم ينكروا شيئاً من عثمان لا أعلامهم ولا عوامهم، ففعل ذلك عثمان ثم كتب إلى أهل الأمصار كتاباً عاماً يذكر فيه ما بلغه من الإذاعات والطعن على الأمراء ويقول: إنه تولى أمر المؤمنين ليقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأنه ولى عماله على ذلك، وأنه مستعد لسماع كل شكوى منهم ومن عماله وإنصاف صاحبها، وإعطاء كل ذي حق حقه، ويدعو من له شكوى إلى موافاته في موسم الحج ثم اتضح أن الشكاوى التي كانت على عمال عثمان كانت محض اختلاق ودسائس شيطانية من مخططات ابن سبأ وأتباعه ثم ابتدعوا فكرة إرسال الكتب المزورة إلى من يريدون تحريضه على عثمان وولاته بأسماء طائفة من كبار الصحابة، ثم الكتب المزورة باسم الخليفة نفسه، ثم انتهت دسائس ابن سبأ الخبيث إلى إشعال فتنة كبرى انطلقت جذواتها الثلاث من البصرة والكوفة ومصر وهي الأمصار الثلاثة التي كان من نتائجها المشئومة قتل الخليفة الثالث عثمان رضي الله عنه بغير حق ظلماً وعدواناً"1.
__________
1ـ انظر تاريخ ابن جرير الطبري 4/340 وما بعدهان تاريخ ابن عساكر 3/1-8، الكامل في التاريخ 3/154-181، البداية والنهاية 7/190-210، ابن سبأ حقيقة لا خيال للدكتور(3/897)
وإلى ذكر أقوال علماء التاريخ والمقالات فيما قرروه في كيفية بداية نشأة التشيع وأن زارعه الأول صاحب الحقد العظيم على الإسلام وأهله عبد الله بن سبأ اليهودي.
فقد روى ابن جرير بإسناده إلى يزيد الفقعسي قال: "كان عبد الله بن سبأ يهودياً فأسلم زمان عثمان ثم تنقل في بلدان المسلمين يحاول ضلالتهم فبدأ بالحجاز، ثم البصرة ثم الكوفة، ثم الشأم، فلم يقدر على ما يريد عند أحد من أهل الشأم، فأخرجوه حتى أتى مصر فاغتمر فيهم فقال لهم فيما يقول: "لعجب ممن يزعم أن عيسى يرجع ويكذب بأن محمداً يرجع وقد قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} 1 فمحمد أحق بالرجوع من عيسى قال: فقبل ذلك عنه، ووضع لهم الرجعة فتكلموا فيها ثم قال لهم: إنه كان ألف نبي ولكل نبي وصي وكان علي وصي محمد، ثم قال: محمد خاتم الأنبياء وعلي خاتم الأوصيا، ثم قال بعد ذلك: من أظلم ممن لم يجز وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ووثب على وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتناول أمر الأمة! ثم قال لهم بعد ذلك: إن عثمان أخذها بغير حق، وهذا وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانهضوا في هذا الأمر فحركوه وابدءوا بالطعن على أمرائكم وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا الناس وادعوهم إلى هذا الأمر، فبث دعاته وكاتب من كان استفسد في الأمصار وكاتبوه ودعوا في السر إلى ما عليه رأيهم وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجعلوا يكتبون إلى الأمصار بكتب يضعونها في عيوب ولاتهم ويكاتبهم إخوانهم بمثل ذلك ويكتب أهل كل مصر منهم إلى مصر آخر بما يصنعون فيقرؤه أولئك في أمصارهم وهؤلاء في أمصارهم حتى تناولوا بذلك المدينة وأوسعوا الأرض إذاعة وهم يريدون غير ما يظهرون
__________
= سعدي القرشي ص/29، وما بعدها، عبد الله بن سبأ وأثره في إحداث الفتنة في صدر الإسلام، ص/38-52.
1ـ سورة القصص آية/85.(3/898)
ويسرون غير ما يبدون، فيقول أهل كل مصر: إنا لفي عافية مما ابتلى به هؤلاء إلا أهل المدينة، فإنهم جاءهم ذلك عن جميع الأمصار، فقالوا: إنا لفي عافية مما فيه الناس ـ واجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عثمان ـ فقالوا يا أمير المؤمنين أياتيك عن الناس الذي يأتينا؟، قال: لا والله ما جاءني إلا السلامة، قالوا: فإنا قد أتانا، وأخبروه بالذي أسقطوه إليهم، قال: فأنتم شركائي وشهود المؤمنين، فأشيروا علي، قالوا: نشير عليك أن تبعث رجالاً ممن تثق فيهم إلى الأمصار حتى يرجعوا إليك بأخبارهم فدعا محمد بن مسلمة فأرسله إلى الكوفة وأرسل أسامة بن زيد إلى البصرة، وأرسل عمار بن ياسر إلى مصر، وأرسل عبد الله بن عمر إلى الشأم وفرق رجالاً سواهم فرجعوا جميعاً قبل عمار، فقالوا: أيها الناس ما أنكرنا شيئاً، ولا أنكره أعلام المسلمين إلا أن أمراءهم يقسطون بينهم ويقومون عليهم"1.
وقال عبد القاهر البغدادي: "وكان ابن السوداء في الأصل يهودياً ... فأظهر الإسلام وأراد أن يكون له عند أهل الكوفة سوق ورياسة فذكر لهم أنه وجد في التوراة أن لكل نبي وصياً وأن علياً رضي الله عنه وصي محمد صلى الله عليه وسلم وأنه خير الأوصياء كما أن محمداً خير الأنبياء ... إلى أن قال: "وقال المحققون من أهل السنة: إن ابن السوداء كان على هوى دين اليهود، وأراد أن يفسد على المسلمين دينهم بتأويلاته في علي وأولاده لكي يعتقدوا فيه ما اعتقدت النصارى في عيسى عليه السلام"2.
وقال الشهرستاني في شأن ابن سبأ: "زعموا أنه كان يهودياً فأسلم وكان في اليهودية يقول في يوشع بن نون وصي موسى عليهما السلام مثل ما قال في علي رضي الله عنه، وهو أول من أظهر القول بالنص بإمامة علي رضي الله عنه
__________
1ـ تاريخ الطبري 4/340-341، تاريخ ابن عساكر 34/1-3، الكامل في التاريخ 3/154-155.
2ـ الفرق بين الفرق ص/235.(3/899)
ومنه انشعبت أصناف الغلاة"أ. هـ1.
وقال الحافظ ابن عساكر: "عبد الله بن سبأ الذي ينسب إليه السبئية وهم الغلاة من الرافضة، كان يهودياً وأظهر الإسلام، وطاف بلاد المسلمين ليلفتهم عن طاعة الأئمة ويدخل بينهم الشر وقد دخل دمشق لذلك في زمن عثمان بن عفان"أ. هـ2.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى مبيناً أنه أول من أحدث الرفض والغلو المذموم حيث قال: "وأصل الرفض" من المنافقين الزنادقة فإنه ابتدعه ابن سبأ الزنديق وأظهر الغلو في علي بدعوى الإمامة والنص عليه وادعى العصمة له ولهذا لما كان مبدأه من النفاق قال بعض السلف: حب أبي بكر وعمر إيمان وبغضهما نفاق وحب بني هاشم إيمان وبغضهم نفاق"أ. هـ3.
كما ذكر رحمه الله أن بين ابن سبأ وبولص النصراني الذي أفسد دين النصرانية شبهاً واضحاً، حيث قال: "وقد ذكر أهل العلم أن مبدأ الرفض إنما كان من الزنديق عبد الله بن سبأ، فإنه أظهر الإسلام وأبطن اليهودية وطلب أن يفسد الإسلام كما فعل بولص النصراني الذي كان يهودياً في إفساد دين النصارى"4.
وقال رحمه الله في موضع آخر في سياق ذكره للرافضة: "وما يذكرونه من خلاف السنة في دعوى الإمام المعصوم وغير ذلك فإنما هو في الأصل من ابتداع منافق زنديق كما قد ذكر أهل العلم ذكر غير واحد منهم أن أول من ابتدع الرفض والقول بالنص على علي وعصمته كان منافقاً زنديقاً أراد فساد دين الإسلام
__________
1ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/174.
2ـ تاريخ دمشق 34/1.
3ـ مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 4/435.
4ـ المصدر السابق 28/483.(3/900)
وأراد أن يصنع بالمسلمين ما صنع "بولص" بالنصارى، لكن لم يتأت له ما تأتى لبولص لضغف النصارى وعقلهم، فإن المسيح صلى الله عليه وسلم رفع ولم يتبعه خلق كثير يعلمون دينه ويقومون به علماً وعملاً، فلما ابتدع بولص ما ابتدعه من الغلو في المسيح اتبعه على ذلك طوائف وأحبوا الغلو في المسيح ودخلت معهم ملوك فقام أهل الحق خالفوهم وأنكروا عليهم فقتلت الملوك بعضهم وداهن الملوك بعضهم، وبعضهم اعتزلوا في الصوامع والديارات وهذه الأمة ولله الحمد لا يزال فيها طائفة ظاهرة على الحق فلا يتمكن ملحد ولا مبتدع من إفساده بغلو أو انتصار على الحق، ولكن يضل من يتبعه على ضلاله"أ. هـ1، فقد بين رحمه الله أن منشأ الرفض كان من وضع الزنديق ابن سبأ اليهودي وأن هذا الشخص تظاهر بالإسلام نفاقاً وأنه كان له هدف أشد من تأسيس الرفض وهو إفساد دين الإسلام كما فعل "بولص" اليهودي بدين النصرانية، ولكن الله رد كيده في نحره وكشف خبثه لأنصار دينه.
وقال المقريزي مبيناً كيفية بدء التشيع: "وكان ابتداع التشيع في الإسلام أن رجلاً من اليهود في خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه أسلم فقيل له عبد الله بن سبأ وعرف بابن السوداء وصار يتنقل من الحجاز إلى أمصار المسلمين يريد إضلالهم، فلم يطق ذلك فرجع إلى كيد الإسلام وأهله ـ ثم ذكر نبذاً من كيده للإسلام ـ ومنها أنه قال: "لكل نبي وصي وعلي بن أبي طالب وصي محمد صلى الله عليه وسلم"أ. هـ2.
فالنصوص المتقدم ذكرها كلها فيها بيان واضح أن ابن سبأ كان يبيت للإسلام الشر وأنه كان له خبيئة سوء وإنما كان يتستر بالتشيع لأهل البيت ليصل إلى مقصوده الخبيث ولكن الله لا يهدي كيد الخائنين، فقد كشف الله عواره
__________
1ـ منهاج السنة 3/261.
2ـ خطط المقريزي 2/334.(3/901)
وفضح غرضه السيء للناس ولوضوح خبثه وشدة حقده على الإسلام والمسلمين لم يذكره أحد من أهل العلم والإيمان بخير، وإنما وصفوه بأنه أول من سن لأهل الخذلان النيل من أبي بكر وعمر ووصفوه بالخبث والكذب وأنه ضال مضل.
فقد ذكر الحافظ ابن حجر من طريق أبي إسحاق الفزاري أن سويد بن غفلة دخل على علي في إمارته، فقال: إني مررت بنفر يذكرون أبا بكر وعمر يرون انك تضمر لهما مثل ذلك منهم عبد الله بن سبأ وكان عبد الله أول من أظهر ذلك فقال علي: ما لي ولهذا الخبيث الأسود، ثم قال: معاذ الله أن أضمر لهما إلا الحسن الجميل، ثم أرسل إلى عبد الله بن سبأ فسيره إلى المدائن، وقال: لا يساكنني في بلدة أبداً، ثم نهض إلى المنبر حتى اجتمع الناس ـ ثم أثنى على الشيخين ثناء طويلاً وقال في آخره: "ألا ولا يبلغني عن أحد يفضلني عليهما إلا جلدته حد المفتري"1.
بل قد روى ابن عساكر أن علياً رضي الله عنه لما بلغه انتقاص ابن سبأ لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما هم بقلته، فقد روى بإسناده إلى سماك بن حرب قال: بلغ علياً أن ابن السوداء ينتقص أبا بكر وعمر، فدعا به ودعا بالسيف ـ أو قال فهم بقلته، فكلم فيه، فقال: لا يساكنني ببلد أنا فيه، قال: فسيره إلى المدائن"2.
وروى بإسناده إلى أبي الجلاس3 قال: سمعت علياً يقول لعبد الله السبئي: "ويلك والله ما أفضي إلي بشيء كتمه أحداً من الناس وقد سمعته يقول: إن بين يدي الساعة ثلاثين كذاباً وإنك لأحدهم"4.
__________
1ـ لسان الميزان 3/290، وانظر تلبيس إبليس لابن الجوزي ص/100-101.
2ـ تاريخ دمشق لابن عساكر 34/7.
3ـ أبو الجلاس: هكذا معروف بكنيته ـ سمع علياً وعنه الحارث بن عبد الرحمن الهمذاني. انظر المقتنى في سرد الكنى: 1/150، التهذيب 12/63.
4ـ تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر 34/6.(3/902)
فعلي رضي الله عنه مقدم أهل البيت الذي زعم عبد الله بن سبأ أنه وصي محمد صلى الله عليه وسلم قد حكم على ابن سبأ بأنه خبيث وهم بقتله ولما تراجع عن قتله نفاه إلى المدائن، وبين بطلان دسائسه على الإسلام بأنه أحد الدجالين الذين أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم ـ بأنهم سيكونون بين يدي الساعة.
وأخرج ابن عساكر أيضاً: بإسناده إلى عامر بن شراحيل الشعبي أنه قال: "أول من كذب عبد الله بن سبأ"1.
وقال الحافظ الذهبي في شأن ابن سبأ: "عبد الله بن سبأ من غلاة الزنادقة ضال مضل أحسب أن علياً حرقه بالنارن وزعم أن القرآن جزء من تسعة أجزاء وعلمه عند علي فنفاه علي بعد ما هم به"أ. هـ2.
وقال الحافظ ابن حجر بعد أن أورد روايات في ذمه: "وأخبار عبد الله بن سبأ شهيرة في التواريخ وليست له رواية ولله الحمد وله أتباع يقال لهم السبائية معتقدون إلهية علي بن أبي طالب وقد أحرقهم علي بالنار في خلافته"أ. هـ3.
والحاصل مما تقدم تقريره عن أهل العلم أن ابن سبأ هو أول من زرع فكرة التشيع والقول بالرجعة والوصية وتلقفها منه من قلت بضاعته من العلم والهدى الذي جاء به محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، فالآراء التي يعتنقها الشيعة الرافضة ويتدينون بها لم تكن معروفة لدى الرعيل الأول من هذه الأمة وإنما هي من اختلاق عبد الله بن سبأ اليهودي الذي رام بها إضلال الناس وإفساد دين الإسلام وفتن بضلالاته الشيعة الرافضة وفتنت قلوبهم بالحقد على خيار الأمة، وتعبدوا بلعنهم وحكموا بردتهم، وهذا خذلان أيما خذلان لما فيه من تكذيب الله عز وجل من شهادته لهم في كتابه الكريم بالإيمان وكمال اليقين
__________
1ـ المصدر السابق 34/4.
2ـ ميزان الاعتدال 2/426.
3ـ لسان الميزان 3/290.(3/903)
وإخباره برضاه عنهم وأنهم جميعاً من أصحاب الجنة رضي الله عنهم وأرضاهم.
وما فتن به الرافضة من تنقصهم للشيخين وقولهم بتقديم علي رضي الله عنه على الشيخين وطعنهم في عثمان لم يكن معروفاً عند شيعة علي رضي الله عنه وإنما ابتلي به المتأخرون من الشيعة الرافضة الذين سلكوا مسلك ابن سبأ في عقائده الفاسدة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "ولم تكن الشيعة التي كانت مع علي يظهر منها تنقص لأبي بكر وعمر ولا فيها من يقدم علياً على أبي بكر وعمر ولا كان سب عثمان شائعاً فيها، وإنما كان يتكلم به بعضهم فيرد عليه آخر"1.
وختاماً لهذا المبحث تبين من كلام علماء التاريخ وأصحاب المقالات أن ابن سبأ شخص خبيث ظهر في آخر زمن خلافة ذي النورين بعقائد وأفكار زائغة ليلفت المسلمين عن دينهم، ولحق به من غوغاء الناس ما تكونت لهم طائفة السبائية 2.
__________
1ـ مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 4/436.
2 ـ لزيادة معرفة حقيقة ابن سبأ ومعرفة أباطيله يراجع كتاب "ابن سبأ حقيقة لا خيال" للدكتور سعدي الهاشمي، وكذا كتاب "عبد الله بن سبأ وأثره في إحداث الفتنة في صدر الإسلام" لسليمان بن حمد العودة.(3/904)
المبحث الثالث: التعريف بأهم فرق الشيعة
لقد ذكر العلماء الذين صنفوا مؤلفات خاصة بالفرق أن الشيعة الرافضية فرق كثيرة ومتشعبة، والذي أذكره منهم في هذا المبحث هم أهم فرقهم التي تعتبر أمهات فرقهم، وهي الشيعة الغالية، والشيعة الكيسانية، والزيدية والشيعة الاثنى عشرية، وما ذكر من الفرق غيرها فإنها تكون متشعبة منها وإلى بيان تلك الفرق:
1- الشيعة الغالية:
ينتمي إلى الشيعة فرق متعددة أصيب بعضها بالتطرف والغلو المذموم حيث رفعت الخليفة الرابع علياً رضي الله عنه وذريته إلى مرتبة الألوهية أو النبوة وجعلت منزلة "علي" أعلى من منزلة النبي صلى الله عليه وسلم ومرتبته، والبعض الآخر منهم لم يصل إلى هذا المستوى المتدني من الغلو والانحراف الذي لا يقبله من له أدنى عقل وبصيرة، ولقد حاول الشيعة إنكار نسبة فرق الشيعة الغالية إليهم1، ولكن ما استطاعوا إذ كل من كتب في الفرق تجدهم جميعاً يثبتون العلاقة القوية بين الفرق الغالية وبين عموم الشيعة، وعلى سبيل الفرض أنه لم يكن للغلاة صلة بالتشيع، فإنهم ولا شك قد اتخذوا التشيع ستاراً، ومن حب أهل بيت النبوة وسيلة لبث أفكارهم المنحرفة وعقائدهم الباطلة، ومن هنا أصبح التشيع ملجأ
__________
1ـ انظر الشيعة في الميزان "محمد جواد مغنية" ص/291-294، قال سعد القمي وهو من الإمامية بعد ذكره لفرق الغلاة: "فهذه فرق أهل الغلو ممن انتحل التشيع وإلى الخرمدينية، والمزدكية، والزنديقية، والدهرية مرجعهم جميعاً لعنهم الله وكلهم متفقون على نفي الربوبية عن الله الجليل الخالق تبارك وتعالى عما يصفون علوا كبيراً وإثباتها في بدن مخلوق.... المقالات والفرق، ص/64.(3/905)
ومأوى لكل من رام هدم الإسلام لعداوة أو حقد عليه في نفسه، من أجل هذا رأيت أنه لا بد من الإشارة إلى الغلاة المنتسبين إلى التشيع.
وقد ذكر أهل العلم الذين ألفوا في الفرق ومقالاتهم العديد من فرق الشيعة الغالية، التي بالغت بالغلو في حق الأئمة "كالسبئية والغرابية والبيانية والمغيرية، والهشامية، والخطابية، والعلبائية، والنصيرية" والإسماعلية من فرق الشيعة الغالية، وإنما أذكر هذه الفرق فقط مع الإشارة إلى بيان غلوهم في الأئمة كنماذج فقط وإلا فهم كثر.
وقد عرف الشهرستاني الغلاة من الشيعة فقال: "هم الذين غلوا في حق أئمتهم حتى أخرجوهم من حدود الخليقية وحكموا فيهم بأحكام الإلهية فربما شبهوا واحداً من الأئمة بالإله، وربما شبهوا الإله بالخلق وهم على طرفي الغلو والتقصير، وإنما نشأت شبهاتهم من مذاهب الحلولية ومذاهب التناسخية ومذاهب اليهود والنصارى إذ اليهود شبهت الخالق بالخلق والنصارى شبهت الخلق بالخالق، فسرت هذه الشبهات في أذهان الشيعة الغلاة حتى حكمت بأحكام الإلهية في حق بعض الأئمة"1.
هذا هو تعريف الغلاة من الشيعة ومن أين استمدوا أسس معتقدهم في الأئمة الذين يزعمون نسبتهم إليهم، وأن ذلك سرى إلى أذهانهم من فرق الضلال من الأمم الماضية فضلوا بذلك عن سواء السبيل، ويتضح ضلالهم أكثر بالإشارة إلى ذكر غلوهم في الأئمة.
فالسبئية:
أتباع عبد الله بن سبأ: يزعمون أن علياً لم يمت وأنه يرجع إلى الدنيا قبل يوم القيامة، فيملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، وذكروا عنه أنه قال لعليّ
__________
1ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/173.(3/906)
عليه السلام: أنت أنت1"يعني أنت الإله فنفاه إلى المدائن"2.
قال أبو الحسن الأشعري رحمه الله بعد ذكره للفرقة الخامسة عشرة من فرق الشيعة الغالية: "يزعمون أن الله ـ عز وجل ـ وكل الأمور وفوضها إلى محمد صلى الله عليه وسلم وأنه أقدره على خلق الدنيا فخلقها ودبرها، وأن الله ـ سبحانه ـ لم يخلق من ذلك شيئاً ويقول ذلك كثير منهم في علي ويزعمون أن الأئمة ينسخون الشرائع ويهبط عليهم الملائكة وتظهر عليهم الأعلام والمعجزات ويوحي إليهم، ومنهم من يسلم على السحاب ويقول إذا مرت سحابة به: إن علياً رضوان الله عليه فيها وفيهم يقول بعض الشعراء:
برئت من الخوارج لست منهم ... من الغزال3 منهم وابن باب4
ومن قوم إذا ذكروا علياً
... يردون السلام على السحاب5
الغرابية:
وأما الغرابية: فهم "قوم زعموا أن الله ـ عز وجل التي أرسل جبريل عليه السلام إلى علي فغلط في طريقه فذهب إلى محمد، لأنه كان يشبهه، وقالوا: كان أشبه به من الغراب بالغراب والذباب بالذباب6 "من أجل هذا سموا غرابية7، ومن الغرابية فرق تسمى الذمية "زعموا أن علياً هو الله وشتموا محمداً صلى الله عليه وسلم وزعموا أن علياً بعثه لينبيء عنه فادعى الأمر لنفسه8.
__________
1ـ مقالات الإسلاميين 1/86، وانظر تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر 34/1-8.
2ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/174.
3ـ الغزال: لقب لقبوا به واصل بن عطاء أحد شيوخ المعتزلة، توفي سنة إحدى وثمانين ومائة، انظر ترجمته في وفيات الأعيان 6/7-11.
4ـ ابن باب: المقصود به عمرو بن عبيد بن باب أبو عثمان، انظر وفيات الأعيان لابن خلكان 3/460-462.
5ـ مقالات الإسلاميين 1/88.
6ـ انظر في شأن هذه الفرقة الفرق بين الفرق ص/250، التبصير في الدين ص/128-129.
7ـ التبصير في الدين ص/128.
8ـ الفرق بين الفرق ص/251، التبصير في الدين للإسفراييني ص/129(3/907)
البيانية:
أتباع بيان بن سمعان التميمي الذي كان يقول بإمامة محمد بن الحنفية وكان الكثير من أتباعه يقولون إنه كان نبياً وإنه نسخ بعض شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، وقالوا: هو المراد بقوله: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ} 1 وقوم من أتباعه قالوا: إنه كان إلهاً، وقالوا: إن روح الإله قد حل فيه، وأنه يحل في الأنبياء والأئمة وينتقل من واحد إلى واحد آخر، وقالوا: إن روح الإله قد انتقل عن أبي هاشم بن محمد بن الحنفية إلى بيان وكان يدعي لنفسه الإلهية على معنى الحلول، وكان يدعي أنه يعرف اسم الله الأعظم وأنه يدعو به الزهرة فتجيبه، ولما وصل خبره إلى خالد بن عبد الله القسري صلبه وكفى الله شره"2.
المغيرية:
أصحاب المغيرة بن سعيد العجلي، ادعى أن الإمامة بعد محمد بن علي بن الحسين في: محمد النفس الزكية بن عبد الله الحسن بن الحسن الخارج بالمدينة وزعم أنه حي لم يمت، وكان المغيرة مولى لخالد بن عبد الله القسري وادعى الإمامة لنفسه بعد الإمام محمد، وبعد ذلك ادعى النبوة لنفسه واستحل المحارم وغلا في حق علي رضي الله عنه غلواً لا يعتقده عاقل ... وقد قال المغيرة بإمامة أبي جعفر محمد بن علي، ثم غلا فيه، وقال بإلهيته فتبرأ منه الباقر ولعنه"3.
الهشامية:
أصحاب الهشامين: هشام بن الحكم صاحب المقالة في التشبيه وهشام بن سالم الجواليقي، الذي نسج على منواله في التشبيه ... وقد غلا هشام بن الحكم
__________
1ـ سورة آل عمران آية/138.
2ـ التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين ص/124، وانظر مقالات الإسلاميين 1/66-67، الفرق بين الفرق ص/236-238، الملل والنحل للشهرستاني 1/152-153، اعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص/57
3ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/176-177، وانظر مقالات الإسلاميين 1/69-74، الفرق بين الفرق ص/238-242(3/908)
في حق علي رضي الله عنه حتى قال: إنه إله واجب الطاعة"1.
الخطابية:
أصحاب أبي الخطاب محمد بن أبي زينب الأسدي الأجدع مولى بني أسد وهو الذي عزا نفسه إلى أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق فلما وقف الصادق على غلوه الباطل في حقه تبرأ منه ولعنه وأمر أصحابه بالبراءة منه، وشدد القول في ذلك وبالغ في التبري منه واللعن عليه فلما اعتزل عنه ادعى الإمامة لنفسه، زعم أبو الخطاب أن الأئمة أنبياء ثم آلهة، وقال بإلهية جعفر بن محمد وإلهية آبائه وهم أبناء الله وأحباؤه والإلهية نور في النبوة، والنبوة نور في الإمامة، ولا يخلو العالم من هذه الآثار والأنوار، وزعم أن جعفراً هو الإله وليس هو المحسوس الذي يرونه ولكن لما نزل إلى هذا العالم لبس تلك الصورة فرآه الناس فيها، ولما وقف عيسى بن موسى صاحب المنصور على خبث دعوته قتله بسبخة الكوفة وافترقت الخطابية بعده فرقاً"2.
العلبائية:
أصحاب العلباء بن ذارع الدوسي، وقال قوم: هو الأسدي وكان يفضل علياً على النبي صلى الله عليه وسلم، وزعم أنه بعث محمداً، يعني علياً، وسماه إلهاً وكان يقول بذم محمد صلى الله عليه وسلم، وزعم أنه بعث ليدعو إلى علي فدعا إلى نفسه، ويسمون هذه الفرقة الذميمة.
ومنهم من قال: بإلهيتهما جميعاً ويقدمون علياً في أحكام الإلهية ويسمونهم العينية، ومنهم من قال: بإلهيتهما جميعاً، ويقدمون محمداً في الإلهية ويسمونهم الميمية، ومنهم من قال: بالإلهية لجملة أشخاص أصحاب الكساء، محمد، وعلي وفاطمة، والحسن والحسين، وقالوا: خمستهم شيء واحد والروح حالة
__________
1ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/184-185.
2ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/179-184، وانظر مقالات الإسلاميين 1/76-82.(3/909)
فيهم بالسوية لا فضل لواحد منهم على الآخر"1.
النصيرية:
من جملة غلاة الشيعة النصيرية أتباع محمد بن نصير النمري، "ولهم جماعة ينصرون مذهبهم ويذبون عن أصحاب مقالاتهم وبينهم خلاف في كيفية إطلاق اسم الإلهية على الأئمة من أهل البيت، قالوا: ظهور الروحاني بالجسد الجسماني أمر لا ينكره عاقل، أما في جانب الخير فكظهور جبريل عليه السلام ببعض الأشخاص والتصور بصورة أعرابي والتمثل بصورة البشر، وأما في جانب الشر فكظهور الشيطان بصورة إنسان حتى يعمل الشر بصورته وظهور الحسن بصورة بشر حتى يتكلم بلسانه، فكذلك نقول: إن الله تعالى ظهر بصورة أشخاص ولما لم يكن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم شخص أفضل من علي رضي الله عنه وبعده أولاده المخصوصون وهم خير البرية، فظهر الحق بصورتهم ونطق بلسانهم وأخذ بأيديهم فعن هذا أطلقنا اسم الإلهية عليهم ويقولون: إنما أثبتنا هذا الاختصاص لعلي رضي الله عنه دون غيره، لأنه كان مخصوصاً بتأييد إلهي من عند الله تعالى"2، إلى غير ذلك من الحجج الباطلة التي تعد من تزيين الشيطان وتسويله، وهذه الفرقة وسائر أصناف القرامطة الباطنية عرفت كلها في التاريخ بشدة عداوتها للإسلام وأهله ومناصرتها لأعداء الإسلام وكراهية انتصار المسلمين على أعدائهم من التتار والنصارى، كما اشتهرت بالإلحاد في أسماء الله تعالى وآياته وتحريف كلامه تعالى وكلام رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن مواضعه، ويكفينا نحوهم ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية فإنه رحمه الله عرف حقيقتهم وما كانوا عليه من سوء الحال، فقد سئل رحمه الله عن النصيرية، فأجاب بقوله: "الحمد لله رب العالمين، هؤلاء القوم المتسمون بالنصيرية هم وسائر أصناف القرامطة الباطنية
__________
1ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/175-176.
2ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/188-189.(3/910)
أكفر من اليهود والنصارى، بل وأكفر من كثير من المشركين، وضررهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم أعظم من ضرر الكفار المحاربين مثل كفار التتار والإفرنج وغيرهم، فإن هؤلاء يتظاهرون عند جهال المسلمين بالتشيع وموالاة أهل البيت، وهم في الحقيقة لا يؤمنون بالله ولا برسوله ولا بكتابه، ولا بأمر ولا نهي، ولا ثواب ولا عقاب، ولا جنة، ولا نار، ولا بأحد من المرسلين قبل محمد صلى الله عليه وسلم ولا بملة من الملل السالفة، بل يأخذون كلام الله ورسوله المعروف عند علماء المسلمين يتأولونه على أمور يفترونها يدعون أنها علم الباطن وليس لهم حد محدود فيما يدعونه من الإلحاد في أسماء الله تعالى وآياته وتحريف كلام الله وتعالى ورسوله عن مواضعه ... ـ إلى أن قال ـ "ومن المعلوم عندنا أن السواحل الشامية إنما استولى عليها النصارى من جهتهم وهم دائماً مع كل عدو للمسلمين، فهم مع النصارى على المسلمين، ومن أعظم المصائب عندهم انتصار المسلمين على التتار، ومن أعظم أعيادهم إذا استولى ـ والعياذ بالله تعالى ـ النصارى على ثغور المسلمين ... فهؤلاء المحادون لله ورسوله كثروا حيئنذ بالسواحل وغيرها فاستولى النصارى على الساحل، ثم بسببهم استولوا على القدس الشريف وغيره، فإن أحوالهم كانت من أعظم الأسباب في ذلك، ثم لما أقام الله ملوك المسلمين المجاهدين في سبيل الله تعالى كنور الدين الشهيد1 وصلاح الدين2 وأتباعهما وفتحوا
__________
1ـ هو محمود بن زنكي الملقب بالملك العادل ملك الشام وديار الجزيرة ومصر وهو أعدل ملوك زمانه وأجلهم وأفضلهم، كان من المماليك جده من موالي السلجوقيين، ولد في حلب سنة 511 وتوفي سنة 569 كان من المداوميين للجهاد وكان يباشره بنفسه، كان موفقاً في حروبه مع الصلبيين أيام زحفهم على بلاد الشام "انظر ترجمته في وفيات الأعيان، لابن خلكان" 5/184-189، سير أعلام النبلاء 20/531-539، شذرات الذهب 4/228-231.
2ـ هو: يوسف بن أيوب بن شاذي أبو المظفر صلاح الدين الأيوبي الملقب بالملك الناصر، من أشهر ملوك الإسلام، وهو من أصل كردي ولد بتكريت سنة 532هـ سيرته مشهورة طبقت الآفاق لما له من الأيادي البيض في نصرة الإسلام وأهله، منها تخليص بيت المقدس وبلاد فلسطين والساحل الشامي من براثن الصليبيين فقد كان موفقاً في حروبه لهم فقد هزمهم شر هزيمة في حطين وغيرها من الوقائع، توفي رحمه الله سنة 589هـ. =(3/911)
السواحل من النصارى وممن كان بها منهم وفتحوا أيضاً: أرض مصر، فإنهم كانوا مستولين عليها نحو مائتي سنة، واتفقوا هم والنصارى، فجاهدهم المسلمون حتى فتحوا البلاد ... ثم إن التتار ما دخلوا بلاد الإسلام وقتلوا خليفة بغداد وغيره من ملوك المسلمين إلا بمعاونتهم ومؤازرتهم ... ولهم ألقاب معروفة عند المسلمين تارة يسمون "الملاحدة" وتارة يسمون "القرامطة" وتارة يسمون "الباطنية"، وتارة يسمون "الإسماعلية" وتارة يسمون "الخرَّمية"، وتارة يسمون "المحمرة".
وهذه الأسماء منها ما يعمهم ومنها ما يخص بعض أصنافهم.. ولا ريب أن جهاد هؤلاء وإقامة الحدود عليهم من أعظم الطاعات وأكبر الواجبات وهو أفضل من جهاد من لا يقاتل المسلمين من المشركين وأهل الكتاب فإن جهاد هؤلاء من جنس جهاد المرتدين، والصديق وسائر الصحابة بدأوا بجهاد المرتدين قبل الكفار من أهل الكتاب ... وأيضاً: فضرر هؤلاء على المسلمين أعظم من ضرر أولئك ... ويجب على كل مسلم أن يقوم في ذلك بحسب ما يقدر عليه من الواجب، فلا يحل لأحد أن يكتم ما يعرفه عن أخبارهم، بل يفشيها ويظهرها ليعرف المسلمون حقيقة حالهم ولا يحل لأحد السكوت عن القيام عليهم بما أمر الله ورسوله ... والمعاون على كف شرهم وهدايتهم بحسب الإمكان له من الأجر والثواب ما لا يعلمه إلا الله تعالى"1.
فقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بكلامه هذا حقيقة "النصيرية" وسائر أصناف الباطنية الإسماعلية وكشف معاملتهم للمسلمين وموقفهم المشين من الإسلام عبر تاريخهم الأسود، كما بين الموقف الذي يجب
__________
= انظر ترجمته في وفيات الأعيان 7/139-218، الكامل لابن الأثير 11/415 وما بعدها، سير أعلام النبلاء 21/278-291.
1ـ مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 35/149-159.(3/912)
على المسلم أن يقفه كل بحسب ما يمكنه من تعريف الناس أخبارهم وإفشاء أسرارهم ليعرف الناس حقيقة حالهم.
الشيعة الإسماعلية:
بعد موت الإمام جعفر بن محمد الصادق افترقت الشيعة إلى فرقتين:
فرقة: ساقت الإمامة إلى ابنه موسى الكاظم وهؤلاء هم الشيعة الاثنا عشرية.
وفرقة: نفت عن الإمامة، وقالت: إن الإمام بعد جعفر هو ابنه إسماعيل، وهذه الفرقة عرفت بالشيعة الإسماعلية.
قال عبد القاهر البغدادي في شأن الإسماعلية: "وهؤلاء ساقوا الإمامة إلى جعفر وزعموا أن الإمام بعده ابنه إسماعيل"1.
وقال الشهرستاني: "الإسماعلية امتازت عن الموسوية وعن الاثنى عشرية بإثبات الإمامة لإسماعيل بن جعفر وهو ابنه الأكبر المنصوص عليه في بدء الأمر قالوا: ولم يتزوج الصادق رضي الله عنه على أمه بواحدة من النساء، ولا تسرى بجارية كسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حق خديجة رضي الله عنها، وكسنة علي رضي الله عنه في حق فاطمة رضي الله عنها"2.
فالإسماعلية إحدى فرق الشيعة، وهي تنتسب إلى إسماعيل بن جعفر الصادق ولهم ألقاب كثيرة عرفوا بها غير لقب "الإسماعيلية".
فأشهر ألقابهم الباطنية: وإنما لزمهم هذا اللقب لحكمهم بأن لكل ظاهر باطناً ولكل تنزيل تأويلاً.
ويطلق عليهم: القرامطة والمزدكية، وقد عرفوا بهذين اللقبين في بلاد العراق.
__________
1ـ الفرق بين الفرق ص/62.
2ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/191.(3/913)
ويطلق عليهم في خراسان: التعليمية والملحدة وهم لا يحبون أن يعرفوا بهذه الأسماء، وإنما يقولون: نحن الإسماعيلية لأنا تميزنا عن فرق الشيعة بهذا الاسم"1.
وكما تقدم قريباً أن الشيعة أصيبوا بالفرقة والاختلاف بعد موت جعفر الصادق وهذه صفة ليست غريبة عليهم، وإنما هي صفة ملازمة لهم.
قال أبو عبد الله الملقب بالمفيد مبيناً اختلافهم بعد الصادق: "فلما مات الصادق عليه السلام سنة 148هـ انتقل فريق منهم إلى القول بإمامة موسى بن جعفر عليه السلام بعد أبيه عليه السلام، وافترق الباقون فريقين:
فريق منهم رجعوا عن حياة إسماعيل، وقالوا بإمامة ابنه محمد بن إسماعيل لظنهم أن الإمامة كانت في أبيه، وأن الابن أحق بمقام الإمامة من الأخ.
وفريق: ثبتوا على حياة إسماعيل وهم اليوم شذاذ لا يعرف منهم أحد يوميء إليه.
وهذان الفريقان يسميان بالإسماعيلية، والمعروف منهم الآن من يزعم أن الإمامة بعد إسماعيل في ولده إلى آخر الزمان"2.
والإسماعيلية لا يقولون بإمامة موسى بن جعفر، وإنما يقولون: "إن موسى الكاظم لم يجعله الصادق "ع" إماماً إلا سترا على ولي الأمر "محمد بن إسماعيل" ليكتم أمره على الأضداد ... وذلك أنه لما اشتدت المحنة وعظمت التقية في أيام جعفر بن محمد صلوات الله عليه كتم اسم الإمام من ولده تقية عليه، فلم يطلع عليه في حياة جعفر بن محمد ولا بعد وفاته إلا أوثق الثقات من شيعته"3.
وقد ذكر محمد حسن الأعظمي في كتابه "الحقائق الخفية عن الشيعة
__________
1ـ انظر المصدر السابق 1/192. وانظر كتاب فضائح الباطنية للغزالي ص/11-15.
2ـ الإرشاد للمفيد ص/554.
3ـ الحركات الباطنية في الإسلام لمصطفى غالب ص/77.(3/914)
الفاطمية والاثنى عشرية" أن الإسماعيلية فرقتان، هما:
1- المستعلية 2- والنزارية
ثم عرف كل فرقة منهما، فقال:
والمستعلية: هي التي يطلق عليها اسم البوهرة وهو لفظ "كوجراتي" معناه بالعربية التجار وهم منتشرون في الهند والباكستان واليمن وحضرموت وعدن وغيرها.
والنزراية: تشتهر باسم "الأغاخانية" ويعتقدون أن زعيمهم الديني من نسل نزار بن المستنصر الفاطمي، ويطلق عليه الإمام الحاضر وهو الآن الامير كريم "أغاخان"، الذي دفن جده محمد شاه أغاخان في مدينة أسوان بمصر.
وأما البوهرة: فيعتقدون أن إمامهم الحادي والعشرين "الطيب" ابن الآمر المستعلي بن المستنصر الفاطمي قد استتر وبدأ هو سلسلة الدعاة المطلقين وقد ظهر منهم ثلاثة وعشرون في اليمن، ثم ثلاث وعشرون في الهند، ويقال: إن السادس والأربعين محمد بدر الدين الداعي المطلق عبد علي سيف الدين قتل بالسم على يد منافسه عبد القادر نجم الدين"1.
والإسماعيلية على اختلاف فرقها ونحلها تدين بعقائد فاسدة في الإلهيات والنبوات والمعاد والإمامة ولهم فيها تخليط وتخبيط مصدرهم في هذه العقائد الفاسدة الفلسفات اليونانية، وكل عقائدهم الباطلة يقصدون منها إبطال الإسلام وهدم أركانه.
وقد نبه الشهرستاني من قبل إلى تأثر الباطنية بالفلسفة اليونانية حيث قال: "إن الباطنية القديمة قد خلطوا كلامهم ببعض كلام الفلاسفة وصنفوا كتبهم على هذا المنهاج"2.
__________
1ـ الحقائق الخفية عن الشيعة الفاطمية والاثنى عشرية، ص/17.
2ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/193.(3/915)
كما قرر الغزالي أيضاً: "أن آراء الباطنية في الإلهيات مسترقة من الثنوية والمجوس في القول بإلهين ومن كلام الفلاسفة في المبدأ الأول وأن مذاهبهم في النبوات مستخرجة من مذاهب الفلاسفة في النبوات مع تحريف وتغيير وأن مذهبهم في المعاد موافق لآراء الثنوية والفلاسفة في الباطن وللروافض والشيعة في الظاهر"1.
وتمسك الإسماعيلية بمبادئ الفلاسفة أدى بهم إلى تجريد الباري ـ جل وعلا ـ من كل صفة كمال اتصف بها حيث يقولون: "إنا لا نقول هو موجود ولا لا موجود، ولا عالم ولا جاهل، ولا قادر ولا عاجز، وكذلك في جميع الصفات فإن الإثبات الحقيقي يقتضي شركة بينه وبين سائر الموجودات في الجهة التي أطلقنا عليه، وذلك تشبيه فلم يكن الحكم بالإثبات المطلق والنفي المطلق بل هو إله المتقابلين، وخالق المتخاصمين والحاكم بين المتضادين، ونقلوا في هذا نصاً عن محمد بن علي الباقر أنه قال: "لما وهب العلم للعالمين قيل هو عالم، ولما وهب القدرة للقادرين قيل هو قادر، فهو عالم.
والقدرة لا بمعنى أنه قام به العلم والقدرة أو وصف بالعلم والقدرة ... قالوا: ولذلك نقول في القدم: إنه ليس بقديم ولا محدث بل القديم أمره وكلمته والمحدث خلقه وفطرته"2.
ومن أجل هذا وصف الإسماعيلية بأنهم نفاة الصفات حقيقة معطلة الذات عن جميع الصفات ومقصودهم من هذا هو إنكار وجود الخالق.
قال الغزالي: إن الإسماعيلية يتطلعون في الجملة لنفي الصانع، فإنهم لو قالوا: إنه معدوم لم يقبل منهم، بل منعوا الناس من تسميته موجوداً وهو عين النفي مع تغيير العبارة لكنهم تحذقوا فسموا هذا النفي تنزيهاً وسموا مناقضه تشبيهاً
__________
1ـ فضائح الباطنية ص/40-42، 46.
2ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/193. وانظر فضائح الباطنية للغزالي ص/39.(3/916)
حتى تميل القلوب إلى قبوله"1.
ومعتقدهم في الإمامة كمعتقد الاثنى عشرية فهم يقولون بإمامة آل البيت وأن سلسلة الأئمة عندهم بعد جعفر الصادق هم إسماعيل وسلالته من بعده وذهبوا إلى القول بعصمة هؤلاء الأئمة، وأن الإمامة لا تثبت إلا بالنص كما ذهب الاثنى عشرية إلى ذلك في أئمتهم، ولا يختلفون عنهم في تعظيم أمر الإمامة وتقديس منزلتها، فهي عندهم العمود الأساسي الذي تدور عليه كل عقائد الإسماعيلية.
وفي هذا يقول مصطفى غالب: "ولا تزال الإمامة المحور الذي تدور عليه كل العقائد الإسماعيلية لأن الإمامة ركن أساس جميع أركان الدين، فدعائم الدين هي الطهارة والصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد والولاية هي أفضل هذه الدعائم"2.
وقال أيضاً: في بيان معتقدهم في النص على الإمام وأنه لا اختيار للبشر في نصبه: "ومن أصول ومرتكزات العقيدة الإسماعيلية ضرورة وجود الإمام المنصوص عليه من نسل علي بن أبي طالب والنص من الإمام يجب أن يكون من الإمام الذي سبقه بحيث تتسلسل الإمامة في الأعقاب"3.
والإسماعيلية لم يصدقوا بموت إسماعيل في حياة أبيه جعفر، بل يزعمون أن الإخبار بموته في ذلك الوقت الغرض منه التمويه والتعمية على ولاة الأمر من العباسيين.
قال مصطفى غالب: "إن قصة وفاة إسماعيل بن جعفر في حياة أبيه إنما كانت قصة أراد بها الإمام جعفر الصادق "ع" التمويه والتعمية على الخليفة العباسي ... ثم شوهد إسماعيل "ع" بعد ذلك في البصرة وفي غيرها من البلاد
__________
1ـ فضائح الباطنية ص/39.
2ـ تاريخ الدعوة الإسماعيلية/49-50، الإمامة وقائم القيامة ص/145.
3ـ تاريخ الدعوة الإسماعيلية ص/50.(3/917)
فارس وعلى ذلك فالإمامة لم تسقط عن إسماعيل بالموت قبل وفاة أبيه لأنه مات بعد أبيه"1.
ومنهم من قال: "إنه مات وإنما فائدة النص عليه انتقال الإمامة منه إلى أولاده خاصة كما نص موسى على هارون عليهما السلام، ثم مات هارون في حال حياة أخيه، وإنما فائدة النص انتقال الإمامة منه إلى أولاده، فإن النص لا يرجع قهقرى والقول بالبداء محال، ولا ينص الإمام على واحد من أولاده إلا بعد السماع من آبائه والتعيين لا يجوز على الإبهام والجهالة"2.
ولم يختلفوا في تعظيمهم لأئمتهم على تعظيم الاثنى عشرية لأئمتهم من حيث الإطراء والغلو المذموم فهم شركاؤهم في هذا المقام، حيث يعتقدون أنه "لا يعترض على شيء مما صدر عن الإمام من أوامر ونواه وأقوال وأفعال إذ أنه يتمتع بالعصمة التي منحه إياها الله فامتاز بها عن بقية المخلوقات"3.
وادعاء الشيعة الإمامية والإسماعيلة وجوب العصمة للأئمة ما هو إلا نوع أن هذيانهم وكذبهم وافترائهم "لم يرد به دليل من الكتاب ولا من السنة ولا من الإجماع ولا من القياس الصحيح ولا من العقل السليم، قاتلهم الله أنى يؤفكون"4.
إذ أنه لا عصمة لأحد بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فبطلان دعوى وجوب العصمة ظاهر. ونقتصر على ذكر هذه الفرق التسع من فرق الشيعة الغالية إذ ليس المراد استقصاء الغلاة، وإنما ذكرنا هذه الفرق مع الإشارة إلى غلوهم الفاسد في الأئمة ليتضح للقاريء ضلالهم ونبذهم للإسلام وراء ظهورهم وليتبين أن غلاة الشيعة اتخذوا من حب آل البيت والتشيع لهم ذريعة لبث آرائهم
__________
1ـ الحركات الباطنية ص/77.
2ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/191.
3ـ إثبات الإمامة للنسابوري ص/51 وانظر فضائل الباطنية للغزالي ص/142 وما بعدها.
4ـ الرد على الرافضة للشيخ محمد بن عبد الوهاب ص/28 وانظر ص/34.(3/918)
الباطلة وهدم الإسلام ونقضه عروة عروة، ومن جهة أخرى جعلوا من التشيع مدخلاً لإحياء عقائد الديانات الوثنية، كالقول بالتناسخ وانتقال أرواح الأئمة من إمام إلى إمام، والزعم بحلول الله تعالى في أرواح البشر وإنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولم يكن في وسع أهل البيت إلا أن تبرأوا من هؤلاء الغلاة ولعنوهم على الملأ وفضحوا أكاذيبهم كما فعل جعفر الصادق مع الخطابية، وقد ذكر الشهرستاني أن جعفر الصادق "قد تبرأ عما كان ينسبه إليه بعض الغلاة وبريء منهم ولعنهم وبريء من خصائص مذاهب الرافضة، وحماقاتهم من القول بالغيبة والرجعة والبداء والتناسخ والحلول والتشبيه، لكن الشيعة بعده افترقوا وانتحل كل واحد منهم مذهباً وأراد أن يروجه على أصحابه فنسبه إليه وربطه به، وجعفر بريء من ذلك ومن الاعتزال والقدر أيضاً"1، كما أشار إلى الغلاة على مختلف أصنافهم كلهم متفقون على القول بالتناسخ والحلول ثم ذكر أن التناسخ "كان مقالة لفرقة في كل ملة تلقوها من المجوس المزدكية والهند البرهمية ومن الفلاسفة الصابئة"2.
2- الكيسانية:
ذكر العلماء الذين ألفوا في الفرق ومقالاتهم أن فرقة الكيسانية تنسب إلى المختار بن أبي عبيد الثقفي3 وسميت من اجل ذلك بالمختارية، وسميت أيضاً: بالكيسانية لأن المختار كان يقال له: كيسان، أو أن كيسان الذي تنسب إليه كان مولى لعلي بن أبي طالب، أو كان تلميذاً لمحمد بن الحنفية وأن المختار تلقى
__________
1ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/166.
2ـ المصدر السابق 1/175.
3ـ هو المختار بن أبي عبيد بن مسعود بن عمرو الثقفي الذي يخرج يطلب بثأر الحسين بن علي وهو الذي جهز الجيش لحرب عبيد الله بن زياد بقيادة إبراهيم بن الأشتر النخعي، وقتل المختار سنة 67هـ في موقعة عظيمة دارت بينه وبين مصعب ابن الزبير. انظر العبر 1/74، ميزان الاعتدال 4/80، لسان الميزان 6/7-8، سير أعلام النبلاء 3/538-544.(3/919)
مقالته من كيسان هذا ومن هنا أطلق على هذه الفرقة اسم الكيسانية.
قال أبو الحسن الأشعري رحمه الله تعالى: "وإنما سموا "كيسانية" لأن المختار الذي خرج وطلب بدم الحسين بن علي ودعا إلى "محمد بن الحنفية" كان يقال له "كيسان"، ويقال: إنه مولى لعلي بن أبي طالب رضوان الله عليه"1.
وقال عبد القاهر البغدادي في ذكره للكيسانية: "هؤلاء أتباع المختار ابن أبي عبيد الثقفي، الذي قام بثأر الحسين بن علي بن أبي طالب وقتل أكثر الذين قتلوا حسيناً بكربلاء، وكان المختار يقال له كيسان، وقيل: إنه أخذ مقالته عن مولى لعلي رضي الله عنه، كان اسمه كيسان"2.
وقال أبو المظفر الإسفراييني: "وأما الكيسانية فهم أتباع مختار بن أبي عبيد الثقفي الذي كان قام يطلب ثأر الحسين بن علي بن أبي طالب وكان يقتل من يظفر به ممن كان قاتله بكربلاء"3.
وأما الشهرستاني: فقد نسب هذه الفرقة إلى كيسان مولى أمير المؤمنين وذكر أنها فرق ومن ضمنها المختارية، فقد قال: "الكيسانية: أصحاب كيسان مولى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وقيل: تلميذ للسيد محمد بن الحنفية، يعقتدون فيه اعتقاداً فوق حده ودرجته من إحاطته بالعلوم كلها واقتباسه من السيدين الأسرار بجملتها، من علم التأويل والباطن، وعلم الآفاق والأنفس"4.
كما أنه قرر أن "المختار بن أبي عبيد الثقفي كان خارجياً ثم صار زبيرياً ثم
__________
1ـ مقالات الإسلاميين 1/91.
2ـ الفرق بين الفرق ص/38.
3ـ التبصير في الدين ص/30.
4ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/147، وانظر في شأن فرقة الكيسانية مروج الذهب للمسعودي 3/70-89.(3/920)
صار شيعياً وكيسانياً، قال: بإمامة محمد بن الحنفية بعد أمير المؤمنين علي رضي الله عنهما، وقيل: لا بل بعد الحسن والحسين رضي الله عنهما، وكان يدعو الناس إليه وكان يظهر أنه من رجاله ودعاته ويذكر علوماً مزخرفة بترهات ينوطها به"1.
وتقرير الشهرستاني هذا يؤدي إلى اضطراب وغموض حول حركة المختار ابن أبي عبيد وحقيقة الكيسانية ولكن الظاهر أن الحركة التي قام بها المختار كانت حركة شيعية غرضها أخذ الثأر من قتلة الحسين بن علي من جهة وتحقيق أطماع وتطلعات قائدها المختار من جهة أخرى، أما الكيسانية فهي حركة غالية منحرفة اتخذت من التشيع لآل البيت ستاراً نفذت بواسطته بتعاليمها الفاسدة وآرائها المنحرفة، وقد تولد عن الكيسانية الكثير من الحركات الباطنية، وأما المختار فقد نشأ في بيت مسلم بعيد عن هذه الانحرافات، فوالده أبو عبيد بن مسعود، كان ممن أسلموا مع قبيلة ثقيف، ثم انتقل من الطائف موطنه وحيث ولد المختار إلى المدينة وصار أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وفي زمن الفاروق رضي الله عنه تولى قيادة المسلمين في فتوحات العراق، واستشهد هو وابنه جبر في موقعة الجسر الشهيرة على نهر الفرات"2، وقد ولد المختار في السنة الأولى من الهجرة وانتقل مع والده إلى بلاد العراق لقتال الفرس وبعد استشهاد والده دخل تحت كفالة عمه سعيد بن مسعود، الذي كان والياً لعلي رضي الله عنه على الكوفة وقد وصف المختار بن أبي عبيد بأنه كان على درجة عالية من الذكاء والدهاء والفطنة3، وقد استغل هذا الذكاء وهذه الفطنة في محاولة للوصول إلى الحصول على مكانة عند الناس فاتخذ من حب آل البيت والولاء لهم وسيلة ينفذ منها إلى ما يهدف إليه من الولاية وحب الرياسة، واستطاع أن يجمع حوله كثيراً من
__________
1ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/147-148.
2ـ انظر تاريخ الطبري 3/454 وما بعدها، لسان الميزان لابن حجر 6/7.
3ـ انظر كتاب المختار الثقفي مراءة العصر الأموي، علي حسن الخربوطلي ص/40.(3/921)
الأتباع والأنصار ممن ينتمون للشيعة، وتمكن من الاستيلاء على الكوفة وعقدت له البيعة فيها على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والطلب بدماء أهل البيت وأول ما بدأ به بعد البيعة أن تتبع قتلة الحسين بن علي وهدم دورهم وأخذ الثأر منهم وقد أكسبه هذا الفعل مكانة عند الشيعة وحببه إليهم، وقد ذكر الشهرستاني أن المختار انتظم له ما انتظم بأمرين:
أحدهما: انتسابه إلى محمد بن الحنفية علماً ودعوة.
الثاني: قيامه بثأر الحسين بن علي رضي الله عنهما واشتغاله ليلاً ونهاراً بقتال الظلمة الذين اجتمعوا على قتل الحسين1.
وهذه تعتبر مرحلة أولى للمختار بن أبي عبيد الثقفي، فقد أظهر نفسه أنه شيعي، ينتقم لقتلى آل البيت، ويدعو إلى إمامة محمد بن الحنفية وقد ذكر الشهرستاني أنه انتقل من هذه المرحلة وصار كيسانياً ونسب إليه القول بالبداء، حيث زعم أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ يغير ما يشاء تبعاً لتغير علمه وأنه يأمر بالشيء ثم يبدو له فيأمر بغيره، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيراً.
قال الشهرستاني: وإنما صار المختار إلى اختيار القول بالبداء لأنه كان يدعي علم ما يحدث من الأحوال، إما بوحي يوحى إليه، وإما برسالة من قبل الإمام "محمد بن الحنفية"، فكان إذا وعد أصحابه بكون شيء وحدوث حادثة، فإن وافق كونه قوله جعله دليلاً على دعواه، وإن لم يوفقه قال: "قد بدا لربكم"2. وكان يستدل على ذلك بقول الله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} 3.
وقد ذكر البغدادي أن هذا التغير في آراء المختار حدث له بعد أن تم له
__________
1ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/148.
2ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/149.
3ـ سورة الرعد آية/39.(3/922)
الاستيلاء على الكوفة والجزيرة والعراقين إلى حدود أرمينية تكهن بعد ذلك وسجع بأسجاع الكهنة، وكان يدعي نزول الوحي عليه1 والذي يظهر أن المختار في آخر أمره تأثر ببعض غلاة الشيعة.
قال البغدادي: "إن الذي زين له ذلك جماعات من الشيعة الغلاة وقالوا له: أنت حجة هذا الزمان، وحملوه على دعوى النبوة فادعاها ولكن لم يصرح بهذا إلا لخاصته"2، وبدعواه نزول الوحي عليه حكم عليه بأنه ضال مضل.
قال الذهبي رحمه الله تعالى: "المختار بن أبي عبيد الثقفي الكذاب لا ينبغي أن يروى عنه شيئاً، لأنه ضال مضل، كان زعم أن جبرائيل عليه السلام ينزل عليه وهو شر من الحجاج أو مثله"أ. هـ3.
ومما تجدر الإشارة إليه أن العلماء أجمعوا على أن المراد بالكذاب في الحديث الذي رواه مسلم4 من حديث ابن عمر: أن في ثقيف كذاباً ومبيراً، أنه المختار ابن أبي عبيد.
فقد قال النووي رحمه الله تعالى مبيناً قول أسماء بنت أبي بكر للحجاج: "أما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا أن في ثقيف كذاباً ومبيراً5 فأما الكذاب فرأيناه، وأما المبير فلا إخالك إلا إياه"، قال: "وقولها في الكذاب فرأيناه تعني به المختار بن أبي عبيد، كان شديد الكذب ومن أقبحه، ادعى ان جبريل صلى الله عليه وسلم يأتيه، واتفق العلماء على أن المراد بالكذاب هنا المختار بن أبي عبيد وبالمبير الحجاج بن يوسف والله أعلم"6.
__________
1ـ انظر الفرق بين الفرق ص/46.
2ـ الفرق بين الفرق ص/47.
3ـ ميزان الاعتدال 4/80.
4ـ صحيح مسلم 4/1971-1972.
5ـ المبير: المهلك. انظر شرح النووي على صحيح مسلم 16/100، وانظر تحفة الأحوذي 6/467.
6ـ شرح النووي على صحيح مسلم 16/100.(3/923)
وقد هلك المختار بن أبي عبيد عام "67هـ" على يد مصعب بن الزبير1 ولم تنته آراؤه الفاسدة بهلاكه، بل قام أتباعه من الكيسانية بنشرها فيما بعد فقد اجتمع رأيهم على القول بإمامة محمد بن الحنفية واختلفوا في رجعته على قولين:
فبعضهم: زعم أنه مات وسيرجع.
ومنهم من ذهب إلى أنه لم يمت بل هو حي بجبل رضوى، وعنده عينان تجريان بماء وعسل وعن يمينه أسد وعن يساره نمر يحفظانه من أعدائه إلى وقت خروجه وهو المهدي المنتظر الذي سيعود فيملأ الدنيا عدلاً كما ملئت جوراً، وإلى هذا يشير شاعرهم كثير عزة فيقول:
ألا إن الأئمة من قريش ... علي والثلاثة من بنيه
فسبط سبط إيمان وبر ... وسبط لا يذوق الموت حتى
تغيب لا يرى فيهم زماناً ... ولاة الحق أربعة سواء
هم الأسباط2 ليس بهم خفاء ... وسبط غيبته كربلاء
يقود الخيل يقدمها اللواء ... برضوى عند عسل وماء3
[وقد مات ابن الحنفية بالمدينة سنة إحدى وثمانين هجرية، فقد روى ابن سعد بإسناده إلى زيد بن السائب، قال: سألت أبا هاشم عبد الله بن محمد الحنفية: أين دفن أبوك؟، فقال: بالبقيع، قلت: أي سنة؟ قال: سنة إحدى وثمانين في أولها وهو يومئذ ابن خمس وستين سنة لا يستكملها4.
__________
1ـ انظر تاريخ الطبري 6/93 وما بعدها، الكامل في التاريخ 4/267، وما بعدها، البداية والنهاية 8/308 وما بعدها.
2ـ الأسباط: جمع سبط، قيل هم الأولاد خاصة، وقيل: أولاد الأولاد، وقيل: أولاد البنات، النهاية 2/334.
3ـ الفرق بين الفرق للبغدادي ص/41، الملل والنحل للشهرستاني 1/150.
4ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 5/16.(3/924)
ففي هذا بيان لفساد من يعتقد من الكيسانية رجوع محمد بن الحنفية رحمه الله تعالى، فقد مات بالمدينة، ودفن بالبقيع، والذي أم المصلين في صلاة الجنازة عليه أبان بن عثمان، لأنه كان الوالي يومئذ على المدينة لعبد الملك بن مروان1.
واختلفت الكيسانية أيضاً: فيمن يتولى الأمر بعد ابن الحنفية، حتى صار كل اختلاف مذهباً، وافترقوا عدة فرق2 ويجمعها شيئان:
أحدهما: قولهم بإمامة محمد بن الحنفية، وإليه كان يدعو المختار بن أبي عبيد.
والثاني: قولهم بجواز البداء على الله ـ عز وجل ـ ولهذه البدعة قال بتكفيرهم كل من لا يجيز البداء على الله3.
والكيسانية كانت مصدراً لكثير أن الآراء الفاسدة التي كان الهدف منها إبطال الشريعة الإسلامية والدعوة إلى الكفر والزندقة.
قال الشهرستاني: "وأجمع الكيسانية على القول بأن الدين طاعة رجل، وحملهم هذا على تأويل الأركان الشرعية من الصلاة والصيام والزكاة والحج وغير ذلك على رجال، فحمل بعضهم على ترك القضايا الشرعية بعد الوصول إلى طاعة الرجل وحمل بعضهم على ضعف الاعتقاد بالقيامة، وحمل بعضهم على القول بالتناسخ والحلول والرجعة بعد الموت. فمن مقتصر على واحد معتقد أنه لا يموت، ولا يجوز أن يموت حتى يرجع ومن معتقد حقيقة الإمامة إلى غيره، ثم متحسر عليه متحير فيه، ومن مدع حكم الإمامة وليس من الشجرة، وكلهم حيارى متقطعون، ومن اعتقد أن الدين طاعة رجل ولا رجل له، فلا دين له
__________
1ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 5/16.
2ـ انظر الملل والنحل للشهرستاني 1/151.
3ـ الفرق بين الفرق ص/38-39.(3/925)
نعوذ بالله من الحيرة والحور بعد الكور، رب اهدنا سواء السبيل1.
3- الزيدية:
هم المنتسبون إلى زيد بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، خرج زيد في خلافة هشام بن عبد الملك لأمور أنكرها، فقتل بالكوفة سنة اثنتين وعشرين ومائة وكان مولده بالمدينة سنة ثمانين2، وكان رحمه الله تعالى تقياً زاهداً فاضلاً وأحد العلماء الصلحاء، تلقى العلم في المدينة والبصرة والعراق، وبلغ درجة عالية في العلم والفقه3.
قال أبو الحسن الأشعري: "وإنما سموا "زيدية" لتمسكهم بقول زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب"4.
وقال الشهرستاني: "الزيدية أتباع زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، ساقوا الإمامة في أولاد فاطمة رضي الله عنها ولم يجوزوا ثبوت الإمامة في غيرهم إلا أنهم جوزوا أن يكون كل فاطمي عالم شجاع سخي خرج بالإمامة أن يكون إماماً واجب الطاعة سواء كان من أولاد الحسن أو من أولاد الحسين رضي الله عنهما"5.
فالزيدية إحدى فرق الشيعة وهي تنتسب إلى الإمام زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وقد افترقت الزيدية فرقاً عدة لكل فرقة منها منهج ووجهة، وأصول هذه الفرق ثلاث، وهي: الجارودية، والسليمانية، والصالحية، وإليك نبذة عن كل واحدة من هذا الفرق الثلاث ليتضح معتقدها
__________
1ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/147.
2ـ انظر تهذيب التهذيب 3/419، تقريب التهذيب 1/276.
3ـ انظر ترجمته في طبقات ابن سعد 5/325-326، سير أعلام النبلاء 5/389-391، وفيات الأعيان 5/122.
4ـ مقالات الإسلاميين 1/136.
5ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/154-155.(3/926)
في خيار هذه الأمة الذين هم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أولاً: الجارودية:
هم: "أتباع أبي الجارود زياد بن المنذر الكوفي المتوفى ما بين خمسين وستين بعد المائة"1 والذين اتبعوه في أفكاره وآرائه سموا جارودية لأنهم أخذوا بأقواله، وهم يعتقدون أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على "علي بن أبي طالب" بالوصف لا بالتسمية، فكان هو الإمام من بعده، وأن الناس ضلوا وكفروا بتركهم الاقتداء به بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم "الحسن" من بعد علي هو الإمام، ثم "الحسين" هو الإمام من بعد الحسن، وافترقت الجارودية فرقتين ـ في النص على الإمام الذي يكون بعد علي ـ فرقة: زعمت أن علياً نص على إمامة "الحسن" وأن الحسن نص على "الحسين" ثم هي شورى في ولد الحسن وولد الحسين فمن خرج منهم يدعو إلى سبيل ربه وكان عالماً فاضلاً فهو الإمام.
وفرقة: زعمت أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على "الحسن" بعد علي وعلى "الحسين" بعد الحسن، ليقوم واحد بعد واحد.
وافترقت الجارودية أيضاً في رجعته أئمتهم ثلاث فرق:
فزعمت فرقة أن "محمد بن عبد الله بن الحسن"2 لم يمت وأنه يخرج ويغلب.
وفرقة خرى: زعمت أن "محمد بن القاسم"3 صاحب الطالقان لم
__________
1ـ انظر تهذيب التهذيب 3/387.
2ـ هو: محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب المعروف بالنفس الزكية، قال عنه أبو الحسن الأشعري: "خرج بالمدينة وبويع له في الآفاق بعث إليه أبو جعفر المنصور بعيسى بن موسى وحميد بن قحطبة فحارب محمد حتى قتل. المقالات 1/154، وكان قتله سنة خمس وأربعين ومائة. راجع تهذيب التهذيب 9/252.
3ـ هو محمد بن القاسم بن علي بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، انظر ما جاء في شأن محمد هذا تاريخ الطبري 9/7-8، الكامل لابن الأثير 6/442-443.
??(3/927)
يمت وأنه يخرج ويغلب.
وفرقة قالت مثل ذلك في "يحيى بن عمر" صاحب الكوفة1.
ثانياً: السليمانية أو الجريرية:
هم: أتباع سليمان بن جرير الزيدي، وهذه الفرقة تعتقد: "أن الإمامة شورى وأنها تصلح بعقد رجلين من خيار المسلمين، وأنها قد تصلح في المفضول وإن كان الفاضل أفضل في كل حال ويثبتون إمامة الشيخين أبي بكر وعمر ـ وذكر ـ عن سليمان بن جرير أنه كان يزعم أن بيعة أبي بكر وعمر خطأ لا يستحقان عليها اسم الفسق من قبل التأويل وأن الأمة قد تركت الأصلح في بيعتهم إياهما"2.
وقد تجرأ سليمان بن جرير على الخليفة الثالث: عثمان رضي الله عنه حيث زعم "أنه كفر بسبب ما نقم عليه من الأحداث"3، كما تجرأ أيضاً: على القول بكفر "عائشة والزبير وطلحة رضي الله عنهم بإقدامهم على قتال علي رضي الله عنه"4.
ثالثاً: الصالحية أو البترية:
هم أتباع الحسن بن صالح بن حي5 وكثير...........
__________
1ـ مقالات الإسلاميين 1/141-142.
2ـ المصدر السابق 1/143.
3ـ انظر مقالات الإسلاميين 1/143، الفرق بين الفرق ص/33، الملل والنحل للشهرستاني 1/160.
4ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/160.
5ـ قال الحافظ: "الحسن بن صالح بن حي وهو حيان بن شفي الهمداني ثقة، فقيه، عابد، رمي بالتشيع من السابعة، مات سنة تسعة وتسعين وكان مولده سنة مائة. التقريب 1/167، وقال عبد القاهر البغدادي: وقد أخرج مسلم بن الحجاج حديث الحسن بن صالح بن حي في مسنده الصحيح، ولم يخرج محمد بن إسماعيل البخاري حديثه في الصحيح، ولكنه قال: في كتاب التاريخ الكبير. الحسن بن صالح بن حي الكوفي سمع سماك بن حرب، ومات سنة سبع وستين ومائة وهو من ثور(3/928)
النواء1، وإنما سموا "بترية" لأن "كثيراً" كان يلقب بالأبتر يزعمون أن علياً أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولاهم بالإمامة وأن بيعة أبي بكر وعمر ليست بخطأ لأن علياً ترك ذلك لهما ويقفون في عثمان وفي قتلته ولا يقدمون عليه بإكفار"2.
قال الرازي: "والصالحية أصحاب الحسن بن علي بن حي الفقيه كان يثبت إمامة أبي بكر وعمر ويفضل علي بن أبي طالب على سائر الصحابة إلا أنه توقف في عثمان وقال: إذا سمعنا ما ورد في حقه من الفضائل اعتقدنا إيمانه، وإذا رأينا أحداثه التي نقمت عليه وجب الحكم بفسقه، فتحيرنا في أمره وفوضنا إلى الله تعالى"أهـ3.
وقد اعتبر الشهرستاني: الصالحية أو البترية فرقتين مستقلتين حيث قال: "الصالحية أصحاب الحسن بن صالح بن حي، والبترية: أصحاب كثير النواء الأبتر وهما متفقتان في المذهب وقولهم في الإمامة كقول السليمانية إلا أنهم توقفوا في أمر عثمان، أهو مؤمن أم كافر؟، قالوا: إذا سمعنا الأخبار الواردة في حقه وكونه من العشرة المبشرين الجنة، قلنا: يجب أن نحكم بصحة إسلامه وإيمانه وكونه من أهل الجنة، وإذا رأينا الأحداث التي أحدثها من استهتاره بتربية بني أمية وبني مروان واستبداده بأمور لم توافق سيرة الصحابة قلنا يجب أن نحكم بكفره فتحيرنا في أمره، وتوقفنا في حاله ووكلناه إلى أحكم الحاكمين"4.
__________
= همدان وكنيته أبو عبد الله. الفرق بين الفرق ص/34، وقال أبو المظفر الإسفراييني: وقد أخرج مسلم بن الحجاج حديث الحسن بن صالح بن حي في المسند الصحيح لما أنه لم يعرف منه هذه الخصال فأجراه على ظاهره" أهـ. التبصير في الدين ص/29.
1ـ هو كثير بن إسماعيل، أو ابن نافع النواء بالتشديد أبو إسماعيل التميمي الكوفي ضعيف، من السادسة تقريب التهذيب 2/131.
2ـ مقالات الإسلاميين 1/144.
3ـ محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين من العلماء والحكماء والمتكلمين، ص/361.
4ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/161.(3/929)
فالصالحية أو البترية قولهم كقول سليمان بن جرير غير أنهم توقفوا في عثمان ولم يقدموا على ذمه ولا على مدحه، وهؤلاء ـ كما يقول البغدادي ـ "أحسن حالاً عند أهل السنة من أصحاب سليمان بن جرير"1.
وأبخس معتقد لفرقة الزيدية في الصحابة هو ما تعتقده الجارودية من كفر الشيخين2، وكذا ما تعتقده السليمانية من كفر عثمان بسبب ما نقم عليه من الأحداث على حسب زعمهم3 واعتقادهم كفر "عائشة والزبير وطلحة رضي الله عنهم بحجة إقدامهم على قتال علي رضي الله عنه"4.
وهذا المعتقد لفرقتي الجارودية والسليمانية في أولئك الأخيار باطل من وجهين:
الوجه الأول: أنه معاندة منهم للرب ـ جل وعلا ـ ولرسوله صلى الله عليه وسلم حيث شهد الله لجميع الصحابة في غير ما آية من كتابه العزيز بحقيقة الإيمان ورسوخه في قلوبهم، كما أخبر أنه رضي عنهم ورضوا عنه وأنه وعدهم جميعاً بالحسنى، وأولئك النفر الذين تكفرهم الجارودية والسليمانية من الزيدية في مقدمة من شرفهم الله بالثناء عليهم بتحقيق الإيمان، وشهد لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة، فلا يعتقد كفرهم أو يطعن فيهم بعد ذلك إلا معارض لله ولرسوله ومكذب لما أخبر الله ورسوله بما لهم من المكانة العظيمة والمنزلة الرفيعة في الدنيا والآخرة.
الوجه الثاني: لو تدبرت الجارودية والسليمانية ما اعتمدنا عليه في تكفير من تقدم ذكره من الصحابة لاستحيوا من ذكر ذلك، فالأحداث التي يزعمون أن عثمان كفر بها معظمها أكاذيب افتراها الخارجون عليه، وما صح منها كان
__________
1ـ الفرق بين الفرق ص/33-34.
2ـ الفرق بين الفرق ص/34.
3ـ انظر مقالات الإسلاميين 1/143.
4ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/160.(3/930)
مجتهداً فيها، وقد بينت فساد ما نقموا به على عثمان في مبحث مستقل من هذه الرسالة1 بما يشفي قلب كل من سلم من داء الرفض، وأما تكفيرهم عائشة والزبير وطلحة رضي الله عنهم بحجة أنهم خرجوا لمقاتلة علي، فهي حجة أوهى من بيت العنكبوت، وكذب عليهم، إذ أنهم لم يخرجوا لقتاله رضي الله عنه، ولا أعلنوا عدم طاعته ولا بايعوا بالخلافة غيره، وإنما خرجوا إلى البصرة لقصد الإصلاح وطلب إقامة الحد على قتلة عثمان "ولم يقصد علي رضي الله عنه قتالهم، بل أجابهم إلى ما طلبوا من إقامة الحد على أولئك الأشرار قتلة عثمان، ولما علم أولئك الفسقة أن الدائرة راجعة عليهم سعوا جادين في إنشاب القتال بين الفريقين فحمل كل فريق منهم دفعاً عن نفسه دون قصد منهم للقتال"2، وكذا اقتتالهم في صفين كان عن اجتهاد وتأويل، إذ أن معاوية: "لم يدع الخلافة ولم يبايع له فيها حين قاتل علياً ولم يقاتل على أنه خليفة، ولا أنه يستحق الخلافة ويقرون له بذلك، وكان هو يقر بذلك لمن يسأله، وما كان يرى هو وأصحابه أن يبتدئوا علياً وأصحابه بالقتال، بل لما رأى علي رضي الله تعالى عنه وأصحابه أنه يجب على معاوية وأصحابه طاعته ومبايعته إذ لا يكون للمسلمين إلا خليفة واحد وأنهم خارجون عن طاعته يمتنعون عن هذا الواجب وهم أهل شوكة رأى أن يقاتلهم حتى يؤدوا الواجب فتحصل الطاعة والجماعة، وقال معاوية وأصحابه: إن ذلك لا يجب عليهم، وأنهم إذا قوتلوا كانوا مظلومين، قالوا: لأن عثمان قتل مظلوماً باتفاق المسلمين، وقتلته في عسكر علي وهم غالبون لهم شوكة"3.
فالفتن التي جرت بين الصحابة رضي الله عنهم يجب أن يكون حظ العاقل منها حسن الظن بالصحابة رضوان الله عليهم أجمعين والسكوت عن الكلام فيهم إلا بخير والترضي عنهم جميعاً وموالاتهم ومحبتهم والجزم أنهم دائرون في اجتهاداتهم
__________
1ـ انظر ص/1050-1092 هذه الرسالة.
2ـ انظر الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم 2/85.
3ـ سؤال في معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه لشيخ الإسلام ابن تيمية ص/32-33.(3/931)
بين الأجر والأجرين، ولو سلك الجارودية والسليمانية من الزيدية هذا المسلك لما وقعوا في الاعتقاد الباطل فيمن تقدم ذكره من الصحابة ولما تنكبوا طريقة زيد بن علي في خيار الأمة، ومن شؤم معتقدهم السيء في أولئك الصفوة كان فتنة لهم حيث كفر بعضهم بعضاً، فقد قال عبد القاهر البغدادي: "هؤلاء البترية، والسليمانية من الزيدية كلهم يكفرون الجارودية من الزيدية، لإقرار الجارودية على تكفير أبي بكر وعمر، والجارودية يكفرون السليمانية والبترية لتركهما تكفير أبي بكر وعمر"1.
فهذه الفرق الثلاث المتقدم ذكرها تعتبر أهم فرق الشيعة الزيدية، وقد ذكر العلماء أن الزيدية افترقت إلى أكثر من ثلاث فرق.
فقد ذكر الإمام أبو الحسن الأشعري أن الزيدية ست فرق2.
وذكر المسعودي في كتابه "مروج الذهب" أن جماعة من مصنفي كتب المقالات والآراء والديانات من آراء الشيعة وغيرهم كأبي عيسى محمد بن هارون الوراق وغيره أن الزيدية كانت في عصرهم ثمان فرق"3 وعدها بأسمائها.
ولا تأثير لاختلاف العلماء في العدد، فمن اقتصر على الأصول منها ذكر أصولها الثلاث، ومن ذكر الأصول منها والفروع ذكر أنها أكثر من ثلاث فرق، والزيدية على اختلاف فرقهم ونحلهم يجتمعون على القول بأن الإمام بعد الرسول صلى الله عليه وسلم هو علي رضي الله عنه.
قال الرازي: "فالذي يجمعهم أن الإمام بعد الرسول عليه الصلاة والسلام علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالنص الخفي ثم الحسين، ثم كل فاطمي مستحق لشرائط الإمامة ودعا الخلق إلى نفسه شاهراً لسيفه على الظلمة"أهـ4.
__________
1ـ الفرق بين الفرق ص/34.
2ـ مقالات الإسلاميين 1/140.
3ـ مروج الذهب 3/192، وانظر الغنية لطالبي معفرة طريق الحق للجيلاني 1/89.
4ـ المحصل ص/360.(3/932)
وهذا الاعتقاد لم تكن تعرفه الزيدية الذين كانوا مع زيد بن علي حين خروجه وإنما كانوا يتولون الشيخين أبا بكر وعمر وكانوا يتبرءون ممن يبرأ منهما ولكن هذا الاعتقاد وما أصيبت به فرقة الزيدية التي حدثت بعد زيد بن علي رضي الله عنه من بغض للصحابة، ومن التحامل عليهم والقدح فيهم كل ذلك اكتسبوه وجاء إليهم من طريق الرافضة الذين رفضوا زيد بن علي حين خرج على هشام بن عبد الملك وخذلوه لما علموا وسمعوا أنه يتولى صديق الأمة وعمر الفاروق رضي الله عنهما، هنا أعلنوا مخالفته وخذلانه، وهو الذي أطلق عليهم اسم "الرافضة" ذلك أن زيداً رحمه الله لما رأى الخروج على هشام بن عبد الملك سنة اثنتين وعشرين ومائة بايعه على الإمامة "خمسة عشر ألف رجل من أهل الكوفة وخرج بهم علي والي العراق وهو يوسف بن عمر الثقفي عامل هشام بن عبد الملك على العراقين، فلما استمر القتال بينه وبين يوسف بن عمر الثقفي قالوا له: إنا ننصرك على أعدائك بعد أن تخبرنا برأيك في أبي بكر وعمر اللذين ظلما جدك علي بن أبي طالب، فقال زيد: إني لا أقول فيهما إلا خيراً، وإنما خرجت على بني أمية الذين قتلوا جدي الحسين، وأغاروا على المدينة يوم الحرة، ثم رموا بيت الله بحجر المنجنيق والنار1، ففارقوه عند ذلك حتى قال لهم: رفضتموني ومن يؤمئذ سموا الرافضة"2.
وقد روى الحافظ ابن عساكر بإسناده إلى عيسى بن يونس3 أنه سئل عن الزيدية والرافضة، فقال: أما الرافضة فأول ما ترفضت جاءت إلى زيد بن
__________
1ـ كان ذلك في أيام عبد الله بن مروان، إذ أرسل الحجاج بن يوسف الثقفي لحرب عبد الله بن الزبير في مكة فقذف الكعبة بالمنجنيق وقتل ابن الزبير وصلبه. انظر تاريخ الأمم والملوك 6/187، الكامل 4/350-351، البداية والنهاية 8/353.
2ـ الفرق بين الفرق ص/35-36.
3ـ هو: عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي أخو إسرائيل، كوفي نزل الشام، مرابط، ثقة، مأمون، من الثالثة، مات سنة سبع وثمانين وقيل سنة إحدى وتسعين. التقريب 2/103، تهذيب التهذيب 8/237.(3/933)
علي حيث خرج، فقالوا: تبرأ من أبي بكر وعمر حتى نكون معك، فقال: بل أتولاهما وأبرأ ممن يبرأ منهما، قالوا: فإذن نرفضك فسميت الرافضة، وأما الزيدية فقالوا: نتولاهما ونبرأ ممن يتبرأ منهما، فخرجوا معه فسموا الزيدية1.
فالشيعة الزيدية الذين ينتسبون إلى زيد بن علي معتقدهم في الصحابة مشتمل على صواب وخطأ، والصواب فيه أنهم يتولون الشيخين أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، ويقولون: بتعديلهما، والخطأ فيه أنهم يقولون: إن علياً رضي الله عنه أفضل الصحابة، ويقولون بتقديمه على الشيخين مع أن علياً رضي الله عنه صرح للأمة جمعاء أن أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق ثم عمر الفاروق2، بل وتوعد رضي الله عنه من جيء به إليه وهو يقول بتفضيله عليهما أن يحده حد المفتري3، ولم يخالفه أحد ممن كان معه على هذا المعتقد، فقد كان المتقدمون من الشيعة الذين كانوا معه يقدمون عليه أبا بكر وعمر ويعتقدون ذلك كما كان يعتقده هو رضي الله عنه"4.
وقال الحافظ ابن كثير بعد أن ذكر أن الزيدية هم الذين تابعوا زيد بن علي، قال: "وفي مذهبهم حق وهو تعدليهم الشيخين، وباطل وهو: اعتقاد تقديم علي عليهما، وليس علي مقدماً عليهما بل ولا عثمان على أصح قولي أهل السنة"5.
قلت: ليت الزيدية اقتصروا على ما ذكره الحافظ ابن كثير، وإنما تجاوزوا ذلك حيث ابتلوا بالتحامل على طائفة من فضلاء الصحابة كأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وأبي موسى الأشعري،
__________
1ـ تهذيب تاريخ دمشق 16/21-22، فوات الوفيات 2/36.
2ـ انظر صحيح البخاري 2/291.
3ـ انظر تلبيس إبليس لابن الجوزي ص/101.
4ـ انظر منهاج السنة 1/171، وانظر مجموع الفتاوى 13/34.
5ـ البداية والنهاية 9/371.(3/934)
وعمرو بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان، وغيرهم، وذلك لأنهم تنكبوا طريقة زيد بن علي في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان رحمه الله أحد أئمة أهل السنة والجماعة، وكان يتولى جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتبرأ ممن لم يتولهم ولم يعرف لهم قدرهم ويحفظ لهم مكانتهم، وبسبب ذلك رفضته جماعة ممن كانوا معه في زمنه لما علموا أن عقيدته في الصحابة هي عقيدة أهل السنة والجماعة، نقضوا ما عاهدوه عليه فلم ينصروه بل تركوه وشهدوا عليه وعلى من اتبعه على رأيه من الزيدية بالكفر والفسق.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض بيانه أن زيداً رحمه الله كان من أهل السنة والجماعة "فليست ذرية فاطمة كلهم محرمين على النار، بل منهم البر والفاجر والرافضة تشهد على كثير منهم بالكفر والفسق، وهم أهل السنة منهم الموالون لأبي بكر وعمر كزيد بن علي بن الحسين بن علي وأمثاله من ذرية فاطمة رضي الله عنها، فإن الرافضة رفضوا زيد بن علي ومن والاه وشهدوا عليه بالكفر والفسق"1.
فالرفض لم يظهر إلا حين خروج زيد بن علي بن الحسين بعد المائة الأولى، لما أظهر الترحم على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما رفضته الرافضة "فسموا" رافضة واعتقدوا أن أبا جعفر هو الإمام المعصوم واتبعه آخرون فسموا زيدية نسبة إليه2.
وإلى ذكر طائفة من أقوال الإمام زيد بن علي في الخلفاء الراشدين لنبين أنه أحد أهل السنة والجماعة، وليعلم من فرط في حق الصحابة ممن انتسب إليه أنه مجانب لطريقته وأن عليه أن يراجع ما كان عليه زيد رحمه الله ليتدارك ما وقع فيه من الزلل.
فأقول: قد أخطأ من نسب إلى زيد رحمه الله أنه كان يرى أن علياً
__________
1ـ منهاج السنة 2/126، وانظر المنتقى من منهاج الاعتدال للذهبي ص/172.
2ـ مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 28/490.(3/935)
رضي الله عنه أفضل من الشيخين، وأنه كان يجوز إمامتها على أساس القول بجواز إمامة المفضول مع وجود الأفضل1، بل الثابت عنه أنه كان يعتقد أنهما الأفضل وأنهما كانا يستحقان الإمامة بذلك الفضل.
فقد روى الحافظ ابن عساكر عن آدم بن عبد الله الخثعمي وكان من أصحاب زيد، قال: سألت زيداً عن قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} من هؤلاء؟ قال: أبو بكر وعمر، ثم قال: لا أنالني الله شفاعة جدي إن لم أوالهما.
وذكر عن كثير الكوفي، أنه قال: سألت زيداً عن أبي بكر وعمر فقال: "تولهما"، فقلت له: كيف تقول فيمن تبرأ منهما؟ قال: "ابرأ منه حتى تموت"2.
وقال الذهبي رحمه الله تعالى: "وروى هاشم بن البريد عن زيد بن علي قال: كان أبو بكر رضي الله عنه إمام الشاكرين، ثم تلا {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} 3 ثم قال: "البراءة من أبي بكر هي البراءة من علي"4.
ومن هذه النصوص عن زيد رحمه الله تعالى يتبين أنه كان يعرف للشيخين قدرهما ومالهما من المنزلة العظيمة، إذ لا شك أن السبق في الإسلام والقرب من الباري جل وعلا ـ وشكره من أعلا مراتب الفضل للشيخين رضي الله عنهما.
وقد صرح زيد رحمه الله أنه متبع لأهل بيته الذين كانوا قبله فيما يعتقدونه نحو الشيخين من إثبات الأفضلية لهما وأحقية إمامتهما.
__________
1ـ انظر الملل والنحل للشهرستاني 1/155، مقالات الإسلاميين 1/137.
2ـ تهذيب تاريخ دمشق 6/21، فوات الوفيات 2/36.
3ـ سورة آل عمران آية/144.
4ـ سير أعلام النبلاء 5/390.(3/936)
فقد ذكر ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى: "أنه عندما حصل الطعن في زمنه من الرافضة على أبي بكر وعمر منعهم من ذلك، وقال لهم: "ما سمعت أحداً من أهل بيتي يذكرهما إلا بخير"1.
وقد روى البخاري رحمه الله تعالى بإسناده إلى محمد بن علي بن أبي طالب قال: قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أبو بكر، قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر، وخشيت أن يقول عثمان، قلت: ثم أنت؟، قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين2.
ومن هذا يتبين أنه يبعد جداً أن زيداً رحمه الله يقول: إنه متبع لأهل بيته ويخالف جده علياً رضي الله عنه، الذي يعتبر مقدم أهل البيت في هذا القول، بل إن متقدمي الشيعة كانوا لا يختلفون في تفضيل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ولم يخالفوا علياً في تصريحه بأفضلية الشيخين.
قال شريك بن عبد الله: "إن أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر، فقيل له: أتقول هذا وأنت من الشيعة؟ فقال: كل الشيعة كانوا على هذا، وهذا الذي قاله على أعواد منبره، أفنكذبه فيما قال"3.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وكانت الشيعة أصحاب علي يقدمون عليه أبا بكر وعمر وإنما كان النزاع في تقدمه على عثمان"4.
فإذا كانت الشيعة الأوائل تقول هذا وتعتقده فمن باب أولى أن يقول به زيد إذ هو أحد أهل السنة والجماعة الذين يعتقدون أفضلية الخلفاء الراشدين على حسب ترتيبهم في الخلافة.
__________
1ـ تاريخ الأمم والملوك 7/180.
2ـ صحيح البخاري 2/291.
3ـ مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 13/34.
4ـ منهاج السنة 1/171، وانظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 13/35-36.(3/937)
وقد نقل البيهقي عن الإمام الشافعي إجماع الصحابة والتابعين على أفضلية أبي بكر وعمر رضي الله عنهما على سائر الصحابة حيث قال: "لم يختلف أحد من الصحابة والتابعين في تفضيل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وتقديمهما على جميع الصحابة"1.
وقد أيد هذا الإجماع شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله بعد ذكره له: "وما علمت من نقل عنه في ذلك نزاع من أهل الفتيا إلا ما نقل عن الحسن بن صالح بن حي أنه كان يفضل علياً، وقيل: إن هذا كذب عليه، ولو صح هذا عنه لم يقدح فيما نقله الشافعي رضي الله عنه من الإجماع، فالحسن بن صالح بن حي لم يكن من الصحابة ولا التابعين2.
أما زيد بن علي رحمه الله تعالى فهو أحد التابعين، وبذلك يكون رأيه هو رأيهم، وهو أن الشيخين أفضل الصحابة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ينقل عن زيد أنه خرق هذا الإجماع أو خالفه، بل لم ينقل عن أحد من أهل البيت رضوان الله عليهم مخالفة الإجماع.
فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "والنقل الثابت عن جميع علماء أهل البيت من بني هاشم من التابعين وتابعيهم من ولد الحسين بن علي وولد الحسن وغيرهما، أنهم كانوا يتولون أبا بكر وعمر، وكانوا يفضلونهما على علي والنقول عنهم ثابتة متواترة"أهـ3.
وزيد بن علي رحمه الله تعالى واحد من علماء أهل بيت النبوة الذين يعتقدون صحة هذا الإجماع ويقولون به، إذ هو من أبناء الحسين بن علي ومن فضلاء التابعين رحمة الله عليهم أجمعين.
__________
1ـ ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة 4/77.
2ـ ذكره شيخ الإسلام في منهاج السنة 4/77.
3ـ المصدر السابق 4/105.(3/938)
فالذي يتضح مما تقدم ذكره أن الإمام زيد بن علي كان يرى أن أفضل الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر، ثم عمر، ولم يقل إن علياً أفضل الصحابة رضي الله عنهم، وإنما كان مقتفياً ما كان عليه أهل بيته وفي مقدمتهم أبو الحسن علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي أعلن للأمة المحمدية أن أفضل الناس بعد المصطفى صلى الله عليه وسلم الصديق، ثم الفاروق، وعلى هذا المعتقد تتابع علماء أهل البيت قاطبة، ولم يشذ أحد منهم عن هذه العقيدة.
ومما تجدر الإشارة إليه أن موقف زيد بن علي من الخليفة الثالث ذي النورين عثمان لم يختلف عن موقفه من أبي بكر وعمر، وإنما كان موالياً لعثمان مترضياً عليه، رافضاً للبراءة منه، بل كان يقرنه بأبي بكر وعمر وعلي، ولم يكن متوقفاً فيه كما يرى ذلك بعض المتأخرين1.
فقد روى الخطيب البغدادي بإسناده إلى زيد رحمه الله أنه قال: "البراءة من أبي بكر وعمر وعثمان البراءة من علي والبراءة من علي البراءة من أبي بكر وعمر وعثمان"2.
وروى الحافظ ابن عساكر بإسناده إلى السدي، قال: أتيته ـ أي زيد ـ وهو في بارق حي من أحياء الكوفة، فقلت له: أنتم سادتنا، وأنتم ولاة أمورنا فما تقول في أبي بكر وعمر؟، فقال: تولهما، وكان يقول: البراءة من أبي بكر وعمر وعثمان البراءة من علي، والبراءة من علي البراءة من أبي بكر وعمر وعثمان، وفي رواية: البراءة من أبي بكر وعمر البراءة من علي، فإن شئت فتقدم، وإن شئت فتأخر"3.
وقال محمود شكري الألوسي في صدد ذكره للقاء زيد بن علي بمن أراد
__________
1ـ ذكر هذا أبو زهرة في كتابه "الإمام زيد" ص/189، ولم يذكر له سلفاً في هذا القول.
2ـ تاريخ بغداد 2/89.
3ـ تهذيب تاريخ دمشق 6/21.(3/939)
قتالهم "فلما جد الأمر وحان القتال أنكروا إمامته بسبب أنه لم يتبرأ من الخلفاء الثلاثة، فتركوه في أيدي الأعداء ودخلوا به الكوفة واستشهد وعاد رزء الحسين وكنا بواحد فصرنا باثنين"أهـ1.
وبما رواه الخطيب البغدادي وابن عساكر وما قاله الألوسي تبين أن الإمام زيد بن علي لم يختلف موقفه في عثمان عن موقفه من أبي بكر وعمر، فقد كان رحمه الله مثبتاً فضل الخلفاء الراشدين الذين كانوا قبل علي رضي الله عنه وكان موالياً ومنكراً غاية الإنكار على من حاول الإزراء بهم والحط من قدرهم وأنه كان يرتبهم في الفضل على حسب ترتيبهم في الخلافة.
وبعد أن حصل التمييز بين رأي زيد رحمه الله وبين رأي المنتسبين إليه من الفرق في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اتضح لنا أن موقف زيد بن علي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هو موقف أهل السنة والجماعة ومعتقدهم، ولم يخرج عنه قيد أنملة، وقد تبرأ رحمه الله من كل من لم يوال الخلفاء الثلاثة وأوصى غيره بأن يتبرأ ممن يتبرأ من الشيخين حتى الموت كما تقدم قريباً في جوابه على سؤال كثير الكوفي في ذلك وبناء على ما ثبت عنه في ذلك فإنه بريء كل البراءة من الجارودية المعتقدين كفر وضلال الناس بناء على حجتهم التي هي أوهى من بيت العنكبوت، وهي دعواهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم نص على علي بالوصف لا بالتسمية وتركوا الاقتداء به، إذ هو الإمام من بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا الاعتقاد زيد بريء منه وأعلن البراءة من معتقديه قبل وجودهم، كما هو بريء رحمه الله من السليمانية الذين يعتقدون كفر عثمان بسبب ما نقم عليه وكفر أم المؤمنين عائشة والزبير وطلحة بحجة أنهم أقدموا على قتال علي.
وكذا هو بريء من فرقة الصالحية الذين يعتقدون بأن علياً رضي الله عنه أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه الأولى بالإمامة بعده، ويقولون إنهم
__________
1ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/63.(3/940)
متوقفون في عثمان وفي قاتليه الظلمة، فزيد بن علي رضي الله عنه بريء من معتقدات الفرق المتقدم ذكرها في الصحابة، وأن معتقداتهم الخاطئة في الصحابة اكتسبوها من الرافضة الذين هم من أشد الناس عداوة لزيد بن علي رحمه الله تعالى ورضي عنه، فالذين يخالفون زيداً في عقيدته في الصحابة الكرام رضي الله عنهم ويدعون أنهم زيدية هؤلاء ليس لهم مما كان عليه زيد إلا مجرد النسبة، وإنما يقال لهم زيدية لكونهم قالوا: "بإمامة زيد بن علي بن الحسين بن علي في وقته وإمامة ابنه يحيى بن زيد في وقته"1.
ولم يتبرأ زيد بن علي رحمه الله تعالى ممن خالف عقيدته في الصحابة وحده فحسب، بل إن من المنتسبين إليه حقيقة تبرأ من كل أحد ادعى أنه زيدي، وخالف معتقد زيد في الصحابة، ونذكر من ذلك كلام أحد كبار أئمة الزيدية في اليمن، وهو الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة2، فقد ذكر يحيى بن أبي بكر العامري في كتابه "الرياض المستطابة" أنه وقف على كلام للإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة في كتاب له اسمه "جواب المسائل التهامية" قال: "فإنه رضي الله عنه أثنى عليهم على الإجمال وعدد مزاياهم على غيرهم" ثم قال: "فهم خير الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبعده فرضي الله عنهم وجزاهم عن الإسلام خيراً ثم قال: فهذا مذهبنا لم نخرجه غلطة ولم نكتم سواه تقية، ومن هو دوننا مكاناً وقدرة يسب ويلعن ويذم ويطعن ونحن إلى الله ـ سبحانه ـ من فعله براء، وهذا ما يفضي به علم آبائنا منا إلى علي كرم الله وجهه.. إلى قوله: "وفي هذه الجهة من يرى محض الولاء سب الصحابة
__________
1ـ التبصير في الدين للإسفراييني ص/29، وانظر الفرق بين الفرق ص/34-35.
2ـ هو عبد الله بن حمزة بن سليمان بن حمزة أحد أئمة الزيدية في اليمن ومن علمائهم وشعرائهم، بويع له سنة ثلاث وتسعيين وخمسمائة، واستولى على صنعاء والزمار، وكانت وفاته سنة أربعة عشر وستمائة هجرية. انظر ترجمته في كتاب بلوغ المرام في شرح مسك الختام في من تولى ملك اليمن من ملك وإمام، ص/43، الأعلام للزركلي 4/213.(3/941)
رضي الله عنهم والبراء منهم، فيبرأ من محمد صلى الله عليه وآله وسلم من حيث لا يعلم، وأنشد:
وإن كنت لا أرمي وترمي كنانتي ... تصب جائحات النبل كشحي ومنكبي1
ففي كلام هذا الإمام بيان واضح أن من كان صادقاً في انتسابه إلى مذهب زيد أنه يترضى على الصحابة عموماً، ويواليهم جميعاً ولا يتوقف في أحد منهم وأن من لم يكن على هذا فهو خارج عن مذهب زيد رحمه الله تعالى، ومجانب لطريقة أهل البيت جميعاً وأن من سل لسانه بالسب لخيار الأمة وتبرأ منهم فقد بريء من محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم من حيث لا يشعر.
ومما هو جدير بالتنبيه عليه أن الإمام زيد بن علي رحمه الله تعالى لم يكن يرى حصر الإمامة في أولاد فاطمة، ولم يكن خروجه على هشام بن عبد الملك من أجل المطالبة بحق أهل البيت في الإمامة كما تعتقده الرافضة، وإنما كان خروجه من أجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان أيضاً رحمه الله متأولاً في خروجه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن زيد بن علي بن الحسين لما خرج في خلافة هشام وطلب الأمر لنفسه كان ممن يتولى أبا بكر وعمر فلم يكن قتاله على قاعدة من قواعد الإمامة التي يقولها الرافضة"أهـ2، وأهم قاعدة لدى الرافضة هي حصر الإمامة في أهل البيت.
وقال الذهبي رحمه الله تعالى مبيناً الدافع لخروج الإمام زيد على هشام بن عبد الملك: "خرج متأولاً وقتل شهيداً وليته لم يخرج"أهـ3.
ومما يجدر التنبيه عليه أيضاً: أن الإمام زيد بن علي لم يكن منكراً على
__________
1ـ الرياض المستطابة ص/300.
2ـ منهاج السنة 3/227.
3ـ سير أعلام النبلاء 5/391.(3/942)
الشيعة الإمامية معتقدهم السيء في الصحابة فحسب، بل كان منكراً لجميع معتقداتهم المنكرة من القول بالعصمة والمهدية والرجعة والتقية للإمام ونسبة العلم اللدني إليه1.
ولا يلتفت إلى ما رواه الحافظ ابن عساكر بإسناده إلى زيد بن علي أنه كان يقول: "المعصومون منا خمسة: رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين"2، فعند الرجوع إلى سند هذه الرواية اتضح عدم صحة سندها إلى زيد بن علي رحمه الله تعالى، حيث إن فيها محمد بن عمر الجعابي3 وهاشم بن البريد4 وهما شيعيان، ومما هو معلوم ومقرر عند علماء مصطلح الحديث أن الثقة صاحب البدعة مقبول الحديث "إلا إن روى ما يقوي بدعته، فيرد على المختار"5، ورواية هذين هنا من هذا القبيل فترد.
فزيد رحمه الله أحد أهل السنة والجماعة وأهل السنة لا يعتقدون ولا يقولون بعصمة أحد غير النبي صلى الله عليه وسلم، وإنكار زيد للمعتقدات التي ابتلي بها الشيعة الإمامية أثبته الزيدية والإمامية معاً.
قال الدهلوي: "وكان زيد بن علي منكراً لجميع معتقدات الإمامية كما روى الزيدية والإمامية معاً إنكاره"6.
4- الشيعة الاثنا عشرية:
تعتبر الشيعة الاثنا عشرية أكثر فرق الشيعة انتشاراً في هذا الزمن ويليهم في هذا الزيدية، ثم الإسماعيلية، فالنصيرية.
__________
1ـ انظر كتاب الإمام زيد المفترى عليه ص/231-239.
2ـ تهذيب تاريخ دمشق الكبير 6/22.
3ـ قال عنه الخطيب البغدادي: "كان كثير الغرائب ومذهبه في التشيع معروف"أهـ تاريخ بغداد 3/26.
4ـ قال عنه الإمام أحمد: "ثقة وفيه تشيع قليل". وقال عنه العجلي: "كوفي ثقة إلا أنه يترفض". تهذيب التهذيب 10/17.
5ـ نزهة النظر ص/51.
6ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/198.(3/943)
وللشيعة الاثنا عشرية أسماء كثيرة تميزوا بها بين الناس، ومن تلك الأسماء أنه يطلق عليهم اسم: "الإمامية" لكونهم يقولون بوجوب الإمامة بالنص الظاهر والتعيين الصادق.
قال الشهرستاني: الإمامية هم القائلون بإمامة علي رضي الله عنه بعد النبي عليه الصلاة والسلام نصاً ظاهراً وتعييناً صادقاً من غير تعريض بالوصف، بل إشارة إليه بالعين، قالوا: وما كان في الدين والإسلام أمر أهم من تعيين الإمام حتى تكون مفارقته الدنيا على فراغ قلب من أمر الأمة، فإنه إنما بعث لرفع الخلاف وتقرير الوفاق، فلا يجوز أن يفارق الأمة ويتركهم هملاً، يرى كل واحد منهم رأياً ويسلك كل واحد منهم طريقاً لا يوافقه في ذلك غيره، بل يجب أن يعين شخصاً هو المرجوع إليه، وينص على واحد هو الموثوق به والمعول عليه1.
ويطلق عليهم: "الجعفرية" لادعائهم أن مذهبهم هو مذهب جعفر الصادق، ومن أسمائهم التي عرفوا بها اسم "الرافضة"، وهم يكرهون إطلاق هذا الاسم عليهم.
قال صاحب كتاب "أعيان الشيعة" إن هذا الاسم: "لقب ينبز به من يقدم علياً عليه السلام في الخلافة، وأكثر ما يستعمل للتشفي والانتقام"2.
لكن ذكر الكليني رواية في كتابه "الكافي" ما يدل على أنهم راضون بهذا اللقب، ويفترون على الله أنه خلع عليهم هذا الاسم:
قال الكليني: عن عدة من أصحابنا عن سهل بن زياد عن محمد بن
__________
1ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/162، وانظر دعوة الشيعة في التنصيص بالإمامة على علي وغيره من الأئمة الاثنى عشر. الطرائف في معرفة مذهب الطوائف 1/172-178، الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم للعاملي 2/1-40، حق اليقين في معرفة أصول الدين لعبد الله شبر 1/141-144.
2ـ أعيان الشيعة لمحسن الأمين 1/20.(3/944)
سليمان عن أبيه، قال: كنت عند أبي عبد الله "ع" إذ دخل عليه أبو بصير وقد خفره1 النفس، فلما أخذ مجلسه قال أبو عبد الله عليه السلام يا أبا محمد ما هذا النفس العالي؟، قال: جعلت فداك يا ابن رسول الله كبر سني ودق عظمي واقترب أجلي مع أنني لست أدري ما أرد عليه من أمر آخرتي، فقال أبو عبد الله عليه السلام: يا أبا محمد وإنك لتقول هذا؟ قال: جعلت فداك وكيف لا أقول هذا؟ فقال: يا أبا محمد أما علمت أن الله تعالى يكرم الشباب منكم ويستحي من الكهول، قال: قلت: جعلت فدائك فكيف يكرم الشباب ويستحي من الكهول؟، فقال: يكرم الله الشباب أن يعذبهم ويستحي من الكهول أن يحاسبهم، قال: قلت: جعلت فداك هذا لنا خاصة أم لأهل التوحيد؟ قال: فقال: لا والله إلا لكم خاصة دون العالم، قال: قلت: جعلت فداك فإنا قد نبزنا نبزاً انكسرت له ظهورنا، وماتت له أفئدتنا واستحلت له الولاة دماءنا في حديث رواه لهم فقهاؤهم، قال: فقال أبو عبد الله عليه السلام: الرافضة؟ قال: قلت نعم، قال لا والله ما هم سموكم، ولكن الله سماكم به، أما علمت يا أبا محمد أن سبعين رجلاً من بني إسرائيل رفضوا فرعون وقومه لما استبان لهم ضلالهم فلحقوا بموسى عليه السلام لما استبان لهم هداه فسموا في عسكر موسى الرافضة لأنهم رفضوا فرعون، وكانوا أشد أهل ذلك العسكر عبادة، وأشدهم حباً لموسى وهارون وذريتهما عليهما السلام، فأوحى الله ـ عز وجل ـ إلى موسى عليه السلام أن اثبت لهم هذا الاسم في التوراة، فإني قد سميتهم به ونحلتهم إياه، فأثبت موسى عليه السلام الاسم لهم، ثم ذخر الله ـ عز وجل ـ لكم هذا الاسم حتى نحلكموه يا أبا محمد رفضوا الخير ورفضتم الشر2.
هذا غاية في الوقاحة وغاية في عدم المبالاة بالافتراء على الله وعلى خلقه
__________
1ـ كذا في الكافي، ولعلها "حفزه".
2ـ فروع الكافي 8/28، حديث رقم 6 من كتاب الروضة.(3/945)
وقد تقدم معنا أن الذي سماهم بهذا الاسم هو الإمام زيد بن علي رحمه الله تعالى لما اختبروه في عقيدته في الشيخين فأخبرهم أنه يتولاهما ويبرأ ممن يتبرأ منهما عند ذلك رفضوه، ورفضوا خلافة الشيخين رضي الله عنهما فسماهم "الرافضة".
قال أبو الحسن الأشعري رحمه الله تعالى: "وإنما سموا الرافضة لرفضهم إمامة أبي بكر وعمر"أهـ1.
ومن الأسماء التي اشتهروا بها اسم "الاثنى عشرية" لقولهم واعتقادهم بإمامة اثنى عشر إماماً وهم على هذا الترتيب عندهم:
1- أبو الحسن علي بن أبي طالب رضي الله عنه "23 ق. هـ ـ 40هـ"
2- الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه "3 – 50هـ"
3- الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه "4- 61هـ "
4- علي زين العابدين بن الحسين بن علي "38 – 95هـ"
5- محمد الباقر بن علي "57 – 114هـ"
6- جعفر الصادق بن محمد "83 – 148هـ "
7- موسى الكاظم بن جعفر. "128 – 183هـ"
8- علي بن موسى الرضا. "148 – 203هـ"
9- أبو جعفر محمد بن علي الجواد "195 – 220هـ"
10- أبو الحسن علي بن محمد "الهادي" "212 – 254هـ"
11- أبو محمد الحسن بن علي "العسكري" "232 – 260هـ"
12- أبو القاسم محمد بن الحسن "المهدي" "256 – 000"2.
هؤلاء هم الأئمة الاثنى عشر عند الشيعة الإمامية وللشيعة في هؤلاء الأئمة
__________
1ـ مقالات الإسلاميين 1/89.
2ـ انظر كتاب الإرشاد للمفيد، وانظر عقائد الإمامية لمحمد رضا المصفر ص/62-63، الأنوار الوضية في العقائد الرضوية ص/44-47، وانظر كتاب عيون المعجزات لحسين عبد الوهاب، ص/18-146.(3/946)
وأنه لا يخفى عليهم الشيء1، "باب أن الله لم يعلِّم نبيه علماً إلا أمره أن يعلمه أمير المؤمنين وأنه كان شريكه في العلم"2، "باب أن الأئمة لو ستر عليهم لأخبروا كل امريء بما له وعليه"3، "باب أن الإمام يعرف الإمام الذي يكون من بعده"4، "باب في أن الأئمة إذا ظهر أمرهم حكموا بحكم داود وآل داود ولا يسألون البينة"5، "باب أنه ليس شيء من الحق في أيدي الناس إلا ما خرج من عند الأئمة وأن كل شيء لم يخرج من عندهم فهو باطل6.
ثانياً: قول المجلسي الذي يعد من كبار علمائهم، فقد قال: "وبالجملة لا بد لنا من الإذعان بعدم كونهم ـ أي الأئمة ـ أنبياء وأنهم أفضل وأشرف من جميع الأنبياء سوى نبينا صلى الله عليه وسلم ومن سائر الأولياء ولا نعرف سبباً لعدم اتصافهم بالنبوة إلا رعاية جلالة خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم ولا تصل عقولنا إلى فرق بين النبوة والإمامة"7.
ومن هنا يزعمون أن عصمة الأئمة فوق عصمة الأنبياء، لأنهم أعلا درجة منهم"8.
ثالثاً: قول زعيم الشيعة في هذا العصر، ومرجعهم الأعلى وآيتهم العظمى وهو الخميني، فقد قال في كتابه الحكومة الإسلامية الذي هو عبارة عن دروس فقهية ألقاها على طلاب علوم الدين في النجف، قال: "فإن للإمام مقاماً محموداً
__________
1ـ الأصول من الكافي 1/260.
2ـ الأصول من الكافي 1/263.
3ـ الأصول من الكافي 1/264.
4ـ الأصول من الكافي 1/276.
5ـ الأصول من الكافي 1/397.
6ـ الأصول من الكافي 1/399.
7ـ مرآة العقول للمجلسي 2/289، وانظر حق اليقين لعبد الله شبر 1/209.
8ـ انظر مجمع النورين وملتقى البحرين لأبي الحسن النجفي ص/17.(3/948)
ودرجة سامية وخلافة تكوينية تخضع لولايتها جميع ذرات هذا الكون، وإن من ضروريات مذهبنا أن لأئمتنا مقاماً لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل ـ إلى أن قال ـ وقد ورد عنهم أن لنا مع الله حالات لا يسعها ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ومثل هذه المنزلة موجودة لفاطمة الزهراء عليها السلام لا بمعنى أنها خليفة أو حاكمة أو قاضية، فهذه المنزلة شيء آخر وراء الولاية والخلافة والإمرة، وحين نقول: إن فاطمة "ع" لم تكن قاضية أو حاكمة أو خليفة، فليس يعني ذلك تجردها عن تلك المنزلة المقربة كما لا يعني ذلك أنها امرأة عادية من أمثال ما عندنا"أهـ1.
هذه ثلاثة نماذج تبين ما وصل إليه الرافضة من الغلو الممقوت في الأئمة الاثنى عشر، فقد غلوا فيهم بما يباين المعقول، ويخالف المنقول ويناقض الأصول، والأئمة الذين قالوا فيهم ما تقدم ذكره وما لم يذكر هنا هم منه براء، وهم بريئون أيضاً ممن تقوله لهم، أو عليهم، فأهل البيت رضوان الله عليهم ما ورد لهم من الفضل محفوظ في كتاب الله تعالى وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد بين الله ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ منزلتهم التي يستحقونها، علم ذلك أهل العلم والإيمان من أهل السنة والجماعة وتنكب ذلك من أشرب قلبه بالغلو واطمأن إلى الروايات المختلقة المكذوبة من الشيعة الرافضة، فلم يعرفوا لهم مكانتهم، ولم ينزلوهم منزلتهم، بل نسبوا إليهم ما يشينهم.
ولم يعرف ما لهؤلاء الأئمة من الحق والكريم وإنزالهم منزلتهم التي يستحقونها إلا أهل السنة والجماعة، فقد قال الإمام الذهبي رحمه الله تعالى مبيناً عقيدة أهل الحق فيهم: "فمولانا الإمام علي: من الخلفاء الراشدين المشهود لهم بالجنة رضي الله عنه، نحبه أشد الحب ولا ندعي عصمته ولا عصمة أبي بكر الصديق، وابناه الحسن والحسين: فسبطا رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيدا شباب أهل الجنة،
__________
1ـ الحكومة الإسلامية ص/52-53.(3/949)
لو استخلفا لكانا أهلاً لذلك.
وزين العابدين كبير القدر من سادة العلماء العاملين يصلح للإمامة.
وكذلك ابنه أبو جعفر الباقر سيد إمام فقيه يصلح للخلافة.
وكذلك ولده جعفر الصادق: كبير الشأن من أئمة العلم، كان أولى بالأمر من أبي جعفر.
وكان ولده موسى: كبير القدر، جيد العلم، أولى بالخلافة من هارون وله نظراء في الشرف والفضل.
وابنه علي بن موسى الرضا: كبير الشأن له علم وبيان ووقع في النفوس صيره المأمون ولي عهده لجلالته، فتوفي سنة ثلاث ومائتين.
وابنه محمد الجواد: من سادة قومه، لم يبلغ رتبة آبائه في العلم والفقه.
وكذلك ولده الملقب بالهادي: شريف جليل.
وكذلك ابنه الحسن بن علي العسكري رحمهم الله تعالى 1.
وأما عن الإمام الثاني عشر، فقال فيه: "ومحمد هذا هو الذي يزعمون أنه الخلف الحجة وأنه صاحب الزمان، وأنه صاحب الزمان، وأنه صاحب السرداب بسامراء وأنه حي لا يموت حتى يخرج فيملأ الأرض عدلاً وقسطاً، كما ملئت ظلماً وجوراً، فوددنا ذلك ـ والله ـ وهم في انتظاره من أربع مئة وسبعين سنة 2 ومن أحالك على غائب لم ينصفك، فكيف بمن أحال على مستحيل؟ والإنصاف عزيز فنعوذ بالله من الجهل والهوى" 3.
وبعد التعريف بأهم فرق الشيعة كما تقدم نقول إن الشيعة الإمامية طعنوا على الصحابة الكرام بمطاعن قبيحة لم يسبقهم إليها أحد من العالمين كما سنرى ذلك في المباحث الآتية:-
__________
1ـ سير أعلام النبلاء 13/120-121.
2 ـ المراد زمان الذهبي المتوفى سنة 748هـ.
3 ـ سير أعلام النبلاء 13/120.(3/950)
المبحث الثالث: التعريف بأهم فرق الشيعة
...
معتقدات كلها غلو وإطراء اختلقوها لهم من عند أنفسهم ومن معتقداتهم فيهم أنهم معصومون "من جميع الرذائل والفواحش ما ظهر منها وما بطن من سن الطفولة إلى الموت عمداً وسهواً، كما يجب أن يكونوا معصومين من السهو والخطأ والنسيان لأن الأئمة حفظة الشرع والقوامون عليه حالهم في ذلك حال النبي"1، ثم لم يقتصروا على هذا المعتقد فيهم بل تجاوزوه ووصفوهم بصفات تجاوزوا فيها الحدود، ويكفينا منها هنا على سبيل المثال كلام ثلاثة أشخاص منهم:
أولهم: الكليني مؤلف كتاب الكافي، وهو أعظم كتاب عندهم إذ هو بمنزلة صحيح البخاري عند أهل السنة، فقد عقد في هذا الكتاب المسمى "أصول الكافي" عدة أبواب أورد فيها أحاديث من أحاديثهم كلها تضمنت غلوهم الممقوت في أولئك الأئمة، ونكتفي بذكر طائفة من تلك الأبواب للعلم بمدى ما وصل إليه الرافضة من السقوط بسبب الغلو الذي كان سبباً في هلاك الماضين من الأمم، وتلك الأبواب هي:
"باب أن الأئمة ولاة أمر الله وخزنة علمه"2، "باب أن الأئمة هم أركان الأرض"3، "باب أن الأئمة عندهم جميع الكتب التي نزلت من عند الله عز وجل وأنهم يعرفونها على اختلاف أدلتها"4، "باب أنه لم يجمع القرآن كله إلا الأئمة"5، "باب أن الأئمة يعلمون جميع العلوم التي خرجت إلى الملائكة والأنبياء والرسل"6، "باب أن الأئمة يعلمون متى يموتون وأنهم لا يموتون إلا باختيار منهم"7، "باب أن الأئمة يعلمون علم ما كان وما يكون
__________
1ـ عقائد الإمامية لمحمد رضا المصفر ص/51.
2ـ الأصول من الكافي 1/192.
3ـ الأصول من الكافي 1/196.
4ـ الأصول من الكافي 1/227.
5ـ الأصول من الكافي 1/228.
6ـ الأصول من الكافي 1/255.
7ـ الأصول من الكافي 1/258.(3/847)
المبحث الرابع: رد أهل السنة على مطاعن الشيعة الإمامية في الصحابة على سبيل العموم
إن الرافضة وقفوا من الصحابة موقفاً لم ترضه اليهود في أصحاب موسى ولم ترضه النصارى في أصحاب عيسى، فلقد اجترءوا على الصحابة الكرام وتناولوهم بالطعن والقدح المشين استجابة منهم بذلك إلى سلوك غير سبيل المؤمنين فيهم فلهم مطاعن في الصحابة على وجه العموم، ولهم مطاعن في أفراد منهم على وجه الخصوص، وذلك كالخلفاء الثلاثة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم كما سيأتي ذكر هذا ورده في المباحث التي ستأتي بعد هذا المبحث الذي سنقتصر فيه على ذكر بعض مطاعنهم التي شملوا بها جميع الصحابة.
فمن مطاعنهم في الصحابة عموماً أن أكثرهم انفضوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العير التي جاءت من الشام وتركوه وحده في خطبة الجمعة وتوجهوا إلى اللهو واشتغلوا بالتجارة وذلك دليل على عدم الديانة1.
والرد على هذا أن هذه القصة حصلت في بداية زمن الهجرة ولم يكونوا رضي الله عنهم قد علموا جميع الآداب الشرعية وكان قد أصاب أهل المدينة جوع فغلب على ظنهم أن الإبل التي جاءت محملة بالميرة2 لو ذهبت يزيد الغلاء ويعم البلاء، ثم لم ينفضوا جميعهم بل كبار الصحابة كأبي بكر وعمر كانوا قائمين
__________
1ـ انظر مختصر الاثنى عشرية ص/271-272، وانظر كتاب الصافي في تفسير القرآن 2/701، تفسير القمي 2/367، مجمع البيان للطبرسي 5/287، 289، تفسير فرات الكوفي ص/185.
2ـ الميرة: هي الطعام الذي يجلب من بلد إلى بلد آخر. انظر مختار الصحاح ص/640، المصباح المنير 2/587.(3/951)
عنده صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الأحاديث الصحيحة ولذا لم يشنع على الذين خرجوا عند وصول القافلة التجارية إلى المدينة، ولم يتوعدهم الله سبحانه بعذاب ولم يعتب عليهم المصطفى صلى الله عليه وسلم1.
قال الألوسي رحمه الله مبيناً طعن الشيعة على الصحابة بقوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا} الآية2، وبيان بطلان ذلك حيث قال عند هذه الآية: "وطعن الشيعة بهذه الآية الصحابة رضي الله تعالى عنهم بأنهم آثروا دنياهم على آخرتهم حيث انفضوا إلى اللهو والتجارة ورغبوا عن الصلاة التي هي عماد الدين وأفضل كثير من العبادات لا سيما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى أن ذلك قد وقع مراراً منهم، وفيه أن كبار الصحابة كأبي بكر وعمر3 وسائر العشرة المبشرة لم ينفضوا والقصة كانت في أوائل زمن الهجرة ولم يكن أكثر القوم تام التحلي بحلية آداب الشريعة بعد وكان قد أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر، فخاف أولئك المنفضون اشتداد الأمر عليهم بشراء غيرهم ما يقتات به لو لم ينفضوا ولذا لم يتوعدهم الله تعالى على ذلك بالنار أو نحوها بل قصارى ما فعل ـ سبحانه ـ أنه عاتبهم ووعظهم ونصحهم، ورواية أن ذلك وقع منهم مراراً إن أريد بها رواية البيهقي في شعب الإيمان عن مقاتل بن حيان أنه قال: بلغني والله تعالى أعلم أنهم فعلوا ثلاث مرات، فمثل ذلك لا يلتفت إليه، ولا يعول عند المحدثين عليه، وإن أريد بها غيرها فليبين ولتثبت صحته، وأنى بذلك؟، وبالجملة الطعن بجميع الصحابة لهذه القصة التي كانت من بعضهم في أوائل أمرهم وقد عقبها منهم عبادات؟ لا تحصى سفه ظاهر وجهل وافر"أهـ4.
__________
1ـ انظر مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/272.
2ـ سورة الجمعة آية/11.
3ـ انظر مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/272.
4ـ روح المعاني للألوسي 28/107، ورواية البيهقي المشار إليها أوردها السيوطي في الدر 8/166، ولم يعزها لغيره.(3/952)
ورد آخر على هذه القصة أنه ورد في بعض الأخبار أنها وقعت لما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقدم الصلاة على الخطبة يوم الجمعة.
قال الحافظ ابن كثير: "ولكن ههنا شيء ينبغي أن يعلم وهو: أن هذه القصة قد قيل إنها كانت لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم الصلاة يوم الجمعة على الخطبة كما رواه أبو داود في كتاب المراسيل1.
فلا مطعن على الصحابة بما حصل منهم في أوائل زمن الهجرة حيث لم يزالوا حينها في بداية تعلم الآداب الشرعية وأيضاً لم ينفضوا جميعهم بل إن عظماء الصحابة كالعشرة المبشرة بالجنة لم يخرجوا بل لزموا النبي صلى الله عليه وسلم، فطعن الشيعة على الصحابة بهذا كله هراء وهذيان لا يقلبه من نور الله قلبه بنور الإيمان.
ومن مطاعنهم في جميع الصحابة أنهم يعتقدون فيهم أنهم ارتدوا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوى أنهم جحدوا النص على إمامة علي، وبايعوا غيره بالخلافة ولم يستثنوا منهم بعد علي وبعض أهل البيت ـ إلا سلمان الفارسي وأبا ذر والمقداد بن الأسود وعمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان وأبو الهيثم بن التيهان وسهل بن حنيف وعبادة بن الصامت وأبو أيوب الأنصاري وخزيمة بن ثابت وأبو سعيد الخدري2، وبعض الشيعة يرى أن الطيبين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أقل عدداً من هؤلاء.
فقد روى الكليني بسنده إلى أبي جعفر أنه قال: ارتد الناس بعد النبي صلى الله عليه وآله إلا ثلاثة هم المقداد وسلمان وأبو ذر3.
وروى أيضاً: عن عبد الرحمن القصير قال: قلت لأبي جعفر: إن الناس
__________
1ـ تفسير القرآن العظيم 7/13-14، وانظر الخبر في كتاب المراسيل لأبي داود ص/105، وذكره السيوطي في الدر المنثور في التفسير بالمأثور 8/165-166، ونسبها إلى أبي داود فقط.
2ـ انظر الإرشاد للمفيد ص/9، حق اليقين لعبد الله شبر ص/215، رجال الكشي ص/12-13.
3ـ الأصول من الكافي الرواية رقم 341.(3/953)
يفزعون إذا قلنا: إن الناس ارتدوا، فقال: يا عبد الرحمن إن الناس عادوا بعدما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله أهل جاهلية إن الأنصار اعتزلت فلم تعتزل بخير جعلوا يبايعون سعداً وهم يرتجزون ارتجاز الجاهلية1.
وروى أيضاً: بسنده عن حمران بن أعين قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام جعلت فداك فما أقلنا لو اجتمعنا على شاة ما أفنيناها؟، قال: ألا أحدثك بأعجب من ذلك المهاجرون والأنصار ذهبوا إلا ـ وأشار بيده ـ إلا ثلاثة، قال حمران: فقلت: جعلت فداك ما حال عمار؟، قال: رحم الله عماراً أبا اليقظان بايع وقتل شهيداً"2.
هذا أخبث معتقد للشيعة الإمامية في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً.
والرد على هذا المعتقد الفاسد أن مضمونه التكذيب بالمحكم من آيات الكتاب العزيز التي شهد الله لهم فيها بما وقر في قلوبهم، من حقيقة الإيمان وشهادة الله ـ عز وجل ـ للصحابة الكرام بالإيمان الصادق ليست شهادة قاصرة على الحياة الدنيا بل امتدت حتى شملت حسن الخاتمة بالموت على ذلك وما يستتبعه من وعده ـ تعالى ـ لهم بالمغفرة والرضوان وحسن المثوبة في الجنان.
قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 3.
ففي هذه الآية إخبار من الله ـ عز وجل ـ عن رضاه عن السابقين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان ورضاهم بما أعده لهم من جنات النعيم
__________
1ـ الأصول من الكافي الرواية رقم 455.
2ـ الأصول من الكافي 2/244.
3ـ سورة التوبة آية/100.(3/954)
وهذا يعني الموت على الإيمان بشهادة محكم القرآن فأين من الإيمان بالقرآن من يسبون من رضي الله عنهم ووعدهم بجنة الخلد وفوز الأبد.
وقال تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} 1.
وفي هذه الآيات شهد الله لأصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم الذين آمنوا، وشرفوا بالهجرة والجهاد في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم بالفوز وعظيم الدرجات، وبشرهم برحمة منه ورضوان وبالنعيم المقيم في الجنات فهل هذه الشهادة وهذه البشارة تكون لقوم علم الله أنهم سيرتدون من بعد عن دينهم ويموتون وهم كفار؟، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
وقال تعالى: {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 2.
وفي هاتين الآيتين وعد من الله ـ جل وعلا ـ لرسوله وللذين آمنوا معه بالخيرات والدرجات العلى في جنات الفردوس، فهل يكون هذا الوعد لقوم علم الله أنهم سيرتدون على أعقابهم بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم؟ وهل كان هؤلاء ثلاثة أشخاص، أو عشرة كما يزعم الزاعمون أم أنهم جيوش تحقق بهم نصر الله وتمكن من مواجهة جيوش دولة الروم التي كانت في زمنهم أقوى وأعظم دولة على وجه الأرض؟.
__________
1ـ سورة التوبة آية/19-22.
2ـ سورة التوبة آية/88-89.(3/955)
وقال تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 1.
وفي هذه الآية إخبار من الرب ـ جل وعلا ـ أنه أكرم أصحاب نبيه وأنزلهم منزلة عالية حيث قرن بينهم وبين نبيهم في التوبة وهؤلاء هم الصحابة الذين خرجوا معه في غزوة تبوك وكان عددهم أكثر من ثلاثين ألفاً2، فالذي يعتقد أن الصحابة كفروا إلا ثلاثة نفر أو عشرة أو أكثر فهو ضال مضل لا يؤمن بيوم الحساب.
وقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} 3.
هذه الآية تضمنت وعد الله باستخلاف الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الحاضرين في زمن المصطفى صلى الله عليه وسلم ومعلوم أن هذا الاستخلاف لم يحصل إلا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم لأن استخلاف غيره لا يكون إلا بعده ومما هو معلوم بالضرورة أنه لا نبوة بعده عليه الصلاة والسلام فيكون المراد بالاستخلاف هي الخلافة الراشدة التي كانت بعده صلى الله عليه وسلم للخلفاء الأربعة الراشدين وقد حصل في زمن أبي بكر وعمر وعثمان من الفتوح العظيمة وحصول التمكين وظهور الدين والأمن ما هو معلوم لدى كل إنسان بصره الله لاتباع الحق وهدى قلبه للإيمان، ولا يجحد ذلك إلا من استحب العمى على الهدى ومليء قلبه بعقيدة المخذولين من الرافضة الذين جحدوا ما لخيار الأمة من الفضل وحيازة قصب السبق إلى الإسلام، والدين الذي مكنه الله لهم ونشروه في مشارق الأرض ومغاربها هو
__________
1ـ سورة التوبة آية/117.
2ـ انظر فتح الباري 8/117-118.
3ـ سورة النور آية/55.(3/956)
دين الإسلام، الذي ارتضاه الله لعباده ديناً ولا يقبل منهم سواه، فما يجرؤ على القول بتكفير أولئك الخلفاء العظام الذين تحقق على أيديهم وعد الله إلا إنسان امتلأ قلبه بالتكذيب لما أخبر الله به عنهم من صدق الإيمان وقوة اليقين وما يكذب الله في أخباره بذلك إلا الرافضة الذين وقفوا منهم موقفاً لم ترضه اليهود والنصارى في أصحاب موسى وعيسى.
قال العلامة ابن العربي: "ما رضيت النصارى واليهود في أصحاب موسى وعيسى ما رضيت الروافض في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حين حكموا عليهم بأنهم قد اتفقوا على الكفر والباطل، فما يرجى من هؤلاء وما يستبقي منهم؟، وقد قال الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} 1 وهذا قول صدق ووعد حق وقد انقرض عصرهم ولا خليفة ولا تمكين ولا أمن ولا سكون إلا في ظلم وتعد وغصب وهرج وتشتيت وإثارة ثائرة"2.
وقال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} 3.
هذه الآية الكريمة أخبر الله تعالى فيها أنه رضي عن أصحاب بيعة الرضوان وزكاهم بما وقر في قلوبهم من الوفاء والصدق بقوله في الآية: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} وكان عددهم رضي الله عنهم ألفاً وأربعمائة4 فمن اعتقد أن الصحابة كفروا إلا نفراً يسيراً فهو من أخسر الخاسرين وأهلك الهالكين.
__________
1ـ سورة النور آية/55.
2ـ العواصم من القواصم ص/185.
3ـ سورة الفتح آية/18.
4ـ انظر صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 7/443.(3/957)
وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} 1.
هذه الآية الكريمة تضمنت المدح والثناء للصحابة بكثرة الصلاة وصدق إخلاصهم فيها لله ـ جل وعلا ـ يرجون من وراء ذلك عظيم الأجر وجزيل الثواب وأخبر تعالى أنه وعدهم على ذلك المغفرة والأجر العظيم ووعده تبارك وتعالى حق وصدق لا يخلف ولا يبدل، وهذا فيه القطع لهم بصدق الإيمان الذي عاشوا عليه وماتوا عليه.
وقال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} 2.
فكيف يسوغ لهالك خاسر بعد هذا أن يقول إنهم ارتدوا إلا نفراً قليلاً نعوذ بالله من الضلال والخذلان، هذه الآيات المتقدم ذكرها كلها فيها إثبات شهادة الرب ـ جل وعلا ـ للصحابة الكرام بما وقر في قلوبهم من حقيقة الإيمان، وبما كانوا عليه من الإخلاص في الطاعات والصدق في العبادات، كما تضمنت ثناءه عليهم بالهجرة والجهاد والنصرة وسائر أنواع القربات، فلقد خسر قوم أنفسهم وكابروا الحق حيث زعموا أنه لم يبق منهم على الدين إلا ثلاثة نفر، أو إلا عشرة على الأكثر، ونسبوا الباقين منهم إلى الكفر والردة، فأين أولئك المفترون من هذه الآيات البينات والحقائق الراسخات ولا يمكن أن يخرج قول من اعتقد كفر الصحابة إلا على أساس الطعن
__________
1ـ سورة الفتح آية/29.
2ـ سورة الحجرات آية/7.(3/958)
في القرآن والتشكيك في صحته، وهذا ما حصل بالفعل من غلاة الرافضة، فقد ألف بعضهم المطولات في إثبات تحريف القرآن1، ولا يكون لنسبة الصحابة إلى الكفر بعد ما ورد لهم من الثناء العظيم في محكم الكتاب المبين من تفسير إلا التكذيب بتلك الآيات أو تجهيل الله ـ عز وجل ـ حيث قد وعد بالجنة قوماً لم يدر بم يختم لهم؟، تعالى الله عن ذلك علوا كبيراً.
ومن الوقاحة الفاضحة التي وصل إليها الشيعة الرافضة أنهم يستدلون على ارتداد المهاجرين والأنصار بما رواه الشيخان في صحيحيهما من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ".... وأن أناساً من أصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: أصحابي أصحابي، فيقال: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم فأقول كما قال العبد الصالح {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ} ـ إلى قوله ـ {الحكيم} 2.
تستدل الرافضة بمثل هذا الحديث على ارتداد المهاجرين والأنصار والذي أوصلهم إلى هذا الفهم السقيم أنهم عموا وصموا واتبعوا الهوى واستحبوا العمى على الهدى، فزاغت قلوبهم عن المراد بالأصحاب في الحديث فليس المراد بالأصحاب في الحديث ما هو المعلوم في العرف، "بل المراد بهم مطلق المؤمنين به صلى الله عليه وسلم المتبعين له وهذا كما يقال لمقلدي أبي حنيفة أصحاب أبي حنيفة ولمقلدي الشافعي أصحاب الشافعي وهكذا وإن لم يكن هناك رؤية واجتماع وكذا يقول الرجل للماضين الموافقين له في المذهب أصحابنا مع أن بينه وبينهم عدة من السنين ومعرفته صلى الله عليه وسلم مع عدم رؤيتهم في الدنيا بسبب أمارات تلوح عليهم، فقد جاء في
__________
1ـ انظر كتاب "فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب" للنوري الطبري، وهو كتاب مطبوع إلا أنه خال من مكان الطبع وتاريخه.
2ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 6/386-387، صحيح مسلم 4/2194-2195، والآية رقم 117 من سورة المائدة.(3/959)
الخبر1 أن عصاة هذه الأمة يمتازون يوم القيامة من عصاة غيرهم كما أن طائعيهم يمتازون عن طائعي غيرهم، وجذبهم إلى ذات الشمال كان تأديباً لهم وعقاباً على معاصيهم ولو سلمنا أن المراد بهم ما هو المعلوم في العرف فهم الذين ارتدوا من الأعراب على عهد الصديق رضي الله تعالى عنه"2.
قال عبد القاهر البغدادي: "وأجمع أهل السنة على أن الذين ارتدوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم من كندة، وحنيفة، وفزارة، وبني أسد، وبني بكر بن وائل ـ لم يكونوا من الأنصار ولا المهاجرين قبل فتح مكة، وإنما أطلق الشرع اسم المهاجرين على من هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل فتح مكة، وأولئك بحمد الله ومنه درجوا على الدين القويم والصراط المستقيم"3.
فإذن لا يوجد ولله الحمد ممن ارتد أحد من الصحابة الذين يعدلهم أهل السنة ويترضون عنهم وأولئك المرتدون هددهم الله بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} فعندما ارتد المرتدون تصدى لهم أبو بكر والصحابة رضي الله عنهم فتبين أن المقصود بقوله ـ عز وجل ـ: {بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} 4 الآية هم الصحابة رضي الله عنهم ولا يعلم تصد لهم إلا تصدي الصديق وأصحابه ويكفي أن علياً رضي الله عنه كان أحد المتصدين مع بقية الصحابة، أما الذين ينتقصون الصحابة ويتلذذون بسبهم ولعنهم والبراءة منهم فعليهم إن كانوا صادقين في تشيعهم لأهل البيت أن يكونوا تابعين لهم في تعظيم الصحابة ومحبتهم، ولكنهم كاذبون في ذلك وأنهم أعداء لأهل البيت إذ أهل البيت لم يخرجوا عما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه
__________
1ـ انظر المسند 3/102، فقد أورد الإمام أحمد هنا حديثاً من أحاديث الحوض وفيه "يختلج العبد منهم فأقول يا رب إنه من أمتي فيقال لي إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك". ففيه إشارة إلى أن هناك علامة يتميز بها عصاة هذه الأمة.
2ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/272-273.
3ـ الفرق بين الفرق ص/359.
4ـ سورة المائدة آية/54.(3/960)
الراشدون من بعده، فالشيعة الرافضة في واد وأهل البيت في واد آخر.
ومن مطاعنهم أيضاً في عموم الصحابة أنهم لا يعتقدون عدالتهم جميعاً وإنما يقولون هم كغيرهم من الناس فيهم العدل وفيهم مجهول الحال، وفيهم المنافقون والبغاة.
قال شرف الدين الموسوي: "إن الصحبة بمجردها وإن كانت عندنا فضيلة جليلة، لكنها بما هي من حيث هي غير عاصمة، فالصحابة كغيرهم من الرجال فيهم العدول وهم عظماؤهم وعلماؤهم وفيهم البغاة وفيهم أهل الجرائم من المنافقين وفيهم مجهول الحال، فنحن نحتج بعدولهم ونتولاهم في الدنيا والآخرة ـ إلى أن قال: "إن أصالة العدالة في الصحابة مما لا دليل عليه ولو تدبروا1 القرآن الحكيم لوجدوه مشحوناً بذكر المنافقين منهم وحسبك منه سورة التوبة والأحزاب"2.
وقال مرتضى العسكري: "وفي شان العدالة نرى أن الصحابة فيهم المؤمن العدل البر التقي، وهم المقصودون في ما ورد من ثناء لهم في القرآن والحديث ـ إلى أن قال: "وفيهم المنافقون مردوا على النفاق لا يعلمهم إلا الله"أهـ3.
هذا معتقد الشيعة الرافضة في عدالة الصحابة جميعاً، وبمجرد أن يسمعه من نور الله بصيرته يقطع بأنه دليل على الخذلان وعلى سوء الفهم لكتاب الله حيث لم يفهموا منه إلا صفات المنافقين، ولم يهتدوا لدلالته على تعديل الصحابة قاطبة حيث نص الله على عدالتهم في غير ما آية من كتابه العزيز ومن ذلك قول الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} 4.
__________
1ـ يقصد أهل السنة والجماعة.
2ـ الفصول المهمة في تأليف الأمة ص/203، وانظر الصحابة في نظر الشيعة الإمامية لأسد حيدر ص/31-32.
3ـ مقدمة مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول 1/8.
4ـ سورة البقرة آية/143.(3/961)
ومعنى {وسطاً} في الآية أي: عدولاً.
وقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} 1.
ووجه دلالة الآيتين على عدالة الصحابة عموماً أنهم أول من يدخل في منطوقها، وكون ـ الرب جل وعلا ـ جعلهم شهداء على الناس دليل قاطع على عدالتهم جميعاً وعلى صدق إيمانهم، فالرب تبارك وتعالى لا يستشهد بغير عدول ولا يستشهد بمن يدين الكذب والخداع ويسميه بغير اسمه.
ويبطل زعمهم أن العدالة ثابتة لبعض الصحابة دون البعض الآخر بأن يقال لهم: إن الصحابة كلهم عدول وكلهم موعودون بالحسنى وهي الجنة ويكفي قوله ـ عز وجل ـ: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} 2. وقوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 3.
فلينظر كل ذي بصيرة في هذه الآيات بتدبر حيث يجد حيث فيها أن الباري جل وعلا شهد لجميع الصحابة مهاجرين وأنصار بصدق الإيمان وزكاهم وأثنى
__________
1ـ سورة آل عمران آية/110.
2ـ سورة الحديد آية/10.
3ـ سورة الحشر آية/8-10.(3/962)
عليهم بما ثبت في قلوبهم من الإخلاص في الأعمال الصالحة وتركهم ديارهم وأموالهم حيث خرجوا منها ابتغاء نصرة الله ورسوله، كما أثنى على من جاء بعدهم مستغفراً لهم، ولا يستغفر لهم إلا أهل السنة، أما الشيعة الرافضة فلا يستغفرون لهم وإنما يدينون بالاعتقاد بتكفير أولئك الأخيار وبسؤالهم ربهم أن يملأ قلوبهم غلاً للصحابة الكرام وهاهم كذلك ولا نصيب لهم من الثناء الذي اشتملت عليه الآية ما داموا على ذلك.
فالثناء على المهاجرين عموماً بخروجهم من ديارهم وأموالهم يبتغون بذلك رضوان الله وينصرون الله ورسوله والشهادة لهم بأنهم صادقون، وكذا ثناؤه ـ جل وعلا ـ على الأنصار قاطبة بتبوئهم الدار والإيمان وحبهم لإخوانهم المهاجرين وإيثارهم لهم على أنفسهم وشهادة الباري تبارك وتعالى لهم بالفلاح كل ذلك أدلة قطعية على عدالة الصحابة جميعاً مهاجرين وأنصار.
أما نسبة النفاق إلى خيار هذه الأمة بدعوى أنه كان في المدينة منافقون فهي فرية واضحة لا تثبت لها قدم، وهي شبهة أوهى من بيت العنكبوت لأن المنافقين لم يكونوا مجهولين في مجتمع الصحابة الكرام رضي الله عنهم ولم يكونوا هم السواد الأعظم والجمهور الغالب فيهم وإنما كانوا فئة معلومة آل أمرهم إلى الخزي والفضيحة حيث علم بعضهم بعينه، والبعض الآخر منهم علم بأوصافه، فقد ذكر الله في كتابه من أوصافهم وخصوصاً في سورة التوبة ما جعل منهم طائفة متميزة منبوذة لا يخفى أمرها على أحد فأين هذه الفئة ممن أثبت الله لهم في كتابه نقيض صفات المنافقين حيث أخبر عن رضاه عنهم من فوق سبع سموات وجعلهم خير أمة أخرجت للناس، فنسبة الرافضة النفاق إلى الصحابة إنما منشؤه من عمى البصيرة، ومحبة العمى على الهدى وعدم التمييز بين من أوقفوا حياتهم لنصرة الله ورسوله، ولم ينقضوا عهد الله من بعد ميثاقه وبين الذين لم يعرفوا في تاريخ الإسلام إلا بالخيانة والتآمر على الإسلام وأهله.(3/963)
فالصحابة رضي الله عنهم عدول كلهم لا سبيل إلى تجريحهم لأن الله ـ جل وعلا ـ هو الذي تولى تزكيتهم وتعديلهم من فوق سبع سموات.
قال ابن الأثير رحمه الله تعالى بعد أن ذكر أنه لا بد في رجال الأسانيد والرواة من معرفة أنسابهم وأحوالهم قال: "والصحابة يشاركون سائر الرواة في جميع ذلك إلا في الجرح والتعديل، فإنهم كلهم عدول لا يتطرق إليهم الجرح لأن الله ـ عز وجل ـ زكاهم وعدلهم وذلك مشهور لا نحتاج لذكره"أهـ1.
والأمر كما ذكر رحمه الله فإن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مليئان بالثناء الحسن على الصحابة الكرام رضي الله عنهم مما يدل على أن ثبوت عدالتهم أمر قطعي لم يجحده إلا المخذولون من الرافضة، فالذي ينفي عدالة الصحابة وينسب إليهم النفاق ويعتقد ذلك فهو مكذب للقرآن والسنة اللذين تضمنا الشهادة للصحابة الكرام بصدق اليقين وكمال الإيمان.
ومما مطاعنهم العامة في الصحابة: أنهم حرفوا القرآن وأسقطوا منه كلمات بل آيات وأن القرآن الموجود لدى الشيعة كما يزعمون يعادل ثلاث مرات من القرآن الموجود بين أيدينا وما فيه حرف واحد منه ويزعمون أن ما جمع القرآن كما أنزل إلا الإمام علي رضي الله عنه ومن ادعى غير ذلك فهو كذاب.
فلقد ذكر الكليني في "الكافي" عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: وإن عندنا لمصحف فاطمة "ع" وما يدريهم ما مصحف فاطمة "ع"؟، قال: قلت: وما مصحف فاطمة "ع"، قال: مصحف فاطمة فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات والله ما فيه من قرآنكم حرف واحد، قال: قلت: والله هذا العلم2.
وذكر عن جابر قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: ما ادعى أحد
__________
1ـ أسد الغابة 1/3.
2ـ الأصول من الكافي 1/457.(3/964)
من الناس أنه جمع القرآن كله كما أنزل إلا كذاب وما جمعه وحفظه كما أنزله الله تعالى إلا علي بن أبي طالب عليه السلام والأئمة من بعده عليهم السلام ...
وذكر أيضاً: عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام، أنه قال: ما يستطيع أحد أن يدعي أن عنده جميع القرآن ظاهره وباطنه غير الأوصياء1.
ولقد توارث الشيعة هذا المعتقد الزائف وتمسكوا به وأثبتوه في مؤلفاتهم وأشادوا بأن أكابر المتقدمين من علمائهم كانوا على هذا.
فقد قال المفيد في كتابه أوائل المقالات: "اتفقت الإمامية على وجوب رجعة كثير من الأموات إلى الدنيا قبل يوم القيامة واتفقوا على إطلاق لفظ البداء في وصف الله تعالى، واتفقوا على أن أئمة الضلال2 خالفوا في كثير من تأليف القرآن وعدلوا فيه عن موجب التنزيل وسنة النبي صلى الله عليه وسلم3.
وقال الكاشاني في مقدمة كتابه المسمى "تفسير الصافي" بعد أن ذكر الروايات التي تفيد تحريف القرآن ونقصانه، وأن الصحابة هم الذين حذفوا مناقب أهل البيت منه، وإتيان علي رضي الله عنه إلى الصحابة ورفضهم بأن يعملوا بالقرآن الذي جمعه وأنهم أيدوا زيد بن ثابت رضي الله عنه بجمع غيره، قال بعد ذلك: "أقول: المستفاد من جميع هذه الأخبار وغيرها من الروايات من طريق أهل البيت عليهم السلام أن القرآن ليس بتمامه كما أنزل على محمد صلى الله عليه وآله بل منه ما هو خلاف ما أنزل الله ومنه ما هو مغير محرف وأنه قد حذف منه أشياء كثيرة منها اسم علي عليه السلام في كثير من المواضع ومنها لفظة آل محمد صلى الله عليهم غير مرة ومنها أسماء المنافقين في مواضعها ومنها غير ذلك وأنه ليس على الترتيب المرضي عند الله ورسوله صلى الله عليه وآله وبه قال علي
__________
1ـ المصدر السابق 1/441.
2ـ يقصد الصحابة الكرام رضي الله عنهم وغضب عليه إن كان مات على هذا المعتقد الفاسد.
3ـ المقالات ص/48-49.(3/965)
ابن إبراهيم"1.
والنتيجة التي انتهى إليها بعد أن قرر أن القرآن محرف هي أن العمل به غير ممكن ولا يمكن الإقرار بصحته ولا الاعتماد عليه حيث قال: "لم يبق لنا اعتماد على شيء من القرآن إذ على هذا يحتمل كل آية منه أن يكون محرفاً ومغيراً ويكون على خلاف ما أنزل الله فلم يبق لنا في القرآن حجة أصلاً فتنتفي فائدته وفائدة الأمر باتباعه والوصية بالتمسك به إلى غير ذلك"2.
ثم قرر أن اعتقاده بتحريف القرآن ليس بدعاً من علماء الإمامية الذين يقرون بتحريف القرآن بل يذكر أنه سبقه في ذلك كبار علمائهم أمثال الكليني والقمي والطبرسي حيث قال: "وهذا ما عندي من التقصي عن الإشكال والله يعلم حقيقة الحال، وأما اعتقاد مشايخنا في ذلك فالظاهر من ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني طاب ثراه أنه كان يعتقد التحريف والنقصان في القرآن لأنه كان روى روايات في هذا المعنى في كتابه "الكافي" ولم يتعرض لقدح فيها مع أنه ذكر في أول الكتاب أنه كان يثق بما رواه فيه أستاذه علي بن إبراهيم القمي فإن تفسيره مملوء منه وله غلو فيه3 وكذلك الشيخ أحمد بن أبي طالب الطبرسي4 فإنه أيضاً نسج على على منوالهما في كتاب الاحتجاج"5.
وقد حكى أبو المظفر الإسفرائيني إجماع الإمامية على طعن الصحابة بتغيير القرآن بالزيادة والنقصان فيه حيث قال بعد ذكره لفرق الإمامية: "واعلم أن جميع من ذكرناهم من فرق الإمامية متفقون على تكفير الصحافة ويدعون أن القرآن قد
__________
1ـ كتاب الصافي في تفسير القرآن 1/32.
2ـ المصدر السابق 1/33.
3ـ انظر ما تفوه به القمي من اعتقاد تحريف القرآن تفسيره 1/10-11.
4ـ انظر كتاب الاحتجاج للطبرسي 1/153، فقد ساق رواية على طريقة السؤال والجواب بين علي وطلحة يستدل بها على نقصان القرآن وأنه لم يجمعه كاملاً إلا علي وأن الصحابة لم يقبلوا منه ما جمعه.
5ـ كتاب الصافي في تفسير القرآن 1/34.(3/966)
غير عما كان ووقع فيه الزيادة والنقصان من قبل الصحابة ويزعمون أنه لا اعتماد على الشريعة التي في أيدي المسلمين وينتظرون إماماً يسمونه المهدي يخرج ويعلمهم الشريعة وليسوا في الحال على شيء من الدين"أهـ1.
والرد على هذا الافتراء الذي اختلقته فرق الإمامية على الصفوة المختارة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يصدر إلا ممن فسدت ديانته وخبثت سريرته وهذا الافتراء يتضمن تكذيب الله تعالى الذي أخبر بأنه حافظ لكتابه العزيز من الزيادة والنقصان والتبديل وأنه ليس للبطلان إليه سبيل لأنه منزل من رب العالمين، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 2 فقد قرر تعالى في هذه الآية "أنه هو الذي أنزل على نبيه الذكر ـ وهو القرآن ـ وهو الحافظ له من التغيير والتبديل"3.
قال أبو عبد الله القرطبي في قوله: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} من أن يزاد فيه أو ينقص منه.
وذكر عن قتادة وثابت البناني أنهما قالا: حفظه الله من أن تزيد فيه الشياطين باطلاً أو تنقص منه حقاً فتولى ـ سبحانه ـ حفظه فلم يزل محفوظاً"أهـ4.
وقال الرازي: "واعلم أنه لم يتفق لشيء من الكتب مثل هذا الحفظ فإنه لا كتاب إلا وقد دخله التصحيف والتحريف والتغيير، إما في الكثير منه، أو في القليل، وبقاء هذا الكتاب مصوناً عن جميع جهات التحريف مع أن دواعي الملحدة واليهود والنصارى متوفرة على إبطاله وإفساده من أعظم المعجزات وأيضاً: أخبر الله تعالى عن بقائه محفوظاً عن التغيير والتحريف وانقضى الآن قريباً من
__________
1ـ التبصير في الدين ص/41.
2ـ سورة الحجر آية/9.
3ـ تفسير القرآن العظيم 4/154.
4ـ الجامع لأحكام القرآن 10/5.(3/967)
ستمائة سنة1 فكان هذا إخباراً عن الغيب فكان ذلك أيضاً معجزاً قاهراً"أهـ2.
وقال تعالى: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} 3، وفي هذه الآية بين الله تعالى أن القرآن "محفوظ من أن ينقص منه فيأتيه الباطل من بين يديه، أو يزاد فيه فيأتيه الباطل من خلفه، دل على هذا المعنى قوله تعالى: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 4 فالذي يعتقد أن القرآن يدخله التغيير والزيادة، والنقص، فهو مكذب لله رب العالمين، ومنسلخ من دين الإسلام بالكلية ليس له أمانة ولا دين.
وقال أبو محمد بن حزم مبيناً بطلان اعتقاد الرافضة في أن الصحابة بدلوا القرآن وأسقطوا منه وزادوا فيه.
قال رحمه الله: "مات رسول الله صلى الله عليه وسلم والإسلام قد انتشر وظهر في جميع جزيرة العرب من منقطع البحر المعروف ببحر القلزم ماراً إلى سواحل اليمن كلها إلى بحر فارس إلى منقطعه ماراً إلى الفرات ثم على ضفة الفرات إلى منقطع الشام إلى بحر القلزم، وفي هذه الجزيرة من المدن والقرى ما يعرف عدده إلا الله ـ عز وجل ـ كاليمن والبحرين وعمان ونجد وجبلي طي وبلاد مضر وربيعة وقضاعة والطائف ومكة كلهم قد أسلم وبنوا المساجد ليس منها مدينة ولا قرية ولا حلة لأعراب إلا قد قريء فيها القرآن في الصلوات وعلمه الصبيان والرجال والنساء وكتب ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون كذلك ليس بينهم اختلاف في شيء أصلاً بل كلهم أمة واحدة ودين واحد ومقالة واحدة، ثم ولي أبو بكر سنتين وستة أشهر فغزا فارس والروم وفتح اليمامة وزادت قراءة الناس للقرآن وجمع الناس
__________
1ـ هذا التحديد إلى عصر الرازي وكانت وفاته سنة ست وستمائة.
2ـ التفسير الكبير 19/161.
3ـ سورة فصلت آية/42.
4ـ سورة الحجر آية/9.(3/968)
المصاحف كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وزيد وأبي زيد1 وابن مسعود وسائر الناس في البلاد، فلم يبق بلد إلا وفيه المصاحف، ثم مات رضي الله عنه والمسلمون كما كانوا لا اختلاف بينهم في شيء أصلاً أمة واحدة ومقالة واحدة ...
ثم مات أبو بكر وولي عمر ففتحت بلاد الفرس طولاً وعرضاً وفتحت الشام كلها والجزيرة ومصر كلها ولم يبق بلد إلا وبنيت فيه المساجد ونسخت فيه المصاحف وقرأ الأئمة القرآن وعلمه الصبيان في المكاتب شرقاً وغرباً، وبقي كذلك عشرة أعوام وأشهراً والمؤمنون كلهم لا اختلاف بينهم في شيء بل ملة واحدة ومقالة واحدة وإن لم يكن عند المسلمين إذ مات عمر مائة ألف مصحف من مصر إلى العراق إلى الشام إلى اليمن فيما بين ذلك فلم يكن أقل، ثم ولي عثمان فزادت الفتوح واتسع الأمر فلو رام أحد إحصاء مصاحف أهل الإسلام ما قدر وبقي كذلك اثنا عشر عاماً حتى مات وبموته حصل الاختلاف وابتداء الروافض واعلموا أنه لو رام أحد أن يزيد في شعر النابغة اوشعر زهير كلمة أو ينقص أخرى ما قدر لأنه كان يفتضح الوقت وتخالفه النسخ المثبوتة فكيف القرآن في المصاحف وهي من آخر الأندلس وبلاد البربر وبلاد السودان إلى آخر السند وكابل وخراسان والترك والصقالبة2 وبلاد الهند فيما بين ذلك، فظهر حمق الرافضة ومجاهرتها بالكذب ... ومما يبين كذب الروافض في ذلك أن علي بن أبي طالب الذي هو عند أكثرهم إله خالق وعند بعضهم نبي ناطق وعند سائرهم إمام معصوم مفترضة طاعته ولي الأمر وملك فبقي خمسة أعوام وتسعة أشهر خليفة مطاعاً ظاهر الأمر ساكناً بالكوفة مالكاً الدنيا حاشا الشام ومصر إلى الفرات والقرآن يقرأ في المساجد في كل مكان وهو يؤم الناس به والمصاحف
__________
1ـ اختلف في اسمه فقيل: أوس، وقيل ثابت بن زيد، وقيل: معاذ، وقيل: سعد بن عبيد، وقيل: قيس بن السكن وهذا هو الراجح. الإصابة 4/78.
2ـ قال أبو منصور: الصقالبة جبل حمر الألوان صهب الشعور يتخامون بلاد الخزر في أعالي جبال الروم، وقال غيره: الصقالبة بلاد بين بلغار وقسطنطينية وتنسب إليهم الخرم الصقالبة وأحدهم صقلبي "معجم البلدان" 3/416.(3/969)
معه وبين يديه فلو رأى فيه تبديلاً كما تقول الرافضة أكان يقرهم على ذلك فكيف يسوغ لهؤلاء أن يقولوا إن في المصحف حرفاً زايداً أو ناقصاً أو مبدلاً مع هذا ولقد كان جهاد من حرف القرآن وبدل الإسلام أوكد عليه من قتال أهل الشام الذين إنما خالفوه في راي يسير رأوه ورأى خلافه فقط فلاح كذب الرافضة ببرهان لا محيد عنه والحمد لله رب العالمين"أهـ1.
فاعتقاد الشيعة الرافضة أن القرآن قد دخله التغيير والزيادة والنقصان من قبل الصحابة اعتقاد فاسد وكذب واضح على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين قاموا بجمعه في مصحف واحد وحرصوا على ذلك أشد الحرص خوفاً عليه من الضياع، فكان جمعهم له من أسباب حفظ الله تعالى إياه فإنه لما تكفل بحفظ كتابه قيضهم لذلك رضي الله عنهم وأرضاهم لكن الشيعة لهم مقصد خبيث من وراء طعنهم على الصحابة بأنهم حرفوا القرآن بين ذلك الإسفرائيني في كتابه "التبصير في الدين فإنه قال بعد أن ذكر أن الإمامية متفقون على القول بتكفير الصحابة وأنهم حرفوا القرآن بالزيادة فيه والنقص منه "وليس مقصودهم من هذا الكلام تحقيق الكلام في الإمامة، ولكن مقصودهم إسقاط كلفة تكليف الشريعة عن أنفسهم حتى يتوسعوا في استحلال المحرمات الشرعية، ويعتذروا عند العوام بما يعدونه من تحريف الشريعة وتغيير القرآن من عند الصحابة ولا مزيد على هذا النوع من الكفر إذ لا بقاء فيه على شيء من الدين"أهـ2.
ومن مطاعنهم في الصحابة عموماً أنهم يقولون: إن كثيراً منهم فروا يوم الزحف في غزوتي أحد وحنين، والفرار من الزحف أكبر الكائر3.
والرد على هذا الهراء أن الفرار يوم أحد كان قبل النهي عن الفرار من
__________
1ـ الفصل في الملل والأهواء والنحل 2/78-80.
2ـ التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية على فرق الهالكين ص/41.
3ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/273، وانظر تفسير الكاشاني المسمى تفسير الصافي 1/691، تفسير القمي 1/287. الميزان 9/226.(3/970)
الزحف ولو فرض أنه حصل منهم بعد النهي فهو معفو عنه بدليل قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} 1، "ولا تعيير بعد عفو الله تعالى عن الجميع"2، وأما الفرار يوم حنين فبعد التسليم أنه كان فراراً في الحقيقة معاتباً عليه، فإن أولئك المخلصين رضي الله عنهم لم يصروا عليه، بل انقلبوا وظفروا بدليل قوله تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} 3، ولم يحصل الفرار من الجميع وأن من فر منهم لم يكن على نية الاستمرار في الفرار لما رواه مسلم من حديث كثير بن عباس بن عبد المطلب، قال: قال عباس شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فلزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ فلم نفارقه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة له بيضاء أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي، فلما التقى المسلمون والكفار ولى المسلمون مدبرين فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض بغلته قبل الكفار، قال عباس: وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أي عباس، ناد أصحاب السمرة"، فقال عباس ـ وكان رجلاً ـ صيتاً ـ فقلت بأعلى صوتي: أين أصحاب السمرة، قال: فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها ... الحديث"4.
قال النووي: قال العلماء في هذا الحديث دليل على أن فرارهم لم يكن بعيداً، وأنه لم يحصل الفرار من جميعهم وإنما فتحه عليهم من في قلبه مرض من
__________
1ـ انظر مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/273 والآية رقم 155 من سورة آل عمران.
2ـ روح المعاني للألوسي 4/99.
3ـ سورة التوبة آية/26.
4ـ صحيح مسلم 3/1398-1399.(3/971)
فطعن الشيعة الرافضة على الصحابة الكرام بأنهم فروا يوم الزحف في غزوتي أحد وحنين كله هراء يدل على تعمقهم في الجهل وسوء الفهم.
ومن مطاعنهم على سبيل العموم في الصحابة أنهم طعنوا عليهم بما رواه مسلم في صحيحه بإسناده إلى عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا فتحت عليكم فارس والروم أي قوم أنتم؟ "، قال عبد الرحمن بن عوف: نقول كما أمرنا الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أو غير ذلك تتنافسون، ثم تتحاسدون، ثم تتدابرون، ثم تتباغضون، أو نحو ذلك، ثم تنطلقون في مساكين المهاجرين فتجعلون بعضهم على رقاب بعض" 2.
قالوا: "هذا صريح في وقوع التنافس والتدابر والتباغض فيما بين الصحابة والجواب أن الخطاب وإن كان للصحابة لكن باعتبار وقوع ذلك فيما بينهم وهو لا يستدعي أن يكون منهم ويدل على ذلك أن الصحابة إما مهاجرون أو أنصار والحديث صريح في أن أولئك ليسوا مهاجرين، والواقع ينفي كونهم من الأنصار لأنهم ما حملوا المهاجرين على التحارب فتعين أنهم من التابعين، وقد وقع ذلك منهم فإنهم حملوا المهاجرين على التحارب بينهم كمالك الأشتر وأضرابه"3 وقد اعترف الأشتر بأنه أحد قتلة الخليفة الراشد عثمان بن عفان وذلك عندما أتاه الخبر
__________
1ـ شرح النووي على صحيح مسلم 12/115-116.
2ـ صحيح مسلم 4/2274.
3ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/274.(3/972)
باستعمال علي بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وقال: علام قتلنا الشيخ إذاً! اليمن لعبيد الله والحجاز لقثم، والبصرة لعبد الله، والكوفة لعلي"1.
ومن مطاعنهم على الصحابة عموماً زعمهم أنهم آذوا علياً وحاربوه 2 وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من آذى علياً فقد آذاني" 3.
والجواب على هذا الافتراء أن أساسه عدم فهم الرافضة للأسباب التي أدت لاقتتالهم رضي الله عنهم فيما بينهم، ولو أمعنوا النظر في الحروب التي وقعت بين الصحابة رضي الله عنهم في موقعتي الجمل وصفين لفهموا أنها كانت لأمور اجتهادية، فلا يلحقهم طعن من ذلك، لكن من ابتلي بالوقوع في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قلبه مشبعاً بعقيدة الرافضة فإنه لا يعرف الحق في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يرحمه الله فيبرأ من طريقة الروافض حينئذ يحمل ما وقع بين الصحابة على أحسن المحامل، ويؤوله بما يندفع به الطعن عن أولئك السادة الأماثل، وهذا لا يتحقق إلا لمن سار في ركب أهل السنة والجماعة ويكفينا من مطاعن الرافضة في الصحابة عموماً ما تقدم ذكره وإلا فمطاعنهم لا تدخل تحت حصر وسقنا هذه المطاعن العامة والرد عليها ليتبين أن الرافضة يعادون الصحابة جميعاً ولا يحبونهم ولا يوالون منهم إلا نفراً يسيراً يعدون بالأصابع كما تقدم قريباً.
__________
1ـ تاريخ الأمم والملوك للطبري 4/492.
2 ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/274.
3 ـ رواه الحاكم في المستدرك 3/122، وقال عقبه: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.(3/973)
المبحث الخامس: الرد على مطاعنهم في أبي بكر الصديق رضي الله عنه
لم تكتف الشيعة الرافضة بالطعن في الصحابة الكرام على سبيل العموم بل انقادوا للشيطان بزمام حيث حملهم على أن وجهوا مطاعن في الخلفاء الثلاثة أبي بكر وعمر وعثمان، كل واحد منهم على حده.
ومطاعنهم على أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم كثيرة، وإليك في هذا المبحث طائفة من مطاعنهم في حق الصديق:
فمن مطاعنهم في حق أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ أنهم يطعنون عليه بقوله تعالى: {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} 1.
ووجه طعنهم على الصديق بهذه الآية أنهم يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم استصحبه معه لئلا يظهر أمره حذراً منه وأن الآية دلت على نقصه لقوله تعالى فيها: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} فإنه يدل على خوره وقلة صبره وعدم يقينه بالله تعالى وعدم رضاه بمساوته النبى صلى الله عليه وسلم وبقضاء الله وقدره، ولأن الحزن إن كان طاعة استحال أن ينهى عنه النبى صلى الله عليه وسلم وإن كان معصية كان ما ادعوه من الفضيلة رزيلة"2.
والرد على هذا الهذيان أن وضوح بطلانه أعظم من وضوح الشمس في وسط
__________
1ـ سورة التوبة آية/40.
2ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/239، وانظر الاستغاثة في بدع الثلاثة 2/22-26. الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف 2/407-410، وانظر الميزان في تفسير القرآن لمحمد حسين الطباطبائي 9/222-224.(3/974)
النهار، فقولهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم استصحبه حذراً منه لئلا يظهر أمره فهذا باطل من وجوه عدة:
أولاً: أنه قد علم بدلالة القرآن أن الصديق رضي الله عنه كان موالياً ومحباً للرسول صلى الله عليه وسلم لا معادياً له.
ثانياً: علم بالتواتر المعنوي أنه كان محباً للرسول مؤمناً به مختصاً به أعظم مما علم من سخاء حاتم وشجاة عنترة، لكن الرافضة قوم بهت حتى أن بعضهم جحدوا أن يكون الصديق والفاروق دفنا في الحجرة النبوية.
ثالثاً: إن قولهم هذا في أبي بكر يدل على فرط جهلهم وخاصة بما حصل وقت الهجرة فإن الرسول اختفى هو وأبو بكر في الغار وأرسل المشركون الطلب من الغد في كل فج وجعلوا الدية فيه وفي أبي بكر لمن أتى بواحد منهما، فهذا دليل أنهم كانوا يعلمون أن أبا بكر كان موالياً للمصطفى صلى الله عليه وسلم ومعادياً لهم ولو كان مبطناً لهم على زعم الرافضة لما بذلوا فيه الدية.
رابعاً: واما زعمهم أن الآية دلت على نقصه لقوله تعالى: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} فقولهم هذا ينقض تخرصهم أنه استصحبه حذراً منه لئلا يظهر أمره فإنه إذا كان عدوه وكان مبطناً لأعدائه الذين يطلبونه كان ينبغي أن يفرح ويسر ويطمئن إذا جاء العدو، فإن المشركين جاءوا إلى الغار ومشوا فوقه"1.
"فإن أبا بكر لو كان قاصداً له لصاح بالكفار عند وصولهم إلى باب الغار، وقال لهم: نحن ههنا، ولقال ابنه وابنته، عبد الرحمن وأسماء للكفار نحن نعرف مكان محمد فندلكم عليه، فنسأل الله العصمة من عصبية تحمل الإنسان على مثل هذا الكلام الركيك"2. ويقال أيضاً: لهؤلاء المفترين إن
__________
1ـ انظر منهاج السنة 4/256-260، المنتقى من منهاج الاعتدال للذهبي ص/554-556.
2ـ التفسير الكبير للرازي 16/68.(3/975)
دعواهم أن الآية دلت على نقص الصديق أن النقص نوعان:
نقص ينافي إيمانه، ونقص عمن هو أكمل منه فإن أرادوا الأول فهو باطل لأن الله تعالى قال مخاطباً نبيه: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} 1 وقال مخاطباً المؤمنين جميعاً: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ} 2، فقد نهى نبيه عن الحزن في غير موضع ونهى المؤمنين جملة فعلم أن ذلك لا ينافي الإيمان، وإن أرادوا بذلك أنه ناقص عمن هو أكمل منه، فلا ريب أن حال النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من حال أبي بكر، وهذا لا ينازع فيه أحد من أهل السنة، ولكن ليس في هذا ما يدل على أن علياً أو عثمان أو عمر أو غيرهم أفضل منه لأنهم لم يكونوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحال، ولو كانوا معه لم يعلم أن حالهم يكون أكمل من حال الصديق بل المعروف من حالهم دائماً وحاله أنهم وقت المخاوف يكون الصديق أكمل منهم كلهم يقيناً وصبراً، وعند وجود أسباب الريب يكون الصديق أعظم يقيناً وطمأنينة، وعند ما يتأذى منه النبي صلى الله عليه وسلم يكون الصديق أتبعهم لمرضاته وأبعدهم عما يؤذيه، هذا هو المعلوم لكل من استقرأ أحوالهم في محيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته، حتى إنه لما مات وموته كان أعظم المصائب التي تزلزل بها الإيمان حتى ارتد الأعراب واضطرب لها عمر الذي كان أقواهم إيماناً وأعظمهم يقيناً كان مع هذا تثبيت الله تعالى للصديق بالقول الثابت أكمل وأتم من غيره وكان في يقينه وطمأنينته وعلمه وغير ذلك أكمل من عمر وغيره فقال الصديق رضي الله عنه: "من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم قرأ الآية: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً} الآية"3.
__________
1ـ سورة النحل آية/127.
2ـ سورة آل عمران آية/139.
3ـ منهاج السنة 4/261، والآية رقم 144 من سورة آل عمران.(3/976)
خامساً: أما دعواهم أن حزنه دل على خوره فهذا كله من الكذب الواضح وضوح الشمس لأنه لا يوجد في الآية ما يدل على هذا من وجهين:
أحدهما: أن النهي عن شيء لا يدل على وقوعه، بل يدل على أنه ممنوع لئلا يقع فيما بعد، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} 1، فهذا لا يدل على أنه كان يطيعهم ... فقوله تعالى: {لا تحزن} لا يدل على أن الصديق قد حزن، لكن من الممكن في العقل أنه يحزن، فقد ينهى عن ذلك لئلا يفعله.
الثاني: أنه بتقدير أن يكون حزن فكان حزنه على النبي صلى الله عليه وسلم لئلا يقتل ويذهب الإسلام، وكان يود أن يفدي النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا لما كان معه في سفر الهجرة كان يمشي أمامه تارة ووراءه تارة، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم2 عن ذلك فقال: أذكر الرصد فأكون أمامك وأذكر الطلب فأكون وراءك"3.
رضي الله عنه وأرضاه.
سادساً: وأما افتراؤهم بأن حزنه دل على قلة صبره وعدم يقينه بالله فهذا باطل ولا يدل على انعدام الصبر المأمور به، فإن الصبر على المصائب واجب بالكتاب والسنة، ومع هذا فحزن القلب لا ينافي ذلك4 وكذلك زعمهم أنه يدل على عدم يقينه بالله كذب وبهت، فإن الأنبياء قد حزنوا ولم يكن ذلك دليلاً على عدم يقينهم بالله كما ذكر الله عن يعقوب وثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات ابنه إبراهيم وقال: "إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن ولا نقول إلا
__________
1ـ سورة الأحزاب آية/1
2ـ انظر فضائل الصحابة للإمام أحمد 1/62-63.
3ـ منهاج السنة 4/262-263.
4ـ دل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم: " ... ألا تسعمون إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يعذب بهذا وأشار إلى لسانه أو يرحم".. الحديث. صحيح البخاري 1/226-227، من حديث ابن عمر.(3/977)
ما يرضي ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزنون" 1، وكذا قولهم أنه يدل على عدم رضاه بقضاء الله وقدره هو باطل أيضاً لما هو معلوم من حاله رضي الله عنه بقوة الإيمان وكونه أكمل الخلق إيماناً بعد الأنبياء والرسل.
سابعاً: وأما هذيانهم أن الحزن إن كان طاعة استحال النهي عنه وإن كان معصية، فلا يدل على الفضيلة يجاب على هذا "أنه لم يدع أحد أن مجرد الحزن كان هو الفضيلة، بل الفضيلة ما دل عليه قوله تعالى: {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} الآية2 فالفضيلة كونه هو الذي خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحال واختص بصحبته، وكان له كمال الصحبة مطلقاً وقول النبي صلى الله عليه وسلم له إن الله معنا وما يتضمنه ذلك من كمال موافقته للنبي صلى الله عليه وسلم ومحبته وطمأنينته وكمال معونته للنبي صلى الله عليه وسلم وموالاته ففي هذه الحال من كمال إيمانه وتقواه ما هو الفضيلة وكمال محبته ونصره للنبي صلى الله عليه وسلم هو الموجب لحزنه إن كان حزن مع أن القرآن لم يدل على أنه حزن كما تقدم"3.
فكل ما يسوقه الرافضة من الكلام على آية الغار محاولين بذلك الطعن على أبي بكر هو كلام باطل غير مقبول والآية على رغم أنوف الرافضة اشتملت على فضل الصديق وما وصل إليه من الكمال الإيماني والصدق اليقيني كما دلت دلالة واضحة أنه صحب الرسول صلى الله عليه وسلم صحبة مودة وموالاة.
ومن مطاعنهم في حق الصديق: زعمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أنفذه لأداء سورة براءة ثم أنفذ علياً وأمره برده وأن يتولى هو ذلك ـ ثم يقولون ـ ومن لا يصلح لأداء سورة أو بعضها فكيف يصلح للإمامة المتضمنة لاداء الأحكام إلى جميع
__________
1ـ صحيح البخاري 1/226، من حديث أنس بن مالك.
2ـ سورة التوبة آية/40.
3ـ منهاج السنة 4/264.(3/978)
الأمة"1.
والرد على هذا أنه افتراء محض ورد للمتواتر، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم استعمل أبا بكر على الحج سنة تسع وما رده ولا رجع، بل هو الذي أقام للناس الحج، وكان علي من جملة رعيته إذ ذاك يصلي خلفه ويسير بسيره، وهذا مما لم يختلف فيه اثنان، ولكن أردفه بعلي لينبذ إلى المشركين عهدهم لأن عادتهم كانت جارية أن لا يعقد العقود ولا يحلها إلا المطاع، أو رجل من أهل بيته، فلم يكونوا يقبلون ذلك من كل أحد فبعث علياً ببراءة2.
قال أبو محمد بن حزم في صدد ذكره لفضائل أبي بكر رضي الله عنه: "واعترض علينا بعض الجهال ببعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب خلف أبي بكر رضي الله عنهما في الحجة التي حجها أبو بكر وأخذ ببراءة من أبي بكر، وتولى علي تبليغها إلى أهل الموسم وقراءتها عليهم، قال: وهذا من أعظم فضائل أبي بكر، لأنه كان أميراً على علي بن أبي طالب وغيره من أهل الموسم لا يدفعون إلا بدفعه، ولا يقفون إلا بوقوفه، ولا يصلون إلا بصلاته وينصتون إذا خطب وعلي في الجملة كذلك، وسورة براءة وقع فيها فضل أبي بكر رضي الله عنه وذكره فيها أمر الغار وخروجه مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكون الله تعالى معهما فقراءة علي لها أبلغ في إعلان فضل أبي بكر على علي وعلى سواه، وحجة لأبي بكر قاطعة وبالله التوفيق"3.
وقال العلامة ابن القيم مبيناً أن الرسول صلى الله عليه وسلم ولي أبا بكر إقامة الحج سنة تسع، ومبيناً أقوال العلماء في حكمة إردافه الصديق بعلي رضي الله عنهما، قال رحمه الله: "وولي أبا بكر إقامة الحج سنة تسع، وبعث في أثره علياً يقرأ على
__________
1ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/221، وانظر تفسير فرات الكوفي ص/54، الميزان في تفسير القرآن 9/162، حق اليقين 1/177.
2ـ انظر منهاج السنة 4/221، وانظر المنتقى من منهاج الاعتدال للذهبي ص/539.
3ـ الفصل في الملل والأهواء والنحل 4/146.(3/979)
الناس سورة "براءة".
فقيل: لأن أولها نزل بعد خروج أبي بكر إلى الحج.
وقيل: بل لأن عادة العرب كانت أنه لا يحل العقود ويعقدها إلا المطاع أو رجل من أهل بيته.
وقيل: أردفه به عوناً له، ومساعداً، ولهذا قال له الصديق أمير أم مأمور، قال: بل مأمور1، وأما أعداء الله الرافضة فيقولون: عزله بعلي وليس هذا ببدع من بهتهم، وافترائهم"أهـ2.
ولقد صدق رحمه الله أن الرافضة ليسوا ببدع في البهت والافتراء، فذلك متأصل فيهم منذ أن نبتت نابتتهم زمن الإمام زيد بن علي رحمه الله وأما زعمهم أن الإمامة العامة متضمنة لأداء جميع الأحكام إلى الأمة فهو زعم باطل "فالأحكام كلها قد تلقتها الأمة عن نبيها لا تحتاج فيها إلى الإمام إلا كما تحتاج إلى نظائره من العلماء وكانت عامة الشريعة التي يحتاج الناس إليها عند الصحابة معلومة، ولم يتنازعوا زمن الصديق في شيء منها إلا واتفقوا بعد النزاع بالعلم الذي كان يظهره بعضهم لبعض، وكان الصديق يعلم عامة الشريعة، وإذا خفي منه الشيء اليسير سأل عنه الصحابة ممن كان عنده علم ذلك كما سألهم عن ميراث الجد فأخبره من أخبره منهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه السدس، ولم يعرف لأبي بكر فتيا ولا حكم خالف نصاً"3، فلا مطعن على الصديق رضي الله عنه ببعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه خلفه في السنة التاسعة من الهجرة إلى الموسم بل إن ذلك يفيد المبالغة في إعلان فضل الصديق لأن السورة اشتملت على الثناء الإلهي الكريم على صديق رسوله ورفيقه في الغار، فكان من المناسب أن يكون إعلان هذا
__________
1ـ رواه النسائي في سننه 5/247-248، سنن الدارمي 2/66-67 ولفظه: "أمير أم رسول، قال: بل رسول أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم ب"براءة" أقرؤها على الناس في مواقف الحج".
2ـ زاد المعاد 1/126.
3ـ منهاج السنة 4/222.(3/980)
الثناء في الحج الأكبر في أيام الموسم بلسان علي بن أبي طالب رضي الله عنه وفي هذا نكسة واضحة لكل رافضي إلى يوم القيامة.
ومن مطاعنهم في حق الصديق أنهم يزعمون عدم حصول الإجماع على خلافته ويقولون بمنع الإجماع ويتعللون بأن جماعة "من بني هاشم لم يوافقوا على ذلك وجماعة من أكابر الصحابة كسلمان وأبي ذر والمقداد وعمار وحذيفة وسعد بن عبادة وزيد بن أرقم وأسامة بن زيد وخالد بن سعيد بن العاص، حتى أن أباه أنكر ذلك وقال: من استخلف على الناس فقالوا ابنك فقال: وما فعل المستضعفان إشارة إلى علي والعباس، قالوا: اشتغلوا بتجهيز رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأوا ابنك أكبر سناً ـ ثم يقولون ـ وبنو حنيفة كافة لم يحملوا الزكاة إليه حتى سماهم أهل الردة وقتلهم وسباهم فأنكر عمر عليه ورد السبايا أيام خلافته"1.
والرد على زعمهم هذا:
أن من له أدنى علم وخبرة عندما يسمع هذا الكلام يقطع بأن قائله من أجهل الناس، ومن أجرأ الناس على البهتان، فالرافضة أهل جهل وعمى، وأهل جرأة على الكذب، فبنو هاشم لم يمت منهم أحد إلا وقد بايع الصديق وأما الذين ينصون عليهم بأسمائهم من الصحابة وأنه تخلفوا عن بيعة أبي بكر فهو كذب عليهم إذ بيعتهم للصديق ثم الفاروق أشهر من أن تنكر وأسامة بن زيد لم يسر بجيشه لمحاربة الروم حتى بايع أبا بكر، وما تذكره الشيعة الرافضة من أن أبا قحافة أنكر استخلاف ابنه أبي بكر فهو باطل ولم يكن ابنه أسن الصحابة، وإنما كان أصغر من النبي صلى الله عليه وسلم بقليل، والعباس أكبر من النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين2 لكن المأثور عن أبي قحافة أنه لما قبض نبي الله صلى الله عليه وسلم ارتجت مكة فسمع
__________
1ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/227.
2ـ انظر منهاج السنة 4/230-231، المنتقى من منهاج الاعتدال ص/544-545.(3/981)
أبو قحافة، فقال: ما للناس؟ قالوا: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أمر جلل فمن ولي بعده، قالوا: ابنك، قال: وهل رضيت بذلك بنو عبد مناف وبنو المغيرة؟، قالوا: نعم، قال: لا مانع لما أعطى الله ولا معطي لما منع"1، وأما زعمهم أن بني حنيفة لم يحملوا الزكاة إليه حتى سماهم أهل الردة وقتلهم وسباهم، فيجاب على هذا البهتان بأن: "من أعظم فضائل أبي بكر عند الأمة أولهم وآخرهم أنه قاتل المرتدين وأعظم الناس ردة كان بنو حنيفة، ولم يكن قتاله لهم على منع الزكاة، بل قاتلهم على أنهم آمنوا بمسيلمة الكذاب، وكانوا فيما يقال نحو مائة ألف والحنفية أم محمد بن الحنفية سرية علي كانت من بني حنيفة وبهذا احتج من جوز سبي المرتدات إذا كان المرتدون محاربين فإذا كانوا مسلمين معصومين فكيف استجاز علي أن يسبى نساءهم ويطأ من ذلك السبي وأما الذين قاتلهم على منع الزكاة فأولئك ناس آخرون ولم يكونوا يؤدونها وقالوا: لا نؤديها إليك، بل امتنعوا من أدائها بالكلية فقاتلهم على هذا لم يقاتلهم ليؤدوها إليه وأتباع الصديق كأحمد بن حنبل وأبي حنيفة وغيرهما يقولون: إذا قالوا نحن نؤديها ولا ندفعها إلى الإمام لم يجز قتالهم لعلمهم بأن الصديق إنما قاتل من امتنع من أدائها جملة لا من قال: أنا أؤديها بنفسي ـ ولو عدت الرافضة ـ "من المتخلفين عن بيعة أبي بكر المجوس واليهود والنصارى لكان ذلك من جنس ـ عدهم ـ "لبني حنيفة بل كفر بني حنيفة من بعض الوجوه كان أعظم من كفر اليهود والنصارى والمجوس، فإن أولئك كفار أصليون وهؤلاء مرتدون، وأولئك يقرون بالجزية، وأولئك لهم كتاب أو شبهة كتاب وهؤلاء اتبعوا مفترياً كذاباً ... وأمر مسيلمة مشهور في جميع الكتب التي يذكر فيها مثل ذلك من كتب الحديث والتفسير والمغازي والفتوح والفقه والأصول والكلام، وهذا أمر قد خلص إلى العذارى في خدورهن، بل قد أفرد الإخباريون لقتال
__________
1ـ رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى 3/184، الاستيعاب على حاشية الإصابة 2/247.(3/982)
أهل الردة كتباً سموها كتب الردة والفتوح كسيف بن عمر والواقدي وغيرهما يذكر فيها من تفاصيل أخبار أهل الردة وقتالهم ما يذكرون"1.
وأما زعمهم: "أن عمر أنكر قتال أهل الردة ورد عليهم سباياهم فهذا من أعظم الكذب والافتراء على عمر بل الصحابة كانوا متفقين على قتال مسيلمة وأصحابه، ولكن كانت طائفة أخرى مقرين بالإسلام وامتنعوا عن أداء الزكاة فهؤلاء حصل لعمر أولاً شبهة في قتالهم حتى ناظره الصديق وبين له وجوب قتالهم فرجع إليه والقصة في ذلك مشهورة"2.
وأما قولهم إن عمر رضي الله عنه أنكر على الصديق سبي مانعي الزكاة ورد السبايا أيام خلافته، فيقال لهم: هذا من الكذب الذي لا يخفى على من عرف أحوال المسلمين، فإن مانعي الزكاة اتفق أبو بكر وعمر على قتالهم بعد أن راجعه عمر في ذلك كما هو ثابت في الصحيحين3 ... لكن من الناس من يقول سبى أبو بكر نساءهم وذراريهم وعمر أعاد ذلك عليهم وهذا إذا وقع ليس فيه بيان اختلافهما، فإنه قد يكون عمر كان موافقاً على جواز سبيهم،لكن رد إليهم سبيهم كما رد النبي صلى الله عليه وسلم على هوازن سبيهم بعد أن قسمه بين المسلمين، فمن طابت نفسه بالرد وإلا عوضه من عنده لما أتى أهلهم مسلمين وطلبوا رد ذلك إليهم4، وأهل الردة قد اتفق أبو بكر وعمر وسائر الصحابة على أنهم لا يمكنون من ركوب الخيل ولا حمل السلاح بل يتركون يتبعون أذناب البقر حتى يري الله خليفة رسوله والمؤمنين حسن إسلامهم، فلما تبين لعمر حسن إسلامهم رد ذلك إليهم لأنه جائز"5.
__________
1ـ منهاج السنة 4/228، وانظر المنتقى من منهاج الاعتدال ص/544.
2ـ المصدر السابق 4/229، وانظر المنتقى من منهاج الاعتدال ص/544.
3ـ انظر صحيح البخاري 4/196، صحيح مسلم 1/51-52.
4ـ انظر السيرة النبوية لابن هشام 1/488-491.
5ـ منهاج السنة 3/231-232.(3/983)
فإمامة الصديق من الأمور التي أجمعت عليها الأمة وما يردده الرافضة من الهذيان حول عدم الإجماع عليها لا يلتفت إليه ولا يعتد به.
ومن مطاعنهم في حق الصديق أنهم طعنوا عليه بقوله تعالى: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} 1.
ووجه طعنهم بهذه الآية أنهم يقولون: "أخبر بأن عهد الإمامة لا يصل إلى الظالم والكافر ظالم لقوله: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} 2، قالوا: ولا شك في أن الثلاثة كانوا كفاراً يعبدون الأصنام، إلى أن ظهر النبي صلى الله عليه وسلم"3.
ويرد على هذا الافتراء من وجوه:
أحدها: أن الكفر الذي يعقبه الإيمان لم يبق على صاحبه منه ذم، فإن الإسلام يجب ما قبله وهذا معلوم بالاضطرار من الدين.
ثانياً: ليس كل من ولد على الإسلام بأفضل ممن أسلم بنفسه، وإلا لزم أن يكون أفضل من الصحابة، فقد ثبت بالنصوص المستفيضة أن خير القرون القرن الأول الذي بعث فيهم الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعامتهم أسلموا بأنفسهم بعد الكفر، وهم أفضل بلا شك ممن ولد على الإسلام، ولهذا قال أكثر العلماء أنه يجوز على الله أن يبعث نبياً ممن آمن بالأنبياء ولهذا قال تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} 4، وقد قال شعيب: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا} 5.
ثالثاً: يقال لهم: قبل أن يبعث الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم لم يكن أحد مؤمناً
__________
1ـ سورة البقرة آية/124.
2ـ سورة البقرة آية/254.
3ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/218، الميزان في تفسير القرآن 1/278-279.
4ـ سورة العنكبوت آية/26.
5ـ سورة الأعراف آية/89.(3/984)
من قريش لا صغير ولا كبير، وإذا قيل عن رجالهم أنهم كانوا يعبدون الأصنام فصبيانهم كذلك، فإن قالوا: كفر الصبي ليس مثل كفر البالغ، يقال لهم: ولا إيمان الصبي مثل إيمان البالغ، فالرجل يثبت له حكم الإيمان بعد الكفر وهو بالغ، والصبي يثبت له حكم الكفر والإيمان وهو دون البلوغ، والطفل بين أبويه الكافرين يجري عليه حكم الكفر في الدنيا بالإجماع، فإذا أسلم قبل البلوغ فهل يجري عليه حكم الإسلام قبل البلوغ على قولين للعلماء: بخلاف البالغ، فإنه يصير مسلماً باتفاق فكان إسلام الثلاثة مخرجاً لهم من الكفر بإجماع المسلمين.
رابعاً: أن أسماء الذم الواردة في القرآن كالكفر والظلم والفسق لا تتناول إلا من كان مقيماً على ذلك، وأما من صار مؤمناً بعد الكفر وعادلاً بعد الظلم براً بعد الفجور، فهذا تتناوله أسماء المدح دون أسماء الذم باتفاق المسلمين، فمن أسلم بعد كفره واتقى وآمن لم يجز أن يسمى ظالماً، فقوله تعالى: {لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} أي: ينال العادل دون الظالم، فإذا قدر أن شخصاً كان ظالماً ثم تاب، وصار عادلاً تناوله العهد وصار ممدوحاً بآيات المدح والثناء كقوله تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} 1، وقوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} 2.
خامساً: إن من قال إن المسلم بعد إيمانه كافر فهو كافر بإجماع المسلمين، فكيف يقال: عن أفضل الخلق إيماناً إنهم كفار لأجل ما تقدم3.
ومما طعن به الرافضة على أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ: قول عمر ـ رضي الله عنه ـ: "كانت بعية أبي بكر فلتة وقى الله المسلمين شرها فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه"، وكونها فلتة يدل على أنها لم تقع عن رأي صحيح ثم سأل وقاية
__________
1ـ سورة الانفطار آية/13، المطففين آية/22.
2ـ سورة الدخان آية/51.
3ـ انظر منهاج السنة 4/218-219، وانظر المنتقى من منهاج الاعتدال ص/536-537.(3/985)
شرها، ثم أمر بقتل من يعود إلى مثلها، وكان ذلك يوجب الطعن فيه"1.
والرد على هذا، "أن لفظ عمر ما ثبت في الصحيحن عن ابن عباس من خطبة عمر التي قال فيها: "ثم إنه قد بلغني أن قائلاً منكم يقول: "والله لو مات عمر بايعت فلاناً" فلا يغترن امرؤ أن يقول: إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة، ألا وإنها قد كانت كذلك، ولكن قد وقى الله شرها وليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر، من بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغره أن يقتلا وإنه كان من خيرنا حين توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم وذكر الحديث"2.
ومعنى ذلك أنها وقعت فجأة لم تكن قد استعددنا لها، ولا تهيأنا لأن أبا بكر كان متعيناً لذلك فلم يكن يحتاج في ذلك إلى أن يجتمع لها الناس، إذ كلهم يعلمون أنه أحق بها وليس بعد أبي بكر من يجتمع الناس على تفضيله واستحقاقه، كما اجتمعوا على ذلك في أبي بكر فمن أراد أن ينفرد ببيعة رجل دون ملأ من المسلمين فاقتلوه، وهو لم يسأل وقاية شرها بل أخبر أن الله وقى شر الفتنة بالإجماع"3.
ومن مطاعنهم التي ألصقوها بالصديق ـ رضي الله عنه ـ زعمهم أنه قال: "أقيلوني فلست بخيركم، ولو كان لم يجز له طلب الإقالة"4.
والرد على هذا من وجهين:
الوجه الأول: يطالبون بصحة هذا إذ ليس كل منقول صحيح والقدح بغير الصحيح لا يصح.
__________
1ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/216. الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 2/302.
2ـ صحيح البخاري 4/179-180، المسند 1/55، من حديث ابن عباس رضي الله عنه.
3ـ منهاج السنة 4/216-217.
4ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/219، الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 2/294، الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف 2/402-403.(3/986)
الوجه الثاني: لو صح هذا القول عن الصديق لم تجز معارضته بقول القائل الإمام لا يجوز له طلب الإقالة، فإن هذه دعوى مجردة لا دليل عليها، وأما تثبيت كون الصديق قاله والقدح في ذلك بمجرد الدعوى فهو كلام من لا يبالي ما يقول، وقد يقال وهذا يدل على الزهد في الولاية والورع فيها وخوف الله أن لا يقوم بحقوقها، وهذا يناقض ما يقوله الرافضة أنه كان طالباً للرياسة راغباً في الولاية1.
ومما طعنوا به على أبي بكر رضي الله عنه: زعمهم أنه تسمى بخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستخلفه2.
والرد على هذيانهم هذا:
أنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم على رغم أنف كل رافضي وجد على وجه الأرض إلى يوم القيامة، ولو سمى نفسه بخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم لصدق في ذلك ولقبله منه كل مسلم عرف قدره ومنزلته في هذه الأمة، ولكنه رضي الله عنه لم يسم نفسه بهذا الاسم وإنما سماه به من أطلق الله عليهم بأنهم خير أمة أخرجت للناس3، ومن أخبر الله عنهم أنهم صادقون بقوله: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} 4.
فقد اتفق هؤلاء الذين شهد الله لهم بالصدق وجميع إخوانهم من الأنصار رضي الله عنهم على أن سموه خليفة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم5.
__________
1ـ منهاج السنة 4/219.
2ـ انظر كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة 1/4-5، وانظر منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 2/175، الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 2/299.
3ـ انظر المستدرك 3/79-80.
4ـ سورة الحشر آية/8.
5ـ منهاج السنة 1/135.(3/987)
وأما قولهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستخلفه، يجاب على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان لم ينص عليه بالاسم إلا أنه أرشد الأمة استخلافه بأمور عديدة من أقوال وأفعال وهمّ عليه الصلاة والسلام أن يكتب بذلك عهداً لكنه علم أن المسلمين يجتمعون عليه فترك ذلك، فلو كان التعيين مما يشتبه على الأمة لبينه بياناً قاطعاً للعذر، لكنه دلهم دلالات متعددة على أن أبا بكر هو المتعين، وفهموا ذلك.
هنا حصل المقصود1 ولا حاجة للنص عليه بعينه اكتفاء بذلك فلا وجه لطعن الشيعة على أبي بكر بهذا وطعنهم عليه بهذا يعد من فضول الكلام.
ومما طعنوا به على أبي بكر: أنهم يقولون: "لما استتب له الأمر قطع لنفسه أجرة من بيت مال الصدقة كل يوم ثلاثة دارهم، وهذا من أظهر الحرام فاكل الحرام تعمداً وخلافاً على الله، وعلى رسوله الله، مصراً عليه غير نادم فيه ولا تائب عنه إلى أن مات بغير خلاف فيه وذلك أن أبواب أموال الشريعة معلومة كل باب منها مفروض من الله ومن رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لقوم بأعيانهم لا يحل لأحد أن يأكل منه حبة واحدة حتى يصير ذلك في أيديهم"2.
والرد على هذا الافتراء:
أنه لا يصدر إلا ممن قل حياؤه وخبثت سيرته وسريرته، وبلغ في الجهل ذروته، فالصديق رضي الله عنه لم يفرض لنفسه ولا درهما واحداً من بيت مال المسلمين، وإنما خيار الأمة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم هم الذين فرضوا له شيئاً يسيراً من بيت مال المسلمين حتى يتفرغ لأمور المسلمين.
فقد أخرج ابن سعد بإسناده إلى عطاء بن السائب، قال: لما استخلف أبو بكر أصبح غادياً إلى السوق، وعلى رقبته أثواب يتجر بها، فلقيه عمر بن
__________
1ـ المصدر السابق 1/139.
2ـ كتاب الاستغاثة 1/17.(3/988)
الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح، فقالا له: أين تريد يا خليفة رسول الله؟، قال: السوق، قالا: تصنع ماذا وقد وليت أمر المسلمين؟، قال: فمن أين أطعم عيالي ... "1.
وهنا اتفق الصحابة وفي مقدمتهم عمر الفاروق وأمين هذه الأمة أبو عبيدة على تخصيص مبلغ معين للصديق، ليتفرغ لشئون الخلافة، وأقره جميعهم ولم يوجد من أنكر هذا فلو كان هذا حراماً، فقد كان أبو الحسن رضي الله عنه أحد من أقروه وقدروه2، فلا وجهة صحيحة للرافضة للطعن على أبي بكر، بأنه هو الذي فرض لنفسه كل يوم ثلاثة دراهم.
ومما طعنوا به على الصديق: أنهم يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: جهزوا جيش أسامة وكرر الأمر وكان فيهم أبو بكر وعمر وعثمان ولم ينفذ أمير المؤمنين لأنه أراد منعهم من الوثب على الخلافة بعده فلم يقبلوا منه"3.
والرد على هذا أنه باطل من وجوه:
الأول: أنهم يطالبون بصحة النقل إذ هذا من الأخبار التي ليس لها سند معروف، ولم يصححه أحد من علماء النقل والاحتجاج بالمنقول لا يسوغ إلا بعد العلم بصحته وثبوته وإلا فيمكن أن يقول كل واحد ما شاء.
الثاني: أن هذا كذب باتفاق علماء النقل، فلم يكن في جيش أسامة أبو بكر ولا عثمان، وإنما قد قيل إنه كان عمر وقد تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استخلف أبا بكر على الصلاة حتى مات وصلى أبو بكر رضي الله عنه الصبح يوم موته، وقد كشف سجف الحجرة فرآهم صفوفاً خلف أبي بكر فسر
__________
1ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 3/184.
2ـ انظر المصدر السابق 3/184-185، تاريخ الأمم والملوك 3/432.
3ـ انظر كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة 1/20-23، الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 1/296-299، منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/220، حق اليقين في معرفة أصول الدين 1/178.(3/989)
بذلك1، فكيف يكون مع هذا قد أمره أن يخرج في جيش أسامة.
الثالث: لو أراد النبي صلى الله عليه وسلم تولية علي لكان هؤلاء أعجز من أن يدفعوا أمره ولكان جماهير الأمة أطوع لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم من أن يدعوا أحداً يتوثب على من نص الرسول صلى الله عليه وسلم لهم عليه.
الرابع: لو أراد توليته لكان أمره بالصلاة بالمسلمين أيام مرضه، ولما كان يدع أبا بكر يصلي بهم2 وبهذه الوجوه يبطل طعن الرافضة على الصديق بهذا فقد أنفذ رضي الله عنه جيش أسامة حيث الوجهة التي أرادها النبي صلى الله عليه وسلم وزعمهم بأنه كان أحد أفراد هذا الجيش وتخلف وأن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعن المتخلف كذب محض، وتقول على الرسول صلى الله عليه وسلم بما لم يقل به.
ومن مطاعنهم على أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ أنه لم يعط فاطمة رضي الله عنها من تركه أبيها صلى الله عليه وسلم، حتى قالت: يا ابن أبي قحافة أنت ترث أباك، وأنا لا أرث أبي؟، واحتج أبو بكر على عدم توريثها بما رواه هو فقط من قوله صلى الله عليه وسلم: "نحن معاشر الأنبياء لا نرث ولا نورث"، مع أن هذا الخبر مخالف لصريح قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} 3 فإنه عام للنبي وغيره ومخالف أيضاً لقوله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} 4، وقوله تعالى: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} 5.
والرد على هذا:
__________
1ـ انظر صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 2/235، وهو من حديث ابن عمر رضي الله عنه.
2ـ انظر منهاج السنة 4/220-221، وانظر المنتقى من منهاج الاعتدال ص/538-539، التحفة الاثنى عشرية ص/240-241.
3ـ سورة النساء آية/11.
4ـ سورة النمل آية/16.
5ـ انظر الاستغاثة في بدع الثلاثة لأبي القاسم أحمد بن علي الكوفي 1/9-15، الصراط المستقيم في مستحقي التقديم للعاملي 2/282-284، الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف لعلي بن موسى بن طاووس الحسني الحسيني 1/247 وما بعدها. حق اليقين 1/178-179.(3/990)
أن الصديق رضي الله عنه لم يمنع فاطمة رضي الله عنها من الإرث لأجل عداوة أو بعض لها والدليل على هذا عدم توريثه أمهات المؤمنين حتى ابنته، والحامل له على هذا تمام التزامه بما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم ومن ذلك ما روى البخاري بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها أن فاطمة عليها السلام والعباس أتيا أبا بكر يلتمسان أرضه من فدك وسهمه من خيبر، فقال أبو بكر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا نورث ما تركنا صدقة إنما يأكل آل محمد في هذا المال" الحديث1 وهذا أمر كان معروفاً بين أزواجه المطهرات.
فقد روى البخاري بإسناده إلى عروة بن الزبير أنه قال: سمعت عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: أرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عثمان إلى أبي بكر يسألنه ثمنهن مما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، فكنت أنا أردهن، فقلت لهن: ألا تتقين الله ألم تعلمن أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "لا نورث ما تركنا صدقة" يريد بذلك نفسه، إنما يأكل آل محمد صلى الله عليه وسلم في هذا المال، فانتهى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما أخبرتهن" الحديث2، فهذه إحدى الزوجات الوارثات للنبي صلى الله عليه وسلم قد روت ما قاله أبو بكر، ولو أن باقي أمهات المؤمنين لم يتذكرن ما ذكرتهن به عائشة لأنكرن قولها، ومعنى هذا أنه أمر كان مقرراً عندهن ومعروفاً لديهن وزعم الشيعة أن الصديق رضي الله عنه تفرد برواية هذا الحديث زعم باطل، فقد "وافقه على رواية هذا الحديث: عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب، والعباس بن عبد المطلب، وعبد الرحمن بن عوف وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وأبو هريرة، وعائشة ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ ولو تفرد بروايته الصديق رضي الله عنه لوجب على جميع أهل الأرض قبول روايته والانقياد له في ذلك"3.
وأما دعواهم أن
__________
1ـ صحيح البخاري 3/17.
2ـ صحيح البخاري 3/17.
3ـ البداية والنهاية 5/322.(3/991)
الحديث مخالف لآية المواريث وغيرها "فجهل عظيم لأن الخطاب في "يوصيكم" لما عدا النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا الخبر مبين لتعيين الخطاب لا مخصص، بل لو كان مخصصاً للآية فأي ضرر فيه؟، فقد خصص من الآية الولد الكافر والرقيق والقاتل.
فالرافضة إذا دخلوا في مسألة لم يدخلوها بفهم وعلم، وإنما يدخلونها بجهل وعدم فهم ومنها مسألة الميراث هذه.
قال العلامة ابن كثير: "وقد تكلمت الرافضة في هذا المقام بجهل وتكلفوا ما لا علم لهم به، وكذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله، وأدخلوا أنفسهم فيما لا يعنيهم، وحاول بعضهم أن يرد خبر أبي بكر رضي الله عنه بأنه مخالف للقرآن حيث يقول الله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} 1 الآية، وحيث قال تعالى إخباراً عن زكريا أنه قال: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} 2 واستدلالهم بهذا باطل من وجوه:-
أحدها: أن قوله: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} إنما يعني بذلك في الملك والنبوة، أي: جعلناه قائماً بعده فيما كان يليه من الملك وتدبير الرعايا والحكم بين بني إسرائيل، وجعلناه نبياً كريماً كأبيه، وكما جمع لأبيه الملك والنبوة كذلك جعل ولده بعده وليس المراد بهذا وراثة المال لأن داود ـ كما ذكره كثير من المفسرين ـ كان له أولاد كثيرون يقال مائة فلم اقتصر على ذكر سليمان من بينهم، لو كان المراد وراثة المال؟ إنما المراد وراثة القيام بعده في النبوة والملك ولهذا قال تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} .
وأما قصة زكريا، فإنه عليه السلام من الأنبياء الكرام، والدنيا كانت عنده
__________
1ـ سورة النمل آية/16.
2ـ سورة مريم آية/5-6.(3/992)
أحقر من أن يسأل الله ولداً ليرثه في ماله كيف؟، وإنما كان نجاراً يأكل من كسب يده كما رواه البخاري1 ولم يكن ليدخر فوق قوته حتى يسأل الله ولداً يرث عنه ماله ـ أن لو كان له مال ـ وإنما سأل ولداً صالحاً يرثه في النبوة والقيامم بمصالح بني إسرائيل وحملهم على السداد.
الوجه الثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خص من بين الأنبياء بأحكام لا يشاركونه فيها ... فلو قدر أن غيره من الأنبياء يورثون وليس الأمر كذلك ـ لكان ما رواه ـ الصحابة وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ـ مبيناً لتخصيصه بهذا الحكم دون سواه.
الوجه الثالث: أنه يجب العمل بهذا الحديث والحكم بمقتضاه كما حكم به الخلفاء واعترف بصحته العلماء سواء كان من خصائصه أم لا، فإنه قال: "لا نورث ما تركنا صدقة"، أن يكون خبراً عن حكمه، أو حكم سائر الأنبياء معه وهو الظاهر، ويحتمل أن يكون إنشاء وصيته كأنه يقول: لا نورث لأن جميع ما تركناه صدقة، ويكون تخصيصه من حيث جواز حمله ماله كله صدقة والاحتمال الأول أظهر، وهو الذي سلكه الجمهور، وقد يقوى المعنى الثاني ـ بما رواه ـ مالك وغيره ـ عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقتسم ورثتي ديناراً ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة" 2، وهو يرد تحريف من قال من الجهلة من طائفة الشيعة في رواية هذا الحديث: "ما تركناه صدقة" بالنصب ـ جعل ـ ما ـ نافية فكيف يصنع بأول الحديث وهو قوله لا نورث ـ؟ وبهذه الرواية "ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة"؟ ... والمقصود أنه يجب العمل بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا نورث ما تركنا صدقة" على كل تقدير احتمله اللفظ والمعنى، فإنه مخصص لعموم آية
__________
1ـ لم أقف عليه في البخاري، وإنما هو في صحيح مسلم 4/1847.
2ـ الموطأ 2/993، صحيح البخاري 2/188.(3/993)
الميراث ومخرج له عليه السلام منها إما وحده أو مع غيره من إخوانه الأنبياء عليه وعليهم الصلاة والسلام"1.
فلا سبيل للرافضة، للطعن على أبي بكر بقضية توريث فاطمة رضي الله عنها مما أفاء الله على رسوله من مال فدك والنضير وخيبر حيث: "إنه لما كان خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو يرى أن فرضاً عليه أن يعمل بما كان يعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم ويلي ما كان يليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال: "وإني والله لا أدع أمراً رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه فيه إلا صنعته"2، وهذا هو الحكم المصحوب بالصواب والسداد، وهو الحكم الذي ارتضته فاطمة رضي الله عنها وسلمت به عندما اعتذر لها الصديق بعذر يجب قبوله، وهو ما رواه عن أبيها صلى الله عليه وسلم في هذه القضية، فقالت له: "فأنت وما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم"3، وهذا هو الصواب والمظنون بها وما يليق بأمرها وسيادتها وعلمها ودينها رضي الله عنها.
وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى الحكمة في عدم توريث الأنبياء كغيرهم من الناس، فقال: "والفرق بين الأنبياء وغيرهم أن الله تعالى صان الأنبياء عن أن يورثوا دنيا لئلا يكون ذلك شبهة لمن يقدح في نبوتهم بأنهم طلبوا الدنيا وورثوها لورثتهم، وأما أبو بكر الصديق وأمثاله فلا نبوة لهم يقدح فيها بمثل ذلك، كما صان الله تعالى نبينا عن الخط والشعر صيانة لنبوته عن الشبهة وإن كان غيره لم يحتج إلى هذه الصيانة"4.
ومما هو جدير بالتنبيه عليه أن أئمة أهل البيت اعترفوا بصحة ما حكم به أبو بكر فيما أفاء الله به على رسوله صلى الله عليه وسلم وأيدوه على ذلك، فهذا علي رضي الله عنه "قد تولى الخلافة بعد ذي النورين عثمان" وصار فدك وغيرها تحت
__________
1ـ البداية والنهاية 5/325-327.
2ـ رواه الإمام أحمد في مسنده 1/10.
3ـ المصدر السابق 1/4.
4ـ منهاج السنة 2/157-158.(3/994)
حكمه ولم يعط منها شيئاً لأحد من أولاد فاطمة، ولا من زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ولا ولد العباس، فلو كان ذلك ظلماً وقدر على إزالته لكان هذا أهون عليه من قتال معاوية وجيوشه أفتراه يقاتل معاوية مع ما جرى في ذلك من الشر العظيم ولا يعطي هؤلاء قليلاً من المال وأمره أهون بكثير1.
وقد ذكر الحافظ ابن كثير أن الحافظ البيهقي روى بإسناده إلى فضيل بن مرزوق، قال: قال زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب: أما أنا فلو كنت مكان أبي بكر لحكمت بما حكم به أبو بكر في فدك2.
فالرافضة لو تفهموا الأمور على ما هي عليه لعرفوا للصديق فضله، وقبلوا منه عذره، كما قبلت ذلك منه سيدة نساء أهل الجنة فاطمة رضي الله عنها وغيرها من أهل البيت، ولكن الرافضة طائفة لها النصيب الأوفر من الخذلان يتشبثون بالمتشابه ويعدلون عن الأمور المحكمة المقدرة عند أئمة الإسلام من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من العلماء المعتبرين في سائر الأعصار والأمصار.
ومن مطاعنهم على أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ أنهم يقولون: إنه درأ الحد عن خالد بن الوليد أمير الأمراء عنده ولم يقتص منه عندما قتل مالك بن نويرة مع إسلامه ونكح امرأته في تلك الليلة ولم تمض عدة الوفاة ويزعمون أن عمر أنكر هذا على أبي بكر3.
والرد على هذا الزعم:
أنه من أظهر الأدلة على جهل الرافضة بما حكته كتب التواريخ فخالد بن الوليد لم يقتل مالك بن نويرة إلا بعد أن أظهر له أنه ارتد عن الإسلام هو وأهله،
__________
1ـ منهاج السنة 3/231.
2ـ البداية والنهاية 5/325.
3ـ انظر كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة لأبي القاسم الكوفي 1/6، الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 2/279، مقدمة مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول لمرتضى العسكري 1/44، حق اليقين 1/179-180.(3/995)
فقد أعلنوا سرورهم وضربوا بالدفوف وشتموا أهل الإسلام عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم1، بل إن مالك بن نويرة قال في حضور خالد عندما كان يؤنبه على متابعة سجاح وعلى منعه الزكاة، وقال له: "ألم تعلم أنها قرينة الصلاة، فقال مالك: إن صاحبكم كان يزعم ذلك، فقال له خالد: أهو صاحبنا وليس بصاحبك"2، فهذا التعبير مشعر بالكفر والردة بل ثبت أن مالكاً لما سمع بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم رد صدقات قومه عليهم، وقال: قد نجوتم من مؤنة هذا الرجل"3.
وذكر أبو سليمان الخطابي أن المرتدين بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم كانوا على صنفين:
صنف منهم ارتدوا عن الدين ونابذوا الملة وعادوا إلى الكفر.
والصنف الآخر هم الذين فرقوا بين الصلاة والزكاة، فأقروا بالصلاة وأنكروا الزكاة ووجوب أدائها إلى الإمام ... إلى أن قال: وقد كان ضمن هؤلاء المانعين للزكاة من كان يسمح بالزكاة ولا يمنعها إلا أن رؤساءهم صدوهم عن ذلك الرأي وقبضوا على أيديهم في ذلك كبني يربوع فإنهم قد جمعوا صدقاتهم وأرادوا أن يبعثوا بها إلى أبي بكر رضي الله عنه فمنعهم مالك بن نويرة عن ذلك وفرقها فيهم"4.
فلما بلغ الصديق حال مالك هذا لم يوجب على خالد القصاص ولا الحد إذ لا موجب لهما، فكيف يريد الرافضة بعد هذا من أبي بكر أن يقيد خالداً في رجل علم ارتداده، وبان كفره.
__________
1ـ انظر مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/238.
2ـ البداية والنهاية 6/363، وانظر تاريخ الأمم والملوك 3/280.
3ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/239.
4ـ معالم السنن 2/3.(3/996)
وأما زعمهم أن خالداً تزوج امرأة مالك بن نويرة من ليلته ولم تمض عدة الوفاة، فهذا لم يثبت في كتاب معتبر، بل الثابت في الروايات المعتبرة عند ابن جرير وابن كثير أن خالداً لم يتسر بهذه السبية إلا بعد انقضاء عدتها1.
قال الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى في صدد رده على ابن المطهر الحلي: "وأما ما ذكره من تزوجه بامرأته ليلة قتله، فهذا مما لم يعرف ثبوته"2.
وأما قولهم: "إن عمر رضي الله عنه أنكر على أبي بكر عدم أخذ القود من خالد لمالك بن نويرة يقال لهم: "غاية هذا أن تكون مسألة اجتهاد كان رأي أبي بكر فيها أن لا يقتل خالداً، وكان رأي عمر فيها قتله، وليس عمر بأعلم من أبي بكر لا عند أهل السنة ولا عند الشيعة ولا يجب على أبي بكر ترك رأيه لرأي عمر، ولم يظهر بدليل شرعي أن قول عمر هو الراجح فكيف يجوز أن يجعل هذا عيباً لأبي بكر ـ ولا يجعله عيباً له ـ إلا من هو من أقل الناس علماً وديناً وليس عندنا أخبار صحيحة ثابتة بأن الأمر جرى على وجه يوجب قتل خالد"3، ومما يعتذر به للفاروق رضي الله عنه أنه تأثر بما بلغهم من أن سرية خالد لما أذنوا للصلاة سمعوا أذاناً وإقامة صلاة من جهة مالك وأصحابه4 لكن ثبت أن أخاه متمم بن نويرة اعترف بارتداده في حضور عمر مع شدة محبته له محبة تضرب بها الأمثال وفيه قال:
وكنا كندماني جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالكاً
... يطول اجتماع لم نبت ليلة معاً5
ثم إن عمر ندم على ما كان من إنكاره زمن الصديق6.
__________
1ـ انظر تاريخ الأمم والملوك 3/278، البداية والنهاية 6/363.
2ـ منهاج السنة 3/130.
3ـ المصدر السابق 3/129-130.
4ـ انظر تاريخ الأمم والملوك 3/278، البداية والنهاية 6/363.
5ـ انظر أبياته في الكامل في التاريخ لابن الأثير 2/35، البداية والنهاية 6/363.
6ـ انظر مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/241-242.(3/997)
فلا مسوغ للرافضة للطعن على الصديق بقصة خالد مع مالك بن نويرة إذ كان قتله خالد على ارتداده.
ومما طعن به الرافضة على أبي بكر: أنهم يقولون: "إنه أول من سمى المسلمين كفاراً، وأن القوم كانوا متأولين في منع الصدقة، وكانوا يزعمون أن الخطاب في قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} خطاب خاص في مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره وأنه مقيد بشرائط لا توجد فيمن سواه وذلك أنه ليس لأحد من التطهير والتزكية والصلاة على المتصدق ما للنبي صلى الله عليه وسلم ومثل هذه الشبهة إذا وجدت كان مما يعذر فيه أمثالهم ويرفع به السيف عنهم وزعموا أن قتالهم كان عسفاً1.
قال الخطابي رحمه الله بعد أن ذكر هذيانهم هذا: "وهؤلاء الذين زعموا ما ذكرناه قوم لا خلاق لهم في الدين وإنما رأس مالهم البهت والتكذيب والوقعية في السلف، وقد بينا أن أهل الردة كانوا أصنافاً منهم من ارتد عن الملة ودعا إلى نبوة مسيلمة وغيره، ومنهم من ترك الصلاة والزكاة وأنكر الشرائع كلها وهؤلاء هم الذين سماهم الصحابة كفاراً، ولذلك رأى أبو بكر رضي الله عنه سبي دراريهم، وساعده على ذلك أكثر الصحابة واستولد علي بن أبي طالب جارية من سبي بني حنيفة، فولدت له محمد الذي يدعى ابن الحنفية، ثم لم ينقض عصر الصحابة حتى أجمعوا على أن المرتد لا يسبي، فأما مانعوا الزكاة منهم المقيمون على أصل الدين فإنهم أهل بغي ولم يسموا على الانفراد منهم كفاراً وإن كانت الردة قد أضيفت إليهم لمشاركتهم المرتدين في منع بعض ما منعوه من حقوق الدين وذلك أن الردة اسم لغوي وكل من انصرف عن أمر كان مقبلاً عليه فقد ارتد عنه وقد وجد من هؤلاء القوم الانصراف عن الطاعة ومنع الحق وانقطع عنهم اسم الثناء والمدح بالدين وعلق بهم الاسم القبيح لمشاركتهم القوم
__________
1ـ انظر الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف 2/433-434.(3/998)
الذين كان ارتدادهم حقاً، وأما قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} 1 وما ادعوه من كون الخطاب خاصاً لرسول الله فإن خطاب كتاب الله تعالى على ثلاثة أوجه:-
خطاب عام كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} الآية2 وكقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} 3.
وخطاب خاص للنبي صلى الله عليه وسلم لا يشركه فيه غيره، وهو ما أبين به من غيره بسمة التخصيص وقطع التشريك كقوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} 4 وخطاب مواجهة للنبي صلى الله عليه وسلم وهو وجميع أمته في المراد به سواء كقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} 5 وكقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} 6 ونحو ذلك من خطاب المواجهة، فكل ذلك غير مختص برسول الله صلى الله عليه وسلم بل تشاركه فيه الأمة فكذا قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} فعلى القائم بعده صلى الله عليه وسلم بأمر الأمة أن يحتذي حذوه في أخذهم منهم، وإنما الفائدة في مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم بالخطاب أنه هو الداعي إلى الله تعالى والمبين عنه معنى ما أراد، فقدم اسمه في الخطاب ليكون سلوك الأمر في شرائع الدين على حسب ما ينهجه ويبينه لهم ـ إلى أن قال ـ فأما التطهير والتزكية والدعاء من الإمام لصاحب الصدقة فإن الفاعل فيها قد ينال ذلك كله بطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فيها وكل ثواب موعود على عمل بر كان في زمنه صلى الله عليه وسلم فإنه باق غير منقطع، ويستحب للإمام وعامل الصدقة أن يدعو للمصدق
__________
1ـ سورة التوبة آية/103.
2ـ سورة المائدة آية/6.
3ـ سورة البقرة آية/183.
4ـ سورة الإسراء آية/79.
5ـ سورة الإسراء آية/78.
6ـ سورة النحل آية/98.(3/999)
بالنماء والبركة في ماله ويرجى أن يستجيب الله ذلك ولا يخيب مسألته"أهـ1.
فطعن الرافضة على الصديق بمقاتلته مانعي الزكاة باطل وساقط ليس عليه ذم بسبب ذلك، وإنما يمدح على ذلك بل ويعد ذلك من مناقبه إذ ذلك "أدل دليل على شجاعته رضي الله عنه وتقدمه في الشجابة والعلم على غيره، فإنه ثبت للقتال في هذا الموطن العظيم الذي هو أكبر نعمة أنعم الله تعالى بها على المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم واستنبط رضي الله عنه من العلم بدقيق نظره ورصانة فكره ما لم يشاركه في الابتداء به غيره، فلهذا وغيره مما أكرمه الله تعالى به أجمع أهل الحق على أنه أفضل أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صنف العلماء رضي الله عنهم في معرفة رجحانه أشياء مشهورة في الأصول وغيرها"2 ولكن الرافضة قوم يجهلون هذا وغيره من فضائله رضي الله عنه وأرضاه وبسبب ما أصيبوا به من عمى البصيرة يقلبون المناقب مثالب.
ومما طعنوا به على الصديق رضي الله عنه أنه قال عند موته: "ليتني كنت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل للأنصار في هذا الأمر حق وهذا يدل على شكه في صحة بيعة نفسه مع أنه الذي دفع الأنصار يوم السقيفة لما قالوا: منا أمير ومنكم أمير بما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم: الأئمة من قريش"3.
والرد على هذا:
أما زعمهم أنه رضي الله عنه قال: ليتني سألت النبي صلى الله عليه وسلم هل للأنصار في هذا الأمر حق، فهذا من الكذب الواضح لأن المسألة كانت واضحة عنده وعند الصحابة لكثرة النصوص الواردة فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على بطلان هذا النقل، ولو قدر صحته ففيه فضيلة لأبي بكر لأنه لم يكن يعرف النص
__________
1ـ معالم السنن للخطابي 1/5-8، شرح النووي على صحيح مسلم 1/203-205.
2ـ شرح النووي على صحيح مسلم 1/211-212.
3ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/219، الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 2/301.(3/1000)
واجتهد فوافق اجتهاده النص ثم من اجتهاده وورعه تمنى أنه يكون معه نص بعينه على الاجتهاد فهذا يدل على كمال علمه حيث وافق اجتهاده النص ويدل على ورعه حيث خاف أن يكون مخالفاً للنص فأي قدح في هذا.
وأما قولهم: إنه شك في صحة بيعة نفسه هذا مما يرمونه به كذباً وزوراً لم يصدر عن أي طائفة سوى الرافضة1.
ومن مطاعنهم على أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ: "أنهم يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يول أبا بكر وولى عليه"2.
والرد على هذا من وجوه:
الوجه الأول: أن هذا الزعم باطل حيث ولاه ولاية لم يشركه فيها أحد وهي ولاية الحج، وقد ولاه غير ذلك.
الوجه الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ولى من هو بإجماع أهل السنة والشيعة من كان عنده دون أبي بكر مثل عمرو بن العاص والوليد بن عقبة وخالد بن الوليد فعلم أنه لم يترك ولايته لكونه ناقصاً عن هؤلاء.
ال وجه الثالث: أن عدم ولايته لا يدل على نقصه، بل قد يترك ولايته لأن عنده أنفع له منه في تلك الولاية وحاجته إليه في المقام عنده وغنائه عن المسلمين أعظم من حاجته إليه في تلك الولاية، فإنه هو وعمر كانا مثل الوزيرين له يقول كثيراً دخلت أنا وأبو بكر وعمر وخرجت أنا وأبو بكر وعمر3 فلا وجه للرافضة للطعن على أبي بكر بعدم تولية النبي صلى الله عليه وسلم إياه إذ الثابت خلاف ما تقولوه.
وجاء في مختصر التحفة الاثنى عشرية في صدد تعداد مطاعن الرافضة في
__________
1ـ انظر منهاج السنة 4/219-220، والمنتقى للذهبي ص/538.
2ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/221، حق اليقين 1/177.
3ـ منهاج السنة 4/221، والحديث رواه البخاري في صحيحه 2/294.(3/1001)
حق الصديق، قال: "ومنها أن النبي لم يؤمر أبا بكر قط أمراً مما يتعلق بالدين، فلم يكن حرياً بالإمامة".
والجواب: أن هذا كذب محض تشهد على ذلك السير والتواريخ، فقد ثبت تأميره لمقاتلة أبي سفيان بعد أحد، وتأميره أيضاً في غزوة بني فزارة، وتأميره في العام التاسع ليحج بالناس أيضاً، ويعلمهم الأحكام من الحلال والحرام، وتأميره أيضاً بالصلاة قبيل الوفاة إلى غير ذلك مما يطول ... ويجاب أيضاً على تقدير التسليم بأن عدم ذلك ليس لعدم اللياقة بل لكونه وزيراً ومشيراً على ما هي العادة"أهـ1.
ومن مطاعنهم على أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ: ما ذكره صاحب كتاب "الاستغاثة"،فقد قال فيه: "ومن بدعه أنه لما أراد أن يجمع ما تهيأ من القرآن صرخ مناديه في المدينة من كان عنده شيء من القرآن فليأتنا به، ثم قال: لا نقبل من أحد منه شيئاً إلا بشاهدي عدل، وإنما أراد هذا الحال لئلا يقبلوا ما ألفه أمير المؤمنين عليه السلام إذ كان ألف في ذلك الوقت جميع القرآن بتمامه وكماله من ابتدائه إلى خاتمته على نسق تنزيله، فلم يقبل ذلك، قالوا: لا نقبل القرآن من أحد إلا بشاهدي عدل ... الخ"2.
والرد على هذا الكذب والزور:
يقال لهم: إما أن تقروا وتعترفوا بأن هذا القرآن الموجود بين الدفتين والذي هو في أيدي المسلمين يتعبدون الله به مطابق للقرآن الذي تزعمون أن علياً رضي الله عنه قام بجمعه في زمن الصحابة وحينئذ يكون طعنكم على الصديق بهذا في غير محله، ويكون من اللغو الذي لا فائدة فيه.
وإما أن تقولوا إنه مخالف للقرآن الذي جمعه على حسب قولكم وحينئذ
__________
1ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/240-241.
2ـ الاستغاثة في بدع الثلاثة 1/20.(3/1002)
عليكم أن تثبتوا هذه المخالة بإبرازكم مصحف علي إذ طعنكم هذا تضمن أن علياً جمع قرآنا يختلف عن القرآن الموجود بأيدي المسلمين لكنهم يعلمون أنهم كاذبون في تقولهم هذا وهو بريء رضي الله عنه مما ينسبونه إليه، فلم يكن له قرآن غير هذا القرآن الموجود بأيدي المسلمين والذي قام بجمعه إخوانه الخلفاء الثلاثة قبله، وبه تعبد الله تعالى في محياه حتى أتاه اليقين وقرآنه هو قرآنهم لا غيره، وقد أعلن رضي الله عنه رضاه على جمع الصديق لكتاب الله تعالى، وهنأه بعظم الأجر بسبب جمعه للقرآن.
فقد قال رضي الله عنه: أعظم الناس أجراً في المصاحف أبو بكر، إن أبا بكر كان أول من جمع القرآن بين اللوحين1 وبنص هذا الأثر فقد اعتبر علي رضي الله عنه جمع الصديق للقرآن الكريم مفخرة جليلة ومنقبة رفيعة له، رضي الله عنه وأرضاه، أما الشيعة الرافضة لما أصيبوا بالخذلان اعتبروا جمع الصديق للقرآن بدعة طعنوا بها عليه، ومن هنا يعلم كل عاقل أن انتسابهم إلى أهل البيت ليس إلا ادعاءً وتقولاً، فهم في واد وأهل البيت في واد، ولقد أيد أهل السنة والجماعة ما قاله رابع الخلفاء الراشدين علي بن أبي طالب رضي الله عنه نحو جمع الصديق للقرآن واعتبروا ذلك من أعماله الجليلة ومآثره الحميدة، فهم أتباع أهل البيت على الحقيقة.
قال العلامة ابن كثير مشيداً بجمع الصديق للقرآن: "وهذا من أحسن وأجل وأعظم ما فعله الصديق رضي الله عنه فإنه أقامه الله تعالى بعد النبي صلى الله عليه وسلم مقاماً لا ينبغي لأحد من بعده قاتل الأعداء من مانعي الزكاة والمرتدين والفرس والروم ونفذ الجيوش، وبعث البعوث والسرايا ورد الأمر إلى نصابه بعد الخوف من تفرقه وذهابه وجمع القرآن العظيم من أماكنه المتفرقة حتى تمكن القاريء من
__________
1ـ أورده الحافظ ابن كثير في كتابه فضائل القرآن ص/16، وقال عقبه: هذا إسناد جيد، كما أورده الحافظ ابن حجر في فتح الباري 9/12، والسيوطي في تاريخ الخلفاء ص/77، وعزاه لأبي يعلى.(3/1003)
حفظه كله، وكان هذا من سر قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 1 فجمع الصديق الخير وكف الشرور رضي الله عنه وأرضاه"2.
ومن مطاعن الرافضة على صديق هذه الأمة أنهم يقولون: "إنه عهد بالخلافة إلى عمر، ولم يترك الأمر شورى للمسلمين في اختيار الخليفة"3.
والرد على هذا الهراء:
يقال لهم: إن أبا بكر رضي الله عنه لم يعهد بالأمر من بعده للفاروق رضي الله عنه إلا لما يعلم من فضله ولما فيه من النصح والقوة على ما يقلده، فلما وجد فيه ذلك منذ أسلم لم يكن ليسعه في ذات الله ونصيحته لعباد الله أن يعدل بالخلافة من بعده إلى غيره، وقد استقر عند الصديق رضي الله عنه أن الصحابة جميعاً يعرفون منه ما عرفه ولا يشكل عليهم من أمره شيء هنا عهد بالأمر من بعده لعمر رضي الله عنه، فرضي المسلمون به إماماً لهم ولو خالطهم في أمره ارتياب أو شبهة لأنكروه ولعارضوه في ذلك، بل كان مستقراً عندهم أنه الخليفة من بعده لأنه أفضل الناس بعد أبي بكر وعهد الصديق له بالخلافة إنما كان بمثابة الدليل لهم على أنه أفضلهم وأكملهم فتبعوه على ذلك مستسملين له راضين به4 رضي الله عنهم أجمعين".
وأما طعنهم عليه بأنه لم يترك الأمر شورى للمسلمين، فيقال لهم: أيها الغافلون: "إنما الشورى عند الاشتباه، وأما عند الاتضاح والبيان فلا معنى للشورى ـ ألا ترونهم ـ رضوا به وسلموه وهم متوافرون"5.
__________
1ـ سورة الحجر آية/9.
2ـ فضائل القرآن لابن كثير ص/16.
3ـ انظر كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة 1/22، الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 1/304، انظر الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف 2/402.
4ـ انظر الرد على الرافضة، لأبي نعيم ص/274.
5ـ انظر كتاب الإمامة والرد على الرافضة، لأبي نعيم ص/278.(3/1004)
وتسليمهم هذا لم يكن لرغبة أو رهبة، وإنما لما "ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم من تفخيمه وجلالة ما ذكر من مناقبه في كمال علمه، وتمام قوته وصائب إلهامه وفراسته، وما قرن بشأنه من السكينة وغير ذلك من ورعه وخوفه وزهده ورأفته بالمؤمنين وغلظته وفظاظته على المنافقين والكافرين وأخذه بالحزم والحياطة وحسن الرعاية والسياسة وبسطه العدل ولم يكن يأخذه في الله لومة لائم"1 لهذه الصفات الحميدة كان أهلاً لأن تناط به الخلافة والنظر في شئون الأمة بعد الصديق رضي الله عنه.
وجاء في مختصر التحفة الاثنى عشرية في صدد الرد على طعن الشيعة الرافضة على أبي بكر أنه استخلف، وأنه باستخلافه خالف النبي صلى الله عليه وسلم ما نصه قال: "ويجاب بأن النبي صلى الله عليه وسلم أشار بالاستخلاف والإشارة إذ ذاك كالعبارة وفي زمن الصديق كثر المسلمون من العرب والعجم وهم حديثوا عهد بالإسلام، وأهله، فلا معرفة لهم بالرموز والإشارات، فلا بد من التنصيص والعبارات حتى لا تقع المنازعات والمشاجرات وفي كل زمان رجال ولكل مقام مقال، وأيضاً عدم استخلاف النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان بعلمه بالوحي بخلافة الصديق، ولا كذلك الصديق إذ لا يوحى إليه ولم تساعده قرائن فعمل بالأصلح للأمة ونعم ما عمل، فقد فتح الفاروق البلاد ورفع قدر ذوي الرشاد، وأباد الكفار وأعان الأبرار"2 فليس للرافضة أي وجه يدعمون به ما ذهبوا إليه من الطعن على أبي بكر بسبب أنه استخلف وليس لهم دافع على ذلك إلا ما تحبيش به قلوبهم من الغل على خيار الصحابة.
__________
1 ـ المصدر السابق ص/278.
2 ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/242.(3/1005)
المبحث السادس: من مطاعنهم في الفاروق رضي الله عنه
...
المبحث السادس: من مطاعنهم في حق الفاروق رضي الله عنه
لقد تناول الشيعة الرافضة ثاني الخلفاء الراشدين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمطاعن خاصة ألصقوها به.
فمنها وهو عمدة مطاعنهم: أنهم طعنوا عليه بما رواه الشيخان وغيرهما من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: لما حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي البيت رجال فيهم عمربن الخطاب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هلم أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعده"، فقال عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله فاختلف أهل البيت فاختصموا فمنهم من يقول قربوا يكتب لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قوموا".
قال عبيد الله1: فكان ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم"2.
وبلفظ آخر: اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه، فقال: "ائتوني أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً"، فتنازعوا، ولا ينبغي عند نبي نزاع، فقالوا: ما شأنه؟، أهجر؟. استفهموه فذهبوا يردون عليه، فقال: دعوني، فالذي أنا فيه
__________
1ـ هو عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي أبو عبد الله المدني ثقة فقيه ثبت من الثالثة مات سنة أربع وتسعين وقيل سنة ثمان وقيل غير ذلك. التقريب 1/535.
2ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 8/132، صحيح مسلم مع شرح النووي 11/95، المسند 1/325، 336. وانظر حق اليقين في معرفة أصول الدين 1/181-182.(3/1006)
خير مما تدعونني إليه، وأوصاهم بثلاث، قال: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم، وسكت عن الثالثة، أو قال فنسيتها"1.
لقد زعمت الشيعة الرافضة أنه يستفاد من هذا الحديث الطعن على عمر رضي الله عنه من وجوه:-
الأول: أنه رد قول النبي صلى الله عليه وسلم وأقواله كلها وحي لقوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} 2 ورد الوحي كفر لقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} 3.
والجواب على هذا الوجه يقال لهم: "على فرض تسليم أن هذا القول صدر من عمر وحده، فإنه لم يرد قوله صلى الله عليه وسلم وإنما قصد راحته ورفع الحرج عنه صلى الله عليه وسلم في حال شدة المرض، إذ كل محب لا يرضى أن يتعب محبوبه ولا سيما في المرض، مع عدم كون ذلك الأمر ضرورياً، ولم يخاطب بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم بل خاطب الحاضرين تأدباً وأثبت الاستغناء عن ذلك بقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} 4 وقد نزلت هذه الآية قبل هذه الواقعة بثلاثة أشهر، وقد انسد باب النسخ والتبديل والزيادة والنقصان في الدين فيمتنع إحداث شيء".
ويرد عليهم أيضاً: بأنه لو كان قول عمر رضي الله عنه: "حسبنا كتاب الله" رداً للوحي ولقول الرسول للزم مثل ذلك في حق علي رضي الله
__________
1ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 8/132، شرح النووي على صحيح مسلم 11/89-94.
2ـ سورة النجم آية/3، 4.
3ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/248، وانظر الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/5، والآية رقم 44 المائدة.
4ـ سورة المائدة آية/3.(3/1007)
عنه، فقد روى الإمام البخاري في صحيحه بإسناده إلى علي، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم ليلة فقال: ألا تصليان؟، فقلت: يا رسول الله أنفسنا بيد الله فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا، فانصرف حيث قلت ذلك ولم يرجع إليّ شيئاً، ثم سمعته وهو مول يضرب فخذه وهو يقول: {وَكَانَ الأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} 1 "فقد رد على قول الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن لما كانت القرائن الحالية دالة على صدقه واستقامته لم يلمه النبي صلى الله عليه وسلم"2.
وروى البخاري أيضاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تصالح مع قريش في الحديبية، كتب علي بن أبي طالب رضوان الله عليه بينهم كتاباً فكتب: "محمد رسول الله"، فقال المشركون: لا تكتب محمد رسول الله لو كنت رسولاً لم نقاتلك، فقال لعلي: امحه، فقال علي: ما أنا بالذي أمحاه فمحاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده"3، فامتناع علي إنما كان لكمال إيمانه، ولا يقال: إنه رد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وخالفه، فإذا كان هذا يقال في حق علي فلأن يقال في حق الفاروق من باب أولى كيف وقد "اتفق العلماء المتكلمون في شرح الحديث على أنه من دلائل فقه عمر وفضائله ودقيق نظره، لأنه خشي أن يكتب صلى الله عليه وسلم أموراً ربما عجزوا عنها واستحقوا العقوبة عليها، لأنها منصوصة لا مجال للاجتهاد فيها، فقال عمر: حسبنا كتاب الله لقوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} 4 وقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} 5، فعلم أن الله تعالى أكمل دينه، فأمن الضلال على الأمة وأردا الترفيه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان عمر أفقه من ابن عباس وموافقيه"6.
__________
1ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 3/10.
2ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/249.
3ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 5/303.
4ـ سورة الأنعام آية/38.
5ـ سورة المائدة آية/3.
6ـ شرح النووي على صحيح مسلم 11/90.(3/1008)
وأما زعمهم "أن أقوال الرسول كلها وحي فمردود لأن أقواله صلى الله عليه وسلم لو كانت كلها وحياً فلم قال الله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} 1، وقال تعالى: {وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً} 2 وقال تعالى: {وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} 3، وقال تعالى في المعاتبة عن أخذ الفدية من أسارى بدر: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 4وأيضاً يلزمهم أن علياً رضي الله عنه قد رد الوحي حين أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالتهجد ومحو اللفظ في كتابة صلح الحديبية مع قريش مع أنهم لا يقولون بذلك.
الوجه الثاني: من وجوه الطعن التي انتزعوها من الحديث على عمر رضي الله عنه أنه قال: "أهجر" مع أن الأنبياء معصومون من هذه الأمور فأقوالهم وأفعالهم في جميع الأحوال والأوقات كلها معتبرة وحقيقة بالاتباع5.
والرد عليهم أن يقال لهم:
"من أين يثبت أن قائل هذا القول عمر؟، مع أنه قد وقع في أكثر الروايات "قالوا بصيغة الجمع" استفهموه على طريق الإنكار، فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يتكلم بالهذيان البتة، وكانوا يعلمون أنه صلى الله عليه وسلم ما خط قط بل كان يمتنع صدور هذه الصنعة منه صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} 6 ولذا قالوا: فاسألوه، وتحقيق ذلك أن الهجر في اللغة هو اختلاط الكلام بوجه غير مفهوم وهو على قسمين:-
__________
1ـ سورة التوبة آية/43.
2ـ سورة النساء آية/105.
3ـ سورة النساء آية/107.
4ـ سورة الأنفال آية/68.
5ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/250، وانظر انظر الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف لعلي بن موسى بن طاووس الحسني الحسيني 2/433-434.
6ـ سورة العنكبوت آية/48.(3/1009)
قسم لا نزاع لأحد في عروضه للأنبياء عليهم السلام وهو عدم تبيين الكلام لبحة الصوت وغلبة اليبس بالحرارة على اللسان، كما في الحميات الحارة وقد ثبت بإجماع أهل السير أن نبينا صلى الله عليه وسلم كانت بحة الصوت عارضة له في مرض موته صلى الله عليه وسلم.
والقسم الآخر: جريان الكلام غير المنتظم أو المخالف للمقصود على اللسان بسبب الغشي العارض بسبب الحميات المحرقة، في الأكثر.
وهذا القسم وإن كان ناشئاً من العوارض البدنية، ولكن قد اختلف العلماء في جواز عروضه للأنبياء، فجوزه بعضهم قياساً على النوم، ومنعه آخرون، فلعل القائل بذلك القول أراد القسم الأول يعني أنا نرى هذا الكلام خلاف عادته صلى الله عليه وسلم، فلعلنا لم نفهم كلامه بسبب وجود الضعف في ناطقته فلا إشكال"1.
الوجه الثالث: من وجوه الطعن التي استنبطوها من الحديث على الفاروق رضي الله عنه، أنهم قالوا: "إنه رفع الصوت وتنازع في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} 2.
والرد على هذا، يقال لهم:
من أين ثبت أن عمر أول من رفع الصوت؟، وعلى تقديره فرفع صوته إنما كان على صوت غيره من الحاضرين لا عل صوت النبي صلى الله عليه وسلم المنهي عنه في الآية، والأول جائز، والآية تدل عليه حيث قال: {كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} ، وقوله صلى الله عليه وسلم في إحدى الروايات: "قوموا عني" من قبيل قلة الصبر العارضة
__________
1ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/250.
2ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/250، وانظر انظر الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف 2/433، والآية رقم 2 من سورة الحجرات.(3/1010)
للمريض، فإنه يضيق صدره إذا وقعت منازعه في حضوره وما يصدر من المريض في حق أحد لا يكون محلاً للطعن عليه مع أن الخطاب كان الجميع الحاضرين المجوزين والمانعين"1.
الوجه الرابع: من أوجه الطعن التي انتزعوها من الحديث على الفاروق رضي الله عنه أنهم يقولون: "إنه أتلف حق الأمة إذ لو كتب الكتاب المذكور لحفظت الأمة من الضلالة ولم ترهم في كل واد يهيمون ووبال جميع ذلك على عمر"2.
والرد على هذا الوجه:
يقال لهم: "إنما يتحقق الإتلاف لو حدث حكم من الله تعالى نافع للأمة ومنعه عمر، وقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الآية تدل على عدم الحدوث، بل لم يكن الكتاب إلا لتأكيد ما بلغه"3. ولو كان الكتاب لأمر ديني ضروري لم يتركه لاختلافهم، فإنه قد عاش بعد ذلك أياماً وحصل منه وصايا، فدل عدم كتابة الكتاب في هذه الأيام على أن الذي أراد كتابته إنما هو تأكيد لا تأسيس.
قال الحافظ ابن حجر عند شرحه للحديث: "ودل أمره لهم بالقيام على أن أمره الأول كان على الاختيار ولهذا عاش صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أياماً ولم يعاود أمرهم بذلك، ولو كان واجباً لم يتركه لاختلافهم، لأنه لم يترك التبليغ لمخالفة من خالف، وقد كان الصحابة يراجعونه في بعض الأمور ما لم يجزم بالأمر، فإذا عزم امتثلوا"4.
__________
1ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/250-251.
2ـ المصدر السابق ص/251، وانظر انظر الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف 2/433، انظر الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/3-7، حق اليقين في معرفة أصول الدين لعبد الله شبر 1/181-182.
3ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/251.
4ـ فتح الباري 1/209(3/1011)
وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى المقصود من الكتاب الذي كان قد عزم على كتابته لهم، فقال: "وأما قصة الكتاب الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يكتبه، فقد جاء مبيناً كما في الصحيحين1 عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه: "ادعى لي أباك وأخاك حتى اكتب كتاباً فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل: أنا أولى ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر" وأما عمر فاشتبه عليه هل كان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم من شدة المرض أو كان من أقواله المعروفة، والمرض جائز على الأنبياء ... والشك جائز على عمر فإنه لا معصوم إلا النبي صلى الله عليه وسلم، لا سيما وقد شك بشبهة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان مريضاً فلم يدر أكلامه كان من وهج المرض كما يعرض للمريض، أو كان كلامه المعروف الذي يجب قبوله ولذلك ظن أنه لم يمت حتى تبين أنه قد مات2، والنبي صلى الله عليه وسلم قد عزم على أن يكتب الذي ذكره لعائشة، فلما رأى أن الشك قد وقع علم أن الكتاب لا يرفع الشك، فلم يبق فيه فائدة، وعلم أن الله يجمعهم على ما عزم عليه، كما قال: "ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر".
وقول ابن عباس إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب الكتاب يقتضي أن هذا الحائل كان رزية في حق من شك في خلافة الصديق أو اشتبه عليه الأمر، فإنه لو كان هناك كتاب لزال هذا الشك، فأما من علم أن خلافته حق فلا رزية في حقه ولله الحمد، ومن توهم أن هذا الكتاب كان بخلافة علي فهو ضال باتفاق عامة الناس من علماء السنة والشيعة، أما أهل السنة فمتفقون على تفضيل أبي بكر وتقديمه، وأما الشيعة القائلون بأن علياً كان هو المستحق للإمامة فيقولون إنه قد نص على إمامته قبل ذلك نصاً جلياً ظاهراً معروفاً وحينئذ فلم يكن يحتاج إلى كتاب، وإن قيل إن
__________
1ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 13/205، صحيح مسلم 4/1857، واللفظ له.
2ـ انظر شدة دهشة الفاروق بموت الرسول صلى الله عليه وسلم، كتاب الطبقات الكبرى لابن سعد 2/266-272، تاريخ الأمم والملوك 3/200-201، الكامل 2/323-324.(3/1012)
الأمة جحدت النص المعلوم المشهور فلأن تكتم كتاباً حضره طائفة قليلة أولى وأحرى، وأيضاً: فلم يكن يجوز عندهم تأخير البيان إلى مرض موته، ولا يجوز له ترك الكتاب لشك من شك فلو كان ما يكتبه في الكتاب مما يجب بيانه وكتابته لكان النبي صلى الله عليه وسلم يبينه ويكتبه ولا يلتفت إلى قول أحد فإنه أطوع الخلق له، فعلم أنه لما ترك الكتاب لم يكن الكتاب واجباً ولا كان فيه من الدين ما تجب كتابته حينئذ إذ لو وجب لفعله"1.
فقد تبين بما تقدم ذكره بطلان ما طعن به الرافضة على عمر رضي الله عنه من أجل الكتاب الذي أراد أن يكتبه صلى الله عليه وسلم في مرض موته وأنه ما قصد منعه ولا رد أمره صلى الله عليه وسلم، وإنما قصد رضي الله عنه: "التخفيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين غلبه الوجع، ولو كان مراده صلى الله عليه وسلم أن يكتب ما لا يستغنون عنه لم يتركه لاختلافهم ولا لغيره، لقوله تعالى: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} 2.
كما لم يترك تبليغ غير ذلك لمخالفة من خالفه ومعاداة من عاداه وكما أمر في ذلك الحال بإخراج اليهود من جزيرة العرب وغير ذلك مما ذكره في الحديث ... وقد حكى سفيان بن عيينة عن أهل العلم قبله أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يكتب استخلاف أبي بكر رضي الله عنه، ثم ترك ذلك اعتماداً على ما علمه من تقدير الله تعالى ذلك كما هم بالكتاب في أول مرضه حين قال: "وارأساه"، ثم ترك الكتاب، وقال: "يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر" 3، ثم نبه أمته على استخلاف أبي بكر بتقديمه إياه في الصلاة"4.
ومن مطاعنهم في حق الفاروق رضي الله عنه أنهم يقولون: "إنه بلغ به الجهل إلى حيث لم يعلم بأن كل نفس ذائقة الموت، وأنه يجوز الموت على
__________
1ـ منهاج السنة 3/135-136.
2ـ سورة المائدة آية/67.
3ـ سبق تخريجه قريباً.
4ـ شرح النووي على صحيح مسلم 11/90-91.(3/1013)
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: والله ما مات حتى يقطع أيدي رجال وأرجلهم فقال له أبو بكر رضي الله عنه أما سمعت قول الله عز وجل: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} 1، وقوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} 2، قال عمر: فلما سمعت ذلك أيقنت بوفاته، وسقطت إلى الأرض، وعلمت أنه قد مات، وفي رواية أنه قال عند سماع الآية: كأني لم أسمعها"3.
والرد على هذا:
إنما حصل للفاروق عند وفاة المصطفى صلى الله عليه وسلم إنما هو "من شدة دهشته بموت الرسول صلى الله عليه وسلم وكمال محبته له صلى الله عليه وسلم، حتى لم يبق له في ذلك الحين شعور بشيء، وكثيراً ما يحصل الذهول بسبب تفاقم المصائب وتراكم الشدائد لأن النسيان والذهول من اللوازم البشرية، والنسيان حاصل حتى للأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقد حصل لموسى عليه السلام وهو نبي معصوم من أولي العزم من الرسل أن نسي معاهدته لذلك العبد الذي آتاه الله رحمة من عنده، وعلمه من لدنه علماً على عدم السؤال ثلاث مرات كما حكى الله لنا ذلك عنهما في سورة الكهف4، وكما أخبرنا في حق آدم بقوله تعالى: {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} 5، فأي ذنب للفاروق بدهشته من ذلك الأمر العظيم وهو وفاة سيد الأولين والآخرين، وأي طعن عليه بسبب ما حصل له من فقد محبوبه صلى الله عليه وسلم فالخسارة كل الخسارة لمن جعل عقله لعبة للشيطان يستجيب له في كل ما يملي له به6.
__________
1ـ سورة الزمر آية/30.
2ـ سورة آل عمران آية/144.
3ـ حق اليقين في معرفة أصول الدين 1/182-183، الطرائف 2/451-454.
4ـ من الآية 65-82.
5ـ سورة طه آية/115.
6ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/252.(3/1014)
ومما طعنوا به على عمر رضي الله عنه أنهم يزعمون: "أن فاطمة رضي الله عنها وعظت أبا بكر في قضية فدك، فكتب لها كتاباً بها وردها عليها فخرجت من عنده فلقيها عمر بن الخطاب فمزق الكتاب فدعت عليه بما فعله أبو لؤلؤة"1.
والرد على هذا الهراء:
أنه من الكذب الذي لا يشك فيه عالم ولم ينقله أحد من أهل العلم بالحديث ولا يعرف له إسناد والصديق لم يحصل منه أنه كتب فدكاً لأحد لا لفاطمة ولا لغيرها، ولا دعت على عمر، وما فعله أبو لؤلؤة المجوسي فهو كرامة في حق عمر رضي الله عنه وهو أعظم من فعل ابن ملجم بعلي رضي الله عنه، ومن فعل قتلة الحسين رضي الله عنه، فإن أبا لؤلؤة كافر قتل عمر كما يقتل الكافر المؤمن وشهادته أعظم من شهادة من يقتله مسلم فإن قتيل الكافر أعظم درجة من قتيل المسلمين، ثم إن قتل أبي لؤلؤة لعمر كان بعد وفاة فاطمة بمدة خلافة الصديق والفاروق إلا ستة أشهر فمن أين يعلم أن قتله كان بسبب دعاء حصل في تلك المدة والداعي إذا دعا على مسلم بأن يقتله كافر كان ذلك دعاء له لا عليه، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لأصحابه بنحو ذلك كقوله: "يغفر الله لفلان فيقولون لو أمتعتنا به" وكان إذا دعا لأحد بذلك استشهد2 ـ ثم أيضاً ـ "إن عمر لم يكن له غرض في فدك لم يأخذها لنفسه ولا لأحد من أقاربه وأصدقائه ولا كان له غرض في حرمان أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، بل كان يقدمهم في العطاء على كل الناس ويفضلهم في العطاء على جميع الناس حتى أنه لما وضع الديوان للعطاء وكتب أسماء الناس، قالوا: نبدأ بك، قال: لا، ابدؤا بأقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم وضعوا عمر حيث وضعه الله3، فبدأ ببني
__________
1ـ انظر منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/137.
2ـ صحيح البخاري 3/48-49، صحيح مسلم 3/1428، المسند 4/48.
3ـ انظر تاريخ الأمم والملوك للطبري 4/210.(3/1015)
هاشم وضم إليهم بني المطلب فمن تكون هذه مراعاته لأقارب الرسول صلى الله عليه وسلم وعترته أيظلم أقرب الناس إليه وسيدة نساء أهل الجنة؟ 1، لا يعتقد هذا إلا من أعمى الله قلبه واتبع هواه.
ومن مطاعنهم على الفاروق رضي الله عنه: أنهم يطعنون عليه بقولهم: "إنه ابتدع التروايح في شهر رمضان، ويكذبون على الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الصلاة بالليل في شهر رمضان من النافلة جماعة بدعة"، ويقولون: إن عمر اعترف بأنها بدعة"2.
ويرد على هذا الزور:
أنه قد ثبت أن الناس كانوا يصلون بالليل في رمضان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وثبت أنه صلى بالمسلمين جماعة ليلتين أو ثلاثاً ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ليلة من جوف الليل فصلى في المسجد وصلى رجال بصلاته فأصبح الناس فتحدثوا، فاجتمع أكثر منهم فصلى فصلوا معه، فأصبح الناس فتحدثوا فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله حتى خرج لصلاة الصبح، فلما قضى الفجر أقبل على الناس فتشهد ثم قال: "أما بعد فإنه لم يخف علي مكانكم ولكني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها"، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك"3.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم فيه بعزيمة4 فيقول: "من قام رمضان إيماناً
__________
1ـ منهاج السنة 3/137.
2ـ انظر كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة 1/34-36، الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/26، انظر الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف 2/454، منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/224، حق اليقين لعبد الله شبر 1/186.
3ـ صحيح البخاري 1/342، صحيح مسلم 1/524.
4ـ معناه: لم يأمرهم أمر إيجاب وتحتيم وإنما أمرهم أمر ندب وترغيب.(3/1016)
واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه"، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك، ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر وصدراً من خلافة عمر على ذلك"1.
وخرج البخاري عن عبد الرحمن بن عبد القاري، أنه قال: "خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليلة في رمضان في المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قاريء واحد لكان أمثل ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم، قال عمر، نعم البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون ـ يريد آخر الليل ـ، وكان الناس يقومون أوله"2.
فهذا الاجتماع العام لما لم يكن قد فعل سماه الفاروق بدعة لأن ما فعل ابتداء يسمى بدعة في اللغة، وليس ذلك بدعة شرعية، فإن البدعة الشرعية التي هي ضلالة هي ما فعل بغير دليل شرعي كاستحباب ما لم يحبه الله وإيجاب ما لم يوجبه الله وتحريم ما لم يحرمه الله، فلا بد مع الفعل من اعتقاد يخالف الشريعة، وإلا فلو عمل الإنسان فعلاً محرماً يعتقد تحريمه لم يقل إنه فعل بدعة.
ويقال لهم أيضاً إن عمل الفاروق هذا: "لو كان قبيحاً منهياً عنه لكان علي رضي الله عنه أبطله لما صار أمير المؤمنين، وهو بالكوفة، فلما كان جارياً في ذلك مجرى عمر دل على استحباب ذلك، بل روى عن علي أنه قال: "نور الله على عمر في قبره كما نور علينا مساجدنا"3.
وعن أبي عبد الرحمن السلمي أن علياً دعا القرآن في رمضان فأمر رجلاً
__________
1ـ صحيح مسلم 1/523، وقوله: فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ... إلخ من قول ابن شهاب. انظر صحيح البخاري 1/342.
2ـ صحيح البخاري 1/342.
3ـ ذكره السيوطي في تاريخ الخلفاء ص/137، وعزاه لابن عساكر.(3/1017)
منهم يصلي بالناس عشرين ركعة، وكان علي يوتر بهم1.
وعن عرفجة الثقفي قال: "كان علي الناس بقيام شهر رمضان ويجعل للرجال إماما وللنساء إماماً، قال عرفجة: "فكنت أنا إمام النساء"2 رواهما البيهقي في سننه"3.
ومن هذا يتضح أن الفاروق رضي الله عنه لم يأت ببدعة، وإنما أحيا سنة كان النبي صلى الله عليه وسلم قد فعلها، ثم تركها خشية أن تفرض على الأمة، فيعجزوا عن القيام بها، ولما رأى الفاروق أنه علة المنع قد زالت بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم أحيا سنة قيام رمضان حيث جمع الناس على إمام واحد رضي الله عنه وأرضاه.
ومما طعنوا به على عمر رضي الله عنه: أنهم يزعمون أنه حرم المتعتين متعة الحج ومتعة النساء مع أن كلتا المتعتين كانتا في زمنه صلى الله عليه وسلم فنسخ حكم الله تعالى وحرم ما أحله4.
والرد على هذا الافتراء:
يقال لهم: أما متعة الحج وهي تأدية الإنسان أركان العمرة مع الحج في سفر واحد في أشهر الحج قبل الرجوع إلى بيته لم يحرمها الفاروق كما يزعمون ولم يمنعها قط، وما يذكرون من رواية التحريم عنه فهي افتراء صريح عليه وإنما كان يرى رضي الله عنه إفراد الحج والعمرة أولى من جمعهما في إحرام واحد وهو القران أو في سفر واحد وهو التمتع.
__________
1ـ السنن الكبرى للبيهقي 2/496.
2ـ المصدر السابق 2/494.
3ـ منهاج السنة 4/224.
4ـ انظر كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة 1/36-37، مقدمة مرآة العقول 1/220-221، ص/273، وما بعدها، وانظر حق اليقين لعبد الله شبر 1/183، منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 2/153-154، انظر الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف 2/457-463. الشيعة والتصحيح ص/109.(3/1018)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى مبيناً الغرض الذي من أجله أرشد الفاروق رضي الله عنه الناس من أنهم يأتون بالعمرة في غير أشهر الحج حيث قال: "وإنما كان مراد عمر رضي الله عنه أن يأمر بما هو أفضل، وكان الناس لسهولة المتعة تركوا العمرة في غير أشهر الحج، فأراد أن لا يعري البيت طول السنة، فإذا أفردوا الحج اعتمروا في سائر السنة"1.
فهذه هو الذي اختاره عمر للناس، فظن من غلط ممن لا فهم له أنه نهى عن متعة الحج، وهذا هو شأن الرافضة لما حرموا الفهم والعلم غيروا ما قصده عمر في مسألة متعة الحج، وزعموا أنه منع متعة الحج وهو بريء من هذا.
وأما زعمهم أنه حرم متعة النساء، فهذا أيضاً محض افتراء عليه رضي الله عنه وأرضاه، وأن حرمة متعة النساء ثابتة بدلالة الكتاب والسنة، وإجماع أهل الحق من أهل السنة.
فأما دلالة الكتاب فمن ذلك أن الله تعالى حصر أسباب حل الوطء في شيئين هما: النكاح الصحيح، وملك اليمين2 لأن الاختصاص التام الحاصل بين المرء وزوجته لا يتحقق إلا بهذين العقدين ليحفظ الولد ويعلم الإرث، قال تعالى في سياق ذكره لصفات عبادة المؤمنين: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} ، وأعقب هذا في موضعين من كتابه بقوله: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} 3، وفي هذا النص القرآني يتضح أن امرأة المتعة ليست بزوجة وإلا لتحققت لوازم الزوجية فيها من إرث وعدة وطلاق ونفقة وكسوة وغير ذلك، وليست هي أيضاً بملك يمين، وإلا لجاز بيعها وهبتها وإعتاقها.
__________
1ـ منهاج السنة 2/155.
2ـ أما الرافضة فعندهم أسباب حل المرأة أربعة كما يقول ذلك ابن البابوية في كتاب الاعتقاد، وهي النكاح، وملك اليمين، والمتعة، والتحليل، نقلاً عن التحفة الاثنى عشرية، ص/228.
3ـ سورة المؤمنون آية/5-7. سورة لمعارج آية/29-30.(3/1019)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى مبيناً أن الله قصر سبب حل الوطء في أمرين اثنين حيث قال: "والله تعالى إنما أباح الزواج وملك اليمين وحرم ما زاد على ذلك بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} ، والمستمتع بها بعد التحريم ليست زوجة ولا ملك يمين فتكون حراماً بنص القرآن أما كونها ليست مملوكة فظاهر، وأما كونها ليست زوجة فلانتفاء لوازم النكاح فيها، فإن من لوازم النكاح كونه سبباً للتوارث، وثبوت عدة الوفاة فيه والطلاق الثلاث وتنصيف المهر بالطلاق قبل الدخول وغير ذلك من اللوازم"أهـ1.
قال تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} 2، فلو كانت المتعة جائزة لم يأمر بالاستعفاف في هذه الآية الكريمة، فدلت على تحريمها، وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} إلى قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 3 فلو جازت المتعة لما كان خوف العنت والحاجة إلى نكاح الإماء وإلى الصبر في ترك نكاحهن متحققاً4، فدل هذا على تحريم نكاح المتعة.
وأما دعوى الشيعة أن قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} 5 دليل على المتعة6 فغلط محض وزعمهم أن طائفة من السلف
__________
1ـ منهاج السنة 2/157.
2ـ سورة النور آية/33.
3ـ سورة النساء آية/25.
4ـ انظر مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/228.
5ـ من الآية رقم 24 من سورة النساء.
6ـ انظر تفسير القمي 1/136.(3/1020)
قرأوا الآية هكذا: "فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى" فهو غلط أيضاً، إذ ليس هذا من القراءة المتواترة وعلى تقدير ثبوت ذلك فتكون قراءة منسوخة بما جاء من النصوص في تحريم نكاح المتعة.
قال العلامة ابن تيمية: "فإن قيل ففي قراءة طائفة من السلف فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى، قيل أولاً: ليست هذه القراءة متواترة، وغايتها أن تكون كأخبار الآحاد ونحن لا ننكر أن المتعة أحلت في أول الإسلام، لكن الكلام في دلالة القرآن على ذلك: الثاني: أن يقال: إن كان هذا الحرف نزل فلا ريب أنه ليس ثابتاً من القراءة المشهورة، فيكون منسوخاً ويكون لما كانت المتعة مباحة، فلما حرمت نسخ هذا الحرف، أو يكون الأمر بالإيتاء في الوقت تنبيهاً على الإيتاء في النكاح المطلق وغاية ما يقال إنهما قراءتان وكلاهما حق والأمر بالإيتاء في الاستمتاع إلى أجل واجب، إذا كان ذلك حلالاً وإنما يكون ذلك إذا كان الاستمتاع إلى أجل مسمى حلالاً، وهذا كان في أول الإسلام، فليس في الآية ما يدل على أن الاستمتاع بها إلى أجل مسمى حلال فإنه لم يقل وأحل لكم أن تستمتعوا بهن إلى أجل مسمى بل قال: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} فهذا يتناول ما وقع من الاستمتاع سواء كان حلالاً أم وطء شبهة ولهذا يجب المهر في النكاح الفاسد بالسنة والاتفاق والمتمتع إذا اعتقد حل المتعة وفعلها فعليه المهر، وأما الاستمتاع المحرم فلم تتناوله الآية، فإنه لو استمتع بالمرأة من غير عقد مع مطاوعتها لكان زناً ولا مهر فيه، وإن كانت مستكرهة ففيه نزاع مشهور"1.
ثم يقال أيضاً: إن الله تعالى بين قبل الآية التي يستدلون بها على جواز المتعة المحرمات بقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} إلى قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} ، ثم قال: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} ،
__________
1ـ منهاج السنة 2/155-156.(3/1021)
أي: غير المحرمات المذكورة، ولكن بشرط أن تبتغوا بأموالكم من المهور والنفقات، فبطل بهذا الشرط تحليل الفروج وإعارتها، فإنها منفعة محصنة بلا حرج، ثم قال: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} 1 يعني: في حال كونكم مخصصين أزواجكم بأنفسكم ومحافظين لهن لكي لا يرتبطن بالأجانب ولا تقصدوا بهن محض قضاء شهوتكم وصب مائكم واستبراء أوعية المني، فبطلت المتعة بهذا القيد لأن الاحتياط والاختصاص لا يكون مقصوداً في المتعة أصلاً، ثم فرع على النكاح قوله: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} الآية، يعني إذا قررتم الصداق في النكاح فإن تمتعتم به منهن بالدخول والوطء يلزمكم تمام المهر وإلا فنصفه، فقطع هذه الآية عما قبلها وحملها على الاستئناف باطل صريح باعتبار العربية لأن الفاء تأبى القطع والابتداء، بل تجعل ما بعدها مربوطاً بما قبلها ... وسياق قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً} 2الآية أيضاً: في باب النكاح يعني إن لم يستطع منكم أحد أن يؤدي مهر الحرائر ونفقتهن فلينكح الإماء المسلمات، فحمل العبارة المتوسطة على المتعة بقطع الكلام من السياق والسياق تحريف صريح لكلام الله تعالى، بل إن تأمل عاقل في سياق هذه الآية يجد حرمة المتعة صريحة لأن الله أمر فيها بالاكتفاء بنكاح الإماء في عدم الاستطاعة بطول الحرائر، فلو كان أجل المتعة في الكلام السابق لما قال بعده: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً} لأن المتعة في صورة عدم الاستطاعة بنكاح الحرة ليست قاصرة على قضاء حاجة الجماع ـ ثم ـ أي ضرورة كانت داعية إلى تحليل نكاح الإماء بهذا التقييد والتشديد وإلزام الشروط والقيود وبالجملة إن هذه الآيات ـ المتقدم ذكرها ـ صريحة الدلالة على تحريم المتعة، وقد تبين عدم دلالة الآية التي استدل بها الشيعة على مدعاهم بل على خلافة"3.
__________
1ـ سورة النساء آية/23-24.
2ـ سورة النساء آية/25.
3ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/229-230.(3/1022)
وأما دلالة السنة على تحريم المتعة، فقد جاء فيها التصريح بتحريمها إلى يوم القيامة، فمن ذلك ما رواه الإمام مسلم بإسناده إلى الربيع بن سبرة الجهني أن أباه حدثه أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أيها الناس إني قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً" 1.
وروى أيضاً بإسناده إلى سبرة الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المتعة، وقال: "ألا إنها حرام من يومكم هذا إلى يوم القيامة ومن كان أعطى شيئاً فلا يأخذه" 2.
قال أبو محمد بن حزم: "ولا يجوز نكاح المتعة وهو النكاح إلى أجل وكان حلالاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نسخها الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم نسخاً باتاً إلى يوم القيامة ـ إلى أن قال ـ ونقتصر من الحجة في تحريمها على خبر ثابت ـ وهو ما رويناه من طريق عبد الرزاق عن معمر عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز عن الربيع بن سبرة الجهني عن أبيه قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث، وفيه: فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يخطب ويقول: "من كان تزوج امرأة إلى أجل فليعطها ما سمي لها ولا يسترجع مما أعطاها شيئاً ويفارقها فإن الله قد حرمها عليكم إلى يوم القيامة".
قال أبو محمد: ما حرم إلى يوم القيامة فقد أمنا نسخه3.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في صدد رده على الرافضي: "وأما ما ذكره من نهي عمر عن متعة النساء فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حرم متعة النساء بعد الإحلال هكذا رواه الثقات في الصحيحين وغيرهما عن الزهري عن عبد الله
__________
1ـ صحيح مسلم 2/1025.
2ـ صحيح مسلم 2/1027.
3ـ المحلى لابن حزم 11/141، 142.(3/1023)
والحسن ابني محمد بن الحنفية عن أبيهما محمد بن الحنفية عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أنه قال لابن عباس رضي الله عنه لما أباح المتعة: إنك امروء تائه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم المتعة ولحوم الحمر الأهلية عام خيبر1، رواه عن الزهري أعلم أهل زمانه بالسنة وأحفظهم لها أئمة الإسلام في زمنهم مثل مالك بن أنس وسفيان بن عيينة وغيرهما ممن اتفق على علمهم وعدلهم وحفظهم ولم يختلف أهل العلم بالحديث في أن هذا حديث صحيح يتلقى بالقبول ليس في أهل العلم من طعن فيه، وكذلك ثبت في الصحيح أنه حرمها غزاة الفتح إلى يوم القيامة2.
وقد تنازع رواة حديث علي رضي الله عنه هل قوله عام خيبر توقيت لتحريم الحمر فقط، أوله ولتحريم المتعة والأول قول ابن عيينة وغيره قالوا: إنما حرمت عام الفتح، ومن قال بالآخر قال: إنها حرمت ثم أحلت وادعت طائفة ثالثة أنها أحلت بعد ذلك ثم حرمت في حجة الوداع والروايات المستفيضة المتواترة متواطئة على أنه حرم المتعة بعد إحلالها، والصواب أنها بعد أن حرمت لم تحل وأنها لما حرمت عام فتح مكة لم تحل بعد ذلك ولم تحرم عام خيبر بل عام خيبر حرمت لحوم الأهلية، وكان ابن عباس يبيح المتعة وأكل لحوم الحمر فأنكر علي بن أبي طالب ذلك عليه، وقال له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم متعة النساء وحرم لحوم الحمر يوم خيبر3، فقرن علي رضي الله عنه بينهما في الذكر لما روى ذلك لابن عباس رضي الله عنهما، لأن ابن عباس كان يبيحهما، وروى عن ابن عباس رضي الله عنه أنه رجع عن ذلك لما بلغه حديث النهي عنهما"4.
__________
1ـ انظر صحيح مسلم 2/1027.
2ـ انظر صحيح مسلم 2/1025.
3ـ انظر صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 9/166-167.
4ـ منهاج السنة 2/156، وانظر معالم السنن للخطابي 3/191.(3/1024)
فالسنة دلت على تحريم المتعة دلالة صريحة وأنها حرمت إلى يوم القيامة.
وأما الإجماع على تحريم المتعة فقد نقله طائفة من أهل العلم ممن يعتمد على نقلهم.
قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: "واتفق العلماء على أن هذه المتعة كانت نكاحاً إلى أجل لا ميراث فيها وفراقها يحصل بانقضاء الأجل من غير طلاق ووقع الإجماع بعد ذلك على تحريمها من جميع العلماء إلا الروافض"1.
قال الخطابي رحمه الله تعالى: "تحريم المتعة كالإجماع بين المسلمين ... فلم يبق اليوم فيه خلاف بين الأئمة إلا شيئاً ذهب إليه بعض الروافض"2.أهـ
وقال القرطبي: "الروايات كلها متفقة على أن زمن إباحة المتعة لم يطل وأنه حرم ثم أجمع السلف والخلف على تحريمها إلا من لا يلتفت إليه من الروافض"3.
فلا طريق للرافضة للطعن على الفاروق بزعمهم أنه هو الذي منع من متعة النساء إذ المنع منها وتحريمها تحريماً قاطعاً كان بنص الكتاب والسنة وإجماع المسلمين كافة سلفاً وخلفاً حاشا الرافضة وخلافهم غير معتبر ولا يعتد به، فالفاروق رضي الله عنه لم ينه عن المتعة اجتهاداً وإنما كان نهيه مستمداً من نهي الشارع.
قال الحافظ رحمه الله تعالى: "فنهي عمر موافق لنهيه صلى الله عليه وسلم ـ ثم قال: ـ وتمامه أن يقال: لعل جابراً ومن نقل عنهم استمرارهم على ذلك بعده صلى الله عليه وسلم إلى أن نهى عنها عمر لم يبلغهم النهي، ومما يستفاد أيضاً: أن عمر لم ينه عنها اجتهاداً وإنما نهى عنها مستنداً إلى نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وقع التصريح عنه بذلك فيما أخرجه ابن ماجه من طريق أبي بكر بن حفص عن ابن عمر قال: لما ولي
__________
1ـ شرح النووي على صحيح مسلم 9/181.
2ـ معالم السنن 3/190، وانظر فتح الباري 9/173.
3ـ ذكره عنه الحافظ ابن حجر في الفتح 9(3/1025)
عمر خطب، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لنا في المتعة ثلاثاً ثم حرمها1.
وأخرج ابن المنذر والبيهقي من طريق سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: "صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ما بال رجال ينكحون هذه المتعة بعد نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها"2.
فدعوى الرافضة على الفاروق أنه حرم المتعة دعوى بلا برهان وافتراء واضح ولا حجة لهم على حلها بتعلقهم باستمرار بعض الصحابة على القول بحلها، وإنما كانوا على هذا القول قبل أن يبلغهم النهي فلما بلغهم النهي رجعوا عن هذا القول، وإصرار الرافضة على حلها إنما هو اتباع للهوى، وتنكب عما دل عليه الكتاب والسنة وإجماع الأمة، فهم متبعون للهوى في هذه المسألة، ومخالفون لمعتقد أهل البيت فيها إذ أن أهل البيت يعتقدون أنها نسخت وحرمت إلى يوم القيامة، ويعتبرون فعلها عين الزنا.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "ولا يصح على قاعدتهم في الرجوع في المختلفات إلى علي وآل بيته، فقد صح عن علي رضي الله عنه أنها نسخت ونقل البيهقي عن جعفر بن محمد أنه سئل عن المتعة فقال: "هي الزنا بعينه"3.
ومما طعنوا به على الخليفة الثاني ـ رضي الله عنه ـ: أنهم يفترون عليه بأنه عطل الحدود ويقولون أنه لم يحد المغيرة بن شعبة حد الزنا ولقن الرابع وهو زياد بن أبيه فتركها وحد الثالث وكيف يجوز له صرف الحد عن مستحقه4.
ويرد على هذا الهذيان:
__________
1ـ فتح الباري 9/172-173.
2ـ فتح الباري 9/173.
3ـ فتح الباري 9/173.
4ـ انظر الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/21، وانظر منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/138. حق اليقين في معرفة أصول الدين 1/183-184.(3/1026)
بأن جماهير العلماء على ما فعله عمر في قصة المغيرة وأن البينة إذا لم تكمل حد الشهود، والذي فعله بالمغيرة كان بحضرة الصحابة رضي الله عنهم وأقروه على ذلك وعلي منهم، والدليل على إقرار علي له أنه لما جلد الثلاثة الحد أعاد أبو بكرة القذف، وقال والله لقد زنى فهم عمر بجلده ثانياً، فقال له علي: إن كنت جالده فأرجم المغيرة1 يعني يكون تكراره بالقول بمنزلة شاهد آخر فيتم النصاب أربعاً فيجب رجمه فلم يحده عمر وهذا دليل على رضا علي بحدهم أولاً دون الحد الثاني، وإلا كان أنكر حدهم أولاً كما أنكر الثاني ... وعمر رضي الله عنه من المتواتر عنه أنه كان لا تأخذه في الله لومة لائم، حتى أنه أقام على ابنه2 الحد لما شرب بمصر بعد أن كان عمرو بن العاص ضربه الحد لكن كان ضربه سراً في البيت، وكان يضربون علانية، فبعث عمر إلى عمرو يزجره ويتهدده لكونه حابا ابنه، ثم طلبه فضربه مرة ثانية، فقال عبد الرحمن: مالك هذا، فزجر عبد الرحمن، وما روي أنه ضربه بعد الموت فكذب على عمر وضرب الميت لا يجوز، وأخبار عمر المتواترة في إقامة الحدود وأنه كان لا تأخذ في الله لومة لائم أكثر من أن تذكر ـ ثم أيضاً يقال للرافضة ـ أي غرض كان لعمر في المغيرة بن شعبة، وكان عمر عند المسلمين كالميزان العادل الذي لا يميل إلى ذا الجانب ولا ذا الجانب"3.
وأما قولهم: أنه لقن الشاهد الرابع كلمة تدرأ الحد وهي أنه قال له: "أرى وجه رجل لا يفضح الله به رجلاً من المسلمين" فهذا كذب وبهتان من
__________
1ـ منهاج السنة 3/138، وانظر المنتقى للذهبي ص/351-352، مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/254-255.
2ـ يكنى بأبي شحمة وهو عبد الرحمن الأوسط انظر قصة عبد الرحمن هذا في "الأباطيل والمناكير والصحاح والمشاهير" لأبي عبد الله الجوزقاني 2/193-194، تنزيه الشريعة المرفوعة 2/220.
3ـ منهاج السنة 3/138، وانظر المنتقى من منهاج الاعتدال من 351-352، مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/254-255.(3/1027)
أهل العدوان، وإنما الثابت في التواريخ المعتبرة أن هذه الكلمة إنما قالها المغيرة في ذلك الحين كما هو حال الخصم مع الشهود ولا سيما إذا كان يترتب على الشهادة حكم موجب لهلاكه"1.
ومما طعنوا به على عمر رضي الله عنه: أنهم يزعمون أنه لم يحد قدامة بن مظعون على شربه الخمر لأنه تلا عليه {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا} الآية2، فقال له علي رضي الله عنه: ليس قدامة من أهل هذه الآية، فلم يدر كم يحده، فقال له أمير المؤمنين رضي الله عنه حده ثمانين إن شارب الخمر إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى3.
والرد على الهذيان:
أنه من الكذب الواضح على الفاروق رضي الله عنه لأن علم عمر بن الخطاب بالحكم في مثل هذه القضية أبين من أن يحتاج إلى دليل، فإنه قد جلد في الخمر غير مرة هو وأبو بكر قبله، والمعروف من قصة قدامة ما رواه أبو إسحاق الجوزجاني وغيره من حديث ابن عباس أن قدامة بن مظعون شرب الخمر فقال له عمر: ما يحملك على ذلك، فقال: إن الله يقول: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الآية ... وإني من المهاجرين الأولين من أهل بدر وأحد، فقال عمر: أجيبوا الرجل، فسكتوا عنه، فقال لابن عباس: أجبه، فقال: إنما أنزلها الله عذراً للماضين لمن شربها قبل أن تحرم"4. ثم سأل عمر عن الحد فيها، فقال علي بن
__________
1ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/254-255.
2ـ سورة المائدة آية/93.
3ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/148. وانظر الميزان 6/135.
4ـ رواه عبد الرزاق في المصنف 9/240-243، وقصة قدمة أوردها أيضاً ابن العربي في أحكام القرآن 2/659، والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن 6/297-299.(3/1028)
أبي طالب: إذا شرب هذى وإذا هذى افترى فاجلده ثمانين جلدة، فجلد عمر ثمانين، ففيه أن علياً أشار بالثمانين وفيه نظر، فإن الذي ثبت في الصحيح1 أن علياً جلد أربعين عند عثمان بن عفان لما جلد الوليد بن عقبة وأنه أضاف الثمانين إلى عمر وثبت في الصحيح2 أن عبد الرحمن بن عوف أشار بالثمانين، فلم يكن جلد الثمانين مما استفاده عمر من علي، وعلي قد نقل عنه أنه جلد في خلافته ثمانين فدل على أنه كان يجلد تارة أربعين وتارة ثمانين وروي عن علي أنه قال: "ما كنت لأقيم حداً على أحد فيموت فأجد في نفسي إلا صاحب الخمر فإنه لو مات لوديته لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسنه لنا"3.
ومما طعنوا به على عمر رضي الله عنه رعمهم: "أنه غير حكم الله في المنفيين يعني أنه ترك النفي لمن يشرب الخمر"4.
والرد على هذا البهتان:
أن التغيير لحكم الله إنما يكون بما يناقض حكم الله، مثل إسقاط ما أوجبه الله وتحريم ما أحله الله، والنفي في الخمر كان من باب التعزير يسوغ فيه الاجتهاد وذلك أن الخمر لم يقدر النبي صلى الله عليه وسلم حدها لا قدره ولا صفته بل جوز فيه الضرب بالجريد والنعال وأطراف الثياب وعثكول5 النخل بينما الضرب في حد القذف والزنا إنما يكون بالسوط، وأما العدد في الخمر فقد ضرب الصحابة أربعين وضربوا ثمانين وصح أن علياً قال: وكل سنة6، وقد قال العلماء: الزيادة على أربعين حد واجب وبه يقول أبو حنيفة ومالك وإحدى الروايتين عن
__________
1ـ انظر صحيح مسلم 3/1331-1332.
2ـ انظر المصدر السابق أيضاً 3/1331.
3ـ منهاج السنة 3/149، المنتقي للذهبي ص/353-354، وانظر الأثر عن علي في صحيح مسلم 3/1332.
4ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/139.
5ـ العثكول: العذق من أعذاق النخل الذي يكون فيه الرطب. النهاية في غريب الحديث 3/183.
6ـ انظر صحيح مسلم 3/1332.(3/1029)
أحمد، وقال الشافعي: الزائد تعذير وللإمام أن يفعله وأن يتركه بحسب المصلحة وكان الفاروق رضي الله عنه يحلق في الخمر وينفي وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بقتل الشارب في الرابعة1، واختلف في نسخه وكان علي يحد أكثر من الأربعين، وثبت عنه أنه قال: ما أحد أقيم عليه الحد فيموت فأجد في نفسي إلا شارب الخمر، فإنه لو مات لوديته فإنه شيء فعلناه بآرائنا2.
واستدل به على أن الزيادة من باب التعذير الذي يفعل بالاجتهاد3.
وبهذا يبطل طعن الرافضة على عمر رضي الله عنه بأنه غير حكم الله في المنفيين إذ النفي كان في شرب الخمر من باب التعذير الذي يجوز فيه الاجتهاد.
ومن مطاعنهم في حق الفاروق رضي الله عنه: أنهم يزعمون أنه كان لا يعلم بعض المسائل الشرعية التي هي في زعمهم شرط في الإمامة والخلافة ويذكرون قصصاً اخترعتها عقولهم يستدلون بها على ما يفترون من تلك القصص يقولون: إنه أمر برجم مجنونة شهد عليها بالزنا، فقال له علي: أما علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رفع القلم عن المجنون حتى يفيق" فقال: " لولا علي لهلك عمر" 4.
والجواب على هذا:
أولاً: أن قولهم أن عمر رضي الله عنه قال: "لولا علي لهلك عمر" هذه الزيادة ليست معروفة في هذا الحديث.
ثانياً: أن عمر رضي الله عنه لا يخلو إما أن يكون غير عالم بجنونها وهذا
__________
1ـ انظر سنن الترمذي 2/450، سنن ابن ماجه 2/859، سنن الدارمي 2/175-176، الأم للإمام الشافعي 6/144.
2ـ انظر صحيح مسلم 3/1332.
3ـ منهاج السنة 3/139، المنتقى للذهبي ص/352.
4ـ انظر الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/15، منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/140، حق اليقين 1/185.(3/1030)
لا يقدح في علمه بالأحكام، أو كان عالماً بذلك ولكنه ذهل عنه، أو اجتهد فله أسوة بغيره وما هو بمعصوم1.
وقد روى الإمام أحمد وغيره قصة هذه المرأة المجنونة عن أبي ظبيان الجنبي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتى بامرأة قد زنت، فأمر عمر برجمها فانتزعها علي من أيديهم وردهم، فرجعوا إلى عمر رضي الله عنه، فقال: ما ردكم، قالوا: ردنا علي رضي الله عنه، قال: ما فعل هذا علي إلا لشيء قد علمه، فأرسل إلي علي فجاء وهو شبه المغضب، فقال: مالك رددت هؤلاء، قال: أما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يكبر، وعن المبتلى حتى يعقل" قال: بلى، قال علي رضي الله عنه: فإن هذه مبتلاة بني فلان، فلعله أتاها وهو بها، فقال عمر: لا أدري، قال: وأنا لا أدري فلم يرجمها2.
فمن هذا يتبين أن عمر رضي الله عنه كان يعلم أن المجنونة لا ترجم ولكن لم يكن له علم بجنونها، فلا يطعن عليه بهذا إلا من أصيب بالفتنة في قلبه.
ومن القصص التي يتشدقون بها ويقولون: إنها دلت على أن الفاروق كان قليل المعرفة ببعض المسائل الشرعية، قالوا: إنه أمر برجم حامل، فقال له علي: إن كان لك عليها سبيل، فلا سبيل لك على ما في بطنها، فأمسك وقال: "لولا علي لهلك عمر"3.
والرد على هذه القصة:
إن كانت صحيحة فلا تخلو من أن يكون الفاروق رضي الله عنه لم يعلم بحملها فأخبره أبو الحسن بأنها حامل، ولا ريب أن الأصل عدم العلم والإمام
__________
1ـ انظر منهاج السنة 3/140، وانظر المنتقى للذهبي ص/353.
2ـ المسند: 1/154-155، وانظر صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 12/120.
3ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/139، وانظر حق اليقين 1/185.(3/1031)
إذا لم يعلم أن المستحقة للقتل أو الرجم حامل فعرفه بعض الناس بحالها كان هذا من جملة إعلامه بما يغيب عنه من أحوال الناس، ومن جنس ما يشهد به عنده الشهود، وهذا أمر لا بد منه مع كل أحد من الأنبياء والأئمة وغيرهم، وليس هذا من الأحكام الكلية الشرعية، وإما أن يكون عمر رضي الله عنه قد غاب عنه كون الحامل لا ترجم فلما ذكَّره علي ذكر ذلك، ولهذا أمسك عن رجمها، ولهذا لو كان رأيه أن الحامل ترجم لرجمها، ولم يرجع إلى رأي غيره، وقد مضت سنة النبي صلى الله عليه وسلم في الغامدية لما قالت: يا رسول الله إني زنيت فطهرني، وإنه ردها، فلما كان الغد قالت: يا رسول الله لم تردني؟، لعلك إن تردني كما رددت ماعزاً فوالله إني لحبلى، قال: "أما لا فاذهبي حتى تلدي" 1.
ولو قدر أنه خفي على عمر علم هذه المسألة حتى عرفه علي بذلك لم يقدح ذلك في علمه لأن عمر ساس المسلمين وأهل الذمة يعطي الحقوق ويقيم الحدود ويحكم بين الناس كلهم، وفي زمنه انتشر الإسلام، وظهر ظهوراً لم يكن قبله مثله وهو دائماً يقضي ويفتي، ولولا كثرة علمه لم يطق ذلك فإذا خفيت عليه قضية من مائة ألف قضية ثم عرفها أو كان نسيها فذكرها فأي عيب في ذلك ... ثم يقال عمر رضي الله عنه قد بلغ من علمه وعدله ورحمته بذرية المسلمين أنه كان لا يفرض لصغير حتى يفطم ويقول: يكفيه اللبن فسمع امرأة تكره ابنها على الفطام ليفرض له، فأصبح فنادى في الناس أن أمير المؤمنين يفرض للفطيم والرضيع2 وتضرر الرضيع كان بإكراه أمه لا بفعله هو لكن رأى أن يفرض للرضعاء ليمتنع الناس عن أذاهم فهذا إحسانه إلى ذرية المسلمين3.
ويقال للطاعنين عليه بهذه القضية إن كانت خفيت عليه فقد خفي على أبي الحسن رضي الله عنه من السنة أضعاف هذا وأدى اجتهاده إلى أن قتل يوم
__________
1ـ صحيح مسلم 3/1323، الموطأ 2/821.
2ـ انظر تاريخ عمر لابن الجوزي ص/84-85.
3ـ منهاج السنة 3/139-140، وانظر المنتقى للذهبي ص/352.(3/1032)
الجمل وصفين نحو من تسعين ألفاً1 فهذا أعظم خطئاً من خطأ عمر في قتل ولد زنا ولم يقتله ولله الحمد2.
وبهذا الرد يبطل ما نسبه الرافضة إلى عمر رضي الله عنه من أنه أمر برجم امرأة حامل، فنهاه علي عن ذلك والمشهور أن هذه القصة لم تكن لعلي رضي الله عنه مع عمر، وإنما كانت لمعاذ بن جبل كما روى ذلك ابن أبي شيبة في المصنف أن امرأة غاب عنها زوجها ثم جاء وهي حامل فرفعها إلى عمر فأمر برجمها، فقال معاذ: إن يكن لك عليها سبيل فلا سبيل لك على ما في بطنها، فقال عمر: احبسوها حتى تضع، فوضعت غلاماً له ثنيتان فلما رآه أبوه قال: ابني، فبلغ ذلك عمر، فقال: عجزت النساء أن يلدن مثل معاذ، "لولا معاذ هلك عمر"3.
لكن الرافضة لما كانوا أهل جهل والكذب فيهم أكثر من غيرهم ينسبون الآثار والأخبار إلى غير رواتها.
ومما طعنوا به على الفاروق رضي الله عنه: أنهم يقولون إنه أرسل إلى حامل يستدعيها فأسقطت خوفاً منه، فقال له الصحابة: نراك مؤدباً ولا شيء عليك، ثم سأل علياً، فأوجب الدية4.
ويرد على هذه القصة: أنها من مسائل الاجتهاد التي تنازع فيها العلماء، وكان عمر رضي الله عنه يشاور الصحابة رضي الله عنهم في الحوادث، يشاور عثمان وعلياً وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عباس، وهذا كان من كمال فضله وعقله ودينه، فلهذا كان من أشد الناس رأياً وكان يرجع تارة إلى رأي هذا، وتارة إلى رأي هذا، وقد أتي بامرأة قد أقرت بالزنا،
__________
1ـ انظر تاريخ الأمم والملوك 4/539.
2ـ المنتقى للذهبي ص/352.
3ـ المصنف 10/88.
4ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/150، حق اليقين في معرفة أصول الدين 1/185.(3/1033)
فاتفقوا على رجمها، وعثمان ساكت، فقال: مالك لا تتكلم، فقال: أراها تستهل به استهلال من لا يعلم أن الزنا محرم، فرجع فأسقط الحد لما ذكر له عثمان، ومعنى كلامه أنها تجهر به وتبوح به كما يجهر الإنسان ويبوح بالشيء الذي لا يراه قبيحاً ... وإذا كانت لا تعلمه قبيحاً كانت جاهلة بتحريمه والحد إنما يجب على من بلغه التحريم، ولهذا من أتى شيئاً من المحرمات التي لم يعلم تحريمها لقرب عهده بالإسلام أو لكونه نشأ بمكان جهل لم يقم عليه الحد ولهذا لم يعاقب النبي صلى الله عليه وسلم من أكل من أصحابه بعد تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود1 وكذا لم يعاقب النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد لما قتل الرجل الذي قال: "لا إله إلا الله" لأنه ظن جواز قتله لما اعتقد أنه قالها تعوذاً2، وكذلك خالد بن الوليد لما قتل بني جذيمة لما قالوا صبأنا لما حصل له من التأويل3.
فلا وجهة مستقيمة للرافضة للطعن على عمر بهذه القصة، إذ أنها مسألة مبنية على الخلاف والاجتهاد ومشاورة الفاروق رضي الله عنه للصحابة تزيد من قدره ورفعة شأنه، وذلك من تمام فضله وكمال دينه وعقله رضي الله عنه وأرضاه.
ومما ذكروه من القصص التي يسوقونها للاستدلال بها على عدم إلمام الفاروق بالأحكام الشرعية أنهم يقولون: "تنازعت امرأتان في طفل ولم يعلم الحكم وفزع فيه إلى علي، فاستدعى علي المرأتين ووعظهما فلم ترجعا، فقال: ائتوني بمنشار، فقالت المرأتان: ما تصنع به، فقال: أقده بينكما نصفين، فتأخذ كل واحدة نصفاً، فرضيت واحدة، وقالت الأخرى: ألله ألله يا أبا الحسن إن كان ولا بد من ذلك فقد سمحت لها به فقال علي: الله أكبر هو ابنك دونها، ولو كان ابنها
__________
1ـ انظر صحيح البخاري 1/328.
2ـ صحيح مسلم 1/97.
3ـ منهاج السنة 3/150، وانظر المنتقى للذهبي ص/354، وانظر قصة خالد بن الوليد مع بني جذيمة.فتح الباري 8/56-58.(3/1034)
لرقت عليه فاعترفت الأخرى أن الحق مع صاحبتها، ففرح عمر ودعا لعلي"1.
والرد على هذه القصة:
أنهم لم يذكروا لها إسناداً ولا يعرف صحتها ولا هناك أحد من أهل العلم ذكرها ولو كان لها حقيقة لذكروها، ولا تعرف عن عمر وعلي وإنما هي معروفة عن سليمان بن داود عليهما السلام.
فقد روى الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: كانت امرأتان معهما ابناهما جاء الذئب، فذهب بابن إحداهما فقالت صاحبتها: إنما ذهب بابنك، وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك، فتحاكمتا إلى داود فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان بن داود، فأخبرتاه، فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينهما، فقالت الصغرى: لا تفعل يرحمك الله هو ابنها فقضى به للصغرى، قال أبو هريرة: والله إن سمعت بالسكين إلا يومئذ وما كنا نقول إلا المدية"2.
فإن كان بعض الصحابة علي أو غيره سمعوها من النبي صلى الله عليه وسلم كما سمعها أبو هريرة أو سمعوها من أبي هريرة فهذا غير مستبعد وهذه القصة فيها أن الله تعالى فهَّم سليمان من الحكم ما لم يفهمه داود كما قال تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} 3، وكان سليمان قد سأل ربه حكماً يوافق حكمه، ومع هذا فلا يحكم بمجرد ذلك بأن سليمان أفضل من داود عليهما السلام"4.
ومن قصصهم التي يذكرونها ويسوقونها الاستدلال على عدم معرفة الفاروق
__________
1ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/150-151.
2ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 6/458، صحيح مسلم 3/1344-1345.
3ـ سورة الأنبياء آية/78-79.
4ـ منهاج السنة 3/151، وانظر المنتقى للذهبي ص/355.(3/1035)
لبعض الأحكام والمسائل الشرعية أنهم يزعمون "أنه أمر برجم امرأة ولدت لستة أشهر فقال له علي: إن خاصمتك بكتاب الله خصمتك إن الله يقول: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} 1، وقال تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} 2.
والرد على هذه القصة:
أنه يقال للطاعنين عليه بها: "إن عمر رضي الله عنه كان يستشير الصحابة رضي الله عنهم، فتارة يشير عليه عثمان بما يراه صواباً، وتارة يشير عليه علي وتارة يشير عليه عبد الرحمن بن عوف، وتارة يشير عليه غيرهم، وبهذا مدح الله المؤمنين بقوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} 3، والناس متنازعون في المرأة إذا ظهر بها حمل ولم يكن لها زوج ولا سيد، ولا ادعت شبهة هل ترجم؟.
فمذهب مالك وغيره من أهل المدينة والسلف أنها ترجم، وهو قول أحمد في إحدى الروايتين.
ومذهب أبي حنيفة والشافعي: لا ترجم وهي الرواية الثانية عن أحمد، قالوا: لأنها قد تكون مستكرهة على الوطء أو موطوءة بشبهة أو حملت بغير وطء، والقول الأول هو الثابت عن الخلفاء الراشدين، فقد ثبت في الصحيحين أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب الناس في آخر عمره، وقال: " ... الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال أو النساء إذا قامت البينة، أو كان الحبل أو الاعتراف"4، فجعل الحبل دليلاً على ثبوت
__________
1ـ سورة الأحقاف آية/15.
2ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/151، طتاب الطرائف 2/472-473، والآية رقم 233 من سورة البقرة.
3ـ سورة الشورى آية/38.
4ـ صحيح البخاري 4/180، صحيح مسلم 3/1317.(3/1036)
الزنا كالشهود، وهكذا هذه القضية ... فلما كان معروفاً عند الصحابة أن الحد يقام بالحبل، فلو ولدت المرأة لدون ستة أشهر أقيم عليها الحد، والولادة لستة أشهر نادرة إلى الغاية والأمور النادرة قد لا تخطر بالبال، فأجرى عمر ذلك على الأمر المعتاد المعروف في النساء كما في أقصى الحمل، فإن المعروف من النساء أن المرأة تلد لتسعة أشهر1 "كما وجد في النادر من حملت أربعة سنين ومن حملت سبعة سنين، وفي حد ذلك نزاع بين العلماء"2.
ومن القصص التي يسوقونها ويقولون إنها دلت على أن الفاروق رضي الله عنه كان لا يعرف بعض المسائل الشرعية أنه قال في خطبة له: "من غالى في مهر امرأة جعلته في بيت المال"، فقالت امرأة: كيف تمنعنا ما أعطانا الله في كتابه حين قال: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} 3، فقال: كل أحد أفقه من عمر حتى المخدرات4.
ويرد عليهم أن هذه القصة لا تدل على ما تفهمونه معشر الرافضة وإنما "هي دليل على كمال فضله ودينه وتقواه ورجوعه إلى الحق إذا تبين له وأنه يقبل الحق حتى من امرأة ويتواضع له وأنه معترف بفضل الواحد عليه ولو في أدنى مسألة، وليس من شرط الأفضل ألا ينبهه المفضول لأمر من الأمور، فقد قال الهدهد لسليمان: {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ} 5، وقد قال موسى للخضر: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} 6، والفرق بين موسى والخضر أعظم من الفرق بين عمر وأشباهه من الصحابة، ولم يكن هذا بالذي أوجب أن يكون الخضر قريباً من موسى فضلاً عن
__________
1ـ منهاج السنة 3/151-152.
2ـ المنتقى للذهبي ص/355.
3ـ سورة النساء آية/20.
4ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/147، الطرائ
2/471.
5ـ سورة النمل آية/22.
6ـ سورة الكهف آية/66.(3/1037)
أن يكون مثله، بل الأنبياء المتبعون لموسى كهارون ويوشع وداود وسليمان وغيرهم أفضل من الخضر، وما كان عمر قد رآه فهو مما يقع مثله للمجتهد الفاضل، فإن الصداق فيه حق لله تعالى، ليس من جنس الثمن والأجرة فإن المال والمنفعة يستباح للإباحة ولا يجوز النكاح بغير صداق لغير النبي صلى الله عليه وسلم باتفاق المسلمين"1.
فلا وجهة صحيحة للرافضة توجب لهم الطعن على الفاروق بهذه القصة.
ومن مطاعنهم في حق الفاروق رضي الله عنه: أنهم يزعمون أنه كان يضطرب في الأحكام ويتقولون عليه بأنه قضى في مسألة الجد بمائة قضية2.
والجواب على هذا الزعم: أن عمر رضي الله عنه أسعد الصحابة المختلفين في الجد بالحق فإن الصحابة في الجد مع الإخوة على قولين:-
أحدهما: أنه يسقط الإخوة، وهذا قول أبي بكر وأبي موسى وابن عباس وطائفة، ومذهب أبي حنيفة وابن سريج من الشافعية وأبي حفص البرمكي من الحنابلة وهو الحق فإن نسبة بني الإخوة من الأب إلى الجد كنسبة الأعمام بني الجد إلى الجد، وقد اتفق المسلمون على أن الجد أب والأب أولى من الأعمام، فيجب أن يكون أبو الأب أولى من الإخوة، وأيضاً فإن الإخوة لو كانوا لكونهم يدلون ببنوة الأب ـ بمنزلة الجد لكان أولادهم وهم بني الإخوة كذلك ومعلوم أن الابن لما كان أولى من الجد كان ابنه بمنزلته، وأيضاً: فإن الجدة كالأم فيجب أن يكون الجد كالأب ولأن الجد يسمى أباً وهذا القول هو إحدى الروايتين عن عمر
__________
1ـ منهاج السنة 3/147، المنتقى للذهبي ص/353.
2ـ انظر الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/22، وانظر منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/152.(3/1038)
القول الثاني: إن الجد يقاسم الإخوة، وهذا قول عثمان وعلي وزيد وابن مسعود، ولكن اختلفوا في التفضيل اختلافاً متبايناً، والجمهور على مذهب زيد كمالك والشافعي وأحمد.
فإن كان القول الأول في مسألة الجد هو الصواب فهو قول لعمر، وإن كان الثاني فهو قول لعمر وإنما نفذ قول زيد في الناس لأنه كان قاضي عمر وكان عمر ينفذ قضاءه في الجد لورعه، لأنه كان يرى أن الجد كالأب مثل قول أبي بكر فلما صار جداً تورع وفوض الأمر في ذلك لزيد، وقول القائل: إنه قضى في الجد بمائة قضية، إن صح هذا لم يرد به أنه قضى في مسألة واحدة بمائة قول، فإن هذا غير ممكن، وليس في مسائل الجد نزاع أكثر مما في مسألة الخرقاء أم/أخت/وجد والأقوال فيها ستة1 فعلم أن المراد به إن كان صحيحاً أنه قضى في مائة حادثة من حوادث الجد وهذا مع أنه ممكن لكن لم يخرج قوله عن قولين أو ثلاثة، مع أن الأشبه أن هذا كذب، فإن وجود جد وأخوة في الفريضة قليل جداً في الناس، وعمر إنما تولى عشر سنين، وكان قد أمسك عن الكلام في الجد وثبت عنه في الصحيح أنه قال: "ثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بينهن لنا الجد والكلالة وأبواب من أبواب الربا"2.
ومن كان متوقفاً لم يحكم فيها بشيء3.
ومن مطاعنهم في حق الفاروق رضي الله عنه:- أنهم يطعنون عليه بقولهم: "إنه جعل الأمر شورى بعده، وخالف فيه من تقدمه، فإنه لم يفوض الأمر فيه إلى اختيار الناس، ولا نص على إمام بعده بل تأسف على سالم مولى
__________
1ـ انظر هذه المسألة وأقوال العلماء فيها، كتاب "العذب الفائض بشرح عمدة الفارض" للشيخ إبراهيم بن عبد الله بن إبراهيم الفرضي 1/118-119.
2ـ انظر هذا الأثر عن عمر في صحيح مسلم 4/2232.
3ـ منهاج السنة 3/152، وانظر المنتقى للذهبي ص/355-356 وانظر إرث الجد مع الإخوة وحالاته، كتاب "العذب الفائض شرح عمدة الفارض" 1/105-122.(3/1039)
أبي حذيفة، وقال: "لو كان حياً لم يختلجني فيه شك" وأمير المؤمنين علي حاضر وجمع بين الفاضل والمفضول، ومن حق الفاضل التقدم على المفضول، ثم طعن في كل واحد ممن اختاره للشورى، وأظهر أنه يكره أن يتقلد أمر المسلمين ميتاً كما تقلده حياً ثم تقلده ميتاً بأن جعل الإمامة في ستة ثم ناقض فجعلها في أربعة، ثم في ثلاثة، ثم في واحد فجعل إلى عبد الرحمن بن عوف الاختيار بعد أن وصفه بالضغف والقصور، ثم قال: إن اجتمع أمير وعثمان، فالقول ما قالاه، وإن صاروا ثلاثة فالقول قول الذي صار فيهم عبد الرحمن بن عوف لعلمه أن علياً وعثمان لا يجتمعان على أمر واحد، وأن عبد الرحمن لا يعدل الأمر عن أخيه عثمان وهو ابن عمه ثم أمر بضرب أعناقهم إن تأخروا عن البيعة ثلاثة أيام مع أنهم عندهم من العشرة المبشرة بالجنة وأمر بقتل من خالف الأربعة منهم وأمر بقتل من خالف الثلاثة منهم عبد الرحمن وكل ذلك مخالف للدين، وقال لعلي: إن وليتها وليسوا بفاعلين لتركبنهم على المحجة البيضاء، وفيه إشارة إلى أنهم لا يولونه إياها، وقال لعثمان: إن وليتها لتركبن آل بني معيط على رقاب الناس وإن فعلت لتقتلن، وفيه إشارة إلى الأمر بقتله1.
والجواب على هذا الهذيان أنه:
بمجرد أن يقرأه الإنسان أو يسمعه بجد أنه لا يخرج عن قسمين:
إما كذب في النقل، وإما قدح في الحق، فإن منه ما هو كذب معلوم الكذب، أو غير معلوم الصدق، وما علم أنه صدق فليس فيه ما يوجب الطعن على عمر رضي الله عنه، بل ذلك معدود من فضائله ومحاسنه التي ختم الله له بها عمله، ولكن الرافضة لفرط جهلهم واتباعهم للهوى يقلبون الحقائق في المنقول والمعقول، فيأتون إلى الأمور التي وقعت وعلم أنها وقعت فيقولون ما وقعت،
__________
1ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/158، الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/22-24، حق اليقين لعبد الله شبر 1/188، وانظر الاحتجاج للطبرسي 1/134.(3/1040)
أبو بكر رضي الله عنه من تعيين عمر هو المصلحة أيضاً، فإن أبا بكر تبين له من كمال عمر وفضله واستحقاقه للأمر ما لم يحتج معه إلى الشورى وظهر أثر هذا الرأي المبارك الميمون على المسلمين فإن كل عاقل منصف يعلم أن عثمان أو علياً أو طلحة أو الزبير أو سعداً أو عبد الرحمن بن عوف لا يقوم مقام عمر وكان تعيين عمر في الاستحقاق كتعيين أبي بكر في مبايعتهم له ... والفاروق رضي الله عنه رأى الأمر في الستة متقارباً فإنهم وإن كان لبعضهم من الفضيلة ما ليس لبعض، فلذلك المفضول مزية أخرى ليست للآخر، ورأى أنه إذا عين واحداً فقد يحصل بولايته نوع من الخلل فيكون منسوباً إليه، فترك التعيين خوفاً من الله تعالى، وعلم أنه ليس واحد أحق بهذا الأمر منهم فجمع بين المصلحتين بين تعيينهم إذ لا أحق منهم وترك تعيين واحد منهم لما تخوفه من التقصير والله تعالى قد أوجب على العبد أن يفعل المصلحة بحسب الإمكان فكان ما فعله غاية ما يمكن من المصلحة"1.
ولا يقال إنه بجعله الأمر شورى بين الستة قد خالف به من تقدمه كما هو زعم الشيعة الرافضة، لأن الخلاف نوعان:
خلاف تضاد، وخلاف تنوع، فالأول مثل أن يوجب هذا شيئاً ويحرمه الآخر، والنوع الثاني: مثل القراءات التي يجوز كل منها، وإن كان هذا يختار قراءة وهذا يختار قراءة، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أنزل القرآن على سبعة أحرف" 2، وثبت أن عمر وهشام بن حكيم بن حزام اختلفا في سورة الفرقان، فقرأها هذا على وجه وهذا على وجه آخر، فقال لكليهما: "هكذا أنزلت"3، ومن هذا الباب أنواع التشهدات4، ومنه أيضاً جعل عمر رضي الله
__________
1ـ منهاج السنة 3/162-164، وانظر المنتقى من منهاج الاعتدال ص/362-364.
2ـ رواه الترمذي في سننة 4/264، من حديث أبي بن كعب.
3ـ المصدر السابق 4/264، من حديث عمر.
4ـ منهاج السنة 3/159، وانظر المنتقى من منهاج الاعتدال ص/359.(3/1042)
عنه الأمر من بعده إلى الستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض ولا يعتبر بذلك مخالفاً لمن تقدمه.
وأما ما يروى من ذكر عمر لسالم مولى أبي حذيفة، فقد علم أن الفاروق وغيره من الصحابة كانوا يعلمون أن الإمامة في قريش، كما استفاضت بذلك السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم1، وقد احتج بها المهاجرون على الأنصار يوم السقيفة، فكيف يظن بعمر أنه كان يولي رجلاً من غير قريش بل من الممكن أنه أراد أن يوليه ولاية جزئية أو يستشيره فيمن يولي، ونحو ذلك من الأمور التي يصلح لها سالم مولى أبي حذيفة، فإنه كان من خيار الصحابة2.
وأما زعمهم أنه جمع بين الفاضل والمفضول ومن حق الفاضل التقدم على المفضول، فيقال لهم:
أولاً: هؤلاء كانوا متقاربين في الفضيلة، ولم يكن تقدم بعضهم على بعض ظاهراً كتقدم أبي بكر وعمر على الباقين، ولهذا كانت الشورى تارة يؤخذ برأي عثمان وتارة يؤخذ برأي علي وتارة برأي عبد الرحمن وكل منهم له فضائل لم يشركه فيها الآخر، ثم يقال لهم:
ثانيا: وإذا كان فيهم فاضل ومفضول فلم يقولون إن علياً هو الفاضل وعثمان وغيره هم المفضولون، وهذا القول خلاف ما أجمع عليه المهاجرون والأنصار كما قال غير واحد من الأئمة، منهم أيوب السختياني وغيره من قدم علياً على عثمان، فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار، وقد ثبت عن عبد الله بن عمر قال: كنا نفاضل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان3، وفي لفظ: "ثم ندع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم"4، فهذا إخبار عما كان عليه
__________
1ـ انظر صحيح مسلم 3/1451-1452، المسند 3/129.
2ـ منهاج السنة 3/165، المنتقى ص/368.
3ـ انظر صحيح البخاري 2/289، سنن أبي داود 2/511.
4ـ صحيح البخاري 2/297، سنن أبي داود 2/511.(3/1043)
الصحابة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من تفضيل أبي بكر ثم عمر ثم عثمان، وقد روى أن ذلك كان يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينكره1، وحينئذ فيكون هذا التفضيل ثابتاً بالنص، وإلا فيكون ثابتاً بما ظهر بين المهاجرين والأنصار على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من غير نكير وبما ظهر لما توفي عمر فإنهم كلهم بايعوا عثمان بن عفان من غير رغبة ولا رهبة، ولم ينكر هذه الولاية منكر منهم.
قال الإمام أحمد: لم يجتمعوا على بيعة أحد ما اجتمعوا على بيعة عثمان، وسئل عن خلافة النبوة، فقال: كل بيعة كانت بالمدينة وهو كما قال: فإنهم كانوا في آخر ولاية عمر أعز ما كانوا وأظهر ما كانوا قبل ذلك، وكلهم بايعوا عثمان بلا رغبة بذلها لهم ولا رهبة، فإنه لم يعط احداً على ولايته لا مالاً ولا ولاية وعبد الرحمن الذي بايعه لم يوله ولم يعطه مالاً وكان عبد الرحمن من أبعد الناس عن الأغراض مع عبد الرحمن شاور جميع الناس ولم يكن لبني أمية شوكة ولا كان في الشورى منهم أحد غير عثمان، مع أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا كما وصفهم الله ـ عز وجل ـ: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} 2.
وقد بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم على أن يقولوا الحق حيثما كانوا لا يخافون في الله لومة لائم، ولم ينكر منهم أحد ولاية عثمان ... فلولا علم القوم بأن عثمان أحقهم بالولاية لما ولوه وهذا أمر كلما تدبره الخبير ازداد به خبرة وعلماً، ولا يشك فيه إلا من لم يتدبره من أهل العلم بالاستدلال، أو من هو جاهل بالواقع أو بطريق النظر والاستدلال والجهل بالأدلة أو بالنظر يورث الجهل، وأما من كان عالماً بما وقع وبالأدلة وعالماً بطريق النظر والاستدلال فإنه يقطع قطعاً لا يتمار فيه أن عثمان كان أحقهم بالخلافة وأفضل من بقي بعده"3.
__________
1ـ ذكره الحافظ في الفتح 7/16، وعزاه للطبراني.
2ـ سورة المائدة آية/54.
3ـ منهاج السنة 3/165-166.(3/1044)
وأما زعمهم: أنه طعن في كل واحد ممن اختاره للشورى وأظهر أنه يكره أن يتقلد أمر المسلمين ميتاً كما تقلده حياً ثم تقلده بأن جعل الإمامة في ستة.
فالرد عليه: "أن عمر لم يطعن فيهم طعن من يجعل غيرهم أحق بالإمامة منهم بل لم يكن عنده أحق بالإمامة منهم كما نص على ذلك لكن بين عذره المانع له من تعيين واحد منهم وكره أن يتقلد ولاية معين ولم يكره أن يتقلد تعيين الستة لأنه قد علم أنه لا أحد أحق بالأمر منهم، فالذي علمه وعلم أن الله يثيبه عليه ولا تبعة عليه فيه إن تقلده هو اختيار الستة والذي خاف أن يكون عليه فيه تبعة وهو تعيين واحد منهم تركه وهذا من كمال عقله ودينه رضي الله عنه، وليس كراهته لتقلده ميتاً كما تقلده حياً لطعنه في تقلده حياً، فإنه تقلد الأمر حياً باختياره، وبأن تقلده كان خيراً له وللأمة، وإن كان خائفاً من تبعة الحساب، فقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} 1.
قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله أهو الرجل يزني ويسرق ويشرب الخمر ويخاف أن يعاقب، قال: "لا يا بنت الصديق، ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه" 2، فخوفه من التقصير في الطاعة من كمال الطاعة والفرق بين تقلده حياً وميتاً أنه في حياته كان رقيباً على نوابه متعقباً لأفعالهم يأمرهم بالحج كل عام ليحكم بينهم وبين الرعية، فكان ما يفعلونه مما يكرهه يمكنه منعهم منه وتلافيه بخلاف ما بعد الموت، فإنه لا يمكنه لا منعهم مما يكرهه ولا تلافي ذلك فلهذا كره تقلد الأمر ميتاً، وأما تعيين الستة فهو عنده واضح بين لعلمه أنهم أحق الناس بهذا الأمر3.
__________
1ـ سورة المؤمنون آية/60.
2ـ انظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور 6/105.
3ـ منهاج السنة 3/167، وانظر المنتقى من منهاج الاعتدال ص/270.(3/1045)
وأما زعمهم أنه ناقض فجعلها في أربعة ثم في ثلاثة ثم في واحد فجعل إلى عبد الرحمن بن عوف الاختيار بعد أن وصفه بالضعف والقصور.
فالرد عليه: "أنه ينبغي لمن احتج بالمنقول أن يثبته أولاً وإذا قال القائل هذا غير معلوم الصحة لم يكن عليه حجة وعهد عمر بالأمر من بعده إلى الستة ثابت في صحيح البخاري1 وغيره ليس فيه شيء من هذا بل يدل على نقيض هذا وأن الستة هم الذين جعلوا الأمر في ثلاثة، ثم الثلاثة جعلوا الاختيار إلى عبد الرحمن بن عوف واحد منهم ليس لعمر في ذلك أمر"2.
وأما بيان بطلان افترائهم عليه: أنه قال: إن اجتمع علي وعثمان فالقول ما قالاه، وإن صاروا ثلاثة فالقول قول الذي صار فيهم عبد الرحمن لعلمه أن علياً وعثمان لا يجتمعان على أمر وأن عبد الرحمن لا يعدل بالأمر عن أخيه عثمان وابن عمه.
فالرد عليه يقال لهم: من "الذي قال إن عمر قال هذا، وإن كان قد قاله فلا يجوز أن يظن به أنه كان قصده ولاية عثمان محاباة له ومنع علي معاداة له، فإنه لو كان قصده هذا لولى عثمان ابتداء ولم ينتطح فيها عنزان كيف والذين عاشوا بعده قدموا عثمان بدون تعيين عمر له، فلو كان عمر عينه لكانوا أعظم متابعة له، وطاعة سواء كانوا كما يقوله المؤمنون أهل دين وخير وعدل أو كانوا كما يقوله المنافقون الطاعنون فيهم أن مقصودهم الظلم والشر، وعمر كان في حال الحياة لا يخاف احداً ... فإذا كان في حياته لم يخف من تقديم أبي بكر والأمر في أوله والنفوس لم تتوطن على طاعة أحد معين بعد النبي صلى الله عليه وسلم ولا صار لعمر أمر فكيف يخاف من تقديم عثمان عند موته، والناس كلهم مطيعوه، وقد تمرنوا على طاعته، فعلم أنه لو كان له غرض في تقديم عثمان لقدمه ولم يحتج إلى هذه
__________
1ـ صحيح البخاري 2/297-299.
2ـ منهاج السنة 3/168، المنتقى ص/370.(3/1046)
الدويرة البعيدة، ثم أي غرض يكون لعمر رضي الله عنه في عثمان دون علي وليس بينه وبين عثمان من أسباب الصلة أكثر مما بينه وبين علي لا من جهة القبيلة ولا من غير جهة القبيلة، وعمر قد أخرج من الأمر ابنه ولم يدخل في الأمر ابن عمه سعيد بن زيد وهو أحد العشرة المشهود لأعيانهم بالجنة في حديث واحد1 وهم من قبيلة بني عدي ولا كان يولي من بني عدي أحداً بل ولى رجلاً2 منهم ثم عزله وكان رضي الله عنه باتفاق الناس لا تأخذه في الله لومة لائم فأي داع يدعوه إلى محاباة زيد دون عمر وبلا غرض يحصل من الدنيا، فمن أقصى عشيرته وأمر بأن الدين الذي عليه لا يوفى إلا من مال أقاربه، ثم من مال بني عدي، ثم من مال قريش، ولا يؤخذ من بيت المال شيء ولا من سائر الناس فأي حاجة له إلى عثمان أو علي أو غيرهما، حتى يقدمه وهو لا يحتاج إليه لا في أهله الذين يخلفهم ولا في دينه الذي عليه، والإنسان إنما يحابي من يتولى بعده لحاجته إليه في نحو ذلك، فمن لا يكون له حاجة لا إلى هذا ولا إلى هذا، فأي داع يدعوه إلى ذلك لا سيما عند الموت وهو وقت يسلم فيه الكافر ويتوب فيه الفاجر3 ولكن الرافضة قوم لا يفقهون.
وأما زعمهم: أن عمر رضي الله عنه علم أن عبد الرحمن رضي الله عنه لا يعدل الأمر عن أخيه وابن عمه، "فهذا كذب بين على عمر وعلى أنسابهم فإن عبد الرحمن ليس أخاً لعثمان، ولا ابن عمه ولا من قبيلته أصلاً بل هذا من بني زهرة وهذا من بني أمية، وبنو زهرة إلى بني هاشم أكثر ميلاً منهم إلى بني أمية، فإن بني زهرة أخوال النبي صلى الله عليه وسلم ومنهم عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص، الذي قاله له النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا خالي فليكرمن امرؤ
__________
1ـ انظر سنن أبي داود 2/515-516، سنن الترمذي 5/311-312، 315-316.
2ـ هو النعمان بن عدي بن نضلة، انظر قصة عزله في تاريخ عمر، لابن الجوزي، ص/136-137.
3ـ منهاج السنة 3/168-169، وانظر المنتقى للذهبي ص/371.(3/1047)
خاله" 1، ولم يكن أيضاً: بين عثمان وعبد الرحمن مؤاخاة ولا مخالطة فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤاخ بين مهاجري ومهاجري، ولا بين أنصاري وأنصاري، وإنما آخى بين المهاجرين والأنصار، فآخى بين عبد الرحمن بن عوف وبين سعد بن الربيع الأنصاري، ولم يؤاخ قط بين عثمان وعبد الرحمن"2.
وأما بيان بطلان ما نسبوه إليه من أنه أمر بضرب أعناقهم إن تأخروا عن البيعة ثلاثة أيام، فيقال لهم أولاً: من ذكر من أهل العلم أن هذا صحيح؟، وأين النقل بهذا؟، وإنما المعروف أنه أمر الأنصار أن لا يفارقوهم حتى يبايعوا واحداً منهم، ثم يقال لهم: ثانياً: هذا من الكذب على عمر ولم ينقل هذا أحد من أهل العلم بإسناد يعرف ولا أمر عمر قط بقتل الستة الذين يعلم أنهم خيار الأمة، وكيف يأمر بقتلهم وإذا قتلوا كان الأمر بعد قتلهم أشد فساداً، ثم لو أمر بقتلهم لقال ولوا بعد قتلهم فلاناً وفلاناً فكيف يأمر بقتل المستحقين للأمر ولا يولي بعدهم أحداً، وأيضاً فمن الذي يتمكن من قتل هؤلاء، والأمة كلها مطيعة لهم والعساكر والجنود معهم ولو أرادت الأنصار كلهم قتل واحد منهم لعجزوا عن ذلك، وقد أعاذ الله الأنصار من ذلك، فكيف يأمر طائفة قليلة من الأنصار بقتل هؤلاء الستة جميعاً، ولو قال هذا عمر فكيف كان يسكت هؤلاء الستة ويمكنون الأنصار منهم ويجتمعون في موضع ليس فيه من ينصرهم، ولو فرضنا أن الستة لم يتول واحداً منهم لم يجب قتل أحد منهم بذلك بل يولي غيرهم وهذا عبد الله بن عمر كان دائماً تعرض عليه الولايات فلا يتولى، وما قتله أحد، وما آذاه أحد قط، وما سمع قط أن أحداً امتنع من الولاية فقتل على ذلك"3.
وأما بيان بطلان افترائهم عليه بأنه أمر بقتل من خالف الأربعة وأمر بقتل
__________
1ـ جاء في سنن الترمذي 5/313، بلفظ "هذا خالي فليرني امرؤ خاله".
2ـ منهاج السنة 3/170، وانظر المنتقى للذهبي ص/373.
3ـ منهاج السنة 3/170، وانظر المنتقى للذهبي ص/373.(3/1048)
من خالف الثلاثة منهم عبد الرحمن ... الخ..المطاعن المذكورة في النص المتقدم، فالجواب عليه يقال لهم: "هذا من الكذب المفترى ولو قدر أنه فعل ذلك لم يكن عمر قد خالف الدين بل يكون قد أمر بقتل من يقصد الفتنة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من جاءكم وأمركم على رجل واحد يريد أن يفرق جماعتكم فاضربوا عنقه بالسيف كائناً من كان "1، والمعروف عن عمر رضي الله عنه أنه أمر بقتل من أراد أن ينفرد عن المسلمين ببيعة بلا مشاورة لأجل هذا الحديث، وأما قتل الواحد المتخلف عن البيعة إذا لم تقم فتنة فلم يأمر عمر بقتله مثل هذا، ولا يجوز قتل مثل هذا ـ وما قالوا أنه أشار إلى قتل عثمان وإلى عدم تولية علي ـ "كذب بين على عمر، فإن قوله لئن فعلت ليقتلنك الناس إخبار عما يفعله الناس ليس فيه أمر لهم بذلك وكذلك قوله لا يولونه إياها إخبار عما سيقع ليس فيه نهي لهم عن الولاية مع أن هذا اللفظ بهذا السياق ليس بثابت عن عمر بل هو كذب عليه"2.
وحسبنا هذه المطاعن مما تناول به الرافضة عمر الفاروق رضي الله عنه إذ هذه أهم مطاعنهم عليه، وإلا فمطاعنهم في حق الفاروق كثيرة شحنوا بها كتبهم 3، وهي أكاذيب وأباطيل كلها من جنس ما تقدم ذكره في هذا المبحث، وكلها براهين واضحة دلت على أن الطاعنين على الصحابة أهل اختلاف وافتراء لا يدرون ما يكتبون لا شرعاً ولا عادة نعوذ بالله من الخذلان.
__________
1ـ انظر سنن النسائي 7/92-93.
2 ـ منهاج السنة 3/172-173.
3ـ انظر كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة لأبي القاسم الكوفي 1/23-48، الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/7-28، حق اليقين في معرفة أصول الدين لعبد الله شبر 1/181-189، كتاب مقدمة مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول 1/220 وما بعدها.(3/1049)
المبحث السابع: من مطاعنهم في حق ذي النورين عثمان رضي الله عنه
لقد نقم الشيعة الرافضة على الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه بما لم ينقم به على أحد مثله واعتبروا ما نقموا به عليه مظالم ومناكير صدرت منه وأخذوا ينتقصونه بها اقتداء منهم بأوباش القبائل وأهل الفتنة الذين قادهم عبد الله بن سبأ اليهودي زمن خلافة عثمان رضي الله عنه حيث زين لهم الطعن في الولاة والخروج على الأئمة حتى وصلت بهم الجرأة البغيضة إلى أن اجتمعوا من الأمصار المختلفة وتوجهوا إلى المدينة وأدى خروجهم وتجمعهم إلى أن قتلوا ذا النورين رضي الله عنه وأرضاه ظلماً وعدواناً1.
فمن مطاعنهم عليه ـ رضي الله عنه ـ: ادعاؤهم عليه أنه ولى أمور المسلمين من لا يصلح للولاية حتى ظهر من بعضهم الفسوق ومن بعضهم الخيانة، وقسم الولايات بين أقاربه وعوتب على ذلك مراراً فلم يرجع2.
والرد على هذا التخرص:
يقال لهم: لو نظرتم في كتب التواريخ والسير نظر العلماء المتبصرين لوجدتم أن الولاة الذين ولاهم علي رضي الله عنه خانوه وعصوه أكثر من خيانة عمال عثمان لعثمان رضي الله عنه، بل بعضهم ترك علياً وذهب إلى معاوية وقد ولى علي زياد بن أبي سفيان أبا عبيد الله بن زياد قاتل الحسين وولي الأشتر النخعي وولي محمد بن أبي بكر وأمثاله هؤلاء لا يستريب من له أدنى عقل وعلم أن معاوية
__________
1ـ انظر تهذيب تاريخ دمشق 7/431.
2ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/173، وانظر حق اليقين لعبد الله شبر 1/189، كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة لأبي القاسم الكوفي: 1/62-63.(3/1050)
ابن أبي سفيان كان خيراً من هؤلاء كلهم، ومما يتعجب منه أن الشيعة ينكرون على عثمان ما يعلمون أن علياً كان أبلغ فيه من عثمان، وهو زعمهم أن عثمان ولى أقاربه من بني أمية ومما هو معلوم أن علياً ولى أقاربه من قبل أبيه وأمه كعبد الله وعبيد الله ابني العباس فولى عبيد بن عباس على اليمن، وولى على مكة والطائف قثم بن العباس، وأما المدينة فقيل إنه ولى عليها سهل بن حنيف، وقيل: ثمامة ابن العباس، وأما البصرة فولى عليها عبد الله بن عباس، وولى على مصر ربيبه محمد بن أبي بكر الذي رباه في حجره، ثم إن الإمامية يدعون أن علياً نص على أولاده في الخلافة وولده على ولده الآخر، وهلم جرا، ومن المعلوم إن كان تولية الأقربين منكراً فتولية الخلافة العظمى أعظم من إمارة بعض الأعمال وتولية الأولاد أقرب إلى الإنكار من تولية بني العم ... ويقال لهم أيضاً: "إن بني أمية كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعملهم في حياته واستعملهم بعده من لا يتهم بقرابة فيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، ولا تعرف قبيلة من قبائل قريش فيها عمال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من بني عبد شمس، لأنهم كانوا كثيرين وكان فيهم شرف وسؤدد فاستعمل النبي صلى الله عليه وسلم في غرة الإسلام على أفضل الأرض مكة عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أمية، واستعمل على نجران أبا سفيان بن حرب بن أمية، واستعمل أيضاً: خالد بن سعيد بن العاص على صدقات بني مذجح وعلى صنعاء اليمن فلم يزل حتى مات رسول الله صلى الله عليه وسلم واستعمل عثمان بن سعيد على تيماء وخيبر وقرى عرينة، واستعمل أبان بن سعيد بن العاص على بعض السرايا، ثم استعمله على البحرين، فلم يزل عليها بعد العلاء بن الحضرمي حتى توفي النبي صلى الله عليه وسلم..فعثمان لم يستعمل إلا من استعمله النبي صلى الله عليه وسلم ومن جنسهم ومن قبيلتهم، وكذلك أبو بكر وعمر بعده، فقد ولى أبو بكر يزيد بن أبي سفيان بن حرب في فتوح الشام وأقره عمر ثم ولى عمر بعده أخاه معاوية وهذا النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم في استعمال هؤلاء ثابت مشهور عنه، بل متواتر عند أهل العلم فكان الاحتجاج على جواز الاستعمال من بني أمية بالنص الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أظهر(3/1051)
عند كل عاقل من دعوى كون الخلافة في واحد معين من بني هاشم بالنص، لأن هذا كذب باتفاق أهل العلم بالنقل وذاك صدق باتفاق أهل العلم بالنقل، وأما بنو هاشم فلم يستعمل النبي صلى الله عليه وسلم منهم إلا علياً على اليمن وجعفر على غزوة مؤتة مع مولاه زيد وابن رواحة1.
وأما بيان بطلان قولهم: حتى ظهر من بعضهم الفسوق ومن بعضهم الخيانة، فيقال لهم: ظهور ذلك بعد الولاية لا يدل على كونه كان ثابتاً حين الولاية، ولا على أن المولي علم ذلك، وعثمان رضي الله عنه لما علم أن الوليد بن عقبة شرب الخمر طلبه وأقام عليه الحد، وكان يعزل من يراه مستحقاً للعزل، ويقيم الحد على من يراه مستحقاً لإقامة الحد عليه.
وأما قولهم: إنه قسم المال بين أقاربه، فهذا غايته أن يكون من موارد الاجتهاد، فإن الناس تنازعوا فيما كان للنبي صلى الله عليه وسلم في حياته هل يستحقه ولي الأمر بعده على قولين: وقد ذهب بعض الفقهاء إلى أن سهم ذوي القربى هو لقرابة الإمام كما قاله الحسن وأبو ثور وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعطي أقاربه بحكم الولاية وسقط حق ذوي قرباه بموته كما يقول ذلك كثير من العلماء، ثم لما سقط حقه بموته فحقه الساقط قيل: إنه يصرف في الكراع والسلاح والمصالح، كما كان يفعل أبو بكر وعمر وقيل: إن هذا مما تأوله عثمان، ونقل عن عثمان رضي الله عنه نفسه أنه ذكر هذا وأنه يأخذ بعمله وأن ذلك جائز وإن كان ما فعله أبو بكر وعمر أفضل، فكان له الأخذ بهذا وهذا وكان يعطي أقرباءه مما يختص به فكان يعطيهم لكونهم ذوي قربى الإمام على قول من يقول ذلك، وبالجملة فعامة من تولى الأمر بعد عمر كان يخص بعض أقاربه إما بولاية وإما بمال وعلي رضي الله عنه ولى أقاربه"2.
__________
1ـ منهاج السنة 3/173-176.
2ـ منهاج السنة 3/187-189، المنتقى للذهبي ص/390-392.(3/1052)
وبهذا الرد تبين بطلان طعن الرافضة على عثمان بتوليته بني أمية إذ أنه كان متأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم في استعمالهم، وأيضاً: أبو الحسن لما تولى الخلافة كان أبلغ من عثمان في تولية أقاربه وكما أنه لا يلحق علياً رضي الله عنه طعن بسبب ما حصل من عماله كذلك عثمان رضي الله عنه وإلا فما الفرق؟
ومما طعنوا به على عثمان رضي الله عنه: "أنه استعلم الوليد بن عقبة حتى ظهر منه شرب الخمر وصلى بالناس وهو سكران"1.
والرد على طعنهم بهذه القضية"
يقال لهم: إن عثمان رضي الله عنه طلبه وأقام عليه الحد بمشهد من علي بن أبي طالب، وقال لعلي: قم فاضربه، فأمر علي الحسن بضربه فامتنع وقال لعبد الله بن جعفر قم فاضربه فضربه أربعين، ثم قال: أمسك ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين وأبو بكر أربعين وعمر ثمانين وكل سنة وهذا أحب إلي2، فإذا أقام الحد برأي علي وأمره فقد فعل الواجب3.
قال أبو بكر بن العربي مبيناً بطلان طعن الرافضة على عثمان بتولية الوليد بن عقبة: "وأما تولية الوليد بن عقبة فإن الناس على فساد النيات أسرعوا إلى السيئات قبل الحسنات، فذكر الافترائيون أنه إنما ولاه للمعنى الذي تكلم به، قال عثمان: ما وليت الوليد لأنه أخي، وإنما وليته لأنه ابن أم حكيم البيضاء عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوأمة أبيه والولاية اجتهاد، وقد عزل عمر سعد بن أبي وقاص وقدم أقل منه درجة"4.
__________
1ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/173، كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة 1/62-63، الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/30، حق اليقين في معرفة أصول الدين 1/189.
2ـ انظر الحديث في صحيح مسلم 3/1331-1332.
3ـ منهاج السنة 3/188.
4ـ العواصم من القواصم ص/85-88.(3/1053)
ومن مطاعنهم في حق ذي النورين أنهم يقولون إنه استعمل سعيد بن العاس1 على الكوفة وظهر منه ما أدى إلى أن أخرجه أهل الكوفة منها2.
والرد عليهم:
يقال لهم: "مجرد إخراج أهل الكوفة لا يدل على ذنب يوجب إخراجه فإن أهل الكوفة كانوا يقومون على كل وال، فقد قاموا قبله على سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ وهو الذي فتح البلاد وكسر جنود كسرى وهو أحد أهل الشورى، ولم يتول عليهم نائب مثله، وقد شكوا غيره مثل عمار بن ياسر والمغيرة بن شعبة وغيرهما، وإذا قدر أنه أذنب فمجرد ذلك لا يوجب أن يكون عثمان راضياً بذنبه، وإنما يكون الإمام مذنباً إذا ترك ما يجب عليه من إقامة حد أو استيفاء حق أو اعتداء ونحو ذلك"3.
ومن مطاعنهم على عثمان رضي الله عنه: أنهم يقولون إنه ولى عبد الله بن سعد بن أبي سرح4 مصر حتى تظلم منه أهلها، وكاتبه أن يستمر على
__________
1ـ هو: سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية الأموي القرشي صحابي من الأمراء الولاة الفاتحين ربى في حجر عمر بن الخطاب وولاه عثمان الكوفة وهو شاب، فلما بلغها خطب في أهلها فنسبهم إلى الشقاق والخلاف فشكوه إلى عثمان فاستدعاه إلى المدينة فأقام فيها إلى كانت الثورة عليه فدافع سعيد عنه وقاتل دونه إلى أن قتل عثمان فخرج إلى مكة فأقام إلى أن ولي معاوية الخلافة، فعهد إليه بولاية المدينة فتولاها إلى أن مات وهو فاتح طبرستان، وأحد الذين كتبوا المصحف لعثمان، اعتزل فتنة الجمل وصفين ولد سنة ثلاث وتوفي سنة تسع وخمسين هجرية. انظر ترجمته في الطبقات الكبرى لابن سعد 5/30-35، الإصابة في تمييز الصحابة 2/45-46، الأعلام 3/149.
2ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/173.
3ـ منهاج السنة 3/188، وانظر المنتقى للذهبي ص/372.
4ـ هو: عبد الله بن سعد بن أبي السرح القرشي العامري من بني عامر بن لؤي من قريش فاتح إفريقية وفارس بني عامر من أبطال الصحابة، أسلم قبل فتح مكة وهو من أهلها وكان من كتاب الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم وكان على ميمنة عمرو بن العاص حين افتتح مصر، وولي مصر سنة 25هـ، بعد عمرو ابن العاص، فاستمر نحو 12 عاماً زحف خلالها إلى إفريقية بجيش فيه الحسن والحسين بن علي وعبد الله بن عباس وعقبة بن نافع، ولحق بهم عبد الله بن الزبير فافتتح ما بين طرابلس الغرب إلى طنجة ودانت له إفريقية كلها، وتوفي سنة سبع وثلاثين هجرية، انظر ترجمته في أسد الغابة 3/173 =(3/1054)
ولايته سراً خلاف ما كتب إليه جهراً وأمر بقتل محمد بن أبي بكر1.
والرد على هذا الإفك:
أنه من الكذب على ذي النورين، وقد حلف أنه لم يكتب شيئاً من ذلك2 وهو الصادق البار بلا يمين، وغاية ما قيل إن مروان كتب بغير علمه وأنهم طلبوا أن يسلم إليهم مروان ليقتلوه فامتنع، فإن كان قتل مروان لا يجوز فقد فعل الواجب، وإن كان يجوز ولا يجب فقد فعل الجائز، وإن كان قتله واجباً فذا من موارد الاجتهاد فإنه لم يثبت لمروان ذنب يوجب قتله شرعاً فإن مجرد التزوير لا يوجب القتل.
وأما قولهم أنه أمر بقتل محمد بن أبي بكر، فهذ من الكذب المعلوم على عثمان، وكل ذي علم بحال عثمان وانصاف له يعلم أنه لم يكن ممن يأمر بقتل محمد بن أبي بكر، ولا أمثاله، ولا عرف منه قط أنه قتل احداً من هذا الضرب، وقد سعوا في قتله ودخل عليه محمد فيمن دخل وهو لا يأمر بقتالهم، دفعاً عن نفسه فكيف يبتدئ بقتل معصوم الدم ... بل عثمان إن كان أمر بقتل محمد بن أبي بكر هو أولى بالطاعة ممن طلب قتل مروان لأن عثمان إمام هدى وخليفة راشد يجب عليه سياسة رعيته، وقتل من لا يدفع شره إلا بقتله، وأما الذين طلبوا قتل مروان فقوم خوارج مفسدون في الأرض، ليس لهم قتل أحد ولا إقامة حد، وغايتهم أن يكونوا ظلموا في بعض الأمور، وليس لكل مظلوم أن يقتل بيده كل من ظلمه، بل ولا يقيم الحد، وليس مروان أولى بالفتنة والشر من محمد بن أبي بكر ولا هو أشهر بالعلم والدين منه بل أخرج أهل الصحاح عدة أحاديث عن مروان وله قول مع أهل الفتيا، ومحمد بن أبي بكر ليس بهذه المنزلة
__________
= البداية والنهاية 7/340، الإصابة 2/308-309، الأعلام 4/220-221.
1ـ انظر منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/173، كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة، 1/60-61.
2ـ انظر تاريخ الأمم والملوك للطبري 4/356.(3/1055)
عند الناس1.
فمروان له منزلة عظيمة عند الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم من أئمة الدين.
قال أبو بكر بن العربي: "مروان رجل عدل من كبار الأمة عند الصحابة، والتابعين، وفقهاء المسلمين، أما الصحابة فإن سهل بن سعد الساعدي روى عنه2، وأما التابعون فأصحابه في السن، وإن جازهم باسم الصحبة في أحد القولين3، وأما فقهاء الأمصار فكلهم على تعظيمه واعتبار خلافته والتلفت إلى فتواه والانقياد إلى روايته، وأم الفقهاء من المؤرخين والأدباء فيقولون على أقدارهم"4.
وما دام مروان بن الحكم تبوأ هذه المكانة، فيستبعد أن يكون زور كتاباً على عثمان رضي الله عنه إلى ابن أبي سرح ليقتل البغاة ومحمد بن أبي بكر وقد رد عثمان رضي الله عنه بنفسه على البغاة فيما نسبوه إليه من أنه كتب إلى واليه بمصر يأمره بقتلهم وقتل محمد بن أبي بكر، فلما رجع البغاة من طريقهم وكانوا قد اقتنعوا ببيان عثمان لهم فيما ادعوه عليه مما يعتقدونه مظالم ومناكير دخلوا عليه: "فقالوا: كتبت فينا بكذا وكذا، فقال: إنما هما اثنتان: أن تقيموا علي رجلين من المسلمين أو يميني بالله الذي لا إله إلا هو ما كتبت ولا أمليت ولا علمت ـ ثم قال ـ: وقد تعلمون أن الكتاب يكتب على لسان الرجل وقد ينقش الخاتم على الخاتم5، ولا يستبعد أن تزور الكتب في إثارة البغي على الخليفة عثمان
__________
1ـ منهاج السنة 3/188-189، وانظر المنتقى ص/392.
2ـ انظر الإصابة لابن حجر 3/455.
3ـ وفي مقدمة من روى عنه من كبار التابعين زين العابدين علي بن الحسين السبط نص على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة 2/123، ونص ابن حجر على كثير ممن روى عنه من التابعين، انظر الإصابة 3/455.
4ـ العواصم من القواصم ص/89-90.
5ـ تاريخ الأمم والملوك 4/356، وانظر العواصم من القواصم ص/109-110.(3/1056)
رضي الله عنه كان من أسلحة البغاة استعملوه من كل وجه وفي جميع الأحوال، فقد كذبوا أنهم تلقوا رسائل من الصحابة أرسلوها إلى الآفاق للقيام بالثورة على عثمان.
قال الحافظ ابن كثير: "وروى بن جرير من طريق محمد بن إسحاق عن عمه عبد الرحمن بن يسار أن الذي كان معه هذه الرسالة من جهة عثمان إلى مصر ـ أبو الأعور السلمي ـ على جمل لعثمان، وذكر ابن جرير من هذا الطريق أن الصحابة كتبوا إلى الآفاق من المدينة يأمرون الناس بالقدوم على عثمان ليقاتلوه ـ ثم قال مبيناً حكمه على مثل هاتين الروايتين: "وهذا كذب على الصحابة، وإنما كتبت كتب مزورة عليهم كما كتبوا من جهة علي وطلحة والزبير ـ إلى الخوارج كتباً مزورة عليهم أنكروها وهكذا زور هذا الكتاب على عثمان أيضاً، فإنه لم يأمر به ولم يعلم به أيضاً"1.
فإذا كان أولئك البغاة المفسدون زوروا رسائل باسم الصحابة جميعاً فلا يشك عاقل أنهم من وراء تزوير الكتاب على عثمان وعلى مروان.
قال محب الدين الخطيب في تعليقه على كتاب العواصم من القواصم لابن العربي2: "وقد ثبت أن الأشتر وحكيم بن جبلة تخلفا في المدينة عند رحيل الثوار عنها مقتنعين بأجوبة عثمان وحججه، وفي مدة تخلف الأشتر وحكيم بن جبلة تم تدبير الكتاب وحامله للتذرع بهما في تجديد الفتنة ورد الثوار، ولم يكن لأحد غير الأشتر وأصحابه مصلحة في تجديد الفتنة". وبهذا الرد يبطل تعلق الرافضة بالطعن على عثمان بالكتاب المزعوم الذي يقولون إنه وجد مع راكب أو مع غلامه إلى ابن أبي سرح عامله بمصر.
ومن مطاعنهم على عثمان رضي الله عنه: "زعمهم أنه ولى معاوية
__________
1ـ البداية والنهاية 7/192.
2ـ العواصم من القواصم ص/109.(3/1057)
فأحدث من الفتن ما أحدث"1.
ويرد على هذا الزعم: "أن معاوية إنما ولاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما مات أخوه يزيد بن أبي سفيان ولاه عمر مكان أخيه واستمر في ولايته عثمان وزاده عثمان في الولاية، وكانت سيرة معاوية مع رعيته من خيار سير الولاة، وكان رعيته يحبونه ... وإنما ظهر الإحداث من معاوية في الفتنة لما قتل عثمان، ولما قتل عثمان كانت الفتنة شاملة لأكثر الناس لم يختص بها معاوية بل كان معاوية أطلب للسلامة من كثير منهم وأبعد من الشر من كثير منهم، ومعاوية كان خيراً من الأشتر النخعي، ومن محمد بن أبي بكر ومن عبيدا لله بن عمر، ومن أبي الأعور السلمي، ومن بشر بن أرطاة وغير هؤلاء من الذين كانوا معه ومع علي بن أبي طالب رضي الله عنهما"2.
قال أبو بكر بن العربي راداً على طعن الرافضة بتوليته معاوية حيث قال: "وأما معاوية فعمر ولاه وجمع له الشامات كلها، وأقره عثمان بل إنما ولاه أبو بكر الصديق رضي الله عنه لأنه ولى أخاه يزيد واستخلفه يزيد فأقره عمر لتعلقه بولاية أبي بكر لأجل استخلاف واليه له، فتلعق عثمان بعمر وأقره، فانظروا إلى هذه السلسلة ما أوثق عراها ولن يأتي أحد مثلها ابداً بعدها"3.
ومما طعنوا به على ذي النورين ـ رضي الله عنه ـ: أنه ولى عبد الله بن عامر4 البصرة ففعل من المناكير..............
__________
1ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/173، كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة ص/63.
2ـ منهاج السنة 3/189، والمنتقى للذهبي ص/393.
3ـ العواصم من القواصم ص/80-81.
4ـ هو عبد الله بن عامر بن كريز بن ربيعة الأموي أبو عبد الرحمن أمير فاتح ولي البصرة في أيام عثمان سنة 29هـ، وافتتح بلداناً كثيرة من بلاد فارس أيام إمارته على البصرة، وقتل عثمان وهو ما زال والياً عليها، وشهد وقعة الجمل مع أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وولاه معاوية البصرة بعد اجتماع الناس على خلافته ثم صرفه عنها فأقام بالمدينة، وكانت ولادة عبد الله هذا سنة أربع وتوفي سنة تسع وخمسين هجرية. انظر ترجمته في كتاب الطبقات الكبرى لابن سعد 5/44-49، الكامل لابن الأثير =(3/1058)
ما فعل"1.
والجواب على هذا:
"أن عبد الله بن عامر له من الحسنات والمحبة في قلوب الناس ما لا ينكر وإذا فعل منكراً فذنبه عليه، فمن قال: إن عثمان رضي بالمنكر الذي فعله"2؟.
قال أبو بكر بن العربي: "وأما عبد الله بن عامر بن كريز فولاه ـ كما قال ـ لأنه كريم العمات والخالات"3.
ومما نقموا به على عثمان ـ رضي الله عنه ـ: زعمهم أنه ولى مروان أمره وألقى إليه مقاليد أموره، ودفع إليه خاتمه فحدث من ذلك قتل عثمان وحدث من الفتن بين الأمة ما حدث4.
ويرد على هذا الزور:
يقال لهم: "إن قتل عثمان والفتنة لم يكن سببها مروان وحده بل اجتمعت أمور متعددة من جملتها أمور تنكر من مروان، وعثمان رضي الله عنه كان قد كبر وكانوا يفعلون أشياء لا يعلمونه بها، فلم يكن آمراً لهم بالأمور التي أنكرتموها عليه بل كان يأمرهم بإبعادهم وعزلهم، فتارة يفعل ذلك وتارة لا يفعل ذلك، ولما قدم المفسدون الذين أرادوا قتل عثمان وشكوا أموراً أزالها كلها عثمان حتى أنه أجابهم إلى عزل من يريدون عزله وإلى أن مفاتيح بيت المال تعطى لمن يرتضونه، وأنه لا يعطي احداً من المال إلا بمشورة الصحابة ورضاهم، ولم يبق لهم طلب.
__________
= 3/526، تهذيب التهذيب 5/272-274، الأعلام للزركلي 4/228.
1ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/173، وانظر حق اليقين لعبد الله شبر 1/189.
2ـ منهاج السنة 3/189-190.
3ـ العواصم من القواصم ص/83-84.
4ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/173، وانظر الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/31.(3/1059)
ولهذا قالت أم المؤمنين عائشة: "مصصتموه كما يمص الثوب ثم عمدتم إليه فقتلتموه"1.
ومن مطاعنهم في حق عثمان ـ رضي الله عنه ـ تقولهم عليه: "إنه كان يؤثر اهله بالأموال الكثيرة من بيت المال، حتى إنه دفع أربعة نفر من قريش زوجهم بناته أربعمائة ألف دينار، ودفع إلى مروان ألف ألف دينار"2.
والرد على هذا:
يقال لهم: أولاً أين النقل الثابت بهذا نعم كان يعطي أقاربه عطاءاً كثيراً، ويعطي غير أقاربه أيضاً، وكان محسناً إلى جميع المسلمين، وأما هذا الكثير فيحتاج إلى نقل ثابت.
ثم يقال لهم ثانياً: هذا من الكذب البين، فإنه لا عثمان ولا غيره من الخلفاء الراشدين أعطوا أحداً ما يقارب هذا المبلغ ومن المعلوم أن معاوية كان يعطي من يتألفه أكثر من عثمان، ومع هذا فغاية ما أعطى الحسن بن علي مائة ألف أو ثلاثمائة ألف، وذكروا أنه لم يعط أحداً قدر هذا قط.
ثم يقال لهم: ثالثاً: كان له تأويلان في إعطائه أهل بيته، وكلاهما مذهب طائفة من الفقهاء.
أحدهما: أنه ما أطعم الله لنبي طعمة إلا كانت طعمة لمن يتولى الأمر بعده، وهذا مذهب طائفة من الفقهاء، حيث قالوا: إن ذوي القربى في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ذوو قرباه وبعد موته هم ذوو قربى من يتولى الأمر بعده، وقالوا: إن أبا بكر وعمر لم يكن لهما أقارب كما كان لعثمان، فإن بني عبد شمس من أكبر
__________
1ـ منهاج السنة 3/190، وانظر قول عائشة في تاريخ خليفة بن خياط ص/176.
2ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/173، وانظر كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة 1/49، الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/32، حق اليقين لعبد الله شبر 1/189-190.(3/1060)
قبائل قريش، ولم يكن من يوازيهم إلا بنو مخزوم، والإنسان مأمور بصلة رحمه من ماله، فإذا اعتقدوا أن ولي الأمر يصله من مال بيت المال، مما جعله الله لذوي القربى، استحقوا بمثل هذا أن يوصلوا من بيت المال ما يستحقونه لكونهم أولي قربى الإمام وذلك أن نصر ولي الأمر والذب عنه متعين وأقاربه ينصرونه ويذبون عنه ما لا يفعله غيرهم. هذا أحد التأويلين.
والتأويل الثاني: أنه كان يعمل في المال، وقد قال الله تعالى: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} 1، والعامل على الصدقة الغني له أن يأخذ بعمالته باتفاق المسلمين2، فلا وجهة لطعن الرافضة على عثمان بأنه كان يؤثر أهل بيته بالأموال الكثيرة، فإنه واضح البطلان بل ثبت عنه رضي الله عنه أن عطاءه لهم كان من ماله الخاص3.
ومما نقمت به الشيعة الرافضة على عثمان رضي الله عنه: أنهم يقولون إنه عمد إلى الصحف فألف منها هذا المصحف الذي في أيدي الناس وأحرق المصاحف الباقية ويزعمون أن هذا منكر واستخفاف بالدين ومحادة لرب العالمين مع أن ابن مسعود قد رووا في ترجيح قراءته أخباراً كثيرة مع أن هذا الفعل لو كان حسناً لفعله من قبله4.
يقال لهم: "إن جمع عثمان للقرآن الكريم يعد من حسناته العظمى ومناقبه الكبرى، وإن كان وجد الصحف كاملة لكنه أظهرها ورد الناس إليها وقطع مادة الخلاف فيها، وما ذلك إلا نفوذ لوعد الله بحفظ القرآن الكريم على يديه، وقد بدأ بجمع القرآن وحفظه في الصحف من قبله أخواه الصديق والفاروق رضي الله
__________
1ـ سورة التوبة آية/60.
2ـ منهاج السنة 3/190-191.
3ـ انظر تاريخ الأمم والملوك 4/347-348، وانظر مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/262-263.
4ـ انظر الاستغاثة في بدع الثلاثة 1/52-53، حق اليقين 1/191.(3/1061)
عنهما، وذلك عندما استحر القتل يوم اليمامة بحفظة القرآن من الصحابة، فقد أمر الصديق زيد بن ثابت بجمع القرآن فتتبعه من العسب1 واللخاف2 وصدور الرجال حتى أنه وجد خاتمة سورة التوبة مع خزيمة الأنصاري، ولم يجدها مع أحد سواه وذلك من قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} حتى خاتمة براءة، فكانت الصحف بعد ذلك عند الصديق حتى قبضه الله، ثم عند الفاروق حياته ثم عند أم المؤمنين حفصة بنت عمر3 حتى قدم حذيفة بن اليمان على ذي النورين وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق فحدثه حذيفة عن اختلافهم في القراءة فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: "إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة ومصحف أن يحرق4.
قال ابن شهاب: "وأخبرني خارجة بن زيد بن ثابت أنه سمع زيد بن ثابت قال: "فقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف قد كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها..فالتمسنا فوجدناها مع خزيمة الأنصاري {مِنَ
__________
1ـ العسب: جمع عسيب: أي: جريدة النخل وهي السعفة التي لا ينبت عليها الخوص. النهاية في غريب الحديث 3/234.
2ـ اللخاف، جمع لخفة، وهي حجارة بيض رقاق كانوا يكتبون عليها إذا تعذر الورق. النهاية في غريب الحديث 4/244.
3ـ انظر صحيح البخاري 3/225.
4ـ انظر حديث حذيفة هذا في صحيح البخاري من حديث أنس 3/225-226.(3/1062)
الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} فألحقناها في سورتها في المصحف"1.
وأما ما روي أنه حرقها أو خرقها ـ وكلاهما جائز ـ إذا كان في بقائها فساد أو كان فيها ما ليس من القرآن، أو ما ينسخ منه، أو على غير نظمه فقد سلم في ذلك الصحابة كلهم2.
وقد روي عن ابن مسعود أنه تعتب لما أخذ منه مصحفه فحرق، وتكلم في تقدم إسلامه على زيد بن ثابت الذي كتب المصاحف وأمر أصحابه أن يغلوا مصاحفهم، وتلا قوله تعالى: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 3، فكتب إليه عثمان رضي الله عنه يدعوه إلى اتباع الصحابة فيما أجمعوا عليه لما في ذلك من المصلحة وجمع الكلمة وعدم الاختلاف، فأناب وأجاب إلى المتابعة وترك المخالفة رضي الله عنهم أجمعين4.
هذا هو الموقف الحق الذي وقفه ابن مسعود عندما جمع ذو النورين القرآن الكريم، فقد كان رضي الله عنه مطيعاً لإمامه الراشد موافقاً له غير مخالف، ولكن الشيعة لما عميت بصائرهم وهم قوم لا عقول لهم حيث يجعلون المناقب مثالب، وإلا فجمع عثمان للقرآن من أعظم مناقبه رضي الله عنه، وقد بذل بهذا العمل جهداً عظيماً في خدمة الدين والعناية بالقرآن، قد كانت كما تقدم مما تشرف بها عظيما الإسلام أبو بكر وعمر وأتمها ذو النورين بجمعه للقرآن وتثبيته وتوحيد رسمه، وبهذا كان للخلفاء الثلاثة أعظم منة على المسلمين وبها حقق الله وعده في قوله ـ عز وجل ـ: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} 5.
__________
1ـ انظر حديث ابن شهاب هذا في المصدر السابق 3/226.
2ـ العواصم من القواصم ص/66-71.
3ـ سورة آل عمران آية/161.
4ـ البداية والنهاية 7/237.
5ـ سورة الحجر آية/9.(3/1063)
وقد زجر الإمام علي رضي الله عنه الناس الذين يعيبون على عثمان أنه حرق المصاحف المخالفة لما جمعه وبين أن عثمان لو لم يفعل ذلك لفعله، فقد قال رضي الله عنه: "أيها الناس إياكم والغلو في عثمان تقولون حرق المصاحف، والله ما حرقها إلا عن ملأ من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ولو وليت مثل ما ولى لفعلت مثل الذي فعل"1.
وقد تولى رضي الله عنه الخلافة بعد الثلاثة، فأمضى عملهم وأقر مصحف ذي النورين برسمه وتلاوته، في جميع أمصار ولايته وبذلك انعقد إجماع المسلمين في الصدر الأول على أن ما قام به الخلفاء الثلاثة هو أعظم حسناتهم، رضي الله عنهم أجمعين، فلا مسوغ للرافضة بالطعن على عثمان بسبب جمعه القرآن وتوحيده تلاوته ورسمه، إذ ذلك لا يدعو إلى الطعن عليه وإنما يعد هذا طعناً أهل الحمق والخذلان، وأما أهل العلم والإيمان فإنهم يعدون ذلك من مناقبه العظمى وخصاله الكبرى رضي الله عنه وأرضاه.
ومن مطاعنهم عليه رضي الله عنه أنهم: "يزعمون أن عبد الله بن مسعود كان يطعن عليه ويكفره ولما حكم ضربه حتى مات"2.
والرد على هذا:
أنه من الكذب البين على ابن مسعود، فإن علماء النقل يعلمون أن ابن مسعود ما كان يكفر عثمان بل لما بويع عثمان بالخلافة قال ابن مسعود: "أمرنا خير من بقي ولم نأله"3.
__________
1ـ أورده الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية 7/236.
2ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/173، وانظر الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/33، حق اليقين 1/190، كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة، 1/51-52.
3ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 3/63، وانظر المستدرك 3/97، والرد على الرافضة لأبي نعيم، ص/307، تاريخ الخلفاء للسيوطي ص/154.(3/1064)
ويروى أنه قال: "ولينا أعلاناً ذا فوق ولم نأل"1، وكان عثمان في السنة الأولى من ولايته لا ينقمون منه شيئاً، ولما كانت السنة الآخرة نقموا منه أشياء كان معذوراً فيها، ومن جملة ذلك أمر ابن مسعود فإن ابن مسعود بقي في نفسه من أمر المصحف لما فوض عثمان كتابته إلى زيد دونه وأمر أصحابه أن يغسلوا مصاحفهم وجمهور الصحابة كانوا على ابن مسعود مع عثمان وكان زيد بن ثابت قد انتدبه قبل ذلك الصديق والفاروق لجمع المصحف في الصحف، فندب عثمان من ندبه الشيخان وكان زيد بن ثابت قد حفظ العرضة الأخيرة فكان اختيار تلك أحب إلى الصحابة فإن جبريل ـ عليه السلام ـ عارض النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن في العام الذي قبض فيه مرتين2 ... فكان ذو النورين في هذا على حق كما يعلم وكما يعلم سائر الصحابة مكانة ابن مسعود وعلمه وصدق إيمانه، وكان أيضاً: على حق في أمره بغسل المصاحف الأخرى كلها ومنها مصحف عبد الله بن مسعود لأن توحيد كتابة المصحف على أكمل ما كان هو من أجل أعمال عثمان بإجماع الصحابة الكرام، ولذلك كانوا معه دون ابن مسعود رضي الله عنهم جميعاً.
وأما زعمهم: أنه لما حكم ضرب ابن مسعود حتى مات، "فهذا كذب باتفاق أهل العلم، فإنه لما ولي أقر ابن مسعود على ما كان عليه من الكوفة إلى أن جرى من ابن مسعود ما جرى وما مات ابن مسعود من ضرب عثمان أصلاً"3.
قال أبو بكر بن العربي: "وأما ضربه لابن مسعود ومنعه عطاءه فزور"4. فلا وجهة للرافضة بالطعن على عثمان بقصة ابن مسعود هذه فإنه لم
__________
1ـ منهاج السنة 3/191، ومعنى قول ابن مسعود "ولم نأل": أي: لم نقصر في اختيار الأفضل.
2ـ منهاج السنة 3/191.
3ـ المصدر السابق 3/192.
4ـ العواصم من القواصم ص/63.(3/1065)
يضربه عثمان ولم يمنعه عطاءه، وإنما كان يعرف له قدره ومكانته، كما كان ابن مسعود شديد الالتزام بطاعة إمامه الذي بايع له وهو يعتقد أنه خير المسلمين وقت البيعة، لكن المبتدعة من أهل الرفض "غرضهم التكفير أو التفسيق للخلفاء الثلاثة بأشياء لا يفسق بها واحد من الولاة، فكيف يفسق بها أولئك1 رضي الله عنهم أجمعين.
ومن مطاعنهم على ذي النورين ـ رضي الله عنه ـ: أنهم يقولون: إنه ضرب عمار بن ياسر حتى صار به فتقاً، وقد قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم "عمار جلدة ما بين عيني" ... وكان عمار يطعن عليه2.
والرد على هذه القصة:
أنها إفك واضح ولو حصل له ما ذكر ما عاش إلى أن قتل شهيداً في موقعة صفين3.
وقد ذكر ابن جرير الطبري: عن سعيد بن المسيب أنه كان بين عمار وعباس بن عتبة بن أبي لهب خلاف حمل عثمان على أن يؤدبهما عليه بالضرب4، وهذا مما يفعله ولي الأمر في مثل هذه الأحوال قبل عثمان وبعده، وكم فعل الفاروق مثل ذلك بأمثال عمار ومن هم خير من عمار بما له من حق الولاية على المسلمين5.
ولما بث السبئيون الإشاعات حول عمال عثمان وصاروا يرسلون الكتب
__________
1ـ منهاج السنة 3/191.
2ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/173، وانظر كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة 1/53-54، الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/33، حق اليقين 1/190.
3ـ انظر تاريخ الأمم والملوك 5/38-42.
4ـ المصدر السابق 4/399.
5ـ المصدر السابق 4/212.(3/1066)
من كل مصر إلى الأمصار الأخرى بالأخبار الكاذبة أشار الصحابة على عثمان بأن يبعث رجالاً ممن يثق بهم إلى الأمصار حتى يرجعوا إليه بحقيقة الحال تناسى عثمان ما كان من عمار وأرسله إلى مصر ليكون موضع ثقته في كشف حالها فأبطأ عمار في مصر، والتف حوله السبئيون ليستميلوه إليهم فتدارك عثمان وعامله على مصر هذا الأمر، وجيء بعمار إلى المدينة مكرماً وعاتبه ذو النورين لما قدم عليه، فقال له: على ما رواه الحافظ ابن عساكر: "يا أبا اليقظان قذفت أبي أبي لهب أن قذفك ... وغضبت علي أن أخذت لك بحقك وله بحقه، اللهم قد وهبت ما بيني وبين أمتي من مظلمة اللهم إني متقرب إليك بإقامة حدودك في كل أحد ولا أبالي أخرج عني يا عمار، فخرج، فكان إذا لقي العوام نضح عن نفسه وانتفى من ذلك، وإذا لقي من يأمنه أقر بذلك وأظهر الندم، فلامه الناس وهجروه وكرهوه"1.
وأما دعواهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه: "عمار جلدة ما بين عيني" لا يعرف له إسناد2.
وزعمهم أنه كان يطعن على عثمان فعلى تقدير أنه حصل منه فليس جعل ذلك قدحاً في عثمان بأولى من جعله قدحاً في عمار، وإذا كان كل واحد منهما مجتهداً فيما صدر منه يثبته الله على حسناته ويغفر له خطأه، وإن كان صدر من أحدهما ذنب فقد علمنا أن كلاً منهما ولي الله وأنه من أهل الجنة وأنه لا يدخل النار فذنب كل منهما لا يعذبه الله عليه في الدار الآخرة.
وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية بياناً شافعاً ما يجب على المسلم التزامه فيما جرى من كلام بين الصحابة لبعضهم بعضاً، حيث قال رحمه الله: "وعثمان أفضل من كل من تكلم فيه، هو أفضل من ابن مسعود وعمار وأبي ذر ومن
__________
1ـ تهذيب التهذيب دمشق 7/432.
2ـ منهاج السنة 3/194.(3/1067)
غيرهم من وجوه كثيرة، كما ثبت ذلك بالدلائل الكثيرة، فليس جعل كلام المفضول قادحاً في الفاضل بأولى من العكس، بل إن أمكن الكلام بينهما بعلم وعدل وإلا تكلم بما يعلم من فضلهما ودينهما، وكان ما شجر بينهما وتنازعا فيه أمره إلى الله، لهذا أوصوا1 بالإمساك عما شجر بينهم لأنا لا نسأل عن ذلك ... لكن إذا ظهر مبتدع يقدح فيهم بالباطل فلا بد من الذب عنهم وذكر ما يبطل حجته بعلم وعدل، وكذلك ما نقل من تكلم عمار في عثمان وقول الحسن فيه ـ أي في عمار ـ نقل أن عماراً قال: "لقد كفر عثمان كفرة صلعاء" فأنكر الحسن بن علي على ذلك عليه، وكذلك علي، وقال له يا عمار: أتكفر برب آمن به عثمان؟.
قال شيخ الإسلام: وقد تبين من ذلك أن الرجل المؤمن الذي هو ولي لله قد يعتقد كفر الرجل المؤمن الذي هو ولي الله ويكون مخطئاً في هذا الاعتقاد ولا يقدح هذا في إيمان واحد منهما وولايته كما ثبت في الصحيح أن أسيد بن حضير قال لسعد بن عبادة بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم: "إنك منافق تجادل عن المنافقين"2، وكما قال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ لحاطب بن أبي بلتعة: "دعني يا رسول أضرب عنق هذا المنافق" فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه قد شهد بدراً وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" 3، فعمر أفضل من عمار، وعثمان أفضل من حاطب بن أبي بلتعة بدرجات كثيرة وحجة عمر فيما قال لحاطب أظهر من حجة عمار ومع هذا فكلاهما من أهل الجنة، فكيف لا يكون عثمان وعمار من أهل الجنة وإن قال أحدهما للآخر ما قال، مع أن طائفة من العلماء أنكروا أن يكون عمر قال ذلك، ثم قال شيخ الإسلام: وفي الجملة فإذا قيل إن عثمان ضرب ابن
__________
1ـ الضمير يعود إلى سلف الأمة وأئمتها.
2ـ انظر الحديث في صحيح مسلم 4/3124.
3ـ انظر المصدر السابق 4/1941-1942.(3/1068)
مسعود أو عماراً فهذا لا يقدح في أحد منهم فإنا نشهد أن الثلاثة في الجنة، وأنهم من أكابر أولياء الله المتقين، وإن ولي الله قد يصدر منه ما يستحق عليه العقوبة الشرعية فكيف بالتعزير، وقد ضرب عمر بن الخطاب أبي بن كعب بالدرة لما رأى الناس يمشون خلفه، فقال: ما هذا يا أمير المؤمنين، قال: هذه ذلة للتابع وفتنة للمتبوع1 فإن عثمان أدب هؤلاء فإما أن يكون عثمان مصيباً في تعزيرهم لاستحقاقهم ذلك ويكون ذلك الذي عزروا عليه تابوا منه أو كفر عنهم بالتعزير وغيره من المصائب أو بحسناتهم العظيمة أو بغير ذلك، وإما أن يقال كانوا مظلومين مطلقاً، فالقول في عثمان كالقول فيهم وزيادة فإنه أفضل منهم، وأحق بالمغفرة والرحمة، وقد يكون الإمام مجتهداً في العقوبة مثاباً عليها وأولئك مجتهدون فيما فعلوه لا يأثمون به، بل يثابون عليه لاجتهادهم مثل شهادة أبي بكرة على المغيرة فإن أبا بكرة رجل صالح من خيار المسلمين، وقد كان محتسباً في شهادته معتقداً أنه يثاب على ذلك، وعمر أيضاً: محتسب في إقامة الحد عليه مثاب على ذلك، فلا يمتنع أن يكون ما جرى من عثمان في تأديب ابن مسعود وعمار من هذا الباب2، فلا طريق للشيعة للطعن على عثمان بزعمهم أنه ضرب عماراً إذ أنهم يذكرون قصصاً غير ثابتة وحتى لو ثبت ذلك فللأئمة أن يؤدبوا رعيتهم إذا رأوا ذلك واجباً لهم، فقد اقتص النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه وأقاد3، وكذلك أبو بكر وعمر رضي الله عنهما أدبا رعيتهما باللطم والدرة وأقادا من نفسيهما4، وأما عثمان رضي الله عنه فنقم عليه ما لم ينقم على أحد منهم"5.
ومن مطاعنهم في حق ذي النورين ـ رضي الله عنه ـ: أنهم يقولون إن
__________
1ـ انظر كتاب الإمامة والرد على الرافضة لأبي نعيم ص/317.
2ـ منهاج السنة 3/192-193.
3ـ انظر مصنف عبد الرزاق 9/466، وانظر الرد على الرافضة لأبي نعيم ص/315.
4ـ انظر كتاب الإمامة والرد على الرافضة ص/316-317.
5ـ انظر كتاب الإمامة والرد على الرافضة ص/315.(3/1069)
النبي صلى الله عليه وسلم طرد الحكم بن أبي العاص عم عثمان عن المدينة ومعه ابنه مروان، فلم يزل هو وابنه طريدين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فلما ولي عثمان آواه ورده إلى المدينة، وجعل مروان كاتبه وصاحب تدبيره مع أن الله قال: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية1.
والرد على طعنهم بهذه القصة:
يقال لهم: إن الحكم بن أبي العاص كان من مسلمة الفتح وكانوا ألفي رجل ومروان ابنه كان صغيراً إذ ذاك فإنه من أقران ابن الزبير والمسور بن مخرمة عمره حين الفتح سن التمييز، إما سبع سنين أو أكثر بقليل أو أقل بقليل، فلم يكن لمروان ذنب يطرد عليه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم تكن الطلقاء تسكن بالمدينة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن كان قد طرده فإنما طرده من مكة لا من المدينة، ولو طرده من المدينة لكان يرسله إلى مكة، وقد طعن كثير من أهل العلم في نفيه وقالوا ذهب باختياره وقصة نفي الحكم ليست في الصحاح، ولا لها إسناد يعرف به أمرها ... وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد عزر رجلاً بالنفي لم يلزم أن يبقى منفياً طول الزمان، فإن هذا لا يعرف في شيء من الذنوب ولم تأت الشريعة بذنب يبقى صاحبه منفياً دائماً ... وقد كان عثمان شفع في عبد الله بن سعد بن أبي سرح فقبل صلى الله عليه وسلم شفاعته فيه وبايعه2 فكيف لا يقبل شفاعته في الحكم وقد رووا أن عثمان سأله أن يرده فأذن له في ذلك. ونحن نعلم أن ذنبه دون دنب3 عبد لله بن سعد بن أبي سرح وقصة عبد الله ثابتة معروفة بالإسناد، وأما قصة الحكم فإنما ذكرت
__________
1ـ انظر كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة 1/50-51، منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/173، حق اليقين 1/189، والآية رقم 22 من سورة المجادلة.
2ـ انظر ما جاء في شأن ابن ابن أبي السرح، الإصابة 2/308-309.
3ـ انظر ما جاء في قصة نفيه. أسد الغابة 2/37، سير أعلام النبلاء 2/107-108، الإصابة 1/344-345.(3/1070)
مرسلة، وقد ذكرها المؤرخون الذين يكثرون الكذب فيما يروونه، فلم يكن هناك نقل ثابت يوجب القدح فيمن هو دون عثمان، والمعلوم من فضائل عثمان ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم له وثنائه عليه وتخصيصه بابنتيه وشهادته له بالجنة وإرساله إلى مكة ومبايعته له عنه وتقديم الصحابة له في الخلافة وشهادة عمر وغيره له بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وهو عنه راض وأمثال ذلك مما يوجب العلم القطعي بأنه من كبار أولياء الله المتقين الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، فلا يدفع هذا بنقل لا يثبت إسناده ولا يعرف كيف وقع ويجعل لعثمان ذنب بأمر لا تعرف حقيقته1.
قال أبو محمد بن حزم مبيناً بطلان ما احتج به الرافضة على عثمان بقصة الحكم: "ونفي رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن حداً واجباً ولا شريعة على التأييد وإنما كان عقوبة على ذنب استحق به النفي والتوبة مبسوطة، فإذا تاب سقطت عنه تلك العقوبة بلا خلاف من أحد من أهل الإسلام وصارت الأرض كلها مباحة"أهـ2.
وقال أبو بكر بن العربي مبيناً جواب أهل العلم على من طعن على عثمان برده الحكم: "وقال علماؤنا في جوابه قد كان أذن له فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال ـ أي عثمان ـ لأبي بكر وعمر، فقالا له: إن كان معك شهيد رددناه، فلما ولي قضى بعلمه في رده وما كان عثمان ليصل مهجور رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كان أباه ولا لينتقض حكمه3، وبرد أهل العلم تبين فساد وبطلان زعم الرافضة على عثمان بأنه خالف ما يقتضيه الشرع برده الحكم بعد نفيه.
ومن مطاعنهم في حق ذي النورين رضي الله عنه أنهم يقولون: إنه
__________
1ـ منهاج السنة 3/195-197.
2ـ الفصل في الملل والأهواء والنحل 4/154.
3ـ العواصم من القواصم ص/77، وانظر الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم لابن الوزير، ص/131-134.(3/1071)
ضيع الحدود فلم يقتل عبيد الله بن عمر بالهرمزن مولى علي وكان قد أسلم على يد علي رضي الله عنه، ويزعمون أن علياً طلب من عثمان لما ولي الخلافة تسليمه عبيد الله بن عمر ليقيم عليه الحد فامتنع من ذلك1.
والرد على طعنهم بهذه القضية:
يقال لهم: "دعواكم أنه كان مولى لعلي: هذا كذب لم يكن مولى لعلي وإنما أسره المسلمون فمن عليه عمر فأعتقه وأسلم ولا سعي لعلي في رقه ولا في عتقه، ولما قتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان الذي قتله أبو لؤلؤة المجوسي مولى المغيرة بن شعبة وكان بينه وبين الهرمزان مجانسة، وذكر لعبيد الله بن عمر أنه رؤي عند الهرمزان حين قتل وكان ممن اتهم بالمعاونة على قتل عمر، وقد قال الفاروق لما طعنه أبو لؤلؤة المجوسي مخاطباً ابن عباس كنت أنت وأبوك تحبان أن تكثرا العلوج2 بالمدينة، فقال: إن شئت أن نقتلهم، فقال: كذبت، أبعد أن تكلموا بلسانكم وصلوا إلى قبلتكم3 فهذا ابن عباس وهو أفقه من عبيد الله بن عمر وأدين وأفضل بكثير يستأذن عمر في قتل علوج الفرس مطلقاً الذين كانوا بالمدينة لما اتهموهم بالفساد اعتقد جواز مثل هذا فكيف لا يعتقد عبيد الله بن عمر جواز قتل الهرمزان، فلما قتله وبويع عثمان استشار الناس في قتله فأشار عليه طائفة من الصحابة بعدم قتله وقالوا له: قتل أبوه بالأمس، ويقتل هو اليوم4 فيكون في هذا فساد في الإسلام، وكأنهم وقعت لهم شبهة في عصمة الهرمزان، ولو قدر أنه معصوم الدم يحرم قتله لكن كان القاتل متأولاً ويعتقد حل قتله لشبهة ظاهرة صار ذلك شبهة تدرأ القتل عن القاتل، كما أن
__________
1ـ انظر كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة 1/58-59، وانظر منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/173، حق اليقين في معرفة أصول الدين لعبد الله شبر 1/191، مقدمة مرآة العقول 1/48.
2ـ العلوج جمع علج وهو الرجل من كفار العجم وغيرهم، النهاية في غريب الحديث 3/286.
3ـ صحيح البخاري 2/298.
4ـ انظر تاريخ الأمم والملوك في قصة مشاورة عثمان المهاجرين والأنصار في شأن عبيد الله بن عمر: 4/239.(3/1072)
أسامة بن زيد لما قتل الرجل بعد ما قال لا إله إلا الله اعتقد أن هذا القول لا يعصمه عزره النبي صلى الله عليه وسلم بالكلام ولم يقتله لأنه كان متأولاً1 لكن الذي قتله أسامة كان مباحاً قبل القتل فشك في العاصم، وإذا كان عبيد الله بن عمر متأولاً يعتقد أن الهرمزان أعان على قتل أبيه وأنه يجوز له قتله صارت هذه شبهة يجوز أن يجعلها المجتهد مانعة من وجوب القصاص، وأيضاً فالهرمزان لم يكن له أولياء يطلبون بدمه وإنما وليه ولي الأمر وله القتل أو العفو أو الدية، فعفا عثمان وترك الدية لآل عمر، وإذا حقن عثمان دمه فلا يباح بحال2.
وأما دعواهم أن عثمان امتنع عن قتل عبيد الله بن عمر، فهذا كذب وزور على عثمان رضي الله عنه، وقول بالباطل وأن أحداً لم يطلب من عثمان ذلك لا علي ولا غيره.
قال أبو بكر بن العربي: "وأما امتناعه عن قتل عبيد الله بن عمر بن الخطاب بالهرمزان، فإن ذلك باطل، فإن كان لم يفعل فالصحابة متوافرون والأمر في أوله وقد قيل: إن الهرمزان سعى في قتل عمر وحمل الخنجر وظهر تحت ثيابه3، وكان قتل عبيد الله له، وعثمان لم يل بعد، ولعل عثمان كان لا يرى على عبيد الله حقاً لما ثبت عنده من حال الهرمزان وفعله، وأيضاً: فإن أحداً لم يقم بطلبه وكيف يصح مع هذه الاحتمالات كلها أن ينظر في أمر لم يصح"4.
"ومن العجب أن دم الهرمزان المتهم بالنفاق والمحاربة لله ورسوله والسعي في الأرض بالفساد تقام فيه القيامة ودم عثمان لا حرمة له وهو إمام المسلمين
__________
1ـ انظر حديث أسامة في صحيح مسلم 1/96-98.
2ـ منهاج السنة 3/199-202.
3ـ انظر ثبوت تآمر الهرمزان مع أبي لؤلؤة المجوسي وجفينة النصراني على قتل عمر. تاريخ الطبري 4/240.
4ـ العواصم من القواصم ص/107-108.(3/1073)
المشهود له بالجنة الذي هو وإخوانه أفضل الخلق بعد النبيين"1.
فطعن الرافضة على عثمان بقصة عبيد الله بن عمر مع الهرمزان غير مستقيم ولا يقبل ولا له وجه يقويه إذ "من أعان على قتل عمر ولو بكلام وجب قتله وكان الهرمزان ممن ذكر عنه أنه أعان على قتل عمر بن الخطاب وإذا كان الأمر كذلك كان قتله واجباً ولكن قتله إلى الأئمة فافتات عبيد الله بقتله وللإمام أن يعفو عمن افتات عليه"2.
ومن مطاعنهم في حق ذي النورين رضي الله عنه: "أنهم يكذبون عليه بأنه نفى أبا ذر من المدينة، وأخرجه منها إلى الربذة"3.
والرد على طعنهم عليه بهذه القصة:
أنه رضي الله عنه لم يفعل ما اختلقوه في هذه القصة، وإنما أبو ذر هو الذي اختار أن يعتزل في الربذة، فوافقه عثمان رضي الله عنه على ذلك وأكرمه وجهزه بما فيه راحته.
قال أبو بكر بن العربي: "وأما نفيه أبا ذر إلى الربذة فلم يفعل، كان أبو ذر زاهداً وكان يقرع عمال عثمان ويتلو عليهم {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} 4 ويراهم يتسعون في المراكب والملابس حين وجدوا فينكر ذلك عليهم ويريد تفريق جميع ذلك من بين أيديهم وهو غير لازم.
قال ابن عمر5 وغيره من الصحابة: إن ما أديت زكاته فليس بكنز فوقع
__________
1ـ منهاج السنة 3/202.
2ـ منهاج السنة 3/202.
3ـ انظر كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة 1/55-57، منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/173.
4ـ سورة التوبة آية/34.
5ـ انظر صحيح البخاري 2/244.(3/1074)
بين أبي ذر ومعاوية كلام بالشام1، فخرج إلى المدينة فاجتمع الناس فجعل يسلك تلك الطرق، فقال له عثمان: "لو اعتزلت" معناه: إنك على مذهب لا يصلح لمخالطة الناس، فإن للخلطة شروطاً وللعزلة مثلها2 ومن كان على طريقة أبي ذر فحاله يقتضي أن ينفرد بنفسه، أو يخالط ويسلم لكل أحد حاله مما ليس بحرام في الشريعة، فخرج إلى الربذة زاهداً فاضلاً وترك جلة فضلاء وكل على خير وبركة وفضل وحال أبي ذر أفضل ولا تمكن لجميع الخلق، فلو كانوا عليها لهلكوا فسبحان مرتب المنازل"3.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في صدد رده على طعن الرافضة على عثمان بقصة أبي ذر، قال: "فالجواب أن أبا ذر سكن الربذة ومات بها لسبب ما كان يقع بينه وبين الناس، فإن أبا ذر كان رجلاً صالحاً زاهداً، وكان مذهبه أن الزهد واجب وأن ما أمسكه الإنسان فاضلاً عن حاجته فهو كنز يكوى به في النار، واحتج على ذلك بما لا حجة فيه من الكتاب والسنة واحتج بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} 4، وجعل الكنز ما يفضل عن الحاجة واحتج بما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم وهو أنه قال: يا أبا ذر ما أحب أن لي مثل أحد ذهباً يمضي عليه ثالثة وعندي منه دينار إلا ديناراً أرصده لدين وأنه قال الأكثرون هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال بالمال هكذا وهكذا"5.
ولما توفي عبد الرحمن بن عوف وخلف مالاً جعل أبو ذر ذلك من الكنز الذي يعاقب عليه وعثمان يناظره في ذلك حتى دخل كعب6 ووافق عثمان فضربه
__________
1ـ انظر تاريخ الطبري 4/283.
2ـ لقد أحسن القول فيها أبو سليمان الخطابي في كتاب العزلة فليرجع إليه.
3ـ العواصم من القواصم ص/73-75.
4ـ سورة التوبة آية/34.
5ـ انظر لفظ الحديث في صحيح البخاري 3/56، صحيح مسلم 2/687-688.
6ـ هو كعب الأحبار كما في تاريخ الطبري 4/284.(3/1075)
أبو ذر وكان قد وقع بينه وبين معاوية بالشام بهذا السبب وقد وافق أبا ذر على هذا طائفة من النساك.
وأما الخلفاء الراشدون وجماهير الصحابة والتابعين فعلى خلاف هذا القول، فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة وليس فيما دون خمس ذود صدقة وليس فيما دون خمس أواق صدقة"1 فنفى الوجوب فيما دون المائتين ولم يشترط كون صاحبها محتاجاً إليها أم لا.
وقال جمهور الصحابة: الكنز هو المال الذي لم تؤد حقوقه، وقد قسم الله تعالى المواريث في القرآن، ولا يكون الميزان إلا لمن خلف مالاً وقد كان غير واحد من الصحابة له مال على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار، بل ومن المهاجرين وكان غير واحد من الأنبياء له مال وكان أبو ذر يريد أن يوجب على الناس ما لم يوجب الله عليهم ويذهمهم على ما لم يذمهم الله عليه، مع أنه مجتهد في ذلك مثاب على طاعته رضي الله عنه كسائر المجتهدين من أمثاله، وقول النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه إيجاب، إنما قال: "ما أحب أن يمضي علي ثالثة وعندي منه شيء" فهذا يدل على استحباب إخراج ذلك قبل الثالثة لا على وجوبه، وكذا قوله "المكثرون هم المقلون" دليل على أن من كثر ماله، قلت حسناته يوم القيامة، إذا لم يكثر الإخراج منه، وذلك لا يوجب أن يكون الرجل القليل الحسنات من أهل النار إذا لم يأت كبيرة ولم يترك فريضة من فرائض الله، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقوم رعيته تقويماً تاماً فلا يعتدي لا الأغنياء ولا الفقراء، فلما كان في خلافة عثمان توسع الأغنياء في الدنيا حتى زاد كثير منهم على قدر المباح في المقدار والنوع، وتوسع أبو ذر في الإنكار حتى نهاهم عن المباحات وهذا من أسباب الفتن بين الطائفتين فكان اعتزال أبي ذر لهذا السبب، ولم يكن لعثمان
__________
1ـ انظر صحيح البخاري 2/244، صحيح مسلم 2/673-675.(3/1076)
مع أبي ذر غرض من الأغراض"1.
فلو تفهم الشيعة الرافضة قصة أبي ذر من أساسها وبدايتها لعلموا أن أبا ذر هو الذي اختار سكنى الربذة، وأن عثمان لم يأمره بالخروج من المدينة، ولا نفاه إلى الربذة كما يزعمون، ومما يؤيد هذا ما رواه الإمام البخاري في صحيحه بإسناده إلى زيد بن وهب قال: مررت بالربذة فإذا أنا بأبي ذر رضي الله عنه، فقلت له: ما أنزلك منزلك هذا، قال: كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله، قال معاوية: نزلت في أهل الكتاب، فقلت: نزلت فينا وفيهم، فكان بيني وبينه في ذاك وكتب إلى عثمان رضي الله عنه يشكوني فكتب إلي عثمان أن أقدم المدينة، فقدمتها فكثر علي الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكرت ذاك لعثمان، فقال لي: إن شئت تنحيت فكنت قريباً فذاك الذي أنزلني هذا المنزل2.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في شرح هذا الحديث: "وإنما سأله زيد بن وهب عن ذلك لأن مبغضي عثمان كانوا يشنعون عليه أنه نفى أبا ذر وقد بين أبو ذر أن نزوله في ذلك المكان كان باختياره"3.
وروى ابن جرير من حديث طويل عن يزيد الفقعسي4 وفيه أن أبا ذر قال لعثمان: فتأذن لي في الخروج، فإن المدينة ليست لي بدار؟ فقال: أو تستبدل بها إلا شراً منها، قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أخرج منها إذا بلغ البناء سلعاً، قال: فانفذ لما أمرك به، قال: فخرج حتى نزل الربذة فخط بها مسجداً وأقطعه عثمان صرمة5 من الإبل وأعطاه مملوكين وأرسل إليه أن تعاهد المدينة حتى
__________
1ـ منهاج السنة 3/198.
2ـ صحيح البخاري 2/244.
3ـ فتح الباري 3/274.
4ـ لم أعثر له على ترجمة.
5ـ الصرمة من الإبل ما بين العشرين والثلاثين. النهاية في غريب الحديث 3/27.(3/1077)
لا ترتد أعرابياً ففعل"1.
وقال الإمام الذهبي: "وأما أبو ذر فثبت عن عبد الله بن الصامت قال: قالت أم ذر: "والله ما سير عثمان أبا ذر إلى الربذة، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "إذا بلغ البناء سلعاً فاخرج منها" 2.
وقال الحسن البصري: "معاذ الله أن يكون أخرجه عثمان"3.
وقال محمد بن سيرين رحمه الله تعالى: "خرج أبو ذر إلى الربذة من قبل نفسه"4.
ففي ما تقدم كفاية في البرهان على كذب الرافضة على عثمان رضي الله عنه من أنه نفى أبا ذر إلى الربذة، وأن أبا ذر خرج من المدينة إلى الربذة باختياره وأنه استأذن عثمان في ذلك، فأذن له وأكرمه عثمان وجهزه بما يحتاج إليه حيث أقطعه صرمة من الإبل وأعطاه مملوكين وأجرى عليه وأمره بتعاهد المدينة ففعل رضي الله عنه وعن عثمان وعن سائر الصحابة الكرام.
ومما نقموا به على عثمان رضي الله عنه: " أنه أخرج أبا الدرداء من بلاد الشام"5.
والرد على هذا:
أنه وقع بين أبي الدرداء ومعاوية كلام وكان أبو الدرداء زاهداً فاضلاً قاضيا ـ في دمشق6 ـ فلما اشتد في الحق، وأخرج طريقة عمر في قوم لم يحتملوها عزل عن القضاء، فتوجه إلى المدينة، وهذه كلها مصالح لا تقدح في
__________
1ـ تاريخ الأمم والملوك 4/284.
2ـ انظر الحديث في تاريخ الطبري 4/284.
3ـ المنتقى ص/396.
4ـ تاريخ الأمم والملوك 4/284.
5ـ ذكر هذا ابن العربي في العواصم من القواصم ص/62.
6ـ انظر الإصابة 3/46.(3/1078)
الدين ولا تؤثر في منزلة أحد من المسلمين بحال، وأبو الدرداء وأبو ذر بريئان من كل نقص وعيب، وعثمان بريء أعظم براءة وأكثر نزاهة، فمن روى أنه نفى وروى سبباً فهو كله باطل"1، فلا حجة للرافضة في طعنهم على عثمان رضي الله عنه بقصة أبي الدرداء، فإنه رضي الله عنه أراد أن يحمل الناس على التزام سيرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولكنهم لا طاقة لهم عليها وهذا اجتهاد منه وهو مأجور عليه، ولقد حاول معاوية أن يسير على طريقة عمر رضي الله عنه فسار على ذلك عامين، ثم لم يستطع بعد.
فقد نقل الحافظ ابن كثير عن محمد بن سعد أنه قال: حدثنا عارم حدثنا حماد بن يزيد عن معمر عن الزهري: أن معاوية عمل سنتين عمل عمر ما يخرم فيه ثم أنه بعد عن ذلك"2. فأبو الدرداء رضي الله عنه أراد أن يحمل قوماً على السير على طريقة عمر وهم غير مطيقين لذلك فعزل من ولاية القضاء لمصلحة أدركها عثمان رضي الله عنه وعزله لا يقدح في الدين ولا يؤثر في مكانته ولا مكانة أحد من المسلمين.
ومن الأمور التي نقمتها الرافضة على عثمان ـ رضي الله عنه ـ: أنهم يقولون: "إنه منع المراعي من الجبال والأودية وحماها"3.
والرد على هذا الهراء:
أن الحمى لم يكن ذو النورين ابتدأه، فقد كان معروفاً عند العرب قبل الإسلام، فقد كان الرئيس منهم إذا نزل منزلاً مخصباً استعوى كلباً على مكان عال فإلى حيث انتهى صوته حماه من كل جانب، فلا يرعى فيه غيره، ويرعى هو مع غيره فيما سواه"4، فلما جاء الإسلام نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك،
__________
1ـ العواصم من القواصم ص/77.
2ـ البداية والنهاية 8/142.
3ـ كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة 1/50، حق اليقين في معرفة أصول الدين لعبد الله شبر 1/191.
4ـ فتح الباري 5/44.(3/1079)
واختص الحمى ببهائم الصدقة المرصدة للجهاد والمصالح العامة، فقال صلى الله عليه وسلم: "لا حمى إلا لله ولرسوله"1، وورد أنه صلى الله عليه وسلم حمى مكاناً يسمى "النقيع"2، ومما هو معلوم أن الحال استمر في خلافة الصديق على ما كان عليه في زمن المصطفى صلى الله عليه وسلم، لأن الصديق لم يخرج عن شيء كان عليه الحال في عهده صلى الله عليه وسلم على الرغم أن حاجة الجهاد إلى الخيل والإبل زادت عن قبل، وفي زمن الفاروق اتسع الحمى فشمل "الشرف"3 و"الربذة" وكان لعمر عامل على الحمى هو مولى له يدعى هنياً، فقد جاء في صحيح البخاري من حديث زيد بن أسلم عن أبيه نص وصية عمر لعامله هذا على الحمى، بأن يمنع نعم الأثرياء كعبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان، وأن يتسامح مع رب الغنيمة ورب الصريمة لئلا تهلك ماشيتهما"4، وكما اتسع عمر رضي الله عنه في الحمى عما كان عليه زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر لزيادة سوائم بيت المال في زمنه اتسع عثمان بعد ذلك لاتساع دولة الإسلام، وازدياد الفتوح.
قال العلامة ابن العربي في صدد رده على الطاعنين عليه بمسألة الحمى، قال: "وأما الحمى فكان قديماً فيقال إن عثمان زاد فيه لما زادت الراعية، وإذا جاز أصله للحاجة إليه جازت لزيادة الحاجة"أ. هـ5.
فالذي أجازه النبي صلى الله عليه وسلم لسوائم بيت المال، ومضى عليه الشيخان يجوز مثله لبيت المال في زمن ذي النورين، ويكون الاعتراض عليه اعتراضاً على أمر داخل في التشريع الإسلامي، ولما أجاب عثمان على مسألة الحمى عندما دافع عن
__________
1ـ صحيح البخاري 2/53.
2ـ المصدر السابق 2/53، والنقيع في المدينة على عشرين فرسخا منها انظر: معجم البلدان 5/299، فتح الباري 5/45.
3ـ قال ياقوت: وفي الشرف الربذة وهي الحمى الأيمن فما كان مشرفاً فهو الشريف وما كان مغرباً فهو الشرف. معجم البلدان 3/236.
4ـ انظر صحيح البخاري 2/180.
5ـ العواصم من القواصم ص/72-73.(3/1080)
نفسه على ملأ من الصحابة أعلن أن الذين يلون له الحمى اقتصروا فيه على صدقات المسلمين يحمونها لئلا يكون بين يليها وبين أحد تنازع، وأنهم ما منعوا ولا نحوا منها أحداً، وذكر عن نفسه أنه قبل أن يلي الخلافة كان أكثر العرب بعيراً وشاء، ثم أمسى وليس له غير بعيرين لحجه، وسأل من يعرف ذلك من الصحابة أكذلك؟، قالوا: اللهم نعم"1.
ومما نقمته الشيعة الرافضة على عثمان رضي الله عنه: أنهم يقولون "إنه أبطل سنة القصر في الصلوات أثناء السفر، وقالوا إنه "مخالف للسنة ولسيرة من تقدمه"2.
والرد على طعنهم عليه بهذه المسألة:
يقال لهم: إن تركه القصر كان اجتهاداً منه رضي الله عنه، إذ بلغه أن بعض الناس افتتنوا بالقصر في الصلاة، حتى كانوا يفعلون ذلك في منازلهم فرأى رضي الله عنه أن السنة قد تؤدي إلى إسقاط الفريضة، فترك القصر خشية أن يتذرع الناس بذلك، وكان هذا في منى في موسم الحج سنة تسع وعشرين، وقد عاتب عبد الرحمن بن عوف عثمان في إتمامه الصلاة وهم في منى، فاعتذر له عثمان بأن بعض من حج من أهل اليمن وجفاة الناس قالوا: في العام الماضي: إن الصلاة للمقيم ركعتان وهذا إمامكم عثمان يصلي ركعتين، ثم قال عثمان لعبد الرحمن بن عوف: وقد اتخذ بمكة أهلاً ـ أي: أنه صار في حكم المقيم لا المسافر ـ فرأيت أن أصلي أربعاً لخوف ما أخاف على الناس، ثم خرج عبد الرحمن بن عوف من عنده، فلقي عبد الله بن مسعود وخاطبه في ذلك، فقال ابن مسعود: "الخلاف شر قد بلغني أنه صلى أربعاً فصليت بأصحابي أربعاً"، فقال عبد الرحمن بن عوف: "قد بلغني أنه صلى أربعاً فصليت
__________
1ـ انظر تاريخ الأمم والملوك 4/347.
2ـ حق اليقين في معرفة أصول الدين لعبد الله شبر 1/191، كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة 1/63.(3/1081)
بأصحابي ركعتين، وأما الآن فسوف يكون الذي تقول يعني: نصلي معه أربعاً"1.
ثم أيضاً يقال لهم: إن جماعة من العلماء قالوا: "إن المسافر مخير بين القصر والإتمام، واختلف في ذلك الصحابة"2.
فقد روي عن جماعة منهم إتمام الصلاة في السفر، منهم عائشة، فقد روى البخاري بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها، قالت: "الصلاة أول ما فرضت ركعتين، فأقرت صلاة السفر، وأتمت صلاة الحضر".
قال الزهري: فقلت لعروة: ما بال عائشة تتم؟، قال: تأولت ما تأول عثمان"3.
وروى الإمام أحمد بسنده عن عباد بن عبد الله بن الزبير قال: لما قدم معاوية حاجاً قدمنا معه مكة، قال: فصلى بنا الظهر ركعتين، ثم انصرف إلى دار الندوة، قال: وكان عثمان حين أتم الصلاة إذا قدم مكة صلى بها الظهر والعصر والعشاء الآخرة أربعاً أربعاً فإذا خرج إلى منى وعرفات قصر الصلاة، فإذا فرغ من الحج وأقام بمنى أتم الصلاة حتى يخرج من مكة فلما صلى بنا الظهر ركعتين نهض إليه مروان بن الحكم وعمرو بن عثمان فقالا له: ما عاب أحد ابن عمك بأقبح ما عبته به، فقال لهما: وما ذاك، قال: فقالا له ألم تعلم أنه أتم الصلاة بمكة، قال: فقال لهما ويحكما وهل كان غير ما صنعت قد صليتهما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما قالا: فابن عمك قد كان أتمها، وإن خلافك إياه له عيب، قال: فخرج معاوية إلى العصر، فصلاها بنا أربعاً"4.
__________
1ـ تاريخ الأمم والملوك 4/268.
2ـ انظر العواصم من القواصم ص/79-80.
3ـ صحيح البخاري 1/192.
4ـ المسند 4/94.(3/1082)
وكما هو ظاهر هذا الحديث أن معاوية رضي الله عنه كان يرى أن القصر رخصة وأن المسافر مخير بين القصر والإتمام، ولذلك صلى العصر أربعاً.
فلا وجه للرافضة يسوغ لهم الطعن على عثمان بإتمامه ما صلاه من الرباعية أثناء سفره للحج سنة 29، إذ كان ذلك اجتهاداً منه حيث بلغه أن بعض الناس افتتنوا بالقصر، وعمدوا إلى فعل ذلك في منازلهم فأداه اجتهاده رضي الله عنه إلى أن سنة القصر ربما أدت إلى إسقاط الفريضة فتركها سداً للذريعة وهو مأجور على هذا الاجتهاد أصاب أم أخطأ.
ومما طعن به الرافضة على عثمان رضي الله عنه أنهم يقولون: "إنه انهزم يوم حنين وفر يوم أحد وتغيب عن بدر وبيعة الرضوان"1.
والرد على طعنهم عليه بهذا:
يقال لهم: "أما طعنكم عليه بيوم حنين، فإنه لم يبق إلا نفر يسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن لم يجر في الأمر تفسير من بقي ممن مضى في الصحيح، وإنما هي أقوال، منها أنه ما بقي معه إلا العباس وابناه عبد الله وقثم، فناهيك بهذا الاختلاف وهو أمر قد اشترك فيه الصحابة وقد عفا الله عنه ورسوله فلا يحل ذكر ما أسقطه الله ورسوله والمؤمنون"2، وأما طعنهم عليه بقولهم إنه فرّ يوم أحد فيجاب عنه أيضاً:، بأن الله ـ جل وعلا ـ عفا عنه وغفر له.
وأما تغيبه عن بدر، فإنه كان تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مريضة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لك أجر رجل ممن شهد بدراً وسهمه".
وأما تغيبه عن بيعة الرضوان، فلو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان لبعثه مكانه، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان وكانت بيعة الرضوان بعدما ذهب عثمان
__________
1ـ انظر الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/34، منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/173.
2ـ العواصم من القواصم ص/103-104.(3/1083)
إلى مكة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى "هذه يد عثمان" فضرب بها على يده، فقال: "هذه لعثمان" 1.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في صدد رده على الرافضي: "يوم بدر غاب بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ليخلفه على ابنته صلى الله عليه وسلم، فضرب له النبي صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره، ويوم الحديبية بايع النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بيده ويد رسول الله صلى الله عليه وسلم خير له من يد نفسه، وكانت البيعة بسببه، فإنه لما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم رسولاً إلى أهل مكة بلغه أنهم قتلوه، فبايع أصحابه على أن لا يفروا وعلى الموت، فكان عثمان شريكاً في البيعة، مختصاً بإرسال النبي صلى الله عليه وسلم له وطلبت منه قريش أن يطوف بالبيت دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، فامتنع من ذلك، وقال: حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يرسل عمر فأخبره أنه ليس له بمكة شوكة يحمونه، وأن عثمان له بمكة بنو أمية وهم من أشراف مكة، فهم يحمونه، وأما التولي يوم أحد فقد عفا الله عن جميع المتولين فيه فدخل في العفو من هو دون عثمان، فكيف لا يدخل هو فيه مع فضله وكثرة حسناته"2، فلا وجه لطعن الشيعة الرافضة على عثمان بما حصل يوم حنين، إذ أنه لم يرد تفصيل لمن بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك اليوم، بل حصل في ذلك خلاف بين أهل العلم، وما حصل من أنه فر يوم أحد فقد عفا الله عنه وغفر له، هو وغيره ممن حصل منه ذلك، وغيابه عن بدر إنما كان بأمر النبي صلى الله عليه وسلم حيث خلفه لتمريض رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم التي كانت زوجة لعثمان حينذاك ولم يفته خير هذه الغزوة، فقد ضرب له النبي صلى الله عليه وسلم بأجره وسهمه فيها فكان كمن حضرها، وبيعة الحديبية التي ينقم الرافضة على عثمان تغيبه عنها إنما كانت بسبب عثمان وانتصاراً له، لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن قريشاً قتلوه، وقد كان لعثمان الشرف العظيم
__________
1ـ هذا ما رد به ابن عمر على أحد المصريين الطاعنين على عثمان بما ذكر. انظر صحيح البخاري 2/297.
2ـ منهاج السنة 3/206-207.(3/1084)
في هذه البيعة ذلك أن يد الرسول صلى الله عليه وسلم نابت عن يده في عقد البيعة عنه وجميع الصحابة بايعوا بأيدي أنفسهم إلا عثمان، فإن أشرف يد في الوجود نابت عن يده في إعطاء بيعته، ولو لم يكن لعثمان من الشرف في حياته كلها إلا مبايعة الرسول صلى الله عليه وسلم عنه بيده يوم الحديبية لكفاه.
ومن مطاعنهم في حق ذي النورين رضي الله عنه أنهم يقولون: "إنه أحدث أذاناً يوم الجمعة زائداً على أذان الرسول صلى الله عليه وسلم وهو بدعة محرمة حتى صار سنة يعمل به بعده إلى اليوم"1.
والرد على هذا الهراء:
أن علياً رضي الله عنه كان أحد الموافقين على هذا الأذان في حياة عثمان وبعد قتله، ولهذا لما صار خليفة للمسلمين لم يأمر بإزالته كما أمر بما أنكره من ولاية طائفة من عمال عثمان بل أمر بعزل معاوية وغيره، ومعلوم أن إبطال هذه البدعة كان أهون عليه من عزل أولئك ومقالتهم، ولو أزال ذلك لعلمه الناس ونقلوه، فإن زعموا أن الناس كانوا لا يوافقونه على إزالتها يقال لهم: فهذا دليل على أن الناس وافقوا عثمان على استحبابها واستحسانها حتى الذين قاتلوا مع علي كعمار وسهل بن حنيف وغيرهما من السابقين الأولين وأكابر الصحابة لو أنكروا ذلك لم يخالفهم غيرهم وإن قدر أن في الصحابة من كان ينكر ذلك، ومنهم من لا ينكره كان ذلك من مسائل الاجتهاد ولم يكن هذا مما يعاب به عثمان"2.
ومما طعنوا به على عثمان رضي الله عنه أنهم يزعمون: "أن كل الصحابة تبرؤوا من عثمان فكانوا بين قاتل له وراض بقتله، ويزعمون أيضاً: أن
__________
1ـ انظر منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 3/173، حق اليقين في معرفة أصول الدين لعبد الله شبر 1/192.
2ـ انظر منهاج السنة 3/204.(3/1085)
عليّاً سكت عن قتل عثمان، ولم ينه عنه وسكوته دال على رضاه بقتله، ويزعمون أيضاً: أنهم تركوه ملقى بعد قتله ثلاثة أيام بلا دفن"1.
والرد على هذا:
أنه كذب صريح وبهتان فضيح لا يخفى على الصبيان، فضلاً عن ذوي العرفان، وما نشب القتال في موقعتي الجمل وصفين بين الصحابة وسقط فيهما الآلاف منهم إلا من أجل إقامة القصاص على قتلة عثمان.
والثابت في كتب التواريخ أن الصحابة كلهم لم يألوا جهداً في دفع البلوى عنه حتى استأذنوه في قتال المحاصرين له فلم يرض لهم بذلك وعزم عليهم أن لا يراق فيه محجم من دم.
فقد روى خليفة بن خياط بإسناده إلى زيد بن ثابت أنه قال لعثمان: هؤلاء الأنصار بالباب يقولون: إن شئت كنا أنصار الله مرتين، فقال: "لا حاجة لي في ذلك كفوا"2.
وروى أيضاً بإسناده إلى عبد الله بن الزبير قال: قلت لعثمان: "إنا معك في الدار عصابة مستبصرة ينصر الله بأقل منهم، فأذن لنا، فقال: "أذكر الله رجلاً أهراق في دمه، أو قال: دماً".
وروى بإسناده إلى عبد الله بن عامر بن ربيعة، قال: كنت مع عثمان في الدار، فقال: "أعزم على كل من رأى أن عليه سمعاً وطاعة إلا كف يده وسلاحه، فإن أفضلكم عندي غناء من كف يده وسلاحه".
وروى بإسناده إلى محمد بن سيرين، قال: انطلق الحسن والحسين وابن عمر وابن الزبير ومروان كلهم شاكي السلاح حتى دخلوا الدار، فقال عثمان:
__________
1ـ انظر حق اليقين في معرفة أصول الدين لعبد الله شبر 1/189، 192، الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/33.
2ـ تاريخ خليفة بن خياط ص/173.(3/1086)
"أعزم عليكم لما رجعتم فوضعتم أسلحتكم ولزمتم بيوتكم".
وبإسناده أيضاً: إلى محمد بن سيرين قال: قال سليط بن سليط: "نهانا عثمان عن قتالهم، ولو أذن لنا لضربناهم حتى نخرجهم من أقطارها".
وروى بإسناده إلى أبي هريرة قال: "قلت لعثمان: اليوم طاب الضرب معك"، قال: "أعزم عليك لتخرجن"1.
وروى ابن سعد وغيره إلى زهدم الجرمي، قال: خطب ابن عباس رضي الله عنه، فقال: "لو أن الناس لم يطلبوا بدم عثمان لرجموا بالحجارة من السماء"2.
فهذه الآثار فيها تكذيب للشيعة الرافضة، فيما يزعمون من أن الصحابة كلهم تبرؤوا من عثمان، وكانوا راضين بقتله، ولذلك لم ينصروه ولم ينكروا على محاصريه ولم يستعدوا لمدافعتهم ومقاتلتهم، وكما هو واضح من هذه الآثار أنهم أنكروا وبذلوا أنفسهم للدفاع عن عثمان ومقاتلتهم، ولكن أولئك المحاصرين له لم يظهروا قتله وإنما كانوا يظهرون المعيبة عليه ومع ذلك فلم يكن لهم أن يستبدوا برأي في أمرهم إلا بأمر من خليفتهم وأميرهم عثمان رضي الله عنه، وكان يمنعهم من ذلك ويعزم عليهم أن لا يسفك قليل من الدم بسببه3.
قال العلامة ابن تيمية رحمه الله تعالى: "ومن المعلوم بالمتواتر أن عثمان رضي الله عنه كان من أكف الناس عن الدماء، وأصبر الناس على من نال من عرضه، وعلى من سعى في دمه، فحاصروه وسعوا في قتله، وقد عرف إرادتهم لقتله، وقد جاءه المسلمون من كل ناحية ينصرونه ويشيرون عليه بقتالهم، وهو يأمر الناس بالكف عن القتال ويأمر من يطيعه أن لا يقاتلهم وروي أنه قال
__________
1ـ انظر هذه الآثار الخمسة في تاريخ خليفة بن خياط ص/173-174.
2ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 3/80، الإمامة والرد على الرافضة ص/333.
3ـ انظر كتاب الإمامة والرد على الرافضة ص/331.(3/1087)
لمماليكه: "من كف يده فهو حر"، وقيل له: تذهب إلى مكة، فقال: لا أكون ممن ألحد في الحرم، فقيل له: تذهب إلى الشام، فقال: لا أفارق دار هجرتي، فقيل له: فقاتلهم، فقال: لا أكون أول من خلف محمداً في أمته بالسيف، فكان صبر عثمان حتى قتل من أعظم فضائله عند المسلمين"1.
وأما زعمهم: أن الصحابة كانوا بين قاتل له وراض بقتله، فهذا كذب قبيح لم يقله أو يعتقده إلا إنسان من الرافضة أو ابتلي بمعلم منهم فالذين قتلوا عثمان لم يكن بينهم أحد من الصحابة ولله الحمد وإنما قتلته كانوا من أوباش القبائل ومن أهل الإفساد والفتن تأثروا بضلالات ابن سبأ اليهودي فقد روى خليفة بن خياط بسنده، فقال: حدثنا عبد الأعلى بن الهيثم قال: حدثني أبي، قال: قلت للحسن: أكان فيمن قتل عثمان أحد من المهاجرين والأنصار؟، قال: لا، كانوا أعلاجاً من أهل مصر"2.
قال أبو بكر بن العربي: "إن أحداً من الصحابة لم يسع عليه ولا قعد عنه ولو استنصر ما غلب ألف أو أربعة آلاف غرباء عشرين ألفاً بلدين أو أكثر من ذلك ولكنه ألقى بيده إلى المصيبة"3.
قلت: لأنه رضي الله عنه اختار أخف الشرين وآثر أن يقتل هو خشية أن تتسع دائرة الفتنة ويعظم سفك دماء المسلمين، ومع ذلك لم يحسن مبغضوا الصحابة جزاءه وإنما رموه بمفتريات كثيرة كان محجوباً فيها بغير حجة، وهنا يقال: للشيعة الرافضة بعد هذه الأخبار المتقدمة: أين تبرؤ الصحابة من عثمان ومن منهم كان بين قاتل له وراض بقتله ألا تستحيون من الرجم بالغيب كذباً وزوراً وبهتاناً.
__________
1ـ منهاج السنة 3/202-203.
2ـ تاريخ خليفة بن خياط ص/176.
3ـ العواصم من القواصم ص/136-137.(3/1088)
ويرد على زعمهم "أن علياً كان راضياً بقتل عثمان، وسكوته دل على رضاه بقتله".
يقال لهم: حاشا وكلا إن علياً صدر منه هذا أو كان هذا موقفه عندما قتل وأن هذا الموقف الذي يذكره الشيعة الرافضة عنه إنما هو من إفكهم واختلاقهم عليه إذ الثابت عنه لعن قتلة عثمان، وبلغ به الحزن مبلغه عندما بلغه قتله وتبرأ من دمه، فلقد ذكر ابن جرير الطبري: أن عائشة رضي الله عنها قالت يوم الجمل: "أيها الناس العنوا قتلة عثمان وأشياعهم وضج أهل البصرة بالدعاء، وسمع علي بن أبي طالب الدعاء فقال: ما هذه الضجة؟، فقالوا: عائشة تدعو ويدعون معها على قتلة عثمان وأشياعهم فأقبل يدعو ويقول: "اللهم العن قتلة عثمان وأشياعهم"1.
وروى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى قيس بن عباد قال: شهدت علياً رضي الله عنه يوم الجمل يقول كذا: اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان، ولقد طاش عقلي يوم قتل عثمان، وأنكرت نفسي وأرادوني على البيعة فقلت: والله إني لأستحي من الله أن أبايع قوماً قتلوا رجلاً قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أستحي ممن تستحي منه الملائكة" وإني لأستحي من الله أن أبايع وعثمان قتيل على الأرض لم يدفن بعد "فانصرفوا، فلما دفن رجع الناس إلي فسألوني البيعة، فقلت: اللهم إني مشفق مما أقدم عليه، ثم جاءت عزيمة فبايعت فلقد قالوا: يا أمير المؤمنين فكأنما صدع قلبي"2.
وذكر الحافظ ابن كثير عن الربيع بن بدر عن سيار بن سلامة عن أبي العالية أن علياً دخل على عثمان فوقع عليه وجعل ييكي حتى ظنوا أنه سيلحق به".
وقال: وقال الثوري وغيره عن طاووس عن ابن عباس قال: قال علي يوم قتل
__________
1ـ تاريخ الأمم والملوك 4/513.
2ـ المستدرك 3/103.(3/1089)
عثمان: "والله ما قتلت ولا أمرت ولكني غلبت"1.
فهذه الآثار الثابتة عن علي فيها بطلان ما ادعته الرافضة من أن علياً رضي الله عنه كان راضياً بقتل عثمان، وأن قولهم هذا كذب وزور، فقد تواترت الأخبار عن علي بخلافه.
قال العلامة ابن كثير رحمه الله تعالى: "وقد اعتنى الحافظ الكبير أبو القاسم بن عساكر بجمع الطرق الواردة عن علي أنه تبرأ من دم عثمان، وكان يقسم على ذلك في خطبه وغيرها أنه لم يقتله ولا أمر بقتله ولا مالأ ولا رضي به، ولقد نهى عنه فلم يسمعوا منه ثبت ذلك عنه من طرق تفيد القطع عند كثير من أئمة الحديث والله الحمد والمنة، وثبت عنه أيضاً: من غير وجه أنه قال: "إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان ممن قال الله تعالى فيهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} .2
وثبت عنه أيضاً من غير وجه أنه قال: كان عثمان من الذين {اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا} 3.
وفي رواية أنه قال: "كان عثمان رضي الله عنه خيرنا وأوصلنا للرحم وأشدنا حباً وأحسننا طهوراً وأتقانا للرب عز وجل"4.
فهذا موقف علي رضي الله عنه من ذي النورين ـ رضي الله عنه ـ ومكانته عنده، فإن موقفه منه كان موقفاً شريفاً كريماً، لم تهتد الشيعة الرافضة لمعرفته، ولذلك يطعنون في علي بما يظنونه مدحاً وما ذلك إلا لفرط جهلهم وعدم معرفتهم بما كان عليه السلف الصالح من الاحترام والإجلال لبعضهم بعضاً.
__________
1ـ البداية والنهاية 7/212.
2ـ سورة الحجر آية: 47.
3ـ من الآية رقم 93 من سورة المائدة.
4ـ البداية والنهاية 7/212.(3/1090)
وأما زعمهم أن عثمان رضي الله عنه "ترك ملقي بعد قتله ثلاثة أيام بلا دفن".
فهذا أيضاً: زور وبهتان، فقد قال الزبير بن بكار: "بويع يوم الاثنين لليلة بقيت من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين، وقتل يوم الجمعة لثمان عشرة خلت من ذي الحجة بعد العصر، ودفن ليلة السبت بين المغرب والعشاء1 يعني من نفس اليوم، وذلك سنة خمس وثلاثين2، وهذا القول هو الذي تطمئن إليه النفس، وهو المظنون بالصحابة الكرام رضي الله عنهم، فإنه لا يدخل في عقل أي إنسان سلم من داء الرفض أنهم يتركون إمامهم ملقى دون دفن ثلاثة أيام مهما كانت قوة أولئك الفجرة الذين جاؤوا لحصاره وقتله، فالصحابة كما وصفهم ربهم لا يخافون في الله لومة لائم، وما ذكر من الأقوال غير هذا فإنه لا يؤمن أنها من دس الشيعة الرافضة، الذي يقصدون منه التشنيع والطعن على خيار الأمة وحسبنا من مطاعن الشيعة على ذي النورين ما تقدم ذكره ولهم مطاعن فيه غير هذه المطاعن3 وكلها أباطيل وأكاذيب مفتراة من جنس ما تقدم في هذا المبحث، ومما يجدر التنبيه عليه أن مطاعنهم على الخصوص ليست قاصرة على الخلفاء الثلاثة بل اختلقوا مطاعن خاصة بكل واحد من العشرة4 المبشرين بالجنة حتى علي رضي الله عنه، ينسبون إليه قصصاً يظنونها مدحاً له وهي في الحقيقة عيب فيه، وتنقص له من حيث لا يشعرون5، وقد اقتصرت على رد مطاعنهم في
__________
1ـ ذكره الحافظ ابن حجر في الإصابة: 2/459.
2ـ انظر تاريخ الأمم والملوك: 4/415، الكامل في التاريخ 3/179، البداية والنهاية: 7/186، وما بعدها.
3ـ انظر الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم: 3/30 – 40، كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة: 1/49-63، منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة: 3/173، حق اليقين: 1/189-195.
4ـ انظر كتاب الاستغاثة في بدع الثلاثة: 2/60 وما بعدها.
5ـ من القصص التي يذكرونها ويظنونها مدحاً له وهي في الحقيقة طعن فيه وقذف له بالكذب والأساطير المفتراة ما حكاه نعمة الله الجزائري في ذكره سبب تحريم عم المتعة حسب زعمه حيث قال:(3/1091)
الخلفاء الثلاثة في هذه المباحث المتقدمة لأن الثلاثة يعتبرون صدر الأمة المحمدية وهم وعلي الذين أمرنا باتباع سننهم والاقتداء بآثارهم، وقد تبين مما تقدم أن مطاعنهم في الخلفاء الثلاثة كلها أكاذيب مفتراة لم يستقم لهم منها شيء وكلها منشؤها يرجع إلى أمرين اثنين: إما نقص العلم وإما نقص الدين 1 لا شيء غيرها أعاذنا الله من الخذلان.
__________
1ـ انظر: منهاج السنة 3/141.(3/1092)
المبحث الثامن: من مطاعنهم في حق أمهات المؤمنين رضي الله عنهن
لم تسلم أمهات المؤمنين رضي الله عنهن جميعاً من طعن الشيعة الرافضة ومن تنقصهم وعيبهم، فقد استحوذ الشيطان عليهم وتمكن منهم وحملهم على أن قالوا فيهن قولاً عظيماً، وأكثر ما طعنوا على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بما يدل على خبث قلوبهم وعلى فساد عقولهم وليكن البدء في هذا المبحث بما طعنوا به على عائشة رضي الله عنها، ثم نذكر ما قالوه من الطعن فيهن عموماً.
فمن مطاعنهم على عائشة رضي الله عنها: أنهم لم يرضوا تسميتها أم المؤمنين وزعموا أن الذي سماها بهذا الاسم هم أهل السنة والجماعة قال ابن المطهر الحلي: "وسموها أم المؤمنين ولم يسموا غيرها بذلك الاسم"1.
والرذ على هذا الهذيان:
أنه من البهتان الواضح الظاهر لكل إنسان ولا يصدر هذا الإنكار إلا من معاند لما في كتاب الله عز وجل، "إذ من المعلوم أن كل واحدة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يقال لها أم المؤمنين، وعائشة وحفصة وزينب بنت جحش وأم سلمة وسودة بنت زمعة وميمونة بنت الحارث الهلالية وجويرية بنت الحارث المصطلقية وصفية بنت حيي بن أخطب الهارونية رضي الله عنهن، وقد قال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} 2، وهذا أمر معلوم للأمة علماً عاماً، وقد أجمع المسلمون على تحريم نكاح هؤلاء بعد موته ـ صلى الله عليه وسلم ـ على غيره
__________
1ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 2/198.
2ـ سورة الأحزاب آية/6.(3/1093)
وعلى وجوب احترامهن فهن أمهات المؤمنين في الحرمة والتحريم ولسن أمهات المؤمنين في المحرمية، فلا يجوز لغير أقاربهن الخلوة بهن ولا السفر بهن كما يخلو الرجل ويسافر بذوات محارمه"1.
فالله تبارك وتعالى هو الذي سمى عائشة وغيرها من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بأمهات المؤمنين، وليس أهل السنة والجماعة هم الذين سموا عائشة بأم المؤمنين كما يزعم ذلك الشيعة الرافضة إذ لما عميت بصائرهم عما دل عليه الكتاب وانضم إلى ذلك جهلهم ظنوا أن أهل السنة والجماعة هم الذين سموها بذلك الاسم، ونسوا أن الله ـ جل وعلا ـ هو الذي أكرم نساء نبيه بهذه الخصيصة الشريفة والمنقبة الرفيعة حيث جعلهن أمهات لجميع المؤمنين ومن شدة حقد وغل الرافضة لعائشة رضي الله عنها حسدوها على هذه التسمية الربانية بل وصل البغض ببعض الشيعة الرافضة إلى أن عاند تسمية الله لها بهذا الاسم وسماها "بأم الشرور"2 مع أن من تفوه به هو الأحق بهذا الاسم وأهله، أما عائشة رضي الله عنها فقد سماها الله "بأم المؤمنين" على رغم أنف كل شيعي رافضي وليمت بغيظه من لم يرتض لها هذا الاسم الإلهي.
ومما طعنوا به على عائشة رضي الله عنها: الحديث الذي رواه البخاري عنها رضي الله عنها أنها قالت: "ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة وما رأيتها ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة فربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة؟ فيقول: "إنها كانت وكانت وكان لي منها ولد" 3.
ووجه طعنهم عليها رضي الله عنها بهذا الحديث أنهم استنبطوا منه بأفهامهم
__________
1ـ منهاج السنة 2/198-199.
2ـ انظر الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/161.
3ـ صحيح البخاري 2/315.(3/1094)
المعكوسة وقلوبهم المنكوسة " أنها حسدت خديجة لما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من مدحها وثنى عليها، ولذلك عاتبته كما يزعمون فاعتذر إليها بإحسان خديجة إليه وحسن صحبتها له"1.
والرد على هذا الاستنباط الباطل:
أن الباعث لعائشة رضي الله عنه على قولها في الحديث هو الغيرة كما صرحت هي بذلك لا الحسد، كما يزعمه الشيعة الرافضة والغيرة كما هو معلوم جبلة في النساء ولا مؤاخذة على الأمور الجبلية الناشئة عن الغيرة، فلو صدر قول أو فعل مخالف للشرع تتوجه الملامة للغيرة، وقد ورد أن بعض أمهات المؤمنين غارت على أخرى حين أرسلت إلى رسول الله طعاماً وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذ ذاك في بيت من غارت، فكسرت قصعة الطعام وانصب الطعام على الأرض، فقام النبي صلى الله عليه وسلم بجمع الطعام ويقول "غارت أمكم"، ولم يعاتبها ولم يوبخها على ذلك وإنما غاية ما أمرها به أن تبدلها إناء بدل إنائها2 فكيف يسوغ بعد هذا للشيعة الرافضة أن يجعلوا أمهات المؤمنين هدفاً لسهام مطاعنهم نعوذ بالله من الخسران.
ومن مطاعنهم في حق عائشة رضي الله عنها ـ ما ذكره ابن المطهر الحلي بقوله الذي خاطب به أهل السنة والجماعة حيث قال: "وأعظموا أمر عائشة على باقي نسوانه مع أنه عليه السلام كان يكثر من ذكر خديجة بنت خويلد، وقالت له عائشة إنك تكثر ذكرها وقد أبدلك الله خيراً منها فقال: "والله ما بدلت بها ما هو خير منها صدقتني إذ كذبني الناس، وآوتني إذ طردني الناس، وأسعدتني بمالها ورزقني الله الولد منها ولم أرزق من غيرها" 3
__________
1ـ انظر كتاب انظر الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف 1/291.
2ـ انظر سنن النسائي 7/70-71، المسند 6/148، 277، سنن أبي داود 2/267.
3ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 2/182.(3/1095)
والرد على هذا اللغو:
يقال لهم: "إن أهل السنة والجماعة لم يجمعوا على أن عائشة رضي الله عنها أفضل أمهات المؤمنين، لكن ذهب الكثير منهم إلى ذلك واحتجوا على ذلك بمثل قوله عليه الصلاة والسلام: "فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام" 1، وبمثل قوله صلى الله عليه وسلم من حديث عمرو بن العاص أنه قال: قلت يا رسول الله أي النساء أحب إليك؟، قال: "عائشة" قلت: ومن الرجال؟ قال: "أبوها"، قلت: ثم من؟، ثال: "عمر وسمى رجالاً" 2.
أما قولهم أنه قال لخديجة: "ما أبدلني الله خيراً منها" إن صح فمعناه "ما أبدلني خيراً لي منها فإن خديجة نفعته في أول الإسلام نفعاً لم يقم غيرها فيه مقامها، فكانت خيراً له من هذا الوجه لكونها نفعته وقت الحاجة وعائشة صحبته في آخر النبوة وكمال الدين، فحصل لها من العلم والإيمان ما لم يحصل لمن يدرك إلا أول النبوة، فكانت أفضل لهذه الزيادة فإن الأمة انتفعت بها أكثر مما انتفعت بغيرها، وبلغت من العلم والسن ما لم يبغله غيرها، فخديجة كان خيرها مقصوراً على نفس النبي صلى الله عليه وسلم لم تبلغ عنه شيئاً، ولم تنتفع بها الأمة كما انتفعت بعائشة، ولأن الدين لم يكن قد كمل حتى تعلمه ويحصل لها من كمالاته ما حصل لمن علم وآمن به بعد كماله، ومعلوم أن من اجتمع همه على شيء واحد كان أبلغ ممن تفرق همه في أعمال متنوعة، فخديجة رضي الله عنه خير له من هذا الوجه لكن أنواع البر لم تنحصر في ذلك ـ ولهذا كان من الصحابة من هو أعظم إيماناً وأكثر جهاداً بنفسه وماله كحمزة وعلي وسعد بن معاذ، وأسيد بن حضير وغيرهم ـ هم أفضل ممن كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم وينفعه في نفسه أكثر
__________
1ـ صحيح البخاري 2/308، صحيح مسلم 4/1895.
2ـ صحيح مسلم 4/1856.(3/1096)
منهم كأبي رافع وأنس بن مالك وغيرهما ـ ولسنا في صدد ذكر تفصيل الكلام في تفضيل عائشة وخديجة رضي الله عنهما ـ لكن المقصود هنا أن أهل السنة مجمعون على تعظيم عائشة ومحبتها وأن نساءه أمهات المؤمنين اللواتي مات عنهن كانت عائشة أحبهن إليه وأعظمهن حرمة عند المسلمين"1.
والذي يشذ عن هذا الذي أجمع عليه المسلمون فشذوذه هذا يدل على مرض قلبه بداء النفاق والعياذ بالله.
ومن مطاعنهم في حق عائشة رضي الله عنها: "زعمهم أنها أذاعت سر رسول الله صلى الله عليه وسلم"2.
والرد على هذا:
يقال لهم: لا شك أن الله جل وعلا قال في محكم كتابه: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} 3.
وقد جاء في صحيح البخاري من حديث عبيد بن حنين، قال: سمعت ابن عباس يقول: "أردت أن أسأل عمر رضي الله عنه، فقلت: يا أمير المؤمنين من المرأتان اللتان تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟، فما أتممت كلامهي حتى قال: عائشة وحفصة"4.
وهنا يقال عن الشيعة الرافضة: أنهم عمدوا أولاً إلى نصوص القرآن التي فيها ذكر ذنوب ومعاصي بينة، لمن نصت عنه من المتقدمين، ثم يعمدون إلى تأويلها بأنواع التأويلات وأهل السنة يقولون: إن أصحاب الذنوب تابوا منها
__________
1ـ انظر منهاج السنة 2/182-183.
2ـ انظر منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 2/184، وانظر الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف 1/292.
3ـ سورة التحريم آية/3.
4ـ صحيح البخاري 3/206.(3/1097)
ورفع الله درجاتهم بالتوبة.
ويقال لهم ثانياً: بتقدير أن يكون هناك ذنب لعائشة وحفصة فيكونان قد تابتا منه، هذا ظاهر بنص قوله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} 1، فدعاهما الله تعالى إلى التوبة ولا يظن بهما انهما لم يتوبا مع ما ثبت من علو درجتهما، وأنهما زوجتا نبينا في الجنة، وأن الله خيرهن بين الحياة الدنيا وزينتها فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة، ولذلك حرم الله على رسوله أن يستبدل بهن غيرهن وحرم عليه أن يتزوج عليهن واختلف في إباحة ذلك له بعد ذلك2، ومات عنهن وهن أمهات المؤمنين بنص القرآن ـ ثم إن ـ الذنب يزول عقابه بالتوبة والحسنات الماحية والمصائب المكفرة.
ويقال ثالثاً: إن المذكور عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كالمذكور عمن شهد له بالجنة من أهل بيته وغيرهم من الصحابة، فإن علياً لما خطب ابنة أبي جهل على فاطمة، وقام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً فقال: "إن بني المغيرة استأذنوني أن ينكحوا علياً ابنتهم وإني لا آذن ثم لا آذن ثم لا آذن إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي ويتزوج ابنتهم إنما فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها" 3.
فلا يظن بعلي رضي الله عنه أنه ترك الخطبة في الظاهر فقط، بل تركها بقلبه وتاب بقلبه عما كان طلبه وسعى فيه.
وكذلك لما صالح النبي صلى الله عليه وسلم المشركين يوم الحديبية وقال لأصحابه: "انحروا واحلقوا رؤوسكم" فلم يقم أحد فدخل مغضباً على أم سلمة، فقالت: من أغضبك أغضبه الله؟، فقال: "ما لي لا أغضب وأنا آمر بالأمر فلا يطاع"
__________
1ـ سورة التحريم آية/4.
2ـ انظر الأقوال في ذلك: أحكام القرآن لابن العربي 3/1570-1571، الجامع لأحكام القرآن../219-220.
3ـ صحيح البخاري 3/265.(3/1098)
فقالت: يا رسول الله أدع بهديك فانحره وأمر الحلاق فليحلق رأسك"1 وأمر علياً أن يمحوا اسمه فقال: والله لا أمحوك، فأخذ الكتاب من يده ومحاه"2، فمعلوم أن تأخر علي وغيره من الصحابة عما أمروا به حتى غضب النبي صلى الله عليه وسلم، إذا قال القائل: هذا ذنب كان جوابه كجواب القائل: إن عائشة أذنبت في ذلك فمن الناس من يتأول ويقول وإنما تأخروا متأولين لكونهم كانوا يرجون تغيير الحال بأن يدخلوا مكة، وآخر يقول: لو كان لهم تأويل مقبول لم يغضب النبي صلى الله عليه وسلم بل تابوا من ذلك التأخير ورجعوا عنه مع أن حسناتهم تمحوا مثل هذا الذنب وعلي دخل في هؤلاء رضي الله عنهم أجمعين3.
وبهذا يبطل طعن الشيعة الرافضة على عائشة وحفصة رضي الله عنهما بأنهما أذاعتا سر رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يزعمون وأنه على تقدير ثبوته فقد أحدثا منه توبة لأن الله دعاهما إلى ذلك ولا يجوز لأحد أن يلوم أحد، أو يعيره بذنب قد تاب منه.
ومما طعنوا به على عائشة رضي الله عنها زعمهم: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: "إنك تقاتلين علياً وأنت ظالمة"4.
والرد على هذا الاختلاق: أنه لا يعرف في شيء من كتب العلم المعتمدة ولا له إسناد معروف وهو بالموضوعات المكذوبات أشبه منه بالأحاديث الصحيحة، بل هو كذب قطعاً.
فإن عائشة لم تقاتل ولم تخرج للقتال، وإنما خرجت بقصد الإصلاح بين المسلمين وظنت أن في خروجها مصلحة للمسلمين، ثم تبين لها فيما بعد أن ترك الخروج كان أولى فكانت إذا ذكرت خروجها تبكي حتى تبل خمارها5.
__________
1ـ انظر الحديث في صحيح البخاري 2/122، المسند 4/331.
2ـ انظر الحديث في صحيح البخاري 2/122، صحيح مسلم 3/1409-1411.
3ـ انتظر السنة 2/184-185، وانظر مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/269-270.
4ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 2/183، الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 2/164.
5ـ انظر الطبقات الكبرى لابن سعد 8/18، سير أعلام النبلاء 2/177، الدر المنثور في التفسير بالمأثور 6/600.(3/1099)
وهكذا عامة السابقين ندموا على ما دخلوا فيه من القتال، فندم طلحة والزبير وعلي1 رضي الله عنهم أجمعين، لم يكن يوم الجمل لهؤلاء قصد في القتال، ولكن وقع الاقتتال بغير اختيارهم فإنه لما تراسل علي وطلحة والزبير وقصدوا الاتفاق على المصلحة وأنهم إذا تمكنوا طلبوا قتلة عثمان أهل الفتنة وكان علي رضي الله عنه غير راض بقتل عثمان ولا معيناً عليه كما كان يحلف فيقول "والله ما قتلت ولا مالأت على قتله"2 وهو الصادق في يمينه فخشي القتلة أن يتفق علي معهم على إمساك القتلة، فحملوا على عسكر طلحة والزبير فظن طلحة والزبير أن علياً حمل عليهم فحملوا دفعاً عن أنفسهم، فظن علي أنهم حملوا عليه فحمل دفعاً عن نفسه فوقعت الفتنة بغير اختياره وعائشة راكبة لا قاتلت ولا أمرت بالقتال، هكذا ذكره غير واحد من أهل المعرفة بالأخبار"3.
ومما مطاعنهم التي تناولوا بها أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: قولهم "إنها خالفت أمر الله في قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} 4، حيث خرجت في ملأ من الناس لتقاتل علياً على غير ذنب لأن المسلمين أجمعوا على قتل عثمان"5.
والرد على هذا أنه باطل من وجوه:
الوجه الأول: أنها لم تتبرج تبرج الجاهلية الأولى، والأمر بالاستقرار في البيوت لا ينافي الخروج لمصلحة مأمور بها كما لو خرجت للحج والعمرة أو
__________
1ـ قال رضي الله عنه يوم الجمل كما في مصنف أبي شيبة 15/282: "وددت أني مت قبل هذا بعشرين سنة".
2ـ انظر البداية والنهاية 7/212.
3ـ منهاج السنة 2/185.
4ـ سورة الأحزاب آية/33.
5ـ انظر منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 2/183، انظر الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف 1/293، مقدمة مرآة العقول 1/50، الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/161، الأنوار النعمانية 2/215-216.(3/1100)
خرجت مع زوجها في سفر، فإن هذه الآية نزلت في حياته صلى الله عليه وسلم، وقد سافر بهن بعد ذلك في حجة الوداع سافر بعائشة رضي الله عنها وغيرها وأرسلها مع عبد الرحمن أخيها وأردفها خلفه وأعمرها من التنعيم وحجة الوداع كانت قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بأقل من ثلاثة أشهر بعد نزول هذه الآية، ولهذا كن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يحججن كما حججن في خلافة الفاروق، وكان يوكل بقطارهن عثمان أو عبد الرحمن بن عوف وإذا كان سفرهن لمصلحة جائزاً فعائشة اعتقدت أن ذلك السفر مصلحة للمسلمين فتأولت في هذا، واجتهدت والمجتهد إذا أصاب في اجتهاده كان له أجران ـ وإذا كان مخطئاً فالخطأ مغفور بالكتاب والسنة"1.
قال العلامة ابن العربي مبيناً بطلان طعن الرافضة على عائشة بآية الأحزاب السابقة: "تعلق الرافضة ـ لعنهم الله ـ بهذه الآية على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، إذ قالوا: "إنها خالفت أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم وخرجت تقود الجيوش وتباشر الحروب وتقتحم مآزق الحرب والضرب فيما لم يفرض عليها ولا يجوز لها، ولقد حصر عثمان فلما رأت ذلك أمرت برواحلها فقربت لتخرج إلى مكة، فقال لها مروان بن الحكم: يا أم المؤمنين أقيمي هاهنا وردي هؤلاء الرعاع عن عثمان، فإن الإصلاح بين الناس خير من حجك.
وقال علماؤنا ـ رحمة الله عليهم ـ: "إن عائشة كانت نذرت الحج قبل الفتنة، فلم تر التخلف عن نذرها وأما خروجها إلى حرب الجمل فما خرجت لحرب، ولكن تعلق الناس بها وشكوا إليها ما صاروا إليه من عظيم الفتنة، وتهارج الناس، ورجوا بركتها في الإصلاح وطمعوا في الاستيحاء منها إذا وقفت إلى الخلق وظنت هي ذلك، فخرجت مقتدية بالله في قوله: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} 2، وبقوله: {وَإِنْ
__________
1ـ منهاج السنة 2/185-186، انظر مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/268-269.
2ـ سورة النساء آية/114(3/1101)
طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} 1، والأمر بالإصلاح مخاطب به جميع الناس من ذكر وأنثى، حر أو عبد، فلم يرد الله بسابق قضائه ونافذ حكمه أن يقع إصلاح، ولكن جرت مطاعنات وجراحات حتى كاد يفنى الفريقان، فعمد بعضهم إلى الجمل فعرقبه، فلما سقط الجمل لجنبه أدرك محمد بن أبي بكر عائشة، فاحتملها إلى البصرة، وخرجت في ثلاثين امرأة قرنهن علي بها حتى أوصلوها إلى المدينة، برة تقية مجتهدة مصيبة ثابتة فيما تأولت مأجورة فيما تأولت وفعلت إذ كل مجتهد في الأحكام مصيب2، وقد بينا في كتب الأصول تصويب الصحابة في الحروب، وحمل أفعالهم على أجمل تأويل"3.
الوجه الثاني: أما زعمهم أنها خرجت في ملأ من الناس تقاتل علياً على غير ذنب فهذا كذب عليها فإنها لم تخرج لقصد القتال، ولا كان أيضاً طلحة والزبير قصدهما القتال لعلي، ولو قدر انهما قصدا القتال فهذا هو القتال المذكور في قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} 4، فجعلهم مؤمنين أخوة في الاقتتال، وإذا كان هذا ثابتاً لمن هو دون أولئك من المؤمنين فهم به أولى وأحرى.
الوجه الثالث: أما زعمهم أن المسلمين أجمعوا على قتال عثمان، فهذا أيضاً
__________
1ـ سورة الحجرات آية/9.
2ـ هذا إذا كان المراد إصابة الأجر فهو صحيح لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر" وإذا كان المقصود إصابة الحق ففيه نظر للحديث لأن فيه أصاب وأخطأ. والحديث رواه الشيخان انظر صحيح البخاري 4/268، صحيح مسلم 3/1342.
3ـ أحكام القرآن لابن العربي 3/1535-1536، وانظر الجامع لأحكام القرآن 14/181-182.
4ـ سورة الحجرات آية/9-10.(3/1102)
من أظهر الكذب وأبينه، فإن جماهير المسلمين لم يأمروا بقتله ولا شاركوا في قتله ولا رضوا بقتله، فإن أكثر المسلمين لم يكونوا بالمدينة بل كانوا بمكة واليمن والشام والكوفة والبصرة ومصر وخراسان وخيار المسلمين لم يدخل واحد منهم في دم عثمان لا قتل ولا أمر بقتله، وإنما قتله طائفة من المفسدين في الأرض من أوباش القبائل وأهل الفتن، وكان علي رضي الله عنه يحلف دائماً: "إني ما قتلت عثمان ولا مالأت على قتله"، ويقول: اللهم العن قتلة عثمان في البر والبحر والسهل والجبل"1.
لكن الرافضة لم يهتدوا لمعرفة براءة علي، من دم عثمان بل كذبوا عليه حيث قالوا: "إنه كان راضياً بقتل عثمان".
قال عبد الله شبر: "والعجب من المخالفين2 أنهم يستدلون على حقية خلافة المشايخ بسكوت علي الدال على رضاه، ولا يستدلون بسكوته عن قتل عثمان على رضاه"3.
وهذا من أظهر الكذب على علي رضي الله عنه من الشيعة الرافضة وقد قدمنا في المبحث الذي قبل هذا براءة علي من دم عثمان وعدم رضاه بذلك وأن الشيعة كاذبون مفترون عليه في أنه كان راضياً بقتله وهذا من طعنهم في علي رضي الله عنه.
ومما طعنوا به على عائشة ـ رضي الله عنه ـ: "زعمهم عليها أنها كانت في كل وقت تأمر بقتل عثمان وتقول: اقتلوا نعثلاً4 قتل الله نعثلاً ولما بلغها
__________
1ـ انظر منهاج السنة 2/186.
2ـ يقصد أهل السنة والجماعة.
3ـ حق اليقين في معرفة أصول الدين لعبد الله شبر 1/192.
4ـ كان أعداء عثمان يسمونه نعثلاً تشبيها برجل من مصر كان طويل اللحية اسمه "نعثل" النهاية في غريب الحديث 5/79-80.(3/1103)
قتله فرحت بذلك"1.
والرد على هذا الزور: يقال لهم: أولاً: أين النقل الصحيح الذي يثبت هذا عن عائشة.
ويقال ثانياً: إن المنقول عن عائشة يكذب ذلك ويبين أنها أنكرت قتله وذمت من قتله2. ودعت على أخيها محمد وغيره3 لمشاركتهم في ذلك.
ويقال لهم ثالثاً: على سبيل الفرض إن واحداً من الصحابة عائشة أو غيرها قال في ذلك كلمة على وجه الغضب لإنكاره بعض ما ينكر، فليس قوله حجة ولا يقدح في إيمان القائل ولا المقول له، بل قد يكون كلاهما ولياً لله تعالى من أهل الجنة، ويظن أحدهما جواز قتل الآخر بل يظن كفره وهو مخطيء في هذا الظن كما ثبت في الصحيحين عن علي وغيره في قصة حاطب بن أبي بلتعة وكان من أهل بدر والحديبية أن غلامه قال: يا رسول الله والله ليدخلن حاطب النار، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: كذبت إنه شهد بدراً والحديبية" 4.
وفي حديث علي أن حاطباً كتب إلى المشركين يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد غزوة الفتح فأطلع الله نبيه على ذلك، فقال لعلي والزبير: "اذهبا حتى تأتيا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب" فلما أتيا بالكتاب قال: "ما هذا يا حاطب"، فقال: والله يا رسول الله ما فعلت هذا ارتداداً ولا رضى بالكفر ولكن كنت امرأ ملصقاً في قريش ولم أكن من أنفسهم وكان من معك من المهاجرين لهم بمكة قرابات يحمون بها أهليهم فأحببت إذ فاتني ذلك أن أتخذ عندهم يداً يحمون بها قرابتي، فقال عمر رضي الله عنه: دعني أضرب
__________
1ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 2/183، وانظر الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/30، ص/164، الأنوار النعمانية 2/216.
2ـ انظر ما جاء في إنكارها قتل عثمان. تاريخ خليفة بن خياط ص/175-176.
3ـ انظر المصنف لابن أبي شيبة 15/277، تاريخ الطبري 4/513.
4ـ الحديث في صحيح مسلم4/1942 من حديث جابر رضي الله عنه.(3/1104)
عنق هذا المنافق، فقال: "إنه شهد بدراً وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" وأنزل الله تعالى فيه أول سورة الممتحنة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} 1 الآيات، وهذه القصة مما اتفق أهل العلم على صحتها، وهي متواترة عندهم معروفة عند علماء التفسير وعلماء المغازي والسير والتواريخ وعلماء الفقه وغير هؤلاء، وكان رضي الله عنه يحدث بهذا الحديث في خلافته بعد الفتنة، وروى ذلك عنه كاتبه عبد الله بن أبي رافع ليبين لهم أن السابقين مغفور لهم ولو جرى منهم ما جرى، وعثمان وطلحة والزبير أفضل باتفاق المسلمين من حاطب بن أبي بلتعة، وكان حاطب مسيئا إلى مماليكه وكان ذنبه في مكاتبته للمشركين وإعانتهم على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أعظم من الذنوب التي تضاف إلى هؤلاء ومع هذا فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتله وكذب من قال إنه يدخل النار لأنه شهد بدراً والحديبية وأخبر بمغفرة الله لأهل بدر، ومع هذا فقال عمر رضي الله عنه: "دعني أضرب عنق هذا المنافق" فسماه منافقاً واستحل قتله، ولم يقدح ذلك في إيمان واحد منهما ولا في كونه من أهل الجنة"2.
وبهذا الرد يبطل زعم الرافضة أن عائشة كانت في وقت تأمر بقتل عثمان وتقول في كل وقت "اقتلوا نعثلاً" ولما بلغها قتله فرحت بذلك، وأن هذا من اختلاق الرافضة وأكاذيبهم عليها وكلمة "نعثل" لم تعرف إلا من ألسنة قتل عثمان رضي الله عنه وأول من تفوه بهذه الكلمة منهم جبلة بن عمرو الساعدي وقد جاء بجامعة3 في يده وقال مجاهراً بوقاحته مخاطباً عثمان رضي الله عنه: "يا نعثلاً والله لأقتلنك ولأحملنك على قلوص جرباء ولأخرجنك إلى حرة النار"4.
__________
1ـ انظر الحديث في صحيح البخاري 3/200، صحيح مسلم 4/1941-1942.
2ـ منهاج السنة 2/188-189.
3ـ الجامعة: الغل يوضع في العنق.
4ـ تاريخ الأمم والملوك 4/365.(3/1105)
ولما تفوه بهذه الكلمة الخبيثة يوم الدار كانت عائشة رضي الله عنها حينذاك في مكة تلبي ربها عز وجل وتوجه قلبها إليه ولم تطرق هذه اللفظة سمعها إلا بعد رجوعها من مكة رضي الله عنها وأرضاها.
ومن مطاعنهم في حق عائشة رضي الله عنها: "أنهم يزعمون أنها سألت بعد أن قتل عثمان من تولى الخلافة، قالوا: علي، فخرجت لقتاله على دم عثمان ثم يقولون ـ وأي ذنب كان لعلي في ذلك"1.
والرد على هذا الزور:
يقال لهم: إن القول بأن عائشة وطلحة والزبير اتهموا علياً بأنه قتل عثمان وقاتلوه على ذلك كذب ظاهر وإنما طلبوا القتلة الذين كانوا تحيزوا إلى علي وهم يعلمون أن براءة علي من دم عثمان كبراءتهم وأعظم، لكن قتلة عثمان كانوا قد أووا إليه فطلبوا قتل القتلة، ولكن كانوا عاجزين عن ذلك هم وعلي لأن القوم كانت لهم قبائل يذبون عنهم، والفتنة إذا وقعت عجز العقلاء فيها عن دفع السفهاء فصار الأكابر رضي الله عنهم عاجزين عن إطفاء الفتنة وكف أهلها وهذا شأن الفتن كما قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} 2 وإذا وقعت الفتنة لم يسلم من التلوث بها إلا من عصمه الله ـ وأما قولهم ـ "فأي ذنب كان لعلي في قتله" فهذا تناقض منهم ـ فإن الرافضة يقولون: "إن علياً كان ممن يستحل قتل عثمان وترى الإعانة على قتله من الطاعات والقربات، فكيف يقول من هذا اعتقاده أي ذنب كان لعلي على ذلك وإنما يليق هذا التنزيه لعلي بأقوال أهل السنة لكن الرافضة من أعظم الناس تناقضاً"3.
ومن مطاعن الرافضة على عائشة رضي الله عنها " أنهم ينقمون عليها
__________
1ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 2/183.
2ـ سورة الأنفال آية/25.
3ـ منهاج السنة 2/192.(3/1106)
مرافقة طلحة والزبير لها عندما توجهت إلى البصرة للطلب بدم عثمان، وقصد الإصلاح بين بنيها".
قال ابن المطهر الحلي: "وكيف استجاز طلحة والزبير وغيرهما مطاوعتها على ذلك وبأي وجه يلقون رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أن الواحد منا لو تحدث مع امرأة غيره أو أخرجها من بيتها أو سافر بها كان أشد الناس عداوة له"1.
والرد على هذا الهذيان:
يقال لهم: هذا من تناقضكم وجهلكم معشر الرافضة، فإنكم ترمون عائشة بالعظائم ثم منكم من يرميها بالفاحشة التي برأها الله منها2 وأنزل بتبرئتها قرآنا يتلى إلى يوم القيامة، والعجب من أمر هؤلاء فإنهم يعظمون عائشة في هذا المقام من أجل الطعن في طلحة والزبير ولا يعلمون أن طعنهم هذا إن كان متوجهاً إليهما، فالطعن في علي بذلك أوجه، فإن طلحة والزبير كانا معظمين لعائشة موافقين لها مؤتمرين بأمرها، وهما وهي من أبعد الناس عن الفواحش والمعاونة عليها، فإن جاز للروافض أن يقدحوا فيهما بقولهم: "بأي وجه يلقون رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أن الواحد منا لو تحدث مع امرأة غيره حتى أخرجها من منزلها وسافر بها ... إلخ، كان للنواصب أن يقولوا: بأي وجه يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم من قاتل امرأته وسلط عليها أعوانه حتى عقروا بها بعيرها وسقطت من هودجها وأعداؤها حولها يطوفون بها كالمسبية التي أحاط بها من يقصد سباءها، ومعلوم أن هذا في مظنة الإهانة لأهل الرجل ... ولم يكن طلحة والزبير لا غيرهما من الأجانب يحملونها، بل كان في المعسكر من محارمها مثل عبد الله بن الزبير ابن أختها، وخلوته بها ومسه لها جائز بالكتاب والسنة والإجماع، وكذلك سفر المرأة مع ذي محرمها جائز الكتاب والسنة والإجماع، وهي لم تسافر إلا مع ذي
__________
1ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 2/183.
2ـ انظر الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/165.(3/1107)
محرمها، وأما العسكر الذين قاتلوها فلولا أنه كان في العسكر محمد بن أبي بكر مد يده إليها لمد يده إليها الأجانب، ولهذا دعت عائشة رضي الله عنها على من مد يده إليها، وقالت: يد من هذه أحرقها الله بالنار"؟، فقال: "أي أخت في الدنيا قبل الآخرة" فقالت: "في الدنيا قبل الآخرة" فأحرق بالنار بمصر1.
وبهذا الرد يبطل طعن الرافضة على عائشة رضي الله عنها بمطاوعة طلحة والزبير لها وخروجها معها إلى البصرة وأن طعنهم الذي يوجهونه إلى طلحة والزبير ينقلب ما هو أعظم منه في حق علي رضي الله عنه، فإن قالوا إن علياً كان مجتهداً فيما فعل وأنه أولى بالحق من طلحة والزبير يقال لهم أيضاً: وطلحة والزبير كانا مجتهدين.
ومما طعنوا به على عائشة رضي الله عنها زعمهم: "أن عسكرها لما أتوا البصرة نهبوا بيت المال وأخرجوا عامل علي عثمان بن حنيف الأنصاري مهاناً مع أنه من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم"2.
والرد على هذا:
إن هذه الأمور لم تقع برضاء عائشة ولا علمت بهذا العمل حتى أنها لما علمت ما حصل في حق عثمان بن حنيف اعتذرت له واسترضته، ومثل هذا العمل وقع من عسكر علي رضي الله عنه مع أبي موسى الأشعري، فقد أحرقوا بيته ونهبوا متاعه لما دخلوا الكوفة ومنهم مالك الأشتر3.
وما حصل من هؤلاء وهؤلاء لا يسوغ الطعن لا في عائشة ولا في علي
__________
1ـ منهاج السنة 2/194-195، وانظر خبر إحراق محمد بن أبي بكر: تاريخ خليفة بن خياط ص/192، تاريخ الطبري 5/104-105.
2ـ ذكر هذا الألوسي في مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/269، وانظر الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/164.
3ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/269.(3/1108)
رضي الله عنهما، فطعنهم على عائشة بهذا واضح البطلان.
ومن مطاعنهم في حق عائشة رضي الله عنها أنهم يقولون: "كيف أطاعها على خروجها إلى البصرة عشرات الآلاف من المسلمين وساعدوها على حرب علي ولم ينصر أحد منهم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم لما طلبت حقها من أبي بكر، ولا شخص واحد كلمه بكلمة واحدة"1.
والرد على هذا:
يقال لهم: إن قولكم هذا من أعظم الحجج عليكم، فإنه لا يشك عاقل أن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين كانوا يحبون النبي صلى الله عليه وسلم ويعظمونه ويعظمون قبيلته وبنته أعظم من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ولو لم يكن هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف إذا كان هو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو أحب إليهم من أهليهم وأنفسهم فلا يستريب عاقل أن قريشاً وغير قريش كانت تدين لبني عبد مناف وتعظمهم أعظم مما يعظمون بني تيم وعدي ولهذا لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وتولى أبو بكر قيل لأبي قحافة "مات رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فقال: "حدث عظيم، فمن ولي بعده؟ "قالوا: ابنك، قال: وهل رضيت بذلك بنو عبد مناف وبنو المغيرة؟ قالوا: نعم، قال: لا مانع لما أعطى الله ولا معطي لما منع"2.
فإذا كان المسلمون كلهم ليس فيهم من قال: إن فاطمة رضي الله عنها مظلومة ولا أن لها حقاً عند أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ولا أنهما ظلماها ولا تكلم أحد في هذا بكلمة واحدة، دل ذلك على أن القوم كانوا يعلمون أنها ليست مظلومة، إذ لو علموا أنها مظلومة لكان تركهم لنصرتها إما عجزاً عن نصرتها وإما إهمالاً وإضاعة لحقها، وإما بغضاً فيها، إذ الفعل الذي يقدر عليه
__________
1ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 2/183، وانظر الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 3/161-162، انظر الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف 1/292 وما بعدها.
2ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 3/184، الاستيعاب على حاشية الإصابة 2/247.(3/1109)
الإنسان إذا أراده إرادة جازمة فعله لا محالة، فإذا لم يرده ـ مع قيام المقتضي لإرادته ـ فإما أن يكون جاهلاً به أو له معارض يمنعه من إرادته، فلو كانت مظلومة مع شرفها وشرف قبيلتها وأقاربها وأن أباها أفضل الخلق وأحبهم إلى أمته وهم يعلمون أنها مظلومة، لكانوا إما عاجزين عن نصرتها، وإما أن يكون لهم معارض عارض إرادة النصر من بغضها، وكلا الأمرين باطلن فإن القوم ما كانوا كلهم عاجزين أن يتكلم واحد منهم بكلمة حق وهم كانوا أقدر على تغيير ما هو أعظم من هذا، وأبو بكر لم يكن ممتنعاً من سماع كلام أحد منهم ولا هو معروفاً بالظلم والجبروت واتفاق هؤلاء كلهم مع توفر دواعيهم على بغض فاطمة مع قيام الأسباب الموجبة لمحبتها مما يعلم بالضرورة امتناعه"1.
فلا استقامة لطعن الشيعة الرافضة على عائشة رضي الله عنها بمن خرج معها من الصحابة إلى البصرة وأن دعواهم أن ذلك العدد من الصحابة الذي يذكرونه أنهم نصروا عائشة على حرب علي ولم ينصروا ابنته على طلب حقها كل ذلك كذب وتمحل فعائشة ومن معها لم يخرجوا لحرب علي وقتاله كما يزعم ذلك الرافضة، وإنما كان خروج عائشة ومن معها لقصد الإصلاح بإقامة حد القصاص على قتلة عثمان، ومن جهلهم أنهم يستدلون بأدلة هي حجة عليهم فعندما يقولون إن عشرات الآلاف كانوا مناصرين لها ولم ينصروا فاطمة لما طلبت حقها ولم يتمكم أحد منهم ولا بكلمة واحدة، فهذا من أكبر الأدلة على أنها لم تهضم ولم تظلم مثقال حبة من خردل، وما يذكره الرافضة من أنها ظلمت من قبل الصديق أو الفاروق كله من القول بالباطل الذي لا صحة له ولا ثبوت بحال من الأحوال، ويكفينا هنا في هذا المبحث ما تقدم ذكره من مطاعنهم في أم المؤمنين ليعرف القاريء منزلة أم المؤمنين وحبيبة رسول رب العالمين عند الشيعة الرافضة وهي مطاعن كلها أكاذيب مختلقة وتقول عليها بما لم يثبت عليها أو يصدر
__________
1ـ منهاج السنة 2/196.(3/1110)
منها رضي الله عنها وأرضاها.
وأما مطاعنهم على سبيل العموم في أمهات المؤمنين جميعاً فيكفي أن نسوق في ذلك روايتين:
الأولى: ما رواه الكشي: عن ابن عباس من حديث طويل وفيه: "لما هزم علي بن أبي طالب أصحاب الجمل، بعث عبد الله بن عباس إلى عائشة يأمرها بتعجيل الرحيل وقلة العرجة، قال ابن عباس: "فأتيتها وهي في قصر خلف في جانب البصرة، قال: فطلبت الإذن عليها، فلم تأذن، فدخلت عليها من غير إذنها ـ وفيه أنه قال لها: وما أنت إلا حشية1 من تسع حشايات خلفهن بعده لست بأبيضهن لوناً ولا بأحسنهن وجهاً، ولا بأرشحهن عرقاً ولا بأنضرهن ورقاً ولا بأطرئهن أصلاً، قال ابن عباس: ثم نهضت وأتيت أمير المؤمنين عليه السلام فأخبرته بمقالتها وما رددت عليها، قال علي: أنا كنت أعلم بك حيث بعثتك"2.
الثانية: قال الطبرسي: وروى عن الباقر "ع" أنه قال: لما كان يوم الجمل وقد رشق هودج عائشة بالنبل، قال أمير المؤمنين "ع": والله ما أراني إلا مطلقها فأنشد الله رجلاً سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يا علي أمر نسائي بيدك من بعدي" لما قام فشهد؟ فقال: فقام ثلاثة عشر رجلاً فيهم بدريان وشهدوا: أنهم سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعلي بن أبي طالب "ع" "يا علي أمر نسائي بيدك من بعدي" قال: فبكت عائشة حتى سمعوا بكاءها3 ... الحديث.
هاتان الروايتان فيهما بيان موقفهم من نساء النبي الطاهرات المطهرات من
__________
1ـ الحشية: الفراش المحشو بغيره. انظر لسان العرب 14/179-180.
2ـ رجال الكثي ص/57-60.
3ـ الاحتجاج للطبرسي 1/164.(3/1111)
كل رجس.
فالرواية الأولى التي هي رواية الكشي: تبين مكانة أمهات المؤمنين عند الشيعة الرافضة وهي كما نرى أنه لا مكانة لهن عندهم، ولا قيمة لهن لديهم وأنهن بمنزلة الفراش المحشو بغيره فلا يكرمونهن ولا يحترمونهن.
والرواية الثانية التي هي رواية الطبرسي فيها بيان أنهم يعتقدون أن لعلي رضي الله عنه حق فصم عصمتهن من الرسول صلى الله عليه وسلم وحاشا علياً وابن عباس أن يصدر عنهما ما ذكر في هاتين الروايتين وما ذكر فيهما إن هو إلا اختلاق وكذب وإفك عليهما، فقد أجمع أهل العلم بالنقل والرواية والإسناد على أن الرافضة أكذب الطوائف وقد عرفوا بامتيازهم بكثرة الكذب"1 ولذا فهم يكثرون من ذكر القصص التي فيها عيب وتنقص للصحابة ويوردونها دون أسانيد، ومن السهل على كل أحد أن يذكر ما شاء بدون إسناد ورحم الله عبد لله بن المبارك حيث قال: "الإسناد من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء"2.
وهذا دأب الرافضة يكيلون المثالب في الصحابة بدون وازع ديني يردعهم ولا ضمير يؤنبهم، وهذا لا يخفى على من يعرف ما لهم في هذا الباب من المصنفات وأن جميع مطاعنهم واعتراضاتهم على الصحابة من قبيل الهذيان نسأل الله العصمة من الضلالة والخذلان.
ونختم هذا المبحث بما يجب التنبيه عليه وهو أن مطاعن الشيعة الرافضة في الصحابة نوعان: أحدهما: ما هو كذب إما كذب كله وإما محرف قد دخله من الزيادة والنقصان ما يخرجه إلى الذم والطعن.
__________
1ـ انظر منهاج السنة 1/13.
2ـ أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه 1/15، شرح السنة للبغوي 1/244.(3/1112)
النوع الثاني: ما هو صدق وأكثر هذه الأمور لهم فيها معاذير تخرجها عن أن تكون ذنوباً وتجعلها من موارد الاجتهاد التي إن أصاب المجتهد فيها فله أجران وإن أخطأ فله أجر وعامة المنقول الثابت عن الخلفاء الراشدين من هذا الباب، وما قدر من هذه الأمور ذنباً محققاً فإن ذلك لا يقدح فيما علم من فضائلهم وسوابقهم وكونهم من أهل الجنة لأن الذنب المحقق يرتفع عقابه في الآخرة بأسباب متعددة منها التوبة الماحية، ومنها الحسنات الماحية للذنوب فإن الحسنات يذهبن السيئات ومنها المصائب المكفرة، ومنها دعاء المؤمنين بعضهم لبعض وشفاعة نبيهم فما من سبب يسقط به الذم والعقاب عن أحد من الأمة إلا والصحابة أحق بذلك، فهم أحق بكل مدح ونفي كل ذم ممن بعدهم من الأمة"1.
__________
1ـ منهاج السنة النبوية 3/19.(3/1113)
المبحث التاسع: آثار في ذم الرافضة
...
المبحث التاسع: آثار عن السلف في ذم الرافضة
بعد أن أسلفنا في المباحث السابقة ما بلغ إليه الرافضة من موقف سيء نحو خيار الأمة المحمدية وهم الصحابة الكرام عموماً وخصوصاً كما رأينا كذلك معتقدهم في أمهات المؤمنين الطيبات الطاهرات لكل رجس ودنس وعُلِمَ منه أنه موقف يدل على خبث معتقده وأنه مناف للإيمان بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والقرآن، وجدنا أن سلف هذه الأمة ذموا الرافضة بما وجد فيهم من صفات ذميمة سيئة مختلفة.
فمما ذمهم به السلف الصالح عليهم رحمة الله ورضوانه أنهم أجمعوا على أن الرافضة أكذب الطوائف وأن الكذب فيهم قديم وأنهم امتازوا بكثرة الكذب1 فلم يقبلوا منهم الحديث ويردوا ما روي عنهم من الأحاديث لجرأتهم على الكذب.
فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: قال أبو حاتم الرازي: سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول: قال أشهب بن عبد العزيز سئل مالك عن الرافضة فقال: "لا تكلمهم ولا ترو عنهم فإنهم يكذبون".
وقال أيضاً: قال أبو حاتم الرازي حدثنا حرملة، قال: سمعت الشافعي يقول: "لم أر أحداً أشهد بالزور من الرافضة".
وقال مؤمل بن إهاب: سمعت يزيد بن هارون يقول: "نكتب عن كل صاحب بدعة إذا لم يكن داعية إلا الرافضة فإنهم يكذبون"2.
__________
1ـ انظر منهاج السنة 1/13.
2ـ هذه الآثار الثلاثة أوردها شيخ الإسلام في المصدر السابق أيضاً 1/13 وانظر قول الشافعي في كتاب أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة لللالكائي 7/1457.(3/1114)
وروى مسلم رحمه الله في مقدمة صحيحه عن علي بن شقيق، قال: سمعت عبد الله بن المبارك يقول على رؤوس الناس: "دعوا حديث عمرو بن ثابت1 فإنه كان يسب السلف"2.
وقال يحيى بن معين رحمه الله في تليد بن سليمان المحاربي: كذاب كان يشتم عثمان وكل من شتم عثمان أو طلحة أو أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم دجال لا يكتب عنه وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين"3.
وقال أبو العرب4: "من لم يحب الصحابة فليس بثقة ولا كرامة"5.
وقال الإمام الذهبي في ترجمة إبان بن تغلب الكوفي بعد أن ذكر أنه ثقة وهو شيعي جلد، قال: "فلقائل أن يقول كيف ساغ توثيق مبتدع وحد الثقة العدالة والإتقان؟، فكيف يكون عدلاً من هو صاحب بدعة، وجوابه على ضربين: فبدعة صغرى كغلو التشيع أو كالتشيع بلا غلو ولا تحرق فهذا كثير في التابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصدق، فلو رُد حديث هؤلاء لذهب جملة من الآثار النبوية وهذه مفسدة بينة، ثم بدعة كبرى كالرفض الكامل والغلو فيه والحط على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما والدعاء إلى ذلك فهذا النوع لا يحتج به ولا كرامة، وأيضاً: فما أستحضر الآن في هذا الضرب رجلاً صادقاً ولا مأموناً بل الكذب شعارهم والتقية والنفاق دثارهم، فكيف يقبل نقل من هذا حاله حاشا وكلا، فالشيعي الغالي في زمان السلف وعرفهم هو من تكلم
__________
1ـ هو عمرو بن ثابت بن هرمز البكري أبو محمد ويقال أبو ثابت الكوفي من الثامنة. التقريب 2/66، تهذيب التهذيب 8/9-10.
2ـ مقدمة صحيح مسلم 1/16.
3ـ تهذيب التهذيب 1/509.
4ـ هو: محمد بن أحمد بن تميم المغربي الإفريقي من أولاد أمراء المغرب توفي سنة ثلاثة وثلاثين وثلاثمائة، انظر ترجمته في تذكر الحفاظ 3/891-892.
5ـ هدي الساري ص/389.(3/1115)
في عثمان والزبير وطلحة ومعاوية وطائفة ممن حارب علياً رضي الله عنه وتعرض لسبهم والغالي في زماننا وعُرْفنا هو الذي يكفر هؤلاء السادة ويتبرأ من الشيخين أيضاً: فهو ضال مفتر"أهـ1.
وليس أهل العلم بالنقل والرواية والإسناد وحدهم هم الذين عرفوا امتياز الرافضة بأنهم أكذب الناس بل من أهل البيت من عرف فيهم ذلك.
وقد جاء نفر من الناس إلى علي بن الحسين فأثنوا عليه، فقال: "ما أكذبكم وأجرأكم على الله عز وجل، نحن من صالحي قومنا"2.
فهؤلاء النفر الذين جاءوا إلى هذا السيد الهاشمي هم من الرافضة فقد عرف أن ثناءهم عليه هم فيه كاذبون، ولذلك وصفهم بأنهم أبلغ الناس في الكذب ومن أعظمهم جرأة على الله.
ومن فساد عقولهم وانتكاس قلوبهم أنهم يحبون الكذب على علي رضي الله عنه كما يحبون ويحرصون على إيقاع غيرهم في شركهم هذا.
فقد ثبت عن الشعبي رحمه الله، أنه قال: "ما رأيت أحمق من الخشبية3 لو كانوا من الطير لكانوا رخما، ولو كانوا من البهائم لكانوا حمراً، والله لو طلبت منهم أن يملؤوا هذا البيت ذهباً على أن أكذب على علي لأعطوني ووالله
__________
1ـ ميزان الاعتدال 1/5-6.
2ـ الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة ص/167.
3ـ هم ضرب من الشيعة وسموا بالخشبية "لقولهم: إنا لا نقاتل بالسيف إلا مع إمام معصوم فقاتلوا بالخشب" منهاج السنة 1/8، وقد بين البلاذري وجه تسميتهم بهذا الاسم حيث قال: "وكان أصحاب المختار يسمون الخشبية لأن أكثرهم كانوا يقاتلون بالخشب، ويقال أنهم سموا الخشبية لأن الذي وجههم المختار إلى مكة لنصرة ابن الحنفية أخذوا بأيديهم الخشب الذي كان ابن الزبير جمع ليحرق به ابن الحنفية وأصحابه فيما زعم، ويقال: بل كرهوا دخول الحرم بسيوف مشهورة فدخلوه ومعهم الخشب ولم يسلوا سيوفهم من أغمادها"أهـ أنساب الأشراف 5/231، وانظر اللباب في تهذيب الأنساب 1/444.(3/1116)
ما أكذب عليه أبداً"1.
كما وصفهم رحمهم الله بأنهم أقل عقولاً في أهل الأهواء.
فقد قال: "نظرت في أهل الأهواء وكلمت أهلها فلم أر قوماً أقل عقلاً من الخشبية"2.
فالإمام الشعبي رحمه الله يعد من أخبر الناس بهم، ووصفه لهم بهذه الأوصاف الذميمة إنما هو من واقع أحوالهم لأنه كان بينهم في الكوفة.
ومما يذمون به أن السلف كانوا يحمدون الله تعالى أن عصمهم من سوء معتقدهم.
فقد قال أبو العالية رحمه الله: "نعمتان لله علي لا أدري أيهما أفضل أو قال أعظم أن هداني للإسلام والأخرى أن عصمني من الرافضة"3.
والأمر كمال قال رحمه الله تعالى فإن عدم الهداية لدين الإسلام والابتلاء بمذهب الرافضة كلاهما مهلكتان، بل واحدة منهما سبب واصل إلى الشقاء.
ومما ذمهم به السلف أنهم شر الفرق وشر عصابة وجدت على وجه الأرض ولم يكونوا يجيزون شهادتهم.
فقد روى أبو عبد الله بن بطة عن علي رضي الله عنه، قال: "تفترق هذه الأمة على نيف وسبعين فرقة شرها فرقة تنتحل حبنا وتخالف أمرنا"4.
وقال يونس بن عبد الأعلى: سمعت الشافعي يقول: "أجيز شهادة أهل الأهواء كلهم إلا الرافضة، فإنهم يشهدون بعضهم لبعض".
__________
1ـ ذكره شيخ الإسلام في منهاج السنة 1/6، أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة لللالكائي 7/1461.
2ـ الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة لابن بطة ص/165.
3ـ المصدر السابق ص/148.
4ـ المصدر السابق ص/169.(3/1117)
وقال يونس أيضاً: "كان الشافعي يعيب على الروافض ويقول هم شر عصابة"1.
فانظر كيف وصفهم رابع الخلفاء الراشدين علي رضي الله عنه من خلال معرفته لهم، وما عاناه في زمنه منهم، فلقد حكم عليهم بأنهم شر فرق هذه الأمة وأنهم ينتحلون حب أهل البيت انتحالاً ليسوا صادقين فيه، كما وصفهم الشافعي بأنهم أهل أهواء جميعهم وهم أهل جرأة في الشهادة حيث يشهد بعضهم لبعض زوراً وبهتاناً، وأنهم شر جماعة وجدت على وجه الأرض.
ومن صفات الذم التي نيطت بهم أن السلف رحمهم الله كانوا يكرهون الزواج منهم كما يكرهون أكل ذبائحهم لاعتقادهم ردتهم ويزجرون ويعزرون من مشى في جنائزهم وكانوا لا يرون لهم غيبة بانتقاصهم ولو كان بيوم صوم أحدهم.
فقد قال طلحة بن مصرف رحمه الله تعالى: "الرافضة لا تنكح نساؤهم ولا تؤكل ذبائحهم لأنهم أهل ردة"2.
وقال سفيان بن عيينة لرجل: من أين جئت، قال: من جنازة فلان ابن فلان، قال: لا حدثتك بحديث أستغفر الله ولا تعد نظرت إلى رجل يبغض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعت جنازته"3.
فانظر إلى هذا الإمام الجليل القدر كيف عزر هذا الرجل بحرمانه تعليمه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمجرد أنه شيع جنازة رافضي، ونظر إليه، وما ذلك إلا لشناعة مذهب الرافضة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال زائدة بن قدامة الثقفي: قلت لمنصور4: "يا أبا عتاب اليوم الذي
__________
1ـ الأثران في مناقب الشافعي للرازي ص/142.
2ـ الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة ص/161.
3ـ المصدر السابق ص/159، أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة لللالكائي 7/1458.
4ـ هو منصور بن المعتمر بن عبد الله السلمي أبو عتاب الكوفي، ثقة، ثبت، وكان لا يدلس، من(3/1118)
يصوم فيه أحدنا ينتقص فيه الذين ينتقصون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، قال: نعم"1.
ما أعظم ذب السلف رحمهم الله عن الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين فهم يرون أن لا حرج على الصائم في انتقاصه الرافضة أعداء الصحابة بذكره معتقدهم السيء، وبيان فساده ليحذره من يجهل شناعة الرافضة وقبحهم.
ومما ذمهم به السلف الصالح رحمهم الله أنهم أضعف الناس حجة وأنهم أعظم أهل الكلام وسخاً وقذراً، وكان بعض السلف لا يجرؤ على حكاية فضائحهم عندما يكون في وضوء.
فقد قال أبو عبيد القاسم بن سلام: "عاشرت الناس وكلمت أهل الكلام فما رأيت قوماً أوسخ وسخاً ولا أقذر قذراً ولا أضعف حجة ولا أحمق من الرافضة"2.
وروى أبو نعيم بإسناده إلى الحسن بن عمرو قال: قال لي طلحة بن مصرف: "لولا أني على وضوء لأخبرتك بما تقول الرافضة"3.
ومما ذُمّ به الرافضة أن السلف كانوا يتركون السكني في بلد يسب فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل إن بعضهم قام ببيع داره، فقد ذكر ابن بطة أن جرير بن عبد الله البجلي وعدي بن حاتم وحنظلة بن الربيع الكاتب خرجوا من الكوفة حتى نزلوا قرقيسيا4، وقالوا: لا نقيم ببلدة يشتم فيها عثمان بن
__________
= طبقة الأعمش، مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة. التقريب 2/277.
1ـ الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة ص/163، السنة للخلال ص/495-496.
2ـ المصدر السابق ص/163.
3ـ المصدر السابق ص/164، وأبو نعيم في الحلية 5/15، السنة للخلال ص/499.
4ـ قرقيسياء: بلد على الخابور عند منصبة وهي على الفرات جانب منها على الخابور وجانب على الفرات فوق رحبة مالك بن طوق. مراصد الأطلال للبغدادي 3/1080.(3/1119)
عفان"1.
وقال أحمد بن عبد الله بن يونس: "باع محمد بن عبد العزيز التميمي داره وقال: لا أقيم بالكوفة بلدة يشتم فيها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم2.
فهؤلاء الأسلاف لم يطيقوا البقاء ببلدة يوجد فيها من ينال من خيار هذه الأمة أو يكن لهم بغضاً وغلا في قلبه.
ومما ذمهم به السلف الصالح اعتقادهم الباطل بالرجعة لأئمتهم وأعدائهم كما يزعمون قبل يوم القيامة لينتقم أولئك الأئمة من أعدائهم ويقيمون دولتهم كما يزعمون الرجعة للأنبياء لنصرة القائم ثم تقوم دولتهم المزعمومة3، وقد كذبهم السلف الصالح رحمهم الله في هذا الإفك ووبخوهم عليه.
فقد روى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى عمرو الأصم، قال: قلت للحسن بن علي إن هذه الشيعة يزعمون أن علياً مبعوث قبل يوم القيامة، قال: "كذبوا والله ما هؤلاء بشيعته، لو علمنا أنه مبعوث ما زوجنا نساءه ولا اقتسمنا ماله4.
وفي لفظ آخر من رواية عبد الله بن الإمام أحمد بإسناده إلى عاصم بن ضمرة قال: قلت للحسن بن علي: إن الشيعة يزعمون أن علياً رضي الله عنه يرجع، قال: "كذب أولئك الكذابون، لو علمنا ذاك ما تزوج نساؤه ولا قسمنا ميراثه"5.
__________
1ـ الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة ص/164.
2ـ المصدر السابق.
3ـ انظر تفصيل اعتقادهم برجعة الأئمة ومن يرجع من الأنبياء والأوصياء عند خروج القائم ووروده إلى المدينة النبوية وإخراجه الشيخين من قبرهما وصلبه لهما ثم إحيائهما له إلى غير ذلك من الخبط في عقيدة الرجعة عندهم. الأنوار النعمانية 2/81-120، تفسير القمي 1/312-313، تفسير العياشي 2/259-260، تفسير الكاشاني 2/247-249.
4ـ المستدرك 3/145، وانظر كتاب الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة ص/166.
5ـ المسند 1/48 وهو من زيادات عبد الله على المسند وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 10/22 ثم قال عقبه: رواه عبد الله وإسناده جيد.(3/1120)
وذكر العلامة ابن كثير أن رجلاً جاء إلى الحسين بن علي فسأله: متى يبعث علي، فقال: يبعث والله يوم القيامة وتهمه نفسه"1.
وأخرج الحافظ بن عساكر أن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب قال لرجل من الرافضة: "والله لئن أمكننا الله منكم لنقطعن أيديكم وأرجلكم ثم لا نقبل منكم توبة، فقال له رجل: لم لا تقبل منهم توبة؟، قال: نحن اعلم بهؤلاء منكم، إن هؤلاء إن شاءوا صدقوكم، وإن شاءوا كذبوكم وزعموا أن ذلك يستقيم لهم في "التقية"، ويلك إن التقية هي باب رخصة للمسلم إذا اضطر إليها وخاف من ذي سلطان أعطاه غير ما في نفسه يدرأ عن ذمة الله وليست باب فضل، وإنما الفضل في القيام بأمر الله وقول الحق وايم الله ما بلغ من التقية أن يجعل بها لعبد من عباد الله أن يضل عباد الله"2.
هذه الآثار صادرة عن أئمة من أهل بيت النبوة الذين يزعم الرافضة أنهم شيعتهم، نرى أنهم كذبوهم في عقيدة الرجعة ووبخوهم على استغلالهم رخصة التقية التي جعلها الله للمسلم إن اضطر إليها عند عدوه كما قال تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} 3، وقوله: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالأِيمَانِ} 4، فقد أخرجوها عن مدلولها الذي أراده الله واستعملوها في كل أحوالهم وأمورهم فهم يظهرون ما لا يبطنون ليضللوا بذلك على من لا يعرف حقيقتهم وصدق الحسن بن الحسن فيما قاله فيهم: "نحن اعلم بهؤلاء منكم إن هؤلاء إن شاءوا صدقوكم، وإن شاءوا كذبوكم وزعموا أن ذلك يستقيم لهم في التقية كلا، لا يستقيم لهم ذلك وإنما يصبغون أنفسهم
__________
1ـ البداية والنهاية 9/120.
2ـ تهذيب تاريخ دمشق 4/168.
3ـ سورة آل عمران آية/28.
4ـ سورة النحل آية/106.(3/1121)
بصبغة المنافقين الذين يسرون ما لا يعلنون نعوذ بالله من الخذلان.
ومن صفاتهم الذميمة التي حفظها لهم السلف ودونوها لهم أنهم أهل غدر وبخل، فقد قال عبد القاهر البغدادي: "روافض الكوفة موصوفون بالغدر والبخل، وقد سار المثل بهم فيهما حتى قيل: "أبخل من كوفي وأغدر من كوفي" والمشهور عنهم ثلاث غدرات:
أحدها: أنهم بعد قتل علي رضي الله عنه بايعوا ابنه الحسن، فلما توجه لقتال معاوية غدروا به في ساباط المدائن فطعنه سنان الجعفي في جنبه فصرعه عن فرسه، وكان ذلك أحد أسباب مصالحته معاوية.
والثاني: أنهم كاتبوا الحسين بن علي رضي الله عنه ودعوه إلى الكوفة لينصروه على يزيد بن معاوية، فاغتر بهم وخرج إليهم، فلما بلغ كربلاء غدروا به وصاروا مع عبيد الله بن زياد يداً واحدة عليه، حتى قتل الحسين وأكثر عشيرته بكربلاء.
والثالث: غدرهم بزيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب بعد أن خرجوا معه على يوسف بن عمر1 ثم نكثوا بيعته وأسلموه عند اشتداد القتال حتى قتل وكان من أمره ما كان"2.
ومن صفات الذم التي لزمتهم ووصمهم بها السلف أنهم كانوا لا يرون الصلاة خلفهم ولا يرون فرقاً بين الصلاة خلفهم وخلف اليهود والنصارى ولا يجيزون أحكام قضاتهم، وكانوا يكفرون من اعتقد أن الصحابة كفروا.
قال الإمام البخاري رحمه الله: "نظرت في كلام اليهود والنصارى والمجوس فما رأيت قوماً أضل في كفرهم من الجهمية وإني لأستجهل من لا يكفرهم إلا من لا يعرف كفرهم، وقال: ما أبالي صليت خلف الجهمي
__________
1ـ يوسف بن عمر بن محمد بن الحكم أبو يعقوب الثقفي، كان والي العراقيين يومئذ بهشام بن عبد الملك انظر وفيات الأعيان 7/101-112.
2ـ الفرق بين الفرق ص/37.(3/1122)
والرافضي أم صليت خلف اليهود والنصارى"1.
وقال البغوي رحمه الله: "وكان أبو سليمان الخطابي لا يكفر أهل الأهواء الذين تأولوا فأخطأوا ويجيز شهادتهم ما لم يبلغ من الخوارج والروافض في مذهبه أن يكفر الصحابة أو من القدرية أن يكفر من خالفه من المسلمين فلا يرى الصلاة خلفهم، ولا يرى أحكام قضاتهم جائزة، ورأى السيف واستباحة الدم، فمن بلغ منهم هذا المبلغ فلا شهادة له"2.
ومما هم موصومون به وهو عار عليهم وخزي وهو معدود من قبائحهم حرمانهم أنفسهم من الصلاة لأنهم لا يغسلون أرجلهم في الوضوء كما أمر الله، وإنما يمسحون عليها3 دون أن يغسلوها، كما حرموا أنفسهم من إقامة الجماعة لبحثهم على إمام معصوم.
قال العلامة ابن الجوزي: "وقد حرموا الصلاة لكونهم لا يغسلون أرجلهم في الوضوء والجماعة لطلبهم إماماً معصوماً"4.ومن صفاتهم الذميمة أنهم أهل حمق وجهالة، فقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى صوراً من حماقاتهم الدالة على أنهم أهل جهل وضلالة حيث قال: "وأما سائر حماقاتهم فكثيرة جداً مثل كون بعضهم لا يشرب من نهر حفره يزيد مع أن النبي صلى الله عليه وسلم والذين كانوا معه يشربون من آبار وأنهار حفرها الكفار، وبعضهم لا يأكل من التوت الشامي، ومعلوم أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ومن معه كانوا يأكلون مما يجلب من بلاد الكفار من الجبن ويلبسون ما تنسجه الكفار بل غالب ثيابهم كانت من نسج الكفار، ومثل كونهم يكرهون التكلم بلفظ
__________
1ـ شرح السنة للبغوي 1/228، وانظر خلق أفعال العباد ص10.
2ـ شرح السنة للبغوي 1/228-229.
3ـ انظر مخالفتهم في مسح الأرجل في الوضوء دون غسلهما كما أمر الله. تفسير العياشي 1/297-302، تفسير الكاشاني 1/426-428، الأنوار النعمانية لنعمة الله الجزائري 2/334.
4ـ تلبيس إبليس لابن الجوزي ص/100.(3/1123)
العشرة، أو فعل شيء يكون عشرة حتى في البناء لا يبنون على عشرة أعمدة ولا بعشرة جذوع ونحو ذلك لكونهم يبغضون خيار الصحابة وهم العشرة المشهود لهم بالجنة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم أجمعين يبغضون هؤلاء إلا علي بن أبي طالب رضي الله عنه ... وكذلك هجرهم لاسم أبي بكر وعمر وعثمان ولمن يتسمى بذلك حتى يكرهون معاملته، ومعلوم أن هؤلاء لو كانوا من أكفر الناس لم يشرع أن لا يتسمى الرجل بمثل أسمائهم، فقد كان في الصحابة من اسمه الوليد وكان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يقنت في الصلاة ويقول: "اللهم أنج الوليد بن الوليد بن المغيرة" 1 وأبوه كان من أعظم الناس كفراً وهو الوحيد المذكور في قوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} 2، وفي الصحابة من اسمه عمرو وفي المشركين من اسمه عمرو بن عبد ود وأبو جهل اسمه عمرو بن هشام وفي الصحابة خالد بن سعيد بن العاص من السابقين الأولين، وفي المشركين خالد بن سفيان الهذلي وفي الصحابة من اسمه هشام مثل هشام بن حكيم وأبو جهل كان اسم أبيه هشاماً وفي الصحابة من اسمه عقبة مثل أبي مسعود عقبة بن عمرو البدري وعقبة بن عامر الجهني، وكان في المشركين عقبة بن أبي معيط، وفي الصحابة علي وعثمان وكان في المشركين من اسمه علي مثل علي بن أمية بن خلف قتل يوم بدر كافراً، ومثل عثمان بن طلحة قتل قبل أن يسلم ومثل هذا كثير فلم يكن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنون يكرهون اسماً من الأسماء لكونه قد تسمى بها كافر من الكفار ... فعلم جواز الدعاء بهذه الأسماء سواء كان ذلك المسمى بها مسلماً أو كافراً أمر معلوم من دين الإسلام فمن كره أن يدعو أحداً بها كان من أظهر الناس مخالفة لدين الإسلام، ثم مع هذا إذا تسمى الرجل عندهم باسم علي أو
__________
1ـ انظر الحديث صحيح البخاري 1/178، صحيح مسلم 1/467.
2ـ انظر جامع البيان عن تأويل آي القرآن 29/152.(3/1124)
جعفر أو حسن أو حسين أو نحو ذلك عاملوه وأكرموه ولا دليل لهم في: على أنه منهم والتسمية بتلك الأسماء قد تكون فيهم فلا يدل على أن المسمى من أهل السنة لكن القوم في غاية الجهل والهوى.
ومن حماقاتهم أيضاً: "أنهم يجعلون للمنتظر عدة مشاهد ينتظرونه فيها كالسرداب الذي بسامرا الذي يزعمون أنه غائب فيه ومشاهد أخر وقد يقيمون هناك دابة إما بغلة وإما فرساً وإما غير ذلك ليركبها إذا خرج ويقيمون إما في طرفي النهار وإما في أوقات أخر من ينادي عليه بالخروج يا مولانا اخرج ويشهرون السلاح ولا أحد هناك يقاتلهم وفيهم من يقوم في أوقات دائماً لا يصلي خشية أن يخرج وهو في الصلاة، فيشتغل بها عن خروجه وخدمته وهم في أماكن بعيدة عن مشهده ... يتوجهون إلى المشرق وينادونه بأصوات عالية يطلبون خروجه ومن المعلوم أنه لو كان موجوداً وقد أمره الله بالخروج فإنه يخرج سواء نادوه أو لم ينادوه وإن لم يؤذن له فهو لا يقبل منهم وأنه إذا خرج فإن الله يؤيده ويأتيه بما يركبه وبمن يعينه وينصره لا يحتاج أن يوقف له دائماً من الآدميين من ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً والله سبحانه وتعالى قد عاب في كتابه من يدعو من لا يستجيب له دعاءه فقال تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} 1 هذا مع أن الأصنام موجودة وكان يكون بها أحياناً شياطين تترائى لهم وتخاطبهم ومن خاطب معدوماً كانت حالته أسوأ من حال من خاطب موجوداً وإن كان جماداً فمن دعا المنتظر الذي لم يخلقه الله كان ضلاله أعظم من ضلال هؤلاء، وإذا قال أنا أعتقد وجوده كان بمنزلة قول أولئك نحن نعتقد أن هذه الأصنام لها شفاعة عند الله فيعبدون {مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ
__________
1ـ سورة فاطر آية/13-14.(3/1125)
وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} والمقصود أن كليهما يدعو من لا ينفع دعاؤه وإن كان أولئك اتخذوهم شفعاء آلهة وهؤلاء يقولون هو إمام معصوم فهم يوالون عليه ويعادون عليه كمولاة المشركين على آلهتهم ويجعلونه ركناً في الإيمان لا يتم الدين إلا به كما يجعل بعض المشركين آلهتهم كذلك.
ومن حماقاتهم: تمثيلهم لمن يبغضونه مثل اتخاذهم نعجة وقد تكون نعجة حمراء لكون عائشة تسمى الحميراء يجعلونها عائشة ويعذبونها بنتف شعرها بغير ذلك ويرون أن ذلك عقوبة لعائشة، ومثل اتخاذهم حلسا مملوءاً سمناً ثم يشقون بطنه فيخرج السمن فيشربونه ويقولون هذا مثل ضرب عمر وشرب دمه، ومثل تسمية بعضهم لحمارين من حمر الرحا أحدهما بأبي بكر والآخر بعمر ثم عقوبة الحمارين جعلا منهم تلك العقوبة عقوبة لأبي بكر وعمر، وتارة يكتبون أسماءهم على أسفل أرجلهم حتى إن بعض الولاة جعل يضرب رجلي من فعل ذلك ويقول إنما ضربت أبا بكر وعمر ولا أزال أضربها حتى أعدمها، ومنهم من يسمي كلابه باسم أبي بكر وعمر ويلعنهما ومنهم من إذا سمى كلبه فقيل له بكير يضارب من يفعل ذلك ويقول تسمى كلبي باسم أصحاب النار، ومنهم من يعظم أبا لؤلؤة الكافر الذي كان غلاماً للمغيرة بن شعبة لما قتل عمر ويقولون وأثارات أبي لؤلؤة فيعظمون كافراً مجوسياً باتفاق المسلمين لكونه قتل عمر رضي الله عنه.
ومن حماقاتهم: إظهارهم لما يجعلونه مشهداً فكم كذبوا الناس وادعوا أن في هذا المكان ميتاً من أهل البيت وربما جعلوه متقولاً فيبنون ذلك مشهداً وقد يكون ذلك قبر كافر أو قبر بعض الناس ويظهر ذلك بعلامات كثيرة ومعلوم أن عقوبة الدواب المسماة بذلك ونحو هذا الفعل لا يكون إلا من فعل أحمق الناس وأجهلهم، فإنه من المعلوم أنا لو أردنا أن نعاقب فرعون وأبا لهب وأبا جهل وغيرهم ممن ثبت بإجماع المسلمين أنهم من أكفر الناس مثل هذه العقوبة لكان هذا من أعظم الجهل لأن ذلك لا فائدة فيه بل إذا قتل كافر يجوز قتله أو مات(3/1126)
حتف أنفه لم يجز بعد قتله أو موته أن يمثل به، فلا يشق بطنه أو يجدع أنفه وأذنه ولا تقطع يده إلا أن يكون ذلك على سبيل المقابلة ... فهؤلاء الذين يبغضونهم لو كانوا كفاراً وقد ماتوا لم يكن لهم بعد موتهم أن يمثلوا بأبدانهم لا يضربونهم ولا يشقون بطونهم ولا ينتفون شعورهم مع أن في ذلك نكاية فيهم، أما إذا فعلوا ذلك بغيرهم ظناً أن ذلك يصل كان غاية الجهل، فكيف إذا كان بمحرم كالشاة التي يحرم إيذاؤها بغير الحق فيفعلون ما لا يحصل لهم به منفعة أصلاً بل ضرر في الدين والدنيا والآخرة مع تضمنه غاية الحمق والجهل.
ومن حماقاتهم: إقامة المأتم والنياحة على من قتل من سنين عديدة ومن المعلوم أن المقتول وغيره من الموتى إذا فعل مثل ذلك بهم عقب موتهم كان ذلك مما حرمه الله ورسوله، فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: "ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية" 1 ... وهؤلاء يأتون من لطم الخدود وشق الجيوب ودعوى الجاهلية وغير ذلك من المنكرات بعد الموت بسنين كثيرة ما لو فعلوه عقب موته لكان ذلك من أعظم المنكرات التي حرمها الله ورسوله فكيف بعد هذه المدة الطويلة، ومن المعلوم أنه قتل من الأنبياء وغير الأنبياء ظلماً وعدواناً من هو أفضل من الحسين قتل أبوه وهو أفضل منه، وقتل عثمان بن عفان وكان قتله أول الفتن العظيمة التي وقعت بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وترتب عليه من الشر والفساد أضعاف ما ترتب على قتل الحسين وقتل غير هؤلاء ومات وما فعل أحد من المسلمين ولا غيرهم مأتماً ولا نياحة على ميت ولا قتيل بعد مدة طويلة من قتله إلا هؤلاء الحمقى الذين لو كانوا من الطير لكانوا رخماً ولو كانوا من البهائم، لكانوا حمراً، ومن ذلك أن بعضهم لا يوقد خشب الطرفاء لأنه بلغه أن دم الحسين وقع على شجرة من الطرفاء ومعلوم أن تلك الشجرة بعينها لا يكره وقودها، ولو كان
__________
1ـ الحديث في صحيح البخاري 1/225، صحيح مسلم 1/99.(3/1127)
عليها أي دم كان فكيف بسائر الشجر الذي لم يصبه الدم"1.
فشيخ الإسلام رحمه الله تعالى بين للأمة جميعاً بهذا النص حماقاتهم وما اتصفوا به من الصفات الذميمة السيئة البغيضة في الإسلام كما أوضح رحمه الله أن هذه الخلال المبغوضة موجودة في مختلف فرق الشيعة الرافضة وحماقاتهم التي ذكرها رحمه الله فيها دلالة على أنهم أهل جهل يتبعون أهواءهم ويضربون صفحاً عن هدي الله ورسوله.
__________
1ـ منهاج السنة 1/9-12.(3/1128)
المبحث الأول: نشأة الخوارج
قبل أن أذكر بداية نشأة الخوارج وتطورهم، نذكر تعريف أهل العلم لهم:
فقد بين أبو الحسن الأشعري أن اسم الخوارج يقع على تلك الطائفة الذين خرجوا على رابع الخلفاء الراشدين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وبين أن خروجهم على علي هو العلة في تسميتهم بهذا الاسم، حيث قال رحمه الله تعالى: "والسبب الذي سموا له خوارج خورجهم على علي بن أبي طالب لما حكم"1.
وأما ابن حزم فقد بين أن اسم الخارجي يتعدى إلى كل من أشبه أولئك النفر الذين خرجوا على علي رضي الله عنه وشاركهم في معتقدهم، فقد قال: "ومن وافق الخوارج من إنكار التحكيم وتكفير أصحاب الكبائر والقول بالخروج على أئمة الجور وأن أصحاب الكبائر مخلدون في النار وأن الإمامة جائزة في غير قريش فهو خارجي وإن خالفهم فيما عدا ذلك فيما اختلف فيه المسلمون خالفهم فيما ذكرنا فليس خارجياً"2.
وأما الشهرستاني: فقد عرف الخوارج بتعريف عام اعتبره فيه الخروج على الإمام الذي اجتمعت الكلمة على إمامته الشرعية خروجاً في أي زمن كان، حيث قال في تعريفه للخوارج:
"كل من خرج على الإمام الحق الذي اتفقت الجماعة عليه يسمى خارجياً
__________
1ـ مقالات الإسلاميين 1/207.
2ـ الفصل في الملل والأهواء والنحل 2/113.(3/1133)
أهل العراق أبا موسى الأشعري، واختار أهل الشام عمرو بن العاص، فتفرق أهل صفين حين حكم الحكمان وأنهما يجتمعان بدومة الجندل فإن لم يجتمعا لذلك اجتمعا من العام المقبل بأذرح، فلما انصرف علي خالفت الحرورية وخرجت وكان ذلك أول ما ظهرت ـ فآذنوه بالحرب وقالوا: لا حكم إلا الله"1.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير الطبري من طريق أبي رزين قال: لما كانت الحكومة بصفين وباين الخوارج علياً، رجعوا مباينين له، وهم في عسكر وعلي في عسكر، حتى دخل علي الكوفة مع الناس بعسكره، ومضوا هم إلى حروراء في عسكرهم، فبعث علي إليهم ابن عباس، فكلمهم، فلم يقع منهم موقعاً فخرج علي إليهم، فكلمهم حتى أجمعوا هم وهو على الرضا، فرجعوا حتى دخلوا الكوفة على الرضا منه ومنهم، فأقاموا يومين أو نحو ذلك، قال: فدخل الأشعث بن قيس وكان يدخل على علي، فقال: إن الناس يتحدثون أنك رجعت لهم عن كفرك، فلما كان الغد الجمعة صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، فخطب فذكرهم ومباينتهم الناس وأمرهم الذي فارقوه فيه، فعابهم وعاب أمرهم، قال: فلما نزل على المنبر تنادوا من نواحي المسجد لا حكم إلا الله، فقال علي: حكم الله أنتظر فيكم، ثم قال بيده هكذا يسكتهم بالإشارة وهو على المنبر حتى أتى رجل2 منهم واضعاً أصبعيه في أذنيه وهو يقول: "لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين"3.
ففي هذين الخبرين تحديد لبداية بذرة الخوارج المارقين وأن أول خروجهم كان على علي رضي الله عنه، بعد أن وافق على التحكيم واعتبروا التحكيم خطيئة تؤدي إلى الكفر مع أنهم هم الذين أكرهوا علياً رضي الله عنه على قبوله عندما رفع أصحاب معاوية رضي الله عنه المصاحف.
__________
1ـ انظر تاريخ الأمم والملوك 5/57.
2ـ هو: سعيد البكائي كما في تاريخ الطبري 5/73.
3ـ مصنف ابن أبي شيبة 15/312-313، تاريخ الأمم والملوك 5/73-74.(3/1135)
"ولما بعث علي أبا موسى ومن معه من الجيش إلى دومة الجندل اشتد أمر الخوارج وبالغوا في النكير على علي وصرحوا بكفره فجاءه رجلان منهم وهما: زرعة بن البرج الطائي، وحرقوص بن زهير السعدي، فقالا: لا حكم إلا لله، فقال علي: لا حكم إلا لله، فقال له حرقوص، تبارك وتعالى من خطئتك واذهب بنا إلى عدونا حتى نقاتلهم حتى نلقى ربنا، فقال علي: قد أردتكم على ذلك فأبيتم، وقد كتبنا بيننا وبين القوم عهوداً وقد قال الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} 1، فقال له حرقوص: ذلك ذنب ينبغي أن نتوب منه، فقال علي: ما هو بذنب ولكنه عجز من الرأي، وقد تقدمت إليكم فيما كان منه ونهيتكم عنه، فقال له زرعة بن البرج: أما والله يا علي لئن لم تدع تحكيم الرجال في كتاب الله لأقاتلنك أطلب بذلك رحمة الله ورضوانه، فقال علي: تباً لك ما أشقاك، كأني بك قتيلاً تسفى عليك الريح، فقال: ووددت أن قد كان ذلك، فقال له علي: إنك لو كنت محقاً كان في الموت تعزية عن الدنيا، ولكن الشيطان قد استهواكم"2.
ولما رأوا عزم علي على إنفاذ الحكومة وبعثه أبا موسى الأشعري قرروا الانفصال عنه وتعيين أمير عليهم، فاجتمعو في منزل عبد الله بن وهب الراسبي فخطبهم خطبة بليغة زهدهم في الدنيا ورغبهم في الآخرة والجنة وحثهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم قال: فاخرجوا بنا إخواننا من هذه القرية الظالم أهلها إلى جانب هذا السواد، إلى بعض كور الجبال أو بعض هذه المدائن منكرين لهذه الأحكام الجائرة، ثم قام حرقوص بن زهير فقال بعد حمد الله والثناء عليه: إن المتاع لهذه الدنيا قليل وإن الفراق لها وشيك فلا تدعونكم زينتها أو بهجتها إلى
__________
1ـ سورة النحل آية/91.
2ـ تاريخ الأمم والملوك 5/72، الكامل في التاريخ 3/334، البداية والنهاية 7/311.(3/1136)
المقام بها ولا تلتفت بكم عن طلب الحق وإنكار الظلم {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} 1.
فقال حمزة بن سنان الأسدي: "يا قوم إن الرأي ما رأيتم وإن الحق ما ذكرتم، فولوا أمركم رجلاً منكم، فإنه لا بد لكم من عماد وسنان ومن راية تحفون بها، وترجعون إليها فبعثوا إلى زيد بن حسن الطائي ـ وكان من رؤوسهم ـ فعرضوا عليه الإمارة فأبى ثم عرضوها على حرقوص بن زهير فأبى، وعرضوها على حمزة بن سنان فأبى، وعرضوها على شريح بن أبي أوفى العبسي فأبى، وعرضوها على عبد الله بن وهب الراسبي فقبلها، وقال: أما والله لا أقبلها رغبة في دنيا ولا أدعها فرقاً من الموت"2.
واجتمعوا أيضاً في بيت زيد بن حصن الطائي السنبسي فخطبهم وحثهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتلا عليهم آيات من القرآن، منها قوله تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} 3 الآية، وقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} والآية التي بعدها وفيها {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ، والآية التي في نهايتها {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} 4، ثم قال: فاشهد على أهل دعوتنا من أهل قبلتنا أنهم قد اتبعوا الهوى ونبذوا حكم الكتاب، وجاروا في القول والأعمال، وأن جهادهم حق على المؤمنين، فبكى رجل منهم يقال له: عبد الله بن شجر السلمي، ثم حرض أولئك على الخروج على الناس وقال في كلامه:
__________
1ـ سورة النحل آية/128.
2ـ انظر تاريخ الطبري 5/74-75، الكامل في التاريخ 3/334-335، البداية والنهاية 7/312.
3ـ سورة ص آية/26.
4ـ الآيات رقم 44، 45، 47، من سورة المائدة.(3/1137)
اضربوا وجوههم وجباههم بالسيوف حتى يطاع الرحمن الرحيم، فإن أنتم ظفرتم وأطيع الله كما أردتم ـ أثابكم ثواب المطيعين له العاملين بأمره، وإن فشلتم فأي شيء أفضل من المصير إلى رضوان الله وجنته؟ 1.
قال العلامة ابن كثير بعد أن ذكر ما أملاه الشيطان لهم بما تقدم ذكره: "وهذا الضرب من الناس من أغرب أشكال بني آدم، فسبحان من نوع خلقه كما أراد وسبق في قدره العظيم، وما أحسن ما قال بعض السلف2 في الخوارج: إنهم المذكورون في قوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} 3.
والمقصود أن هؤلاء الجهلة الضلال، والأشقياء في الأقوال والأفعال اجتمع رأيهم على الخروج من بين أظهر المسلمين، وتواطئوا على المسير إلى المدائن ليملكوها على الناس ويتحصنوا بها، ويبعثوا إلى إخوانهم وأضرابهم ممن هم على رأيهم ومذهبهم من أهل البصرة وغيرها ـ فيوافوهم إليها، ويكون اجتماعهم عليها، فقال لهم زيد بن حصن الطائي: إن المدائن لا تقدرون عليها، فإن بها جيشاً لا تطيقونه وسيمنعونها منكم ولكن واعدوا إخوانكم إلى جسر نهر جوخى ولا تخرجوا من الكوفة جماعات، ولكن اخرجوا وحداناً لئلا يفطن بكم فكتبوا كتاباً عاماً إلى من هو على مذهبهم ومسلكهم من أهل البصرة وغيرها وبعثوا به إليهم ليوافوهم إلى النهر ليكونوا يداً واحدة على الناس، ثم خرجوا يتسللون وحداناً لئلا يعلم أحد بهم فيمنعوهم من الخروج، فخرجوا من بين الآباء والأمهات والأخوال والخالات وفارقوا سائر القرابات يعتقدون بجهلهم وقلة علمهم وعقلهم أن هذا الأمر يرضي رب الأرض والسموات، ولم يعلموا أنه من أكبر الكبائر
__________
1ـ البداية والنهاية 7/312.
2ـ هذا الأثر مروي عن علي رضي الله عنه. انظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور 5/465.
3ـ سورة الكهف آية/103-105.(3/1138)
الموبقات والعظائم والخطيئات وأنه مما زينه لهم إبليس الشيطان الرجيم المطرود عن السموات الذي نصب العداوة لأبينا آدم، ثم لذريته ما دامت أرواحهم في أجسادهم مترددات وقد تدارك جماعة من الناس بعض أولادهم وإخوانهم، فردوهم وأنبوهم ووبخوهم، فمنهم من استمر على الاستقامة، ومنهم من فرّ بعد ذلك فلحق بالخوارج فخسر إلى يوم القيامة، وذهب الباقون إلى ذلك الموضع ووافى إليهم من كانوا كتبوا إليه من أهل البصرة وغيرها، واجتمع الجميع بالنهروان وصارت لهم شوكة ومنعة"1.
هكذا كانت بداية نشأة الخوارج في أول أمرهم على هذا النحو المتقدم ذكره ومن أهل العلم من يرجع بداية نشأة الخوارج إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم ويجعل أول الخوارج ذا الخويصرة الذي اعترض على الرسول صلى الله عليه وسلم في قسمة ذهب كان قد بعث به علي ـ رضي الله عنه ـ من اليمن في جلد مقروظ، فقد جاء عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: بعث علي بن أبي طالب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليمن بذهبة في أديم مقروظ2 لم تحصل من ترابها3، قال: فقسمها بين أربعة نفر: بين عيينة بن حصن والأقرع بن حابس وزيد الخيل والرابع إما علقمة بن علاثة وإما عامر بن الطفيل، فقال رجل من أصحابه: كنا نحن أحق بهذا من هؤلاء، قال: فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر السماء صباحاً ومساء" قال: فقام رجل غائر العينين مشرف الوجنتين ناشز الجبهة4 كث اللحية محلوق الرأس مشمر الإزار، فقال: يا رسول الله اتق الله فقال: "ويلك! أولست أحق أهل الأرض أن يتقي الله" قال: ثم ولى الرجل، فقال خالد بن الوليد يا رسول الله ألا أضرب
__________
1ـ البداية والنهاية 7/312-313.
2ـ أي: في جلد مدبوغ بالقرظ.
3ـ أي: لم تميز ولم تصف من تراب معدنها.
4ـ أي: مرتفع الجبهة.(3/1139)
عنقه، فقال: "لا لعله أن يكون يصلي"، قال خالد: وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس 1 ولا أشق بطونهم، قال: ثم نظر إليه وهو مقف 2، فقال: إنه يخرج من ضئضئي3 هذا قوم يتلون كتاب الله رطباً لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية"، قال: أظنه قال: "لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود" 4.
قال العلامة ابن الجوزي عند هذا الحديث: "أول الخوارج وأقبحهم حالة ذو الخويصرة التميمي، وفي لفظ: أنه قال له: "اعدل" فقال: "ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل" 5، فهذا أول خارجي خرج في الإسلام وآفته أنه رضي برأي نفسه، ولو وقف لعلم أنه لا رأي فوق رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباع هذا الرجل هم الذي قاتلوا علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ "6.
وممن أشار بأن أول الخوارج ذو الخويصرة: أبو محمد بن حزم7، وكذا الشهرستاني فإنه قال في كتابه الملل والنحل8 في صدد تعريفه للخوارج حيث قال: "وهم الذين أولهم ذو الخويصرة وآخرهم ذو الثدية"أهـ.
ومن العلماء من يرى بأن نشأة الخوارج بدأت بالخروج على عثمان رضي الله عنه بإحداثهم الفتنة التي أدت إلى قتله رضي الله عنه ظلماً وعدوانا
__________
1ـ "لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس" أي: أفتش وأكشف ومعناه: إني أمرت بالحكم بالظاهر والله يتولى السرائر.
2ـ أي: مول.
3ـ ضئضئي: أي: هو بضاضين معجمتين مكسورتين وأخرى مهموز وهو أصل الشيء.
4ـ صحيح البخاري 2/232، صحيح مسلم 2/742.
5ـ انظر صحيح مسلم 2/740.
6ـ تلبيس إبليس لابن الجوزي ص/90.
7ـ انظر الفصل في الملل والأهواء والنحل 4/157.(3/1140)
وسميت تلك الفتنة التي أحدثوها بالفتنة الأولى.
قال شارح الطحاوية: "فالخوارج والشيعة حدثوا في الفتنة الأولى"1.
وقد أطلق العلامة ابن كثير على الثوار الذين ثاروا على عثمان وقتلوه اسم الخوارج، حيث قال في صدد ذكره لهم بعد قتلهم عثمان رضي الله عنه قال: "وجاء الخوارج فأخذوا مال بيت المال وكان فيه شيء كثير جداً"أهـ2.
والرأي الراجح في بداية نشأة الخوارج وتكونهم أنها كانت بانفصالهم عن جيش علي وخروجهم عليه بعد الاتفاق على التحكيم بينه وبين معاوية رضي الله عنه عنهما وعلى الرغم من الارتباط القوي بين ذي الخويصرة وبين الخوارج فإن الخوارج لم يظهروا على شكل جماعي وطائفي إلا بعد حادثة التحكيم حيث فارقوا الجماعة وانحازوا إلى قرية من قرى الكوفة تسمى "حروراء"، وعينوا لهم أميراً للقتال وأميراً للصلاة والاتجاه الخارجي الذي تمثل في تلك الجماعة التي خرجت على علي رضي الله عنه وانفصلت من جيشه قد وردت الإشارة إليه في أحاديث كثيرة سيأتي بيانها في "المبحث الرابع" من هذا الفصل، وكلها أشارت إلى أوصافهم وذمهم والأمر بقتالهم، وأما ذو الخويصرة فإن اعتراضه على الرسول صلى الله عليه وسلم كان اعتراض فرد وليس اعتراض جماعة حتى يسمى خروجاً وإن اعتبر سلفاً للخوارج الذين يأتون من بعده فهناك فرق بين نزعة الاعتراض الفردي وبين الخروج على شكل جماعي له اتجاهه وآرؤه الخاصة كخروج الخوارج على علي رضي الله عنه.
وأما القول بأن نشأتهم بدأت بثورة الثائرين على عثمان رضي الله عنه فلا شك أن ما حدث كان خروجاً عن طاعة الإمام الحق إلا أن هذا الخروج لم يكن يتميز بأنه خروج جماعة لها عقائدها الواضحة وآراؤها المتميزة، وإنما كان خروجاً
__________
1ـ شرح العقيدة الطحاوية ص/593.
2ـ البداية والنهاية 7/207.(3/1141)
من قوم أهل جهل وبغي وتعنت وأهل ظلم وخيانة وافتراء، ولذلك صمموا بعد استحواذ الشيطان عليهم على قتله رضي الله عنه، ثم فروا من المدينة ودخلوا في صفوف المسلمين كأفراد منهم، وانتقم الله منهم جماعات وفرادى في موقعتي الجمل وصفين وغيرهما. فنشأة الخوارج بدأت بتلك الجماعة الذين انفصلوا من جيش علي رضي الله عنه، ثم لحق بهم ناس آخرون من أهل الكوفة والبصرة جماعات ووحداناً، حتى اجتمع الجميع بالنهروان وصارت لهم بعد ذلك شوكة ومنعة كما تقدم قريباً.(3/1142)
الفصل الثاني: ردود أهل السنة على مطاعن الخوارج والنواصب في الصحابة
المبحث الأول: نشأة الخوارج
...
سواء كان الخروج في أيام الصحابة على الأئمة الراشدين أو كان بعدهم على التابعين بإحسان والأئمة في كل زمان"1.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى معرفاً لهم: "والخوارج الذين أنكروا على علي التحكيم وتبرؤوا منه ومن عثمان وذريته وقاتلوهم، فإن أطلقوا تكفيرهم فهم الغلاة منهم"2.
وقال في تعريف آخر:"أما الخوارج فهم جمع خارجة، أي: طائفة وهو قوم مبتدعون سموا بذلك لخروجهم عن الدين وخروجهم على خيار المسلمين3.
فالخوارج هم أولئك النفر الذين خرجوا على علي رضي الله عنه بعد قبوله التحكيم بعد موقعة صفين ولهم ألقاب أخرى عرفوا بها غير لقب "الخوارج" ومن تلك الألقاب: الحرورية4، والشراة5، والمارقة، والمحكمة6، وهم يرضون بهذه الألقاب كلها إلا بالمارقة فإنهم ينكرون أن يكونوا مارقة من الدين كما يمرق السهم من الرمية"7.
وأما بداية نشأتهم فإنها كانت بعد حصول الاتفاق على التحكيم بين علي ومعاوية سنة سبع وثلاثين، فقد أخرج الطبري من طريق سليمان بن يونس بن يزيد عن الزهري أن أهل الشام نشروا المصاحف حين كاد أهل العراق أن يغلبوهم ودعوا إلى ما فيها، فهاب أهل العراقين، فعند ذلك حكموا الحكمين، فاختار
__________
1ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/114.
2ـ هدي الساري مقدمة فتح الباري ص/459.
3ـ فتح الباري 12/183.
4ـ سموا بهذا الاسم، لنزولهم بحروراء في أول أمرهم.
5ـ سموا شراة لقومهم: شرينا أنفسنا في طاعة الله، أي: بعناها بالجنة.
6ـ سموا بهذا الاسم: لإنكارهم الحكمين، وقولهم: لا حكم إلا لله.
7ـ مقالات الإسلاميين 1/207.(3/1034)
المبحث الثاني: التعريف بأهم فرق الخوارج
لقد تشعبت الخوارج إلى فرق عدة بلغ بها بعض أهل العلم ممن كتب في الملل والنحل إلى عشرين فرقة1، وعند النظر في هذه الفرق من خلال الكتب التي ألفت في الفرق يتضح أن الخلاف والنزاع بينها لم يكن في أمور مهمة تؤدي إلى تكوين جماعات مستقلة، بل إن معظم نزاعهم كان يحصل في كثير من أحوالهم حول أمور فرعية، ومن ذلك العدد الكثير الذي ذكر في تعداد فرقهم، نذكر هنا أهم فرقهم المتمثلة في المحكمة الأولى، والأزارقة، والنجدات، والصفرية، والإباضية، وما عداها من الفرق فهي متفرعة منها وداخلة فيها.
المحكمة الأولى:
يقصد بالمحكمة الأولى أولئك الذين خرجوا على الخليفة الرابع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهم الذين أعلنوا شعار "لا حكم إلا لله" والتفوا حوله وقد اختلف في أول من نادى بهذا الشعار منهم، فقيل: إنه عروة بن حدير2 أخو مرداس الخارجي، وقيل إن أول من نادى به يزيد بن عاصم المحاربي وقيل: إنه رجل من بني يشكر، كان مع علي رضي الله عنه بصفين، ولما
__________
1ـ انظر الفرق بين الفرق ص/72، التبصير في الدين ص/45.
2ـ هو: عروة بن عمرة بن حدير التميمي، من رجال النهروان، وسيفه أول ما سل من سيوف أباة التحكيم، وذلك أنه عاتب الأشعث بن قيس على رضاه بالتحكيم بين علي ومعاوية، ولم يعبأ به الأشعث فشهر سيفه وضربه، فأصاب عجز بغلته وحضر حرب النهروان، وعاش إلى زمن معاوية وقتله زياد بن أبيه سنة ثمان وخمسين، انظر ترجمته في الكامل في التاريخ لابن الأثير 3/517-518، الكامل للمبرد 2/128، 165، الأعلام 5/16-17.(3/1143)
اتفق الفريقان على التحكيم ركب وحمل على أصحاب علي، وقتل منهم واحداً، ثم حمل على أصحاب معاوية، وقتل منهم واحداً، ثم نادى بين العسكرين أنه بريء من علي ومعاوية، وأنه خرج من حكمهم، فقتله رجل من همدان، ثم إن جماعة ممن كانوا مع علي رضي الله عنه في حرب صفين استمعوا منه ذلك الكلام واستقرت في قلوبهم تلك الشبهة، ورجعوا مع علي إلى الكوفة، ثم فارقوه ورجعوا إلى حروراء"1، ولما استقروا في حروراء كانوا يعاملون من يخالفهم من المسلمين في رأيهم أبشع معاملة وأشد قسوة.
قال أبو الحسين الملطي واصفاً ما بلغوا إليه من ظلم وإجرام: "فأما الفرقة الأولى من الخوارج، فهم المحكمة الذين كانوا يخرجون بسيوفهم فيمن يلحقون من الناس، فلا يزالون يقتلون حتى يقتلوا وكان الواحد منهم إذا خرج للتحكيم لا يرجع حتى يقتل أو يقتل، فكان الناس منهم على وجل وفتنة"2.
ومن أبشع جرائمهم وأفظعها قتلهم عبد الله بن خباب بن الأرت، فقد روى الإمام أحمد بإسناده إلى حميد بن هلال عن رجل من عبد القيس كان مع الخوارج ثم فارقهم، قال: دخلوا قرية فخرج عبد الله بن خباب ذعراً يجر رداءه، فقالوا: لم ترع، قال: والله لقد رعتموني، قالوا: أنت عبد الله بن خباب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: نعم، قالوا: فهل سمعت من أبيك حديثاً يحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحدثناه، قال: نعم، سمعته يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه ذكر فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، قال: فإن أدركت ذاك فكن عبد الله المقتول، قال أيوب: ولا أعلمه، قال: ولا تكن عبد لله القاتل، قالوا: أأنت سمعت هذا
__________
1ـ التبصير في الدين ص/45-46، وانظر مقالات الإسلاميين 1/207-209، الفرق بين الفرق ص/74-75، تاريخ الأمم والملوك 5/72 وما بعدها، الكامل في التاريخ 3/326 وما بعدها، مروج الذهب للمسعودي 3/125.
2ـ التنبيه والرد على أهواء والبدع ص/51.(3/1144)
من أبيك يحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: نعم، قال: فقدموه على ضفة النهر فضربوا عنقه، فسال دمه كأنه شراك نعل ما امذقر1 وبقروا أم ولده عما في بطنها"2.
وكان الذي تولى قتله منهم رجل يقال له: مسعر بن فدكي3.
وذكر عبد القاهر أن رجلاً منهم شد عليه يقال له: "مسمع" فجرى دمه فوق ماء النهر كالشراك إلى الجانب الآخر، ثم إنهم دخلوا منزله وكان في القرية التي قتلوه على بابها، فقتلوا ولده وجاريته أم ولده، ثم عسكروا بنهروان4.
وقد بلغ علياً رضي الله عنه نبأ قتلهم عبد الله بن خباب وقتلهم الكثير من الأطفال والنساء، وقد كان رضي الله عنه متأهباً للعودة إلى صفين لمقاتلة أهل الشام، فرأى أن العودة لمقاتلة هؤلاء المفسدين أولى فكان في ذلك خيرة له ولأهل الشام فرجع إلى النهروان، "فقاتلهم مقاتلة شديدة وكان عددهم اثنى عشر ألفاً فما انفلت منهم إلا أقل من عشرة، وما قتل من أصحاب علي إلا أقل من عشرة، فانهزم اثنان منهم إلى عمان، واثنان إلى كرمان واثنان إلى سجستان واثنان إلى الجزيرة، وواحد إلى تل موزن5.
وظهرت بدع الخوارج في هذه المواضع منهم6، وقد انمحت بدعهم في بعض هذه الأماكن نهائياً، وبعضها باقية فيها إلى اليوم.
__________
1ـ معناه أنه مر فيه كالطريقة الواحدة لم يختلط به ولذلك شبهه بالشراك الأحمر وهو سيور النعل. أهـ النهاية في غريب الحديث 4/212.
2ـ المسند 5/110.
3ـ مقالات الإسلاميين 1/210.
4ـ الفرق بين الفرق ص/77.
5ـ بلد قديم بين رأس عين وسروج وهو مبني بحجارة عظيمة سود، قريب من حران ـ فتحه عياض بن غنم سنة 17هـ. معجم البلدان 2/45، وانظر مراصد الأطلاع للبغدادي 1/273.
6ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/117، وانظر الفرق بين الفرق ص/80-81، التبصير في الدين ص/49.(3/1145)
الأزارقة:
هم أتباع رجل منهم يسمى بأبي راشد نافع بن الأزرق الحنفي ولم يكن للخوارج قوم أكثر منهم عدداً وأشد منهم شوكة، ولهم اعتقادات فارقوا بها "المحكمة الأولى" وسائر فرق الخوارج فهم يعتقدون أن من خالفهم من هذه الأمة فهو مشرك بينما المحكمة يقولون: إن مخالفهم كافر ولا يسمونه مشركاً.
ومما اختصوا به أيضاً: أنهم يسمون من لم يهاجر إلى ديارهم من موافقيهم مشركاً، وإن كان موافقاً لهم في مذهبهم، وكان من عاداتهم فيمن هاجر إليهم أن يمتحنوه بأن يسلموا إليه أسيراً من أسراء مخالفيهم وأطفالهم ويأمروه بقتله، فإن قتله صدقوه في دعواه أنه منهم، وإن لم يقتله، قالوا: هذا منافق ومشرك، وقتلوه، ويزعمون أيضاً: أن أطفال مخالفيهم مشركون، ويزعمون أنهم يخلدون في النار1.
وبالإضافة إلى هذه المعتقدات الشاذة والآراء المنحرفة، فقد نادى الأزارقة ببعض الآراء التي تنم عن جهلهم بالشرع وعدم فقههم في الدين، من ذلك:
إسقاطهم حد الرجم عن الزاني المحصن بحجة أنه لم يرد في القرآن نص عليه2 كما أسقطوا أيضاً: حد القذف عمن قذف المحصن من الرجال مع وجوب الحد على قاذف المحصنات من النساء3، تمسكاً أيضاً: ـ في زعمهم ـ بما ورد في القرآن وذهبوا أيضاً إلى أن يد السارق تقطع في القليل والكثير من غير اعتبار لنصاب الشيء والمسروق، وأن القطع يكون من المنكب كما أوجبوا على الحائض الصلاة والصوم في حال حيضها4، كما أنهم حرموا قتل النصارى واليهود
__________
1ـ انظر مقالات الإسلاميين 1/168-174، الفرق بين الفرق ص/82-83، التبصير في الدين ص/49-50.
2ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/121.
3ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/121، وانظر مقالات الإسلاميين 1/174، الفرق بين الفرق ص/84.
4ـ انظر الفصل في الملل والأهواء والنحل 4/189.(3/1146)
وأباحوا قتل المسلمين، وهذه الآراء واضح فيها الجهل وعدم العلم والفهم للقرآن، وعدم الإلمام بالسنة، ويصدق عليهم قوله صلى الله عليه وسلم: "يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم"1، وقد اشتدت شوكة الأزارقة وصارت لهم قوة حتى أخذوا في مقاتلة غيرهم حتى تغلبوا على بلاد الأهواز وأرض فارس وكرمان في أيام عبد الله بن الزبير حين بعث عاملاً له على البصرة، فأخرج سرية لقتالهم وكان عدد هذه السرية ألف مقاتل، فقتلهم الخوارج، ثم بعث إليهم بثلاثة آلاف من المقاتلة فظفر بهم الخوارج أيضاً، فبعث عبد الله بن الزبير من مكة كتاباً وجعل قتالهم إلى المهلب بن أبي صفرة2 حتى جمع عسكراً عظيماً وهزم نافع بن الأزرق وقتل في هذه الهزيمة وبايعت الأزارقة بعده رجلاً آخر منهم فهزمه المهلب أيضاً، وقتل في هذه الهزيمة فبايعوا بعده قطري بن الفجاءة التميمي، وسموه بأمير الموت، واستمر المهلب أيضاً في مقاتلتهم حتى انحازوا إلى سابور من بلاد فارس وجعلوها دار هجرتهم3 وقد بلغت المدة التي قاتلهم فيها المهلب تسع عشرة سنة، بعضها في زمان ابن الزبير، وبعضها في زمان عبد الملك بن مروان، "ولما ولي الحجاج بن يوسف العراق أقر المهلب على قتالهم، فاستمر المهلب بن أبي صفرة في مقاتلتهم حتى وقع الخلاف بين قطري بن الفجاءة وأتباعه، فواصل المهلب مقاتلة قطري، فكان كلما سار قطري إلى ناحية من النواحي تبعه المهلب حتى هزمه إلى الري، ثم اتجه لمقاتلة جماعة أخرى منهم بقيادة رجل منهم يسمى عبد ربه الصغير4 حتى كفى شغله وقتله، وبعث الحجاج جيشاً عظيماً إلى
__________
1ـ الحديث صحيح مسلم 2/740.
2ـ هو أبو سعيد المهلب بن أبي صفرة ظالم بن سراق الأزدي العتكي أمير، شديد البطش بأهل البدع، جواد ولد سنة سبع، وتوفي سنة ثلاث وثمانين هجرية. انظر ترجمته في الإصابة 3/509-510، وفيات الأعيان 5/350-359، الأعلام 8/260.
3ـ انظر تاريخ الأمم والملوك 5/613-621، الفرق بين الفرق ص/85-86، الكامل في التاريخ 4/194-200، البداية والنهاية 8/348، التبصير في الدين ص/50-51.
4ـ كان عبد ربه الصغير معلم كتاب وهو من موالي قيس بن ثعلبة وأول ظهوره أن الخوارج ذهبوا إلى =(3/1147)
الري فقاتل قطري بن الفجاءة فانهزم إلى طبرستان ثم هرب في جملة من أتباعه إلى قومس عبيدة بن هلال اليشكري فتبعته جنود الحجاج حتى قتلته وقطع الله دابر الأزارقة بقتل قطري فلم تجتمع لهم قوة بعد ذلك مثل ما كانت لهم من قبل"1.
النجدات:
هؤلاء هم أتباع نجدة بن عامر الحنفي الذي يقال: إنه كان باليمامة حيث تخلف عن نافع بن الأزرق عند رجوعهم من مكة، وبينما هو في طريقه ليلحق بمعسكر نافع بن الأزرق التقى به من أخبره بما أحدثه نافع من الآراء التي منها "استباحة قتل أطفال مخالفيه، وحكمه على القعدة بالشرك"2 وهنا قيل: إنه رجع إلى اليمامة، لما سمع بما أحدثه نافع وأعلن انفصاله عنه، وتبرأ منه وبويع له بالإمامة وأصبح أميراً على طائفة من الخوارج عرفوا بالنجدات3، وصار لنجدة وأتباعه نفوذ واسع في كثير من البلدان شمل البحرين وشواطيء الخليج وامتد إلى عمان وبعض أجزاء اليمن4.
وقد أنكر نجدة على الأزارقة إكفارهم للقعدة منهم ممن لم يهاجروا إليهم، وحكم على نافع ومن قال بإمامته بالكفر5، ويقال: إنه وجه كتاباً إلى نافع
__________
= قطري بن الفجاءة يشكون من رجل كان قطري يقدمه عليهم، فلم يشكهم منه، فقال القوم لقطري: فإنا قد خلعناك وبايعنا عبد ربه الصغير، وانفصل إلى عبد ربه الصغير أكثر من شطرهم وجلهم من الوالي والعجم. انظر شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1/403 مقالات الإسلاميين 1/171-172.
1ـ انظر تاريخ الأمم والملوك 6/202 وما بعدها، الكامل في التاريخ 4/374 وما بعدها، مروج الذهب للمسعودي 3/114 وما بعدها، الفرق بين الفرق ص/85-86، التبصير في الدين ص/50-51.
2ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/121.
3ـ مقالات الإسلاميين 1/174، الفرق بين الفرق ص/87، الملل والنحل للشهرستاني 1/123.
4ـ انظر الفرق بين الفرق ص/90، الكامل في التاريخ 4/201 وما بعدها.
5ـ انظر الفرق بين الفرق ص/87.(3/1148)
ابن الأزرق أخذ عليه فيه تكفيره للقعدة مع أن الله عذرهم بقوله: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} 1، وأنكر عليه أيضاً: استباحته قتل الأطفال لنهي النبي عليه الصلاة والسلام عن ذلك، ولقوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} 2.
وتبودلت الكتب بين نجدة ونافع، ولكن لم يقنع أحدهما الآخر3 ومن الآراء التي عارض بها نجدة آراء نافع إجازته "التقية" واحتج بقوله تعالى: {إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} 4، وبقوله تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} 5، ومن ثم أجاز القعود، ولكن الجهاد إذا أمكن فهو أفضل لقوله تعالى: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً} 6.
وذهب النجدات إلى أن الدين أمران:
أحدهما: معرفة الله تعالى ومعرفة رسله عليهم الصلاة والسلام وتحريم دماء المسلمين7 ـ والإقرار بما جاء من عند الله جملة فهذا واجب على الجميع والجهل به لا يعذر فيه.
والثاني: ما سوى ذلك فالناس معذورون فيه، إلى أن تقوم عليهم الحجة في الحلال والحرام، وتدين النجدات بمبدأ العذر بالجهل في أحكام الفروع حتى سموا "بالعاذرية"8، والذي دعاهم إلى ذلك أن جماعة منهم على رأسهم ابن
__________
1ـ سورة التوبة آية/91.
2ـ سورة الزمر آية/7.
3ـ انظر الكامل للمبرد 2/209-212، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 4/137-139.
4ـ سورة آل عمران آية/28.
5ـ سورة غافر آية/28.
6ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/125 والآية رقم 95 من سورة النساء.
7ـ المقصود بالمسلمين عندهم الموافقون لهم في مذهبهم.
8ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/124، وانظر الفرق بين الفرق ص/89.(3/1149)
نجدة نفسه بعث بهم إلى أهل القطيف فأصابوا غنائم وسبايا ـ على حد زعمهم ـ فأباحوا لأنفسهم نكاح السبايا قبل إخراج الخمس منها، وقالوا: إن خرجت من نصيبنا فبها، وإلا دفعنا من أموالنا مقابلها، ولما بلغ الأمر نجدة وأصحابه اختلفوا، فبعضهم اعتذر لمن قاموا به والبعض الآخر أنكره، وكان نجدة مع الذين عذروا هؤلاء لجهلهم بحكم الله"1، هكذا صار الجهل بالحكم عند طائفة من النجدات عذراً.
وقد اختلف النجدات مع زعيمهم نجدة بن عامر الحنفي، ونقموا عليه عدة أمور من بينها تعطيله حد الخمر، وعدم عدله في قسم الفيء وتفريقه الأموال بين الأغنياء من أتباعه وحرمانه ذوي الحاجة منهم، ومكاتبته عبد الملك بن مروان، ويقال: إنه لما أحدث هذه الأحداث وعذر أتباعه بالجهالات استتابه أكثر أتباعه وطلبوا منه أن يعلن توبته في المسجد، ففعل ذلك فندمت طائفة منهم على استتابته، وانضموا إلى العاذرين، وقالوا: إنه الإمام وله حق الاجتهاد ولا يجوز استتابته، وطلبوا منه أن يتوب من توبته، فاختلف أصحابه أيضاً: فكفرته طائفة لخلعه نفسه وكان من أشدهم عليه أبو فديك2 الذي يقال: إنه وثب على نجدة فقتله، وبويع له بالإمامة، فأنكر أصحاب نجدة تصرف أبي فديك فتبرؤوا منه وتولوا نجدة وكتب أبو فديك إلى عطية بن الأسود الحنفي3 يخبره بما اكتشفه من ضلال نجدة وقتله إياه، وأنه أحق بالخلافة منه، فكتب عطية إلى أبي فديك وطلب منه أن يأخذ له البيعة ممن قبله فأبى ذلك أبو فديك فبريء كل واحد منهما من صاحبه، وصارت الدار لأبي فديك وتبعه بعض النجدات
__________
1ـ انظر مقالات الإسلاميين 1/175، الفرق بين الفرق ص/89، الملل والنحل للشهرستاني 1/123.
2ـ اسمه عبد الله بن ثور، زعيم فرقة الفدكية من الخوارج، انظر مقالات الإسلاميين 1/182، الفرق بين الفرق ص/88.
3ـ زعيم فرقة العطوية من الخوارج، انظر مقالات الإسلاميين 1/176، الفرق بين الفرق ص/88، وانظر اللباب في تهذيب الأنساب 2/347، التبصير في الدين ص/52.(3/1150)
وظل البعض على الولاء لنجدة فصارت النجدات ثلاث فرق: النجدية، والعطوية، والفديكية1، وكان هذا الخلاف بين النجدات من أعظم العوامل في تدمير هذه الفرقة حيث اضمحل أمرها وتلاشى أثرها.
الصفرية:
لقد اختلف العلماء فيمن تنتسب إليه هذه الفرقة، هل سموا بذلك نسبة إلى الصفرة إشارة إلى صفرة وجوههم من أثر ما تكلفوه من السهر والعبادة والزهد أم سموا بهذه التسمية نسبة إلى رجل معين كما نسبت الأزارقة والنجدات والإباضية، والذين ذهبوا إلى هذا الرأي الأخير اختلفوا في الشخص الذي نسبت إليه هل هو عبد الله بن صفار التميمي، أم زياد بن الأصفر، أم المهلب بن أبي صفرة، ولعل أصوب هذه الأقوال أن هذه الفرقة تنتسب إلى عبد الله بن صفار التميمي2، الذي كان مع نافع بن الأزرق في بداية أمره، ثم انفصل عنه عندما حصل الخلاف والانشقاق بين قادة الخوارج3، والصفرية كانت أقل شذوذاً وأقل غلوا من الأزارقة إذ أنهم خالفوهم في رأيهم تجاه القعدة ومرتكب الكبيرة فلم يكفروا القعدة كما ذهب الأزارقة ما داموا موافقين لهم في مذهبهم ولم يكفروا مرتكب الكبيرة على الإطلاق كما هو مذهب الأزارقة بل فرقوا بين الذنوب التي فيها حد مقرر كالزنا والسرقة والقذف والقتل العمد، فهذه في رأيهم لا يتجاوز بمرتكبها الاسم الذي سماه الله بها زان، وسارق، وقاذف، وقاتل عمد، وليس صاحبه كافراً ولا مشركاً، وكل ذنب ليس فيه حد كترك الصلاة والصوم فهو
__________
1ـ انظر في شأن النجدات مقالات الإسلاميين 1/174-176، الفرق بين الفرق ص/87-90، الملل والنحل للشهرستاني 1/122-125، التبصير في الدين ص/52-53.
2ـ انظر الخلاف في شأن هذه النسبة، لسان العرب 4/464-465، وانظر الصحاح للجوهري 2/715، القاموس 2/73، اللباب في تهذيب الأنساب 2/244.
3ـ انظر كيف بدأ الخلاف بين رؤساء الخوارج، تاريخ الأمم والملوك 5/566-568، الكامل في التاريخ 4/165-168.(3/1151)
كفر وصاحبه كافر1، ولا يرى الصفرية أن دار مخالفيهم دار حرب، كما لم يحكموا بقتل أطفال المشركين وتكفيرهم، ولا يقولون بخلودهم في النار ولم يجيزوا سبي الذرية والنساء ولهم آراء تفردوا بها في الشرك والكفر والبراءة.
فالشرك عندهم شركان: شرك هو طاعة الشيطان، وشرك هو عبادة الأوثان، والكفر كفران: كفر بإنكار النعم، وكفر بإنكار الربوبية، والبراءة براءتان، براءة من أهل الحدود سنة، وبراءة أن أهل الجحود فريضة2.
ولم يسقط الصفرية عقوبة الرجم كما فعل الأزارقة، وأجازوا التقية كالنجدات ولكن في القول دون العمل3. ويذكر عن بعضهم تزويج المسلمات4 من كفار قومهم5 في دار التقية دون دار العلانية6.
وقد تولى الصفرية المحكمة الأولى كعبد الله بن وهب الراسبي وحرقوص بن زهير وأتباعهما وقالوا بإمامة أبي بلال مرداس الخارجي الذي خرج أيام يزيد ابن معاوية ناحية البصرة وقتلته جيوش عبيد الله بن زياد ورثاه عمران بن حطان الذي كان شاعراً ناكساً وأصبح إماماً للصفرية بعد أبي بلال بقوله:
أنكرت بعدك ما قد كنت أعرفه ... ما الناس بعدك يا مرداس بالناس7
وقد قام الصفرية بثورات عديدة ناحية الشمال الأفريقي في عهد الأمويين ففي عهد هشام بن عبد الملك "71 – 125هـ" خرج رجل منهم يسمى ميسرة المضفري بنواحي طنجة8 واستطاع حمل البربر على الخروج عن طاعة
__________
1ـ الفرق بين الفرق ص/91، وانظر الملل والنحل للشهرستاني 1/137.
2ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/137.
3ـ المصدر السابق.
4ـ يقصدون الخارجيات.
5ـ يقصدون بكفار قومهم بقية المسلمين.
6ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/137.
7ـ انظر الفرق بين الفرق ص/91-93.
8ـ طنجة: بلدة على ساحل بحر المغرب مقابل الجزيرة الخضراء وهي مدينة قديمة بناؤها بالحجارة قائمة =(3/1152)
الخليفة الأموي واستطاع إخضاع سائر بلاد المغرب الأقصى جنوب طنجة حتى وصل إلى السوس1، وبويع له بالخلافة وخاطبه البربر بأمير المؤمنين، ثم اتهم بممالأة العرب وخلع من الإمارة، وبويع مكانه خالد بن حميد الزناتي ولكن جيوش الخلافة تمكنت من إخماد حركة الصفرية سنة ثلاث وعشرين ومائة هجرية2، كما شهد العصر العباسي أيضاً: بعض الثورات الخارجية للصفرية، ومن ضمنها: ثورتهم بناحية "مكناسة" في المغرب الأقصى بقيادة عيسى بن أبي يزيد الذي تجمع حوله الصفرية من بني مدرار واختطوا لأنفسهم مدينة سجلماسة3 سنة أربعين ومائة هجرية واقتطعوها لأنفسهم من ولاية القيروان، وظل أبو يزيد أميراً نحواً من خمسة عشر عاماً ثم بويع من بعده لأبي القاسم بن سمكوا المكناسي الصفري الذي يقال: إنه كان يدين بالولاية للخليفة العباسي4، وكانت هناك ولاية خارجية صفرية تحت زعامة رجل يدعى أبو قرة الصنهاجي، الذي استطاع محاصرة القيروان والاستيلاء عليها5.
الإباضية:
تنتسب الإباضية إلى عبد الله بن إباض بن تيم اللات بن ثعلبة التميمي من بني مرة بن عبيد رهط الأحنف بن قيس6 وقد اختلف أهل العلم في الوقت
__________
= على البحر. معجم البلدان 4/43.
1ـ السوس: بلد بالمغرب كان الروم تسميها قمونية، وقيل: إنها مدينتها طنجة. انظر معجم البلدان 3/281.
2ـ انظر كتاب البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب 1/52-93، الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى 1/97.
3ـ سجلماسة: مدينة في جنوبي المغرب في طرف بلاد السودان بينها وبين فاس عشرة أيام تلقاء الجنوب. انظر معجم البلدان 3/192.
4ـ انظر البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب 1/156، الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى 1/111-112.
5ـ الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى 1/116.
6ـ انظر ترجمة ابن إباض في الأعلام للزركلي 4/184-186(3/1153)
الذي خرج فيه عبد الله، هذا فقد قرر العلامة ابن جرير الطبري إلى أنه كان مع نافع بن الأزرق، وأنه انفصل عنه وكان هذا في سنة أربع وستين هجرية1.
وذهب الشهرستاني: إلى أن ابن إباض ظهر في زمن مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية2.
والإباضية يذهبون إلى ما قرره ابن جرير الطبري ويقولون: إن ابن إباض ظهر في أيام معاوية وعاش إلى زمن عبد الملك بن مروان وكان في أول أمره مع نافع بن الأزرق ولكن اختلف معه وفارقه ورد عليه3.
قال محمد بن سعيد الأزدي في صدد ذكره لابن إباض "نشأ في زمان معاوية بن أبي سفيان، وعاش في زمان عبد الملك بن مروان، وكتب إليه السير المشهورة والنصائح المعروفة المذكورة"4.
ورغم ارتباط الإباضية بعبد الله بن إباض إلا أنهم يعتبرون المؤسس الحقيقي الأول لفرقة الإباضية هو جابر بن زيد5 إذ أنه كان الإمام الأكبر وفقيههم ومفتيهم وهو الشخص الذي ظهر به فقه الإباضية بينما كان ابن إباض المسئول عن الدعوة والدعاة في شتى الأقطار6، وإذا كان جابر بن زيد بهذه المنزلة
__________
1ـ تاريخ الأمم والملوك 5/566-567.
2ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/134.
3ـ انظر العقود الفضية في أصول الإباضية، ص/121-122.
4ـ الفرق الإسلامية من خلال الكشف والبيان لأبي سعيد محمد بن سعيد الأزدي القلهماني ص/294.
5ـ هو جابر بن زيد أبو الشعثاء الأزدي ثم الجوفي البصري مشهور بكنيته وهو تابعي فقيه من أهل البصرة أصله من عمان صحب ابن عباس وكان من بحور العلم، نفاه الحجاج إلى عمان، ولد سنة إحدى وعشرين ومات سنة ثلاث وتسعين هجرية. انظر ترجمته في حلية الأولياء 3/85-90، تذكرة الحفاظ 1/72، البداية والنهاية 9/104، تهذيب التهذيب 2/38.
6ـ انظر الأصول التاريخية للفرقة الإباضية، عوض محمد خليفات، ص/29، عمان في فجر الإسلام، سيدة إسماعيل كاشف، ص/55 وما بعدها.(3/1154)
العلمية فلماذا نسبت الفرقة إلى ابن إباض ولم تنسب إليه؟ للإجابة على هذا السؤال ذهب أحد الإباضية المعاصرين إلى أنه لا يدري السبب في عدم نسبة المذهب إلى جابر مع أنه أفقه وأعلم أهل زمانه، وقد قيل: إن ابن إباض يصدر في كل شؤونه عن فتواه ولا يبت في أمر من الأمور إلا بمشورته ورضاه1، بينما ذهب كاتب إباضي آخر في تفسير ذلك إلى أن نسبة المذهب إلى ابن إباض نسبة عرضية، كان سببها بعض المواقف الكلامية والسياسية التي اشتهر بها ابن إباض وتميز بها، فنسب المذهب الإباضي إليه، ولم يستعمل الإباضية في تارخهم المبكر هذه النسبة فكانوا يستعلمون عبارة "جماعة المسلمين" أو "أهل الدعوة" وأول ما ظهر استعمالهم لكلمة "الإباضية كان في آخر القرن الثالث الهجري"2.
وللإباضية آراء تميزوا بها من بين فرق الخوارج، فهم يقولون: "إن مخالفيهم من أهل القبلة كفار غير مشركين، ومناكحتهم جائزة وموارثتهم حلال، وغنيمة أموالهم من السلاح والكراع عند الحرب حلال،وما سواه حرام، وحرام قتلهم وسبيهم في السر غيلة إلا بعد نصب القتال وإقامة الحجة ويقولون إن دار مخالفيهم من أهل الإسلام دار توحيد إلا معسكر السلطان فإنه دار بغي وأجازوا شهادة مخالفيهم على أوليائهم، وأجمعوا على أن من ارتكب كبيرة من الكبائر كفر كفر النعمة لا كفر الملة، وتوقفوا في أطفال المشركين وجوزوا تعذيبهم على سبيل الانتقام وأجازوا أن يدخلوا الجنة تفضيلاً، واختلفوا في النفاق: أيسمى شركاً أم لا، قالوا: إن المنافقين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا موحدين إلا أنهم ارتكبوا الكبائر فكفروا بالكبيرة لا بالشرك"3.
وأول بقعة نبتت عليها نابتة الإباضية البصرة، ثم انتشروا في شمال أفريقيا،
__________
1ـ انظر مختصر تاريخ الإباضية لأبي ربيع سليمان الباروني ص/24.
2ـ أجوبة ابن فرحون ص/9، هامش 1، النظم الاجتماعية والتربوية عند الإباضية، ص/15.
3ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/134-135، وانظر الفرق بين الفرق ص/103-104، التبصير في الدين ص/58(3/1155)
وفي الجزيرة، واستطاعوا أن يكونوا لهم دولة في عمان استقلوا بها عن الدولة العباسية في عهد أبي العباس السفاح "132 – 136هـ" وامتد نفوذها إلى جزيرة زنجبار ولا تزال مباديء الإباضية وأفكارهم هي السائدة في هذه الأماكن كما أقام الإباضية لهم دويلات في ليبيا والجزائر واستمروا في ليبيا مدة ثلاثة أعوام فقط من عام 140 – 144 هـ، وفي جبل نفوسة ثم في منطقة تاهرت، اكتسب الإباضية ثقة البربر، وتمكن عبد الرحمن بن رستم أحد الذين تعلموا على يد أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة من إقامة دولة بني رستم والتي استمرت قرابة المائة والخمسين عاماً من عام "144 – 296هـ"، وكانت عاصمتها تاهرت مركزاً مهماً للدراسات وفقاً للمذهب الإباضي واستمرت ـ دولة بني رستم ـ حتى سقطت على يد الدولة "العبيدية الشيعية"1 والإباضية هي إحدى فرق الخوارج التي لها وجود إلى الوقت الحاضر، ووجودهم الآن يتمثل في دولة عمان بأكملها، "وجنوب الجزائر ـ وادي ميزاب، وجنوب تونس، وشمال ليبيا ـ جبل نفوس"2، فهذه الفرق المتقدم التعريف بها تعد أكبر فرق الخوارج الكبار.
قال أبو الحسن الأشعري رحمه الله تعالى: "وأصل قول الخوارج إنما هو قول الأزارقة والإباضية والصفرية والنجدية، وكل الأصناف سوى الأزارقة والإباضية والنجدية فإنما تفرعوا من الصفرية" 3.
__________
1ـ انظر مختصر تاريخ الإباضية ص/27-44، النظم الاجتماعية والتربوية عند الإباضية ص/19-20، دراسات إسلامية في الأصول الإباضية ص/17، وقد ذكر ياقوت الحموي نبذة عن عبد الرحمن بن رستم وعن تجمع الإباضية حوله. انظر معجم البلدان 2/9.
2ـ انظر الإباضية بين الفرق الإسلامية ص/79-80، العقود الفضية ص/237-251، دراسات إسلامية في الأصول الإباضية ص/17.
3ـ مقالات الإسلاميين 1/183.(3/1156)
المبحث الثالث: الرد على مطاعنهم في الصحابة
لقد امتاز الخوارج عن الشيعة الرافضة بإثباتهم إمامة الصديق والفاروق رضي الله عنهما، فهم يعتقدون أن إمامة أبي بكر وعمر إمامة شرعية، لا شك في صحتها ولا ريب عندهم في شرعيتها، وأن إمامتهما كانت برضى المؤمنين ورغبتهم، وأنهما سارا على الطريق المستقيم الذي أمر الله به لم يغيرا ولم يبدلا حتى توفاهما الله تعالى على ما يرضيه من العمل الصالح والنصح للرعية وهذا الاعتقاد منهم حق وصدق، فلقد كانا رضي الله عنهما كذلك ولا يشك في هذا إلا من فتن بمعتقد الرافضة، وهذا المعتقد للخوارج تجاه الشيخين حالفهم فيه السداد والصواب، وكانوا موفقين فيه لكنهم هلكوا فيمن بعدهما حيث قادهم الشيطان وأخرجهم عن الحق والصواب في اعتقادهم في عثمان وعلي رضي الله عنهما، فلقد حملهم على إنكار إمامة عثمان رضي الله عنه في المدة التي نقم عليه أعداؤه فيها، كما أنكروا إمامة علي أيضاً بعد التحكيم بل أدى بهم سوء معتقدهم إلى تكفيرهما وتكفير طلحة والزبير ومعاوية وعمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري وعائشة أم المؤمنين وعبد الله بن عباس وأصحاب الجمل وصفين وقد وجه الخوارج إلى هؤلاء الأخيار من الصحابة طعناً عاماً يشملهم جميعاً ووجهوا إلى بعضهم طعناً على وجه الخصوص، فطعنهم فيهم على وجه عام أنهم يعتقدون فيهم أنهم كفروا وقد دون أهل العلم هذا المعتقد السيء عنهم في كتبهم.
فقد قال الإمام أبو الحسن الأشعري رحمه الله تعالى: "والخوارج بأسرها يثبتون إمامة أبي بكر وعمر وينكرون إمامة عثمان في وقت الأحداث التي نقم عليه(3/1157)
من أجلها، ويقولون بإمامة علي قبل أن يحكم، وينكرون إمامته لما أجاب إلى التحكيم ويكفرون معاوية وعمرو بن العاص وأبا موسى الأشعري1.
وقال المسعودي: "الذي يجمع الخوارج إكفارهم عثمان وعلياً، والخروج على الإمام الجائر وتكفير مرتكب الكبائر والبراءة من الحكمين أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري وعمرو بن العاص السهمي، وحكمهما، والبراءة ممن صوب حكمهما أو رضي به وإكفار معاوية وناصريه ومقلديه ومحبيه، فهذا ما اتفقت عليه الخوارج من الشراة والحرورية"2.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وكان شيطان الخوارج مقموعاً لما كان المسلمون مجتمعين في عهد الخلفاء الثلاثة أبي بكر وعمر وعثمان، فلما افترقت الأمة في خلافة علي رضي الله عنه وجد شيطان الخوارج موضع الخروج فخرجوا وكفروا علياً ومعاوية ومن والاهما فقاتلهم أولى الطائفتين بالحق علي بن أبي طالب"3.
وقال الشهرستاني بعد تعداده لكبائر فرق الخوارج: "ويجمعهم القول بالتبري من عثمان وعلي رضي الله عنهما ويقدمون ذلك على كل طاعة"4.
وقال في المحكمة الأولى: "وطعنوا في عثمان رضي الله عنه للأحداث التي عدوها عليه وطعنوا في أصحاب الجمل وأصحاب صفين"5.
وقال في الأزارقة بعد أن ذكر أنهم يعتقدون كفر علي رضي الله عنه قال: "وعلى هذه البدعة مضت الأزارقة وزادوا عليه تكفير عثمان وطلحة والزبير وعائشة وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم وسائر المسلمين معهم وتخليدهم في
__________
1ـ مقالات الإسلاميين 1/204.
2ـ مروج الذهب ومعادن الجوهر 3/125.
3ـ مجموع الفتاوى 19/89.
4ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/115.
5ـ المصدر السابق 1/117.(3/1158)
النار1.
وهذا المعتقد واضح البطلان بمجرد سماعه، واعتقاده ضلال وغواية وترك للحق جانباً، والخوارج استهواهم الشيطان بمعتقدهم هذا فكانوا له تبعاً فاعتقادهم كفر من تقدم ذكرهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم باطل لأمور عدة:
الأمر الأول: أن الله تعالى أخبر بأنهم خير أمة أخرجت للناس، وكذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر بأنهم أفضل أمته.
فقد قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} 2.
فقد نوه سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة بأنهم خير أمة أخرجت للناس وذلك لقيامهم الكامل بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما ذلك إلا لما بلغوا إليه من كمال الإيمان وقوة اليقين ولأنهم حققوا صفات الخيرية المنوه عنها في هذه الآية، فقد روى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} قال: هم الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة3.
وقال عليه الصلاة والسلام: "خير الناس القرن الذي أنا فيه، ثم الثاني، ثم الثالث" 4.
"وإنما كان قرنه خير الناس لأنهم آمنوا به حين كفر الناس وصدقوه حين كذبوه ونصروه حين خذلوه وجاهدوا وآووا"5.
__________
1ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/121.
2ـ سورة آل عمران آية/110.
3ـ المستدرك 2/294، وقال عقبه: هذا حديث صحيح على شرط مسلم وأقره الذهبي، وأورده السيوطي في الدر المنثور في التفسير بالمأثور 2/293.
4ـ صحيح مسلم 4/1965، من حديث عائشة رضي الله عنها.
5ـ فيض القدير للمناوي 3/478.(3/1159)
وأفراد الصحابة الذين يعتقد الخوارج المارقون كفرهم هم من الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، وفي مقدمة من يتناوله هذا الثناء العالي الرفيع فهم من أهل الهجرة ومن الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم حين كفر به الناس وهم من الذين جاهدوا معه ونصروه، واتبعوا النور الذي أنزل معه، فالآية والحديث فيهما شهادة الله ورسوله للصحابة عموماً بأنهم خير أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
الأمر الثاني: شهادة الله لهم بالإيمان الحقيقي الثابت في مواضع كثيرة من كتابه العزيز.
قال تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا} 1 فكلمة {وَالَّذِينَ آمَنُوا} في هذه الآية أول ما ينطلق هذا اللفظ على الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، إذ أنهم أول وأفضل من دخل في هذا الخطاب بلا نزاع، لأنهم أول من خوطبوا به.
وقال تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} 2.
ففي هذه الآية تذكير الله تعالى لنبيه بما أنعم عليه من تأييده له بالمؤمنين الذين هم المهاجرون والأنصار.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} 3 ولفظ المؤمنين في هذه الآية أول الداخلين فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ هم المقصودون بالخطاب حال النزول قبل سائر المؤمنين والصحابة الذين كفرهم الخوارج هم من الذين أيد الله بهم نبيه وأمره بتحريضهم على القتال، ولكن لما
__________
1ـ سورة آل عمران آية/68.
2ـ سورة الأنفال آية/62.
3ـ سورة الأنفال آية/65.(3/1160)
زاغ الخوارج عن الحق والهدى في شان الصحابة أزاغ الله قلوبهم فلم يهتدوا إلى شهادة العليم الخبير بحقيقة الإيمان للصحابة الذين كفروهم أو تبرؤوا منهم.
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} 1.
وهذه الآية تضمنت شهادة الله تعالى للمهاجرين والأنصار بأنهم أهل الإيمان حقاً، وفي الآية إشارة إلى ما يدل على حقيقة إيمانهم حيث إنهم هجروا أوطانهم وتركوها لأعدائهم في الله ـ لله عز وجل ـ وجاهدوا بأموالهم حيث صرفوها في الكراع والسلاح وأنفقوها على المحاويج من المسلمين وباشروا القتال بأنفسهم واقتحام المعارك والخوض في لجج المهالك من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى.
وعندما يتدبر المسلم نصوص القرآن الكريم التفصيلية يجد شهادة الله تعالى فيه لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإيمان في مختلف المواقع والمواقف التي تفيد في مجموعها ما تفيده النصوص العامة من الشهادة لمجموعهم بالإيمان وتفيد بدلالتها أيضاً: أن تكفير الخوارج لطائفة منهم هو عين الضلال، وعين المعاندة للأخبار القرآنية الإلهية، قال تعالى منوهاً بشأن أهل بدر:
{إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ} 2.
وقال عنهم في موضع آخر:
{إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ * إِذْ يُوحِي رَبُّكَ
__________
1ـ سورة الأنفال آية/74.
2ـ سورة آل عمران آية/124-125.(3/1161)
إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} 1.
وقال تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} 2.
وقال فيمن شهدوا أحداً:
{وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} 3.
وقال فيمن شهدوا صلح الحديبية وانقادوا لحكم الله ورسوله:
{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً * لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً} 4.
فهذه الآيات فيها شهادة الله تعالى بالإيمان لأهل بدر وأهل أحد وأهل الحديبية، وفيهم معظم من يعتقد الخوارج أنهم كفروا، فلقد هلك الخوارج بنص هذه الآيات بحكمهم على طائفة من خيار الأمة بالكفر إذ أن ـ الباري جل وعلا ـ شهد لهم بحقيقة الإيمان والخوارج يكذبون الله في شهادته لهم بالإيمان ويسنبون إليه الجهل، إذ أنه يبعد أن يشهد الله تعالى بالإيمان لقوم وهو يعلم أنه سيكفرون.
الأمر الثالث: أن الرب تبارك وتعالى أخبر في محكم كتابه العزيز أنه رضي
__________
1ـ سورة الأنفال آية/11-12.
2ـ سورة الأنفال آية/17.
3ـ سورة آل عمران آية/121-122.
4ـ سورة الفتح آية/4-5.(3/1162)
عن الصحابة ورضوا عنه وأنه وعدهم بالخلود في الجنات والفوز العظيم.
قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 1.
ففي هذه الآية صرح تعالى أنه قد رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وهو دليل قرآني صريح في أن من يعتقد كفرهم فهو ضال مخالف لله جل وعلا حيث كفر من رضي الله عنه ولا شك أن تكفير من رضي الله عنه مضادة له ـ جل وعلا ـ وتمرد وطغيان، وهذه صفة الرافضة والخوارج المارقة.
وقال تعالى مبيناً فوزهم برحمته ورضوانه والنعيم المقيم في جناته: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ} 2.
فمن يجرؤ بعد هذا أن ينسبهم إلى الكفر، اللهم إلا من كان له نصيب وافر من الخذلان، وصار عبداً للشيطان بإخراجه نفسه من عبودية الرحمن. وقال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} 3.
وفي هذه الآية أعلن الله رضاه عن جيش الإيمان الذين حضروا الحديبية من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين كان منهم علي وطلحة والزبير، وعثمان رضي الله عنه كان في مكة رسولاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فبايع له النبي صلى الله عليه وسلم وجعل يده بدلاً عن يده فكانت خيراً له من يده وما أحسن ما رد به عبد القاهر
__________
1ـ سورة التوبة آية/100.
2ـ سورة التوبة آية/20-21.
3ـ سورة الفتح آية/18.(3/1163)
البغدادي على فرقة الخازمية1 من الخوارج وهو رد صارم على كل من كفر طلحة والزبير وعلياً وعثمان رضي الله عنهم أجمعين، فقد قال رحمه الله: "إن الخازمية خالفوا أكثر الخوارج في الولاية والعداوة وقالوا: إنهما صفتان لله تعالى وأن الله ـ عز وجل ـ إنما يتولى العبد الصالح على ما هو صائر إليه من الإيمان وإن كان في أكثر عمره كافراً ويرى منه ما يصير إليه من الكفر في آخر عمره وإن كان في أكثر عمره مؤمناً وإن الله تعالى لم يزل محباً لأوليائه ومبغضاً لأعدائه وهذا القول منهم موافق لقول أهل السنة في الموافاة غير أن أهل السنة ألزموا الخازمية على قولها بالموافاة أن يكون علي وطلحة والزبير وعثمان من أهل الجنة لأنهم أهل بيعة الرضوان الذي قال الله تعالى فيهم: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} ، وقالوا لهم إذا كان الرضا من الله تعالى عن العبد إنما يكون عن علمه أنه يموت على الإيمان وجب أن يكون المبايعون تحت الشجرة على هذه الصفة وكان علي وطلحة والزبير منهم، وكان عثمان يومئذ أسيراً، فبايع له النبي عليه السلام وجعل يده بدلاً عن يده وصح بهذا بطلان قول من أكفر هؤلاء الأربعة2.
فإخبار الله تعالى بأنه رضي عن الصحابة ورضوا عنه، وإخباره بأنه أعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار وتبشيره لهم برحمته وضوانه وأن لهم النعيم المقيم في الجنات من أعظم الأدلة الدالة على بطلان تكفير الخوارج لهم وأنهم أهل جهل وضلالة وأنهم باعتقادهم هذا سلكوا سبيل الشيطان وتركوا سبيل الرحمن إذ يبعد أن يعلن الله رضاه على قوم ويقضي لهم بالخلود في الجنة وقد سبق في علمه أنهم سيكفرون ما يعتقد هذا إلا من أصيب بالزيغ والخذلان ومكذب بآيات القرآن.
__________
1ـ الخازمية أتباع رجل يدعى خازم بن علي، انظر ما جاء في شأن فرقة الخازمية، مقالات الإسلاميين 1/179، التبصير في الدين ص/55، الفرق بين الفرق ص/94-95، الملل والنحل للشهرستاني 1/131.
2ـ الفرق بين الفرق ص/94-95.(3/1164)
الأمر الرابع: أن الكفر بعيد الوقوع من قوم أخبر الله جل وعلا أنه بغّض إليهم الكفر والفسوق والعصيان وجعلهم راشدين.
قال تعالى: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 1.
وقال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} 2.
فعند التأمل لهاتين الآيتين نجد في الآية الأولى أن الله تعالى أخبر بأن الكفر بعيد الوقوع من جيل الصحابة الكرام رضي الله عنهم حيث رباهم الله تربية فريدة لأنه أهّلهم لحمل أمانة دين الإسلام حيث يقومون بتبليغ دعوة خاتم المرسلين إلى من بعدهم من الأمة المحمدية، وقد فعلوا ذلك وقاموا به أتم قيام.
وأما الآية الثانية: فقد أخبر تعالى فيها أنه جعل الإيمان أحب الأشياء إليهم فلا يقع منهم إلا ما يوافقه ويقتضيه من الأمور الصالحة، فاستحقوا بذلك أن يكونوا هم الراشدين، كما نطقت بذلك الآية الكريمة.
فكيف يكفر أولئك الخيرة على زعم الرافضة والخوارج المارقة وعليهم تتلى آيات الله وفيهم رسوله؟، بل كيف يكفرون وقد كره الله إليهم الكفر وجعلهم راشدين؟، فلقد زاغ الخوارج الجهلاء بزعمهم كفر عثمان وعلي وطلحة والزبير وابن عباس وعائشة وعمرو بن العاص وابي موسى الأشعري ومعاوية وأصحاب الجمل وصفين من الصحابة الكرام رضي الله عنهم وليس هناك من تفسير لتكفيرهم هؤلاء الأخيار إلا التكذيب بالقرآن الذي أخبرنا الله فيه أنه وعد جميع الصحابة بالحسنى، حيث قال جل وعلا: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ
__________
1ـ سورة آل عمران آية/101.
2ـ سورة الحجرات آية/7.(3/1165)
وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} 1، وبهذه الأمور الأربعة المتقدم ذكرها والتي استفدناها من آيات القرآن الكريم التي سقناها تبين بطلان تكفير الخوارج لمن قدمنا ذكرهم من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين ولبعض فرق الخوارج مطاعن خاصة طعنوا بها على عثمان وعلي وأم المؤمنين رضي الله عنها.
فأما مطاعنهم على وجه الخصوص في ذي النورين عثمان، فقد ذكر العلامة ابن جرير الطبري أن قبيصة بن عبد الرحمن الخثعمي كان يحدث أصحاب صالح بن مسرح التميمي2 أن قصص صالح عنده وكان ممن يرى رأيهم فسألوه أن يبعث بالكتاب إليهم ففعل وقد كان من ضمن الكتاب قوله: "وولي المسلمين من بعده3 عثمان فاستأثر بالفيء وعطل الحدود وجار في الحكم واستذل المؤمن وعزز المجرم، فسار إليه المسلمون فقتلوه فبريء الله منه ورسوله وصالح المؤمنين"4.
هذا الطعن في ذي النورين صادر من رجل يعد زعيماً لفرقة الصفرية من الخوارج وهذا الطعن ما هو إلا اختلاق فعثمان رضي الله عنه لم يستأثر بفيء ولم يعطل حداً من حدود الله، بل أقام حدود الله، بل أقام حدود الله مدة خلافته كما أمر الله حتى توفاه ربه وسار في الأمة بسيرة رسوله صلى الله عليه وسلم والخليفتين قبله، ولم يخرج رضي الله
__________
1ـ سورة الحديد آية/10.
2ـ هو صالح بن مسرح التميمي أحد زعماء الصفرية، وأول من خرج فيهم كان كثير العبادة وكان يقيم في أرض دارا والموصل والجزيرة وله أصحاب يقرأ لهم القرآن ويعظمهم فدعاهم إلى الخروج وإنكار الظلم وجهاد المخالفين لهم فأجابوه، ووفد عليه شبيب بن يزيد فكان قائد جيشه ونشبت الوقائع بينه وبين أمير الجزيرة "محمد بن مروان" فقتل صالح بالقرب من الموصل، قتله الحارث بن عميرة الهمداني سنة 76 هجرية. انظر ترجمته في تاريخ الطبري 6/216 وما بعدها، الكامل في التاريخ 4/393 وما بعدها، الأعلام للزركلي 3/283.
3ـ أي: بعد عمر.
4ـ تاريخ الأمم والملوك 6/217.(3/1166)
عنه في حكمه قيد أنملة عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، حكم الأمة بالعدل ولم يخف في الله لومة لائم، ولم يستذل مؤمناً ولم يعزز مجرماً كا تفوه بهذا هذا الخارجي الكذاب، وإنما كانت خلافته عزاً للمؤمنين وذلاً للكافرين، ولما أحس أهل الباطل من الفسقة الضالين الذين هم سلف هذا الخارجي لطاعن على عثمان بما ذكر لما أحسوا أنهم مقموعون ولنشر باطلهم غير مستعطيعين تحزبوا أحزاباً وخرجوا من مصر والكوفة والبصرة تحت راية الشيطان حتى انتهوا إلى المدينة، وأظهروا للناس أنهم يريدون الشكاية على عثمان من بعض المظالم حسب زعمهم، فأظهروا ما لا يبطنون، ثم غدروا حتى بلغ بهم الشر إلى أن قتلوا عثمان ظلماً وعدواناً، فهؤلاء هم البغاة الظالمون المفسدون، الذين يسميهم صالح بن مسرح بالمسلمين الذين ساروا إلى عثمان وقتلوه قتلهم الله، وأما قوله: بريء الله منه ورسوله وصالح المؤمنين، فهذا من جرأته على الكذب على ـ الرب جل وعلا ـ الذي زجر عليه بقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} 1، فلا أظلم ممن يفتري على الله فيقال لهذا المفترى: متى بريء الله ورسوله من عثمان؟، ومتى بريء منه صالح المؤمنين؟.
وعثمان كان من السابقين الأولين إلى الإسلام الذين جاء مدحهم والثناء عليهم بذلك في القرآن الكريم، وأثنى عليه رسوله صلى الله عليه وسلم وهو من الذين جاهدوا مع الرسول عليه الصلاة والسلام في غزواته بغية إعلاء كلمة الله وكان على غاية من الكرم والإحسان زوجه المصطفى عليه الصلاة والسلام بثنتين من بناته، فكان له صهر مكرم محمود وأعظم من هذا كله، شهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم له بالجنة وهي حي يمشي على الأرض ولم يحضر بدراً بسبب تمريضه زوجته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فألحقه الله عز وجل ـ بالبدريين في أجره وسهمه، فكان معدوداً فيهم، ولما ولي الخلافة كانت له فتوحات في الإسلام عظيمة اعتز بها المسلم وذل بها
__________
1ـ سورة العنكبوت آية/68.(3/1167)
الفاجر المنافق، وكانت له سيرة في الإسلام هادية لم يتسبب في سفك دم، جاءت فيه آثار صحاح ن الملائكة تستحي منه، وأنه ومن اتبعه على الحق وقد حظي رضي الله عنه بموالاة صالح المؤمنين ومحبتهم له إلى قيام الساعة لم يبرؤوا منه كما زعم هذا الخارجي، ولم يبرأ منه أو يذمه إلا من سفه نفسه، وكل من ابتلي بذم الصحابة أو تنصهم إنما ذلك لهوانه على الله وهذه حال الرافضة والخوارج المارقة.
وأما طعنهم في علي رضي الله عنه على الخصوص فإن المحكمة الأولى لما انفصلوا عن جماعة المسلمين وانحازوا إلى حروراء انتحلوا أموراً نقموا عليه بها، وخطؤوه من أجلها، ولما علم رضي الله عنه أنهم بعد انحيازهم عنه ينقمون عليه أشياء تلطف معهم، وحاول أن يقنعهم بالرجوع إلى الصواب، فبعث إليهم ابن عباس رضي الله عنه لمناظرته، ولما انتهى إليهم ابن عباس سألهم عن الأسباب التي دفعت بهم إلى مفارقة معسكر الخليفة ردوا عليه بأنهم نقموا عليه ثلاثة أمور هي:
الأول: أنه بقبوله "التحكيم" قد حكم الرجال في أمر الله الذي يقول عنه تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} 1، فأخطأ بهذا وكان ينبغي أن يستمر في مقاتلة أهل الشام حتى يظهر أمر الله.
الأمر الثاني: أنه قاتل أصحاب "الجمل" وقتلهم وفي نفس الوقت لم يسبهم ولم يأخذ غنائمهم، بل إنه نهى عن قتل مدبرهم والإجهاز على جريحهم وغنيمة أموالهم وذراريهم وقالوا: "إنه ليس في كتاب الله إلا مؤمن أو كافر، فإن كان هؤلاء مؤمنين لم يحل قتالهم، وإن كانوا كفاراً أبيحت دماؤهم وأموالهم.
الأمر الثالث: أنه بقبوله "التحكيم" قد محا نفسه من إمرة المؤمنين وفي رأيهم الفاسد أنه إن لم يكن أميراً للمؤمنين فإنه أمير الكافرين وقد بين لهم ابن
__________
1ـ سورة يوسف آية/67.(3/1168)
عباس خطأهم في هذه الآراء، وأنهم لم يستنبطوا بهذه الأمور إلا الباطل وليس الحق.
وقد روى ابن عباس نص حديثه ومحاورته الخوارج بنفسه، فقد جاء عنه رضي الله عنه أنه قال: "لما اجتمعت الحرورية يخرجون على علي، قال: جعل يأتيه الرجل فيقول يا أمير المؤمنين القوم خارجون عليك، قال: دعوهم حتى يخرجوا، فلما كان ذات يوم قلت: يا أمير المؤمنين أبرد بالصلاة فلا تفتني حتى آتي القوم قال: فدخلت عليهم وهم قائلون فإذا هم مسهمة1 وجوههم من السهر، وقد أثر السجود في جباهم كأن أيديهم ثفن2 الإبل عليهم قمص مرحضة فقالوا: ما جاء بك يا ابن عباس، وما هذه الحلة عليك؟، قال: قلت: ما تعيبون مني فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن ما يكون من ثياب اليمنية، قال: ثم قرأت هذه الآية {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} 3، فقالوا: ما جاء بك؟ فقال: جئتكم من عند أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس فيكم منهم أحد، ومن عند ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليهم نزل القرآن وهم أعلم بتأويله، جئت لأبلغكم عنهم وأبلغهم عنكم، قال بعضهم لا تخاصموا قريشاً فإن الله يقول: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} 4، فقال بعضهم: بلى فلنكلمنه قال: فكلمني منهم رجلان أو ثلاثة، قال: قلت ماذا نقمتم عليه؟، قالوا: ثلاثاً، قلت: ما هن؟، قالوا: حكم الرجال في أمر الله، وقال الله {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} ، قال: فقلت هذه واحدة، وماذا أيضاً، قالوا: فإنه قاتل ولم يسب ولم يغنم فلئن كانوا مؤمنين ما حل قتالهم،
__________
1ـ مسهمة: يقال لونه يسهم: إذا تغير عن حاله لعارض. النهاية في غريب الحديث 2/229.
2ـ جمع ثفنة بكسر الفاء ما ولي الأرض من كل ذات أربع إذا بركت كالركبتين وغيرهما أي: غلظت جلود أكفهم لطول السجود، النهاية في غريب الحديث 1/215-216.
3ـ سورة الأعراف آية/32.
4ـ سورة الزخرف آية/58.(3/1169)
ولئن كانوا كافرين لقد حل قتالهم وسبيهم، قال قلت: وماذا أيضاً؟، قالوا: ومحا نفسه من أمير المؤمنين، فإن لم يكن أمير المؤمنين، فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين؟، قال: قلت أرأيتكم إن أتيتكم من كتاب الله وسنة رسوله ما ينقض قولكم هذا أترجعون؟ قالوا: وما لنا لا نرجع؟، قال: قلت: أما حكم الرجال في أمر الله فإن الله قال في كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} 1 وقال في المرأة وزوجها {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} 2 فصير الله ذلك إلى حكم الرجال فنشدتكم الله أتعلمون حكم الرجال في دماء المسلمين وإصلاح ذات بينهم أفضل أو في حكم أرنب ثمن ربع درهم وفي بضع امرأة قالوا: بلى، هذا أفضل، قال: أخرجت من هذه؟، قالوا: نعم، قال: فأما قولكم قاتل فلم يسب ولم يغنم أفتسبون أمكم عائشة؟، فإن قلتم نسبها فنستحل منها ما نستحل من غيرها، فقد كفرتم، وإن قلتم ليست بأمنا، فقد كفرتم، فأنتم ترددون بين ضلالتين أخرجت من هذه؟، قالوا: بلى، قال: وأما قولكم محا نفسه من إمرة المؤمنين، فأنا آتيكم بمن ترضون، إن نبي الله يوم الحديبية حين صالح أبا سفيان وسهيل بن عمرو قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اكتب يا علي هذا ما صالح عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم" فقال أبو سفيان وسهيل بن عمرو: وما نعلم أنك رسول الله، ولو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم إنك تعلم أني رسولك، امح يا علي واكتب: هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله وأبو سفيان وسهيل بن عمرو"، قال فرجع منهم ألفان وبقي بقيتهم فخرجوا فقتلوا أجمعين"3.
__________
1ـ سورة المائدة آية/95.
2ـ سورة النساء آية/35.
3ـ روى حديث ابن عباس هذا مع الخوارج عبد الرزاق في المصنف 10/157-160، وأخرج أحمد بعضه. انظر المسند 1/86، ورواه بكامله ابن عبد البر في كتابه "جامع بيان العلم وفضله" 2/126-128، وابن الجوزي في تلبيس إبليس ص/91-93، وأورده الهيثمي في مجمع =(3/1170)
فلقد حجهم في هذه المناظرة بما لا مدفع فيه من الحجة، فقد بين لهم خطأهم في آرائهم التي استنبطوها حسب أهوائهم، وجعلوها مطاعن على علي رضي الله عنه، فقد بين لهم ن الله شرع التحكيم في أمور هي أهون من حقن دماء المسلمين كحالة الزوجين إذا خيف الشقاق بينهما، كما أمر تعالى ن يحكم في الصيد بجزاء {مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} 1، فمن أنكر التحكيم مطلقاً فقد خالف كتاب الله، ثم ذكر لهم ن التحكيم في أمر أميرين لأجل حقن دماء المسلمين اولى من التحكيم في أمر الزوجين والتحكيم لأجل الصيد.
أما بالنسبة لطعنهم عليه بعدم سبيه أهل الجمل فقد بين لهم أنه كان من ضمن القوم المقاتلين في معركة "الجمل" أم المؤمنين عائشة، فهل يسبي الخوارج أمهم أم ينكرون أنها أمهم؟، فإن قالوا: إنها ليست بأمهم خرجوا من الإسلام وإن قالوا: إنهم يسبونها، ويستحلون منها ما يستحلون من غيرها فإنهم يخرجون أيضاً: من الإسلام، فهم مترددون بهذا بين ضلالتين، لأن الله تعالى قال: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} 2.
وقد بين الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى منشأ غلط الخوارج في هذه المسألة حيث قال: "وموضع غلطهم ظنهم أن من كان مؤمناً لم يبح قتاله بحال، وهذا مما ضل به من ضل من الشيعة حيث ظنوا أن من قاتل علياً كافر فإن هذا خلاف القرآن، قال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} 3.
فأخبر سبحانه أنهم مؤمنون مقتتلون، وأمر إن بغت إحداهما
__________
= الزوائد 6/239-241، وقال عقبه: "رواه الطبراني وأحمد بعضه ورجالهما رجال الصحيح".
1ـ سورة المائدة آية/95.
2ـ سورة الأحزاب آية/6.
3ـ سورة الحجرات آية/9-10.(3/1171)
على الأخرى أن تقاتل التي تبغي فإنه لم يكن أمر بقتال أحدهما ابتداء، ثم أمر إذا فاءت إحداهما بالإصلاح بينهما بالعدل، وقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} فدل القرآن على إيمانهم وأخوتهم مع وجود الاقتتال والبغي، وأنه يأمر بقتال الباغية، حيث أمر الله به1.
وأما المشكلة الثالثة وهي قولهم إن علياً محا عن نفسه أمير المؤمنين فقد رد عليهم ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ بأنه ليس في هذا شيء يؤخذ على "عليّ" إذ أن الرسول عليه الصلاة والسلام الذي هو أفضل من "علي" محا عن نفسه صفة الرسالة التي هي منزلة أفضل من منزلة إمرة المؤمنين وذلك حين قال لعلي: في صلح الحديبية: "اكتب لهم كتاباً" فكتب علي: "هذا ما اصطلح عليه محمد رسول الله" فقال المشركون: والله لو نعلم انك رسول الله ما قاتلناك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم إنك لتعلم أني رسول الله، امح يا علي واكتب هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله"، فوالله لرسول الله خير من علي وقد محا نفسه.
بهذه الحجة الواضحة القوية استطاع ابن عباس2 أن يرد طائفة كبيرة
__________
1ـ مجموع الفتاوى 19/89-90.
2ـ وقد عزا بعض أهل العلم هذه المناظرة مع الخوارج إلى علي نفسه. انظر الفرق بين الفرق ص/78-79، البداية والنهاية 7/305، ولعل علياً رضي الله عنه هو الذي قرر أصول هذه الأجوبة أولاً، ثم أرسل ابن عباس بها ويؤيد هذا ما رواه الإمام أحمد وغيره من حديث عبد الله بن شداد هل أنت صادقي عما أسألك عنه تحدثني عن هؤلاء القوم الذي قتلهم علي رضي الله عنه. قال: وما لي لا أصدقك، قالت: تحدثني عن قصتهم، قال: فإن علياً رضي الله عنه لما كاتب معاوية وحكم الحكمان خرج عليه ثمانية آلاف من الناس فنزلوا بأرض يقال لها حروراء من جانب الكوفة، وأنهم عتبوا عليه، فقالوا: انسلخت من قميص ألبسكه الله تعالى "اسم سماك الله تعالى به" ثم انطلقت فحكمت في دين الله فلا حكم إلا لله تعالى، فلما أن بلغ علياً رضي الله عنه ما عتبوا عليه وفارقوه عليه فأمر مؤذناً فأذن أن لا يدخل على أمير المؤمنين إلا رجل قد حمل القرآن، فلما أن امتلأت الدار من قراء الناس دعا بمصحف إمام عظيم فوضعه بين يديه فجعل يصكه بيده، ويقول: أيها =(3/1172)
من الخوارج إلى الحق والصواب.
ومن المطاعن الخاصة التي طعنوا بها على علي رضي الله عنه أن نافع بن الأزرق بعد أن أكفر علياً افترى على الله وقال: إن الله أنزل في شأن علي {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} 1، وصوّب عبد الرحمن بن ملجم لعنه الله، وقال: "إن الله تعالى أنزل في شأنه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} 2.
وقد شارك نافع بن الأزرق في هذا الإفك والافتراء على الله "حفص بن أبي المقدام" زعيم الحفصية من الإباضية3.
والرد على هذا الزور:
يقال لهذين الخارجيين اللذين حرما فقه كتاب الله: "إن الله تعالى أنزل القرآن مفرقاً على رسوله صلى الله عليه وسلم حسب الحوادث، فقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
__________
= المصحف حدث الناس، فناداه الناس، فقالوا: يا أمير المؤمنين: ما تسأل عنه إنما هو مداد في ورق، ونحن نتكلم بما روينا منه، فماذا تريد؟. قال: أصحابكم هؤلاء الذين خرجوا بيني وبينهم كتاب الله، يقول الله تعالى في كتابه في امرأة ورجل {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} ، فأمة محمد صلى الله عليه وسلم أعظم دماً وحرمة من امرأة ورجل، ونقموا علي أن كاتبت معاوية وقد جاءنا سهيل بن عمرو ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية حين صالح قومه قريشاً، فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بسم الله الرحمن الرحيم" فقال سهيل: لا تكتب بسم الله الرحمن الرحيم، فقال كيف نكتب؟ فقال: اكتب باسمك اللهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فاكتب محمد رسول الله"، فقال: لو أعلم أنك رسول الله لم أخالفك، فكتب "هذا ما صالح محمد بن عبد الله قريشاً" ي قول الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} ، فبعث إليهم علي عبد الله بن عباس رضي الله عنه ... الحديث. المسند 1/86، ورواه أبو يعلى في مسنده 1/367-370، وأورده ابن كثير في البداية والنهاية 7/306-307، وقال: تفرد به أحمد وإسناده صحيح، واختاره الضياء في المختارة، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 6/235-237، وقال: رواه أبو يعلى ورجاله ثقات.
1ـ سورة البقرة آية/204.
2ـ الملل والنحل للشهرستاني 1/120، والآية رقم 207 من سورة البقرة.
3ـ مقالات الإسلاميين 1/183.(3/1173)
يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الآية نزلت في الأخنس بن شريق، وهو حليف بني زهرة، أقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فأظهر له الإسلام، وأعجب النبي صلى الله عليه وسلم ذلك منه، وقال: "إنما جئت أريد الإسلام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فمر بزرع لقوم من المسلمين وحمر فأحرق الزرع وعقر الحمر، فأنزل الله تعالى فيه: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} 1.
وقيل: "إنها نزلت في نفر من المنافقين تكلموا في خبيب وأصحابه الذين قتلوا بالرجيع وعابوهم"2.
وأما الآية الثانية، وهي: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} ، فإنها نزلت في صهيب بن سنان الرومي، حيث تبعه نفر من قريش لما خرج مهاجراً إلى الله ورسوله، فقالوا له: أتيتنا صعلوكاً حقيراً، فكثر مالك عندنا فبلغت ما بلغت، ثم تنطلق بنفسك ومالك؟ والله لا يكون ذلك فنزل عن راحلته وانتثل ما في كنانته، ثم قال: يا معشر قريش، لقد علمتم أني من أرماكم رجلاً وايم الله لا تصلون إلي حتى أرمي بكل سهم معي في كنانتي، ثم أضربكم بسيفي ما بقي في يدي منه شيء، فافعلوا ما شئتم، فإن شئتم دللتكم على مالي وخليتم سبيلي، قالوا: نعم، ففعل، فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ربح البيع أبا يحيى، ربح البيع"، فنزل قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} 3.
وبهذا تبين ن سبب نزول هاتين الآيتين ليس كما افتراه نافع بن الأزرق وحفص بن أبي المقدام زعيم الحفصية من الإباضية في أنهما نزلتا في علي رضي الله
__________
1ـ جامع البيان عن تأويل آي القرآن 2/312، أسباب النزول للنيسابوري ص/39، لباب النقول في أسباب النزول للسيوطي ص/40.
2ـ هذا القول مروي عن ابن عباس. انظر جامع البيان للطبري 2/313، تفسير القرآن العظيم لابن كثير 1/436.
3ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 3/228، وانظر أسباب النزول للنيسابوري ص/39، لباب النقول في أسباب النزول للسيوطي ص/40.(3/1174)
عنه، وفي المخذول عبد الرحمن بن ملجم الخارجي، وليس هناك من دافع لنافع بن الأزرق وحفص بن أبي المقدام لتأويلهما الآيتين بما تقدم ذكره إلا اتباع الهوى والبغض الذي امتلأ به قلوب الخوارج لعلي رضي الله عنه الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم أنه "لا يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق"1، فالخوارج الذين يبغضون علياً لهم النصيب الأكبر من هذا الوعيد الذي يتعرض له من أبغض رابع الخلفاء الراشدين.
ومن المطاعن التي طعن بها الخوارج على علي رضي الله عنه على وجه الخصوص ما زعمه حفص بن أبي المقدام من أن قوله تعالى: {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا} 2 فقد زعم هذا الأفاك الأثيم أن علياً هو الحيران الذي ذكره الله في هذه الآية، وأن أصحابه الذين يدعونه إلى الهدى أهل النهروان3.
والرد على هذا الإباضي الذي كان زعيم الحفصية من الإباضية.
أن تأويله الآية بهذا محض افتراء على الله وتقول عليه سبحانه بغير علم، فالآية الكريمة لم تنزل في أحد على وجه خاص، وإنما الآية كما قال إمام المفسرين بن جرير الطبري: مثل ضربه الله لجميع العباد إن هم كفروا بعد الإيمان، فقد قال رحمه الله في معنى الآية: "مثلكم إن كفرتم بعد الإيمان كمثل رجل كان مع قوم على الطريق، فضل الطريق فحيرته الشياطين واستهوته في الأرض وأصحابه على الطريق، فجعلوا يدعونه إليهم يقولون: ائتنا فإنا على الطريق، فأبى أن يأتيهم، فذلك مثل من يتبعكم بعد المعرفة بمحمد، ومحمد الذي يدعو إلى الطريق، والطريق هو الإسلام4، فالآية مثل ضربه الله للذي لا يستجيب لهدي الله وهو
__________
1ـ انظر الحديث في صحيح مسلم 1/86 من حديث علي نفسه.
2ـ سورة الأنعام آية/71.
3ـ مقالات الإسلاميين 1/183.
4ـ جامع البيان عن تأويل آي القرآن 7/236، وانظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي 3/296.(3/1175)
الرجل الذي أطاع الشيطان وعمل في الأرض بالمعصية وحاد عن الحق وضل عنه وهذا الوصف موجود في الخوارج المارقة الذين يتركون التأويل الحق لآيات الكتاب ويتعمدون إلى تأويلها بالباطل كما فعلوا في الآيات السابقة حيث افتروا على الله وأولوها على حسب أهوائهم، وبما يتفق مع بغضهم فكذبوا على الله وقالوا: إنها في علي رضي الله عنه البار الراشد الذي حفظت لنا السنة المطهرة الكثير من مناقبه الشريفة التي أعلاها وأجلها أنه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، وهو أحد الأشخاص الذين شهد لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة بأعيانهم وقد تربى على يدي النبي صلى الله عليه وسلم وفي بيت النبوة وشهد المشاهد كلها إلا غزوة تبوك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم خلفه على المدينة نيابة عنه صلى الله عليه وسلم، فكيف يأتي بعد هذا أناس شهد لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالمروق من الدين مروق السهم من الرمية، ويضادون شهادته صلى الله عليه وسلم بالجنة لطائفة من أصحابه، ثم يأتون ويقولون: إنهم كفار وإنهم يخلدون في النار بناء على شبه قذف بها الشيطان في قلوبهم فثبتت فيها فضلوا بها عن سواء السبيل وسلكوا طريق الضالين الغاوين.
وأما طعن الخوارج على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فإن الشبيبية من الخوارج الذين هم أتباع شبيب بن يزيد الخارجي أنكروا عليها خروجها إلى البصرة، ويزعمون أنها كفرت بمخالفتها قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} 1.
والرد على طعن الشبيبية هذا:
يقال لهم: إن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لم تخرج إلى البصرة لما قذفه الشيطان في قلوبكم من الشر وحملتم خروجها عليه، وإنما كان خروجها لقصد الإصلاح، رجاء ن يرجع الناس إلى أمهم فيرعوا حرمة نبيهم ورجت المثوبة واغتنمت الفرصة وخرجت رضي الله عنها حتى بلغت الأقضية مقاديرها،
__________
1ـ سورة الأحزاب آية/33.(3/1176)
ثم إن فرقة الشبيبية من الخوارج لم ينكروا على غزالة أم شبيب الخارجي ومن خرج معها من النساء الخارجيات لمقاتلة جيوش الحجاج بن يوسف الثقفي1 ولم يكفروهن بذلك ولم يتلوا عليهن الآية التي يستدلون بها على أن عائشة رضي الله عنها أخطأت في خروجها إلى البصرة، فإن زعموا أن أولئك النسوة معهن محارم من أزواج وبنين وإخوة يرد عليهم بأن أم المؤمنين كان معها أخوها محمد بن أبي بكر وابن أختها عبد الله بن الزبير، وهي أم المؤمنين بنص القرآن الكريم، حيث قال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} 2، ولكنهم قوم حرموا الفقه في الدين فلم يهتدوا لما أراده الله من الأوامر الشرعية.
ولقد رد عبد القاهر البغدادي على طعن الشبيبية على أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ بخروجها إلى البصرة، حيث قال: "يقال لهم أنكرتم على أم المؤمنين عائشة خروجها إلى البصرة، مع جندها الذي كل واحد منهم محرم لها لأنها أم جميع المؤمنين في القرآن وزعمتم أنها كفرت بذلك وتلوت عليها قول الله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} فهلا تلوتم هذه الآية على غزالة أم شبيب، وهلا قلتم بكفرها وكفر من خرجن معها من نساء الخوارج إلى قتال جيوش الحجاج، فإن أجزتم لهن ذلك لأنه كان معهن أزواجهن أو بنوهن أو إخوتهن، فقد كان مع عائشة أخوها عبد الرحمن وابن أختها عبد الله بن الزبير وكل واحد منهم محرم لها وجميع المسلمين بنوها وكل واحد محرم لها، فهل أجزتم لها ذلك على أن من أجاز منكم إمامة غزالة فإمامتها لائقة به وبدينه والحمد لله على العصمة من البدعة3.
فلقد وقف الخوارج من خيار الصحابة الذين تقدم ذكرهم موقفاً سيئاً
__________
1ـ انظر الفرق بين الفرق ص/112-113، في شأن مقاتلة نساء الخوارج للحجاج.
2ـ سورة الأحزاب آية/6.
3ـ الفرق بين الفرق ص/113.(3/1177)
مشيناً حيث إنه موقف ممن شهد الله لهم بالإيمان وأخبر أنه رضي الله عنهم ورضوا عنه وأن لهم النعيم المقيم، وأنهم أصحاب الفوز العظيم، كما أخبر تعالى أنه وعدهم جميعاً بالحسنى وأخبر صلى الله عليه وسلم أن من جاء بعدهم لا يدركهم في فضلهم ولو أنفق مثل أحد ذهباً ما يبلغ مد أحدهم ولا نصيفه فلا يكفرهم بعد هذا أو يقدح فيهم إلا إنسان معاند لله مكذب له فيما أخبر به عنهم بما ذكر، وهذه صفة من سفه نفسه وأنزلها منزلة الأخسرين أعمالاً..
نعوذ بالله من الضلال بعد الهدى، ومن الغواية بعد الهداية.(3/1178)
المبحث الرابع: ذكر أحاديث وآثار تتضمن ذمهم
لقد وردت أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذم الخوارج المارقة وصفوا فيها بأوصاف ذميمة شنيعة جعلتهم في أخبث المنازل، وكذا وردت بعض الآثار عن السلف تتضمن كذلك ذمهم وما سلكوه من الطريق المخالف لغير سبيل المؤمنين، وسأذكر في هذا المبحث جملة من ذلك لبيان أن الخوارج أهل هوى وبدعة آثروا غرور الشيطان وتزيينه وأعرضوا عما اشتمل عليه كتاب الله من الهدى، فلم يكن حظهم منه إلا مجرد تلاوته بالفم والحنجرة إذ بهما يتم تقطيع الحروف فلم تفقه قلوبهم، ولا انتفعوا بما تلوا منه، وقد وردت الإشارة إلى حالتهم هذه في الأحاديث التي وردت في ذمهم ووصمهم بأرذل الصفات.
فمن الأحاديث التي وردت الإشارة فيها إلى ذمهم:
ما رواه الشيخان في صحيحهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم قسماً ـ إذ أتاه ذو الخويصرة وهو رجل من بني تميم، فقال: يا رسول الله اعدل، فقال: "ويلك، ومن يعدل إذا لم أعدل، قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل"، فقال عمر: يا رسول الله ائذن لي فيه فأضرب عنقه، فقال: "دعه فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته من صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم1 يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية2 ينظر إلى.......
__________
1ـ تراقيهم: جمع ترقوة، وهي العظم بين ثغرة النحر والعاتق وهما ترقوتان من الجانبين. النهاية في غريب الحديث 1/187.
2ـ الرمية: الصيد الذي ترميه فتقصده وينفذ فيه سهمك. وقيل: هي كل دابة مرمية. النهاية 2/268.(3/1179)
نصله 1 فلا يوجد فيه شيء وينظر إلى رصافه 2 فما يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى نضيه ـ وهو قدحه ـ فلا يوجد فيه شيء، وقد سبق الفرث والدم 3 آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة، أو مثل البضعة4 تدردر5 ويخرجون على حين فرقة من الناس.
قال أبو سعيد: "فأشهد أني سمعت هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشهد أن علي بن أبي طالب قاتلهم وأنا معه فأمر بذلك الرجل فالتمس فأتي به حتى نظرت إليه على نعت النبي صلى الله عليه وسلم الذي نعته"6.
وروى الشيخان أيضاً من حديث أبي سلمة وعطاء بن يسار أنهما "أتيا أبا سعيد الخدري فسألاه عن الحرورية هل سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يذكرها؟، قال: لا أدري ما الحرورية؟، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "يخرج في هذه الأمة ـ ولم يقل منها ـ قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم فيقرءون القرآن لا يجاوز حلوقهم ـ أو حناجرهم ـ يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية فينظر الرامي إلى سهمه إلى نصله إلى رصافه فيتمارى في الفوقة7 هل علق بها من الدم شيء" 8.
وروى البخاري من حديث يسير بن عمرو قال: قلت لسهل بن حنيف:
__________
1ـ النصل: هو حديدة السهم. انظر شرح النووي 7/165.
2ـ رصافة يقال: رصف السهم إذا اشتد بالرضاف وهو عقب يلوي على مدخل النصل فيه. النهاية في غريب الحديث 2/227.
3ـ يعني: مر مراً سريعاً في الرمية لم يعلق به شيء من الفرث والدم، انظر شرح السنة للبغوي 10/226.
4ـ البضعة: القطعة من اللحم. النهاية في غريب الحديث 1/133.
5ـ تدردر: أي ترجرج تجيء وتذهب. النهاية في غريب الحديث 2/112.
6ـ صحيح البخاري 2/281، صحيح مسلم 2/744، 745.
7ـ الفوقة: بضم الفاء، هي: الحز الذي يجعل فيه الوتر. شرح النووي 7/165.
8ـ صحيح البخاري 4/197، صحيح مسلم 2/743-744.(3/1180)
هل سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الخوارج شيئاً؟، قال: سمعته يقول ـ وأهوى بيده قبل العراق: "يخرج منه قوم يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية" 1.
ففي هذه الثلاثة الأحاديث ذم واضح لفرقة الخوارج، فقد وصفهم صلى الله عليه وسلم بأنهم طائفة مارقة، وأنهم يشددون في الدين في غير موضع التشديد، وأنهم يبالغون في الصلاة وقراءة القرآن لكنهم لا يقومون بحقوق الإسلام، بل يمرقون منه بحيث يدخلون فيه ثم يخرجون منه سريعاً لم يتمسكوا منه بشيء، كما اشتمل الحديث الأول في هذه الثلاثة الأحاديث أنهم يقاتلون أهل الحق، وأن أهل الحق يقاتلونهم وأن فيهم رجلاً صفة يدة كذا وكذا، وكل هذا وقع وحصل كما أخبر به صلى الله عليه وسلم وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يجاوز تراقيهم" احتمالان:
الأول: يحتمل أنه لكونه لا تفقهه قلوبهم ويحملونه على غير المراد به.
الثاني: يحتمل أن يكون المراد أن تلاوتهم لا ترتفع إلى الله2.
ومن صفاتهم الذميمية التي ذمهم بها الرسول صلى الله عليه وسلم أنهم ليس لهم من الإيمان إلا مجرد النطق به، وأنهم أصحاب عقول رديئة وضعيفة، وأنهم عندما يقرءون القرآن يظنونه لشدة ما بلغوا إليه من سوء الفهم أنه لهم وهو عليهم.
فقد روى البخاري رحمه الله من حديث علي رضي الله عنه، أنه قال: إذا حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً فوالله لأن أخر من السماء أحب إلي من أن أكذب عليه، وإذا حدثتكم فيما بيني وبينكم فإن الحرب خدعة، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سيخرج قوم في أخر الزمان3 أحداث
__________
1ـ صحيح البخاري 4/198، وانظر صحيح مسلم 2/750.
2ـ فتح الباري: 6/618، وانظر ما قاله القاضي عياض في شرح النووي 7/159.
3ـ قال الحافظ ابن حجر: المراد بآخر الزمان زمان خلافة النبوة فإن في حديث سفينة المخرج في السنن وصحيح ابن حبان وغيره مرفوعاً "الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم تصير ملكاً" وكانت قصة =(3/1181)
الأسنان1 سفهاء الأحلام 2 يقولون من خير قول البرية 3 لا يجاوز إيمانهم حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية" 4.
وفي صحيح مسلم من حديث زيد بن وهب الجهني أنه كان في الجيش الذي كانوا مع علي رضي الله عنه الذين ساروا إلى الخوارج، فقال علي رضي الله عنه: أيها الناس إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يخرج قوم من أمتي 5 يقرءون القرآن ليس قرائتكم إلى قرائتهم بشيء، ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء، ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء، يقرءون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم لا تجاوز صلاتهم تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية" 6.
وفي هذين الحديثن ذم للخوارج بأنهم ليس لهم من الإيمان إلا مجرد النطق، فقد دل الحديث الأول على أنهم يؤمنون بالنطق لا بالقلب7، وأما هذا الحديث الذي هو حديث زيد بن وهب الجهني عن علي رضي الله عنه فقد أطلق الإيمان
__________
= الخوارج وقتلهم بالنهروان في أواخر خلافة علي سنة ثمان وعشرين بعد النبي صلى الله عليه وسلم بدون الثلاثين بنحو سنتين. فتح الباري 12/287.
1ـ صغار الأسنان شرح النووي على صحيح مسلم 7/169، وانظر النهاية في غريب الحديث 1/351.
2ـ أي: ضعفاء العقول. فتح الباري 6/619.
3ـ " يقولون من قول خير البرية" أي: من القرآن كما في حديث أبي سعيد المتقدم "يقرءون القرآن" وكان أول كلمة خرجوا بها قولهم: لا حكم إلا لله وانتزعوها من القرآن وحملوها على غير محملها. فتح الباري 6/619، وانظر شرح النووي على صحيح مسلم 7/169.
4ـ صحيح البخاري 2/281.
5ـ تقدم في حديث أبي سعيد "يخرج في هذه الأمة" ولم يقل منها وفي هذا الحديث يخرج قوم من أمتي" فهنا يحتاج إلى الجمع بينهما. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله مبيناً وجه الجمع بين الحديثين: "المراد بالأمة في حديث أبي سعيد أمة الإجابة، وفي رواية غيره أمة الدعوة. قال النووي: "وفيه دلالة على فقه الصحابة وتحريرهم الألفاظ وفيه إشارة عن أبي سعيد إلى تكفير الخوارج وأنهم من غير هذه الأمة. فتح الباري 12/289، وانظر شرح النووي على صحيح مسلم 7/164.
6ـ صحيح مسلم 2/748.
7ـ فتح الباري 12/288, وانظر عمدة القاريء 24/86.(3/1182)
فيه على الصلاة وكلا الحديثين دلا على أن إيمانهم محصور في نطقهم وأنه لا يتجاوز حناجرهم، ولا تراقيهم، وهذا من أبشع الذم وأقبحه لمن وصف به.
ومن الصفات القبيحة التي ذمهم بها عليه الصلاة والسلام أنهم بمروقهم من الدين لا يوفقون للعودة إليه، وأنهم شر الخلق والخليقة، فقد روى مسلم رحمه الله من حديث أبي ذر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن بعدي من أمتي أو سيكون بعدي من أمتي قوم يقرءون القرآن لا يجاوز حلاقيمهم يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية، ثم لا يعودون فيه، هم شر الخلق والخليقة" 1.
وروي من حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر قوماً يكونون في أمته يخرجون في فرقة من الناس سيماهم التحالق قال: "هم شر الخلق "أو من شر الخلق" يقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق" 2.
ومن أخبر صلى الله عليه وسلم عنه بهذه الصفة لا شك أنه من المهلكين البائسين الذين يحادون الله ورسوله ولهم الذلة والصغار في الدنيا قبل الآخرة.
ومن صفات الذم التي ذم بها الخوارج على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم من أبغض الخلق إلى الله.
فقد جاء في صحيح مسلم من حديث عبيد بن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الحرورية لما خرجت وهو مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه قالوا: لا حكم إلا لله، قال علي: كلمة حق أريد بها باطل3 إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف ناساً إني لأعرف صفتهم وهؤلاء يقولون الحق بألسنتهم لا يجوز هذا منهم، "وأشار إلى حلقه" من أبغض خلق الله إليه منهم أسود إحدى
__________
1ـ صحيح مسلم 2/750.
2ـ صحيح مسلم 2/745.
3ـ معناه: أن الكلمة أصلها صدق. قال الله تعالى: {إن الحكم إلا لله} . لكنهم أرادوا بها الإنكار =(3/1183)
يديه طبي شاة1 أو حلمة ثدي، فلما قتلهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: انظروا فنظروا فلم يجدوا شيئاً، فقال: أرجو فوالله ما كذبت ولا كذبت مرتين أو ثلاثاً ثم وجدوه في خربه فأتوا به حتى وضعوه بين يديه، قال عبيد الله: وأنا حاضر ذلك من أمرهم وقول علي فيهم2.
ومن صفاتهم القبيحة التي كانت ذماً لهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم حرموا من معرفة الحق والاهتداء إليه.
فقد روى مسلم رحمه الله في صحيحه من حديث أسير3 بن عمرو عن سهل بن حنيف عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يتيه قوم قبل المشرق محلقة رؤوسهم "4.
قال النووي: قوله صلى الله عليه وسلم "يتيه قوم قبل المشرق" أي: يذهبون عن الصواب، وعن طريق الحق، يقال: تاه إذا ذهب ولم يهتد لطريق الحق والله أعلم5.
ومن الصفات المذمومة التي تلبسوا بها وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها واقعة فيهم أنهم يتدينون بقتل أهل الإسلام وترك عبدة الأوثان والصلبان.
فقد روى الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي سعيد الخدري قال: بعث علي رضي الله عنه وهو باليمن بذهبة في تربتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسمها
__________
= على علي رضي الله عنه في تحكيمه. انظر شرح النووي على صحيح مسلم 7/173-174.
1ـ يقال: لموضع الإخلاف من الخيل والسباع أطباء كما يقال: في ذوات الخف والظلف: خلف وضرع والمراد به هنا ضرع الشاة. انظر النهاية في غريب الحديث 3/115، وانظر شرح النووي على صحيح مسلم 7/174.
2ـ صحيح مسلم 2/749.
3ـ تقدم قريباً في حديث أن اسمه يسير بالياء المضمومة وفتح السين وهنا مثله إلا أنه بهمزة مضمومة وكلاهما صحيح يقال: يسير وأسير. انظر شرح النووي على صحيح مسلم 7/174-175.
4ـ صحيح مسلم 2/750.
5ـ شرح النووي على صحيح مسلم 7/175.(3/1184)
رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أربعة نفر ... فجاء رجل كث اللحية مشرف الوجنتين1 ناتئ الجبين2، محلوق الرأس فقال: اتق يا محمد، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فمن يطيع الله أن عصيته أيأمنني على أهل الأرض ولا تأمنوني" قال: ثم أدبر الرجل، فاستأذن رجل من القوم في قتله يرون أن خالد بن الوليد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن من ضئضئي هذا قوماً يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد" 3.
وفي هذا معجزة باهرة للرسول صلى الله عليه وسلم حيث وقع منهم ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم كانوا يسلون سيوفهم على أهل الإسلام بالقتل وكانوا يغمضونها عن الكفار من اليهود والنصارى، وكانوا يعظمون ظلمهم بل بلغ بهم سوء حالهم أن عنفوا أحدهم على تناوله حبة تمر من نخيل كتابي، كما زجروا أحدهم ولاموه على قتله خنزير لمعاهد، أما سفكهم دماء أهل الإسلام فإنهم يستحلون ذلك ويهونون أمره، ولا يلومون عليه كقتلهم عبد الله بن خباب بن الأرت4 وغيره من المسلمين، فإنهم فعلوا ذلك واستعرضوا الناس بالسيف دون أن يقول بعضهم لبعض هذا منكر.
ومن الصفات القبيحة التي كانت ذماً وعاراً مشيناً للخوارج أن الرسول صلى الله عليه وسلم حرض على قتلهم إن هم ظهروا وأخبر عليه الصلاة والسلام أنه لو أدركهم لأبادهم بالقتل إبادة عاد وثمود، وأخبر عليه الصلاة والسلام بأن من قتلهم له أجر عند الله تعالى يوم القيامة.
فقد روى الشيخان البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري
__________
1ـ مشرف الوجنتين: أي غليظهما والوجنتان تثنية وجنة والوجنة من الإنسان ما ارتفع من لحم خده.
2ـ ناتئ الجبين: أي بارز الجبين من النتوء وهو الارتفاع.
3ـ صحيح البخاري 2/232، صحيح مسلم 2/741-742.
4ـ انظر مصنف ابن أبي شيبة 15/323.(3/1185)
رضي الله عنه قال: بعث علي رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذهيبة فقسمها بين الأربعة الأقرع بن حابس الحنظلي ثم المجاشعي وعيينة بن حصن الفزاري وزيد الطائي ثم أحد بني نبهان وعلقمة بن علاثة العامري ثم أحد بني كلاب فغضبت قريش والأنصار، قالوا: يعطي صناديد1 أهل نجد ويدعنا قال: "إنما أتألفهم"، فأقبل رجل غائر العينين2 مشرف الوجنتين، ناتئ الجبين كث اللحية3 محلوق، فقال: اتق الله يا محمد، فقال: "من يطع الله إذا عصيت أيأمنني الله على أهل الأرض فلا تأمنوني" فسأله رجل قتله أحسبه خالد4 بن الوليد فمنعه، فلما ولى قال: "إن من ضئضئي هذا أو في عقب هذا قوم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية ... لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد "5.
وفي رواية لهما بلفظ قال: أظنه قال: "لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود"6.
وروى البخاري بإسناده إلى سويد بن غفلة قال: "قال علي رضي الله عنه: إذا حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأن أخر من السماء أحب إلي من أن
__________
1ـ صناديد أهل نجد: أي سادتها وأحدها صنديد.
2ـ غائر العينين: أي: أن عينيه داخلتان في محاجرهما لاصفتان بقعر العين.
3ـ كث اللحية: قال ابن الأثير: "الكثافة في اللحية أن تكون غير دقيقة ولا طويلة وفيها كثافة، يقال: كث اللحية بالفتح، وقوم كث بالضم. النهاية في غريب الحديث 4/152.
4ـ جاء في صحيح البخاري 4/198، وكذا صحيح مسلم 2/744. أن الذي سأل قتله عمر رضي الله عنه، وقد جمع الحافظ بين الحديثين بأن كلا منهما سأل ذلك وقد جاء في صحيح مسلم 2/743 من حديث عمارة بن القعقاع فقام إليه عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله ألا أضرب عنقه؟، قال: لا. قال: ثم أدبر فقام إليه خالد سيف الله فقال: يا رسول الله ألا أضرب عنقه، قال: "لا"، فهذا نص في أن كلاً منهما سأل وقد استشكل سؤال خالد وذلك لأن بعث علي إلى اليمن كان عقب بعث خالد بن الوليد إليها والذهب المقسوم أرسله علي من اليمن كما في صدر حديث أبي سعيد ويجاب بأن علياً لما وصل إلى اليمن رجع خالد منها إلى المدينة فأرسل علي الذهب فحضر خالد قسمته. انظر فتح الباري 12/293.
5ـ صحيح البخاري 2/232، صحيح مسلم 2/742، واللفظ للبخاري.
6ـ صحيح البخاري 3/74، صحيح مسلم 2/742-743.(3/1186)
أكذب عليه، وإذا حدثتكم فيما بيني وبينكم فإن الحرب خدعة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يأتي في آخر الزمان حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من خير قول أهل البرية يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، فأين ما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم يوم القيامة" 1.
وفي صحيح مسلم من حديث علي رضي الله عنه أنه قال: أيها الناس إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يخرج قوم من أمتي يقرءون القرآن ليس قرائتكم إلى قرائتهم بشيء، ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء، ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء يقرءون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم لا تجاوز صلاتهم تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية"، لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قضى لهم على لسان نبيهم صلى الله عليه وسلم لاتكلوا عن العمل وآية ذلك أن فيهم رجلاً له عضد وليس له ذراع على رأس عضده مثل حلمة الثدي، عليه شعرات بيض فتذهبون إلى معاوية وأهل الشام وتتركون هؤلاء يخلفونكم في ذراريكم وأموالكم والله إني لأرجو أن يكون هؤلاء القوم فإنهم قد سفكوا الدم الحرام وأغاروا في سرح الناس2، فسيروا على اسم الله، قال سلمة بن كهيل: فنزلني زيد بن وهب منزلاً حتى قال: مررنا على قنطرة فلما التقينا وعلى الخوارج يومئذ عبد الله بن وهب الراسبي فقال لهم ألقوا الرماح وسلوا سيوفكم من جفونها 3 فإني أخاف أن يناشدوكم كما ناشدوكم يوم حروراء، فرجعوا فوحشوا برماحهم4 وسلوا السيوف، وشجرهم الناس.....
__________
1ـ صحيح البخاري 2/281، وهو في مسلم 2/746-747.
2ـ أغاروا في سرح الناس: السرح والسارح والسارحة الماشية، أي، أغاروا على مواشيهم السائمة، النهاية في غريب الحديث 2/358.
3ـ وسلوا سيوفكم من جفونها: أي: أخرجوها من أغمادها جمع جفن وهو الغمد. النهاية في غريب الحديث 1/280.
4ـ فوحشوا برماحهم: أي: رموا بها عن بعد منهم ودخلوا فيهم بالسيوف حتى لا يجدوا فرصة.(3/1187)
برماحهم1، قال: وقتل بعضهم على بعض وما أصيب من الناس يومئذ إلا رجلان فقال علي رضي الله عنه: التمسوا فيهم المخدج2 فالتمسوه فلم يجدوه، فقام علي رضي الله عنه بنفسه حتى أتى ناساً قد قتل بعضهم على بعض، قال: أخروهم فوجدوه مما يلي الأرض فكبر ثم قال: صدق الله وبلغ رسوله، قال: فقام إليه عبيدة السلماني فقال: يا أمير المؤمنين آلله الذي لا إله الا هو لسمعت هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إي والله الذي لا إله إلا هو، حتى استحلفه ثلاثاً3 وهو يحلف له4.
فهذه ثلاثة أحاديث اشتملت على ذم واضح للخوارج المارقة حيث حرض النبي صلى الله عليه وسلم على قتلهم متى ظهروا كما ورد في هذه الأحاديث التنويه بعظيم أجر من قاتلهم عند الله تعالى، وقد شرف الله رابع الخلفاء الراشدين علي بن أبي طالب رضي الله عنه بمقاتلتهم وقتلهم إذ أن ظهروهم كان في زمنه رضي الله عنه وأرضاه على وفق ما وصفهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم من العلامات الموجودة فيهم، فقد خرج رضي الله عنه إلى الخوارج بالجيش الذي كان قد هيأه للخروج إلى الشام فأوقع بهم بالنهروان ولم ينج منهم إلا دون العشرة ولم يقاتلهم رضي الله عنه حتى سفكوا الدم الحرام وأغاروا على أموال المسلمين فقاتلهم لدفع ظلمهم وبغيهم، ولما أظهروه من الشر في أعمالهم وأقوالهم وحسبنا هنا من الأحاديث الواردة في ذم الخوراج ما تقدم ذكره إذ الأحاديث الورادة في ذمهم كثيرة قلما
__________
1ـ وشجرهم الناس برماحهم: أي مدوها إليهم وطاعنوهم بها ومنه التشاجر في الخصومة وسمي الشجر شجراً لتداخل أغصانه والمراد بالناس أصحاب علي. النهاية في غريب الحديث 2/446.
2ـ المخدج: بضم الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الدال أي: ناقص اليد. شرح النووي على صحيح مسلم 17/171، النهاية في غريب الحديث 2/13.
3ـ قال النووي: وإنما استحلفه ليسمع الحاضرين ويؤكد ذلك عندهم ويظهر لهم المعجزة التي أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ويظهر لهم أن علياً وأصحابه أولى الطائفتين بالحق وأنهم محقون في قتالهم. شرح النووي على صحيح مسلم 7/173.
4ـ صحيح مسلم 2/748-749.(3/1188)
يخلو منها كتاب من كتب السنة المطهرة.
وأما الآثار الورادة عن السلف في ذم الخوارج فكثيرة جداً أيضاً نذكر طرفاً منها لبيان أن الخوارج اتصفوا بصفات ذميمة عابهم بها السلف رحمهم الله.
فمن الصفات التي ذمهم بها السلف أنهم قوم أصيبوا بالفتنة فعموا عن الحق وصموا فلا يسمعون حقاً ولا يهتدون إليه.
فقد روى عبد الرزاق عن معمر عمن سمع الحسن قال: لما قتل علي رضي الله عنه الحرورية قالوا: من هؤلاء يا أمير المؤمنين، أكفار هم؟، قال: من الكفر فروا، قيل: فمنافقون؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً وهؤلاء يذكرون الله كثيراً، قيل: فما هم؟، قال: قوم أصابتهم فتنة فعموا فيها وصموا1.
ومن الصفات الشنيعة التي شنع عليهم السلف بها أنهم كانوا يعتبرونهم من شرار خلق الله تعالى، حيث إنهم عمدوا إلى آيات من كتاب الله تعالى مقصود بها الكفار فجعلوها في المؤمنين، فقد كان عبد الله بن عمر رضي الله عنه يراهم شرار خلق الله وقال: إنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين2.
وروى عبد الرزاق عن معمر عن أبي غالب3 قال: لما أتي برؤوس الأزارقة فنصبت على درج دمشق4 جاء أبو أمامة رضي الله عنه، فلما رآهم
__________
1ـ مصنف عبد الرزاق 10/150.
2ـ رواه البخاري تعليقاً في صحيحه 4/197، وقال الحافظ ابن حجر بعد ذكره لقول ابن عمر هذا: "وصله الطبري في مسند علي من تهذيب الآثار من طريق بكير بن عبد الله بن الأشج، أنه سأل نافعاً كيف كان رأي ابن عمر في الحرورية؟، قال: كان يراهم شرار خلق الله انطلقوا إلى آيات الكفار فجعلوها في المؤمنين ـ ثم قال ـ سنده صحيح. أهـ فتح الباري 12/286.
3ـ قيل: اسمه حزور البصري. وقيل: سعيد بن حزور، وقيل: نافع. انظر ترجمته في تهذيب التهذيب 12/197.
4ـ هذه الرؤوس مما كان بعث به المهلب بن أبي صفرة في عهد عبد الملك بن مروان. انظر تهذيب تاريخ دمشق 6/420.(3/1189)
دمعت عيناه، ثم قال: كلاب النار كلاب النار، هؤلاء لشر قتلى قتلوا تحت أديم السماء، وخير قتلى تحت أديم السماء الذين قتلهم هؤلاء، قلت: فما شأنك دمعت عيناك؟، قال: رحمة لهم إنهم كانوا من أهل الإسلام، قال: قلت أبرأيك قلت: كلاب النار، أو شيء سمعته؟، قال: إني إذاً لجريء بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة، ولا اثنتين ولا ثلاثاً فعدد مراراً، ثم تلا: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} حتى بلغ {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 1 وتلا {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} حتى بلغ {أُولُو الأَلْبَابِ} 2، ثم أخذ بيدي فقال: أما إنهم بأرضك كثير فأعاذك الله تعالى منهم3.
وروى ابن أبي شيبة بإسناده إلى عمير بن إسحاق، قال: ذكروا الخوارج عند أبي هريرة، قال: "أولئك شرار الخلق"4
ومن الصفات التي ذمهم بها السلف ووجدت فيهم أنهم كانوا يخشعون عند تلاوة المحكم من كتاب الله ـ عز وجل ـ ولكنهم كانوا يهلكون عند المتشابه منه.
فقد روى أبي أبي شيبة أيضاً: بإسناده إلى ابن عباس أنه ذكر ما يلقى الخوارج عند القرآن، فقال: يؤمنون عند محكمه ويهلكون عند متشابهه5.
ومن الصفات التي ذمهم بها السلف ووجدوهم عليها أنهم "لما عدلوا عن اتباع الحق مع علمهم به أزاغ الله قلوبهم عن الهدى وأسكنها الشك والحيرة
__________
1ـ سورة آل عمران آية/106-107.
2ـ سورة آل عمران آية/7.
3ـ مصنف عبد الرزاق 10/152، مصنف ابن أبي شيبة 15/307-308، تهذيب تاريخ دمشق 6/420.
4ـ مصنف ابن أبي شيبة 15/305.
5ـ مصنف ابن أبي شيبة 15/313.(3/1190)
والخذلان، فقد روى ابن أبي شيبة بإسناده إلى مصعب بن سعد قال: سئل أبي عن الخوارج، قال: قوم زاغوا فأزاغ الله قلوبهم"1.
ومما ذمهم به السلف رحمهم الله أنهم لما وقعوا في البدعة استدرجهم الشيطان شيئاً فشئاً حتى بلغ بهم إلى أن استحلوا سفك دماء أهل الإسلام، واجتمعوا على السيف وفتنوا بالاختلاف في الدين.
فقد روى عبد الرزاق في المصنف بإسناده إلى الحسن بن علي أنه قال: لرجل من الخوارج: ما الإسلام؟، قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وحج البيت وصيام رمضان والغسل من الجنابة، وذكر أشياء، فقال الحسن: إنك لتقتل من هذا دينه.
وروى أيضاً بإسناده إلى أبي قلابة أنه قال: "ما ابتدع قوم بدعة إلا استحلوا بها السيف"2.
وقال أيوب السختياني رحمه الله: "إن الخوارج اختلفوا في الإسلام واجتمعوا على السيف"3.
ومن الصفات التي تعد ذماً للخوراج وتشنيعاً عليهم أن السلف رحمهم الله كانوا يحمدون الله تعالى، أن نجاهم مما وقع فيه الحرورية، فقد روى عبد الرزاق بإسناده إلى أبي العالية الرياحي أنه قال: "إن علي لنعمتين ما أدري أيتهما أعظم أن هداني الله للإسلام ولم يجعلني حرورياً"4.
ومما شنع به السلف على الخوارج المارقة أنهم كانوا إذا استأذنوا عليهم في بيوتهم لم يأذنوا لهم بالدخول لشناعة بدعتهم ولقبح فعلهم مع أهل الإسلام،
__________
1ـ المصدر السابق 15/325، كنز العمال 11/323.
2ـ هذا الأثر والذي قبله في مصنف عبد الرزاق 10/151.
3ـ شرح السنة للبغوي 10/233.
4ـ المصنف لعبد الرزاق 10/153.(3/1191)
واحترامهم لأهل الأوثان.
فقد روى ابن أبي شيبة بإسناده إلى غيلان بن جرير قال: "أردت أن أخرج مع أبي قلابة إلى مكة، فاستأذنت عليه فقلت: أدخل؟، قال: إن لم تكن حرورياً" 1.
والآثار عن السلف في ذم الخوارج كثيرة وحسبنا في هذا المقام ما تقدم وكلها دلت على أن فرقة الخوارج من أهل البدع والبغي أشربت قلوبهم بحب الخروج على الولاة ومخالفة الجماعة وشق العصا واستحلال دماء أهل الإسلام وتكفيرهم والحكم عليهم بالخلود في النار، ويسالمون عبدة الأوثان نعوذ بالله من الحيرة والشك والخذلان ...
__________
1ـ مصنف ابن أبي شيبة 15/316(3/1192)
المبحث الخامس: الرد على معتقد النواصب في الصحابة
النواصب إحدى طوائف أهل البدع التي أصيبت في معتقدها بعدم التوفيق للإعتقاد السديد في الصحابة الكرام رضي الله عنهم، فقد زين لهم الشيطان اعتقاد عدم محبة رابع الخلفاء الراشدين وأحد الأئمة المهديين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وحملهم على التدين ببغضه وعداوته والقول فيه بما هو بريء منه كما تعدى بغضهم إلى غيره من أهل البيت كابنه الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره، وقبل أن أذكر معتقد النواصب الذي جعلهم في ركب الفرق التي هلكت في شأن الصحابة الكرام أذكر تعريفهم ليعلم أنها فرقة غاب عنها قدر أهل بيت النبوة الذين في مقدمتهم علي رضي الله عنه والذي هو خير الأمة بعد الخلفاء الثلاثة قبله رضي الله عنهم أجمعين حيث نال شرف تربية الرسول صلى الله عليه وسلم له، ونال شرف الصحبة للنبي صلى الله عليه وسلم منذ صغره ولما كبر كان شجاعاً مقداماً في محاربته الكفار والمشركين، مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك كان في حروب الردة مع الصديق رضي الله عنه ... وإلى تعريف فرقة النواصب:
جاء في القاموس: "وناصبه الشر أظهره له ... والنواصب والناصبية وأهل النصب المتدينون ببغضة علي رضي الله عنه لأنهم نصبوا له، أي: عادوه"1.
وجاء في لسان العرب: ناصبه الشر والحرب والعداوة مناصبة أظهره له
__________
1ـ القاموس المحيط 1/137، 138. وانظر: تاج العروس 1/487، أساس البلاغة للزمخشري ص/635.(3/1193)
ونصبه وكله من الانتصاب ... والنواصب: "قوم يتدينون ببغضة علي عليه السلام"1.
وفي كليات أبي البقاء الكفوي: "والنصب يقال أيضاً: لمذهب هو بغض علي بن أبي طالب وهو طرفي النقيض من الرفض"2.
فتبين من هذه التعاريف المتقدم ذكرها أن النصب هو بغض علي بن أبي طالب رضي الله عنه والنيل منه والانحراف عنه، وسمي من كانت هذه صفته ناصبياً فالنصب كالرفض لأن الرفض هو بغض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والنيل منهم بالشتم والسب وكلاهما ضلال وابتعاد عن منهج الله في وجوب حب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعرفة سابقتهم في الإسلام، وجهادهم بأنفسهم وأموالهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصرتهم له.
معتقدهم السيء في الصحابة:
تبين من التعريف للنواصب أن من معتقدهم الفاسد تدينهم ببغض علي رضي الله عنه وأرضاه، ولم يقفوا عند هذا الضلال الذي هو تدينهم ببغضه بل افتروا عليه وتنقصوه حتى بلغ بهم سوء حالهم حتى رموه بالفسق ووصفوه بالظلم.
فقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى موقف الخوارج من علي رضي الله عنه ومعتقد النواصب فيه بعد ن بين أن الرافضة عاجزون عن رد مطاعن الفريقين فيه رضي الله عنه، قال: "الخوارج الذين يكفرون علياً، والنواصب الذين يفسقونه ـ يقولون ـ إنه كان ظالماً طالباً للدنيا وإنه طلب الخلافة لنفسه وقاتل عليها بالسيف وقتل على ذلك ألوفاً من المسلمين حتى عجز
__________
1ـ لسان العرب 1/761، 762.
2ـ كليات أبي البقاء الكفوي ص/361، وانظر: هدي الساري مقدمة فتح الباري ص/459.(3/1194)
عن انفراده بالأمر وتفرق عليه أصحابه وظهروا عليه فقاتلوه1.
كما يعتقدون أنه كان مخطئاً في حروبه ولم يكن مصيباً فيها2.
ثم إن النواصب تناولوا أيضاً: بالقول السيء الحسين بن علي رضي الله عنه حيث زعموا: "أن الحسين كان خارجياً، وأنه كان يجوز قتله لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من أتاكم وأمركم على رجل واحد يريد أن يفرق جماعتكم فاضربوا عنقه بالسيف كائناً من كان" رواه مسلم3.
وإلى بيان رد هذا المعتقد السيء:
فاعتقاد النواصب ببغض علي وتدينهم به ضلال وجهالة ومخالف لما أراده الله ورسوله ممن جاء بعد الصحابة من وجوب تطهير قلوبهم من الغل والحقد عليهم ووجوب محبتهم والدعاء والاستغفار لهم.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 4 ففي هذه الآية بيان ما يجب للصحابة عموماً على من جاء بعدهم من المؤمنين، فقد ندبهم الله إلى الدعاء والاستغفار لهم وإلى تطهير قلوبهم من الغل والحقد على الصحابة الكرام الذين منهم علي بن أبي طالب وابنه الحسين بن علي رضي الله عنهما، بل إن علياً رضي الله عنه كان ممن لهم الصدارة في جيل الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، فالنواصب الذين يبغضونه ويعاندونه معاندون للقرآن الذي وصى الله تعالى فيه عباده أن يقفوا من صحابة نبيه صلى الله عليه وسلم الموقف الجميل وأن يقولوا فيهم القول الحسن.
__________
1ـ منهاج السنة النبوية 1/162.
2ـ انظر فتح الباري 1/543.
3ـ ذكر معتقدهم هذا شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة 2/256، وانظر لفظ الحديث في صحيح مسلم 2/1479.
4ـ سورة الحشر آية/10.(3/1195)
وأما معاندتهم لما جاء في السنة المطهرة ومخالفتهم لها ودلالتها على خسران اعتقادهم في علي فأكثر من أن يحصى، فقد عد النبي صلى الله عليه وسلم حب علي علامة على إيمان من يحبه، كما بين أن بغضه علامة واضحة على نفاق من يبغضه.
فقد روى الإمام مسلم بإسناده إلى علي رضي الله عنه أنه قال: "والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي صلى الله عليه وسلم إلي أن لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق"1، فهذا الوعيد يتناول كل من يبغض علياً رضي الله عنه كالخوارج والنواصب الذين لهم القسط الأكبر منه إذ هم أهلك الطوائف في أهل البيت، إذ لم يعرفوا لعلي رضي الله عنه قربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحب النبي عليه الصلاة والسلام له وما كان منه في نصرة الإسلام وسوابقه فيه، فمن أبغضه دل ذلك على نفاقه وفساد سريرته والعياذ بالله، فلا يبغض علياً رضي الله عنه أو غيره من أهل البيت إلا رجل متبع لهواه ومعتقد للباطل.
ومن الأحاديث التي خالفها النواصب والتي فيها الإشارة إلى خسرانهم وأنهم قوم هلكى بتدينهم ببغض علي أن المصطفى عليه الصلاة والسلام جعل حب علي رضي الله عنه حباً له وبغضه بغض له صلى الله عليه وسلم.
فقد روى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى سلمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أحب علياً فقد أحبني، ومن أبغض علياً فقد أبغضني" 2، فهذا الحديث فيه الحث على حب علي رضي الله عنه والتحذير من بغضه، ووجوب محبته، والنواصب مخالفون لحثه صلى الله عليه وسلم على حب علي، ولذلك وقعوا في المحظور الذي هو تحريم بغض علي وغيره من أهل البيت.
ومن الأحاديث التي أعرض الناصبة عنها صفحاً فلم يعملوا بها ولم يرعووا
__________
1ـ صحيح مسلم 1/86.
2ـ المستدرك 3/130، وقال عقبه: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وأقره الذهبي وأورده السيوطي في الجامع الصغير، ورمز له بالصحة. انظر فيض القدير 6/32، كما أورده الألباني في صحيح الجامع 5/228، وقال عقبه: صحيح.(3/1196)
بما جاء فيها من تحريم بغض الصحابة ولم يحذروا ما جاء فيها من الوعيد ما رواه البخاري بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب" 1.
هذا الحديث نص في تحريم معاداة أولياء الله الذين آمنوا به واتقوه ولا يشك مسلم في أن في مقدمة أولياء الله الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين وعلي رضي الله عنه واحد منهم بل هو ممن لهم الصدارة في الرعيل الأول رضي الله عنهم وأرضاهم، وفي هذا التهديد الشديد في الحديث يدخل النواصب لأن من كره من أحب الله خالف الله، ومن خالف الله، عانده، ومن عانده كان من الهالكين.
ومن الأحاديث التي دلت على شناعة تدين النواصب ببغض أهل البيت أنهم لم يحفظوا وصية النبي صلى الله عليه وسلم فيهم.
فقد روى الإمام مسلم رحمه الله بإسناده إلى إلى زيد بن أرقم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به" فحث على كتاب الله ورغب فيه، ثم قال: "وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي" 2.
فهذا تكرار في هذه الوصية بأهل بيته تعني الأمر بوجوب احترامهم وإبرازهم وتوقيرهم ومحبتهم ومعرفة مكانتهم منه عليه الصلاة والسلام ولكن هذه الوصية لم يوفق للعمل بها إلا أهل السنة والجماعة العاملون بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وحرم من العمل بها الرافضة والخوارج والنواصب حيث قابلوها بالمخالفة والعقوق.
أما الرافضة فقد غلوا في حب بعضهم بما يزري بهم ويتأذون به حيث
__________
1ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 11/340.
2ـ صحيح مسلم 4/1873.(3/1197)
قالوا: فيهم من الغلو ما هم منه براء، وأما الخوارج فكفروهم، وأما النواصب فإنهم تجرؤوا على بغضهم وعداوتهم بالقول والفعل، فخالفوا المصطفى صلى الله عليه وسلم في وصيته، وقابلوه بنقيض مقصوده وأمنيته، فهذه الأحاديث المتقدم ذكرها دلت على أن بغض النواصب لعلي رضي الله عنه أو غيره من أهل البيت انحراف واضح عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم اللذين دلا على وجوب حبهم وذكرهم بالثناء الحسن والقول الجميل.
وأما طعنهم عليه "بالفسق" ورميهم إياه به فيرد على هذا الإفك بأنه باطل من وجهين:
الوجه الأول: أن عدالة علي رضي الله عنه ثابتة بنص القرآن الكريم الذي أخبر الله عز وجل فيه أنه أذهب الرجس عن أهل البيت وطهرهم تطهيراً، وعلي رضي الله عنه مقدم أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأيضاً: الآيات القرآنية التي أخبر الله فيها بأن الصحابة الكرام كلهم عدول أو أنهم خير أمة أخرجت للناس، أو الآيات التي شهد الله لهم فيها بحقيقة الإيمان أو الآيات التي أعلن الله فيها رضاه عنهم وأنهم رضوا عنه، أو الآيات التي أخبر الله فيها بأنه وعدهم فيها بالحسنى، أو أنه أعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار، فمثل هذه الآيات العامة التي تضمنت مدح الصحابة عموماً وأنه تعالى زكاهم بما وقر في قلوبهم من الصدق والوفاء لله ولرسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يدخل فيها أبو الحسن علي رضي الله عنه دخولاً أولياً، إذ أنه أحد الأخيار الذين لهم الصدارة في مجتمع الصحابة الكرام الذين هم أفضل الخلق بعد النبيين عليهم الصلاة والسلام، فرمي الناصبة له بالفسق معاندة منهم للرب ـ جل وعلا ـ وفي أخباره المتضمنة للمدح والثناء على الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وقد تقدم ذكر الآيات التي فيها الإشارة إلى ما ذكر في غير موضع من هذه الرسالة1.
__________
1ـ انظر الآيات المشار إليها في ص/800-806 وص/1159 من هذه الرسالة.(3/1198)
الوجه الثاني: أن عدالته رضي الله عنه ثابتة بما ورد من فضائله في السنة المطهرة من شهادته صلى الله عليه وسلم بأنه من أهل الجنة، ومن أنه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه منه بمنزلة هارون من موسى وأنه عليه الصلاة والسلام دعى الله تعالى أن يذهب الرجس عن أهل بيته ويطهرهم تطهيرً1 وعلي أحد أهل بيته، بل هو مقدمهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بعد أن ذكر الأحاديث التي فيها الإشارة إلى هذا الثناء الذي أشرنا إليه: "هذا الثناء على علي وإن كان له فيه شركاء إلا أن "في ذلك شهادة النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بإيمانه باطناً وظاهراً، وإثباتاً لموالاته لله ورسوله ووجوب موالاة المؤمنين له، وفي ذلك رد على النواصب الذين يعتقدون كفره أو فسقه كالخوارج المارقين الذين كانوا من أعبد الناس كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم: "يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية أينما لقيتموهم فاقتلوهم" 2، وهؤلاء يكفرونه ويستحلون قتله، ولهذا قتله واحد منهم وهو عبد الرحمن بن ملجم المرادي مع كونه كان من أعبد الناس"أهـ3.
وقال رحمه الله في موضع آخر في صدد حديثه على فضائل أبي الحسن رضي الله عنه: "وفيها من الفائدة إثبات إيمان علي وولايته والرد على النواصب الذين يسبونه ويفسقونه ويكفرونه، ويقولون فيه من جنس ما يقوله الرافضة في الثلاثة كما أن في فضائل الثلاثة رداً على الروافض4.
وبهذين الوجهين المتقدمين تبين فساد طعن النواصب على علي "بالفسق"
__________
1ـ انظر ص/237 من هذا الرسالة ما جاء من فضائل علي رضي الله عنه.
2ـ انظر الحديث على اختلاف ألفاظه في صحيح مسلم 2/743-744.
3ـ منهاج السنة النبوية 3/11-12.
4ـ منهاج السنة النبوية 4/91.(3/1199)
فالرسول صلى الله عليه وسلم شهد له بكمال إيمانه وصحة صدقه ويقينه، كما تبين مما ذكر أن طعن النواصب عليه بالفسق سقوط وضلالة ومحادة له وغواية نعوذ بالله من الخذلان.
وأما طعنهم عليه بأنه كان ظالماً طالباً للدنيا فهذا من الاختلاف الواضح والزور البين ولو طلب منهم شاهد على هذا حكي في كتب التواريخ أو غيرها لم يقدروا على ذلك، إذ سيرته رضي الله عنه أيام خلافته مثبتة في الكتب، فقد كان رضي الله عنه عادلاً في حكمه سائراً على نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسار في رعيته، سيرة إخوانه الثلاثة الخلفاء قبله، لم يظلموا أحداً ولم يخرج عن الحق قيد شعرة، وكان رضي الله عنه زاهداً في الدنيا لم يلق لها بالاً شأنه في ذلك شأن إخوانه من الصحابة الكرام رضي الله عنهم، فقد كان همهم الآخرة قبل الدنيا، ولذلك خرجوا من ديارهم وأموالهم ابتغاء رضوان الله ونصرة الله ولرسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وشهد الله لهم بهذا في قوله: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} 1، وعلي رضي الله عنه واحد ممن شملتهم هذه الشهادة الربانية والتزكية الإلهية لكن النواصب الذين ناصبوه العداوة لم يهتدوا إلى هذا، ولذلك قالوا فيه غير الحق ولم يستندوا في ذلك على شيء سوى ما تجيش به قلوبهم من البغض والعداوة.
وأما طعنهم عليه بأنه طلب الخلافة لنفسه وقاتل عليها بالسيف وقتل على ذلك ألوفاُ من المسلمين حتى عجز عن انفراده بالأمر، وتفرق عليه أصحابه وظهروا عليه فقاتلوه".
كل هذا من زخرف القول وباطل الكلام،والرد عليه:
أنه بمجرد أن يسمعه المنصف الذي عرف سيرة الصحابة وأحوالهم وعرف
__________
1ـ سورة الحشر آية/8.(3/1200)
لهم قدرهم يعلم أن الناصبة ظالمون بهذا القول لعلي رضي الله عنه، وأنهم افتروا عليه بما هو براء منه، فعلي رضي الله عنه لم يطلب الخلافة لنفسه، ولم يقاتل عليها احداً، ولم يقتل أحداً من أجل أن يكون خليفة على المسلمين وإنما لما قتل الغوغاء والأراذل الذين تحزبوا من الأمصار عثمان بن عفان رضي الله عنه لم يكن أحد أفضل ممن بقي بعد عثمان من علي رضي الله عنه، فاجتمع أهل الحل والعقد من الصحابة الكرام على أن يكون هو الخليفة للمسلمين بعد عثمان، ولما أرادوه للبيعة امتنع من إجابتهم إلى قبول الخلافة حتى ألحوا عليه في ذلك، وكرروا قولهم له، ولما رأى إصرارهم عليه في ذلك فر منهم إلى حائط بني عمرو بن مبذول وأغلق بابه فجاء الناس وطرقوا الباب، وولجوا عليه، وكان معهم طلحة والزبير، فقالوا له: إن هذا الأمر لا يمكن بقاؤه بلا أمير ولم يزالوا به حتى أجاب1.
هكذا كانت الكيفية في مبايعته رضي الله عنه بالخلافة، فلم يقاتل من أجلها لا بسيف ولا سهم، والألوف الذين يزعمون أنه قتلهم من أجل أن يكون خليفة على المسلمين هذا من البهتان عليه، وإنما القتال الذي حصل بين الصحابة في موقعتي الجمل وصفين كان قتال فتنة أوقد نارها بينهم قتلة عثمان، والواجب على المسلم أن يعتقد أن ما جرى بين الصحابة من الاقتتال صدر منهم عن تأويل اجتهدوا فيه، فمن كان منهم مصيباً كان له أجران ومن كان منهم مخطئاً فله أجر واحد وخطؤه مغفور2.
وأما طعنهم عليه بأنه لم يكن مصيباً في حروبه، فهذا مردود عليهم لظهور بطلانه وفساده بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد روى مسلم رحمه الله بإسناده من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "تمرق
__________
1ـ انظر البداية والنهاية 7/246، تاريخ الأمم والملوك 4/432، الكامل في التاريخ 3/190-191.
2ـ انظر العقيدة الواسطية مع شرحها لهراس ص/173-175، وانظر مجموع الفتاوى 3/406، عقيدة أهل السنة والجماعة لابن عثيمين ص/23.(3/1201)
مارقة عند فرقة من المسلمين يقتلها أولى الطائفتين بالحق" 1.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وفي هذا الحديث دليل على أنه مع كل طائفة حق وأن علياً رضي الله عنه أقرب إلى الحق"2.
وروى البخاري رحمه الله تعالى من حديث خالد الحذاء عن عكرمة قال: قال لي ابن عباس ولابنه علي: انطلقا إلى أبي سعيد فاسمعا من حديثه، فانطلقنا فإذا هو في حائط يصلحه فأخذ رداءه فاحتبى، ثم أنشأ يحدثنا حتى أتى على ذكر بناء المسجد فقال: كنا نحمل لبنة لبنة، وعمار لبنتين لبنتين، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فينفض التراب عنه ويقول: "ويح عمار تقتله الفئة الباغية.." الحديث3.
قال الحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث: "وفي هذا الحديث علم من أعلام النبوة، وفضيلة ظاهرة لعلي ولعمار، ورد على النواصب الزاعمين أن علياً لم يكن مصيباً في حروبه"4.
وأما بيان فساد طعنهم على الحسين بن علي بأنه كان خارجياً يجوز قتله فقد رد على طعنهم هذا شيخ الإسلام ابن تيمية، فإنه قال بعد ذكره له: "إن الحسين قتل مظلوماً شهيداً، وإن الذين قتلوه كانوا ظالمين معتدين وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي يأمر فيها بقتال المفارق للجماعة لم تتناوله، فإنه رضي الله عنه لم يفرق الجماعة، ولم يقتل إلا وهو طالب للرجوع إلى بلده أو إلى الثغر، أو إلى يزيد داخلاً في الجماعة معرضاً عن تفريق الأمة ولو كان طالب ذلك أقل الناس، لوجب إجابته إلى ذلك فكيف لا تجب إجابة الحسين إلى ذلك..؟ ولو كان الطالب لهذه الأمور من هو دون الحسين لم يجز حبسه ولا إمساكه فضلاً عن أسره
__________
1ـ صحيح مسلم 3/745.
2ـ مجموع الفتاوى 3/407.
3ـ صحيح البخاري 1/89.
4ـ فتح الباري 1/543.(3/1202)
وقتله"أهـ1.
وبعد ذكرنا لمعتقد الناصبة في أهل البيت والرد عليه تبين أنه معتقد ظاهر الفساد كما ظهر فساد كلام الرافضة في أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ولا يفوتني أن أنبه هنا إلى أن مذهب النصب ليس له بقعة أو جماعة يوجد فيها الآن في زماننا كما هو شأن مذهب الرافضة والإباضية من الخوراج وغيرهما من الفرق الأخرى كالزيدية والإسماعلية الباطنية، ومذهب النصب كان له وجود في زمن مبكر في دمشق، فقد ذكر الإمام الذهبي عن الوزير بن حنزابه ـ بكسر الحاء ـ أنه قال: سمعت محمد بن موسى المأموني صاحب النسائي قال: سمعت قوماً ينكرون على أبي عبد الرحمن النسائي كتاب "الخصائص" لعلي رضي الله عنه، وتركه تصنيف فضائل الشيخين، فذكرت له ذلك فقال: دخلت دمشق والمنحرف بها عن علي كثير فصنفت كتاب "الخصائص" رجوت أن يهديهم الله تعالى، ثم إنه صنف بعد ذلك فضائل الشيخين2، وبعد أن كان مذهب النصب له وجود في دمشق، فإنه تلاشى واضمحل حتى عدم نهائياً.
قال الذهبي رحمه الله تعالى: "كان النصب مذهباً لأهل دمشق في وقت كما كان الرفض مذهباً لهم في وقت وهو في دولة بني عبيد، ثم عدم ـ ولله الحمد ـ النصب وبقي الرفض خفيفاً خاملاً"أهـ3.
وبعد أن عرفنا أن المراد "بالنواصب" عند أهل السنة هم الذين يبغضون علياً رضوان الله عليه وأهل بيته ويلعنونهم وأن هذه الفرقة لم يعد لها وجود الآن لكن كلمة "النواصب" عند الشيعة الرافضة يطلقونها على الذين يقدمون الشيخين أبا بكر وعمر في الخلافة على علي وعلى من يبغضهم هم حيث يزعمون
__________
1ـ منهاج السنة النبوية 2/256.
2ـ سير أعلام النبلاء 14/129.
3ـ ميزان الاعتدال 1/76.(3/1203)
أنهم شيعة أهل البيت ليس أحد سواهم ولذا فالنواصب في اصطلاحهم وكما دونوا ذلك في كتبهم هم أهل السنة والجماعة في عرفهم.
فقد ذكر يوسف البحراني في كتابه: "الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة" أن ابن إدريس روى في مستطرفات السرائر في ما استطرف من كتاب مسائل الرجال ومكاتباتهم لمولانا أبي الحسن الهادي عليه السلام في جملة مسائل محمد بن علي بن عيسى، قال: كتبت إليه أسأله عن الناصب هل أحتاج إلى امتحانه إلى أكثر من تقديمه الجبت والطاغوت1 واعتقاده بإمامتهما؟ فرجع الجواب: من كان على هذا فهو ناصب ـ ثم قال ـ فرجع الجواب أن مظهر النصب والعداوة لأهل البيت عليهم الصلاة والسلام هو مجرد التقديم والقول بإمامة الأولين ... ـ إلى أن قال ـ "ومنها ما رواه الصدوق في كتاب العلل بسنده عن عبد الله بن سنان عن الصادق عليه السلام قال: "ليس الناصب من نصب لنا أهل البيت ـ عليهم السلام ـ لأنك لا تجد رجلاً يقول: أنا أبغض محمداً وآل محمد صلى الله عليه وآله ولكن الناصب من نصب لكم وهو يعلم أنكم تتولونا وأنكم من شيعتنا ـ ثم ساق روايتين نسب إحداهما إلى جعفر الصادق والأخرى إلى علي ومضمونهما كالروايتين السابقتين، ثم قال: "ومن هذه الأخبار يعلم أن مظهر النصب والعداوة لهم ـ عليهم السلام ـ منحصر في أمرين: تقديم الجبت والطاغوت وإظهار العداوة للشيعة"2.
وقال حسين العصفور في كتابه "المحاسن النفسانية في أجوبة المسائل الخراسانية": "وأما تحقيق النصب فقد كثر فيه القيل والقال، واتسع فيه
__________
1ـ يقصدون بالجبت والطاغوت الشيخين أبا بكر وعمر رضي الله عنهما "قاتل الله الرافضة أنى يؤفكون".
2ـ الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة 10/360، مقدمة تفسير مرآة الأنوار للعاملي ص/308، وانظر المحاسن النفسانية في أجوبة المسائل الخراسانية ص/145، الأنوار النعمانية 2/307.(3/1204)
المجال ـ ثم ساق أخباراً نسبها إلى بعض الأئمة والتي تتضمن أن النصب على حسب زعمه تقديم غير علي عليه، وبغض شيعة أهل البيت، ثم قال عقبها: "وبالجملة أن من تأمل أحوالهم واطلع على بعض صفاتهم وطريقتهم في المعاشرة ظهر له ما قلناه، فإنكاره مكابرة لما اقتضت العادة به بل أخبارهم ـ عليهم السلام ـ تنادي بأن الناصب هو ما يقال له سنياً" ـ ثم ذكر رواية عزاها إلى الكافي "عن أبي عبد الله عليه السلام ـ قال: ما تروي هذه الناصبة؟، فقلت: جعلت فداك فيماذا؟ فقال: في أذانهم وركوعهم وسجودهم ... الحديث ـ ثم قال ـ "ولا كلام في أن المراد بالناصبة فيه هم أهل التسنن"أهـ1.
وقال نعمة الله الجزائري: "وأما الناصبي وأحواله وأحكامه فهو مما يتم ببيان أمرين:
الأول: في بيان معنى الناصب الذي ورد في الأخبار أنه شر من اليهودي والنصراني والمجوسي، وأنه كافر نجس بإجماع علماء الإمامية فالذي ذهب إليه أكثر الأصحاب هو أن المراد به: من نصب العداوة لآل بيت محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتظاهر ببغضهم كما هو الموجود في الخوارج وبعض ما وراء النهر، ورتبوا الأحكام في باب الطهارة والنجاسة والكفر والإيمان وجواز النكاح وعدمه على الناصبي بهذا المعنى.
وقد تفطن شيخنا الشهيد الثاني.... من الاطلاع على غرائب الأخبار فذهب إلى أن الناصبي هو الذي نصب العداوة لشيعة أهل البيت ـ عليهم السلام ـ وتظاهر بالوقوع فيهم، كما هو حال أكثر مخالفينا في هذه الأعصار في كل الأمصار، وعلى هذا فلا يخرج من النصب سوى المستضعفين منهم والمقلدين والبله والنساء، ونحو ذلك وهذا المعنى هو الأولى. ويدل عليه ما رواه الصدوق في كتاب علل الشرايع بإسناد معتبر عن الصادق ـ عليه السلام ـ قال: ليس
__________
1ـ المحاسن النفسانية في أجوبة المسائل الخرسانية ص/145 وما بعدها.(3/1205)
الناصب من نصب لنا أهل البيت لأنك لا تجد رجلاً يقول: أنا أبغض محمداً وآل محمد، ولكن الناصب من نصب لكم وهو يعلم أنكم تتولونا وأنكم من شيعتنا"،وفي معناه أخبار كثيرة، وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن من علامة النواصب تقديم غير علي عليه، وهذه خاصية شاملة لا خاصة، ويمكن إرجاعها أيضاً إلى الأول، بأن يكون المراد تقديم غيره عليه إنما نشأ من تقليد علمائهم وأسلافهم، وإلا فليس لهم الاطلاع والجزم بهذا سبيل ويؤيد هذا المعنى أن الأئمة ـ عليهم السلام ـ وخواصهم أطلقوا لفظ الناصبي على أبي حنيفة وأمثاله، مع أن أبا حنيفة لم يكن ممن نصب العداوة لأهل البيت ـ عليهم السلام ـ، بل كان له انقطاع إليهم، وكان يظهر لهم التودد نعم كان يخالف آراءهم ويقول: قال علي: وأنا أقول، ومن هذا يقوى قول السيد المرتضى وابن إدريس ... وبعض مشائخنا المعاصرين بنجاسة المخالفين كلهم، نظراً إلى إطلاق الكفر والشرك عليهم في الكتاب والسنة فيتناولهم هذا اللفظ حيث يطلق، ولأنك قد تحققت أن أكثرهم نواصب بهذا المعنى1.
هذه النقول الثلاثة من كتب متقدمي علماء الشيعة الرافضة، وقد تبين منها أنهم يطلقون كلمة "النواصب على الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة وقد حذا حذو المتقدمين منهم متأخروهم، لأن الشيعة الرافضة ذرية بعضها من بعض آخرهم كأولهم، لا فرق، فهذ إمام العصر عندهم "الخميني" وجد في كلامه ما يدل على أنه جعل أهل السنة والجماعة في عداد النواصب فقد قال في كتابه "تحرير الوسيلة".
"وأما النواصب والخوارج لعنهم الله تعالى فهما نجسان من غير توقف ذلك على جحودهما الراجح إلى إنكار الرسالة"2، وطعن الشيعة الرافضة على أهل
__________
1ـ الأنوار النعمانية 2/306-307.
2ـ تحرير الوسيلة 1/102.(3/1206)
السنة والجماعة لا يقف عند طعنهم عليهم بأنهم نواصب فحسب بل تجاوزوه إلى ما هو الأسوأ من القول حيث يقولون: إن كل من يعتقد إمامة الشيخين وتقديمها على علي "فهو كافر حلال الدم والمال وأنه شر من اليهود والنصارى والمجوس"1.
قال نعمة الله الجزائري في صدد ذكره الأمر الثاني الذي يتبين به الناصبي في حد زعمه:
الأمر الثاني: في جواز قتلهم واستباحة أموالهم قد عرفت أن أكثر الأصحاب ذكروا للناصبي ذلك المعنى الخاص في باب الطهارات والنجاسات وحكمه عندهم كالكافر الحربي في أكثر الأحكام ... وأما على ما ذكرناه له من التفسير فيكون الحكم شاملاً كما عرفت روى الصدوق ... في العلل مسنداً إلى داود بن فرقد قال: قلت لأبي عبد الله ما تقول في قتل الناصب؟، قال: حلال الدم لكني أتقي عليك، فإن قدرت أن تقلب عليه حائطاً أو تغرقه في ماء لكي لا يشهد به عليك فافعل، فقلت: فما ترى في ماله؟، قال: خذه ما قدرت.
وروى شيخ الطائفة نور الله مرقده في باب الخمس والغنائم من كتاب التهذيب بسند صحيح عن مولانا الصادق عليه السلام، قال: خذ مال الناصب حيثمان وجدت وابعث إلينا بالخمس، وروى بعده بطريق حسن عن المعلى، قال: خذ مال الناصب حيث وجدت، وابعث إلينا بالخمس.
قال ابن إدريس: الناصب المعني في هذين الخبرين أهل الحرب لأنهم ينصبون الحرب للمسلمين وإلا فلا يجوز أخذ مال مسلم ولا ذمي على وجه من الوجوه ـ ثم قال نعمة الله الجزائري ـ وللنظر فيه مجال: أما أولاً فلأن الناصبي
__________
1ـ انظر الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة 10/360 وما بعدها، المحاسن النفسانية في أجوبة المسائل الخراسانية ص/145، وما بعدها الأنوار النعمانية 2/30، مقدمة تفسير مرآة الأنوار ومشكاة الأسرار ص/308.(3/1207)
قد صار في الإطلاقات: حقيقة غير أهل الحرب، ولو كانوا هم المراد لكان الأولى التعبير عنهم بلفظهم من جهة ملاحظة التقية لكن لما أراد عليه السلام ـ بيان الحكم الواقعي عبر بما ترى، وأما قوله: لا يجوز أخذ مال مسلم فهو مسلم ولكن أنى لهم والإسلام، وقد هجروا أهل بيت نبيهم المأمور بودادهم في محكم الكتاب بقوله تعالى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} 1، فهم قد أنكروا ما علم من الدين ضرورة وأما إطلاق الإسلام عليهم في بعض الروايات فلضرب من التشبيه والمجاز والتفاتاً إلى جانب التقية التي هي مناط هذه الأحكام وفي الروايات أن علي بن يقطين وهو وزير الرشيد قد اجتمع في حبسه جماعة من المخالفين، وكان من خواص الشيعة، فأمر غلمانه وهدموا سقف المحبس على المحبوسين فماتوا كلهم، وكانوا خمسمائة رجل تقريباً، فأراد الخلاص من تبعات دمائهم، فأرسل إلى الإمام مولانا الكاظم عليه السلام، فكتب عليه السلام إليه جواب كتابه بأنك لو كنت تقدمت إلي قبل قتلهم لما كان عليك شيء من دمائهم، وحيث إنك لم تتقدم إلي فكفر عن كل رجل قتلته منهم بتيس2، والتيس خير منه.
وبعد هذا فغر نعمة الله الجزائري فاه وتفوه بما أمكنه من خبيث القول وقبيح الكلام، حيث قال: "فانظر إلى هذه الدية الجزيلة التي لا تعادل دية أخيهم الأصغر وهو كلب الصيد فإن ديته عشرون درهماً، ولا دية أخيهم الأكبر وهو اليهودي أو المجوسي فإنها ثمانمائة درهم، وحالهم في الآخرة أخس وأنجس"3، فهذا المفتري عبر عن موقفه وموقف الرافضة من أهل السنة والجماعة وهو موقف كما هو واضح متسم بأشد الحقد والعداوة والكراهية حيث إنه بين أن الرافضة قبحهم الله يعتقدون أن حكم أهل السنة والجماعة عندهم حكم
__________
1ـ سورة الشورى آية/23.
2ـ التيس: الذكر من المعز إذا أتى عليه حول وقيل: الحول هو جدي. المصباح المنير 1/79.
3ـ الأنوار النعمانية 2/207-208.(3/1208)
الكافر الحربي يجوز قتلهم واستباحة أموالهم وأنه يجوز التحايل على قتلهم وابتزاز أموالهم بما يمكنهم من الوسائل والطرق الخبيثة كما بين أن منزلتهم عندهم أقل من منزلة الحيوان وأدنى من مرتبة اليهود والمجوس ولسنا في صدد تعداد مطاعن الشيعة الرافضة على أهل السنة والجماعة وإنما أشرنا إلى هذا ليتنبه كل مسلم وكل داعية إلى التقريب بين الرافضة وبين أهل السنة والجماعة إلى خطورة ما يبيته ويكنه الشيعة الرافضة للفرقة الناجية من الشر والعداوة والكيد الخفي للدين وأهله وليعلم أيضاً: كل مسلم أن الشيعة الرافضة يقدمون اتباع الهوى ويتقولون على أهل الحق والعدل بغير بينة ولا هدى، هذا ما حدا بنا إلى التنبيه إلى ما ذكر ولنرجع إلى إبطال ما نحن بصدده وهو بطلان نسبتهم "النصب" إلى أهل السنة والجماعة، فنسبتهم إلى أئمة أهل البيت مثل جعفر الصادق رحمه الله من الروايات التي يذكرون فيها أن النواصب هم أهل السنة والجماعة ما هي إلا قطرة من بحر الكذب الذي يكيلونه على علماء أهل البيت، ومما يبين أنهم مفترون كاذبون على أهل السنة في نسبتهم النصب إليهم أن أهل السنة هم الفرقة الوسط التي عرفت لأهل البيت حقهم من الاحترام والإكرام والتوقير وهم الذين حفظوا وصية المصطفى عليه الصلاة والسلام فيهم، وأما الرافضة فإنهم غير صادقين فيما يزعمونه من الغلو في حب بعضهم، وإنما غرضهم من ذلك التستر بأهل البيت لكي يروجوا ما يصبون إلى نشره من الأضاليل والأكاذيب والعقائد الفاسدة عند كل من لا يعرف حقيقتهم، ولا جرأتهم على الكذب.
ومما يكذب دعواهم على أن كلمة "النواصب" تطلق على أهل السنة والجماعة أن كتب أهل السنة ولله الحمد زاخرة بذكر مناقب أهل البيت وزاخرة ببيان عقيدتهم الحقة نحوهم، وأنهم متفقون على وجوب محبتهم واحترامهم وتحريم إيذائهم والإساءة إليهم وإلى ذكر بعض النصوص من كتب أهل السنة والجماعة التي تبين أنهم أسعد الناس بالأخذ بوصية المصطفى عليه الصلاة والسلام بأهل(3/1209)
بيته، وأنهم حفظوه فيهم دون سواهم، فهذا أبو بكر الصديق الذي ينسب الرافضة إليه ويكذبون عليه أنه ظلم أهل البيت حقهم يقول: فيما رواه عنه الشيخان في صحيحيهما: "والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليّ أن أصل من قرابتي"1، وروى البخاري في صحيحه بإسناده إلى أبي بكر رضي الله عنه أنه قال: "ارقبوا محمداً صلى الله عليه وسلم في أهل بيته"2.
وقال الفاروق رضي الله عنه مخاطباً العباس بن عبد المطلب: "والله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم لأن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب"3.
هذا موقف الشيخين من أهل بيت النبوة وهو موقف حب واحترام وإكرام ووصية بحفظهم وأن لا يتعرض لهم بأذى أو إساءة وهذا الموقف هو الواجب على كل أحد أن يقفه ويلتزم به تجاه أهل البيت إذ هو موقف أفضل المؤمنين بعد النبيين والمرسلين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وعن سائر الصحابة أجمعين وقد وفق الله لهذا الموقف التابعين لهم بإحسان وهم أهل السنة والجماعة حيث تولوهم جميعاً وأجمعوا على حبهم وتبرؤوا من طريقة الروافض والنواصب وردوا على من طعن عليهم بأنهم قدموا على علي غير الثلاثة، أو تسويته بمعاوية أو تقديمه عليه، وقد حرر العقيدة النقية لأهل السنة والجماعة في أهل البيت كل من الإمامين الجليلين ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله، فقد قال العلامة ابن تيمية: "أهل السنة يتولون جميع المؤمنين ويتكلمون بعلم وعدل ليسوا من أهل الجهل ولا من أهل الأهواء ويتبرؤون من طريقة الروافض والنواصب جميعاً ويتولون السابقين الأولين كلهم ويعرفون قدر الصحابة وفضلهم ومناقبهم ويرعون
__________
1ـ صحيح البخاري 2/301، صحيح مسلم 3/1380.
2ـ صحيح البخاري 2/302.
3ـ ذكره الحافظ ابن كثير في تفسيره 6/199.(3/1210)
بمعاوية أو تقديم معاوية عليه"1.
وقال رحمه الله في موضع آخر: "ويحبون آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتولونهم ويحفظون فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ حيث قال يوم غدير خم: " أذكركم الله في أهل بيتي" 2. ـ إلى أن قال ـ ويتبرؤون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم، وطريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل"3.
وقال العلامة ابن القيم في صدد ذكره للأسباب التي جعلت التأويل الباطل مقبولاً عند الناس: "السبب الثالث أن يعزو المتأول تأويله إلى جليل القدر نبيل الذكر من العقلاء أو من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، أو من حصل له في الأمة ثناء جميل ولسان صدق ليحليه بذلك في قلوب الجهال، فإنه من شأن الناس تعظيم كلام من يعظم قدره في نفوسهم حتى إنهم ليقدمون كلامه على كلام الله ورسوله، ويقولون هو أعلم بالله منا، وبهذا الطريق توصل الرافضة والباطنية والإسماعيلية والنصيرية إلى تنفيق باطلهم وتأويلاتهم حين أضافوها إلى أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لما علموا أن المسلمين متفقون على محبتهم وتعظيمهم، فانتمو إليهم وأظهروا من محبتهم وإجلالهم، وذكر مناقبهم ما خيل إلى السامع أنهم أولياؤهم ثم نفقوا باطلهم بنسبته إليهم فلا إله إلا الله، كم من زندقة وإلحاد وبدعة قد نفقت في الوجود بسبب ذلك وهم براء منها، وإذا تأملت هذا السبب رأيته هو الغالب على أكثر النفوس فليس معهم سوى إحسان الظن بالقائل بلا برهان من الله قادهم إلى ذلك، وهذا ميراث بالتعصيب من الذين عارضوا دين الرسل بما كان عليه الآباء والأسلاف، وهذا شأن كل مقلد لمن يعظمه فيما خالف فيه
__________
1ـ منهاج السنة النبوية 2/206-207.
2ـ تقدم تخريجه قريباً.
3ـ العقيدة الواسطية مع شرحها لهراس ص/171، 173، وانظر كتاب "قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر" لصديق حسن خان ص/101-103.(3/1212)
الحق إلى يوم القيامة 1.
فقد تبين من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم أن أهل السنة والجماعة هم أسعد الأمة المحمدية بالحق نحو أهل البيت حيث إنهم يحبونهم جميعاً ويتولونهم وهم الذين حفظوا وصية النبي عليه الصلاة والسلام فيهم كما تبين من ذلك كذب الشيعة الرافضة في نسبتهم النصب إلى أهل السنة بل كلمة "النواصب" يصح إطلاقها على الشيعة الرافضة حيث إنهم يحبون بعض أهل البيت محبة غلو وتجاوز للحد، وكما هو معلوم أن الزيادة في الحد تنقلب إلى الضد، ولأنهم أيضاً يعادون بعض أهل البيت ولا يحبونهم ولا يتولونهم، فادعاؤهم أنهم شيعة أهل البيت يكذبه موقفهم منهم، فقد ابتلوا بالإفراط في حب علي وبعض ذريته، فكانت محبتهم بسبب ذلك عاراً عليهم وبواراً، ولو صح التعبير لقلنا إن الشيعة الحقيقيين لأهل البيت هم أهل السنة والجماعة، لأنهم هم الذين أحبوهم كما أمر الله ورسوله، وأما الرافضة فهم أعدؤهم في الحقيقة، لأن المحبة الخارجة عن الشرع الحائدة عن سنن الهدى هي العداوة الكبرى، ومن هذه الجهة يكونون أشقاء للنواصب ...
__________
1ـ مختصر الصواعق المرسلة 1/90.(3/1213)
الخاتمة
لقد توصلت في رسالتي هذه التي بحثت فيها "عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام رضي الله عنهم" إلى نتائج هي: -
1. أن الصحابي عند أهل السنة والجماعة هو من لقي المصطفى صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناماً وآمن به ومات على الإسلام.
2. يثبتون جميع ما ورد في فضلهم من آيات الكتاب العزيز وأحاديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، سواء كان هذا الفضل على وجه العموم، أو على وجه الخصوص، الكل يثبتونه ويؤمنون به، ويسلمون به لأولئك الأطهار الذين اختارهم الله لصحبة نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجعلهم وزراء له، فكانوا حملة رسالته من بعده، وهم رضي الله عنهم وإن جمعهم شرف الصحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وشملهم هذا الفضل الكريم إلا أنهم متفاوتون في الفضل والدرجة.
3. أجمعوا على أن أفضل الخلق على الإطلاق بعد النبيين والمرسلين أبو بكر الصديق ثم يليه في هذه المرتبة العلية عمر الفاروق، ثم ذو النورين عثمان، ثم أبو السبطين علي رضي الله عنهم جميعاً، ثم الستة بقية العشرة، ثم أهل بدر، ثم أصحاب أحد، ثم أهل بيعة الرضوان بالحديبية.
4. اتضح أن أهل السنة والجماعة هم أولى الناس بأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث توليهم وموالاتهم ومحبتهم، فقد كان لهم القسط الاكبر والحظ الأوفر من هذا، أما دعوى الشيعة الرافضة في أنهم هم الذين اختصوا بموالاتهم فإنها دعوى بلا برهان، ولا حظ لهم من ذلك، إلا مبالغتهم في الغلو المذموم نحوهم ومعاداتهم من يحبهم أهل البيت إذ أهل البيت يحبون جميع الصحابة(3/1217)
ولا يكنون أي عداوة لأحد منهم رضي الله عنهم جميعاً.
5. أجمعوا على أن أحق خلق الله بالخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق لفضله وسابقته وتقديم النبي صلى الله عليه وسلم له في الصلاة على جميع الصحابة رضي الله عنهم، وإجماع الصحابة على تقديمه ومبايعته، ثم من بعده عمر رضي الله عنه لفضله وعهد أبي بكر إليه، ثم عثمان رضي الله عنه لتقديم أهل الشورى له، ثم علي رضي الله عنه لفضله وإجماع أهل عصره عليه.
6. كل ما أورده أهل البدع من الأدلة التي يستدلون بها على أن الإمام بعد النبي صلى الله عليه وسلم بلا فصل هو علي رضي الله عنه إنما هي شبه ساقطة معظمها من اختراعاتهم الباطلة، وأن اعتقادهم في الإمامة على هذ النحو مبني على أحاديث موضوعة اختلقها الزنادقة الملاحدة إذ أنها مخالفة لما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته في ترتيب الخلافة الراشدة وأن علياً رضي الله عنه لم يدع شيئاً من ذلك وأنه بريء من كل ما تنسبه الرافضة إليه.
7. يعتقد أهل السنة والجماعة أن خلافة الحسن بن علي بن أبي طالب كانت خلافة حقة، وأنها جزء مكمل لخلافة النبوة التي أخبر المصطفى عليه الصلاة والسلام أن مدتها بعده ثلاثون سنة.
8. أن أهل السنة والجماعة هي الفرقة الوحيدة التي حالفها الصواب والسداد فيما يجب من الحق للصحابة على من جاء بعدهم، فقد حفظوا فيهم وصية المصطفى صلى الله عليه وسلم، حيث اعتقدوا وجوب محبتهم وتعظيمهم وتوقيرهم وإنزالهم المنزلة التي أنزلهم الله فيها، ولذلك سلمت قلوبهم من الغل عليهم، وألسنتهم رطبة بذكرهم بالجميل من الترحم عليهم والاستغفار لهم، ونشر محاسنهم، والشهادة لمن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة منهم.
9. أن الصحابة رضي الله عنهم كلهم عدول، صغارهم وكبارهم، ذكورهم وإناثهم من لابس الفتن ومن لم يلابسها، حيث ثبتت عدالتهم بنص(3/1218)
الكتاب والسنة والإجماع والمعقول.
10. أن ما وقع بين الصحابة من القتال والتشاجر يجب الإمساك عنه وعدم الخوض فيه والتتبع لكل تفصيلاته، وأن ما نقل فيما شجر بينهم واختلفوا فيه فمنه ما هو باطل وكذب قد زيد فيه ونقص، فلا يلتفت إليه، وما كان صحيحاً يجب تأويله وحمله على أحسن المحامل، لأن الثناء عليهم من الله سابق، وما نقل من الكلام اللاحق فهو محتمل والمشكوك فيه والموهوم لا يبطل المحقق المعلوم.
11. أن الحروب التي دارت بين علي وبين بعض الصحابة الكرام رضي الله عنهم لم يكن الباعث عليها مطامع دنيوية، أو شهوات نفسية، وإنما كانت عن اجتهاد وتأويل للمصيب فيها منهم أجران، أجر الاجتهاد وأجر الإصابة، وللمخطيء منهم أجر واحد على اجتهاده ولا إثم عليه.
12. أن سب الصحابة والتعرض لهم بعيبهم وتنقصهم والطعن في عدالتهم حرام بنص الكتاب العزيز والسنة النبوية المطهرة، وأن من أبغضهم جميعاً أو أكثرهم أو سبهم سباً يقدح في دينهم وعدالتهم، فإنه يكفر بهذا، لأن هذا يؤدي إلى إبطال الشريعة بكاملها، أو أكثرها لأن الصحابة هم الناقلون لها، وهم الواسطة بين النبي صلى الله عليه وسلم ومن جاء بعدهم، ومن اعتقد أنهم مجروحون وغير عدول، فقد طعن في تلك الواسطة التي تلقت الشريعة عن المصطفى صلى الله عليه وسلم ومن المستحيل أن تطمئن النفوس إلى شريعة نقلتها مطعون فيهم مجورحون، وكذا يكفر من أبغض واحداً منهم لأمر يرجع إلى الصحبة، أو النصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو الجهاد معه، إذ هذا يؤدي إلى إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم وإيذاء الرسول كفر ومن كانت هذه حاله، فدواؤه السيف، إن لم يتب ويراجع، وأما إذا كان البغض لأمر لا يرجع إلى الصحبة ولا إلى النصرة، فحكم هذا أنه فاسق مبتدع يجب تأديبه، وينكل به نكالاً شديداً، لا يبلغ به القتل حتى يظهر التوبة ويرجع عن(3/1219)
طعنه في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعرف لهم حقهم.
13. أن من سب أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وقذفها بما رماها به أهل الإفك، فإنه كافر حيث كذب الله فيما أخبر به من براءتها وطهارتها وطهارتها رضي الله عنها، وأن عقوبته أن يقتل مرتداً عن ملة الإسلام.
وكذلك من قذف غير عائشة من أمهات المؤمنين فهو في الحكم كقاذف عائشة رضي الله عنها، ذلك لأن فيه عاراً وغضاضة على النبي صلى الله عليه وسلم، وأذى له أعظم من أذاه بنكاحهن من بعده.
14. أن جميع ما يتناقله الشيعة الرافضة وأهل البدع في كتبهم من المطاعن العامة والخاصة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعرج عليها ولا كرامة، فهي أباطيل وأكاذيب مفتراة إذ دأب الرافضة وأهل البدعة رواية الأباطيل ورد ما صح من السنة المطهرة.
15. إن القرآن في عقيدة الشيعة الرافضة بدل وحرف ونقص من قبل الصحابة حيث يزعمون أنه لم يجمعه كاملاً كما أنزل إلا علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
16. أن أئمة أهل البيت براء من عقيدة الشيعة الرافضة في خلافة النبوة والصحابة والقرآن، إذ أنهم لم يخرجوا في اعتقادهم فيما ذكر عما قرره الله تعالى في كتابه وقرره رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته المطهرة وعما كان عليه سلف الأمة وأئمتها.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ... وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم ...(3/1220)
وإلى أمور ما كانت فيقولون كانت، ويأتون إلى الأمور التي هي خير وصلاح، فيقولون: هي فساد، وإلى الأمور التي هي فساد فيقولون: هي خير وصلاح1، فهم لا يعقلون عقل تفكر ولا يسمعون سماع تدبر وإلى بيان بطلان مطاعنهم التي تضمنها هذا النص السابق:
فطعنهم على الفاروق رضي الله عنه: بأنه جعل الأمر شورى بعده وخالف فيه من تقدمه ... فجوابه:
أن يقال لهم: "إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان كثير المشاورة للصحابة فيما لم يتبين فيه أمر الله ورسوله، فإن الشارع نصوصه كلمات جوامع وقضايا كلية وقواعد عامة يمتنع أن ينص على كل فرد من جزئيات العالم إلى يوم القيامة فلا بد من الاجتهاد في المعينات، هل تدخل في كلماته الجامعة أم لا، وهذا الاجتهاد يسمى تحقيق المناط وهو مما اتفق عليه الناس كلهم نفاة القياس، ومثبتته، فإن الله إذا أمر أن يستشهد ذوا عدل فكون هذا الشخص المعين صالحاً لذلك أو راجحاً على غيره لا يمكن أن تدل عليه النصوص، بل لا يعلم إلا باجتهاد خاص ... وعمر رضي الله عنه إمام وعليه أن يستخلف الأصلح للمسلمين، فاجتهد في ذلك ورأى أن ـ الستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض ـ أحق من غيرهم، وهو كما رأى، فإنه لم يقل أحد إن غيرهم أحق منهم، وجعل التعيين إليهم خوفاً أن يعين واحداً منهم، ويكون غيره أصلح لهم، فإنه ظهر له رجحان الستة دون رجحان التعيين، وقال: الأمر في التعيين إلى الستة يعينون واحداً منهم، وهذا أحسن اجتهاد إمام عالم عادل ناصح لا هوى له رضي الله عنه، وأيضاً: فقد قال تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} 2، وقال: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} 3 فكان ما فعله من الشورى مصلحة وكان ما فعله
__________
1ـ انظر منهاج السنة 3/159، المنتقى من منهاج الاعتدال ص/358-359.
2ـ سورة الشورى آية/38.
3ـ سورة آل عمران آية/159.(3/2041)
المبحث الخامس: الرد على معتقد النواصب في الصحابة
...
حقوق أهل البيت التي شرعها الله لهم ولا يرضون بما فعله المختار ونحوه من الكذابين ولا ما فعله الحجاج ونحوه من الظالمين ويعلمون مع هذا مراتب السابقين الأولين فيعلمون أن لأبي بكر وعمر من التقدم والفضائل ما لم يشاركهما فيها أحد من الصحابة لا عثمان ولا علي ولا غيرهما، وهذا كان متفقاً عليه في الصدر الأول إلا أن يكون خلاف شاذ لا يعبأ به حتى أن الشيعة الأولى أصحاب علي لم يكونوا يرتابون في تقديم أبي بكر وعمر عليه"1.
وقال أيضاً: "وكتب أهل السنة من جميع الطوائف مملوءة بذكر فضائله ومناقبه وبذم الذين يظلمونه من جميع الفرق، وهم ينكرون على من سبه وكارهون لذلك، وأهل السنة من أشد الناس بغضاً وكراهة لأن يتعرض له بقتال أو سب بل هم كلهم متفقون على أنه أجل قدراً وأحق بالإمامة وأفضل عند الله وعند رسوله وعند المؤمنين من معاوية وأبيه ـ كما أنه ـ أفضل ممن هو أفضل من معاوية رضي الله عنه، فالسابقون الأولون الذين بايعوا تحت الشجرة كلهم أفضل من الذين أسلموا عام الفتح، وفي هؤلاء خلق كثير أفضل من معاوية وأهل الشجرة أفضل من هؤلاء كلهم، وعلي أفضل منهم كلهم إلا الثلاثة فليس في أهل السنة من يقدم عليه أحداً غير الثلاثة، بل يفضلونه على جمهور أهل بدر وأهل بيعة الرضوان وعلى السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وما في أهل السنة من يقول إن طلحة والزبير وسعداً وعبد الرحمن بن عوف أفضل منه بل غاية ما قد يقولون السكوت عن التفضيل بين أهل الشورى، وهؤلاء أهل الشورى عندهم أفضل السابقين الأولين، والسابقون الأولون أفضل من الذين أنفقوا من بعد الفتح وقاتلوا وهم على أصح القولين الذين بايعوا تحت الشجرة، وقيل: من صلى إلى القبلتين وليس بشيء ـ إلى أن قال ـ فإذا كانت هذه مراتب الصحابة عند أهل السنة كما دل عليها الكتاب والسنة وهم متفقون على تأخر معاوية وأمثاله من مسلمة الفتح عمن أسلم بعد الحديبية وعلى تأخر هؤلاء عن السابقين الأولين أهل الحديبية وعلى أن البدريين أفضل من غير البدريين وعلى أن علياً أفضل جماهير هؤلاء ـ لم يقدم عليه أحد غير الثلاثة فكيف ينسب إلى أهل السنة تسويته
__________
1ـ منهاج السنة النبوية 1/165.(3/211)
مصادر ومراجع
...
فهرس المراجع
1- القرآن الكريم.
- أ –
2- الإبانة عن أصول الديانة، لأبي الحسن الأشعري، ت"330" الجامعة الإسلامية سنة 1975م.
3- الإباضية بين الفرق الإسلامية، علي يحيى معمر، مكتبة وهبة، ط. أولى، 1396هـ.
4- الأباطيل والمناكير والصحاح والمشاهير، لأبي عبد الله الحسن بن إبراهيم الجوزقاني، ت"543"هـ، تحقيق: عبد الرحمن الفريوائي، ط. المطبعة السلفية، بنارس، الهند، ط. أولى، 1403هـ.
5- أباطيل يجب أن تمحى من التاريخ، د. إبراهيم شعوط، ط. المكتب الإسلامي، ط. الخامسة، سنة 1403هـ.
6- ابن حزم الأندلسي ورسالته في المفاضلة بين الصحابة، سعيد الأفغاني، طبع دار الفكر، بيروت، ط. الثانية، 1389هـ.
7- ابن سبأ حقيقة لا خيال، د. سعدي الهاشمي، مكتبة الدار، المدينة المنورة، ط. أولى، 1406هـ.
8- إثبات الإمامة، أحمد بن إبراهيم النيسابوري، تحقيق: د. مصطفى غالب، طبع دار الأندلس للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، ط. أولى، 1402هـ
9- الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة، للإمام بدر الدين الزركشي، تحقيق: سعيد الأفغاني، طبع دار القلم، بيروت.(3/1250)
10- أجوبة ابن خلفون، لأبي يعقوب يوسف بن خلفون المزاتي، تحقيق وتعليق: عمرو خليفة النامي، طبع: دار الفتح للطباعة والنشر، بيروت ط. أولى، 1394هـ.
11- الأجوبة العراقية على الأسئلة اللاهورية، للإمام محمود أفندي الحسيني الألوسي، المطبعة الحميدية، بغداد.
12- الاحتجاج، لأبي منصور أحمد بن علي الطبرسي، ت: 558هـ، تعليقات وملاحظات: محمد باقر الموسوي الخرساني، مطبعة سعيد ـ مشهد المقدسة، 1403هـ.
13- الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان، لأبي الحسن علاء الدين بن بلبان الفارسي، ت: 739هـ، تحقيق وتخريج شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، ط. أولى، 1408هـ.
14- الأحكام السلطانية والولايات الدينية، علي بن محمد الماوردي، ت: 450هـ، مطبعة البابي الحلبي، نصر، ط. الثالثة، 1393هـ.
15- الأحكام السلطانية، لأبي يعلى محمد بن حسين الفراء، ت: 458هـ، تصحيح وتعليق: محمد حامد الفقي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، سنة 1403هـ.
16- الأحكام في أصول الأحكام، لأبي الحسن علي بن أبي علي بن محمد الآمدي، طبع دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، ط. أولى، 1401هـ.
17- الإحكام في أصول الأحكام، لأبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري، ت: 456هـ، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط. الثانية.
18- أحكام القرآن، لأبي بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي ت: 543هـ، تحقيق: علي محمد البجاوي، طبع دار المعرفة، بيروت لبنان.(3/1251)
19- أحكام القرآن، لعماد الدين بن محمد الطبري، المعروف بالكيا الهراسي، ت: 504هـ، طبع دار الكتب العلمية، بيروت لبنان، ط. الثانية، 1405هـ.
20- أحكام القرآن، أحمد بن علي الرازي المعروف بالجصاص، ت: 370هـ، طبع: دار الفكر العربي، بيروت، لبنان.
21- إحياء علوم الدين، لأبي حامد بن محمد الغزالي، ت: 505هـ، دار المعرفة، بيروت، لبنان، 1403هـ.
22- أخبار أصبهان، للحافظ أبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني، ت: 430هـ، طبع الدار العلمية موري كيت، دلهي، الهند.
23- أخبار القضاة، لمحمد بن خلف بن حيان، المعروف "بوكيع"، ت: 306هـ، طبع عالم الكتب، بيروت.
24- الاختصاص، لأبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان، الملقب بالمفيد، طبع مكتبة الزهراء، قم، سنة 1402هـ.
25- الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد، لإمام الحرمين عبد الملك الجويني، ت: 478هـ، طبع مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، لبنان، ط. أولى، 1405هـ.
26- إرواء الغليل تخريج أحاديث منار السبيل، للشيخ محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى، 1399هـ، نشر المكتب الإسلامي.
27- الإرشاد، لأبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان الملقب بالمفيد، ت: 413هـ، ط. كتاب فروشي، إسلامية، طهران، ط.1351شمسي.
28- إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، محمد بن علي الشوكاني، ت: 1250هـ، طبع مصطفى البابي الحلبي، مصر، ط. أولى، 1356هـ.
29- أساس البلاغة، لأبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري، ت: 538هـ،(3/1252)
طبع دار صادر، بيروت.
30- أساب النزول، علي بن أحمد الواحدي، ت: 468هـ، طبع دار الفكر، بيروت، لبنان.
31- الاستغاثة في بدع الثلاثة، لأبي القاسم علي بن أحمد بن موسى الكوفي، ت: هـ، خيال من تاريخ الطبع ومكانه.
32- الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى، لأبي العباس أحمد بن خالد الناصري، دار الكتب، الدار البيضاء.
33- الاستيعاب في أسماء الأصحاب على حاشية الإصابة، لأبي عمر بن عبد البر القرطبي، ت: هـ، دار الكتاب العربي، بيروت.
34- أسد الغابة في معرفة الصحابة، لأبي الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني المعروف بابن الأثير، ت: 606هـ، طبع دار إحياء التراث العربي، بيروت لبنان.
35- الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية، للإمام جلال الدين عبد الرحمن السيوطي، ت: 911هـ، طبع دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1399هـ.
36- الإصابة في تمييز الصحابة، للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، ت: 852هـ، طبع دار الكتاب العربي، بيروت.
37- الأصول التاريخية للفرقة الإباضية، عوض محمد خليفات، طبع وزارة التراث والإرشاد والثقافة، ط. ثانية، سلطنة عمان.
38- أصول الدين، لعبد القاهر بن طاهر البغدادي، ت: 429هـ، طبع دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط. أولى 1346هـ.
39- أصول السرخسي، للإمام أبي بكر محمد بن أحمد السرخسي، ت: 490هـ، تحقيق أبي الوفاء الأفغاني، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت.
40- أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، محمد الأمين بن محمد المختار(3/1253)
الجكني الشنقيطي، مطبعة المدني، 1386هـ.
41- اعتقادات فرق المسلمين والمشركين، لمحمد بن عمر بن الحسين الرازي، ت: 606هـ، مراجعة وتحرير علي سامي النشار، طبع دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1402هـ.
42- الاعتقاد على مذهب السلف أهل السنة والجماعة، لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي، ت: 458هـ، تصحيح أحمد محمد موسى، الناشر: حديث أكاديمي، نشاط آباد فيصل آباد، باكستان.
43- الأعلام، قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستغربين والمستشرقين، تأليف خير الدين الزركلي، الطبعة الثالثة.
44- إعلام الموقعين عن رب العالمين، لأبي عبد الله محمد بن أبي بكر الشهير بابن قيم الجوزية، مراجعة وتقديم وتعليق: طه عبد الرؤوف سعد، طبع مطابع الإسلام، القاهرة، 1388هـ.
45- أعلام النبوة، لعلي بن محمد الماوردي، ت: 450هـ، تقديم وشرح محمد شريف سكر، طبع دار إحياء العلوم، بيروت، لبنان.
46- أعيان الشيعة، محسن الأمين، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، لبنان.
47- الاقتصاد في الاعتقاد، لأبي حامد الغزالي، ت: 505هـ، طبع دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، طبعة أولى، 1403هـ.
48- الإكليل في استنباط التنزيل، عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، ت: 911هـ، تحقيق: سيف الدين عبد القادر الكاتب، طبع، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
49- الإمام زيد بن علي، محمد أبو زهرة، طبع دار الندوة الجديدة، بيروت، لبنان.
50- الإمام زيد بن علي المفترى عليه، الشيخ صالح أحمد الخطيب، طبع المكتبة الفيصلية.(3/1254)
51- الإمامة في ضوء الكتاب والسنة، مهدي السماوي، مكتبة المنهل، الكويت، طبعة أولى، 1399هـ.
52- الإمامة والرد على الرافضة، للحافظ أبي نعيم الأصبهاني، ت: 430هـ، تحقيق وتعليق: د. علي بن محمد بن ناصر الفقيهي، طبع: مكتبة العلوم والحكم، ط. أولى، 1407هـ.
53- الإمامة وقائم القيامة، مصطفى غالب، دار مكتبة الهلال، بيروت، لبنان.
54- الأم، للإمام محمد بن إدريس الشافعي، ت: 204هـ، دار المعرفة، بيروت، لبنان.
55- أنساب الأشراف، لأبي العباس أحمد بن يحيى بن جابر بن داود البلاذري، تحقيق: ماكس شلوسنجر، القدس، مطبعة الجامعة، 1938هـ.
56- الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به، للقاضي أبي بكر بن الطيب الباقلاني، ت: 403هـ، تحقيق: محمد زاهد الكوثري، ط. الثانية، مؤسسة الخانجي، 1382هـ.
57- الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، لعلاء الدين أبي الحسن علي بن سليمان المرداوي، مطبعة السنة المحمدية، ط. أولى، 1374هـ.
58- الأنوار النعمانية، لنعمة الله الموسوي الجزائري، ت: 1112هـ، مطبعة جاب، تبريز، إيران.
59- الأنوار الوضية في العقائد الرضوية، للشيخ حسين بن الشيخ محمد العصفور البحراني، نشر مكتبة أهل البيت، البحرين.
60- أيام العرب في الإسلام، محمد أبو الفضل إبراهيم، علي محمد البجاوي، دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي وشركاه، ط. الثانية، 1388هـ.(3/1255)
- ب –
61- الباعث الحثيث، شرح اختصار علوم الحديث، إسماعيل بن عمر بن كثير، ت: 774هـ، تحقيق: أحمد شاكر، طبع مكتبة ومطبعة محمد علي صبيح وأولاده، ط. الثانية، 1370هـ.
62- بدائع الفوائد، للإمام محمد بن أبي بكر، الشهير بابن قيم الجوزية، ت: 751هـ، مكتبة الرياض الحديثة بالرياض.
63- البداية والنهاية في التاريخ، إسماعيل بن عمر بن كثير، ت: 774هـ، تحقيق ومراجعة وتعليق وتصحيح: محمد عبد العزيز النجار، مكتبة الأصمعي، الرياض.
64- البدر الطالع بمحاسن القرن التاسع، محمد بن علي الشوكاني، ت: 1250هـ، طبع مطبعة السعادة، القاهرة، ط. أولى، 1348هـ.
65- بذل المجهود في حل أبي داود، خليل أحمد السهارنفوري، ت: 1346هـ، مع تعليق الكاندهلوي، طبع دار اللواء للنشر والتوزيع، الرياض، توزيع دار الإفتاء.
66- بصائر الدرجات الكبرى في فضائل آل محمد، تقديم وتعليق الحاج ميرزا محسن لوه باغي، منشورات الأعلمي، طهران، 1404هـ.
67- بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز، محمد بن يعقوب الفيروز آبادي، ت: هـ، تحقيق: عبد العليم الطحاوي، طبع: المكتبة العلمية، بيروت، لبنان.
68- البرهان في تفسير القرآن، هاشم الحسيني البحراني، مؤسسة إسماعيليان، قم، إيران.
69- بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني، للشيخ أحمد عبد الرحمن البنا الشهير بالساعاتي، طبع دار الشهاب، القاهرة.
70- بلوغ المرام في شرح مسك الختام فيمن تولى ملك اليمن من ملك وإمام،(3/1256)
للقاضي حسين بن أحمد العمرشي، دار الندوة الجديدة، بيروت، لبنان.
71- البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، لابن عذاري المراكشي، تحقيق: مجموعة من الباحثين، طبع: دار الغرب الإسلامي، بيروت، لبنان.
72- البيان والتحصيل، لأبي الوليد بن رشد القرطبي، ت: 520هـ، تحقيق د. محمد حجي، طبع: دار الغرب الإسلامي، بيروت، لبنان.
- ت –
73- تاج العروس من جواهر القاموس، محمد مرتضى الزبيدي، طبع: دار مكتبة الحياة، بيروت.
74- تاريخ الإسلام وطبقات المشاهير والأعلام، للحافظ محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، ت: 748هـ، تحقيق: حسام الدين القدسي، مطبعة القدس.
75- تاريخ الأمم والملوك لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، ت: 310هـ، تحقيق: محمد أبي الفضل إبراهيم، طبع: دار سويدان، بيروت، لبنان.
76- تاريخ بغداد أو مدينة السلام، للحافظ أبي بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي، ت: 463هـ، طبع: دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
77- تاريخ ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الحضرمي المغربي، ت: 808هـ، طبع مؤسسة جمال للطباعة والنشر، بيروت، لبنان.
78- تاريخ الخلفاء، تأليف عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، ت: 911هـ، تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد.
79- تاريخ خلفية بن خياط، خليفة بن خياط، ت: 240هـ، تحقيق: د. أكرم ضياء العمري، ط. الثانية، دار طيبة، الرياض.
80- تاريخ الدعوة الإسماعيلية، مصطفى غالب، دار الأندلس، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، 1965م.(3/1257)
81- تاريخ عمر، لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي، ت: 597هـ، تقديم وتعليق أسامة عبد الكريم الرفاعي، طبع دار إحياء علوم الدين، دمشق.
82- تاريخ مدينة دمشق، لأبي القاسم علي بن الحسن بن عساكر، ت: 571هـ، تحقيق: مطاع الطربيشي، مطبوعات مجمع اللغة العربية، دمشق.
83- تأويل مشكل القرآن، لأبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة، ت: 276هـ، شرح ونشر أحمد صقر، الطبعة الثانية، 1393هـ ـ 1973م، دار التراث، القاهرة.
84- التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين، للإمام أبي المظفر طاهر بن محمد الإسفراييني، تحقيق: كمال يوسف الحوت، طبع عالم الكتب، ط. أولى، 1403هـ.
85- التبيان في تفسير القرآن، أبو جعفر الطوسي، المطبعة العلمية في النجف، 1376هـ، 1957م.
86- تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبو الحسن الأشعري، لأبي القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عساكر الدمشقي، ت: 571هـ، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان.
87- تجريد أسماء الصحابة للذهبي تصحيح صالحة عبد الحكيم شرف الدين ـ بومباى ـ 1389هـ.
88- تحرير الوسيلة، لروح الله الموسوي الخميني، منشورات مكتبة الاعتماد، طهران، الطبعة الرابعة، 1403هـ - 1983م.
89- تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري، دار الاتحاد العربي للطباعة، الطبعة الثانية، 1385هـ - 1965م.(3/1258)
90- تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي، لجلال الدين عبد الرحمن بن أبي السيوطي، ت: 591هـ، منشورات المكتبة العلمية بالمدينة المنورة، الطبعة الثانية، 1392هـ - 1972م.
91- تذكرة الحفاظ، لأبي عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، ت: 748هـ، طبع دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان.
92- التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة، لأبي عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرج الأنصاري القرطبي، دار الفكر، بيروت، لبنان.
93- ترتيب القاموس المحيط على طريقة المصباح المنير وأساس البلاغة، أحمد الزاوي، مطبعة عيسى البابي الحلبي، الطبعة الثانية.
94- الترغيب والترهيب، لزكي الدين عبد العظيم بن عبد القوي المنذري، ت: 656هـ، مكتبة دار التراث، القاهرة.
95- التعريفات، علي بن محمد الجرجاني، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1403هـ.
96- تفسير البيضاوي المسمى "أنوار التنزيل وأسرار التأويل"، لأبي الخير عبد الله بن عمر البيضاوي، ت: 791هـ، دار الفكر، 1402هـ.
97- تفسير الخازن المسمى "لباب التأويل في معاني التنزيل"، علي بن محمد بن إبراهيم البغدادي المعروف بالخازن، ت: 725هـ، المكتبة التجارية الكبرى، بمصر.
98- تفسير العياشي، محمد بن مسعود بن عياش، المكتبة العلمية الإسلامية، طهران، إيران.
99- تفسير فرات الكوفي، فرات بن إبراهيم الكوفي، المطبعة الحيدرية، النجف.
100- تفسير القرآن العظيم، لأبي الفداء إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي، ت: 774هـ، طبع: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت(3/1259)
الطبعة الثانية، 1389هـ - 1970م.
101- تفسير القمي، علي بن إبراهيم القمي، مؤسسة دار الكتاب للطباعة والنشر، قم، إيران. الطبعة الثانية، 1387هـ - 1968م.
102- التفسير القيم، محمد بن أبي بكر الشهير بابن قيم الجوزية، ت: 751هـ، جمع: محمد أويس الندوي، تحقيق: محمد حامد الفقي، طبع دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1398هـ.
103- تفسير الكاشاني المسمى "الصافي في تفسير القرآن"، لمحسن الفيض الكاشاني، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1399هـ - 1976م.
104- التفسير الكبير، لأبي عبد الله محمد بن عمر بن حسين القرشي، المشهور بالفخر الرازي، ت: 606هـ، ـ طبع دار إحياء التراث العربي، بيروت.
105- تقدمة الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم محمد بن إدريس بن المنذر التميمي الحنظلي، ت: 327هـ، طبع: دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1371هـ، 1952م.
106- تلخيص الذهبي، مطبوع بذيل المستدرك، للإمام محمدي أحمد الذهبي، ت: 748هـ، دار الفكر.
107- تلقيح فهوم أهل الأثر في عيون التواريخ والسير، لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي، القاهرة، مكتبة الآداب، 1975م.
108- تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل، للقاضي أبي علي محمد بن الطيب الباقلاني، ت: 403هـ، تحقيق: أحمد حيدر، مؤسسة الكتب الثقافية، الطبعة الأولى 1407هـ - 1987م.
109- تلبيس إبليس، لأبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي، ت: 597هـ، دار الكتب العلمية، بيروت.
110- تنبيه الولاة والحكام، محمد أمين أفندي الشهير بابن عابدين ضمن(3/1260)
مجموعة رسائله، طبع عالم الكتب.
111- التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع، لأبي الحسين محمد بن أحمد الملطي، ت: 377هـ، مكتبة المثنى، بغداد، 1388هـ - 1968م.
112- تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة، لأبي الحسن علي بن محمد بن عراق الكناني، ت: 963هـ، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، 1401هـ - 1981م.
113- تنقيح المقال في علم أحوال الرجال، عبد الله المامقاني، خال من مكان الطبع وتاريخه.
114- تهذيب الأسماء واللغات، لأبي زكريا يحيى بن شرف النووي، ت: 676هـ، طبع دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
115- تهذيب تاريخ دمشق، عبد القادر بن بدران، ت: 1346هـ، دار المسيرة، بيروت.
116- تهذيب التهذيب، لأبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، ت: 852هـ، طبع مجلس دائرة المعارف النظامية، الهند، الطبعة الأولى، 1325هز
117- تهذيب خصائص الإمام علي، للإمام أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب المعروف بالنسائي، ت: 303هـ، طبع: دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط. أولى، 1405هـ - 1984م.
118- تيسير التحرير، للإمام محمد أمين، المعروف بأمير باد شاه الحسيني طبع مصطفى البابي الحلبي، 1351هـ.
119- تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد، للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، ت: 1233هـ، مكتبة الرياض الحديثة.
120- تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، عبد الرحمن بن ناصر السعدي، مؤسسة مكة للطباعة والإعلام، إهداء الجامعة الإسلامية(3/1261)
بالمدينة المنورة، 1398هـ.
- ج –
121- جامع الأصول من أحاديث الرسول، للإمام أبي السعادات مبارك بن محمد بن الأثير الجزري، ت: 606هـ، تحقيق: محمد حامد الفقي، نشر وتوزيع: إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد الرياض، 1370هـ.
122- جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله، لأبي عمر يوسف بن عبد البر النمري القرطبي، ت: 463هـ، مطبعة العاصمة بالقاهرة، الطبعة الثانية، 1388هـ 1938م.
123- جامع البيان عن تأويل آي القرآن، لأبي جعفر بن جرير الطبري، ت: 310هـ، طبع: مصطفى البابي الحلبي، مصر، الطبعة الثالثة، 1388هـ - 1938م.
124- الجامع الصغير من أحاديث البشير النذير، لجلال الدين عبد الرحمن السيوطي، ت: 911هـ، مطبوع مع شرحه فيض القدير للمناوي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1391هـ - 1972م.
125- الجامع لأحكام القرآن، لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، ت: 671هـ، الطبعة الثانية، 1372هـ - 1952م.
126- الجرح والتعديل، لابن أبي حاتم الرازي، محمد بن إدريس بن المنذر التميمي الحنظلي، ت: 327هـ، طبع دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، سنة 1371هـ - 1952م.
127- جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام، لأبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب الشهير بابن قيم الجوزية، ت: 751هـ، دار القلم، بيروت، لبنان.(3/1262)
128- حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح، لابن قيم الجوزية، طبع دار الفكر، بيروت.
129- الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة، يوسف بن أحمد البحراني، ت: 1186هـ.
130- حديث الثقلين وفقهه، علي أحمد السالوس، دار إصلاح للطباعة والنشر، أبو ظبي، الطبعة الأولى، 1406هـ - 1986م.
131- الحركات الباطنية في الإسلام، مصطفى غالب، طبع دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان.
132- الحسبة في الإسلام، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ت: 728هـ، المطبعة السلفية، الطبعة الثانية، 1400هـ.
133- الحقائق الخفية عن الشيعة الفاطمية الاثنى عشرية، محمد حسن الأعظمي، طبع: الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر.
134- حقوق آل البيت، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ت: 728هـ، تحقيق: عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
135- حق اليقين في معرفة أصول الدين، عبد الله شبر، طبع دار الكتاب الإسلام.
136- الحكومة الإسلام لروح الله الخميني، منشورات المكتبة الإسلامية الكبرى.
137- حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، للحافظ أبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصفاني، ت: 430هـ، طبع دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
-خ –
138- الخصال المكفرة للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، ت(3/1263)
: 852هـ، ضمن مجموعة الرسائل المنيرية، طبع إدارة الطباعة المنيرية، نشر محمد أمين دمج، بيروت، 1970م.
139- الخطط المقريزية، لتقي الدين أحمد بن علي المقريزي، ت: 845هـ، مكتبة المثنى، بغداد.
140- خلق أفعال العباد، لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، ت: 256هـ، مكتبة ومطبعة النهضة الحديثة، مكة، الطبعة الأولى، 1389هـ.
- د –
141- إسلامية في الأصول الإباضية، بكير سعيد أعوشت، دار التضامن للطباعة، القاهرة، نشر مكتبة وهبة، الطبعة الثالثة، 1408هـ - 1988م.
142- دراسة حديثة "نضر الله امرءا سمع مقالتي" رواية ودراية عبد المحسن بن حمد العباد، مطابع الرشيد بالمدينة المنورة، الطبعة الأولى 1401هـ.
143- الدرر في اختصار المغازي والسير، للحافظ عمر بن عبد البر النمري، ت: 463هـ، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1404هـ.
144- در السحابة في مناقب القرابة والصحابة، محمد بن علي الشوكاني، ت: 1250هـ، تحقيق ودراسة دكتور: حسين بن عبد الله العمري، الطبعة الأولى، 1404هـ 1984م.
145- دفاع عن الحديث النبوي والسيرة في الرد على البوطي، محمد ناصر الدين الألباني، المطبعة العمومية بدمشق.
146- دقائق التفسير الجامع لتفسير الإمام ابن تيمية، جمع: د. محمد السيد الجليند، مؤسسة علوم القرآن، دمشق، الطبعة الثانية، 1404هـ - 1984م.(3/1264)
147- الدر المنثور في التفسير بالمأثور، للإمام عبد الرحمن جلال الدين السيوطي، ت: 911هـ، دار الفكر، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1403هـ - 1983م.
148- دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي، ت: 458هـ، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1405هـ - 1985م.
149- الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب، إبراهيم بن علي بن محمد بن فرحون اليعمري، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
150- الدين الخالص، للسيد محمد صديق حسن القنوجي البخاري، تحقيق: محمد زهري النجار، مكتبة الفرقان، مصر.
151- ديوان ذي الرمة، غيلان بن عقبة بن نهيس العدوي ت: 117هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، 1984م.
- ذ –
152- الذرية الطاهرة النبوية، لأبي بشر محمد بن أحمد بن حماد الدولابي، ت: 310هـ، تحقيق وتخريج: سعد المبارك الحسن الدار السلفية، الكويت، الطبعة الأولى، 1407هـ - 1986م.
153- الذيل على طبقات الحنابلة، لأبي الفرج عبد الرحمن بن شهاب الدين أحمد البغدادي الشهير ـ بابن رجب ـ، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان.
- ر –
154- رجال الكشي ـ المسمى ـ اختيار معرفة الرجال ـ محمد بن عمر بن عبد العزيز الكشي، طبع: دانشكاه مشهد، مركز تحقيقات ومطالعات ـ إيران، 1348هـ، تحقيق: حسن المصطفوي.(3/1265)
155- الرد على الجهمية، للإمام عثمان بن سعيد الدارمي، تحقيق: زهير الشاويش، طبع: المكتب الإسلامي، الطبعة الثالثة، 1398هـ - 1978م بيروت.
156- الرسالة، للإمام محمد بن إدريس الشافعي، ت: 204هـ، بتحقيق: أحمد بن محمد شاكر.
157- رسالة في الرد على الرافضة، لأبي حامد محمد المقدسي، ت: 888هـ، تحقيق: عبد الوهاب خليل الرحمن، الدار السلفية، بومباي، الهند، طبعة أولى 1403هز
158- رسالة ابن أبي زيد القيرواني، عبد الله بن أبي زيد القيرواني، ت: 386هـ، مطبوعة مع شرحها الثمر الداني في تقريب المعاني، للشيخ صالح بن عبد السميع الآبي الأزهري، طبع: دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
159- الرسالة التدمرية. لشيخ الإسلام ابن تيمية ت: 728هـ، تحقيق زهير الشاويش، المكتب الإسلامي، ط2، 1391هـ
160- الرسالة المستطرفة لبيان مشهور كتب السنة المشرفة، للسيد محمد بن جعفر الكتاني، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، 1400هـ.
161- الرقائق والحكايات، لخثيمة بن سليمان الطرابلسي، ت: 343هـ، تحقيق: عمر عبد السلام تدمري "ضمن مجموع بعنوان من حديث خيثمة بن سليمان"، دار الكتاب العربي، بيروت، طبعة أولى، 1400هـ.
162- روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، شهاب الدين محمود الألوسي البغدادي، ت: 1270هـ، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان.(3/1266)
163- الروض الآنف في تفسير السيرة النبوية، لابن هشام، لأبي القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد السهيلي، ت: 581هـ، طبع دار المعرفة.
164- الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم، لأبي عبد الله السيد محمد بن الوزير، ت: 840هـ، المطبعة السلفية، القاهرة، نشرة قصي محب الدين الخطيب، 1385هـ.
165- روضات الجنات في أحوال العلماء والسادات، محمد باقر الموسوي الخوانساري، ت: 1313هـ، تحقيق: أسد الله إسماعيليان، دار المعرفة، بيروت، لبنان.
166- الرواة المتكلم فيهم بما لا يوجب الرد، للإمام شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، ت: 748هـ، تحقيق: أبي عبد الله إبراهيم سعيد أبي إدريس، دار المعرفة، الطبعة الأولى، 1406هـ.
167- رياض الصالحين، لأبي زكريا يحيى بن شرف النووي، ت: 676هـ،، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، الطبعة الخامسة، 1405هـ، تحقيق وتخريج: عبد العزيز رباح، أحمد يوسف الدقاق.
168- الرياض النضرة في مناقب العشرة، لأبي جعفر أحمد الشهير بالمحب الطبري، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1405هـ - 1984م.
169- رسالة في الرد على الرافضة، للشيخ محمد بن عبد الوهاب، تحقيق: د. ناصر بن سعد الرشيد، طبع: مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي، مكة المكرمة.
170- الرياض المستطابة في جملة من روى في الصحيحين من الصحابة، للإمام يحيى بن أبي بكر العامري اليمني، ت: 893هـ، مكتبة المعارف، بيروت، الطبعة الثالثة.(3/1267)
- ز -
171- زاد المسير في علم التفسير، لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي، ت: 593هـ، طبع: المكتب الإسلامي، الطبعة الثالثة، 1404هـ - 1984م.
172- زاد المعاد في هدي خير العباد، للإمام شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر الزرعي الدمشقي، ت: 751هـ، تحقيق شعيب الأرناؤوط، وعبد القادر الأرناؤوط، طبع مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1399هـ - 1979م.
- س –
173- سؤال في معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه لشيخ الإسلام ابن تيمية ت: 728هـ، تحقيق: د. صلاح الدين المنجد، طبع: دار الكتاب الجديد، بيروت، لبنان.
174- سلسلة الأحاديث الصحيحة، للشيخ محمد ناصر الدين الألباني منشورات المكتب الإسلامي.
175- سنن أبي داود، للإمام الحافظ أبي داود سليمان بن الأشعث بن إسحاق الأزدي السجستاني، الطبعة الأولى، 1371هـ، مصطفى البابي الحلبي، بمصر.
176- سنن ابن ماجة، للحافظ أبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني بن ماجه، ت: 275هـ، دار إحياء التراث العربي، ترقيم: محمد فؤاد عبد الباقي، 1395هـ - 1975م.
177- سنن الترمذي، للإمام الحافظ محمد بن عيسى بن سورة الترمذي، ت: 479هـ، تحقيق: عبد الرحمن محمد عثمان، نشر المكتبة السلفية بالمدينة المنورة، وطبع دار الاتحاد العربي.(3/1268)
178- سنن الدارمي، لأبي عبد الله عبد الرحمن بن الفضل بن بهرام الدارمي، ت: 255هـ، طبع: دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
179- السنن الكبرى، لأبي بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي، ت: 458هـ، طبع: دار المعرفة، بيروت، لبنان.
180- سنن النسائي، للإمام أحمد بن شعيب بن علي النسائي، ت: 303هـ، طبع دار إحياء التراث العربي، بيروت لبنان.
181- السنة لأبي بكر أحمد بن محمد بن هارون بن يزيد الخلال، ت: 311هـ، دراسة وتحقيق الدكتور/عطية الزهراني، دار الراية، الطبعة الأولى، 1410هـ.
182- السنة للإمام أحمد بن حنبل، ت: 241هـ، مكتبة ابن تيمية، مصر.
183- السنة لعبد الله بن أحمد بن حنبل، تحقيق: أبي هاجر محمد السعيد بن بسيوني زغلول، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
184- سير أعلام النبلاء، محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، ت: 748هـ، طبع: مؤسسة الرسالة، بيروت، تحقيق: الأرناؤوط، مأمون الصاغرجي، الطبعة الثانية، 1402هـ - 1982م.
185- السير والمغازي، لمحمد بن إسحاق الشهير بابن إسحاق، ت: 151هـ، تحقيق: الدكتور سهيل زكار، دار الفكر، طبعة أولى، 1978م.
186- السيرة النبوية، لأبي محمد عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري، التي: 213هـ، تحقيق وضبط وشرح: مصطفى السقا وآخرين.
187- السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية، ت: 728هـ، دار الكتاب العربي، بيروت.
- ش –
188- شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، لأبي القاسم هبة الله بن الحسن(3/1269)
ابن منصور الطبري اللالكائي، ت: 418هـ، تحقيق: د. احمد سعد حمدان الغامدي، دار طيبة للنشر والتوزيع، الرياض.
189- شرح ألفية العراقي المسماة "بالتبصرة والتذكرة" للحافظ زين الدين عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن بن أبي بكر بن إبراهيم العراقي، ت: 806هـ، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
190- شجرة النور الزكية في طبقات المالكية، للشيخ محمد بن محمد مخلوف، طبع دار الفكر، بيروت.
191- شذرات الذهب في أخبار من ذهب، لأبي الفلاح عبد الحي بن العماد الحنبلي، ت: 1089هـ، طبع: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.
192- شرح ابن القيم على سنن أبي داود، المطبوع مع عون المعبود، نشر المكتبة السلفية بالمدينة المنورة، الطبعة الثانية، 1389هـ - 1969م.
193- شرح تنقيح الفصول في اختصار المحصول في الأصول، للإمام أبي العباس أحمد بن إدريس القرافي، ت: 684هـ، تحقيق: عبد الرؤوف سعد، دار الفكر للطباعة، القاهرة.
194- شرح السنة للإمام محي السنة أبي محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي، ت: 516هـ، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، زهير الشاويش، طبع: المكتب الإسلامي.
195- شرح العقيدة الطحاوية، للعلامة محمد بن علي بن محمد الأذرعي، ت: 792هـ، خرج أحاديثها الشيخ: محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، 1391هـ.
196- شرح كتاب التوحيد، للشيخ عبد الله بن محمد الغنيمان، مكتبة لينة للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1409هـ.
197- شرح كتاب الفقة الأكبر، للملا علي القاري الحنفي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1404هـ - 1984م.(3/1270)
198- شرح الزرقاني على المواهب اللدنية، للقسطلاني، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الثانية، 1393هـ.
199- شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد، ت: 679هـ، تحقيق: محمد أبي الفضل إبراهيم، دار إحياء التراث العربي، الطبعة الثانية، 1387هـ - 1967م.
200- شرح النووي على صحيح مسلمن للإمام زكريا/ يحيى بن شرف النووي، ت: 676هـ، نشر وتوزيع: رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، الرياض.
201- الشرح والإبانة على أصول الديانة، لعبيد الله بن محمد بن بطة العكبري ت: 387هـ، تحقيق وتعليق: رضا بن نعسان معطي، المكتبة الفيصلية، مكة المكرمة.
202- الشفاء بتعريف حقوق المصطفى، لأبي الفضل عياض بن موسى اليحصبي الأندلسي، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، الطبعة الأخيرة، 1369هـ، 1950م.
203- الشيعة في الميزان، محمد جواد مغنية، دار التعاريف للمطبوعات، بيروت.
204- الشيعة والتصحيح، موسى الموسوي، طبع عام 1408هـ - 1978م.
- ص -
205- الصارم المسلول على شاتم الرسول، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ت: 728 تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد، طبع: عالم الكتب، 1402هـ - 1982م.
206- الصحابة في نظر الشيعة الإمامية أسد حيدر، نشر مطبوعات النجاح، القاهرة.(3/1271)
207- الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، إسماعيل بن حماد الجوهري، ت: 393 تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، الطبعة الثانية، القاهرة، 1402هـ.
208- صحيح البخاري بحاشية السندي، لأبي عبد الله محمد إسماعيل البخاري، ت: 256هـ، طبع: دار إحياء الكتب العربية، لأصحابها مصطفى البابي الحلبي وشركاه.
209- صحيح الجامع الصغير، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 1408هـ.
210- صحيح سنن الترمذي، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 1408هـ.
211- صحيح مسلم، للإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، ت: 261هـ، تصحيح وترقيم: محمد فؤاد عبد الباقي طبع: دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي، ط1، 1374هـ.
212- الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم، علي بن يونس العاملي النباطي البياضي، ت: 877هـ، المكتبة المرتضوية لإحياء الآثار الجعفرية، تصحيح وتحقيق: محمد الباقر البهبودي.
213- صفة الصفوة، لأبي الفرج بن الجوزي، ت: 597هـ، دار المعرفة، بيروت، لبنان، الطبعة الثالثة، 1405هـ - 1985م.
214- الصواعق المحرقة في الرد على أهل البدع والزندقة، أحمد بن حجر الهيثمي المكي، ت: 974هـ، مكتبة القاهرة، الطبعة الثالثة 1385هـ - 1965م.
- ض -
215- الضعفاء الكبير، لأبي جعفر محمد بن عمرو بن موسى بن حماد العقيلي(3/1272)
المكي، الطبعة الأولىن دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
216- الضوء اللامع لأهل القرن التاسعن محمد عبد الرحمن السخاوي، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، لبنان.
- ط –
217- طبقات الحنابلة، للقاضي أبي الحسين محمد بن أبي يعلى، الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان.
218- طبقات خليفة بن خياط العصفرين ت: 240هـ، تحقيق: الدكتور أكرم ضياء العمري، نشر: دار طيبة، الرياض، الطبعة الثانية، 1402هـ.
219- طبقات الشافعية، لأبي نصر عبد الوهاب بن علي السبكي، ت: 771هـ، تحقيق: عبد الفتاح محمد الحلو ومحمود الطناجي، مطبعة عيسى البابي الحلبي، الطبعة الأولى.
220- طبقات فقهاء اليمن، عمر بن علي بن سمرة الجعدي، تحقيق: فؤاد سيد، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، 1401هـ - 1981م.
221- الطبقات الكبرى، محمد بن سعد كاتب الواقدي، ت: 230هـ، طبع: دار بيروت للطباعة والنشر.
222- طبقات المعتزلة، أحمد بن يحيى بن المرتضى، تحقيق: سوسنة ديفلد فلزر، بيروت، 1380هـ - 1961م.
223- طبقات المفسرين، للحافظ شمس الدين محمد بن علي بن أحمد الداودي، ت: 945هـ، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
224- الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف، لعلي بن موسى بن طاووس الحسني الحسيني، ت: 664هـ، مطبعة الخيام، قم.(3/1273)
- ع –
225- عبد الله بن سبأ وأثره في إحداث الفتنة في صدر الإسلام، سليمان بن أحمد العودة، دار طيبة، الرياض، الطبعة الأولى، 1405هـ.
226- عقائد الإمامية، محمد رضا المظفر، مطبوعات النجاح، القاهرة، الطبعة الثالثة، 1391هـ.
227- العقود الفضية في أصول مذهب الإباضية، سالم بن حمد بن سليمان بن حميد الحارثي العماني الإباضي، دار اليقظة العربية، سوريا، لبنان، بدون تاريخ.
228- عقيدة أهل السنة والجماعة، محمد الصالح العثيمين، طبع مركز شئون الدعوة بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، الطبعة، 1409هـ.
229- عقيدة السلف وأصحاب الحديث، لشيخ الإسلام إسماعيل الصابوني، ت: 449هـ، ضمن مجموعة الرسائل المنيرية، إدارة الطباعة المنيرية، نشر محمد أمين دمج، بيروت، 1970م.
230- العقيدة الطحاوية، لأبي جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوية، ت: 321هـ، مطبوعة مع شرحها لابن أبي العز الحنفي، طبع: المكتب الإسلامي، بيروت، 1391هـ.
231- العقيدة الواسطية، لمحمد خليل هراس، طبع ونشر الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، الرياض، 1402هـ - 1982م.
232- العلل المتناهية في الأحاديث الواهية، لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي التميمي القرشي، ت: 597هـ، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1403هـ.
233- عمان في فجر الإسلام، سيدة إسماعيل كاشف، وزارة التراث القومي(3/1274)
والثقافة، سلطنة عمان، الطبعة الثانية، 1982هـ.
234- عمدة القاري شرح صحيح البخاري، محمود بن أحمد بن موسى العيني، ت: 855هـ، طبع: دار الفكر، 1399هـ - 1979م.
235- عارضة الأحوذي شرح صحيح الترمذي، محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي، ت: 543هـ، طبع: دار الفكر للطباعة، بيروت.
236- العبر في خبر من غبر، للإمام شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، ت: 748هـ، طبع: وزارة الأوقاف، الكويت، الطبعة الأولى.
237- العذب الفائض شرح عمدة الفارض، إبراهيم بن عبد الله بن إبراهيم، أمر بطبعه الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود.
238- العواصم من القواصم، للقاضي أبي بكر بن العربي، ت: 543هـ، تحقيق: محب الدين الخطيب، طبع: المطبعة السلفية ومكتبتها.
239- العواصم من القواصم في الذب عن سنة أبي القاسم، محمد بن إبراهيم الوزير، ت: 840هـ، دار البشير، عمان، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، الطبعة الأولى، 1405هـ 1985م.
240- عون الباري لحل أدلة صحيح البخاري، لأبي الطيب صديق حسن علي الحسيني القنوجي البخاري، المطبعة العربية الحديثة، القاهرة، 1404هـ - 1984م.
241- عون المعبود شرح سنن أبي داود، محمد شمس الحق العظيم آبادي، ضبط وتحقيق: عبد الرحمن محمد عثمان، نشر المكتبة السلفية بالمدينة المنورة، الطبعة الثانية، 1389هـ.
242- عيون المعجزات، حسين عبد الوهاب، من منشورات الداودي، قم، المطبعة العلمية، قم.(3/1275)
- غ –
243- غاية الأماني في الرد على النبهاني، محمود شكري بن عبد الله بن محمود الحسيني الألوسي، ت: 1273هـ، طبعة قديمة، خالية من مكان الطبع وتاريخه.
244- الغدير في الكتاب والسنة والأدب، عبد الحسين الأميني النجفي دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان.
245- غريب الحديث، لأبي عبيد القاسم بن سلام الهروي، ت: 224هـ، الطبعة الأولى، 1406هـ، طبع: دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
246- الغنية، فهرست شيوخ القاضي عياض المغربي، طبع: الدار العربية للكتاب، ليبيا، تونس، تحقيق: محمد بن عبد الكريم.
247- الغنية لطالبي طريق الحق، عبد القادر الجيلاني، طبع مصطفى البابي الحلبي، 1375هـ.
248- غياث الأمم في التياث الظلم، عبد الملك الجويني، ت: 478هـ، تحقيق عبد العظيم الديب، إدارة الشئون الدينية، الدوحة، 1400هـ.
- ف -
249- فتح الباري شرح صحيح البخاري، للإمام الحافظ أحمد بن حجر بن علي بن حجر العسقلاني، ت: 852هـ، المطبعة السلفية ومكتبتها، بترقيم: محمد فؤاد عبد الباقي.
250- الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، للشيخ أحمد عبد الرحمن البنا، دار الشهاب، القاهرة.
251- فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية، للإمام محمد بن علي الشوكاني، ت: 1250هـ، طبع: دار المعرفة، بيروت، لبنان.
252- فتح المغيث شرح ألفية الحديث، محمد بن عبد الرحمن السخاوي،(3/1276)
ت: 902هـ، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
253- الفتوحات الربانية على الأذكار النووية، لمحمد بن علان، ت: 1057هـ، طبع دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان.
254- الفرق الإسلامية من خلال الكشف والبيان، لأبي سعيد محمد بن سعيد الأزدي المقلهماني، تحقيق وتقديم: محمد بن عبد الجليل، مركز الدراسات والأبحاث الاقتصادية والاجتماعية بالجامعة التونسية، 1984م.
255- الفرق بين الفرق، لعبد القاهر بن طاهر البغدادي، ت: 429هـ، تعليق محمد محي الدين عبد الحميد، مكتبة محمد علي صبيح، مصر.
256- الفصل في الملل والأهواء والنحل، لأبي محمد بن حزم الظاهري، ت: 456هـ، مكتبة الخانجي، مصر.
257- الفصول المهمة في تأليف الأمة، لعبد الحسين الموسوي، دار الزهراء، بيروت، لبنان، الطبعة السابعة، 1397 – 1977م.
258- فضائح الباطنية، لأبي حامد الغزالي، ت: 505هـ، مؤسسة دار الكتب الثقافية، الكويت، حولي.
259- فضائل أبي بكر، لأبي طالب محمد بن علي بن الفتح الحربي العشاري، ت: 451هـ، طبع المكتبة الدينية السلفية، في ملتان، الهند، الطبعة الأولى، 1358هـ.
260- فضائل الصحابة، للإمام أحمد بن محمد بن حنبل، ت: 241هـ، تحقيق وصي الله بن محمد عباس، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1403هـ - 1983م.
261- فضائل الصحابة، أحمد بن علي بن شعيب، النسائي، ت: 303هـ، تحقيق: فاروق حماده، طبع دار الثقافة، الدار البيضاء.
262- فضائل القرآن لأبي الفداء إسماعيل بن كثير، ت: 774هـ، نشر مكتبة الصحابة، مصر.(3/1277)
263- فهرس الفهارس، لعبد الحي الكتاني، دار الغرب الإسلامي.
264- الفوائد البهية في تراجم الحنفية، محمد عبد الحي اللكنوي الهندي، طبع: دار المعرفة، بيروت، لبنان.
265- فوات الوفيات، محمد بن شاكر الكتبي، ت: 764هـ، تحقيق: إحسان عباس، دار صادر.
266- فيض القدير شرح الجامع الصغير، عبد الرؤوف المناوي، ت: هـ، دار الفكر للطباعة والنشر، الطبعة الثانية، 1391هـ، 1972م.
- ق –
267- القاموس المحيط، لمجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزأبادي، ت: 817هـ، المؤسسة العربية للطباعة والنشر، بيروت، لبنان.
268- قبس من هدي الإسلام، للشيخ عبد المحسن بن حمد العباد، مطابع الرشيد بالمدينة المنورة، الطبعة الأولى، 1401هـ.
269- قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر، لصديق حسن خان، ت: 1307هـ، تحقيق الدكتور: عاصم بن عبد الله القريوتي، الطبعة الأولى 1404هـ - 1984م.
- ك –
270- الكامل في التاريخ لأبي الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني، المعروف بابن الأثير، ت: 630هـ، دار صادر، بيروت.
271- الكامل في ضعفاء الرجال، للإمام الحافظ أبي أحمد عبد الله بن عدي الجرجاني، ت: 365هـ، دار الفكر، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، 1405هـ.
272- الكافي، محمد بن يعقوب الكليني الرازي، ت: 328هـ، المطبعة(3/1278)
الإسلامية، طهران، طبع 1388هـ.
273- كتاب الكبائر، محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، الطبعة الأولى، سنة 1355هـ.
274- كتاب النهي عن سب الأصحاب وما فيه من الإثم والعقاب، لأبي عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي، مخطوط.
275- كشف الأسرار لروح الله الخميني، تقديم: د. محمد أحمد الخطيب، دار عمار، عمان، الطبعة الأولى، 1408هـ - 1987م.
276- كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، مصطفى عبد الله الشهير بحاجي خليفة، مكتبة المثنى، بيروت.
277- كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، لنصير الدين الطوسي، ت: 772هـ، مع شرحه للحلي، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات بيروت، لبنان.
278- الكفاية، أحمد بن علي الخطيب، ت: 463هـ، الطبعة الأولى، 1405هـ. نشر دار الكتاب العربي، تحقيق وتعليق الدكتور أحمد عمر هاشم.
279- كليات أبي البقاء الكفوي، طبع بولاق، القاهرة.
280- كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، للعلامة علاء الدين علي المتقي ابن حسام الدين الهندي البرهان فوري، ت: 975هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1399هـ - 1976م.
- ل –
281- اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان، محمد فؤاد عبد الباقي، طبع: دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي.(3/1279)
282- لباب النقول في أسباب النزول، جلال الدين السيوطي، ت: 911هـ، طبع: دار إحياء العلوم، بيروت.
283- اللباب في تهذيب الأنساب، عز الدين ابن الأثير الجزري، محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني، ت: 630هـ، طبع: دار صادر، بيروت.
284- لسان العرب، لأبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور الإفريقي المصري، ت: 711هـ، طبع: دار صادر، بيروت.
285- لسان الميزان، للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، ت: 852هـ، طبع: دار الفكر، بيروت، لبنان.
286- لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد، لأبي محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي، ت: 620هـ، المطبعة السلفية ومكتبتها، القاهرة.
287- لوامع الأنوار البهية، شرح الدرة المضية في عقيدة الفرقة الرضية، للشيخ محمد بن أحمد السفاريني، ت: 1188هـ، المكتب الإسلامي، مكتب أسامة.
- م –
288- مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، القسم الخامس، الرسائل الشخصية، طبع: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
289- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، تأليف علي بن أبي بكر الهيثمي، ت: 808هـ، الطبعة الثالثة، سنة 1402هـ دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان.
290- المجموع شرح المهذب، للإمام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي، ت:(3/1280)
676هـ، مطبعة الإمام بمصر.
291- مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، جمع وترتيب: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي النجدي، بمساعدة ابنه محمد، تصوير عن الطبعة الأولى، 1398هـ.
292- مجمع النورين وملتقى البحرين، تأليف أبي الحسن المرندي النجفي ت: 1349هـ، ـ خال من مكان الطبع وتاريخه وهو موجود بمكتبة كراتشي العامة.
293- المحاسن النفسانية في أجوبة المسائل الخراسانية، حسين العصفور، ط. جمعية أهل البيت، البحرين، طبعة أولى 1399هـ.
294- محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين من العلماء والحكماء والمتكلمين، محمد بن عمر الخطيب المعروف بالفخر الرازي، ت: 606هـ، تعليق طه عبد الرؤوف سعد، دار الكتاب العربي، طبعة أولى، 1404هـ.
295- المحلى، لأبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري ت: 456هـ، دار الاتحاد العربي للطباعة، سنة 1388هـ - 1968م.
296- المختار الثقفي مرآة العصر الأموي، علي حسن الخربوطلي، سلسلة أعلام العرب، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والنشر، 1962م.
297- مختار الصحاح، محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي، ت: 666هـ، طبع: دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان.
298- مختصر تاريخ الإباضية، لأبي ربيع سليمان الباروني، نشر مكتبة الاستقامة، تونس، المطبعة السلفية، الطبعة الثانية.
299- مختصر التحفة الاثنى عشرية، للسيد محمود شكري الألوسي، مكتبة إيشيق ـ استنابول، تركيا، 1399هـ - 1979م.
300- مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، الشيخ محمد بن عبد الوهاب 1206هـ، بتحقيق: محمد حامد الفقي، مكتبة السنة المحمدية، القاهرة.(3/1281)
301- مختصر الصواعق المراسلة على الجهمية والمعطلة، تأليف الإمام بن قيم الجوزية، اختصره محمد بن الموصلي، مكتبة الرياض الحديثة.
302- مختصر فتاوى ابن تيمية، لبدر الدين أبي عبد الله محمد بن علي الحنبلي البعلي، ت: 777هـ، طبع دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1405هـ.
303- مختصر منتهى الأصولي مع شرح القاضي عضد الملة والدين، وعليه حواشي التفتازاني والجرجاني والهروي لابن الحاجب المالكي، ت: 646هـ، مطعبة الفجالة الجديدة، 1393هـ - 1973م.
304- مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، للإمام بن قيم الجوزية، تحقيق: محمد حامد الفقي، طبع السنة المحمدية، القاهرة.
305- مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، محمد باقر المجلسي، دار الكتب الإسلامية، طهران.
306- المراسيل، لأبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، ت: 275هـ، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، طبعه أولى، 1408هـ.
307- المرقاة شرح المشكاة، علي بن سلطان محمد القاري، المطبعة الميمنية، مصر.
308- مروج الذهب ومعادن الجوهر، لأبي الحسن علي بن الحسين بن علي المسعودي، ت: 346هـ، طبع دار الكتاب اللبناني، بيروت، لبنان، ط. أولى، 1402هـ.
309- مسائل الإمام أحمد، رواية ابنه عبد الله، تحقيق زهير الشاويش، طبع: المكتب الإسلامي.
310- المستدرك على الصحيحين، لأبي عبد الله محمد بن عبد الله الشهير بالحاكم، ت: 405هـ.
311- المستصفى من علم الأصول، لأبي حامد محمد بن محمد بن محمد(3/1282)
الغزالي، ت: 606هـ، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان.
312- مسند الإمام أحمد بن حنبل، ت: 241هـ، المكتب الإسلامي للطباعة والنشر، بيروت، طبع: دار المعارف بمصر، بتحقيق: أحمد شاكر رحمه الله.
313- مسند أبي يعلى، تأليف أحمد بن علي المثنى التميمي، ت: 307هـ، تحقيق: حسين سليم أسد، طبع دار المأمون للتراث، دمشق، الطبعة الأولى، 1404هـ.
314- مسند أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، للإمام جلال الدين السيوطي، ت: 911هـ، تصحيح وتعليق: محمد غوث، نشر الدار السلفية، بومباي، الهند، الطبعة الأولى، 1401هـ.
315- مسند الحميدي، للإمام عبد الله بن الزبير الحميدي، ت: 219هـ، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، نشر المكتبة السلفية، المدينة المنورة.
316- المسند من مسائل الإمام أحمد للخلال، مخطوط.
317- مشكل الآثار، لأبي جعفر الطحاوي أحمد بن محمد بن سلامة بن سلمة الأزدي، ت: 321هـ، الطبعة الأولى، مؤسسة قرطبة، الأندلس.
318- المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي، تأليف العلامة أحمد بن محمد بن علي المقري الفيومي، ت: 770هـ، المكتبة العلمية، بيروت، لبنان.
319- المصنف في الأحاديث والآثار، للحافظ أبي بكر بن أبي شيبة ت: 235هـ، طبع: الدار السلفية، الطبعة الأولى، 1403هـ، بومباي، الهند.
320- المصنف لعبد الرزاق بن همام الصنعاني، ت: 211هـ، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، طبع: المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثانية، 1403هـ.(3/1283)
321- معالم التنزيل، للإمام أبي محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي ت: 516هـ، مطبوع مع تفسير الخازن، طبع المكتبة التجارية الكبرى، مصر.
322- معالم السنن، لأبي سليمان حمد بن محمد الخطابي البستي، ت: 388هـ، المكتبة العلمية، الطبعة الأولى، 1351هـ - 1981م.
323- معاني الأخبار، لابن بابويه القمي الملقب بالصدوق، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية، قم.
324- معاني القرآن، لأبي إسحاق إبراهيم بن السري بن سهل الزجاج، ت: 311هـ، منشورات المكتبة العصرية، بيروت.
325- المعتمد في أصول الفقه، لأبي يعلى محمد بن الحسين الفراء، ت: 458هـ، تحقيق: د. وديع زيدان حداد، طبع دار الشرق، بيروت، لبنان.
326- معجم البلدان، للإمام شهاب الدين أبي عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي البغدادي، ت: 626هـ، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
327- معجم المؤلفين، تراجم مصنفي الكتب العربية، عمر رضا كحالة، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان.
328- معجم مقاييس اللغة، لأبي الحسين أحمد بن فارس، ت: 395هـ، تحقيق عبد السلام محمد هارون، الطبعة الثانية، 1389هـ، مصطفى البابي الحلبي، القاهرة.
329- معرفة الصحابة للحافظ أبي نعيم الأصبهاني، ت: 430هـ، تحقيق ودراسة: محمد راضي بن حاج عثمان، طبع مكتبة الدار بالمدينة، الطبعة الأولى 1408هـ.
330- معرفة علوم الحديث، لأبي عبد الله محمد بن عبد الله، الحاكم النيسابوري ت: 405هـ، تحقيق السيد حسين، طبع دائرة المعارف العثمانية،(3/1284)
حيدر آباد الدكن، الطبعة الثانية، 1397هـ.
331- المعرفة والتاريخ، ليعقوب بن سفيان الفسوي، ت: 277هـ، تحقيق د. أكرم ضياء العمري، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية، 1401هـ.
332- المغازي، محمد بن عمر بن واقد، ت: 207هـ، تحقيق: مارسدن جونسو، عالم الكتب، الطبعة الثالثةن 1404هـ - 1984م.
333- مفتاح دار السعادة، للإمام محمد بن أبي بكر الشهير بابن قيم الجوزية، ت: 751هـ، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
334- المفردات في غريب القرآن، لأبي القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني، ت: 502هـ، تحقيق: محمد سيد كيلاني، مصطفى البابي الحلبي، بمصر.
335- المفصح في إمامة أمير المؤمنين، لأبي جعفر الطوسي، مؤسسة النشر الإسلامي لجماعة المدرسين، قم، إيران.
336- مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، لأبي الحسن الأشعري، ت: 330هـ، تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد، مكتبة النهضة المصرية.
337- المقالات والفرق، سعد بن عبد الله بن خلف الأشعري القمي، ت: 301هـ، تحقيق: محمد جواد مشكور، مطبعة حيدري، طهران 1963هـ
338- المقدمة، عبد الرحمن بن خلدون، ت: 808هـ، دار القلم، بيروت لبنان، الطبعة الخامسة، 1984م.
339- مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث لأبي عمرو عثمان بن عبد الرحمن، المعروف بابن الصلاح، ت: 642هـ، طبع: دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
340- مقدمة تفسير مرآة الأنوار ومشكاة الأسرار، لأبي الحسن بن محمد طاهر(3/1285)
النباطي العاملي القروي، وهي مقدمة على تفسير البرهان للبحراني، طبع المطبعة العلمية، قم، إيران، الطبعة الثالثة، 1393هـ.
341- مقدمة مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، لمرتضى العسكري، دار الكتب الإسلامية، طهران.
342- مناقب آل أبي طالب، لأبي جعفر محمد بن علي بن شهراشوب، ت: 588هـ، مؤسسة: انتشارات علامة ـ قم ـ.
343- مناقب الإمام أحمد بن حنبل، لأبي الفرج بن الجوزي، تحقيق: لجنة إحياء التراث، طبع دار الآفاق الجديدة، ط3، 1402هـ.
344- مناقب الإمام الشافعي، فخر الدين الرازي، تحقيق: أحمد حجازي السقا، مكتبة الكليات الأزهرية، طبعة أولى، 1406هـ.
345- مناقب الإمام الشافعي، لأحمد بن الحسين البيهقي، ت: 458هـ، تحقيق: أحمد صقر، نشر: مكتبة دار التراث، طبع: دار النصر طبعة أولى 1391هـ.
346- المنتقى من منهاج الاعتدال، للحافظ أبي عبد الله محمد بن عثمان الذهبي، ت: 748هـ، طبع: مكتبة دار البيان، حققه وعلق حواشيه: محب الدين الخطيب.
347- منهاج السنة النبوية، لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم، الشهير بابن تيمية، التي: 728، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
348- منهاج القاصدين في فضل الخلفاء الراشدين، مخطوط، في مكتبة عارف حكمت بالمدينة، رقم 253.
349- منهاج الكرامة لابن المطهر الحلي، ت: 726هـ، مطبوع مع منهاج السنة النبوية، طبع: دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
350- الموضوعات، لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي، ت: 597هـ، دار الفكر، الطبعة الثانية، 1403هـ.(3/1286)
351- الموافقات في أصول الأحكام، لأبي إسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي الشهير بالشاطبي، ت: 790هـ، دار الفكر، 1341هـ.
352- المواقف في علم الكلام، للقاضي عبد الرحمن بن أحمد الإيجي، نشر: عالم الكتب، بيروت، لبنان، ومكتبة المتنبي، القاهرة، ومكتبة سعد الدين، دمشق.
353- الموطأ للإمام مالك بن أنس الأصبحي، ت: 119هـ، صححه ورقمه وخرج أحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي، طبع: دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي وشركاه.
354- ميزان الاعتدال في نقد الرجال، لأبي عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، ت: 748هـ، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار المعرفة، بيروت، لننان.
355- الميزان في تفسير القرآن، محمد حسين الطباطبائي، طبع منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية، قم، إيران.
- ن –
356- نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر، لجمال الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي، ت: 597هـ، دراسة وتحقيق: محمد عبد الكريم كاظم الراضي مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية، 1405هـ.
357- نزهة النظر شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، ت: 852هـ، سنة 1406هـ.
358- النظم الاجتماعية والتربوية عند الإباضية في شمال إفريقية في مرحلة الكتمان، عوض محمد خليفات، الطعبة الأولى، عمان، 1982م.
359- النكت والعيون، تفسير: علي بن حبيب الماوردي، ت: 450هـ، مطابع مقهوي، الكويت، الطبعة الأولى.(3/1287)
360- النهاية في غريب الحديث والأثر، لمجد الدين أبي السعادات المبارك بن محمد الجزري، ت: 606هـ، تحقيق: طاهر أحمد الزاوي، ومحمود محمد الطناجي، نشر: المكتبة الإسلامية، لرياض الشيخ.
- هـ-
361- هدي الساري مقدمة فتح الباري، الحافظ ابن حجر العسقلاني، ت: 852هـ، المطبعة السلفية ومكتبتها.
362- هدية العارفين أسمء المؤلفين وآثار المصنفين، إسماعيل باشا البغدادي، مكتبة المثنى، بيروت.
- و –
363- الوصية الكبرى، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ت: 728هـ، طبع: دار المطبعة السلفية ومكتبتها، نشر: قصي محب الدين الخطيب، الطبعة الثالثة، 1401هـ.
364- وفيات الأعيان، لأبي العباس أحمد بن محمد بن أبي بكر بن خلكان، ت: 681هـ، تحقيق: إحسان عباس، دار صادر، بيروت.
- ي –
365- كتاب: اليقين في إمرة أمير المؤمنين، لابن طاووس، المكتبة الحيدرية ومطبعتها النجف.(3/1288)