الجزء الأول
الباب الأول: الثناء في القرآن والسنة على الصحابة
الفصل الأول: الثناء عليهم عموما في القرآن والسنة وأقوال السلف
المبحث الأول: الثناء عليهم في القرآن
...
الباب الأول الثناء في القرآن والسنة على الصحابة
وفيه أربعة فصول:
الفصل الأول: الثناء عليهم عموماً في القرآن والسنة وأقوال السلف.
الفصل الثاني: الثناء على أصناف معينة رضي الله عنهم.
الفصل الثالث: فضل العشرة المبشرين بالجنة.
الفصل الرابع: ما جاء في فضل الصحابة من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم.
الفصل الأول
الثناء عليهم عموماً
في الكتاب والسنة وأقوال السلف
الفصل الأول
الثناء عليهم عموماً في الكتاب والسنة وأقوال السلف
وفيه مباحث:
المبحث الأول: الثناء عليهم في القرآن.
المبحث الثاني: الثناء عليهم في السنة.
المبحث الثالث: الثناء عليهم في أقوال السلف.
المبحث الأول الثناء عليهم في القرآن
إن أهل السنة والجماعة يثبتون فضل الصحابة رضي الله عنهم الذي نطق به القرآن الكريم المنزل من لدن حكيم حميد على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، كما يثبتون جميع ما صح في فضلهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء كان هذا الفضل على وجه العموم، أو على وجه الخصوص الكل يثبتونه ويعتقدونه اعتقاداً جازماً ويسلمون به لأولئك الأطهار الذين اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم وصاغهم أعظم صياغة ليكونوا وزراء لنبيه عليه الصلاة والسلام، وليحملوا رسالته من بعده، ويبلغوها إلى جميع الناس في هذه المعمورة ولقد أثنى الله عليهم في كتاب الكريم على سبيل الجملة في آيات كثيرة ومواضع شتى منها:
1- قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} 1 هذه الآية الكريمة وجه الله تعالى فيها الخطاب إلى جميع الأمة المحمدية من أولها إلى أن تقوم الساعة وهذا الخطاب يتضمن أنه سبحانه جعلهم خيار الأمم ليكونوا يوم القيامة شهداء على الناس، والوسط في الآية بمعنى الخيار والأجود ولكن أولوية الدخول في هذا الخطاب إنما هو لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بقية الأمة الإسلامية إذ هم أول من وجه إليهم هذا الخطاب في هذه الآية وهم الموجودون حين نزوله.
قال العلامة ابن جرير الطبري مبيناً معنى هذه الآية {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} : " كما هديناكم أيها المؤمنون بمحمد عليه الصلاة والسلام وبما جاءكم
__________
1ـ سورة البقرة آية / 143.(1/55)
به من عند الله فخصصناكم بالتوفيق لقبلة إبراهيم وملته وفضلناكم بذلك على من سواكم من أهل الملل كذلك خصصناكم ففضلناكم على غيركم من أهل الأديان بأن جعلناكم أمة وسطاً ... والوسط في كلام العرب الخيار يقال: فلان وسط الحسب في قومه أي: متوسط الحسب إذا أرادوا بذلك الرفع في حسبه وهو وسط في قومه وواسط ... وأرى أن الله تعالى ذكره: إنما وصفهم بأنهم وسط لتوسطهم في الدين فلا هم أهل غلو فيه، غلو النصارى الذين غلوا بالترهب وقيلهم في عيسى ما قالوا فيه، ولا هم أهل تقصير فيه تقصير اليهود الذين بدلوا كتاب الله وقتلوا أنبياءهم وكذبوا على ربهم وكفروا به، ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه فوصفهم الله بذلك إذ كان أحب الأمور إلى الله أوسطها ... إلى أن قال: القول في تأويل قوله تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} والشهداء جمع شهيد: فمعنى ذلك: وكذلك جعلناكم أمة وسطاً عدولاً شهداء لأنبيائي ورسلي على أممها بالبلاغ أنها قد بلغت ما أمرت ببلاغه من رسالاتي إلى أممها ويكون رسولي محمد صلى الله عليه وسلم شهيداً عليكم بإيمانكم به وبما جاءكم به من عندي" أ. هـ1
وقال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله تعالى عند قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} : " المعنى: وكما أن الكعبة وسط الأرض كذلك جعلناكم أمة وسطاً أي: جعلناكم دون الأنبياء وفوق الأمم والوسط العدل وأصل هذا أن أحمد الأشياء أوسطها.
وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} قال عدلاً قال: هذا حديث حسن صحيح2 وفي التنزيل {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} 3 أي: أعدلهم وخيرهم ... ولما كان الوسط
__________
1ـ جامع البيان عن تأويل آي القرآن 2/8.6.
2ـ سنن الترمذي 4/275.
3ـ سورة القلم آية / 28.(1/56)
مجانباً للغلو والتقصير كان محموداً أي: هذه الأمة لم تغل غلو النصارى في أنبيائهم ولا قصروا تقصير اليهود في أنبيائهم وقوله تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} أي: في المحشر للأنبياء على أممهم.1
وقد روى الإمام البخاري في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يجاء بنوح يوم القيامة فيقال له: هل بلغت فيقول نعم يا رب، فتسئل أمته هل بلغكم فيقولون ما جاءنا من نذير فيقول: من شهودك فيقول: محمد وأمته فيجاء بكم فتشهدون". ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} قال: عدلاً {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} . 2
وقال ابن كثير رحمه الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} : "يقول تعالى: إنما حولناكم إلى قبلة إبراهيم عليه السلام واخترناها لكم لنجعلكم خيار الأمم لتكونوا يوم القيامة شهداء على الأمم لأن الجميع معترفون لكم بالفضل، والوسط هاهنا الخيار والأجود كما يقال: قريش أوسط العرب نسباً وداراً أي أخيرها وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطاً في قومه أي: أشرفهم نسباً ... ولما جعل الله هذه الأمة وسطاً خصها بأكمل الشرائع وأقوم المناهج وأوضح المذاهب كما قال تعالى: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} .3
وقال السفاريني4 رحمه الله تعالى مبيناً معنى الآية: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ
__________
1ـ الجامع لأحكام القرآن 2/153-154.
2ـ صحيح البخاري 4/268.
3ـ تفسير القرآن العظيم 1/335، والآية رقم 78 من سورة الحج.
4ـ هو محمد بن أحمد من سالم السفاريني شمس الدين أبو العون عالم الحديث والأصول والأدب ولد سنة أربع عشرة ومائة وألف، وتوفي سنة ثمان وثمانين مائة وألف هجرية، انظر: ترجمته في الأعلام للزركلي 6/240.(1/57)
أُمَّةً وَسَطاً} الآية أي: أمة خياراً عدولاً فإن هذا حقيقة الوسط، فهم خير الأمم وأعدلها في أقوالهم وأعمالهم وإراداتهم ونياتهم، وبهذا استحقوا أن يكونوا شهداء للرسل على أممهم يوم القيامة والله تعالى يقبل شهادتهم عليهم فهم شهداؤه ولهذا نوه بهم ورفع ذكرهم وأثنى عليهم. أ. هـ1
فإذن معنى الآية الكريمة: أن الله تعالى كما جعل قبلة أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير القبل وجعلها متوسطة بين المشرق والمغرب كذلك جعلهم خير الأمم وسطاً بين الغلو والتقصير فلم يغلوا غلو النصارى حيث وصفوا عيسى عليه الصلاة والسلام بالألوهية، ولم يقصروا تقصير اليهود حيث وصفوه بأنه ولد زنا فأخبر ـ سبحانه ـ بما أنعم به على أمة محمد صلى الله عليه وسلم من تفضيله لها بالعدالة والشهادة على سائر الأمم يوم القيامة، وعلى هذا فلا ريب ولا شك في أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أحق من كل أحد من أمته عليه الصلاة والسلام بهاتين الصفتين ألا وهما: العدالة والشهادة على سائر الأمم يوم القيامة بأن الرسل قد بلغوا أممهم ما أنزل الله إليهم من الرسالات السماوية.
قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} 2 وفي هذه الآية الكريمة بين الله تعالى أنه جعل أمة محمد خير أمة أخرجت للناس وذلك بسبب ما اتصفت به من القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولما استقر في قلوبهم من الإيمان بالله والصحابة رضي الله عنهم هم أول وأفضل من دخل في هذا الخطاب وحاز قصب السبق في هذه الخيرية بلا نزاع لأنهم أول من خوطب بهذه الآية الكريمة قال الزجاج3 وأصل الخطاب لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعم سائر
__________
1ـ لوامع الأنوار البهية 2/384.
2ـ سورة آل عمران آية / 110.
3ـ هو إبراهيم بن السري بن سهل أبو إسحاق الزجاج عالم بالنحو واللغة ولد ببغداد سنة إحدى وأربعين ومائتين وتوفي سنة إحدى عشرة وثلاثمائة، انظر: ترجمته في وفيات الأعيان 1/49-50، تاريخ بغداد 6/89.(1/58)
أمته.1 وقال الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى بعد ذكره لهذه الآية: "وهذا اللفظ وإن كان عاماً فالمراد به الخاص وقيل هو وارد في الصحابة".أ. هـ2
وقال السفاريني رحمه الله تعالى: " {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} قيل: اتفق المفسرون أن ذلك في الصحابة لكن الخلاف في التفاسير مشهور ورجح كثير عمومها في أمة محمد صلى الله عليه وسلم وكذلك قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} 3 وهذا خطاب للموجودين حينئذ" أ. هـ4
وأخرج الإمام البخاري بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} قال: "خير الناس للناس تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام".5
وقال العلامة ابن جرير الطبري: "اختلف أهل التأويل في قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} فقال بعضهم: هم الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة وخاصة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} قال: هم الذين هاجروا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
وعن السدي: أنه قال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} قال عمر بن الخطاب: لو شاء الله لقال أنتم
__________
1ـ معاني القرآن للزجاج 1/467، زاد المسير 1/438-439.
2ـ الكفاية ص/ 94.
3ـ سورة البقرة آية/ 143.
4ـ لوامع الأنوار البهية 2/377.
5ـ صحيح البخاري 3/113.(1/59)
فكنا كلنا ولكن قال "كنتم" في خاصية من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن صنع مثل صنيعهم كانوا خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
وعنه رضي الله عنه أنه قال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} قال: تكون لأولنا ولا تكون لآخرنا.
وعن قتادة قال: ذكر لنا أن عمر بن الخطاب قال في حجة حجها ورأى من الناس رعة1 سيئة فقرأ هذه {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} الآية ثم قال: يا أيها الناس من سره أن يكون من تلك الأمة فليؤد شرط الله منها.
وقال الضحاك في قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} قال: هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة يعني وكانوا هم الرواة الدعاة الذين أمر الله المسلمين بطاعتهم.
وقال آخرون: معنى ذلك كنتم خير أمة أخرجت للناس إذ كنتم بهذه الشروط التي وصفهم ـ جل ثناؤه ـ بها فكان تأويل ذلك عندهم كنتم خير أمة تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ... وعن قتادة قال: كان الحسن يقول: نحن آخرها وأكرمها على الله.
وبعد ذكره لأقوال المفسرين في هذه الآية قال: "وأولى الأقوال بتأويل الآية ما قال الحسن ثم ساق بإسناده إلى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ألا إنكم وفيتم سبعين أمة أنتم آخرها وأكرمها على الله". 2
فابن جرير رحمه الله تعالى رجح حمل الآية على عموم الأمة وأيد العموم
__________
1ـ قال الأصمعي: الرعة الهدي وحسن الهيئة، أو سوء الهيئة يقال: قوم حسنة رعتهم أي: شأنهم وأمرهم وأدبهم وأصله من الورع وهو الكف عن القبيح. أ. هـ لسان العرب 8/388، وانظر: النهاية في غريب الحديث 5/175.
2ـ جامع البيان 4/43-45.(1/60)
بحديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده وهذا الحديث عند الترمذي1 وابن ماجه2 والحاكم3 بلفظ: "أنتم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله".
قال الحافظ في الفتح وله شاهد مرسل عن قتادة عن الطبري4 رجاله ثقات وفي حديث علي عند أحمد5 بإسناد حسن: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ... وجعلت أمتي خير الأمم". 6
وممن حمل الآية على العموم في جميع الأمة الحافظ ابن كثير فإنه قال بعد ذكره لأقوال المفسرين: "والصحيح أن هذه الآية عامة في جميع الأمة كل قرن بحسبه وخير قرونهم الذي بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم كما قال في الآية الأخرى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} أي: أخياراً {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} أ. هـ7
وعلى هذا فمن أراد أن يوسم بسمة الخيرية التي وسم بها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما شهد لهم رب العالمين بها في الآية السابقة التي نحن بصدد الحديث عنها فليتحل بصفاتهم وأخلاقهم ويتبع المنهج الذي التزموه وساروا عليه.
قال الحافظ ابن كثير بعد أن ساق الأحاديث الثابتة في فضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم: "فهذه الأحاديث في معنى قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} فمن اتصف من هذه الأمة
__________
1ـ سنن الترمذي 4/294.
2ـ سنن ابن ماجه 2/1433.
3ـ المستدرك 4/84 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وأقره الذهبي.
4ـ جامع البيان 4/45.
5ـ المسند 1/98.
6ـ الفتح 8/225.
7ـ تفسير القرآن العظيم 2/89 والآية رقم 143 من سورة البقرة.(1/61)
بهذه الصفات دخل معهم في المدح: ومن لم يتصف بذلك أشبه أهل الكتاب الذين ذمهم الله بقوله: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} 1
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} 2
هذه الآية الكريمة، الخطاب فيها موجه لعباده المؤمنين إلى أن تقوم الساعة وهي تتضمن وعداً من الله ـ عز وجل ـ لهذه الأمة وهذا الوعد هو أن من ارتد عن دين الإسلام فإنه يأتي ـ سبحانه ـ بقوم ينصرون هذا الدين وبين ـ سبحانه ـ أنه يحبهم ويحبونه وأن فيهم رقة وليناً لإخوانهم المؤمنين، كما أنهم متصفون بالغلظة والشدة على الكافرين، وأنهم يجاهدون في سبيل الله من كفر بهذا الدين ولا يخافون في الحق من لوم اللائم، وهذه الصفات الطيبة وإن كانت عامة في جميع المؤمنين إلا أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي مقدمتهم ـ الصديق أبو بكر ـ هم أقعد وأحق وأولى بهذه الصفات من كل مؤمن يأتي بعدهم فهم أول من يتناوله الخطاب ويدخل فيه دخولاً أولياً.
قال ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى: يقول تعالى ذكره للمؤمنين بالله وبرسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} أي: صدقوا الله ورسوله وأقروا بما جاءهم به نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} يقول: من يرجع منكم عن دينه الحق الذي هو عليه اليوم فيبدله ويغيره بدخوله في الكفر؛ إما في اليهودية أو النصرانية، أو غير ذلك من صنوف الكفر فلن يضر الله شيئاً وسيأتي الله بقوم
__________
1ـ المصدر السابق 2/98 والآية رقم 79 من سورة المائدة.
2ـ سورة المائدة آية / 54.(1/62)
يحبهم ويحبونه يقول: فسوف يجيئ الله بدلاً منهم بالمؤمنين الذين لم يبدلوا ولم يغيروا ولم يرتدوا بقوم خير من الذين ارتدوا وبدلوا دينهم، يحبهم الله ويحبون الله وكان هذا الوعيد من الله لمن سبق في علمه أنه سيرتد بعد وفاة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وكذلك وعده من وعد من المؤمنين ما وعده في هذه الآية لمن سبق له في علمه أنه لا يبدل ولا يغير دينه، ولا يرتد، فلما قبض الله نبيه صلى الله عليه وسلم ارتد أقوام من أهل الوبر وبعض أهل المدر فأبدل الله المؤمنين بخير منهم كما قال تعالى ذكره، ووفى للمؤمنين بوعده وأنفذ فيمن ارتد منهم وعيده ... إلى أن قال: ثم اختلف أهل التأويل في أعيان القوم الذين أتى الله بهم المؤمنين وأبدل المؤمنين مكان من ارتد منهم. فقال بعضهم: هو أبو بكر الصديق وأصحابه الذين قاتلوا أهل الردة حتى أدخلوهم من الباب الذي خرجوا منه، وروى بإسناده إلى الحسن البصري في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} قال: هذا والله أبو بكر وأصحابه.
وقال آخرون: يعني بذلك قوماً من أهل اليمن، وقال بعض من قال ذلك منهم: هم رهط أبي موسى الأشعري: عبد الله بن قيس ثم روى بإسناده إلى عياض بن غنم الأشعري قال: لما نزلت هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} قال: أومأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي موسى بشيء كان معه فقال: هم قوم هذا.
وقال آخرون: بل هم أهل اليمن جميعاً.
وذكر بإسناده إلى مجاهد في قوله تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} قال: أناس من أهل اليمن وقال آخرون: هم الأنصار.
وروى بإسناده إلى السدي في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} قال: إنهم الأنصار.1
وقال العلامة ابن كثير رحمه الله تعالى عند قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
__________
1ـ جامع البيان 6/282-285، زاد المسير 2/381-382، تفسير البغوي على حاشية الخازن 2/54.(1/63)
آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} الآية. قال: "يقول تعالى مخبراً عن قدرته العظيمة أنه من تولى عن نصرة دينه وإقامة شريعته فإن الله سيستبدل به من هو خير لها وأشد منعة وأقوم سبيلاً كما قال تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} 1 ... وذكر عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: إنها نزلت في الولاة من قريش.
وعن الحسن البصري: أنها نزلت في أهل الردة أيام أبي بكر.
وعن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} قال: هؤلاء قوم من أهل اليمن، ثم من كندة ثم من السكون ... إلى أن قال: وقوله تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} هذه صفات المؤمنين الكمل أن يكون أحدهم متواضعاً لأخيه ووليه متعززاً على خصمه وعدوه وفي صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه الضحوك القتال فهو ضحوك لأوليائه قتال لأعدائه.2
وكل ما تقدم من تنوع سبب نزول الآية في أنها نزلت في الأشعريين، أو في أحياء من أهل اليمن، أو في الولاة من قريش، أو في الأنصار فإن ذلك لا ينافي عموم الآية فالآية عامة في كل مؤمن يحب الله ويحبه، ويوالي فيه، ويعادي فيه ولا يخاف في الله لومة لائم، وكان أبو بكر وأصحابه أسعد الناس بذلك وأقدمهم وأسبقهم إليه وهو أول من تناولته الآية رضي الله عنه وأرضاه وعن أنصار الإسلام وحزبه أجمعين، ومما يؤيد هذا ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر بعده وكفر من كفر من العرب قال عمر بن الخطاب لأبي بكر رضي الله عنه: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال: لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله ـ
__________
1ـ سورة محمد آية / 38.
2ـ تفسير القرآن العظيم 2/595(1/64)
عز وجل ـ" فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم علي منعه، فقال عمر بن الخطاب: فوالله ما هو إلا أن رأيت الله ـ عز وجل ـ قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق.1
هذا وفي الآية السابقة دلالة واضحة على صحة خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ـ رضي الله عنهم ـ إذ أنهم جاهدوا في الله ـ عز وجل ـ في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاهدوا المرتدين وسائر الكفرة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم ومن المقطوع به أن الصفات المذكورة في الآية المتقدمة متوفرة فيهم ومنطبقة عليهم رضي الله عنهم أجمعين.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنْ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمْ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} 2
الموصوفون في الآية الأولى من هذه الآيات للصفات الثلاث التي هي الإيمان والهجرة والجهاد هم المهاجرون الأولون الذين تركوا ديارهم وأموالهم وأولادهم إيثاراً لله ولرسوله من أجل إعلاء كلمة الله، وإظهار الدين الإسلامي الحنيف على سائر الأديان سواء لأنه الدين الحق الذي لا يقبل الله من أحد ديناً سواه والموصوفون في الآية نفسها بالإيواء والنصرة هم الأنصار الذين هم الأوس
__________
1ـ صحيح البخاري 1/343، صحيح مسلم 1/51-52.
2ـ سورة الأنفال آية / 72-74.(1/65)
والخزرج فإنهم آووا الرسول وأصحابه المهاجرين في منازلهم ونصروا نبي الله عليه الصلاة والسلام لمقاتلة أعداء الدين، ثم بين ـ سبحانه ـ الولاء والتلاحم الثابت بين المهاجرين والأنصار بقوله: {أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} أي: في النصرة والمساعدة. وهذا مما يؤكد قطع المولاة بينه وبين الكفار والآية الأخيرة من الآيات السابقة أخبر تعالى عنهم بحقيقة الإيمان وأنه ـ سبحانه ـ سيجازيهم بالمغفرة والصفح عن ذنوبهم إن وجدت وبالرزق الكريم وهو الحسن الكثير الطيب الشريف الدائم الأبدي المستمر الذي لا ينقطع ولا ينقص، ولا يسأم ولا يمل لتنوعه وحسنه.
قال العلامة ابن كثير عند قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا} الآية: ذكر تعالى أصناف المؤمنين وقسمهم إلى مهاجرين خرجوا من ديارهم وأموالهم وجاءوا لنصرة الله ورسوله وإقامة دينه، وبذلوا أموالهم وأنفسهم في ذلك. وإلى أنصار وهم المسلمون من أهل المدينة إذ ذاك آووا إخوانهم المهاجرين في منازلهم وواسوهم في أموالهم ونصروا الله ورسوله بالقتال معهم فهؤلاء بعضهم أولياء بعض ... وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} بل أقاموا في بواديهم فهؤلاء ليس لهم في المغانم نصيب ولا في قسمها إلا ما حضروا فيه القتال. أ. هـ1
قال أبو عبد الله القرطبي عند قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً} الآية: "حقاً" مصدر أي: حققوا إيمانهم بالهجرة والنصرة وحقق الله إيمانهم بالبشارة في قوله: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} أي: ثواب عظيم. أ. هـ2
والمقصود أن الآيات المتقدمة اشتملت على الثناء الحسن على عموم الصحابة
__________
1ـ تفسير القرآن العظيم 3/351-352.
2ـ الجامع لأحكام القرآن 8/58(1/66)
من مهاجرين وأنصار رضي الله عنهم أجمعين.
وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 1.
هذه الآية الكريمة اشتملت على أبلغ الثناء من الله رب العالمين على السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان حيث أخبر تعالى أنه رضي عنهم ورضوا عنه بما أكرمهم الله به من جنات النعيم والنعيم المقيم فيها الذي لا يفنى ولا يبيد، فقد خسر نفسه بعد هذا من ملأ قلبه ببغضهم واستعمل لسانه في سبهم والوقيعة فيهم كالطائفة المخذولة من الرافضة التي عميت عن ثناء الله عليهم في كتابه العزيز بمثل هذا الثناء وغيره فأخذوا يعادونهم ويبغضونهم ويسبونهم عياذاً بالله وهذا يدل على أن قلوبهم انتكست وعقولهم فسدت وإلا فأين هم من الإيمان بالقرآن إذ يسبون من رضي الله عنهم ورضوا عنه؟. وقد عصم الله أهل السنة والجماعة مما وقع فيه الرافضة فلم يقولوا في أسلاف هذه الأمة منكراً، أو يطعنوا فيهم طعناً، فلم يقولوا في المهاجرين والأنصار وأعلام الدين ولا في أهل بدر وأحد وأهل بيعة الرضوان إلا أحسن المقال.
قال تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 2.
وفي هذه الآية المباركة ثناء آخر من الله تعالى على النبي الكريم وصحبه الأكرمين من المهاجرين والأنصار ألا وهو إخباره تعالى أنه من لطفه وإحسانه أن تاب عليهم فغفر لهم الزلات ووفر لهم الحسنات ورقاهم إلى أعلى الدرجات وذلك بسبب قيامهم بالأعمال الصعبة الشاقة ولهذا قال: {الَّذِينَ
__________
1ـ سورة التوبة آية / 100.
2ـ سورة التوبة آية / 117.(1/67)
اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} أي: خرجوا معه لقتال الأعداء في غزوة تبوك وكانت في حر شديد وضيق من الزاد والركوب وكثرة عدد مما يدعو إلى التخلف فاستعانوا الله تعالى وقاموا بذلك {مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ} أي: تنقلب قلوبهم ويميلوا إلى الدعة والسكون ولكن الله ثبتهم وقواهم1 رضوان الله عليهم أجمعين وأعظم بها من منقبة لأولئك الصفوة حيث شملهم الله تعالى بالتوبة عليهم ومن تاب الله عليه تحققت سعادته في الدار الآخرة.
قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: من تاب الله عليه لم يعذبه أبداً.2
قال أبو بكر أحمد بن علي الجصاص: "وقوله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} فيه مدح لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين غزوا معه من المهاجرين والأنصار وإخبار بصحة بواطن ضمائرهم وطهارتهم لأن الله تعالى لا يخبر بأنه قد تاب عليهم إلا وقد رضي عنهم ورضي أفعالهم وهذا نص في رد قول الطاعنين عليهم والناسبين لهم إلى غير ما نسبهم الله إليه من الطهارة ووصفهم به من صحة الضمائر وصلاح السرائر رضي الله عنهم".3
قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} .4
الوعد بالاستخلاف في هذه الآية عام يدخل تحته كل من تولى وظيفة من
__________
1ـ انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان لعبد الرحمن بن ناصر السعدي 3/145.
2ـ ذكره البغوي في تفسيره المسمى معالم التنزيل 3/129. على حاشية الخازن.
3ـ أحكام القرآن للجصاص 3/160.
4ـ سورة النور آية / 55.(1/68)
وظائف المسلمين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ولكن بشرط أن تتوفر الصفتان المذكورتان في الآية وهما: الإيمان والعمل الصالح فتشمل الخلافة وإقامة الدعوة وعموم الشريعة بنفاذ الوعد في كل أحد بقدره وعلى حاله والخطاب في الآية موجه للنبي صلى الله عليه وسلم ولمن معه فيندرج تحت هذا العموم جميع الصحابة والخلفاء الأربعة رضي الله عنهم يدخلون فيه قبل كل من اتصف بالصفتين ممن جاء بعدهم.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: موضّحاً لمعنى آية النور هذه والآية التي ختمت بها سورة الفتح: "فقد وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالاستخلاف كما وعدهم في تلك الآية مغفرة وأجراً عظيماً والله لا يخلف الميعاد فدل ذلك على أن الذين استخلفهم كما استخلف الذين من قبلهم ومكن لهم دين الإسلام وهو الدين الذي ارتضاه لهم كما قال تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} 1 وبدلهم بعد خوفهم أمناً لهم منه المغفرة والأجر العظيم، وهذا يستدل به من وجهين يستدل به على أن المستخلفين مؤمنون عملوا الصالحات لأن الوعد لهم لا لغيرهم ويستدل به على أن هؤلاء مغفور لهم ولهم أجر عظيم لأنهم آمنوا وعملوا الصالحات فتناولتهم الآيتان آية النور وآية الفتح ومن المعلوم أن هذه النعوت منطبقة على الصحابة على زمن أبي بكر وعمر وعثمان فإنه إذ ذاك حصل الاستخلاف وتمكن الدين بعد الخوف لما قهروا فارس والروم وفتحوا الشام والعراق ومصر وخراسان وإفريقية ... وحينئذ فقد دل القرآن على إيمان أبي بكر وعمر وعثمان ومن كان معهم في زمن الاستخلاف والتمكين والأمن وأدركوا زمن الفتنة كعلي وطلحة والزبير وأبي موسى الأشعري ومعاوية وعمرو بن العاص دخلوا في الآية لأنهم استخلفوا ومكنوا وأمنوا، وأما من حدث في زمن الفتنة كالرافضة الذين حدثوا في الإسلام في زمن الفتنة والافتراق وكالخوارج المارقين فهؤلاء لم يتناولهم النص فلم يدخلوا فيمن وصف بالإيمان
__________
1ـ سورة المائدة جزء من الآية رقم / 3.(1/69)
والعمل الصالح المذكورين في هذه الآية لأنهم أولاً ليسو من الصحابة المخاطبين بهذا ولم يحصل لهم من الاستخلاف والتمكين والأمن بعد الخوف ما حصل للصحابة بل لا يزالون خائفين مقلقلين غير ممكنين، فإن قيل: لم قال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم} ولم يقل وعدهم كلهم قيل: كما قال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} ولم يقل وعدكم و"من" تكون لبيان الجنس فلا يقتضي أن يكون قد بقى من المجرور بها شيء خارج عن ذلك الجنس".1
وقال ابن كثير رحمه الله تعالى عند هذه الآية: "هذا وعد من الله تعالى لرسوله صلوات الله وسلامه عليه بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض أي: أئمة الناس والولاة عليهم وبهم تصلح البلاد وتخضع لهم العباد، وليبدلنهم من بعد خوفهم من الناس أمنا وحكماً فيهم وقد فعله ـ تبارك وتعالى ـ وله الحمد والمنة: فإنه صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى فتح الله عليه مكة وخيبر والبحرين وسائر جزيرة العرب وأرض اليمن بكمالها وأخذ الجزية من مجوس هجر ومن بعض أطراف الشام وهاداه هرقل ملك الروم وصاحب مصر واسكندرية وهو المقوقس وملوك عمان والنجاشي ملك الحبشة الذي تملك بعد أصحمة رحمه الله وأكرمه، ثم لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم واختار الله له ما عنده من الكرامة قام بالأمر بعده خليفته أبو بكر الصديق فلمَّ شعث الأمة وأخذ جزيرة العرب ومهدها وبعث جيوش الإسلام إلى بلاد فارس صحبه خالد بن الوليد رضي الله عنه ففتحوا طرفاً منها وقتلوا خلقاً من أهلها وجيشاً آخر صحبة أبي عبيدة رضي الله عنه ومن اتبعه من الأمراء إلى أرض الشام، وثالثاً صحبة عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى بلاد مصر، ففتح الله للجيش الشامي في أيامه بصرى ودمشق ومخاليفهما من بلاد حوران وما والاها، وتوفاه الله ـ عز وجل ـ واختار له ما عنده من الكرامة ومنَّ على أهل الإسلام بأن ألهم الصديق أن يستخلف عمر الفاروق فقام بالأمر بعده قياماً تاماً
__________
1ـ منهاج السنة 1/157.(1/70)
لم يدر الفلك بعد الأنبياء على مثله في قوة سيرته وكمال عدله وتم في أيامه فتح البلاد الشامية بكمالها وديار مصر إلى آخرها وأكثر إقليم فارس وكسر كسرى وأهانه غاية الهوان وتقهقر إلى أقصى مملكته وقصر قيصر وانتزع يده عن بلاد الشام وانحدر إلى القسطنطينية، وأنفق أموالهما في سبيل الله، كما أخبر بذلك ووعد به رسول الله عليه من ربه أتم سلام وأزكى صلاة. ثم لما كانت الدولة العثمانية امتدت الممالك الإسلامية إلى أقصى مشارق الأرض ومغاربها، ففتحت بلاد المغرب إلى أقصى ما هنالك الأندلس وقبرص، وبلاد القيروان وبلاد سبتة مما يلي البحر المحيط، ومن ناحية المشرق إلى أقصى بلاد الصين، وقتل كسرى وباد ملكه بالكلية، وفتحت مدائن العراق وخراسان والأهواز، وقتل المسلمون من الترك مقتلة عظيمة جداً وخذل الله ملكهم الأعظم خاقان، وجبي الخراج من المشارق والمغارب إلى حضرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه ... ولهذا ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها" 1.
قال تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} . 2
قال العلامة ابن جرير الطبري: " ... الذين اصطفاهم يقول: الذين اجتباهم لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم فجعلهم أصحابه ووزراءه على الدين الذي بعثه بالدعاء إليه دون المشركون به الجاحدين نبوة نبيه". ثم ذكر بإسناده إلى ابن عباس في قوله: {وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} قال: أصحاب محمد اصطفاهم الله لنبيه.
ثم قال: حدثنا علي بن سهل قال حدثنا الوليد بن مسلم قال: قلت
__________
1ـ تفسير القرآن العظيم 5/119-120، والحديث رواه مسلم في صحيحه 4/2215 من حديث ثوبان رضي الله عنه.
2ـ سورة النمل آية / 59.(1/71)
لعبد الله بن المبارك أرأيت قول الله {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} من هؤلاء فحدثني عن سفيان الثوري قال: هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.1
وأما العلامة ابن كثير فقد ذكر في قوله تعالى: {وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} قولين:
أحدهما: أن المراد بعباده الذين اصطفى هم أنبياؤه ورسله الكرام.
الثانية: أن المراد بعباده الذين اصطفى هم: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم.
ثم قال جامعاً بين القولين: ولا منافاة فإنهم إذا كانوا من عباد الله الذين اصطفى فالأنبياء بطريق الأولى والأحرى. أ.هـ2
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وقال تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} قال طائفة من السلف: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ولا ريب أنهم أفضل المصطفين من هذه الأمة التي قال الله فيها: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} 3.
فأمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين أورثوا الكتاب بعد الأمتين قبلهم اليهود والنصارى وقد أخبر الله تعالى أنهم الذين اصطفى وتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خير القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين
__________
1ـ جامع البيان 20/2.
2ـ تفسير القرآن العظيم 5/245.
3ـ سورة فاطر آية / 32-35.(1/72)
يلونهم" 1، ومحمد صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه هم المصطفون من المصطفين من عباد الله. أ. هـ2
وقال السفاريني رحمه الله تعالى: وقوله: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} وهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. أ. هـ3
قال تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ * لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} 4.
فالصحابة رضي الله عنهم داخلون في هذا الثناء على هذا الصنف الذي يجيء بالصدق ويصدق به فهم الأئمة الصادقون في أقوالهم المصدقون بالحق إذا جاءهم وكل صادق بعدهم فهو إنما يأتم بهم في صدقه وتصديقه ابتاعاً لهم واقتداء بهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} فيها ثناء على الصحابة رضي الله عنهم حيث قال: "وهذا الصنف الذي يقول الصدق ويصدق به خلاف الصنف الذي يفتري الكذب أو الكذب به والصحابة ... هم أفضل من جاء بالصدق وصدق به بعد الأنبياء، وليس في الطوائف المنتسبة إلى القبلة أعظم افتراء للكذب على الله وتكذيباً بالحق من المنتسبين إلى التشيع. أ.هـ5.
والحال كما قال رحمه الله تعالى فإن الصحابة الكرام رضي الله عنهم هم أزكى الأمة وأطهرها فهم الصادقون فيما يقولون وهم في أولية الأمة تصديقاً للحق لما جاءهم فرضي الله عنهم أجمعين، وعلى من يبغضهم ويعاديهم اللعنة إلى
__________
1ـ صحيح البخاري 3/287 من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه.
2ـ منهاج السنة 1/156.
3ـ لوامع الأنوار البهية 2/384.
4ـ سورة الزمر آية 33-35.
5ـ منهاج السنة 1/156.(1/73)
يوم الدين.
قال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} 1.
هذه الآية تضمنت ذكر منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم بالثناء عليه ثم ثنى الله تعالى فيها بالثناء على سائر الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. فذكر تعالى أن من صفاتهم الشدة والغلظة على أهل الكفر، كما وصفهم بالتراحم والتعاطف فيما بينهم، ووصفهم بأنهم يكثرون من الأعمال الصالحة المقرونة بالإخلاص وسعة الرجاء، وفي مقدمة تلك الأعمال الصالحة إكثارهم من الصلاة ابتغاء الحصول على فضل من الله ورضوان، كما بين ـ سبحانه ـ أن آثار ذلك يظهر على وجوههم {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} والسيماء اللعلامة. وقد قيل المراد بها بياض يكون في الوجوه يوم القيامة قاله الحسن وسعيد بن جبير وهو رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما، ورواية أخرى عنه وعن مجاهد: السيماء في الدنيا هو السمت الحسن "وعن مجاهد أيضاً: هو الخشوع والتواضع".2
وهذه الأقوال لا منافاة بينها إذ يمكن أن يكون في الدنيا هو السمت الحسن الذي ينشأ عن التواضع والخشوع، وفي الآخرة يكون في جباههم نور.3
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: "فالصحابة رضي الله عنهم خلصت نياتهم
__________
1ـ سورة الفتح آية / 29.
2ـ جامع البيان 26/110-111، تفسير ابن كثير 6/364، الجامع لأحكام القرآن 16/293-294.
3ـ انظر: جامع البيان للطبري 26/112.(1/74)
وحسنت أعمالهم فكل من نظر إليهم أعجبوه في سمتهم وهديهم وقال مالك رضي الله عنه: بلغني أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة رضي الله عنهم الذين فتحوا الشام يقولون: والله لهؤلاء خير من الحوارين فيما بلغنا. وصدقوا في ذلك فإن هذه الأمة معظمة في الكتب المتقدمة وأعظمها وأفضلها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نوه الله ـ تبارك وتعالى ـ بذكرهم في الكتب المنزلة والأخبار المتداولة، ولهذا قال ـ سبحانه ـ ههنا {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} ثم قال {وَمَثَلُهُمْ فِي الأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} أي: فراخه {فَآزَرَهُ} أي: شدَّه وقواه {فَاسْتَغْلَظَ} أي: شبَّ وطال {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ} أي: فكذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم آزروه وأيدوه ونصروه فهم معه كالشطء مع الزرع {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} ومن هذه الآية انتزع الإمام مالك رحمة الله عليه في رواية عنه تكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة رضي الله عنهم قال: "لأنهم يغيظونهم ومن غاظه الصحابة رضي الله عنهم فهو كافر لهذه الآية ووافقه طائفة من العلماء رضي الله عنهم على ذلك ... ثم قال تبارك وتعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ} من هذه لبيان الجنس {مَغْفِرَةً} أي: لذنوبهم {وَأَجْراً عَظِيماً} أي: ثواباً جزيلاً ورزقاً كريماً ووعد الله حق وصدق لا يخلف ولا يبدل، وكل من اقتفى أثر الصحابة رضي الله عنهم فهو في حكمهم ولهم الفضل والسبق والكمال الذي لا يلحقهم فيه أحد من هذه الأمة رضي الله عنهم وأرضاهم وجعل الفردوس مأواهم وقد فعل1.
"وفي قوله ـ سبحانه ـ في حق الصحابة الكرام رضي الله عنهم {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} أخطر حكم وأغلظ تهديد وأشد وعيد في حق من غيظ بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كان في قلبه غل لهم".2
__________
1ـ تفسير القرآن العظيم 6/365.
2ـ "قبس من هدى الإسلام" لشيخنا عبد المحسن العباد ص/ 86.(1/75)
وأما قوله تعالى في ختام الآية: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} فهذا وعد من الله لجميع الصحابة بالجنة وكذلك كل من آمن وعمل الصالحات من أمة الإجابة إذ هذا الوعد عام لجميع المؤمنين إلى يوم القيامة.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى مبيناً معنى الآية: "ولا ريب أن هذا مدح لهم بما ذكر من الصفات وهو الشدة على الكفار والرحمة بينهم والركوع والسجود يبتغون فضلا من الله ورضواناً والسيماء في وجوههم من أثر السجود وأنهم يبتدئون من ضعف إلى كمال القوة والاعتدال كالزرع والوعد لهم بالمغفرة والأجر العظيم ليس على مجرد هذه الصفات بل على الإيمان والعمل الصالح فذكر ما به يستحقون الوعد وإن كانوا كلهم بهذه الصفة ولولا ذكر ذلك لكان يظن أنهم بمجرد ما ذكر يستحقون المغفرة والأجر العظيم، ولم يكن فيه بيان سبب الجزاء بخلاف ما إذا ذكر الإيمان والعمل الصالح فإن الحكم إذا علق باسم مشتق مناسب كان ما منه الاشتقاق سبب الحكم"أ. هـ1
11- قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} 2.
وفي هذه الآية الكريمة بين ـ تعالى ـ أنه حبب إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الإيمان وزينه في قلوبهم وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان وجعلهم راشدين وذلك لكي يكونوا أهلاً لشرف الصحبة فأعدهم الله ذلك الإعداد الرفيع فاستحقوا بذلك أن يكونوا هم الراشدين كما نطقت به هذه الآية.
قال العلامة ابن جرير الطبري: "يقول تعالى ذكره لأصحاب نبي الله
__________
1ـ منهاج السنة 1/158.
2ـ سورة الحجرات آية / 7.(1/76)
صلى الله عليه وسلم واعلموا أيها المؤمنون بالله ورسوله {أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ} فاتقوا الله أن تقولوا الباطل، وتفتروا الكذب فإن الله يخبره أخباركم ويعرفه أنباءكم ويقومه على الصواب في أموره وقوله: {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} يقول تعالى ذكره: لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل في الأمور بآرائكم ويقبل منكم ما تقولون له فيطيعكم {لَعَنِتُّمْ} يقول: لنالكم عنت يعني الشدة والمشقة في كثير من الأمور بطاعته إياكم لو أطاعكم لأنه كان يخطئ في أفعاله كما لو قبل من الوليد بن عقبة قوله في بني المصطلق: إنهم قد ارتدوا، ومنعوا الصدقة وجمعوا الجموع لغزو المسلمين فغزاهم فقتل منهم، وأصاب من دمائهم وأموالهم كان قد قتل، وقتلتم من لا يحل له ولا لكم قتله وأخذ وأخذتم من المال ما لا يحل له ولكم أخذه من أموال قوم مسلمين فنالكم من الله بذلك عنت {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الأِيمَانَ} بالله ورسوله فأنتم تطيعون رسول الله، وتأتمون به فيقيكم الله بذلك من العنت ما لو لم تطيعوه وتتبعوه وكان يطيعكم لنالكم وأصابكم وقوله: {وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} يقول: وحسن الإيمان في قلوبكم فآمنتم {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ} بالله {وَالْفُسُوقَ} يعني الكذب {وَالْعِصْيَانَ} يعني ركوب ما نهى الله عنه في خلاف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتضييع ما أمر الله به {أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} يقول: هؤلاء الذين حبب الله إليهم الإيمان، وزينه في قلوبهم، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون السالكون طريق الحق"أ. هـ1.
وقال الحافظ ابن كثير: "وقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ} أي: اعلموا أن بين أظهركم رسول الله فعظموه ووقروه وتأدبوا معه وانقادوا لأمره، فإنه أعلم بمصالحكم وأشفق عليكم منكم، ورأيه فيكم أتم من رأيكم لأنفسكم كما قال ـ تبارك وتعالى ـ {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ
__________
1ـ جامع البيان 26/125-126(1/77)
أَنْفُسِهِمْ} 1.
ثم بين أن رأيهم سخيف بالنسبة إلى مراعاة مصالحهم فقال: {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} أي: لو أطاعكم في جميع ما تختارونه لأدى ذلك إلى عنتكم وحرجكم ... وقوله عز وجل {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} أي: حببه إلى نفوسكم وحسنه في قلوبكم ... {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} أي: وبغض إليكم الكفر والفسوق وهي الذنوب الكبار والعصيان، وهي جميع المعاصي وهذا تدرج لكمال النعمة وقوله تعالى: {أَنْفُسِهِمْ} 1.
ثم بين أن رأيهم سخيف بالنسبة إلى مراعاة مصالحهم فقال: {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} أي: لو أطاعكم في جميع ما تختارونه لأدى ذلك إلى عنتكم وحرجكم ... وقوله عز وجل {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} أي: حببه إلى نفوسكم وحسنه في قلوبكم ... {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} أي: وبغض إليكم الكفر والفسوق وهي الذنوب الكبار والعصيان، وهي جميع المعاصي وهذا تدرج لكمال النعمة وقوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} أي: المتصفون بهذه الصفة هم الراشدون الذين قد آتاهم الله رشدهم"أ. هـ2.
قال الشوكاني رحمه الله تعالى عند قوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الأِيمَانَ} "أي: جعله أحب الأشياء إليكم، أو محبوباً لديكم فلا يقع منكم إلا ما يوافقه ويقتضيه من الأمور الصالحة"3.
12- قال تعالى: {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 4. فالذين آمنوا في هذه الآية لفظ عام يطلق على كل مؤمن آمن بالله بقلبه ولسانه وجوارحه، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلون في هذا اللفظ العام دخولا أولياً قبل كل أحد آمن بعدهم، والآية فيها تعريض بمن حل به الخزي من أهل الكفر، كما تضمنت التنويه بشأن المؤمنين الذين حفظهم الله بتوفيقه من مثل حال الكافرين فكانت عاقبتهم أن أمنهم الله من خزيه، ولا يأمن من خزيه في يوم القيامة إلا من مات على كمال الإيمان وحقائق الإحسان وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقدمة من مات على ذلك، فلقد ماتوا رضي الله عنهم وهم على خير حال
__________
1ـ سورة الأحزاب آية /6.
2ـ تفسير ابن كثير 6/374.
3ـ فتح القدير 5/60.
4ـ سورة التحريم آية/ 8.(1/78)
وسيكون يوم القيامة في مقدمة المؤمنين الذين يتم الله لهم نورهم.
قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: "ليس أحد إلا يعطى نوراً يوم القيامة، يعطى المؤمن والمنافق، فيطفأ نور المنافق فيخشى المؤمن أن يطفأ نوره فذلك قوله ـ تعالى ـ: {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} 1
وقال أبو الفرج بن الجوزي: " {يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} وذلك إذا رأى المؤمنون نور المنافقين يطفأ سألوا الله تعالى أن يتمم لهم نورهم ويبلغهم به الجنة. وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: ليس أحد من المسلمين إلا يعطى نوراً يوم القيامة، فأما المنافق، فيطفأ نوره، والمؤمن مشفق مما رأى من إطفاء نور المنافق فهم يقولون {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} " 2.
فالآيات التي قدمنا ذكرها كلها نصوص واضحة الدلالة وصريحة في مناقب الصحابة رضي الله عنهم على وجه الجملة، والآيات الواردة في هذا الصدد كثيرة جداً ومجمل القول في هذا أن كل صيغة عموم فيها الثناء على عباد الله المؤمنين، أو فيها وعد لهم بدخول الجنة أو تبشير لهم بذلك من الله تعالى فإنها تشملهم ويدخلون فيها فيها قبل كل أحد دخولا أولياً ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 3.
ومثل قوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ * إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ
__________
1ـ جامع البيان 28/169.
2ـ زاد المسير 8/324.
3ـ سورة المؤمنون آية /1-11(1/79)
النَّعِيمِ* يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} 1.
ومثل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} 2.
والآيات من هذا القبيل في القرآن كثيرة جداً ومن الصعوبة استقصاؤها3 وكلها وردت بصيغة العموم وأول من تتناول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هم خير الأمة المحمدية ذلكم هو الثناء في الآيات القرآنية على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه العموم ولنأت إلى ما جاء في بيان فضلهم من السنة على وجه عام.
__________
1ـ سورة المطففين آية /18-28.
2ـ سورة البينة آية / 7-8.
3ـ حتى أن بعضهم أفردها ببحوث ورسائل مستقلة مثل كتاب إتحاف ذوي النجابة بما في القرآن والسنة من فضائل الصحابة ـ محمد العربي بن التباني، ومثل منزلة الصحابة في القرآن ـ محمد صلاح الصاوي ومثل ـ صحابة رسول صلى الله عليه وسلم في الكتاب والسنة تأليف ـ عيادة أيوب الكبيسي وغيرها من البحوث والرسائل في هذا الموضوع.(1/80)
المبحث الثاني الثناء عليهم في السنة
لقد ورد الثناء في السنة النبوية على الصحابة رضي الله عنهم على وجه عام في أحاديث كثيرة مستفيضة ومتواترة منها الصحيح ومنها الحسن ومن ذلك ما يلي:
1- روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي بردة عن أبيه رضي الله عنه "قال: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم قلنا: لو جلسنا حتى نصلي العشاء قال: فجلسنا فخرج علينا فقال: "ما زلتم هاهنا؟ " قلنا يا رسول الله صلينا معك المغرب ثم قلنا: نجلس حتى نصلي معك العشاء قال: "أحسنتم" أو "أصبتم" قال فرفع رأسه إلى السماء وكان كثيراً ما يرفع رأسه إلى السماء فقال "النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد وأنا لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون" 1
قال أبو حاتم محمد بن حبان البستي مبيناً معنى هذا الحديث: "ويشبه أن يكون معنى هذا الخبر أن الله ـ جل وعلا ـ جعل النجوم علامة لبقاء السماء وأمنة لها عن الفناء فإذا غارت واضمحلت أتى السماء الفناء الذي كتب عليها وجعل الله ـ جل وعلا ـ المصطفى أمنة أصحابه من وقوع الفتن فلما قبضه الله ـ جل وعلا ـ إلى جنته أتى أصحابه الفتن التي أوعدوا وجعل الله أصحابه أمنة أمته من ظهور الجور فيها، فإذا مضى أصحابه أتاهم ما يوعدون من
__________
1ـ صحيح مسلم 4/196.(1/81)
ظهور غير الحق من الجور والأباطيل"أ. هـ1.
وقال النووي: "ومعنى الحديث أن النجوم ما دامت باقية فالسماء باقية فإذا انكدرت النجوم وتناثرت في القيامة وهنت السماء فانفطرت وانشقت وذهبت وقوله صلى الله عليه وسلم: " وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون" أي: من الفتن والحروب وارتداد من ارتد من الأعراب واختلاف القلوب ونحو ذلك مما أنذر به صريحاً وقد وقع كل ذلك، قوله صلى الله عليه وسلم: "وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون" معناه: من ظهور البدع والحوادث في الدين والفتن فيه وطلوع قرن الشيطان وظهور الروم وغيرهم وانتهاك المدينة ومكة وغير ذلك وهذه كلها من معجزاته صلى الله عليه وسلم"2.
فهذا الحديث تضمن فضيلة الصحابة رضي الله عنهم على وجه عام كما اشتمل على بيان منزلتهم ومكانتهم العالية في الأمة، وأنهم في الأمة بمنزلة النجوم من السماء.
2- روى الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يأتي على الناس زمان يغزو فئام3 من الناس فيقال لهم: فيكم من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون نعم فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقال لهم هل فيكم من رأى من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون نعم: فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقال لهم: هل فيكم من رأى من صحب من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون نعم فيفتح لهم" 4.
فلله ما أعظم هذا التكريم الذي حظي به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي
__________
1ـ الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان للأمير علاء الدين أبي الحسن علي بن بلبان بن عبد الله الفارسي 9/186.
2ـ شرح النووي على صحيح مسلم 16/83.
3ـ الفئام: الجماعة الكثيرة، النهاية في غريب الحديث 3/406.
4ـ صحيح البخاري 2/287، صحيح مسلم 4/1962، واللفظ لمسلم.(1/82)
ما كان ولم يكن لأحد سواهم بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فالحديث تضمن فضيلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم.
قال الإمام النووي: "وفي هذا الحديث معجزات لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفضل الصحابة والتابعين وتابعيهم"أ. هـ1.
3- وروى الشيخان من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الناس خير؟ قال: "قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تبدر شهادة أحدهم يمينه، وتبدر يمينه شهادته".2
4- روى الإمام مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم" والله أعلم أذكر الثالث أم لا قال: "ثم يخلف قوم يحبون السمانة3 ويشهدون قبل أن يستشهدوا4.
5- وروى الشيخان من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه قال: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" قال عمران: فلا أدري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد قرنه مرتين أو ثلاثة.5
6- روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الناس خير؟ قال: "القرن
__________
1ـ شرح النووي على صحيح مسلم 16/83، وانظر: عمدة القارئ للعيني 14/180.
2ـ صحيح البخاري 2/288، صحيح مسلم 4/1963 واللفظ لمسلم.
3ـ المراد بالسمن هنا كثرة اللحم ومعناه أنه يكثر ذلك فيهم وليس معناه أن يتمحضوا سماناً والمذموم منه من يستكسبه بالمأكول والمشروب الزائد على المعتاد.
4ـ صحيح مسلم 4/1963-1964.
5ـ صحيح البخاري 2/287، صحيح مسلم 4/1964.(1/83)
الذي أنا فيه ثم الثاني، ثم الثالث" 1.
فهذه الأحاديث فيها دلالة واضحة وقاطعة على أن الصحابة رضي الله عنهم هم خير القرون المفضلة وأكرمها على الله ـ تعالى ـ.
قال الإمام النووي: "اتفق العلماء على أن خير القرون قرنه صلى الله عليه وسلم والمراد أصحابه"2.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: "قوله: "خير أمتي قرني" أي: أهل قرني والقرن أهل زمان واحد متقارب اشتركوا في أمر من الأمور المقصودة ويقال: إن ذلك مخصوص بما إذا اجتمعوا في زمن نبي أو رئيس يجمعهم على ملة أو مذهب أو عمل ويطلق القرن على مدة من الزمان واختلفوا في تحديدها من عشرة أعوام إلى مائة وعشرين لكن لم أر من صرح بالسبعين ولا بمائة وعشرة وما عدا ذلك فقد قال به قائل وذكر الجوهري بين الثلاثين والثمانين وقد وقع في حديث عبد الله بن بسر عند مسلم ما يدل على أن القرن مائة وهو المشهور ... والمراد بقرن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحابة وقد سبق في صفة النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "وبعثت من خير قرون بني آدم" 3 وفي رواية بريدة عند أحمد "خير هذه الأمة القرن الذي بعثت فيهم" 4.
وقد ظهر أن الذي بين البعثة وآخر من مات من الصحابة مائة سنة وعشرون سنة أو دونها أو فوقها بقليل على الاختلاف في وفاة أبي الطفيل وإن اعتبر ذلك من بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فيكون مائة سنة أو تسعين أو سبعاً وتسعين. وأما قرن التابعين فإن اعتبر من سنة مائة كان نحو سبعين أو ثمانين وأما الذين بعدهم فإن اعتبر منها كان نحواً من خمسين فظهر بذلك أن مدة القرن تختلف باختلاف أعمال أهل كل زمان والله أعلم واتفقوا أن آخر من كان
__________
1ـ صحيح مسلم 4/1965.
2ـ شرح النووي 16/84.
3ـ صحيح البخاري 2/272 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
4ـ مسند أحمد 5/357.(1/84)
من أتباع التابعين ممن يقبل قوله من عاش إلى حدود العشرين ومائتين، وفي هذا الوقت ظهر البدع ظهوراً فاشياً، وأطلقت المعتزلة ألسنتها ورفعت الفلاسفة رؤوسها وامتحن أهل العلم ليقولوا بخلق القرآن وتغيرت الأحوال تغيراً شديداً ولم يزل الأمر في نقص إلى الآن وظهر قوله صلى الله عليه وسلم: "ثم يفشوا الكذب" ظهوراً بيناً حتى يشمل الأقوال والأفعال والمعتقدات والله المستعان قوله: "ثم الذين يلونهم" أي القرن الذي بعدهم وهم التابعون "ثم الذين يلونهم" وهم أتباع التابعين، واقتضى أن تكون الصحابة أفضل من التابعين والتابعون أفضل من أتباع التابعين لكن هذه الأفضلية بالنسبة إلى المجموع أو الأفراد؟ محل بحث وإلى الثاني نحا الجمهور والأول قول ابن عبد البر1 والذي يظهر أن من قاتل مع النبي صلى الله عليه وسلم أو في زمانه بأمره أو أنفق من ماله بسببه لا يعدله في الفضل أحد بعده كائناً من كان وأما من لم يقع له ذلك فهو محل البحث والأصل في ذلك قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} الآية.
ثم استرسل الحافظ في ذكر أدلة ابن عبد البر على أن الأفضلية بالنسبة إلى المجموع لا إلى الأفراد مع ذكر ما يرد عليها من الاعتراضات ومن الأدلة التي ذكرها ما يلي:
1) قوله صلى الله عليه وسلم: "مثل أمتي مثل المطر لا يدري أوله خير أم آخره" وهو حديث حسن له طرق قد يرتقي بها إلى الصحة2 ... وأجاب عنه النووي بما حاصله: أن المراد من يشتبه عليه الحال في ذلك من أهل الزمان الذين يدركون عيسى بن مريم عليه السلام ويرون في زمانه من الخير والبركة وانتظام كلمة الإسلام ودحض كلمة الكفر فيشتبه الحال على من شاهد ذلك أي الزمانين خير
__________
1ـ وقول ابن عبد البر ليس على إطلاقه في حق جميع الصحابة فإنه استثنى أهل بدر والحديبية انظر: فتح الباري 7/7.
2ـ سنن الترمذي 4/229، المسند 3/143(1/85)
وهذا الاشتباه مندفع بصريح قوله صلى الله عليه وسلم: "خير القرون قرني" والله أعلم.
2) ما رواه ابن أبي شيبة من حديث عبد الرحمن بن جبير بن نفير أحد التابعين بإسناد حسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليدركن المسيح أقواماً إنهم لمثلكم أو خير ـ ثلاثاً ـ ولن يخزي الله أمة أنا أولها والمسيح آخرها".
3) روى أبو داود والترمذي من حديث أبي ثعلبة رفعة: "تأتي أيام للعامل فيهن أجر خمسين قيل: منهم أو منا يا رسول الله؟ قال بل منكم" 1 وهو شاهد لحديث "مثل أمتي مثل المطر".
4) واحتج بحديث عمر رفعه: "أفضل الخلق إيماناً قوم في أصلاب الرجال يؤمنون بي ولم يروني" الحديث أخرجه الطيالسي وغيره لكن إسناده ضعيف فلا حجة فيه.
5) روى أحمد والدارمي والطبراني من حديث أبي جمعة قال: قال أبو عبيدة يا رسول الله أحد خير منا؟ أسلمنا معك وجاهدنا معك قال: "قوم يكونون من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني" وإسناده حسن وقد صححه الحاكم.2
6) احتج بأن السبب في كون القرن الأول خير القرون أنهم كانوا غرباء في إيمانهم لكثرة الكفار حينئذ وصبرهم على أذاهم وتمسكهم بدينهم قال فكذلك أواخرهم إذا أقاموا الدين وتمسكوا به وصبروا على الطاعة حين ظهور المعاصي والفتن كانوا أيضاً عند ذلك غرباء، وزكت أعمالهم في ذلك الزمان كما زكت أعمال أولئك ويشهد له ما رواه مسلم عن أبي هريرة رفعه: "بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء". 3 وقد تعقب كلام ابن عبد البر بأن
__________
1ـ سنن أبي داود 2/437، سنن الترمذي 4/323.
2ـ المسند 4/106، سنن الدارمي 2/308.
3ـ صحيح مسلم 1/130.(1/86)
مقتضى كلامه أن يكون فيمن يأتي بعد الصحابة من يكون أفضل من بعض الصحابة وبذلك صرح القرطبي لكن كلام ابن عبد البر ليس على الإطلاق في حق جميع الصحابة، فإنه صرح في كلامه باستثناء أهل بدر والحديبية. نعم والذي ذهب إليه الجمهور أن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل لمشاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما من اتفق له الذب عنه والسبق إليه بالهجرة أو النصرة وضبط الشرع المتلقى عنه وتبليغه لمن بعده فإنه لا يعدله أحد ممن يأتي بعده لأنه ما من خصلة من الخصال المذكورة إلا وللذي سبق بها مثل أجر من عمل بها من بعده فظهر فضلهم، ومحصل النزاع يتمحض فيمن لم يحصل له إلا مجرد المشاهدة، فإن جمع بين مختلف الأحاديث المذكورة كان متجهاً على أن حديث: "للعامل منهم أجر خمسين منكم" لا يدل على أفضيلة غير الصحابة على الصحابة لأن مجرد زيادة الأجر لا يستلزم ثبوت الأفضلية المطلقة، وأيضاً: فالأجر إنما يقع تفاضله بالنسبة إلى ما يماثله في ذلك العمل فأما ما فاز به من شاهد النبي صلى الله عليه وسلم من زيادة فضيلة المشاهدة فلا يعدله فيها أحد فبهذه الطريق يمكن تأويل الأحاديث، وأما حديث أبي جمعة فلم تتفق الرواة على لفظه، فقد رواه بعضهم بلفظ الخيرية كما تقدم ورواه بعضهم بلفظ قلنا يا رسول الله هل من قوم أعظم منا أجراً؟ الحديث أخرجه الطبراني وإسناد هذه الرواية أقوى من إسناد الرواية المتقدمة وهي توافق حديث أبي ثعلبة وقد تقدم الجواب عنه والله أعلم"1.
والراجح من القولين ما ذهب إليه جمهور العلماء من أن أفضلية الصحابة إنما هو باعتبار الأفراد وليس بالنسبة إلى المجموع إذ الصحبة لا يعدلها شيء ولمشاهدتهم النبي صلى الله عليه وسلم وذبهم عنه ونصرة دين الإسلام وحرصهم على ضبط الوحي الذي تلقوه عن النبي صلى الله عليه وسلم وتبليغهم إياه إلى من بعدهم ولأن ما هنا خصلة من أعمال الخير إلا سبقوا إليها ويكون لهم أجرها وأجر من عمل بها بعدهم إلى
__________
1ـ فتح الباري 7/6-7.(1/87)
يوم القيامة وبهذا برز فضلهم على من بعدهم ومن قبلهم من الأمم سوى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
7) ومما جاء في الثناء عليهم من السنة ما رواه البخاري في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه".1وعند الإمام مسلم بلفظ كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء فسبه خالد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أحداً من أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه". 2
" فإذا كان سيف الله خالد بن الوليد وغيره ممن أسلم بعد الحديبية لا يساوي العمل الكثير منهم القليل من عبد الرحمن بن عوف وغيره ممن تقدم إسلامه مع أن الكل تشرف بصحبته صلى الله عليه وسلم فكيف بمن لم يحصل له شرف الصحبة بالنسبة إلى أولئك الأخيار، إن البون لشاسع وإن الشقة لبعيدة فما أبعد الثرى من الثريا بل وما أبعد الأرض السابعة عن السماء السابعة ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم".3
قال أبو محمد بن حزم في شرحه لهذا الحديث: "فكان نصف مد شعير أو تمر في ذلك الوقت أفضل من جبل أحد ذهباً ننفقه نحن في سبيل الله تعالى بعد ذلك قال الله ـ تعالى ـ: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} 4 وهذا في الصحابة فيما بينهم فكيف بمن بعدهم معهم رضي الله عنهم
__________
1ـ صحيح البخاري 2/292.
2ـ صحيح مسلم 4/1967.
3ـ قبس من هدي الإسلام لشيخنا عبد المحسن العباد ص/ 92.
4ـ سورة الحديد آية/ 10.(1/88)
أجمعين".1
وقال حمد بن محمد أبو سليمان الخطابي رحمه الله تعالى: "والمعنى أن جهد المقل منهم واليسير من النفقة الذي أنفقوه في سبيل الله مع شدة العيش والضيق الذي كانوا فيه أوفى عند الله وأزكى من الكثير الذي ينفقه من بعدهم".أ. هـ2
وقال القاضي عياض: " ... وسبب تفضيل نفقتهم أنها كانت في وقت الضرورة وضيق الحال بخلاف غيرهم ولأن إنفاقهم كان في نصرته صلى الله عليه وسلم وحمايته وذلك معدوم بعده وكذا جهادهم وسائر طاعتهم وقد قال الله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} هذا كله مع ما كان في أنفسهم من الشفقة والتودد والخشوع والتواضع والإيثار والجهاد في الله حق جهاده وفضيلة الصحبة ولو لحظة لا يوازيها عمل ولا تنال درجتها بشيء، والفضائل لا تؤخذ بقياس، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء"أ. هـ3
وقد نقل الحافظ ابن حجر عن البيضاوي في شرح الحديث المتقدم أنه قال: "معنى الحديث لا ينال أحدكم بإنفاق مثل أحد ذهباً من الفضل والأجر ما ينال أحدهم بإنفاق مد طعام أو نصيفه وسبب التفاوت ما يقارن الأفضل من مزيد الإخلاص وصدق النية" قال الحافظ: "وأعظم من ذلك في سبب الأفضلية عظم موقع ذلك لشدة الاحتياج إليه، وأشار بالأفضلية بسبب الإنفاق إلى الأفضلية بسبب القتال كما وقع في الآية: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} فإن فيها إشارة إلى موقع السبب الذي ذكرته وذلك أن الإنفاق والقتال
__________
1ـ ابن حزم الأندلسي ورسالته في المفاضلة بين الصحابة ص/177 لسعيد الأفغاني.
2ـ معالم السنن 4/308.
3ـ شرح النووي على صحيح مسلم 16/93.(1/89)
كان قبل فتح مكة عظيماً لشدة لشدة الحاجة إليه وقلة المعتنى به بخلاف ما وقع بع ذلك لأن المسلمين كثروا بعد الفتح ودخل الناس في دين الله أفواجاً فإنه لا يقع ذلك الموقع المتقدم"أ. هـ1.
فالذي يستفاد من كلام هؤلاء الأئمة الذين قدمنا نقولهم أن الصحابة لا يدركهم أحد في فضلهم وعملهم ورضي الله عنهم أجمعين بل إن القليل من عملهم لا يوازيه عمل غيرهم مهما بلغ من الكثرة ومهما صاحبه من إخلاص وصدق ويقين وإيمان وذلك فضله تعالى يؤتيه من يشاء. روى ابن بطة بالإسناد الصحيح كما في منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: لا تسبوا أصحاب محمد فلمقام أحدهم ساعة مع النبي صلى الله عليه وسلم خير من عمل أحدكم أربعين سنة " وفي رواية وكيع خير من عبادة أحدكم عمره".2
وروى أبو داود بإسناده إلى سعيد بن زيد رضي الله عنه أنه قال بعد أن ذكر العشرة المبشرين بالجنة "لمشهد رجل منهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يغبر فيه وجهه خير من عمل أحدكم عمره ولو عمر عمر نوح"3 فسعيد بن زيد رضي الله عنه يريد بهذا عموم الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
8) ومن الأحاديث الدالة على فضلهم وعلو منزلتهم أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر من رآه وآمن به واتبعه وصدقه أن له طوبى والصحابة رضي الله عنهم حازوا قصب السبق في هذا على كل أحد أتى بعدهم فقد روى البزار والطبراني من حديث أبي عبد الرحمن الجهني قال: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوس إذ طلع راكبان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كنديان4 مذحجيان5 حتى أتياه فإذا رجلان من مذحج
__________
1ـ فتح الباري 7/34، وانظر: عون المعبود شرح سنن أبي داود 12/413.
2ـ منهاج السنة 1/154.
3ـ سنن أبي داود 2/516.
4ـ كندة: بالكسر مخلاف كندة باليمن اسم لقبيلة. معجم البلدان 4/482.
5ـ مذحج: قبيلة من قبائل العرب وهم: ولد أدد بن زيد بن يشجب مرة أنظر: معجم البلدان 5/88.(1/90)
قال: فدنا أحدهما ليبايعه فلما أخذ بيده قال يا رسول الله أرأيت من رآك وآمن بك واتبعك وصدقك ماذا له قال: "طوبى له" قال فمسح على يده وانصرف، ثم أتاه الآخر حتى أخذ بيده ليبايعه فقال: يا رسول الله أرأيت من آمن بك واتبعك وصدقك ماذا له، قال: "طوبى له ثم طوبى له". 1
وقد أخبر تعالى أن طوبى من نصيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} 2 وقد اختلف علماء السلف في المراد "بطوبى" فقد أخرج ابن جرير الطبري بإسناده إلى ابن عباس أنها: شجرة في الجنة كل شجر الجنة منها، أغصانها من وراء سور الجنة".3
قال ابن كثير: "وهكذا روي عن أبي هريرة وابن عباس ومغيث ابن سمي وأبي إسحاق السبيعي وغير واحد من السلف أن طوبى شجرة في الجنة في كل دار غصن منها".4
وقيل: إن "طوبى" اسم من أسماء الجنة: وعلى هذا يكون المعنى الجنة لهم.5
والمراد بها والله أعلم في هذا الحديث المتقدم أنها "الجنة".
9) دعا عليه الصلاة والسلام لسامعي سنته ومبلغيها بالنضرة والرحمة، والصحابة رضي الله عنهم يدخلون في هذه الدعوة المباركة الميمونة دخولاً أولياً لأنهم هم الذين سمعوا سنته مباشرة ودون واسطة ووعوها وأدوها إلى من بعدهم وهذه خصيصة لهم رضي الله عنهم تميزوا بها دون غيرهم، فرضوان الله عليهم
__________
1ـ أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 10/18 وقال: إسناده حسن وذكره الحافظ في الإصابة 4/127.
2ـ سورة الرعد آية/29.
3ـ جامع البيان 13/147.
4ـ تفسير القرآن العظيم 4/89.
5ـ انظر: جامع البيان 13/146، وتفسير ابن كثير 4/89.(1/91)
أجمعين، وتلك الدعوة التي كان لهم فيها الحظ الأوفر والنصيب الأكبر هي قوله صلى الله عليه وسلم: "نضر الله امرءا سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه" 1 وفي لفظ آخر "رحم الله من سمع مني حديثاً فبلغه كما سمعه فرب مبلغ أوعى من له من سامع".2
قال الخطابي رحمه الله تعالى: " معناه الدعاء له بالنضارة وهي النعمة والبهجة".أ. هـ3
وقال ابن الأثير في كتابه "النهاية في غريب الحديث" ... ويروى بالتخفيف والتشديد من النضارة وهي في الأصل حسن الوجه، والبريق وإنما أراد حسن خلقه وقدره".أ. هـ4
وقال الحافظ المنذري في كتابه "الترغيب والترهيب ": ومعناه الدعاء له بالنضارة وهي النعمة والبهجة والحسن فيكون تقديره: جمله الله وزينه وقيل غير ذلك ".5
وقال أبو بكر بن العربي: "والنضرة هي النعمة والبهاء يكون على الوجه".أ. هـ6
__________
1ـ سنن أبي داود 2/289 من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه.
2ـ أخرجه ابن حبان في صحيحه كما في "الإحسان بترتيب ابن حبان" 1/226 من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وانظر: سنن ابن ماجه 2/1316، والمسند 1/437، سنن الدارمي 1/75 وهذا الحديث قد أفرده شيخنا عبد المحسن بن حمد العباد بدراسة مستقلة اشتملت على بيان طرقه، وألفاظه ودراسة الحديث من حيث الدراية وبين أن هذا الحديث متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم، رواه أربعة وعشرون صحابياً، خرجه سبعة وثلاثون إماماً خرج في أكثر من خمسة وأربعين كتاباً، وبلغت طرقه سبعة وخمسين طريقاً، ومائة طريق. انظر: كتاب دراسة حديث " نضر الله امرءا سمع مقالتي" رواية ودراية للشيخ عبد المحسن العباد ص/227.
3ـ معالم السنن 4/187، وانظر: جامع الأصول لابن الأثير 9/118.
4ـ النهاية 5/71.
5ـ الترغيب والترهيب 1/108.
6ـ عارضة الأحوذي بشرح الترمذي 10/124.(1/92)
وقال الملا علي القاري في كتابه "المرقاة": " والمعنى خصه الله بالبهجة والسرور لما رزق بعلمه ومعرفته عن القدر والمنزلة بين الناس في الدنيا ونعمه في الآخرة حتى يرى عليه رونق الرخاء والنعمة ثم قيل إنه إخبار يعني جعله ذا نضرة وقيل: دعاء له بالنضرة وهي البهجة والبهاء في الوجه من أثر النعمة وقيل: المراد ههنا النضرة من حيث الجاه والقدر كما جاء اطلبوا الحوائج من حسان الوجوه أي: ذوي الأقدار من الناس ثم قال القاري: لا مانع من الجميع والإخبار أولى من الدعاء.."أ. هـ1
" وما ذكره القاري من اعتبار سائر المعاني التي فسر بها لفظ النضارة وعدم تخصيصه بواحد منها حسن وجيه ويكون المراد بالنضارة بالحديث جمله الله وزينه بما يظهر على وجهه من البهاء والحسن وأوصله الله إلى نضرة الجنة ونعيمها وكذا النضرة من حيث الجاه والقدر ويكون اختلاف الأقوال في ذلك وتفسير الحديث ببعض هذه المعاني من قبيل اختلاف التضاد فإن من فسره بواحد منها لا ينفي كون غيره مراداً وإنما هو من قبيل تفسير الشيء بما يوضحه كالتفسير بالمثال"أ. هـ2
وتلك الدعوة التي قدمنا شرحها بما يوضح المراد منها بأقوال أهل العلم كان لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منها القسط الأكبر والحظ الأوفر لأنهم هم الذين تلقوا كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما المصدران اللذان اشتملا على الهدى والنور، والصحابة رضي الله عنهم هم الذين تلقوا هذا الخير وهذا النور وهذا الهدى وأدوه إلى من بعدهم فكل إنسان يأتي بعدهم فلهم عليه منة، ولهم عليه فضل لأن هذا الهدى وهذا الخير الذي حصل لم يحصل إلا بواسطتهم رضي الله عنهم فكل من استفاد منه فلهم مثل أجره إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها إذ أنه
__________
1ـ المرقاة شرح المشكاة 1/236.
2ـ انظر: كتاب "دراسة حديث نضر الله امرءا سمع مقالتي رواية ودراية" ص/184-185.(1/93)
قد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً" 1 وقبلهم رضي الله عنهم رسول الله صلوات الله وسلامه عليه الذي جاء بهذا الخير وهذا الهدى فكل من اهتدى، وكل من استفاد وكل من دخل في دين الله وعمل صالحاً فإن الله يثيب نبيه صلى الله عليه وسلم بمثل ما يثيب به ذلك العامل من غير أن ينقص من أجر العامل شيء لأنه عليه الصلاة والسلام هو الذي دعا الناس إلى هذا الهدى فله مثل أجور كل من استفاد خيراً بسببه، والصحابة رضي الله عنهم هم الصلة الوثيقة التي تربط المسلمين بنبيهم صلى الله عليه وسلم فهم الذين جمعوا القرآن وهم الذين حفظوه وهم الذين أوصلوه إلى من بعدهم وهم الذين تلقوا السنة وأدوها إلى من بعدهم فصار لهم الثواب الجزيل والأجر العظيم، ولقد شرفهم الله في الحياة الدنيا بالنظر إلى طلعة سيد الأولين والآخرين كما شرفهم بسماعهم كلامه من فمه الشريف صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم أجمعين فالذي يطعن في أولئك الأخيار، وأولئك الأسلاف فقد عمد إلى قطع الصلة بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكفى بذلك ضلالاً وخذلاناً والعياذ بالله تعالى.
والحاصل أن الأحاديث الواردة في فضلهم كثيرة وشهيرة بل متواترة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بعد أن ذكر بعض الأحاديث المتقدم ذكرها: "وهذه الأحاديث مستفيضة بل متواترة في فضائل الصحابة والثناء عليهم وتفضيل قرنهم على من بعدهم من القرون والقدح فيهم قدح في القرآن والسنة"أ. هـ2
وهو كما قال رحمه الله تعالى بل إن القادح في الكتاب والسنة لا حظ له في الإسلام وهذا حال الرافضة فإنهم طعنوا في الكتاب والسنة عن طريق القدح في الصحابة رضي الله عنهم إذ هم نقلة هذا الدين إلى من بعدهم،
__________
1ـ رواه مسلم في صحيحه 4/2060 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2ـ مجموع الفتاوى 4/430.(1/94)
والطعن في الصحابة أيضاً: طعن في الرسول صلى الله عليه وسلم، كما قال الإمام مالك وغيره من أئمة العلم: هؤلاء طعنوا في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما طعنوا في أصحابه ليقول القائل: رجل سوء كان له أصحاب سوء، ولو كان رجلاً صالحاً لكان أصحابه صالحين1
والذي يعتقد هذا هو من أبخس الناس حظاً في الدنيا والآخرة، وقد تبنى هذا المعتقد الفاسد الشيعة والخوارج، "فإن الشيعة يفضلون أنفسهم وهم شر خلق الله تعالى على أبي بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وعائشة وجميع الصحابة رضي الله عنهم حاشا علياً والحسن والحسين وعمار بن ياسر، والخوارج يفضلون أنفسهم ـ وهم شر خلق الله وكلاب النار ـ على عثمان ـ وعلي وطلحة والزبير ـ ولقد خاب من خالف كلام الله تعالى وقضاء رسوله"2 عليه الصلاة والسلام في أن الصحابة رضي الله عنهم هم صفوة الأمة المحمدية وسادتها على الإطلاق، ولنأت الآن ما جاء من ذكر بعض الثناء عليهم رضي الله عنهم في كلام السلف.
__________
1ـ مجموع الفتاوى 4/429.
2ـ انظر: "ابن حزم الأندلسي ورسالته في المفاضلة بين الصحابة" ص/178.(1/95)
المبحث الثالث: النثاء عليهم في أقوال السلف
...
المبحث الثالث: الثناء عليهم في أقوال السلف
لقد كثر الثناء في كلام السلف على الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين بما امتازوا به من الصفات الطيبة، والسيرة الحسنة، والأخلاق المشرقة، والأعمال الصالحة، التي جعلتهم أهلاً لأن يكونوا أصحاباً ووزراء لخير البرية محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، والثناء الوارد عن السلف منه ما يتعلق بهم على وجه العموم ومنه ما يكون باعتبار الأفراد والذي نريد ذكره في هذا المبحث من هذا الثناء هو ما يتعلق بهم على وجه العموم كما لا أقتصر هنا على الثناء الوارد على الصحابة ممن جاء بعدهم من التابعين وتابعيهم وغيرهم من أئمة الدين، بل أذكر حتى الثناء الوارد منهم بعضهم على بعض إن وجد وكان على سبيل العموم ومن ذلك ما يلي:
1- قال حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "إن الله ـ جل ثناؤه وتقدست أسماؤه ـ خص نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بصحابة آثروه على الأنفس والأموال، وبذلوا النفوس دونه في كل حال، ووصفهم الله في كتابه فقال: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} 1.قاموا بمعالم الدين وناصحوا الاجتهاد للمسلمين حتى تهذبت طرقه وقويت أسبابه
__________
1ـ سورة الفتح آية/29(1/96)
وظهرت آلاء الله، واستقر دينه ووضحت أعلامه، وأذل بهم الشرك، وأزال رؤوسه ومحا دعائمه، وصارت كلمة الله العلياء، وكلمة الذين كفروا السفلى فصلوات الله ورحمته وبركاته على تلك النفوس الزكية، والأرواح الطاهرة العالية فقد كانوا في الحياة لله أولياء، وكانوا بعد الموت أحياء، وكانوا لعباد الله نصحاء، رحلوا إلى الآخرة قبل أن يصلوا إليها وخرجوا من الدنيا وهم بعد فيها"أ. هـ1
فهذه الصفات التي وصفهم بها عبد الله بن عباس كلها مناقب وثناء حسن يذكرون به في الآخرين وقد كانوا رضي الله عنهم كما وصفهم، فقد خصهم الله وشرفهم بصحبة نبيه عليه الصلاة والسلام، وآثروه بأموالهم وأنفسهم، وأقاموا معالم الدين الإسلامي الحنيف، ونصحوا للأمة واجتهدوا في نشر الإسلام وتثبيت دعائمة حتى استقر في الأرض وأذل الله بهم الشرك وأهله وأزيلت رؤوسه، ومحيت دعائمه وأعلى الله بهم كلمته، ودحر بهم كلمة الباطل، وبذلك كانت نفوسهم زكية وأرواحهم طاهرة فكانوا أولياءً لله في هذه الحياة الدنيا فرضوان الله عليهم أجمعين.
2- روى أبو نعيم الأصبهاني: بإسناده إلى أبي أراكة قال: صلى عليّ الغداة ثم لبث في مجلسه حتى ارتفعت الشمس قيد رمح كأن عليه كآبة ثم قال: لقد رأيت أثراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فما أرى أحداً يشبههم والله إن كانوا ليصبحون شعثاً غبراً صفراً بين أعينهم مثل ركب المعزي قد باتوا يتلون كتاب الله يراوحون بين أقدامهم وجباههم إذا ذكر الله مادوا كما تميد الشجرة في يوم ريح، فانهملت أعينهم حتى تبل والله ثيابهم والله لكأن القوم باتوا غافلين.
وقال أيضاً رضي الله عنه: "أولئك مصابيح الهدى يكشف الله بهم كل فتنة مظلمة سيدخلهم الله في رحمة منه، ليس أولئك بالمذاييع2 البذر ولا الجفاة
__________
1ـ مروج الذهب ومعادن الجوهر 3/75.
2ـ هو جمع مذياع من أذاع الشيء إذا أفشاه وقيل أراد الذين يشيعون الفواحش النهاية 2/174.(1/97)
المرائين"1.فأمير المؤمنين علي رضي الله عنه مدحهم بهذه الصفات الطيبة التي كانت شعارهم فقد بين أنهم كانوا مجتهدين في عبادة ربهم كانوا يكثرون من النوافل في جوف الليل لأن اصفرار الوجوه وظهور السيماء فيها كان نتيجة إكثارهم من السهر والسجود لله ـ جل وعلا ـ ووصفهم بأنهم كانوا يبيتون تالين لكتاب الله، وكانوا إذا تليت عليهم آيات الله بكوا وكانوا أعلام هدى، ولقوة بصيرتهم ومعرفتهم أحكام الله، وما أوجب عليهم من العبادات والطاعات كشف الله عنهم الفتن المضلة، فكانوا من أهل رحمته التي لا يفوز بها إلا أهل الإخلاص، وقد كانوا رضي الله عنهم في مقدمة أولياء الله المؤمنين وعباده المتقين فرضي الله عنهم أجمعين.
3- وروى أبو نعيم الأصبهاني: بإسناده إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: "من كان مستناً فليستن بمن قد مات أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا خير هذه الأمة أبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، ونقل دينه فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم فهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وكانوا على الهدي المستقيم".2
4- وروى الإمام أحمد في المسند بإسناده إلى عبد الله بن مسعود أنه قال: "إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه فما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئاً فهو عند الله سيء".3
وروى ابن بطة ـ كما في منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية ـ بإسناده إلى
__________
1ـ حلية الأولياء 1/76-77، وابن كثير في البداية والنهاية 8/7.
2ـ حلية الأولياء 1/305-306، وذكره البغوي عن ابن مسعود 1/214.
3ـ المسند 1/379، شرح السنة للبغوي 1/214-215.(1/98)
عبد الله بن مسعود أنه قال: "من كان منكم مستناً فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة أولئك أصحاب محمد كانوا والله أفضل هذه الأمة، وأبرها قلوباً وأعمقها علماً وأقلها تكلفاً قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم، فإنهم كانوا على الهدي المستقيم".1
"فقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كانوا أبر هذه الأمة قلوباً وأعمقها علماً وأقلها تكلفاً كلام جامع بين فيه حسن قصدهم ونياتهم ببر القلوب وبين فيه كمال المعرفة ودقتها بعمق العلم وبين فيه تيسير ذلك عليهم وامتناعهم من القول بلا علم بقلة التكلف"أ. هـ2
"فأحق الأمة بإصابة الصواب أبرها قلوباً وأعمقها علوماً وأقومها هدياً وأحسنها حالاً، من غير شك ولا ارتياب فكل خير وإصابة وحكمة، وعلم ومعارف ومكارم، إنما عرفت لدينا ووصلت إلينا من الرعيل الأول والسرب الذي عليه المعول، فهم الذين نقلوا العلوم والمعارف عن ينبوع الهدى ومنبع الاهتداء"3 فرضي الله عنهم أجمعين.
5- روى الإمام مسلم بإسناده إلى الحسن أن عائذ بن عمرو وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على عبيد الله بن زياد فقال: أي بني إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن شرَّ الرعاء الحطمة" فإياك أن تكون منهم فقال له اجلس فإنما أنت من نخالة4 أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فقال: وهل كانت لهم نخالة إنما كانت النخالة بعدهم وفي غيرهم".5
__________
1ـ منهاج السنة 1/166.
2ـ منهاج السنة 1/166.
3ـ انظر: لوامع الأنوار البهية للسفاريني 2/380.
4ـ النخالة: هي نخالة الدقيق والمراد: قشوره، والنخالة والحفالة والحثالة بمعنى واحد، شرح النووي 12/216.
5ـ صحيح مسلم 3/1461.(1/99)
فقول عائذ بن عمرو رضي الله عنه: "وهل كانت لهم نخالة إنما كانت النخالة بعدهم وفي غيرهم" "هذا من جزل الكلام وفصيحه وصدقه الذي ينقاد له كل مسلم، فإن الصحابة رضي الله عنهم كلهم هم صفوة الناس وسادات الأمة وأفضل ممن بعدهم وكلهم عدول قدوة لا نخالة فيهم، وإنما جاء التخليط ممن بعدهم وفيمن بعدهم كانت النخالة".1فالصحابة رضي الله عنهم كانوا في غاية التحلي بالصفات الطيبة التي زكت بها نفوسهم وطهرت بها قلوبهم، وعلت بها مكانتهم فكانوا صفوة الأمة وأعلاها وأكملها فطرة وأصفاها أذهاناً وبذلك كان مجتمعهم مجتمع الطهر والنقاء والصفاء رضوان الله عليهم أجمعين.
وقد أثنى عليهم التابعون بذكر محاسنهم، وما قدموه من الأعمال الصالحة التي ينبغي لمن جاء بعدهم الاقتداء بهم فيها ومن ذلك ما يلي:
6- قال السيوطي وأخرج أبو الشيخ وابن عساكر عن أبي صخر حميد بن زياد قال: قلت لمحمد بن كعب القرظي: أخبرني عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما أريد الفتن؟ فقال إن الله قد غفر لجميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأوجب لهم الجنة في كتابه محسنهم ومسيئهم قلت: له وفي أي موضع أوجب الله لهم الجنة في كتابه؟ قال ألا تقرأ {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 2 أوجب لجميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الجنة والرضوان وشرط على التابعين شرطاً لم يشترطه فيهم قلت: وما اشترط عليهم؟ قال: اشترط عليهم أن يتبعوهم بإحسان يقول: يقتدون بهم في أعمالهم الحسنة، ولا يقتدون بهم في غير ذلك قال أبو صخر: لكأني لم
__________
1ـ شرح النووي على صحيح مسلم 12/216.
2ـ سورة التوبة آية/100.(1/100)
أقرأها قبل ذلك وما عرفت تفسيرها حتى قرأها علي محمد بن كعب".1
7- ما رواه أبو نعيم بإسناده إلى الحسن البصري ... أن بعض القوم قال له: أخبرنا صفة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فبكى وقال: ظهرت منهم علامات الخير في السيماء والسمت والهدي والصدق وخشونة ملابسهم بالاقتصاد، وممشاهم بالتواضع، ومنطقهم بالعمل، ومطعمهم ومشربهم بالطيب من الرزق، وخضوعهم بالطاعة لربهم تعالى، واستفادتهم للحق فيما أحبوا وكرهوا، وإعطاؤهم الحق من أنفسهم ظمئت هواجرهم ونحلت أجسامهم واستخفوا بسخط المخلوقين في رضى الخالق، لم يفرطوا في غضب، ولم يحيفوا ولم يجاوزوا حكم الله ـ تعالى ـ في القرآن شغلوا الألسن بالذكر، بذلوا دماءهم حين استنصرهم، وبذلوا أموالهم حين استقرضهم ولم يمنعهم خوفهم من المخلوقين، حسنت أخلاقهم، وهانت مؤنتهم، وكفاهم اليسير من دنياهم إلى آخرتهم".2
8- روى الإمام أحمد بإسناده إلى قتادة بن دعامة السدوسي أنه قال: "أحق من صدقتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه".3
9- وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: "قال حماد بن سلمة عن أيوب السختياني4، أنه قال: من أحب أبا بكر فقد أقام الدين، ومن أحب عمر فقد أوضح السبيل، ومن أحب عثمان فقد استنار بنور الله، ومن أحب علياً
__________
1ـ الدر المنثور في التفسير بالمأثور 4/272.
2ـ حلية الأولياء 2/150.
3ـ المسند 3/134.
4ـ هو أيوب بن أبي تميمة كيسان السختياني البصري، أبو بكر سيد فقهاء عصره تابعي من حفاظ الحديث كان ثبتاً ثقة ولد سنة ست وستين، وتوفي سنة إحدى وثلاثين ومائة هجرية، انظر: ترجمته في تهذيب التهذيب 1/297، حلية الألياء 3/3، اللباب 2/108، الأعلام 1/382.(1/101)
فقد استمسك بالعروة الوثقى، ومن قال الحسنى في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد برئ من النفاق".1
10- وروى أبو عمر بن عبد البر بإسناده: إلى بقية بن الوليد قال: "قال لي الأوزاعي2 يا بقية: العلم ما جاء عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وما لم يجيء عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فليس بعلم، يا بقية لا تذكر أحداً من أصحاب محمد نبيك صلى الله عليه وسلم إلا بخير ولا أحداً من أمتك، وإذا سمعت أحداً يقع في غيره فاعلم أنه إنما يقول أنا خير منه".3
11- وروى بإسناده إلى قتادة رحمه الله تعالى أنه قال في قوله تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} قال: أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.4
12- وروى أيضاً: بإسناده إلى سعيد بن المسيب أنه سئل عن شيء فقال: "اختلف فيه أصحاب رسول الله ولا أرى لي معهم قولاً قال ابن وضاح5: هذا هو الحق: قال أبو عمر: معناه ليس له أن يأتي بقول يخالفهم"6.
تلك هي أقوال بعض التابعين في الصحابة عموماً وكما هي واضحة فإنها
__________
1ـ البداية والنهاية 8/13.
2ـ هو عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد الأوزاعي من قبيلة الأوزاع، كان إماماً في الفقه والزهد ثقة، جليل، ولد سنة ثمان وثمانين وتوفي سنة سبع وخمسين ومائة هجرية، انظر: ترجمته في تهذيب التهذيب 6/638، وفيات الأعيان 3/127-128، حلية الأولياء 6/135، سير أعلام النبلاء 7/107-134.
3ـ جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله 2/36.
4ـ جامع بيان العلم 2/36 والآية رقم 6 من سورة سبأ.
5ـ هو: محمد بن وضاح بن يزيع، أبو عبد الله مولى عبد الرحمن بن معاوية بن هشام محدث من أهل قرطبة، ولد سنة تسع وتسعين ومائة وتوفي سنة ست وثمانين ومائتين هجرية. انظر ترجمته في بغية الملتمس ص/123، لسان الميزان 5/416، والأعلام 7/358.
6ـ جامع بيان العلم وفضله 2/36.(1/102)
تضمنت الثناء عليهم رضي الله عنهم بما قدموه من الأعمال الصالحة وبما لهم من شرف الصحبة، وبما بذلوه للإسلام من النصرة والجهاد في سبيل الله من أجل إعلاء كلمة الله ونصرة دينه الحق فقد بذلوا أنفسهم حين استنصرهم، وضحوا بأموالهم حين استقرضهم، ولم يخافوا في الله لومة لائم، وآثروا آخرتهم على دنياهم، فالتابعون رحمهم الله أثنوا على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يستحقون، فلم يذكروهم إلا بخير، وشهدوا لهم بالعلم وبينوا أن ما لم يأت عن طريقهم فليس بعلم، ولم يعدلوا بهم أحداً، وآمنوا بما لهم من الفضائل وسلموا بها لهم واعتقدوا ذلك اعتقاداً جازماً فرحمة الله عليهم ورضي عن صحابة رسول الله أجمعين.
وكما جاء الثناء على الصحابة عموماً من التابعين كذلك أثنى عليهم غيرهم من أئمة المذاهب الأربعة وغيرهم ممن جاء بعدهم من أئمة العلم ومن ذلك ما يلي:
نقل الإمام أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الأزدي الطحاوي: مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي وصاحبيه أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الحميري الأنصاري، ومحمد بن الحسن الشيباني ما كانوا يعتقدونه من أصول الدين، ويدينون به لرب العالمين ومن ضمن ذلك ما كانوا يعتقدونه في الصحابة عموماً فقال: في عقيدته المشهورة: "ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نفرط في حب أحد منهم ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم، وبغير الحق يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير، وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان".1
قال شارح الطحاوية: "فمن أضل ممن يكون في قلبه غل على خيار المؤمنين وسادات أولياء الله تعالى بعد النبيين؟ بل قد فضلهم اليهود النصارى بخصلة، قيل لليهود: من خير أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب موسى وقيل
__________
1ـ العقيدة الطحاوية مع شرحها ص/528.(1/103)
للنصارى: من خير أهل ملتكم قالوا: أصحاب عيسى، وقيل للرافضة: من شر أهل ملتكم قالوا: أصحاب محمد. لم يستثنوا إلا القليل، وفيمن سبوهم من هو خير ممن استثنوهم بأضعاف مضاعفة"1.
14- وقال الإمام مالك بن أنس رحمة الله عليه: "من يبغض أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكان في قلبه عليهم غل، فليس له حق في فيء المسلمين ثم قرأ قول الله ـ سبحانه وتعالى ـ {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} إلى قوله {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} الآية2.
وذكر بين يديه رجل ينتقص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ هذه الآية: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} إلى قوله: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} 3، ثم قال: من أصبح من الناس في قلبه غل على أحد من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام فقد أصابته الآية".أ. هـ4
15- وقال الإمام محمد بن إدريس الشافعي رحمة الله عليه: "وقد أثنى الله ـ تبارك وتعالى ـ على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن والتوراة والإنجيل، وسبق لهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفضل ما ليس لأحد بعدهم فرحمهم الله وهنأهم بما آتاهم من ذلك ببلوغ أعلى منازل الصديقين والشهداء والصالحين أدوا إلينا سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاماً وخاصاً وعزماً وإرشاداً، وعرفوا من سننه ما عرفنا وجهلنا وهم فوقنا في كل علم واجتهاد وورع وعقل، وأمر استدرك به علم واستنبط به، وآراؤهم لنا أحمد وأولى بنا من رأينا عند أنفسنا، ومن أدركنا ممن يرضى أو حكى لنا عنه ببلدنا صاروا فيما لم يعلموا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه سنة إلى قولهم إن اجتمعوا، أو قول بعضهم إن تفرقوا، وهكذا نقول
__________
1ـ شرح العقيدة الطحاوية ص/531-532.
2ـ سورة الحشر آية/7-10.
3ـ سورة الفتح آية/29.
4ـ شرح السنة للبغوي 1/229.(1/104)
ولم نخرج من أقاويلهم، وإن قال أحدهم ولم يخالفه غيره أخذنا بقوله"أ. هـ1.
16- وقال الإمام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته: "ومن السنة الواضحة الثابتة البينة المعروفة ذكر محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين والكف عن ذكر ما شجر بيهم، فمن سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أحداً منهم أو تنقصه أو طعن عليهم، أو عرّض بعيبهم أو عاب أحداً منهم فهو مبتدع رافضي خبيث مخالف لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً، بل حبهم سنة والدعاء لهم قربة، والاقتداء بهم وسيلة والأخذ بآثارهم فضيلة وخير هذه الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر، وعمر بعد أبي بكر وعثمان بعد عمر وعلي بعد عثمان ووقف قوم على عثمان وهم خلفاء راشدون مهديون، ثم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هؤلاء الأربعة خير الناس لا يجوز لأحد أن يذكر شيئاً من مساويهم ولا يطعن على أحد منهم بعيب ولا ينقص فمن فعل ذلك فقد وجب على السلطان تأديبه وعقوبته ليس له أن يعفوا عنه بل يعاقبه ويستتيبه، فإن تاب قبل منه وإن ثبت أعاد عليه العقوبة وخلده في الحبس حتى يموت أو يراجع"أ. هـ2.
17- وروى أبو عمر بن عبد البر بإسناده إلى إبراهيم بن سعيد الجوهري قال: سألت أبا أسامة3 أيما كان أفضل معاوية أو عمر بن عبد العزيز؟ فقال: لا نعدل بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أحداً"4.
وقال ابن أبي حاتم5 رحمه الله تعالى: "فأما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
1ـ مناقب الشافعي للبيهقي 1/442- 443، أعلام الموقعين 1/80.
2ـ طبقات الحنابلة 1/30، كتاب السنة للإمام أحمد ص/17.
3ـ هو أبو أسامة: حماد بن أسامة بن زيد القرشي مولاهم أبو أسامة الكوفي، انظر: ترجمته في تهذيب التهذيب 3/2.
4ـ جامع بيان العلم وفضله 2/227.
5ـ هو عبد الرحمن بن محمد أبي حاتم بن إدريس بن المنذر التميمي الحنظلي الرزاي أبو محمد كان =(1/105)
فهم الذين شهدوا الوحي والتنزيل وعرفوا التفسير والتأويل وهم الذين اختارهم الله ـ عز وجل ـ لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونصرته وإقامة دينه وإظهار حقه فرضيهم له صحابة وجعلهم لنا أعلاماً وقدوة فحفظوا عنه صلى الله عليه وسلم ما بلغهم عن الله ـ عز وجل ـ وما سن وشرع وحكم وقضى وندب وأمر ونهى وحظر وأدب ووعوه وأتقنوه ففقهوا في الدين وعلموا أمر الله ونهيه ومراده بمعاينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومشاهدتهم منه تفسير الكتاب وتأويله وتلقفهمم منه واستنباطهم عنه، فشرفهم الله ـ عز وجل ـ بما منّ عليهم وأكرمهم به من وضعه إياهم موضع القدوة فنفى عنهم الشك والكذب والغلط والريبة والغمز وسماهم عدول الأمة فقال ـ عز وجل ـ في محكم كتابه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} 1 ففسر النبي صلى الله عليه وسلم عن الله ـ عز ذكره ـ قوله {وَسَطاً} قال: "عدلاً" فكانوا عدول الأمة وأئمة الهدى وحجج الدين ونقلة الكتاب والسنة، وندب الله ـ عز وجل ـ إلى التمسك بهديهم والجري على منهاجهم والسلوك لسبيلهم والاقتداء بهم، فقال: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} 2 ووجدنا النبي صلى الله عليه وسلم قد حض على التبليغ في أخبار كثيرة ووجدناه يخاطب أصحابه فيها منها أن دعا لهم فقال: "نضر الله امرءا سمع مقالتي فحفظها ووعاها حتى يبلغها غيره" 3 وقال صلى الله عليه وسلم في خطبته: "فليبلغ الشاهد منكم الغائب" 4. وقال صلى الله عليه وسلم: "بلغوا عني ولو آية وحدثوا عني ولا حرج" 5،
__________
= رحمه الله من أئمة التفسير والحديث، ولد سنة أربعين ومائتين وتوفي سنة سبع وعشرين وثلاثمائة، انظر: ترجمته في تذكرة الحفاظ 3/829، وطبقات الحنابلة 2/55، سير أعلام النبلاء 13/263-269.
1ـ سورة البقرة آية/143.
2ـ سورة النساء آية/115.
3ـ سنن أبي داود 2/289، سنن ابن ماجه 2/1316، سنن الدارمي 1/74، مسند أحمد 1/437.
4ـ عند البخاري بلفظ: "ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب" وعند مسلم بدون لفظة "منكم" صحيح البخاري مع الفتح 1/199، صحيح مسلم 3/1306.
5ـ عند البخاري بلفظ: "بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج" الحديث من رواية =(1/106)
ثم تفرقت الصحابة رضي الله عنهم في النواحي والأمصار والثغور وفي فتوح البلدان والمغازي والإمارة والقضاء والأحكام فبث كل واحد منهم في ناحيته وبالبلد الذي هو به ما وعاه وحفظه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكموا بحكم الله ـ عز وجل ـ وأمضوا الأمور على ما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفتوا فيما سئلوا عنه مما حضرهم من جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظائرها من المسائل وجردوا أنفسهم مع تقدمة حسن النية والقربة إلى الله تقدس اسمه لتعليم الناس الفرائض والأحكام والسنن والحلال والحرام حتى قبضهم الله ـ عز وجل ـ رضوان الله ومغفرته ورحمته عليهم أجمعين"أ. هـ1.
19- وقال ابن أبي زيد2 القيرواني المالكي في مقدمة رسالته المشهورة: "وأن خير القرون الذين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمنوا به ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، وأفضل الصحابة الخلفاء الراشدون المهديون أبو بكر ثم عمر، ثم عثمان، ثم عليّ رضي الله عنهم أجمعين وأن لا يذكر أحد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بأحسن ذكر والإمساك عما شجر بينهم وأنهم أحق الناس أن يلتمس لهم حسن المخارج ويظن بهم أحسن المذاهب"أ. هـ3.
20- وقال أبو عثمان4 الصابوني: "ويرون ـ أي أهل السنة ـ الكف
__________
= عبد الله بن عمر رضي الله عنه. صحيح البخاري مع الفتح 6/496.
1ـ مقدمة الجرح والتعديل 1/7-8.
2ـ هو عبد الله بن عبد الرحمن أبي زيد النفزي القيرواني أبو محمد فقيه من أعيان القيروان كان إمام المالكية في عصره قال الذهبي: كان على أصول السلف في الأصول لا يدري الكلام ولا يتأول، ولد سنة عشر وثلاثمائة وتوفي سنة ست وثمانين وثلاثمائة، انظر: ترجمته في سير أعلام النبلاء 17/10، الديباج المذهب 1/427-430، شجرة النور الزكية 1/96.
3ـ الرسالة مع شرحها الثمر الداني في تقريب المعاني ص/22-23.
4ـ هو إسماعيل بن عبد الرحمن بن أحمد بن إسماعيل، أبو عثمان الصابوني: مقدم أهل الحديث في بلاد خراسان، لقبه أهل السنة فيها "شيخ الإسلام" كان رحمه الله فصيح اللهجة واسع العلم عارفاً بالحديث والتفسير، ولد سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة وتوفي سنة تسع وأربعين وأربعمائة، انظر: ترجمته في الكامل لابن الأثير 9/638، تهذيب تاريخ دمشق 3/27-33، البداية والنهاية 12/83.(1/107)
عما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتطهير الألسنة عن ذكر ما تضمن عيباً لهم ونقصاً فيهم ويرون الترحم على جميعهم والمولاة لكافتهم"1.
21- ونقل الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: عن أبي المظفر2 السمعاني أنه قال في كتابه "الاصطلام": "التعرض إلى جانب الصحابة علامة على خذلان فاعله بل هو بدعة وضلالة"أ. هـ3.
22- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما وصفهم الله به في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 4 وطاعة للنبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه " ...
ويتبرؤون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم وطريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل ويمسكون عما شجر بين الصحابة ويقولون إن هذه الآثار المروية في مساويهم منها ما هو كاذب ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغير عن وجهه، والصحيح منه هم فيه معذورون إما مجتهدون مصيبون وإما مجتهدون مخطئون وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره بل يجوز عليهم الذنوب في الجملة ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر حتى إنهم يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما لا
__________
1ـ عقيدة السلف وأصحاب الحديث. الرسالة السادسة، ضمن مجموعة الرسائل المنيرية 1/129.
2ـ اسمه منصور بن محمد بن عبد الجبار بن أحمد المروزي السمعاني التميمي من علماء التفسير والحديث، ولد سنة ست وعشرين وأربعمائة وتوفي سنة تسع وثمانين وأربعمائة، ترجمته في سير أعلام النبلاء 19/114، اللباب 2/138-139، طبقات المفسرين للداوودي 2/339.
3ـ فتح الباري 4/365.
4ـ سورة الحشر آية/10.(1/108)
يكون لمن بعدهم. وقد ثبت بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم خير القرون، وأن المدّ من أحدهم إذا تصدق به كان من جيل أحد ذهباً ممن بعدهم، ثم إذا كان قد صدر من أحدهم ذنب فيكون قد تاب منه أو أتى بحسنات تمحوه أو غفر له بفضل سابقته أو بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم الذي هم أحق الناس بشفاعته، أو ابتلي ببلاء في الدنيا كفر به عنه، فإذا كان هذا في الذنوب المحققة فكيف الأمور التي كانوا فيها مجتهدين إن أصابوا فلهم أجران وإن أخطأوا فلهم أجر واحد والخطأ مغفور ثم إن القدر الذي ينكر من فعل بعضهم قليل نزر مغفور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم من الآيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله والهجرة والنصرة والعلم النافع والعمل الصالح، ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة وما منّ الله عليهم به من الفضائل علم يقيناً أنهم آخر الخلق بعد الأنبياء لا كان ولا يكون مثلهم، وأنهم الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم وأكرمها على الله"أ. هـ1.
23- قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى مبيناً فضل الصحابة عموماً على غيرهم ممن جاء بعدهم وذاكراً الصفات التي أهلتهم لذلك عند كلامه على ذكر أنواع الرأي المحمود: "النوع الأول: رأى أفقه الأمة، وأبر الأمة قلوباً وأعمقهم وأقلهم تكلفاً وأصحهم قصوداً وأكملهم فطرة، وأتمهم إدراكاً، وأصفاهم أذهاناً الذين شاهدوا التنزيل وعرفوا التأويل، وفهموا مقاصد الرسول، فنسبة آرائهم وعلومهم وقصودهم إلى ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم كنسبتهم إلى صحبته، والفرق بينهم وبين من بعدهم في ذلك كالفرق بينهم وبينهم في الفضل فنسبة رأي من بعدهم إلى رأيهم كنسبة قدرهم إلى قدرهم. والمقصود أن أحداً ممن بعدهم لا يساويهم في رأيهم وكيف يساويهم؟ وقد كان أحدهم يرى الرأي فينزل القرآن بموافقته ... وحقيق بمن كانت آراؤهم بهذه المنزلة أن يكون رأيهم لنا
__________
1ـ العقيدة الواسطية مع شرحها لمحمد خليل هراس ص/142-151.(1/109)
خيراً من رأينا لأنفسنا، وكيف لا وهو الرأي الصادر من قلوب ممتلئة نوراً وإيماناً وحكمة وعلماً ومعرفة وفهماً عن الله ورسوله ونصيحة للأمة وقلوبهم على قلب نبيهم، ولا وساطة بينهم وبينه، وهم ينقلون العلم والإيمان من مشكاة النبوة غضاً طرياً لم يشبه إشكال، ولم يشبه خلاف، ولم تدنسه معارضة، فقياس رأي غيرهم بآرائهم من أفسد القياس"1.
24- قال يحيى أن أبي بكر العامري2 رحمه الله تعالى: "وينبغي لكل صين متدين مسامحة الصحابة فيما صدر بينهم من التشاجر، والاعتذار عن مخطئهم وطلب المخارج الحسنة لهم، وتسليم صحة إجماع ما أجمعوا عليه على ما علموه فهم أعلم بالحال والحاضر يرى ما لا يرى الغائب، وطريقة العارفين الاعتذار عن المعائب وطريقة المنافقين تتبع المثالب، وإذا كان اللازم من طريقة الدين ستر عورات عامة المسلمين فكيف الظن بصحابة خاتم النبيين! مع اعتبار قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أحداً من أصحابي" 3. وقوله: "من حسن إسلام تركه ما لا يعنيه" 4. هذه طريقة صلاحاء السلف وما سواها مهاوٍ وتلف"5.
25- وقال السفاريني رحمه الله تعالى: "ولا يرتاب أحد من ذوي الألباب أن الصحابة الكرام هم الذين حازوا قصبات السبق واستولوا على معالي الأمور من الفضل والمعروف والصدق، فالسعيد من اتبع صراطهم المستقيم واقتفى
__________
1ـ إعلام الموقعين 1/79-82.
2ـ هو يحيى بن أبي بكر بن محمد بن يحيى العامري الحرضي مؤرخ، وله علم بمفردات الطب، كان محدث اليمن وشيخها في عصره ولد سنة ستة عشر وثمانمائة وتوفي ثلاث وتسعين وثمانمائة هجرية. ترجمته في: الضوء اللامح للسخاوي 10/324، البدر الطالع للشوكاني 2/327، كشف الظنون 1/937، فهرست الفهارس للكتاني 2/445-446، الأعلام 9/168.
3ـ رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه 4/1967-1978.
4ـ رواه الترمذي في سننه 3/382، ورواه ابن ماجه أيضاً في سننه 2/1315-1316، وكلاهما من حديث أبي هريرة.
5ـ الرياض المستطابة في جملة من روى في الصحيحين من الصحابة ص/300-301.(1/110)
منهجهم القويم، والتعيس من عدل عن طريقهم، ولم يتحقق بتحقيقهم فأي خطة رشد لم يستولوا عليها، وأي خطة خير لم يسبقوا إليها تالله لقد وردوا ينبوع الحياة عذباً صافياً زلالاً ووطدوا قواعد الدين، والمعروف فلم يدعوا لأحد بعدهم مقالاً فتحوا القلوب بالقرآن والذكر والإيمان، والقرى بالسيف والسنان، وبذل النفوس النفيسة في مرضاة الرحيم الرحمن، فلا معروف إلا ما عنهم عرف، ولا برهان إلا ما بعلومهم كشف، ولا سبيل نجاة إلا ما سلكوا، ولا خير سعادة إلا ما حققوه وحكوه فرضوان الله تعالى عليهم أجمعين"أ. هـ1.
فهذه خمسة وعشرون نقلاً عما قدمنا ذكرهم من أهل العلم بينوا فيها ما يجب لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلامهم هذا الذي قدمنا ذكره هو محمدة لهم ولمن تكلم به من بعدهم فأولئك الأسلاف دائماً كلامهم يذكر ويثنى عليهم به ويترحم عليهم بسببه لكونهم قاموا بما يجب لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلامهم الذي تقدم ذكره هو اللائق بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أما من تكلم فيهم بكلام لا ينبغي فإن في الحقيقة لم يضرهم وإنما يضر نفسه وذلك بأنهم رضي الله عنهم وأرضاهم قدموا على ما قدموا وقد قدموا الخير الكثير من الأعمال الجليلة التي قاموا بها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم، والكلام فيهم بما يليق بهم فإنه لا ينقصهم بل يزيدهم رفعة في درجاتهم، وزيادة في حسناتهم، فإن المتكلم فيهم يكون كلامه فيهم بغير حق، ومتكلم فيهم إذا كانت له حسنات فإنهم يأخذون من حسناته ويكون ذلك رفعة في درجاتهم وإن لم يكن له حسنات فإنه كما قيل لا يضر السحاب نبح الكلاب.
والذي أخلص إليه من تلكم الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وكلام السلف الذي تقدم في بيان فضل الصحابة على وجه العموم أنه يجب على كل مسلم أن ينقاد لما دل على إثبات فضلهم رضي الله عنهم ويسلم لهم بذلك ويعتقد اعتقاداً
__________
1ـ لوامع الأنوار البهية 2/379-380.(1/111)
جازماً أنهم خير القرون، وأفضل الأمة بعد النبيين1 ومن يسلم لهم بذلك أو يشك فيه فليتدارك نفسه ويتوب إلى الله لأن مقتضى ذلك تكذيب خبر الله وخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن كذب الله ورسوله لا حظ له في الإسلام.
__________
1ـ انظر: كتاب ابن حزم الأندلسي ورسالته في المفاضلة بين الصحابة ص/171، الرسالة التدمرية لشيخ الإسلام ابن تيمية ص/64، وانظر: لوامع الأنوار البهية 2/377.(1/112)
الفصل الثاني: الثناء على أصناف معينة منهم رضي الله عنهم
المبحث الأول: الثناء على السابقين الأولين
...
المبحث الأول: الثناء على السابقين الأولين
السبق: هو التقدم إما في الصفة أو في الزمان، أو في المكان فالتقدم في الصفة: يكون لمن سبق إلى الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر واتخذ ما ينفق قربات عند الله ـ عز وجل ـ.
والتقدم في الزمن: يكون لمن تقدم في أوان قبل أوانه.
والتقدم في المكان: يكون لمن تبوأ دار النصرة واتخذها بدلا عن موضع الهجرة وأفضل هذه الوجوه هو السبق في الصفات1.
قال الراغب2 الأصبهاني: "أصل السبق التقدم في السير نحو {فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً} 3.... ويستعار السبق: لإحراز الفضل والتبريز وعلى ذلك {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} 4 أي: المتقدمون إلى ثواب الله وجنته بالأعمال الصالحة نحو قوله: {يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} 5 "أ. هـ.6
ومما يدل على أن السبق بالصفات هو الأفضل قوله صلى الله عليه وسلم: "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ثم هذا يومهم الذي فرض
__________
1ـ انظر: أحكام القرآن لابن العربي 2/1002، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 8/237.
2ـ هو الحسين بن محمد بن المفضل، أبو القاسم الأصبهاني ـ المعروف بالراغب ـ من أهل أصبهان سكن بغداد واشتهر، توفي سنة اثنتي وخمسمائة هجرية، انظر: ترجمته في: كشف الظنون 1/36، وله ترجمة في أول كتابه المفردات في غريب القرأن وانظر: الأعلام 2/279، معجم المؤلفين 4/59.
3ـ سورة النازعات آية/4.
4ـ سورة الواقعة آية/10.
5ـ سورة المؤمنون آية/61.
6ـ المفردات في غريب القرآن ص/222.(1/117)
عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله فالناس لنا فيه تبع اليهود غداً، والنصارى بعد غد" 1. والمراد باليوم المذكور في الحديث هو يوم الجمعة فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن الأمم التي كانت قبلنا وإن سبقونا في الزمن إلا أننا سبقناهم بتحصيل الفضل العظيم من الله ـ عز وجل ـ، والصحابة رضوان الله عليهم حسب تقدمهم في السبق إلى الإيمان والهجرة والنصرة كانوا على درجات متفاوتة في الفضل والحصول على كثرة الثواب وعظمه، وذلك بحسب مبادرتهم إلى الدخول في دين الله ـ تعالى ـ ولقد جاء الثناء على السابقين الأولين منهم في كثير من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، وقبل أن نذكر ما جاء من ذلك الثناء نبين المراد بالسابقين الأولين، كما بين ذلك أهل العلم.
فقد اختلف العلماء في المراد بالسابقين الأولين على أقوال ستة، وهذا الاختلاف مبني على بيان المراد من قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ} 2، وتلك الأقوال كما يلي:
القول الأول: إنهم الذين صلوا إلى القبلتين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله أبو موسى الأشعري وسعيد بن المسيب وابن سيرين وقتادة.
قال قتادة: " {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ} قال: هم الذين صلوا القبلتين جميعاً وأما الذين اتبعوا المهاجرين الأولين والأنصار بإحسان فهم الذين أسلموا لله إسلامهم وسلكوا منهاجهم في الهجرة والنصرة وأعمال الخير3.
القول الثاني: إنهم الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان وهي الحديبية قاله الشعبي.
__________
1ـ صحيح البخاري 1/157، صحيح مسلم 2/586، كلاهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2ـ سورة التوبة آية/100.
3ـ جامع البيان 11/8.(1/118)
القول الثالث: إنهم أهل بدر قاله عطاء بن أبي رباح.
القول الرابع: إنهم جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حصل لهم السبق بصحبته.
القول الخامس: إنهم السابقون بالموت والشهادة سبقوا إلى ثواب الله تعالى قاله الماوردي1.
القول السادس: إنهم الذين أسلموا قبل الهجرة2.
قال الإمام البغوي رحمه الله تعالى: "واختلفوا في أول من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد امرأته مع اتفاقهم على أنها أول من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال بعضهم: أول من آمن وصلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو قول جابر وبه قال مجاهد وابن إسحاق أسلم وهو ابن عشر سنين.
وقال بعضهم: أول من آمن بعد خديجة أبو بكر الصديق رضي الله عنه وهو قول ابن عباس وإبراهيم النخعي والشعبي.
وقال بعضهم: أول من أسلم زيد بن حارثة وهو قول الزهري وعروة وابن الزبير، وكان إسحاق بن إبراهيم الخنظلي يجمع بين هذه الأقوال فيقول أول من أسلم من الرجال أبو بكر الصديق رضي الله عنه ومن النساء خديجة، ومن الصبيان علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومن العبيد زيد بن حارثة.
قال ابن إسحاق: فلما أسلم أبو بكر رضي الله عنه أظهر إسلامه ودعا إلى الله وإلى رسوله وكان رجلاً محبباً سهلاً وكان أنسب قريش وأعلمها بما كان
__________
1ـ هو علي بن محمد بن حبيب أبو الحسن الماوردي من العلماء الباحثين، ومن أصحاب التصانيف الكثيرة ولد في البصرة سنة أربع وستين وثلاثمائة، وتوفي سنة خمسين وأربعمائة، انظر: ترجمته في تاريخ بغداد 12/102، شذرات الذهب 3/285-286، البداية والنهاية 12/87، وانظر: قوله في تفسيره 2/160.
2ـ زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 3/490-491.(1/119)
فيها وكان تاجراً ذا خلق ومعروف وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر لعلمه وحسن مجالسته فجعل يدعو إلى الإسلام من وثق به من قومه فأسلم على يديه عثمان بن عفان والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله فجاء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أسلموا وصلوا فكان هؤلاء الثمانية نفر الذين سبقوا إلى الإسلام ثم تتابع الناس في الدخول في الإسلام1.
وأما السابقون الأول من الأنصار: فهم أهل بيعة العقبة الأولى وكان عددهم ستة نفر وفي بعض الروايات أنهم ثمانية حتى إذا كان العام المقبل وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلاً2 وأهل بيعة العقبة الثانية كانوا سبعين رجلاً وامرأتين والذين أسلموا حين جاءهم من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو زرارة مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف وكان قد أرسله عليه الصلاة والسلام مع الاثنى عشر الذين قدموا عليه من العام المقبل بعد النفر الستة، أو الثمانية كما في بعض الروايات ليقرئهم القرآن ويفقههم في الدين3.
تلك هي أقوال العلماء في المراد بالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار بقي أن نعرف هنا القول الراجح من تلك الأقوال الستة المتقدمة، فالقول الراجح هو ما قرره شيخ الإسلام حيث قال بعد ذكره لقوله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} 4. قال رحمه الله تعالى: "وهذه الآية نص
__________
1ـ معالم التنزيل على حاشية تفسير الخازن 3/113-114، وانظر: تاريخ الأمم والملوك للطبري 2/309-318، أعلام النبوة للماوردي ص/283-284.
2ـ دلائل النبوة للبيهقي 2/434، البداية والنهاية لابن كثير 3/163-164.
3ـ انظر: الطبقات لابن سعد 1/219-223، السيرة النبوية لابن هشام 1/429-451، وتاريخ الأمم والملوك 1/354-365، الكامل 2/95-101، دلائل النبوة للبيهقي 2/430-457، الدر في اختصار المغازي والسير ص/38-44، البداية والنهاية 3/163-181، تفسير البيضاوي ص/266، تفسير الألوسي المسمى روح المعاني 11/7-8.
4ـ سورة الحديد آية/10.(1/120)
في تفضيل المنفقين المقاتلين قبل الفتح على المنفقين بعده ولهذا ذهب جمهور العلماء إلى أن السابقين في قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ} 1 هم هؤلاء الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا وأهل بيعة الرضوان كلهم منهم وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة وقد ذهب بعضهم إلى أن السابقين الأولين هم من صلى إلى القبلتين وهذا ضعيف، فإن الصلاة إلى القبلة المنسوخة ليس بمجرده فضيلة، ولأن النسخ ليس من فعلهم الذي يفضلون به ولأن التفضيل بالصلاة إلى القبلتين لم يدل عليه دليل شرعي كما دل على التفضيل بالسبق إلى الإنفاق والجهاد والمبايعة تحت الشجرة، ولكن فيه سبق الذين أدركوا ذلك على من لم يدركه كما أن الذين أسلموا قبل أن تفرض الصلوات الخمس هم سابقون على من تأخر إسلامه عنهم، والذين أسلموا قبل أن تجعل صلاة الحضر أربع ركعات هم سابقون على من تأخر إسلامه عنهم، والذين أسلموا قبل أن يؤذن في الجهاد أو قبل أن يفرض هم سابقون على من أسلم بعدهم والذين أسلموا قبل أن يفرض صيام شهر رمضان هم سابقون على من أسلم بعدهم، والذين أسلموا قبل أن يفرض الحج هم سابقون على من تأخر عنهم، والذين أسلموا قبل تحريم الخمر هم سابقون على من أسلم بعدهم، والذين قبل تحريم الربا كذلك فشرائع الإسلام من الإيجاب والتحريم كانت تنزل شيئاً فشئاً وكل من أسلم قبل أن تشرع شريعة فهو سابق على من تأخر عنه وله بذلك فضيلة، ففضيلة من أسلم قبل نسخ القبلة على من أسلم بعده هي من هذا الباب وليس مثل هذا ما يتميز به السابقون الأولون عن التابعين إذ ليس بعض هذه الشرائع أولى بمن يجعله خيراً من بعض ولأن القرآن والسنة قد دلا على تقديم أهل الحديبية فوجب أن تفسر هذه الآية بما يوافق سائر النصوص وقد علم بالاضطرار أنه كان في هؤلاء السابقين الأولين أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وبايع النبي بيده عن عثمان لأنه قد كان غائباً قد أرسله إلى أهل مكة ليبلغهم رسالته. أ.هـ2.
__________
1ـ سورة التوبة آية/100.
2ـ منهاج السنة 1/154-155، وانظر: شرح الطحاوية ص/530.(1/121)
فالقول الراجح في المراد بالسابقين الأولين هو هذا الذي قرره شيخ الإسلام ابن تيمية ويؤيده ما يلي:
1- ما رواه مسلم بإسناده إلى أبي سعيد قال: "كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء فسبه خالد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أحداً من أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه" 1.
فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول لخالد ونحوه: "لا تسبوا أصحابي" يعني عبد الرحمن بن عوف وأمثاله، لأن عبد الرحمن ونحوه هم السابقون الأولون، وهم الذين أسلموا قبل الفتح وقاتلوا، وهم أهل بيعة الرضوان. فهم أفضل وأخص بصحبته ممن أسلم بعد بيعة الرضوان وهم الذين أسلموا بعد الحديبية وبعد مصالحة النبي صلى الله عليه وسلم أهل مكة، ومنهم خالد بن الوليد، وهؤلاء أسبق ممن تأخر إسلامهم إلى فتح مكة، وسموا الطلقاء ... والمقصود أنه نهى من له صحبة آخراً أن يسب من له صحبة أولاً لامتيازهم عنهم من الصحبة بما لا يمكن أن يشركوهم فيه حتى لو أنفق أحدهم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه، فإذا كان هذا حال الذين أسلموا بعد الحديبية، وإن كانوا قبل فتح مكة فكيف حال من ليس من الصحابة بحال مع الصحابة رضي الله عنهم أجمعين2.
2- ما رواه مسلم أيضاً بإسناده إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ3 لقيه أهل الأجناد4 أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه فأخبروه أن الوباء5 قد وقع
__________
1ـ صحيح مسلم 4/1967.
2ـ شرح العقيدة الطحاوية ص/529-530.
3ـ سرغ: قرية في طرف الشام مما يلي الحجاز "شرح النووي" 14/208، وانظر النهابة في غريب الحديث 2/361.
4ـ المراد بالأجناد هنا مدن الشام الخمس: وهي فلسطين والأردن ودمشق وحمص وقنسرين "شرح النووي" 14/208.
5ـ الوباء: المراد به هنا: الطاعون: انظر: النهابة في غريب الحديث 5/144.(1/122)
بالشام. قال ابن عباس: فقال عمر: ادع لي المهاجرين الأولين فدعوتهم فاستشارهم وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام فاختلفوا. فقال بعضهم: قد خرجت لأمر ولا نرى أن ترجع عنه، وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء فقال: ارتفعوا عني ثم قال: ادع لي الأنصار فدعوتهم له فاستشارهم فسلكوا سبيل المهاجرين واختلفوا كاختلافهم فقال: ارتفعوا عني. ثم قال: ادع لي من كان هاهنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح فدعوتهم فلم يختلف عليه رجلان فقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء فنادى عمر في الناس أني مصبح1 على ظهر فأصبحوا عليه فقال أبو عبيدة بن الجراح أفراراً من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة. نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله ... الحديث2.
فعمر رضي الله عنه رتبهم في هذا الحديث حسب فضائلهم فبدأ أولاً بالسابقين الأولين من مهاجرين وأنصار وهم الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا وإلى مهاجرة "الفتح" وهم الذين أسلموا عام الفتح وهاجروا بعده فحصل لهم اسم الهجرة دون فضيلتها3.
وبهذين الحديثين السابقين تبين أن القول الراجح من المراد بالسابقين الأولين هم الذين: أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، ويدخل فيهم أهل بيعة الرضوان جميعاً الذين بلغ عددهم أكثر من ألف وأربعمائة كما تقدم، ومعنى كونهم سابقين أنهم أولون بالنسبة إلى سائر المسلمين وأولئك السابقون الأولون كانوا فريقين فريق المهاجرين، وفريق الأنصار، وسأذكر الآن طرفاً من فضائل كل فريق من الكتاب والسنة، وأبدأ بفريق المهاجرين لأن أهل السنة والجماعة يقدمون المهاجرين على
__________
1ـ مصبح على ظهر: أني مسافر راكب على ظهر الراحلة راجع إلى وطني فأصبحوا عليه وتأهبوا له "شرح النووي" 14/210.
2ـ صحيح مسلم 4/1740.
3ـ انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 14/209.(1/123)
الأنصار ويفضلونهم من وجوه:
أولها: أنهم هم السابقون في الإيمان الذي هو رئيس الفضائل وعنوان المناقب.
وثانيها: أنهم تحملوا العناء والمشقة دهراً دهيراً، وزماناً مديداً من كفار قريش وصبروا عليه وهذه الحال ما حصلت للأنصار.
وثالثها: أنهم تحملوا المضار الناشئة من مفارقة الأوطان والأهل والجيران ولم يحصل ذلك للأنصار.
ورابعها: أن فتح الباب في قبول الدين والشريعة من الرسول عليه الصلاة والسلام إنما حصل من المهاجرين، والأنصار اقتدوا بهم وتشبهوا بهم وقد قال عليه الصلاة والسلام: "من سنَّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة"1. فوجب أن يكون المقتدي أقل مرتبة من المقتدى به فجملة هذه الأحوال توجب تقديم المهاجرين الأولين على الأنصار في الفضل والدرجة والمنقبة ولهذا نجد القرآن الكريم كلما تعرض لذكر المهاجرين والأنصار قدم المهاجرين على الأنصار2.
وإلى ما جاء في فضل المهاجرين الأولين رضي الله عنهم وقبل أن نذكر طائفة من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي وردت في بيان فضل المهاجرين نسبق ذلك ببيان المراد "بالهجرة" فنقول:
أصل الهجرة: الترك والمراد ترك الوطن3 والهجرة إلى الشيء الانتقال إليه عن غيره، وفي الشرع ترك ما نهى الله عنه، وقد وقعت في الإسلام على وجهين:
__________
1ـ رواه أحمد في المسند 4/353، من حديث جرير بن عبد الله عن أبيه.
2ـ التفسير الكبير للفخر الرازي 15/209.
3ـ شرح النووي على صحيح مسلم 13/54-55، وانظر: بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز 5/304، لسان العرب 5/250 وما بعدها.(1/124)
الأول: الانتقال من دار الخوف إلى دار الأمن كما في هجرتي الحبشة، وابتداء الهجرة من مكة إلى المدينة.
الثاني: الهجرة من دار الكفر إلى دار الإيمان وذلك بعد أن استقر النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهاجر إليه من أمكنه من المسلمين، وكانت الهجرة إذ ذاك تختص بالانتقال إلى المدينة إلى أن فتحت مكة فانقطع الاختصاص وبقي عموم الانتقال من دار الكفر لمن قدر عليه باقياً1.
ولقد ورد الثناء في كثير من الآيات القرآنية على المهاجرين الذين تركوا دورهم ومنازلهم كراهة البقاء بين المشركين وفي سلطانهم حيث لا يأمنون فتنتهم على أنفسهم في ديارهم فهاجروا إلى بلد الإيمان الذي يأمنون فيه على أنفسهم من فتنة المشركين وليستعدوا لجهاد المشركين لنصرة دين الله ورسوله وليدخلوا المشركين في دين الله حتى يلتزموا بما يرضيه ـ سبحانه وتعالى ـ فمن الثناء الذي جاء في حق السابقين من المهاجرين من الآيات القرآنية ما يلي:
1- قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 2 فهذه الآية الكريمة تضمنت مدح المهاجرين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم صدقوا بالله وبرسوله وبما جاء به وأنهم هجروا مساكنة المشركين في أمصارهم ومجاورتهم في ديارهم فتحولوا عنهم وعن جوارهم وبلادهم إلى غيرها هجرة لما انتقل عنه إلى ما انتقل إليه ... وحاربوا في دين الله ليدخلوا أهل الكفر فيه وفيما يرضي الرب ـ جل وعلا ـ ثم وصفهم في ختام الآية أنهم يطمعون في رحمة الله إياهم لكي يدخلوا الجنة بفضله ـ سبحانه ـ ثم بين ـ تعالى ـ أنه ساتر ذنوب عباده بعفوه عنها متفضل عليهم برحمته التي وسعت كل شيء3.
__________
1ـ فتح الباري 1/16، وانظر بصائر ذوي التمييز للفيروزأبادي 5/305.
2ـ سورة البقرة آية/218.
3ـ جامع البيان 2/355، وانظر: تفسير البغوي على حاشية الخازن 1/174.(1/125)
قال قتادة ـ رحمه الله تعالى ـ: "أثنى الله على أصحاب نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أحق الثناء فقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} هؤلاء خيار هذه الأمة، ثم جعلهم الله أهل رجاء كما تسمعون وأنه من رجا طلب، ومن خاف هرب1 وقد أخبر تعالى أنه جعل جزاء الذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيله وقاتلوا وقتلوا تكفير سيئاتهم وإدخالهم جنات تجري تحتها الأنهار.
2- قال تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} 2. وهذه الآية الكريمة فيها بيان لفضل أولئك المهاجرين من الصحابة ذكوراً وإناثاً الذين تركوا دار الشرك وأتوا إلى دار الإيمان، وفارقوا الأحباب والإخوان، والخلان والجيران بعد أن ضايقهم المشركون بالأذى حتى ألجؤوهم إلى الخروج من بين أظهرهم ولهذا قال: {وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي} أي: إنما كان ذنبهم إلى الناس أنهم آمنوا بالله وحده كما قال تعالى: {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ} 3.
وهذا من أعلى المقامات أن يقاتل ـ العبد ـ في سبيل الله فيعقر جواده ويعفر وجهه بدمه وترابه، وقد ثبت في صحيح مسلم أن رجلاً قال: يا رسول الله أرأيت إن قتلت في سبيل الله يكفر عني خطاياي؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم، إن قتلت في سبيل الله وأنت صابر محتسب 4 مقبل غير مدبر"، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف قلت؟ " قال أرأيت إن قتلت في سبيل الله أتكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر إلا الدين فإن جبريل
__________
1ـ جامع البيان 2/356، الدر المنثور للسيوطي 1/605.
2ـ سورة آل عمران آية/195.
3ـ سورة الممتحنة آية/1.
4ـ المحتسب: هو المخلص لله تعالى.(1/126)
عليه السلام قال لي ذلك" 1 ولهذا قال تعالى: {لأكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي: تجري في خلالها الأنهار من أنواع المشارب من لبن وعسل وخمر وماء غير آسن وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وقوله: {ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} أضافه إليه ونسبه إليه ليدل على أنه عظيم لأن العظيم الكريم لا يعطي إلا جزيلاً كثيراً2 وهذا النعيم المذكور يتنعم به المؤمنون في الجنة وفي صدارتهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم.
3- قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 3. هذه الآية الكريمة اشتملت على ثناء رفيع وفضل عظيم للسابقين الأولين من المهاجرين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان وهذا الفضل الذي تضمنته هذه الآية هو أن الله تعالى رضي عنهم ورضوا عنه وهيأ لهم جنات تجري تحتها الأنهار وقضى لهم بالخلود الأبدي الذي لا يعتريه فناء أو زوال إنه لفوز أيما فوز إنه المقام الرفيع الذي لا يصل إلى درجتهم فيه إنسان أتى بعدهم. قال ابن جرير رحمه الله تعالى: عند هذه الآية الآنفة الذكر يقول تعالى ذكره والذين سبقوا الناس أولى إلى الإيمان بالله ورسوله من المهاجرين الذين هاجروا قومهم وعشيرتهم، وفارقوا منازلهم وأوطانهم، والأنصار الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أعدائه من أهل الكفر بالله ورسوله والهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام طلب رضا الله ... {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} أي: رضي الله عن جميعهم لما أطاعوه وأجابوا نبيه إلى ما دعاهم إليه من أمره ونهيه، ورضي عنه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان لما أجزل لهم من الثواب على طاعتهم إياه وإيمانهم به وبنبيه عليه الصلاة والسلام وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار يدخلونها خالدين فيها لابسين فيها أبداً
__________
1ـ صحيح مسلم 3/1501 من حديث أبي قتادة.
2ـ انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2/182.
3ـ سورة التوبة آية/100.(1/127)
لا يموتون فيها ولا يخرجون منها ذلك الفوز العظيم"أ. هـ1.
وقال الإمام البغوي رحمه الله تعالى: "قوله ـ عز وجل ـ {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ} الذين هاجروا قومهم وعشيرتهم وفارقوا أوطانهم، {وَالأَنْصَارِ} أي: ومن الأنصار هم الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أعدائه من أهل المدينة وآووا أصحابه {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} قيل: بقية المهاجرين والأنصار سوى السابقين الأولين، وقيل: هم الذين سلكوا سبيلهم بالإيمان والهجرة، أو النصرة إلى يوم القيامة. وقال عطاء2: هم الذين يذكرون المهاجرين والأنصار بالترحم والدعاء، وقال أبو صخر حميد بن زياد3: أتيت محمد بن كعب القرظي فقلت له: ما قولك في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وأردت الفتن ـ فقال: جميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة محسنهم ومسيئهم فقلت من أين تقول هذا، فقال اقرأ قول الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ} إلى أن قال: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} وقال: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} شرط في التابعين شريطة وهي أن يتبعوهم في أفعالهم الحسنة دون السيئة قال أبو صخر: فكأني لم أقرأ هذه الآية قط"أ. هـ4.
وقال العلامة ابن كثير: عند قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ} الآية "يخبر تعالى عن رضاه عن السابقين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان ورضاهم عنه بما أعد لهم من جنات النعيم، والنعيم المقيم ... فيا ويل من أبغضهم، أو سبهم، أو أبغض أو سب بعضهم ولا سيما
__________
1ـ جامع البيان عن تأويل آي القرآن 11/6، 9.
2ـ هو عطاء بن أسلم بن صفوان تابعي من أجلاء الفقهاء ولد في جند باليمن ونشأ بمكة فكان مفتي أهلها ومحدثهم، ولد سنة سبعة وعشرين وتوفي سنة أربعة عشرة ومائة هجرية، انظر: ترجمته في تذكرة الحفاظ 1/98، تهذيب التهذيب 7/199-203، صفوة الصفوة 2/211.
3ـ هو حميد بن زياد أبو صخر بن أبي المخارق الخراط صاحب العباء مدني سكن مصر ... صدوق يهم من السادسة، توفي سنة 89، التقريب 1/202، التهذيب 3/41.
4ـ تفسير البغوي المسمى معالم التنزيل على حاشية تفسير الخازن 3/114.(1/128)
سيد الصحابة بعد الرسول وخيرهم وأفضلهم أعني الصديق الأكبر والخليفة الأعظم أبا بكر بن أبي قحافة رضي الله عنه، فإن الطائفة المخذولة من الرافضة يعادون أفضل الصحابة ويبغضونهم ويسبونهم عياذاً بالله من ذلك، وهذا يدل على أن عقولهم معكوسة وقلوبهم منكوسة فأين هؤلاء من الإيمان بالقرآن إذ يسبون من رضي الله عنهم؟ وأما أهل السنة فإنهم يترضون عمن رضي الله عنه ويسبون من سبه الله ورسوله، ويوالون من يوالي الله ويعادون من يعادي الله وهم متبعون لا مبتدعون ويقتدون ولا يبتدئون وهؤلاء هم حزب الله المفلحون وعباده المؤمنون"أ. هـ1.
4- قال تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} 2.
في هذه الآيات شهادة من الله تعالى لأصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم الذين آمنوا بالله وهاجروا وجاهدوا في سبيله بأموالهم وأنفسهم بالفوز وعظيم الدرجات، وبشرهم ـ سبحانه ـ برحمة منه ورضوان، وبالنعيم المقيم الأبدي الذي لا يبيد ولا يفنى وهذا من أعظم البشارات، ومن أسمى الغايات التي يرجوها المؤمنون من ربهم ـ جل وعلا ـ.
وقد جاء في سبب النزول ما رواه مسلم بإسناده إلى النعمان بن بشير قال: كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل: ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج. وقال آخر: ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما
__________
1ـ تفسير القرآن العظيم 3/444-445.
2ـ التوبة آية / 19-22.(1/129)
قلتم فزجرهم عمر وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوم الجمعة ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيته فيما اختلفتم فيه فأنزل الله ـ عز وجل ـ: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} الآية إلى آخرها1.
وهذا السبب وإن كان خاصاً فالعبرة فيه بعموم اللفظ فهي في جميع الصحابة الذين اتصفوا بالصفات المذكورة التي هي: الإيمان والهجرة والجهاد وقد تميزوا رضي الله عنهم بسعادة الدارين وقد أكد ـ سبحانه ـ فوزهم بقوله ـ جل وعلا ـ {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ} والبشارة الخبر السار الذي يفرح الإنسان عند سماعه وتستنير بشرة وجهه والخبر الذي بشرهم به هو قوله: {بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ} وهذا من أعظم البشارات وأعلاها.
5- قال تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} 2. وهذه الآية فيها الثناء على المهاجرين الذين فارقوا قومهم وديارهم، وأوطانهم عداوة لهم في الله على كفرهم إلى آخرين غيرهم، وكانت هجرتهم بعد ما نيل منهم في أنفسهم بالمكاره في ذات الله ظلماً وعدواناً، ثم وعدهم الله بأن يسكنهم في الدنيا مسكناً صالحاً يرضونه مع ما ينتظرهم من الأجر العظيم والثواب الجزيل في دار النعيم.
روى ابن جرير بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} قال: هم قوم هاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل مكة بعد ظلمهم، وظلمهم المشركون وقال قتادة رحمه الله تعالى: "هؤلاء أصحاب محمد ظلمهم أهل مكة فأخرجوهم من ديارهم حتى لحق بهم طوائف منهم بالحبشة، ثم بوأهم الله المدينة بعد ذلك فجعلها لهم دار
__________
1ـ صحيح مسلم 4/1499، وأحمد في المسند 4/269.
2ـ سورة النحل آية/41.(1/130)
هجرة وجعل لهم أنصاراً من المؤمنين، وقال عامر بن شراحيل الشعبي: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} قال: المدينة1.
وقال الحافظ ابن كثير عند هذه الآية المتقدمة: " يخبر تعالى عن جزائه للمهاجرين في سبيله ابتغاء مرضاته الذين فارقوا الدار والإخوان والخلان رجاء ثواب الله، وجزائه، ويحتمل أن يكون سبب نزولها في مهاجرة الحبشة ليتمكنوا من عبادة ربهم، ومن أشرافهم عثمان بن عفان ومعه زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعفر بن أبي طالب بن عم الرسول، وأبو سلمة بن عبد الأسود في جماعة قريب من ثمانين ما بين رجل وامرأة صديق وصديقة رضي الله عنهم وأرضاهم وقد فعل فوعدهم تعالى بالمجازاة الحسنة في الدنيا والآخرة فقال: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} قال ابن عباس والشعبي وقتادة: المدينة، وقيل: الرزق الطيب قال مجاهد: ولا منافاة بين القولين، فإنهم تركوا مساكنهم وأموالهم فعوضهم الله خيراً منها في الدنيا، فإن من ترك شيئاً لله عوضه الله بما هو خير له منه، وكذلك وقع فإنهم مكنّ الله لهم في البلاد، وحكمهم على رقاب العباد، وصاروا أمراء حكاماً وكل منهم للمتقين إماماً وأخبر أن ثوابه للمهاجرين في الدار الآخرة أعظم مما أعطاهم في الدنيا فقال: {وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ} أي: مما أعطيناهم في الدنيا {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} أي: لو كانوا المتخلفون عن الهجرة معهم يعلمون ما ادخر الله لمن أطاعه واتبع رسوله ولهذا قال: هشيم عن العوام عمن حدثه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاءه يقول: خذ بارك الله لك فيه، هذا ما وعدك الله في الدنيا، وما ادخر لك في الآخرة أفضل ثم قرأ هذه الآية: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} أ. هـ2.
__________
1ـ جامع البيان 14/106-107، وانظر: الدر المنثور للسيوطي 5/131.
2ـ تفسير القرآن العظيم 4/196.(1/131)
6- قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} 1.
قال ابن جرير رحمه الله تعالى: "وقوله: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} وهم الزوج الثالث وهم الذين سبقوا إلى الإيمان بالله ورسوله وهم المهاجرون الأولون"2.
وقال البغوي رحمه الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} قال ابن عباس رضي الله عنه: السابقون إلى الهجرة هم السابقون في الآخرة.
وقال عكرمة3: السابقون إلى الإسلام وقال محمد بن سيرين: هم الذين صلوا إلى القبلتين دليله قوله: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ} وقال الربيع بن أنس: السابقون إلى إجابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدنيا هم السابقون إلى الجنة في العقبى"4 وكل هذه الأوصاف منطبقة على السابقين الأولين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم المسارعون لفعل كل خير لا يمكن أن يسبقهم فيه أحد جاء بعدهم فهم السابقون إلى الهجرة، والسابقون إلى الإسلام، وإلى الصلاة إلى القبلتين، وإلى إجابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى كل عمل يقرب إلى الجنة ويباعد عن النار.
7- وقال تعالى منوهاً بفضل المنفقين والمقاتلين لأعداء الله من قبل الفتح من السابقين الأولين: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ
__________
1ـ سورة الواقعة آية/10-11.
2ـ جامع البيان 27/170.
3ـ هو عكرمة بن عبد الله البربري المدني أبو عبد الله مولى عبد الله بن عباس تابعي كان من أعلم الناس بالتفسير والمغازي، ولد سنة خمس وعشرين وتوفي سنة خمس ومائة هجرية تهذيب التهذيب 7/263، حلية الأولياء 3/326، وميزان الاعتدال 3/93.
4ـ معالم التنزيل على حاشية الخازن 7/13.(1/132)
الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} 1.
فقد ذكر الله تعالى في هذه الآية أن من أنفق من قبل الفتح وقاتل أعظم درجة وأعلى منزلة ممن أنفق بعد ذلك ثم وعد ـ سبحانه ـ الجميع بعد ذلك بالحسنى: أي: المنفقين قبل الفتح وبعده وإن كان بينهم تفاوت في تفاضل الجزاء والحسنى هي الجنة.
وقد اختلف المفسرون في المقصود: "بالفتح" في هذه الآية: فقال بعضهم: معناه لا يستوي منكم أيها الناس من آمن قبل فتح مكة وهاجر.
وقال مجاهد2: في قوله: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} قال: آمن فأنفق يقول: من هاجر ليس كمن لم يهاجر.
وقال آخرون: عنى بالفتح فتح مكة، وبالنفقة: النفقة في جهاد المشركين قال قتادة: كان قتالان أحدهما أفضل من الآخر، وكانت نفقتان إحداهما أفضل من الأخرى كانت النفقة والقتال من قبل الفتح "فتح مكة" أفضل من النفقة والقتال بعد ذلك.
وقال آخرون: عنى بالفتح في هذا الموضع صلح الحديبية. والقائلون بهذا استدلوا عليه بما أخرجه ابن جرير الطبري بإسناده إلى أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية: "يوشك أن يأتي قوم تحقرون أعمالكم مع أعمالهم" قلنا: من هم يا رسول الله أقريش هم؟ قال: لا ولكن أهل اليمن أرق أفئدة وألين قلوباً" فقلنا: هم خير منا يا رسول الله فقال: لو كان
__________
1ـ سورة الحديد آية/10.
2ـ هو مجاهد بن جبر أبو الحجاج المكي مولى بني مخزوم تابعي مفسر من أهل مكة أخذ التفسير عن ابن عباس قرأه عليه ثلاث مرات، ولد سنة إحدى وعشرين وتوفي سنة أربعة ومائة هجرية، انظر: ترجمته في طبقات ابن سعد 5/466، حلية الأولياء 3/279، سير أعلام النبلاء 4/449-457.(1/133)
لأحدهم جبل من ذهب فأنفقه ما أدرك مد أحدكم ولا نصيفه ألا إن هذا فصل ما بيننا وبين الناس {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ} الآية " وهذا القول رجحه ابن جرير مستدلاً بهذا الحديث.
وقال رحمه الله تعالى عند قوله ـ عز وجل ـ في الآية: {أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} : يقول تعالى ذكره: "هؤلاء الذين أنفقوا في سبيل الله من قبل فتح الحديبية وقاتلوا المشركين أعظم درجة في الجنة عند الله من الذين أنفقوا من بعد ذلك وقاتلوا وقوله: {وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} يقول تعالى ذكره: وكل هؤلاء الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا والذين أنفقوا من بعد وقاتلوا، وعد الله الجنة بإنفاقهم في سبيله وقتالهم أعداءه"أ. هـ1.
وقال أبو محمد بن حزم: "الصحابة كلهم من أهل الجنة قطعاً قال الله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} 2، فثبت أن الجميع من أهل الجنة وأنه لا يدخل أحد منهم النار لأنهم مخاطبون بالآية السابقة، فإن قيل التقييد بالإنفاق والقتال يخرج من لم يتصف بذلك وكذلك التقييد بالإحسان في الآية التي تقدمت قريباً وهي قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} 3 الآية يخرج من لم يتصف بذلك وهي من أصرح ما وردت في المقصود ولهذا قال المازري4 في شرح البرهان: "لسنا نعني بقولنا الصحابة عدول كل من رآه صلى الله عليه وسلم يوماً أو زاره لماما أو اجتمع به لغرض
__________
1ـ جامع البيان 27/219-221.
2ـ سورة الأنبياء آية /101.
3ـ سورة التوبة آية/100.
4ـ هو محمد بن علي بن عمر التميمي المازري أبو عبد الله، محدث من علماء المالكية نسبته إلى مازر بجزيرة صقلية، ولد سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة وتوفي سنة ست وثلاثين وخمسمائة، انظر ترجمته في: العبر 2/451، شذرات الذهب 4/114، الأعلام 7/164.(1/134)
وانصرف عن كثب وإنما نعني به الذين لازموه وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون" انتهى. وعقب الحافظ ابن حجر على هذا القول فقوله: والجواب عن ذلك أن التقييدات المذكورة خرجت مخرج الغالب وإلا فالمراد من اتصف بالإنفاق والقتال بالفعل أو القوة وأما كلام المازري فلم يوافق عليه بل اعترضه جماعة من الفضلاء"أ. هـ1.
وقال عماد الدين بن محمد الطبري المعروف "بالكياالهراسي" عند قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} : عنى به فتح الحديبية ودلّ به على أن فضيلة العمل على قدر رجوع منفعته إلى الإسلام والمسلمين أو لكثرة المحنة به لقلة المسلمين وكثرة الكفار وهو مثل قوله تعالى: {الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} 2.
8- قال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} 3.
وهذه الآية تضمنت الثناء على المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وتركوا أموالهم ابتغاء فضل الله ورضوانه، ورغبة في نصرة الله ورسوله، وشهد الله لهم بالصدق في ختام هذه الآية، وأكرم بها من شهادة فإن فيها تزكية لهم من رب العالمين.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: "يقول تعالى مبيناً حال الفقراء المستحقين لمال الفيء أنهم {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً} أي: خرجوا من ديارهم وخالفوا قومهم ابتغاء مرضاة الله
__________
1ـ الإصابة 1/19.
2ـ أحكام القرآن للكيا الهراسي 4/401، والآية رقم 117 من سورة التوبة.
3ـ سورة الحشر آية/8.(1/135)
ورضوانه: {وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} أي: هؤلاء الذين صدقوا قولهم بفعلهم وهؤلاء هم سادات المهاجرين"أ. هـ1.
وفي كل ما تقدم من الآيات القرآنية دلالات واضحات على فضل السابقين الأولين من المهاجرين رضوان الله عليهم أجمعين، وكما دل القرآن على فضلهم كذلك دلت السنة على أن السابقين الأولين من المهاجرين لهم قدم صدق عند ربهم وفضل عظيم ينالونه جزاء نصرتهم دين الإسلام وقد وردت مناقبهم في أحاديث كثيرة ومنها ما يلي:
1- من مناقبهم الواردة في السنة أن الرسول صلى الله عليه وسلم بين أن الهجرة سبب من أسباب المغفرة فقد روى الإمام مسلم في صحيحه بإسناده إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن الطفيل بن عمرو الدوسي أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هل لك في حصن ومنعة "قال حصن كان لدوس في الجاهلية" فأبى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم للذي ذخر الله للأنصار فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة هاجر إليه الطفيل بن عمرو وهاجر معه رجل من قومه فاجتووا المدينة فمرض فجزع فأخذ مشاقص2 له فقطع بها براجمه3 فشخبت4 يداه حتى مات فرآه الطفيل بن عمرو في منامه فرآه وهيئته حسنة ورآه مغطياً يديه فقال له: ما صنع بك ربك فقال: غفر لي بهجرتي إلى نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: مالي أراك مغطياً يديك؟ قال: قيل: لي لن نصلح ما أفسدت فقصها الطفيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم وليديه فاغفر" 5.
__________
1ـ تفسير القرآن العظيم 6/605.
2ـ مشاقص: قال في النهاية: المشقص نصل السهم إذا كان طويلاً غير عريض 2/490.
3ـ براجمه: الواحدة برجمة بالضم وهي: العقد التي في ظهور الأصابع يجتمع فيها الوسخ. النهاية 1/113.
4ـ فتشخبت: الشخب السيلان. النهاية 2/450 والمراد سال دمه حتى مات.
5ـ صحيح مسلم 1/108-109، المسند 3/370-371، ورواه الحاكم في المستدرك 4/76 ثم قال عقبه: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وهذا وهم منه رحمه الله تعالى فقد أخرجه مسلم كما ترى.(1/136)
1- ومن مناقبهم التي وردت في السنة عن المصطفى عليه الصلاة والسلام أن فقراء المهاجرين هم أول من يعبر الصراط إلى الجنة وأنهم يدخلونها قبل الأغنياء بأربعين سنة: فقد روى الإمام مسلم في صحيحه بإسناده إلى أبي أسماء الرحبي أن ثوبان مولى رسول الله حدثه قال: قال: كنت قائماً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء حبر1 من أحبار اليهود فقال: السلام عليك يا محمد فدفعته دفعة كاد يصرع منها فقال: لم تدفعني؟ فقلت: ألا تقول يا رسول الله فقال اليهودي: إنما ندعوه باسمه الذي سماه به أهله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن اسمي محمد الذي سماني به أهلي" فقال اليهودي: جئت أسألك فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أينفعك شيء إذا حدثتك؟ " قال: أسمع بأذني فنكت2 رسول الله صلى الله عليه وسلم بعود معه فقال: " سل" فقال اليهودي: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هم في الظلمة دون الجسر"3 قال: فمن أول الناس إجازة4 قال: "فقراء المهاجرين" قال فما تحفتهم5 حين يدخلون الجنة؟ قال: "زيادة كبد النون"6 قال: فما غذاؤهم على أثرها قال: "ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها" قال: فما شرابهم عليه؟ قال: "من عين فيها تسمى سلسبيلا" 7 قال: صدقت. الحديث8.
وروى أيضاً بإسناده إلى عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة إلى
__________
1ـ الحبر: هو العالم، النهاية في غريب الحديث 1/228
2ـ النكت: هو الضرب في الأرض بعود أو حديدة أو غير ذلك، انظر: النهاية 5/113.
3ـ الجسر: هو الشيء المتخذ للعبور عليه. انظر النهاية 1/272، والمراد هنا الصراط.
4ـ الإجازة: هنا بمعنى العبور والجواز.
5ـ التحفة: طرفة الفاكهة، والجمع التحف ثم تستعمل في غير الفاكهة. النهاية 1/182.
6ـ قال في النهاية: كبد كل شيء وسطه 4/139، والمراد بالنون الحوت.
7ـ السلسبيل: اسم للعين وقال مجاهد وغيره هي شديدة الجري انظر: جامع البيان 29/218.
8ـ صحيح مسلم 1/252.(1/137)
الجنة بأربعين خريفاً". 1
3- ومن مناقبهم الدالة على عظيم شأنهم وعلو قدرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن المهاجرين الأولين فازوا بفضل الهجرة، وظفروا بالأجر العظيم، والثواب الجزيل. روى الإمام البخاري بإسناده إلى مجاشع بن مسعود رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بأخي بعد الفتح فقلت: يا رسول الله جئتك بأخي لتبايعه على الهجرة قال: "ذهب أهل الهجرة بما فيها". 2
4- ومن الأحاديث الواردة في بيان عظم شأن المهاجرين الأولين أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن الهجرة فيها عبء شديد ولا يصبر على ذلك إلا من وفقه الله، وقد وفق الله لتحمل ذلك والصبر عليه أولئك الأتقياء الأخيار من صحابة رسول الله صل الذين خرجوا من مكة ومن جاء من بلد آخر مخاجراً إلى الله ورسوله وظفر بشرف الصحبة فقد روى الشيخان من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن أعرابيا سأل رسول الله عن الهجرة فقال: "ويحك إن شأن الهجرة لشديد فهل لك من إبل؟ قال: نعم قال: "فهل تؤدي صدقتها؟ قال: نعم قال: "فاعمل من وراء البحار 3، فإن الله لن يترك من عملك شيئاً". 4
والمراد بالهجرة التي سأل عنها هذا الأعرابي ملازمة المدينة مع النبي صلى الله عليه وسلم وترك أهله ووطنه فخاف عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يقوى لها ولا يقوم بحقوقها وأن ينكص على عقبيه فقال له: إن شأن الهجرة التي سألت عنها لشديد ولكن اعمل بالخير في وطنك وحيث ما كنت فهو ينفعك ولا ينقصك الله منه شيئاً"أ. هـ5.
__________
1ـ صحيح مسلم 4/2285.
2ـ صحيح البخاري 3/65.
3ـ المراد: بالبحار هنا: القرى والعرب تسمي المدن والقرى البحار والقرية البحيرة أنظر: النهاية في غريب الحديث والأثر 1/100.
4ـ صحيح البخاري 1/252، صحيح مسلم 3/1488.
5ـ شرح النووي على صحيح مسلم 13/9.(1/138)
5- ومن مناقب المهاجرين الأولين أنه صلى الله عليه وسلم وصى بهم وبأبنائهم من بعدهم خيراً فقد روى الطبراني في الأوسط والبزار من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: لما حضرت النبي صلى الله عليه وسلم الوفاة قالوا: يا رسول الله أوصنا قال: أوصيكم بالسابقين الأولين من المهاجرين وبأبنائهم من بعدهم إلا تفعلوه لا يقبل منكم صرف ولا عدل" قال الهيثمي رواه الطبراني في الأوسط والبزار، إلا أنه قال: "أوصيكم بالسابقين الأولين وبأبنائهم من بعدهم" ورجاله ثقات1 وقد بين أهل العلم أن المراد: بالصرف التوبة وقيل النافلة. والمراد بالعدل: الفدية، وقيل: الفريضة2 فالذي لم يحفظ وصية النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه المهاجرين باعتقاد ما يجب لهم من المحبة والاحترام والاعتراف بفضلهم وسابقتهم فإنه على حالة خطيرة ويكون مآله إلى شر والعياذ بالله، ومن الذي يرضى لنفسه بعدم قبول فريضته ونافلته؟ اللهم إلا من رضي لها في الدنيا بالخذلان وفي الآخرة بنهاية الخسران أعاذنا الله من ذلك.
وقد بين عليه الصلاة والسلام أن الهجرة لا يعدلها شيء في الثواب.
فقد روى الإمام النسائي بإسناده إلى كثير بن مرة أن أبا فاطمة حدثه أنه قال: يا رسول الله حدثني بعمل أستقيم عليه وأعمله قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليك بالهجرة فإنه لا مثل لها".3
ولما في الهجرة من الفضل العظيم، والثواب الجزيل حرص عليه الصلاة والسلام على عدم انقطاع الهجرة للمهاجرين من الصحابة ولذلك دعا الله ـ عز وجل ـ أن يتم هجرتهم كما في حديث سعد بن أبي وقاص عندما مرض في حجة الوداع وفيه: "..أنه قال: قلت: يا رسول الله أخلف بعد أصحابي قال: "إنك
__________
1ـ مجمع الزوائد 10/17.
2ـ انظر: النهاية في غريب الحديث 3/190، المفردات في غريب القرآن ص/326.
3ـ سنن النسائي 7/145.(1/139)
لن تخلف فتعمل عملاً تبتغي به وجه الله إلا ازددت به درجة ورفعة ولعلك تخلف حتى ينفع بك أقوام ويضر بك آخرون. اللهم امض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم ... ". الحديث.1
فهذا الحديث اشتمل على منقبة للمهاجرين من مكة إلى المدينة وغيرها حيث دعا لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "دعاء عاماً ومعنى: أمض لأصحابي هجرتهم أي: أتمها ولا تبطلها ولا تردهم على أعقابهم بترك هجرتهم ورجوعهم عن مستقيم حالهم المرضية".2
وقال العيني: " اللهم أمض" بقطع الهمزة يقال: أمضيت الأمر أي: أنفذته أي: تممها لهم ولا تنقصها عليهم فيرجعون عن المدينة قوله: "ولا تردهم على أعقابهم" أي: بترك هجرتهم ورجوعهم عن مستقيم حالهم المرضية فيخيب قصدهم ويسوء حالهم ويقال: لكل من رجع إلى حال دون ما كان عليه رجع على عقبيه وحار ومنه الحديث: "أعوذ بك من الحور بعد الكور ".3
والحاصل مما تقدم من الآيات والأحاديث الواردة في فضل السابقين من المهاجرين أنها اشتملت على مناقب عالية، وعلى مدح عظيم لأولئك المهاجرين الذين تركوا ديارهم وأموالهم وخرجوا مهاجرين إلى الله ورسوله لنصرة دين الإسلام الحنيف فرضي الله عنهم أجمعين ولنأت الآن إلى ما ورد من الثناء في القرآن الكريم والسنة المطهرة على الفريق الثاني من السابقين وهم أنصار الإسلام وكتيبة الإيمان من الأوس والخزرج، وقبل أن أذكر ما جاء من الثناء عليهم في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أبين معنى كلمة "الأنصار"
__________
1ـ صحيح البخاري 1/225، صحيح مسلم 3/1250-1251 واللفظ له.
2ـ انظر شرح النووي على صحيح مسلم 11/76.
3ـ عمدة القاري شرح صحيح البخاري 8/90 والحديث رواه ابن ماجه 2/1279، ورواه الترمذي في سننه 5/161، ورواه الإمام أحمد في مسنده 5/28، وعند مسلم في صحيحه 2/979 بلفظ: والحور بعد الكون "الكلمة الثانية بالنون".(1/140)
فالأنصار: جمع ناصر كأصحاب وصاحب، أو جمع نصير كأشراف وشريف واللام فيه للعهد أي: أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد الأوس والخزرج وكانوا قبل ذلك يعرفون بابني قيلة بقاف مضمومة وياء تحتانية ساكنة وهي الأم التي تجمع القبيلتين فسماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار، فصار ذلك علماً عليهم وأطلق أيضاً: على أولادهم وحلفائهم ومواليهم وخصوا بهذه المنقبة العظمى لما فازوا به دون غيرهم من القبائل من إيواء النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه والقيام بأمرهم ومواساتهم بأنفسهم وأموالهم وإيثارهم إياهم في كثير من الأمور على أنفسهم1.
وقد كثر الثناء على الأنصار في الكتاب العزيز والسنة النبوية المطهرة فمن الثناء عليهم في الكتاب العزيز ما يلي:
1- قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} 2.
2- وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} 3.
ففي هاتين الآيتين وصف الله الأنصار بأنهم آووا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المهاجرين، وأنهم نصروه عليه الصلاة والسلام بقتالهم معه أهل الكفر والضلال وبين الله تعالى أن الأنصار والمهاجرين بعضهم أولياء بعض فالنصرة والمساعدة، ثم ختم الله الآيتين بحكم يشمل المهاجرين والأنصار وهو قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} فقد حكم الله لهم بأنهم أهل الإيمان بالله ورسوله حقاً وأن لهم ستراً من الله على ذنوبهم بعفوه لهم عنها
__________
1ـ فتح الباري 1/63.
2ـ سورة الأنفال آية/72.
3ـ سورة الأنفال آية/74.(1/141)
وأن لهم في الجنة مطعماً ومشرباً هنياً كريماً لا يتغير في أجوافهم فيصير نجواً ولكنه يصير رشحاً كرشح المسك".1
قال البغوي رحمه الله تعالى في تفسيره: {وَالَّذِينَ آوَوْا} "نبي الله صلى الله عليه وسلم والمهاجرين معه أي: أسكنوهم منازلهم {وَنَصَرُوا} أي: نصروهم على أعدائهم وهم الأنصار رضي الله عنهم: {أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} ". دون أقربائهم قيل: في العون والنصرة، وقال ابن عباس في الميراث وكانوا يتوارثون بالهجرة فكان المهاجرون والأنصار يتوارثون دون ذوي الأرحام وكان من آمن ولم يهاجر لا يرث من قريبه المهاجر حتى كان فتح مكة انقطعت الهجرة وتوارثوا بالأرحام حيث ما كانوا وصار ذلك منسوخاً بقوله ـ عز وجل ـ {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} أ. هـ2.
وقال الشوكاني رحمه الله تعالى مبيناً معنى الآيتين السابقتين: "ختم الله ـ سبحانه ـ هذه السورة بذكر الموالاة ليعلم كل فريق وليه الذي يستعين به وسمى ـ سبحانه ـ المهاجرين إلى المدينة بهذا الاسم لأنهم هجروا أوطانهم وفارقوها طلباً لما عند الله وإيجاباً لداعيه {وَالَّذِينَ آوَوْا} هم الأنصار والإشارة بقوله {أُولَئِكَ} إشارة إلى الموصول الأول والآخر3 ... إلى أن قال: ثم بين ـ سبحانه ـ حكماً آخر يتعلق بالمؤمنين المهاجرين المجاهدين في سبيل الله والمؤمنين الذين آووا من هاجر إليهم ونصروهم وهم الأنصار فقال: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً} أي: الكاملون في الإيمان وليس في هذا تكرير لما قبله فإنه وارد في الثناء على هؤلاء، والأول وراد في إيجاب الموالاة والنصرة ثم أخبر ـ سبحانه ـ أن لهم منه مغفرة لذنوبهم في الآخرة ولهم رزق كريم خالص عن الكدر طيب مستلذ".أ. هـ4.
__________
1ـ جامع البيان عن تأويل آي القرآن 10/56-57.
2ـ تفسير البغوي على حاشية الخازن 3/44 والآية رقم 75 من سورة الأنفال.
3ـ فتح القدير 2/329.
4ـ فتح القدير 2/329.(1/142)
فالآيايتان المتقدمتان اشتملتا على إثبات منقبتين عظيمتين للأنصار رضي الله عنهم وهاتان المنقبتان الإيواء والنصرة فلقد آووا النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من أصحابه من المهاجرين، ونصروا دين الله ورسوله بمقاتلة جيوش الكفر والشرك والضلال ليدخلوهم في دين الإسلام الحق الذي ارتضاه الله لعباده ديناً.
3- أثنى الله عليهم بسبقهم إلى الإسلام مع إخوانهم المهاجرين رضي الله عنهم حيث قال: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} 1.
فالمراد بالأنصار في هذه الآية هم الذين تبوؤوا الدار والإيمان وانضوى إليهم النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرون2 فقد بين ـ تعالى ـ في هذه الآية أنه رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين اتبعوهم بإحسان رضاء مطلقا، ورضاه ـ سبحانه ـ أكبر من نعيم الجنة ثم بين تعالى أن مصيرهم هو دخول الجنة التي تجري تحتها الأنهار الجارية التي تساق إلى سقي الجنان والحدائق الزاهرة، وأنهم خالدون في الجنة لا يبغون عنها حولا ولا يطلبون منها بدلا أنهم مهما تمنوا من نعيم أدركوه ومتى ما أرادوه وجدوه {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} الذي حصل لهم فيه كل محبوب للنفوس، ولذة للأرواح ونعيم للقلوب وشهوة للأبدان واندفع عنهم كل محذور3 فهذا النعيم في مقدمة من يظفر به السابقون الأولون من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من مهاجرين وأنصار فهذه الآية اشتملت على منقبة عظيمة للسابقين من الأنصار رضي الله عنهم وتلك المنقبة هي سبقهم إلى الإسلام، وفوزهم برضى الملك العلام، ودخولهم ما أعد الله لهم من الجنان
__________
1ـ سورة التوبة آية/100.
2ـ انظر: أحكام القرآن لابن العربي 2/886، والجامع لأحكام القرآن 8/56.
3ـ تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 3/136.(1/143)
4- قال تعالى في ثنائه عليهم بالأخلاق الفاضلة النبيلة التي اتسموا بها: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 1.
فهذه الآية اشتملت على الثناء الحسن على أنصار الإسلام وكتيبة الإيمان بحبهم لإخوانهم المهاجرين، وطهارة أنفسهم من الحسد لهم على منَّ الله به عليهم من شرف الهجرة وإيثارهم لهم على أنفسهم بمواساتهم لهم بأموالهم ثم بين تعالى في ختام الآية أن فلاحهم واقع ومتحقق لا محالة.
قال العلامة ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى: "يقول تعالى ذكره: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ} يقول: اتخذوا مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم فابتنوها منازل والإيمان" بالله ورسوله {مِنْ قَبْلِهِمْ} يعني: من قبل المهاجرين {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} : يحبون من ترك منزله وانتقل إليهم من غيرهم وعنى بذلك الأنصار يحبون المهاجرين ... ثم روى بإسناده إلى قتادة أنه قال: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} يقول: مما أعطوا إخوانهم هذا الحي من الأنصار أسلموا في ديارهم فابتنوا المساجد قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم، فأحسن الله عليهم الثناء في ذلك، وهاتان الطائفتان الأوليان من هذه الآية أخذتا بفضلهما، ومضتا على مهلهما وأثبت الله حظهما في الفيء".
وروى أيضاً: بإسناده إلى عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: أنه قال: في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} قال: هؤلاء الأنصار يحبون من هاجر إليهم من المهاجرين " إلى أن قال: وقوله: {وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} يقول جل ثناؤه: ولا يجد الذين
__________
1ـ سورة الحشر آية/9.(1/144)
تبوؤوا الدار من قبلهم، وهم الأنصار في صدروهم حاجة يعني حسداً مما أوتوا يعني مما أوتي المهاجرون من الفيء وذلك لما ذكر لنا من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم أموال بني النضير بين المهاجرين الأولين دون الأنصار إلا رجلين1. من الأنصار أعطاهما لفقرهما، وإنما فعل ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة ... وقوله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} يقول: ويعطون المهاجرين أموالهم إيثاراً لهم بها على أنفسهم {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} يقول: ولو كان بهم حاجة وفاقة إلى ما آثروا به من أموالهم على أنفسهم".2.
وقد روى الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه سبب نزول لقوله تعالى في الآية: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} فقد روى بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه: "أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فبعث إلى نسائه فقلن: ما معنا إلا الماء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من يضم ـ أو يضيف ـ هذا؟ " فقال رجل3 من الأنصار: أنا فانطلق به إلى امرأته فقال: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياني فقال: هيئي طعامك وأصحبي سراجك ونومي صبيانك إذا أرادوا عشاء فهيأت طعامها وأصبحت سراجها ونومت صبيانها، ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته، فجعلا يريانه أنهما يأكلان فباتا طاويين فلما أصبح غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ضحك الله الليلة ـ أو عجب ـ من فعالكما" فأنزل الله {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 4.
قال العلامة ابن جرير مبيناً معنى قوله تعالى في ختام الآية السابقة {وَمَنْ
__________
1ـ الرجلان هما: سهل بن حنيف وأبو دجانة سماك بن خرشة. جامع البيان 28/41.
2ـ جامع البيان عن تأويل آي القرآن 28/40-42.
3ـ هذا الرجل هو أبو طلحة كما في صحيح مسلم 3/1625، وانظر فتح الباري 7/12.
4ـ صحيح البخاري 3/199، وانظر جامع البيان 28/43.(1/145)
يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} يقول تعالى ذكره: من وقاه الله شح نفسه {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} المخلدون في الجنة والشح في كلام العرب: البخل ومنع الفضل من المال. أ.هـ1.
وقال الإمام البغوي رحمه الله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ} وهم الأنصار تبوؤوا الدار توطنوا الدار أي: المدينة اتخذوها دار الهجرة والإيمان {مِنْ قَبْلِهِمْ} أي: أسلموا في ديارهم وآثروا الإيمان وابتنوا المساجد قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين ونظم الآية {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي: من قبل قدوم المهاجرين عليهم وقد آمنوا لأن الإيمان ليس بمكان تبوء {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً} حزازة وغيظاً وحسداً {مِمَّا أُوتُوا} أي: مما أعطي المهاجرين دونهم من الفيء وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم أموال بني النضير بين المهاجرين ولم يعط منها الأنصار فطابت أنفس الأنصار بذلك {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} أي: يؤثرون على إخوانهم من المهاجرين بأموالهم ومنازلهم على أنفسهم {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} فاقة وحاجة إلى ما يؤثرون وذلك أنهم قاسموهم ديارهم وأموالهم".2
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى مبيناً معنى الآية السابقة وما تضمنته من فضل للأنصار قال تعالى مادحاً للأنصار ومبيناً فضلهم وشرفهم وكرمهم، وعدم حسدهم وإيثارهم مع الحاجة فقال تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي: سكنوا دار الهجرة من قبل المهاجرين وآمنوا قبل كثير منهم وقوله تعالى: {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} أي: من كرمهم وشرف أنفسهم يحبون المهاجرين ويواسونهم بأموالهم ... وقوله: {وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} أي: ولا يجدون في أنفسهم حسداً للمهاجرين فيما فضلهم الله به من
__________
1ـ جامع البيان 20/43.
2ـ تفسير البغوي على حاشية الخازن 7/52-53.(1/146)
المنزلة والشرف والتقديم في الذكر والرتبة ... وقوله تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أي: من سلم من الشح فقد أفلح وأنجح"أ. هـ1.
وقال الشوكاني رحمه الله تعالى عند تفسيره لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} الآية قال: "لما فرغ من مدح المهاجرين مدح الأنصار فقال: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} المراد بالدار المدينة وهي دار الهجرة ومعنى تبوئهم الدار والإيمان أنهم اتخذوها مباءة أي: تمكنوا منها تمكناً شديداً والتبوء في الأصل إنما يكون للمكان ولكنه جعل الإيمان مثله لتمكنهم فيه ... ومعنى {مِنْ قَبْلِهِمْ} من قبل هجرة المهاجرين ... لأن الأنصار إنما آمنوا بعد إيمان المهاجرين والموصول مبتدأ وخبره {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} وذلك لأنهم أحسنوا إلى المهاجرين وأشركوهم في أموالهم ومساكنهم {وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً} أي: لا يجد الأنصار في صدورهم حسداً وغيظاً وحزازة {مِمَّا أُوتُوا} أي: مما أوتي المهاجرون دونهم من الفيء بل طابت أنفسهم بذلك ... {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} أي: حاجة وفقر والخصاصة مأخوذة من خصاص البيت وهي الفرج التي تكون فيه وقيل: إن الخصاصة مأخوذة من الاختصاص وهو الانفراد بالأمر فالخصاصة الانفراد بالحاجة"2.
فهذه الآية اشتملت على مناقب للأنصار رضي الله عنهم وتلك المناقب هي ما تحلوا به من الأمور الطيبة من كونهم صادقين في إيمانهم بالله ورسوله، ويحبون إخوانهم المهاجرين الذين تركوا ديارهم وهجروا قومهم ولا يجدون في صدورهم حسداً مما أوتي المهاجرين من الفيء "وذلك أنه صلى الله عليه وسلم قسم أموال بني النضير بين المهاجرين الأولين دون الأنصار إلا رجلين من الأنصار أعطاهما
__________
1ـ تفسير القرآن العظيم 6/605-608.
2ـ فتح القدير للشوكاني 5/200 وما بعدها، وانظر: جامع البيان للطبري 28/44، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 18/329.(1/147)
لفقرهما"1.
وكذلك آثروا المهاجرين بإعطائهم من أموالهم ولو كان بهم حاجة وفاقة فوقوا شح أنفسهم فكتب الله لهم الفلاح والفوز في الدنيا والآخرة ذلك هو الثناء على الأنصار في الآيات القرآنية وأما الثناء عليهم في السنة المطهرة فقد ورد في كثير من الأحاديث النبوية ومن ذلك ما يلي:
1- روى الإمام البخاري من حديث غيلان بن جرير قال: قلت لأنس: أرأيت اسم الأنصار كنتم تسمون به أم سماكم الله قال: بل سمانا الله كنا ندخل على أنس فيحدثنا مناقب الأنصار ومشاهدهم ويقبل علي أو على رجل من الأزد فيقول فعل قومك يوم كذا وكذا كذا وكذا".2
هذا الحديث تضمن منقبة عظيمة للأنصار رضي الله عنهم إذ تسميتهم بهذا الاسم تسمية إسلامية سمى به النبي صلى الله عليه وسلم الأوس والخزرج3.
2- ومن مناقبهم رضي الله عنهم: ما رواه البخاري بإسناده إلى أنس رضي الله عنه قال: قالت الأنصار: يوم فتح مكة ـ وأعطى قريشاً ـ: والله إن هذا لهو العجب أن سيوفنا تقطر من دماء قريش وغنائمنا ترد عليهم فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فدعا الأنصار، قال فقال: "ما الذي بلغني عنكم؟ " وكانوا لا يكذبون فقالوا: هو الذي بلغك قال: "أولا ترضون أن يرجع الناس بالغنائم إلى بيوتهم، وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيوتكم؟ لو سلكت الأنصار وادياً أو شعباً لسلكت وادي الأنصار أو شعبهم".
ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: "لو أن الأنصار سلكوا وادياً أو شعباً لسلكت في وادي الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار" فقال أبو هريرة ما ظلم ـ بأبي وأمي ـ آووه ونصروه
__________
1ـ جامع البيان للطبري 28/41.
2ـ صحيح البخاري 2/309.
3ـ فتح الباري 7/110.(1/148)
أو كلمة أخرى.1
وروى أيضاً رحمه الله تعالى: من حديث عبد الله بن زيد بن عاصم قال: "لما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قسم في الناس في المؤلفة قلوبهم ولم يعط الأنصار شيئاً فكأنهم وجدوا إذ لم يصبهم ما أصاب الناس فخطبهم فقال: "يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي؟ " كلما قال شيئاً قالوا: ألله ورسوله أمن قال: "ما يمنعكم أن تجيبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم" قال: كلما قال شيئاً قالوا: ألله ورسوله أمن قال: "لو شئتم قلتم جئتنا كذا وكذا ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟ لولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار ولو سلك الناس وادياً لسلكت وادي الأنصار وشعبها، الأنصار شعار2 والناس دثار3 إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض" 4.
هذا الحديث المروي عن أنس وأبي هريرة وعبد الله بن زيد بن عاصم: اشتمل على مناقب للأنصار رضي الله عنهم حظوا بها وتميزوا بها عن غيرهم وتلك المناقب هي:
1- تشريفهم بهجرة النبي صلى الله عليه وسلم وسكناه بينهم وهذه منقبة عظيمة رفعت من قدرهم وزادت من شرفهم دون سائر الناس ولو لم يحصل ذلك لما كان بينهم وبين غيرهم من الناس فرق.
2- إخباره عليه الصلاة والسلام بأنه لا يفارق صحبتهم ولا يتحول عنهم فيه منقبة وفضيلة ظاهرة لهم رضي الله عنهم.
__________
1ـ هذا الحديث والذي قبله في صحيح البخاري 2/309.
2ـ شعار: الشعار الثوب الذي يلي الجسد ـ الفتح 8/52، وانظر: النهاية لابن الأثير 2/480.
3ـ دثار: الدثار الثوب الذي فوق الشعار ـ النهاية لابن الأثير 2/480، الفتح 8/52.
4ـ صحيح البخاري 3/69.(1/149)
3- بين عليه الصلاة والسلام في الحديث الثالث أنهم بطانته وخاصته وأنهم ألصق الناس به وأقرب إليه من غيرهم رضي الله عنهم.
وقول أنس رضي الله عنه: إن الأنصار رضي الله عنهم قالوا: "والله إن هذا لهو العجب إن سيوفنا تقطر من دماء قريش وغنائمنا ترد عليهم" وقوله في الحديث الآخر: "فكأنهم وجدوا إذ لم يصبهم ما أصاب الناس" فهذا القول حصل من أناس منهم حديثة أسنانهم للحديث الآخر الذي رواه البخاري عن أنس رضي الله عنه وفيه: "أنهم قالوا: يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي قريشاً ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم قال أنس فحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقالتهم وأرسل إلى الأنصار فجمعهم في قبة من أدم1 ولم يدع معهم غيرهم فلما اجتمعوا قام النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ما حديث بلغني عنكم؟ " فقال فقهاء الأنصار أما رؤساؤنا يا رسول الله فلم يقولوا شيئاً وأما ناس منا حديثة أسنانهم فقالوا: يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي قريشاً ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم" الحديث2.
وفيما تقدم دلالة على أن من طلب حقه من الدنيا لا يعتب عليه وفعل بعض الأنصار ذلك لا ينقص قدرهم ولا ينزل من مكانتهم العالية فلهم رضي الله عنهم مناقب رفيعة قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: عند شرحه لقول أبي هريرة في الحديث المتقدم بعد قوله عليه الصلاة والسلام: "لولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار" فقال أبو هريرة: ما ظلم بابي وأمي ـ "أي: ما تعدى في القول المذكور ولا أعطاهم فوق حقهم ثم بين ذلك بقوله: "آووه ونصروه": قوله: "أو كلمة أخرى" لعل المراد وواسوه وواسوا أصحابه بأموالهم وقوله "لسلكت في وادي الأنصار" أراد حسن موافقتهم له لما شاهده من حسن
__________
1ـ قبة من أدم: أي: في خيمة من جلد.
2ـ صحيح البخاري 3/69-70.(1/150)
الجوار والوفاء بالعهد وليس المراد بأنه يصير تابعاً لهم بل هو المتبوع المطاع المفترض الطاعة على كل مؤمن"1.
ونقل الحافظ رحمه الله تعالى عن الخطابي أنه قال بعد قوله عليه الصلاة والسلام في حديث عبد الله بن زيد بن عاصم المتقدم "لولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار" أراد بهذا الكلام تألف الأنصار واستطابة نفوسهم والثناء عليهم في دينهم حتى رضي أن يكون واحداً منهم لولا ما يمنعه من الهجرة التي لا يجوز تبدليها ونسبة الإنسان تقع على وجوه منها الولادة والبلادية والاعتقادية والصناعية ولا شك أنه لم يرد الانتقال عن نسب آبائه لأنه ممتنع قطعاً وأما الاعتقادي فلا معنى للانتقال فيه فلم يبق إلا القسمان الأخيران وكانت المدينة دار الأنصار والهجرة إليها أمراً واجباً أي: لولا النسبة الهجرية لا يسعني تركها لانتسبت إلى داركم. وقال القرطبي: "معناه لتسميت باسمكم وانتسبت إليكم كما كانوا ينتسبون بالحلف، لكن خصوصية الهجرة وتربيتها فمنعت من ذلك وهي أعلى وأشرف فلا تتبدل بغيرها، وقيل: معناه لكنت من الأنصار في الأحكام والعداد، وقيل: التقدير لولا أن ثواب الهجرة أعظم لاخترت أن يكون ثوابي ثواب الأنصار ولم يرد ظاهر النسب أصلاً"أ. هـ2.
وقال صديق حسن خان عند شرحه لقوله صلى الله عليه وسلم: "لولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار" فيه إشارة إلى ترجيح الأنصار بحسن الجوار والوفاء بالعهد لا وجوب متابعته صلى الله عليه وسلم إياهم إذ هو صلى الله عليه وسلم المتبوع المطاع لا التابع المطيع فما أكثر تواضعه صلى الله عليه وسلم"أ. هـ3.
وقال أبو بكر بن العربي في شرحه لقوله صلى الله عليه وسلم: "لو سلك الناس وادياً أو شعباً
__________
1ـ فتح الباري 7/112.
2ـ فتح الباري 8/51.
3ـ عون الباري لحل أدلة صحيح البخاري 4/532.(1/151)
لسلكت وادي الأنصار وشعبها" أخبر أنه لا يفارق صحبتهم ولا يزال دارتهم"أ. هـ1.
وقال الإمام النووي: عند قوله صلى الله عليه وسلم: "لسلكت شعب الأنصار" قال الخليل: هو ما انفرج بين جبلين، وقال ابن السكيت2: هو الطريق في الجبل وفيه فضيلة الأنصار ورجحانهم"أ. هـ3.
وقال أيضاً عند قوله صلى الله عليه وسلم: "الأنصار شعار والناس دثار" معنى الحديث: الأنصار هم البطانة والخاصة والأصفياء وألصق بي من سائر الناس وهذا من مناقبهم الظاهرة وفضائلهم الباهرة"أ. هـ4.
ومن خلال أقوال العلماء المتقدمة التي سقناها لبيان معنى الحديث المروي عن أنس وأبي هريرة وعبد الله بن زيد بن عاصم: تبين أنه اشتمل على مناقب عظيمة للأنصار لما تضمنه من الثناء البالغ عليهم من النبي صلى الله عليه وسلم وحسن أدبهم رضي الله عنهم في تركهم المماراة، والمبالغة في الحياء وبيان أن الذي نقل عنهم إنما كان عن شبانهم لا عن شيوخهم وكهولهم ولقد آثروا الآخرة على الدنيا، فقد زهدت نفوسهم عن حطام الدنيا الفاني ورضوا برسول الله صلى الله عليه وسلم قسماً ومغنماً كما في صحيح مسلم أنه عليه الصلاة والسلام قال لهم: "أفلا ترضون أن يذهب الناس بالأموال وترجعون إلى رحالكم برسول الله؟ فوالله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به" فقالوا: بلى يا رسول الله قد رضينا"5.
__________
1ـ عارضة الأحوذي بشرح الترمذي 13/266.
2ـ هو يعقوب بن إسحاق أبو يوسف بن السكيت إمام في اللغة والأدب أصله من خوزستان بين البصرة وفارس، ولد سنة ست وثمانين ومائة وتوفي سنة أربعة وأربعين ومائتين، انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 14/273، وفيات الأعيان 6/390، هدية العارفين 2/536، الأعلام 9/255.
3ـ شرح النووي على صحيح مسلم 7/152.
4ـ شرح النووي على صحيح مسلم 7/152.
5ـ صحيح مسلم 2/734 من حديث أنس رضي الله عنه.(1/152)
3- ومن مناقبهم رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أنهم من أحب الناس إليه، وقد روى الإمام مسلم في صحيحه بإسناده إلى أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى صبيان ونساء مقبلين من عرس فقام نبي الله صلى الله عليه وسلم ممثلاً1 فقال: "اللهم أنتم من أحب الناس إليّ، اللهم أنتم من أحب الناس إليّ" يعني الأنصار2.
وعند الإمام البخاري: فقال "اللهم أنتم من أحب الناس إليّ" قالها ثلاث مرار3.
وروى الإمام مسلم أيضاً بإسناده إلى أنس قال: جاءت امرأة من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فخلى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "والذي نفسي بيدي إنكم لأحب الناس إليّ" ثلاث مرات4.
وعند الإمام البخاري رحمه الله تعالى بلفظ: جاءت امرأة من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعها صبي لها فكلمها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "والذي نفسي بيدي إنكم أحب الناس إليّ مرتين"5.
فكونه عليه الصلاة والسلام بين أن الأنصار رضي الله عنهم من أحب الناس إليه وأقسم بمن نفسه بيده وهو الله ـ عز وجل ـ على ذلك لهو من أعظم مناقبهم رضي الله عنهم وأرضاهم، وهكذا يجب على المسلم أن يكون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب الناس إليه بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: قوله ـ يعني البخاري في صحيحه ـ: "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار أنتم أحب الناس إليّ" هو على طريق الإجمال، أي: مجموعكم أحب إليّ من مجموع غيركم فلا يعارض قوله في الحديث: في
__________
1ـ أي: مكلفاً نفسه ذلك ـ انظر فتح الباري 7/114.
2ـ صحيح مسلم 4/1948.
3ـ صحيح البخاري 2/310.
4ـ صحيح مسلم 4/1949.
5ـ صحيح البخاري 2/310.(1/153)
جواب من أحب الناس إليك؟ قال: أبو بكر" الحديث1.
4- ومن مناقبهم رضي الله عنهم: سرعة امتثالهم أمر الله ورسوله وتعجيل مواساة إخوانهم المهاجرين، فقد روى الإمام البخاري بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالت الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم: أقسم بيننا وبين إخواننا النخيل قال: "لا"، فقالوا: تكفونا المؤونة ونشرككم في الثمرة قالوا: سمعنا وأطعنا.2
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: قوله: "المؤونة" أي: العمل في البساتين من سقيها والقيام عليها قال المهلب: إنما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم لأنه علم أن الفتوح ستفتح عليهم فكره أن يخرج شيء من عقار الأنصار عنهم فلما فهم الأنصار ذلك جمعوا بين المصلحتين امتثال ما أمرهم به وتعجيل مواساة إخوانهم المهاجرين فسألوهم أن يساعدوهم في العمل ويشركوهم في الثمر وفيه: "فضيلة ظاهرة للأنصار"أ. هـ3.
5- ومن مناقبهم رضي الله عنهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعلهم من جملة من تولاهم الله ورسوله، فقد روى الإمام مسلم في صحيحه بإسناده إلى أبي أيوب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأنصار ومزينة وجهينة وغفار وأشجع ومن كان من بني عبد الله موالي دون الناس والله ورسوله مولاه". وروى أيضاً: بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قريش والأنصار ومزينة وجهينة وأسلم وغفار وأشجع موالي ليس لهم مولى دون الله ورسوله" 4.
فكونهم رضي الله عنهم ممن تولاهم الله ورسوله فهو من أعظم المناقب وأعلى المراتب، وهذا من علامة السعادة الأبدية التي ينالها عباد الله وأولياؤه الصالحون.
ومعنى الحديث: "إني وليهم والمتكفل بهم وبمصالحهم وهم مواليه أي:
__________
1ـ فتح الباري 7/114.
2ـ صحيح البخاري 2/46.
3ـ فتح الباري 5/8-9، 7/113.
4ـ الحديثان في صحيح مسلم 4/1954.(1/154)
ناصروه والمختصون به"أ. هـ1.
6- ومن مناقبهم رضي الله عنهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم وثق بهم واعتمدهم في أموره وأوصى من بعده أن يقبلوا من محسنهم ويتجاوزوا عن مسيئهم، فقد روى الإمام البخاري بإسناده إلى أنس بن مالك قال: "مرّ أبو بكر والعباس رضي الله عنهما بمجلس من مجالس الأنصار وهم يبكون فقال: ما يبكيكم؟ قالوا: "ذكرنا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم منا فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك قال: فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وقد عصب على رأسه حاشية برد قال فصعد المنبر، ولم يصعده بعد ذلك اليوم فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أوصيكم بالأنصار فإنهم كرشي وعيبتي وقد قضوا الذي عليهم وبقي الذي لهم فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم" 2.
وعند الإمام مسلم بلفظ: " إن الأنصار كرشي وعيبتي وإن الناس سيكثرون ويقلون فاقبلوا من محسنهم واعفوا عن مسيئهم" 3.
فقد جعلهم عليه الصلاة والسلام جماعته وموضع سره وأمانته في قوله: "كرشي وعيبتي" قال النووي في شرحه لقوله عليه الصلاة والسلام: "الأنصار كرشي وعيبتي": قال العلماء: معناه: جماعتي وخاصتي الذي أثق بهم وأعتمدهم في أموره. قال الخطابي: ضرب مثلاً بالكرش لأنه مستقر غذاء الحيوان الذي يكون به بقاؤه، والعيبة وعاء معروف أكبر من المخلاة يحفظ الإنسان فيها ثيابه وفاخر متاعه ويصونها ضربها مثلاً لأنهم أهل سره وخفي أحواله صلى الله عليه وسلم "فاقبلوا من محسنهم واعفوا عن مسيئهم" وفي بعض الأصول: "عن سيئتهم" والمراد بذلك فيما سوى الحدود"أ. هـ4.
__________
1ـ شرح النووي على صحيح مسلم 16/74.
2ـ صحيح البخاري 2/312.
3ـ صحيح مسلم 4/1949.
4ـ شرح النووي على صحيح مسلم 16/68-69.(1/155)
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: قوله: "ذكرنا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم" أي: الذي كانوا يجلسونه معه وكان ذلك في مرض النبي صلى الله عليه وسلم فخشوا أن يموت من مرضه فيفقدوا مجلسه فبكوا حزناً على فوات ذلك ... قوله: "أوصيكم بالأنصار" استنبط منه بعض الأئمة أن الخلافة لا تكون في الأنصار لأن من فيهم الخلافة يوصون ولا يوصى بهم ولا دلالة فيه إذ لا مانع من ذلك قوله: "كرشي وعيبتي" أي: بطانتي وخاصتي قال القزاز: ضرب المثل بالكرش لأنه مستقر غذاء الحيوان الذي يكون فيه نماؤه ويقال: لفلان كرش منثورة أي: عيال كثيرة، والعيبة ما يحرز فيه الرجل نفيس ما عنده يريد أنه موضع سره وأمانته قال ابن دريد: هذا من كلامه صلى الله عليه وسلم الموجز الذي لم يسبق إليه، وقال غيره: الكرش بمنزلة المعدة للإنسان والعيبة مستودع الثياب والأول أمر باطن والثاني أمر ظاهر فكأنه ضرب المثل بهما في إرادة اختصاصهم بأموره الباطنية والظاهرية والأول أولى وكل من الأمرين مستودع لما يخفى فيه قوله: "وقد قضوا الذي عليهم وبقي الذي لهم" ليلة العقبة من المبايعة فإنهم بايعوا على أن يأووا النبي صلى الله عليه وسلم وينصروه على أن لهم الجنة فوفوا بذلك"أ. هـ1.
7- ومن مناقبهم رضي الله عنهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بخيرية دورهم رضي الله عنهم ولكن هذه الخيرية ما ثبتت لهذه الدور إلا بعد ثبوتها لأهلها الذين آووا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصروا دين الإسلام ورفعوا رايته فرضوان الله أجمعين.
روى الشيخان بإسنادهما إلى أبي أسيد الساعدي رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " خير دور الأنصار بني النجار، ثم بنو عبد الأشهل ثم بنو الحارث بن الخزرج، ثم بنو ساعدة، وفي كل دور الأنصار خير" فقال سعد: ما أرى النبي صلى الله عليه وسلم إلا قد فضل علينا فقيل: قد فضلكم على كثير"2.
__________
1ـ فتح الباري 7/121- 122.
2ـ صحيح البخاري 2/311، صحيح مسلم 4/1949.(1/156)
وروى البخاري بإسناده إلى أبي حميد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن خير دور الأنصار دار بني النجار، ثم عبد النجار، ثم عبد الأشهل، ثم دار بني الحارث ثم بني ساعدة وفي كل دور الأنصار خير" فلحقنا سعد بن عبادة فقال أبا أسيد: ألم تر أن نبي الله صلى الله عليه وسلم خيَّر الأنصار فجعلنا أخيراً؟ فأدرك سعد النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله خير دور الأنصار فجعلنا آخراً فقال: "أوليس بحسبكم أن تكونوا من الخيار" 1.
وعند مسلم: "وبلغ ذلك سعد بن عبادة فوجد في نفسه وقال: خلفنا فكنا آخر الأربع أسرجوا لي حماري آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلمه ابن أخيه سهل فقال: أتذهب لترد على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم أوليس حسبك أن تكون رابع أربع فرجع وقال: الله ورسول أعلم وأمر بحماره فحل عنه"2.
فلله ما أعظم هذه المنقبة وما أعظم هذا الفضل لهؤلاء الأخيار الذين زكت نفوسهم وطابت أعمالهم حتى شملت الخيرية دورهم، وهذه المفاضلة بين هذه الدور حصلت حسب سبق أهلها للدخول في الإسلام.
قال النووي: عند قوله صلى الله عليه وسلم: "خير دور الأنصار بنو النجار" الحديث أي: خير قبائلهم وكانت كل قبيلة منها تسكن محلة فتسمى تلك المحلة دار بني فلان، ولهذا جاء في كثير من الروايات بنو فلان من غير ذكر الدار.
قال العلماء: وتفضيلهم على قدر سبقهم إلى الإسلام ومآثرهم فيه، وفي هذا دليل لجواز تفضيل القبائل والأشخاص بغير مجازفة ولا هوى ولا يكون هذا غيبة"أ. هـ3.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: "قوله" خير دور الأنصار ... وفي
__________
1ـ صحيح البخاري 2/311.
2ـ صحيح مسلم 4/1950.
3ـ شرح النووي 16/69.(1/157)
كل دور الأنصار خير "الأولى بمعنى أفضل والثانية اسم أي: الفضل حاصل في جميع الأنصار وإن تفاوتت مراتبه"1.
وقد جاء في رواية البخاري المتقدمة أن سعداً أدرك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله خير دور الأنصار فجعلنا أخيراً فقال: "أوليس بحسبكم 2 أن تكونوا من الخيار" وفي رواية مسلم أيضاً المتقدمة أنه رجع وقال: الله ورسوله أعلم، وقال بحمار فحل عنه فالحديثان متعارضان، على هذا ولا بد من الجمع بينهما: وقد جمع الحافظ ابن حجر بين هاتين الروايتين فقال: "يمكن الجمع بأنه رجع حينئذ عن قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك خاصة، ثم إنه لما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقت آخر ذكر له ذلك، أو الذي رجع عنه أنه أراد أن يورده مورد الإنكار والذي صدر منه ورد مورد المعاتبة المتلطفة ولهذا قال له ابن أخيه في الأول: "أترد على رسول الله أمره" إلى أن قال: قوله: "من الخيار أي: الأفاضل لأنهم بالنسبة إلى من دونهم أفضل، وكأن المفاضلة بينهم وقعت بحسب السبق إلى الإسلام، وبحسب مساعيهم في إعلاء كلمة الله ونحو ذلك"أ. هـ3.
8- ومن مناقبهم رضي الله عنهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الله لهم بأن يصلحهم، ويكرمهم ويغفر لهم وجمع في ذلك الدعاء بينهم وبين إخوانهم المهاجرين رضوان الله عليهم أجمعين، وتارة أفردهم بالدعاء بالمغفرة لهم ولأبنائهم، وأبناء أبنائهم، كما استغفر لهم ولذراريهم ومواليهم.
فقد روى الإمام البخاري بإسناده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا عيش إلا عيش الآخرة فاصلح الأنصار والمهاجرة"
__________
1ـ فتح الباري 7/116.
2ـ أي: كافيكم.
3ـ فتح الباري 7/117.(1/158)
وروى أيضاً بإسناده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كانت الأنصار يوم الخندق تقول:
نحن الذين بايعوا محمداً ... على الجهاد ما حيينا أبداً
فأجابهم: "اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فأكرم الأنصار والمهاجرة". وروى بإسناده إلى سهل بن سعد رضي الله عنه قال: جاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نحفر الخندق وننقل التراب على أكتادنا1 فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للمهاجرين والأنصار"2.
ففي هذه الأحاديث جمع عليه الصلاة والسلام بينهم وبين إخوانهم المهاجرين في هذه الدعوات المباركات التي هي الصلاح، والإكرام والمغفرة، وأما إفرادهم بالدعاء لهم بالمغفرة والاستغفار فمن ذلك ما رواه الإمام مسلم بإسناده إلى زيد بن أرقم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار".
وروى أيضاً: بإسناده إلى عبد الله بن أبي طلحة أن أنساً حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استغفر للأنصار قال: وأحسبه قال: "ولذراري الأنصار ولموالي الأنصار" لا أشك فيه3.
9- ومن مناقبهم رضي الله عنهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم أنه ملازم لهم وأن محياه محياهم ومماته مماتهم فقد روى الإمام مسلم في صحيحه بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه في "فتح مكة" وفيه أن أبا سفيان قال: يا رسول الله أبيحت خضراء قريش4 لا قريش بعد اليوم ثم قال: من دخل دار
__________
1ـ أكتادنا: جمع كتد وهو جمع العنق والصلب ـ هدي الساري ص/178.
2ـ هذه الأحاديث في صحيح البخاري 2/311-312.
3ـ هذان الحديثان في صحيح مسلم 4/1948.
4ـ خضراء قريش: قال في النهاية "دماؤهم وسوادهم" 2/42، شرح النووي 12/127.(1/159)
أبي سفيان فهو آمن" فقالت الأنصار بعضهم لبعض: أما الرجل فأدركته رغبة في قريته ورأفة بعشيرته قال أبو هريرة: وجاء الوحي وكان إذا جاء الوحي لا يخفى علينا فإذا جاء فليس أحد يرفع طرفه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ينقضي الوحي فلما انقضى الوحي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الأنصار" قالوا: لبيك يا رسول الله قال: "قلتم أما الرجل فأدركته رغبة في قريته قالوا: قد كان ذاك قال: كلا إني عبد الله ورسوله هاجرت إلى الله وإليكم والمحيا محياكم والممات مماتكم" فأقبلوا إليه يبكون ويقولون: والله ما قلنا الذي قلنا إلا الضن بالله ورسوله" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم" ... الحديث1.
فقوله صلى الله عليه وسلم: "هاجرت إلى الله وإليكم المحيا محياكم والممات مماتكم" معناه: إني هاجرت إلى الله وإلى دياركم لاستيطانها فلا أتركها ولا أرجع عن هجرتي الواقعة لله تعالى بل أنا ملازم لكم المحيا محياكم والممات مماتكم أي: لا أحيا إلا عندكم ولا أموت إلا عندكم.. فلما قال لهم هذا بكوا واعتذروا وقالوا: والله ما قلنا كلامنا السابق إلا حرصاً عليك وعلى مصاحبتك ودوامك عندنا لنستفيد منك وتهدينا الصراط المستقيم كما قال الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 2 وهذا معنى قولهم: ما قلنا الذي قلنا إلا الضن بك أي: شحاً بك أن تفارقنا ويختص بك غيرنا وكان بكاؤهم فرحاً بما قال لهم وحياء مما خافوا أن يكون بلغه عنهم مما يستحى منه"3.
فلله ما أعظمها من منقبة وما أسماه من مدح وثناء لطائفة الأنصار رضي الله عنهم الذين ظفروا وفازوا بإيواء ونصر خير البرية ولذلك فازوا بتصديقهم ومعذرتهم من الله ورسوله فيما قالوه فرضي الله عنهم وأرضاهم وهنأهم بما آتاهم.
10- ومن مناقبهم رضي الله عنهم: إيثارهم الدار الآخرة على الدار الفانية
__________
1ـ صحيح مسلم 3/1406.
2ـ سورة الشورى آية/52.
3ـ شرح النووي على صحيح مسلم 12/129.(1/160)
فقد روى الإمام أحمد في مسنده والحاكم في مستدركه بإسنادهما إلى أنس قال: شق على الأنصار النواضح1 فاجتمعوا عند النبي صلى الله عليه وسلم يسألونه أن يكري2 لهم نهراً سيحاً فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مرحباً بالأنصار والله لا تسألوني اليوم شيئاً إلا أعطيتكموه ولا أسأل الله لكم شيئاً إلا أعطانيه" فقال بعضهم لبعض: اغتنموها واطلبوا المغفرة فقالوا: يا رسول الله ادع الله لنا بالمغفرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار ولأبناء أبناء الأنصار" 3.
فهذا الحديث فيه بيان أن الأنصار عزموا على أن يطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم نهراً جارياً يحفرونه ويخرجون طينه، فلما قال لهم: لا تسألوني اليوم شيئاً إلا أعطيتكموه" عدلوا عن طلب النهر واغتنموا الفرصة وطلبوا المغفرة لأن النهر من متاع الدنيا الفانية والمغفرة فيها متاع الآخرة الباقية فآثروا ما يبقى على ما يفنى وهذا من قوة إيمانهم وزهدهم في الدنيا رضي الله عنهم وأرضاهم4 وفي هذا منقبة عظيمة وفضيلة كريمة للأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم.
11- ومن مناقبهم رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم أن جزاءهم على إيوائهم إياه ونصرهم له ووفائهم بما بايعوه عليه من الأمور التي فيها عز الإسلام والمسلمين الجنة التي عرضها السموات والأرض. فقد روى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى جابر بن عبد الله الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم لبث عشر سنين يتبع الناس في منازلهم في الموسم ومجنة5...........
__________
1ـ النضح نقل الماء من الآبار على النواضح أي: الإبل لسقي الزرع. انظر النهاية في غريب الحديث 5/69.
2ـ من كريت الأرض وكروتها إذا حفرتها. انظر: النهاية في غريب الحديث 4/169.
3ـ المسند 3/139، المستدرك 4/80 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وأقره الذهبي. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد رواه أحمد والبزار بنحوه.. وأحد أسانيد أحمد رجاله رجال الصحيح 10/40.
4ـ انظر الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد 22/172.
5ـ مجنة: اسم سوق للعرب كان في الجاهلية ... وكانت مجنة بمر الظهران قرب جبل يقال له الأصفر وهو بأسفل على قدر بريد منها. معجم البلدان لياقوت الحموي 5/58-59.(1/161)
وعكاظ1 ومنازلهم من منى من يؤويني من ينصرني حتى أبلغ رسالات ربي فله الجنة فلا يجد أحداً ينصره ولا يؤويه حتى إن الرجل ليرحل من مصر أو من اليمن إلى ذي رحمه فيأتيه قومه فيقولون له احذر غلام قريش لا يفتنك ويمشي بين رحالهم يدعوهم إلى الله ـ عز وجل ـ يشيرون إليه بالأصابع حتى بعثنا الله من يثرب فيأتيه الرجل منا فيؤمن به ويقرئه القرآن فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الإسلام فبعثنا الله إليه فائتمرنا واجتمعنا وقلنا: حتى متى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطرد في جبال مكة ويخاف فرحلنا حتى قدمنا عليه في الموسم فوعدنا بيعة العقبة فقال له عمه العباس: يا ابن أخي لا أدري ما هؤلاء القوم الذين جاءوك إني ذو معرفة بأهل يثرب، فاجتمعنا عنده من رجل ورجلين فلما نظر العباس في وجوهنا قال: هؤلاء قوم لا نعرفهم هؤلاء أحداث، فقلنا: يا رسول الله على ما نبايعك؟ قال: "بايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل وعلى النفقة في العسر واليسر وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعلى أن تقولوا في الله لا تأخذكم لومة لائم وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم وتمنعوني مما تمنعون عنه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة" فقمنا نبايعه وأخذ بيده أسعد بن زرارة وهو أصغر السبعين إلا أنه قال: رويداً يا أهل يثرب إنا لم نضرب إليه أكباد المطي إلا ونحن نعلم أنه رسول الله وأن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة وقتل خياركم وأن يعضكم السيف فإما أنتم قوم تصبرون عليها إذا مستكم وعلى قتل خياركم ومفارقة العرب كافة فخذوه وأجركم على الله وإما أنتم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه فهو عذر عند الله ـ عز وجل ـ فقالوا: يا أسعد أمط عنا يدك فوالله لا نذر هذه البعية ولا نستقيلها قال: فقمنا إليه رجلا رجلا فأخذ علينا ليعطينا بذلك
__________
1ـ عكاظ: اسم سوق من أسواق العرب في الجاهلية قال: الأصعمي: عكاظ في واد بينه وبين الطائف ليلة وبينه وبين مكة ثلاث ليال، وبه كانت تقام سوق العرب بموضع منه يقال له: الأثيداء، معجم البلدان 4/142.(1/162)
الجنة"1. فهذا الحديث اشتمل على فضيلة عظيمة للأنصار رضي الله تعالى عنهم فلقد وفوا بايعوا عليه سيد الخلق عليه الصلاة والسلام حتى انتشر الإسلام ودخل الناس في دين الله أفواجاً وعلت راية التوحيد واندحر الشرك وأهله فكانت كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى فرضي الله عنهم وأرضاهم وهنأهم بما آتاهم، والأحاديث الواردة في فضائلهم ومناقبهم كثيرة وحسبنا هنا ما تقدم ذكره من مناقبهم العامة رضي الله عنهم التي شملت السابقين منهم إلى الإسلام ومن أسلم بعدهم منهم رضي الله عنهم وهناك مناقب كثيرة تخص أفراداً منهم بأعيانهم محلها كتب السنة والأحاديث التي أسلفناها هنا اشتملت على مناقب عالية يذكرون بها في الدنيا ذكراً حسناً ويثني عليهم بها في الآخرين إلى يوم القيامة وهذا حاصل من الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة، أما أعداؤهم من الرافضة فإنهم لا يؤمنون بفضائلهم لا العامة منها ولا الخاصة، ولا يذكرونهم بالذكر الحسن، وإنما يذكرونهم بالذكر السيء من السباب والشتائم ورميهم بالكفر، وهذا ناشيء من عمى البصيرة والخذلان الذي حل بهم أعاذنا الله من ذلك.
__________
1ـ المستدرك 2/625، ثم قال عقبه: هذا حديث صحيح الإسناد جامع لبيعة العقبة ولم يخرجاه وأقره الذهبي.(1/163)
المبحث الثاني: الثناء على أهل بدر1
إن الصحابة الذين شهدوا موقعة بدر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هم الذين اختارهم رب العالمين واصطفاهم فجعل لهم ميزة تميزوا بها على غيرهم من عباد الله المؤمنين إذ أن معركة بدر تعتبر من أعظم المعارك التي انتصر فيها الإسلام على الكفر وأهله، وبسببها انتشر ضوء الإسلام في أنحاء الجزيرة العربية، ثم إلى خارجها، وبسببها أضيئت الطريق أمام الدعاة إلى الله لتحقيق العبودية لله ـ سبحانه وتعالى ـ ونبذ جميع المعبودات التي تعبد من دون الله نتيجة اتباع الهوى والتقليد الأعمى، وكل من شارك من الصحابة في وقعة بدر كانت له المكانة اللائقة بالثناء الحسن في الدنيا والفوز بالجنة والنجاة من النار في الآخرة، فأهل بدر هم النجوم التي أضاءت تاريخ الإسلام حتى أصبح يقال لأحدهم: فلان بدري، وشهد بدراً وكفى بهذه المنقبة شرفاً وتعظيماً لهم في هذه الدنيا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وكفى بذلك أجراً وإحساناً عند رب العالمين في الحياة الآخرة وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء فلقد أعطاهم ذلك ربهم ـ تبارك وتعالى ـ وفضلهم على كثير من عباده تفضيلاً، وكانت هذه الغزوة المباركة في السنة الثانية من الهجرة2 وقد كان عدد المشركين الذين جاءوا من مكة لإطفاء نور الله ألفاً وفي
__________
1ـ قال الحافظ ابن حجر: قوله: "ببدر" هي قرية مشهورة نسبت إلى بدر بن مخلد بن النضر بن كنانة كان نزلها، ويقال بدر بن الحارث، ويقال: بدر اسم البئر التي سميت بذلك لاستدارتها، أو لصفاء مائها فكان البدر يرى فيها الفتح 7/285، وانظر معجم البلدان 1/375.
2ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 2/12، وتاريخ الأمم والملوك 2/418، الكامل لابن الأثير 2/116، البداية والنهاية 3/258، زاد المعاد 3/171.(1/164)
رواية أنهم خمسون وتسعمائة1، وأما عدد الفئة المؤمنة التي تصدت لمشركي قريش فقد كان عددهم ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا.
فقد روى الإمام مسلم في صحيحه بإسناده إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا فاستقبل نبي الله القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه" الحديث2.
وفي سنن أبي داود من حديث عبد الله بن عمرو أن عددهم ثلاثمائة وخمسة عشر رجلاً"3.
قال ابن جرير: "وأما عامة السلف فإنهم قالوا: كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا"4 والبضع هذا تفسير ما جاء في رواية صحيح مسلم المتقدمة أنه "تسعة عشر رجلا" وهذه الفئة المؤمنة جاء الثناء عليهم في الكتاب العزيز والسنة النبوية المطهرة.
ففي الكتاب العزيز شهد الله لهم بإخلاص نياتهم في الجهاد في سبيل الله ومن أجل ذلك أكرمهم الله ـ تعالى ـ بالنصر على أعداء الله من أهل الكفر والضلال، وما ذلك إلا لفضلهم عند الله ـ جل وعلا ـ وأن لهم كرامة ومكانة ومنزلة رفيعة عنده ـ تبارك وتعالى ـ كما شهد الله لهم بحقيقة الإيمان.
فالآيات التي أثنى الله عليهم بما ذكر هي:
1- قوله تعالى: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الأَبْصَارِ} 5.
__________
1ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 3/15، وانظر: البداية والنهاية 3/284.
2ـ صحيح مسلم 3/1384.
3ـ سنن أبي داود 2/72.
4ـ تاريخ الأمم والملوك 2/432.
5ـ سورة آل عمران آية/13.(1/165)
هذه الآية تشير إلى اللقاء الذي وقع بين المسلمين وبين المشركين يوم بدر، وفيها ثناء من الله ـ تعالى ـ على أهل بدر بخلوص نياتهم في الجهاد يوم بدر وأنهم ما قاتلوا يومذاك حمية ولا شجاعة ولا لترى أمكانهم، وإنما قاتلوا لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى فأيدهم الله بنصره وأكرم بها من منقبة وأكرم به من موقف عظيم يذكرون به في الدنيا والآخرة وجدير بهذا الموقف العظيم أنه موضع للتفكر والاتعاظ والاعتبار لمن يأتي بعدهم إلى يوم القيامة.
قال العلامة ابن جرير الطبري رحمه الله عند قوله تعالى: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا} الآية: "يعني بذلك ـ جل ثناؤه ـ قل يا محمد للذين كفروا من اليهود الذين بين ظهراني بلدك قد كان لكم آية يعني علامة ودلالة على صدق ما أقول إنكم ستغلبون ... والفئة الجماعة من الناس التقتا للحرب وإحدى الفئتين، رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كان معه ممن شهدوا وقعة بدر والأخرى مشركو قريش {فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} : جماعة تقاتل في طاعة الله وعلى دينه وهم رسول الله وأصحابه {وَأُخْرَى كَافِرَةٌ} وهم مشركو قريش.
قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في قوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قال: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر {وَأُخْرَى كَافِرَةٌ} فئة قريش الكفار.
وقال عكرمة في قوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} : قال: محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه {وَأُخْرَى كَافِرَةٌ} قال: قريش يوم بدر.
وقال مجاهد: ذلك يوم بدر التقى المسلمون والكفار"1.
ومن خلال أقوال أئمة التفسير تبين أن الآية اشتملت على المدح والثناء على الفئة المؤمنة من البدريين، كما أنها أيضاً تضمنت التهديد لليهود الذين كانوا
__________
1ـ جامع البيان 3/193-194.(1/166)
في المدينة حينذاك، فقد أخرج ابن جرير الطبري وغيره عن ابن عباس قال: لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً يوم بدر فقدم المدينة جمع يهود في سوق بني قينقاع فقال: يا معشر يهود أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشاً فقالوا: يا محمد لا تغرنك نفسك أنك قتلت نفراً من قريش كانوا أغماراً1 لا يعرفون القتال إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لم تأت مثلنا فأنزل الله ـ عز وجل ـ في ذلك من قوله: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} إلى قوله: {لِأُولِي الْأَبْصَارِ} أ. هـ2.
فكأنه يقول لهم: يا معشر يهود لا يغرنكم كثرة العدد، ولا المال والولد فليس هذا سبيل النصر والغلب فالحوادث التي تجري في هذا الكون أعظم دليل على فساد ما تدعون انظروا إلى الفئتين اللتين التقتا، فئة قليلة من المؤمنين عددها ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا ولم يكن معها من القوة إلا سبعون بعيراً يعتقبونها وفرسان فقط3 ولما كانت تقاتل في سبيل الله كتب لها الفوز والغلب على الفئة الكثيرة من المشركين التي كان عددها ألف رجل ومعها من القوة مائتا فرس يقودونها4 وفي هذا عبرة أيما عبرة لذوي البصائر السليمة التي استعملت العقول فيما خلقت لأجله من التأمل في الأمور والاستفادة منها ووجه العبرة في هذا أن هناك قوة فوق جميع القوى وهي قوة الله التي يؤيد بها الفئة المؤمنة القليلة، فتغلب الفئة المشركة الكثيرة بإذنه ـ تعالى ـ وقال ابن جرير مبيناً معنى قوله ـ تعالى ـ في الآية السابقة: {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} . وتأويل الكلام قد كان
__________
1ـ قال في النهاية: الأغمار جمع ـ غمر ـ بالضم ـ وهو الجاهل الغر الذي لم يجرب الأمور 3/385.
2ـ جامع البيان 3/192، وتفسير البغوي على حاشية الخازن 1/272، وتفسير ابن كثير 2/14.
3ـ السير لابن هشام 1/613، زاد المعاد 3/171، البداية والنهاية 3/285، وانظر: مسند الإمام أحمد 1/411 من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، المستدرك للحاكم 3/20.
4ـ البداية والنهاية 3/284.(1/167)
لكم آية يا معشر اليهود في فئتين التقتا:
إحداهما: تقاتل في سبيل الله.
وأخرى: كافرة يراهم المسلمون مثليهم رأي أعينهم فأيدنا المسلمة وهم قليل عددهم على الكافرة وهم كثير عددهم حتى ظفروا بهم معتبر ومتفكر والله يقوي بنصره من يشاء ـ وقال جل ثناؤه ـ إن في ذلك يعني فيما فعلنا بهؤلاء الذين وصفنا أمرهم من تأييدنا الفئة المسلمة مع قلة عددها على الفئة الكافرة مع كثرة عددها لعبرة يعني: لمتفكراً ومتعظاً لمن عقل وأدرك فأبصر الحق"أ. هـ1.
2- وأما الشهادة من الله تعالى للبدريين بحقيقة الإيمان ففي قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 2.
فقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} فيها إخبار من المولى ـ جل وعلا ـ بحقيقة إيمانهم فلقد أخبر ـ سبحانه ـ نبيه عليه الصلاة والسلام أنه قواه وأعانه بنصره يوم بدر، كما أيده وأعانه بالمؤمنين، والمؤمنون الذين أيده بهم هم المهاجرون والأنصار الذين حضروا موقعة بدر المباركة قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وإنما أيده في حياته بالصحابة"أ. هـ3.
وقال مقاتل: في بيان معنى الآية {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} قال: قواك بنصره وبالمؤمنين من الأنصار يوم بدر4.
وقال ابن جرير: عند الآية {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} : "يقول: الله الذي قواك بنصره إياك على أعدائه {وَبِالْمُؤْمِنِينَ} يعني:
__________
1ـ جامع البيان 3/198، وانظر: تفسير البغوي على حاشية تفسير الخازن 1/273، وانظر تفسير القرآن العظيم 2/15.
2ـ سورة الأنفال آية/62-63.
3ـ منهاج السنة 1/156.
4ـ زاد المسير 3/376.(1/168)
بالأنصار1.
وقال أبو عبد الله القرطبي: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ} أي: قواك بنصره يريد يوم بدر {وَبِالْمُؤْمِنِينَ} قال النعمان بن بشير نزلت في الأنصار {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} أي: جمع بين قلوب الأوس والخزرج وكان تألف القلوب مع العصبية الشديدة في العرب من آيات النبي صلى الله عليه وسلم ومعجزاته إلا أن أحدهم كان يلطم اللطمة فيقاتل عنها حتى يستقيدها، وكان أشد خلق الله حمية فألف الله بالإيمان بينهم حتى قاتل الرجل أباه وأخاه بسبب الدين، وقيل: أراد التأليف بين المهاجرين والأنصار، والمعنى متقارب"أ. هـ2.
فالآية اشتملت على الثناء بالإيمان الحقيقي على أهل بدر من الفريقين من مهاجرين وأنصار الذين حضروا تلك الغزوة وأيد الله بهم رسوله صلى الله عليه وسلم.
3- قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 3.
وفي هذه الآية مدح الله ـ تعالى ـ المتبعين لنبيه صلى الله عليه وسلم بصفة الإيمان التي هي أعلى صفات الكمال وفي مقدمة هؤلاء الفئة المؤمنة من أهل بدر رضي الله عنهم أجمعين، ومعنى الآية كفاك وكفى أتباعك من المؤمنين الله ناصراً. قال ابن جرير عند هذه الآية: "يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا أيها النبي حسبك الله، وحسب من اتبعك من المؤمنين، الله يقول لهم جل ثناؤه ناهضوا عدوكم فإن الله كافيكم أمركم ولا يهولنكم كثرة عددهم وقلة عددكم فإن الله مؤيدكم بنصره"4.
__________
1ـ جامع البيان 10/35.
2ـ الجامع لأحكام القرآن 8/42.
3ـ سورة الأنفال آية/64.
4ـ جامع البيان 10/37.(1/169)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عند الآية: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ} أي: الله كافيك ومن اتبعك من المؤمنين والصحابة أفضل من اتبعه من المؤمنين وأولهم"أ. هـ1.
وقد نقل القرطبي رحمه الله تعالى: عن ابن الكلبي أن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} إنها نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال.2
وعلى هذا يكون المراد بالذين اتبعوه هم البدريون الذين كان عددهم ثلاثمائة وتسعة عشر رجلاً كما تقدم.
4- قال تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} 3.
فالمقصود بالمؤمنين في هذه الآية هم الذين شهدوا بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاتلوا معه أعداء دينه من كفار قريش فلقد شهد الله لهم في هذه الآية بأنهم مؤمنون وأكرم بها من شهادة صادرة عمن يعلم السر وأخفى فهو ـ سبحانه ـ علم حقيقة أنفسهم وما انطوت عليه من تحقيق الإيمان الصادق، فأخبر ـ سبحانه ـ بما استقر في نفوسهم الزكية من حقيقة الإيمان والبلاء الحسن الذي أبلى به أولئك المؤمنون هو ما أنعم الله به عليهم من الظفر بأعدائهم وغنيمتهم ما معهم، وإثبات ما لهم من الأجر على أعمالهم وجهادهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك هو البلاء الحسن.
ذكر ابن جرير رحمه الله تعالى عن ابن إسحاق أنه قال في قوله تعالى: {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً} أي: ليعرف المؤمنين من نعمه عليهم في إظهارهم على عدوهم مع كثرة عددهم وقلة عددهم ليعرفوا بذلك حقه وليشكروا بذلك نعمته"أ. هـ4.
__________
1ـ منهاج السنة 1/156، وانظر: زاد المعاد 1/35-36.
2ـ الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 8/43.
3ـ سورة الأنفال آية/17.
4ـ جامع البيان 9/206.(1/170)
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى عند قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} : "فهذه الآية نزلت في شأن رميه صلى الله عليه وسلم المشركين يوم بدر بقبضة من الحصباء فلم تدع وجه أحد منهم إلا أصحابته"أ. هـ1.
وروى ابن جرير الطبري: بإسناده إلى محمد بن قيس ومحمد بن كعب القرظي أنهما قالا: لما دنا القوم بعضهم من بعض أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من تراب فرمى بها في وجوه القوم وقال: "شاهت الوجوه" فدخلت في أعينهم كلهم، وأقبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتلونهم ويأسرونهم، وكانت هزيمتهم في رمية رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل الله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} 2.
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: "وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ملء كفه من الحصباء فرمى بها وجوه العدو، فلم تترك رجلاً منهم إلا ملأت عينيه، وشغلوا بالتراب في أعينهم وشغل المسلمون بقتلهم فأنزل الله في شأن هذه الرمية على رسوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} 3.
فالآية اشتملت على مدح أهل بدر والثناء عليهم بصفة الإيمان التي هي من أعلى صفات الكمال التي يسعى لتحقيقها عباد الله المؤمنون بكل ما يمكنهم من العمل الصالح.
5- قال تعالى: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ} 4.
6- وقال تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى
__________
1ـ مدارج السالكين 3/426.
2ـ جامع البيان 9/205 وأخرجه الطبراني من حديث ابن عباس بسند رجاله رجال الصحيح انظر: مجمع الزوائد 6/84.
3ـ زاد المعاد 3/82.
4ـ سورة آل عمران آية/124.(1/171)
قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ * إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} 1.
فقوله تعالى: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ} وقوله: {فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} شهادة قاطعة يقينية على إثبات إيمان أهل بدر رضي الله عنهم وكفى بهذه الشهادة شرفاً ورفعة لأولئك البدريين الأطهار إذ هي شهادة صادرة من رب السموات والأرض وما بينهما الذي يعلم الأمور على حقائقها وما هي عليه.
قال ابن جرير رحمه الله تعالى عند الآية: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ} "بك من أصحابك: {أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ} وذلك يوم بدر"أ. هـ2.
وقد بين الله في الآية السابقة وهي قوله تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} الآية أن المطر الذي أنزله على أرض بدر كان لهم فيه أربع فوائد هي:
1. تطهيرهم حسياً بالنظافة التي تنشط الأعضاء وتدخل السرور على النفس وشرعياً بالغسل من الجنابة، والوضوء من الحدث الأصغر.
2. إذهاب رجس الشيطان عنهم ووسوسته.
3. الربط على قلوبهم، أي: توطين النفس على الصبر وتثبيتها كما قال تعالى: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 3.
4. تثبيت أقدامهم ذلك أن المطر لبد الرمل وصيره بحيث لا تغوص فيه أرجلهم فقدروا على مناجزة أعدائه من المشركين4.
__________
1ـ سورة الأنفال آية/11-12.
2ـ جامع البيان 4/76./
3ـ سورة القصص آية/10.
4ـ انظر: جامع البيان الطبري 9/194، وانظر: زاد المعاد لابن القيم 3/175، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 7/373، تفسير القرآن العظيم لابن كثير 3/289.(1/172)
وفي هذه الفوائد الأربع تكريم لأولئك البدريين رضوان الله عليهم أجمعين.
وأما قوله تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} 1.
وهذه الآية مع ما دلت عليه من إثبات إيمان أهل بدر كذلك دلت صراحة على مشاركة الملائكة في قتال أعداء الدين من كفار قريش.
وقد جاء في صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما: قال: بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وسوط الفارس يقول: أقدم حيزوم2 فنظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقياً فنظر إليه فإذا هو قد خطم أنفه وشق وجهه كضربة السوط فاخضر ذلك أجمع فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "صدقت ذلك من مدد السماء السادسة ... " الحديث3.
وروى الإمام أحمد بإسناده إلى أبي داود المازني وكان شهد بدراً قال: إني لأتبع رجل من المشركين لأضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي فعرفت أنه قتله غيري4.
وروى أيضاً رحمه الله تعالى: بإسناده إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه ... قال: جاء رجل من الأنصار قصير بالعباس بن عبد المطلب أسيراً فقال العباس: يا رسول الله إن هذا والله ما أسرني لقد أسرني رجل أجلح5 من أحسن الناس
__________
1ـ سورة الأنفال آية/12.
2ـ قال في النهاية "حيزوم" جاء في التفسير أنه اسم فرس جبريل عليه السلام 1/467.
3ـ صحيح مسلم 3/1384-1385.
4ـ المسند 5/450، وابن هشام في السيرة 1/633.
5ـ قال ابن الأثير: الأجلح من الناس الذي انحسر الشعر عن جانبيه رأسه 1/284.(1/173)
وجهاً على فرس أبلق1 ما أراه في القوم، فقال الأنصاري: أنا أسرته يا رسول الله، قال: "أسكت فقد أيدك الله تعالى بملك كريم"2.
فهذه الأحاديث صرحت بمشاركة الملائكة في قتال المشركين يوم بدر قال العلامة ابن القيم: "وكانت الملائكة يومئذ تبادر المسلمين إلى قتل أعدائهم"أ. هـ3.
وإمداد الله ـ تعالى ـ لهم بالملائكة لم يكن دفعة واحدة بل كان بالتدريج "قال الربيع بن أنس: أمد الله المسلمين يوم بدر بألف، ثم زادهم فصاروا ثلاثة آلاف، ثم زادهم فصاروا خمسة آلاف، قال الحافظ ابن حجر: وكأنه جمع بذلك بين آيتي آل عمران والأنفال"4.
وقد ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى الحكمة في قتال الملائكة مع الصحابة في بدر فقال: قال الشيخ تقي الدين السبكي: "سألت عن الحكمة في قتال الملائكة مع النبي صلى الله عليه وسلم مع أن جبريل قادر على أن يدفع الكفار بريشة من جناحه؟ فقلت: وقع ذلك لإرادة أن يكون الفعل للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتكون الملائكة مدداً على عادة مدد الجيوش رعاية لصورة الأسباب وسنتها التي أجراها الله ـ تعالى ـ في عباده، والله تعالى هو فاعل الجميع والله أعلم".5
وفيما قدمنا من الآيات القرآنية إثبات لفضل تلك الفئة المؤمنة من البدريين وكما ثبت فضلهم بنص القرآن الكريم كذلك ورد في إثبات فضلهم الكثير من الأحاديث النبوية الصحيحة ومنها ما يلي:
__________
1ـ قال في اللسان البلق: الدابة، والبلق سواد وبياض وكذلك البلقة: بالضم ـ 10/25.
2ـ المسند 1/117.
3ـ زاد المعاد 3/183.
4ـ فتح الباري 7/33، وانظر: جمع قتادة بين الآيتين في جامع البيان 4/78.
5ـ فتح الباري 7/313.(1/174)
1- روى الإمام البخاري بإسناده إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه: قال: "بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا مرثد والزبير، وكلنا فارس، قال: "انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ1 فإن بها امرأة من المشركين معها كتاب من حاطب ابن أبي بلتعة إلى المشركين" فأدركناها تسير على بعير لها حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: الكتاب فقالت: ما معي كتاب، وأنخناها، فلتمسنا فلم نر كتاباً فقلنا: ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم لتخرجن الكتاب، أو لنجردنك فلما رأت الجد أهوت إلى حاجزتها، وهي محتجزة بكساء ـ فأخرجته، فانطلقنا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر: يا رسول الله قد خان الله ورسوله والمؤمنين فدعني فلأضرب عنقه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما حملك" قال حاطب: والله ما بي أن لا أكون مؤمناً بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم أردت أن تكون لي عند القوم يد يدفع الله بها عن أهلي ومالي وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "صدق ولا تقولوا له إلا خيراً" فقال عمر: إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين فدعني فلأضرب عنقه فقال: "لعل الله اطلع على أهل بدر فقالوا اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة، أو فقد غفرت لكم". فدمعت عينا عمر وقال: الله ورسوله أعلم.2.
فلله ما أعظم هذا التكريم لتلك الفئة المؤمنة من البدريين، وما أعظم فضلها عند المولى ـ سبحانه وتعالى ـ.
قال الحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث: "ووقع الخبر بألفاظ منها: "فقد غفرت لكم" ومنها: "فقد وجبت لكم الجنة" ومنها: "لعل الله اطلع" لكن قال العلماء: إن الترجي في كلام الله وكلام رسوله للوقوع، ثم قال: وقد استشكل قوله: "اعملوا ما شئتم" فإن ظاهره أنه للإباحة وهو خلاف
__________
1ـ روضة خاخ: موضع بين مكة والمدينة بقرب المدينة شرح النووي على صحيح مسلم 16/55، وانظر: معجم البلدان لياقوت الحموي 2/335.
2ـ صحيح البخاري 3/7، صحيح مسلم 4/1941.(1/175)
عقد الشرع وأجيب: بأنه إخبار عن الماضي ـ أي: كل عمل كان لكم فهو مغفور ويؤيده أنه لو كان لما يستقبلونه من العمل لم يقل بلفظ الماضي ولقال: فسأغفره لكم، وتعقب بأنه لو كان للماضي لما حسن الاستدلال به في قصة حاطب لأنه صلى الله عليه وسلم خاطب به عمر منكراً عليه ما قال في أمر حاطب وهذه القصة كانت بعد بدر بست سنين فدل على أن المراد ما سيأتي، وأورده في لفظ الماضي مبالغة في تحقيقه، وقيل: إن صيغة الأمر في قوله: "اعملوا" للتشريف والتكريم والمراد عدم المؤاخذة بما يصدر منهم بعد ذلك وأنهم خصوا بذلك لما حصل لهم من الحال العظيمة التي اقتضت محو ذنوبهم السابقة وتأهلوا لأن يغفر الله لهم الذنوب اللاحقة إن وقعت، أي: كل ما عملتموه بعد هذه الوقعة من أي عمل كان فهو مغفور.. وقيل: إن المراد ذنوبهم تقل إذا وقعت مغفورة. وقيل: هي بشارة بعدم وقوع الذنوب منهم. وفيه نظر ظاهر لقصة قدامة بن مظعون حيث شرب الخمر في أيام عمر وحده ... واتفقوا على أن البشارة المذكورة فيما يتعلق بأحكام الآخرة لا بأحكام الدنيا من إقامة الحدود وغيرها والله أعلم1.
وقال النووي: قال العلماء: معناه الغفران لهم في الآخرة وإلا فإن توجه على أحد منهم حد أو غيره أقيم عليه في الدنيا ونقل القاضي عياض الإجماع على إقامة الحد وأقامه عمر على بعضهم قال: وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مسطحاً الحد وكان بدرياً" أ. هـ2.
وقال المناوي شارحاً لهذا الحديث: "اعملوا ما شئتم أن تعملوا فإني غفرت لكم ذنوبكم أي: سترتها فلا أؤاخذكم بها لبذلكم مهجكم في الله ونصر دينه والمراد إظهار العناية بهم وإعلاء رتبتهم والتنويه بإكرامهم والإعلام بتشريفهم وإعظامهم لا الترخيص لهم في كل فعل كما يقال للمحب افعل ما شئت أو هو
__________
1ـ الفتح 7/305-306، وانظر: رسالته في الخصال المكفرة ضمن مجموعة الرسائل المنيرية 1/258.
2ـ شرح النووي على صحيح مسلم 16/56-57.(1/176)
على ظاهره والخطاب لقوم منهم على أنهم لا يقارفون بعد بدر ذنباً وإن قارفوه لم يصروا بل يوفقون لتوبة نصوح فليس فيه تخييرهم فيما شاءوا وإلا لما كان أكابرهم بعد ذلك أشد خوفاً وحذراً مما كانوا قبله"أ. هـ1.
2- روى الإمام مسلم رحمه الله تعالى بإسناده إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن عبداً لحاطب جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو حاطباً فقال: يا رسول الله ليدخلن حاطب النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كذبت لا يدخلها فإنه شهد بدراً والحديبية" 2.
هذا الحديث فيه شهادة لحاطب بدخول الجنة رغم أنه كان يريد أن يعلم قريشاً بمسير النبي صلى الله عليه وسلم إليهم كما أن فيه التصريح بعدم دخول النار لمن شهد بدراً والحديبية.
3- وروى الإمام البخاري رحمه الله بإسناده إلى رفاعة بن رافع الزرقي عن أبيه ـ وكان أبوه من أهل بدر قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم: ما تعدون أهل بدر فيكم قال: "من أفضل المسلمين" ـ أو كلمة نحوها ـ قال: وكذلك من شهد بدراً من الملائكة"3.
وهذا الحديث تضمن بيان درجة أهل بدر ويبين أن لهم درجة كبيرة، ومنزلة عظيمة عند الله ـ جل وعلا ـ فقد نالوا ذلك الفضل وتلك المنزلة بسبب ما قدموه في هذه الحياة الدنيا من جهد في نصرة الإسلام، وقمع عبدة الأصنام وما وقر في قلوبهخم الطيبة من حقيقة الإيمان فكون الملائكة تقاس بهم فإن ذلك من أعظم الأدلة على علو قدرهم وارتفاع درجتهم عند الله ـ تعالى ـ فرضوان الله عليهم أجمعين.
__________
1ـ شرح الجامع الصغير 2/212.
2ـ صحيح مسلم 4/1942.
3ـ صحيح البخاري 3/10.(1/177)
4- وروى البخاري رحمه الله بإسناده أيضاً إلى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "أصيب ـ حارثة ـ1 يوم بدر وهو غلام فجاءت أمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله قد عرفت منزلة حارثة مني، فإن يكن في الجنة أصبر وأحتسب وإن تكن الأخرى تر ما أصنع فقال: "ويحك ـ أو هبلت ـ أو جنة هي؟ إنها جنان كثيرة وإنه في جنة الفردوس" 2. ورواه بلفظ آخر بإسناده إلى أنس رضي الله عنه أن أم الربيع بنت البراء وهي أم حارثة بن سراقة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا نبي الله ألا تحدثني عن حارثة ـ وكان قتل يوم بدر أصابه سهم غرب3 فإن كان في الجنة صبرت وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء قال: "يا أم حارثة إنها جنان في الجنة وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى" 4.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى بعد ذكره حديث حارثة هذا: "وفي هذا تنبيه عظيم على فضل أهل بدر فإن هذا لم يكن في بحيحة القتال ولا في حومة الوغى بل كان من النظارة من بعيد، وإنما أصابه سهم غرب وهو يشرب من الحوض ومع هذا أصاب بهذا الموقف الفردوس ـ التي هي أعلا الجنان، وأوسط الجنة ومنه تفجر أنهار الجنة التي أمر الشارع أمته إذا سألوا الله الجنة ـ أن يسألوه إياها، فإذا كان هذا حال هذا فما ظنك بمن كان واقفاً في نحر العدو وعدوهم على ثلاثة أضعافهم عدداً وعُدداً"أ. هـ5.
5- وجاء في مجمع الزوائد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً من الأنصار عمي فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد اجتمع إليه قومه فتغيب رجل
__________
1ـ ستأتي ترجمته في ص/710 من هذه الرسالة.
2ـ صحيح البخاري 3/7.
3ـ هو الذي: لا يعلم راميه، أو لا يعرف من أين أتى، أو جاء دون قصد من راميه. فتح الباري 6/27.
4ـ صحيح البخاري 2/139.
5ـ البداية والنهاية 3/361.(1/178)
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما فعل فلان" فذكره بعض القوم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أليس قد شهد بدرا" قالوا: نعم ولكنه كذا وكذا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فلعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" 1.
6- وفيه أيضاً: من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأرجو أن لا يدخل النار من من شهد بدراً إن شاء الله" 2.
7- وروى الحاكم بإسناده إلى عبد الرحمن بن عوف قال: كلم طلحة بن عبيد الله عامر بن فهيرة بشيء فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مهلاً يا طلحة فإنه قد شهد بدراً كما شهدت وخيركم خيركم لمواليه" ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه3.
8- ومن مناقب أهل بدر التي دلت على علو شأنهم، ورفعة مكانتهم أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أنهم كتيبة الإيمان وعصابة الإسلام التي كان لها السبق في نصر دين الإسلام وإعلاء كلمته، وأن جهادهم في موقعة بدر كان من أعظم الأسباب في أن يعبد الله وحده لا شريك له على وجه الأرض. فقد روى الإمام مسلم بإسناده إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الدعاء الذي دعا به يوم بدر: "اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض" 4.
ذلك هو الثناء في الكتاب والسنة على تلك الفئة المؤمنة من البدريين الفضلاء فقد أوضح الله ورسوله مكانتهم أتم وضوح فقد كانوا في القمة من الكمال وما حصل لهم ذلك إلا باستجابتهم لربهم ـ تبارك وتعالى ـ على الوجه
__________
1ـ مجمع الزوائد 9/160 ثم قال الهيثمي رواه أبو داود وابن ماجه باختصار كثير في الأوسط وإسناده حسن.
2ـ المصدر السابق 9/161 وقال رواه البزار ورجاله رجال الصحيح غير خداش بن عياش وهو ثقة.
3ـ المستدرك 4/77 وأقره الذهبي.
4ـ صحيح مسلم 3/1384.(1/179)
المطلوب في امتثال الأوامر واجتناب النواهي ولذلك كان جزاؤهم أن وفقهم الله لصالح الأعمال في الدنيا، وفازوا بالجنة في الأخرى والذي أخلص إليه مما تقدم أن الله تعالى أثنى على أهل بدر ثناء حسناً وبين النبي صلى الله عليه وسلم مكانتهم وفضلهم في كثير من الأحاديث وقد ذكرنا بعضها فيما تقدم، فقد بين عليه الصلاة والسلام أنهم مغفور لهم، وأن من شهد بدراً لا يدخل النار وذلك نتيجة لما وقر في قلوبهم من الإيمان الذي ظهرت براهينه في أعمالهم وبسبب ذلك نصرهم الله على عدوهم في موقعة بدر رغم قلة عددهم وعدتهم، ففتح الله عليهم وأخذ أئمة الكفر وشفى صدورهم رضي الله عنهم في أعداء الله وأعداء رسوله والمؤمنين.
قال العلامة ابن القيم: "ثم ارتحل ـ أي رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ بعد انتهاء معركة بدر مؤيداً منصوراً قرير العين بنصر الله له، ومعه الأسارى والمغانم"1.
فكان هذا اليوم يوم سعد وفوز للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكان يوم نحس وشؤم على الكافرين والمنافقين وذلك لاختلاف الأعمال.
قال العلامة ابن القيم: "فسعود الأيام ونحوسها: إنما هو لسعود الأعمال وموافقتها لمرضاة الرب، ونحوس الأعمال إنما هو بمخالفتها لما جاءت به الرسل واليوم الواحد يكون يوم سعد لطائفة، ونحس لطائفة كما كان يوم بدر، يوم سعد للمؤمنين، ويوم نحس على الكافرين"2.
__________
1ـ زاد المعاد 3/188.
2ـ مفتاح دار السعادة 2/194، وانظر: التفسير القيم لابن القيم ص/430.(1/180)
المبحث الثالث: الثناء على أهل أحد1
قد جاء الثناء في كتاب الله ـ عز وجل ـ وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام على تلك الفئة المؤمنة من الصحابة رضي الله عنهم الذين حضروا موقعة أحد بغية نصرة دين الله ـ تعالى ـ ونصرة سيد الخلق المبعوث بدين الإسلام الذي ارتضاه الله لعباده الله لعباده ديناً وكانت موقعة أحد في نصف شوال في السنة الثالثة للهجرة أول نهار السبت2 وفي فتح الباري لإحدى عشرة ليلة خلت منه، وقيل لسبع، وقيل لثمان، وقيل لتسع"3.
وذلك "لما قتل الله أشراف قريش ببدر، وأصيبوا بمصيبة لم يصابوا بمثلها ورأس فيهم أبو سفيان بن حرب لذهاب أكابرهم ... أخذ يؤلب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين ويجمع الجموع، فجمع قريباً من ثلاثة آلاف من قريش والخلفاء والأحابيش وجاءوا بنسائهم لئلا يفروا وليحاموا عنهن، ثم أقبل بهم نحو المدينة، فنزل قريباً من جبل أحد بمكان يقال له عينين ... واستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أيخرج إليهم، أم يمكث في المدينة؟ وكان رأيه ألا يخرجوا من المدينة وأن يتحصنوا بها فإن دخلوها قاتلهم المسلمون على أفواه الأزقة، والنساء من فوق البيوت ووافقه على هذا الرأي عبد الله بن أبي، وكان هو الرأي فبادر جماعة من
__________
1ـ قال السهيلي: سمي أحداً لتوحده وانقطاعه عن جبال أخرى هناك أ. هـ الروض الأنف 5/448 وبهذا قال ابن كثير في البداية والنهاية 4/11، وانظر: فتح الباري 7/376-378، لوامع البهية 2/367، وأحد جبل معروف يقع شمال المدينة.
2ـ تاريخ الأمم والملوك 2/499، جامع البيان 4/70، تفسير البغوي مع الخازن 1/344، الكامل في التاريخ 2/150.148، البداية والنهاية 4/11، تفسير القرآن العظيم 2/104.
3ـ فتح الباري 7/346.(1/181)
فضلاء الصحابة ممن فاته الخروج يوم بدر، وأشاروا عليه بالخروج، وألحوا عليه في ذلك، وأشار عبد الله بن أبي بالمقام في المدينة، وتابعه على ذلك بعض الصحابة فألح أولئك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهض ودخل بيته ولبس لأمته وخرج عليهم وقد انثنى عزم أولئك وقالوا أكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخروج فقالوا: يا رسول الله إن أحببت أن تمكث في المدينة فافعل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه" 1 فخرج عليه الصلاة والسلام في ألف من الصحابة بيوم الجمعة فلما صار بالشوط بين المدينة وأحد رجع عنه عبد الله بن أبي بثلث الناس2 وقال: أطاعهم وعصانا، ما ندري علام نقتل أنفسنا هاهنا أيها الناس؟ فرجع بمن اتعبه من قومه من أهل النفاق والريب، واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام أخو بني سلمة يقول: يا قوم أذكركم الله ألا تخذلوا قومكم ونبيكم عندما حضر من عدوهم فقالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لما أسلمناكم ولكننا لا نرى أنه يكون قتال قال: فلما استعصوا عليه وأبوا إلا الانصراف عنهم قال: أبعدكم الله أعداء الله فسيغني الله عنكم نبيه3 وهكذا أخرج الله المنافقين مع رئيسهم من بين المؤمنين حقاً الذين هم أهل لتخليد ذكراهم بالثناء الجميل في الكتاب العزيز والسنة النبوية المطهرة ويذكرون بهذا الثناء الطيب على مر الأيام والليالي إلى يوم القيامة وكان عددهم رضي الله عنهم سبعمائة فيهم خمسون فارساً4 ولقد جاء الثناء عليهم في القرآن في غير ما آية:
1- قال تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ
__________
1ـ انظر: مسند الإمام أحمد 13/351، والحاكم 2/128-129 ووافقه الذهبي على تصحيحه، سنن الدارمي 2/129.
2ـ زاد المعاد لابن القيم 3/192-194، وانظر السيرة النبوية لابن هشام 2/63-64.
3ـ السيرة النبوية لابن هشام 2/64.
4ـ زاد المعاد 3/194، وانظر السيرة النبوية لابن هشام 2/65، البداية والنهاية 4/15.(1/182)
وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} 1.
هذه الآية تضمنت الثناء البالغ على أهل أحد بشهادة الله ـ تعالى ـ لهم بحقيقة الإيمان الذي حل واستقر في قلوبهم الطيبة وفي هذه الشهادة فضيلة أيما فضيلة لمن حضر من الصحابة موقعة أحد.
وقد اختلف السلف رحمهم الله تعالى في المراد بهذه الآية: فقال بعضهم: عنى بذلك يوم أحد.
قال حبر الأمة عبد الله بن عباس في قوله: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} قال: هو يوم أحد.
وقال قتادة: ذلك يوم أحد غدا نبي الله صلى الله عليه وسلم من أهله إلى أحد يبوء المؤمنين وبهذا القول قال مجاهد والربيع بن أنس والسدي وابن إسحاق.
وقال بعضهم: عنى بذلك يوم الأحزاب.
وهذا القول ذهب إليه مجاهد في رواية عنه والحسن ومقاتل والكلبي وفي رواية عن الحسن أيضاً أنه يوم بدر.
وأرجحها هو ما ذهب إليه الجمهور وهو المراد من ذلك يوم أحد. لأن الله تعالى قال في الآية التي بعدها: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} ولا خلاف بين أهل التفسير أنه عنى بالطائفتين بنو سلمة وبنو حارثة، ولا خلاف بين أهل السير والمعرفة بمغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذي ذكر الله من أمرهما إنما كان يوم أحد دون يوم الأحزاب"2.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى بعد قوله تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ} الآية المراد بهذه الوقعة يوم أحد عند الجمهور قاله ابن عباس وقتادة والسدي وغير واحد3.
__________
1ـ سورة آل عمران آية/121.
2ـ انظر جامع البيان للطبري 4/69-70، زاد المسير 1/499، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 4/184.
3ـ تفسير القرآن العظيم 2/104.(1/183)
فالآية اشتملت على منقبة عظيمة لجميع الصحابة الذين حضروا موقعة أحد بغية نصر دين الإسلام وإذلال الشرك وخفض رايته بالجهاد في سبيل الله وتلك المنقبة التي تضمنتها الآية هي إخبار الله جل وعلا بثبوت حقيقة الإيمان ورسوخه في قلوبهم الطاهرة النقية رضي الله عنهم أجمعين.
2- وقال تعالى: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} 1. هذه الآية فيها ثناء ومدح عظيم على الطائفتين اللتين همتا بالفشل وهاتان الطائفتان بنو سلمة وبنو حارثة كانتا في يوم أحد جناحي معسكر الإيمان، والهم الذي همت به هاتان الطائفتان هو الانصراف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وذلك حين انصرف ابن أبي بثلث الناس، وهذا الهمّ الذي حصل لهما لم يكن عن شك في الإسلام، أو نفاق حاشاهم من ذلك وإنما كان نتيجة عارض الضعف وشيء من الجبن عن لقاء العدو، ولكن الله تعالى تدارك الطائفتين بالعصمة، مما كانا قد هما به فقويت عزائمهم وثبتوا على الرشد ومضوا لقتال أهل الشرك تحت راية الإسلام مع سيد الأنام عليه الصلاة والسلام. والثناء الذي حظيت به هاتان الطائفتان هو أن الآية ناطقة مفصحة بأن الله وليهم وأن تلك الهمة التي هموها ما أخرجتهم من ولاية الله تعالى وفي هذا من الشرف العظيم لهاتين الطائفتين ما لا يعلمه إلا الله فقد روى الشيخان من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: فينا نزلت: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} بنو سلمة وبنو حارثة وما نحب أنها لم تنزل لقول الله ـ عز وجل ـ: {وَلِيُّهُمَا} 2. حق لجابر رضي الله عنه أن يُسَر ويفرح بالتنويه بهذه المنقبة العظيمة لأن ولاية الله لا يظفر بها إلا المؤمنون والصالحون من عباده قال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} 3.
__________
1ـ سورة آل عمران آية/122.
2ـ صحيح البخاري 3/113، صحيح مسلم 4/1948.
3ـ سورة البقرة آية/257.(1/184)
وقال: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} 1.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى شارحاً لحديث جابر: "قوله: نزلت هذه الآية فينا أي في قومه بني سلمة وهم من الخزرج وفي أقاربهم بني حارثة وهم الأوس" وقوله: وما أحب أنها لم تنزل والله يقول: {وَلِيُّهُمَا} أي: وإن الآية وإن كان في ظاهرها غض منهم لكن في آخرها غاية الشرف لهم قال ابن إسحاق: قوله: {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} أي: الدافع عنهما ما هموا به من الفشل لأن ذلك كان من وسوسة الشيطان من غير وهن منهم"2.
فالآية تضمنت منقبة عظيمة للطائفتين اللتين هما بنو سلمة وبنو حارثة حيث صرحت الآية بولاية الله لهما وحفظها مما كانا قد هما به وهو الانصراف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين يوم أحد وأن ذلك الهم لم يخرجهما من ولاية الله لهما.
3- وقال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} 3.
هذه الآية تحمل في طياتها الثناء على أهل أحد وهذا الثناء هو صدق الله لهم ما وعدهم به من النصر على أعدائهم، وعفوه تعالى عنهم لما وقع من بعضهم من فشل وتنازع في أمر الحرب وإرادة الحياة الدنيا وبين تعالى أن ذلك من فضله على أولئك الصفوة رضي الله عنهم كما تضمنت الثناء على بعضهم بإرادتهم الآخرة قبل الدنيا والثناء عليهم جميعاً بتحقيقهم الإيمان الذي هو ينبوع كل خير والدافع إلى كل بر وإلى كل ما يحقق للإنسان السعادة
__________
1ـ سورة الأعراف آية/196.
2ـ فتح الباري 7/357.
3ـ سورة آل عمران آية/152.(1/185)
في دنياه وآخرته، وقد يخطر على بال إنسان فيقول: إن الله ـ جل وعلا ـ قد أخبر أن في أهل أحد من يريد الدنيا وذلك بقوله في الآية: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا} ويجاب عن هذا أن ذلك لا يقدح في حقيقة إيمانهم دل على هذا تمام الآية فقد أخبر ـ تعالى ـ أنه قد عفا عنهم وبين أن ذلك العفو كان فضلا منه تعالى تفضل به عليهم بسبب إيمانهم قال تعالى في ختام الآية: {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} وهذا من تمام نعمه ـ جل وعلا ـ على عباده المؤمنين حيث نصرهم أولا في وقعة أحد، ثم عفا عن المخطئين بترك مقاعدهم التي أمرهم الرسول بلزومها وعدم تركها ثانياً لأنه تعالى دو الفضل والطول والإحسان1 روى ابن جرير بإسناده إلى ابن إسحاق أنه قال: {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} يقول: وكذلك منَّ الله على المؤمنين أن عاقبهم ببعض الذنوب في عاجل الدنيا أدباً وموعظة فإنه غير مستأصل لكل ما فيهم من الحق له عليهم لما أصابوا من معصيته رحمة لهم وعائدة عليهم لما فيهم من الإيمان"أ. هـ2.
4- قال تعالى مادحاً أهل أحد عندما ندبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لتعقب جيش الشرك الذي جاء إلى أحد بقيادة أبي سفيان بعد انتهاء معركة أحد: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} 3.
هذه الآيات اشتملت على مدح عظيم للصحابة رضي الله عنهم الذين
__________
1ـ انظر: جامع البيان للطبري 4/132-134، تفسير البغوي على الخازن 1/363، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 4/237، تفسير القرآن العظيم 2/127، تفسير روح المعاني للألوسي 4/90.
2ـ جامع البيان 4/132.
3ـ سورة آل عمران آية/172-174.(1/186)
حضروا مع النبي صلى الله عليه وسلم واقعة أحد فقد مدحهم الله ـ تعالى ـ بالاستجابة لله والرسول حينما ندبهم صلى الله عليه وسلم لتعقب أبي سفيان في اليوم الثاني من غزوة أحد وقد أجابوا الدعوة ولبوا النداء وأتوا بالمطلوب منهم على أكمل وجه واتقوا عاقبة تقصيرهم على ما هم عليه من جراح وآلام أصابتهم، وقد وعد تعالى المحسنين المتقين منهم بالثواب العظيم وقد فعلوا رضي الله عنهم ما وعدهم الثواب عليه، كما أثنى عليهم ـ تبارك وتعالى ـ بقوة الإيمان وزيادته والصبر على البلاء وتفويضهم كل الأمور باللجأ إلى الله تعالى، كما أخبر ـ تعالى ـ أنه أكرمهم بأن انقلبوا إلى أهليهم وقد تظاهرت عليهم نعم الله فسلموا من تدبير عدوهم وأطاعوا رسولهم وفازوا بالأجر الكريم، ولم يمسسهم قتل ولا أذى، كما أثنى عليهم تعالى، بأنهم اتبعوا في كل ما أوتوا من قول أو قول أو فعل رضى الله الذي هو وسيلة النجاة والسعادة في الدنيا والآخرة، فأطاعوا رسوله في كل ما به أمر، وعنه نهى، وقد بين ـ تعالى ـ أنه تفضل عليهم بزيادة الإيمان، والتوفيق إلى المبادرة إلى الجهاد، والجراءة على العدو وحفظهم من كل ما يسوؤهم وقد اتفق العلماء أن المراد بالذين استجابوا لله والرسول في قوله: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} هم المهاجرون والأنصار الذين حضروا معه صلى الله عليه وسلم وقعة أحد، قال العلامة ابن جرير رحمه الله تعالى بعد قوله عز وجل: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية: "يعني بذلك جل ثناؤه: وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين المستجيبين لله والرسول من بعد ما أصابهم الجراح والكلوم، وإنما عنى الله ـ تعالى ـ ذكره بذلك الذين اتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حمراء الأسد في طلب العدو أبي سفيان ومن كان معهم من مشركي قريش منصرفهم من أحد وذلك أن أبا سفيان لما انصرف عن أحد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثره حتى بلغ حمراء الأسد وهي على ثمانية أميال من المدينة ليرى الناس أن به وأصحابه قوة على عدوهم"1.
__________
1ـ جامع البيان 4/176.(1/187)
وقال الإمام البخاري رحمه الله تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية ثم ساق بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها قالت لعروة: "يا ابن أختي كان أبواك منهم: ـ الزبير وأبو بكر ـ لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أصاب يوم أحد وانصرف عنه المشركون خاف أن يرجعوا قال: "من يذهب في أثرهم؟ " فانتدب منهم سبعون رجلاً قال: كان فيهم أبو بكر والزبير"1.
فالإمام البخاري بين لنا سبب نزول الآية وأنها تتعلق بأحد وأن الذين خرجوا لطلب العدو بلغوا سبعين رجلاً منهم أبو بكر والزبير بن العوام وأخرج ابن جرير الطبري بإسناده إلى ابن عباس أن منهم أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً والزبير وسعد وطلحة وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وأبا عبيدة بن الجراح"2.
وذكر القرطبي: "أنه نهض مع النبي صلى الله عليه وسلم مائتا رجل من المؤمنين"أ. هـ3.
فالآية اشتملت على المدح والثناء على الصحابة من أهل أحد بالاستجابة والطاعة لله ـ جل وعلا ـ في جميع أوامره وطاعتهم الرسول عليه الصلاة والسلام طاعة يرجون من ورائها ثواب الله ـ تعالى ـ ولم يمنعهم من ذلك ما بهم من جروج وكلوم أصابتهم في سبيل الله يوم أحد بل خرجوا إلى حمراء الأسد ممتثلين لندب الرسول صلى الله عليه وسلم إياهم، متلذذين بتلك الطاعة التي أنستهم كل ألم وكل أذى أصابهم في ذات الله وزادهم ذلك قوة وجراءة واستعداداً لمواجهة أهل الشرك وقتالهم حتى يدخلوا في دين الله الحق، ولقد أحسنوا رضي الله عنهم في الإجابة إلى الغزو واتقوا معصية الرسول والتخلف عنه فأكرمهم الله ـ عز وجل ـ بالثواب الجزيل العظيم وهو الجنة، رضي الله عنهم وأرضاهم وأكرمنا بفضله معهم.
__________
1ـ صحيح البخاري 3/126.
2ـ جامع البيان 4/177.
3ـ الجامع لأحكام القرآن 4/277.(1/188)
وأما قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} هذه الآية أيضاً: فيها إخبار بأن "هذه الصفة من صفة الذين استجابوا لله والرسول والناس الأولى ـ في هذه الآية ـ هم قوم كان أبو سفيان سألهم أن يثبطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين خرجوا في طلبه بعد منصرفه عن أحد إلى حمراء الأسد، والناس الثانية هم أبو سفيان وأصحابه من قريش الذين كانوا معه بأحد وقوله: {قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} أي: قد جمعوا الرجال للقائكم، والكرة إليكم لحربكم {فَاخْشَوْهُمْ} فاحذروهم واتقوا لقاءهم فإنه لا طاقة لكم بهم {فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} أي: فزادهم ذلك من تخويف من خوفهم أمر أبي سفيان وأصحابه من المشركين يقيناً إلى يقينهم، وتصديقاً لله ولوعده ووعد رسوله إلى تصديقهم ولم يثنهم ذلك عن وجههم الذي أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسير فيه ولكن ساروا حتى بلغوا رضوان الله منه، وقالوا ثقة بالله، وتوكلا عليه إذ خوفهم من خوفهم أبا سفيان وأصحابه من المشركين {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} أي: كفانا الله وهو نعم المولى لمن وليه وكفله ... فلما كان القوم الذين وصفهم الله بما وصفهم به في هذه الآية قد كانوا فوضوا أمرهم إلى الله ووثقوا به وأسندوا ذلك إليه وصف نفسه بقيامه لهم بذلك وتفويضهم أمرهم إليه بالوكالة فقال: ونعم الوكيل الله تعالى لهم"1.
هذه صفة أهل الإيمان والتقوى من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث "توعدهم الناس بالجموع وخوفوهم بكثرة الأعداء فما اكترثوا لذلك بل توكلوا على الله واستعانوا به"2 فالآية تضمنت ثناء الله عليهم بقيلهم {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} وأن تخويف الناس لهم بكثرة عددهم وقوة عدتهم زادهم تصديقاً ويقيناً في دينهم وإقامة على نصرتهم لدين الإسلام معتمدين على الله عز وجل
__________
1ـ جامع البيان 4/178-179، وانظر تفسير البغوي على الخازن 1/378.
2ـ تفسير القرآن العظيم 2/161.(1/189)
في كل الأمور وبهذه الصفات الطيبة كانوا أصفى خلق الله وخيرتهم بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
وأما قوله عز وجل: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} ففيها أيضاً: ثناء جميل وإكرام عظيم للذين استجابوا لله وللرسول من بعد ما أصابهم القرح فقد أكرمهم الله بأن رجعوا سالمين من حمراء الأسد فلم يلقوا عدواً بحيث كفاهم الله ما أهمهم ورد عنهم بأس الذين كفروا بقذف الخوف والرعب في قلوبهم، ثم أثنى عليهم باتباعهم رضوان الله الذي هو مناط كل خير وسعادة في الدنيا والآخرة فاتبعوا أمر الله وابتعدوا عن نهيه واتبعوا رسوله حين ندبهم للخروج ولذلك تفضل الله عليهم بالتوفيق والسداد فيما فعلوا وظفروا بالأجر العظيم والثواب الجزيل لاتباعهم ما يرضي الله ورسوله1.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: قال تعالى: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} أي: لما توكلوا على الله كفاهم ما أهمهم ورد عليهم بأس من أراد كيدهم فرجعوا إلى بلدهم {بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} مما أضمر لهم عدوهم"2.
5- أثنى الله تبارك وتعالى ثناء حسناً على الشهداء والذين لحقوا بالرفيق الأعلى يوم أحد وهم مقاتلون في سبيل الله تعالى وفاء منهم بصدق ما عاهدوا الله تعالى عليه وقد جاء الثناء عليهم بالذكر الحسن في أربع آيات من الكتاب العزيز قال تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مَنْ
__________
1ـ انظر: جامع البيان للطبري 4/183، وانظر تفسير البغوي على حاشية الخازن 1/380، وانظر: دلائل النبوة للبيهقي 3/318، وفتح القدير للشوكاني 1/400، تفسير روح المعاني 4/129.
2ـ تفسير القرآن العظيم 2/163.(1/190)
خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} 1. وقال تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} 2.
هذه الآيات بين الله ـ تعالى ـ فيها مكانة الشهداء وعلو درجتهم وأنهم أحياء عند ربهم يرزقون وفرحون بما آتاهم الله من الكرامة والفضل، وأنهم يسبشرون بإخوانهم الذين لم يلحقوا بهم بما أنعم الله به عليهم من فضل وأنه لا خوف عليهم ولا حزن لأن الدار التي انتقلوا إليها هي دار الحياء والفرح لا حزن ولا نغص في عيشها، وقد كان عدد هؤلاء الشهداء الذين استشهدوا في أحد سبعين شهيداً كما في صحيح البخاري3. رحمه الله تعالى منهم ست من المهاجرين منهم سيد الشهداء حمزة ومصعب وعبد الله بن جحش وشماس بن عثمان وثقف بن عمرو وهذا يوافق ما رواه أبو عبد الله الحاكم عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: لما كان يوم أحد أصيب من الأنصار أربعة وستون رجلاً ومن المهاجرين ستة فمثلوا بهم وفيهم حمزة ... الحديث4.
فقوله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} هذه الآية تضمنت النهي عن ظن الموت بالشهداء فدلت على أنهم أحياء عند ربهم يرزقون والخطاب موجه للنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ولا تحسبنهم يا محمد أمواتاً لا يحسون شيئاً ولا يلتذون ولا يتنعمون فإنهم أحياء عندي متنعمون في رزقي فرحون مسرورون بما آتيتهم من كراماتي وفضلي، حبوتهم به من جزيل ثوابي وعطائي"5.
__________
1ـ سورة آل عمران آية/169-171.
2ـ سورة الأحزاب آية/23.
3ـ صحيح البخاري 3/26.
4ـ المستدرك 2/359 وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه وأقره الذهبي.
5ـ جامع البيان 4/170، وانظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 4/268-274، وانظر التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة للقرطبي ص/155- القسم الأول، وانظر فتح القدير للشوكاني 1/399.(1/191)
قال الحافظ ابن كثير: بعد الآية {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً} الآية: "يخبر تعالى عن الشهداء بأنهم وإن قتلوا في هذه الدار فإن أرواحهم حية مرزوقة في دار القرار"أ. هـ1.
فالآية دلت على فضيلة عظيمة للشهداء وهي أن من لم ينهزم فقتل له الكرامة والحياة عند الله تعالى.
وأما قوله تعالى: {فَرِ حِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} هذه الآية اشتملت على تكريم عظيم لأولئك الشهداء وهم أنهم فرحون بما أعطاهم الله من الصواب والكرامة والإحسان والإفضال في دار النعيم، ويفرحون ويسرون بإخوانهم الذين تركوهم أحياء في الحياة الدنيا على منهج الإيمان والجهاد لعلمهم بأنهم إذا ماتوا في سبيل الله لحقوا بهم ونالوا من الكرامة مثل ما نالوا فهم بذلك مستبشرون. وبين تعالى: "أنه لا خوف عليهم لأنهم قد أمنوا عقاب الله وأيقنوا برضاه عنهم فقد أمنوا الخوف الذي كانوا يخافونه من ذلك في الدنيا، ولا هم يحزنون على ما خلفوا وراءهم من أسباب الدنيا ونكد عيشها الحظ الذي صاروا إليه وادعى الزلفى"2.
وهذا من أعظم التكريم الذي يكرم الله به من يشاء من عباده الذين بذلوا أنفسهم للجهاد في سبيل الله من أجل إعلاء كلمة الله ونصرة دينه الحنيف.
وأما قوله تعالى: {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} وهذه الآية بين الله ـ تعالى ـ فيها أن الشهداء يستبشرون بما رزقوا من النعيم والفضل وهذا الاستبشار في هذه الآية كان لأنفسهم، وأما الاستبشار الأول الذي في الآية المتقدمة قبل هذه فإنه كان لغيرهم من إخوانهم
__________
1ـ تفسير القرآن العظيم 2/153.
2ـ جامع البيان 4/174، وانظر: زاد المسير لابن الجوزي 1/502، الجامع لأحكام القرآن 4/275، فتح القدير للشوكاني 1/399، أضواء البيان 1/262.(1/192)
المؤمنين الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم وختم الله هذه الآية بالإخبار بأنه ـ تعالى ـ كما لا يضيع أجر المجاهدين والشهداء كذلك لا يضيع أجر المؤمنين.
قال العلامة ابن جرير الطبري: "يقول: ـ جل ثناؤه ـ: {يَسْتَبْشِرُونَ} يفرحون {بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ} يعني: بما حباهم به تعالى ذكره من عظيم كراماته عند ورودهم عليه {وَفَضْلٍ} يقول: وبما أسبغ عليهم من الفضل وجزيل الثواب على ما سلف منهم من طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وجهاد أعدائه.... ومعنى قوله: {لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} لا يبطل جزاء أعمال من صدق رسوله واتبعه وعمل بما جاءه من عند الله ... ثم روى بإسناده إلى محمد بن إسحاق في قوله: {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ} الآية قال: سروا ـ لما عاينوا أن وفاء الموعود وعظيم الثواب1.
فالآية اشتملت على التنويه باستبشار شهداء أحد بمغفرة الله تعالى لهم وفضله عليهم حين قدموا على ربهم ـ تبارك وتعالى ـ.
وأما قوله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} هذه الآية هي الآية الرابعة التي سيقت في الثناء على شهداء أحد فقد بين ـ تعالى ـ فيها أن من الصحابة الذين حضروا غزوة أحد رجالا قاموا بما عاهدوا الله تعالى عليه ووفوا بما نذروا به فصبروا على الجهاد حتى استشهدوا في سبيل الله ـ تعالى ـ من أجل إعلاء كلمة الله ونصرة دينه ومنهم من بقي بعد أولئك الشهداء وهم ينتظرون أحد الأمرين إما الشهادة أو النصرة وكانوا على عهدهم فلم يغيروه، أو يبدلوه رضي الله عنهم حتى لقوا ربهم ـ تبارك وتعالى ـ ورضي الله عنهم أجمعين.
قال العلامة ابن جرير الطبري: "يقول تعالى ذكره {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} بالله
__________
1ـ جامع البيان 4/175-176، تفسير القرآن العظيم 2/157، وانظر في معنى الآية أيضاً: الجامع لأحكام القرآن 4/275، فتح القدير للشوكاني 1/399.(1/193)
ورسوله {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} يقول: أوفوا بما عاهدوه عليه من الصبر على البأساء والضراء وحين البأس {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} يقول: فمنهم من فرغ من العمل الذي كان أنذره لله وأوجبه له على نفسه، فاستشهد بعض يوم بدر، وبعض يوم أحد، وبعض في غير ذلك من المواطن {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} فضاءه والفراغ منه كما قضى من مضى منهم على الوفاء لله بعهده والنصر من الله والظفر على عدوه، والنحب: النذر في كلام العرب وللنحب أيضاً: في كلامهم وجوه غير ذلك منها الموت ... وقوله: {وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} وما غيروا العهد الذي عاقدوا ربهم تغييراً كما غيره المعوقون القائلون لإخوانهم: {هَلُمَّ إِلَيْنَا} والقائلون: {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} أ. هـ1.
فالآية تضمنت الثناء والمدح على شهداء أحد بتحقيقهم الإيمان الكامل والثناء عليهم بالصدق والوفاء فما عرف منهم مغير وما وجد من جماعتهم مبدل رضي الله عنهم، وكل الآيات المتقدمة بين الله ـ تعالى فيها أن ما حصل يوم أحد كان ابتلاء ليتميز أهل النفاق من أهل الإيمان الصادق وبين ـ سبحانه ـ أن من لم ينهزم في موقعة أحد فقتل له الكرامة، وذلك أن الشهداء أحياء في الجنة يرزقون ولا محالة أنهم ماتوا وأن أجسادهم في التراب وأرواحهم حية كأرواح سائر المؤمنين. ذلك هو الثناء في القرآن على أهل أحد. أما الأحاديث التي وردت في السنة المطهرة فكثيرة وفيها بيان فضلهم رضي الله عنهم، وبيان منزلتهم منها ما هو عام، ومنها ما هو خاص ومن ذلك ما يلي:
1. روى الإمام أحمد بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله ـ عز وجل ـ أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة تأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وحسن منقلبهم،
__________
1ـ جامع البيان 21/145-147، تفسير القرآن العظيم 5/438، فتح القدير للشوكاني 4/271-272.(1/194)
قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون بما صنع الله لنا لئلا يزهدوا في الجهاد، ولا ينكلوا عن الحرب فقال الله ـ عز وجل ـ: أنا أبلغهم عنكم فأنزل الله ـ عز وجل ـ هؤلاء الآيات على رسوله: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً} "1.
2. وأخرج الحاكم بإسناده إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: نزلت هذه الآية في حمزة وأصحابه {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ} 2.
3. وروى الإمام مسلم بإسناده إلى مسروق قال: سألنا عبد الله ـ هو ابن مسعود ـ عن هذه الآية: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} قال: أما إنا قد سألنا عن ذلك فقال: "أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل فاطلع إليهم ربهم اطلاعة فقال: هل تشتهون شيئاً؟ قالوا: أي شيء نشتهي؟ ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا ففعل ذلك ثلاثة مرات فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا، قالوا: يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا" 3.
هذه الأحاديث المتقدمة فيها بيان إكرام الله تعالى للشهداء على وجه الخصوص فقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: "فقال لهم الله هل تشتهون شيئاً" ... الخ
__________
1ـ المسند 1/265-266، سنن أبي داود 2/14، ابن هشام في السيرة 2/119، وابن جرير في جامع البيان 4/171، وأبو يعلى الموصلي في مسنده 4/218، والحاكم في مستدركه 2/288 وص/297 وقال في الموضعين صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وأقره الذهبي والحديث عند مسلم كما هو هنا بمعناه والآيات المشار إليها في الحديث رقم 169-171 من سورة آل عمران.
2ـ المستدرك 2/387.
3ـ صحيح مسلم 2/1502.(1/195)
الحديث" هذا فيه مبالغة في إكرامهم وتنعيمهم إذ قد أعطاهم الله ما لا يخطر على قلب بشر ثم رغبهم في سؤال الزيادة فلم يجدوا مزيداً على ما أعطاهم فسألوه حين رأوه وأنه لا بد من سؤال أن يرجع أرواحهم إلى أجسادهم ليجاهدوا ويبذلوا أنفسهم في سبيل الله تعالى ويستلذوا بالقتل في سبيله"1.
4. وروى الإمام الترمذي بإسناده إلى طلحة بن خراش قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "مالي أراك منكسراً؟ " قلت يا رسول الله استشهد أبي وترك عيالا وديناً قال: "ألا أبشرك بما لقي الله به أباك" قال: بلى يا رسول الله قال: "ما كلم الله أحداً إلا من وراء حجابه وأحيا أباك فكلمه كفاحاً 2 فقال: تمن علي أعطيك قال: يا رب تحييني فأقتل فيك ثانية قال الرب تبارك وتعالى: إنه قد سبق مني أنهم لا يرجعون" قال: وأنزلت هذه الآية {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً} الآية ثم قال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه ولا نعرفه إلا من حديث موسى بن إبراهيم ورواه علي بن عبد الله المديني وغير واحد من كبار أهل الحديث هكذا عن موسى بن إبراهيم وقد روى عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر شيئاً من هذا"3.
قال الزرقاني شارحاً لقوله في الحديث: "ما كلم الله أحداً قط يعني لم يكلم أحداً غير من قام الدليل على تكليمهم بلا واسطة كالمصطفى عليه الصلاة والسلام وموسى عليه السلام، أو المراد من هؤلاء الشهداء كما يرشد إليه السياق"أ. هـ4.
وأخرج ابن جرير بإسناده إلى أنس أن سبب نزول الآية قتلى بئر معونة.
وقال العلامة الشوكاني: "وعلى كل حال فالآية باعتبار عموم لفظها يدخل تحتها
__________
1ـ شرح النووي على صحيح مسلم 13/33.
2ـ كفاحاً: أي مواجهة ليس بينهما حجاب ولا رسول النهاية 4/185.
3ـ سنن الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي 8/360، الرد على الجهمية للدارمي ص/86.
4ـ شرح المواهب اللدنية 2/53.(1/196)
كل شهيد"أ. هـ1.
5. ما رواه الشيخان بإسنادهما إلى جابر بن عبد الله يقول: لما كان يوم أحد جيء بأبي2 مسجى وقد مثل به قال: فأردت أن أرفع الثوب فنهاني قومي ثم أردت أن أرفع الثوب فنهاني قومي فرفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أمر به فرفع فسمع صوت باكية أو صائحة فقال: "من هذه" فقالوا: بنت عمرو أو أخت عمرو فقال: "ولم تبكي فما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفع" وفي رواية أنه قال: "تبكيه أو لا تبكيه ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه" 3.
قال النووي رحمه الله تعالى مبيناً هذا التكريم والمنقبة التي نالها والد جابر بن عبد الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "فما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفع" قال القاضي: "ويحتمل أن ذلك لتزاحمهم عليه لبشارته بفضل الله ورضاه عنه وما أعد له من الكرامة عليه ازدحموا عليه إكراماً له وفرحاً به أو أظلوه من حر الشمس لئلا يتغير ريحه أو جسمه ... وقال عند قوله صلى الله عليه وسلم: "تبكيه أو لا تبكيه ما زالت الملائكة تظله" معناه سواء بكيت عليه أم لا فما زالت الملائكة تظله أي: فقد حصل له من الكرامة هذا وغيره فلا ينبغي البكاء على مثل هذا وفي هذا تسلية لها"أ. هـ4.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: "وأو" في قوله "تبكين أو لا تبكين"
__________
1ـ فتح القدير 1/401.
2ـ اسمه عبد الله بن عمرو بن حرام بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي السلمي أسلم قديماً وكان من النقباء وشهد العقبة ثم بدراً، وقتل يوم أحد قتله أسامة الأعور وقيل سفيان بن عبد شمس أبو الأعور قال الواقدي: صل عليه النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهزيمة وهذا فيه نظر لأنه نقل إلى المدينة ولم يكن يعلم به الرسول صلى الله عليه وسلم حتى أعادوه بعد أمر الرسول بإعادة الشهداء فصلى عليه معهم ـ انظر الاستيعاب 2/331، الإصابة 2/341، مغازي الواقدي 1/266.
3ـ صحيح البخاري 1/224وص/216، صحيح مسلم 4/1917-1918.
4ـ شرح النووي على صحيح مسلم 16/25-26.(1/197)
للتخيير ومعناه أنه مكرم بصنيع الملائكة وتزاحمهم عليه لصعودهم بروحه"1 وقال أيضاً: في موضع آخر: "ومحصله أن هذا الجليل القدر الذي تظله الملائكة بأجنحتها لا ينبغي أن يبكى عليه بل يفرح له بما صار إليه"أ. هـ2.
6. وفي الصحيحن من حديث أنس رضي الله عنه قال: غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر فقال: يا رسول الله غبت عن أول قتال قاتلت المشركين لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرين الله ما أصنع فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء يعني أصحابه وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء يعني المشركين ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ فقال: يا سعد بن معاذ الجنة ورب النضر إني أجد ريحها من دون أحد قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع قال أنس: فوجدنا به بضعاً وثمانين ضربة بالسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم ووجدناه قد قتل وقد مثل به المشركون فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه قال أنس: كما نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} .. إلى آخر الآية3.
هذا الحديث فيه فضيلة ظاهرة لأنس بن النضر رضي الله عنه وما كان عليه من صحة الإيمان وكثرة التوقي والتورع وقوة اليقين كما تضمن المدح والثناء لأهل أحد عموماً بصدقهم فيما عاهدوا الله عليه، والمراد بالمعاهدة المذكورة هي المشار لها بقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولاً} 4 وكان ذلك أول ما خرجوا إلى أحد وهذا قول ابن إسحاق. وقيل ما وقع ليلة العقبة من الأنصار إذ بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤووه
__________
1ـ فتح الباري 3/116.
2ـ المصدر السابق 3/163.
3ـ صحيح البخاري 2/138، صحيح مسلم 3/1512.
4ـ سورة الأحزاب آية/15.(1/198)
وينصروه ويمنعوه والأول أولى"1
فلقد عاهدوا الله ـ تبارك وتعالى ـ ووفوا بالعهد ولو كان في ذلك مشقة على أنفسهم، وبذلوا أنفسهم في الجهاد في سبيل الله طلباً للشهادة التي ثمنها الجنة التي عرضها السماوات والأرض. فرضي الله عنهم أجمعين.
ذلك هو الثناء في القرآن الكريم والسنة المطهرة على أولئك الأبرار من أهل أحد وذلك هو مصير شهداء أحد الذي صاروا إليه فقد تبوءوا الدرجات العالية بسبب ما قدموه من بذل أنفسهم وأموالهم ابتغاء رضوان الله تعالى ونصرة دينه وتلك المناقب الرفيعة التي نوهت بها الآيات القرآنية والأحاديث النبوية يجب على العبد الإيمان والتسليم بها لأولئك الأطهار رضي الله عنهم أجمعين. ونسأل الله الكريم المنان أن يميتنا على الإيمان.
__________
1ـ فتح الباري 6/22-23.(1/199)
المبحث الرابع: الثناء على أهل بيعة الرضوان
لقد ورد الثناء في الكتاب والسنة على الصحابة الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك البيعة المباركة الميمونة المشهورة "بيعة الرضوان" وكانت هذه البيعة بمكان يسمى "الحديبية"1 في شهر ذي القعدة سنة ست من الهجرة بلا خلاف بين علماء المغازي والسير2 وقد اختلفت الروايات الصحيحة في عددهم رضي الله عنهم فقد روى الشيخان من حديث عبد الله بن أبي أوفى، قال: كان أصحاب الشجرة3 ألفاً وثلاثمائة وكانت أسلم ثمن المهاجرين"4.
ورويا من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية: "أنتم خير أهل الأرض" وكنا ألفاً وأربعمائة ولو كنت أبصر لأريتكم مكان الشجرة"5.
__________
1ـ قال ياقوت الحموي: "هي قرية متوسطة ليست بالكبيرة سميت ببئر هناك عند مسجد الشجرة التي بايع تحتها" معجم البلدان 2/229 وكذا قال الحافظ ابن حجر: "هي بئر سمي بها المكان"أ. هـ. فتح الباري 5/334 وقال الحاكم النيسابوري رحمه الله تعالى: "الحديبية بئر كانت الشجرة بالقرب من البئر ثم إن الشجرة فقدت بعد ذلك فلم توجد وقالوا إن السيول ذهبت بها فقال سعيد بن المسيب سمعت أبي وكان من أصحاب الشجرة يقول قد طلبناها غير مرة فلم نجدها فأما ما يذكره عوام الحجيج أنها شجرة بين منى ومكة فإنه خطأ فاحش"أ. هـ. معرفة علوم الحديث ص/23-24.
2ـ انظر: السيرة النبوية لابن هشام 2/208، دلائل النبوة للبيهقي 4/91، تاريخ الأمم والملوك للطبري 2/619، الكامل لابن الأثير 2/200، المجموع شرح المهذب للنووي 7/78، الدرر في اختصار المغازي والسير لابن عبد البر ص/140، البداية والنهاية 4/185، فتح الباري 7/440.
3ـ الشجرة: هي السمرة التي حصلت البيعة تحتها، انظر: صحيح مسلم 3/1483.
4ـ صحيح البخاري 3/42، صحيح مسلم 3/1485.
5ـ صحيح البخاري 3/43، صحيح مسلم 3/1484.(1/200)
ورويا أيضاً: من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: عطش الناس يوم الحديبية والنبي صلى الله عليه وسلم بين يديه ركوة1 فتوضأ فجهش2 الناس نحوه فقال: "ما لكم"؟ قالوا: ليس عندنا ماء نتوضأ ولا نشرب إلا ما بين يديك فوضع يده في الركوة فجعل الماء يثور3 بين أصابعه كأمثال العيون فشربنا وتوضأ وتوضأنا قلت: كم كنتم؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا كنا خمس عشرة مائة"4.
فهذه الروايات الثلاث هي أصح ما ورد في بيان عدد أصحاب بيعة الرضوان ولا إشكال فيها من حيث صحتها وإنما الإشكال من حيث العدد المذكورة فيها من ألف وثلاثمائة إلى ألف وأربعمائة إلى خمس عشرة مائة ولا يمكن ردها بحال من الأحوال وقد حاول العلماء الجمع بينها وقد سلكوا تجاهها طريقين.
الطريق الأول: طريق الترجيح، وقد مال إلى هذا الطريق الإمام البيهقي والحافظ ابن القيم رحمهما الله تعالى.
فأما البيهقي فإنه أورد رواية التحديد بألف وأربعمائة المروية عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ثم قال: وهذه الرواية أصح فلذلك قاله البراء بن عازب، ومعقل بن يسار، وسلمة بن الأكوع في أصح الروايتين عنه"أ. هـ5.
وأما العلامة ابن القيم فإنه ذكر رواية ألف وأربعمائة وقال عقبها: "والقلب إلى هذا أميل"6.
الطريق الثاني: طريق الجمع وقد ذهب إلى هذا الإمام النووي والحافظ ابن حجر رحمهما الله.
__________
1ـ الركوة: إنا صغير يشرب فيه الماء والجمع ركاء. النهاية 2/261.
2ـ الجهش: أن يفزع الإنسان إلى الأنسان ويلجأ إليه. النهاية 1/322.
3ـ يثور: ينبع بقوة وشدة النهاية 1/228.
4ـ صحيح البخاري 3/42، صحيح مسلم 3/1484.
5ـ دلائل النبوة للبيهقي 4/98.
6ـ زاد المعاد في هدي خير العباد 3/288.(1/201)
فأما الإمام النووي فقد قال عقب الروايات الثلاث المتقدم ذكرها: "ويمكن أن يجمع بينهما بأنهم كانوا أربعمائة وكسر فمن قال: أربعمائة لم يعتبر الكسر ومن قال خمسمائة اعتبره، ومن قال ألف وثلاثمائة ترك بعضهم لكونه لم يتقن العد أو لغير ذلك"أ. هـ1.
وأما الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى فإنه ذكر كلام النووي وزاد عليه حيث قال: بعد ذكره للروايات الثلاث السابقة: "والجمع بين هذا الاختلاف أنهم كانوا أكثر من ألف وأربعمائة فمن قال ألفاً وخمسمائة جبر الكسر، ومن قال ألفاً وأربعمائة ألغاه ويؤيده قوله في الرواية الثالثة من حديث البراء: ألف وأربعمائة أو أكثر، أما قول عبد الله بن أبي أوفى: ألف وثلاثمائة، فيمكن حمله على ما اطلع عليه هو، واطلع غيره على زيادة ناس لم يطلع هو عليهم، والزيادة من الثقة مقبولة أو العدد الذي ذكره جملة من ابتدأ الخروج من المدينة والزائد تلاحقوا بهم بعد ذلك أو العدد الذي ذكره عدد المقاتلة والزيادة عليه من الأتباع من الخدم والنساء والصبيان الذين لم يبلغوا الحلم"أ. هـ2.
والذي يظهر والله أعلم أن طريقة الجمع بين النصوص أولى من ترجيح بعضها على بعض لأن الروايات كلها صحيحة في العدد المذكور وينبغي الأخذ بما قاله الحافظ ابن حجر لأن توجيهه للنصوص ممكن وظاهر.
وأصحاب الحديبة الذين هم أهل بيعة الرضوان ورد في فضلهم نصوص محكمة كثيرة من الآيات القرآن والأحاديث النبوية ومنها ما يلي:
1- قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ3 فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا
__________
1ـ شرح النووي على صحيح مسلم 13/2.
2ـ فتح الباري 7/440.
3ـ قال ابن جرير بعد أن ذكر عدة أقوال في معنى السكينة: "وأولى هذه الأقوال بالصواب بالحق في معنى السكينة ما قاله عطاء بن أبي رباح: ما تسكن إليه النفوس من الآيات التي تعرفونها وذلك أن السكينة في كلام العرب الفعلية من قول القائل سكن فلان إلى كذا وكذا إذا اطمأن إليه وهدأت(1/202)
إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} 1.
في هذه الآية شهادة لهم بحقيقة الإيمان الكامل وإكرامهم بإنزال السكون والطمأنينة في قلوبهم إلى الإيمان بالله ورسوله وإلى الحق الذي بعث الله به نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم ليزدادوا بتصديقهم بما حدد الله من الفرائض التي ألزمهموها التي لم تكن لهم لازمة {إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} ثم أخبر تعالى أنه له جنود السموات والأرض ينتقم بهم ممن يشاء من أعداء وختم الآية بأنه ـ سبحانه ـ لم يزل ذا علم بما هو كائن قبل كونه، وما خلقه عاملون حكيماً في تدبيره"2.
قال ابن كثير: "يقول تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ} أي: الطمأنينة قاله ابن عباس رضي الله عنهما وعنه الرحمة وقال قتادة: الوقار في قلوب المؤمنين، وهم الصحابة رضي الله عنهم يوم الحديبية الذين استجابوا لله ولرسوله وانقادوا لحكم الله ورسوله فلما اطمأنت قلوبهم بذلك واستقرت زادهم إيماناً مع إيمانهم وقد استدل بها البخاري وغيره من الأئمة على تفاضل الإيمان في القلوب"أ. هـ3.
فالآية تضمنت مدحاً عظيماً وثناء بالغاً على أهل بيعة الرضوان حيث أكرمهم الله بإنزال السكينة في قلوبهم فكان ذلك من ذلك من أسباب زيادة الإيمان فيها كما تضمنت الشهادة لهم من الله بالإيمان الكامل وتحقيق شرائعه وذلك أنهم رضي الله عنهم كلما ورد عليهم أمر أو نهي آمنوا به وعملوا بمقتضاه طائعين خاضعين لحكم الله رب العالمين.
__________
= عنده نفسه فهو يسكن سكوناً وسكينة، مثل قولك: عزم فلان هذا الأمر عزماً وعزيمة وقضى الحاكم بين القوم قضاء وقضية جامع البيان 2/613، وانظر: النهاية 2/384-385، واللسان 13/213.
1ـ سورة الفتح آية/4.
2ـ انظر: جامع البيان 26/71-72.
3ـ تفسير القرآن العظيم 6/330، وانظر تفسير البغوي مع الخازن 6/158، فتح القدير للشوكاني 5/45.(1/203)
2- وقال تعالى: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً} 1.
هذه الآية فيها وعيد من الله تعالى لأهل بيعة الرضوان خصوصاً ولجميع المؤمنين والمؤمنات عموماً بدخول جنات تجري من تحتها الأنهار وأنهم يخلدون فيها لا يحولون ولا يزولون عنها وأنه تعالى يكفر عنهم سيئاتهم بمعنى أنه يغطيها ولا يظهرها وختم تعالى الآية ببيان أن إدخالهم الجنة وتكفير سيئاتهم فوز عظيم لا يقادر قدره لأنه منتهى غاية ما يتطلع إليه المؤمنون الصادقون الذين في مقدمتهم أولئك الصفوة أصحاب بيعة الرضوان.
روى البخار بإسناده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} قال: الحديبية قال أصحابه: هنيئاً مريئاً فما لنا فأنزل الله: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} 2.
وعند الترمذي وأحمد من حديث أنس رضي الله عنه قال نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} مرجعه من الحديبية فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد نزلت علي آية أحب إليّ مما على الأرض" ثم قرأها النبي صلى الله عليه وسلم عليهم فقالوا: هنيئاً مريئاً يا نبي الله قد بين الله لك ماذا يفعل بك فماذا يفعل بنا فنزلت عليه: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} حتى بلغ {فَوْزاً عَظِيماً} قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح وفيه عن مجمع3 بن جارية4.
__________
1ـ سورة الفتح آية/5.
2ـ صحيح البخاري 3/44.
3ـ مجمع بن جارية بن عامر الأنصاري الأوسي المدني صحابي مات في خلافة معاوية التقريب 2/230، الإصابة 3/346.
4ـ سنن الترمذي 5/61-62، المسند 3/122.(1/204)
فهذا الحديث بين الفضيلة التي تضمنتها الآية التي سيقت قبله لأصحابه بيعة الرضوان.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى بعد قوله تعالى: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} أي: ماكثين فيها أبدا {وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} أي: خطاياهم وذنوبهم فلا يعاقبهم عليها بل يعفو ويصفح ويغفر ويستر ويرحم ويشكر {وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً} كقوله ـ جل وعلا ـ {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} 1 الآية أ. هـ2.
فأي فوز وأي فلاح أعظم من تكفير الذنوب والخطايا ودخول الجنة ورؤية الله ـ عز وجل ـ فيها إنه لمن أعظم التكريم ومن أعلا النعيم الذي فاز به أهل بيعة الرضوان.
3- قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} 3.
وهذه الآية فيها ثناء ومدح عظيم لأهل بيعة الرضوان فقد جعل الله مبايعتهم لرسوله صلى الله عليه وسلم مبايعة له وفي هذا غاية التشريف والتكريم لهم رضي الله عنهم.
وهذه الآية نظير قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} 4 فمبايعتهم للرسول صلى الله عليه وسلم مبايعة لله ـ جل وعلا ـ.
قال العلامة ابن القيم: "وتأمل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} فلما كانوا يبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم بأيديهم ويضرب بيده
__________
1ـ تفسير القرآن العظيم 6/330.
2ـ المصدر نفسه 6/330.
3ـ سورة الفتح آية/10.
4ـ سورة النساء آية/80.(1/205)
على أيديهم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو السفير بينه وبينهم كانت مبايعتهم له مبايعة لله تعالى، ولما كان سبحانه فوق سماواته على عرشه وفوق الخلائق كلهم كانت يده فوق أيديهم كما أنه سبحانه فوقهم"أ. هـ1 ومعنى قوله في الآية: {وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} أي: ثواباً جزيلاً وهو الجنة وما يكون فيها مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر"2.
قال ابن جرير رحمه الله تعالى: وقوله: {وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} يقول تعالى ذكره: ومن أوفى بما عاهد الله عليه من الصبر عند لقاء العدو في سبيل الله ونصرة نبيه صلى الله عليه وسلم على أعدائه {فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} يقول: فسيعطيه ثواباً عظيماً، وذلك أن يدخله الجنة جزاء له على وفائه بما عاهد عليه الله ووثق لرسوله على الصبر معه عند البأس بالمؤكدة من الإيمان ... ثم روى بإسناده إلى قتادة رحمه الله تعالى: {فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} قال: هي الجنة"أ. هـ3.
4- وقال تعالى مخبراً برضاه عنهم: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} 4.
فقد أخبر تعالى أنه رضي الله عن أولئك الصفوة الأخيار من أهل بيعة الرضوان ومن رضي الله عنه لا يسخط عليه أبداً فلله ما أعظم هذا التكريم الذي ناله أهل بيعة الرضوان، وما أعلاها من منقبة ومعنى الآية {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} لقد رضي الله يا محمد عن المؤمنين {إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} يعني: بيعة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول الله بالحديبية حين بايعوه على مناجزة
__________
1ـ مختصر الصواعق المرسلة 2/172.
2ـ انظر: تفسير القرآن العظيم 6/331، تفسير روح المعاني 26/97.
3ـ جامع البيان 26/76، وانظر: تفسير البغوي على حاشية الخازن 6/160.
4ـ سورة الفتح آية/18-19.(1/206)
قريش الحرب وعلى أن لا يفروا، ولا يولوهم الدبر، تحت الشجرة وكانت بيعتهم إياه هنالك تحت الشجرة سمرة {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} أي: فعلم ربك يا محمد ما في قلوب المؤمنين من أصحابك إذ يبايعونك تحت الشجرة من صدق النية والوفاء بما يبايعونك عليه والصبر معك {فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} أي: فأنزل الطمأنينة والثبات على ما هم عليه من دينهم وحسن بصيرتهم بالحق الذي هداهم الله له {وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} وهو فتح خيبر، وأما قوله تعالى: {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا} أي: وأثاب الله هؤلاء الذي بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة مع ما أكرمهم به من رضاه عنهم، وإنزاله السكينة عليهم وإثابته إياهم فتحاً قريباً وهو ما أجرى الله ـ عز وجل ـ على أيديهم من الصلح بينهم وبين أعدائهم وما حصل بذلك من الخير العام المستمر المتصل بفتح خيبر وفتح مكة.
ثم فتح سائر البلاد والأقاليم عليهم وما حصل لهم من العز والنصر والرفعة في الدنيا والآخرة ولهذا قال الله تعالى: {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} 1.
قال أحمد بن عليّ الجصاص بعد قوله: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} فيه الدلالة على صحة إيمان الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان بالحديبية وصدق بصائرهم فهم قوم بأعيانهم ... فدل على أنهم كانوا مؤمنين على الحقيقة أولياء الله إذ غير جائز أن يخبر الله برضاه عن قوم بأعيانهم إلا وباطنهم كظاهرهم في صحة البصيرة وصدق الإيمان وقد أكد ذلك بقوله: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} يعني: الصبر بصدق نياتهم وهذا يدل على أن التوفيق يصحب صدق النية وهو مثل قوله: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} أ. هـ2.
__________
1ـ جامع البيان 26/85-86، تفسير القرآن العظيم 6/341، وانظر تفسير البغوي على الخازن 6/163، زاد المسير 7/434-435، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 16/278، فتح القدير للشوكاني 5/51.
2ـ أحكام القرآن للجصاص 3/394 والآية رقم 35/من سورة النساء.(1/207)
والسبب الذي كانت من أجله بيعة الرضوان ما ذكره الحافظ ابن حجر حيث قال: "والسبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عثمان ليعلم قريشاً أنه إنما جاء معتمراً لا محارباً، ففي غيبة عثمان شاع عندهم أن المشركين تعرضوا لحرب المسلمين فاستعد المسلمون للقتال وبايعهم النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ تحت الشجرة على أن لا يفروا وذلك في غيبة عثمان، وقيل: بل جاء الخبر بأن عثمان قتل فكان ذلك سبب البيعة"أ. هـ1 وقد بايع النبي صلى الله عليه وسلم جميع الصحابة الذين كانوا معه بالحديبية لما أشيع أن عثمان قد قتل ولم يتخلف عن تلك البيعة إلا الجد بن قيس فإنه اختبأ تحت بطن بعيره2.
وقد سئل الصحابة رضي الله عنهم على أي شيء كانت بيعتهم؟ فكانت الإجابة بما يلي:
1- أجاب سلمة بن الأكوع رضي الله عنه بأنهم بايعوا على الموت. فقد روى الإمام البخاري بإسناده إلى يزيد بن أبي عبيد قال: قلت لسلمة بن الأكوع على أي شيء بايعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية قال: على الموت3.
وروى أيضاً: بإسناده إلى عبد الله بن زيد رضي الله عنه قال: لما كان زمن الحرة أتاه آت فقال له: إن ابن حنظلة يبايع الناس على الموت فقال لا أبايع على ذلك أحداً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم4.
2- وأجاب معقل بن يسار وجابر بن عبد الله رضي الله عنهما بأنهم بايعوا على عدم الفرار.
روى الإمام مسلم بإسناده إلى معقل بن يسار قال: لقد رأيتني
__________
1ـ فتح الباري 7/59، ص/448، وانظر: السيرة النبوية لابن هشام 2/315، تاريخ الأمم والملوك 2/631، دلائل النبوة البيهقي 4/134، البداية والنهاية لابن كثير 4/189، الجامع لأحكام القرآن 16/276.
2ـ صحيح مسلم 3/83.
3ـ صحيح البخاري 3/44.
4ـ صحيح البخاري 3/44، صحيح مسلم 3/1486.(1/208)
يوم الشجرة والنبي صلى الله عليه وسلم يبايع الناس وأنا رافع غصناً من أغصانها عن رأسه ونحن أربع عشرة مائة قال: "لم نبايعه على الموت ولكن بايعناه على ألا نفر"1.
وروى أيضاً بإسناده إلى جابر بن عبد الله قال: "كنا يوم الحديبية ألفاً وأربعمائة فبايعناه وعمر آخذ بيده تحت الشجرة وهي سمرة وقال: بايعناه على أن لا نفر ولم نبايعه على الموت"2.
فهذه الأحاديث أوضحت لنا الشيء الذي بايع عليه الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية إلا أن بعضها تفيد أن البيعة كانت على الموت وبعضها يفيد أنهم بايعوا على عدم الفرار، فقد يحس القارئ أن بين هذه الروايات اختلافاً في الشيء الذي كانت البيعة عليه والواقع أنه لا اختلاف بينها.
فقد قال أبو عيسى الترمذي رحمه الله تعالى: "قد بايعه قوم من أصحابه على الموت، وإنما قالوا: "لا نزال بين يديك حتى نقتل، وبايعه آخرون فقالوا لا نفر"3.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: "لا تنافي بين قولهم بايعوه على الموت وعلى عدم الفرار لأن المراد بالمبايعة على الموت أن لا يفروا وليس المراد أن يقع الموت ولا بد"4.
تلك هي البيعة التي استحق بها أصحاب الحديبية رضوان الله تعالى والثناء عليهم بما وقر في قلوبهم من الإيمان والوفاء والصدق وقد رتب تعالى على رضاه عنهم وعلمه بما في قلوبهم ما أنعم به عليهم من سكينة وفتح ومغانم فقال تعالى: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} .
__________
1ـ صحيح مسلم 3/1485.
2ـ صحيح مسلم 3/1483.
3ـ سنن الترمذي 3/76.
4ـ فتح الباري 6/118، وانظر: شرح النووي على صحيح مسلم 13/3.(1/209)
5- أخبر تعالى عن أهل بيعة الرضوان أنه ألزمهم كلمة التقوى التي هي كلمة التوحيد وأنهم كانوا أحق بها وأهلها، قال تعالى: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} 1.
فلقد بين تعالى في هذه الآية أنه ألزم الصحابة رضي الله عنهم كلمة التقوى وأكثر المفسرين على أن المراد بكلمة التقوى هي "لا إله إلا الله" وبين أنهم أحق بها من كفار قريش وأنهم كانوا أهلها في علم الله لأن الله تعالى اختار لدينه وصحبة نبيه أهل الخير2 ذلك هو الثناء في القرآن على الصحابة الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان الحديبية وقد ورد الثناء عليهم في السنة المطهرة في أحاديث كثيرة ومن ذلك ما يلي:
1- روى الشيخان من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية: "أنتم خير أهل الأرض" وكنا ألفاً وأربعمائة ولو كنت أبصر لأريتكم موضع الشجرة3.
هذا الحديث صريح في فضل أصحاب الشجرة فقد كان من المسلمين إذ ذاك جماعة بمكة وبالمدينة وبغيرهما ... وتمسك به بعض الشيعة في تفضيل عليّ على عثمان لأن علياً كان من جملة من خوطب بذلك وممن بايع تحت الشجرة وكان عثمان حينئذ غائباً ـ وهذا التمسك باطل ـ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بايع عنه4 فاستوى معهم عثمان في الخيرية المذكورة، ولم يقصد في الحديث إلى تفضيل
__________
1ـ سورة الفتح آية/26.
2ـ انظر: جامع البيان 26/103-106، تفسير البغوي على الخازن 6/177، تفسير ابن كثير 6/347.
3ـ صحيح البخاري 3/42، صحيح مسلم 3/1485.
4ـ انظر: صحيح البخاري 2/297.(1/210)
بعضهم على بعض"1.
2- روى الإمام مسلم بإسناده إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: أخبرتني أم مبشر: أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول عند حفصة: "لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد الذين بايعوا تحتها" قالت: بلى يا رسول الله: فانتهرها فقالت حفصة: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قد قال الله ـ عز وجل ـ {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} 2.
قال النووي رحمه الله تعالى: قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد الذين بايعوا تحتها" قال العلماء: معناه لا يدخلها أحد منهم قطعاً ... وإنما قال إن شاء الله للتبرك لا للشك وأما قول حفصة بلى وانتهار النبي صلى الله عليه وسلم لها فقالت: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وقد قال: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} فيه دليل للمناظرة والجواب على وجه الاسترشاد وهو مقصود حفصة لا أنها أرادت رد مقالته صلى الله عليه وسلم والصحيح أن المراد بالورود في الآية المرور على الصراط وهو جسر منصوب على جهنم فيقع فيها أهلها وينجو الآخرون"أ. هـ3.
3- وروى الإمام مسلم بإسناده إلى جابر أن عبداً لحاطب جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو حاطباً فقال: يا رسول الله ليدخلن حاطب النار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كذبت لا يدخلها فإنه شهد بدراً والحديبية" 4.
هذا الحديث تضمن فضيلة أهل بدر والحديبية وفضيلة حاطب لكونه منهم رضي الله عنهم أجمعين.
__________
1ـ فتح الباري 7/443.
2ـ صحيح مسلم 4/1942، والآيتان رقم/71-72 من سورة مريم.
3ـ شرح النووي على صحيح مسلم 16/58.
4ـ صحيح مسلم 4/1942.(1/211)
4- وروى الإمام مسلم بإسناده إلى جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يصعد الثنية نثية 1 المرار فإنه يحط عنه ما حط عن بني إسرائيل" قال: فكان أول من يصعدها خيلنا خيل بني الخزرج ثم تتام الناس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلكم مغفور له إلا صاحب الجمل الأحمر". فأتيناه فقلنا له: تعال يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: والله لأن أجد ضالتي أحب إلي من أن يستغفر لي صاحبكم، قال: وكان رجلاً ينشد ضالة له"2.
وهذا الحديث تضمن فضيلة عظيمة لأصحاب الحديبية رضي الله عنهم وتلك الفضيلة مغفرة الله لهم وأكرم بها من فضيلة منحهم إياها الرب ـ جل وعلا ـ لإخلاصهم في طاعتهم واستجابتهم لله والرسول بالسمع والطاعة.
5- روى الإمام أحمد بإسناده إلى يحيى بن سعيد بن فروخ أن أبا سعيد حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان يوم الحديبية قال: "لا توقدوا ناراً بليل" فلما كان بعد ذلك قال: " أوقدوا واصطنعوا فإنه لا يدرك قوم بعدكم صاعكم ولا مدكم" 3.
فقد بين عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث أن من يأتي بعد أهل بيعة الرضوان لا يمكن أن يدركهم في فضلهم، ولا في فضل عملهم مهما بلغ من الإخلاص وصدق النية والتحري في عمل الصالحات فلقد فازوا فوزاً عظيماً رضي الله عنهم وأرضاهم ولقد شمل فضل أهل بيعة الرضوان الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه وكان غائباً في المهمة التي بعثه بها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة.
6- فقد روى البخاري بإسناده إلى عثمان بن موهب قال: "جاء رجل
__________
1ـ ثنية المرار: مهبط الحديبية والمرار: بقلة مرة إذا أكلتها الإبل قلصت عنه مشافرها، معجم البلدان 5/92، وانظر: شرح النووي على صحيح مسلم 17/126.
2ـ صحيح مسلم 4/2144-2145.
3ـ مسند الإمام أحمد 3/26، وأخرجه الحاكم في المستدرك وصححه ووافقه الذهبي 3/36.(1/212)
من أهل مصر وحج البيت فرأى قوماً جلوساً فقال: من هؤلاء القوم؟ فقالوا: هؤلاء قريش قال: فمن الشيخ فيهم؟ قالوا: عبد الله بن عمر قال: يا ابن عمر إني سائلك عن شيء فحدثني عنه: هل تعلم أن عثمان فرّ يوم أحد؟ قال: نعم فقال: تعلم أنه تغيب عن بدر ولم يشهد؟ قال: نعم قال الرجل: هل تعلم أنه تغيب عن بيعة الرضوان فلم يشهدها؟ قال: نعم: قال: الله أكبر قال ابن عمر: تعالى أبين لك، أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه وغفر له وأما تغيبه عن بدر فإنه كان تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مريضة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لك أجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه" وأما تغيبه عن بيعة الرضوان فلو كان أحد أعز من عثمان ببطن مكة لبعثه مكانه فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان وكانت بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان إلى مكة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بيده اليمنى: هذه يد عثمان فضرب بها على يده فقال: هذه لعثمان" فقال له ابن عمر: اذهب بها الآن معك"1.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: "الذي يظهر من سياقه أن السائل كان ممن يتعصب على عثمان فأراد بالمسائل الثلاث أن يقرر معتقده فيه ولذلك كبر مستحسناً لما أجابه ابن عمر قوله "قال ابن عمر: تعال أبين لك" كأن ابن عمر فهم منه مراده لما كبر وإلا لو فهم ذلك من أول سؤاله لقرن العذر بالجواب وحاصله أنه عابه بثلاثة أشياء فأظهر له ابن عمر العذر عن جميعها: أما الفرار فالبعفو وأما التخلف فبالأمر وقد حصل له مقصود من شهد من ترتب الأمرين الدنيوي وهو السهم والأخروي وهو الأجر، وأما البيعة فكان مأذوناً له في ذلك أيضاً: ويد رسول الله صلى الله عليه وسلم خير لعثمان من يده كما ثبت ذلك أيضاً: عن عثمان نفسه فيما رواه البزار بإسناد جيد أنه عاتب عبد الرحمن بن عوف فقال له: لم ترفع صوتك علي؟ فذكر الأمور الثلاثة فأجابه عثمان بمثل ما أجاب
__________
1ـ صحيح البخاري 2/297.(1/213)
به ابن عمر قال في هذه: فشمال رسول الله صلى الله عليه وسلم خير لي من يميني إلى أن قال: قوله: "فقال له ابن عمر اذهب بها الآن معك" أي: أقرن هذا العذر بالجواب حتى لا يبقى لك فيما أجبتك به حجة على ما كنت تعتقده من غيبة عثمان، وقال الطيبي: قال له ابن عمر تهكماً به أي: توجه بما تمسكت به فإنه لا ينفعك بعدما بينت لك"أ. هـ 1.
تلك هي مناقب أصحاب بيعة الرضوان من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كانوا رضي الله عنهم من أكمل البشرية إيماناً وعلماً وطاعة لله ورسوله ولذلك شهد لهم الرسول صلى الله عليه وسلم أنهم خير أهل الأرض، وأنهم مغفور لهم، كما شهد لهم عليه الصلاة والسلام هم وإخوانهم البدريون بالجنة والنجاة من النار. نسأل الله الكريم المنان أن يميتنا على الإيمان.
__________
1 ـ فتح الباري 7/59.(1/214)
الفصل الثالث: فضل العشرة المبشرين بالجنة
المبحث الأول: فضل أبي بكر الصديق رضي الله عنه
...
المبحث الأول: فضل أبي بكر الصديق رضي الله عنه
ينبغي للمسلم أن يعتقد اعتقاداً جازماً أن أفضل البشر بعد الأنبياء هو صديق هذه الأمة المحمدية وهو أبو بكر عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي التميمي يجتمع نسبه مع نسب النبي صلى الله عليه وسلم في مرة بن كعب وأم الصديق أم الخير سلمى بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بنت عم أبيه وأبوه أبو قحافة عثمان بن عامر بن عمرو، وهما صحابيان رضوان الله عليهما أجمعين1.
لقب بالصديق لسبقه إلى تصديق النبي صلى الله عليه وسلم قال الحافظ وروى الطبراني من حديث عليّ: "أنه كان يحلف أن الله أنزل اسم أبي بكر من السماء الصديق"2. وقيل: كان ابتداء تسميته بالصديق صبيحة الإسراء فقد روى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى أصبح يتحدث الناس بذلك فارتد ناس ممن كان آمنوا به وصدقوه وسعوا بذلك إلى أبي بكر رضي الله عنه فقالوا: هل لك إلى صاحبك يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح قال: نعم إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة فلذلك سمي أبو بكر الصديق"3.
__________
1ـ انظر الطبقات الكبرى لابن سعد 3/169، السيرة النبوية لابن هشام 1/249، الإصابة في تمييز الصحابة 2/333- 335، فتح الباري 7/9، وانظر: صفة الصفوة 1/235، حلية الأولياء 1/28، تذكرة الحفاظ 1/2، لوامح الأنوار البهية 2/311.
2ـ فتح الباري 7/2 ثم قال: "ورجاله ثقات".
3ـ المستدرك 3/62 ثم قال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي.(1/219)
صحب النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وسبق إلى الإيمان به واستمر معه طول إقامته بمكة ورافقه في الهجرة وفي الغار وفي المشاهد كلها إلى أن مات وكانت الراية معه يوم تبوك وحج بالناس ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي سنة تسع وكان خليفتة من بعده ولقبه المسملون خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم1 وقد دل على أنه أفضل الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم الكتاب والسنة وإجماع المسلمين، أما دلالة الكتاب فمن ذلك ما يلي:
1- قال تعالى: {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} 2. أجمع المسلمون على أن المراد بالصاحب المذكور في الآية هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه"3.
أخرج ابن عساكر عن سفيان ابن عيينة قال: عاتب الله المسلمين كلهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أبا بكر وحده فإنه خرج من المعاتبة ثم قرأ: {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} 4.
قال ابن جرير رحمه الله تعالى: "وإنما عنى الله ـ جل ثناؤه ـ بقوله: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله عنه لأنهما كانا اللذين خرجا هاربين من قريش إذ هموا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم واختفيا في الغار وقوله: {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} يقول: إذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رحمة الله عليه في الغار والغار: النقب العظيم يكون في الجبل {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ} يقول: إذ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبه أبي بكر: {لا تَحْزَنْ} وذلك أنه خاف من الطلب أن
__________
1ـ الإصابة 2/333 وانظر أعلام النبوة للماوردي ص/284-285، تهذيب الأسماء واللغات 2/184.
2ـ سورة التوبة آية / 20.
3ـ الإصابة 2/335، تاريخ الخلفاء للسيوطي ص/48، تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي 10/154، شرح كتاب الفقه الأكبر لملا علي القاري ص/101.
4ـ الدر المنثور للسيوطي 4/199، وكتابه تاريخ الخلفاء ص/50.(1/220)
يعلموا بمكانهما فجزع من ذلك فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تحزن لأن الله معنا، والله ناصرنا فلن يعلم المشركون بنا ولن يصلوا إلينا"أ. هـ1.
وقال الحافظ ابن كثير: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ} أي: عام الهجرة لما هم المشركون بقتله، أو حبسه، أو نفيه فخرج منهم هارباً صحبة صديقه وصاحبه أبي بكر بن أبي قحافة فلجأ إلى غار ثور ثلاثة أيام ليرجع الطلب الذين خرجوا في آثارهم ثم يسيروا نحو المدينة فجعل أبو بكر رضي الله عنه يجزع أن يطلع عليهم أحد فيخلص إلى الرسول عليه الصلاة والسلام منهم أذى فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يسكنه ويثبته ويقول: "يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما" 2 ... ولهذا قال تعالى: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} أي: تأييده ونصره عليه أي: على الرسول صلى الله عليه وسلم في أشهر القولين وقيل: على أبي بكر وروي عن ابن عباس وغيره قالوا: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم تزل معه السكينة وهذا لا ينافي تجدد السكينة خاصة بتلك الحال"أ. هـ3.
وقال أبو بكر بن العربي: بعد قوله صلى الله عليه وسلم: "ما ظنك باثنين الله ثالثهما" وهذه مرتبة عظمى وفضيلة شماء لم يكن لبشر أن يخبر عن الله ـ سبحانه ـ أنه ثالث اثنين أحدهما أبو بكر، كما أنه قال: مخبراً عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} أ. هـ4.
فالآية دلت دلالة واضحة على فضل أبي بكر رضي الله عنه حيث جعله الله ثاني النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} وما ذلك إلا لأن الصديق بلغ النهاية في الفضل رضي الله عنه وأرضاه.
__________
1ـ جامع البيان 10/136، وانظر تفسير البغوي على حاشية الخازن 3/81.
2ـ صحيح البخاري 2/288، صحيح مسلم 4/1854.
3ـ تفسير ابن كثير 3/402، وانظر تفسير البغوي على الخازن 3/81-82.
4ـ أحكام القرآن لابن العربي 2/951.(1/221)
2- وقال تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} 1.
روى ابن جرير بإسناده إلى علي رضي الله عنه في قوله: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ} قال: محمد صلى الله عليه وسلم {وَصَدَّقَ بِهِ} قال: أبو بكر رضي الله عنه2.
وهذه الآية أيضاً تضمنت فضيلة عظيمة ومنقبة عالية لأبي بكر رضي الله عنه وهي أنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك السفرة من مكة إلى المدينة وشهد الله له فيها بأنه صاحب نبيه عليه الصلاة والسلام.
3- قال تعالى: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} 3.
ذهب كثير من المفسرين منهم عبد الله بن عباس وابن مسعود وعبد الله ابن عمر ومجاهد والضحاك إلى أن المراد بصالح المؤمنين أبو بكر وعمر رضي الله عنهما4.
4- وقال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} 5.
أخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} قال: الجنة6.
وقد ذكر العلامة ابن جرير الطبري أن هذه الآية نزلت في أبي بكر
__________
1ـ سورة الزمر آية/ 34.
2ـ جامع البيان 24/3، الدر المنثور في التفسير بالمأثور 7/228.
3ـ سورة التحريم آية/4.
4ـ جامع البيان 28/162-163، الجامع لأحكام القرآن 18/192، تفسير ابن كثير 7/56، الدر المنثور في التفسير بالمأثور 8/223-224.
5ـ سورة الليل آية/5-7.
6ـ الدر المنثور 8/535.(1/222)
رضي الله عنه فقد روى بإسناده إلى عامر بن عبد الله بن الزبير قال: كان أبو بكر يعتق على الإسلام بمكة فكان يعتق عجائز ونساء إذا أسلمن، فقال له ابوه: أي بني أراك تعتق أناساً ضعفاء، فلو أنك تعتق رجالاً جلداً يقومون معك، ويمنعونك ويدفعون عنك قال: أي أبت إنما أريد ما عند الله، قال فحدثني بعض أهل بيتي أن هذه الآية نزلت فيه: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} 1.
5- وقال تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} 2.
هذه الآيات ذكر الكثير من المفسرين أنها نزلت في أبي بكر رضي الله عنه وهذه الآيات فيها إخبار من الله تعالى أنه سيزحزح عن النار التقي النقي الأتقى الموضح بقوله: {الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} أي: يصرف ماله في طاعة ربه ليزكي نفسه وماله وما وهبه الله من دين ودنيا {وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} أي: ليس بذله ماله في مكافأة من أسدى إليه معروفاً، فهو يعطي في مقابلة ذلك، وإنما دفعه ذلك {ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} أي: طمعاً في أن يحصل له رؤيته في الدار الآخرة في روضات الجنات، ثم ختم ـ تعالى ـ الآيات بقوله: {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} أي: ولسوف يرضى من اتصف بهذه الصفات3.
قال الحافظ ابن كثير: "وقد ذكر غير واحد من المفسرين أن هذه الآيات نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، حتى إن بعضهم حكى الإجماع من المفسرين على ذلك، ولا شك أنه دخل فيها وأولى الأمة بعمومها فإن لفظها لفظ العموم، وهو قوله تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى
__________
1ـ جامع البيان 30/221، والمستدرك للحاكم 2/525-526.
2ـ سورة الليل آية/17-21.
3ـ تفسير ابن كثير 7/310.(1/223)
وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} ولكنه مقدم الأمة وسابقهم في جميع هذه الأوصاف وسائر الأوصاف الحميدة، فإنه كان صديقاً تقياً كريماً جواداً بذالا لأمواله في طاعة موالاه ونصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكم من دراهم ودنانير بذلها ابتغاء وجه ربه الكريم، ولم يكن لأحد من الناس عنده منة يحتاج إلى أن يكافئه بها، ولكن كان فضله وإحسانه على السادات والرؤساء من سائر القبائل، ولهذا قال له عروة بن مسعود: وهو سيد ثقيف يوم صلح الحديبية أما والله لولا يد لك عندي لم أجزك بها لأجبتك وكان الصديق قد أغلظ له في المقالة، فإذا كان هذا حاله مع سادات العرب ورؤساء القبائل فكيف بمن عداهم ولهذا قال تعالى: {وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} 1.
تلك هي بعض آيات القرآن الكريم الدالة على أن أبا بكر أفضل الخلق بعد النبي عليه الصلاة والسلام.
وأما الأحاديث الدالة على أفضيلته رضي الله عنه فكثيرة جداً ومنها ما يلي:
1- روى الشيخان في صحيحهما من حديث أنس بن مالك أن أبا بكر الصديق حدثه قال: نظرت إلى أقدام المشركين على رؤوسنا ونحن في الغار فقلت: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه فقال: "يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما" 2.
هذا الحديث تضمن منقبة عظيمة ظاهرة لأبي بكر رضي الله عنه وتلك المنقبة أنه رضي الله عنه كان ثاني اثنين ثالثهما رب العالمين.
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: "وفيه فضيلة لأبي بكر رضي الله عنه وهي من أجل مناقبه والفضيلة من أوجه منها هذا اللفظ ومنها بذله نفسه ومفارقته أهله وماله ورياسته في طاعة الله تعالى ورسوله وملازمة النبي صلى الله عليه وسلم ومعاداة الناس فيه
__________
1ـ تفسير القرآن العظيم 7/310-311.
2ـ صحيح البخاري 2/288، صحيح مسلم 4/1854 واللفظ له.(1/224)
ومنها جعله نفسه وقاية عنه وغير ذلك"أ. هـ1.
2- روى البخاري بإسناده إلى أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وقال: "إن الله خير عبداً بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ذلك العبد ما عند الله" قال: فبكى أبو بكر فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله عن عبد خير فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخيّر وكان أبو بكر أعلمنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من أمن الناس عليّ في صحبته وماله أبو بكر ولو كنت متخذاً خليلاً2 غير ربي لاتخذت أبا بكر ولكن أخوة الإسلام ومودته لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر" 3.
وعند مسلم: "لا تبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر" 4.
وهذا الحديث فيه فضيلة لأبي بكر حيث كان أعلم الصحابة رضي الله عنهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما يقول عليه الصلاة والسلام فقد فهم أبو بكر رضي الله عنه المراد بالعبد المخير وأنه الرسول صلى الله عليه وسلم فبكى حزناً على فراقه وانقطاع الوحي وغير ذلك من الخير المستمر الذي حصل ببعثته عليه الصلاة والسلام للناس كافة على وجه الأرض.
قال الإمام النووي: قوله صلى الله عليه وسلم: "إن أمنّ الناس علي في ماله وصحبته أبو بكر" قال العلماء: معناه أكثرهم جوداً وسماحة لنا بنفسه وماله وليس هو المن الذي هو الاعتداد بالصنيعة لأنه أذى مبطل للثواب ولأن المنة لله ولرسوله
__________
1ـ شرح النووي على صحيح مسلم 15/150.
2ـ قال في النهاية: "الخلة بالضم: الصداقة والمحبة التي تخللت القلب فصارت خلاله أي في باطنه والخليل: الصديق فعيل بمعنى مفاعل، وقد يكون بمعنى مفعول، وإنما قال ذلك لأن خلته كانت مقصورة على حب الله ـ تعالى ـ فليس فيها لغيره متسع ولا شركة من محاب الدنيا والآخرة وهذه حال شريفة لا ينالها أحد بكسب واجتهاد في الطباع غالبة، وإنما يخص الله بها من يشاء من عباده مثل سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه" أهـ 2/72.
3ـ صحيح البخاري 2/288-289، صحيح مسلم 4/1854.
4ـ صحيح مسلم 4/1855.(1/225)
صلى الله عليه وسلم في قبول ذلك وفي غيره"أ. هـ1.
وقال القرطبي: "هو من الامتنان، والمراد أن أبا بكر له من الحقوق ما لو كان لغيره نظيرها لامتن بها يؤيده قوله في رواية ابن عباس: "ليس أحد أمن عليّ" والله أعلم2.
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر" الخوخة: ـ بفتح الخاء ـ وهي الباب الصغير بين البيتين أو الدارين ونحوه. وفي هذا فضيلة وخصيصة ظاهرة لأبي بكر رضي الله عنه"3.
3- روى البخاري بإسناده إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر ولكن أخي وصاحبي" وفي رواية قال: "لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذته خليلاً ولكن أخوة الإسلام أفضل" 4.
وعند مسلم من حديث ابن مسعود: "لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكنه أخي وصاحبي، وقد اتخذ الله ـ عز وجل ـ صاحبكم خليلاً" 5.
ففي هذا الحديث على اختلاف ألفاظه فضيلة ظاهرة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه فقد بين عليه الصلاة والسلام أنه لو صلح له أن يتخذ أحداً من الناس خليلاً لاتخذ أبا بكر دون سواه، وأنه رضي الله عنه كان متأهلا لأن يتخذه النبي صلى الله عليه وسلم خليلاً لولا المانع المذكور في الحديث. فهذه منقبة عظيمة للصديق رضي الله عنه لم يشاركه فيها أحد.
__________
1ـ شرح النووي على صحيح مسلم 15/150 وانظر فتح الباري 1/559.
2ـ ذكره عنه الحافظ في"الفتح" 1/559.
3ـ شرح النووي على صحيح مسلم 15/151-152، فتح الباري 7/14.
4ـ صحيح البخاري 2/289.
5ـ صحيح مسلم 4/1855.(1/226)
قال الحافظ عند قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي قبل هذا: "ولكن أخوة الإسلام ومودته" أي: حاصلة ووقع في حديث ابن عباس ولكن أخوة الإسلام أفضل ـ وكذا أخرجه الطبراني من طريق عبيد الله بن تمام عن خالد الحذاء بلفظ "ولكن خلة الإسلام أفضل" وفيه إشكال فإن الخلة أفضل من أخوة الإسلام لأنها تستلزم ذلك وزيادة، فقيل المراد أن مودة الإسلام مع النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من مودته مع غيره، وقيل: أفضل بمعنى فاضل، ولا يعكر على ذلك اشتراك جميع الصحابة في هذه الفضيلة لأن رجحان أبي بكر عرف من غير ذلك وأخوة الإسلام ومودته متفاوتة بين المسلمين في نصر الدين وإعلاء كلمة الحق وتحصيل كثرة الثواب ولأبي بكر من ذلك أعظمه وأكثره والله أعلم"أ. هـ1.
4- وروى الشيخان من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل فأتيته فقلت: أي: الناس أحب إليك؟ قال: "عائشة" فقلت من الرجال؟ قال: "أبوها" قلت ثم من؟ قال: " ثم عمر بن الخطاب" فعد رجالاً2.
هذا الحديث فيه تصريح بعظيم فضائل أبي بكر وعمر وعائشة رضي الله عنهم وفيه دلالة بينة لأهل السنة في تفضيل أبي بكر، ثم عمر على جميع الصحابة رضي الله عنهم أجمعين"3.
فكون أبي بكر أحب الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم يدل على أنه له فضلاً كثيراً وأنه أفضل الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم.
5- ورويا أيضاً: من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بينا راع في غنمه عدا عليه الذئب فأخذ منها شاة
__________
1ـ فتح الباري 7/13.
2ـ صحيح البخاري 2/290، صحيح مسلم 4/1857- 1858.
3ـ انظر: شرح النووي على صحيح مسلم 15/153-154.(1/227)
فطلبه الراعي فالتفت إليه الذئب فقال من لها يوم السبع يوم ليس لها راع غيري وبينا رجل يسوق بقرة قد حمل عليها فالتفتت إليه فكلمته فقالت إني لم أخلق لهذا ولكني خلقت للحرث" قال الناس ـ سبحان الله ـ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فأني أومن بذلك وأبو بكر وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما" 1.
وهذا الحديث فيه فضيلة ظاهرة لأبي بكر وعمر حيث أخبر عليه الصلاة والسلام أنهما يؤمنان بذلك ولم يكونا في القوم عند حكاية النبي صلى الله عليه وسلم ذلك.
قال الإمام النووي: عند قوله صلى الله عليه وسلم: "فإني أومن به وأبو بكر وعمر" قال العلماء: "إنما قال ذلك: ثقة بهما لعلمه بصدق إيمانهما وقوة يقينهما وكمال معرفتهما لعظيم سلطان الله وكمال قدرته ففيه فضيلة ظاهرة لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما"أ. هـ2.
وقال الحافظ: "ويحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم قال ذلك لما اطلع عليه من غلبة صدق إيمانهما وقوة يقينهما، وهذا أليق بدخوله في مناقبهما"أ. هـ3.
6- روى الإمام البخاري من حديث عائشة رضي الله عنهما وهو حديث السقيفة الطويل وفيه أن أبا بكر قال للأنصار: "ولكنا الأمراء وأنتم الوزراء هم أوسط العرب داراً، وأعربهم أحساناً، فبايعوا عمر بن الخطاب أو أبا عبيدة بن الجراح فقال عمر بل نبايعك أنت فأنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ عمر بيده فبايعه وبايعه الناس ... الحديث"4.
فعمر رضي الله عنه بين بأن الصديق أفضل الناس وخيرهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولذلك قدموه في الخلافة لأنه الأحق والأفضل.
__________
1ـ صحيح البخاري 2/290، صحيح مسلم 4/1458.
2ـ شرح النووي 15/156.
3ـ فتح الباري 7/27.
4ـ صحيح البخاري 2/291.(1/228)
7- وروى أيضاً: بإسناده إلى محمد بن الحنيفية قال: قلت: لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أبو بكر قلت: ثم من؟ قال: عمر وخشيت أن يقول عثمان قلت: ثم أنت قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين.1
قال الحافظ: "قوله وخشيت أن يقول عثمان قلت: ثم أنت قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين" في رواية محمد بن سوقة "ثم عجلت للحداثة فقلت: ثم أنتم يا أبت فقال: أبوك رجل من المسلمين" زاد في رواية الحسن بن محمد "لي ما لهم وعليّ ما عليهم" وهذا قاله عليّ تواضعاً مع معرفته حين المسألة المذكورة أنه خير الناس يومئذ لأن ذلك كان بعد قتل عثمان: وأما خشية محمد بن الحنفية أن يقول عثمان فلأن محمداً كان يعتقد أن أباه أفضل فخشي أن علياً يقول عثمان على سبيل التواضع منه والهضم لنفسه فيضطرب حال اعتقاده ولا سيما وهو في سنن الحداثة كما أشار إليه في الرواية المذكورة"2.
8- وروى البزار ـ كما في مجمع الزوائد ـ عن شقيق قال: قيل لعلي ألا تستخلف قال ما استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستخلف عليكم وإن يرد الله ـ تبارك وتعالى ـ بالناس خيراً فسيجمعهم على خيرهم كما جمعهم بعد نبيهم على خيرهم"3.
9- وروى الإمام أحمد بإسناده إلى عليّ رضي الله عنه أنه قال لأبي جحيفة: يا أبا جحيفة ألا أخبرك بأفضل هذه الأمة بعد نبيها قال: قلت: بلى ولم أكن أرى أن أحداً أفضل منه قال: أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وبعد أبي بكر عمر وبعدهما آخر ثالث ولم يسمه4.
فقد صرح الإمام عليّ رضي الله عنه بأن الصديق خير الناس وأفضلهم بعد الرسول صلى الله عليه وسلم.
__________
1ـ صحيح البخاري 2/291.
2ـ فتح الباري 7/33.
3ـ مجمع الزوائد 9/47 ثم قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح غير إسماعيل بن الحارث وهو ثقة.
4ـ مسند الإمام أحمد 1/106.(1/229)
10- وروى البخاري بإسناده إلى عمار بن ياسر قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وما معه إلا خمسة أعبد وامرأتان وأبو بكر"1.
وهذا الحديث تضمن منقبة عظيمة وفضيلة خاصة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه حيث لم يسبقه أحد من الرجال الأحرار للدخول في الإسلام فدل هذا على أنه أفضل الخلق بعد النبي صلى الله عليه وسلم.
11- وروى أيضاً بإسناده إلى ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كنا نخير بين الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فنخير أبا بكر، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان رضي الله عنهم"2.
هذا الحديث دل على أن أفضلية أبي بكر كانت ثابتة في أيامه عليه الصلاة والسلام وأنه أفضل الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الحافظ رحمه الله تعالى: "قوله: "كنا نخير بين الناس في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم أي: نقول: فلان خير من فلان" وفي رواية عبيد الله بن عمر في مناقب عثمان "كنا لا نعدل بأبي بكر أحداً، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نترك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا نفاضل بينهم"3 وقوله: "لا نعدل بأبي بكر" أي: لا نجعل له مثلاً ... ولأبي داود من طريق سالم عن ابن عمر: "كنا نقول ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي: أفضل أمة النبي صلى الله عليه وسلم بعده أبو بكر ثم عمر ثم عثمان"4 زاد الطبراني في رواية "فيسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فلا ينكره" ... وفي الحديث تقديم عثمان بعد أبي بكر وعمر كما هو المشهور عند جمهور أهل النسة"5.
__________
1ـ صحيح البخاري 2/289.
2ـ صحيح البخاري 2/289.
3ـ المصدر نفسه 2/297.
4ـ سنن أبي داود 2/511.
5ـ فتح الباري 7/16.(1/230)
وقال أبو سليمان الخطابي بعد حديث ابن عمر: "كنا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا نعدل بأبي بكر أحداً، ثم عمر، ثم عثمان رضي الله عنهم، ثم نترك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم" وجه ذلك والله أعلم أنه أراد به الشيوخ الذين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر شاورهم فيه، وكان عليّ رضوان الله عليه في زمان رسول الله حديث السن ولم يرد ابن عمر الإزراء بعلي ـ رضي الله عنه ـ ولا تأخيره ودفعه على الفضيلة بعد عثمان وفضله مشهور لا ينكره ابن عمر ولا غيره من الصحابة"أ. هـ1.
فقول ابن عمر: "ثم نترك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا نفاضل بينهم" لا يلزم منه أنهم تركوا التفاضل حينذاك ولا يلزم منه أن لا يكونوا اعتقدوا بعد ذلك تفضيل علي على من سواه"2.
فالحديث دل على أن أبا بكر أفضل الخلق بعد الرسول صلى الله عليه وسلم كما هو مذهب أهل السنة والجماعة:
12- وروى أيضاً: بإسناده إلى أبي الدرداء رضي الله عنه قال: كنت جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبل أبو بكر آخذاً بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبتيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما صاحبكم فقد غامر فسلم" وقال: يا رسول الله إنه كان بيني وبين ابن الخطاب شيء فأسرعت إليه ثم ندمت فسألته أن يغفر لي فأبى علي فأقبلت إليك فقال: "يغفر الله لك يا أبا بكر ثلاثاً" ثم إن عمر ندم فأتى منزل أبي بكر فسأل: أثم أبو بكر فقالوا: لا، فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم عليه فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعر3 حتى أشفق أبو بكر فجثا على ركبتيه فقال: يا رسول الله والله أنا كنت أظلم مرتين فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت وقال أبو بكر: صدق وواساني بنفسه وماله فهل أنتم تاركوا لي صاحبي" مرتين فما أوذي بعدها4. هذا
__________
1ـ معالم السنن 4/302.
2ـ انظر: فتح الباري 7/17.
3ـ قال في النهاية 4/342: "فتمعر وجهه" أي: تغير وأصله قلة النضارة وعدم إشراق اللون"أهـ.
4ـ صحيح البخاري 2/289-290.(1/231)
الحديث فيه بيان فضل أبي بكر، فقد غضب النبي صلى الله عليه وسلم على الفاروق رضي الله عنه حين حصل بينه وبين الصديق شيء فشعر الصديق أنه المخطئ على عمر فطلب من الصديق أن يعفو عنه ويغفر له فأبى عليه فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وذكر له ما حصل فاستغفر له النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إن الفاروق ندم على عدم مغفرته للصديق فأخذ في البحث عنه فلم يجده في منزله فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوجده عنده فما أن وصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقد رأى تغير وجه النبي صلى الله عليه وسلم غضباً حتى أشفق الصديق من ذلك لئلا يصيب الفاروق من ذلك شيء وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه هو الذي بدأ فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم في بيان فضله ومناقبه ومنزلته عنده فقال لهم: "إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت وقال أبو بكر: صدق وواساني بنفسه وماله فهل أنتم تاركو لي صاحبي" مرتين فما أوذي بعدها لما أظهره النبي صلى الله عليه وسلم لهم من تعظيمه لأبي بكر رضي الله عنه.
قال الحافظ: "وفي الحديث من الفوائد فضل أبي بكر على جميع الصحابة وأن الفاضل لا ينبغي له أن يغاضب من هو أفضل منه وفيه جواز مدح المرء في وجهه ومحله إذا أمن عليه الافتتان والاغترار"أ. هـ1.
13- وروى الإمام مسلم بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أصبح منكم اليوم صائماً؟ " قال أبو بكر: أنا، قال: "فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ " قال أبو بكر: أنا، قال: "فمن أطعم منكم اليوم مسكيناً؟ " قال أبو بكر: أنا، قال:" فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟ " قال أبو بكر: أنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما اجتمعن في امرء إلا دخل الجنة" 2.
هذا الحديث اشتمل على فضائل ظاهرة للصديق رضي الله عنه، فإنه كان سباقاً إلى فعل الخيرات التي تقرب العبد من الجنة وتزحزحه من النار. قال النووي: قوله صلى الله عليه وسلم: "من أصبح منكم اليوم صائماً" قال أبو بكر أنا إلى قوله صلى الله عليه وسلم
__________
1ـ فتح الباري 7/26.
2ـ صحيح مسلم 4/1857.(1/232)
"ما اجتمعن في امريء إلا دخل الجنة" قال القاضي معناه: "دخل الجنة بلا محاسبة ولا مجازاة على قبيح الأعمال وإلا فمجرد الإيمان يقتضي دخول الجنة بفضل الله تعالى"1.
14- وروى البخاري بإسناده إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة" فقال أبو بكر: إن أحد شقي ثوبي يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنك لست تصنع ذلك خيلاء " قال موسى: فقلت لسالم: أذكر عبد الله "من جر إزاره" قال: "لم أسمعه إلا ثوبه"2 هذا الحديث تضمن فضيلة لأبي بكر وهو قوله له صلى الله عليه وسلم: "إنك لست تصنع ذلك خيلاء" حيث شهد له المصطفى صلى الله عليه وسلم بما ينافي ما يكره رضي الله عنه وأرضاه.
15- وروى أيضاً: بإسناده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه حدثهم أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد أحداً وأبو بكر وعمر وعثمان فرجف بهم فقال: "اثبت أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان" 3 دل هذا الحديث على منقبة عظيمة لأبي بكر رضي الله عنه وهي "وصديق" فقد لقبه النبي صلى الله عليه وسلم بهذا اللقب الشريف ومنزلة الصديقين بينها الله تعالى بقوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} 4.
فقد بين تعالى أن الصديقين في المرتبة الثانية بعد الأنبياء وفي مقدمتهم الصديق الأعظم أبو بكر رضي الله عنه.
16- وروى أيضاً: بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال: إني لواقف في قوم فدعوا الله لعمر بن الخطاب وقد وضع على سريره إذا رجل من
__________
1ـ شرح النووي 15/156.
2ـ صحيح البخاري 2/290.
3ـ صحيح البخاري 2/293.
4ـ سورة النساء آية/69.(1/233)
خلفي قد وضع مرفقه على منكبي يقول: رحمك الله إن كنت لأرجو أن يجعلك الله مع صاحبيك لأني كثيراً ما كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " كنت وأبو بكر وعمر، وفعلت وأبو بكر وعمر وانطلقت وأبو بكر وعمر" فإن كنت لأرجو أن يجعلك الله معهما فالتفت فإذا هو علي بن أبي طالب1.
فهذا الحديث تضمن فضيلة الشيخين معاً والغرض منه دلالته على منقبة لأبي بكر الصديق وهي فضيلة على عمر وغيره لأنه كان المقدم عند النبي صلى الله عليه وسلم في كل شيء حتى في ذكره عنده عليه الصلاة والسلام.
17- وروى البخاري أيضاً: بإسناده إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه توضأ في بيته، ثم خرج فقلت: لألزمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأكونن معه يومي هذا قال: فجاء المسجد فسأل عن النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: خرج ووجه ههنا فخرجت على إثره أسأل عنه حتى دخل بئر أريس فجلست عند الباب وبابها من جريد حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجته فتوضأ فقمت إليه فإذا هو جالس على بئر أريس وتوسط قفها2 وكشف عن ساقيه ودلاهما في البئر فسلمت عليه، ثم انصرفت فجلست عند الباب فقلت: لأكونن بواب رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم فجاء أبو بكر فدفع الباب فقلت: من هذا؟ فقال: أبو بكر فقلت: على رسلك، ثم ذهبت فقلت: يا رسول الله هذا أبو بكر يستأذن فقال: "ائذن له وبشره بالجنة" فأقبلت حتى قلت: لأبي بكر ادخل ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبشرك بالجنة فدخل أبو بكر فجلس عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم معه في القف ودلى رجليه في البئر كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم وكشف عن ساقيه، ثم رجعت فجلست وقد تركت أخي يتوضأ ويلحقني فقلت: إن يرد الله بفلان خيراً يريد أخاه يأت به فإذا إنسان يحرك الباب فقلت: من هذا؟ فقال: عمر بن الخطاب فقلت: على رسلك ثم جئت إلى رسول الله فسلمت
__________
1ـ صحيح البخاري 2/293.
2ـ القف: قال في النهاية 4/91: "قف البئر: هو الدكة التي تجعل حولها وأصل القف ما غلظ من الأرض وارتفع".(1/234)
عليه فقلت: هذا عمر بن الخطاب يستأذن فقال: "ائذن له وبشره بالجنة" فجئت فقلت له: ادخل وبشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة فدخل فجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في القف عن يساره ودلى رجليه في البئر، ثم رجعت فجلست فقلت: إن يرد الله بفلان خيراً يأت به فجاء إنسان يحرك الباب فقلت: من هذا؟ فقال: عثمان بن عفان فقلت: على رسلك فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: "ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه" فجئته فقلت له: ادخل وبشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة على بلوى تصيبك فدخل فوجد القف قد ملئ فجلس وجاهه من الشق الآخر قال شريك: قال سعيد بن المسيب فأولتها قبورهم"1.
هذا الحديث فيه التصريح بفضل الثلاثة أبي بكر وعمر وعثمان ودل على أن أبا بكر أفضلهم لسبقه بالبشارة بالجنة ولجلوسه على يمين المصطفى عليه الصلاة والسلام.
18- وروى البخاري أيضاً في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أنفق زوجين من شيء من الأشياء في سبيل الله دعي من أبواب ـ يعني الجنة ـ يا عبد الله هذا خير فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الصيام وباب الريان " فقال أبو بكر: ما على هذا الذي يدعى من تلك الأبواب من ضرورة وقال: هل يدعى منها كلها أحد يا رسول الله قال: "نعم وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر" 2.
هذا الحديث دل على فضيلة ومنقبة عالية للصديق رضي الله عنه تضمنها قوله صلى الله عليه وسلم: "وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر" ورجاء النبي صلى الله عليه وسلم واقع محقق
__________
1ـ صحيح البخاري 2/292.
2ـ المصدر نفسه 2/290.(1/235)
وفي هذا دلالة واضحة على فضل أبي بكر بعد النبي صلى الله عليه وسلم.
قال العلامة ابن القيم موضحاً منقبة الصديق في هذا الحديث: "لما سمت همة الصديق إلى تكميل مراتب الإيمان وطمعت نفسه أن يدعى من تلك الأبواب كلها سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم هل يحصل ذلك لأحد من الناس ليسعى في العمل الذي ينال به ذلك فخبره بحصوله وبشره بأنه من أهله وكأنه قال: هل تكمل لأحد هذه المراتب فيدعى يوم القيامة من أبوابها كلها؟ فلله ما أعلى هذه الهمة وأكبر هذه النفس"أ. هـ1.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى قوله: "فقال أبو بكر: ما على هذا الذي يدعى من تلك الأبواب من ضرورة" زاد في الصيام "فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها" وفي الحديث إشعار بقلة من يدعى من تلك الأبواب كلها وفيه إشارة إلى أن المراد ما يتطوع به من الأعمال المذكورة لا واجباتها لكثرة من يجتمع له العمل بالواجبات كلها بخلاف التطوعات فقل من يجتمع له العمل بجميع أنواع التطوعات، ثم من يجتمع له ذلك إنما يدعى من جميع الأبواب على سبيل التكريم له، وإلا فدخوله إنما يكون من باب واحد ولعله باب العمل الذي يكون أغلب عليه ... قوله: "وأرجو أن تكون منهم" قال العلماء: الرجاء من الله ومن نبيه واقع وبهذا التقرير يدخل الحديث في فضائل أبي بكر ووقع في حديث ابن عباس عند ابن حبان في نحو هذا الحديث التصريح بالوقوع لأبي بكر ولفظه "قال: أجل وأنت هو يا أبا بكر"أ. هـ2.
19- ومن مناقبه رضي الله عنه ما تميز به فوق ما حازه من الفضائل الكثيرة قيامه بالدعوة إلى الله تعالى في بداية الإسلام في وقت لم يجرؤ فيه أحد سواه على الدعوة وقد أسلم على يديه كثير من الصحابة رضي الله عنهم وكان لهم قدم صدق في الإسلام ومن هؤلاء عثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله،
__________
1ـ حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح ص/75-76.
2ـ فتح الباري 7/28-29.(1/236)
والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف وعثمان بن مظعون وغيرهم كثير رضي الله عنهم أجمعين1.
وبعد أن تولى الخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم سعى جاهداً في إرساء العقيدة الإسلامية في نفوس الناس وعقد الألوية لمحاربة المرتدين وإرجاعهم إلى دين الإسلام حيث ارتد كثير من الناس عن هذا الدين الحنيف، وبعضهم أراد أن يمنع الزكاة، والبعض الآخر ادعى النبوة فعمت فتنة الردة كثيراً من البلاد2.
روى البيهقي رحمه الله بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: والذي لا إله إلا هو لولا أن أبا بكر استخلف ما عبد الله ثم قال الثانية ثم قال الثالثة ثم قيل له: مه يا أبا هريرة فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجه أسامة بن زيد في سبع مائة إلى الشام فلما نزل بذي خشب3 قبض النبي صل قبض النبي صلى الله عليه وسلم وارتدت العرب حول المدينة واجتمع إليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا بكر رد هؤلاء توجه هؤلاء إلى الروم وقد ارتدت العرب حول المدينة فقال: والذي لا إله إلا هو لو جرت الكلاب بأرجل أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رددت جيشاً وجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا حللت لواء عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجه أسامة فجعل لا يمر بقبيل يريدون الارتداد إلا قالوا: لولا أن لهؤلاء قوة ما خرج مثل هؤلاء من عندهم ولكن ندعهم حتى يلقوا الروم فلقوا الروم فهزموهم وقتلوهم ورجعوا سالمين فثبتوا على الإسلام4.
فقد وفق الله الصديق أن وقف موقفاً عظيماً يذكر به في الآخرين أمام تلك الردة التي عمت معظم البلاد وأصر إلا على قتالهم حتى يرجعوا إلى الإسلام وكان منفرداً بهذا الرأي حتى شرح الله صدر الفاروق لذلك وعرف أنه الحق فبارك الله خطاه حتى رفع راية التوحيد في كل البلاد التي مرض أهلها بالردة،
__________
1ـ انظر السيرة النبوية لابن هشام 1/259.
2ـ انظر تاريخ الأمم والملوك 3/249 وما بعدها وانظر: الكامل لابن الأثير 2/342، البداية والنهاية 6/350.
3ـ ذي خشب: واد على مسيرة ليلة من المدينة "معجم البلدان" 2/372.
4ـ الاعتقاد للبيهقي ص/174-175.(1/237)
ثم شرع بعد ذلك في نشر الإسلام في البلدان التي لم يصلها نور الإسلام وسعادته حتى لقي ربه تبارك وتعالى.
20- ومما تميز به عن غيره من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المصطفى عليه الصلاة والسلام انتقل إلى الرفيق الأعلى وهو بالسنح1 فأصاب الناس الذهول والحيرة والاضطراب أما الصديق فقد رزقه الله قوة النفس والثبات فكان أصبر الصحابة وأثبتهم عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم حيث جاء: "فكشف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله فقال: بأبي أنت وأمي طبت حياً وميتاً، والذي نفسي بيده لا يذيقك الله الموتتين أبداً، ثم خرج إلى الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال: ألا من كان يعبد محمداً صلى الله عليه وسلم فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت وقال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} 2 وقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} 3 قال فنشج الناس يبكون ... " الحديث4.
وما إن سمع الصحابة رضي الله عنهم هذه الخطبة من صديق هذه الأمة إلا ورجعوا إلى الرشد والصواب وانكشف ما بهم من الحيرة والذهول ولذلك كان أفضلهم على الإطلاق.
تلك هي طائفة من الأحاديث التي اشتملت على المناقب التي دلت على أن الصديق حاز الأفضلية على سائر الناس بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
وأما دلالة الإجماع على أفضلية الصديق رضي الله عنه:
__________
1ـ السنح: إحدى محال المدينة كان بها منزل أبي بكر الصديق رضي الله عنه وكان بين السنح ومنزل النبي صلى الله عليه وسلم قدر ميل "انظر: معجم البلدان لياقوت الحموي" 3/265.
2ـ سورة الزمر آية/30.
3ـ سورة آل عمران آية/144.
4ـ صحيح البخاري 2/291.(1/238)
فقد أجمع الصحابة رضي الله عنهم ومن جاء بعدهم من أهل السنة والجماعة على أن أفضل الصحابة والناس بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أبو بكر، ثم عمر ثم عثمان ثم عليّ ثم سائر العشرة ثم باقي أهل بدر، ثم باقي أهل أحد، ثم باقي أهل بيعة الرضوان ثم باقي الصحابة هكذا إجماع أهل الحق، فأبو بكر أفضل هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم لا ينازع في ذلك إلا زائغ1 وقد نقل الإجماع على أن أفضل الناس بعد الأنبياء هو أبو بكر الصديق جماعة من أهل العلم منهم:
- أبو طالب العشاري2 والإمام الشافعي والنووي وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن حجر والبيهقي:
فقد روى أبو طالب العشاري بإسناده إلى عمار بن ياسر رضي الله عنه أنه قال: من فضل على أبي بكر وعمر أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار وطعن على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم3.
- وقال الإمام الشافعي فيما رواه عنه البيهقي بإسناده: "ما اختلف أحد من الصحابة والتابعين في تفضيل أبي بكر وعمر وتقديمهما على جميع الصحابة وإنما اختلف من اختلف منهم في عليّ وعثمان ونحن لا نخطئ واحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما فعلوا"4.
- وقال الحافظ ابن حجر: "ونقل البيهقي في "الاعتقاد" بسنده إلى
__________
1ـ انظر لوامع الأنوار البهية للسفاريني 2/312، أصول الدين لأبي منصور البغدادي ص/304، الفرق بين الفرق ص/359، تاريخ الخلفاء ص/44.
2ـ هو محمد بن علي بن الفتح المعروف بابن العشاري روى عن الدارقطني وطبقته وهو فقيه حنبلي، ولد سنة ستين وثلاثمائة، وتوفي سنة إحدى وخمسين وأربعمائة " انظر ترجمته في طبقات الحنابلة" 2/191-194، شذرات الذهب 3/289.
3ـ فضائل أبي بكر للعشاري ص/8.
4ـ كتاب الاعتقاد ص/192.(1/239)
أبي ثور عن الشافعي أنه قال: أجمع الصحابة وأتباعهم على أفضلية أبي بكر، ثم عمر ثم عثمان، ثم عليّ"1.
- وقال النووي رحمه الله تعالى: "اتفق أهل السنة على أن أفضلهم أبو بكر ثم عمر"2.
- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وقد اتفق أهل السنة والجماعة على ما تواتر عن علي بن أبي طالب أنه قال: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر"3.
- وقال ابن حجر الهيثمي: "واعلم أن الذي أطبق عليه عظماء الملة وعلماء الأمة أن أفضل هذه الأمة أبو بكر الصديق ثم عمر رضي الله عنهما"4.
- وهؤلاء الأعلام الذين نقلوا هذا الإجماع إنما هو بناء على ما قاله أئمة أهل السنة والجماعة فقد قال الإمام أبو حنيفة كما في شرح "الفقه الأكبر": ونقر بأن أفضل هذه الأمة بعد نبيها محمد عليه أفضل الصلاة والسلام أبو بكر ثم عمر ثم عثمان، ثم عليّ رضي الله عنهم أجمعين"أ. هـ5.
- وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عن الإمام مالك بن أنس أنه قال: لما سأله الرشيد عن منزلة الشيخين من النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "منزلتهما منه في حياته كمنزلتهما منه بعد مماته ـ ثم قال ـ وكثرة الاختصاص والصحبة مع كمال المودة والائتلاف والمحبة والمشاركة في العلم يقضي بأنهما أحق من غيرهما وهذا ظاهر بين لمن له خبرة بأحوال القوم"6 ومعلوم أن أبا بكر كانت منزلته
__________
1ـ فتح الباري 7/17 وانظر الاعتقاد للبيهقي ص/192.
2ـ شرح النووي على صحيح مسلم 15/148.
3ـ الوصية الكبرى ص/32.
4ـ الصواعق المحرقة في الرد على أهل البدع والزندقة ص/57.
5ـ ص/108.
6ـ مجموع الفتاوى 4/403.(1/240)
عند النبي صلى الله عليه وسلم أعلا منزلة وكان أفضل الصحابة وكان الصحابة يعتقدون أنه خير الناس والنبي يعلم ذلك ويقرهم عليه كما تقدم قريباً في حديث ابن عمر.
- وروى الإمام البيهقي مسنداً إلى محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال: سمعت محمد بن إدريس الشافعي يقول: "أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي رضي الله عنهم".
وقال أيضاً رحمه الله تعالى: "اضطر الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر فلم يجدوا تحت أديم السماء خيراً من أبي بكر من أجل ذلك استعملوه على رقاب الناس"1.
وقال الإمام أحمد رحمة الله عليه: "وخير الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر، وعمر بعد أبي بكر، وعثمان بعد عمر، وعلي بعد عثمان ووقف قوم على عثمان وهم خلفاء راشدون مهديون"2.
- وقال عبدوس بن مالك العطار: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: "خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر الصديق"3.
- وقال أبو الحسن الأشعري مبيناً مذهب أهل السنة وعقيدتهم في السلف: "ويعرفون حق السلف الذين اختارهم الله ـ سبحانه ـ لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ويأخذون بفضائلهم ... ويقدمون أبا بكر ثم عمر، ثم عثمان، ثم علياً رضوان الله عليهم ويقرون أنهم الخلفاء الراشدون المهديون أفضل الناس كلهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم4.
وقال ابن قدامة المقدسي رحمه الله تعالى: "وأفضل أمته صلى الله عليه وسلم: أبو بكر
__________
1ـ هذان القولان أوردهما عن الشافعي الإمام البيهقي في كتاب "مناقب الشافعي" 1/433-434.
2ـ طبقات الحنابلة 1/30.
3ـ مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي 1/160.
4ـ مقالات الإسلاميين 1/348.(1/241)
الصديق ثم عمر الفاروق، ثم عثمان ذو النورين، ثم علي المرتضى رضي الله عنهم"1.
- وقال الإمام الذهبي: "أفضل الأمة وخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومؤنسه في الغار وصديقه الأكبر ... عبد الله بن أبي قحافة عثمان القرشي التيمي"أ. هـ2.
- وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: "وأفضل الصحابة بل أفضل الخلق بعد الأنبياء عليهم السلام أبو بكر عبد الله بن عثمان أبو قحافة التيمي، ثم من بعده عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان، ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين"أ. هـ3.
تلك هي عقيدة أهل السنة والجماعة في أبي بكر الصديق "وهي الإيمان والمعرفة بأن خير الخلق وأفضلهم وأعظمهم منزلة عند الله ـ عز وجل ـ بعد النبيين والمرسلين أبو بكر الصديق عبد الله بن عثمان بن أبي قحافة رضي الله عنه"4.
وهذا هو المذهب الحق الذي يلزم كل مسلم أن يعتقده ويلتزمه ويتمسك به. وبالله التوفيق.
__________
1ـ لمعة الاعتقاد ص/25.
2ـ تذكرة الحفاظ 1/2.
3ـ الباعث الحثيث ص/183.
4ـ انظر: كتاب الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة" لعبيد لله محمد بن بطة العكبري" ص/257، شرح الطحاوية ص/528.(1/242)
المبحث الثاني: فضل عمر بن الخطاب رضي الله عنه
...
المبحث الثاني: فضل عمر الفاروق رضي الله عنه
إن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يلي أبا بكر الصديق في الفضل فهو أفضل الناس على الإطلاق بعد الأنبياء وأبي بكر وهذا ما يلزم المسلم اعتقاده في أفضليته رضي الله عنه وهذا هو معتقد الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة. ونسبه رضي الله عنه هو عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رباح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في كعب وعدد ما بينهما من الآباء إلى كعب متفاوت بواحد بخلاف أبي بكر فبين النبي صلى الله عليه وسلم وكعب سبعة آباء، وبين عمر وبين كعب ثمانية، وأم عمر حنتمة بنت هاشم بن المغيرة ابنة عم أبي جهل والحارث ابني هشام بن المغيرة1.
وهو أحد السابقين إلى الإسلام، وبإسلامه رضي الله عنه ظهر دين الإسلام وعلت كلمة الإيمان وكان عند البعثة النبوية شديداً على المسلمين، ولما دخل في الإسلام كان إسلامه فتحاً على المسلمين وفرجاً لهم من الضيق2.
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "إن كان إسلام عمر لفتحاً، وهجرته لنصراً، وإمارته رحمة، والله ما استطعنا أن نصلي بالبيت حتى أسلم عمر فلما أسلم عمر قاتلهم حتى ودعونا فصلينا"3.
__________
1ـ الطبقات الكبرى 3/265، تاريخ الأمم والملوك للطبري 4/195، تذكرة الحفاظ للذهبي 1/5، الإصابة 2/511، فتح الباري 7/44، وانظر مجمع الزوائد 9/60، تاريخ الخلفاء للسيوطي ص/108، لوامع الأنوار البهية 2/317.
2ـ الإصابة 2/511.
3ـ انظر الطبقات لابن سعد 3/270، مجمع الزوائد 9/62 ثم قال الهيثمي: رواه الطبراني وفي رواية(1/243)
وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنه: "أول من جهر بالإسلام عمر بن الخطاب"1.
وقد حقق الله فيه دعوة النبي صلى الله عليه وسلم له قبل أن يسلم أن يعز به الإسلام فقد روى الترمذي بإسناده إلى ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك بأبي جهل أو بعمر بن الخطاب" قال: وكان أحبهما إليه عمر2.
وأخرج ابن سعد بسند حسن عن سعيد بن المسيب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى عمر بن الخطاب، أو أبا جهل بن هشام قال: "اللهم اشدد دينك بأحبهما إليك" فشد دينه بعمر بن الخطاب3.
وكان يكنى رضي الله عنه بأبي حفص.
قال الحافظ: أما كنيته فجاء في السيرة لابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم كناه بها وكانت حفصة أكبر أولاده، وأما لقبه فهو الفاروق باتفاق. فقيل: أول من لقبه به النبي صلى الله عليه وسلم رواه أبو جعفر بن أبي شيبة في تاريخه عن طريق ابن عباس عن عمر ورواه ابن سعد من حديث عائشة4. وقيل: أهل الكتاب أخرجه ابن سعد عن الزهري5 وقيل: جبريل رواه البغوي6.
وأحسنها وأقربها أن النبي صلى الله عليه وسلم لقبه بالفاروق لما رواه ابن سعد بإسناده إلى أبي عمرو ذكوان قال: قلت لعائشة: من سمى عمر الفاروق؟ قالت: النبي
__________
= ما استطعنا أن نصلي عند الكعبة ظاهرين "ورجاله رجال الصحيح"، الإصابة 2/511 بمعناه.
1ـ مجمع الزوائد 9/63 ثم قال عقبه الهيثمي: رواه الطبراني وإسناده حسن.
2ـ سنن الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي 10/167-168 ثم قال الترمذي عقبه: هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث ابن عمر.
3ـ الطبقات الكبرى 3/367، وانظر الإصابة 2/511-512.
4ـ الطبقات الكبرى 3/271.
5ـ المصدر السابق 3/270.
6ـ فتح الباري 7/44.(1/244)
عليه السلام1.
فهو رضي الله عنه الفاروق الذي فرق الله به بين الحق والباطل، وهو الذي ضرب الله الحق على لسانه وقلبه، وهو المحدث الملهم الصادق الظن وهو سيد هذه الأمة بعد الصديق، والخليفة الثاني لرسول الله صلى الله عليه وسلم على الأمة المحمدية "اتفق العلماء على أنه شهد بدراً وأحداً والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يغب عن غزاة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم"2.
وقد وردت الأحاديث الكثيرة والأخبار الشهيرة بفضائل الفاروق رضي الله عنه ومنها:
1- ما رواه الشيخان من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "رأيتني دخلت الجنة فإذا أنا بالرميصاء امرأة أبي طلحة وسمعت خشفة فقلت من هذا؟ فقال: هذا بلال ورأيت قصراً بفنائه جارية، فقلت: لمن هذا؟ فقال: لعمر فأردت أن أدخله فأنظر إليه فذكرت غيرتك" فقال عمر: بأبي وأمي يا رسول الله أعليك أغار.
2- ورويا أيضاً: من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: "بينا أنا نائم رأيتني في الجنة فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر فقلت: لمن هذا القصر؟ قالوا لعمر فذكرت غيرته فوليت مدبراً" فبكى عمر وقال: أعليك أغار يا رسول الله"3.
هذان الحديثان اشتملا على فضيلة ظاهرة لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم برؤيته قصراً في الجنة للفاروق رضي الله عنه وهذا يدل على تكريمه وعلو منزلته رضي الله عنه.
__________
1ـ الطبقات الكبرى 13/271.
2ـ تاريخ عمر لابن الجوزي ص/108.
3ـ صحيح البخاري 2/293، صحيح مسلم 4/1862-1863.(1/245)
قال ابن بطال: "فيه الحكم لكل رجل بما يعلم من خلقه قال: وبكاء عمر يحتمل أن يكون سروراً، ويحتمل أن يكون تشوقاً أو خشوعاً ... " وقال الحافظ: "وفيه ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من مراعاة الصحبة وفيه فضيلة ظاهرة لعمر"أ. هـ1.
3- وروى البخاري بإسناده إلى حمزة بن أسيد الأنصاري عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بينا أنا نائم شربت ـ يعني اللبن ـ حتى أنظر إلى الري يجري في ظفري أو أظفاري، ثم ناولت عمر" فقالوا: فما أولته قال: "العلم"2. "وجه التعبير بذلك من جهة اشتراك اللبن والعلم في كثرة النفع وكونهما سبباً للصلاح، فاللبن للغذاء البدني والعلم للغذاء المعنوي وفي الحديث فضيلة ـ ومنقبة لعمر رضي الله عنه ـ وإن الرؤيا من شأنها أن لا تحمل على ظاهرها وإن كانت رؤيا الأنبياء من الوحي لكن منها ما يحتاج إلى تعبير ومنها ما يحمل على ظاهره ... والمراد بالعلم ـ في الحديث ـ سياسة بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم واختص عمر بذلك لطول مدته بالنسبة إلى أبي بكر وباتفاق الناس على طاعته بالنسبة إلى عثمان فإن مدة أبي بكر كانت قصيرة فلم يكثر فيها الفتوح التي هي أعظم الأسباب في الاختلاف ومع ذلك فساس عمر فيها مع طول مدته الناس بحيث لم يخالفه أحد ثم ازدادت اتساعاً في خلافة عثمان فانتشرت الأقوال واختلفت الآراء ولم يتفق له ما اتفق لعمر من طواعية الخلق له فنشأت من ثم الفتن إلى أن أفضى الأمر إلى قتله واستخلف علي فما ازداد الأمر إلا اختلافاً والفتن إلا انتشاراً3.
وبهذا اتضحت المنقبة التي اشتمل عليها الحديث للفاروق رضي الله عنه.
__________
1ـ فتح الباري 7/75.
2ـ صحيح البخاري 2/294، وعند مسلم من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب عن أبيه 4/1859.
3ـ انظر: فتح الباري 7/46.(1/246)
4- وروى الشيخان من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بينا أنا نائم رأيت الناس عرضوا على وعليهم قمص فمنها ما يبلغ الثدي ومنها ما يبلغ دون ذلك، وعرض علي على عمر وعليه قميص اجتره" قالوا فما أولته يا رسول الله؟ قال: "الدين" 1.
هذا الحديث تضمن فضيلة ظاهرة لعمر رضي الله عنه وهي قوله: "وعرض علي عمر وعليه قميص اجتره" إلخ الحديث.
قال الحافظ: "السائل عن ذلك أبو بكر ... وقد استشكل هذا الحديث بأنه يلزم منه أن عمر أفضل من أبي بكر الصديق والجواب عنه تخصيص أبي بكر من عموم قوله عرض على الناس فلعل الذين عرضوا إذ ذاك لم يكن فيهم أبو بكر وأن كون عمر عليه قميص يجره لا يستلزم أن لا يكون على أبي بكر قميص أطول منه وأسبع فلعله كان كذلك إلا أن المراد حينئذ بيان فضيلة عمر فاقتصر عليها والله أعلم"أ. هـ2.
5- ورويا أيضاً: من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: "استأذن عمر بن الخطاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعند نسوة من قريش يكلمنه ويستكثرنه عالية أصواتهن على صوته فلما استأذن عمر بن الخطاب قمن فبادرن الحجاب فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عمر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك فقال: أضحك الله سنك يا رسول الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "عجبت من هؤلاء اللاتي كن عندي فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب" قال عمر: فأنت أحق أن يهبن يا رسول الله ثم قال عمر يا عدوات أنفسهن، أتهبنني ولا تهبن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلن: نعم أنت أفظ وأغلظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إيها يا ابن الخطاب والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً 3 قط إلا
__________
1ـ صحيح البخاري 2/295، صحيح مسلم 4/1859.
2ـ فتح الباري 7/51.
3ـ الفج: الطريق الواسع ويطلق أيضاً على المكان المنخرق بين الجبلين النهاية 3/412، شرح النووي 15/165.(1/247)
سلك فجاً آخر" 1.
هذا الحديث فيه بيان فضل عمر رضي الله عنه وأنه من كثرة التزامه الصواب لم يجد الشيطان عليه مدخلاً ينفذ إليه منه.
قال الحافظ رحمه الله تعالى: "فيه فضيلة لعمر تقتضي أن الشيطان لا سبيل له عليه لا أن ذلك يقتضي وجود العصمة إذ ليس فيه إلا فرار الشيطان منه أن يشاركه في طريق يسلكها، ولا يمنع ذلك من وسوسته له بحسب ما تصل إليه قدرته، فإن قيل عدم تسليطه عليه بالوسوسة يؤخذ بطريق مفهوم الموافقة لأنه إذا منع من السلوك في طريق فأولى أن لا يلابسه بحيث يتمكن من وسوسته له فيمكن أن يكون حفظ من الشيطان، ولا يلزم من ذلك ثبوت العصمة له لأنها في حق النبي واجبة وفي حق غيره ممكنة ووقع في حديث حفصة عند الطبراني في الأوسط بلفظ: "إن الشيطان لا يلقى عمر منذ أسلم إلا فر لوجهه" وهذا دال على صلابته في الدين، واستمرار حاله على الجد الصرف والحق المحض.
وقال النووي: "هذا الحديث محمول على ظاهره وأن الشيطان يهرب إذا رآه: وقال عياض: يحتمل أن يكون ذاك على سبيل ضرب المثل وأن عمر فارق سبيل الشيطان وسلك طريق السداد فخالف كل ما يحبه الشيطان" قال الحافظ: "والأول أولى"2.
6- روى البخاري بإسناده إلى عبد الله بن مسعود قال: ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر"3.
هذا الحديث تضمن منقبة جليلة لعمر رضي الله عنه لما كان من القوة والجلد في أمر الله قال الحافظ: "وروى ابن أبي شيبة والطبراني من طريق القاسم بن عبد الرحمن قال: قال عبد الله بن مسعود: "كان إسلام
__________
1ـ صحيح البخاري 2/294، صحيح مسلم 4/1863-1864.
2ـ فتح الباري 7/47-48، شرح النووي 15/165-167.
3ـ صحيح البخاري 2/294.(1/248)
عمر عزاً، وهجرته نصراً، وإمارته رحمة، والله ما استطعنا أن نصلي حول البيت ظاهرين حتى أسلم عمر"1.
7- روى الشيخان من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أريت في المنام أني أنزع بدلو بكرة على قليب 2 فجاء أبو بكر فنزع ذنوباً أو ذنوبين نزعاً ضعيفاً والله يغفر له 3، ثم جاء عمر بن الخطاب فاستحالت غرباً فلم أر عبقرياً يفري فريه حتى روى الناس وضربوا بعطن" 4.
هذا الحديث فيه فضيلة ظاهرة لعمر رضي الله عنه تضمنها قوله صلى الله عليه وسلم: "فجاء عمر بن الخطاب فاستحالت غرباً ... الحديث ومعنى: "استحالت" صارت وتحولت من الصغر إلى الكبر وأما "العبقري" فهو السيد وقيل: الذي ليس فوقه شيء ومعنى "ضرب الناس بعطن" أي أرووا إبلهم ثم آووها إلى عطنها وهو الموضع الذي تساق إليه بعد السقي لتستريح وهذا المنام رآه النبي صلى الله عليه وسلم مثال واضح لما جرى للصديق وعمر رضي الله عنهما في خلافتهما وحسن سيرتهما وظهور آثارهما وانتفاع الناس بهما فقد حصل في خلافة الصديق قتال أهل الردة وقطع دابرهم واتساع الإسلام رغم قصر مدة خلافته فقد كانت سنتين وأشهراً فوضع الله فيها البركة ولما حصل فيها من النفع الكثير ولما توفي الصديق خلفه الفاروق فاتسعت رقعة الإسلام في زمنه وتقرر للناس من أحكامه ما لم يقع مثله فكثر انتفاع الناس في خلافة عمر لطولها فقد مصر الأمصار ودون الدواوين
__________
1ـ فتح الباري 7/48.
2ـ القليب: هي البئر غير المطوية، شرح النووي 15/158.
3ـ والله يغفر له: هذه العبارة ليس فيها تنقيص لأبي بكر ولا إشارة إلى ذنب وإنما هي كلمة كان المسلمون يدعمون بها كلامهم ونعمت الدعامة "انظر شرح النووي على صحيح مسلم" 15/161، فتح الباري 7/39.
4ـ صحيح البخاري 2/294، صحيح مسلم 4/1862.(1/249)
وكثرت الفتوحات والغنائم ... ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "فلم أر عبقرياً من الناس يفري فريه " أي: لم أر سيداً يعمل عمله ويقطع قطعه ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم " حتى ضرب الناس بعطن" قال القاضي عياض: ظاهره أنه عائد إلى خلافة عمر خاصة وقيل: يعود إلى خلافة أبي بكر وعمر جميعاً لأن بنظرهما وتدبيرهما وقيامهما بمصالح المسلمين تم هذا الأمر "وضرب الناس بعطن" لأن أبا بكر قمع أهل الردة وجمع شمل المسلمين وألفهم وابتدأ الفتوح ومهد الأمور وتمت ثمرات ذلك وتكاملت في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما"1.
8- وروى الشيخان بإسنادهما إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد كان فيما قبلكم من الأمم محدثون فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر.2.
هذا الحديث تضمن منقبة عظيمة للفاروق رضي الله عنه وقد اختلف العلماء في المراد "بالمحدث".
فقيل: المراد بالمحدث: الملهم.
وقيل: من يجري الصواب على لسانه من غير قصد.
وقيل: مكلم أي: تكلمه الملائكة بغير نبوة ... بمعنى أنها تكلمه في نفسه وإن لم ير مكلماً في الحقيقة فيرجع إلى الإلهام. وفسره بعضهم بالتفرس"3.
قال الحافظ: "والسبب في تخصيص عمر بالذكر لكثرة ما وقع له في زمن النبي صلى الله عليه وسلم من الموافقات التي نزل القرآن مطابقاً لها ووقع له بعد النبي صلى الله عليه وسلم عدة إصابات"4.
__________
1ـ انظر: شرح النووي 15/161-162.
2ـ صحيح البخاري 2/295، ورواه مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها 4/1864.
3ـ فتح الباري 7/50 وانظر: شرح النووي 15/166.
4ـ فتح الباري 7/51.(1/250)
وكون عمر رضي الله عنه اختص بهذه المكرمة العظيمة وانفرد بها دون من سواه من الصحابة لا تدل على أنه أفضل من الصديق رضي الله عنه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وكان أبو بكر رضي الله عنه أكثر علماً وإيماناً من عمر ... وإن كان عمر ـ رضي الله عنه ـ محدثاً كما جاء في الحديث الصحيح ... فهو رضي الله عنه المحدث الملهم الذي ضرب الله الحق على لسانه وقلبه، ولكن مزية الصديق الذي هو أكمل متابعة للرسول وعلماً وإيماناً بما جاء به، درجته فوق درجته فلهذا كان الصديق أفضل الأمة صاحب المتابعة للآثار النبوية، فهو معلم لعمر ومؤدب للمحدث منهم الذي يكون له من ربه إلهام وخطاب كما كان أبو بكر معلماً لعمر ومؤدباً له حيث قال له: فأخبرك أنك تدخله هذا العام؟ قال: لا قال: إنك آتيه ومطوف.
فبين له الصديق أن وعد النبي صلى الله عليه وسلم مطلق غير مقيد بوقت، وكونه سعى في ذلك العام وقصده لا يوجب أن يعني ما أخبر به، فإنه قد يقصد الشيء ولا يكون، بل يكون غيره، إذ ليس من شرط النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون كما قصده، بل من تمام نعمة ربه عليه أن يقيده عما يقصده إلى أمر آخر هو أنفع مما قصده، كما كان صلح الحديبية أنفع للمؤمنين من دخولهم ذلك العام، بخلاف خبر النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه صادق لا بد أن يقع ما أخبر به ويتحقق"1.
وقال العلامة ابن القيم: "ولا تظن أن تخصيص عمر رضي الله عنه بهذا تفضيل له على أبي بكر الصديق بل هذا من أقوى مناقب الصديق فإنه لكمال مشربه من حوض النبوة وتمام رضاعه من ثدي الرسالة استغنى بذلك عما تلقاه من تحديث أو غيره، فالذي يتلقاه من مشكاة النبوة أتم من الذي يتلقاه عمر من التحديث فتأمل هذا الموضع وأعطه حقه من المعرفة وتأمل ما فيه من الحكمة
__________
1ـ دقائق التفسير لشيخ الإسلام ابن تيمية تحقيق محمد السيد الجليند 4/306-307.(1/251)
البالغة الشاهدة لله بأنه الحكيم الخبير"1.
9- وروى أبو عبد الله الحاكم في المستدرك والترمذي في سننه والإمام أحمد في المسند بإسنادهم إلى عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب" 2
هذا الحديث فيه إبانة لفضل الفاروق رضي الله عنه حيث جعل الله تعالى فيه من أوصاف الأنبياء وخلال المرسلين ما يجعله لأن يكون أهلاً للنبوة لو كان هناك نبوة بعد المصطفى صلى الله عليه وسلم ولكن الله تعالى ختم النبوة بمحمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام فلا نبوة بعده إلى يوم القيامة.
10- وروى البخاري بإسناده إلى أنس رضي الله عنه أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة فقال: متى الساعة؟ قال: "وماذا أعددت لها؟ " قال: لا شيء إلا أني أحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فقال: "أنت مع من أحببت" قال أنس: فأنا أحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم وإن لم أعمل بمثل أعمالهم3.
هذا الحديث فيه فضيلة ظاهرة لعمر رضي الله عنه تؤخذ من قول أنس بن مالك فإنه قرن الصديق وعمر بالنبي صلى الله عليه وسلم في العمل ولا يعني هذا أن أنساً رضي الله عنه يريد أن يكون في درجة النبي صلى الله عليه وسلم فالدرجات متفاوتة وإنما يريد ويرجو أن يكون في الجنة دار الثواب وبعيداً عن دار العقاب وكل مؤمن يحبهم يرجو ذلك من الله تعالى.
11- ومن أجل مناقبه رضي الله عنه وأعظمها موافقته للقرآن في وقائع
__________
1ـ مفتاح دار السعادة 1/255.
2ـ المستدرك 3/85 وقال الحاكم عقبه: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، سنن الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي 10/173، المسند 4/154 وأورده الألباني في صحيح سنن الترمذي وقال عقبه: "حسن" وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم 327.
3ـ صحيح البخاري 2/295.(1/252)
متعددة بمعنى أنه كان يرى الرأي فيتنزل القرآن موافقاً لما رآه رضي الله عنه وأرضاه. فقد روى البخاري رحمه الله تعالى بإسناده إلى أنس رضي الله عنه قال: قال عمر: "وافقت ربي في ثلاث: فقلت: يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى فنزلت: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} وآية الحجاب قلت: يا رسول الله لو أمرت نساءك يحتجبن فإنه يكلمهن البر والفاجر فنزلت آية الحجاب1 واجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة عليه فقلت لهن: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ} فنزلت الآية2.
وعند مسلم بلفظ: "وافقت ربي في ثلاث في مقام إبراهيم وفي الحجاب وفي أسارى بدر"3.
ووجه موافقته في أسارى بدر أنه لما جيء بهم استشار النبي صلى الله عليه وسلم الناس فيهم فقال: "إن الله قد أمكنكم منهم" فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله أضرب أعناقهم فأعرض عنه فقام أبو بكر فقال: نرى أن تعفو عنهم وأن تقبل منهم الفداء فعفا عنهم وقبل منهم الفداء فعفا عنهم فأنزل الله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ 4 فِي الأَرْضِ} إلخ الآيات الثلاث وكانت موافقة لرأي عمر رضي الله عنه.
وروى الإمام أحمد وغيره بإسناده إلى عمر رضي الله عنه قال: لما نزل تحريم الخمر قال: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً فنزلت هذه الآية التي في سورة البقرة: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} قال: فدعي عمر
__________
1ـ هي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} الآية رقم/53 من سورة الأحزاب.
2ـ صحيح البخاري مع الفتح 1/504.
3ـ صحيح مسلم 4/1865.
4ـ انظر جامع البيان للطبري 10/43-44، تفسير ابن كثير 3/345، لباب النقول في أسباب النزول ص/114.(1/253)
رضي الله عنه فقرئت عليه فقال: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً فنزلت الآية التي في سورة النساء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقام الصلاة نادى أن لا يقربن الصلاة سكران فدعي عمر رضي الله عنه فقرئت عليه فقال: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً فنزلت الآية في المائدة فدعي عمر رضي الله عنه فقرئت عليه فلما بلغ: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} قال: فقال عمر رضي الله عنه انتهينا انتهينا"1.
وروى الشيخان من حديث عبد الله بن عمر قال: لما توفي عبد الله بن أبي ابن سلول جاء ابنه عبد الله فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه ثم سأله أن يصلي عليه فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أتصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما خيرني الله" فقال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} "وسأزيد على سبعين" قال: إنه منافق فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل الله ـ عز وجل ـ {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} 2.
فهذه الموافقات كلها مناقب عالية للفاروق رضي الله عنه فقد رأى أن يتخذ من مقام إبراهيم مصلى فنزل القرآن بموافقته، وقد رأى أن تحجب نساء النبي صلى الله عليه وسلم فنزل القرآن بموافقته، وقال لنساء النبي صلى الله عليه وسلم لما اجتمعن عليه في الغيرة: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ} 3. فنزل القرآن بموافقته، وقد رأى في أسارى بدر أن تضرب أعناقهم فنزل القرآن
__________
1ـ المسند 1/53، سنن أبي داود 2/291، المستدرك للحاكم 4/143 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
2ـ صحيح البخاري مع الفتح 8/333، صحيح مسلم 4/1865 والآيتان في الحديث من سورة التوبة 80، 84.
3ـ سورة التحريم آية/4.(1/254)
بموافقته، وقد رأى تحريم الخمر فكان يقول: "اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً" فنزل القرآن بموافقته، وقد رأى عدم الصلاة على عبد الله بن أبي فإنه فلما توفي ابن أبي قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنه منافق فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عليه: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} فكانت موافقة لما كان يراه عمر من عدم الصلاة على رأس النفاق فلله ما أعظم هذا الفضل وما أعلا هذه المكانة التي تبوأها الفاروق رضي الله عنه فلقد رزقه الله السداد في الرأي والإصابة في القول فهو رضي الله عنه المحدث الملهم الذي ضرب الله الحق على لسانه وقلبه وهو الذي أعز الله به دين الإسلام فرضي الله عنه وأرضاه.
12- ومن مناقبه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه شهيد وتحقق إخباره عليه الصلاة والسلام فقد مات شهيداً على يد الظالم أبي لؤلؤة المجوسي فقد روى البخاري بإسناده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: صعد النبي صلى الله عليه وسلم أحداً ومعه أبي بكر وعمر وعثمان فرجف بهم فضربه برجله وقال: "اثبت أحد فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيدان" 1.
وعند الترمذي من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على حراء هو وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير فتحركت الصخرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اهدأ فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيدـ"2.
قال أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى: "ولقد أفاد هذا الحديث فائدة عظيمة وهي أن عمر وعثمان وعلياً وطلحة والزبير شهداء كلهم وأن أبا بكر صديق ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم نبي عظيم وقد جمعت هؤلاء الشهداء الشهادة وإن اختلفت أسبابها وتباينت وجوهها ولكن لفهم شرف هذه الصحبة واجتماعهم جملة
__________
1ـ صحيح البخاري 2/294-295.
2ـ سنن الترمذي مع تحفة الأحوذي 10/186-187.(1/255)
وأبان جليل مقدارهم أمر النبي صلى الله عليه وسلم للجبل بالهدوء والسكون لأجل شرف من عليه فيا معشر الطالبين لعلم الدين أبعد هذا بيان لمن كان له قلب فما لكم تدخلون بينهم وتتكلمون فيما وقع لهم، وترجحون وتقدمون وتؤخرون وتحبون وتبغضون كأنكم لا تعلمون مقاديركم ولا تلزمون مواضعكم حتى تترقوا بالجهل والفضول إلى عثمان وعلي وطلحة والزبير فتتكلمون بالحمية وتتعصبون {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} 1 وقد رجف الجبل بالنبي عليه السلام وأبي بكر وعمر وعثمان وقد رجف بهؤلاء الأعيان، وقد كان ذلك بمكة وبحراء وقد كان بالمدينة وأحد وأنبأنا الله بالفضل مرتين وأكده وعضد مقدارهم ومهده في جبلين"أ. هـ2.
13- ومن مناقبه العظيمة رضي الله عنه بشارة النبي صلى الله عليه وسلم له بالجنة فعمر رضي الله عنه من أهل الجنة قطعاً. فقد روى البخاري في صحيحه من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في حائط من حيطان المدينة فجاء رجل فاستفتح فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "افتح له وبشره بالجنة" ففتحت له فإذا هو أبو بكر فبشرته بما قال النبي صلى الله عليه وسلم: فحمد الله، ثم جاء رجل فاستفتح فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "افتح له وبشره بالجنة" ففتحت له فإذا هو عمر فأخبرته بما قال النبي صلى الله عليه وسلم: فحمد الله، ثم استفتح رجل فقال لي: "افتح له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه" فإذا عثمان فأخبرته بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فحمد الله ثم قال: الله المستعان3.
14- ومن مناقبه الحميدة رضي الله عنه ما جاء من الثناء عليه من فضلاء الصحابة حياً وميتاً ورضا الجميع عنه ومن ذلك: ما روى البخاري بإسناده إلى المسور بن مخرمة قال: لما طعن عمر جعل يألم فقال له ابن عباس وكأنه يجزعه:
__________
1ـ سورة الطور آية/15.
2ـ عارضة الأحوذي 13/153-154.
3ـ صحيح البخاري 2/296.(1/256)
يا أمير المؤمنين ولئن كان ذاك لقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك راض ثم صحبت أبا بكر فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك راض، ثم صحبت صحبتهم فأحسنت صحبتهم ولئن فارقتهم لتفارقنهم وهم عنك راضون قال: أما ما ذكرت من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضاه فإنما ذاك منّ من الله ـ تعالى ـ منّ به علي، وأما ما ذكرت من صحبة أبي بكر ورضاه فإنما ذاك منّ من الله ـ جل ذكره ـ منّ به عليّ. وأما ما ترى من جزعي فهو من أجلك وأجل أصحابك والله لو أن لي طلاع1 الأرض ذهباً لافتديت به من عذاب الله ـ عز وجل ـ قبل أن أراه"2. وفي هذا بيان فضل عظيم لعمر رضي الله عنه يؤخذ من قول ابن عباس: لقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قوله: أما ما ذكرت من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك أن له بهذا فضلاً عظيماً حيث إنه صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفارقه وهو عنه راض وكذلك كان مع أبي بكر وبقية الصحابة جميعاً ومع ما كان عليه من هذه السيرة الحسنة فإنه رضي الله عنه لحق بالرفيق الأعلى والخوف غالب عليه من خشية التقصير في حقوق الرعية وهكذا المؤمن كامل الإيمان يجمع بين الخوف والإحسان.
وروى الشيخان من حديث ابن أبي مليكة قال: سمعت ابن عباس يقول: وضع عمر بن الخطاب على سريره فتكنفه3 الناس يدعون ويثنون ويصلون عليه قبل أن يرفع وأنا فيهم قال: فلم يرعني4 إلا برجل قد أخذ بمنكبي من ورائي فالتفت إليه فإذا هو علي فترحم على عمر، وقال: ما خلفت أحداً أحب إلي أن ألقى الله بمثل عمله منك وايم الله إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك وذاك أني كنت أكثر ما أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "جئت أنا وأبو بكر وعمر
__________
1ـ طلاع الأرض: أي ما يملؤها حتى يطلع عنها ويسبل "النهاية في غريب الحديث" 3/133.
2ـ صحيح البخاري 2/295-296.
3ـ فتكنفه الناس: أي أحاطوا به من جانبيه "انظر النهاية في غريب الحديث والأثر" 4/205.
4ـ فلم يرعني: أي: لم يفزعني والمراد أنه رآه يغتة "فتح الباري" 7/48.(1/257)
ودخلت أنا وأبو بكر وعمر وخرجت أنا وأبو بكر وعمر" فإن كنت لأرجو أو لأظن أن يجعلك الله معهما1.
هذا الحديث دل على فضيلة أبي بكر وعمر وشهادة علي لهما وحسن ثنائه عليهما وصدق ما كان يظنه بعمر قبل وفاته رضي الله عنهم أجمعين.
تلك طائفة من الأحاديث النبوية والآثار التي تضمنت مناقب عالية للفاروق وكلها أدلة قطعية يقينية دلت على أن الفاروف أفضل الناس بعد أبي بكر الصديق وهو ما تعتقده الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة، وهو ما يجب على المسلم اعتقاده في ثاني الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين.
__________
1ـ صحيح البخاري 2/294، صحيح مسلم 4/1858-1859.(1/258)
المبحث الثالث: فضل ذي النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه
مما هو معلوم عند جمهور أهل السنة والجماعة أن أفضل الناس على الإطلاق بعد أبي بكر وعمر هو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر يكنى أبا عمرو ويقال أبا عبد الله1 يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في عبد مناف وعدد ما بينهما من الآباء متفاوت فالنبي صلى الله عليه وسلم من حيث العدد في درجة عفان كما وقع لعمر سواء2 وأمه رضي الله عنها أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس وأمها أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب وهي شقيقة عبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم ويقال: إنهما ولدا توأما ... فكان ابن بنت عمة النبي صلى الله عليه وسلم وكان النبي صلى الله عليه وسلم ابن خال والدته وقد أسلمت أمه رضي الله عنه وماتت على الإسلام ولها صحبة رضي الله عنها وأما والده فإنه مات في الجاهلية3.
فعثمان رضي الله عنه أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى، وأحد الثلاثة الذين خلصت لهم الخلافة من الستة، ثم تعينت فيه بإجماع المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم، فكان ثالث الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، المأمور باتباعهم والاقتداء بهم وكان رضي الله عنه من السابقين
__________
1ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 3/53 وما بعدها، المستدرك للحاكم 3/96، تاريخ الأمم والملوك للطبري 4/419-420، الكامل لابن الأثير 3/184، الاستيعاب لابن عبد البر على حاشية الإصابة 3/69-84، البداية والنهاية لابن كثير 7/217، الإصابة لابن حجر رحمه الله تعالى 2/455، فتح الباري 7/54، مجمع الزوائد 9/79، تاريخ الخلفاء للسيوطي ص/147.
2ـ فتح الباري 7/54.
3ـ نفس المصدر 7/55، الإصابة 4/222.(1/259)
الأولين إلى الإسلام، وهاجر إلى الحبشة أول الناس ومعه زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم عاد إلى مكة وهاجر إلى المدينة، فلما كانت وقعة بدر اشتغل بتمريض ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقام بسببها في المدينة، وضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره فيها، فهو معدود فيمن شهدها فلما توفيت زوّجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأختها أم كلثوم ولذلك لقب بذي النورين لأنه تزوج ابنتي نبي واحدة بعد واحدة ولم يتفق ذلك لغيره رضي الله عنه، وشهد الخندق والحديبية وبايع عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ بإحدى يديه، وشهد خيبر، وعمرة القضاء، وحضر الفتح وهوازن والطائف وغزوة تبوك وجهز جيش العسرة، صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسن صحبته وتوفي وهو عنه راض وصحب أبا بكر فأحسن صحبته وتوفي وهو عنه راض، وصحب الفاروق فأحسن صحبته وتوفي وهو عنه راض، وكان رضي الله عنه ممن جمع بين العلم والعمل، والصيام والتهجد والإتقان والجهاد في سبيل الله وصلة الأرحام، وكان من الصادقين القائمين الصائمين المنفقين في سبيل الله تعالى1.
فهو رضي الله عنه أفضل الناس بعد الشيخين رضي الله عنهما وهذا هو معتقد الجمهور من أهل السنة والجماعة قال إسحاق بن راهوية رحمه الله تعالى: "لم يكن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأرض أفضل من أبي بكر، ولم يكن بعده أفضل من عمر، ولم يكن بعد أفضل من عثمان، ولم يكن بعد عثمان على الأرض خير ولا أفضل من عليّ"2.
وقد ذهب بعض أهل السنة من أهل الكوفة إلى تفضيل عليّ على عثمان رضي الله عنهما وذهب بعض أهل المدينة إلى التوقف في أمرهما رضي الله عنهما،
__________
1ـ انظر تذكرة الحفاظ للحافظ الذهبي 1/8-10، البداية والنهاية 7/217-219، لوامع الأنوار البهية للسفاريني 2/328-334.
2ـ جامع بيان العلم وفضله لابن البر 2/226.(1/260)
ثم ذكر أهل العلم رجوع هؤلاء جميعاً إلى مذهب جمهور أهل السنة والجماعة القائل بتقديم عثمان على عليّ رضي الله عنهما وصار القول واحداً في أن ترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة:
قال الإمام النووي: "وقال بعض أهل السنة من أهل الكوفة بتقديم عليّ على عثمان والصحيح المشهور تقديم عثمان"1.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "فإن سفيان الثوري، وطائفة من أهل الكوفة رجحوا علياً على عثمان، ثم رجع عن ذلك سفيان وغيره، وبعض أهل المدينة توقف في عثمان وعليّ، وهي إحدى الروايتين عن مالك، لكن الرواية الأخرى عنه تقديم عثمان على عليّ، كما هو مذهب سائر الأئمة، كالشافعي وأبي حنيفة وأصحابه، وأحمد بن حنبل وأصحابه، وغير هؤلاء من أئمة الإسلام2.
وقال الحافظ ابن كثير: "والعجب أنه قد ذهب بعض أهل الكوفة من أهل السنة إلى تقديم عليّ على عثمان ويحكى عن سفيان الثورة لكن يقال: إنه رجع عنه ونقل مثله عن وكيع بن الجراح ونصره ابن خزيمة والخطابي وهو ضعيف مردود"3.
وذكر أبو منصور البغدادي عن محمد بن إسحاق بن خزيمة والحسين بن الفضل البجلي أنهما يقولان بتفضيل عليّ رضي الله عنه على عثمان"4.
ونقول إن هذا القول ضعيف مردود لمخالفته ما أطبق عليه أهل السنة والجماعة من تقديم عثمان على عليّ رضي الله عنهما.
__________
1ـ شرح النووي على صحيح مسلم 15/148.
2ـ مجموع الفتاوى 4/526.
3ـ الباعث الحثيث ص/183.
4ـ أصول الدين لأبي منصور البغدادي ص/304.(1/261)
وقال أبو الحسن عليّ بن عمر الدارقطني: "اختلف قوم من أهل بغداد فقال قوم: عثمان أفضل وقال قوم: عليّ أفضل فتحاكموا إليّ فأمسكت وقلت: الإمساك خير، ثم لم أر لديني السكوت وقلت للذي استفتاني: ارجع إليهم وقل لهم: أبو الحسن يقول: عثمان أفضل من عليّ باتفاق جماعة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا قول أهل السنة وهو أول عقد يحل في الرفض.
قال الذهبي: قلت ليس تفضيل عليّ برفض ولا هو ببدعة بل قد ذهب إليه خلق من الصحابة والتابعين فكل من عثمان وعليّ ذو فضل وسابقة وجهاد وهما متقاربان في العلم والجلالة ولعلهما في الآخرة متساويان في الدرجة وهما من سادة الشهداء رضي الله عنهما، ولكن جمهور الأمة على ترجيح عثمان على الإمام عليّ وإليه نذهب"1.
وقال غير واحد من العلماء كأيوب السختياني والدارقطني: من قدم علياً على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار"2.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: "وهذا الكلام حق وصدق وصحيح ومليح"3.
وإذ قد تبين لنا أن بعض أهل السنة القائلين بتقديم عليّ على عثمان رضي الله عنهما والقائلين بالتوقف في أمرهما قد رجعوا إلى قول الجمهور منهم من القول بتقديم عثمان على عليّ في الفضل تبين أن هذه المسألة مجمع عليها بين أهل السنة والجماعة ولا عبرة بعد ذلك بأي قول يخالف هذا المعتقد الصحيح.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وسائر أئمة السنة على تقديم
__________
1ـ سير أعلام النبلاء 16/457.
2ـ ذكره شيخ الإسلام في كتابه منهاج السنة 1/166، 4/202، مجموع الفتاوى 4/428، البداية والنهاية 8/13.
3ـ البداية والنهاية 8/13، الباعث الحثيث ص/183.(1/262)
عثمان وهو مذهب جماهير أهل الحديث وعليه يدل النص والإجماع والاعتبار، وأمَّا ما يحكى عن بعض المتقدمين من تقديم جعفر، أو تقديم طلحة أو نحو ذلك فذلك في أمور مخصوصة لا تقديماً عاماً وكذلك ما ينقل عن بعضهم في علي"1.
وقد وردت أحاديث كثيرة في السنة تضمنت ذكر فضائله رضي الله عنه وبعضها دل على أنه أفضل الخلق بعد الشيخين رضي الله عنهما ومن تلك الأحاديث:
1- ما رواه الإمام البخاري بإسناده إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "كنا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا نعدل بأبي بكر أحداً، ثم عمر، ثم عثمان ثم نترك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم"2.
هذا الحديث دل على أن عثمان رضي الله عنه أفضل الناس بعد أبي بكر الصديق وعمر الفاروق رضي الله عنهما.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: " وقد اتفق العلماء على تأويل كلام ابن عمر هذا لما تقرر عند أهل السنة قاطبة من تقديم علي بعد عثمان ومن تقديم بقية العشرة المبشرة على غيرهم، ومن تقديم أهل بدر على من لم يشهدها وغير ذلك فالظاهر أن ابن عمر إنما أراد بهذا النفي أنهم كانوا يجتهدون في التفضيل فيظهر لهم فضائل الثلاثة ظهوراً بيناً فيجزمون به ولم يكونوا حينئذ اطلعوا على التنصيص ويؤيده ما رواه البزار عن ابن مسعود قال كنا نتحدث أن أفضل أهل المدينة علي بن أبي طالب: رجاله موثقون: وهو محمول على أن ذلك قاله ابن مسعود بعد قتل عمر وقد حمل أحمد حديث ابن عمر على ما يتعلق بالترتيب في التفضيل واحتج في التربيع بعلي بحديث سفينة مرفوعاً الخلافة ثلاثون سنة ثم تصير ملكاً
__________
1ـ منهاج السنة 1/166.
2ـ صحيح البخاري 2/297.(1/263)
"أخرجه أصحاب السنن1 وصححه ابن حبان وغيره وقال الكرماني: لا حجة في قوله: كنا نترك لأن الأصوليين اختلفوا في صيغة كنا نفعل لا في صيغة كنا لا نفعل لتصور تقرير الرسول في الأول دون الثاني وعلى تقدير أن يكون حجة فما هو من العمليات حتى يكفي فيه الظن ولو سلمنا فقد عارضه ما هو أقوى منه، ثم قال: ويحتمل أن يكون ابن عمر أراد أن ذلك كان في بعض أزمنة النبي صلى الله عليه وسلم فلا يمنع ذلك أن يظهر بعد ذلك لهم ... والله أعلم"2.
2- وروى الشيخان من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل حائطاً وأمرني بحفظ باب الحائط فجاء رجل يستأذن فقال: "ائذن له وبشره بالجنة"، فإذا أبو بكر، ثم جاء آخر يستأذن فقال: "ائذن له وبشره بالجنة" فإذا عمر، ثم جاء آخر يستأذن فسكت هنيهة ثم قال: "ائذن له وبشره بالجنة على بلوى ستصيبه" فإذا عثمان بن عفان"3.
هذا الحديث تضمن فضيلة هؤلاء الثلاثة المذكورين وهم أبو بكر وعمر وعثمان "وأنهم من أهل الجنة ـ كما تضمن ـ فضيلة لأبي موسى وفيه دلالة على جواز الثناء على الإنسان في وجهه إذا أمنت عليه فتنة الإعجاب ونحوه، وفيه معجزة ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم لإخبار بقصة عثمان والبلوى، وأن الثلاثة يستمرون على الإيمان والهدى"4.
وروى البخاري بإسناده إلى أبي عبد الرحمن أن عثمان رضي الله عنه حيث حوصر أشرف عليهم، وقال أنشدكم الله ولا أنشد إلا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من حفر رومة فله الجنة" فحفرتها
__________
1ـ انظر سنن أبي داود 2/515، سنن الترمذي 3/341.
2ـ فتح الباري 7/58.
3ـ صحيح البخاري 2/296، صحيح مسلم 4/1867.
4ـ انظر شرح النووي على صحيح مسلم 15/170-171.(1/264)
ألستم تعلمون أنه قال: "من جهز جيش العسرة فله الجنة" فجهزته قال: فصدقوه بما قال"1.
هذا الحديث تضمن منقبتين عظيمتين لذي النورين رضي الله عنه شراؤه رضي الله عنه بئر رومة وتجهيزه جيش العسرة الذي خرج لغزوة تبوك وقد أخبر الذي لا ينطق عن الهوى أن جزاءه على ذلك أن يكون من أصحاب الجنة، وهاتان المنقبتان من أعلا مناقبه رضي الله عنه.
وقد ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى عن ابن بطال أنه قال عند هذا الحديث: هذا وهم من بعض رواته والمعروف أن عثمان اشتراها لا أنه حفرها قال الحافظ: هو المشهور في الروايات فقد أخرجه الترمذي من رواية زيد بن أبي أنيسة عن أبي إسحاق فقال فيه: "هل تعلمون أن رومة لم يكن يشرب منها أحد إلا بثمن"2 لكن لا يتعين الوهم فقد روى البغوي في "الصحابة" من طريق بشر بن بشير الأسلمي عن أبيه قال: لما قدم المهاجرون المدينة استنكروا الماء وكانت لرجل من بني غفار عين يقال لها: رومة وكان يبيع منها القربة بمد.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "تبيعنيها بعين في الجنة" فقال: يا رسول الله ليس لي ولا لعيالي غيرها فبلغ ذلك عثمان رضي الله عنه فاشتراها بخمسة وثلاثين ألف درهم، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أتجعل لي فيها ما جعلت له قال: "نعم" قال: قد جعلتها للمسلمين "وإن كانت أولا عيناً فلا مانع أن يحفر فيها عثمان بئراً ولعل العين كانت تجري إلى بئر فوسعها وطواها فنسب حفرها إليه"3.
4- روى الترمذي رحمه الله بإسناده إلى ثمامة بن حزن القشيري قال: شهدت الدار حين أشرف عليهم عثمان فقال ائتوني بصاحبيكم اللذين ألباكم علي؟ قال: فجيء بهما كأنهما جملان، أو كأنهما حماران قال فأشرف عليهم عثمان فقال: أنشدكم بالله والإسلام هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وليس بها
__________
1ـ صحيح البخاري مع شرحه "فتح الباري" 5/406-407.
2ـ سنن الترمذي 5/288.
3ـ فتح الباري 5/407-408.(1/265)
ماء يستعذب غير بئر رومة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يشتري بئر رومة فيجعل دلوه مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة" فاشتريتها من صلب مالي فأنتم اليوم تمنعوني أن أشرب منها حتى أشرب من ماء البحر؟ قالوا: اللهم نعم، فقال: أنشدكم بالله وبالإسلام هل تعلمون أن المسجد ضاق بأهله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يشتري بقعة آل فلان فيزيدها في المسجد بخير له منها في الجنة"؟ فاشتريتها من صلب مالي وأنتم اليوم تمنعوني أن أصلي فيها ركعتين؟ قالوا: اللهم نعم قال: أنشدكم بالله وبالإسلام هل تعلمون أني جهزت جيش العسرة من مالي؟ قالوا: اللهم نعم، قال: أنشدكم بالله وبالإسلام هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على ثبير مكة ومعه أبو بكر وعمر وأنا، فتحرك الجبل حتى تساقطت حجارته بالحضيض قال فركضه برجله فقال: "اسكن ثبير فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان" قالوا: اللهم نعم، قال: الله أكبر شهدوا لي ورب الكعبة أني شهيد ثلاثاً" ثم قال الترمذي رحمه الله عقب الحديث "هذا حديث حسن قد روي من غير وجه عن عثمان"1.
وقد ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى روايات توضح مقدار المال الذي اشترى به عثمان رضي الله عنه بئر رومة والبقعة التي زيدت في توسعة المسجد أما بالنسبة لمقدار المال الذي اشترى به بئر رومة فقد أورد رواية أنه اشتراها بخمسة وثلاثين ألف درهم وهي من رواية بشير الأسلمي التي أخرجها البغوي في كتابه "الصحابة" وأنها كانت لرجل من بني غفار وقد تقدم ذكرها قريباً.
وأما مقدار المال الذي اشترى به البقعة التي زيدت في المسجد فقال: "وزاد النسائي من رواية الأحنف بن قيس عن عثمان أنه اشتراها بعشرين ألفاً أو بخمسة وعشرين ألفاً"2.
__________
1ـ سنن الترمذي 5/290-291.
2ـ فتح الباري 5/408.(1/266)
5- روى الترمذي بإسناده إلى عبد الرحمن بن حباب السلمي قال: شهدت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحث على جيش العسرة فقام عثمان بن عفان فقال: يا رسول الله علي مائة بعير بأحلاسها1 وأقتابها2 في سبيل الله ثم حض على الجيش فقام عثمان بن عفان فقال: يا رسول الله علي مائتا بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، ثم حض على الجيش فقام عثمان بن عفان فقال: يا رسول الله علي ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله فأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل عن المنبر وهو يقول: "ما على عثمان ما عمل بعد هذه ما على عثمان ما عمل بعد هذه" 3.
6- وروى الإمام أحمد بإسناده إلى عبد الرحمن بن سمرة قال: "جاء عثمان بن عفان إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينار في ثوبه حين جهز صلى الله عليه وسلم جيش العسرة قال فصبها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقلبها بيده ويقول: "ما ضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم" يرددها مراراً"4.
قال العلامة ابن القيم ذاكراً صفة خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك: "ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جد في سفره وأمر الناس بالجهاز وحض أهل الغنى على النفقة والحملات في سبيل الله فحمل رجال واحتسبوا وأنفق عثمان بن عفان في ذلك نفقة عظيمة لم ينفق أحد مثلها، كانت ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها وعدتها، وألف دينار عيناً"5.
فشهادة النبي صلى الله عليه وسلم له بالجنة في شرائه بئر رومة وتحبيسها على المسلمين
__________
1ـ جمع حلس: وهو الكساء الذي يلي ظهر البعير تحت القتب. النهاية 1/423.
2ـ القتب: إكاف البعير، وقيل: هو الإكاف الصغير الذي على قدر سنام البعير "لسان العرب" 1/661، النهاية 4/11.
3ـ سنن الترمذي 5/289.
4ـ المسند 5/63، والترمذي في سنن 5/289، ثم قال: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه".
5ـ زاد المعاد 3/527.(1/267)
غنيهم وفقيرهم، وزيادته في المسجد، وتجهيزه جيش العسرة مع قوله صلى الله عليه وسلم "ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم" وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم: "وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" كل هذه الخصال المذكورة من أعظم مناقبه رضي الله عنه وقد ذكرها يوم كان محصوراً في داره من قبل الزائغين الذين خرجوا عليه بغية الفساد في الأرض وصدقه بها كبار الصحابة وفضلاؤهم الذين سمعوها من النبي صلى الله عليه وسلم مثل سعد بن أبي وقاص وعلي والزبير وطلحة رضي الله عنهم أجمعين.
7- وروى الإمام مسلم بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجعاً في بيتي كاشفاً عن فخذيه، أو ساقيه فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على تلك الحال فتحدث ثم استأذن عمر فأذن له وهو كذلك فتحدث، ثم استأذن عثمان فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وسوى ثيابه ـ قال محمد ـ ولا أقول ذلك في يوم واحد فدخل فتحدث فلما خرج قالت: عائشة دخل أبو بكر فلم تهتش1 له ولم تباله ثم دخل عمر فلم تهتش له ولم تباله ثم دخل عثمان فجلست وسويت ثيابك فقال: "ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة" 2.
هذا الحديث تضمن فضيلة ظاهرة لعثمان رضي الله عنه وبيان أنه جليل القدر حتى عند الملائكة. كما دل الحديث أيضاً: على أن الحياء صفة حميدة، من صفات الملائكة.
8- وروى مسلم أيضاً: بإسناده إلى يحيى بن سعيد بن العاص أن سعيد بن العاص أخبره أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وعثمان حدثاه أن أبا بكر استأذن
__________
1ـ قال ابن الأثير في النهاية 5/264 يقال هش لهذا الأمر يهش هشاشة إذا فرح به واستبشر وارتاح له وخف.
2ـ صحيح مسلم 4/1896.(1/268)
على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع على فراشه لابس مرط1 عائشة فأذن لأبي بكر وهو كذلك فقضى إليه حاجته ثم انصرف، ثم استأذن عمر فأذن له وهو على تلك الحال فقضى إليه حاجته ثم انصرف، قال عثمان ثم استأذنت عليه فجلس وقال لعائشة: "اجمعي عليك ثيابك" فقضيت إليه حاجتي ثم انصرف فقالت عائشة: يا رسول الله مالي لم أرك فزعت لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما كما فزعت لعثمان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن عثمان رجل حيي وإني خشيت إن أذنت له على تلك الحال أن لا يبلغ إلي في حاجته" 2.
وهذا الحديث كالذي قبله فيه بيان مكانة عثمان عند النبي صلى الله عليه وسلم وثناؤه عليه بأنه حيي وأنه عليه الصلاة والسلام اهتم بدخوله عليه واحتفل به وبين لعائشة رضي الله عنها العلة في ذلك.
9- وروى البخاري بإسناده إلى عبيد الله بن عدي بن الخيار أخبره أن المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث قالا: ما يمنعك أن تكلم عثمان لأخيه الوليد فقد أكثر الناس فيه؟ فقصدت لعثمان حتى خرج إلى الصلاة قلت إن لي إليك حاجة وهي نصيحة لك. قال: يا أيها المرء منك قال معمر: أراه قال: أعوذ بالله منك فانصرفت فرجعت إليهما إذ جاء رسول عثمان فأتيته فقال ما نصيحتك؟ فقلت: إن الله ـ سبحانه ـ بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل عليه الكتاب وكنت ممن استجاب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم فهاجرت الهجرتين وصحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأيت هديه وقد أكثر الناس في شأن الوليد قال: أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقلت: لا ولكن خلص إلي من علمه ما يخلص إلى العذراء في سترها قال: أما بعد فإن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق فكنت ممن استجاب لله ولرسوله وآمنت بما بعث به وهاجرت الهجرتين ـ كما قلت ـ وصحبت
__________
1ـ المرط: هو كساء وربما كان من خز أو غيره "النهابة لابن الأثير" 4/319.
2ـ صحيح مسلم 4/1866-1876.(1/269)
رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعته فوالله ما عصيته ولا غششته حتى توفاه الله، ثم أبو بكر مثله ثم عمر مثله، ثم استخلفت أفليس لي من الحق مثل الذي لهم؟ قلت: بلى قال: فما هذه الأحاديث التي تبلغني عنكم؟ أما ما ذكرت من شأن الوليد فسنأخذ فيه بالحق إن شاء الله ثم دعا علياً فأمره أن يجلده فجلده ثمانين"1.
هذا الحديث اشتمل على مناقب ظاهرة لعثمان رضي الله عنه وهي أنه كان ممن استجاب لله والرسول وآمن بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم حق الإيمان، وهاجر الهجرتين وصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسن صحبته ومات عليه الصلاة والسلام وهو عنه راض، ثم أبو بكر مثله، ثم عمر كذلك وتوفيا رضي الله عنهما وهما عنه راضيان، ولما طلب منه إقامة الحد على أخيه الوليد فما أن ثبت لديه ما يوجب ذلك إلا وأمر علياً بإقامة الحد عليه وهذا فيه دلالة على مراعاته للحق والأخذ به عند ظهوره وفي هذا منقبة من مناقبه رضي الله عنه.
10- روى الإمام أحمد بإسناده إلى سلمة بن عبد الرحمن قال: أشرف عثمان رضي الله عنه من القصر وهو محصور فقال: أنشد بالله من شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حراء2 إذ اهتز الجبل فركله بقدمه ثم قال: "اسكن حراء ليس عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد" وأنا معه فانتشد له رجال قال: أنشد بالله من شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بيعة الرضوان إذ بعثني إلى المشركين إلى أهل مكة قال: "هذه يدي وهذه يد عثمان ـ رضي الله عنه" فبايع لي فانتشد له رجال"3.
هذا الحديث تضمن منقبتين عظيمتين لذي النورين رضي الله عنه:
الأولى: إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه سيموت شهيداً وقد كان ذلك فإنه رضي الله عنه قتل شهيداً على أيدي الخارجين عليه ظلماً وعدواناً.
__________
1ـ صحيح البخاري 2/296-297.
2ـ حراء: جبل من جبال مكة على ثلاثة أميال وهو جبل معروف "انظر معجم البلدان لياقوت الحموي" 2/233.
3ـ المسند 1/59.(1/270)
الثانية: أن الرسول صلى الله عليه وسلم بايع عنه بيده الشريفة بيعة الرضوان حيث إنه كان مبعوثاً من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم لإبلاغ أهل مكة أنه عليه الصلاة والسلام جاء معتمراً لا محارباً، وهاتان المنقبتان دلتا على علو مكانته وعظيم فضله رضي الله عنه وأرضاه.
11- ومن مناقبه رضي الله عنه إجماع الصحابة على خيريته رضي الله عنه وأفضليته بعد الشيخين فإنه لما بويع لم يبق في الشورى إلا هو وعلي والحكم عبد الرحمن بن عوف وبقي عبد الرحمن بن عوف ثلاثة أيام بلياليها يشاور المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان ويشاور أمهات المؤمنين، ويشاور أمراء الأمصار فإنهم كانوا بالمدينة حجوا مع عمر وشهدوا موته حتى قال عبد الرحمن: إن لي ثلاثاً ما اغتمضت بنوم وبعد هذا كله وبعد أخذ المواثيق منهما على أن يبايع من بايعه أعلن النتيجة بعد هذا الاستفتاء وهي قوله: إني رأيت الناس لا يعدلون بعثمان فبايعه علي وعبد الرحمن وسائر المسلمين بيعة رضى واختيار"1.
فدل هذا الإجماع على أنه أفضل الخلق بعد أبي بكر وعمر رضي الله عنهم جميعاً.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهذا إجماع منهم على تقديمهم لعثمان على عليّ2 ولما سأل رجل عبد الله بن المبارك أيهما أفضل عليّ أو عثمان قال: "قد كفانا ذاك عبد الرحمن بن عوف"3 وقال عبد الله بن مسعود: "أمرنا خير من بقي ولم نأل"4 ولهذا قال أيوب السختياني وأحمد بن حنبل والدارقطني: "من قدم
__________
1ـ انظر صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 13/193-194، وانظر البداية 7/158-161.
2ـ مجموع الفتاوى 4/428.
3ـ المسند من مسائل الإمام أحمد للخلال ورقة/57.
4ـ مجمع الزوائد 9/88 وقال ابن حجر الهيثمي: رواه الطبراني بأسانيد ورجال أحدهما رجال الصحيح.(1/271)
علياً على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار"1 وقد بين معنى هذا شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال: "لو لم يكن عثمان أحق بالتقديم وقد قدموه كانوا إما جاهلين بفضله وإما ظالمين بتقديم المفضول من غير ترجيح ديني ومن نسبهم إلى الجهل والظلم فقد أزرى بهم"2.
12- ومن مناقبه الكبار وحسناته العظيمة أنه جمع الناس على مصحف واحد وكتب المصحف على العرضة الأخيرة التي درسها جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر سني حياته وكان سبب ذلك أن حذيفة بن اليمان كان في بعض الغزوات وقد اجتمع فيها خلق من أهل الشام ممن يقرأ على قراءة المقداد بن الأسود وأبي الدرداء وجماعة من أهل العراق ممن يقرأ على قراءة عبد الله بن مسعود وأبي موسى وجعل من لا يعلم بسوغان القراءة على سبعة أحرف يفضل قراءته على قراءة غيره وربما خطأ الآخر أو كفره فأدى ذلك إلى اختلاف شديد، وانتشار في الكلام السيئ بين الناس فركب حذيفة إلى عثمان فقال: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن تختلف في كتابها كاختلاف اليهود والنصارى في كتبهم وذكر له ما شاهد من اختلاف الناس في القراءة فعند ذلك جمع عثمان الصحابة وشاورهم في ذلك ورأى أن يكتب المصحف على حرف واحد، وأن يجمع الناس في سائر الأقاليم على القراءة به دون ما سواه لما رأى في ذلك من مصلحة كف المنازعة ودفع الاختلاف.
فاستدعى بالصحف التي كان الصديق أمر زيد بن ثابت بجمعها فكانت عند الصديق أيام حياته، ثم كانت عند عمر فلما توفي صارت إلى حفصة أم المؤمنين فاستدعى بها عثمان وأمر زيد بن ثابت الأنصاري أن يكتب، وأن يملي عليه سعد بن العاص الأموي بحضرة عبد الله بن الزبير الأسدي وعبد الرحمن بن
__________
1ـ مجموع الفتاوى 4/428.
2ـ منهاج السنة 2/207.(1/272)
الحارث بن هشام المخزومي، وأمرهم إذا اختلفوا في شيء أن يكتبوه بلغة قريش، فكتب لأهل الشام مصحفاً، ولأهل مصر آخر، وبعث إلى البصرة مصحفاً وإلى الكوفة بآخر وأرسل إلى مكة مصحفاً وإلى اليمن مثله وأقر بالمدينة مصحفاً ويقال لهذه المصاحف الأئمة"1.
وبهذا العمل الجليل يعتبر عثمان رضي الله عنه من عباد الله الصالحين الذين أيد الله بهم دينه وحفظ بهم كتابه رضي الله عنه وأرضاه.
13- ومن مناقبه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه سيكون مستمراً على الهدى المستقيم عند حلول الفتنة، وهذه منقبة عظيمة له رضي الله عنه.
فقد روى الحاكم بإسناده إلى مرة بن كعب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر فتنة فقربها فمر به رجل مقنع2 في ثوب فقال: "هذا يومئذ على الهدى" فقمت إليه فإذا هو عثمان رضي الله عنه فأقبلت بوجهه فقلت: هو هذا قال: "نعم" 3.
14- ومن مناقبه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد الأمة بالالتفاف حوله عند نزول الفتنة والاختلاف وفي هذا تنبيه إلى أن عثمان رضي الله عنه ممن أسعدهم الله ووفقهم لسلوك طريقه المستقيم. فقد روى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنها ستكون فتنة واختلاف، أو اختلاف وفتنة" قال: قلنا يا رسول الله فما تأمرنا قال: "عليكم بالأمير وأصحابه" وأشار إلى عثمان"4.
15- ومن مناقبه الرفيعة رضي الله عنه وفاؤه رضي الله عنه بما عهد إليه النبي صلى الله عليه وسلم وإصباره نفسه على طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك أنه رضي الله عنه
__________
1ـ البداية والنهاية 7/235-236.
2ـ جاء في لسان العرب: "ورجل مقنع بالتشديد أي: عليه بيضة ومغفر. والمقنع: المغطي رأسه"أهـ 8/301.
3ـ المستدرك 3/102 ثم قال عقبة: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وأقره الذهبي.
4ـ المصدر السابق 3/99 ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.(1/273)
لما جاءه الخوارج الذين خرجوا عليه من الأمصار وجاءوا إلى المدينة وحصروه في داره رضي الله عنه فوق أربعين يوماً وكان عددهم كما قال ابن العربي: أربعة آلاف وكلهم يريد قتله وكان عدد الذين لا يريدون قتله أربعين ألفاً"1 وكان باستطاعته رضي الله عنه أن يأمر بالدفاع عنه وقد عرض عليه كثير من فضلاء الصحابة أن يأذن لهم في قتال هؤلاء المارقين وطردهم عنه ولكنه أبى رضي الله عنه خشية من أن يسفك دم بسببه، وناشد من كان معه في داره من الصحابة أن يخرجوا عنه ولما خرجوا تسلق عليه أولئك الأخلاط الظلمة داره وأحرقوا الباب ودخلوا عليه وقتلوه ورضي أن يكون عبد الله المقتول لا عبد الله القاتل وفاءا بعهد النبي صلى الله عليه وسلم إليه.
فقد روى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ادعوا لي أو ليت عندي رجلاً من أصحابي " قالت: قلت: أبو بكر قال: "لا" قلت: عمر قال: "لا" قلت: ابن عمك عليّ قال: "لا" قلت: فعثمان قال: "نعم" قالت: فجاء عثمان فقال: "قومي" قال: فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يسر إلى عثمان ولون عثمان يتغير قال: فلما كان يوم الدار قلنا ألا نقاتل قال: لا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إليّ أمراً فأنا صابر نفسي عليه"2.
تلك طائفة من الأحاديث والآثار التي دلت على فضل عثمان رضي الله عنه وفي بعضها دلالة على تقديمه بعد الشيخين وهذا معتقد الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة وهي العقيدة التي ينبغي أن تحل في قلب المسلم الذي رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً.
__________
1ـ عارضة الأحوذي بشرح الترمذي 14/156-157
2ـ المستدرك 3/99. ثم قال: هذا حديث الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.(1/274)
المبحث الرابع: فضل أبي السبطين علي رضي الله عنه
أجمع أهل السنة من السلف والخلف من أهل الفقه والأثر أن أبا السبطين أفضل الخلق بعد أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم أجمعين واسمه رضي الله عنه عليّ بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشمي ويكنى بأبي تراب وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف بن قصي ويقال إنها أول هاشمية ولدت هاشمياً وقد أسلمت وهاجرت.
وعليّ رضي الله عنه أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنه راض وكان رضي الله عنه رابع الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين المأمور بالاقتداء بهم، وكان ممن سبق إلى الإسلام لم يتلعثم، وتربى في حجر النبي صلى الله عليه وسلم وزوجه ابنته فاطمة رضي الله عنها، وهاجر إلى المدينة وشهد بدراً والحديبية وسائر المشاهد غير تبوك لأن النبي صلى الله عليه وسلم خلفه فيها على المدينة وأبلى ببدر وأحد وبالخندق وبخيبر بلاءاً عظيماً، وأغنى في تلك المشاهد وقام فيها المقام الكريم وكان لواء النبي صلى الله عليه وسلم بيده في مواطن كثيرة، وجاهد في الله حق جهاده ونهض بأعباء العلم والعمل والفتيا رضي الله عنه وأرضاه. وكان رضي الله عنه من جملة من غسل النبي صلى الله عليه وسلم وكفنه وولي دفنه"1.
__________
1ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 3/19، استيعاب لابن عبد البر على حاشية الإصابة 3/26-67، البداية والنهاية 7/242، وما بعدها، الإصابة في تمييز الصحابة 2/501-503، وانظر تاريخ الأمم والملوك للطبري 5/153، الكامل لابن الأثير 3/396، مجمع الزوائد 9/100، تاريخ الخلفاء للسيوطي ص/166. لوامع الأنوار البهية 2/334.(1/275)
ولقد وردت الأحاديث الكثيرة والأخبار الشهيرة التي دلت على فضله رضي الله عنه ومنها:
1- ما رواه الشيخان من حديث سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: "لأعطين هذه الراية رجلاً يفتح الله على يديه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله" قال: فبات الناس يدكون1 ليلتهم أيهم يعطاها قال: فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها فقال: "أين علي بن أبي طالب" فقالوا: هو يا رسول الله يشتكي عينيه قال: فأرسلوا إليه فأتي به فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه ودعا له فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع فأعطاه الراية فقال عليّ: يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا فقال: "انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم" 2.
وفي رواية أخرى عند مسلم من حديث أبي هريرة: " ... قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما أحببت الإمارة إلا يومئذ قال: فتساورت لها رجاء أن أدعى لها قال فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً بن أبي طالب فأعطاه إياها"3.
هذا الحديث تضمن منقبة ظاهرة لأمير المؤمنين علي رضي الله عنه وأرضاه وهي قوله: "يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله" ومعنى أن علياً يحب الله ورسوله أراد بذلك وجود حقيقة المحبة وإلا فكل مسلم يشترك مع علي في مطلق هذه الصفة وفي هذا الحديث تلميح بقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} 4 فكأنه أشار إلى أن علياً تام الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى
__________
1ـ يدركون: أي: يخوضون ويموجون فيمن يدفعها إليه "النهاية في غيريب الحديث" 2/140.
2ـ صحيح البخاري 2/299-330، صحيح مسلم 4/1882.
3ـ صحيح مسلم 4/1872.
4ـ سورة آل عمران آية/31.(1/276)
اتصف بصفة محبة الله له"1.
وقال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: قوله: يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله: "فيه فضيلة عظيمة لعلي رضي الله عنه لأن النبي صلى الله عليه وسلم شهد له بذلك"2.
ومعنى قول عمر رضي الله عنه: "فتساورت لها" معناه تطاولت لها أي: حرصت عليها وأظهرت وجهي وتصديت لذلك ليتذكرني. وقوله: رضي الله عنه "فما أحببت الإمارة إلا يومئذ" إنما كانت محبته لها لما دلت عليه هذه الإمارة من محبته لله ورسوله صلى الله عليه وسلم ومحبتهما له والفتح على يديه3.
2- وروى الشيخان من حديث عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم لعلي: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي" قال سعيد بن المسيب: فأحببت أن أشافه بها سعداً فلقيت سعداً فحدثته بما حدثني عامر فقال: أنا سمعته فقلت: أنت سمعته؟ فوضع أصبعه على أذنيه فقال: نعم وإلا فاستكتا4.
وهذا الحديث فيه فضيلة عظمى لعل رضي الله عنه تضمنها قوله صلى الله عليه وسلم: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي" حيث بين عليه الصلاة والسلام منزلة علي منه ومكانته العظيمة عنده عليه الصلاة والسلام.
ونقل الإمام النووي عن القاضي عياض أنه قال: "هذا الحديث مما تعلقت به الروافض والإمامية وسائر فرق الشيعة في أن الخلافة كانت حقاً لعلي وأنه وصى له بها قال: ثم اختلف هؤلاء فكفرت الروافض سائر الصحابة في تقديمهم غيره وزاد
__________
1ـ فتح الباري 7/72.
2ـ تيسير العزيز الحميد ص/107.
3ـ شرح النووي على صحيح مسلم 15/176-177.
4ـ صحيح البخاري 2/300، صحيح مسلم 4/1870 واللفظ لمسلم.(1/277)
بعضهم فكفر علياً لأنه لم يقم في طلب حقه بزعمهم وهؤلاء أسخف مذهباً وأفسد عقلاً من أن يرد قولهم أو يناظر وقال: ولا شك في كفر من قال هذا لأن من كفر الأمة كلها والصدر الأول فقد أبطل نقل الشريعة وهدم الإسلام وأما من عدا هؤلاء الغلاة فإنهم لا يسلكون هذا المسلك فأما الإمامية وبعض المعتزلة فيقولون: هم مخطئون في تقديم غيره لا كفار وبعض المعتزلة لا يقول بالتخطئة لجواز تقديم المفضول عندهم وهذا الحديث لا حجة فيه لأحد منهم بل فيه إثبات فضيلة لعلي ولا تعرض فيه لكونه أفضل من غيره أو مثله وليس فيه دلالة لاستخلافه بعده لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قال هذا لعلي حين استخلفه في المدينة في غزوة تبوك ويؤيد هذا أن هارون المشبه به لم يكن خليفة بعد موسى بل توفي في حياة موسى وقبل وفاة موسى بنحو أربعين سنة على ما هو مشهور عند أهل الأخبار والقصص قالوا: وإنما استخلفه حين ذهب لميقات ربه للمناجاة والله أعلم1.
3- وروى الشيخان من حديث سهل بن سعد قال: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت فاطمة فلم يجد علياً في البيت فقال: "أين ابن عمك؟ " قالت: كان بيني وبينه شيء فغاضبني فخرج فلم يقل عندي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسان: "انظر أين هو؟ " فجاء فقال: يا رسول الله هو في المسجد راقد فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع وقد سقط رداؤه عن شقه وأصابه تراب فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسحه عنه ويقول: "قم أبا تراب قم أبا تراب" 2.
في هذا الحديث منقبة ظاهرة لأمير المؤمنين علي رضي الله عنه وبيان علو منزلته عند النبي صلى الله عليه وسلم وذلك أنه عليه الصلاة والسلام مشى إلى عليّ رضي الله عنه ودخل المسجد ومسح التراب عن ظهره واسترضاه تلطفاً به لأنه كان وقع بينه
__________
1ـ شرح النووي على صحيح مسلم 15/174.
2ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 2/535، صحيح مسلم 4/1874.(1/278)
وبين فاطمة شيء فخرج إلى المسجد واضطجع فيه وكناه النبي صلى الله عليه وسلم بأبي تراب وكانت هذه التسمية أحب شيء إليه رضي الله عنه.
4- ومن مناقبه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل محبته من علامة الإيمان وجعل بغضه علامة للنفاق. فقد روى مسلم بإسناده إلى علي رضي الله عنه قال: "والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي صلى الله عليه وسلم إليّ أن لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق"1 ففي هذا منقبة ظاهرة لأبي الحسن رضي الله عنه "وهذا جارٍ باطراد في أعيان الصحابة لتحقق مشترك الإكرام لما لهم من حسن الغناء في الدين قال القرطبي في المفهم: وأما الحروب الواقعة بينه فإن وقع من بعضهم بغض لبعض فذاك من غير هذه الجهة، بل للأمر الطارئ الذي اقتضى المخالفة ولذلك لم يحكم بعضهم على بعض بالنفاق وإنما كان حالهم في ذلك حال المجتهدين في الأحكام للمصيب أجران وللمخطئ أجر واحد والله أعلم"2.
5- وروى الإمام البخاري بإسناده إلى عليّ رضي الله عنه أن فاطمة عليها السلام شكت ما تلقى من أثر الرحا فأتى النبي صلى الله عليه وسلم سبي فانطلقت فلم تجده فوجدت عائشة فأخبرتها فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته عائشة بمجيء فاطمة فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إلينا وقد أخذنا مضاجعنا فذهبت لأقوم فقال: على مكانكما فقعد بيننا حتى وجدت برد قدميه على صدري وقال: "ألا أعلمكما خيراً مما سألتماني إذا أخذتما مضاجعكما تكبرا أربعاً وثلاثين وتسبحا ثلاثاً وثلاثين وتحمدا ثلاثاً وثلاثين فهو خير لكما من خادم" 3.
فهذا الحديث تضمن منقبة لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب وتلك المنقبة
__________
1ـ صحيح مسلم 1/106.
2ـ فتح الباري 1/63.
3ـ صحيح البخاري 2/300.(1/279)
هي دخول النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين فاطمة رضي الله عنهما في فراشهما وأمره لعلي بلزوم مكانه بعد أن هم بالقيام وهذا يدل على أن لأبي الحسن رضي الله عنه منزلة عظيمة عند المصطفى صلى الله عليه وسلم.
6- وروى أيضاً: بإسناده إلى سعد بن عبيدة قال: جاء رجل إلى ابن عمر فسأله عن عثمان فذكر عن محاسن عمله قال: لعل ذاك يسوءك قال: نعم قال: فأرغم الله بأنفك، ثم سأله عن علي فذكر محاسن عمله قال هو ذاك بيته أوسط بيوت النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال لعل ذاك يسوءك قال: أجل قال: فأرغم الله بأنفك قال: انطلق فاجهد عليّ جهدك"1.
وهذا الأثر عن ابن عمر تضمن فضل عليّ رضي الله عنه حيث مدحه بأوصافه الحميدة التي دلت على مكانته وفضله رضي الله عنه وأرضاه.
7- وروى البخاري رحمه الله تعالى بإسناده إلى البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي: "أنت مني وأنا منك" 2.
ففي قول النبي صلى الله عليه وسلم هذا فضيلة عظيمة لعلي رضي الله عنه.
8- وروى الإمام مسلم بإسناده إلى عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً فقال: ما منعك أن تسب أبا تراب؟ فقال: أما ما ذكرت ثلاثاً قالهن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلن أسبه لأن تكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له، خلفه في بعض مغازيه فقال له علي: يا رسول الله خلفتني مع النساء والصبيان؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبوة بعدي" وسمعته يقول يوم خيبر: "لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله" قال: فتطاولنا لها فقال: "ادعوا لي علياً" فأتي به أرمد فبصق
__________
1ـ المصدر السابق 2/300.
2ـ صحيح البخاري مع الفتح 5/303-304.(1/280)
في عينه ودفع الراية إليه ففتح الله عليه ولما نزلت هذه الآية {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ} 1 دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال: "اللهم هؤلاء أهلي" 2.
هذا الحديث تضمن مناقب ظاهرة وفضائل عالية لأبي السبطين علي رضي الله عنه وأرضاه.
وقال النووي رحمه الله تعالى: قوله: "إن معاوية قال لسعد بن أبي وقاص ما منعك أن تسب أبا تراب" قال العلماء: الأحاديث الواردة التي في ظاهرها دخل على صحابي يجب تأويلها قالوا: ولا يقع في روايات الثقات إلا ما يمكن تأويله فقول معاوية هذا ليس فيه تصريح بأنه أمر سعداً بسبه وإنما سأله عن السبب المانع له من السب كأنه يقول هل امتنعت تورعاً أو خوفاً، أو غير ذلك فإن كان تورعاً وإجلالاً له فأنت مصيب محسن، وإن كان غير ذلك فله جواب آخر، ولعل سعداً قد كان في طائفة يسبون فلم يسب معهم وعجز عن الإنكار وأنكر3 عليهم فسأله هذا السؤال قالوا: ويحتمل تأويلا آخر معناه ما منعك أن تخطئه في رأيه واجتهاده وتظهر للناس حسن رأينا واجتهادنا وأنه أخطأ"4.
9- ومن مناقبه الدالة على فضله دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له بتثبيت لسانه وهداية صدره للحق حتى كان مدة حياته لم يشك في قضاء بعد ذلك. فقد روى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى علي رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قال: فقلت: يا رسول الله إني رجل شاب وأنه يرد علي من القضاء ما لا علم لي به قال فوضع يده على صدري وقال: "اللهم ثبت لسانه واهد قلبه" فما
__________
1ـ سورة آل عمران آية/61.
2ـ صحيح مسلم 4/1871.
3ـ لعلها أو أنكر عليهم حتى يستقيم الكلام.
4ـ شرح النووي على صحيح مسلم 15/175-176.(1/281)
شككت في القضاء أو في قضاء بعد1.
10- ومن مناقبه رضي الله عنه شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم له بالخشونة في ذات الله وفي سبيل الله. فقد روى الحاكم بإسناده إلى أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: شكى علي بن أبي طالب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام فينا خطيباً فسمعته يقول: "أيها الناس لا تشكوا علياً فوالله إنه لأخشن في ذات الله وفي سبيل الله" 2.
11- ومن مناقبه العظيمة شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم له بالجنة. فقد روى الحاكم بإسناده إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: مشيت مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى امرأة فذبحت لنا شاة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليدخلن رجل من أهل الجنة فدخل أبو بكر رضي الله عنه ثم قال: "ليدخلن رجل من أهل الجنة فدخل أبو بكر رضي الله عنه ثم قال: "ليدخلن رجل من أهل الجنة" فدخل عمر رضي الله عنه، ثم قال: "ليدخلن رجل من أهل الجنة اللهم إن شئت فاجعله علياً" قال: فدخل علي بن أبي طالب رضي الله عنه3.
12- ومن مناقبه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن ابنته فاطمة وزوجها علي بن أبي طالب وولديها الحسن والحسين أنهم يكونون معه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة في مكان واحد فقد روى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على فاطمة رضي الله عنها فقال "إني وإياك وهذا النائم ـ يعني علياً ـ وهما ـ يعني الحسن والحسين ـ لفي مكان واحد يوم القيامة" 4.
ففي هذا بيان منقبة لعلي رضي الله عنه وأرضاه.
وقد كثر الثناء عليه رضي الله عنه من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن التابعين
__________
1ـ المستدرك 3/135 وقال عقبه: صحيح الإسناد ولم يخرجاه وأقره الذهبي.
2ـ نفس المصدر 3/134 وقال عقبه: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
3ـ المستدرك 3/136 وقال الحاكم عقبه: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
4ـ المستدرك 3/137 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.(1/282)
لهم بإحسان بما وجد فيه من الخصال الحميدة وبما حصل له من المناقب الرفيعة التي استحق أن يكون بها من خير البشر. فقد شهد له الفاروق رضي الله عنه بأن المصطفى صلى الله عليه وسلم التحق بالرفيق الأعلى وهو عنه راض كما شهد له بحل المعضلات.
1- فقد قال رضي الله عنه عندما قيل له: أوص يا أمير المؤمنين استخلف قال: ما أجد أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر ـ أو الرهط ـ الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض: فسمى علياً وعثمان والزبير وطلحة وسعداً وعبد الرحمن1. فقد أخبر الفاروق رضي الله عنه بأن أبا الحسن كان في مقدمة من مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض.
2- وروى أبو عمر بن عبد البر بإسناده إلى سعيد بن المسيب قال: كان عمر يتعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو الحسن2.
3- روى البخاري بإسناده إلى ابن عباس قال: قال عمر رضي الله عنه: "أقرؤنا أبي وأقضانا علي"3.
فأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه شهد لأبي الحسن بحل المشكلات وبالبراعة في القضاء وإتقانه.
4- وقال سعيد بن جبير رحمه الله تعالى: "كان ابن عباس يقول: إذا جاءنا الثبت عن علي لم نعدل به"4.
5- وروى ابن أبي شيبة في كتابه "المصنف"5 بإسناده إلى عطية بن سعد قال: دخلنا على جابر بن عبد الله وهو شيخ كبير وقد سقط حاجباه.
__________
1ـ انظر صحيح البخاري مع شرحه "فتح الباري" 7/61.
2ـ الاستيعاب في أسماء الأصحاب على حاشية الإصابة 3/39.
3ـ صحيح البخاري 3/99، وابن ماجه في سننه 1/55، وأحمد في المسند 5/113.
4ـ الإصابة 2/502.
5ـ 12/82.(1/283)
على عينيه فقلت: أخبرنا عن علي بن أبي طالب قال: فرفع حاجبيه بيديه ثم قال: "ذاك من خير البشر".
وروى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى جرى بن كليب العامري قال: لما سار علي إلى صفين كرهت القتال فأتيت المدينة فدخلت على ميمونة بنت الحارث فقالت: ممن أنت قلت: من أهل الكوفة قالت: من أيهم قلت: من بني عامر قالت: رحباً على رحب وقرباً على قرب تجيء ما جاء بك قال: قلت: سار علي إلى صفين وكرهت القتال فجئنا إلى هاهنا قالت: أكنت بايعته؟ قلت: نعم قالت: فارجع إليه فكن معه فوالله ما ضل ولا ضل به"1.
فهذا ثناء من أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها على أبي السبطين رضي الله عنه من أنه سالك طريق الحق ولن يحيد عنه إلى الضلال بحال وهذه منقبة وفضيلة له رضي الله عنه.
6- وروى ابن أبي شيبة في كتابه "المصنف"2 بإسناده إلى أبي هارون قال: كنت مع ابن عمر جالساً إذ جاءنا نافع بن الأزرق فقام على رأسه فقال: والله إني لأبغض علياً قال: فرفع إليه ابن عمر رأسه فقال: أبغضك الله تبغض رجلا سابقة من سوابقه خير من الدنيا وما فيها".
ولقد شهد له معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه بالعلم والفضل والسبق والخيرية، وأقر له بفضائله ومناقبه كلها.
7- قال ابن كثير: وقال جرير: عن مغيرة قال: لما جاء نعي علي بن أبي طالب إلى معاوية وهو نائم مع امرأته فاختة بنت قرطة في يوم صائف جلس وهو يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون وجعل يبكي فقالت: له فاختة أنت بالأمس تطعن عليه واليوم تبكي عليه فقال: ويحك إنما أبكي لما فقد الناس من حلمه وعلمه وفضله
__________
1ـ المستدرك 3/141 وصححه وأقره الذهبي وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 12/81.
2ـ 12/82.(1/284)
وسوابقه وخيره"1.
8- قال ابن عبد البر: "وكان معاوية يكتب فيما ينزل به ليسأل له علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن ذلك فلما بلغه قتله قال: ذهب الفقه والعلم بموت ابن أبي طالب فقال له أخوه عتبة: لا يسمع هذا منك أهل الشام فقال له: دعني عنك"2.
هذا موفق معاوية بن أبي سفيان من أبي السبطين علي رضي الله عنه فإنه بكى عليه عندما بلغه نبأ قتله وأثنى عليه بصفاته الحميدة من الحلم والعلم والفضل والسابقة والخيرية، واعترف له بمناقبه كلها ولم يمنعه من ذلك ما حصل بينهما من الحروب ولم يجد الغل محلا في قلب معاوية لأبي الحسن رضي الله عنهما فأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نزع الله من قلوبهم الغل، فكانوا إخواناً متحابين ومهما حصل بينهم من خلاف فإن ذلك لم يؤد بهم إلى إنكار فضائل بعضهم بعضاً فهل يدكر بهذا من جاء بعدهم من الرافضة الذين يقدحون فيهم ولا حامل لهم على ذلك إلا بغضهم وغلهم المقيت ومعاداتهم الخبيثة للسابقين الأولين الخيرة البررة من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم أجمعين وأخزى من في قلبه غل عليهم إلى يوم الدين.
9- سئل الحسن بن أبي الحسن البصري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: كان علي والله سهماً صائباً من مرامي الله على عدوه، ورباني هذه الأمة، وذا فضلها، وذا قرابتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن بالنومة عن أمر الله ولا بالملومة في دين الله ولا بالسروقة لمال الله أعطى القرآن عزائمه ففاز منه برياض مونقة ذلك علي بن أبي طالب يا لكع3.
__________
1ـ البداية والنهاية 7/16.
2ـ الاستيعاب في أسماء الأصحاب على حاشية الإصابة 3/44-45.
3ـ الاستيعاب على حاشية الإصابة 3/47.(1/285)
تلك طائفة من الأحاديث والآثار التي تضمنت فضل رابع الخلفاء الراشدين أبي الحسن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وفضائله رضي الله عنه كثيرة جداً وقد قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: "ما جاء لأحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفضائل ما جاء لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه"1.
وكل ما تقدم ذكره من فضائله رضي الله عنه كلها فيها الرد على النواصب الذين يتبرئون منه ولا يتولونه كما تتضمن الرد على الخوارج الذين كفروه وكلتا الفرقتين ضالتان في اعتقادهما فيه رضي الله عنه وأرضاه وقد ولد له الرافضة مناقب موضوعة هو غني عنها2.
والذي أخلص إليه في هذا الفصل أن عقيدة الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة أنهم يرتبون الخلفاء الأربعة في الفضل فيعتقدون أن أفضل الأمة أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم أجمعين.
قال أبو نعيم الأصبهاني رحمه الله تعالى في صدد عرضه الأقوال في أفضلية الأربعة الخلفاء فقال: "ومنهم من يقول: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي رضي الله عنهم أجمعين وذلك قول أهل الجماعة والأثر من رواة الحديث وجمهور الأمة"3.
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: "وأفضل أمته أبو بكر الصديق، ثم عمر الفاروق، ثم عثمان ذو النورين، ثم علي المرتضى، ثم بقية العشرة ثم أهل بدر، ثم أهل الشجرة ـ أهل بيعة الرضوان ـ ثم سائر الصحابة رضي الله عنهم"4.
__________
1ـ المستدرك 3/107.
2ـ انظر: الإصابة 2/501.
3ـ كتاب الإمامة والرد على الرافضة ص/206.
4ـ مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب القسم الخامس الرسائل الشخصية رسالة رقم 1 ص/10.(1/286)
المبحث الخامس: فضل السته بقية العشرة
بينّا فيما سبق في المباحث الأربعة المتقدمة فضل أربعة من العشرة المبشرين بالجنة وهم أبو بكر الصديق، وعمر الفاروق، وعثمان ذو النورين، وأبو السبطين علي رضي الله عنهم أجمعين وهؤلاء هم الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون الذين أمرنا بالاهتداء بهديهم والسير على طريقته رضي الله عنهم وفي هذا المبحث أبين فضل من بقي من العشرة الذين يلون الخلفاء الراشدين في الفضل وعددهم ستة وهم طلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وأبو عبيدة عامر بن الجراح، وسعيد بن زيد. وإلى بيان فضل كل واحد من هؤلاء الستة رضي الله عنهم:-
1) طلحة بن عبيد الله:
هو أبو محمد طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد ابن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي التيمي1 "يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في مرة بن كعب ومع أبي بكر الصديق في تيم بن مرة وعدد ما بينهم من الآباء سواء"2 وأمه رضي الله عنه الصعبة بنت الحضرمي امرأة من أهل اليمن وهي أخت العلاء بن الحضرمي3 أسلمت ولها صحبة وظفرت بشرف الهجرة4 وطلحة رضي الله عنه أحد العشرة الذين بشروا بالجنة، وأحد الثمانية
__________
1ـ الإصابة 2/220، وانظر الاستيعاب لابن عبد البر على حاشية الإصابة 2/210.
2ـ فتح الباري 7/82.
3ـ الإصابة 2/220.
4ـ المصدر السابق 4/337، وانظر فتح الباري 7/82.(1/287)
الذين سبقوا إلى الإسلام وأحد الخمسة الذين أسلموا على يد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وأحد الستة أصحاب الشورى، وكان رضي الله عنه عند وقعة بدر قد وجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسعيد بن زيد يتجسسان خبر العير قبل خروجه عليه الصلاة والسلام إلى بدر فلم يرجعا إلا وقد فرغ من موقعة بدر وضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمهما وأجرهما"1.
وقال الواقدي: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يخرج من المدينة إلى بدر طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد إلى طريق الشام يتجسسان الأخبار ثم رجعا إلى المدينة فقدماها يوم وقعة بدر2 فخروجهما لجس الأخبار يعتبر في صالح المعركة وهو نوع من المشاركة فيها.
وشهد طلحة رضي الله عنه أحداً وما بعدها من المشاهد وقد أبلى في غزوة أحد بلاء حسناً فقد وقى النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه واتقى النبل عنه بيده حتى شلت أصبعه3.
وفضائله رضي الله عنه كثيرة مشهورة ومنها:
1- ما رواه البخاري بإسناده إلى قيس بن أبي حازم قال: رأيت يد طلحة شلاء وقى بها النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد4.
هذا الحديث اشتمل على منقبة عظيمة خص بها طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه وهي أنه وقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده يوم أحد لما أراد بعض المشركين
__________
1ـ انظر المستدرك للحاكم 3/369، ص/438، وانظر الرياض النضرة في مناقب العشرة للمحب الطبري 4/256.
2ـ مغازي الواقدي 1/19، المستدرك للحاكم 3/369.
3ـ انظر الاستيعاب على حاشية الإصابة 2/210-216، الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر 2/220، وانظر الرياض النضرة في مناقب العشرة 4/245 وما بعدها، وانظر المستدرك للحاكم 3/368-369.
4ـ صحيح البخاري 3/23.(1/288)
أن يضربه فاتقى طلحة الضربة بيده حتى أصابها شلل والشلل بطلان في اليد أو في الرجل من آفة تعتريها فالحديث فيه بيان فضيلة عظيمة لطلحة رضي الله عنه وأرضاه.
2- وروى أيضاً: بإسناده إلى أبي عثمان النهدي قال: لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض تلك الأيام التي قاتل فيهن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير طلحة وسعد عن حديثهما1.
وهذا الحديث أيضاً: تضمن منقبة ظاهرة لأبي محمد طلحة بن عبيد الله من حديث إنه بقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما تفرق الناس عنه يوم أحد والمراد بقوله في الحديث: "في بعض تلك الأيام" يوم أحد.
3- وروى أبو عيسى الترمذي بإسناده إلى الزبير رضي الله عنه قال: "كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد درعان فنهض إلى الصخرة فلم يستطع فأقعد تحته طلحة، فصعد النبي صلى الله عليه وسلم حتى استوى على الصخرة قال: فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "أوجب طلحة" 2.
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "أوجب طلحة" أي: وجبت له الجنة بسبب عمله هذا أو بما فعل في ذلك اليوم فإنه خاطر بنفسه يوم أحد وفدى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعلها وقاية له حتى طعن ببدنه وجرح جميع جسده حتى شلت يده3.
4- وروى أبو نعيم بإسناده إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: كان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد قال: ذلك كله يوم طلحة4.
وهذا مدح وثناء عظيم من صديق هذه الأمة وشهادة صادقة لأبي محمد
__________
1ـ المصدر السابق 2/302-303.
2ـ سنن الترمذي 5/307 ثم قال عقبه: "هذا حديث حسن صحيح غريب".
3ـ انظر تحفة الأحوذي 5/341.
4ـ حلية الأولياء 1/87.(1/289)
طلحة بن عبيد الله بثباته مع النبي صلى الله عليه وسلم في وقعة أحد التي أبلى فيها بلاء حسناً وكان موقفه عظيماً في عزوة أحد يذكر به في الآخرين رضي الله عنه وأرضاه.
5- ومن مناقبه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن طلحة ممن قضى نحبه ووفى لله بما نذره على نفسه من القتال في سبيله ونصرة دينه.
فقد روى الترمذي بإسناده إلى موسى بن طلحة قال: دخلت على معاوية فقال: ألا أبشرك؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "طلحة ممن قضى نحبه" 1.
وروى أيضاً: بإسناده إلى موسى وعيسى ابني طلحة عن أبيهما طلحة "أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: لأعرابي جاهل سله عمن قضى نحبه من هو؟ وكانوا لا يجترئون هم على مسألته يوقرونه ويهابونه فسأله الأعرابي فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه، ثم إني اطلعت من باب المسجد وعلي ثياب خضر فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أين السائل عمن قضى نحبه" قال الأعرابي: أنا يا رسول الله قال: "هذا ممن قضى نحبه" 2.
هذان الحديثان فيهما بيان فضل طلحة بن عبيد الله حيث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن طلحة ممن قضى نحبه وكان طلحة ضمن جماعة كعثمان بن عفان ومصعب وسعيد وغيرهم نذروا إذا لقوا حرباً ثبتوا حتى يستشهدوا وقد ثبت طلحة يوم أحد وبذل جهده حتى شلت يده ووقى بها النبي صلى الله عليه وسلم3 رضي الله عنه وأرضاه.
قال أبو بكر بن العربي أثناء ذكره لمسائل اشتمل عليها الحديث قال رحمه الله تعالى:
__________
1ـ سنن الترمذي 5/308 وقال: "هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث معاوية إلا من هذا الوجه".
2ـ سنن الترمذي 5/308-309 وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث أبي كريب عن يونس بن بكير وقد رواه غير واحد من كبار أهل الحديث عن أبي كريب بهذا الحديث وسمعت محمد بن إسماعيل يحدث بهذا عن أبي كريب ووضعه في كتاب الفوائد"أهـ.
3ـ انظر تحفة الأحوذي بشرح الترمذي 9/63-64.(1/290)
الرابعة: إلا أن قوماً تحققت عاقبتهم وأخبر الله تعالى عن حسن مآلهم وإن كانوا لم يوافوا بعد، فلهم شرف الحالة بذلك وعلو المنزلة وطلحة منهم.
الخامسة: وكان ذلك له والله أعلم بوقايته بنفسه للنبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد حتى شلت يمينه فقدمته يداه إلى الجنة وتقدمه إليها وتعلق بسبب عظيم لا ينقطع منها"1.
7- ومن مناقبه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سماه الفياض لسعة عطائه وكثرة إنفاقه في وجوه الخير. فقد روى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى موسى بن طلحة أن طلحة نحر جزوراً وحفر بئراً يوم ذي قرد2 فأطعمهم وسقاهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا طلحة الفياض" فسمي طلحة الفياض3.
8- وروى أيضاً بإسناده إلى طلحة رضي الله عنه قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده سفرجلة فرماها إلي أو قال: ألقاها إلي وقال: "دونكها أبا محمد فإنها تجم4 الفؤاد" 5.
وفي هذا منقبة ظاهرة لطلحة رضي الله عنه وأرضاه.
9- ومن مناقبه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه يموت شهيداً. فقد روى مسلم في صحيحه بسنده إلى أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على جبل حراء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اسكن حراء فما عليك إلا نبي
__________
1ـ عارضة الأحوذي بشرح الترمذي 12/82-83.
2ـ قال في النهاية: 4/37 "ذي قرد بفتح القاف والراء: ماء على ليلتين من المدينة بينهما وبين خيبر"أهـ. وهو موضع غزوة خرج فيها النبي صلى الله عليه وسلم، سببها إغارة عيينة بن حصن الفزاري في خيل من غطفان على لقاح لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان فيها رجل من بني غفار وامرأة له فقتلوا الرجل واحتملوا المرأة في اللقاح "انظرالسيرة النبوية لابن هشام 2/281، تاريخ الطبري 2/596.
3ـ المستدرك 3/374 ثم قال الحاكم عقبه: "حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي.
4ـ تجم الفؤاد: "أي تريحه وقيل تجمعه وتكمل صلاحه ونشاطه " أهـ.النهاية في غريب الحديث 1/301.
5ـ المستدرك 3/370 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.(1/291)
أو صديق أو شهيد" وعليه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم"1.
قال النووي رحمه الله تعالى: "وفي هذا الحديث معجزات لرسول الله صلى الله عليه وسلم منها إخباره أن هؤلاء شهداء وماتوا كلهم غير النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر شهداء فإن عمر وعثمان وعلياً وطلحة والزبير رضي الله عنهم قتلوا ظلماً شهداء، فقتل الثلاثة مشهور وقتل الزبير بوادي السباع بقرب البصرة البصرة منصرفاً تاركاً للقتال وكذلك طلحة اعتزل الناس تاركاً للقتال فأصابه سهم فقتله وقد ثبت أن من قتل ظلماً فهو شهيد والمراد شهداء في أحكام الآخرة وعظم ثواب الشهداء، وأما في الدنيا فيغسلون ويصلى عليهم وفيه بيان فضيلة هؤلاء2.
6- ومن مناقبه الرفيعه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي وهو عنه راض. قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى: "باب ذكر طلحة بن عبيد الله، وقال عمر: توفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو عنه راض"3.
7- ومما يدل على عظم مكانته وعلو منزلته أن النبي صلى الله عليه وسلم شهد له بالجنة ضمن جماعة من فضلاء الصحابة. فقد روى الترمذي بإسناده إلى عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة وعثمان في الجنة وعلي في الجنة وطلحة في الجنة والزبير في الجنة وعبد الرحمن بن عوف في الجنة وسعد في الجنة وسعيد في الجنة وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة" ثم قال: وقد روى هذا الحديث عن عبد الرحمن بن حميد عن أبيه عن سعيد بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا4.
__________
1ـ صحيح مسلم 4/1880.
2ـ شرح النووي على صحيح مسلم 15/190.
3ـ صحيح البخاري 2/302.
4ـ سنن الترمذي 5/311 وانظر سنن أبي داود 2/516، سنن ابن ماجه 1/48.(1/292)
ففي هذا الحديث منقبة واضحة لطلحة رضي الله عنه حيث شهد له النبي صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة وأكرم بها من شهادة فإنها تضمنت الإخبار بسعادته في الدنيا والآخرة، ذلك هو الصحابي طلحة بن عبيد الله أحد العشرة المشهود لهم بالجنة وتلك طائفة من الأحاديث التي دلت على عظيم قدره وعلو منزلته رضي الله عنه وأرضاه.(1/293)
2) الزبير بن العوام:
هو أبو عبد الله الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب القرشي الأسدي1 يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في قصي وعدد ما بينهما من الآباء سواء2 وهو حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمته، أمه صفية بنت عبد المطلب، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة وأحد الستة أصحاب الشورى3.
قال عروة بن الزبير: أسلم الزبير بن العوام وهو ابن ثمان سنين وهاجر وهو ابن ثمان عشرة سنة وكان عم الزبير يعلق الزبير في حصير ويدخن عليه بالنار ويقول: ارجع إلى الكفر فيقول الزبير: لا أكفر أبداً.
وقال أيضاً: "أسلم الزبير وهاجر إلى أرض الحبشة الهجرتين معاً ولم يتخلف عن غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم"4.
فهو رضي الله عنه من السابقين الأولين إلى الإسلام، وشهد المشاهد كلها مع النبي صلى الله عليه وسلم. وفضائله رضي الله عنه كثيرة مشهورة ومنها:
1- ما رواه البخاري بإسناده إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن لكل نبي حوارياً وإن حواري الزبير بن العوام" 5.
وعند مسلم بلفظ: ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس يوم الخندق فانتدب الزبير، ثم ندبهم فانتدب الزبير فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لكل نبي حواري وحواري الزبير" 6.
__________
1ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 3/100، الاستيعاب لابن عبد البر على حاشية الإصابة 1/560، الإصابة 1/526.
2ـ فتح الباري 7/80.
3ـ انظر الاستيعاب على حاشية الإصابة 1/560-560، الإصابة 1/526-528.
4ـ المستدرك للحاكم 3/360، وانظر طبقات ابن سعد 3/102.
5ـ صحيح البخاري 2/302.
6ـ صحيح مسلم 4/1879.(1/294)
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "وحواري الزبير" أي: خاصتي من أصحابي وناصري ومنه الحواريون أصحاب عيسى عليه الصلاة والسلام أي: خلصائه وأنصاره وأصله من التحوير: التبييض قيل: إنهم كانوا قصارين يحورون الثياب أي: يبيضونها ... قال الأزهري: الحواريون خلصان الأنبياء وتأويله الذين أخلصوا ونقوا من كل عيب"1.
فالحواري: هو الناصر المخلص، فالحديث اشتمل على هذه المنقبة العظيمة التي تميز بها الزبير رضي الله عنه ولذلك سمع عبد الله بن عمر رضي الله عنه رجلاً يقول: أنا ابن الحواري فقال: إن كنت من ولد الزبير وإلا فلا2. وقال عبد الله بن عباس: هو حواري النبي صلى الله عليه وسلم وسمى الحواريون لبياض ثيابهم3.
وجاء في عمدة القاري شرح صحيح البخاري للعيني: "فإن قلت: "الصحابة كلهم أنصار رسول الله عليه الصلاة والسلام خلصاء فما وجه التخصيص به قلنا: هذا قاله حين قال يوم الأحزاب: من يأتيني بخبر القوم قال الزبير: أنا، ثم قال: من يأتيني بخبر القوم فقال: أنا وهكذا مرة ثالثة ولا شك أنه في ذلك الوقت نصر نصرة زائدة على غيره"4.
2- من مناقبه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم فداه بأبويه. روى البخاري بإسناده إلى عبد الله بن الزبير قال: كنت يوم الأحزاب جعلت أنا وعمر بن أبي سلمة في النساء فنظرت فإذا أنا بالزبير على فرسه يختلف إلى بني قريظة مرتين أو ثلاثاً فلما رجعت قلت: يا أبت رأيتك تختلف قال: وهل رأيتني يا بني؟ قلت: نعم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من يأت بني قريظة فيأتيني بخبرهم؟ " فانطلقت فلما رجعت جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه فقال: "فداك
__________
1ـ النهاية لابن الأثير 1/457-458.
2ـ رواه بن سعد في الطبقات الكبرى 3/106، وذكره الحافظ في الإصابة 1/527.
3ـ صحيح البخاري 2/302.
4ـ عمدة القاريء 16/223, وانظر تحفة الأحوذي بشرح الترمذي 10/547.(1/295)
أبي وأمي"1.
وهذا الحديث فيه منقبة ظاهرة للزبير رضي الله عنه حيث فداه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبويه "وفي هذه التفدية تعظيم لقدره واعتداد بعلمه واعتبار بأمره وذلك لأن الإنسان لا يفدي إلا من يعظمه فيبذل نفسه أو أعز أهله له"2.
3- ومن مناقبه رضي الله عنه أنه كان ممن استجاب لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح يوم أحد. فقد روى الشيخان في صحيحهما عن عائشة رضي الله عنها: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} قالت لعروة: يا ابن أختي كان أبواك منهم: الزبير وأبو بكر لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أصاب يوم أحد وانصرف عنه المشركون خاف أن يرجعوا قال: "من يذهب في إثرهم؟ " فانتدب منهم سبعون رجلاً قال: كان فيهم أبو بكر والزبير"3.
فلقد أثنى الله على الذين استجابوا لله والرسول وأخبر أن جزاء المحسنين المتقين منهم أجر عظيم، وكان الزبير بن العوام واحداً من هؤلاء رضي الله عنهم.
4- وروى ابن سعد بإسناد صحيح عن هشام عن أبيه قال كانت على الزبير عمامة صفراء معتجراً بها يوم بدر فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الملائكة نزلت على سيماء الزبير" 4.
وفي هذا الحديث منقبة ظاهرة للزبير رضي الله عنه دلت على عظيم قدره وعلو منزلته فكون الملائكة الذين أنزلهم الله لنصر المسلمين في موقعة بدر كانوا على صورته فإن ذلك دليل على أنه جليل القدر رفيع المنزلة رضي الله عنه وأرضاه.
__________
1ـ صحيح البخاري 2/302.
2ـ من مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح لملا علي القاري 5/578، تحفة الأحوذي 10/246.
3ـ صحيح البخاري 3/26، صحيح مسلم 4/1881.
4ـ الطبقات الكبرى 3/103.(1/296)
5- وروى البخاري بإسناده إلى مروان بن الحكم قال: "أصاب عثمان بن عفان رعاف شديد سنة الرعاف حتى حبسه عن الحج وأوصى فدخل عليه رجل من قريش قال: استخلف قال: وقالوه؟ قال: نعم قال: ومن؟ فسكت فدخل عليه رجل آخر أحسبه الحارث فقال: استخلف فقال عثمان: وقالوا؟ فقال: نعم قال: ومن هو؟ فسكت فلعلهم قالوا: إنه الزبير؟ قال: نعم قال: والذي نفسي بيده إنه لخيرهم ما علمت وإن كان لأحبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي رواية أخرى قال: "أما والله إنكم لتعلمون أنه خيركم ثلاثاً"1.
ففي هاتين الروايتين منقبة عظيمة لحواري رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث شهد له ثالث الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين عثمان بن عفان رضي الله عنه بالخبرية وأنه كان من أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الداودي: "يحتمل أن يكون المراد من الخيرية في شيء مخصوص كحسن الخلق وإن حمل على ظاهره ففيه ما يبين أن قول ابن عمر: "ثم نترك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم" لم يرد به جميع الصحابة فإن بعضهم قد وقع منه تفضيل بعضهم على بعض وهو عثمان في حق الزبير" وقد تعقب الحافظ رحمه الله هذا الاحتمال الذي قاله الداودي بقوله: "قلت: قول ابن عمر قيده بحياة النبي صلى الله عليه وسلم فلا يعارض ما وقع منهم بعد ذلك"2.
6- ومن مناقبه رضي الله عنه أنه كان شجاعاً مقداماً في ساحة القتال. فقد روى البخاري بإسناده إلى هشام بن عروة عن أبيه أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا للزبير يوم وقعة اليرموك: ألا تشد فنشد معك؟ فحمل عليهم فضربوه ضربتين على عاتقه بينهما ضربة ضربها يوم بدر قال عروة: فكنت أدخل أصابعي في تلك الضربات ألعب وأنا صغير3.
__________
1ـ صحيح البخاري 2/302.
2ـ فتح الباري 7/81.
3ـ صحيح البخاري 2/302.(1/297)
وفي هذا بيان فضيلة للزبير رضي الله عنه تضمنها قول الصحابة له يوم اليرموك" ألا تشد فنشد معك.. إلخ" فإنه كان شجاعاً مقداماً موفقاً في تسديد الضربات لجيوش الشرك. ولقد أبلى رضي الله عنه في يوم اليرموك وفي جميع الغزوات التي غزاها بلاء حسناً.
فقد روى الترمذي بإسناده إلى هشام بن عروة قال: "أوصى الزبير إلى ابنه عبد الله صبيحة الجمل فقال: ما مني عضو إلا وقد جرح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى ذلك في فرجه"1.
7- ومن أعظم مناقبه وأعلاها شهادة النبي صلى الله عليه وسلم له بالجنة. فقد روى الترمذي وغيره من حديث عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة وعثمان في الجنة وعلي في الجنة وطلحة في الجنة والزبير في الجنة ... " الحديث2.
8- ومن مناقبه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم شهد له بأنه يموت شهيداً فقد روى الإمام مسلم في صحيحه بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على حراء هو وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير فتحركت الصخرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اهدأ فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد" 3.
فلقد شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالشهادة وحصلت له كما أخبر بها المصطفى عليه الصلاة والسلام " فإنه لما كان يوم الجمل ذكره علي بما ذكره به فرجع عن القتال وكر راجعاً إلى المدينة فمر بقوم الأحنف بن قيس وكانوا قد انعزلوا عن الفريقين فقال قائل يقال له الأحنف: ما بال هذا جمع بين الناس حتى إذا التقوا
__________
1ـ سنن الترمذي 5/310-311 ثم قال عقبه: "هذا حديث حسن غريب من حديث حماد بن زيد".
2ـ المصدر السابق 5/311.
3ـ صحيح مسلم 4/1880.(1/298)
كر راجعاً إلى بيته من رجل يكشف لنا خبره؟ فاتبعه عمرو بن جرموز في طائفة من غواة بني تميم ... فأدركه عمرو بواد يقال له وادي السباع ـ قريب من البصرة ـ وهو نائم في القائلة فهجم عليه فقتله ... ولما قتله اجتز رأسه وذهب به إلى علي ورأى أن ذلك يحصل له به حظوة عنده فاستأذن فقال علي: لا تأذنوا له وبشروه بالنار وفي رواية: أن علياً قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بشر قاتل ابن صفية بالنار" ودخل ابن جرموز ومعه سيف الزبير فقال علي: إن هذا السيف طال ما فرج الكرب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقال: إن عمرو بن جرموز لما سمع ذلك قتل نفسه وقيل: بل عاش إلى أن تأمر مصعب بن الزبير على العراق فاختفى منه فقيل لمصعب: إن عمرو بن جرموز هاهنا وهو مختف فهل لك فيه؟ فقال: مروه فليظهر فهو آمن والله ما كنت لأقيد للزبير منه فهو أحقر من أن أجعله عدلاً للزبير1 "وكان قتله رضي الله عنه يوم الخميس لعشر خلون من جمادي الآخرة سنة ست وثلاثين"2 ذلك هو حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلك طائفة من مناقبه التي دلت على عظيم قدره وعلو شأنه رضي الله عنه وأرضاه.
__________
1ـ البداية والنهاية 7/272-273، وروى الإمام أحمد عن علي رضي الله عنه أنه قال عندما قيل له: إن قاتل الزبير على الباب، قال: ليدخل قاتل ابن صفية النار سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لكل نبي حواري وإن حواري الزبير بن العوام " المسند 1/103.
2ـ انظر الطبقات لابن سعد 3/110-113، الاستيعاب لابن عبد البر على الإصابة 1/564، البداية والنهاية 7/273، الإصابة 1/527.(1/299)
3) عبد الرحمن بن عوف:
هو أبو عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف بن عبد الحارث بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي القرشي الزهري كان اسمه في الجاهلية ـ عبد عمرو ـ وقيل عبد الكعبة فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن أمه الشفاء بنت عوف بن عبد الحارث بن زهرة1.
"شهد رضي الله عنه بدراً والمشاهد كلها وثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الثمانية الذين سبقوا بالإسلام"2 "وأحد الستة أصحاب الشورى الذين أخبر عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه توفي وهو عنهم راض وأسند رفقته أمرهم إليه حتى بايع عثمان"3 "أسلم قديماً قبل أن يدخل رسول الله دار الأرقم وقبل أن يدعو فيها"4.
"وأمّره رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث بعثه إلى بني كلب، وأرخى له عذبة بين كتفيه لتكون أمارة عليه للإمارة"5.
ومناقبه رضي الله عنه كثيرة وقد وردت طائفة من الأحاديث الصحيحة بذكر مناقبه رضي الله عنه ومنها:
1- روى الإمام مسلم بإسناده إلى عروة بن المغيرة بن شعبة أخبره أن المغيرة بن شعبة أخبره أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك قال المغيرة: فتبرز رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الغائط6 فحملت معه إداوة قبل صلاة الفجر فلما رجع رسول الله
__________
1ـ انظر الطبقات الكبرى لابن سعد 3/124، المستدرك 3/306، الاستيعاب لابن عبد البر على حاشية الإصابة 2/385، البداية والنهاية 7/178، الإصابة 2/408.
2ـ الرياض النضرة في مناقب العشرة 4305-306، وانظر البداية والنهابة 7/178.
3ـ الإصابة 2/408.
4ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 3/124، المستدرك للحاكم 3/309.
5ـ البداية والنهاية 7/178.
6ـ الغائط: هو المكان المنخفض من الأرض "النهاية لابن الأثير" 3/395، وانظر "الفائق في غريب الحديث" للزمخشري 3/79.(1/300)
صلى الله عليه وسلم إليّ أخذت أهريق على يديه من الإداوة وغسل يديه ثلاث مرات ثم ذهب يخرج جبته عن ذراعيه فضاق كما جبته فأدخل يديه في الجبة حتى أخرج ذراعيه من أسفل الجبة وغسل ذراعيه إلى المرفقين ثم توضأ على خفيه، ثم أقبل. قال المغيرة: فأقبلت معه حتى نجد الناس قد قدموا عبد الرحمن بن عوف فصلى لهم فأدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى الركعتين فصلى مع الناس الركعة الآخرة فلما سلم عبد الرحمن بن عوف قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يتم صلاته فأفزع ذلك المسلمين فأكثروا التسبيح فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته أقبل عليهم ثم قال: "أحسنتم" أو قال: " أصبتم" يغبطهم أن صلوا الصلاة لوقتها"1.
فصلاة الرسول صلى الله عليه وسلم خلف عبد الرحمن بن عوف الركعة الثانية من صلاة الفجر دلت على منقبة عظيمة له لا تبارى رضي الله عنه وأرضاه.
2- ومن مناقبه رضي الله عنه أنه تقاول هو وخالد بن الوليد في بعض الغزوات فأغلظ له خالد في المقال فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسبوا أحداً من أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه" 2.
فقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أحداً من أصحابي" يعني عبد الرحمن ونحوه الذين هم السابقون الأولون وهم الذين أسلموا من قبل الفتح وقاتلوا وهم أهل بيعة الرضوان فهم أفضل وأخص بصحبته ممن أسلم بعد بيعة الرضوان وهم الذين أسلموا بعد الحديبية وبعد مصالحة النبي صلى الله عليه وسلم أهل مكة ومنهم خالد بن الوليد"3 فالحديث تضمن منقبة رفيعة لعبد الرحمن بن عوف حيث كان ممن شرف بالسبق إلى الإسلام.
__________
1ـ صحيح مسلم 1/317-318.
2ـ المصدر السابق 4/1967-1968.
3ـ شرح العقيدة الطحاوية ص/529.(1/301)
3- ومن مناقبه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم غير اسمه من عبد عمرو إلى عبد الرحمن.
روى الحاكم بإسناده إلى عبد الرحمن بن عوف قال: "كان اسمي في الجاهلية عبد عمرو فسمعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن"1.
4- ومن مناقبه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الله له أن يسقيه من سلسبيل الجنة. فقد روى الحاكم أيضاً بإسناده إلى أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأزواجه: "إن الذي يحنو عليكم بعدي هو الصادق البار اللهم اسق عبد الرحمن بن عوف من سلسبيل الجنة" 2.
وروى أيضاً: بإسناده إلى أبي سلمة بن عبد الرحمن حدثه قال: دخلت على عائشة رضي الله عنها فقالت لي: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لي: "أمركن مما يهمني بعدي ولن يصبر عليكن إلا الصابرون"، ثم قالت: فسقى الله أباك من سلسبيل الجنة. وكان عبد الرحمن بن عوف قد وصلهن بمال فبيع بأربعين ألفاً"3.
ففي هذين الحديثين فضيلة لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه.
5- ومن أجل مناقبه وأعلاها شهادة النبي صلى الله عليه وسلم له بالجنة. فقد روى الترمذي رحمه الله بسنده إلى عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة وعثمان في الجنة وعلي في الجنة وطلحة في الجنة والزبير في الجنة وعبد الرحمن بن عوف في الجنة.." الحديث4.
فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن عبد الرحمن أحد أهل الجنة جعلنا الله منهم بفضله ومنه آمين.
__________
1ـ المستدرك 3/306 ثم قال عقبه: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وأقره الذهبي.
2ـ المستدرك 3/311 ثم قال: "فقد صح الحديث عن عائشة وأم سلمة ووافقه الذهبي".
3ـ المصدر السابق 3/312 وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
4ـ سنن الترمذي 5/311.(1/302)
6- ومن مناقبه العظيمة إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأنه شهيد. روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أنه قال: "أشهد على التسعة أنهم في الجنة ولو شهدت على العاشر لم آثم قيل: وكيف ذاك قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بحراء فقال: "اثبت حراء فإنه ليس عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد" قيل: ومن هم قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف قيل فمن العاشر قال أنا"1.
فالحديث تضمن منقبة عالية لعبد الرحمن وهي أنه سيموت شهيداً ولا يعارض هذا وفاته رضي الله عنه على فراشه فلا بد من التسليم والإيمان بما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم ولا بد هناك من سبب ثبتت له به الشهادة ليكون تصديقاً للنبي صلى الله عليه وسلم لم نعلمه نحن.
ذلك هو عبد الرحمن بن عوف الذي قضى حياته كلها في طاعة ربه حتى في اللحظة الأخيرة ـ التي كان فيها في مرض موته فقد قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: "ولما حضرته الوفاة أوصى لكل رجل ممن بقي من أهل بدر بأربعمائة دينار وكانوا مائة فأخذوها حتى عثمان وعلي وقال علي: اذهب يا ابن عوف فقد أدركت صفوها وسبقت زيفها2. وأوصى لكل امرأة من أمهات المؤمنين بمبلغ كثير حتى كانت عائشة تقول: سقاه الله من السلسبيل وأعتق خلقاً من مماليكه، ولما مات صلى عليه عثمان بن عفان، وحمل في جنازته سعد بن أبي وقاص ودفن بالبقيع3 سنة إحدى وثلاثين وقيل: سنة اثنتين وهو الأشهر"4.
__________
1ـ المسند 1/187، سنن أبي داود 2/515، سنن الترمذي 5/315، وسنن ابن ماجه 1/48.
2ـ انظر المستدرك للحاكم 3/308.
3ـ البداية والنهاية 7/180.
4ـ الاستيعاب على حاشية الإصابة 2/390، الإصابة 2/409-410.(1/303)
4) سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه:
هو أبو إسحاق سعد بن مالك بن أهيب ويقال له: ابن وهيب بن عبد مناف ابن زهرة بن كلاب القرشي الزهري1 "ويجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في كلاب بن مرة وعدد ما بينهما من الآباء متقارب وأمه حمنة بنت سفيان بن أمية بن عبد شمس لم تسلم"2 وهو رضي الله عنه أحد العشرة المشهود لهم بالجنة وأحد الستة أصحاب الشورى الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض. أسلم قديماً وكان يوم أسلم عمره سبع عشرة سنة وهاجر إلى المدينة وشهد بدراً، وما بعدها من المشاهد وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله، وكان فارساً شجاعاً من أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان في أيام الصديق معظماً جليل المقدار، وكذلك في أيام عمر وقد استنابه على الكوفة وهو الذي بناها، وهو الذي فتح المدائن3، وكانت بين يديه وقعة جلولاء4 وكان سيداً مطاعاً، وعزله عن الكوفة عن غير عجز ولا خيانة ولكن لمصلحة ظهرت لعمر في ذلك، ثم ولاه عثمان بعده، ثم عزله عنها وكان رضي الله عنه مجاب الدعوة مشهوراً بذلك5، ومناقبه رضي الله عنه كثيرة مشهورة وردت بها الأحاديث الصحيحة ومنها:
1- روى البخاري بإسناده إلى سعيد بن المسيب قال: سمعت سعداً يقول: جمع لي النبي صلى الله عليه وسلم أبويه يوم أحد6.
2- وروى مسلم بإسناده إلى عامر بن سعد عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع له
__________
1ـ البداية والنهاية 8/78، الإصابة 2/30.
2ـ فتح الباري 7/84.
3ـ انظر: تاريخ الطبري 4/8-16، الكامل لابن الأثير 2/511، البداية والنهاية 7/71-76.
4ـ انظر تاريخ الطبري 4/24-25، الكامل لابن الأثير 2/519، البداية والنهاية 7/77-79.
5ـ انظر ترجمته في الطبقات الكبرى لابن سعد 3/137-149، الاستيعاب لابن عبد البر على حاشية الإصابة 2/18-25، البداية والنهاية 8/78-84، الإصابة 2/30-32.
6ـ صحيح البخاري 2/303.(1/304)
أبويه يوم أحد قال: كان رجل من المشركين قد أحرق المسلمين فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ارم فداك أبي وأمي" قال: فنزعت له بسهم ليس فيه نصل فأصبت جنبه فسقط فانكشفت عورته فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نظرت إلى نواجذه".
3- وروى أيضاً بإسناده إلى عبد الله بن شداد قال: سمعت علياً يقول: ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه لأحد غير سعد بن مالك فإنه جعل يقول له يوم أحد: "ارم فداك أبي وأمي" 1.
هذه الأحاديث تضمنت منقبة عظيمة لسعد رضي الله عنه وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم فداه بأبويه وهذه التفدية فيها دلالة على أنه عظيم المنزلة جليل القدر عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ الإنسان لا يفدي إلا من يعظمه فيضحي بنفسه أو أعز أهله له.
وقول علي رضي الله عنه: "ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه لأحد غير سعد بن مالك" يفيد الحصر ولكن هذا الحصر فيه نظر لأنه تقدم معنا قريباً أنه عليه الصلاة والسلام جمع أبويه يوم الخندق للزبير بن العوام رضي الله عنه ويجمع بين الحديثين "بأن علياً رضي الله عنه لم يطلع على ذلك ومراده بذلك تقييده بيوم أحد والله أعلم"2.
4- وروى الإمام مسلم بإسناده إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: سهر رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمه المدينة ليلة فقال: "ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة" قالت: فبينا نحن كذلك سمعنا خشخشة سلاح فقال: "من هذا" قال: سعد بن أبي وقاص فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما جاء بك" قال: وقع في نفسي خوف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت أحرسه فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم ثم نام"3.
__________
1ـ الحديثان في صحيح مسلم 4/1876-1877.
2ـ فتح الباري 7/84، عمدة القاريء 16/228.
3ـ صحيح مسلم 4/1875.(1/305)
هذا الحديث تضمن منقبة لسعد رضي الله عنه وأنه من الصالحين وأكرم بها من منقبة إذ الصالحون يتولاهم رب العالمين كما قال تعالى: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} 1 ولقد حظي رضي الله عنه بمفخرة عظيمة وهي حراسة للنبي صلى الله عليه وسلم ودعاؤه له عليه الصلاة والسلام "وكان هذا الحديث قبل نزول قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} 2 لأنه صلى الله عليه وسلم ترك الاحتراس حين نزلت هذه الآية وأمر أصحابه بالانصراف عن حراسته وهذا الحديث مصرح بأن هذه الحراسة كانت أول قدومه المدينة ومعلوم أن الآية نزلت بعد ذلك بأزمان"3.
5- ومن مناقبه رضي الله عنه أن الله تعالى أنزل فيه قرآناً يتلى إلى يوم القيامة. فقد روى الإمام مسلم بإسناده إلى سعد رضي الله عنه أنه نزلت فيه آيات من القرآن قال: حلفت أم سعد أن لا تكلمه أبداً حتى يكفر بدينه ولا تأكل ولا تشرب قالت: زعمت أن الله وصاك بوالديك وأنا أمك وأنا آمرك بهذا قال: مكثت ثلاثاً حتى غشي عليها من الجهد فقام ابن لها يقال له عمارة فسقاها فجعلت تدعو على سعد فأنزل الله عز وجل في القرآن هذه الآية {وَوَصَّيْنَا الأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} وفيها {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} 4 قال وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غنيمة عظيمة فإذا فيها سيف فأخذته فأتيت به الرسول صلى الله عليه وسلم فقلت: نفلني هذا السيف فأنا من قد علمت حاله، فقال: "رده من حيث أخذته" فانطلقت حتى إذا أردت أن ألقيه في القبض لامتني نفسي فرجعت إليه فقلت أعطنيه، قال فشد لي صوته: "رده من حيث أخذته" قال: فأنزل الله ـ عز وجل ـ
__________
1ـ سورة الأعراف آية/196.
2ـ سورة المائدة آية/67.
3ـ شرح النووي على صحيح مسلم 15/183.
4ـ سورة لقمان آية/15.(1/306)
{يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} 1 قال: ومرضت فأرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأتاني فقلت: دعني أقسم مالي حيث شئت قال: فأبى قلت: فالنصف قال: فأبى قلت: فالثلث قال: فسكت فكان بعد الثلث جائزاً قال: وأتيت على نفر من الأنصار والمهاجرين فقالوا: تعالى نطعمك ونسقيك خمراً وذلك قبل أن تحرم الخمر قال: فأتيتهم في حش والحش البستان فإذا رأس جزور مشوي عندهم وزق من خمر قال: فأكلت وشربت معهم قال: فذكرت الأنصار والمهاجرين عندهم فقلت: المهاجرون خير من الأنصار قال: فأخذ رجل أحد لحيي الرأس فضربني به فجرح بأنفي فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فأنزل الله ـ عز وجل ـ فيّ يعني نفسه شأن الخمر {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} 2.
فهذا الحديث تضمن بيان فضيلة سعد حيث نزلت في شأنه تلك الآيات القرآنية المشار إليها في هذا الحديث.
6- ومن مناقبه رضي الله تعالى عنه أن الله تعالى أثنى عليه وأخبر أنه من الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه. فقد جاء في صحيح مسلم عنه رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا قال: وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان لست أسميهما فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع فحدث نفسه فأنزل الله ـ عز وجل ـ {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} 3.
7- ومن مناقبه رضي الله عنه أنه أسلم قديماً. فقد روى البخاري بإسناده إلى سعد قال: لقد رأيتني وأنا ثلث الإسلام.
__________
1ـ سورة الأنفال آية/1.
2ـ صحيح مسلم 4/1877-1878، والآية رقم 90 من سورة لمائدة.
3ـ المصدر السابق 4/1878 والآية رقم 52 من سورة الأنعام.(1/307)
وروى أيضاً بإسناده إلى سعيد بن المسيب قال: سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: ما أسلم أحد إلا في اليوم الذي أسلمت فيه ولقد مكثت سبعة أيام وإني لثلث الإسلام1.
فقوله رضي الله عنه: لقد رأيتني وأنا ثلث الإسلام فيه منقبة عظيمة له "وأراد بذلك أنه ثالث من أسلم أولا وأراد بالاثنين أبا بكر وخديجة أو النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر والظاهر أنه أراد الرجال الأحرار "فقد ذكر أبو عمر بن عبد البر في الاستيعاب2 أنه سابع سبعة في الإسلام " وقد قدمنا في فضل الصديق من حديث عمار بن ياسر "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وما معه إلا خمسة أعبد وأبو بكر فهؤلاء ستة ويكون هو السابع بهذا الاعتبار أو قال ذلك بحسب اطلاعه والسبب فيه أن من كان أسلم في ابتداء الأمر كان يخفي إسلامه فبهذا الاعتبار قال: وأنا ثلث الإسلام ... وقوله رضي الله عنه: "ما أسلم أحد إلا في اليوم الذي أسلمت فيه" ظاهره أنه لم يسلم أحد قبله وهذا فيه إشكال لأنه قد أسلم قبله جماعة ولكن يحمل هذا على مقتضى ما كان اتصل بعلمه حينئذ وقد روى ابن مندة في "المعرفة" من طريق أبي بدر عن هاشم بلفظ ما أسلم أحد في اليوم الذي أسلمت فيه وهذا لا إشكال فيه لأنه لا مانع أن لا يشاركه أحد في الإسلام يوم أسلم ولا ينافي هذا إسلام جماعة قبل يوم إسلامه وقوله: "ولقد مكثت.. إلخ هذا أيضاً على مقتضى اطلاعه"3.
8- ومن مناقبه رضي الله عنه أنه أول من رمى بسهمه في سبيل الله لمجاهدة أعداء الله وإعلاء كلمة الله. فقد روى البخاري بإسناده إلى سعد رضي الله عنه قال: إني لأول العرب رمى في سبيل الله وكنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم
__________
1ـ هذان الحديثان في صحيح البخاري 2/303.
2ـ الاستيعاب على حاشية الإصابة 2/18.
3ـ انظر شرح النووي على صحيح مسلم 15/184-185، فتح الباري 7/84، المرقاة شرح المشكاة 5/579.(1/308)
وما لنا طعام إلا ورق الشجر حتى إن أحدنا ليضع كما يضع البعير أو الشاة ما له خلط.." الحديث1.
في هذا بيان فضيلة سعد رضي الله عنه حيث إنه كان أول رام بسهمه في سبيل الله "وكان ذلك في سرية عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب وكان القتال فيها أول حرب وقعت بين المشركين والمسلمين وهي أول سرية بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة الأولى من الهجرة بعث ناساً من المسلمين إلى رابغ ليلقوا عيراً لقريش فتراموا بالسهام ولم يكن بينهم مسايفة فكان سعد أول من رمى"2.
9- ومن مناقبه رضي الله عنه أنه كان مجاب الدعوة مشهوراً بذلك وسبب ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الله له بأن يكون مجاب الدعوة فحقق الله دعوة نبيه عليه الصلاة والسلام فكانت دعوته مستجابة رضي الله عنه جاء في مجمع الزوائد عن عامر ـ يعني الشعبي ـ قال: قيل لسعد بن أبي وقاص: متى أجبت الدعوة قال: يوم بدر كنت أرمي بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فأضع السهم في كبد القوس ثم أقول: اللهم زلزل أقدامهم وارعب قلوبهم وافعل بهم وافعل فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم استجب لسعد " رواه الطبراني وإسناده حسن.
وفيه أيضاً: عن سعد قال: سمعني النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أدعو فقال: "اللهم استجب له إذا دعاك" رواه البزار ورجاله رجال الصحيح3.
10- ومن مناقبه العالية شهادة النبي صلى الله عليه وسلم له بالجنة فقد روى الترمذي وغيره من حديث عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة وعثمان في الجنة وعلي في الجنة وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وسعد بن أبي وقاص في
__________
1ـ صحيح البخاري 2/303.
2ـ انظر السيرة النبوية لابن هشام 1/591، الإصابة 2/30، فتح الباري 7/84.
3ـ هذان الحديثان في مجمع الزوائد 9/153.(1/309)
الجنة ... " الحديث1.
11- ومن مناقبه رضي الله عنه شهادة النبي صلى الله عليه وسلم له بأنه من الشهداء فقد روى مسلم بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على جبل حراء فتحرك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اسكن الحراء فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد" وعليه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم "2.
فقد شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بأنه شهيد مع أنه لم يمت في معركة وإنما توفي بقصره بالعقيق سنة إحدى وخمسين وقيل ست وقيل ثمان والثاني أشهر.3
قال النووي: وأما ذكر سعد بن أبي وقاص في الشهداء فقال القاضي: إنما سمي شهيداً لأنه مشهود له بالجنة4 قال علي بن المديني: وهو آخر العشرة وفاة وقال غيره: كان آخر المهاجرين وفاة رضي الله عنه وعنهم أجمعين5 ذلك هو سعد بن أبي وقاص وتلك طائفة من فضائله العظيمة رضي الله عنه.
__________
1ـ سنن الترمذي 5/311.
2ـ صحيح مسلم 4/1880.
3ـ الإصابة 2/31.
4ـ شرح النووي على صحيح مسلم 15/190.
5ـ ذكره ابن كثير في البداية والنهاية" 8/84.(1/310)
5) أبو عبيدة بن الجراح:
هو عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال بن أهيب ويقال: وهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر القرشي الفهري أبو عبيدة بن الجراح مشهور بكنيته وبالنسبة إلى جده وأمه أميمة بنت غنم بن جابر بن عبد العزى بن عامر بن عميرة1. وهو من السابقين الأولين إلى الإسلام "وكان إسلامه هو وعثمان بن مظعون وعبيدة بن الحارث بن المطلب وعبد الرحمن بن عوف وأبو سلمة بن عبد الأسد في ساعة واحدة قبل دخول النبي صلى الله عليه وسلم دار الأرقم"2.
وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وهاجر الهجرتين وشهد بدراً وما بعدها وهو الذي انتزع حلقتي المغفرة من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فسقطت ثنيتاه بسبب ذلك وثبت يوم أحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انهزم الناس3 ومناقبه رضي الله عنه تضمنتها أحاديث صحيحة مشهورة منها:
1- ما رواه الشيخان من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن لكل أمة أميناً وإن أميننا أيتها الأمة أبو عبيدة بن الجراح" 4.
هذا الحديث تضمن منقبة عظيمة لأبي عبيدة رضي الله عنه "والأمين هو الثقة المرضي وهذه الصفة وإن كانت مشتركة بينه وبين غيره لكن السياق يشعر بأن له مزيداً في ذلك لكن خص النبي صلى الله عليه وسلم كل واحد من الكبار بفضيلة ووصفه بها فأشعر بقدر زائد فيها على غيره كالحياء لعثمان والقضاء لعلي ونحو ذلك"5.
__________
1ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 3/409، المستدرك للحاكم 3/262، الاستيعاب لابن عبد البر على حاشية الإصابة 3/2، الرياض النضرة في مناقب العشرة 4/301، الإصابة 2/243.
2ـ المستدرك 3/266، الإصابة 2/243.
3ـ المستدرك 3/266، الإصابة 2/243.
4ـ صحيح البخاري 2/305، صحيح مسلم 4/1881.
5ـ انظر شرح النووي على صحيح مسلم 15/191-192، فتح الباري 7/93، عمدة القاريء =(1/311)
وروى البخاري بإسناده إلى حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لأهل نجران: "لأبعثن عليكم ـ يعني ـ أميناً حق أمين" فأشرف أصحابه فبعث أبا عبيدة رضي الله عنه1.
وروى مسلم بإسناده إلى أنس أن أهل اليمن قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ابعث معنا رجلاً يعلمنا السنة والإسلام قال: فأخذ بيد أبي عبيدة فقال: "هذا أمين هذه الأمة".
وروى أيضاً: بإسناده إلى حذيفة قال: جاء أهل نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله ابعث إلينا رجلاً أميناً فقال: "لأبعثن إليكم رجلاً أميناً حق أمين" قال: فاستشرف لها الناس"2.
إنها لمنقبة عظيمة خص بها أبو عبيدة رضي الله عنه حق لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتطلعوا لها "وكان تطلعهم رضي الله عنهم إلى الولاية ورغبتهم فيها حرصاً منهم على أن يكون أحدهم هو الأمين الموعود في الحديث لا حرصاً على الولاية من حيث هي"3.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: "قوله لأهل نجران هم أهل بلد قريب من اليمن وهم العاقب واسمه عبد المسيح والسيد ومن معهما، ذكر ابن سعد أنهم وفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم في سنة تسع وسماهم4 ... ووقع في حديث أنس عند مسلم "أن أهل اليمن قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ابعث معنا رجلاً يعلمنا السنة والإسلام فأخذ بيد أبي عبيدة وقال: "هذا أمين هذه الأمة" فإن كان الراوي تجوز عن أهل نجران بقوله: "أهل اليمن" لقرب نجران من اليمن وإلا فهما
__________
= 16/238، تحفة الأحوذي 10/260.
1ـ صحيح البخاري 2/305.
2ـ هذان الحديثان في صحيح مسلم 4/1881-1882.
3ـ انظر شرح النووي على صحيح مسلم 15/192، فتح الباري 7/94، عمدة القاريء 16/239.
4ـ انظر الطبقات الكبرى لابن سعد 3/412.(1/312)
واقعتان والأول أرجح"أ. هـ1.
2- ومن مناقبه العالية رضي الله عنه أنه كان أحد من يصلح للخلافة، وأحد الناس الذين كانوا أحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
روى الإمام مسلم بإسناده إلى ابن أبي مليكة قال: سمعت عائشة وسئلت: من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخلفاً لو استخلفه؟ قالت: أبو بكر فقيل لها: ثم من بعد أبي بكر قالت: عمر ثم قيل لها: من بعد عمر؟ قالت: أبو عبيدة بن الجراح ثم انتهت إلى هذا"2.
وهذا الأثر عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تضمن منقبة عظيمة لأبي عبيدة وهي اعتقادها رضي الله عنها أنه صالح للخلافة وأنه أهل لها رضي الله عنه وأرضاه.
وروى الترمذي وابن ماجه بإسناديهما إلى عبد الله بن شقيق قال: قلت لعائشة: أي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان أحب إليه؟ قالت: أبو بكر قلت: ثم من؟ قالت: ثم عمر، قلت: ثم من؟ قالت ثم أبو عبيدة بن الجراح قلت: ثم من؟ فسكتت"3.
وفي هذا بيان فضيلة لأبي عبيدة وهي أنه كان أحد الذين هم أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
3- ومن مناقبه رضي الله عنه أن الفاروق رضي الله عنه كان يكره مخالفته فيما يراه وأنه كان جليل القدر عنده.
فقد روى الشيخان في صحيحيهما عن ابن عباس رضي الله عنهما أن عمر لما خرج إلى الشام وأخبر أن الوباء قد وقع به فجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واستشارهم فاختلفوا فرأى عمر رأي من رأى الرجوع فرجع فقال له أبو عبيدة: أفراراً من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك
__________
1ـ فتح الباري 7/93-94.
2ـ صحيح مسلم 4/1856.
3ـ سنن الترمذي 5/317، سنن ابن ماجه 1/38.(1/313)
قالها يا أبا عبيدة وكان عمر يكره خلافه، نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله ... إلخ الحديث1.
قال الحافظ رحمه الله تعالى: "وذلك دال على جلالة أبي عبيدة عند عمر"2.
4- ومن مناقبه رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قرنه في المدح بالشيخين.
روى الترمذي بسنده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم الرجل أبو بكر، نعم الرجل عمر، نعم الرجل أبو عبيدة بن الجراح" ثم قال: هذا حديث حسن إنما نعرفه من حديث سهيل3.
في هذا الحديث فضيلة ظاهرة لأبي عبيدة حيث قرنه عليه الصلاة والسلام في المدح والثناء عليه مع أبي بكر الصديق وعمر الفاروق رضي الله عنهم جميعاً.
5- ومن مناقبه العالية الرفيعة شهادة المصطفى عليه الصلاة والسلام له بالجنة ضمن جماعة من الصحابة كما تقدم في حديث العشرة المبشرين بالجنة، وهو ما رواه الترمذي وغيره بسنده إلى عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة وسعد بن أبي وقاص في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة" 4.
6- ومن مناقبه رضي الله عنه أن وفاته كانت شهادة في سبيل الله فقد مات بالطاعون الذي حصل بأرض الشام زمن الفاروق رضي الله عنه وقد
__________
1ـ صحيح البخاري 4/14-15، صحيح مسلم 4/1740-1741.
2ـ الإصابة 2/244.
3ـ سنن الترمذي 5/317.
4ـ المصدر السابق 5/311.(1/314)
أخبر عليه الصلاة والسلام أن من كانت وفاته بسبب هذا الداء فإنه شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد وقد جمع الله لأبي عبيدة بين هذين الوصفين. فقد روى الإمام مسلم في صحيحه بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما تعدون الشهيد فيكم" قالوا: يا رسول الله من قتل في سبيل الله فهو شهيد، قال: "إن شهداء أمتي إذا لقليل" قالوا: فمن هم يا رسول الله قال: "من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات في البطن فهو شهيد" قال ابن مقسم: "أشهد على أبيك في هذا الحديث أنه قال: والغريق شهيد "1 "وهذه الموتات إنما كانت شهادة بتفضيل الله تعالى بسبب شهدتها وكثرة ألمها"2.
قال النووي رحمه الله تعالى: "قال العلماء: المراد بشهادة هؤلاء كلهم غير المقتول في سبيل الله أنهم يكون لهم في الآخرة ثواب الشهداء وأما في الدنيا فيغسلون ويصلى عليهم ... والشهداء ثلاثة أقسام: شهيد في الدنيا والآخرة وهو المقتول في حرب الكفار وشهيد في الآخرة دون أحكام الدنيا وهم هؤلاء المذكورون هنا وشهيد في الدنيا دون الآخرة وهو من غل في الغنيمة أو قتل مدبراً"3.
"وقد اتفق العلماء على أن أبا عبيدة مات في طاعون عمواس بالشام سنة ثماني عشرة"4.
ولما دفن رضي الله عنه خطب الناس معاذ بن جبل خطبة بين فيها الكثير من فضائل أبي عبيدة. وقد ذكر أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى أبي سعيد المقبري قال: لما طعن أبو عبيدة قال: يا معاذ صل فصلى معاذ بالناس ثم مات أبو عبيدة
__________
1ـ صحيح مسلم 3/1521.
2ـ انظر شرح النووي على صحيح مسلم 13/63.
3ـ المصدر السابق.
4ـ الاستيعاب على حاشية الإصابة 3/3، الإصابة 2/245.(1/315)
ابن الجراح فقام معاذ في الناس فقال: يا أيها الناس توبوا إلى الله من ذنوبكم توبة نصوحاً فإن عبداً لله يلقى الله تائباً من ذنبه إلا كان حقاً على الله أن يغفر له ثم قال: إنكم أيها الناس قد فجعتم برجل والله ما أزعم أني رأيت من عباد الله عبداً قط أقل غمزاً ولا أبر صدراً ولا أبعد غائلة ولا أشد حباً للعاقبة ولا أنصح للعامة منه فترحموا عليه رحمه الله ثم اصحروا1 للصلاة عليه فوالله لا يلي عليكم مثله أبداً فاجتمع الناس وأخرج أبو عبيدة وتقدم معاذ فصلى عليه حتى إذا أتي به قبره دخل قبره معاذ بن جبل وعمرو بن العاص والضحاك بن قيس فلما وضعوه في لحده وخرجوا فشنوا عليه التراب فقال معاذ بن جبل: يا أبا عبيدة لأثنين عليك ولا أقول باطلاً أخاف أن يلحقني بها من الله مقت كنت والله ما علمت من الذاكرين الله كثيراً ومن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً ومن الذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً وكنت والله من المخبتين المتواضعين الذين يرحمون اليتيم والمسكين ويبغضون الخائنين المتكبرين"2.
فهذا الثناء من معاذ رضي الله عنه كله تضمن بيان فضائل لأبي عبيدة بن الجراح ذلك هو أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح وتلك طائفة من مناقبه التي دلت على أنه جليل القدر رفيع المنزلة رضي الله عنه وأرضاه.
__________
1ـ أي: اخرجوا.
2ـ المستدرك 3/263-264.(1/316)
6) سعيد بن زيد:
هو أبو الأعور سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى بن رباح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي القرشي العدوي كان أبوه زيد بن عمرو بن نفيل أحد الحنفاء الذين طلبوا دين الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام قبل أن يبعث النبي عليه الصلاة والسلام، وكان لا يذبح للأصنام ولا يأكل الميتة والدم وكان يقول لقومه: يا معشر قريش والله لا آكل ما ذبح لغير الله، والله ما أحد على دين إبراهيم غيري"1.
وأم سعيد بن زيد فاطمة بنت بعجة بن مليح الخزاعية كانت من السابقين إلى الإسلام وهو ابن عم عمر بن الخطاب وصهره كانت تحته فاطمة بنت الخطاب أخت عمر بن الخطاب وكانت أخته عاتكة بنت زيد بن عمرو تحت عمر بن الخطاب وكان سعيد بن زيد من السابقين الأولين إلى الإسلام وأحد العشرة المبشرين بالجنة، أسلم قبل عمر بن الخطاب هو وزوجته فاطمة، وهاجرا، وكان من سادات الصحابة قال عروة والزهري وموسى بن عقبة ومحمد بن إسحاق والواقدي وغير واحد: لم يشهد بدراً لأنه قد كان بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وطلحة بن عبيد الله بين يديه يتجسسان أخبار قريش، فلم يرجعا حتى فرغ من بدر فضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهميهما وأجرهما، ولم يذكره عمر في أهل الشورى لئلا يحابي بسبب قرابته من عمر فيولى فتركه لذلك ولم يتول بعده ولاية وما زال كذلك حتى مات"2.
وقد وردت بعض الأحاديث المتعدد المصرحة بفضله رضي الله عنه ومنها:
1- ما رواه البخاري بإسناده إلى قيس بن أبي حازم قال: سمعت سعيد بن زيد يقول للقوم في مسجد الكوفة يقول: والله لقد رأيتني وإن عمر لموثقي
__________
1ـ أخرجه ابن عبد البر في الاستيعاب انظر: الإصابة 2/4 "حاشية".
2ـ انظر ترجمته في الطبقات الكبرى لابن سعد 3/372، الاستيعاب على حاشية الإصابة 2/2-8، البداية والنهاية 8/62، الرياض النضرة في مناقب العشرة 4/337، الإصابة 2/44.(1/317)
على الإسلام قبل أن يسلم عمر ولو أن أحداً أرفض1 للذي صنعتم بعثمان لكان محقوقاً أن يرفض2.
ففي هذا بيان فضيلة ظاهرة لسعيد رضي الله عنه وهي أنه كان ممن حظي بشرف السبق إلى الإسلام وأن إسلامه كان قبل إسلام الفاروق رضي الله عنه إذ أنه بين أن صنع عمر هذا به كان قبل أن يسلم.
قال أبو عبد الله الحاكم: "أسلم سعيد بن زيد بن عمرو قبل أن يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم وقبل أن يدعو فيها الناس إلى الإسلام"3.
2- ومن مناقبه العالية شهادة النبي صلى الله عليه وسلم له بالجنة مع جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
روى الترمذي بإسناده إلى عبد الرحمن بن حميد أن سعيد بن زيد حدثه في نفر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "عشرة في الجنة أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة وعلي وعثمان والزبير وطلحة وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة وسعد ابن أبي وقاص" قال: فعد هؤلاء التسعة وسكت عن العاشر فقال القوم: ننشدك الله يا أبا الأعور من العاشر؟ قال: نشدتموني بالله أبو الأعور في الجنة" 4.
30- ومن مناقبه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه من الشهداء. فقد روى الترمذي بإسناده إلى سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أنه قال: "أشهد على التسعة أنهم في الجنة ولو شهدت على العاشر لم آثم قيل: وكيف ذاك؟ قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بحراء فقال: "اثبت حراء فإنه ليس عليك إلا نبي
__________
1ـ أي: زال من مكانه.
2ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 7/176.
3ـ المستدرك 3/438.
4ـ سنن الترمذي 5/312 وأخرجه أيضاً الإمام أحمد في المسند 1/187، وأبو داود في سننه 2/515، وأخرجه ابن ماجه في سننه 1/48.(1/318)
أو صديق أو شهيد" قيل: ومن هم؟ قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف قيل: فمن العاشر قال: أنا" قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح وقد روى من غير وجه عن سعيد بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم"1 ففي هذا فضيلة عظيمة لسعيد بن زيد رضي الله عنه حيث شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالشهادة وإن مات على فراشه فهو شهيد لخبر الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام بذلك.
وكانت وفاته رضي الله عنه سنة إحدى وخمسين وقيل سنة اثنتين وخمسين وقد غسله سعد وحمل من العقيق على رقاب الرجال إلى المدينة"2.
قال الشوكاني رحمه الله تعالى مبيناً فضل سعيد بن زيد رضي الله عنه: "ويكفي سعيد بن زيد أنه أحد العشرة المبشرين بالجنة وأنه شهد أحداً وما بعده من المشاهد كلها وصار من جملة أهل بدر بما ضربه له رسول الله صلى الله عليه وسلم من السهم والأجر"أ. هـ3.
ذلك هو سعيد بن زيد وتلك طائفة من مناقبه وبه رضي الله عنه نختم فضل العشرة المبشرين بالجنة الذين قدمنا فضائلهم التي دلت على مكانتهم وعلو منزلتهم، فيجب على المسلم أن يعتقد اعتقاداً جازماً أنهم من أهل الجنة بأعيانهم كما أخبر بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} وكلهم رضي الله عنهم من قريش الذين سبقوا إلى الإسلام وهاجروا إلى الله ورسوله وتركوا ديارهم وأموالهم بغية نصرة دين الإسلام ورفع رايته.
__________
1ـ سنن الترمذي 5/315، وأخرجه الإمام أحمد في المسند 1/187، وأبو داود في سننه 2/515، وابن ماجه 1/48 والحاكم في المستدرك 3/316-317، وأبو نعيم في الحلية 1/95، الطبقات لابن سعد 3/383.
2ـ البداية والنهابة 8/62 وانظر الطبقات الكبرى لابن سعد 3/384-385.
3ـ در السحابة في مناقب القرابة والصحابة ص/257.(1/319)
الفصل الرابع: ما جاء في فضل الصحابة من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم
المبحث الأول: المراد بأهل البيت
...
المبحث الأول: المراد بأهل البيت
لقد بين علماء العربية وأئمة الدين معنى هذه الكلمة المركبة من المضاف والمضاف إليه بياناً شافياً أوضحوا فيه أن أول من يدخل في هذه الكلمة أزواجه رضي الله عنهن جميعاً خلافاً للرافضة الذين يزعمون أن المراد من أهل البيت هم أربعة فقط علي وفاطمة والحسن والحسين1 وأخرجوا منهم كل من سواهم وحصرهم أهل البيت في هؤلاء الأربعة مخالف لما قرره أئمة اللغة في المراد "بأهل البيت" بل مخالف للكتاب والسنة ولما قاله أئمة الدين فقد جاء في مقاييس اللغة لابن فارس أن الخليل بن أحمد قال: "أهل الرجل زوجه، والتأهل التزوج وأهل الرجل أخص الناس به وأهل البيت سكانه وأهل الإسلام من يدين به"2.
وقال الراغب الأصفهاني: "أهل الرجل من يجمعه وإياهم نسب أو دين أو ما يجري مجراهما من صناعة وبيت وبلد، فأهل الرجل في الأصل من يجمعه وإياهم مسكن واحد، ثم تجوز به فقيل: أهل بيت الرجل لمن يجمعه وإياهم نسب وتعورف في أسرة النبي عليه الصلاة والسلام مطلقاً إذا قيل أهل البيت لقوله ـ عز وجل ـ {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} 3 وعبر بأهل الرجل عن امرأته، وأهل الإسلام الذين يجمعهم ... إلى أن قال: وتأهل الرجل إذا تزوج ومنه قيل: أهلك الله في الجنة أي: زوجك فيها وجعل
__________
1ـ تفسير القمي 2/193، تفسير الكاشاني 2/351-352.
2ـ مقاييس اللغة 1/150.
3ـ سورة الأحزاب آية/33.(1/325)
لك فيها أهلاً يجمعك وإياهم"1.
وجاء في لسان العرب لابن منظور: "وأهل المذهب: من يدين به، وأهل الإسلام من يدين به وأهل الأمر ولاته، وأهل البيت سكانه وأهل الرجل: أخص الناس به، وأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم أزواجه وبناته وصهره أعني علياً عليه السلام، وقيل: نساء النبي صلى الله عليه وسلم ... إلى أن قال: والتأهل: التزوج، والآهل الذي له زوجة وعيال، والعزب الذي لا زوجة له ... وآل الرجل أهله وآل الله ورسوله أولياؤه"2.
وجاء في تاج العروس: "والأهل للمذهب من يدين به ويعتقده والأهل للرجل زوجته ويدخل فيه أولاده وبه فسر قوله تعالى {وَسَارَ بِأَهْلِهِ} 3 أي: زوجته وأهله والأهل للنبي صلى الله عليه وسلم أزواجه وبناته وصهره علي رضي الله عنه أو نساؤه وقيل: أهله الرجال الذين هم آله ويدخل فيه الأحفاد والذريات ومنه قوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} 4 وقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ} 5 وقوله تعالى: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} 6 وإن أهل كل نبي أمته وأهل ملته ومنه قوله تعالى: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ} 7.
وجاء في المصباح المنير8: أهل الشخص هم ذوو قرابته وقد أطلق على أهل بيته وعلى الأتباع.
__________
1ـ المفردات في غريب القرآن ص/29.
2ـ لسان العرب 11/29-30.
3ـ سورة القصص آية/29.
4ـ سورة طه آية/132.
5ـ سورة الأحزاب آية/33.
6ـ سورة هود آية/73.
7ـ تاج العروس 7/217 والآية رقم/55 من سورة مريم.
8ـ 1/29.(1/326)
فهذه النصوص المتقدم ذكرها عن أئمة اللغة أوضحت المراد بكلمة "أهل البيت" وأنها تطلق أصلاً على الأزواج خاصة، ثم تستعمل في الأولاد والأقارب وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى في غير ما آية: قال تعالى في سياق قصة خليل الله إبراهيم لما جاءته رسل الله بالبشرى: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} 1 فالمراد بأهل البيت في هذه الآية هي زوجة إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه.
وقال تعالى في سياق موسى عليه السلام: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً} 2 فالمراد بالأهل في هذه الآية هي امرأته لأنه لم يكن مع موسى غيرها.
وقد وردت لفظة "أهل البيت" في سياق الخطاب لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً * وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً} 3.
فمن له أدنى إلمام بكتاب الله تعالى يفهم من هاتين الآيتين أن المراد "بأهل البيت" هن أزواجه عليه الصلاة والسلام لأن صدر الآية "وقرن" وما قبلها وما بعدها من الآيات لم يخاطب بها إلا أمهات المؤمنين رضي الله عنهن وأرضاهن.
__________
1ـ سورة هود آية/71-73.
2ـ سورة القصص آية/29.
3ـ سورة الأحزاب آية/33-34.(1/327)
قال القرطبي رحمه الله تعالى: "والذي يظهر من الآية أنها عامة في جميع أهل البيت من الأزواج وغيرهم وإنما قال: "ويطهركم" لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلياً وحسناً وحسيناً كانوا فيهم وإذا اجتمع المذكر والمؤنث غلب المذكر فاقتضت الآية أن الزوجات من أهل البيت لأن الآية فيهن والمخاطبة لهن يدل عليه سياق الكلام"أ. هـ1.
وقال العلامة ابن القيم بعد أن ساق الآيات التي وجه فيها الخطاب لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في "سورة الأحزاب"2 قال: "فدخلن في أهل البيت لأن هذا الخطاب كله في سياق ذكرهن فلا يجوز إخراجهن من شيء منه والله أعلم"أ. هـ3.
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: "وقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} نص في دخول أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في أهل البيت ههنا لأنهن سبب نزول هذه الآية وسبب النزول داخل فيه قولاً واحداً إما وحده على قول أو مع غيره على الصحيح ... إلى أن قال: "ثم الذي لا يشك فيه من تدبر القرآن أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم داخلات في قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} فإن سياق الكلام معهن ولهذا قال تعالى بعد هذا كله: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} أي: واعلمن بما ينزل الله ـ تبارك وتعالى ـ على رسوله صلى الله عليه وسلم في بيوتكن من الكتاب والسنة قاله قتادة وغير واحد: واذكرن هذه النعمة التي خصصتن بها من بين الناس أن الوحي ينزل في بيوتكن دون سائر الناس، وعائشة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما أولاهن بهذه النعمة وأحظاهن بهذه الغنيمة وأخصهن من هذه الرحمة العميمة فإنه لم ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي في
__________
1ـ الجامع لأحكام القرآن 14/183.
2ـ سورة الأحزاب آية/30-34.
3ـ جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام ص/117.(1/328)
فراش امرأة سواها كما نص على ذلك صلوات الله وسلامه عليه قال بعض العلماء رحمهم الله: لأنه لم يتزوج بكراً سواها ولم ينم معها رجل في فراشها سواه صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها فناسب أن تخصص بهذه المزية وأن تفرد بهذه المرتبة العلية ولكن إذا كان أزواجه من أهل بيته فقرابته أحق بهذه التسمية كما تقدم في الحديث "وأهل بيتي أحق" 1.
ولقد بين صلى الله عليه وسلم المراد "بأهل البيت" وأن المقصود أولا بذلك هن أزواجه عليه الصلاة والسلام فقد روى البخاري بإسناده إلى أنس بن مالك في قصة زواجه عليه الصلاة والسلام بزينب بنت جحش وفيه أنه خرج فانطلق إلى حجرة عائشة فقال: "السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله" فقالت: وعليك السلام ورحمة الله كيف وجدت أهلك بارك الله لك فتقرى حجر نسائه كلهن يقول لهن كما يقول لعائشة ويقلن له كما قالت عائشة ... الحديث2.
فقد بين عليه الصلاة والسلام بهذا أن نساءه داخلات في أهل بيته فلا ينازع في ذلك إلا من طبع قلبه على القدح في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هم صفوة هذه الأمة رضي الله عنهم وأرضاهم.
وقد ذكر العلامة ابن القيم العلامة ابن القيم أن الأئمة اختلفوا في تحديد المراد "بآل البيت" على أقوال: قال رحمه الله: واختلف في آل النبي صلى الله عليه وسلم على أربعة أقوال:
__________
1ـ تفسير القرآن العظيم 5/452، 458 وقوله: "كما تقدم في الحديث "وأهل بيتي أحق" يشير إلى حديث رواه أحمد في المسند 4/107 عن أبي عمار قال: دخلت على واثلة بن الأسقع وعنده قوم فذكروا علياً فلما قاموا قال لي: ألا أخبرك بما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: بلى، قال: أتيت فاطمة رضي الله عنها أسألها عن علي قالت: توجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلست أنتظره حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه علي وحسن وحسين رضي الله عنهم أخذ كل واحد منهما بيده حتى دخلا فأدنا علياً وفاطمة فأجلسهما بين يديه وأجلس حسناً وحسيناً كل واحد منهما على فخذه ثم لف عليهم ثوبه أو قال كساء ثم تلا هذه الآية {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} وقال: " اللهم هؤلاء أهل بيتي وأهل بيتي أحق".
2ـ صحيح البخاري 3/177.(1/329)
فقيل: هم الذين حرمت عليهم الصدقة وفيهم ثلاثة أقوال للعلماء:
أحدها: أنهم بنو هاشم، وبنو المطلب وهذا مذهب الشافعي وأحمد في رواية عنه.
الثاني: أنهم بنو هاشم خاصة وهذا مذهب أبي حنيفة رحمه الله ورواية عن أحمد رحمه الله واختيار ابن القاسم صاحب مالك.
الثالث: أنهم بنو هاشم ومن فوقهم إلى غالب فيدخل فيهم بنو المطلب وبنو أمية وبنو نوفل ومن فوقهم إلى بني غالب وهو اختيار أشهب من أصحاب مالك ... إلى أن قال: وهذا القول في الآل أعني أنهم الذين تحرم عليهم الصدقة هو منصوص الشافعي رحمه الله وأحمد والأكثيرين وهو اختيار جمهور أصحاب أحمد والشافعي.
القول الثاني: أن آل النبي صلى الله عليه وسلم هم ذريته وأزواجه خاصة حكاه ابن عبد البر في التمهيد: قال في "باب عبد الله بن أبي بكر في شرح حديث أبي حميد الساعدي: استدل قوم بهذا الحديث على أن آل محمد هم أزواجه وذريته خاصة لقوله في حديث مالك عن نعيم المجمر وفي حديث مالك: "اللهم صل على محمد وعلى آل محمد"1 وفي هذا الحديث يعني حديث أبي حميد: "اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته"2 قالوا: فهذا يفسر ذلك الحديث ويبين أن آل محمد هم أزواجه وذريته.
القول الثالث: أن آله صلى الله عليه وسلم أتباعه إلى يوم القيامة. حكاه ابن عبد البر عن بعض أهل العلم. وأقدم من روي عنه هذا القول جابر بن عبد الله.
القول الرابع: أن آله صلى الله عليه وسلم هم الآتقياء من أمته حكاه القاضي حسين والراغب وجماعة.
__________
1ـ الموطأ 1/165.
2ـ المصدر السابق 1/166.(1/330)
ولما فرغ رحمه الله من عرض أدلة كل قول وبين ما فيها من الصحيح والضعيف قال مرجحاً: "والصحيح هو القول الأول ويليه القول الثاني. وأما الثالث والرابع فضعيفان لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد رفع الشبهة بقوله: "إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد" 1 وقوله: " إنما يأكل آل محمد من هذا المال"2 وقوله: "اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً" 3 وهذا لا يجوز أن يراد به عموم الأمة قطعاً فأولى ما حمل عليه الآل في الصلاة الآل المذكورون في سائر ألفاظه ولا يجوز العدول عن ذلك وأما تنصيصه على الأزواج والذرية فلا يدل على اختصاص الآل بهم بل هو حجة على عدم الاختصاص بهم لما روى أبو داود من حديث نعيم المجمر عن أبي هريرة رضي الله عنه في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم "اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته كما صليت على إبراهيم" 4 فجمع بين الأزواج والذرية والأهل وإنما نص عليهم بتعيينهم ليبين أنهم حقيقون بالدخول في الآل وأنهم ليسوا بخارجين منه، بل هم أحق من دخل فيه.5
وقال الشوكاني رحمه الله تعالى: "وقد اختلف أهل العلم في أهل البيت المذكورين في الآية فقال ابن عباس وعكرمة وعطاء والكلبي ومقاتل وسعيد بن جبير: إن أهل البيت المذكورين في الآية هن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم خاصة. قالوا: والمراد من البيت بيت النبي صلى الله عليه وسلم ومساكن زوجاته لقوله تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ} وأيضاً: السياق في الزوجات: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ} إلى قوله: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً} 6.
__________
1ـ صحيح مسلم 3/753، المسند 4/166.
2ـ صحيح البخاري 2/301، صحيح مسلم 3/1380.
3ـ صحيح البخاري 4/123، صحيح مسلم 4/2281 واللفظ لمسلم.
4ـ سنن أبي داود 1/225.
5ـ جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام ص/112-119.
6ـ فتح القدير للشوكاني 4/278.(1/331)
وقال محمد عبد الرحمن المباركفوري: قال الشيخ عبد الحق في اللمعات: "اعلم أنه قد جاء في أهل البيت بمعنى من حرم الصدقة عليهم وهم بنو هاشم فيشمل آل العباس وآل علي وآل جعفر وآل عقيل وآل الحارث فإن كل هؤلاء يحرم عليهم الصدقة وقد جاء بمعنى أهله صلى الله عليه وسلم شاملاً لأزواجه المطهرات، وإخراج نسائه صلى الله عليه وسلم من أهل البيت في قوله: {وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} من أن الخطاب معهن سباقاً وسياقاً فإخراجهن مما وقع في البين يخرج الكلام عن الاتساق والانتظام.
قال الرازي: إنها شاملة لنسائه صلى الله عليه وسلم لأن سياق الآية ينادي على ذلك فإخراجهن عن ذلك وتخصيصه بغيرهن غير صحيح والوجه في تذكير الخطاب في قوله: ليذهب عنكم ويطهركم باعتبار لفظ الأهل، أو لتغليب الرجال على النساء ولو أنث الخطاب لكان مخصوصاً بهن ولا بد من القول بالتغليب على أي تقدير كان وإلا لخرجت فاطمة رضي الله عنها وهي داخلة في أهل البيت بالاتفاق1.
والذي أخلص إليه مما تقدم أن أزواجه عليه الصلاة والسلام من أهل بيته وهذا هو معتقد الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة وهو ما يلزم المسلم اعتقاده إذ المراد بأهل البيت أصلاً وحقيقة أزواجه عليه الصلاة والسلام ويدخل في أهل بيته أولاده وأعمامه وأبناؤهم.
__________
1ـ تحفة الأحوذي 10/287، وانظر التفسير الكبير للرازي 25/209.(1/332)
المبحث الثاني: ما جاء في فضل أهل البيت عموماً وزوجات النبي صلى الله عليه وسلم خصوصاً
لقد ورد الثناء في الكتاب والسنة على الصحابة من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ذكوراً وإناثاً على سبيل العموم في غير ما آية وحديث، وكما قدمنا في المبحث الذي قبل هذا أن أزواجه داخلات في أهل بيته دخولاً أولياً وقد وردت آيات قرآنية في مدحهن عموماً. أوضح الله تعالى فيها أنهن في مرتبة علية ومنزلة رفيعة.
1- قال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} 1. هذه الآية الكريمة اشتملت على فضيلة عظيمة ومنقبة رفيعة لجميع أزواجه عليه الصلاة والسلام وهي أنه تعالى: أوجب لهن حكم الأمومة على كل مؤمن مع ما لهن من شرف الصحبة للنبي صلى الله عليه وسلم.
قال القرطبي رحمه الله تعالى: "شرف الله تعالى أزواج نبيه صلى الله عليه وسلم بأن جعلهن أمهات المؤمنين أي: في وجوب التعظيم والمبرة والإجلال وحرمة النكاح على الرجال، وحجبهن رضي الله تعالى عنهن بخلاف الأمهات"2.
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: "وقوله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} أي: في الحرمة والاحترام والتوقير والإكرام والإعظام، ولكن لا تجوز الخلوة بهن ولا ينتشر التحريم إلى بناتهن وأخواتهن بالإجماع"3.
2- ومن مناقبهن العظيمة التي سجلها لهن القرآن العظيم أنهن اخترن الله
__________
1ـ سورة الأحزاب آية/6.
2ـ الجامع لأحكام القرآن 14/123.
3ـ تفسير القرآن العظيم 5/425.(1/333)
ورسوله والدار الآخرة إيثاراً منهن لذلك على الدنيا وزينتها فأعد الله لهن على ذلك ثواباً جزيلاً وأجراً عظيماً قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} 1. "هذا أمر من الله ـ تبارك وتعالى ـ لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن يخير نساءه بين أن يفارقهن فيذهبن إلى غيره ممن يحصل لهن عنده الحياة الدنيا وزينتها وبين الصبر على ما عنده من ضيق الحال، ولهن عند الله تعالى في ذلك الثواب الجزيل فاخترن رضي الله عنهن وأرضاهن: الله ورسوله والدار الآخرة فجمع الله تعالى لهن بعد ذلك بين خير الدنيا وسعادة الآخرة"2.
وقد روى البخاري بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه بدأ بي فقال: "إني ذاكر لك أمراً فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك" قالت: وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه قالت: ثم قال: "إن الله ـ جل ثناؤه ـ قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} إلى {أَجْراً عَظِيماً} " قالت: فقلت: ففي أي هذا استأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة قالت: ثم فعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما فعلت"3.
ففي هذا بيان فضيلة عظيمة ومنزلة عالية لأزواجه صلى الله عليه وسلم اللاتي هن أول ما يتناولهن لفظ "أهل البيت".
3- ومن مناقبهن العامة رضي الله عنهن جميعاً أن الله تعالى أخبر عباده أن ثوابهن على الطاعة والعمل الصالح مثلاً أجر غيرهن. قال تعالى: {وَمَنْ
__________
1ـ سورة الأحزاب آية/28-29.
2ـ تفسير القرآن العظيم 5/447.
3ـ صحيح البخاري 3/175.(1/334)
يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً} 1 فقد أخبر ـ تعالى ـ في هذه الآية أن التي تطيع الله ورسوله منهن وتعمل بما أمر الله به فإنه ـ تعالى ـ يعطيها ثواب عملها مثلي ثواب عمل غيرها من سائر نساء الناس وأعد لها في الآخرة عيشاً هنيئاً في الجنة.
قال الإمام البغوي رحمه الله تعالى: عند قوله تعالى: {وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} أي: مثل أجر غيرها قال مقاتل: مكان كل حسنة عشرين حسنة"2.
وقال الحافظ ابن كثير: عند قوله تعالى: {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً} أي: في الجنة فإنهن في منازل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أعلى عليين فوق منازل جميع الخلائق في الوسيلة التي هي أقرب منازل الجنة إلى العرش"3.
وقال أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى: "قوله: {أَجْراً عَظِيماً} المعنى: أعطاهن الله بذلك ثواباً متكاثر الكيفية والكمية في الدنيا والآخرة وذلك بين في قوله: {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} وزيادة رزق كريم معد لهن، أما ثوابهن في الآخرة فكونهن مع النبي صلى الله عليه وسلم في درجته في الجنة ولا غاية بعدها ولا مزية فوقها، وفي ذلك من زيادة النعيم والثواب على غيرهن، فإن الثواب والنعيم على قدر المنزلة وأما في الدنيا فبثلاثة أوجه:
أحدها: أنه جعلهن أمهات المؤمنين تعظيماً لحقهن، وتأكيداً لحرمتهن وتشريفاً لمنزلتهن.
الثاني: أنه حظر عليه طلاقهن ومنعه من الاستبدال بهن فقال: {لا يَحِلُّ
__________
1ـ سورة الأحزاب آية/31.
2ـ تفسير البغوي على حاشية الخازن 5/212.
3ـ تفسير القرآن العظيم 5/450.(1/335)
لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} 1.
والحكمة أنهن لما لم يخترن عليه غيره أمر بمكافأتهن في التمسك بنكاحهن.
الثالث: أن من قذفهن حد حدين كما قال مسروق والصحيح أنه حد واحد2 فالآية تضمنت بيان منزلة نساء النبي صلى الله عليه وسلم وشرفهن على سائر نساء الناس.
4- ومن مناقبهن العامة التي شرفهن بها رب العالمين وأخبر بها عباده في كتابه العزيز أنهن لسن كأحد من النساء في الفضل والشرف وعلو المنزلة. قال تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} 3. فقد بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه لا يلحقهن أحد من نساء الناس في الشرف والفضل كما بين أن هذا الفضل إنما يتم لهن بشرط التقوى لما منحهن الله من صحبة الرسول وعظيم المحل منه ونزول القرآن في حقهن4.
قال حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس في بيان معنى الآية: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} يريد ليس قدركن عندي مثل قدر غيركن من النساء الصالحات. أنتن أكرم علي وثوابكن أعظم لدي5.
وقال أبو بكر بن العربي: قوله: {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} يعني: في الفضل والشرف فإنهن وإن كن من الآدميات فلسن كإحداهن، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان من البشر جبلة، فليس منهم فضيلة ومنزلة، وشرف المنزلة لا يحتمل العثرات، فإن من يقتدى به، وترفع منزلته على المنازل جدير بأن يرتفع
__________
1ـ سورة الأحزاب آية/52.
2ـ أحكام القرآن لابن العربي 3/1533.
3ـ سورة الأحزاب آية/32.
4ـ انظر الجامع لأحكام القرآن 14/177.
5ـ تفسير البغري على حاشية تفسير الخازن 5/212.(1/336)
فعله على الأفعال ويربو حاله على الأحوال"أ. هـ1.
قال الحافظ ابن كثير: عند قوله تعالى {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} قال تعالى مخاطباً لنساء النبي صلى الله عليه وسلم بأنهن إذا اتقين الله ـ عز وجل ـ كما أمرهن فإنه لا يشبههن أحد من النساء ولا يلحقهن في الفضيلة والمنزلة"2.
5- ومن المناقب العامة لأزواجه عليه الصلاة والسلام التي نوه الله بذكرها في كتابه العزيز ما امتن به عليهن من تلاوة آياته، وما نزل من الوحي عليه عليه الصلاة والسلام في بيوتهن وهذه منقبة كبيرة ومفخرة عظيمة لهن رضي الله عنهن جميعاً قال تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً} 3 ففي هذه الآية الكريمة خطاب لأمهات المؤمنين بأن يتذكرن نعمة الله عليهن بأن جعلهن في بيوت تتلى فيها آيات الله والحكمة فما عليهن إلا أن يشكرنه تعالى ويحمدنه على ذلك وقد فعلن ذلك رضي الله عنهن وأرضاهن.
قال ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى: "وعنى بقوله: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} واذكرن ما يقرأ في بيوتكن من آيات كتاب الله والحكمة ويعني: بالحكمة ما أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحكام دين الله ولم ينزل به قرآن وذلك السنة ... وقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً} يقول تعالى ذكره: إن الله كان ذا لطف بكن إذ جعلكن في البيوت التي تتلى فيها آياته والحكمة، خبيراً بكن إذ اختاركن لرسوله أزواجاً"4.
__________
1ـ أحكام القرآن القرآن لابن العربي 3/1534-1535.
2ـ تفسير القرآن العظيم 5/451.
3ـ سورة الأحزاب آية/34.
4ـ جامع البيان 22/9.(1/337)
وقال الحافظ ابن كثير: "وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً} أي: بلطفه بكن بلغتن هذه المنزلة بخبرته بكن وأنكن أهل لذلك أعطاكن ذلك وخصكن بذلك1.
فالآية تضمنت مكانة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كلهن جميعاً حيث شرفهن الله بتلاوة آيات الله والحكمة في مساكنهن وذلك دليل على أنهن جليلات القدر رفيعات المنزلة.
6- ومن المناقب العامة التي شرف الله بها الصحابة من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم إخباره تعالى أنه طهرهم من الرجس تطهيراً، ونوه بذلك في محكم كتابه الكريم قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} 2.
هذه الآية شاملة لجميع أهل بيته عليه الصلاة والسلام من الصحابة ذكوراً وإناثاً ولا يخرج عنها فرد منهم وكلهم أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم منه تطهيراً وقد اختلف المفسرون في معنى "الرجس" على أربعة أقوال:
فقيل: الإثم. وقيل: الشرك. وقيل: الشيطان.
وقيل: الأفعال الخبيثة والأخلاق الذميمة، فالأفعال الخبيثة: كالفواحش ما ظهر منها وما بطن، والأخلاق الذميمة: كالشح والبخل والحسد وقطع الرحم3.
وقال البغوي رحمه الله تعالى: "أراد بالرجس: الإثم الذي نهى الله النساء عنه قال مقاتل: وقال ابن عباس: يعني عمل الشيطان وما ليس لله فيه رضاً وقال
__________
1ـ تفسير القرآن العظيم 5/459.
2ـ سورة الأحزاب آية/33.
3ـ أحكام القرآن لابن العربي 3/1537، زاد المسير لابن الجوزي 6/381.(1/338)
قتادة: يعني السوء وقال مجاهد: الرجس الشك وأراد بأهل البيت نساء النبي صلى الله عليه وسلم لأنهن في بيته وهو رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس"1.
فإذهاب الرجس شامل لزوجاته عليه الصلاة والسلام وغيرهن من أهل بيته من الصحابة رضي الله عنهم جميعاً، فلقد أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم منه تطهيراً. فالآية شاملة للزوجات ولعلي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم جميعاً.
أما الزوجات فلكونهن المرادات في سياق الآية، ولكونهن الساكنات في بيوته صلى الله عليه وسلم النازلات في منازله.
وأما دخول علي وفاطمة والحسن والحسين فلكونهم قرابته وأهل بيته في النسب ويؤيد ذلك ما ورد من الأحاديث المصرحة بأنهم من أهل بيته ومن تلك الأحاديث ما رواه مسلم بإسناده إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: خرج النبي صلى الله عليه وسلم غداة وعليه مرط2 مرحّل من شعر أسود فجاء الحسن ابن علي فأدخله، ثم جاء الحسين فدخل معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها ثم جاء علي فأدخله، ثم قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} 3.
قال القرطبي: "فهذه دعوة من النبي صلى الله عليه وسلم لهم بعد نزول الآية أحب أن يدخلهم في الآية التي خوطب بها الأزواج"4.
وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية أن آية التطهير من الرجس شاملة لأزواجه ولعلي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم جميعاً فقد قال رحمه الله تعالى:
__________
1ـ معالم التنزيل على تفسير الخازن 5/212.
2ـ المرط: كساء يكون من صوف وربما كان من خز أو غيره "النهاية في غريب الحديث" 4/319.
3ـ صحيح مسلم 4/1883.
4ـ الجامع لأحكام القرآن 14/184.(1/339)
وقد روى الإمام أحمد والترمذي وغيرهما عن أم سلمة أن هذه الآية لما نزلت أدار النبي صلى الله عليه وسلم كساءه على عليّ وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم فقال: "اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهي راً 1 وسنته تفسر كتاب الله وتبينه وتدل عليه وتعبر عنه فلما قال: "هؤلاء أهل بيتي" مع أن سياق القرآن يدل على أن الخطاب مع أزواجه علمنا أن أزواجه وإن كن من أهل بيته كما دل عليه القرآن فهؤلاء أحق بأن يكونوا أهل بيته لأن صلة النسب أقوى من صلة الصهر والعرب تطلق هذا البيان للاختصاص بالكمال لا للاختصاص بأصل الحكم كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس المسكين بالطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان وإنما المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يتفطن له فيتصدق عليه ولا يسأل الناس إلحافاً" 2.
بين بذلك: أن هذا مختص بكمال المسكنة بخلاف الطواف فإنه لا تكمل فيه المسكنة لوجود من يعطيه أحياناً مع أنه مسكين أيضاً: ويقال: هذا هو العالم وهذا هو العدو وهذا هو المسلم لمن كمل فيه ذلك وإن شاركه غيره في ذلك وكان دونه.
ونظير هذا في الحديث ما رواه مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى فقال: ـ"مسجدي هذا" 3 يعني مسجد المدينة مع أن سياق القرآن في قوله عن مسجد الضرار: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} 4 يقتضي أنه مسجد قباء فإنه قد تواتر أنه قال لأهل قباء: "ما هذا الطهور الذي أثنى الله عليكم به؟؟ " فقالوا: لأننا نستنجي
__________
1ـ المسند 6/292، سنن الترمذي 5/30-31.
2ـ صحيح البخاري 3/109، 2/258، سنن أبي داود 1/379، سنن النسائي 6/85-86.
3ـ صحيح مسلم 3/1015 ونصه هكذا: "هو مسجدكم هذا".
4ـ سورة التوبة آية/ 108.(1/340)
بالماء1 لكن مسجده أحق بأن يكون مؤسساً على التقوى من مسجد قباء، وإن كان كل منها مؤسساً على التقوى وهو أحق أن يقوم فيه من مسجد الضرار فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يأتي قباء كل سب راكباً وماشياً فكان يقوم في مسجده القيام الجامع يوم الجمعة ثم يقوم بقباء يوم السبت وفي كل منهما قد قام في المسجد المؤسس على التقوى ولما بين ـ سبحانه ـ أنه يريد أن يذهب الرجس عن أهل بيته ويطهرهم تطهيراً دعا النبي صلى الله عليه وسلم لأقرب أهل بيته وأعظمهم اختصاصاً به وهم: علي وفاطمة رضي الله عنهما وسيدا شباب أهل الجنة جمع الله لهم بين أن قضى لهم بالتطهير وبين أن قضى لهم بكمال دعاء النبي صلى الله عليه وسلم فكان في ذلك ما دلنا على أن إذهاب الرجس عنهم وتطهيرهم نعمة من الله ليسبغها عليهم ورحمة من الله وفضل لم يبلغوها بمجرد حولهم وقوتهم إذ لو كان كذلك لاستغنوا بهما عن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم كما يظن من يظن أنه قد استغنى في هدايته وطاعته عن إعانة الله تعالى له وهدايته إياه، وقد ثبت أيضاً بالنقل الصحيح: أن هذه الآيات لما نزلت قرأها النبي صلى الله عليه وسلم على أزواجه، وخيرهن كما أمره الله فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة، ولذلك أقرهن ولم يطلقهن حتى مات عنهن ولو أردن الحياة الدنيا وزينتها لكان يمتعهن ويسرحهن كما أمره الله ـ سبحانه ـ وتعالى فإنه صلى الله عليه وسلم أخشى الأمة لربه وأعلمهم بحدوده. ولأجل ما دلت عليه هذه الآيات من مضاعفة للأجور والوزر بلغنا عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين وقرة عين الإسلام أنه قال: "إني لأرجو أن يعطي الله للمحسن منا أجرين، وأخاف أن يجعل على المسيء منا وزرين"2. فإذن قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} شاملة لزوجاته عليه الصلاة والسلام أمهات المؤمنين وغيرهن من قرابته وأهل بيته من الصحابة فمن جعل الآية خاصة
__________
1ـ انظر الحديث في مسند أحمد 3/422، وسنن ابن ماجه 1/128.
2ـ حقوق آل البيت لشيخ الإسلام ابن تيمية ص/25-28.(1/341)
بأحد الفريقين أعمل بعض ما يجب إعماله وأهمل ما لا يجوز إهماله"1.
ولقد وردت أحاديث كثيرة تبين فضل أهل البيت عموماً ومنها:
1- روى الحاكم بإسناده إلى أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لا يبغضنا أهل البيت أحد إلا أدخله الله النار" 2.
2- وروى مسلم بإسناده إلى يزيد بن حيان قال: "انطلقت أنا وحصين بن سبرة وعمر بن مسلم إلى زيد بن أرقم فلما جلسنا إليه قال له حصين: لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعت حديثه وغزوت معه وصليت خلفه لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا ابن أخي والله لقد كبرت سني وقدم عهدي ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله صلى الله عليه وسلم فما حدثتكم فاقبلوا وما لا فلا تكلفونيه ثم قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فينا خطيباً بماء يدعى خمّاً بين مكة والمدينة فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر ثم قال: "أما بعد ألا يا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به" فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال: "وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي" فقال له حصين: ومن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده قال: ومن هم؟ قال: هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس قال: كل هؤلاء حرم الصدقة قال: نعم".
وفي رواية أخرى عن يزيد بن حيان قال: دخلنا عليه فقلنا له: لقد رأيت
__________
1ـ انظر تحفة الأحوذي بشرح الترمذي 9/67.
2ـ المستدرك 3/150 وقال عقبه: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه" وسكت عنه الذهبي في تلخيصه وأورده في سير أعلام النبلاء 2/123.(1/342)
خيراً لقد صاحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وصليت خلفه وساق الحديث غير أنه قال " ألا وإني تارك فيكم ثقلين أحدهما كتاب الله ـ عز وجل ـ هو حبل الله من اتبعه كان على الهدى ومن تركه كان على ضلالة" وفيه فقلنا: من أهل بيته نساؤه قال: لا وايم الله إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها، أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده"1.
قال ابن كثير: "هكذا وقع في هذه الرواية والأولى أولى والأخذ بها أحرى وهذه الثانية تحتمل أنه أراد تفسير الأهل المذكورين في الحديث ... إنما المراد بهم آله الذين حرموا الصدقة، أو أنه ليس المراد بالأهل الأزواج فقط بل هم مع آله وهذا الاحتمال أرجح جمعاً بينها وبين الرواية التي قبلها"أ. هـ2.
وقال النووي مبيناً وجه الجمع بين الروايتين: "فهاتان الروايتان ظاهرهما التناقض والمعروف في معظم الروايات في غير مسلم أنه قال: نساؤه لسن من أهل بيته فتتأول الرواية الأولى على أن المراد أنهن من أهل بيته الذين يساكنونه ويعولهم وأمر باحترامهم وإكرامهم وسماهم ثقلا ووعظ في حقوقهم وذكر فنساؤه داخلات في هذا كله ولا يدخلن فيمن حرم الصدقة وقد أشار إلى هذا في الرواية الأولى بقوله: "نساؤه من أهل بيته ولكن أهل بيته من حرم الصدقة فاتفقت الروايتان"أ. هـ3.
وقال القرطبي موضحاً كيفية القيام بوصية النبي صلى الله عليه وسلم تجاه أهل بيته فقال: "وهذه الوصية وهذا التأكيد العظيم يقتضي وجوب احترام أهله وإبرارهم وتوقيرهم ومحبتهم وجوب الفروض المؤكدة التي لا عذر لأحد في التخلف عنها هذا مع ما علم من خصوصيتهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وبأنهم جزء منه فإنهم أصوله التي
__________
1ـ الحديثان في صحيح مسلم 4/1873-1874.
2ـ تفسير القرآن العظيم 5/457-458.
3ـ شرح النووي على صحيح مسلم 15/180-181.(1/343)
نشأ عنها وفروعه نشأوا عنه كما قال: "فاطمة بضعة مني ... " 1.
فحديث زيد بن أرقم المتقدم تضمن فضيلة أهل بيته عليه الصلاة والسلام من الصحابة حيث قرن الوصية بهم مع وصيته بالالتزام والتمسك بكتاب الله الذي فيه الهدى والنور، فجعله عليه الصلاة والسلام أهل بيته ثقلا دليل واضح على عظم حقهم وارتفاع شأنهم وعلو منزلتهم.
ومعنى: التمسك بالكتاب امتثال ما أمر الله به فيه واجتناب ما نهى عنه قولا وعملاً ومعنى التمسك ـ بأهل بيته ـ محبتهم والمحافظة على حرمتهم والعمل بروايتهم الصحيحة والاهتداء بهديهم وسيرتهم إذا لم يكن في ذلك مخالفة للدين2.
3- وروى الحاكم بإسناده إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا بني عبد المطلب إني سألت الله لكم ثلاثاً أن يثبت قائمكم وأن يهدي ضالكم وأن يعلم جاهلكم وسألت الله أن يجعلكم جوداء نجداء رحماء فلو أن رجلاً صفن3 بين الركن والمقام فصلى وصام ثم لقي الله وهو مبغض لأهل بيت محمد دخل النار"4.
هذا الحديث تضمن ثلاث مناقب لأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وهي واضحة كما بينها النبي صلى الله عليه وسلم كما تضمن الحديث أن مبغضهم من أهل النار والعياذ بالله فالواجب على المسلم أن يحبهم ويبعد نفسه عن بغضهم.
4- حث النبي صلى الله عليه وسلم أمته على حبهم وجعل محبتهم دليلاً على محبته عليه الصلاة والسلام فقد روى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه وأحبوني
__________
1ـ ذكره عنه المناوي في كتابه "فيض القدير" 3/14-15.
2ـ انظر تحفة الأحوذي 10/288، وانظر فيض القدير للمناوي 3/15.
3ـ صفن: أي قائم انظر "النهاية في غريب الحديث" 3/39.
4ـ المستدرك 3/148-149 ثم قال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وأقره الذهبي.(1/344)
لحب الله وأحبوا أهل بيتي لحبي" 1.
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم:"وأحبوا أهل بيتي لحبي" أي: إنما تحبونهم لأني أحببتهم بحب الله تعالى لهم وقد يكون أمراً بحبهم لأن محبتهم لهم تصديق لمحبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم2.
وقد فهم وصية النبي صلى الله عليه وسلم بأهل بيته حق فهمها أبو بكر الصديق رضي الله عنه حيث دعا الناس إلى إكرامهم واحترامهم ومحبتهم.
5- فقد روى البخاري بإسناده إلى أبي بكر رضي الله عنه أنه قال: "أرقبوا محمداً في أهل بيته"3.
هذا خطاب من الصديق رضي الله عنه ووصية منه لكافة أمة محمد ببيت النبوة "والمراقبة للشيء المحافظة عليه ومعنى قول الصديق احفظوه فيهم فلا تؤذوهم ولا تسيئوا إليهم"4.
قال النووي رحمه الله تعالى: "معنى "ارقبوا" راعوه واحترموه وأكرموه"5.
6- وروى البخاري بإسناده إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: " ... والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي أن أصل من قرابتي6.
ففي قول الصديق هذا بيان فضل أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم والحث على إكرامهم واحترامهم ولقد بين رضي الله عنه بقوله هذا والذي قبله ما يجب أن يكون المسلم
__________
1ـ المصدر السابق 3/150 ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
2ـ فيض القدير للمناوي 1/178.
3ـ صحيح البخاري 2/302.
4ـ انظر فتح الباري 7/79، عمدة القاريء 16/222-223.
5ـ رياض الصالحين ص/171.
6ـ صحيح البخاري 2/301.(1/345)
عليه من الاعتقاد السليم تجاه أهل البيت رضي الله عنهم من حيث مراعاتهم وإكرامهم واحترامهم ومحبتهم فالواجب على كل مسلم أن يسلم بما أثبته الله تعالى من الفضل العام لأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وأن يقدرهم حق قدرهم ويكن لهم الاحترام والتوقير والإكرام والإعظام وأن يحفظ فيهم وصية النبي صلى الله عليه وسلم حيث وصى بمراعاتهم والإحسان إليهم ويبتعد عما يكون سبباً في الإساءة إليهم وأن يعلم أن محبتهم حب للنبي صلى الله عليه وسلم وبغضهم ذنب عظيم يجب على المسلم ألا يكون في قلبه محل لذلك وكذلك سائر الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.(1/346)
المبحث الثالث: فضل أهل بيته الذكور رضي الله عنهم
...
1) إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
تقدم معنا في الفصل الثالث من هذا الباب ذكر فضائل أبي السبطين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وفي هذا المبحث أذكر الفضل الوارد في حق غيره من أهل البيت الذكور رضي الله عنهم أجمعين. ولنبدأ هنا بذكر إبراهيم ابن المصطفى عليه الصلاة والسلام.
ولد إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم في ذي الحجة سنة ثمان من الهجرة وأمه مارية القبطية التي أهداها للنبي صلى الله عليه وسلم المقوقس صاحب الإسكندرية ولما ولد بشر النبي صلى الله عليه وسلم به أبو رافع مولاه فوهب له عبداً ومات طفلاً قبل الفطام1.
وقد وردت أحاديث كثيرة فيها بيان فضله وسرور النبي صلى الله عليه وسلم به ومن تلك الأحاديث:
1- ما رواه الإمام مسلم بإسناده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ولد لي الليلة غلام فسميته باسم أبي إبراهيم" 2.
2- وروى أيضاً بإسناده إلى أنس بن مالك قال: "ما رأيت أحداً كان أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كان إبراهيم مسترضعاً له في عوالي3 المدينة فكان ينطلق ونحن معه فيدخل البيت وإنه ليدخن وكان ظئره4 قينا5 فيأخذه فيقبله ثم يرجع قال عمرو: فلما توفي إبراهيم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن إبراهيم ابني وأنه مات في الثدي 6 وإن له..................................................
__________
1ـ انظر الطبقات الكبرى لابن سعد 1/134-135، الاستيعاب على حاشية الإصابة 1/23-27، زاد لمعاد 1/103-104، أسد الغابة 1/38-40.
2ـ صحيح مسلم 4/1807.
3ـ عوالي المدينة: هي القرى التي عند المدينة "شرح النووي" 15/76.
4ـ ظئره: أي زوج مرضعته.
5ـ قينا: أي حداد والقين: هو الحداد والصائغ "النهاية لابن الأثير" 4/135.
6ـ معناه مات: وهو في سن رضاع الثدي، أو في حال تغذيه بلبن الثدي "شرح النووي" 15/76.(1/349)
لظئرين 1 تكملان رضاعه 2 في الجنة" 3.
3- وروى الإمام البخاري بإسناده إلى البراء بن عازب قال: لما مات إبراهيم عليه السلام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن له مرضعاً في الجنة" 4.
4- وروى الإمام أحمد بإسناده إلى البراء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لإبراهيم مرضع في الجنة" 5.
5- وروى محمد بن سعد في الطبقات6 بإسناده إلى البراء بن عازب قال: لما مات إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما إن له مرضعاً في الجنة".
ومعنى هذه الأحاديث أن له مرضعاً في الجنة تكمل إرضاعه لأن لما مات كان ابن ستة عشر شهراً، أو ثمانية عشر شهراً على اختلاف الروايتين7.
فيرضع بقية السنتين فإنه تمام الرضاعة بنص القرآن "وهذا الإتمام لإرضاع إبراهيم رضي الله عنه يكون عقب موته فيدخل الجنة متصلاً بموته فيتم فيها رضاعه كرامة له ولأبيه صلى الله عليه وسلم "8.
6- وروى البخاري بإسناده إلى إسماعيل بن أبي خالد قال: قلت لابن أبي أوفى رأيت إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: مات صغيراً، ولو قضى أن يكون
__________
1ـ قال ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث: "فيه ذكر ابنه إبراهيم عليه السلام فقال: إن له طئراً في الجنة "الظئر: المرضع غير ولدها، ويقع على الذكر والأنثى"أهـ 3/154.
2ـ تكملان رضاعه "أي: تتمانه سنتين" شرح النووي على صحيح مسلم 15/76.
3ـ صحيح مسلم 4/1808.
4ـ صحيح البخاري 4/80.
5ـ المسند 4/284.
6ـ 1/139.
7ـ فتح الباري 10/579، وانظر شرح النووي على صحيح مسلم 15/76.
8ـ شرح النووي على صحيح مسلم 15/76.(1/350)
بعد محمد صلى الله عليه وسلم نبي عاش ابنه ولكن لا نبي بعده1.
قال الحافظ هكذا جزم به عبد الله بن أبي أوفى ومثل هذا لا يقال بالرأي وقد توارد عليه جماعة:
فأخرج ابن ماجه من حديث ابن عباس قال: لما مات إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن له مرضعاً في الجنة لو عاش لكان صديقاً نبياً ولأعتقت أخواله القبط" 2.
وروى أحمد وابن منده من طريق السدي: "سألت أنساً كم بلغ إبراهيم؟ قال: كان قد ملأ المهد ولو بقي لكان نبياً، ولكن لم يكن ليبقى لأن نبيكم آخر الأنبياء".
ولفظ أحمد لو عاش إبراهيم ابن النبي لكان صديقاً نبياً3 فهذه عدة أحاديث صحيحة عن هؤلاء الصحابة أنهم أطلقوا ذلك فلا أدري ما الذي حمل النووي في ترجمة إبراهيم المذكور من كتاب تهذيب الأسماء واللغات على استنكار ذلك ومبالغته حيث قال: هو باطل وجسارة في الكلام على المغيبات ومجازفة وهجوم على عظيم من الزلل4، ويحتمل أن يكون استحضر ذلك عن الصحابة المذكورين فرواه عن غيرهم ممن تأخر عنهم فقال ذلك وقد استنكر قبله ابن عبد البر في الاستيعاب الحديث المذكور فقال: هذا لا أدري ما هو وقد ولد لنوح من ليس بنبي وكما يلد غير النبي نبياً فكذا يجوز عكسه5 حتى نسب
__________
1ـ صحيح البخاري 4/80.
2ـ سنن ابن ماجه 1/484 وقد تكلم أهل العلم في سند هذا الحديث من جهة إبراهيم بن عثمان فقد قال البخاري: سكتوا عنه وقال يحيى بن معين: ليس بثقة وقال النسائي والدوالابي: متروك الحديث وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث سكتوا عنه وتركوا حديثه، وقال الجوزجاني: ساقط وقال صالح جزره: ضعيف لا يكتب حديثه. "التهذيت" 1/144.
3ـ المسند 3/281.
4ـ تهذيب الأسماء واللغات 1/103.
5ـ الاستيعاب على حاشية الإصابة 1/27.(1/351)
قائله إلى المجازفة والخوض في الأمور المغيبة بغير علم إلى غير ذلك مع أن الذي نقل عن الصحابة المذكورين إنما أتوا فيه بقضية شرطية1.
ولما مات إبراهيم رضي الله عنه حزن عليه النبي صلى الله عليه وسلم حزناً عظيماً حتى ذرفت عيناه عليه الصلاة والسلام بالدمع عليه فقد روى الإمام مسلم بإسناده إلى أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ولد لي الليلة غلام فسميته باسم أبي إبراهيم" ثم دفعه إلى أم سيف امرأة قين يقال له: أبو سيف فانطلق يأتيه واتبعته فانتهينا إلى أبي سيف وهو ينفخ بكيره قد امتلأ البيت دخاناً فأسرعت المشي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا أبا سيف أمسك جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمسك فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بالصبي فضمه إليه وقال ما شاء الله أن يقول: فقال أنس: لقد رأيته وهو يكيد بنفسه2 بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فدمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضي ربنا والله يا إبراهيم إنا بك لمحزنون" 3.
والذي أخلص إليه مما تقدم في الأحاديث أنها اشتملت على بيان فضل إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم وبيان مكانته عند المصطفى عليه الصلاة والسلام، كما دلت على أنه جليل القدر رفيع المنزلة.
__________
1ـ فتح الباري 10/579.
2ـ أي: يجود بها. ومعناه: وهو في النزع.
3ـ صحيح مسلم 4/1807-18508.(1/352)
2) الحسن بن علي رضي الله عنه:
هو أبو محمد الحسن بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف الهاشمي، سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، ابن بنته فاطمة الزهراء وريحانته، وأشبه خلق الله به في وجهه ولد للنصف من رمضان سنة ثلاث من الهجرة فحنكه رسول الله صلى الله عليه وسلم بريقه وسماه حسناً، وهو أكبر ولد أبويه، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه حباً شديداً حتى كان يقبل زبيبته1 وهو وربما مص لسانه واعتنقه وداعبه، وربما جاء ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد في الصلاة فيركب على ظهره فيقره على ذلك ويطيل السجود من أجله وربما صعد إلى المنبر2 "وكانت فاته رضي الله عنه سنة خمسين من الهجرة بالمدنية النبوية"3.
وقد وردت أحاديث كثيرة في بيان مناقبه رضي الله عنه منها ما وردت فيه منقبة خاصة به، ومنها ما فيه منقبة مشتركة بينه وبين أخيه الحسين وكذلك الحسين رضي الله عنه وردت له مناقب انفرد بها ومناقب أخرى اشترك فيها مع أخيه الحسن وسأبدأ بذكر طائفة من المناقب التي انفرد بها: كل واحد منهما، ثم أعقب ذلك بذكر طائفة من المناقب التي اشتركا فيها معاً رضي الله عنهما، فمن المناقب التي انفرد بها الحسن رضي الله عنه:
1- ما رواه البخاري بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: عانق النبي صلى الله عليه وسلم الحسن4.
وروى البخاري بإسناده إلى أبي بكر رضي الله عنه قال سمعت النبي
__________
1ـ زبيبته: الزبيبة زبدة ترى في شدق الإنسان إذا أكثر الكلام، وقيل: قرحة سوداء تظهر على الجبين، انظر لسان العرب 1/445.
2ـ البداية والنهاية 8/36، وانظر الاستيعاب على حاشية الإصابة 1/368-377، صفة الصفوة 1/758-76، حلية الأولياء 2/35، الإصابة 1/327-330، سير أعلام النبلاء 3/245.
3ـ صفة الصفوة 1/762، الإصابة 1/330، فتح الباري 7/95.
4ـ صحيح البخاري 2/305.(1/353)
صلى الله عليه وسلم على المنبر والحسن إلى جنبة ينظر إلى الناس مرة وإليه مرة ويقول: "ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين" 1.
هذا الحديث فيه منقبة للحسن رضي الله عنه فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه سيد. قال ابن الأثير: "قيل أراد به الحليم لأنه قال في تمامه: " وإن الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين" 2.
وجاء في تحفة الأحوذي: "فيه أن السيادة لا تختص بالأفضل بل هو الرئيس على القوم والجمع سادة وهو مشتق من السؤدد وقيل السواد لكونه يرأس على السواد العظيم من الناس: أي الأشخاص الكثيرة ولعل الله أن يصلح به بين فئتين تثنية فئة وهي الفرقة"3.
ووصفه عليه الصلاة والسلام للفئتين بالعظيمتين كما في رواية عند البخاري4 "لأن المسلمين كانوا يومئذ فرقتين فرقة مع الحسن رضي الله عنه وفرقة مع معاوية وهذه معجزة عظيمة من النبي صلى الله عليه وسلم حيث أخبر بهذا فوقع مثل ما أخبر، وأصل القضية أن علي بن أبي طالب لما ضربه عبد الرحمن بن ملجم المرادي يوم الجمعة وليلة السبت وتوفي ليلة الأحد لإحدى عشرة ليلة بقيت من رمضان سنة أربعين من الهجرة وبويع لابنه الحسن بالخلافة في شهر رمضان من هذه السنة وأقام الحسن أياماً مفكراً في أمره ثم رأى اختلاف الناس فرقة من جهته وفرقة من جهة معاوية ولا يستقيم الأمر، ورأى النظر في إصلاح المسلمين وحقن دمائهم أولى من النظر في حقه سلم الخلافة لمعاوية في الخامس من ربيع الأول من سنة إحدى وأربعين، وقيل من ربيع الآخر وقيل في غرة جمادى الأولى وكانت خلافته ستة أشهر إلا أياماً وسمي هذا العام عام الجماعة وهذا الذي أخبر به النبي
__________
1ـ صحيح البخاري 2/306.
2ـ النهاية في غريب الحديث 3/417.
3ـ تحفة الأحوذي 10/277.
4ـ صحيح البخاري 2/114.(1/354)
صلى الله عليه وسلم "لعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين" 1.
"فالحديث فيه علم من أعلام النبوة، ومنقبة للحسن بن علي فإنه ترك الملك لا لقلة ولا لذلة ولا لعلة بل لرغبته فيما عند الله لما رآه من حقن دماء المسلمين فراعى أمر الدين ومصلحة الأمة2.
3- وروى الشيخان في صحيحهما عن البراء بن عازب قال: رأيت الحسن بن علي على عاتق النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "اللهم إني أحبه فأحبه" 3.
4- وروى البخاري بإسناده إلى أسامة بن زيد رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأخذه والحسن ويقول: "اللهم إني أحبهما فأحبهما" 4.
5- وروى الإمام مسلم بإسناده إلى أبي هريرة قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من النهار لا يكلمني ولا أكلمه حتى جاء سوق بني قينقاع ثم انصرف حتى أتى خباء فاطمة فقال: "أثم لكع أثم لكع" يعني "حسناً" فظننا أنه إنما تحبسه أمه لأن تغسله وتلبسه سخابا5 "فلم يلبث أن جاء يسعى حتى اعتنق كل واحد منهما صاحبه"6.
هذه الثلاثة الأحاديث فيها بيان لفضل الحسن بن علي كما تضمنت الحث على حبه رضي الله عنه وأرضاه.
6- وروى البخاري بإسناده إلى أنس رضي الله عنه قال: لم
__________
1ـ عمدة القاري 13/282، وانظر تاريخ الأمم والملوك للطبري 5/158، الكامل 3/404، سير أعلام النبلاء 3/144-145، معالم السنن 4/311.
2ـ فتح الباري 13/66.
3ـ صحيح البخاري 2/306، صحيح مسلم 4/1883.
4ـ صحيح البخاري 2/306.
5ـ سخاباً: جمعه سخب وهو قلادة من القرنفل والمسك والعود ونحوها من أخلاط الطيب يعمل على هيئة السبحة ويجعل قلادة للصبيان، النهاية في غريب الحديث 2/349.
6ـ صحيح مسلم 4/1882-1883.(1/355)
يكن أحد أشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم من الحسن بن علي1.
7- وروى أيضاً بإسناده إلى عقبة بن الحارث قال: رأيت أبا بكر رضي الله عنه وحمل الحسن وهو يقول: بأبي شبيه بالنبي ليس شبيها بعلي وعلي يضحك2.
فكونه رضي الله عنه شبه جده عليه الصلاة والسلام في الخلق منقبة عظيمة له وفضيلة ظاهرة.
8- وروى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه أنه لقى الحسن بن علي فقال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بطنك فاكشف الموضع الذي قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أقبله قال: وكشف فقبله"3.
فتقبيل المصطفى عليه الصلاة والسلام لأبي محمد الحسن بن علي رضي الله عنهما منقبة عظيمة، وفضيلة ظاهرة، ولذلك حرص أبو هريرة على أن يقبله في الموضع الذي قبله فيه النبي صلى الله عليه وسلم لإظهار هذه المنقبة العظيمة.
9- وروى أيضاً بإسناده إلى أبي سعيد المقبري قال: كنا مع أبي هريرة فجاء الحسن بن علي بن أبي طالب علينا فسلم فرددنا عليه السلام ولم يعلم به أبو هريرة فقلنا له يا أبا هريرة هذا الحسن بن علي قد سلم علينا فلحقه وقال: وعليك السلام يا سيدي ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنه سيد"4.
فإخبار النبي صلى الله عليه وسلم بأن الحسن سيد مفخرة عظيمة وميزة شريفة له رضي الله عنه وأرضاه.
10- وروى أيضاً بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال لا أزال أحب هذا الرجل بعد ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع ما يصنع رأيت الحسن في
__________
1ـ صحيح البخاري 2/306.
2ـ المصدر السابق.
3ـ المستدرك 3/168، ثم قال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وأقره الذهبي.
4ـ المصدر السابق 3/169 ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.(1/356)
حجر النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدخل أصابعه في لحية النبي والنبي صلى الله عليه وسلم يدخل لسانه في فمه ثم قال: "اللهم إني أحبه فأحبه" 1.
11- وروى الإمام أحمد بإسناده إلى معاوية رضي الله عنه قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمص لسانه أو قال شفتيه ـ يعني الحسن بن علي ـ وإنه لن يعذب لسان أو شفتان يمصهما رسول الله صلى الله عليه وسلم"2.
فإدخاله عليه الصلاة والسلام لسانه في فم الحسن رضي الله عنه ومص لسانه وإخباره بأنه يحبه ودعا الله تعالى أن يحبه منقبة عظيمة تدل على علو شأنه وبيان مكانته عند النبي صلى الله عليه وسلم وقد كان الحسن رضي الله عنه مكرماً معززاً عند الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين الذين ولوا أمر الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الحافظ ابن كثير: "وقد كان الصديق يجله ويعظمه ويكرمه ويحبه ويتفداه، وكذلك عمر بن الخطاب، فروى الواقدي عن موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث التميمي عن أبيه أن عمر لما عمل الديوان فرض للحسن والحسين مع أهل بدر في خمسة آلاف خمسة آلاف، وكذلك كان عثمان بن عفان يكرم الحسن والحسين ويحبهما وقد كان الحسن بن علي يوم الدار وعثمان بن عفان محصور عنده ومعه السيف متقلداً به يحاجف عن عثمان، فخشي عثمان عليه فأقسم عليه ليرجعن إلى منزلهم تطييباً لقلب علي، وخوفاً عليه رضي الله عنهم وكان علي يكرم الحسن إكراماً زائداً ويعظمه ويبجله وقد قال له يوماً: يا بني ألا تخطب حتى أسمعك؟ فقال: إني أستحي أن أخطب وأنا أراك فذهب علي فجلس حيث لا يراه الحسن، ثم قام الحسن في الناس خطيباً وعلي يسمع فأدى خطبة بليغة فصيحة فلما انصرف جعل علي يقول: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ
__________
1ـ المستدرك 3/169 ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
2ـ المسند مع الفتح الرباني 23/167 وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 9/177 وقال أحمد ورجاله رجال الصحيح.(1/357)
سَمِيعٌ عَلِيمٌ} 1.
وقد كان ابن عباس يأخذ الركاب للحسن والحسين إذا ركبا، ويرى هذا من النعيم عليه، وكانا إذا طافا بالبيت يكاد الناس يحطمونهما مما يزدحمون عليهما للسلام عليهما رضي الله عنهما وأرضاهما.
وكان ابن الزبير يقول: "والله ما قامت النساء عن مثل الحسن بن علي.
وقال غيره: كان الحسن إذا صلى الغداة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس في مصلاه يذكر الله حتى يرتفع الشمس، ويجلس إليه من يجلس من سادات الناس يتحدثون عنده، ثم يقوم فيدخل على أمهات المؤمنين فيسلم عليهن وربما أتحفنه، ثم ينصرف إلى منزله"2 تلك طائفة من مناقب الحسن بن علي التي انفرد بها رضي الله عنه وكلها تدل على أنه جليل القدر رفيع المنزلة رضي الله عنه وأرضاه.
__________
1ـ سورة آل عمران آية/ 34.
2ـ البداية والنهاية 8/40.(1/358)
3) الحسين بن علي رضي الله عنه:
هو أبو عبد الله الحسين بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم القرشي الهاشمي السبط الشهيد بكربلاء، ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة الزهراء وريحانته من الدنيا، عاصر النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه إلى أن توفي وهو عنه راض، ولكنه كان صغيراً، ثم كان الصديق يكرمه ويعظمه، وكذلك عمر وعثمان وصحب أباه وروى عنه، وكان معظماً موقراً ولم يزل في طاعة أبيه حتى قتل، ولد بعد أخيه الحسن، وكان مولده سنة أربع للهجرة، ومات رضي الله عنه قتلاً في يوم عاشوراء من شهر الله المحرم سنة إحدى وستين هجرية1 بكربلاء من أرض العراق وذلك لما مات معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه واستخلف من بعده ابنه يزيد قام أهل الكوفة بمكاتبة الحسين بن علي رضي الله عنه وذكروا له أنهم في طاعته فخرج إليهم الحسين فسبقه عبيد الله بن زياد إلى الكوفة فخذل غالب الناس عنه فتأخروا رغبة ورهبة، وقتل ابن عمه مسلم بن عقيل، وكان الحسين قد قدمه قبله ليبايع له الناس فجهز إليه ابن زياد عسكراً فقاتلوه رضي الله عنه إلى أن قتل هو وجماعة من أهل بيته2.
وقد وردت أحاديث كثيرة في بيان مناقبه التي اختص بها وتفرد بها ومنها:
1- ما رواه البخاري بإسناده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أتي عبيد الله بن زياد برأس الحسين عليه السلام فجعل في طست فجعل ينكت وقال في حسنة شيئاً فقال أنس: كان أشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم وكان مخضوباً بالوسمة3.
__________
1ـ البداية والنهاية لابن كثير 8/162-163 وانظر الاستيعاب على حاشية الإصابة 1/377-383، سير أعلام النبلاء 3/280-321، الإصابة لابن حجر 1/331-334، أسد الغابة 2/18-22.
2ـ فتح الباري 7/95، تحفة الأحوذي 10/272.
3ـ صحيح البخاري 2/306.(1/359)
2- وفي رواية أخرى عن أنس قال لما أتى عبيد الله بن زياد برأس الحسين جعل ينكت بالقضيب ثناياه يقول: لقد كان أحسبه قال جميلاً فقلت: والله لأسوءنك إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلثم1 حيث يقع قضيبك قال فانقبض2.
3- وروى الطبراني كما في البداية والنهاية لابن كثير عن زيد بن أرقم أنه قال لابن زياد وهو ينكت بقضيبه بين ثنيتي الحسين "ارفع هذا القضيب عن هاتين الثنيتين، فوالله الذي لا إله إلا هو لقد رأيت شفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم على هاتين الثنيتين يقبلهما"3.
هذه الثلاثة الأحاديث فيها بيان فضل الحسين رضي الله عنه فقد كان رضي الله عنه أشبه أهل البيت برسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تقدم في حق الحسن "أنه لم يكن أحد أشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم من الحسن بن علي فيحصل التعارض ولكن الحافظ ابن حجر جمع بيهما فقال رحمه الله: "ويمكن الجمع بأن يكون أنس قال ما وقع في رواية الزهري في حياة الحسن لأنه يومئذ كان أشد شبهاً بالنبي صلى الله عليه وسلم من أخيه الحسين وأما ما وقع في رواية ابن سيرين فكان بعد ذلك كما هو ظاهر من سياقه أو المراد عن فضل الحسين عليه في الشبه من عدا الحسن ويحتمل أن يكون كل منهما كان أشد شبهاً في بعض أعضائه.
فقد روى الترمذي وابن حبان من طريق هانيء بن هانيء عن علي قال: الحسن أشبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين الرأس إلى الصدر والحسين أشبه النبي صلى الله عليه وسلم ما أسفل من ذلك4 ووقع في رواية عبد الأعلى عن معمر عند الإسماعيلي وفي رواية الزهري هذه وكان أشبههم وجهاً بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يؤيد حديث علي هذا والله
__________
1ـ يلثم: أي يقبل.
2ـ مجمع الزوائد 9/195 ثم قال: رواه البزار والطبراني بأسانيد ورجاله وثقوا.
3ـ البداية والنهاية 8/206.
4ـ سنن الترمذي 5/325.(1/360)
أعلم"1.
4- وروى الحاكم بإسناده إلى يعلى العامري رضي الله عنه أنه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى طعام دعوا له قال: فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام القوم وحسين مع الغلمان يلعب فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذه فطفق الصبي يفر هاهنا مرة وهاهنا مرة فجعل رسول الله يضاحكه حتى أخذه قال: فوضع إحدى يديه تحت قفاه والأخرى تحت ذقنه فوضع فاه على فيه يقبله فقال: "حسين مني وأنا من حسين أحب الله من أحب حسيناً حسين سبط من الأسباط" 2.
جاء في تحفة الأحوذي: قال القاضي: "كأنه صلى الله عليه وسلم علم بنور الوحي ما سيحدث بينه وبين القوم فخصه بالذكر وبين أنهما كالشيء الواحد في وجوب المحبة وحرمة التعرض والمحاربة، وأكد ذلك بقول: "أحب الله من أحب حسيناً" فإن محبته محبة الرسول ومحبة الرسول محبة الله3.
فالحديث اشتمل على منقبة عالية للحسين رضي الله عنه وأرضاه.
5- وروى أيضاً بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: ما رأيت الحسين بن علي إلا فاضت عيني دموعاً وذاك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوماً فوجدني في المسجد فأخذ بيدي واتكأ علي فانطلقت معه حتى جاء سوق بني قينقاع قال: وما كلمني فطاف ونظر ثم رجع ورجعت معه فجلس في المسجد واحتبى وقال لي: "ادع لي لكاع" فأتى حسين يشتد حتى وقع في حجرة ثم أدخل يده في لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتح فم الحسين فيدخل فاه في فيه ويقول: "اللهم إني أحبه فأحبه" 4.
__________
1ـ فتح الباري 7/97، وانظر البداية والنهاية 8/206.
2ـ المستدرك 3/177 ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
3ـ تحفة الأحوذي 10/279.
4ـ المستدرك 3/178 ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.(1/361)
6- وروى أبو يعلى بإسناده إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى الحسين بن علي فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله1.
تلك طائفة من الأحاديث التي تضمنت ذكر فضل الحسين بن علي رضي الله عنه منفرداً وقد وردت أحاديث كثيرة تضمنت ذكر مناقب مشتركة بين الحسن والحسين رضي الله عنهما ومنها:
1- ما رواه البخاري بإسناده إلى ابن عمر وقد سأله رجل من أهل العراق عن المحرم يقتل الذباب فقال رضي الله عنه: أهل العراق يسألون عن الذباب وقد قتلوا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هما ريحانتاي من الدنيا" 2.
ففي هذا الحديث منقبة ظاهرة للحسن والحسين رضي الله عنهما حيث شبههما عليه الصلاة والسلام بالريحان الذي له رائحة زكية، وشبههما النبي صلى الله عليه وسلم بالريحان لأن الولد يشم ويقبل وقد جاء من حديث أنس عند الترمذي أنه عليه الصلاة والسلام كان يقول لفاطمة أمهما رضي الله عنها: "ادعي لي ابني فيشمهما ويضمهما إليه" 3.
قال الكرماني: شارحاً لقوله عليه الصلاة والسلام: "هما ريحانتاي من الدنيا" الريحان الرزق أو المشموم وتعقبه العيني بقوله: "لا وجه هنا أن يكون بمعنى الرزق على ما لا يخفى"4 والأمر كما قرره العيني.
__________
1ـ أورده الهيثمي في المجمع 9/187 وقال: رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح غير الربيع بن سعد، وقيل ابن سعيد وهو ثقة.
2ـ صحيح البخاري 2/306.
3ـ سنن الترمذي 5/327 وقال عقبه: "هذا حديث حسن صحيح".
4ـ عمدة القاري 16/243.(1/362)
2- وروى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه الحسن والحسين هذا على عاتقه وهذا على عاتقه وهو يلثم1 هذا مرة وهذا مرة حتى انتهى إلينا فقال له رجل: يا رسول الله إنك تحبهما. فقال: "نعم من أحبهما فقد أحبني ومن أبغضهما فقد أبغضني" 2.
3- وروى أيضاً بإسناده إلى علي بن أبي طالب قال: لما ولدت فاطمة الحسن جاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أروني ابني ما سميتموه" قال: قلت: سميته حرباً قال: "بل هو حسن" فلما ولدت الحسين جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أروني ابني ما سميتموه" قال: قلت: سميته حرباً فقال: "بل هو حسين"، ثم لما ولدت الثالث جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أروني ابني ما سميتموه" قلت: سمتيه حرباً قال: "بل هو محسن" 3.
فتسميته المصطفى عليه الصلاة والسلام لهما بالحسنين منقبة وفضيلة لهما رضي الله عنهما.
4- وروى أبو عيسى الترمذي بإسناده إلى البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبصر حسناً وحسيناً فقال: "اللهم إني أحبهما فأحبهما"4.
هذا الحديث والحديثان المتقدمان عليه فيها بيان واضح من النبي صلى الله عليه وسلم لفضل الحسن والحسين رضي الله عنهما كما تضمنت حث الأمة جميعاً على حبهما وبين عليه الصلاة والسلام أن حبهما حب له عليه الصلاة والسلام وبغضهما بغض له صلى الله عليه وسلم ومن حل في قلبه بغض الرسول كان من الخاسرين.
5- وروى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى ابن عمر رضي الله عنهما قال:
__________
1ـ يلثم: أي يقبل فاه.
2ـ المستدرك 3/166 ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
3ـ المستدرك 3/165 ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
4ـ سنن الترمذي 5/327 وقال عقبه: "هذا حديث حسن صحيح".(1/363)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة وأبوهما خير منهما" 1.
هذا الحديث اشتمل على منقبتين عظيمتين للحسنين رضي الله عنهما: الأولى: شهادة النبي صلى الله عليه وسلم لهما بالجنة. الثانية: إخباره عليه الصلاة والسلام بأنهما سيدا شباب أهل الجنة وهذا يعني: "أنهما أفضل من مات شاباً في سبيل الله من أصحاب الجنة ولم يرد به سن الشباب لأنهما ماتا وقد كهلا بل ما يفعله الشباب من المروءة كما يقال: فلان فتى وإن كان شيخاً يشير إلى قوته وفتوته أو أنهما سيدا أهل الجنة سوى الأنبياء والخلفاء الراشدين وذلك لأن أهل الجنة كلهم في سن واحد وهو الشباب وليس فيهم شيخ ولا كهل. قال الطيبي: "ويمكن أن يراد هما الآن سيدا شباب من هم من أهل الجنة من شبان هذا الزمان"2.
6- روى الإمام مسلم بإسناده إلى إياس عن أبيه قال: لقد قدت بنبي الله صلى الله عليه وسلم والحسن والحسين بغلته الشهباء حتى أدخلتهم حجرة النبي صلى الله عليه وسلم هذا قدامه وهذا خلفه"3.
هذا الحديث فيه فضيلة ظاهرة للحسن والحسين رضي الله عنهما وهذه الفضيلة هي إركابه عليه الصلاة والسلام إياهما حيث جعل أحدهما أمامه والآخر خلفه على بغلته الشهباء.
7- وروى أيضاً بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: خرج النبي صلى الله عليه وسلم غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود فجاء الحسن بن علي فأدخله ثم جاء الحسين فدخل معه ثم جاءت فاطمة فأدخلها ثم جاء علي فأدخله ثم قال:
__________
1ـ المستدرك 3/167 ثم قال: هذا حديث صحيح بهذه الزيادة ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
2ـ انظر تحفة الأحوذي 10/273، عارضة الأحوذي لابن العربي 13/192.
3ـ صحيح مسلم 4/1883.(1/364)
{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} 1.
وهذا الحديث اشتمل على ذكر فضيلة لعلي بن أبي طالب وابنيه الحسن والحسين وأمهما فاطمة رضي الله عنهم أجمعين وتلك المنقبة هي إدخاله إياهم عليه الصلاة والسلام في الكساء الذي كان يرتديه، ثم أخبر أنهم من أهل البيت الذين أذهب عنهم الرجس وطهرهم منه تطهيراً.
قال النووي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} قيل: هو الشك. وقيل: العذاب. وقيل: الإثم قال الأزهري: الرجس اسم لكل مستقذر من عمل2.
8- وروى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء فكان يصلي فإذا سجد وثب الحسن والحسين على ظهره وإذا رفع رأسه أخذهما فوضعهما وضعاً رفيقاً فإذا عاد عادا فلما صلى جعل واحداً هاهنا وواحداً هاهنا فجئته فقلت: يا رسول الله ألا أذهب بهما إلى أمهما قال: "لا" فبرقت برقة فقال: "إلحقا بأمكما" فما زالا يمشيان في ضوئها حتى دخلا3.
وهذا الحديث فيه إظهار فضل الحسن والحسين وبيان منزلتهما وعظم شأنهما.
9- وروى أيضاً بإسناده إلى عبد الله بن شداد بن الهاد عن أبيه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحدى صلاتي العشي الظهر أو العصر وهو حامل أحد ابنيه الحسن أو الحسين فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه عند قدمه اليمنى فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم سجدة أطالها قال أبي فرفعت رأسي من بين الناس فإذا رسول الله
__________
1ـ صحيح مسلم 4/1883.
2ـ شرح النووي على صحيح مسلم 15/195.
3ـ المستدرك 3/167 ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.(1/365)
صلى الله عليه وسلم ساجد وإذا الغلام راكب على ظهره فعدت فسجدت فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الناس: يا رسول الله لقد سجدت في صلاتك هذه سجدة ما كنت تسجدها أفشيء أمرت به أو كان يوحى إليك؟ قال: "كل ذلك لم يكن ولكن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته" 1.
10- وروى الترمذي بإسناده إلى أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: طرقت النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة في بعض الحاجة فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو مشتمل على شيء لا أدري ما هو فلما فرغت من حاجتي قلت: ما هذا الذي أنت مشتمل عليه فكشفه فإذا حسن وحسين على وركيه فقال: "هذان ابناي وابنا ابنتي اللهم إني أحبهما فأحبهما وأحب من يحبهما" 2.
ومن مناقبهما التي أكرمهما الله بها أنهما ماتا شهيدين وهذا من إكرام الله ـ تعالى ـ لهما تكميلاً لكرامتهما ورفعا لدرجاتهما.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "ومن ذلك أن اليوم الذي هو يوم عاشوراء الذي أكرم الله فيه سبط نبيه وأحد سيدي شباب أهل الجنة بالشهادة على أيدي من قتله من الفجرة والأشقياء وكان ذلك مصيبة عظيمة من أعظم المصائب الواقعة في الإسلام ... ولا ريب أن ذلك إنما فعله الله كرامة للحسين رضي الله عنه، رفعاً لدرجته ومنزلته عند الله وتبليغاً له منازل الشهداء وإلحاقاً له بأهل بيته الذين ابتلوا بأصناف البلاء، ولم يكن الحسن والحسين حصل لهما من الابتلاء ما حصل لجدهما ولأمهما وعمهما لأنهما ولدا في عز الإسلام وتربيا في حجور المؤمنين فأتم الله نعمته عليهما بالشهادة أحدهما مسموماً3
__________
1ـ المستدرك 3/165-166 ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه وأقره الذهبي.
2ـ سنن الترمذي في شرحه تحفة الأحوذي 10/273-274 وقال: هذا حديث حسن غريب.
3ـ انظر الكامل لابن الأثير 3/460، البداية والنهاية 8/46، فتح الباري 7/95.(1/366)
والآخر مقتولاً1 لأن الله عنده من المنازل العالية في دار كرامته ما لا ينالهما إلا أهل البلاء"أ. هـ2.
فأهل السنة يعتقدون أن الحسين رضي الله عنه قتل مظلوماً وقتله كذلك فيه تكريم له ورفع لدرجته عند الله ـ عز وجل ـ كما يعتقدون أن قتله من أعظم المصائب التي وقعت في الإسلام وهم يلتزمون عند المصائب ما شرعه الله لهم من الاسترجاع وإن تقادم عهد المصيبة أما أعداء الصحابة والزاعمون أنهم شيعة أهل البيت فإنهم يعملون بخلاف ما أمرهم الله به فلا يسترجعون عند المصيبة وإنما يعملون المآتم في المصائب ويتخذون أوقاتها مآتم باستمرار وهذا ليس من دين الإسلام وهو: "أمر لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من السابقين الأولين ولا من التابعين لهم بإحسان ولا من عادة أهل البيت ولا غيرهم وقد شهد مقتل علي أهل بيته، وشهد مقتل الحسين من شهده من أهل بيته وقد مرت على ذلك سنون، وهم متمسكون بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحدثون مأتماً ولا نياحة، بل يصبرون ويسترجعون كما أمر الله ورسوله أو يفعلون ما لا بأس به من الحزن والبكاء عند قرب المصيبة"3.
وهذا ما عليه الفرقة الناجية التي تعمل بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتي قلوبهم ممتلئة بحب أصحاب نبيه وأهل بيته رضوان الله عليهم أجمعين وكل ما تقدم ذكره من مناقب للحسن والحسين على سبيل الانفراد أو على سبيل الاشتراك بينهما كلها دلت على أنهما جليلا القدر عظيما المكانة فعلى المسلم أن يعتقد اعتقاداً جازماً أنهما من أهل الفضل ومن صفوة الأمة المحمدية رضي الله عنهما وأرضاهما.
__________
1ـ انظر تاريخ الأمم والملوك للطبري 5/400-467، الكامل لابن الأثير 4/46-93، البداية والنهاية 8/186-220.
2ـ حقوق آل البيت ص/44-45، مجموع الفتاوى 4/511.
3ـ حقوق آل البيت ص/46.(1/367)
4) حمزة بن عبد المطلب:
هو حمزة بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب الإمام البطل الضرغام أبو عمارة وأبو يعلى القرشي الهاشمي المكي ثم المدني البدري الشهيد عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخوه من الرضاعة أرضعتهما ثويبة مولاة أبي لهب وهو أسد الله وأسد رسوله، ولد قبل النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين، وقيل بأربع كان من فرسان قريش وسادتها وصناديدها المعدودين أسلم في السنة الثانية من البعثة وهاجر إلى المدينة وشهد بدراً وأبلى فيها بلاء حسناً واستشهد في معركة أحد في النصف من شوال من السنة الثالثة للهجرة وسماه المصطفى عليه الصلاة والسلام سيد الشهداء وحزن عليه حزناً شديداً فرضي الله عنه وأرضاه"1.
وقد وردت أحاديث كثيرة فيها ذكر مناقبه التي دلت على عظيم شأنه، وجليل قدره، وعلى أنه ذو مكانة عالية في الدنيا والآخرة ومن تلك الأحاديث:
1- ما رواه محمد بن سعد في كتابه الطبقات2 بإسناده إلى يزيد بن رومان قال: أول لواء عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة لحمزة بن عبد المطلب بعثة سرية في ثلاثين راكباً حتى بلغوا قريباً من سيف البحر يعترض لعير قريش وهي منحدرة إلى مكة قد جاءت من الشام وفيها أبو جهل بن هشام في ثلاثمائة راكب فانصرف ولم يكن بينهم قتال.
ففي هذا منقبة عظيمة تشرف بها حمزة رضي الله عنه وهي أن أول لواء عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة كان لعمه حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه
__________
1ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 3/8-19، الجرح والتعديل 3/212، صفة الصفوة 1/370-377، الاستيعاب على حاشية الإصابة 1/270-276، أسد الغابة 2/46-50، تهذيب الأسماء واللغات 1/168-169، سير أعلام النبلاء 1/171-184، الإصابة 1/353.
2ـ 3/9، المستدرك 3/187.(1/368)
وقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام يجله ويكرمه ويقدره ويظهر له أنه ذو مكانة عنده.
2- فقد روى الحاكم بإسناده إلى علي بن الحسين عن أبيه عن جده قال: جاء علي وحمزة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد اغتسلا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كيف صنعتما؟ " قال أحدهما: يا رسول الله سترته بالثوب وقال الآخر: فجعلت مثل ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو فعلتما غير ذلك لسترتكما" 1.
ففي هذا الحديث فضيلة ظاهرة لحمزة وعلي رضي الله عنهما وأرضاهما.
3- وروى الإمام مسلم بإسناده إلى قيس بن عباد قال: سمعت أبا ذر يقسم قسماً أن {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} 2. إنها نزلت في الذين برزوا يوم بدر: حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث وعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة"3.
4- وروى الحاكم بإسناده إلى علي رضي الله عنه قال: نزلت {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} في الذين برزوا يوم بدر حمزة بن عبد المطلب وعلي وعبيدة بن الحارث وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة قال علي: وأنا أول من يجثو للخصومة على ركبتيه بين يدي الله يوم القيامة"4.
فهذان الحديثان تضمنا ذكر فضيلة ظاهرة لحمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه إذ المراد بالذين اختصموا في الله ـ سبحانه ـ هم حزب الله، وحزب الشيطان، فحزب الله كان في مقدمتهم حمزة بن عبد المطلب، وأما حزب الشيطان فهم عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة، وابنه الوليد فنصر الله حزبه، وخذل حزب الشيطان، فحمزة رضي الله عنه كان في مقدمة الذين برزوا يوم بدر
__________
1ـ المستدرك 3/193، ثم قال عقبه: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
2ـ سورة الحج آية/ 19.
3ـ صحيح مسلم 4/2323.
4ـ المستدرك 3/386-387 ثم قال: لقد صح الحديث بهذه الروايات عن علي كما صح عن أبي ذر الغفاري وإن لم يخرجاه ووافقه الذهبي.(1/369)
لضرب المشركين بغية إعلاء كلمة الله ونصر الدين الحنيف.
5- وروى الحاكم أيضاً بإسناده إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "فقد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد حمزة حين فاء الناس من القتال قال: فقال رجل: رأيته عند تلك الشجرة وهو يقول: أنا أسد الله وأسد رسوله اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء لأبي سفيان وأصحابه وأعتذر إليك مما صنع هؤلاء من انهزامهم فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوه فلما رأى جبهته بكى ولما رأى ما مثل به شهق ثم قال: "ألا كفن" فقال رجل من الأنصار فرمى بثوب قال جابر: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سيد الشهداء عند الله يوم القيامة حمزة"1.
6- وروى أيضاً: بإسناده إلى سعد بن أبي وقاص قال: كان حمزة بن عبد المطلب يقاتل يوم أحد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: أنا أسد الله2.
وهذان الحديثان فيهما بيان منقبتين عظيمتين لحمزة رضي الله عنه وتلك المنقبتان هما: الأولى: قوة عزيمته وشجاعته الصارمة في مواطن القتال ضد أولياء الشيطان من المشركين والكافرين حتى أنه أطلق عليه أنه أسد الله وأسد رسوله.
الثانية: التي تفرد بها وامتاز بها عن غيره إخبار المصطفى عليه الصلاة والسلام بأنه سيد الشهداء عند الله تعالى يوم القيامة.
7- ومن مناقبه الشريفة رضي الله عنه أنه جاهد في سبيل الله حق الجهاد حتى أنه في يوم أحد مثل به المشركون مثلة لم تكن لأحد سواه وذلك من شدة غيظ المشركين وحقدهم عليه إذ أنه واجههم في يوم بدر ويوم أحد مواجهة الشجاع المقدام فكانوا لا يطيقون الوقوف أمامه في ساعة القتال فإنه ما وقف
__________
1ـ المستدرك 3/199 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
2ـ المستدرك 3/194 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.(1/370)
أمامه فارس إلا كان كأمس الذاهب ولما استشهد في أحد على يد وحشي لم يكن عن مواجهة وإنما كمن له تحت الصخرة فرماه بحربته1 ولما سقط على الأرض شهيداً فعل به المشركون ما فعلوا من التجديع والتمثيل، فقد روى الحاكم بإسناده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ بحمزة يوم أحد وقد جدع ومثل به وقال: "لولا أن صفية تجد لتركته حتى يحشره الله من بطون الطير والسباع" فكفنه في نمرة2.
فهذا التجديع والمثلة التي حصلت لحمزة رضي الله عنه كانت في ذات الله ـ عز وجل ـ ولذلك أكرمه الله بأن كان سيد الشهداء.
8- وروى الحاكم بإسناده أيضاً: إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزلت هذه الآية في حمزة وأصحابه {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} 3 وهذا الحديث فيه بيان ما أكرم الله به حمزة وإخوانه الذين استشهدوا معه في موقعة أحد حيث جعلهم الله أحياء يرزقون عنده في الجنة ففي هذا منقبة عظيمة لشهداء أحد الذين في مقدمتهم سيد الشهداء حمزة رضي الله عن الجميع وأرضاهم وجعل الجنة مثواهم.
تلك طائفة من الأحاديث التي جاء التنويه فيها بفضل حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم، فلقد دلت على أنه عظيم القدر عالي المكانة في الدنيا والآخرة رضي الله عنه وأرضاه
__________
1ـ انظر صحيح البخاري مع شرح فتح الباري 7/367.
2ـ المستدرك 3/196 ثم قال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وأقره الذهبي.
3ـ المصدر السابق 2/387 ثم قال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وأقره الذهبي، وانظر المصنف لابن أبي شيبة 12/107، فضائل الصحابة للنسائي ص/92، الدر المنثور للسيوطي 2/371.(1/371)
5) العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه:
هو أبو الفضل بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشمي عم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمه نتيلة بنت جناب بن كلب ـ ولد قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنتين، وهو من سادة قريش في الجاهلية والإسلام، وجد الخلفاء العباسيين، وكانت إليه في الجاهلية السقاية وعمارة المسجد الحرام، حضر مع النبي صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة مع الأنصار قبل أن يسلم وشهد بدرا مع الكفار مكرهاً فأسر، ثم افتدى نفسه وافتدى ابن أخيه عقيل بن أبي طالب ورجع إلى مكة، وأسلم وكتم إسلامه وكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأخبار قريش، وهاجر إلى المدينة قبل الفتح بقليل وشهد فتح مكة، وثبت يوم حنين، وكان عظيم المكانة عند النبي صلى الله عليه وسلم يعترف له بسداد الرأي، وكان الفاروق رضي الله عنه يستسقي به إذا قحطوا، توفي بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين للهجرة ودفن بالبقيع رضي الله عنه وأرضاه1.
وقد وردت في بيان مناقبه أحاديث كثيرة كلها دلت على أنه عظيم المقام جليل القدر ومن تلك الأحاديث:
1- ما رواه أبو القاسم الطبراني بإسناده إلى أبي رافع رضي الله عنه أنه بشر النبي صلى الله عليه وسلم بإسلام العباس فأعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم2.
فلقد فرح النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامه وأعتق أبا رافع لما بشره بإسلامه ففيه منقبة ظاهرة للعباس.
وروى الترمذي وغيره عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن العباس
__________
1ـ طبقات ابن سعد 4/5-33، الجرح والتعديل 6/210، المستدرك 3/321، الاستيعاب على حاشية الإصابة 3/94-101، صفة الصفوة 1/506-510، مجمع الزوائد 9/268، تهذيب التهذيب 5/214-215، الإصابة 2/263، أسد الغابة 3/109-112.
2ـ أورده الهيثمي في المجمع 9/268، وقال: رواه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن.(1/372)
مني وأنا منه" 1.
جاء في تحفة الأحوذي: قوله: "العباس مني وأنا منه" قال: في المرقاة: "أي من أقاربي، أو من أهل بيتي أو متصل بي"أ. هـ2.
3- ومن مناقبه رضي الله عنه أنه كان سباقاً لأداء ما أوجب الله عليه من الفرائض فقد طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يرخص له بأداء زكاته قبل أن يحل وقتها.
فقد روى الحاكم بإسناده إلى علي رضي الله عنه أن العباس بن عبد المطلب سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تعجيل صدقته قبل أن تحل فرخص له في ذلك "3.
4- وروى الإمام مسلم بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر على الصدقة فقيل: منع ابن جميل وخالد بن الوليد والعباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيراً فأغناه الله وأما خالد فإنكم تظلمون خالداً وقد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله وأما العباس فهي علي ومثلها معها" ثم قال: " يا عمر أما شعرت أن عم الرجل صنو أبيه" 4.
5- وروى الإمام أحمد وغيره إلى ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب "أن العباس بن عبد المطلب دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم مغضباً وأنا عنده فقال: "ما أغضبك؟ " قال: يا رسول الله مالنا ولقريش اذا تلاقوا بينهم تلاقوا بوجوه مبشرة؟ وإذا لقونا بغير ذلك قال: فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى احمر وجهه ثم قال: والذي نفسي بيده لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبكم لله ولرسوله"
__________
1ـ سنن الترمذي 5/317 وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب، المستدرك 3/325 وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، وأخرجه ابن سعد في الطبقات 4/24.
2ـ تحفة الأحوذي 10/265.
3ـ المستدرك 3/332 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
4ـ صحيح مسلم 4/676-677.(1/373)
ثم قال: "يا أيها الناس من آذى عمي فقد آذاني فإنما عم الرجل صنو أبيه" 1.
هذه الأحاديث الثلاثة بين النبي صلى الله عليه وسلم للأمة فيها فضل العباس بن عبد المطلب ومكانته منه عليه الصلاة والسلام.
قال ابن الأثير رحمه الله تعالى: "الصنو: المثل، وأصله أن تطلع نخلتان من عرق واحد يريد أن أصل العباس وأصل أبي واحد وهو مثل أبي أو مثلي وجمعه صنوان"2.
وعلى هذا فمعنى قوله صلى الله عليه وسلم: " وأن عم الرجل صنو أبيه" أي: مثله يعني أصلهما واحد فتعظيمه كتعظيمه وإيذاءه كإيذائه".
6- ومن مناقبه العظيمة التي اختص بها وشرف بها رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجله إجلال الولد والده ويبالغ في إكرامه. فقد روى الحاكم بإسناده إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجل العباس إجلال الولد والده خاصة خص الله العباس بها من بين الناس"3.
7- وروى الحاكم أيضاً بإسناده إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كان العباس بالمدينة فطلبت الأنصار ثوباً يلبسونه فلم يجدوا قميصاً يصلح عليه إلا قميص عبد الله بن أبيّ فكسوه إياه قال جابر: وكان العباس أسير رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر وإنما أخرج كرهاً فحمل إلى المدينة فكساه عبد الله بن أبي قميصه فلذلك كفنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قميصه مكافأة لما فعل بالعباس4.
__________
1ـ المسند 4/165 والترمذي في سننه 5/317-318 وقال: هذا حديث حسن صحيح، والحاكم في المستدرك 3/333.
2ـ النهاية في غريب الحديث 3/57.
3ـ المستدرك 3/324-325 ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
4ـ المستدرك 3/330-331 ثم قال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وأقره الذهبي.(1/374)
وهذا الحديث فيه بيان فضيلة ظاهرة للعباس رضي الله عنه بإكرام النبي صلى الله عليه وسلم له حيث أعطى ثوبه عليه الصلاة والسلام كفناً لعبد الله بن أبي مكافأة له على إعطائه قميصاً للعباس حين كان أسير رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر.
8- وروى أيضاً: بإسناده إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن العلاء بن الحضرمي بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من البحرين بثمانين ألفاً فما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم مال أكثر منه لا قبلها ولا بعدها فأمر بها ونثرت على حصير ونودي بالصلاة فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يميل على المال قائماً فجاء الناس وجعل يعطيهم وما كان يومئذ عدد ولا وزن وما كان إلا قبضاً فجاء العباس فقال: يا رسول الله إني أعطيت فدائي وفداء عقيل يوم بدر ولم يكن لعقيل مال أعطني من هذا المال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذ" فحثى في خميصة كانت عليه ثم يذهب ينصرف فلم يستطع رفع رأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ارفع علي فابتسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: أما أحد ما وعد الله فقد أنجز لي ولا أدري الأخرى" {قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} هذا خير مما أخذ مني ولا أدري ما يصنع بالمغفرة 1.
في هذا الحديث فضيلة ظاهرة للعباس رضي الله عنه وهي أنه عليه الصلاة والسلام كان يحبه حباً شديداً فقد أعطى المصطفى عليه الصلاة والسلام الصحابة من مال البحرين بيده ولما جاء العباس أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ لنفسه بيده.
9- ومن مناقبه العظيمة التي رفعت من شأنه وعلت من مكانته ثبوته الصادق حين حمى الوطيس وفر الناس يوم حنين. فقد روى مسلم في صحيحه بإسناده إلى العباس رضي الله عنه قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فلزمت أنا وأبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نفارقه
__________
1ـ المستدرك 3/329-330 ثم قال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وأقره الذهبي.(1/375)
ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة له بيضاء أهداها له فروة الجذامي فلما التقى المسلمون والكفار ولى المسلمون مدبرين فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض بغلته قبل الكفار قال عباس: وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكفها إرادة ألا تسرع وأبو سفيان آخذ بركاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أي عباس ناد أصحاب السمرة" فقال عباس: "وكان رجلاً صيتاً" فقلت بأعلى صوتي أين أصحاب السمرة قال: فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها فقالوا: يا لبيك يا لبيك قال: فاقتتلوا والكفار والدعوة في الأنصار يقولون: يا معشر الأنصار قال: ثم قصرت الدعوة على بني الحارث بن الخزرج فقالوا: يا بني الحارث بن الخزرج يا بني الحارث بن الخزرج فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول على بغلته كالمتطاول عليها إلى قتالهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا حين حمي الوطيس" قال: ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حصيات فرمى بهن في وجوه الكفار ثم قال: "انهزموا ورب محمد" قال: فذهبت أنظر فإذا القتال على هيئته فيما أرى قال: فوالله ما هو إلا أن رماهم بحصياته فما زلت أرى حدهم كليلاً وأمرهم مدبراً"1.
هذا الحديث اشتمل على بيان منقبة عظيمة لأبي الفضل رضي الله عنه حيث أنه وقف موقف الشجاع المقدام لحرب المشركين من أجل إعلاء كلمة الحق ونصرة دين الإسلام فلقد ثبت في وقعة حنين من أول المعركة إلى آخرها مع المصطفى صلى الله عليه وسلم ولذلك فصل المعركة وما دار فيها تفصيلاً كاملاً رضي الله عنه وأرضاه.
10- لقد بين الفاروق رضي الله عنه للأمة عامة فضل العباس بن عبد المطلب ومكانته من سيد الخلق ووضح ذلك وضوحاً كاملاً. فقد روى البخاري إلى أنس بن مالك رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك
__________
1ـ صحيح مسلم مع شرح النووي 12/113-117.(1/376)
بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا قال: فيسقون"1.
ففي هذا الأثر عن الفاروق رضي الله عنه بيان لفضل العباس بن عبد المطلب، كما تضمن أيضاً فضل عمر لتواضعه للعباس ومعرفته بحقه.
والمراد بتوسل عمر رضي الله عنه بالعباس بدعائه لا بذاته إذ التوسل بدعاء أهل الصلاح والفضل نوع من أنواع التوسل المشروع.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: "وقد بين الزبير بن بكار في الأنساب صفة ما دعا به العباس في هذه الواقعة والوقت الذي وقع فيه ذلك فأخرج بإسناد له أن العباس لما استسقى به عمر قال: اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب ولم يكشف إلا بتوبة وقد توجه القوم بي إليك لمكاني من نبيك وهذه أيدينا إليك بالذنوب ونواصينا إليك بالتوبة فأسقنا الغيث فأرخت السماء مثل الجبال حتى أخصبت الأرض وعاش الناس"2.
تلك طائفة من الأحاديث التي تضمنت مناقب عالية للعباس رضي الله عنه وكلها دلت على أنه عظيم المقام جليل القدر رفيع المنزلة رضي الله عنه وأرضاه.
__________
1ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 2/494.
2ـ فتح الباري 2/497.(1/377)
6) عبد الله بن عباس رضي الله عنه:
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي أبو العباس الهاشمي ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم حبر هذه الأمة، ومفسر كتاب الله وترجمانه، كان يقال له: الحبر والبحر، وروى عن الرسول صلى الله عليه وسلم شيئاً كثيراً، وعن جماعة من الصحابة وأخذ عنه خلق من الصحابة وأمم من التابعين، وله مفردات ليست لغيره من الصحابة لاتساع علمه وكثرة فهمه وكمال عقله وسعة فضله ونبل أصله رضي الله عنه وأرضاه، وأمه أم الفضل لبابة بنت الحارث الهلالية أخت ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين وهو ولد الخلفاء العباسيين هاجر مع أبيه قبل الفتح فاتفق لقياهما النبي صلى الله عليه وسلم بالجحفة وهو ذاهب لفتح مكة فشهد الفتح وحنيناً والطائف عام ثمان، وقيل كان في سنة تسع وصحب النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ ولزمه وأخذ عنه وحفظ وضبط الأقوال والأفعال والأحوال وأخذ عن الصحابة علماً عظيماً ومع الفهم الثاقب والبلاغة والفصاحة، والجمال والملاحة والأصالة والبيان وكانت وفاته رضي الله عنه سنة ثمان وستين بالطائف رضي الله عنه وأرضاه وجعل الجنة مثواه1.
وقد وردت في بيان فضله أحاديث كثيرة صحيحة عن رسول الرحمن صلى الله عليه وسلم ومن تلك الأحاديث:
1- ما رواه البخاري بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الخلاء فوضعت له وضوآ قال: "من صنع هذا؟ " فأخبر فقال: "اللهم فقه في الدين" 2.
__________
1ـ البداية والنهاية 8/317-318، وانظر أنساب الأشراف 3/27، كتاب المعرفة والتاريخ 1/241، الجرح والتعديل 5/116، الاستيعاب على حاشية الإصابة 2/342، أسد الغابة 3/192، حلية الأولياء 1/314-328، صفة الصفوة 1/746-758، تهذيب التهذيب 5/276، الإصابة 2/322-326.
2ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 1/244.(1/378)
هذه الدعوة النبوية فيها منقبة ظاهرة لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما وهي دعاؤه عليه الصلاة والسلام له بالفقه في الدين. قال ابن المنير: "مناسبة الدعاء لابن عباس للتفقه على وضعه الماء من جهة أنه تردد بين ثلاث أمور:
إما أن يدخل إليه بالماء إلى الخلاء، أو يضعه على الباب ليتناوله من قرب، أو لا يفعل شيئاً. فرأى الثاني أوفق لأن في الأول تعرضاً للاطلاع والثالث يستدعي مشقة في طلب الماء والثاني أسهلها ففعله يدل على ذكائه فناسب أن يدعي له بالتفقه في الدين ليحصل به النفع وكذا كان1.
2- وروى أيضاً بإسناده إلى ابن عباس قال: ضمني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "اللهم علمه الكتاب" 2.
وفي هذا الحديث فضيلة ظاهرة لابن عباس رضي الله عنه وهي ضم النبي صلى الله عليه وسلم إياه ودعوته له أن يعلمه الله الكتاب. "والمراد بالكتاب القرآن لأن العرف الشرعي عليه والمراد بالتعليم ما هو أعم من حفظه والتفهم فيه"3.
3- وروى مسلم بإسناده إلى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى الخلاء فوضعت له وضوء فلما خرج قال: من وضع هذا" في رواية زهير: قالوا وفي رواية أبي بكر قلت: ابن عباس قال: "اللهم فقه" 4.
قال النووي: "قوله صلى الله عليه وسلم "اللهم فقه" فيه فضيلة الفقه واستحباب الدعاء بظهر الغيب واستحباب الدعاء لمن عمل عملاً خيراً مع الإنسان وفيه إجابة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له فكان من الفقه بالمحل الأعلى"أ. هـ5.
__________
1ـ فتح الباري 1/244-245.
2ـ صحيح البخاري 1/25، ورواه أحمد في المسند انظر "الفتح الرباني" 22/292.
3ـ فتح الباري 1/170.
4ـ صحيح مسلم 4/1927.
5ـ شرح النووي على صحيح مسلم 16/37.(1/379)
4- وروى الإمام أحمد بإسناده إلى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في بيت ميمونة فوضعت له وضوآ من الليل قال: فقالت ميمونة: يا رسول الله وضع لك هذا عبد الله بن عباس فقال: " اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل" 1.
5- وروى أيضاً بإسناده إلى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع يده على كتفي أو على منكبي شك سعيد ثم قال: "اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل" 2.
6- وروى محمد بن سعد بإسناده إلى ابن عباس قال: دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح على ناصيتي وقال: "اللهم علمه الحكمة وتأويل الكتاب" 3.
7- وفي مسند الإمام أحمد عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم أعط ابن عباس الحكمة وعلمه التأويل" 4.
8- وبلفظ آخر عن عكرمة عن ابن عباس قال: مسح النبي صلى الله عليه وسلم رأسي ودعا لي بالحكمة"5.
9- وروى الإمام الترمذي بإسناده إلى ابن عباس قال: "دعا لي
__________
1ـ المسند مع الفتح الرباني 22/292.
2ـ المصدر السابق فقد أورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" 9/276 وقال: رواه أحمد والطبراني بأسانيد ولأحمد طريقان رجالهما رجال الصحيح" أهـ ورواه الحاكم في المستدرك 3/534 وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
3ـ الطبقات 2/365.
4ـ المسند مع الفتح الرباني 22/292.
5ـ المصدر السابق وانظر البداية والنهاية لابن كثير 8/320 فقد قال رحمه الله "تفرد به أحمد وقد روى هذا الحديث غير واحد عن عكرمة بنحو هذا ومنهم من أرسله عن عكرمة والمتصل هو الصحيح فقد رواه واحد من التابعين عن ابن عباس"أهـ.(1/380)
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤتيني الله الحكم مرتين" ثم قال هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه من حديث عطاء وقد رواه عكرمة عن ابن عباس1.
ومعنى قوله: "أن يؤتيني الله الحكم مرتين" أي: العلم والفقه والقضاء بالعدل والظاهر أن المراد به هنا الفهم في القرآن2.
10- وروى الإمام البخاري بإسناده إلى ابن عباس قال: ضمني النبي صلى الله عليه وسلم إلى صدره وقال: "اللهم علمه الحكمة" 3.
هذه الأحاديث المتقدمة فيها بيان فضل عبد الله بن عباس رضي الله عنه وقد استجاب الله هذا الدعاء النبوي في ابن عباس فلقد كان إماماً في العلم وعلماً من أعلام الأمة المحمدية الذين نشر الله بهم أحكام دين الإسلام من أوامر ونواهي وحلال وحرام.
قال الحافظ رحمه الله تعالى: "وهذه الدعوة مما تحقق إجابة النبي صلى الله عليه وسلم فيها لما علم من حال ابن عباس في معرفة التفسير والفقه في الدين رضي الله تعالى عنه، وقد اختلف الشراح في المراد بالحكمة هنا فقيل: القرآن وقيل: العمل به، وقيل: السنة، وقيل: الإصابة في القول، وقيل: الخشية وقيل: الفهم عن الله، وقيل: العقل، وقيل: ما يشهد العقل بصحته، وقيل: نور يفرق به بين الإلهام والوسواس، وقيل: سرعة الجواب مع الإصابة وبعض هذه الأقوال ذكرها بعض أهل التفسير في تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} 4 والأقرب أن المراد بها في حديث ابن عباس الفهم في القرآن"أهـ5.
__________
1ـ سنن الترمذي 5/344.
2ـ تحفة الأحوذي 10/337.
3ـ صحيح البخاري 2/306، سنن الترمذي 5/344.
4ـ سورة لقمان آية/12.
5ـ فتح الباري 1/170، 7/100.(1/381)
11- وروى الإمام أحمد بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر الليل فصليت خلفه فأخذ بيدي فجرني فجعلني حذاءه1 فلما أقبل على صلاته خنست2 فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما انصرف قال لي: "ما شأني أجعلك حذائي فتخنس" فقلت: يا رسول الله أوينبغي لأحد أن يصلي حذاءك وأنت رسول الله الذي أعطاك الله قال: "فأعجبته فدعا الله لي أن يزيدني علماً وفهماً قال: ثم رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم نام حتى سمعته ينفخ ثم أتاه بلال فقال: يا رسول الله الصلاة فقام فصلى ما أعاد وضوآ3.
هذا الحديث فيه فضيلة ظاهرة لعبد الله بن عباس رضي الله عنه فقد حظي بهذه الدعوة المباركة وهي الزيادة في العلم والفهم وقد كان كذلك رضي الله عنه وأرضاه.
12- وروى الإمام مسلم بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت ألعب مع الصبيان فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فتواريت خلف باب قال: فجاء فحطأني حطأة4 وقال: " اذهب وادع لي معاوية" الحديث5.
وفي هذا الحديث منقبة لابن عباس رضي الله عنه حيث جاءه النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوار خلف باب فضرب بيده الشريفة وهي مبسوطة بين كتفيه وأمره أن ينادي له معاوية رضي الله عنه.
13- وروى الإمام أحمد بإسناده إلى ابن عباس قال: كنت مع أبي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده رجل يناجيه فكان كالمعرض عن أبي فخرجنا من عنده فقال لي أبي: أي بني ألم تر إلى ابن عمك كالمعرض عني فقلت: يا أبتي إنه كان عنده رجل يناجيه قال فرجعنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبي: يا رسول الله قلت لعبد الله
__________
1ـ أي: بجواره.
2ـ أي: تأخرت.
3ـ المسند مع الفتح الرباني 22/293 وأورد الهيثمي في "مجمع الزوائد" 9/284 ثم قال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح ورواه الحاكم في المستدرك 3/534 ثم قال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وأقره الذهبي.
4ـ فحطأني حطأة: أي: ضربه بيده مبسوطه بين كتفيه.
5ـ صحيح مسلم 4/2010.(1/382)
كذا وكذا فأخبرني أنه كان عندك رجل يناجيك فهل كان عندك أحد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وهل رأيته يا عبد الله" قال: قلت: نعم قال: "فإن ذاك جبريل وهو الذي شغلني عنك" 1.
14- وروى أبو القاسم الطبراني كما في مجمع الزوائد2 عن ابن عباس قال: بعث العباس بعبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة فوجد معه رجل فرجع ولم يكلمه فقال: "رأيته؟ " قال: نعم قال: "ذاك جبريل أما إنه لن يموت حتى يذهب بصره ويؤتى علماً". هذان الحديثان تضمنا منقبة ومفخرة عظيمة لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما حيث أكرمه الله تعالى برؤية جبريل الأمين كما تضمن حديث الطبراني علماً من أعلام النبوة حيث حصل لابن عباس ما أخبر به عليه الصلاة والسلام من ذهاب بصره وإيتائه علماً واسعاً وكذلك كان رضي الله عنه وأرضاه.
ولقد بين فضله ومكانته العلمية فاروق هذه الأمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد كان يدخله في مجلس كبار الصحابة من مشيخة بدر رضي الله عنهم وقد كان لهم أبناء في سنة رضي الله عنه ولم يحظ بهذا التكريم سواه.
15- فقد روى الإمام البخاري بإسناده إلى ابن عباس قال: كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر فكأن بعضهم وجد في نفسه فقال: لم تدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله فقال عمر: إنه من حيث علمتم فدعا ذات يوم فأدخله معهم فما رؤيت إنه دعاني يومئذ إلا ليريهم قال: ما تقولون في قول الله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} فقال بعضهم: أمرنا نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم فلم يقل شيئاً فقال لي: أكذاك تقول يا ابن عباس فقلت: لا قال: فما تقول؟: قلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه له قال: إذا جاء نصر الله والفتح
__________
1ـ المسند مع الفتح الرباني 22/294 وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 9/276 ثم قال: رواه أحمد والطبراني بأسانيد ورجالها رجال الصحيح.
2ـ مجمع الزوائد 9/277 وقال الهيثمي: رواه الطبراني بأسانيد ورجاله ثقات.(1/383)
وذلك علامة أجلك. فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تقول1.
16- وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: "وأخرج البغوي في معجم الصحابة من طريق زيد بن أسلم عن ابن عمر قال: كان عمر يدعو ابن عباس ويقربه ويقول: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاك يوماً فمسح رأسك وقال: "اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل"2.
وتقريب عمر رضي الله عنه لابن عباس وإدخاله مع أشياخ بدر من أجل أن يقرر عندهم جلالة قدره، وكبير منزلته في العلم والفهم.
17- وذكر الحافظ ابن كثير أن عمر رضي الله عنه كان يقول: نعم ترجمان القرآن عبد الله بن عباس. وكان يقول إذا أقبل: جاء فتى الكهول، وذو اللسان السؤول، والقلب العقول3.
18- وروى ابن سعد بإسناده إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قال: ما رأيت أحداً أحضر فهماً ولا ألب لباً ولا أكثر علماً ولا أوسع حلماً من ابن عباس ولقد رأيت عمر يدعوه للمعضلات ثم يقول: عندك قد جاءتك معضلة ثم لا يجاوز قوله وإن حوله لأهل بدر من المهاجرين والأنصار4.
19- وقال طلحة بن عبيد الله: لقد أعطي ابن عباس فهماً ولقناً وعلماً ما كنت أرى عمر بن الخطاب يقدم عليه أحد.5.
20- وقال جابر بن عبد الله رضي الله عنه حين بلغه موت ابن عباس: "مات أعلم الناس وأحلم الناس ولقد أصيبت به هذه الأمة مصيبة لا ترتق.
__________
1ـ صحيح البخاري 3/222.
2ـ فتح الباري 1/170.
3ـ البداية والنهاية 8/321.
4ـ الطبقات 2/369.
5ـ المصدر السابق 2/370.(1/384)
وقال رافع بن خديج: مات اليوم من كان يحتاج إليه من بين المشرق والمغرب1.
22- وقال معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه لعكرمة: مولاك والله أفقه من مات وعاش2.
23- وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: "ابن عباس أعلم الناس بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم"3
24- وقال مجاهد: كان ابن عباس يسمى البحر لكثرة علمه. وقال محمد بن علي يوم مات ابن عباس: اليوم مات رباني هذه الأمة4.
25- وقال طاووس: كان ابن عباس قد بسق على الناس في العلم كما تبسق النخل السحوق5 على الودي الصغار6. ذلك هو عبد الله بن عباس وتلك طائفة من مناقبه التي دلت على علو شأنه وسمو منزلته وكلها دلت على أنه كان جليل القدر وأنه كان ذا مكانة عظيمة عند الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ولقد اعترف بفضله ونبله كبار الصحابة رضي الله عنهم، والتابعون لهم بإحسان. فرضي الله عنه وأرضاه.
__________
1ـ المصدر السابق 2/372.
2ـ الطبقات الكبرى 2/369-370.
3ـ البداية والنهاية 8/323.
4ـ المستدرك 3/535، الطبقات 2/366.
5ـ السحوق: هي النخلة الطويلة التي بعد ثمرها على المجتني "النهاية في غريب الحديث" 2/347.
6ـ طبقات ابن سعد 2/370.(1/385)
7) الفضل بن عباس بن عبد المطلب رضي الله عنه:
هو الفضل بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم الهاشمي ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أكبر إخوانه وبه كان يكنى أبوه وأمه واسمها لبابة بنت الحارث الهلالية، غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم مكة وحنيناً وثبت معه يوم إذ وشهد معه حجة الوداع، وكان يكنى أبا العباس وأبا عبد الله، وقيل كان يكنى أبا محمد، مات في خلافة الصديق رضي الله عنه وأرضاه1 وقد وردت له بعض المناقب رضي الله عنه، فمن مناقبه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم زوجه وأمهر عنه:
1- فقد روى مسلم في حديث طويل بإسناده إلى الزهري أن عبد الله بن عبد الله بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب حدثه وفيه أن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث والفضل بن عباس انطلقا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يريدان منه أن يوليهما على بعض الصدقة قال أحدهما: "فلما صلى رسول الله الظهر سبقناه إلى الحجرة فقمنا عندها حتى جاء فأخذ بآذاننا ثم قال: "أخرجا ما تصرران" ثم دخل ودخلنا عليه وهو يومئذ عند زينب بنت جحش قال: "فتواكلنا الكلام، ثم تكلم أحدنا فقال: يا رسول الله أنت أبر الناس وأوصل الناس وقد بلغنا الحلم فجئنا لتأمرنا على بعض هذه الصدقات فنؤدي إليك كما يؤدي الناس ونصيب كما يصيبون قال: فسكت طويلاً حتى أردنا أن نكلمه قال: وجعلت زينب تلمع2 علينا من وراء الحجاب أن لا تكلما قال: ثم قال: "إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد إنما هي أوساخ الناس" 3 ادعوا لي محمية وكان على الخمس ونوفل بن الحارث بن
__________
1ـ طبقات ابن سعد 4/45، التاريخ الكبير 7/114، التاريخ الصغير 1/36، الجرح والتعديل 7/63، المستدرك 3/274، الاستعياب على حاشية الإصابة 3/202-204، أسد الغابة 3/183، الإصابة 3/208، تهذيب التهذيب 8/280.
2ـ تلمع: أي: تشير بيدها "النهاية" 4/271.
3ـ أوساخ الناس: أي: أنها تطهير لأموالهم ونفوسهم كما قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ =(1/386)
عبد المطلب قال: فجاءه فقال لمحمية: "أنكح هذا الغلام ابنتك" للفضل بن عباس فأنكحه وقال لنوفل بن الحارث: "أنكح هذا الغلام ابنتك" "لي" فأنكحني: وقال لمحمية: أصدق عنهما من الخمس كذا وكذا "قال الزهري: ولم يسمه لي"1.
هذا الحديث فيه بيان منقبة عظيمة ظاهرة للفضل بن عباس ولعبد المطلب بن ربيعة حيث زوجهما النبي صلى الله عليه وسلم وأصدق عنهما، كما دل الحديث على تحريم الصدقة على جميع بني هاشم وليس الحال كما ورد عن زيد بن أرقم أن الذين تحرم عليهم الصدقة هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس فهذا عبد المطلب بن ربيعة بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه ممن تحرم عليه الصدقة وليس هو من المذكورين الذين ذكرهم زيد بن أرقم رضي الله عنه والذي يظهر من هذا أن زيداً لم يرد حصر بني هاشم فيمن ذكرهم.
2- ومن مناقب الفضل رضي الله عنه أنه كان رديف النبي صلى الله عليه وسلم من المزدلفة إلى منى2.
3- ومن مناقبه رضي الله عنه ما أخرجه البغوي من طريق يزيد بن عبد الله بن قسيط عن عطاء عن ابن عباس عن أخيه الفضل قال: جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "خذ بيدي" وقد عصب رأسه فأخذت بيده فأقبل حتى جلس على المنبر فقال: "ناد في الناس" فصحت فيهم فاجتمعوا له ... فذكر الحديث3.
ذلك هو الفضل بن عباس وتلك بعض مناقبه التي دلت على أنه من فضلاء الصحابة رضي الله عنه وأرضاه.
__________
= وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} فهي كغسالة الأوساخ.
1ـ صحيح مسلم 2/752-753.
2ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 3/404، صحيح مسلم 2/931، المستدرك 3/275.
3ـ أورده الحافظ ابن حجر في الإصابة 3/203.(1/387)
8) جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه:
هو جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أكبر من أخيه علي بعشر سنين، وكان رضي الله عنه من متقدمي الإسلام والسابقين إليه، وهاجر رضي الله عنه إلى الحبشة وكانت له هناك مواقف مشهورة، ومقامات محمودة، وأجوبة سديدة، وأحوال رشيدة، وقدم المدينة يوم فتح خيبر، وفرح به النبي صلى الله عليه وسلم فرحاً شديداً فقام إليه واعتنقه وقبله بين عينيه1، ولما بعثه إلى مؤتة جعله نائباً لزيد بن حارثة، ولما استشهد في غزوة مؤتة وجدوا فيه بضعاً وتسعين ما بين ضربة بسيف وطعنة برمح ورمية بسهم وهو في ذلك كله مقبل غير مدبر، وكانت قد قطعت يده اليمنى ثم اليسرى وهو ممسك للّواء فلما فقدهما احتضنه حتى قتل وهو كذلك، فيقال إن رجلاً من الروم ضربه بسيف فقطعه باثنتين رضي الله عن جعفر ولعن قاتله، وقد أخبر عليه الصلاة والسلام بأنه شهيد، فهو ممن يقطع له بالجنة، وجاء في الأحاديث تسميته بذي الجناحين وكان يقال له بعد قتله ـ الطيار ـ، وكان كريماً جواداً ممدحاً، وكان لكرمه يقال له: أبا المساكين لإحسانه إليهم وكان استشهاده رضي الله عنه في السنة الثامنة من الهجرة2 رضي الله عنه وأرضاه.
وقد وردت مناقبه رضي الله عنه في كثير من الأحاديث الصحيحة ومن تلك الأحاديث:
1- ما رواه الإمام أحمد وغيره بإسناده إلى عبيد الله بن أسلم مولى النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول لجعفر بن أبي طالب رضي الله عنه: "أشبهت
__________
1ـ انظر مجمع الزوائد 9/271-272.
2ـ البداية والنهاية 4/285 وانظر الجرح والتعديل 2/482، وحلية الأولياء 1/114-118، الاستيعاب على حاشية الإصابة 1/211-214، وأسد الغابة 1/386، تهذيب الأسماء واللغات 1/148-149، سير أعلام النبلاء 1/206-217، الإصابة 1/239-240.(1/388)
خلقي وخلقي" 1.
هذا الحديث فيه منقبة عظيمة لجعفر بن أبي طالب من حيث أنه أشبه النبي صلى الله عليه وسلم خلقاً وخُلقاً وأكرم بها من منقبة فقد قال ـ جل وعلا ـ مادحاً نبيه عليه الصلاة والسلام {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} 2.
2- روى الإمام مسلم بإسناده إلى أبي موسى قال: بلغنا مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن باليمن فخرجنا مهاجرين إليه أنا وإخوان لي أنا أصغرهما أحدهما أبو بردة والآخر أبو رهم ـ إما قال بضعاً وإما قال ثلاثة وخمسين أو اثنين وخمسين رجلا من قومي ـ قال: فركبنا سفينة فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة فوافقنا جعفر بن أبي طالب وأصحابه عنده فقال جعفر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثنا هاهنا وأمرنا بالإقامة فأقيموا معنا فأقمنا معه حتى قدمنا جميعاً قال: فوافقنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر فأسهم لنا، أو قال أعطانا منها وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر منها شيئاً إلا لمن شهد معه إلا لأصحاب سفينتنا مع جعفر وأصحابه قسم لهم معهم قال: فكان ناس من الناس يقولون لنا: ـ يعني لأهل السفينة ـ نحن سبقناكم بالهجرة.
قال: فدخلت أسماء بنت عميس وهي ممن قدم معنا على حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم زائرة وقد كانت هاجرت إلى النجاشي فيمن هاجر إليه فدخل عمر على حفصة وأسماء عندها فقال عمر حين رأى أسماء: من هذه؟ قالت أسماء بنت عميس: قال عمر الحبشية هذه؟ البحرية هذه؟ فقالت أسماء: نعم فقال عمر: سبقناكم بالهجرة فنحن أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم فغضبت وقالت: كذبت3 يا عمر كلا والله كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يطعم جائعكم، ويعظ
__________
1ـ المسند مع الفتح الرباني 22/214، صحيح البخاري مع فتح الباري 7/499 من رواية البراء رضي الله عنه.
2ـ سورة القلم آية /4.
3ـ كذبت: هنا بمعنى أخطأت وليس المراد بها شتم الفاروق وسبه فالصحابة رضي الله عنهم كانوا أطهر الناس ألسنة من بذيء الكلام قال الحافظ رحمه الله تعالى: وأهل الحجاز يقولون "كذبت" في(1/389)
ما قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن كنا نؤذى ونخاف وسأذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأسأله ووالله لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد على ذلك قال: فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم قالت: يا نبي الله إن عمر قال كذا وكذا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس بأحق بي منكم وله ولأصحابه هجرة واحدة ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان ... " الحديث2.
هذا الحديث فيه بيان فضيلة عظيمة للذين هاجروا الهجرة الأولى إلى الحبشة فقد أكرمهم النبي صلى الله عليه وسلم بالقسم من غنائم خيبر ولم يقسم لأحد غاب عن هذا الفتح سواهم، وأخبر أنهم أحق الصحابة به عليه الصلاة والسلام وأن لهم أجر الهجرتين وفي مقدمتهم جميعاً جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وعنهم أجمعين.
3- وروى الإمام أحمد بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: ما احتذى النعال ولا انتعل ولا ركب المطايا ولا لبس الكور3 من رجل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من جعفر بن أبي طالب4.
قال الحافظ ابن كثير بعد إيراد هذا الحديث بسنده: "وهذا إسناد جيد إلى أبي هريرة وكأنه إنما يفضله في الكرم، فأما في الفضيلة الدينية فمعلوم أن الصديق والفاروق ـ بل وعثمان بن عفان ـ أفضل منه، وأما أخوه علي رضي الله
__________
موضع أخطأت" أهـ.فتح الباري 7/64.
1ـ البعداء البغضاء قال العلماء: البعداء في النسب البغضاء في الدين لأنهم كفار إلا النجاشي وكان يستخفي بإسلامه عن قومه ويوري لهم"أهـ شرح النووي على صحيح مسلم 16/65.
2ـ صحيح مسلم 4/1946-1947.
3ـ الكور: رحل الناقة بأداته وهو كالسرج وآلته للفرس "النهاية في غريب الحديث" 4/208.
4ـ المسند 2/213-214 وفيه "يعني الجود والكرم" سنن الترمذي 5/320 وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب ورواه النسائي في فضائل الصحابة ص/86، والحاكم في المستدرك 3/209 وقال: صحيح على شرط البخاري وأقره الذهبي.(1/390)
عنهما فالظاهر أنهما متكافئان أو علي أفضل منه"1.
ولا شك أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أفضل الخلق على الإطلاق بعد الخلفاء الثلاثة ولا يساويه أحد في فضله بعدهم رضي الله عنهم أجمعين.
4- ومن مناقب جعفر رضي الله عنه التي اشتهر بها أنه كان كثير العطف والحنو على المساكين وكان يحبهم ويسكن إليهم حتى إنه كان يكنى بأبي المساكين.
فقد روى الإمام البخاري بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه أن الناس كانوا يقولون: أكثر أبو هريرة وإني كنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشبع بطني حتى لا آكل الخمير ولا ألبس الحبير2 ولا يخدمني فلان ولا فلانة وكنت ألصق بطني بالحصاء من الجوع وإن كنت لأستقرئ الرجل الآية هي معي كي ينقلب بي فيطعمني، وكان أخير الناس للمساكين جعفر بن أبي طالب كان ينقلب بنا فيطعمنا ما كان في بيته حتى إن كان ليخرج إلينا العكة3 التي ليس فيها شيء فيشقها فنلعق ما فيها"4.
ففي هذا بيان فضيلة لجعفر رضي الله عنه وشهادة من أبي هريرة رضي الله عنه بأنه كان أشفق الناس على المساكين.
قال الحافظ ابن حجر: "وهذا التقييد يحمل عليه المطلق الذي جاء عن عكرمة عن أبي هريرة قال: "ما احتذى النعال وما ركب المطايا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من جعفر بن أبي طالب"5.
5- ومن مناقبه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم جعله نائباً لزيد بن حارثة في غزوة مؤتة وأبلى فيها بلاء حسناً. فقد روى الإمام البخاري بإسناده إلى ابن
__________
1ـ البداية والنهاية 4/286.
2ـ الحبير: قال في النهاية: "الحبير من البرود وما كان موشياً مخططاً" 1/328 وانظر فتح الباري 7/76.
3ـ العكة: ظرف السمن. وقوله: ليس فيها شيء "مع قوله": فنعلق ما فيها "لا تنافي بينهما لأنه أراد بالنفي أي: لا شيء فيها يمكن إخراجه منها بغير قطعها، وبلإثبات ما يبقى في جوانبها" فتح الباري 7/76.
4ـ صحيح البخاري مع الفتح 7/75.
5ـ فتح الباري 7/76.(1/391)
عمر رضي الله عنهما قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة ـ مؤتة ـ زيد بن حارثة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن قتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة" قال عبد الله: كنت فيهم في تلك الغزوة فالتمسنا جعفر بن أبي طالب فوجدناه في القتلى ووجدنا ما في جسده بضعاً وتسعين من طعنة ورمية.
وروى أيضاً بإسناده إلى نافع أن ابن عمر أخبره أنه وقف على جعفر يومئذ وهو قتيل فعددت به خمسين بين طعنة وضربة ليس منها شيء في دبره يعني في ظهره1.
هذان الحديثان ظاهرهما التعارض "ويجمع بأن العدد قد لا يكون له مفهوم أو بأن الزيادة باعتبار ما وجد فيه من رمي السهام، أو الخمسين مقيدة بكونها ليس فيها شيء في دبره أي: في ظهره، فقد يكون الباقي في بقية جسده ولا يستلزم ذلك أنه ولى دبره، وهو محمول على أن الرمي إنما جاء من جهة قفاه أو جانبيه ... ووقع في رواية البيهقي في "الدلائل" بضعاً وتسعين أو بضعاً وسبعين، وأشار إلى أن بضعاً وتسعين أثبت في قوله "ليس فيها شيء في دبره" بيان فرط شجاعة جعفر وإقدامه"أ. هـ2.
7- ومن مناقبه إخبار النبي صلى الله عليه وسلم أنه مات شهيداً في سبيل الله تعالى وشهد له بذلك.
فقد روى الإمام أحمد بإسناده إلى أبي قتادة فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيش الأمراء وقال: "عليكم زيد بن حارثة فإن أصيب زيد فجعفر فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة الأنصاري" فوثب جعفر فقال: بأبي أنت يا نبي الله وأمي ما كنت أرهب أن تستعمل علي زيداً قال: "امضوا فإنك لا تدري أي ذلك خير" قال: فانطلق الجيش فلبسوا ما شاء الله ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صعد المنبر وأمر أن ينادى الصلاة جامعة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثاب خبر أو
__________
1ـ الحديثان في صحيح البخاري 3/58.
2ـ فتح الباري 7/512، وانظر البداية والنهاية لابن كثير 4/274.(1/392)
ثاب خبر ـ شك عبد الرحمن ـ ألا أخبركم عن جيشكم هذا الغازي إنهم انطلقوا فلقوا العدو فأصيب زيد شهيداً استغفروا له فاستغفر له الناس، ثم أخذ اللواء جعفر بن أبي طالب فشد على القوم حتى استشهد أشهد له بالشهادة فاستغفروا له، ثم أخذ اللواء عبد الله بن رواحة فأثبت قدميه حتى قتل شهيداً فاستغفروا له، ثم أخذ اللواء خالد بن الوليد، ولم يكن من الأمراء هو أمر نفسه" فرفع رسول الله أصبعيه وقال: "اللهم هو سيف من سيوفك فانصره" وقال عبد الرحمن مرة: فانتصر به فيؤمئذ سمي خالد سيف الله، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "انفروا فأمدوا إخوانكم ولا يتخلفن أحد فنفر الناس في حر شديد مشاة وركباناً" 1.
قال الحافظ ابن كثير: "وقد أخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه شهيد فهو ممن يقطع له بالجنة "أ. هـ2.
8- ومن مناقبه رضي الله عنه إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم عنه بأن له جناحين يطير بهما مع الملائكة.
روى البخاري بإسناده إلى ابن عمر رضي الله عنه أنه كان إذا حيا ابن جعفر قال: السلام عليك يا ابن ذي الجناحين3.
وفي هذا بيان فضيلة لجعفر رضي الله عنه من حيث إطلاق ذي الجناحين عليه وهي منقبة عظيمة له رضي الله عنه. وتحية ابن عمر لابن جعفر بقوله: "السلام عليك يا ابن ذي الجناجين" كأنه يشير إلى حديث عبد الله بن جعفر وأبي هريرة رضي الله عنهما.
فقد روى الطبراني بإسناده إلى عبد الله بن جعفر قال: قال لي رسول الله
__________
1ـ المسند 5/299 وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 6/156 وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير خالد بن سمير وهو ثقة.
2ـ البداية والنهاية 4/285.
3ـ صحيح البخاري 3/58.(1/393)
صلى الله عليه وسلم: "هنيئاً لك يا عبد الله بن جعفر أبوك يطير مع الملائكة في السماء 1.
وروى الحاكم بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مرَّ بي جعفر الليلة في ملأ من الملائكة وهو مخضب الجناحين بالدم أبيض الفؤاد" 2.
9- ومن مناقبه رضي الله عنه أنه كان ذا مكانة عظيمة عند النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك لما بلغه نبأ استشهاده حزن حزناً عظيماً عليه عرف ذلك في وجهه عليه الصلاة والسلام.
فقد روى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: لما أتى نعي جعفر عرفنا في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم الحزن3.
وجاء في صحيح البخاري أنه حزن على الأمراء الثلاثة الذين أمّرهم في غزوة مؤتة حزناً عظيماً حتى ظهر أثر الحزن عليه عليه الصلاة والسلام.
فقد روى الإمام البخاري بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: "لما جاء قتل ابن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف فيه الحزن" الحديث4.
10- ومن مناقبه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتنى بأولاده عناية عظيمة بعد أن استشهد في غزوة مؤتة فقد قام بزيارتهم وتفقد أحوالهم ودعا لهم فقد روى الإمام أحمد بإسناده إلى عبد الله بن جعفر ... أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهل آل جعفر ثلاثاً أن يأتيهم ثم أتاهم فقال: "لا تبكوا على أخي بعد اليوم ادعوا لي ابن أخي" قال: فجيء بنا كأنا أفرخ فقال: "ادعوا إلى الحلاق" فجيء بالحلاق فحلق رؤوسنا ثم قال: "أما محمد فشبيه عمنا أبي طالب. وأما عبد الله فشبيه
__________
1ـ مجمع الزوائد 9/273 وقال: رواه الطبراني وإسناده حسن وأورده الحافظ في فتح الباري 7/76 وقال: رواه الطبراني بإسناد حسن.
2ـ المستدرك 3/212 وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وأقره الذهبي.
3ـ المستدرك 3/209 وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وأقره الذهبي.
4ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 7/512.(1/394)
خلقي وخُلقي" ثم أخذ بيدي فأشلهما فقال: "اللهم اخلف جعفراً في أهله وبارك لعبد الله في صفقة يمينه" قالها ثلاث مرار قال: فجاءت أمنا فذكرت له يتمنا وجعلت تفرح له1 فقال: "العيلة تخافين وأنا وليهم في الدنيا والآخرة"2.
وروى الإمام مسلم بإسناده إلى عبد الله بن جعفر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر تلقي بصبيان أهل بيته قال: وإنه قدم من سفر فسبق بي إليه فحملني بين يديه، ثم جيء بأحد ابني فاطمة فأردفه خلفه قال: فأدخلنا المدينة ثلاثة على دابة3.
وروى الإمام أحمد بإسناده إلى عبد الله بن جعفر قال: لو رأيتني وقثم وعبيد الله ابنا عباس ونحن صبيان نلعب إذ مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم على دابة فقال: " ارفعوا هذا إليّ" قال: فحملني أمامه وقال لقثم: "ارفعوا هذا إلي" فجعله وراءه وكان عبيد الله أحب إلى عباس من قثم فما استحى من عمه أن حمل قثماً وتركه قال: ثم مسح على رأسي ثلاثاً وقال كلما مسح: "اللهم أخلف جعفراً في ولده" قال: قلت لعبد الله! ما فعل قثم قال: استشهد قال: قلت: الله ورسوله أعلم بالخير4.
ذلك هو جعفر بن أبي طالب وتلك طائفة من مناقبه التي دلت على عظيم مكانته وعلو شأنه وأنه أوتي خيراً كثيراً وفضلاً عظيماً رضي الله عنه وأرضاه.
__________
1ـ تفرح له أي: ذكرت له صلى الله عليه وسلم يتم أولادها وثقل مؤونتهم وما ستلقاه من العناء في تربيتهم "انظر النهاية" 3/424.
2ـ المسند مع الفتح الرباني 22/213-214 وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 6/156-157 ثم قال: رواه أحمد والطبراني ورجالهما رجال الصحيح.
3ـ صحيح مسلم 4/1885.
4ـ المسند مع الفتح الرباني 22/215 قال الحافظ ابن حجر في الإصابة: 2/280: أخرجه أحمد وغيرها.(1/395)
9) عبد الله بن جعفر رضي الله عنه:
هو عبد الله بن جعفر بن أبي طالب بن عبد مناف بن عبد المطلب بن هاشم أبو جعفر القرشي الهاشمي1 وأمه أسماء بنت عميس الخثعمية أخت ميمونة بنت الحارث لأمها ولد بأرض الحبشة لما هاجر أبواه إليها وهو أول من ولد بها من المسلمين وحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم وروى عنه رضي الله عنه وأرضاه. وقد وردت له بعض المناقب دلت على عظيم شأنه وعلو مكانته.
1- فمن مناقبه رضي الله عنه أنه كان ممن شمهلم شرف الهجرة من الحبشة إلى المدينة وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن للناس هجرة واحدة ولهم هجرتان فقد روى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى أسماء بنت عميس رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "للناس هجرة ولكم هجرتان" 2.
2- ومن مناقبه رضي الله عنه أنه كان من الذين شبهوا النبي صلى الله عليه وسلم خَلقاً وخُلقاً ودعا له ولإخوانه عامة ودعا له خاصة أن يبارك له في تجارته.
فقد روى الإمام أحمد بإسناده إلى عبد الله بن جعفر ... أن النبي صلى الله عليه وسلم أمهل آل جعفر ثلاثاً أن يأتيهم ثم أتاهم فقال: "لا تبكوا على أخي بعد اليوم ادعوا لي ابني أخي" قال: فجيء بنا كأنا أفرخ فقال: "ادعوا إلي الحلاق" فجيء بالحلاق فحلق رؤوسنا ثم قال: "أما محمد فشبيه عمنا أبي طالب وأما عبد الله فشبيه خلقي وخلقي" ثم أخذ بيدي فأشلهما فقال: "اللهم اخلف جعفراً في أهله وبارك لعبد الله في صفقة يمينه" قالها ثلاث مرار ... الحديث3.
وروى أبو يعلى والطبراني كما في "مجمع الزوائد"4 عن عمرو بن حريث
__________
1ـ انظر ترجمته في الاستيعاب على حاشية الإصابة 2/266-267، أسد الغابة 3/132-135، سير أعلام النبلاء 3/456-462، البداية والنهاية 9/36، الإصابة 2/280-281.
2ـ المستدرك 3/566 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
3ـ المسند 1/204، ورواه النسائي مختصراً 8/182.
4ـ المجمع 9/286 ثم قال: رواه أبو يعلى والطبراني ورجالها ثقات(1/396)
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ بعبد الله بن جعفر وهو يبيع بيع الغلمان أو الصبيان قال: "اللهم بارك له في بيعه أو قال في صفقته".
2- ومن مناقبه رضي الله عنه إرداف المصطفى عليه الصلاة والسلام له على دابته بين يديه وخلفه. فقد روى الإمام مسلم بإسناده إلى عبد الله بن جعفر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر تلقي بصبيان أهل بيته قال: وإنه قدم من سفر فسبق بي إليه فحملني بين يديه ثم جيء بأحد ابني فاطمة فأردفه خلفه قال: فأدخلنا ثلاثة على دابة1.
وروى أيضاً بإسناده إلى عبد الله بن جعفر قال: أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم خلفه فأسر إلي حديثاً لا أحدث به أحد من الناس2.
ذلك هو عبد الله بن جعفر وتلك طائفة من مناقبه التي دلت على فضله وجلالة قدره رضي الله عنه وأرضاه.
__________
1ـ صحيح مسلم 4/1885.
2ـ المصدر السابق 4/1886.(1/397)
10) أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب:
هو أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب بن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل: اسمه المغيرة أسلم عام الفتح وحسن إسلامه، وكان قبل إسلامه من أشد الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى دينه ومن تبعه وكان شاعراً بارعاً هجا الإسلام وأهله، وهو الذي رد عليه حسان بن ثابت رضي الله عنه في قصيدته التي مطلعها:
ألا أبلغ أبا سفيان عني ... مغلغلة فقد برح الخفاء
هجوت محمداً وأوجبت عنه
... وعند الله في ذلك الجزاء1
شهد أبو سفيان حنيناً وأبلى فيها بلاء حسناً وكان ممن ثبت ولم يفر يومئذ ولم تفارق يده لجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انصرف الناس إليه وكان يشبه النبي صلى الله عليه وسلم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه وشهد له بالجنة وكان يقول: " أرجو أن تكون خلفاً من حمزة" وهو معدود في فضلاء الصحابة2.
قال الذهبي رحمه الله تعالى: "تلقى النبي صلى الله عليه وسلم في الطريق قبل أن يدخل مكة مسلماً فانزعج النبي صلى الله عليه وسلم وأعرض عنه لأنه بدت منه أمور في أذية النبي صلى الله عليه وسلم فتذلل للنبي صلى الله عليه وسلم حتى رق له، ثم حسن إسلامه ولزم هو والعباس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين إذ فر الناس وأخذ بلجام البغلة وثبت معه وكان أخا النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة أرضعتهما حليمة3.
وكانت وفاته رضي الله عنه سنة عشرين للهجرة "وكان سبب وفاته أنه حج فلما حلق الحلاق رأسه قطع أثلولاً كان في رأسه فلم يزل مريضاً منه حتى مات بعد مقدمه من الحج بالمدينة سنة عشرين"4.
__________
1ـ انظر طبقات ابن سعد 4/49-54، أسد الغابة 5/215، المستدرك 3/255، سير أعلام النبلاء 1/202، البداية 7/114.
2ـ الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/84.
3ـ سير أعلام النبلاء 1/203.
4ـ الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/85.(1/398)
وأبو سفيان هذا وردت له بعض المناقب دلت على جلالة قدره وهي:
1- ما رواه الطبراني بإسناده عن أبي حبة البدري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين لا ينظر في ناحية إلا رأى أبا سفيان بن الحارث يقاتل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أبا سفيان خير أهلي أو من خير أهلي" 1.
هذا الحديث فيه فضيلة ظاهرة لأبي سفيان بن الحارث حيث بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه من خيار أهل البيت النبوي رضي الله عنهم أجمعين.
2- وروى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى العباس بن عبد المطلب قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فلقد رأيته وما معه إلا أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وهو آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راكبها وأبو سفيان لا يألوا أن يسرع نحو المشركين2.
وفي هذا الحديث بيان منقبة عظيمة لأبي سفيان رضي الله عنه وهي فرط شجاعته وإقدامه لمناجزة أعداء الدين من المشركين والكافرين من أجل نصرة الإسلام ورفع رايته.
3- وروى الحاكم أبو عبد الله بإسناده إلى عروة بن الزبير قال: أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رضي الله عنه كان أحب قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان شديداً عليه فلما أسلم كان أحب الناس إليه3.
ففي قول عروة بيان ما حصل لأبي سفيان بن الحارث من المكانة عند النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن كان من أشد الناس عداوة له، فإنه صار بعد ذلك من أحب الناس إليه رضي الله عن أبي سفيان وأرضاه.
4- وروى الحاكم أيضاً: بإسناده إلى عروة بن الزبير قال: قال رسول الله
__________
1ـ أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 9/274 وقال: رواه الطبراني في الكبير والأوسط وإسناده حسن.
2ـ المستدرك 3/255 ثم قال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وأقره الذهبي.
3ـ المصدر السابق 3/255 وهذا مرسل ولعله أخذه عن أبيه أو غيره من الصحابة.(1/399)
صلى الله عليه وسلم: "سيد فتيان الجنة أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب" قال: حلقه الحلاق بمنى وفي رأسه ثألول فقطعه فمات فيرون أنه شهيد1.
فقول عروة هذا لا بد أنه سمعه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يمكن أن يقوله من تلقاء نفسه، والصحابة لا بد أنهم سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم لأن هذا من باب الإخبار بالغيب لأنه متضمن الشهادة لمعين بالجنة، ولا يخبر بهذا إلا المصطفى عليه الصلاة والسلام.
ذلك هو أبو سفيان بن الحارث وتلك بعض مناقبه فقد كان من فضلاء الصحابة وأجلهم ورضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين.
__________
1ـ المستدرك 3/255 وأورده الحافظ في "الإصابة" 4/60 وقال: "أخرجه الحاكم أبو أحمد من طريق حماد بن سلمة عن هشام عن عروة عن أبيه، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبو سفيان بن الحارث سيد فتيان أهل الجنة" ثم ساق كلام عروة بكامله ثم قال: "هذا مرسل رجاله ثقات"أهـ.(1/400)
11) عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب:
هو عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف القرشي الهاشمي كان إسلامه قديماً قبل دخول النبي صلى الله عليه وسلم دار الأرقم وكان أسن من النبي صلى الله عليه وسلم بعشر سنين هاجر إلى المدينة وشهد بدراً، وعقد له رسول الله صلى الله عليه وسلم أول راية وأمره على سرية قبل وقعة بدر ومات رضي الله عنه عقب غزوة بدر إذ قطعت رجله فمات بالصفراء رضي الله عنه وأرضاه1.
وقد وردت له بعض المناقب دلت على جليل قدره وعظيم مكانته:
1- فمن مناقبه رضي الله عنه أن أول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له رضي الله عنه.
ذكر ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم عقد لعبيدة بن الحارث راية وأرسله في سرية قبل وقعة بدر فكانت أول راية عقدت في الإسلام2.
وأما الواقدي فذكر أن أول لواء عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لحمزة3.
قال الحافظ ابن حجر: "ويمكن الجمع على رأي من يغاير بين الراية واللواء والله أعلم"4.
2- ومن مناقبه رضي الله عنه أنه كان أحد الذين برزوا يوم بدر فقد كان في حسب الله الذين قاتلوا في سبيل الله وهم حمزة وعلي وثالثهم عبيدة بن الحارث، وحزب الشيطان كان يمثله عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة.
فقد روى الشيخان وغيرهما عن قيس بن عباد قال: "سمعت أبا ذر يقسم قسماً إن هذه الآية {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} 5. نزلت في الذين
__________
1ـ الاستيعاب على حاشية الإصابة 2/436-438، الإصابة 2/442، أسد الغابة 3/356-357.
2ـ سيرة ابن هشام 1/595.
3ـ مغازي الواقدي 1/9.
4ـ الإصابة 2/442.
5ـ سورة الحج آية/19.(1/401)
برزوا يوم بدر: حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة1.
ففي هذا الحديث منقبة واضحة لعبيدة بن الحارث حيث إنه كان من الصحابة الذين أنزل الله فيهم قرآناً يتلى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها: وأكرم بها من منقبة فإنها أكسبته منزلة عظيمة وميزة شريفة رضي الله عنه وأرضاه.
وروى أبو داود بإسناده إلى حارثة بن مضرب عن عليّ قال: تقدم يعني عتبة بن ربيعة ـ وتبعه ابنه وأخوه فنادى من يبارز؟ فانتدب له شباب من الأنصار فقال من أنتم؟ فأخبروه فقال: لا حاجة لنا فيكم إنما أردنا بني عمنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قم يا حمزة، قم يا عليّ قم يا عبيدة بن الحارث" فأقبل حمزة إلى عتبة، وأقبلت على شيبة، واختلف بين عبيدة والوليد ضربتان، فأسخن كل واحد منهما صاحبه، ثم ملنا على الوليد فقتلناه واحتملنا عبيدة"2.
3- ومن مناقبه رضي الله عنه أن سبب وفاته ضربة بسيف في ساقه يوم بدر ضربه به عتبة بن ربيعة فكانت وفاته رضي الله عنه في سبيل الله فقد روى الحاكم بإسناده إلى عبد الله بن عباس وذكر حديث المبارزة وأن عتبة بن ربيعة قتل عبيدة بن الحارث وبارز ضربه عتبة على ساقه فقطعها فحمله رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات بالصفراء منصرفه من بدر فدفنه هنالك3.
ذلك هو عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب فقد كان رضي الله عنه من السابقين الأولين إلى الإسلام ومن الذين أخلصوا دينهم لله وقاتل في سبيل الله نصرة لدين الإسلام حتى فارق الدنيا وهو على ذلك فرضي الله عنه وأرضاه.
والذي أخلص إليه في هذا المبحث أنني ضمنته ذكر فضائل أحد عشر
__________
1ـ صحيح البخاري 3/5، صحيح مسلم 4/2323.
2ـ سنن أبي داود 2/49.
3ـ المستدرك 3/187-188 ثم قال عقبه: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.(1/402)
شخصاً من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم الذكور عدا أمير المؤمنين علي بن طالب رضي الله عنه فإنني كما قلت في أول هذا المبحث قد تقدم معنا ذكر فضائله في "الفصل الثالث" من هذا الباب، وهناك أفراد من أهل البيت صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرد لهم ذكر فضائل تخصهم فهؤلاء يكفيهم ما جاء في فضلهم عموماً من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، كما يكفيهم ما حصل لهم من شرف الصحبة التي لا يعدلها شيء.(1/403)
المبحث الرابع: فضل أهل بيته الإناث
...
1) خديجة رضي الله عنها:
هي أم المؤمنين خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي تجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في قصي وهي من أقرب نسائه إليه في النسب ولم يتزوج من ذرية قصي غيرها إلا أن أم حبيبة، تزوجها صلى الله عليه وسلم بمكة وهو ابن خمسة وعشرين سنة وكانت قبله عند أبي هالة ابن النباش بن زرارة التميمي1 حليف بني عبد الدار، وقد بقيت رضي الله عنها مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن أكرمه الله برسالته، وكانت أول من آمن به من النساء، وصدقته ونصرته فكانت له وزير صدق وهي سيدة نساء العالمين في زمانها، وهي ممن كمل من النساء فقد كانت عاقلة جليلة دينة مصونة كريمة من أهل الجنة، وكان عليه الصلاة والسلام يثني عليها ويفضلها على سائر أمهات المؤمنين ويبالغ في تعظيمها، ولم يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم امرأة قبلها، وكل أولاده عليه الصلاة والسلام منها إلا إبراهيم رضي الله عنه فإنه من سريته مارية رضي الله عنها، ولم يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم عليها امرأة قط، ولا تسرى إلى أن قضت نحبها فوجد لفقدها فإنها كانت نعم القرين فلقد أنفقت عليه صلى الله عليه وسلم من مالها واتجر فيه لها رضي الله عنها وأرضاها، وكانت وفاتها رضي الله عنها قبل الهجرة بثلاث سنين2.
وقد وردت الأحاديث الصحيحة بمناقبها الكثيرة ومن تلك الأحاديث:
1- ما رواه الحاكم بإسناده إلى عفيف بن عمر وقال: كنت امرء تاجراً، وكنت صديقاً للعباس بن عبد المطلب في الجاهلية فقدمت لتجارة فنزلت على العباس بن عبد المطلب بمنى فجاء رجل فنظر إلى الشمس حين مالت فقام يصلي
__________
1ـ وقبل: كانت قبله عند عتيق بن عائذ بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم ثم خلف عليها النبي صلى الله عليه وسلم "وهذا قول أبي عمر بن عبد البر انظر الاستيعاب على الإصابة 4/272.
2ـ طبقات ابن سعد 1/131، الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/271-281، أسد الغابة 5/434، تاريخ الإسلام 1/41، مجمع الزوائد 9/218-225، فتح الباري 7/134، الإصابة 4/273-276.(1/407)
ثم جاءت امرأة فقامت تصلي ثم جاء غلام حين راهق الحلم فقام يصلي فقلت للعباس: من هذا؟ فقال: هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن أخي يزعم أنه نبي ولم يتابعه على أمره غير هذه المرأة وهذا الغلام، وهذه المرأة خديجة بنت خويلد امرأته وهذا الغلام ابن عمه علي بن أبي طالب قال عفيف الكندي: وأسلم وحسن إسلامه: لوددت أني كنت أسلمت يومئذ فيكون لي ربع الإسلام1.
هذا الحديث اشتمل على منقبة عظيمة لأم المؤمنين خديجة رضي الله عنها وهي أنها كانت من السابقين الأولين إلى الإسلام.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: "ومما اختصت به سبقها نساء هذه الأمة إلى الإيمان، فسنت ذلك لكل من آمنت بعدها فيكون لها مثل أجرهن لما ثبت: أن من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء2 وقد شاركها في ذلك أبو بكر الصديق بالنسبة إلى الرجل، ولا يعرف قدر ما لكل منهما من الثواب بسبب ذلك إلا الله ـ عز وجل ـ"3.
2- روى الإمام البخاري بإسناده إلى عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو غار حراء فجاءه الملك فقال: اقرأ قال: "ما أنا بقارئ" قال: "فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ قلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني
__________
1ـ المستدرك 3/183 ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
2ـ الحديث في صحيح مسلم 4/2059.
3ـ فتح الباري 7/137.(1/408)
الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ فقلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} 1 فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، فقال: " زملوني زملوني" فزملوه حتى ذهب عنه الروع فقال: لخديجة وأخبرها الخبر "لقد خشيت على نفسي" فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبداً إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق. الحديث2.
فهذا الحديث تضمن ذكر منقبة ظاهرة لأم المؤمنين خديجة رضي الله عنها وهي أنها كانت تقوي قلب النبي صلى الله عليه وسلم في بداية نزول الوحي عليه وطمأنته عليه الصلاة والسلام مما كان يخشاه على نفسه وهونت عليه الأمر وأنه لا خوف عليه ولا حزن وأقسمت للنبي صلى الله عليه وسلم على أن الله لا يخزيه ولا يخذله واستدلت على ما أقسمت عليه بما فيه من صفاته الطيبة من أصول مكارم الأخلاق التي هي إحسانه إلى الأقارب والأجانب إما بالبدن، وإما بالمال وبينت له أن من وجدت فيه هذه الخصال الحميدة لن يخزيه الله أبداً.
3- ومن مناقبها رضي الله عنها التي انفردت بها دون سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أنه عليه الصلاة والسلام لم يتزوج عليها حتى فارقت الحياة الدنيا. فقد روى مسلم بإسناده إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: لم يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم على خديجة حتى ماتت3.
قال الحافظ: "وهذا مما لا اختلاف فيه بين أهل العلم بالأخبار وفيه دليل على عظم قدرها عنده وعلى مزيد فضلها لأنها أغنته عن غيرها واختصت به بقدر ما اشترك فيه غيرها مرتين لأنه صلى الله عليه وسلم عاش بعد أن تزوجها ثمانية وثلاثين عاماً انفردت خديجة منها بخمسة وعشرين عاماً وهي نحو
__________
1ـ سورة العلق آية/1-3.
2ـ صحيح البخاري 1/6-7.
3ـ صحيح مسلم 4/1889.(1/409)
الثلثين من المجموع ومع طول المدة فصان قلبها فيها من الغيرة ومن تكدر الضرائر الذي ربما حصل له هو منه ما يشوش عليه بذلك وهي فضيلة لم يشاركها فيها غيرها"1.
4- ومن مناقبها العظيمة التي شرفت بها أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأنها خير نساء هذه الأمة المحمدية قاطبة: فقد روى الإمام البخاري بإسناده إلى علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "خير نسائها مريم وخير نسائها خديجة" 2.
وعند الإمام مسلم بلفظ "خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد" قال أبو كريب وأشار وكيع إلى السماء والأرض3.
قال النووي رحمه الله: "قوله صلى الله عليه وسلم: "خير نسائها مريم بنت عمران وخير نسائها خديجة بنت خويلد" وأشار وكيع إلى السماء والأرض" أراد وكيع بهذه الإشارة تفسير الضمير في نسائها وأن المراد به جميع نساء الأرض أي: كل من بين السماء والأرض من النساء والأظهر أن معناه أن كل واحدة منهما خير نساء الأرض في عصرها وأما التفضيل بيهما فمسكوت عنه"4.
وقال القرطبي رحمه الله تعالى: "الضمير عائد على غير مذكور لكنه يفسره الحال والمشاهدة يعني: به الدنيا".
وقال الحافظ ابن حجر بعد أن ذكر أقوال العلماء في مرجع الضمير في قوله صلى الله عليه وسلم: "خير نسائها مريم وخير نسائها خديجة" والذي يظهر لي أن قوله: "خير نسائها" خبر مقدم والضمير لمريم فكأنه قال: مريم خير نسائها أي:
__________
1ـ فتح الباري 7/137.
2ـ صحيح البخاري 2/315.
3ـ صحيح مسلم 4/1886.
4ـ شرح النووي على صحيح مسلم 15/198.(1/410)
نساء زمانها وكذا في خديجة وقد جزم كثير من الشراح أن المراد نساء زمانها لما تقدم في أحاديث الأنبياء في قصة موسى وذكر آسية من حديث أبي موسى رفعه "كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم وآسية" فقد أثبت في هذا الحديث الكمال لآسية كما أثبته لمريم فامتنع حمل الخيرية في حديث الباب على الإطلاق وجاء ما يفسر المراد صريحاً فروى البزار والطبراني من حديث عمار بن ياسر رفعه "لقد فضلت خديجة على نساء أمتي كما فضلت مريم على نساء العالمين" "وهذا حديث حسن الإسناد"1.
5- ومن مناقبها رضي الله عنها التي دلت على شرفها وجلالة قدرها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثير من ذكرها بعد موتها بالثناء عليها والمدح لها وكان يأتي من العمل ما يسرها في حياتها. فقد روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت: "ما غرت على امرأة للنبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة هلكت قبل أن يتزوجني لما كنت أسمعه يذكرها وأمره الله أن يبشرها ببيت من قصب وإن كان ليذبح الشاة فيهدي في خلائلها منها ما يسعهن"2.
وروى مسلم رحمه الله بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: ما غرت للنبي صلى الله عليه وسلم على امرأة من نسائه ما غرت على خديجة لكثرة ذكرها إياها3.
وروى البخاري رحمه الله بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: "ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة وما رأيتها ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة فربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة؟ فيقول: إنها كانت وكانت وكان لي منها ولد"4.
__________
1ـ فتح الباري 7/135.
2ـ صحيح البخاري 2/315، صحيح مسلم 4/1888.
3ـ صحيح مسلم 4/1889.
4ـ صحيح البخاري 2/315.(1/411)
في هذه الأحاديث الثلاثة "ثبوت الغيرة وأنها غير مستنكر وقوعها من فاضلات النساء فضلاً عن دونهن، وأن عائشة كانت تغار من نساء النبي صلى الله عليه وسلم لكن كانت تغار من خديجة أكثر وقد بينت سبب ذلك وأنه لكثرة ذكر النبي صلى الله عليه وسلم إياها ... وأصل غيرة المرأة من تخيل محبة غيرها أكثر منها، وكثرة الذكر تدل على كثرة المحبة ... وقولها رضي الله عنها: "وأمره الله أن يبشرها" إلخ.
هذا من جملة أسباب الغيرة لأن اختصاص خديجة بهذه البشرى مشعر بمزيد محبة من النبي صلى الله عليه وسلم فيها ... وقولها أيضاً رضي الله عنها: "وإن كان ليذبح الشاة" إلخ، من أسباب الغيرة لما فيه من الإشعار باستمرار حبه لها حتى كان يتعاهد صواحباتها، وقوله عليه الصلاة والسلام: "إنها كانت وكانت" أي: كانت فاضلة وكانت عاقلة ونحو ذلك"1.
6- روى الإمام أحمد بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر خديجة أثنى عليها فأحسن الثناء. قالت: فغرت يوماً فقلت: ما أكثر ما تذكرها حمراء الشدق2، لقد أبدلك الله ـ عز وجل ـ بها خيراً منها. قال: "ما أبدلني الله ـ عز وجل ـ خيراً منها قد آمنت بي إذ كفر بي الناس وصدقتني إذ كذبني الناس وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله ـ عز وجل ـ ولدها إذ حرمني أولاد النساء" 3.
كلما ذكر في هذا الحديث مناقب عالية لأم المؤمنين خديجة رضي الله عنها
__________
1ـ فتح الباري 7/136-137.
2ـ قال النووي: معناه: عجوز كبيرة جداً حتى قد سقطت أسنانها من الكبر ولم يبقى لشدقها بياض شيء من الأسنان إنما بقى فيها حمرة لثاتها. قال القاضي: قال المصري وغيره من العلماء: الغيرة مسامح للنساء فيها لا عقوبه عليهن فيها بما جبلن عليه من ذلك ولهذا لم تزجر عائشة عنها. ال القاضي: وعندي أن ذلك جرى من عائشة لصغر سنها وأول شبيبتها ولعلها لم تكن بلغت حينئذ"أهـ. شرح النووي 15/202.
3ـ المسند مع الفتح الرباني 20/240-241 وأورده الهيثمي في المجمع 3/224 وقال: رواه أحمد وإسناده حسن.(1/412)
ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يكثر من ذكرها والثناء عليها وكان يعمل بعد موتها ما يسرها في حياتها حيث كان يصل من يودها بالقول والعمل.
قال ابن العربي رحمه الله تعالى مبيناً مكانة خديجة رضي الله عنها: "كان النبي صلى الله عليه وسلم قد انتفع بخديجة برأيها ومالها ونصرها فرعاها حية وميتة برّها موجودة ومعدومة وأتى بعد موتها ما يعلم أنه يسرها لو كان في حياتها. ومن هذا المعنى ما روي من أن من البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه"1.
7- أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن حبه لها كان رزقاً من الله رزقه إياه. فقد روى الإمام مسلم في صحيحه بإسناده إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: ما غرت على نساء النبي صلى الله عليه وسلم إلا على خديجة وإني لم أدركها قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذبح الشاة فيقول: "أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة" قالت: فأغضبته يوماً فقلت: خديجة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني قد رزقت حبها" 2.
هذا الحديث فيه بيان فضيلة حصلت لخديجة رضي الله عنها.
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: "قوله صلى الله عليه وسلم: "رزقت حبها" فيه إشارة إلى أن حبها فضيلة حصلت"3.
من هذا يتبين أن: "حبه صلى الله عليه وسلم لما تقدم ذكره من الأسباب وهي كثيرة كل منها كان سبباً في إيجاد المحبة4.
8- ومما حظيت به رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرتاح لسماع صوت من يشبه صوته صوتها لما وضع الله لها في قلبه من المحبة رضي الله عنها وأرضاها.
فقد روى الشيخان عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت:
__________
1ـ عارضة الأحوذي بشرح الترمذي 14/252.
2ـ صحيح مسلم 4/1888.
3ـ شرح النووي على صحيح مسلم 15/201.
4ـ انظر فتح الباري 7/137.(1/413)
استأذنت هالة بنت خويلد ـ أخت خديجة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرف استئذان خديجة فارتاع لذلك فقال: "اللهم هالة" قالت: فغرت فقلت: ما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين هلكت في الدهر قد أبدلك الله خيراً منها1.
"في هذه الأحاديث دلالة لحسن العهد وحفظ الود، ورعاية حرمة الصاحب والمعاشر حياً وميتاً، وإكرام معارف ذلك الصاحب"2.
فلقد أكرم الرسول صلى الله عليه وسلم خديجة رضي الله عنها إكراماً بالغاً في حال الحياة وبعد الممات.
9- ومما دل على جلالة قدرها أن الباري ـ جل وعلا ـ أرسل إليها السلام مع جبريل وأمر نبيه أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب اللؤلؤ المجوف المنظوم بالدر والياقوت. فقد روى الإمام البخاري بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: "أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب".
وروى أيضاً بإسناده إلى إسماعيل بن أبي خالد قال: قلت لعبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما: بشر النبي صلى الله عليه وسلم خديجة؟ قال: نعم ببيت من قصب لا صخب فيه ولا نصب"3.
هذان الحديثان تضمنا ذكر منقبتين عظيمتين لأم المؤمنين خديجة رضي الله عنها وأرضاها:
الأولى: إرسال الرب ـ جل وعلا ـ سلامه عليها مع جبريل "وهذه الخاصة
__________
1ـ صحيح البخاري 2/316، صحيح مسلم 4/1889.
2ـ انظر شرح النووي 15/202.
3ـ صحيح البخاري 2/315-316.(1/414)
لا تعرف لامرأة سواها"1.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: "قوله: فاقرأ عليها السلام من ربها ومني: زاد الطبراني في الرواية المذكورة فقالت: "هو السلام ومنه السلام وعلى جبريل السلام"، وللنسائي من حديث أنس قال: "قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن الله يقرئ خديجة السلام يعني فأخبرها" فقالت: إن الله هو السلام وعلى جبريل السلام وعليك يا رسول السلام ورحمة الله وبركاته"2.
قال العلماء: في هذه القصة دليل على وفور فقهها لأنها لم تقل "وعليه السلام" كما وقع لبعض الصحابة حيث يقولون في التشهد: "السلام على الله" فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "إن الله هو السلام، فقولوا التحيات لله" فعرفت خديجة لصحة فهمها أن الله لا يرد عليه السلام كما يرد على المخلوقين لأن السلام اسم من أسماء الله وهو أيضاً دعاء بالسلامة وكلاهما لا يصلح أن يرد به على الله فكأنها قالت: كيف أقول عليه السلام والسلام اسمه ومنه يطلب ومنه يحصل فيستفاد منه أنه لا يليق بالله إلا الثناء عليه فجعلت مكان رد السلام عليه الثناء عليه ثم غايرت بين ما يليق بالله وما يليق بغيره فقالت: وعلى جبريل السلام ثم قالت: وعليك السلام ويستفاد منه رد السلام على من أرسل السلام وعلى من يبلغه والذي يظهر أن جبريل كان حاضراً عند جوابها فردت عليه وعلى النبي صلى الله عليه وسلم مرتين مرة بالتخصيص ومرة بالتعميم، وقيل إنما بلغها جبريل عليه السلام من ربها بواسطة النبي صلى الله عليه وسلم احتراماً للنبي صلى الله عليه وسلم وكذلك وقع له لما سلم على عائشة لم يواجهها بالسلام بل راسلها مع النبي صلى الله عليه وسلم3.
الثانية: التي اشتملت عليها تلك الأحاديث لخديجة رضي الله عنها هي قول جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم: "وبشرها ببيت في الجنة من
__________
1ـ زاد المعاد في هدي خير العباد 1/105.
2ـ فضائل الصحابة ص/198.
3ـ فتح الباري 7/139، وانظر شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري للشيخ عبد الله محمد الغنيمان 2/369-370.(1/415)
قصب لا صخب فيه ولا نصب" وببيان معنى هذه المنقبة بأقوال أهل العلم يتبين حال خديجة وما كانت عليه من القدر العظيم رضي الله عنها: فقوله: "وبشرها ببيت" فقد قال أبو بكر الإسكافي في "فوائد الأخبار": المراد به بيت زائد على ما أعد الله لها من ثواب عملها ولهذا قال: "لا نصب فيه" أي: لم تتعب بسببه1. وقال السهيلي: "لذكر البيت معنى لطيف لأنها كانت ربة بيت قبل المبعث ثم صارت ربة بيت في الإسلام منفردة به فلم يكن على وجه الأرض في أول يوم بعث النبي صلى الله عليه وسلم بيت إسلام إلا بيتها وهي فضيلة ما شاركها فيها أيضاً غيرها قال: وجزاء الفعل يذكر الفعل يذكر غالباً بلفظه وإن كان أشرف منه فلهذا جاء في الحديث بلفظ البيت دون لفظ القصر2.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: "وفي البيت معنى آخر لأن مرجع أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم إليها لما ثبت في تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} قالت أم سلمة: لما نزلت دعا النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة وعلياً والحسن والحسين فجللهم بكساء فقال: "اللهم هؤلاء أهل بيتي" الحديث أخرجه الترمذي3 وغيره ومرجع أهل البيت هؤلاء إلى خديجة لأن الحسنين من فاطمة وفاطمة بنتها وعلي نشأ في بيت خديجة وهو صغير ثم تزوج بنتها بعدها فظهر رجوع أهل البيت النبوي إلى خديجة دون غيرها"أ. هـ4.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "من قصب" قال ابن التين: المراد به لؤلؤة مجوفة واسعة كالقصر المنيف قال الحافظ عند الطبراني في الأوسط: "من طريق أخرى عن ابن أبي أوفى: "يعني قصب اللؤلؤ" وعنده في الكبير من حديث أبي هريرة: "بيت من لؤلؤة مجوفة" وعنده في الأوسط من حديث فاطمة قالت: قلت يا رسول الله: أين أمي
__________
1ـ الروض الأنف 1/278، فتح الباري 7/138.
2ـ الروض الأنف 1/278-279، فتح الباري 7/138.
3ـ سنن الترمذي 5/30-31.
4ـ فتح الباري 7/138.(1/416)
خديجة؟ قال: "في بيت من قصب" قلت: أمن هذا القصب؟ قال: "لا؛ من القصب المنظوم الدر واللؤلؤ والياقوت" 1.
قال السهيلي: النكتة في قوله: "من قصب" ولم يقل من لؤلؤ أن في لفظ القصب مناسبة لكونها أحرزت قصب السبق بمبادرتها إلى الإيمان دون غيرها ولذا وقعت هذه المناسبة في جميع ألفاظ الحديث2.
قال الحافظ ابن حجر: وفي القصب مناسبة أخرى من جهة استواء أكثر أنابيبه وكذا كان لخديجة من الاستواء ما ليس لغيرها إذ كانت حريصة على رضاه بكل ممكن ولم يصدر منها ما يغضبه قط كما وقع لغيرها3.
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "لا صخب فيه ولا نصب" الصخب: الصياح والمنازعة برفع الصوت، والنصب: التعب4.
وقال أبو بكر بن العربي: "لا صخب فيه ولا نصب" معناه: عار عن الأذية5 قال السهيلي: "مناسبة نفي هاتين الصفتين ـ أعني المنازعة والتعب ـ أنه صلى الله عليه وسلم لما دعا إلى الإسلام أجابت خديجة طوعاً فلم تحوجه إلى رفع صوت ولا منازعة ولا تعب في ذلك بل أزالت عنه كل نصب وآنسته من كل وحشة وهونت عليه كل عسير فناسب أن يكون منزلها الذي بشرها به ربها بالصفة المقابلة لفعلها"6.
10-ومما تميزت به رضي الله عنها أنها كانت ممن كمل من النساء. قال الحافظ ابن كثير: وروى شعبة عن معاوية بن قرة عن أبيه قرة بن إياس
__________
1ـ المصدر السابق.
2ـ الروض الأنف 1/279، فتح الباري 7/138.
3ـ فتح الباري 7/138.
4ـ انظر النهاية في غريب الحديث والأثر 3/14، 5/62، فتح الباري 7/138.
5ـ عارضة الأحوذي 14/252.
6ـ الروض الأنف 1/279 وانظر فتح الباري 7/138.(1/417)
رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا ثلاث مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام" 1.
قال ابن كثير: رواه ابن مردويه في تفسيره وهذا إسناد صحيح إلى شعبة وبعده قالوا: والقدر المشترك بين الثلاث نسوة آسية ومريم وخديجة أن كلا منهن كفلت نبياً مرسلاً، وأحسنت الصحبة في كفالتها وصدقته فآسية ربت موسى وأحسنت إليه وصدقته حين بعث، ومريم كفلت ولدها أتم كفالة وأعظمها وصدقته حين نزل عليه الوحي من الله ـ عز وجل2.
فهذا الحديث تضمن منقبة ظاهرة لخديجة رضي الله عنها حيث إن "لفظة الكمال تطلق على تمام الشيء وتناهيه في بابه والمراد هنا التناهي في جميع الفضائل وخصال البر والتقوى"3.
11- ومما تميزت به رضي الله عنها: أنها لم تسؤه قط ولم تعارضه ولم ينلها منه إيلاء ولا عتب قط ولا هجر وكفى بهذه منقبة وفضيلة4.
12- ومن مناقبها ما رواه الترمذي بإسناده إلى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية امرأة فرعون" 5.
قوله: "حسبك أي: يكفيك" من نساء العالمين أي: الواصلة إلى مراتب الكاملين في الاقتداء بهن وذكر محاسنهن ومناقبهن وزهدهن في الدنيا وإقبالهن
__________
1ـ البداية والنهاية 3/142.
2ـ المصدر السابق "نفس الجزء والصحفة".
3ـ شرح النووي 15/198.
4ـ جلاء الأفهام ص/125.
5ـ سنن الترمذي 5/267 وقال: هذا حديث حسن صحيح.(1/418)
على العقبى.
قال الطيبي: حسبك مبتدأ ومن نساء متعلق به ومريم خبره والخطاب إما عام أو لأنس أي: كافيك معرفتك فضلهن عن معرفة سائر النساء1.
فالحديث اشتمل على منقبة عظيمة لخديجة رضي الله عنها حيث بين النبي صلى الله عليه وسلم أنها من النساء اللاتي بلغن التناهي في جميع الفضائل وخصال البر والتقوى، فأفضل نساء الأمة المحمدية خديجة بنت خويلد، وعائشة بنت أبي بكر الصديق وفاطمة بنت محمد عليه الصلاة والسلام وقد اختلف العلماء في تفضيل بعضهن على بعض:
فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "جهات الفضل بين خديجة وعائشة متقاربة وكأنه رأى التوقف"2.
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: "الخلاف في كون عائشة أفضل من فاطمة أو فاطمة أفضل إذا حرر محل التفضيل صار وفاقاً فالتفضيل بدون التفصيل لا يستقيم فإن أريد بالفضل كثرة الثواب عند الله ـ عز وجل ـ فذلك أمر لا يطلع عليه إلا بالنص لأنه بحسب تفاضل أعمال القلوب لا بمجرد أعمال الجوارج، وكم من عاملين أحدهما أكثر عملاً بجوارحه والآخر أرفع درجة منه في الجنة، وإن أريد بالتفضيل التفضل بالعلم فلا ريب أن عائشة أعلم وأنفع للأمة وأدت إلى الأمة من العلم ما لم يؤدي غيرها واحتاج إليها خاص الأمة وعامتها، وإن أريد بالتفضيل شرف الأصل وجلالة النسب فلا ريب أن فاطمة أفضل فإنها بضعة من النبي صلى الله عليه وسلم وذلك اختصاص لم يشاركها فيه غير أخواتها وإن أريد السيادة ففاطمة سيدة نساء الأمة وإذا ثبتت وجوه التفضيل وموارد الفضل وأسبابه صار الكلام بعلم وعدل، وأكثر الناس إذا تكلم في التفضيل لم يفصل جهات
__________
1ـ تحفة الأحوذي بشرح الترمذي 10/389.
2ـ ذكره عنه الحافظ ابن حجر في كتابه "تح الباري" 7/109.(1/419)
الفضل ولم يوازن بينهما فيبخس الحق وإن انضاف إلى ذلك نوع تعصب وهوى لمن يفضله تكلم بالجهل والظلم"1.
وقال الحافظ ابن حجر: "امتازت فاطمة عن أخواتها بأنهن متن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وأما ما امتازت به عائشة من فضل العلم فإن لخديجة ما يقابله وهي أنها أول من أجاب إلى الإسلام ودعا إليه وأعان على ثبوته بالنفس والمال والتوجه التام فلها مثل أجر من جاء بعدها ولا يقدر قدر ذلك إلا الله، وقيل: انعقد الإجماع على أفضلية فاطمة، وبقي الخلاف بين عائشة وخديجة"2.
وقد بين العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى أقوال العلماء في تفضيل خديجة على عائشة أو العكس وبين أن في المسألة ثلاثة أقوال فقد قال: "واختلف في تفضيلها على عائشة رضي الله عنها على ثلاثة أقوال: ثالثها الوقف: وسألت شيخنا ابن تيمية فقال: "اختصت كل واحدة منهما بخاصة، فخديجة كان تأثيرها في أول الإسلام، وكانت تسلي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتثبته وتسكنه، وتبذل دونه مالها فأدركت غرة الإسلام واحتملت الأذى في الله وفي رسوله، وكان نصرتها للرسول في أعظم أوقات الحاجة فلها من النصرة والبذل ما ليس لغيرها، وعائشة رضي الله عنها تأثيرها في آخر الإسلام، فلها من التفقه في الدين وتبليغه إلى الأمة، وانتفاع بنيها بما أدت إليهم من العلم ما ليس لغيرها هذا معنى كلامه"3.
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى بعد أن أشار إلى الخلاف في أي أفضل خديجة أم عائشة رضي الله عنهما: "والحق أن كلاً منهما لها من الفضائل ما لو نظر الناظر فيه لبهره وحيره والأحسن التوقف في ذلك إلى الله ـ عز وجل ـ
__________
1ـ بدائع الفوائد 3/161-162، وانظر: فتح الباري 7/109.
2ـ فتح الباري 7/109.
3ـ جلاء الأفهام ص/124، وانظر بدائع الفوائد 3/162-163.(1/420)
ومن ظهر له دليل يقطع به أو يغلب على ظنه في هذا الباب فذاك الذي يجب عليه أن يقول بما عنده من العلم، ومن حصل له توقف في هذه المسألة، أو في غيرها فالطريق الأقوم والمسلك الأسلم أن يقول الله أعلم"أ. هـ1.
وقال القاري في المرقاة: قال السيوطي في النقاية: "نعتقد أن أفضل النساء مريم وفاطمة، وأفضل أمهات المؤمنين خديجة وعائشة، وفي التفضيل بينهما أقوال ثالثها: التوقف قال القاري: التوقف في حق الكل أولى إذ ليس في المسألة دليل قطعي والظنيات متعارضة غير مفيدة للعقائد المبنيات على اليقينيات"2.
وما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم والحافظ ابن كثير في مسألة التفضيل بين خديجة وعائشة هو معتقد الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة وهو القول بالتوقف وهو القول الذي تطمئن إليه النفس لما لكل واحدة منهما من الفضائل التي لا تحصى والله أعلم.
__________
1ـ البداية والنهاية 3/142.
2ـ المرقاة 5/615.(1/421)
2) سودة رضي الله عنها:
هي سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل ويقال: حسيل بن عامر بن لؤي، وأمها الشموس بنت قيس بن زيد بن عمرو بن لبيد بن فراش بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بعد موت خديجة وقبل العقد على عائشة هذا قول قتادة وأبي عبيدة وكذلك روى عقيل عن ابن شهاب وأنه تزوج سودة قبل عائشة. وقال عبد الله بن محمد بن عقيل: تزوجها بعد عائشة وكذلك قال يونس عن ابن شهاب ولا خلاف أنه لم يتزوجها إلا بعد موت خديجة1.
قال الذهبي رحمه الله تعالى: "وهي أول من تزوج بها النبي صلى الله عليه وسلم بعد خديجة وانفردت به نحواً من ثلاث سنين أو أكثر حتى دخل بعائشة وكانت سيدة جليلة نبيلة ضخمة وكانت أولاً عند السكران بن عمرو أخي سهيل بن عمرو العامري وهي التي وهبت يومها لعائشة رعاية لقلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت قد فركت2 رضي الله عنها"3.
توفي النبي صلى الله عليه وسلم وهي مع سائر من توفي عنهن من أزواجه رضي الله عنهن وأرضاهن وأم المؤمنين سودة وردت لها مناقب دلت على جلالة قدرها ورفعت شأنها رضي الله عنها وأرضاها، وتلك المناقب هي:
1- أنها رضي الله عنها كانت من السابقين الأولين إلى الإسلام. قال الحافظ ابن حجر: "وأخرج ابن أبي عاصم من طريق يحيى القطان عن محمد بن عمرو عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن عائشة قالت: لما توفيت خديجة قالت خولة بنت حكيم بن الأوقص امرأة عثمان بن مظعون وذلك بمكة أي:
__________
1ـ الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/317، أسد الغابة 5/484-485، الإصابة 4/430-431.
2ـ فركت: قال في اللسان: 10/474: "وامرأة مفروكة: لا تحظى عند الرجال".
3ـ سير أعلام النبلاء 2/266-267.(1/422)
رسول الله ألا تزوج؟ قال: "ومن؟ " قالت: إن شئت بكراً وإن شئت ثيباً. قال: "فمن البكر؟ " قالت: بنت أحب خلق الله إليك عائشة بنت أبي بكر قال: "ومن الثيب؟ " قالت: سودة بنت زمعة، آمنت بك، واتبعتك، قال: "فاذهبي فاذكريهما علي" الحديث1.
فهي رضي الله عنها من متقدمي الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم والمتبعين له.
قال ابن سعد: "وأسلمت بمكة قديماً وبايعت، وأسلم زوجها السكران بن عمرو وخرجا جميعاً مهاجرين إلى أرض الحبشة في الهجرة الثانية"2.
2- ومن حرصها على البقاء في عصمة النبي صلى الله عليه وسلم أنها آثرت يومها في القسم حب النبي صلى الله عليه وسلم وجعلته لعائشة إيثاراً منها لرضاه عليه الصلاة والسلام وحباً في المقام معه لتكون من أزواجه في الدنيا والآخرة.
فقد روى أبو عيسى الترمذي بإسناده إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: "خشيت سودة أن يطلقها النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: لا تطلقني وأمسكني واجعل يومي لعائشة ففعل فنزلت: {فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} 3 فما اصطلح عليه من شيء فهو جائز"4.
وروى البخاري بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه، وكان يقسم لكل امرأة منهن يومها وليلتها غير أن سودة بنت زمعة وهبت يومها وليلتها
__________
1ـ الإصابة 4/348-349 والحديث طويل جداً وفيه أن خولة ذهبت وخطبت عائشة رضي الله عنها واستجاب لذلك الصديق وزوجوه إياها وهي حينئذ بنت ست سنين، ثم ذهبت إلى سودة وخطبتها للنبي صلى الله عليه وسلم ورضيت بالنبي زوجاً لها ودخل بها عليه الصلاة والسلام في مكة وهاجرت بعد ذلك إلى المدينة لما هاجر إليها. والحديث أخرجه الإمام أحمد في المسند 6/210 والبيهقي في دلائل النبوة 2/312-411 وأورده الحافظ ابن كثير في البداية 3/146-154، والهيثمي في المجمع 9/225.
2ـ طبقات ابن سعد 8/52.
3ـ سورة النساء آية/128.
4ـ سنن الترمذي 4/315 ثم قال عقبه: هذا حديث حسن صحيح غريب.(1/423)
لعائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تبتغي بذلك رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم1.
3- ومن مناقبها رضي الله عنها أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تمنت أن تكون في مثل هديها وطريقتها: فقد روى مسلم بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت امرأة أحب ألي أن أكون في مسلاخها2 من سودة بنت زمعة من امرأة فيها حدة قالت: فلما كبرت جعلت يومها من رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة قالت: يا رسول الله قد جعلت يومي منك لعائشة، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم لعائشة يومين: يومها ويوم سودة3.
قال النووي: "وقولها: من امرأة. قال القاضي: من هنا للبيان واستفتاح الكلام ولم ترد عائشة عيب سودة بذلك بل وصفتها بقوة النفس وجودة القريحة وهي الحدة بكسر الحاء"4.
فهذه الأحاديث اشتملت على بيان فضل أم المؤمنين سودة بنت زمعة رضي الله عنها قال العلامة ابن القيم مبيناً وجه الفضل في هذه الأحاديث: "فلما توفاها الله ـ يقصد خديجة ـ تزوج بعدها سودة بنت زمعة رضي الله عنها ... وكبرت عنده وأراد طلاقها فوهبت يومها لعائشة رضي الله عنها فأمسكها وهذا من خواصها أنها آثرت بيومها حب النبي صلى الله عليه وسلم تقرباً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحباً له، وإيثاراً لمقامها معه فكان يقسم لنسائه ولا يقسم لها وهي راضية بذلك مؤثرة لرضى رسول الله صلى الله عليه وسلم: رضي الله عنها"5.
__________
1ـ صحيح البخاري 2/19.
2ـ قال ابن الأثير في النهاية 2/389: كأنها تمنت أن تكون في مثل هديها وطريقتها ومسلاخ الحية جلدها والسلخ بالكسر: الجلد.
3ـ صحيح مسلم 2/1085.
4ـ شرح النووي على صحيح مسلم 10/48.
5ـ جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام ص/125.(1/424)
4- ومن مناقبها رضي الله عنها أنها كانت من محبي الإنفاق في سبيل الله. فقد روى ابن سعد بإسناده إلى محمد بن سيرين أن عمر بن الخطاب بعث إلى سودة بنت زمعة بغرارة من دراهم فقالت: ما هذه قالوا: دراهم قالت: في الغرارة مثل التمر يا جارية بلغيني القنع. قال: ففرقتها1.
"توفيت رضي الله عنها في آخر زمان عمر بن الخطاب، ويقال ماتت سنة أربع وخمسين في خلافة معاوية"2.
__________
1ـ انظر الطبقات 8/56.
2ـ الطبقات 8/57، الاستيعاب على الإصابة 4/318، سير أعلام النبلاء 2/267، الإصابة 4/331.(1/425)
3) عائشة رضي الله عنها:
هي عائشة بنت أبي بكر الصديق عبد الله بن عثمان، وأمها أم رومان بنت عامر بن عويمر الكنانية، ولدت بعد المبعث بأربع سنين أو خمس تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وهي بنت ست، وقيل سبع ويجمع بأنها كانت أكملت السادسة ودخلت السابعة، ودخل بها وهي بنت تسع وكان دخوله بها في شوال في السنة الأولى وقيل في السنة الثانية من الهجرة وكانت أحب أزواجه إليه وهي المبرأة من فوق سبع سموات رضي الله عنها وعن أبيها، وكانت تكنى بأم عبد الله كناها رسول الله صلى الله عليه وسلم بابن اختها عبد الله بن الزبير ولم يتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بكراً غيرها ولم ينزل عليه الوحي في لحاف امرأة سواها، وكانت أعلم نساء النبي صلى الله عليه وسلم بل هي أعلم النساء على الإطلاق، كان الأكابر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يرجعون إلى قولها ويستفتونها توفي النبي صلى الله عليه وسلم وهي في الثامنة عشر من عمرها وكانت وفاتها رضي الله عنها سنة ثمان وخمسين ليلة الثلاثاء السابع عشر من رمضان وصلى عليها أبو هريرة رضي الله عنه وعنها وعن الصحابة أجميعن"1.
ومناقبها رضي الله عنها كثيرة مشهورة ومنها:
1- ما رواه البخاري بإسناده إلى عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل فأتيته فقلت: أي: الناس أحب إليك قال: "عائشة" قلت: فمن الرجال: قال: "أبوها" ... الحديث2.
هذا الحديث فيه منقبة ظاهرة لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وهي أنها كانت أحب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إليه.
قال الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى: "وهذا
__________
1ـ طبقات ابن سعد 8/58، حلية الأولياء لأبي نعيم 2/43، الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/345-351، أسد الغابة 5/501-504، سير أعلام النبلاء 2/135-201، البداية والنهاية 8/98-102، الإصابة 4/348-350، تهذيب التهذيب 12/433.
2ـ صحيح البخاري 2/290.(1/426)
خبر ثابت على رغم أنوف الروافض، وما كان عليه الصلاة والسلام ليحب إلا طيباً وقد قال: "لو كنت متخذاً خليلاً من هذه الأمة لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن أخوة الإسلام أفضل".
فأحب أفضل رجل من أمته وأفضل امرأة من أمته، فمن أبغض حبيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حري أن يكون بغيضاً إلى الله ورسوله. وحبه عليه السلام لعائشة كان أمراً مستفضياً1.
ومن مناقبها رضي الله عنها أن جبريل أرسل إليها سلامه مع النبي صلى الله عليه وسلم. فقد روى البخاري بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً: " يا عائش هذا جبريل يقرئك السلام" فقالت: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته. ترى ما لا أرى تريد رسول الله صلى الله عليه وسلم"2.
فهذا الحديث يدل على أن لها فضلاً عظيماً ومنزلة عالية حتى عند الملائكة رضي الله عنها وأرضاها.
3- ومن مناقبها رضي الله عنها: ما رواه الشيخان في صحيحيهما عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام" 3.
في هذا الحديث بيان فضيلة عائشة رضي الله عنها فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن فضل عائشة زائد على النساء كزيادة فضل الثريد على غيره من الأطعمة.
قال النووي: "قال العلماء: معناه أن الثريد من كل طعام أفضل من المرق فثريد اللحم أفضل من مرقه بلا ثريد وثريد ما لا لحم فيه أفضل من مرقه والمراد بالفضيلة نفعه والشبع منه وسهولة مساغه والالتذاذ به وتيسر تناوله وتمكن الإنسان
__________
1ـ سير أعلام النبلاء 2/142.
2ـ صحيح البخاري 2/308.
3ـ صحيح البخاري 2/308، صحيح مسلم 4/1896.(1/427)
من أخذ كفايته منه بسرعة وغير ذلك فهو أفضل من المرق كله ومن سائر الأطعمة وفضل عائشة على النساء زائد كزيادة فضل الثريد على غيره من الأطعمة، وليس في هذا تصريح بتفضيلها على مريم وآسية لاحتمال أن المراد تفضيلها على نساء الأمة"أ. هـ1.
وقال الحافظ رحمه الله تعالى: "وتقرير أن قوله: "وفضل عائشة ... إلخ لا يستلزم ثبوت الأفضلية المطلقة وقد أشار ابن حبان إلى أن أفضليتها التي يدل عليها هذا الحديث وغيره مقيدة بنساء النبي صلى الله عليه وسلم حتى لا يدخل فيها مثل فاطمة عليها السلام جمعاً بين هذا الحديث وبين حديث: "أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد ومريم بنت عمران وأحسبه قال: وامرأة فرعون" وقد أخرجه الحاكم بهذا اللفظ من حديث ابن عباس"2.
4- ومن مناقبها رضي الله عنها أن الله ـ عز وجل ـ لما أنزل على نبيه آية التخيير بدأ بها فخيرها فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة فاستن بها بقية أزواجه صلى الله عليه وسلم. فقد روى البخاري بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: "لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه بدأ بي فقال: "إني ذاكر لك أمراً فلا عليك أن لا يعمل حتى تستأمري أبويك" قالت: وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه قالت: ثم قال: "إن الله ـ جل ثناؤه ـ قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} إلى {أَجْراً عَظِيماً} " 3. قالت: فقلت: ففي أي هذا استأمر أبوي؟ فإني أريد الله وروسوله والدار الآخرة قالت: ثم فعل أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما فعلت"4.
__________
1ـ شرح النووي 15/199.
2ـ فتح الباري 7/107 والحديث في المستدرك 3/185 وقال عقبه: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذه السياقة وأقره الذهبي.
3ـ سورة الأحزاب آية/28-29.
4ـ صحيح البخاري في شرحه فتح الباري 8/520.(1/428)
هذا الحديث تضمن فضل عائشة لبدائته بها رضي الله عنها.
5- ومن مناقبها رضي الله عنها أن الملك أرى صورتها للنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يتزوجها في سرقة1 حرير. فقد روى الشيخان من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أريتك في المنام ثلاث ليال جاءني بك الملك في سرقة من حرير فيقول: هذه امرأتك فأكشف عن وجهك فإذا أنت هي فأقول: "إن يك هذا من عند الله يمضه" 2.
6- ومن مناقبها العظيمة التي دلت على عظيم شأنها وجليل قدرها أن الوحي كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في لحافها دون غيرها من نسائه عليه الصلاة والسلام.
فقد روى البخاري بإسناده إلى هشام بن عروة عن أبيه قال: كان الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة قالت عائشة: فاجتمع صواحبي إلى أم سلمة فقلن: يا أم سلمة، والله إن الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة وإنا نريد الخير كما تريده عائشة فمري رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأمر الناس أن يهدوا إليه حيث كان أو حيث ما دار قالت: فذكرت ذلك أم سلمة للنبي صلى الله عليه وسلم قالت: فأعرض عني فلما عاد إلي ذكرت له ذلك فأعرض عني فلما كان في الثالثة ذكرت له فقال: "يا أم سلمة لا تؤذيني في عائشة فإنه والله ما نزل علي الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها" 3.
هذا الحديث تضمن منقبتين عظيمتين اختصت بهما أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها:
المنقبة الأولى: أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتحرون بهداياهم اليوم الذي يكون فيه نوبتها رضي الله عنها وأرضاها يبتغون بذلك مرضاة رسول الله
__________
1ـ سرقة حرير: أي: قطعة من جيد الحرير وجمعها سرق، النهاية في غريب الحديث 2/362.
2ـ صحيح البخاري 3/247، صحيح مسلم 4/1889-1890.
3ـ صحيح البخاري 2/308-309.(1/429)
صلى الله عليه وسلم ولما يعلمون من شدة حبه صلى الله عليه وسلم لها.
المنقبة الثانية: نزول جبريل الأمين بالوحي على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في لحافها فلله ما أجلها من منقبة وما أعظمها من مكرمة اختصت بها أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها
7- ومن مناقبها رضي الله عنها: شدة حب النبي صلى الله عليه وسلم لها. فقد روى مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: أرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذنت عليه وهو مضطجع معي في مرطي فأذن لها فقالت: يا رسول الله، إن أزواجك أرسلنني إليك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة وأنا ساكتة، قالت: فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أي بنية ألست تحبين ما أحب"، فقالت: بلى قال: "فأحبي هذه" قالت: فقامت فاطمة حين سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجعت إلى أزواج النبي فأخبرتهن بالذي قالت وبالذي قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلنا لها: ما نراك أغنيت عنا في شيء فارجعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولي له: إن أزواجك ينشدنك العدل في ابنة أبي قحابة فقالت فاطمة: والله لا أكلمه فيها أبداً، قالت عائشة: فأرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش ... فاستأذنت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم مع عائشة في مرطها على الحالة التي دخلت فاطمة عليها فأذن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إني أزواجك أرسلنني إليك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة قالت: ثم وقعت بي فاستطالت علي وأنا أرقب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرقب طرفه هل يأذن لي فيها قالت: فلما تبرح زينب حتى عرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكره أن أنتصر قالت: فلما وقعت بها لم أنشبها1 حتى أنحيت عليها قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبسم: "إنها ابنة أبي بكر". 2
__________
1ـ لم أنشبها: أي: أنحيت عليها: أي: لم ألبث أن قمعتها وقهرتها "انظر النهاية في غريب الحديث" 5/52 وانظر شرح النووي على صحيح مسلم 15/207.
2ـ صحيح مسلم 4/1891.(1/430)
هذا الحديث فيه منقبة ظاهرة لعائشة رضي الله عنها حيث بين عليه الصلاة والسلام لابنته فاطمة سيدة نساء أهل الجنة أنه يحب عائشة وأشار لها أن عليها محبتها.
قال النووي رحمه الله تعالى: "اعلم أنه ليس فيه دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لعائشة ولا أشار بعينه ولا غيرها بل لا يحل اعتقاد ذلك فإنه صلى الله عليه وسلم تحرم عليه خائنة الأعين وإنما فيه أنها انتصرت لنفسها فلم ينهها وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "إنها ابنة أبي بكر" فمعناه الإشارة إلى كمال فهمها وحسن نظرها والله أعلم"1.
والعدل الذي طلبه أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو التسوية بينهن في محبة القلب فقد كان صلى الله عليه وسلم مسوياً بينهن في الأفعال والمبيت ونحوه وأما محبة القلب فقد كان صلى الله عليه وسلم يحب عائشة أكثر منهن وأجمع المسلمون على أن محبتهن لا تكليف فيها لأنه لا قدرة لأحد عليها إلا الله سبحانه وتعالى وإنما يؤمر بالعدل في الأفعال"2.
8- ومن مناقبها رضي الله عنها التي دلت على عظيم شأنها ورفعه مكانتها شهادة الباري جل وعلا لها بالبراءة مما رميت به من الإفك وذلك أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه ولما أراد الخروج في غزوة بني المصطلق أقرع بينهن فخرج سهم أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها وذلك بعد أن نزل الحجاب فحملت عائشة في هودجها ولما فرغ صلى الله عليه وسلم من هذه الغزوة تجهز للعودة فلما قرب من المدينة آذن ليلة بالرحيل فقامت عائشة رضي الله عنها حين آذنوا بالرحيل ومشت حتى جاوزت مكان الجيش فلما قضت من شأنها أقبلت إلى الرحيل فلمست صدرها وإذ بعقد لها قد انقطع فرجعت للبحث عنه فتأخرت في طلب ذلك العقد وجاء الرهط الذين كانوا يحملون هودجها فرحلوه على بعيرها الذي كانت تركبه وهم يظنونها فيه ولخفتها رضي الله عنها لم يستنكروا عدم ثقل الهودج حين رحلوه ورفعوه وبعثوا
__________
1ـ شرح النووي على صحيح مسلم 15/207.
2ـ المصدر السابق 15/205.(1/431)
الجمل وساروا ووجدت عقدها رضي الله عنها بعد أن ذهب الجيش وجاءت إلى مكانهم الذي نزلوه وإذا به ليس فيه داع ولا مجيب فقصدت مكانها الذي كانت فيه لعلهم يفقدونها ويرجعون إليه فلم يحصل من ذلك شيء ولكن الله قيض لها الصحابي الجليل صفوان بن المعطل السلمي حيث كان متأخراً عن الجيش فأصبح عند منزلها فرأى سواد إنسان نائم فأتى وإذا بها أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فعرفها فجعل يسترجع حتى استيقظت باسترجاعه ولم يكلمها رضي الله عنه بأي كلمة ولا سمعت منه غير كلمة استرجاعه فأناخ لها راحلته فركبتها وانطلق يقود بها تلك الراحلة حتى لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فهلك في شأنها من هلك وعصم من ذلك من عصم وكان الذي تولى كبره في حادثة الإفك عبد الله بن أبي بن سلول وأخذ المنافقون في نشر هذه الحادثة يحيكونها بالكذب والبهت حتى تأذى من ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أذى شديداً ونزل بأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها من الغم والهم ما الله به عليم حيث تأخر نزول الوحي بتبرئتها شهراً كاملاً وبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يفاتح عائشة في ذلك الأمر وهي عند أبويها1 إلا والوحي ينزل بتبرئتها في عدد من آيات القرآن العظيم من سورة النور كانت درساً بليغاً لأهل الإيمان وشهادة من الله بتبرئة أم المؤمنين، وماتت تلك الفتنة يومئذ ولقي من تخوضوا فيها جزاءهم والآيات التي نزلت بتبرئتها رضي الله عنها هي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الأِثْمِ} إلى قوله تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} 2 وعدد هذه الآيات لا ينقص عن ثمانية عشر آية تولى الله فيها الدفاع بنفسه
__________
1ـ انظر قصة الإفك على سبيل التفصيل في صحيح البخاري 3/163-166، صحيح مسلم 4/2129-2137.
2ـ سورة النور آية/11-28.(1/432)
عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وبين أن ما رميت به كان إفكاً وهل الإفك إلا الكذب والبهت والافتراء وحذر من العودة إليه أبداً، وتوعد الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات باللعن في الدنيا والآخرة، والآية الأخيرة من تلك الآيات هي قوله تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} يعني أن عائشة ما كانت تصلح لرسول الله شرعاً ولا قدراً لو كانت خبيثة وأن الله ما كان ليجعل عائشة زوجاً لرسوله إلا وهي طيبة لأنه أطيب من كل طيب من البشر عليه الصلاة والسلام كما صرح الله ببراءتها في قوله: {أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} ووعدها بالمغفرة والرزق الكريم {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} وليس لهذا من تفسير إلا أن الباري ـ جل وعلا ـ شهد لها بحقيقة الإيمان وبشرها بالموت عليه لتفوز بعد ذلك بالمغفرة والرزق الكريم في الآخرة وبعد هذا لا يجوز لإنسان يؤمن بالله وكلماته أن ينسب أم المؤمنين عائشة إلى شيء من الخبث والريبة ومن وقع في مثل هذا فليس من تفسير لصنعه هذا إلا الكفر البواح والردة الصراح.
قال العلامة ابن القيم: "ومن خصائصها أن الله ـ سبحانه ـ برأها بما رماها به أهل الإفك وأنزل في عذرها وبراءتها وحياً يتلى في محاريب المسلمين وصلواتهم إلى يوم القيامة شهد لها بأنها من الطيبات ووعدها المغفرة والرزق الكريم وأخبر ـ سبحانه ـ أن ما قيل فيها من الإفك كان خيراً لها ولم يكن ذلك الذي قيل فيها شراً لها ولا خافضاً من شأنها بل رفعها الله بذلك وأعلى قدرها وأعظم شأنها وصار لها ذكراً بالطيب والبراءة بين أهل الأرض والسماء فيالها من منقبة ما أجلها وتأمل هذا التشريف والإكرام الناشيء عن فرط تواضعها واستصغارها لنفسها حيث قالت: "ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بوحي يتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا يبرئني الله بها"1 فهذه صديقة الأمة وأم المؤمنين وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي
__________
1ـ جزء من حديث الإفك انظر صحيح البخاري 3/165.(1/433)
تعلم أنها بريئة منه مظلومة وأن قاذفيها ظالمون مفترون عليها قد بلغ أذاهم إلى أبويها وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم"1.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: "ولما تكلم فيها أهل الإفك بالزور والبهتان غار الله لها فأنزل براءتها في ... آيات من القرآن تتلى على تعاقب الزمان ... وقد أجمع العلماء على تكفير من قذفها بعد براءتها واختلفوا في بقية أمهات المؤمنين هل يكفر من قذفهن أم لا؟ على قولين: وأصحهما أنه يكفر لأن المقذوف زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم والله تعالى إنما غضب لها لأنها زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي وغيرها منهن سواء"2.
9- ومما كان تشريفاً وتكريماً لها ما رواه البخاري بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها أنها استعارت من أسماء قلادة فهلكت فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناساً من أصحابه في طلبها فأدركتهم الصلاة فصلوا بغير وضوء فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم شكوا ذلك إليه فنزلت آية التيمم فقال أسيد بن حضير: "جزاك الله خيراً، فوالله ما نزل بك أمر قط إلا جعل الله لك منه مخرجاً وجعل فيه للمسلمين بركة3.
في هذا الحديث فضيلة ظاهرة لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها تضمنها قوله: "جزاك الله خيراً ... " إلخ الحديث فما نزل بها أمر إلا جعل الله لها منه مخرجاً وجعله لأمة محمد تخفيفاً وتيسيراً وبركة.
10- ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما لحق بالرفيق الأعلى كان في بيتها وبين سحرها ونحرها وكان مسنداً ظهره إلى صدرها "وجمع الله بين ريقه وريقها في آخر ساعة
__________
1ـ جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام ص/126.
2ـ البداية والنهاية 8/99 وانظر تفسير القرآن العظيم 5/76.
3ـ صحيح البخاري 2/308.(1/434)
من ساعاته في الدنيا وأول ساعة من الآخرة ودفن في بيتها"1.
فقد روى البخاري بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان في مرضه جعل يدور في نسائه ويقول: "أين أنا غداً؟ " حرصاً على بيت عائشة قالت عائشة: فلما كان يومي سكن"2.
وعند مسلم عنها رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتفقد يقول: "أين أنا اليوم أين أنا غداً؟ " استبطاء ليوم عائشة قالت: فلما كان يومي قبضه الله بين سحري ونحري.
وروى مسلم أيضاً بإسناده إلى عباد بن عبد الله بن الزبير عن عائشة أنها أخبرته أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل أن يموت وهو مسند إلى صدرها وأصغت إليه وهو يقول: "اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق".
وفي رواية أخرى عنها أن آخر كلمة تكلم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: "اللهم الرفيق الأعلى"3.
11- روى الإمام البخاري بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة من كثرة ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها"4.
قال الحافظ الذهبي: "قلت: وهذا من أعجب شيء أن تغار رضي الله عنها من امرأة عجوز توفيت قبل تزوج النبي بعائشة بمديدة ثم يحميها الله من الغيرة من عدة نسوة يشاركنها في النبي صلى الله عليه وسلم فهذا من ألطاف الله بها وبالنبي صلى الله عليه وسلم لئلا يتكدر عيشهما ولعله إنما خفف أمر الغيرة عليها حب النبي صلى الله عليه وسلم وميله
__________
1ـ انظر سير أعلام النبلاء 2/189، البداية والنهاية 8/99.
2ـ صحيح البخاري 2/308.
3ـ هذه الأحاديث الثلاثة في صحيح مسلم 4/1893-1894.
4ـ صحيح البخاري 2/315.(1/435)
إليها فرضي الله عنها وأرضاها"1.
12- ومنها إخبار المصطفى عليه الصلاة والسلام إياها بأنها من أصحاب الجنة. فقد روى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: "قلت: يا رسول الله من من أزواجك في الجنة؟ قال: "أما إنك منهن" قالت: فخيل إلي أن ذاك أنه، لم يتزوج بكراً غيري2.
13- ومنها أن كبار الصحابة رضي الله عنهم كانوا إذا أشكل عليهم الأمر من الدين استفتوها فيجدون علمه عندها. فقد روى أبو عيسى الترمذي بإسناده إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: ما أشكل علينا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علماً3.
وقال عروة: ما رأيت أحداً أعلم بفقه ولا طب ولا شعر من عائشة ولم تروا امرأة ولا رجل غير أبي هريرة ـ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأحاديث بقدر روايتها رضي الله عنها.
وقال أبو الضحى عن مسروق: رأيت مشيخة أصحاب محمد الأكابر يسألونها عن الفرائض.
وقال الزهري: لو جمع علم عائشة إلى علم جميع أزواجه لكان علم عائشة أفضل4.
وقد أثنى عليها بعض الصحابة بما يبين أنها وجيهة في الدنيا والآخرة فقد روى أبو عيسى الترمذي بإسناده إلى عمرو بن غالب: "أن رجلاً نال من عائشة عند عمار بن ياسر ـ فقال له: ـ اغرب مقبوحاً منبوحاً أتؤذي حبيبة رسول الله
__________
1ـ سير أعلام النبلاء 2/165.
2ـ المستدرك 4/13 ثم قال عقبه: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي".
3ـ سنن الترمذي 5/365 وقال عقبه: "هذا حديث حسن صحيح غريب".
4ـ انظر هذه الآثار في "سير أعلام النبلاء" 2/183 وما بعدها، البداية والنهاية 8/100.(1/436)
صلى الله عليه وسلم1.
وفي صحيح البخاري عن أبي وائل قال: لما بعث علي عماراً والحسن إلى الكوفة ليستنفرهم خطب عمار فقال: إني لأعلم أنها زوجته في الدنيا والآخرة ولكن الله ابتلاكم لتتبعوه أو إياها2.
قال الحافظ رحمه الله تعالى شارحاً لقول عمار: "إني لأعلم أنها زوجته" أي: زوجة النبي صلى الله عليه وسلم "في الدنيا والآخرة" وعند ابن حبان من طريق سعيد بن كثير عن أبيه "حدثتنا عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: "أما ترضين أن تكوني زوجتي في الدنيا والآخرة" فلعل عماراً كان سمع هذا الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: في الحديث: "لتتبعوه أو إياها" قيل: الضمير لعلي لأنه الذي كان عمار يدعو إليه والذي يظهر أنه لله والمراد باتباع الله اتباع حكمه الشرعي في طاعة الإمام وعدم الخروج عليه ولعله أشار إلى قوله: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} 3.
فإنه أمر حقيقي خوطب به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا كانت أم سلمة تقول: لا يحركني ظهر بعيري حتى ألقى النبي صلى الله عليه وسلم والعذر في ذلك عن عائشة أنها كانت متأولة هي وطلحة والزبير وكان مرادهم إيقاع الإصلاح بين الناس وأخذ القصاص من قتلة عثمان رضي الله عنهم أجمعين. وكان رأي علي الاجتماع على الطاعة وطلب أولياء المقتول القصاص ممن يثبت عليه القتل بشروطه"4.
وروى البخاري بإسناده إلى القاسم بن محمد أن عائشة اشتكت فجاء ابن عباس فقال: يا أم المؤمنين تقدمين على فرط صدق على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أبي بكر5.
__________
1ـ سنن الترمذي 5/365 وقال: هذا حديث حسن صحيح.
2ـ صحيح البخاري 2/308.
3ـ سورة الأحزاب آية/33.
4ـ فتح الباري 7/108.
5ـ صحيح البخاري 2/308.(1/437)
في هذا فضيلة عظيمة لعائشة رضي الله عنها حيث قطع لها رضي الله عنه بدخول الجنة إذ لا يقول ذلك إلا بتوقيف1.
وروى الإمام أحمد بسنده إلى عبد الله بن أبي مليكة أنه حدثه ذكوان ـ حاجب عائشة ـ إنه جاء عبد الله بن عباس يستأذن على عائشة فجئت ـ وعند رأسها عبد الله بن أخيها عبد الرحمن ـ فقلت: هذا ابن عباس يستأذن فأكب عليها ابن أخيها عبد الله فقال: هذا عبد الله بن عباس يستأذن ـ وهي تموت فقالت: دعني من ابن عباس فقال: يا أمها إن ابن عباس من صالح بنيكي يسلم عليك ويودعك فقالت: ائذن له إن شئت قال: فأدخلته فلما جلس قال: أبشري فقالت: بماذا؟ فقال: ما بينك وبين أن تلقي محمداً والأحبة إلا أن تخرج الروح من الجسد، وكنت أحب نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب إلا طيباً وسقطت قلادتك ليلة الأبواء فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصبح الناس وليس معهم ماء فأنزل الله آية التيمم فكان ذلك في سببك، وما أنزل الله من الرخصة لهذه الأمة، وأنزل الله براءتك من فوق سبع سموات جاء بها الروح الأمين، فأصبح ليس من مساجد الله إلا يتلى فيه آناء الليل وآناء النهار. فقالت: دعني منك يا ابن عباس والذي نفسي بيده لوددت أني كنت نسياً منسياً2.
والأحاديث في فضلها ومناقبها كثيرة جداً وحسبنا هنا ما تقدم.
__________
1ـ انظر فتح الباري 7/108، عمدة القاري 16/251.
2ـ المسند مع الفتح الرباني 22/126.(1/438)
4) حفصة رضي الله عنها:
هي حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وهي أخت عبد الله لأبيه وأمها زينب بنت مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة ثلاث من الهجرة "وكانت قبله عند خنيس بن حذافة بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم وكان بدرياً شهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم تلد له شيئاً ولم يشهد من بني سهم بدراً غيره"1 وولدت رضي الله عنها قبل المبعث بخمس سنين وتوفيت سنة خمس وأربعين2.
وقد وردت مناقبها رضي الله عنها في أحاديث دلت على عظم شأنها ورفعة مكانتها ومنها:
1- روى ابن سعد بإسناده إلى أبي الحويرث قال: تزوج خنيس بن حذافة بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم حفصة بنت عمر بن الخطاب فكانت عنده وهاجرت معه إلى المدينة3.
في هذا منقبة لأم المؤمنين حفصة وهي أنها كانت ممن حظي بشرف الهجرة التي لا مثل لها في الأجر والثواب.
2- روى البخاري رحمه الله بإسناده إلى سالم بن عبد الله أنه سمع عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يحدث أن عمر بن الخطاب حين تأيمت حفصة بنت عمر من خنيس بن حذافة السهمي وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوفي بالمدينة فقال عمر بن الخطاب: أتيت عثمان بن عفان فعرضت عليه حفصة فقال: سأنظر في أمري فلبثت ليالي، ثم لقيني فقال: بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا،
__________
1ـ تاريخ ابن جرير 3/164.
2ـ انظر ترجمتها في طبقات ابن سعد 8/81-86، المستدرك 4/14، حلية الأولياء 2/50-51، الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/260-261، صفة الصفوة 1/146، أسد الغابة 5/425، جلاء الأفهام ص/127، سير أعلام النبلاء 2/227-231، البداية والنهاية 8/33، الإصابة 4/263-265.
3ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 8/81.(1/439)
قال عمر: فلقيت أبا بكر الصديق فقلت إن شئت زوجتك حفصة بنت عمر، فصمت أبو بكر فلم يرجع إلي شيئاً وكنت أوجد عليه مني على عثمان فلبثت ليالي ثم خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكحتها إياه فلقيني أبو بكر فقال: فلعلك وجدت عليّ حين عرضت علي حفصة فلم أرجع إليك شيئاً قال عمر: قلت: نعم قال أبو بكر: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت علي إلا أني كنت علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرها فلم أكن لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلتها1.
3- ما ذكره الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في كتابه "فتح الباري" بقوله: "ووقع في رواية ربعي بن حراش عن عثمان عند الطبري وصححه هو والحاكم2 أن عثمان خطب إلى عمر بنته فرده فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلما راح إليه عمر قال: "يا عمر ألا أدلك على ختن خير من عثمان وأدل عثمان على ختن خير منك؟ " قال: نعم يا نبي الله قال: "تزوجني بنتك وأزوج عثمان بنتي" قال الحافظ الضياء: إسناده لا بأس به لكن في الصحيح أن عمر عرض على عثمان حفصة فرد عليه: "قد بدا لي أن لا أتزوج" قلت: أخرج ابن سعد3 من مرسل الحسن نحو حديث ربعي، ومن مرسل سعيد بن المسيب أتم منه وزاد في آخره "فخار الله لهما جميعاً"4. ويحتمل في الجمع بينهما أن يكون عثمان خطب أولاً إلى عمر فرده كما في رواية ربعي، وسبب رده يحتمل أن يكون من جهتها وهي أنها لم ترغب في التزوج عن قرب من وفاة زوجها ويحتمل غير ذلك من الأسباب التي لا غضاضة فيها على عثمان في رد عمر له، ثم لما ارتفع السبب بادر عمر فعرضها على عثمان رعاية لخاطره كما في حديث الباب، ولعل عثمان بلغه ما بلغ أبا بكر من ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لها فصنع كما صنع من ترك إفشاء ذلك ورد على عمر بجميل"5.
__________
1ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 9/175-176 وأخرجه ابن سعد في الطبقات 8/82.
2ـ المستدرك 3/107 وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه".
3ـ الطبقات 8/82.
4ـ المصدر السابق 8/83.
5ـ فتح الباري 9/176-177.(1/440)
4- روى الطبراني بإسناده إلى قيس بن يزيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصة تطليقة ... فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل فتجلببت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أتاني جبريل عليه السلام فقال: راجع حفصة فإنها صوامة قوامة وإنها زوجتك في الجنة" 1.
في هذا الحديث تنبيه على فضلها والثناء عليها بكثرة الصيام والقيام والإخبار بأنها زوجته صلى الله عليه وسلم في الجنة.
قال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله تعالى: "طلقها تطليقة ثم ارتجعها وذلك أن جبرائيل عليه السلام قال له: راجع حفصة فإنها قوامة وصوامة وإنها زوجتك في الجنة"2.
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: "ومن خواصها: ما ذكره الحافظ أبو محمد المقدسي في مختصره في السيرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم طلقها فأتاه جبريل فقال: "إن الله يأمرك أن تراجع حفصة فإنها صوامة قوامة وإنها زوجتك في الجنة"3.
وقال الذهبي رحمه الله تعالى: "وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق حفصة تطليقة ثم راجعها بأمر جبريل عليه السلام له بذلك وقال: "إنها صوامة قوامة وهي زوجتك في الجنة" 4.
وكل ما تقدم من ذكر مناقبها رضي الله عنها يدل على أنها كانت على جانب عظيم من رفعة مكانتها وجلالة قدرها رضي الله عنها وأرضاها.
__________
1ـ أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 9/245 وقال: "رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح".
2ـ الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/261.
3ـ جلاء الأفهام ص/127.
4ـ سير أعلام النبلاء 2/228.(1/441)
5) زينب بنت خزيمة رضي الله عنها:
هي زينب بنت خزيمة بن عبد الله بن عمرو بن عبد مناف بن هلال بن عامر بن صعصعة الهلالية أم المؤمنين زوج النبي صلى الله عليه وسلم وكانت يقال لها أم المساكين لأنها كانت تطعمهم وتتصدق عليهم وكانت قبل النبي صلى الله عليه وسلم تحت عبد الله بن جحش فاستشهد بأحد فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: كانت تحت الطفيل بن الحارث بن المطلب ثم خلف عليها أخوه عبيدة بن الحارث وهي أخت ميمونة بنت الحارث لأمها وكانت دخوله صلى الله عليه وسلم بها بعد دخوله على حفصة بنت عمر، ثم لم تلبس عنده عليه الصلاة والسلام إلا شهرين أو ثلاث ثم ماتت"1.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: "وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت خزيمة الهلالية وكانت تحت عبد الله بن جحش تزوجها سنة ثلاث من الهجرة وكانت تسمى أم المساكين لكثرة إطعامها المساكين ولم تلبس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا يسيراً شهرين أو ثلاثة وتوفيت رضي الله عنها"2.
وقال الزهري رحمه الله تعالى: "تزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت خزيمة وهي أم المساكين سميت بذلك لكثرة إطعامها المساكين وهي من بني عامر بن صعصعة وتوفيت ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي"3.
وقال محمد بن إسحاق:"تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت خزيمة الهلالية أم المساكين وكانت قبله عند الحصين، أو عند الطفيل بن الحارث ماتت بالمدينة أول نسائه موتاً"4.
__________
1ـ انظر ترجمتها في طبقات ابن سعد 8/115-116، المستدرك للحاكم 4/33-34، الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/305-306، أسد الغابة 5/466، العبر 1/5، سير أعلام النبلاء 2/218، مجمع الزوائد 9/248، الإصابة 4/309.
2ـ جلاء الأفهام ص/137.
3ـ أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 9/248، وقال رواه الطبراني ورجاله ثقات.
4ـ أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 9/248 وعزاه إلى الطبراني حيث قال: رواه الطبراني ورجاله ثقات.(1/442)
وقال الحافظ بن كثير: "وهي التي يقال لها أم المساكين لكثرة صدقاتها عليهم، وبرها لهم وإحسانها إليهم، وأصدقها اثنتي عشرة أوقية ونشاً دخل بها في رمضان وكانت قبله عند الطفيل بن الحارث فطلقها"1.
وأم المؤمنين زينب بنت خزيمة وإن كان لم يرد لها مناقب تخصها على الانفراد مثل بقية أمهات المؤمنين سواها فإنه يكفيها نزول القرآن فيهن على وجه العموم ومخاطبة الرب لهن جميعاً. مثل قوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} 2 وقوله: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} 3 وقوله ـ عز شأنه ـ: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً * وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً} 4.
قال عبد الله بن عباس في قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ} نزلت في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وقال عكرمة: من شاء باهلته أنها نزلت في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم5.
كما يكفيها فخراً وشرفاً أنها إحدى أمهات المؤمنين اللاتي ضرب عليهن الحجاب واللاتي هن أزواج نبيه صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة "وكانت وفاتها رضي الله عنها سنة أربع للهجرة"6.
رضي الله عنها وأرضاها.
__________
1ـ البداية والنهاية 4/102.
2ـ سورة الأحزاب آية/6.
3ـ سورة الأحزاب آية/32.
4ـ سورة الأحزاب آية/33-34.
5ـ الدر المنثور في التفسير بالمأثور 6/603، وانظر جامع البيان للطبري 22/8.
6ـ انظر البداية والنهاية 4/102، الإصابة 4/309.(1/443)
6) أم سلمة رضي الله عنها:
اسمها هند بنت أبي أمية واسمه حذيفة، وقيل سهل بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشية المخزومية مشهورة بكنيتها معروفة باسمها كان أبوها يلقب زاد الراكب لأنه كان أحد الأجواد فكان إذا سافر لم يحمل أحد معه من رفقته زاداً بل هو كان يكفيهم، وأمها عاتكة بنت عامر كنانية من بني فراس "وكانت أولاً تحت ابن عمها أبي سلمة بن عبد الأسد وهاجرت معه إلى الحبشة، ثم هاجرت إلى المدينة فيقال: إنها أول ضغينة دخلت إلى المدينة مهاجرة ولما مات زوجها عبد الله بن عبد الأسد خطبها النبي صلى الله عليه وسلم وكانت وفاتها رضي الله عنها سنة إحدى وستين رضي الله عنها1.
وقد جاء ذكر مناقبها في أحاديث كثيرة منها:
1- ما رواه الإمام مسلم بإسناده إلى أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من عبد مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله: إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها إلا أخلف الله له خيراً منها" قالت: فلما مات أبو سلمة قلت: أي المسلمين خير من أبي سلمة أول بيت هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إني قلتها فأخلف الله لي رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: أرسل إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطب بن أبي بلتعة يخطبني له فقلت: إن لي بنتاً وأنا غيور فقال: "أما ابنتها فندعو الله أن يغنيها عنها وأدعو الله أن يذهب بالغيرة" 2.
2- شرفت رضي الله عنها برؤية جبريل حيث رأته عليه السلام في صورة
__________
1ـ انظر ترجمتها في الطبقات لابن سعد 8/86-96، الجرح والتعديل 9/464، المستدرك للحاكم 4/16-19، الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/405-408، أسد الغابة 5/588-589، سير أعلام النبلاء 2/201-210، البداية والنهاية 8/132، مجمع الزوائد 9/245، الإصابة 4/407-408.
2ـ صحيح مسلم 2/632.(1/444)
دحية بن خليفة الكلبي. فقد روى الشيخان في صحيحيهما عن معتمر ـ بن سليمان التيمي ـ قال: سمعت أبي عن أبي عثمان قال: "أنبئت أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أم سلمة فجعل يتحدث فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأم سلمة من هذا؟ أو كما قال. قالت هذا دحية فلما قام قالت: والله ما حسبته إلا إياه حتى خطبه النبي صلى الله عليه وسلم يخبر خبر جبريل أو كما قال قال أبي: قلت لأبي عثمان: ممن سمعت هذا؟ قال: من أسامة بن زيد"1.
قال النووي: "قوله أن أم سلمة رأت جبريل في صورة دحية هو ـ بفتح الدال وكسرها ـ وفيه منقبة لأم سلمة رضي الله عنها وفيه جواز رؤية البشر الملائكة ووقوع ذلك ويرونه على صورة الآدميين لأنهم لا يقدرون على رؤيتهم على صورهم وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرى على صورة دحية غالباً ورآه مرتين على صورته الأصلية"2.
وقال العلامة ابن القيم: "ومن خصائصها: أن جبرائيل دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهي عنده فرأته في صورة دحية الكلبي"3.
3- شهد لها الرسول صلى الله عليه وسلم بأنها على خير فقد روى الترمذي من حديث عمر بن أبي سلمة ربيب النبي صلى الله عليه وسلم قال: لما نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} في بيت أم سلمة فدعا فاطمة وحسناً وحسيناً فجللهم بكساء وعلي خلف ظهره فجلله بكساء ثم قال: "اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً" قالت أم سلمة: وأنا معهم يا نبي الله: قال: "أنت على مكانك وأنت على خير" 4.
__________
1ـ صحيح البخاري مع فتح الباري 9/3، صحيح مسلم 4/1906 واللفظ للبخاري.
2ـ شرح النووي على صحيح مسلم 16/8.
3ـ جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام ص/136.
4ـ سنن الترمذي 4/31 وقال عقبه: هذا حديث غريب من هذا الوجه من حديث عطاء عن عمر عن أبي سلمة.(1/445)
قال صاحب تحفة الأحوذي: "أنت على مكانك وأنت على خير" يحتمل أن يكون معناه أنت خير وعلى مكانك من كونك من أهل بيتي ولا حاجة لك في الدخول تحت الكساء كأنه منعها عن ذلك لمكان علي وأن يكون المعنى أنت على خير وإن لم تكوني من أهل بيتي كذا في اللمعات قلت: الاحتمال الأول هو الراجح بل هو المتعين1.
4- أكرمها الله بالصواب والسداد فيما تشير به ومن ذلك ما أشارت على النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية حينما أمر أصحابه أن يحلقوا رؤوسهم وينحروا هديهم فتثاقلوا ذلك طمعاً منهم في أن يدخلوا مكة ويطوفوا بالبيت رضي الله عنهم وأرضاهم. فقد روى البخاري بإسناده من حديث طويل عن المسور ومروان وفيه: "فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "قوموا فانحروا ثم احلقوا" قال: فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاثة مرات فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس فقالت له أم سلمة: يا نبي الله أتحب ذلك؟ أخرج لا تكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك فخرج فلم يكلم أحد منهم حتى فعل ذلك نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضاً حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً"2.
فهذه الأحاديث المتقدمة التي ذكر فيها فضل أم سلمة أم المؤمنين كلها دلت دلالة واضحة على أنها كانت جليلة القدر عظيمة المكانة رضي الله عنها وأرضاها. "وهي آخر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم موتاً" وقيل: "بل ميمونة"3.
__________
1ـ تحفة الأحوذي 9/66.
2ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 5/332.
3ـ جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام ص/136، زاد المعاد 1/114.(1/446)
7) زينب بنت جحش رضي الله عنها:
هي زينب بنت جحش بن رياب بن يعمر الأسدي حليف بني عبد شمس وأمها أميمة بنت عبد المطلب بن هاشم عمت النبي صلى الله عليه وسلم وهي أخت حمنة، من المهاجرات الأول تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم سنة ثلاث وقيل: سنة خمس وكانت قبله عند مولاه زيد بن حارثة وفيها نزلت: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا} 1 وكان يدعى زيد بن محمد فلما نزلت: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} 2 وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم امرأته وانتفى ما كان أهل الجاهلية يعتقدونه من أن الذي يتبنى غيره يصير ابنه بحيث يتوارثان إلى غير ذلك. وكانت زينب رضي الله عنها من سادة النساء ديناً وورعاً وجوداً ومعروفاً رضي الله عنها، وكانت وفاتها رضي الله عنها سنة عشرين3.
ومناقبها رضي الله عنها نطق بها الكتاب والسنة:
1- شهادة الرب ـ جل وعلا ـ لها بحقيقة الإيمان. قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} 4.
فالمراد بالمؤمنة في هذه الآية زينب رضي الله عنها.
قال السيوطي: "أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق ليخطب على فتاه زيد بن حارثة فدخل
__________
1ـ جزء من الآية رقم 37 من سورة الأحزاب.
2ـ جزء من الآية رقم 5 من سورة الأحزاب.
3ـ انظر ترجمتها في الطبقات الكبرى لابن سعد 8/101-115، المستدرك 4/23-25، حلية الأولياء لأبي نعيم 2/51-54، الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/306-310، أسد الغابة 5/463، سير أعلام النبلاء 2/211-218، البداية والنهاية 7/115، التهذيب 12/420، الإصابة 4/307-308، مجمع الزوائد 9/246-248، كنز العمال 13/700-704.
4ـ سورة الأحزاب آية/36.(1/447)
على زينب بنت جحش الأسدية فخطبها قالت: لست بناكحته قال: بلى فانكحيه قالت: يا رسول الله، أوامر في نفسي فبينما هما يتحدثان أنزل الله هذه الآية على رسوله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً} قالت: قد رضيته لي يا رسول الله منكحاً وقال: "نعم" قالت: إذن لا أعصي رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنكحته نفسي"1.
2- مما أكرمها الله وشرفها به أن تولى بنفسه تزويجها بنبيه من فوق سبع سموات بعد أن طلقها مولاه زيد بن حارثة وانقضت عدتها وكانت تفخر بذلك على سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حيث كانت تقول لهن: زوجكن أهليكن وأنا زوجني الله من فوق سبع سموات. فقد روى البخاري بإسناده إلى أنس بن مالك قال: جاء زيد بن حارثة يشكوا "فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "اتق الله وأمسك عليك زوجك" قال أنس: لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً لكتم هذه قال: فكانت زينب تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: زوجكن أهليكن وزوجني الله ـ تعالى ـ من فوق سبع سموات".
وروى أيضاً بإسناده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: نزلت آية الحجاب في زينب بنت جحش وأطعم عليها يومئذ خبزاً ولحماً، وكانت تفخر على نساء النبي صلى الله عليه وسلم وكانت تقول: "إن الله أنكحني في السماء"2.
وروى الإمام مسلم بإسناده إلى أنس قال: لما انقضت عدة زينب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد: "فاذكرها علي" قال: فانطلق زيد حتى أتاها وهي تخمر عجينها قال: فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها فوليتها ظهري ونكصت على عقبي فقلت: يا زينب، أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك قالت: ما أنا بصانعة شيئاً حتى أوامر ربي فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها بغير إذن ... "الحديث3.
__________
1ـ الدر المنثور 6/609، تفسير ابن جرير 22/11، تفسير ابن كثير 5/463.
2ـ الحديثان في صحيح البخاري 4/281.
3ـ صحيح مسلم 2/1048-1049.(1/448)
وقد حكى الله ـ جل وعلا ـ تزويجه إياها بنبيه صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} 1.
قال الذهبي رحمه الله تعالى: "فزوجها الله ـ تعالى ـ بنبيه بنص كتابه بلا ولي ولا شاهد فكانت تفخر بذلك على أمهات المؤمنين وتقول: زوجكن أهليكن وزجني الله من فوق عرشه"2.
قال الحافظ في بيان قوله تعالى: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} والحاصل أن الذي كان يخفيه النبي صلى الله عليه وسلم هو إخبار الله إياه أنها ستصير زوجته، والذي كان يحمله على إخفاء ذلك خشية قول الناس تزوج امرأة ابنه، وأراد الله إبطال ما كان أهل الجاهلية عليه من أحكام التبني بأمر لا أبلغ في الإبطال منه وهو تزوج امرأة الذي يدعى ابناً ووقع ذلك من إمام المسلمين ليكون أدعى لقبولهم ... وقد أخرج الترمذي3 من طريق داود بن أبي هند عن الشعبي عن عائشة قالت: "لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً من الوحي لكتم هذه الآية {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ} ـ يعني بالإسلام ـ {وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} بالعتق {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} إلى قوله: {قَدَراً مَقْدُوراً} وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوجها قالوا: تزوج حليلة ابنه فأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} 4 الآية وكان تبناه وهو صغير قلت: حتى صار رجلاً يقال له زيد بن محمد. فأنزل الله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} ـ قوله {وَمَوَالِيكُمْ} 5.
__________
1ـ سورة الأحزاب آية/37.
2ـ سير أعلام النبلاء 2/211.
3ـ سنن الترمذي 5/31-32.
4ـ سورة الأحزاب آية/40.
5ـ فتح الباري 8/524 والآية رقم 5 من سورة الأحزاب.(1/449)
3- ومما حظيت به وكان تكريماً لها من ربها أن آية الحجاب نزلت حين تزوجت بالنبي صلى الله عليه وسلم. فقد روى البخاري بإسناده إلى أنس بن مالك قال: "أنا أعلم الناس بهذه الآية آية الحجاب: لما أهديت زينب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت معه في البيت صنع طعاماً ودعا القوم فقعدوا يتحدثون فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يخرج ثم يرجع وهم قعود يتحدثون فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} ـ إلى قوله ـ {مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} فضرب الحجاب وقام القوم"1.
فزواجها رضي الله عنها بالنبي صلى الله عليه وسلم كان السبب في نزول آية الحجاب.
4- روى الإمام مسلم بإسناده إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسرعكن لحاقاً بي أطولكن يداً" قالت: فكن يتطاولن أيتهن أطول يداً قالت: فكانت أطولنا يداً زينب لأنها كانت تعمل بيدها وتصدق"2.
وروى الحاكم بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأزواجه: "أسرعكن لحوقاً بي أطولكن يداً" قالت عائشة فكنا إذا اجتمعنا في بيت إحدانا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم نمد أيدينا في الجدار نتطاول فلم نزل نفعل ذلك حتى توفيت زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم وكانت امرأة قصيرة ولم تكن أطولنا فعرفنا حينذ أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد بطول اليد الصدقة قال: وكانت زينب امرأة صناعة اليد فكانت تدبغ وتخرز وتصدق في سبيل الله عز وجل"3.
قال النووي رحمه الله تعالى: "معنى الحديث أنهن ظنن أن المراد بطول اليد
__________
1ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 8/527.
2ـ صحيح مسلم 4/1907.
3ـ المستدرك 4/25 وقال عقبه: هذا حديث على شرط مسلم ولم يخرجاه وأقره الذهبي.(1/450)
طول اليد الحقيقية وهي الجارحة فكن يذرعن أيديهن بقصبة فكانت سودة أطولهن جارحة وكانت زينب أطولهن يداً في الصدقة وفعل الخير فماتت زينب أولهن فعلموا أن المراد طول اليد في الصدقة والجود ... وفيه معجزة باهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومنقبة ظاهرة لزينب ووقع هذا الحديث في كتاب الزكاة من البخاري بلفظ متعقد يوهم أن أسرعهن لحاقاً سودة وهذا الوهم باطل بالإجماع"1.
5- روى الإمام مسلم بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها من حديث طويل وفيه قالت عائشة: فأرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم وهي التي كانت تساميني منهن في المنزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم أر امرأة قط خيراً في الدين من زينب وأتقى لله، وأصدق حديثاً، وأوصل للرحم، وأعظم صدقة وأشد ابتذالاً لنفسها في العمل الذي تصدق به، وتقرب إلى الله تعالى ما عدا سورة2 من حد كانت فيها تسرع منها الفيئة3 ... الحديث4.
فلقد وصفت عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين زينب بنت جحش بصفات عظيمة كلها جامعة لمكارم الأخلاق وأصول الفضائل التي طابعها البر والتقوى وكل صفة منها منقبة ظاهرة لأم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها وأرضاها.
كما وصفتها عائشة رضي الله عنها وصفاً عظيماً في حديث الإفك الطويل حيث قالت رضي الله عنها: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن أمري: "ما علمت؟ أو ما رأيت؟ " فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي
__________
1ـ شرح النووي على صحيح مسلم 16/8-9.
2ـ ما عدا سورة من حد: أي: شدة الخلق وثورانه. انظر النهاية في غريب الحديث 2/420، شرح النووي 15/206.
3ـ الفيئة: الرجوع ومعنى الكلام أنها كاملة الأوصاف إلا أن فيها شدة خلق وسرعة غضب، تسرع منها الرجوع أي: إذا وقع ذلك منها رجعت عنه سريعاً ولا تصر عليه شرح النووي 15/206.
4ـ صحيح مسلم 4/1891-1892.(1/451)
وبصري والله ما علمت إلا خيراً. قالت عائشة: وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فعصمها الله بالورع وطفقت أختها حمنة بنت جحش تحارب1 لها فهلكت فيمن هلك2 هذا لفظ مسلم. ولفظ البخاري قالت رضي الله عنها: "وكانت عائشة تقول: أما زينب ابنة جحش فعصمها الله بدينها فلم تقل إلا خيراً وأما أختها حمنة فهلكت فيمن هلك"3.
ففي هذين النصين فضيلة ظاهرة لأم المؤمنين زينب رضي الله عنها.
قال الإمام الذهبي: "ويروى عن عمرة عن عائشة قالت: يرحم الله زينب لقد نالت في الدنيا الشرف الذي لا يبلغه شرف إن الله زوجها ونطق به القرآن وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا: "أسرعكن لحوقاً أطولكن باعاً" فبشرها بسرعة لحوقها به وهي زوجته في الجنة"4.
ومناقبها رضي الله عنها التي وردت بها الأحاديث والآثار كثيرة جداً رضي الله عنها وأرضاها.
__________
1ـ وطفقت أختها حمنة تحارب لها "أي: جعلت تتعصب لها فتحكي ما يقوله أهل الإفك" شرح النووي 17/113.
2ـ صحيح مسلم بشرح النووي 17/113.
3ـ صحيح البخاري 3/168.
4ـ سير أعلام النبلاء 2/215.(1/452)
8) جويرية بنت الحارث رضي الله عنها:
هي جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار بن حبيب بن جديمة وهو المصطلق بن عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو الخزاعية المصطلقية، لما غزا النبي صلى الله عليه وسلم بني المصطلق غزوة المريسيع في سنة خمس أو ست وسباهم وقعت جويرية رضي الله عنها في سهم ثابت بن قيس فكاتبها رضي الله عنها على نفسها، وجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وطلبت منه أن يعينها على ما كاتبها عليه ثابت بن قيس فعرض عليها النبي صلى الله عليه وسلم ما خير لها في العاجل والآجل وهو أن يؤدي عنها ما كاتبها عليه ثابت بن قيس رضي الله عنه ويتزوجها فوافقت على ذلك وأسلمت وتزوجها سيد الخلق وأطلق لها الأسارى من قومها وكانت قبله عليه الصلاة والسلام تحت مسافع بن صفوان المصطلقي وقتل عنها في غزوة المريسيع"1.
وقد وردت لها مناقب في بعض الأحاديث دلت على فضلها وعظم شأنها ومنها ما يلي:
1- مما أكرمت به رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أدى عنها كتابتها وتزوجها وكان ذلك صداقاً لها. قال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا بني المصطلق وقعت جويرية بنت الحارث في السهم لثابت بن قيس بن الشماس أو لابن عم له2 فكاتبته على نفسها وكانت امرأة حلوة ملاحة3 لا يراها أحد إلا أخذت
__________
1ـ طبقات ابن سعد 8/116-120، المستدرك 4/25-28، الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/251-254، أسد الغابة 5/419-420، مجمع الزوائد 9/250، البداية والنهاية 8/53-54، تهذيب التهذيب 12/407، الإصابة 4/257-258.
2ـ وقع في "مغازي الواقدي" 1/410 وقعت في السهم لثابت بن قيس وابن عم له وأن ثابتاً خلصها من ابن عمه بنخلات له في المدينة.
3ـ ملاحة: بضم الميم وتشديد اللام: أي شديدة الملاحة وهو من أبنية المبالغة، انظر النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 4/355 وكنت به عائشة عن جمالها.(1/453)
بنفسه فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم تستعينه في كتابتها قالت عائشة: فوالله ما هو إلا أن رأيتها على باب حجرتي فكرهتها وعرفت أنه سيرى منها صلى الله عليه وسلم ما رأيت فدخلت عليه فقالت: يا رسول الله أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار سيد قومه وقد أصابني من البلاء ما لم يخف عليك فوقعت في السهم لثابت بن قيس بن الشماس أو لابن عم له، فكاتبته على نفسي فجئتك أستعينك على كتابتي قال: "فهل لك من خير من ذلك؟ " قالت: وما هو يا رسول الله؟ قال: " أقضي عنك كتابتك وأتزوجك" قالت: نعم يا رسول الله قد فعلت، قالت: وخرج الخبر إلى الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج جويرية ابنة الحارث بن أبي ضرار فقال الناس: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرسلوا ما بأيديهم قالت: فلقد أعتق بتزويجه إياها مئة1 أهل بيت من بني المصطلق فما أعلم امرأة كانت أعظم على قومها بركة منها"2.
هذا الحديث تضمن منقبة ظاهرة، وميزة شريفة لأم المؤمنين جويرية بنت الحارث رضي الله عنها حيث إن المصطفى عليه الصلاة والسلام اتخذها زوجة له بعد أن أسلمت وصارت بذلك أماً للمؤمنين وكان زواجها بالنبي صلى الله عليه وسلم خيراً لها
__________
1ـ "مائة أهل بيت" جاء في عون المعبود: "كذا بالإضافة أي: مائة طائفة كل واحدة منهن أهل بيت ولم تقل مائة هم أهل بيت بإيهام أنهم مائة نفس كلهم أهل بيت وليس مراداً وقد روي أنهم أكثر من سبعمائة "قاله الزرقاني" عون المعبود 10/444 وانظر شرح المواهب اللدنية للزرقاني 3/345.
2ـ سيرة ابن هشام 2/294-295، كتاب السير والمغازي لابن إسحاق ص/263 والحديث أخرجه أحمد في المسند من طريق ابن إسحاق 6/277، وأبو داود في سننه 2/347، والبيهقي في السنن الكبرى 9/74، وقال صاحب عون المعبود: قال المنذري: وفيه محمد بن إسحاق بن يسار، ثم قال صاحب عون المعبود: قلت: وقد صرح بالتحديث في رواية يونس ابن بكير عنه وأخرجه أحمد في المسند أهـ. عون المعبود 10/441 وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: "ابن إسحاق حسن الحديث إلا أنه لا يحتج به إذا خولف"أهـ. فتح الباري 4/32. وقال الشيخ محمد ناصر الألباني: "الذي استقر عليه رأي العلماء المحققين أن حديث ابن إسحاق في مرتبة الحسن بشرطين: أحدهما: أن يصرح بالتحديث وأن لا يخالف من هو أوثق منه" أهـ "دفاع عن الحديث النبوي والسيرة في الرد على البوطي" ص/82. وبهذا يعلم أن الحديث إسناده صحيح وهو حسن لذاته.(1/454)
ولقومها فما أن علم الصحابة الكرام رضي الله عنهم بزواجها بالنبي صلى الله عليه وسلم إلا وأطلقوا الأسارى الذين كانوا في أيديهم من قومها إجلالاً وتعظيماً لسيد الخلق عليه الصلاة والسلام لأنهم صاروا أصهاره لما تزوج بجويرية رضي الله عنها ولذلك قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنه: "فما أعلم امرأة كانت أعظم على قومها بركة منها".
2- ومما شرفت به أن تسميتها بهذا الاسم الذي عرفت به وهو جويرية إنما هو تسمية نبوية سماها به النبي صلى الله عليه وسلم. فقد روى مسلم بإسناده إلى عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت جويرية اسمها برة فحول رسول الله صلى الله عليه وسلم جويرية وكان يكره أن يقال: خرج من عند برة1.
3- كانت رضي الله عنها من المكثرات للعبادة الذاكرات الله ذكراً كثيراً. فقد روى مسلم بإسناده إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن جويرية أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح وهي في مسجدها ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة فقال: "ما زلت على الحال التي فارقتك عليها؟ " قالت: نعم قال النبي "لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله بحمده، عدد خلقه ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته" 2 فلقد نالت جويرية بنت الحارث أم المؤمنين رضي الله عنها بدخولها في الإسلام وزواجها بخير البرية فضلاً عظيماً وخيراً كثيراً رضي الله عنها وأرضاها وكانت وفاتها رضي الله عنها سنة خمسين للهجرة وقيل سنة ست وخمسين للهجرة"3.
__________
1ـ صحيح مسلم 3/1687.
2ـ صحيح مسلم 4/2090.
3ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 8/120، وسير أعلام النبلاء 2/463، البداية والنهاية لابن كثير 8/54، مجمع الزوائد 9/250.(1/455)
9) أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنها:
اسمها رملة بنت أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس الأموية زوج النبي صلى الله عليه وسلم تكنى أم حبيبة وهي بها أشهر من اسمها وأمها صفية بنت أبي العاص بن أمية ولدت رضي الله عنها قبل البعثة بسبعة عشر عاماً وكانت قبل النبي صلى الله عليه وسلم تحت عبيد الله بن جحش بن رياب بن يعمر الأسدي من بني أسد بن خزيمة، فأسلما ثم هاجرا إلى الحبشة فولدت حبيبة وبها كانت تكنى، ولقد أصيب زوجها بالخذلان فارتد عن الإسلام ودخل في النصرانية وفارقها وذلك من فضل الله تعالى عليها ليتم لها الإسلام والهجرة وأبدلها الله ـ عز وجل ـ من هو أفضل من كل البشر محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام وكانت وفاتها رضي الله عنها سنة أربع وأربعين للهجرة1 رضي الله عنها وأرضاها.
ولقد وردت لها بعض المناقب التي دلت على علو مكانتها وجليل قدرها رضي الله عنها وأرضاها وتلك المناقب هي:
1- مما حظيت به رضي الله عنها أنها كانت ممن هاجر في الله الهجرة الثانية إلى أرض الحبشة فارة بدينها رضي الله عنها وأرضاها. فقد روى ابن سعد والحاكم عن إسماعيل بن عمرو بن سعيد بن العاص قال: قالت أم حبيبة: رأيت في النوم عبيد الله بن جحش زوجي بأسوأ صورة وأشوهه ففزعت فقلت: تغيرت والله حاله فإذا هو يقول حيث أصبح: يا أم حبيبة إني نظرت في الدين فلم أر ديناً خيراً من النصرانية وكنت قد دنت بها، ثم دخلت في دين محمد، ثم قد رجعت إلى النصرانية، فقلت: والله ما خير لك وأخبرته بالرؤيا التي رأيت له فلم يحفل بها وأكب على الخمر حتى مات فأرى في النوم كأن آتياً يقول:
__________
1ـ انظر ترجمتها في "الطبقات لابن سعد 8/96-100، طبقات خليفة بن خياط ص/332، الجرح والتعديل 9/461، المستدرك 4/20-23، الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/296-299، أسد الغابة 5/457، جلاء الأفهام ص/128-135، سير أعلام النبلاء 2/218-223، البداية والنهاية 8/31، مجمع الزوائد 9/249-250، الإصابة 4/298، تهذيب التهذيب 4/419.(1/456)
يا أم المؤمنين ففزعت فأولتها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتزوجني قالت: فما هو إلا أن انقضت عدتي فما شعرت إلا برسول النجاشي على بابي يستأذن فإذا جارية له يقال لها: أبرهة كانت تقوم على ثيابه ودهنه فدخلت علي فقالت: إن الملك يقول لك: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلي أن أزوجكه فقالت: بشرك الله بخير قالت: يقول لك الملك: وكلي من يزوجك فأرسلت إلى خالد بن سعيد بن العاص فوكلته ... الحديث1.
في هذا بيان فضيلة ظاهرة لأم حبيبة رضي الله عنها وهي أنها كانت ممن شرف بالهجرة إلى أرض الحبشة.
وقال ابن سعد: "وكان عبيد الله بن جحش هاجر بأم حبيبة معه إلى أرض الحبشة في الهجرة الثانية فتنصر وارتد عن الإسلام وتوفي بأرض الحبشة، وثبتت أم حبيبة على دينها الإسلام وهجرتها"2.
وقال الحافظ ابن كثير: "أسلمت قديماً وهاجرت هي وزوجها عبيد الله بن جحش إلى الحبشة فتنصر هناك زوجها وثبتت على دينها رضي الله عنها3.
2- ومما فيه تنويه بشأنها أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث من يخطبها له إلى الحبشة.
فقد روى الحاكم بإسناده إلى جعفر بن محمد بن علي عن أبيه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي يخطب عليه أم حبيبة بنت أبي سفيان وكانت تحت عبيد الله بن جحش فزوجها إياه وأصدقها النجاشي أربعمائة دينار4.
قال أبو جعفر محمد بن جرير: "فما نرى عبد الملك بن مروان وقّت
__________
1ـ الطبقات الكبرى 8/97، المستدرك 4/20-21.
2ـ الطبقات 8/96.
3ـ البداية والنهاية 8/31.
4ـ المستدرك 4/22، واخرجه ابن سعد في الطبقات 8/99.(1/457)
صداق النساء أربعمائة دينار إلا لذلك"1.
روى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه سأل عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كم أصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم أزواجه قالت: كان صداقه لأزواجه اثنتي عشرة أوقية ونصفاً فذلك خمسمائة درهم فهذا صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم لأزواجه "قال الحاكم": هذا حديث صحيح الإسناد وعليه العمل وإنما أصدق النجاشي أم حبيبة أربعمائة دينار استعمالا لأخلاق الملوك في المبالغة في الصنائع لاستعانة النبي صلى الله عليه وسلم به في ذلك2.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: "وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان واسمها رملة ... هاجرت مع زوجها عبيد الله بن جحش إلى أرض الحبشة فتنصر بالحبشة وأتم الله لها الإسلام وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بأرض الحبشة وأصدقها عنه النجاشي أربعمائة دينار وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري فيها إلى أرض الحبشة وولى نكاحها عثمان بن عفان، وقيل: خالد بن سعيد بن العاص"3.
قال الذهبي: "وهي من بنات عم الرسول صلى الله عليه وسلم وليس في أزواجه من هي أقرب نسباً إليه منها ولا في نسائه من هي أكثر صداقاً منها ولا من تزوج بها وهي نائية الدار أبعد منها، عقد له صلى الله عليه وسلم عليها بالحبشة وأصدقها عنه صاحب الحبشة أربع مائة دينار، وجهزها بأشياء"4.
4- ومما زاد في قدرها وعلو شأنها أنها أكرمت فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يجلس عليه أبوها لما قدم المدينة لعقد الهدنة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين قريش ومنعته من الجلوس عليه لأنه كان يومئذ على الشرك ولم يكن قد أسلم. فقد روى
__________
1ـ ذكره عنه ابن سعد في الطبقات 8/99، الحاكم في المستدرك 4/22.
2ـ المستدرك 4/22.
3ـ جلاء الأفهام ص/128.
4ـ سير أعلام النبلاء 2/219.(1/458)
ابن سعد بإسناده إلى محمد بن مسلم الزهري قال: لما قدم أبو سفيان بن حرب المدينة جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يريد غزو مكة فكلمه أن يزيد في هدنة الحديبية فلم يقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام فدخل على ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش النبي صلى الله عليه وسلم طوته دونه فقال: يا بنية أرغبت بهذا الفراش عني أم بي عنه؟ فقالت: بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت امرؤ نجس مشرك فقال: يا بنية لقد أصابك بعدي شر1.
5- أنها كانت شديدة الخوف من الله ـ جل وعلا ـ ومن العابدات الورعات. فقد روى ابن سعد والحاكم عن عوف بن الحارث قال: سمعت عائشة تقول: دعتني أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم عند موتها فقالت: قد كان يكون بيننا ما يكون بين الضرائر فغفر الله لي ولك ما كان من ذلك فقلت: غفر الله لك ذلك كله وتجاوز وحللك من ذلك فقالت: سررتيني سرك الله، وأرسلت إلى أم سلمة فقالت لها مثل ذلك وتوفيت سنة أربع وأربعين في خلافة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما2.
__________
1ـ الطبقات الكبرى 8/99-100، وأورده الذهبي في سير أعلام النبلاء 2/223.
2ـ الطبقات الكبرى 8/100، المستدرك 4/22-23 وأورده الحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء 2/223، وابن كثير في البداية والنهاية 8/31، والحافظ ابن حجر في الإصابة 4/300.(1/459)
10) صفية بنت حيي رضي الله عنها:
هي صفية بنت حيي بن أخطب بن سعيه بن ثعلبة بن عبيد بن كعب بن أبي خبيب من بني النضير وهو من سبط لاوي بن يعقوب، ثم من ذرية هارون بن عمران أخي موسى عليهما السلام. كانت قبل إسلامها تحت سلام بن مشكم، ثم خلف عليها كنانة بن أبي الحقيق، فقتل كنانة يوم خيبر فصارت صفية مع السبي فأخذها دحية الكلبي، ثم استعادها المصطفى عليه الصلاة والسلام، فأعتقها وتزوجها، كانت رضي الله عنها سيدة شريفة عاقلة فاضلة ذات حسب وجمال ودين رضي الله عنها، وكانت وفاتها رضي الله عنها سنة اثنتين وخمسين في خلافة معاوية رضي الله عنه1.
وقد وردت أحاديث كثيرة بذكر مناقبها رضي الله عنها وأرضاها منها:
1- من إكرام الله لها أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وجعل عتقها صداقها فقد روى الشيخان في صحيحيهما من حديث طويل عن أنس رضي الله عنه في غزوة خيبر وفيه: "قال وأصبناها عنوة2 وجمع السبي فجاءه دحية فقال: يا رسول الله أعطني جارية من السبي فقال: "اذهب فخذ جارية" فأخذ صفية بنت حيي فجاء رجل إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله أعطيت دحية صفية بنت حيي سيدة قريظة والنضير؟ ما تصلح إلا لك قال: "ادعوه بها" قال: فجاء بها فلما نظر إليها النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خذ جارية من السبي غيرها" قال: وأعتقها وتزوجها فقال له ثابت: يا أبا حمزة ما أصدقها؟ قال: نفسها أعتقها وتزوجها حتى إذا كان بالطريق جهزتها له أم سليم فأهدتها له3 من الليل فأصبح النبي صلى الله عليه وسلم
__________
1ـ الطبقات الكبرى 8/12-129، المستدرك 4/28-29، الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/337-339، أسد الغابة 5/490-491، جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام ص/138، سير أعلام النبلاء 2/231-238، البداية والنهاية 8/50، الإصابة 4/337-339.
2ـ عنوة: أي: قهراً لا صلحاً.
3ـ فأهدتها له: أي: زفتها له صلى الله عليه وسلم.(1/460)
عروساً ... الحديث1.
وعند الإمام مسلم أيضاً: من حديث أنس وفيه قال: "ووقعت في سهم دحية جارية جميلة فاشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبعة أرؤس، ثم دفعها إلى أم سليم تصنعها له وتهيئها قال: وأحسبه قال: وتعتد في بيتها2 وهي صفية بنت حيي ... قال: وقال الناس: لا ندري أتزوجها أم اتخذها أم ولد قالوا: إن حجبها فهي امرأته وإن لم يحجبها فهي أم ولد فلما أراد أن يركب حجبها فقعدت على عجز البعير فعرفوا أنه قد تزوجها" الحديث3.
هذان الحديثان اشتملا على بيان فضيلة ظاهرة لأم المؤمنين صفية رضي الله عنها حيث أكرمها الله ـ عز وجل ـ بالدخول في الإسلام وكتب لها الزواج برسول الله صلى الله عليه وسلم حيث صارت بذلك في أمهات المؤمنين اللاتي هن أزواج نبيه صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة.
والحديثان يوهم ظاهرهما التعارض إذ الأول يفيد أنه صلى الله عليه وسلم أذن لدحية في أخذه جارية من السبي فأخذ صفية فاستردها منه، والثاني يفيد أنها وقعت في سهمه واشتراها بسبعة أرؤس وقد ذكر الجمع بينهما الحافظ حيث قال: "قال السهيلي: لا معارضة بين هذه الأخبار فإنه أخذها من دحية قبل القسم والذي عوضه عنها ليس على سبيل البيع بل على سبيل النفل قلت: وقع في رواية حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس عند مسلم أن صفية وقعت في سهم دحية وعنده أيضاً فيه "فاشتراها" من دحية بسبعة أرؤس "فالأولى في طريق الجمع أن المراد بسهمه هنا نصيبه الذي اختاره لنفسه، وذلك أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطيه جارية فأذن له أن يأخذ جارية فأخذ صفية فلما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم إنها بنت ملك من ملوكهم ظهر له أنها ليست ممن توهب لدحية لكثرة من كان في الصحابة مثل دحية وفوقه
__________
1ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 7/469، صحيح مسلم 2/1043-1044 واللفظ له.
2ـ أي تستبريء فإنها كانت مسبية يجب استبراؤها وجعلها في مدة الاستبراء في بيت أم سليم.
3ـ صحيح مسلم 2/1045-1046.(1/461)
وقلة من كان في السبي مثل صفية في نفاستها، فلو خصه بها لأمكن تغير خاطر بعضهم فكان من المصلحة العامة ارتجاعها منه واختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بها فإن في ذلك رضا الجميع وليس ذلك من الرجوع في الهبة من شيء، وأما إطلاق الشراء على العوض فعلى سبيل المجاز، ولعله عوضه عنها بنت عمها أو بنت عم زوجها1، فلم تطب نفسه فأعطاه من جملة السبي زيادة على ذلك.
وعند ابن سعد من طريق سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس وأصله في مسلم: "صارت صفية لدحية فجعلوا يمدحونها فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطى بها دحية ما رضي"2.
2- ومما دل على عظيم شأنها وجلالة قدرها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضع لها ركبته لتصعد من عليها للركوب على البعير حال رجوعه عليه الصلاة والسلام من غزوة خيبر فكانت تجله وتكرمه عليه الصلاة والسلام من أن تضع رجلها على فخذه وإنما كانت تضع ركبتها على فخذه حتى تركب. فقد روى البخاري بإسناده إلى أنس رضي الله عنه قال: "قدمنا خيبر فلما فتح الله عليه الحصن ذكر له جمال صفية بنت حيي بن أخطب وقد قتل زوجها وكانت عروساً فاصطفاها النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه فخرج حتى بلغنا سد الصهباء حلت فبنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صنع حيساً في نطع صغير ثم قال لي: آذن من حولك فكانت تلك وليمته على صفية ثم خرجنا إلى المدينة فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يحوي لها وراءه بعباءة ثم يجلس عند بعيره فيضع ركبته وتضع صفية رجلها على ركبته حتى تركب"3.
__________
1ـ وقع عند ابن إسحاق أن صفية سبيت من حصن القموص وهو حصن ابن أبي الحقيق وكانت تحت كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وسبي معها بنت عمها وعند غيره بنت عم زوجها فلما استرجع النبي صلى الله عليه وسلم صفية من دحية أعطاه بنت عمها انظر كتاب المغازي والسير ص/264، الإصابة 4/338، فتح الباري 7/469-470.
2ـ فتح الباري 7/470، شرح النووي 9/220-221.
3ـ صحيح البخاري 3/52.(1/462)
وقال الحافظ ابن حجر: "ووقع في مغازي أبي الأسود عن عروة فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم لها فخذه لتركب فأجلت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تضع رجلها على فخذه فوضعت ركبتها على فخذه وركبت1.
3- روى محمد بن سعد بأسانيده في حديث طويل وفيه: "لم يخرج النبي صلى الله عليه وسلم من خيبر حتى طهرت صفية من حيضها فحملها وراءه فلما صار إلى منزل على ستة أميال من خيبر مال يريد أن يعرس بها فأبت عليه فوجد في نفسه فلما كان بالصهباء وهي على بريد من خيبر نزل بها هناك فمشطتها أم سليم وعطرتها. قالت أم سنان الأسلمية: وكانت من أضوأ ما يكون من النساء فدخل بأهله فلما أصبح سألتها عما قال لها؟ فقالت: قال لي: "ما حملك على الامتناع من النزول أولاً" قالت: خشيت عليك من قرب اليهود فزادها ذلك عنده وذكرت أنه سر بها ولم ينم تلك الليلة لم يزل يتحدث معها"2.
فهذا الحديث اشتمل على فضيلة ظاهرة لأم المؤمنين صفية رضي الله عنها فلقد خشيت على النبي صلى الله عليه وسلم من غدر اليهود إن هو نزل منزلاً قريباً من خيبر لأنها خبيرة بكيد اليهود وشدة بغضهم وحقدهم على الإسلام والنبي عليه الصلاة والسلام، ولذلك امتنعت من النزول في المنزل الأول الذي كان يبعد عن خيبر ستة أميال ولما بلغ الصهباء نزل بها وسألها عن سبب امتناعها عن النزول أولاً أوضحت له أنها تخشى عليه من اليهود فزادها ذلك منزلة ورفعة عنده عليه الصلاة والسلام وكل هذا ناشيء عن الإيمان الصادق الذي أنساها قتل أبيها وزوجها من أجل كفرهما بالله وصدهما عن سبيل الله. ولذلك سر بها المصطفى عليه الصلاة والسلام فلم ينم تلك الليلة بل استمر في مبادلتها الحديث رضي الله عنها وأرضاها.
__________
1ـ فتح الباري 7/480.
2ـ الطبقات 8/120-122 فقد رواه بثلاثة أسانيد لأبي هريرة وإلى أنس بن مالك وإلى أم سنان الأسلمية.(1/463)
4- ورد التنوية بشرف نسبها فيما رواه أبو عيسى الترمذي بإسناده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "بلغ صفية أن حفصة قالت: بنت يهودي فبكت فدخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي فقال: "ما يبكيك؟ " قالت: قالت لي حفصة: إني ابنة يهودي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وإنك لابنة نبي، وإن عمك لنبي، وإنك لتحت نبي، ففيم تفخر عليك؟ " ثم قال: " اتقي الله يا حفصة" 1.
فهذا النص النبوي تضمن ذكر فضيلة ظاهرة لصفية رضي الله عنها حيث بين النبي صلى الله عليه وسلم أنها من سلالة نبوية فقد هون عليها ما بلغها من أم المؤمنين حفصة حيث بين لها أنها ابنة نبي وهو هارون بن عمران عليه السلام وأن عمها لنبي وهو موسى بن عمران عليه السلام وأنها لتحت نبي وهو أفضل البشر وسيد ولد آدم محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "ففيم تفخر عليك؟ " أي: في أي شيء تفخر حفصة عليك ومع أن كلمة حفصة رضي الله عنها كلمة صحيحة بالنظر إلى أبيها لم يرضها النبي صلى الله عليه وسلم لأن التفاخر من عادات الجاهلية ولذلك حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم.
5- ومما هو مفخرة في حقها مدح النبي صلى الله عليه وسلم لها بالصدق فقد أخرج ابن سعد عن زيد بن أسلم أن نبي الله صلى الله عليه وسلم في الوجع الذي توفي فيه اجتمع إليه نساؤه فقالت صفية بنت حيي: أما والله يا نبي الله لوددت أن الذي بك بي فغمزنها أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأبصرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "مضمضن" فيقلن من أي شيء يا نبي الله؟ قال: "من تغامزكن بصاحبتكن والله إنها لصادقة" 2.
6- ومنها ما رواه أبو عمر بن عبد البر فقال: وكانت صفية حليمة عاقلة
__________
1ـ سنن الترمذي 8/368 ثم قال عقبه: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه والحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده 3/153.
2ـ الطبقات الكبرى 8/128 وأورده الذهبي في سير أعلام النبلاء 2/235، والحافظ في الإصابة 4/339.(1/464)
فاضلة وروينا أن جارية لها أتت عمر بن الخطاب فقالت: إن صفية تحب السبت وتصل اليهود فبعث إليها عمر فسألها فقالت: أما السبت فإني لم أحبه منذ أن أبدلني الله به يوم الجمعة، وأما اليهود فإن لي فيهم رحماً وأنا أصلها، قال ثم قالت للجارية: وما حملك على ما صنعت قالت: الشيطان. قالت: اذهبي فأنت حرة1.
7- لما اجتمع أهل الفتنة على الخليفة الثالث ذي النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه وحصروه في الدار وقطعوا عليه الماء والطعام كان لها رضي الله عنها موقف طيب تذكر به في الآخرين فقد حاولت بقدر استطاعتها إيصال الماء والطعام إلى عثمان رضي الله عنه. فقد روى ابن سعد بإسناده إلى كنانة بن نبيه ـ مولى صفية ـ قال: كنت أقود بصفية لترد على عثمان فلقيها الأشتر2 فضرب وجه بغلتها حتى مالت فقالت: ردوني لا يفضحني هذا قال الحسن في حديثه: ثم وضعت خشباً من منزلها إلى منزل عثمان تنقل عليه الماء والطعام3.
فقد كانت رضي الله عنها من سيدات النساء عبادة وورعاً وزهادة وبراً وصدقة رضي الله عنها وأرضاها.
__________
1ـ الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/339.
2ـ اسمه مالك بن الحارث بن عبد يغوث بن مسلمة بن ربيعة بن الحارث بن جزيمة بن مالك بن النخع النخعي الكوفي المعروف بالأشتر كان أحد الساعين في الفتنة زمن عثمان رضي الله عنه وأحد المؤلبين على عثمان وشهد حصره، هلك سنة 37 "انظر ترجمته في تهذيب التهذيب 10/11-12.
3ـ الطبقات الكبرى 8/128.(1/465)
11) ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها:
هي ميمونة بنت الحارث بن حزن بن بحير بن الهزم بن رويبة بن عبد الله بن هلال بن عامر أن صعصعة الهلالية، وأمها هند بنت عوف بن زهير بن الحارث بن حماطة من حمير، وقيل من كنانة وكانت قبل النبي صلى الله عليه وسلم عند أبي رهم بن عبد العزى، وقيل عند سبرة بن أبي رهم هذا، وقيل عند حويطب بن عبد العزى، وقيل: عند فروة أخيه وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة سنة سبع لما اعتمر عمرة القضية زوجه إياها العباس بن عبد المطلب وكان يلي أمرها وهي أخت أم ولده أم الفضل بنت الحارث الهلالية لأبيها وأمها، وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسرف على عشرة أميال من مكة وهي آخر امرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم1.
ولقد وردت مناقبها رضي الله عنها في أحاديث دلت على أنها كانت من سادات النساء رضي الله عنها وأرضاها.
1- من تلك الأحاديث ما أخرجه ابن سعد بإسناده إلى علي بن عبد الله بن عباس قال: لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج إلى مكة عام القضية بعث أوس بن خولي وأبا رافع إلى العباس فزوجه ميمونة، فأضلا بعيريهما فأقاما أياماً ببطن رابغ حتى أدركهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بقديد وقد ضما بعيريهما، فسارا معه حتى قدم مكة فأرسل إلى العباس فذكر ذلك له وجعلت ميمونة أمرها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم2 فجاء رسول الله منزل العباس فخطبها إلى العباس فزوجها إياه"3.
2- وروى أيضاً بإسناده إلى سليمان بن يسار: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث
__________
1ـ انظر ترجمتها في: الطبقات الكبرى لابن سعد 8/132-140، المستدرك للحاكم 4/30-33، الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/391-395، أسد الغابة 5/550، سير أعلام النبلاء 2/238-245، البداية والنهاية 8/63، الإصابة 4/397-399، مجمع الزوائد 3/249.
2ـ قال الذهبي رحمه الله تعالى: "كذا قال: وصوابه إلى العباس" سير أعلام النبلاء 2/239.
3ـ الطبقات 8/132.(1/466)
أبا رافع ورجلاً من الأنصار، فزوجاه ميمونة قبل أن يخرج من المدينة"1.
3- وروى أيضاً بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة جعلت أمرها إلى العباس بن عبد المطلب فزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم2.
في هذه الأحاديث الثلاثة منقبة عظيمة لأم المؤمنين ميمونة رضي الله عنها وأرضاها فقد أكرمها الله ـ عز وجل ـ بأن جعلها إحدى أمهات المؤمنين اللاتي هن أزواجه عليه الصلاة والسلام في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
4- روى الحاكم بإسناده إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها وأقام بمكة ثلاثاً فأتاه حويطب بن عبد العزى في نفر من قريش في اليوم الثالث فقالوا له: إنه قد انقضى أجلك فاخرج عنا قال: وما عليكم لو تركتموني فأعرست بين أظهركم فصنعت لكم طعاماً فحضرتموه قالوا: لا حاجة لنا في طعامك فاخرج عنا فخرج بميمونة بنت الحارث رضي الله عنها حتى أعرس بها بسرف3.
5- روى الإمام أحمد بإسناده إلى أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كنت في بعث مرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اذهب فأتني بميمونة" فقلت: يا رسول الله: إني في البعث فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أليس تحب ما أحب" فقلت: بلى قال: "فاذهب فأتني بها" فذهبت فجئته بها4.
__________
1ـ الطبقات الكبرى 8/133، وأخرجه مالك في الموطأ 1/348.
2ـ الطبقات 8/133.
3ـ المستدرك 4/31 وقال عقبه: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وأقره الذهبي" وكلمة "سرف": اسم مكان يبعد عن مكة ستة أميال وقيل سبعة وتسعة واثني عشر وهو الموضع الذي بنى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بميمونة "انظر معجم البلدان" 3/212.
4ـ المسند مع الفتح الرباني 22/137 وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 9/248، وقال رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير الحسن بن علي بن أبي رافع وهو ثقة.(1/467)
6- إن تسميتها باسم "ميمونة" إنما سماها بهذا الاسم المبارك الميمون المصطفى صلى الله عليه وسلم. فقد روى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان اسم خالتي ميمونة برة فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة"1.
7- شهد لها المصطفى عليه الصلاة والسلام بحقيقة الإيمان واستقراره في قلبها رضي الله عنها. فقد روى الحاكم بإسناده أيضاً إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأخوات مؤمنات ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأختها أم الفضل بنت الحارث، وأختها سلمة بنت الحارث امرأة حمزة، وأسماء بنت عميس أختهن لأمهن" 2.
هذا الحديث اشتمل على منقبة عظيمة وفضيلة ظاهرة لأم المؤمنين ميمونة رضي الله عنها وأخواتها اللاتي ذكرن معها رضي الله عنهن وأرضاهن.
8- روى أبو يعلى بإسناده إلى يزيد بن الأصم قال: "ثقلت ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم بمكة وليس عندها أحد من بني أخيها فقالت: أخرجوني من مكة فإني لا أموت بها إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرني أني لا أموت بمكة قال: فحملوها حتى أتوا بها سرف إلى الشجرة التي بنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم تحتها في موضع الفيئة قال: فماتت فلما وضعناها في لحدها أخذت ردائي فوضعته تحت خدها في اللحد فأخذه ابن عباس فرمى به"3. فقد شاء الله تعالى لها أن تموت في المكان الذي بنا بها فيه الرسول صلى الله عليه وسلم فقد بنا بها بسرف، وماتت رضي الله عنها في نفس المكان الذي بنا بها فيه وفيه إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم لها بأنها لا تموت بمكة وفهمها لذلك منقبة ظاهرة لها، ولذلك طلبت أن يخرجوها من مكة. رضي الله عنها وأرضاها.
__________
1ـ المستدرك 4/30 وقال عقبه: "صحيح" ووافقه الذهبي.
2ـ المستدرك 4/32-33 وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وأقره الذهبي. ورواه ابن سعد في الطبقات الكبرى 8/138.
3ـ أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 9/249 وقال: رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح.(1/468)
9- ومن مناقبها رضي الله عنها: ما رواه ابن سعد والحاكم عن يزيد بن الأصم قال: "تلقيت عائشة وهي مقبلة من مكة أنا وابن طلحة بن عبيد الله وهو ابن أختها وقد كنا وقعنا في حائط من حيطان المدينة فأصبنا منه فبلغها ذلك فأقبلت على ابن أختها تلومه وتعذله1 ثم أقبلت علي فوعظتني موعظة بليغة ثم قالت: أما علمت أن الله ـ تبارك وتعالى ـ ساقك حتى جعلك في بيت نبيه؟ ذهبت والله ميمونة ورمي بحبلك على غاربك، أما إنها كانت من أتقانا لله وأوصلنا للرحم2 "3.
فقد شهدت عائشة أم المؤمنين لميمونة رضي الله عنها بصفتين عظيمتين من صفات عباد الله المخلصين هما تقوى الله التي هي فعل المأمور وترك المنهي، وصلة الرحم التي هي أصل من أصول الأخلاق التي حث الله عباده على صلتها وعدم قطعها.
وجزم الحافظ ابن كثير بأنها توفيت سنة إحدى وخمسين4.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: "وكانت وفاة ميمونة سنة إحدى وخمسين ونقل ابن سعد عن الواقدي أنها ماتت سنة إحدى وستين قال وهي آخر من مات من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم انتهى. ولولا هذا الكلام الأخير لاحتمل أن يكون قوله وستين وهماً من بعض الرواة ولكن دل أثر عائشة الذي حكاه عنها يزيد بن الأصم أن عائشة ماتت قبل الستين بلا خلاف والأثر المذكور صحيح فهو أولى من قول الواقدي، وقد جزم يعقوب بن سفيان بأنها ماتت سنة تسع
__________
1ـ العزل: اللوم انظر غريب الحديث لابن الجوزي 2/77.
2ـ قال الذهبي: "قلت: فيه دليل على أن ميمونة ماتت قبل عائشة فبطل قول من قال: ماتت سنة إحدى وستين"أهـ، التلخيص للذهبي على حاشية المستدرك 4/32.
3ـ الطبقات الكبرى 8/138، المستدرك 4/31 وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وأقره الذهبي، وأورده الحافظ في الإصابة 4/399 وقال عقبه: "هذا سند صحيح".
4ـ البداية والنهاية 8/63.(1/469)
وأربعين، وقال غيره: ماتت سنة ثلاث وستين وقيل سنة ست وستين وكلاهما غير ثابت والأول أثبت"1.
فهؤلاء جملة من دخل بهن من النساء وهن إحدى عشرة2.
قال العلامة ابن القيم: "قال الحافظ أبو محمد المقدسي وغيره: وعقد على سبع ولم يدخل بهن ... فمن فارقها في حياتها ولم يدخل بها لا يثبت لها أحكام زوجاته اللاتي دخل بهن ومات عنهن صلى الله عليه وسلم"أ. هـ3.
"ولا خلاف أنه صلى الله عليه وسلم توفي عن تسع وكان يقسم منهن لثمان: عائشة، وحفصة، وزينب بنت جحش، وأم سلمة، وصفية، وأم حبيبة، وميمونة، وسودة، وجويرية"4.
هؤلاء أمهات المؤمنين اللاتي يجب على كل مسلم الإقرار والاعتراف بفضلهن وأنهن أمهات المؤمنين كما أطلق الله ذلك عليهن وأن من طعن فيهن أو واحدة كان فاسقاً حائداً عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال أبو بكر الباقلاني: "ويجب أن يعلم أن أخير الأمة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفضل الصحابة العشرة الخلفاء الراشدون الأربعة رضي الله عن الجميع وأرضاهم ونقر بفضل أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك نعترف بفضل أزواجه رضي الله عنهن وأنهن أمهات المؤمنين، كما وصفهن الله تعالى ورسوله ونقول في الجميع خيراً ونبدع ونضلل ونفسق من طعن فيهن أو في واحدة منهن لنصوص الكتاب والسنة في فضلهم ومدحهم والثناء عليهم فمن ذكر خلاف ذلك كان فاسقاً مخالفاً للكتاب والسنة نعوذ بالله من ذلك"5.
__________
1ـ الإصابة 4/399.
2ـ جلاء الأفهام ص/138.
3ـ المصدر السابق ص/138-139.
4ـ زاد المعاد 1/114.
5ـ الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به ص/68.(1/470)
ب – فضل بناته صلى الله عليه وسلم1)
فضل زينب رضي الله عنها:
هي زينب بنت سيد ولد آدم محمد صلى الله عليه وسلم، وأمها خديجة بنت خويلد وكانت أكبر بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم وأول من تزوج منهن ولدت قبل البعثة بمدة قيل: إنها عشرة سنين وتزوجها ابن خالتها أبو العاص بن الربيع العبشمي، وأمه هالة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي خالة زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وولدت زينب لأبي العاص علياً وأمامة فتوفي علي وهو صغير وبقيت أمامة فتزوجها علي بن أبي طالب بعد موت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم1.
ولقد وردت مناقبها رضي الله عنها في جملة الأحاديث وهي كما يلي:
1- روى ابن سعد عن عائشة رضي الله عنها أن أبا العاص بن الربيع كان فيمن شهد بدراً مع المشركين فأسره عبد الله بن جبير بن النعمان الأنصاري فلما بعث أهل مكة في فداء أسراهم قدم في فداء أبي العاص أخوه عمرو بن الربيع وبعثت معه زينب بنت رسول الله وهي يومئذ بمكة بقلادة لها كانت لخديجة بنت خويلد من جزع ظفار ـ وظفار جبل باليمن ـ وكانت خديجة بنت خويلد أدخلتها بتلك القلادة على أبي العاص بن الربيع حين بنى بها فبعثت بها في فداء زوجها أبي العاص فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم القلادة عرفها ورق لها وذكر خديجة وترحم عليها وقال: "إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا إليها متاعها فعلتم" قالوا: نعم يا رسول الله فأطلقوا أبا العاص بن الربيع وردوا على زينب قلادتها وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم على أبي العاص أن يخلي سبيلها إليه فوعده ذلك ففعل"2.
2- وروى أبو القاسم الطبراني والبزار عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم
__________
1ـ انظر ترجمتها في "الطبقات لابن سعد" 8/30-36، التاريخ الصغير 1/7، المستدرك 4/42-46، الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/304-305، أسد الغابة 7/130، العبر 1/10، سير أعلام النبلاء 2/246-250، مجمع الزوائد 9/212-216، الإصابة 4/306.
2ـ الطبقات 8/31، المستدرك للحاكم 4/45 وقال: "حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.(1/473)
مكة1، خرجت ابنته زينب من مكة مع كنانة أو ابن كنانة فخرجوا في طلبها فأدركها هبار بن الأسود فلم يزل يطعن بعيرها برمحه حتى صرعها وألقت ما في بطنها فتحملت واشتجر فيها بنو هاشم وبنو أمية فقال بنو أمية: نحن أحق بها وكانت تحت ابن عمهم أبي العاص وكانت عند هند بنت عتبة بن ربيعة وكانت تقول: هذا في سبب أبيك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة: "ألا تنطلق فتجيء بزينب قال: بلى يا رسول الله قال: "فخذ خاتمي فأعطها إياه" فانطلق زيد فلم يزل يتلطف فلقي راعياً فقال: لمن ترعى فقال: لأبي العاص فقال: لمن هذه الغنم فقال: لزينب بنت محمد صلى الله عليه وسلم فسار معه شيئاً ثم قال هل لك أن أعطيك شيئاً تعطيها إياه ولا تذكره لأحد قال: نعم فأعطاه الخاتم فعرفته فقالت: من أعطاك هذا؟ قال: رجل قالت: فأين تركته قال: بمكان كذا وكذا فسكتت حتى إذا كان الليل خرجت إليه فلما جاءته قال لها: اركبي بين يدي على بعيره قالت: لا ولكن اركب أنت بين يدي فركب وركبت وراءه حتى إذا أتت فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "هي خير بناتي أصيبت في" 2.
3- وروى البزار بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية وكنت فيهم فقال: "إن لقيتم هبار بن الأسود ونافع بن عبد عمرو فاحرقوهما" وكانا نخسا بزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرجت فلم تزل ضبنة3 حتى ماتت ثم قال: "إن لقيتموهما، فاقتلوهما فإنه لا ينبغي لأحد أن يعذب بعذاب الله" 4.
__________
1ـ كذا في المجمع ولعل الصواب "لما قدم المدينة" كما في المستدرك 4/43.
2ـ وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 9/212-213، ثم قال: "رواه الطبراني في الكبير والأوسط بعضه ورواه البزار ورجاله رجال الصحيح" ورواه الدولابي في الذرية الطاهرة ص/46.
3ـ ضبنة: أي زمنة، من الضبنة وهي الزمانة وهي المرض الدائم "انظر هذا المعنى في الفائق في غريب الحديث" 2/228.
4ـ أورده الذهبي في سير أعلام النبلاء 2/247 وقال المحقق: إسناده قوي فإن راوايه عن ابن لهيعة بن المبارك وقد سمع منه قبل احتراق كتبه" أهـ، وانظر الحديث في السيرة لابن هشام 1/657،(1/474)
وعند البخاري رحمه الله تعالى من حديث أبي هريرة قال: "بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعث فقال: "إن وجدتم فلاناً وفلاناً فاحرقوهما بالنار ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أردنا الخروج: "إني أمرتكم أن تحرقوا فلاناً وفلاناً وأن النار لا يعذب بها إلا الله فإن وجدتموهما فاقتلوهما"1.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: "ووقع في رواية ابن إسحاق إن وجدتم هبار بن الأسود والرجل الذي سبق منه إلى زينب ما سبق فاحرقوهما بالنار" يعني زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان زوجها أبو العاص بن الربيع لما أسره الصحابة ثم أطلقه النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة وشرط عليه أن يجهز له ابنته زينب فجهزها فتبعها هبار بن الأسود ورفيقه فنخسا بعيرها فأسقطت ومرضت من ذلك والقصة مشهورة عند ابن إسحاق2 وغيره ... إلى أن قال: وقد أسلم هبار هذا فلم تصبه السرية وأصابه الإسلام فهاجر"3.
روى الحاكم بإسناده إلى أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل إليها أبو العاص بن الربيع أن خذي لي أماناً من أبيك، فخرجت فأطلعت رأسها من باب حجرتها والنبي صلى الله عليه وسلم في الصبح يصلي بالناس فقالت: أيها الناس: إني زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وإني قد أجرت أبا العاص، فلما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة قال: "أيها الناس إنه لا علم لي بهذا حتى سمعتموه ألا وإنه يجير على المسلمين أدناهم" 4.
__________
وأورده الحافظ في الإصابة 3/565-566 وعزاه إلى تاريخ محمد بن عثمان بن أبي شيبة.
1ـ صحيح البخاري 2/172.
2ـ انظر سيرة ابن هشام 1/654، المستدرك 4/42-43.
3ـ فتح الباري 6/149-150، الإصابة 3/566.
4ـ أخرجه ابن هشام في السيرة النبوية 1/157-158، ابن سعد في الطبقات 8/32، والحاكم في المستدرك 4/45، والدولابي في الذرية الطاهرة ص/47، وأورده ابن كثير في البداية والنهاية 3/364-365.(1/475)
ففي هذا الحديث منقبة ظاهرة لزينب رضي الله عنها حيث قبل جوارها لزوجها وصار ذلك سنة للمسلمين إلى يوم القيامة، وهو أنه يجير على المسلمين أدناهم ولو كان امرأة.
5- روى الإمام مسلم بإسناده إلى أم عطية قالت: لما ماتت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اغسلنها وتراً ثلاثاً أو خمساً واجعلن في الخامسة كافوراً أو شيئا من كافور فإذا غسلتنها فأعلمنني" قالت: فأعلمناه فأعطانا حقوه1 وقال: "أشعرنها 2 إياه" 3.
هذه الأحاديث المتقدمة كلها اشتملت على بيان مناقب عالية لزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كانت ممن تقدم إسلامهم وممن حظي بشرف الهجرة وممن أوذي في الله وصبرت على ذلك وتحملت الأذى في ذات الله وإيماناً بما عنده من الثواب والجزاء العظيم على ذلك، كما دلت هذه الأحاديث على أنه كان لها منزلة عظيمة عند أبيها صلى الله عليه وسلم وكانت وفاتها رضي الله عنها في أول السنة الثامنة للهجرة4.
__________
1ـ الحقوا: معقد الإزار وسمي الإزار حقواً لأنه يشد على الحقو "النهاية في غريب الحديث" 1/417، شرح النووي 7/3.
2ـ أشعرنها: أي: اجعلنه شعاراً لها وهو الثوب الذي يلي الجسد لأنه يلي شعرها "النهاية في غريب الحديث" 2/280، شرح النووي على صحيح مسلم 7/3.
3ـ صحيح مسلم 2/648.
4ـ الطبقات 8/32، سير أعلام النبلاء 2/250، الإصابة 4/306.(1/476)
2) رقية رضي الله عنها:
هي رقية بنت سيد البشر صلى الله عليه وسلم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب وأمها خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي ولدت رضي الله عنها سنة ثلاث وثلاثين من مولد أبيها صلى الله عليه وسلم. قال أبو عمرو: "لا أعلم خلافاً أن زينب أكبر بناته صلى الله عليه وسلم واختلف فيمن بعدها منهن ذكر أبو العباس محمد بن إسحاق السراج قال: سمعت عبد الله بن محمد بن سليمان بن جعفر بن سليمان الهاشمي قال: ولدت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن ثلاثين سنة وولدت رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن ثلاث وثلاثين سنة1.
وكانت رضي الله عنها ممن تقدم إسلامهم فقد قال محمد بن سعد: "وأسلمت حين أسلمت أمها خديجة بنت خويلد وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم هي وأخواتها حين بايعه النساء"2.
وكانت رضي الله عنها قبل الهجرة تحت عتبة بن أبي لهب ففارقها3.
قال أبو عمر رحمه الله تعالى: "وقال مصعب وغيره من أهل النسب: كانت رقية تحت عتبة بن أبي لهب وكانت أختها أم كلثوم تحت عتيبة بن أبي لهب فلما نزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} 4 قال لهما أبو هما أبو لهب وأمهما حمالة الحطب: فارقا ابنتي محمد وقال أبو لهب: رأسي من رأسيكما حرام إن لم تفارقا ابنتي محمد ففارقاهما"5.
ولما فارقها عتبة بن أبي لهب أبدلها الله بزوج كان من السابقين الأولين إلى الإسلام ومن المبشرين بالجنة وهو ذو النورين عثمان، فقد روى أبو القاسم
__________
1ـ الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/292.
2ـ الطبقات 8/36.
3ـ المصدر السابق، وانظر سير أعلام النبلاء 2/251، مجمع الزوائد 9/216-217.
4ـ الآية رقم 1 من سورة المسد.
5ـ الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/292.(1/477)
الطبراني بإسناده إلى قتادة بن دعامة السدوسي قال: كانت رقية عند عتبة بن أبي لهب فلما أنزل الله ـ تبارك وتعالى ـ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} سأل النبي صلى الله عليه وسلم عتبة طلاق رقية وسألته رقية ذلك فطلقها فتزوج عثمان بن عفان رضي الله عنه رقية وتوفيت عنده1.
وقال ابن شهاب: فتزوج عثمان بن عفان رضي الله عنه رقية بمكة وهاجرت إلى أرض الحبشة وولدت له هناك ابناً فسماه عبد الله فكان يكنى به وقال مصعب كان عثمان يكنى في الجاهلية أبا عبد الله فلما كان الإسلام ولد له من رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم غلام سماه عبد الله واكتنى به فبلغ الغلام ست سنين فنقر عينه ديك فتورم وجهه ومرض ومات، وقال غيره توفي عبد الله بن عثمان من رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في جمادى الأولى سنة أربع من الهجرة وهو ابن ست سنين وصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل في حفرته أبوه عثمان رضي الله عنهما"2.
وقد وردت طائفة من الأحاديث والآثار التي فيها ذكر بعض المناقب لرقية رضي الله عنها ومنه ما يلي:
1- كانت رضي الله عنها في صدارة من شرفوا بفضل الهجرة الأولى إلى الحبشة فقد روى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى عروة في تسمية الذين خرجوا في المرة الأولى إلى هجرة الحبشة قبل خروج جعفر وأصحابه عثمان بن عفان مع امرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم3.
وروى ابن المبارك من طريق قتادة عن النضر بن أنس عن أبيه قال: خرج عثمان برقية إلى الحبشة مهاجراً فاحتبس خبرهما فأتت النبي صلى الله عليه وسلم امرأة فأخبرته
__________
1ـ أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 9/216-217 وقال: رواه الطبراني وفيه زهير بن العلاء ضعفه أبو حاتم ووثقه ابن حبان فالإسناد حسن، وانظر الذرية الطاهرة ص/52.
2ـ الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/292-293، وانظر الذرية الطاهرة ص/53.
3ـ المستدرك 4/46.(1/478)
أنها رأتهما فقال: "منحهما الله إن عثمان أول من هاجر بأهله" 1.
ففي هذا منقبة لعثمان وزوجه رقية حيث إن عثمان أول من هاجر بأهله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
3- لما مرضت رضي الله عنها أمر المصطفى عليه الصلاة والسلام زوجها عثمان بن عفان أن يتخلف عن غزوة بدر لتمريضها. فقد روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عمر قال: وأما تغيبه عن بدر فإنه كانت تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مريضة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لك أجر رجل ممن شهد بدراً وسهمه" 2.
وقال الزبير بن بكار: كانت رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند عتبة بن أبي لهب ففارقها فتزوج عثمان بن عفان رقية بمكة وهاجرت معه إلى أرض الحبشة فولدت له عبد الله وبه كان يكنى وقدمت معه إلى المدينة وتخلف عن بدر عليها بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم مع سهمان أهل بدر قال: وأجرى يا رسول الله قال: "وأجرك" 3.
وقال الحافظ ابن كثير: "وأما رقية فكان قد تزوجها أولا ابن عمها عتبة ابن أبي لهب، كما تزوج أختها أم كلثوم أخوه عتيبة بن أبي لهب، ثم طلقاهما قبل الدخول بهما بغضة في رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} فتزوج عثمان بن عفان رضي الله عنه رقية، وهاجرت معه إلى أرض الحبشة ويقال: إنه أول من هاجر إليها ثم رجع إلى مكة وهاجر إلى المدينة، وولدت له ابنه عبد الله فبلغ ست سنين فنقره ديك في عينيه
__________
1ـ أورده الحافظ في الإصابة 4/298.
2ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 7/54.
3ـ رواه الطبراني كما في مجمع الزوائد 9/217 وقال الهيثمي عقبه: "رواه الطبراني وروى عن الزهري بعضه روجالهما إلى قائلهما ثقات وانظر الذرية الطاهرة للدولابي ص/54.(1/479)
فمات وبه كان يكنى أولاً، ثم اكتنى بابنه عمرو، وتوفيت وقد انتصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر يوم الفرقان يوم التقى الجمعان ولما أن جاء البشير بالنصر إلى المدينة ـ وهو زيد بن حارثة ـ وجدهم قد ساووا على قبرها التراب1، وكان عثمان قد أقام عليها يمرضها بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وضرب له بسهمه وأجره ولما رجع زوجه بأختها أم كلثوم أيضاً، ولهذا كان يقال له: ذو النورين ثم ماتت عنده في شعبان سنة تسع ولم تلد له شيئاً وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كانت عندي ثالثة لزوجتها عثمان" وفي رواية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كن عشراً لزوجتهن عثمان" 2.
وما تقدم من الآثار وبعض الأحاديث كلها تدل على فضل رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أراد الله ـ جل وعلا ـ ألا تبقى بضعة من المصطفى عليه الصلاة والسلام في عصمة كافر فقد أخرج الله ابنتيه رقية وأم كلثوم من عصمة ابني أبي لهب وكتب الله لرقية أن تتزوج بعد مفارقة ابن أبي لهب لها برجل كريم تستحي منه الملائكة فكان نعم الزوج لها ونعمت الزوجة له، هاجرا معاً إلى أرض الحبشة ليحصلا على مكان يعبدان الله تعالى فيه ليأمنا من اعتداء أهل الكفر والإشراك بالله، ورغبة صادقة منهما في حصول ثواب الهجرة الذي لا يعدله شيء، وكانت لها رضي الله عنها منزلة عظيمة عند النبي صلى الله عليه وسلم يدل عليها إذنه عليه الصلاة والسلام لعثمان في أن يتأخر عن غزوة بدر التي هي أول معركة عظمى يخوضها جيش الإيمان مع جيش الكفر والشرك الذي جاء من مكة وأمره أن يتأخر لتمريضها رضي الله عنها وضرب له بسهمه في الغنيمة وأجره عند الله تعالى يوم القيامة كمن حضر الغزوة، كل ذلك تعظيم لشأن رقية رضي الله عنها وأرضاها ولما لها من المكانة العالية عنده صلى الله عليه وسلم.
__________
1ـ انظر الطبقات لابن سعد 8/37، الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/294، سير أعلام النبلاء 2/252، البداية والنهاية 3/381، مجمع الزوائد 9/217، الإصابة 4/298.
2ـ البداية والنهاية 5/346-347، وانظر الطبقات لابن سعد 8/38.(1/480)
3) أم كلثوم رضي الله عنها:
هي البضعة النبوية الثالثة أم كلثوم بنت سيد ولد آدم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، أمها خديجة بنت خويلد كان عتيبة بن أبي لهب قد تزوج بأم كلثوم قبل البعثة فلم يدخل عليها حتى بعث النبي صلى الله عليه وسلم، فأمره أبوه بفراقها لما أنزل الله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} قال له أبوه أبو لهب: رأسي من رأسك حرام إن لم تطلق ابنته ففارقها ولم يكن دخل بها فلم تزل بمكة مع أبيها عليه الصلاة والسلام وأسلمت حين أسلمت أمها وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أخواتها حين بايعه النساء وهاجرت إلى المدينة فلم تزل بها ولما توفيت أختها رقية زوجها النبي صلى الله عليه وسلم على عثمان بن عفان وذلك في شهر ربيع الأول سنة ثلاث من الهجرة، وأدخلت عليه في هذه السنة في جمادى الآخرة فلم تزل عنده إلى أن ماتت ولم تلد له شيئاً1.
وقد وردت لها مناقب دلت على أنها ذات منزلة ومقام رفيع رضي الله عنها وأرضاها وهي كما يلي:
1- ما ذكره أبو عمر بن عبد البر حيث قال: "وكان عثمان رضي الله عنه إذ توفيت رقية قد عرض عليه عمر بن الخطاب حفصة ابنته ليتزوجها فسكت عثمان عنه لأنه قد كان سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرها فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أدل عثمان على من هو خير له منها وأدلها على من هو خير لها من عثمان" فتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة وزوج عثمان أم كلثوم" 2.
روى البخاري في صحيحه من حديث أنس رضي الله عنه قال: شهدنا
__________
1ـ الطبقات لابن سعد 8/37-39، الذرية الطاهرة للدولابي ص/56، الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/463-465، أسد الغابة 7/384، سير أعلام النبلاء 2/252-253، البداية والنهاية 3/346-347، مجمع الزوائد 9/216-217، الإصابة 4/466.
2ـ الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/464.(1/481)
بنتاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على القبر قال: فرأيت عينيه تدمعان قال: فقال: "هل منكم رجل لم يقارف1 الليلة" فقال أبو طلحة: أنا قال: "فأنزل" قال فنزل في قبرها2.
قال الحافظ: "قوله شهدنا بنتاً للنبي صلى الله عليه وسلم هي أم كلثوم زوج عثمان رواه الواقدي عن فليح بن سليمان بهذا الإسناد وأخرجه ابن سعد في الطبقات3 في ترجمة ابن كلثوم وكذا الدوالبي في الذرية الطاهرة4 وكذلك رواه الطبري والطحاوي من هذا الوجه ورواه حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس فسماها رقية أخرجه البخاري في التاريخ الأوسط والحاكم في المستدرك5. قال البخاري ما أدري ما هذا فإن رقية مات والنبي صلى الله عليه وسلم ببدر ولم يشهدها قلت: وهم حماد في تسميتها فقط ويؤيد الأول ما رواه ابن سعد في ترجمة أم كلثوم6 من طريق عمرة بنت عبد الرحمن قالت: نزل في حفرتها أبو طلحة7.
3- ما رواه ابن سعد في ترجمتها من أنها رضي الله عنها لما مات صلى على جنازتها النبي صلى الله عليه وسلم فقد روى بإسناده إلى أسعد بن زرارة قال: صلى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلس على حفرتها، ونزل في حفرتها علي بن أبي طالب والفضل بن عباش وأسامة بن زيد8.
فهذا الحديث اشتمل على فضيلة ظاهرة لأم كلثوم بنت النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان عليه الصلاة والسلام إمام المصلين على جنازتها وكفى بها منقبة وميزة شريفة
__________
1ـ أي: لم يجامع أهله "انظر النهاية في غريب الحديث والأثر" 4/45.
2ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 3/151 والإمام أحمد في المسند 3/126.
3ـ الطبقات الكبرى 8/38.
4ـ والذرية الطاهرة ص/60.
5ـ المستدرك 4/47.
6ـ الطبقات لابن سعد 8/38.
7ـ فتح الباري 3/158.
8ـ الطبقات لابن سعد 8/39.(1/482)
لما في دعائه المبارك لها بالرحمة والمغفرة ورفع درجتها في الجنة رضي الله عنها وأرضاها، وكانت وفاتها رضي الله عنها سنة تسع للهجرة1.
__________
1ـ انظر الطبقات 8/38، البداية والنهاية 3/347، الإصابة 4/466.(1/483)
4) فاطمة رضي الله عنها:
هي فاطمة بنت إمام المتقين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمها خديجة بنت خويلد كانت تكنى بأم أبيها1، وقد اختلف العلماء في بناته عليه الصلاة والسلام في أيتهن أصغر قال أبو عمر بن عبد البر: "والذي تسكن إليه النفس على ما تواترت به الأخبار ترتيب بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم أن زينت الأولى ثم الثانية رقية، ثم الثالثة أم كلثوم ثم الرابعة فاطمة الزهراء"2.
ولدت رضي الله عنها وقريش تبني الكعبة قبل البعثة سنة خمس وثلاثين من مولد النبي صلى الله عليه وسلم3، زوجها النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب سنة اثنتين للهجرة بعد وقعة بدر وولد له الحسن والحسين ومحسناً وأم كلثوم، وزينب، وقد تزوج الفاروق عمر رضي الله عنه بأم كلثوم بنت علي من فاطمة في أيام خلافته وأكرمها إكراماً زائداً وأصدقها أربعين ألف درهم لأجل نسبها من رسول الله صلى الله عليه وسلم فولدت له زيد بن عمر بن الخطاب4، ومناقب فاطمة رضي الله عنها كثيرة شهيرة ومنها ما يلي:
1- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحبها حباً شديداً ويسر لسرورها ويغضب لغضبها رضي الله عنها. فقد روى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى بريدة رضي الله عنه قال: كان أحب النساء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة ومن الرجال علي5.
2- روى أيضاً بإسناده إلى المسور بن مخرمة رضي الله عنه قال: قال:
__________
1ـ انظر أسد الغابة 5/520، الإصابة 4/365.
2ـ الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/362.
3ـ انظر الطبقات لابن سعد 8/26.
4ـ انظر ترجمة فاطمة رضي الله عنها في: " الطبقات لابن سعد 8/19-30، حلية الأولياء 2/39-43، المستدرك 3/151-161، الاستيعاب على حاشية الإصابة 4/362-369، أسد الغابة 5/519-524، سير أعلام النبلاء 2/118-134، البداية والنهاية 5/347، مجمع الزوائد 9/201-212، الإصابة 4/365-368، فتح الباري 3/105.
5ـ المستدرك 3/155 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.(1/484)
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما فاطمة شجنة1 مني يبسطني ما يبسطها ويقبضني ما يقبضها" 2.
وقد غضب لها عليه الصلاة والسلام لما هم علي رضي الله عنه بخطبة ابنة أبي جهل وأعلن غضبه ذلك من على المنبر.
3- روى الشيخان عن المسور بن مخرمة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وهو يقول: "إن بني هاشم بن المغيرة استأذنوني أن ينكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب فلا آذن لهم، ثم لا آذن لهم، ثم لا آذن إلا أن يحب ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنته فأنما ابنتي بضعة مني يريبني ما رابها3 ويؤذيني ما آذاها"4.
4- وبلفظ آخر عند مسلم قال: إن علياً بن أبي طالب خطب بنت أبي جهل على فاطمة فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب الناس في ذلك على منبره هذا وأنا يومئذ محتلم فقال: "إن فاطمة مني وإني أتخوف أن تفتن في دينها" قال: ثم ذكر صهراً له من بني عبدي شمس فأثنى عليه في مصاهرته إياه فأحسن قال: "حدثني فصدقني ووعدني فأوفى لي وإني لست أحرم حلالاً ولا أحل حراماً ولكن والله لا تجتمع بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنت عدو الله مكاناً واحداً أبداً "5.
5- وروى الشيخان عن المسور بن مخرمة أن علي بن أبي طالب خطب بنت أبي جهل وعنده فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما سمعت بذلك فاطمة أتت
__________
1ـ شجنه: قال في النهاية 2/447: وأصل الشجنة بالكسر والضم: شعبة في غصن من غصون الشجرة" والمراد بها الرحم المشتبكة.
2ـ المستدرك 3/154 وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
3ـ قال في النهاية في غريب الحديث 3/287: "يريبني ما يريبها أي: يسوؤني ما يسوؤها ويزعجني ما يزعجها".
4ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 9/327، صحيح مسلم 4/1902.
5ـ صحيح مسلم 4/1903.485(1/485)
النبي صلى الله عليه وسلم فقالت له: إن قومك يتحدثون أنك لا تغضب لبناتك وهذا علي ناكحاً ابنة أبي جهل. قال المسور: فقام النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته حين تشهد ثم قال: "أما بعد فإني أنكحت أبا العاص بن الربيع فحدثني فصدقني وإن فاطمة بنت محمد مضغة1 مني وإنما أكره أن يفتنوها وإنها والله لا تجتمع بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنت عدو الله عند رجل واحد أبداً" قال: فترك علي الخطبة2.
6- روى البخاري بإسناده إلى المسور بن مخرمة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني" 3.
7- روى أبو عيسى الترمذي بسنده إلى عبد الله بن الزبير رضي الله عنه أن علياً ذكر بنت أبي جهل فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إنما فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها وينصبني ما أنصبها" 4.
هذه الأحاديث كلها اشتملت على بيان فضل فاطمة رضي الله عنها وبيان منزلتها من النبي صلى الله عليه وسلم ومكانتها عنده عليه الصلاة والسلام كما دلت هذه الأحاديث على "تحريم إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم بكل حال وعلى كل وجه وإن تولد ذلك الإيذاء مما كان أصله مباحاً وهو حي وهذا بخلاف غيره، وقد أعلم عليه الصلاة والسلام بإباحة نكاح بنت أبي جهل لعلي بقوله صلى الله عليه وسلم: "لست أحرم حلالاً" ولكن نهى عن الجمع بينهما لعلتين منصوصتين:
إحداهما: أن ذلك يؤدي إلى أذى فاطمة فيتأذى حينئذ النبي صلى الله عليه وسلم فيهلك من آذاه فنهى عن ذلك لكمال شفقته على علي وعلى فاطمة.
والثانية: خوف الفتنة عليها بسبب الغيرة وقيل: ليس المراد به النهي بل معناه
__________
1ـ المضغة: قطعة اللحم.
2ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 7/85، صحيح مسلم 4/1903-1904.
3ـ صحيح البخاري 2/302.
4ـ سنن الترمذي 5/360 ثم قال: هذا حديث حسن صحيح".(1/486)
أعلم من فضل أنهما لا تجتمعان ويحتمل أن المراد تحريم جمعهما ويكون معنى لا أحرم حلالاً أي: لا أقول شيئاً يخالف حكم الله فإذا أحل شيئاً لم أحرمه وإذا حرمه لم أحلله ولم أسكت عن تحريمه لأن سكوتي تحليل له ويكون من جملة محرمات النكاح الجمع بين بنت نبي الله وبنت عدو الله1 وصهره الذي أثنى عليه من بني عبد شمس هو أبو العاص بن الربيع زوج زينب رضي الله عنها.
قال الحافظ: "قوله: "حدثني فصدقني" لعله كان شرط على نفسه أن لا يتزوج على زينب وكذلك علي فإن لم يكن كذلك فهو محمول على أن علياً نسى ذلك الشرط فلذلك أقدم على الخطبة، أو لم يقع عليه شرط إذ لم يصرح بالشرط لكن كان ينبغي له أن يراعي هذا القدر فلذلك وقعت المعاتبة وكان النبي صلى الله عليه وسلم قل أن يواجه أحداً بما يعاب به ولعله إنما جهر بمعاتبته عليا مبالغة في رضى فاطمة عليها السلام، وكانت هذه الواقعة بعد فتح مكة، ولم يكن حيئذ تأخر من بنات النبي صلى الله عليه وسلم غيرها، وكانت أصيبت بعد أمها بأخواتها فكان إدخال الغيرة عليها مما يزيد حزنها"2.
8- روى الطبراني بإسناده عن عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله أمرني أن أزوج فاطمة من علي" 3.
ففي هذا الحديث منقبة ظاهرة لفاطمة رضي الله عنها وهي أن تزويجها من علي كان بإيحاء من الله جل وعلا.
9- وروى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى علي رضي الله عنه قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع رجله بيني وبين فاطمة رضي الله عنها فعلمنا ما نقول إذا أخذنا مضاجعنا فقال: "يا فاطمة إذا كنتما بمنزلتكما فسبحا الله ثلاثاً وثلاثين واحمدا ثلاثاً وثلاثين، وكبرا أربعاً وثلاثين". قال علي: والله ما تركتها بعد، فقال له رجل كان في نفسه عليه شيء: ولا ليلة صفين قال علي: ولا ليلة صفين"4.
__________
1ـ شرح النووي على صحيح مسلم 16/3-4.
2ـ فتح الباري 7/86.
3ـ أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 9/204 وقال عقبه: رواه الطبراني ورجاله ثقات.
4ـ المستدرك 3/151-152 وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وأقره الذهبي.(1/487)
ففي هذا بيان فضيلة ظاهرة لفاطمة وزوجها علي رضي الله عنهما.
10- روى الترمذي بإسناده إلى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية امرأة فرعون" 1.
وأيضاً ما رواه الحاكم بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال: خط رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة خطوط وقال: "أتدرون ما هذا؟ " فقالوا: الله ورسوله أعلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد ومريم بنت عمران، وأحسبه قال: "وامرأة فرعون" 2.
11- وروى الحاكم بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو في مرضه الذي توفي فيه يا فاطمة أما ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين، وسيدة نساء هذه الأمة، وسيدة نساء المؤمنين" 3.
12- وقال الإمام البخاري رحمه الله تعالى: "باب مناقب فاطمة رضي الله عنها" وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فاطمة سيدة نساء أهل الجنة "4.
13- روى الحاكم بإسناده إلى أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فاطمة سيدة نساء أهل الجنة إلا ما كان من مريم بنت عمران" 5.
فهذه الأحاديث دلت على أن فاطمة رضي الله عنها ذات منزلة عظيمة وقدر رفيع في الدنيا والآخرة حيث أخبر عليه الصلاة والسلام بأنها سيدة نساء
__________
1ـ سنن الترمذي 5/367 ثم قال: "هذا حديث صحيح" وأخرجه الحاكم في المستدرك 3/158 وقال عقبه: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذا اللفظ.
2ـ المستدرك 3/185، ص/160 وصححه ووافقه الذهبي.
3ـ المصدر السابق 3/156 وقال: "هذا إسناد صحيح ولم يخرجاه هكذا ووافقه الذهبي.
4ـ صحيح البخاري 2/301.
5ـ المستدرك 3/154 وقال عقبه: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.(1/488)
العالمين وسيدة نساء هذه الأمة، وسيدة نساء المؤمنين، وسيد نساء أهل الجنة إلا مريم بنت عمران.
14- روى الترمذي بإسناده إلى أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم جلل على الحسن والحسين وعلي وفاطمة كساء ثم قال: "اللهم هؤلاء أهل بيتي وحامتي 1 أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً" 2.
وفي هذا منقبة ظاهرة لعلي وفاطمة والحسن والحسين حيث جللهم بكسائه ودعا الله أن يذهب عنهم الرجس ويطهرهم تطهيراً.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى مبيناً معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم هؤلاء أهل بيتي.. إلخ" الحديث: "ولما بين سبحانه أنه يريد أن يذهب الرجس عن أهل بيته وأعظمهم اختصاصاً به وهم علي وفاطمة رضي الله عنهما وسيدا شباب أهل الجنة جمع الله لهم بين أن قضى لهم بالتطهير وبين أن قضى لهم بكمال دعاء النبي صلى الله عليه وسلم فكان من ذلك ما دلنا على أن إذهاب الرجس عنهم وتطهيرهم نعمة من الله ليسبغها عليهم ورحمة من الله وفضل لم يبلغوهما بمجرد حولهم وقوتهم إذ لو كان كذلك لاستغنوا بهما عن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم كما يظن من يظن أنه قد استغنى في هدايته وطاعته عن إعانة الله تعالى له وهدايته إياه"3.
وقد أخبر عليه الصلاة والسلام بأن فاطمة رضي الله عنها من فضليات النساء اللاتي بلغن الذروة في الفضل لتحقيقهن الإيمان الكامل وعملهن الأعمال الصالحة التي ترضي الله ـ جل وعلا ـ فكن من أهل الدرجات العلى.
15- وقد روى الشيخان عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت:
__________
1ـ حامتي: قال في النهاية: "حامة الإنسان خاصته ومن يقرب منه وهو الحميم" 1/446.
2ـ سنن الترمذي 5/361 وقال عقبه: "هذا حديث حسن صحيح وهو أحسن شيء روي في هذا الباب".
3ـ حقوق آل البيت ص/27-28.(1/489)
كن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عنده لم يغادر منهن واحدة فأقبلت فاطمة تمشي ما تخطئ مشيتها من مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً فلما رآها رحب بها فقال: "مرحباً بابنتي" ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله ثم سارها فبكت بكاء شديداً فلما رأى جزعها سارها الثانية فضحكت فقلت لها: خصك رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين نسائه بالسرار ثم أنت تبكين فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم سألتها ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: ما كنت أفشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم سره قالت: فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: عزمت عليك بما لي عليك من الحق لما حدثتني ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: أما الآن فنعم أما حين سارني في المرة الأولى فأخبرني أن جبريل كان يعارضه القرآن في كل سنة مرة أو مرتين وإنه عارضه الآن مرتين: " وإني لا أرى الأجل إلا قد اقترب فاتق الله واصبري فإنه نعم السلف أنا لك" قالت: فبكيت بكائي الذي رأيت فلما رأى جزعي سارني الثانية فقال: "يا فاطمة أما ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين أو سيدة نساء هذه الأمة" قالت فضحكت ضحكي الذي رأيت1.
هذا الحديث اشتمل على مناقب رفيعة لفاطمة رضي الله عنها وهي مشابهتها في مشيها مشية أبيها عليه الصلاة والسلام وترحيبه بها، وإجلاسه لها عن يمينه أو عن شماله واختصاصها بالمسارة دون نسائه رضي الله عنهن ولما رأى حزنها ظهر عليها بما أسره إليها بشرها ببشارة بدلت حزنها فرحاً. وهي قوله لها: "أما ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين أو سيدة نساء هذه الأمة" فزال حزنها وفرحت بهذه المنزلة العظيمة التي أكرمها الله بها من بين النساء.
قال النووي رحمه الله تعالى: "قولها فأخبرني أني أول من يلحق به من أهله فضحكت" هذه معجزة ظاهرة له صلى الله عليه وسلم بل معجزتان فأخبر ببقائها بعده وبأنها أول أهله لحاقاً به ووقع كذلك وضحكت سروراً بسرعة لحاقها وفيه
__________
1ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 11/79-80، صحيح مسلم 4/1904-1905.(1/490)
إيثارهم الآخرة وسرورهم بالانتقال إليها والخلاص من الدنيا"1.
17- روى الترمذي بإسناده إلى عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: "ما رأيت أحداً أشبه سمتاً ودلاً وهدياً برسول الله في قيامها وقعودها من فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: وكانت إذا دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم قام إليها فقبلها وأجلسها في مجلسه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل عليها قامت من مجلسها فقبلته وأجلسته في مجلسها..الحديث2.
فقد وصفتها بصفات حميدة كلها مناقب تزيد من قدرها ورفعة مكانتها فقد بينت أنها تشبه النبي صلى الله عليه وسلم هيئة وطريقة وحسن حال وأشارت رضي الله عنها بالسمت إلى ما كان يظهر عليها من الخشوع والتواضع لله وبالهدى إلى ما كانت تتحلى به من السكينة والوقار وإلى ما كانت تسلكه من المنهج المرضي وبالدل إلى حسن خلقها ولطف حديثها رضي الله عنها3.
18- روى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها أنها كانت إذا ذكرت فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم قالت: ما رأيت أحداً كان أصدق لهجة منها إلا أن يكون الذي ولدها4.
وهذا الوصف منها أيضاً لسيدة نساء المؤمنين منقبة ظاهرة إذ من التزم الصدق قولاً وعملاً كان قائده إلى عمل البر وإذا عمل البر كان قائده إلى طريق الجنة.
وكل ما تقدم ذكره من الأحاديث التي اشتملت على ذكر مناقب لفاطمة رضي الله عنها كلها دلت على عظيم شأنها وجليل قدرها، كما دلت على بيان
__________
1ـ شرح النووي 16/5-6.
2ـ سنن الترمذي 5/361-362 ثم قال: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه وقد روى هذا الحديث من غير وجه عن عائشة.
3ـ انظر تحفة الأحوذي 10/373.
4ـ المستدرك 3/160-161 وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.(1/491)
درجتها العالية التي اختصت بها دون سائر نساء العالمين، وهي أنها سيدة نساء المؤمنين في الدنيا والآخرة، وهي رضي الله عنها أفضل أخواتها على الإطلاق، ولا يعترض بقوله صلى الله عليه وسلم في حق زينب رضي الله عنها:"هي خير بناتي أصيبت1 في" فإن معنى هذه العبارة: "أنها من أفضل بناتي لأن الأخبار ثابتة صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن فاطمة رضي الله عنها سيدة نساء هذه الأمة وكذلك أخبر أنها سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم بنت عمران"2 وقد تقدم.
قال العلامة ابن القيم: "وكل أولاده توفي قبله إلا فاطمة فإنها تأخرت بعده بستة أشهر فرفع الله لها بصبرها واحتسابها من الدرجات ما فضلت به على نساء العالمين وفاطمة أفضل بناته على الإطلاق، وقيل إنها أفضل نساء العالمين"3.
وقال الحافظ ابن حجر عند قوله صلى الله عليه وسلم: "فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني": وفيه أنها أفضل بنات النبي صلى الله عليه وسلم وأما ما أخرجه الطحاوي وغيره من حديث عائشة في قصة مجيء زيد بن حارثة بزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة وفي آخره قال النبي صلى الله عليه وسلم: "هي أفضل بناتي أصيبت في" فقد أجاب عنه بعض الأئمة بتقدير ثبوته بأن ذلك كان متقدماً ثم وهب الله لفاطمة من الأحوال السنية والكمال ما لم يشاركها أحد من نساء هذه الأمة مطلقاً والله أعلم"4.
ومما يرجح أفضليتها على أخواتها أنهن متن قبل النبي صلى الله عليه وسلم فكن في صحيفته عليه الصلاة والسلام وأما فاطمة رضي الله عنه فقد توفي النبي صلى الله عليه وسلم قبلها فكان في صحيفتها رضي الله عنها فكان مصابها فيه أعظم فصبرت واحتسبت رضي الله عنها. كما أوصاها بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقد أخرج ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى
__________
1ـ تقدم تخريجه في مناقب زينب رضي الله عنها.
2ـ انظر المستدرك 4/44.
3ـ زاد المعاد 1/104.
4ـ فتح الباري 7/105-106.(1/492)
بإسناده إلى فاطمة رضي الله عنها قالت: "دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً وأنا عند عائشة فناجاني فبكيت.. وفيه أنه قال لها: "وإنه لم ترزأ امرأة من نساء العالمين بمثل ما رزئت، ولا تكوني دون امرأة صبراً" قالت: فبكيت، ثم قال: "أنت سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم البتول" فتوفي عامه ذلك"1.
وهي رضي الله عنها أول من توفي بعد النبي صلى الله عليه وسلم من أهل بيته باتفاق أهل العلم حتى من أزواجه2 حيث لم تلبس بعده إلا ستة أشهر كما في صحيح مسلم رحمه الله تعالى من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "وعاشت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة أشهر"3.
والذي أخلص إليه في هذا الفصل الذي اشتمل على فضل أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أن الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة يثبتون لهم كل ما صح في فضلهم عموماً وخصوصاً ويعتقدونه اعتقاداً جازماً ولا يبخسونهم منه شيئاً بل يرعون لهم حرمتهم وقرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ويوالونهم ويحبونهم لإسلامهم وسبقهم وحسن بلائهم في نصرة دين الله ـ عز وجل ـ.
وقد حرر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى معتقد الفرقة الناجية في آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال في سياق عرضه لعقيدة أهل السنة والجماعة: "ويحبون أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قال يوم غدير خم: "أذكركم الله في أهل بيتي"4 ... ويتولون أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين ويؤمنون بأنهن أزواجه في الآخرة خصوصاً خديجة رضي الله عنها أم أكثر أولاده، وأول من آمن به وعاضده على أمره وكان لها منه المنزلة العالية، والصديقة بنت الصديق رضي الله عنها التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: "فضل عائشة على النساء كفضل الثريد
__________
1ـ جامع البيان للطبري 3/264.
2ـ انظر فتح الباري 8/136.
3ـ صحيح مسلم 3/1380.(1/493)
على سائر الطعام" 1.
وقال الحافظ ابن كثير: "ولا ننكر الوصاة بأهل البيت والأمر بالإحسان إليهم واحترامهم وإكرامهم فإنهم من ذرية طاهرة من أشرف بيت وجد على وجه الأرض فخراً وحسباً ونسباً ولا سيما إذا كانوا متبعين للسنة النبوية الصحيحة الواضحة الجلية كما كان عليه سلفهم كالعباس وبنيه وعلي وأهل بيته وذريته رضي الله عنهم أجمعين"2.
والذي نخلص في هذا الباب أن أهل السنة والجماعة يؤمنون إيماناً صادقاً بفضل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعتقدون أنهم خير الخلق بعد الأنبياء والمرسلين وأن الله ـ تعالى ـ اصطفاهم لنصرة خاتم أنبيائه وشرح صدورهم وحبب إليهم مؤازرته والقتال معه فسبقوا الناس إلى الإيمان به وتحملوا العذاب في مكة وصبروا عليه ولما أمرهم الله بالهجرة تركوا الأهل والمال والعشيرة والبلد وهاجروا حباً في الله ـ عز وجل ـ وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاتلوا دونه وبذلوا أنفسهم رخيصة في سبيله ـ عز وجل ـ حتى أظهر الله ـ تبارك وتعالى ـ دينه وصدق وعده ونصر عبده وأعز جنده وأكرمهم الله ـ تعالى ـ فرضي عنهم وبشرهم بالجنة وبشرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمن لم يتولهم فليس له حظ في الإيمان ومن قال بكفرهم فلا شك في كفره أبغض الله من يبغضهم وبغير الخير يذكرهم.
__________
1 ـ العقيدة الواسطية مع شرحها للشيخ محمد خليل هراس ص/146-148. والحديث تقدم تخريجه في "فضل أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها".
2 ـ تفسير القرآن العظيم 6/199.(1/494)
الجزء الثاني
الباب الثاني: أهل السنة والجماعة يثبتون إمامة الخلفاء الراشدين على حسب ترتيبهم في الفضل
الفصل الأول: خلافة الصديق رضي الله عنه
المبحث الأول: الإمام بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر رضي الله عنه
...
تمهيد:
قبل أن أشرع في ذكر اعتقاد أهل السنة والجماعة في ترتيب الخلفاء الراشدين في الإمامة أسبق ذلك بهذا التمهيد المتضمن لبيان معنى الإمامة في اللغة والاصطلاح وبيان حكم الإمامة عند أهل السنة والجماعة.
أولاً: معناها في اللغة: قال الزجاج: "الإمام الذي يؤتم به ويفعل كفعله ويقصد ما قصده ومنه قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} 1 أي: فاقصدوا"2.
وجاء في الصحاح للجوهري: "والأمّ "بالفتح" القصد يقال: أمه وتأممه إذا قصده ... والإمام: خشبة البناء التي يسوى عليها البناء والإمام: الصقع من الأرض والطريق قال تعالى: {وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} 3 والإمام الذي يقتدى به"4.
وجاء في لسان العرب: "والإمام كل من ائتم به قوم كانوا على الصراط المستقيم أو كانوا ضالين إلى أن قال: "والجمع أئمة ... وإمام كل شيء قيمه والمصلح له. والقرآن إمام المسلمين وسيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إمام الأئمة والخليفة إمام الرعية وإمام الجند قائدهم ... وأممت القوم في الصلاة إمامة وائتم به أي: اقتدي به وإمام الغلام في المكتب ما يتعلم كل يوم، والإمام الخيط الذي يمد على البناء فيبنى عليه ويسوى عليه ساق البناء، والحادي إمام الإبل وإن كان وراءها لأنه الهادي لها ويقال: فلان إمام القوم معناه هو المتقدم لهم ويكون الإمام رئيساً كقولك إمام المسلمين5.
__________
1ـ سورة النساء آية /43.
2ـ ذكره عنه ابن الجوزي في كتابه: "نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر" ص/126.
3ـ سورة الحجر آية/79.
4ـ الصحاح للجوهري 5/1864-1865.
5ـ لسان العرب 12/24، وانظر تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة ص/459، نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر "لابن الجوزي" ص/126، القاموس المحيط 4/78، تاج العروس 8/193.(2/503)
فالإمامة في اللغة ذات معان متقاربة كما في هذه التعاريف اللغوية وكلها فيها التوضيح إلى أن المراد بالإمام عند العرب هو الذي يتبع ويقتدى به وهو القيم على مصالح الناس وشئونهم وكذلك كان الأئمة الأربعة بعد النبي صلى الله عليه وسلم قاموا بمصالح الأمة على أتم وجه وأكمله فيلزم من ولي من أمر المسلمين أن يقتدي بالخلفاء الراشدين في أعمالهم الطيبة وسيرتهم الحسنة نحو الأمة ولذلك حث النبي صلى الله عليه وسلم على الالتزام الكامل والتمسك التام بسنته وسنة الخلفاء الراشدين من بعده حيث قال عليه الصلاة والسلام: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين فتمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ" 1.
ثانيا: تعريف الإمامة في الاصطلاح:
لقد عرف العلماء الإمامة في الاصطلاح بتعريفات مختلفة من حيث اللفظ وعلى الرغم من اختلاف تعبيراتهم في تحديدها من حيث اللفظ إلا أنها تتحد في مدلولها من حيث المعنى ومن هذه التعريفات:
1- قال الماوردي: "الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا وعقدها لمن يقوم بها في الأمة واجب بالإجماع وإن شذ عنهم الأصم2 "3.
2- وعرفها إمام الحرمين الجويني4 بقوله: "الإمامة رياسة تامة وزعامة
__________
1ـ المسند 4/126-127، سنن أبي داود 2/506، سنن الترمذي 4/150، سنن ابن ماجة 1/15-16، سنن الدارمي 1/44-45 كلهم من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه.
2ـ هو أبو بكر عبد الرحمن بن كيسان الأصم من كبار المعتزلة "انظر ترجمته في" فرق وطبقات المعتزلة ص/65، سير أعلام النبلاء 9/402، طبقات المفسرين للداودي 1/274-275، لسان الميزان 3/427.
3ـ الأحكام السلطانية ص/5.
4ـ هو عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد الجويني، ولد سنة تسع عشرة وأربعمائة وتوفي سنة ثمان وسبعين وأربعمائة انظر: ترجمته في وفيات الأعيان 3/167-170 تبين كذب المفتري ص/278-285، الأعلام للزركلي 4/306.(2/504)
تتعلق بالخاصة والعامة في مهمات الدنيا والدين"1.
3- وعرفها ابن خلدون بقوله: "هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به"2.
فهذه التعاريف فيها بيان حد الإمامة في الاصطلاح وهي مترادفة لفظاً متحدة من حيث المعنى بين فيها هؤلاء العلماء أن سياسة الإمام يجب أن تكون وفق الشريعة الإسلامية الغراء التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون بعيداً عن الحكم بالهوى والشهوة في كل حال ولا بد أن يكون حكمه بالشرع في كل الأمور الدينية والدنيوية حتى يصدق عليه أنه نائب عن الرسول صلى الله عليه وسلم في حراسة الدين وسياسة الدنيا بالقيام بشرع الله الذي أوحاه الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم من كتاب وسنة ولفظ الإمام، والخليفة، والأمير ألفاظ مترادفة وكلها جاءت في ألفاظ من الحديث النبوي الشريف مثل قول المصطفى عليه الصلاة والسلام: "الأئمة من قريش ولهم عليكم حق ولكم مثل ذلك" 3 وقوله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين فتمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ" 4 وقوله صلى الله عليه وسلم: "ومن أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصى أميري فقد عصاني" 5.
فالصحابة رضي الله عنهم كانوا يروون هذه الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وتلقاها عنهم التابعون كذلك دون أن يفرقوا بين لفظ خليفة وإمام وأمير وقد سمى الصديق رضي الله عنه بخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما ولي الفاروق أرادوا أن يطلقوا
__________
1ـ الأحكام السلطانية ص/5، انظر غياث الأمم في التياث الظلم ص/15.
2ـ المقدمة ص/191، انظر العقائد النسفية ص/179، المواقف ص/395، التعريفات ص/35.
3ـ المسند 3/183.
4ـ المصدر السابق 4/127.
5ـ صحيح مسلم 3/1466 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(2/505)
عليه: "خليفة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك من يأتي بعده فنظروا فإذا باللفظ يطول فاتفقوا على تسميته بأمير المؤمنين1 وكذلك سمى عثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين.
ثالثاً: حكم الإمامة:
أجمع عامة المسلمين على وجوب نصب إمام للأمة يقيم لهم أحكام شرع الله ولم يخالف هذا الإجماع إلا النجدات من الخوارج والأصم والفوطي2 من المعتزلة.
قال أبو محمد بن حزم: "اتفق جميع أهل السنة وجميع المرجئة وجميع الشيعة وجميع الخوارج على وجوب الإمامة وأن الأمة واجب عليها الانقياد لإمام عادل يقيم فيهم أحكام الله ويسوسهم بأحكام الشريعة التي أتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم حاشا النجدات من الخوارج فإنهم قالو: لا يلزم الناس فرض الإمامة وإنما عليهم أن يتعاطوا الحق بينهم وهذه فرقة ما نرى بقي منهم أحد وهم المنسوبون إلى نجدة بن عمير الحنفي القائم باليمامة"3.
فأهل السنة والجماعة مذهبهم أن نصب الإمام الأعظم واجب بنص الشرع الحنيف لتجتمع به كلمة المسلمين وتنفذ به أحكام الشريعة وهذا المذهب هو المذهب الحق المؤيد بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع فأما دلالة الكتاب على وجوبها فمن ذلك:
1- قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ
__________
1ـ انظر الطبقات الكبرى لابن سعد 3/281.
2ـ هو هشام بن عمرو الفوطي شيباني من أهل البصرة وهو يعتبر من الطبقة السادسة من المعتزلة "انظر طبقات المعتزلة" ص/61، وانظر الفرق بين الفرق ص/159.
3ـ الفصل في الملل والأهواء والنحل 4/87، وانظر قول النجدات في عدم وجوب نصب الإمام "مقالات الإسلاميين" 1/205.(2/506)
خَلِيفَةً} 1 الآية.
وجه دلالة الآية أن أهل العلم اعتبروها أصلاً في وجوب نصب الإمام ليفصل بين الناس فيما اختلفوا فيه ويقطع التنازع وينتصر لمظلومهم من ظالميهم ويقيم الحدود ويزجر عن تعاطي الفواحش إلى غير ذلك من الأمور المهمة التي لا يمكن إقامتها إلا بالإمام.
قال القرطبي رحمه الله تعالى: "هذه الآية أصل في نصب إمام وخليفة يسمع له ويطاع لتجتمع به الكلمة وتنفذ به أحكام الخليفة2 ولا خلاف في وجوب ذلك بين الأمة ولا بين الأئمة إلا ما روي عن الأصم حيث كان عن الشريعة أصم وكذلك كل من قال بقوله واتبعه على رأيه ومذهبه قال: إنها غير واجبة في الدين بل يسوغ ذلك، وأن الأمة متى أقاموا حجهم وجهادهم، وتناصفوا فيما بينهم وبذلوا الحق من أنفسهم، وقسموا الغنائم والفيء والصدقات على أهلها وأقاموا الحدود على من وجبت عليه أجزأهم ذلك، ولا يجب عليهم أن ينصبوا إماماً يتولى ذلك"3.
2- قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} 4.
وفي هذه الآية أوجب الله تعالى على عباده المؤمنين طاعته وطاعة رسوله وأولي الأمر منهم والمراد بأولي الأمر هم الأمراء والولاة.
فقد أخرج ابن جرير الطبري بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال في قوله تعالى: {وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} : هم الأمراء5 وهو مروي عن ابن
__________
1ـ سورة البقرة آية/ 30.
2ـ لعلها وتنفذ بها أحكام الشريعة.
3ـ الجامع لأحكام القرآن 1/264، وانظر أضواء البيان 1/49.
4ـ سورة النساء آية/ 59.
5ـ جامع البيان 5/147، شرح السنة للبغوي 10/50.(2/507)
عباس وزيد بن أسلم والسدي ومقاتل"1.
وقد ذكر العلامة ابن جرير عدة أقوال في المراد بقوله: {وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} ثم رجح قول من قال: "هم الأمراء والولاة لصحة الأخبار عن الرسول صلى الله عليه وسلم بالأمر بطاعة الأئمة والولاة فيما كان لله طاعة وللمسلمين مصلحة"2.
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: "الظاهر ـ والله أعلم ـ أن الآية عامة في جميع أولي الأمر من الأمراء والعلماء"3.
فالآية دلت على أنه يجب على المسلمين أن ينصبوا لهم إماماً يرجعون إليه.
3- قال تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} 4.
وهذه الآية فيها إرشاد وتعليم من الباري ـ جل وعلا ـ لعباده المؤمنين أنه لا بد من خليفة يقوم بالحكم بما أنزل الله بين عباده لتصلح به البلاد والعباد.
قال الحافظ ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: "هذه وصية من الله ـ عز وجل ـ لولاة الأمور أن يحكموا بين الناس بالحق المنزل من عنده ـ تبارك وتعالى ـ ولا يعدلوا عنه فيضلوا عن سبيل الله وقد توعد ـ تبارك وتعالى ـ من ضل عن سبيله وتناسى يوم الحساب بالوعيد الأكيد والعذاب الشديد"5.
والآيات الدالة على وجوب نصب الإمام كثيرة جداً فما من آية أنزلها الله على رسوله بتشريع حكم من الأحكام والتي لها علاقة بموضوع الإمامة وشئونها إنما هي تأكيد جازم على إيجاد الإمامة الشرعية في المجتمع المسلم لأن وجود ولي الأمر من
__________
1ـ زاد المسير في علم التفسير 2/116.
2ـ جامع البيان 5/150.
3ـ تفسير القرآن العظيم 2/326.
4ـ سورة ص آية/26.
5ـ تفسير القرآن العظيم 5/119.(2/508)
الضروريات التي حث الإسلام على وجودها في كل الأحيان إذ هناك أمور يتطلب تنفيذها وجود الإمامة العظمى.
وأما دلالة السنة على وجوب نصب الإمام الأعظم فقد ورد ذلك في أحاديث كثيرة منها:
1- روى الإمام أحمد وغيره عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت لها الأعين ووجلت منها القلوب قلنا أو قالوا: يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع فأوصنا قال: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن كان عبداً حبشياً فإنه من يعيش منكم يرى بعدي اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين فتمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ" 1.
فقد بين عليه الصلاة والسلام أنه سيكون من بعده خلفاء راشدون يخلفونه في أمته ويسيرون على نهجه في سياسة الأمة بالكتاب والسنة وحث الناس على التمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين من بعده وفي هذا بيان أنه لا بد للناس من إمام يرجع إليه في إقامة الحدود وقطع التنازع والاختلاف ولذا تواتر أن الصفوة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهم الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين بايعوا الصديق رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبل أن يدفنوه صلى الله عليه وسلم، ولما أحس الصديق بدنوا أجله استخلف الفاروق رضي الله عنه ولما طعن الفاروق رضي الله عنه أبو لؤلؤة المجوسي جعل الأمر شورى في ستة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم واتفقوا على أن يخلف الفاروق عثمان بن عفان رضي الله عنه ولما استشهد عثمان رضي الله عنه بايعوا أبا الحسن علي بن أبي طالب رضي الله عنه فهذه طريقتهم في الخلافة، فنجد أنهم حرصوا كل الحرص في تنصيب الإمام ولم يتهاونوا في ذلك وهذا مما يجب على المسلمين أن يقتدوا بهم فيه بأمر من أرسله الله رحمة للعالمين صلى الله عليه وسلم.
__________
1ـ المسند 4/127، سنن أبي داود 2/506، سنن الترمذي 4/150، سنن ابن ماجة 1/15-16 =(2/509)
2- وروى الإمام مسلم في صحيحه بإسناده:
إلى نافع مولى ابن عمر قال: جاء عبد الله بن عمر إلى عبد الله بن مطيع1 حين كان من أمر الحرة ما كان زمن يزيد بن معاوية فقال: اطرحوا لأبي عبد الرحمن وسادة فقال: إني لم آتك لأجلس أتيتك لأحدثك حديثاً سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له2 ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهية" 3.
فقد بين عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث أن البيعة فريضة في عنق كل مسلم للإمام الحق الذي تجتمع عليه كلمة المسلمين وما دامت البيعة واجبة على كل مسلم فإن هذا الواجب لا يتأتى أداؤه إلا بنصب الإمام الذي يرجع إليه في تنفيذ أحكام الشريعة وحسم التنازع والاختلاف الذي يحصل بين الناس فالحديث دلالته واضحة على وجوب نصب الإمام بالشرع لا بالعقل.
3- وروى الشيخان في صحيحيهما عن أبي حازم قال: قاعدت أبا هريرة خمس سنين فسمعته يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كانت بو إسرائيل تسوسهم 4 الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي وإنه لا نبي بعدي وستكون خلفاء فت كثر" قالوا: فما تأمرنا؟ قال: "فوا ببيعة الأول فالأول وأعطوهم حقهم
__________
= سنن الدارمي 1/44-45، واللفظ لأحمد رحمه الله.
1ـ هو عبد الله بن مطيع بن الأسود العدوي القرشي كان ممن خلع يزيد وخرج عليه وكان يوم الحرة قائد قريش، كما كان عبد الله بن حنظلة قائد الأنصار وإذ خرج أهل المدينة لقتال مسلم بن عقبة المري الذي بعثه يزيد لقتال أهل المدينة ولما ظفر أهل الشام بأهل المدينة لحق عبد الله بن مطيع بابن الزبير وبقي معه حتى حصر الحجاج ابن الزبير انظر ترجمته في الإصابة 3/65، تهذيب التهذيب 6/36.
2ـ لا حجة له: أي: لا حجة له في فعله ولا عدالة ينفعه.
3ـ صحيح مسلم 3/1478.
4ـ تسوسهم الأنبياء: أي يتولون أمورهم كما تفعل الأمراء والولاة بالرعية والسياسة القيام على الشيء بما يصلحه "شرح النووي على صحيح مسلم" 12/231، وانظر فتح الباري 6/497.(2/510)
فإن الله سائلهم عما استرعاهم" 1 هذا الحديث فيه إشارة إلى أنه لا بد للرعية من قائم بأمورها يحملها على الطريق الحسنة وينصف المظلوم من الظالم2.
4- روى الإمام أحمد بإسناده إلى عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديث طويل: "ولا يحل لثلاثة نفر يكونون بأرض فلاة إلا أمروا عليهم أحدهم.." الحديث3.
وعند أبي داود من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم" 4.
فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أرشد أمته أنه إذا خرج ثلاثة في سفر فإن عليهم أن يختاروا أحدهم أميراً عليهم مع أن السفر يكون في مسافة محدودة ومدة وجيزة فما الشأن بالإمامة العظمى فإن وجوبها متحتم على الأمة من باب أولى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بعد أن ذكر هذين الحديثين: "فإذا كان قد أوجب في أقل الجماعات وأقصر الاجتماعات أن يولى أحدهم كان هذا تنبيهاً على وجوب ذلك فيما هو أكثر من ذلك ولهذا كانت الولاية لمن يتخذها ديناً يتقرب به إلى الله ويفعل فيها الواجب بحسب الإمكان من أفضل الأعمال الصالحة حتى قد روى الإمام أحمد في مسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن أحب الخلق إلى الله إمام عادل، وأبغض الخلق إلى الله إمام جائر" 5.
وأما دلالة الإجماع على وجوب نصب الإمام:
فقد أجمعت الأمة على أنه لا بد من نصب الإمام الأعظم للأمة ليرجع إليه
__________
1ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 6/495، صحيح مسلم 3/1471-1472.
2ـ فتح الباري 6/497.
3ـ المسند 2/176-177، وانظر إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل للألباني 8/106.
4ـ سنن أبي داود 2/34.
5ـ الحسبة في الإسلام ص/5 وانظر السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية ص/161 والحديث في المسند 3/22 من حديث أبي سعيد.(2/511)
في شئون العباد وقد نقل الإجماع بعض أهل العلم.
فقد روى الماوردي: "وعقدها ـ أي الإمامة ـ لمن يقوم بها واجب بالإجماع وإن شذ عنهم الأصم"1 وقال البغوي رحمه الله: "واتفقت الأمة من أهل السنة والجماعة على أن الاستخلاف سنة وطاعة الخليفة واجبة إلا الخوارج المارقة الذين شقوا العصا وخلعوا ربقة الطاعة"2.
وقال القرطبي رحمه الله تعالى: "وأجمعت الصحابة على تقديم الصديق بعد اختلاف وقع بين المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة في التعيين حتى قالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير فدفعهم أبو بكر وعمر والمهاجرون عن ذلك وقالوا لهم: إن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش ورووا لهم الخبر في ذلك فرجعوا وأطاعوا لقريش فلو كان فرض الإمامة غير واجب لا في قريش ولا في غيرهم لما ساغت هذه المناظرة والمحاورة عليها ولقال قائل: إنها ليست بواجبة لا في قريش ولا في غيرهم فما لتنازعكم وجه ولا فائدة في أمر ليس بواجب ثم إن الصديق رضي الله عنه لما حضرته الوفاة عهد إلى عمر في الإمامة ولم يقل له أحد: هذا أمر غير واجب علينا ولا عليك فدل على وجوبها وأنها ركن من أركان الدين الذي به قوام المسلمين والحمد لله رب العالمين"3.
وقال النووي رحمه الله: "وأجمعوا على أنه يجب على المسلمين نصب خليفة ووجوبه بالشرع لا بالعقل"4 وقال عبد الرحمن أن خلدون: "نصب الإمام واجب وقد عرف وجوبه بالشرع بإجماع الصحابة والتابعين لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عند وفاته بادروا إلى بيعة أبي بكر رضي الله عنه وتسليم النظر
__________
1ـ الأحكام السلطانية ص/5.
2ـ شرح السنة للبغوي 10/84.
3ـ الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 1/264-265، أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن 1/49-50.
4ـ شرح النووي على صحيح مسلم 12/205(2/512)
إليه في أمورهم وكذلك في كل عصر من الأعصار واستقر ذلك إجماعاً دالاً على وجوب نصب الإمام"1.
ومما تقدم تبين أن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على أن نصب الإمام بعد انقراض زمن النبوة واجب بل جعلوه رضي الله عنهم من أهم الواجبات حيث اشتغلوا به عن دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم واختلافهم رضي الله عنهم في التعيين لا تأثير له على الإجماع المذكور.
__________
1ـ المقدمة ص/191، وانظر الصواعق المحرقة في الرد على أهل البدع والزندقة ص/7-8.(2/513)
المبحث الأول: الإمام بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر رضي الله عنه
عقيدة أهل السنة والجماعة في ترتيب الخلفاء الأربعة في الإمامة كترتيبهم في الفضل فالإمام بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق، ثم عمر الفاروق، ثم عثمان ذو النورين ثم أبو السبطين علي رضي الله عنهم أجمعين فأهل الحق يعتقدون اعتقاداً جازماً لا مرية فيه ولا شك أن أولى الناس بالإمامة والأحق بها بعد النبي صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه روى أبو عمر بن عبد البر بإسناده إلى عباد السماك قال: سمعت سفيان الثوري يقول: الأئمة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز وما سوى ذلك فهم منتزون"1.
قال أبو عمر: "قد روي عن مالك وطائفة نحو قول سفيان هذا وتأبى جماعة من أهل العلم أن تفضل عمر بن عبد العزيز على معاوية لمكان صحبته"2.
وروى بإسناده إلى أبي نوبة قال: سمعت أبا إسحاق الفزاري وعبد الله بن المبارك وعيسى بن يونس ومخلد بن الحسين يقولون: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي" وروى أيضاً بإسناده إلى الربيع بن سليمان يقول: سمعت الشافعي محمد بن إدريس يقول: أقول في الخلافة والتفضيل بأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم"3 وروى البيهقي بإسناده إلى الربيع بن سليمان أنه قال: قال الشافعي في مسألة الحجة في تثبيت خبر الواحد: ولم تزل كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم تنفذ إلى ولاته بالأمر والنهي ولم يكن لأحد من ولاته ترك إنفاذ
__________
1ـ أي: متغلبون.
2ـ جامع بيان العلم وفضله 2/226-227.
3ـ المصدر السابق 2/227.(2/514)
أمره ـ إلى أن قال ـ: وهكذا كانت كتب خلفائة من بعده وعمالهم وما أجمع المسلمون من كون الخليفة واحداً والقاضي واحداً والأمير واحداً والإمام واحداً فاستخلفوا أبا بكر واستخلف أبو بكر عمر، ثم أمر عمر أهل الشورى ليختاروا واحداً، فاختار عبد الرحمن عثمان بن عفان"1 وروى أبو عمر بن عبد البر بإسناده إلى أبي علي الحسن بن أحمد بن الليث الرازي قال: سألت أحمد بن حنبل ـ فقلت ـ: يا أبا عبد الله من تفضل؟ قال: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وهم الخلفاء ـ فقلت ـ يا أبا عبد الله إنما أسألك عن التفضيل من تفضل قال: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وهم الخلفاء المهديون الراشدون ورد الباب في وجهي قال أبو علي: ثم قدمت الري فقلت لأبي زرعة وسألت أحمد وذكرت له القصة فقال: لا نبالي من خالفنا، نقول: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي في الخلافة والتفضيل جميعاً هذا ديني الذي أدين الله به وأرجو أن يقبضني الله عليه.
وروى أيضاً: بإسناده إلى سلمة بن شبيب قال: قلت لأحمد بن حنبل: من تقدم؟ قال: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي في الخلافة"2.
وروى أبو الفرج بن الجوزي إلى أبي بكر المروذي قال: قال أحمد بن حنبل: لما مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم أبا بكر ليصلي بالناس وقد كان في القوم من هو أقرأ منه وإنما أراد الخلافة"3.
وروى أيضاً بإسناده إلى عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: كنت بين يدي أبي جالساً ذات يوم فجاءت طائفة من الكرخية فذكروا خلافة أبي بكر وخلافة عمر وخلافة عثمان وذكروا خلافة علي بن أبي طالب فزادوا وأطالوا فرفع أبي رأسه إليهم فقال: يا هؤلاء، قد أكثرتم القول في علي والخلافة إن الخلافة لم تزين
__________
1ـ مناقب الشافعي للبيهقي 1/435 وانظر الرسالة ص/419-420.
2ـ جامع بيان العلم وفضله 2/225-226.
3ـ مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص/160.(2/515)
علياً بل علي زينها قال السياري ـ أحد رجال السند ـ: فحدثت بهذا بعض الشيعة فقال لي: قد أخرجت نصف ما كان في قلبي على أحمد بن حنبل من البغض"1.
فهذه طائفة من أقوال بعض كبار أئمة أهل السنة وكلها تبين أنهم يثبتون إمامة الخلفاء الراشدين على حسب ترتيبهم في الفضل وأن أحق الناس بالإمامة بعد ـ النبي صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر الصديق وعلى هذا الاعتقاد مشى من جاء بعدهم من أهل السنة ودونوا هذا الاعتقاد في كتبهم ودعوا الناس إلى اعتقاده فقد قال الطحاوي: "ونثبت الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أولاً لأبي بكر الصديق رضي الله عنه تفضيلاً له وتقديماً على جميع الأمة، ثم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه ثم لعثمان رضي الله عنه، ثم لعلي رضي الله عنه"2.
وقال أبو عبد الله بن بطة رحمه الله تعالى في ذكر سياقه لبيان عقيدة أهل السنة والجماعة: "ثم الإيمان والمعرفة بأن خير الخلق وأفضلهم ... وأحقهم بخلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق ... ثم من بعده على هذا الترتيب والصفة أبو حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو الفاروق ثم من بعدهما على هذا الترتيب والنعت عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو أبو عبد الله وأبو عمرو ذو النورين رضي الله عنه ثم علي هذا النعت والصفة من بعدهم أبو الحسن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه ... فبحبهم وبمعرفة فضلهم قام الدين وتمت السنة وعدلت الحجة"3.
وقال أبو الحسن الأشعري في صدد ذكره للأدلة على أن الصديق هو الإمام بعد النبي صلى الله عليه وسلم: "فوجب أن يكون إماماً بعد النبي صلى الله عليه وسلم بإجماع المسلمين"4.
__________
1ـ المصدر السابق ص/162-163.
2ـ العقيدة الطحاوية مع شرحها لابن أبي العز الحنفي ص/533-545.
3ـ كتاب الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة ص/257-261.
4ـ الإبانة عن أصول الديانة ص/67.(2/516)
وقال ابن أبي زيد القيرواني: "وأفضل الصحابة الخلفاء الراشدون المهديون أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي رضي الله عنهم أجمعين"1.
وقال القاضي أبو بكر الباقلاني: "ويجب أن يعلم: أن إمام المسلمين وأمير المؤمنين ومقدم خلق الله أجمعين من الأنصار والمهاجرين بعد الأنبياء والمرسلين: أبو بكر الصديق رضي الله عنه ... "ثم من بعده على هذا أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه لاستخلافه إياه ... وبعده أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه ... وبعده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه"2.
وقال أبو عثمان الصابوني مبيناً عقيدة أهل الأثر في ترتيب الخلافة: "ويثبت أصحاب الحديث خلافة أبي بكر رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم باختيار الصحابة واتفاقهم عليه، ثم خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه باستخلاف أبي بكر رضي الله عنه إياه واتفاق الصحابة عليه بعده وإنجاز الله ـ سبحانه ـ بمكانه في إعلاء الإسلام وإعظام شأنه وعده ثم خلافة عثمان رضي الله عنه بإجماع أهل الشورى وإجماع الأصحاب كافة ورضاهم به حتى جعل الأمر إليه، ثم خلافة علي رضي الله عنه ببيعة الصحابة إياه عرفه ورآه كل منهم رضي الله عنه أحق الخلق وأولاهم في ذلك الوقت بالخلافة ولم يستجيزوا عصيانه وخلافه فكان هؤلاء الأربعة الخلفاء الراشدون الذين نصر الله بهم الدين وقهر وقسر بمكانهم الملحدين وقوى بمكانهم الإسلام ورفع في أيامهم للحق الأعلام ونور بضيائهم ونورهم وبهائهم الظلام"3.
وقال أبو عمر ابن عبد البر: "الخلفاء الراشدون المهديون أبو بكر، وعمر وعثمان وعلي وهم أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم"4.
__________
1ـ الرسالة مع شرحها الثمر الداني في تقريب المعاني ص/23.
2ـ الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به ص/64-66.
3ـ عقيدة السلف وأصحاب الحديث ضمن مجموعة الرسائل المنيرية 1/128.
4ـ جامع بيان العلم وفضله 2/224.(2/517)
وقال الإمام موفق الدين بن قدامة رحمه الله تعالى مبيناً أن الصديق رضي الله عنه أحق الناس بخلافة النبي صلى الله عليه وسلم: "وهو أحق خلق الله بالخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم لفضله وسابقته وتقديم النبي صلى الله عليه وسلم له في الصلاة على جميع الصحابة رضي الله عنهم، وإجماع الصحابة على تقديمه ومبايعته ولم يكن الله ليجمعهم على ضلالة ثم من بعده عمر رضي الله عنه لفضله وعهد أبي بكر إليه، ثم عثمان رضي الله عنه لتقديم أهل الشورى له، ثم علي رضي الله عنه لفضله وإجماع أهل عصره عليه. وهؤلاء الخلفاء الراشدون المهديون الذين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنوجذ" 1.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بعد أن ذكر الخلاف في مسألة تقديم عثمان على علي في الأفضلية، ثم بين أن أمر أهل السنة استقر في هذه المسألة على تقديم عثمان على علي رضي الله عنهما فقال: "وإن كانت هذه المسألة مسألة عثمان وعلي ليست من الأصول التي يضلل المخالف فيها عند جمهور أهل السنة لكن التي يضلل فيها مسألة الخلافة وذلك أنهم يؤمنون أن الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر، وعمر، ثم عثمان، ثم علي ومن طعن في خلافة أحد من هؤلاء فهو أضل من حمار أهله"2.
وقال في موضع آخر: "اتفق عامة أهل السنة من العلماء والعباد والأمراء والأجناد على أن يقولوا: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان ثم علي"3.
وقال الصديق حسن خان: "أحقهم بالخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر لفضله وسابقته وتقديم النبي صلى الله عليه وسلم له في الصلوات على جميع أصحابه وإجماع الصحابة على تقديمه ومتابعتة ولم يكن الله ليجمعهم على ضلالة"4.
__________
1ـ لمعة الاعتقاد ص/27-28 والحديث رواه أحمد في مسنده 4/126 وابن ماجه في سننه 1/15-16.
2ـ العقيدة الواسطية مع شرحها لمحمد خليل هراس ص/146.
3ـ الوصية الكبرى ص/33.
4ـ قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر ص/99.(2/518)
وقال عمر بن علي بن سمرة الجعدي1 في صدد ذكره لترجمة الصديق رضي الله عنه: "ثم استخلف أفضل الصحابة وأولاهم بالخلافة معدن الوقار وشيخ الافتخار صحاب المصطفى بالغار سيد المهاجرين والأنصار الصديق أبو بكر التيمي ... قدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يصلي بالناس أيام مرضه وبذلك احتج عمر رضي الله عنه على الأنصار يوم السقيفة فقال: رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا أفلا نرضاه لدنيانا، وأيكم تطيب نفسه أن يزيله عن مقام أقامه فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فانقادوا له وبايعوه"2.
فهذه طائفة من أقوال أئمة أعلام من أهل السنة والجماعة سقناها في هذا المبحث كلها توضح وتبين أن أهل السنة والجماعة يؤمنون ويعتقدون بأن أحق الناس بالخلافة بعد وفاة المصطفى عليه الصلاة والسلام هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه ثم عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان، ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين وهذا ما يجب على المسلم أن يعتقده ويؤمن به ويموت عليه.
__________
1ـ هو عمر بن علي بن الحسين أبو الخطاب الجعدي: مؤرخ يماني، من القضاة ولد بقرية أنامر "باليمن" سنة سبع وأربعين وخمسمائة وتوفي بعد ست وثمانين وخمسمائة انظر ترجمته في الأعلام للزركلي" 5/215-216، معجم المؤلفين 7/299-300.
2ـ طبقات فقهاء اليمن ص/34-35.(2/519)
المبحث الثاني: كيفية مبايعته رضي الله عنه بالخلافة
لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم نص يحدد الكيفية التي يختار بها الإمام الذي يتولى أمر المسلمين ومع هذا لم يغفل أهل العلم هذه المسألة بل ذكروا طرقاً يتم بها اختيار إمام للمسلمين وبعض هذه الطرق استنبطوها من تولية الخلفاء الراشدين ولا شك في مشروعية طريقة تولي الخلفاء الراشدين لأن المصطفى عليه الصلاة والسلام حث المسلمين عامة على التمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين من بعده وتلك الطرق التي يختار الإمام بها ذكرها أهل العلم ودونوها في كتبهم.
فقد قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: "بعد ذكره لقول عمر رضي الله عنه "إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني" إلى آخره حاصله أن المسلمين أجمعوا على أن الخليفة إذا حضرته مقدمات الوفاة وقبل ذلك يجوز له الاستخلاف ويجوز له تركه فإن تركه فقد اقتدى بالنبي صلى الله عليه وسلم في هذا وإلا فقد اقتدى بأبي بكر وأجمعوا على انعقاد الخلافة بالاستخلاف وعلى انعقادها بعقد أهل الحل والعقد لإنسان إذا لم يستخلف الخليفة وأجمعوا على جواز جعل الخليفة الأمر شورى بين جماعة كما فعل عمر بالستة وأجمعوا على أنه يجب على المسلمين نصب خليفة ووجوبه بالشرع لا بالعقل"1.
وقال العلامة ابن كثير رحمه الله تعالى: "والإمامة تنال بالنص كما تقول طائفة من أهل السنة في أبي بكر أو بالإيماء إليه كما يقوله آخرون منهم أو باستخلاف الخليفة آخر بعده كما فعل الصديق بعمر بن الخطاب أو بتركه شورى في جماعة صالحين كما فعله عمر، أو باجتماع
__________
1ـ شرح النووي على صحيح مسلم 12/205، وانظر تحفة الأحوذي 6/479-480.(2/520)
أهل الحل والعقد على مبايعته أو بمبايعة واحد منهم له، فيجب التزامها عند الجمهور وحكى على ذلك إمام الحرمين الإجماع والله أعلم، أو يقهر واحد الناس على طاعته فتجب لئلا يؤدي ذلك إلى الشقاق، والاختلاف وقد نص عليها الشافعي"1.
وقد بين هذان الإمامان النووي وابن كثير الطرق التي تنال بها الإمامة وهي إما طريقة الاختيار، أو العهد من الإمام السابق إلى من يراه من المسلمين لائقاً بهذا المنصب من بعده، أو القهر والغلبة.
وأما الكيفية أو الطريقة التي تمت بها مبايعة الصديق رضي الله عنه فإنه لما قبض الرب ـ جل وعلا ـ نبيه صلى الله عليه وسلم ونقله إلى جنته ودار كرامته اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة2 بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وأرادوا عقد الإمامة لسعد ابن عبادة وبلغ ذلك أبا بكر وعمر رضي الله عنهما فقصدا نحو مجتمع الأنصار في رجال من المهاجرين ولما انتهوا إليهم حصل بينهم حوار في أمر الخلافة حيث اضطرب أمر الأنصار فجعلوا يطلبون الأمر لأنفسهم، أو الشركة فيه مع المهاجرين فأعلمهم أبو بكر أن الإمامة لا تكون إلا في قريش واحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الأئمة من قريش" 3 فأذعنوا لذلك منقادين ورجعوا إلى الحق طائعين، وبايعوا أبا بكر رضوان الله عليه واجتمعوا على إمامته واتفقوا على خلافته وانقادوا لطاعته وانقطع الحوار في مسألة الخلافة باجتماعهم على أبي بكر رضي الله عنه وقد بين عمر رضي الله عنه كيفية بيعة أبي بكر رضي الله عنه في حديث طويل رواه البخاري وفيه أنه قال: "قد كان من خبرنا حين توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم
__________
1ـ تفسير القرآن العظيم 1/125.
2ـ بنو ساعدة: قوم من الأنصار من بني كعب بن الخزرج بن ساعدة ومنهم سعد بن عبادة وسهل بن سعد الساعديان رضي الله عنهما وسقيفتهم في المدينة بمنزلة دار الندوة التي كانت لقريش في مكة وكانت السقيفة مكاناً يجتمعون فيه حين يجد ما يدعو إلى تداول الرأي "انظر معجم البلدان" 3/228-229.
3ـ مسند أحمد 3/183.(2/521)
أن الأنصار خالفوا واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة وخالف عنا علي والزبير ومن معهما واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر، فقلت لأبي بكر: يا أبا بكر انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار فانطلقنا نريدهم فلما دنونا منهم لقينا منهم رجلان صالحان1 فذكروا ما تمالأ عليه القوم فقالا: أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ فقلنا: نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار فقالا: لا عليكم أن لا تقربوهم اقضوا أمركم فقلت: والله لنأتينهم. فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة فإذا رجل مزمل بين ظهرانيهم فقلت من هذا فقالوا: هذا سعد بن عبادة فقلت: ماله؟ قالوا: يوعك2 فلما جلسنا قليلاً تشهد خطيبهم3 فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام وأنتم ـ معشر المهاجرين ـ رهط وقد دفت دافة4 من قومكم، فإذا هم يريدون أن يختزلونا5 من أصلنا وأن يخضونا من الأمر، فلما سكت أردت أن أتكلم ـ وكنت قد زورت مقالة أعجبتني أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر ـ وكنت أداري منه بعض الحد6 فلما أردت أن أتكلم قال أبو بكر: على رسلك فكرهت أن أغضبه فتكلم أبو بكر، فكان هو أحلم مني وأوقر والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قال في بديهته مثلها أو أفضل منها حتى سكت فقال: ما ذكرتم فيكم
__________
1ـ هما: عويم بن ساعدة ومعن بن عدي "انظر السيرة النبوية لابن هشام 2/660، المصنف لابن أبي شيبة 15/565
2ـ الوعك: الحمى بنافض ولذلك زمل "فتح الباري" 12/151 وانظر النهاية في غريب الحديث 5/207.
3ـ كان خطيب الأنصار ثابت بن قيس فالذي يظهر أنه هو "فتح الباري" 12/151.
4ـ دافة: أي عدد قليل، وأصله من الدف وهو السير البطيء في جماعة ... يريد أنكم قوم طرأة غرباء أقبلتم من مكة إلينا ثم أنتم تريدون أن تيتأثروا علينا "فتح الباري" 12/151-152، وانظر النهاية في غريب الحديث 2/124.
5ـ يختزلونا: أي: يقتطعونا عن الأمر وينفردوا به دوننا "النهاية في غريب الحديث" 2/29، فتح الباري 12/150.
6ـ الحد والحدة: سواء من الغضب ... وبعضهم يرويه بالجيم من الجد ضد الهزل أهـ. النهاية في غريب الحديث 1/353.(2/522)
من خير فأنتم له أهل، ولن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش هم أوسط العرب نسباً وداراً وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم ـ فأخذ بيدي ويد أبي عبيدة بن الجراح وهو جالس بيننا ـ فلم أكره مما قال غيرها، اللهم إلا أن تسول إلي نفسي عند الموت شيئاً لا أجده الآن فقال قائل من الأنصار: أنا جذيلها1 المحكك وعذيقها المرجب. منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش2 فكثر اللغط وارتفعت الأصوات حتى فرقت3 من الاختلاف فقلت: ابسط يدك يا أبا بكر فبسط يده فبايعته4 وبايعه المهاجرون ثم بايعته الأنصار ونزونا5 على سعد بن عبادة فقال قائل منهم: قلتم سعد بن عبادة فقلت: قتل الله سعد بن عبادة قال عمر: وإنا والله ما وجدنا فيما حضرنا من أمر أقوى من مبايعة أبي بكر خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يبايعوا رجلاً منهم بعدنا فإما بايعناهم على ما لا نرضي وإما نخالفهم فيكون فساداً فمن بايع رجلاً على غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي بايعه ثغرة أن يقتلا"6.
ولقد اعترف سعد بن عبادة رضي الله عنه بصحة ما قاله الصديق رضي الله عنه يوم السقيفة من أن قريشاً هم ولاة هذا الأمر وسلم طائعاً منقاداً لما قاله
__________
1ـ الجذيل: تصغير جذل ـ وهو في الأصل عود ينصب للإبل الجربى لتحتك به، والعذيق: تصغير العذق ـ وهو النخلة يحملها، والمرجب: اسم مفعول من قولهم: "رجب النخلة ترجيباً" إذا بنى حولها دكاناً تعتمد عليه وذلك إنما يضع إذا كثر ثمرها حتى خيف أن تسقط منه ولم يرد بالتصغير في الموضعين إلا المدح، انظر النهاية في غريب الحديث والأثر 1/251، 2/197، فتح الباري 7/31.
2ـ قائل هذا هو: الحباب بن المنذر "فتح الباري" 12/153.
3ـ الفرق: بالتحريك الخوف والفزع يقال: فرق يفرق فرقاً "النهاية في غريب الحديث" 3/438.
4ـ وفي رواية أخرى أخرجها ابن إسحاق أن عمر رضي الله عنه قال: "ثم أخذت بيده وبدرني رجل من الأنصار فضرب على يده قبل أن أضرب على يده ثم ضربت على يده وتابع الناس "ذكره الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية 5/278، وقد سمى ابن سعد هذا الرجل بأنه: بشير بن سعد والد النعمان بن بشير الطبقات الكبرى 3/182 وانظر: البداية والنهاية 5/278.
5ـ ونزونا على سعد أي: وقعوا عليه ووطئوه "النهاية في غريب الحديث والأثر" 5/44.
6ـ صحيح البخاري 4/179-180.(2/523)
المصطفى صلى الله عليه وسلم بعد تذكير الصديق إياه بذلك.
فقد روى الإمام أحمد بإسناده إلى حميد بن عبد الرحمن قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه في طائفة من المدينة قال: فجاء فكشف عن وجهه فقبله وقال: فداك أبي وأمي ما أطيبك حياً وميتاً مات محمد ورب الكعبة ـ وفيه ـ فانطلق أبو بكر وعمر يتقاودان حتى أتوهم فتكلم أبو بكر فلم يترك شيئاً أنزل في الأنصار ولا ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم من شأنهم ـ إلا ذكره وقال: لقد علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو سلك وادياً وسلكت الأنصار وادياً سلكت وادي الأنصار" ولقد علمت يا سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ـ وأنت قاعد: "قريش ولاة هذا الأمر فبر الناس تبع لبرهم وفاجرهم تبع لفاجرهم" فقال له سعد: صدقت نحن الوزراء وأنتم الأمراء1.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى بعد إيراده لهذا الحديث: "فهذا مرسل حسن ولعل حميداً أخذه عن بعض الصحابة الذين شهدوا ذلك وفيه فائدة جليلة جداً وهي أن سعد بن عبادة نزل عن مقامه الأول في دعوى الإمارة وأذعن للصديق بالإمارة فرضي الله عنهم أجميعن"2.
والبيعة التي حصلت للصديق رضي الله عنه في سقيفة بني ساعدة تعتبر بيعة أولى من كبار وفضلاء الصحابة من مهاجرين وأنصار وقد بويع رضي الله عنه بيعة عامة من الغد في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتممت البيعة من المهاجرين والأنصار قاطبة صبيحة يوم الثلاثاء وهو اليوم الثاني من متوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبل تجهيزه عليه الصلاة والسلام.
وروى البخاري بإسناده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه أنه سمع خطبة عمر الآخرة حين جلس على المنبر وذلك الغد من يوم توفي النبي صلى الله عليه وسلم فتشهد وأبو بكر
__________
1ـ المسند 1/5.
2ـ منهاج السنة 1/143.(2/524)
صامت لا يتكلم قال: كنت أرجو أن يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يدبرنا يريد بذلك أن يكون آخرهم ـ فإن يك محمد قد مات فإن الله تعالى قد جعل بين أظهركم نوراً تهتدون به بما هدى الله محمداً صلى الله عليه وسلم وأن أبا بكر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثاني اثنين فإنه أولى الناس بأموركم، فقوموا بايعوه وكانت طائفة منهم قد بايعوه قبل ذلك في سقيفة بني ساعدة وكان بيعة العامة على المنبر قال الزهري عن أنس بن مالك: سمعت عمر يقول لأبي بكر يومئذ: اصعد المنبر فلم يزل حتى صعد المنبر فبايعه الناس عامة"1.
وروى الحافظ أبو بكر البيهقي بإسناده إلى أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتمع الناس في دار سعد بن عبادة وفيهم أبو بكر وعمر قال: فقام خطيب الأنصار فقال: أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من المهاجرين وخليفته من المهاجرين، ونحن أنصار خليفته كما كنا أنصاره قال: فقام عمر بن الخطاب فقال: صدق قائلكم أما لو قلتم غير هذا لم نبايعكم وأخذ بيد أبي بكر وقال: هذا صاحبكم فبايعوه فبايعه عمر وبايعه المهاجرون والأنصار قال: فصعد أبو بكر المنبر فنظر في وجوه القوم فلم ير الزبير قال: فدعا بالزبير فجاء فقال: قلت ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحواريه أردت أن تشق عصا المسلمين فقال: لا تثريب يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام فبايعه ثم نظر في وجوه القوم فلم ير علياً فدعا بعلي بن أبي طالب فجاء فقال: قلت ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه على ابنته أردت أن تشق عصا المسلمين قال: لا تثريب با خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعه"2.
قال ابن كثير: "فيه فائدة جليلة وهي: مبايعة علي بن أبي طالب إما
__________
1ـ صحيح البخاري 4/248.
2ـ أورده الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية 5/280 ثم قال عقبه: "وهذا إسناد صحيح محفوظ من حديث أبي نضرة المنذر بن مالك بن قطعة عن أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان المنذري وانظر الاعتقاد للبيهقي ص/178.(2/525)
في أول يوم، أو في اليوم الثاني من الوفاة وهذا حق فإن علي بن أبي طالب لم يفارق الصديق في وقت من الأوقات ولم ينقطع في صلاة من الصلوات خلفه ... وخرج معه إلى ذي القصة لما خرج الصديق شاهراً سيفه يريد قتال أهل الردة"1.
وأما ما جاء في الصحيحين في حديث عائشة رضي الله عنها من أن فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر فقال أبو بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا نورث ما تركنا صدقة" إنما يأكل آل محمد صلى الله عليه وسلم في هذا المال وإني والله لا أغير شيئاً من صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حالها التي كان عليها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأعملن فيها بما عمل به رسول فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك فهجرته2 فلم تكلمه حتى توفيت وعاشت بعد النبي صلى الله عليه وسلم ستة أشهر فلما توفيت دفنها زوجها علي ليلاً ولم يؤذن بها أبا بكر وصلى عليها وكان لعلي من الناس وجه حياة فاطمة، فلما توفيت استنكر علي وجوه الناس فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته ولم يكن يبايع تلك الأشهر فأرسل إلى أبي بكر أن ائتنا ولا يأتنا معك أحد فقال عمر لأبي بكر: والله لا تدخل عليهم وحدك3 فقال أبو بكر: وما عساهم أن يفعلوا بي إني والله لآتينهم فدخل
__________
1ـ البداية والنهاية 5/281.
2ـ قال النووي: "وأما ما ذكر من هجران فاطمة أبا بكر رضي الله عنه فمعناه انقباضها عن لقائه وليس هذا من الهجران المحرم الذي هو ترك السلام والإعراض عند اللقاء وقوله في هذا الحديث "فلم تكلمه" يعني في هذا الأمر أو لانقباضها لم تطلب منه حاجة ولا اضطرت إلى لقائه فتكلمه ولم ينقل قط انهما التقيا فلم تسلم عليه ولا كلمته"أهـ. شرح النووي 12/73-74.
3ـ معنى قول عمر رضي الله عنه: "والله لا تدخل عليهم وحدك" خاف أن يغلظوا عليه في المعاتبة ويحملهم على الإكثار من ذلك لين أبي بكر وصبره عن الجواب عن نفسه وربما رأى من كلامهم ما غير قلبه فيترتب على ذلك مفسدة خاصة أو عامة وإذا حضر عمر امتنعوا من ذلك"أهـ. شرح النووي 12/78.(2/526)
عليهم أبو بكر فتشهد علي بن أبي طالب ثم قال: إنا قد عرفنا يا أبا بكر فضيلتك وما أعطاك الله ولم ننفس عليك خيراً ساقه الله إليك ولكنك استبددت علينا بالأمر وكنا نحن نرى لنا حقاً لقرابتنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يزل يكلم أبا بكر حتى فاضت عينا أبي بكر فلما تكلم أبو بكر قال: والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي أن أصل من قرابتي وأما الذي شجر بيني وبينكم من هذه الأموال فإني لم آل فيها عن الحق ولم أترك أمراً رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه فيها إلا صنعته1 فقال علي لأبي بكر: موعدك العشية للبيعة فلما صلى أبو بكر صلاة الظهر رقى على المنبر فتشهد وذكر شأن علي وتخلفه عن البيعة وعذره بالذي اعتذر إليه، ثم استغفر وتشهد علي بن أبي طالب فعظم حق أبي بكر وأنه لم يحمله على الذي صنع نفاسة على أبي بكر ولا إنكاراً للذي فضله الله به ولكنا كنا نرى لنا في الأمر نصيباً فاستبد علينا به فوجدنا في أنفسنا فسر بذلك المسلمون وقالوا: أصبت فكان المسلمون إلى علي قريباً حين راجع الأمر المعروف"2.
فتأخر علي رضي الله عنه عن المدة المذكورة في الحديث عن بيعة الصديق رضي الله عنه أجاب عنه بعض أهل العلم بما يقنع الذين يسمعون، ويشفي من سلمت قلوبهم من الأحقاد والأضغان لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقد قال الإمام النووي: "أما تأخر علي رضي الله عنه عن البيعة فقد ذكره علي في هذا الحديث واعتذر أبو بكر رضي الله عنه ومع هذا فتأخره ليس بقادح في البيعة ولا فيه أما البيعة فقد اتفق العلماء على أنه لا يشترط لصحتها مبايعة كل الناس ولا كل أهل الحل والعقد وإنما يشترط مبايعة من تيسر إجماعهم من
__________
1ـ ذكر البيهقي في كتابه "الاعتقاد" ص/179 أن الصديق رضي الله عنه قال في اعتذاره إلى علي وغيره ممن تخلف عن بيعته: "أما والله ما حملنا على إبرام ذلك دون من غاب عنه إلا مخافة الفتنة وتفاقم الحدثان وإن كنت لها لكارهاً لولا ذلك ما شهدها أحد كان أحب إلي أن يشهدها إلا من هو بمثل منزلتك"أهـ.
2ـ صحيح البخاري 3/55-56، صحيح مسلم 3/2380.(2/527)
العلماء والرؤساء ووجوه الناس، وأما عدم القدح فيه فلأنه لا يجب على كل واحد أن يأتي إلى الإمام فيضع يده في يده ويبايعه وإنما يلزمه إذا عقد أهل الحل والعقد للإمام الانقياد له وأن لا يظهر خلافاً ولا يشق العصا وهكذا كان شأن علي رضي الله عنه في تلك المدة التي قبل بيعته فإنه لم يظهر على أبي بكر خلافاً ولا شق العصا ولكنه تأخر عن الحضور عنده للعذر المذكور في الحديث، ولم يكن انعقاد البيعة وانبرامها متوقفاً على حضوره فلم يجب عليه الحضور لذلك ولا لغيره فلما لم يجب لم يحضر وما نقل عنه قدح في البيعة ولا مخالفة ولكن بقي في نفسه عتب فتأخر حضوره في أن زال العتب وكان سبب العتب أنه مع وجاهته وفضيلته في نفسه في كل شيء وقربه من النبي صلى الله عليه وسلم وغير ذلك رأى أنه لا يستبد بأمر إلا بمشورته وحضوره وكان عذر أبي بكر وعمر وسائر الصحابة واضحاً لأنهم رأوا المبادرة بالبيعة من أعظم مصالح المسلمين وخافوا من تأخيرها حصول خلاف ونزاع تترتب عليه مفاسد عظيمة ولهذا أخروا دفن النبي صلى الله عليه وسلم حتى عقدوا البيعة لكونها كانت أهم الأمور كيلا يقع نزاع في مدفنه أو كفنه أو غسله أو الصلاة عليه أو غير ذلك وليس لهم من يفصل الأمور فرأوا تقدم البيعة أهم الأشياء والله أعلم"1.
قال الحافظ ابن كثير معللاً عدم اسجابة الصديق رضي الله عنه لما طلبته فاطمة رضي الله عنها من الميراث حيث ظنت أن ما خلفه النبي صلى الله عليه وسلم يقسم بين الورثة قال: "فلم يجيبها إلى ذلك لأنه رأى أن حقاً عليه أن يقوم في جميع ما كان يتولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق البار الراشد التابع للحق رضي الله عنه فحصل لها ـ وهي امرأة من البشر ليست براجية العصمة ـ عتب وتغضب ولم تكلم الصديق حتى ماتت واحتاج علي أن يراعي خاطرها بعض الشيء، فلما ماتت بعد ستة أشهر من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم رأى علي أن يجدد البيعة مع أبي بكر
__________
1ـ شرح النووي 12/77-78.(2/528)
رضي الله عنه ... مع ما تقدم له من البيعة قبل دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويزيد ذلك صحة قول موسى بن عقبة في مغازيه عن سعد بن ابراهيم: حدثني أبي أن أباه عبد الرحمن بن عوف كان مع عمر، وأن محمد بن مسلمة كسر سيف الزبير، ثم خطب أبو بكر واعتذر إلى الناس وقال: ما كنت حريصاً يوماً ولا ليلة سألتها في سر ولا علانية فقبل مقالته وقال علي والزبير: ما غضبنا إلا لأنا أخرنا عن المشورة وإنا نرى أن أبا بكر أحق الناس بها إنه لصاحب الغار وإنا لنعرف شرفه وخيره ولقد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي بالناس وهو حي "إسناد جيد ولله الحمد والمنة ومن تأمل ما ذكرناه ظهر له إجماع الصحابة ـ المهاجرين منهم والأنصار على تقديم أبي بكر وظهر له برهان قوله عليه الصلاة والسلام: "يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر" 1.
فبيعة علي رضي الله عنه للصديق بعد وفاة فاطمة رضي الله عنها محمول على أنها بيعة ثانية أزالت ما كان قد وقع من وحشة بسبب الكلام في الميراث ومنعه إياهم ذلك بالنص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: "لا نورث ما تركناه فهو صدقة".
كما تقدم، ومن هذا يعلم أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا إذا حصل لهم بعض العتب على بعضهم فإنهم كانوا سريعي الرجوع عند مراجعة الحق وظهوره ولم يجعلوا للغل في قلوبهم سكناً بل كانت قلوبهم على قلب رجل واحد وحتى أم الحسنين رضي الله عنها رجعت عن عتبها على الصديق وعدلت عن مطالبته فيما أفاء الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم من مال فدك بعد أن أبان لها الحكم فيه كما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت له: أنت وما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم2 وهذا هو الصواب والمظنون بها واللائق بأمرها وسايداتها وعلمها ودينها رضي الله عنها3 ولم تطب نفس الإمام الأكبر والصديق الأعظم أبو بكر
__________
1ـ البداية والنهاية 5/281.
2ـ المسند 1/4، سنن أبي داود 2/130، البداية والنهاية 5/352.
3ـ البداية والنهاية 5/325.(2/529)
رضي الله عنه أن تبقى سيدة نساء العالمين عاتبه عليه بل ترضاها وتلاينها قبل موتها فرضيت ـ رضي الله عنها ـ على رغم أنف كل رافضي على وجه الأرض فقد روى الحافظ أبو بكر بإسناده إلى إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال: لما مرضت فاطمة أتاها أبو بكر الصديق فاستأذن عليها فقال علي: يا فاطمة هذا أبو بكر يستأذن عليك فقالت: أتحب أن آذن له؟ قال: نعم! فأذنت له فدخل عليها يترضاها فقال: والله ما تركت الدار والمال والأهل والعشيرة إلا ابتغاء مرضات الله ومرضات رسول الله صلى الله عليه وسلم ومرضاتكم أهل البيت ثم ترضاها حتى رضيت1.
ففي هذا الأثر صفعة قوية للرافضة الذين فتحوا على أنفسهم شراً عريضاً وجهلاً طويلاً وأدخلوا أنفسهم فيما لا يعنيهم بسبب ما ذكر من هجران فاطمة رضي الله عنها لأبي بكر ولو تفهموا الأمور على ما هي عليه لعرفوا للصديق فضله، وقبلوا منه عذره الذي يجب على كل أحد قبوله، ولكنهم طائفة مخذولة وفرقة مرذولة يتمسكون بالمتشابه ويتركون الأمور المحكمة المقدرة عند أئمة الإسلام من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من العلماء المعتبرين في سائر الأعصار والأمصار رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين2.
ثم أن الصديق رضي الله عنه لم يقبل الإمامة حرصاً عليها ولا رغبة فيها وإنما قبلها تخوفاً من وقوع فتنة أكبر من تركه قبولها رضي الله عنه وأرضاه3، ولما بويع رضي الله عنه البيعة الثانية التي هي بيعة عامة الناس في مسجد رسول الله
__________
1ـ أورده الحافظ ابن كثير "البداية والنهاية 5/325 ثم قال عقبه: وهذا إسناد جيد قوي والظاهر أن عامر الشعبي سمعه من علي أو ممن سمعه من علي وأخرجه ابن سعد في الطبقات 8/27، وأورده الذهبي في سير أعلام النبلاء 2/121 وذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري 6/139، وقال عقبه وهو وإن كان مرسلاً فإسناده إلى الشعبي صحيح.
2ـ انظر البداية والنهاية 5/322.
3ـ انظر المصدر السابق 5/279.(2/530)
صلى الله عليه وسلم خطب الناس خطبة عامة حيث قال بعد أن حمد الله وأثنى عليه بالذي هو أهله: "أما بعد: أيها الناس فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني. الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أزيح علته إن شاء الله. والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله"1.
وقوله رضي الله عنه: "قد وليت عليكم ولست بخيركم" من باب الهضم والتواضع إذ أنهم مجمعون على أنه أفضلهم وخيرهم رضي الله عنهم2.
ففي هذه الروايات المتقدمة بيان كيفية مبايعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه بالخلافة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فقد انعقدت له الخلافة بعقد خيار هذه الأمة المحمدية وهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار الذين هم بطانة رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين بهم صار للإسلام قوة وعزة وبهم قهر المشركون وبهم فتحت جزيرة العرب. فجمهور الذين بايعوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هم الذين بايعوا أبا بكر وأما كون عمر أو غيره سبق إلى البيعة ففي كل بيعة لا بد من سابق"3.
__________
1ـ انظر السيرة النبوية لابن هشام 2/661، والطبقات لابن سعد 3/182-183، البداية والنهاية 5/279-280 وقال: "هذا إسناد صحيح".
2ـ انظر البداية والنهاية 5/280.
3ـ منهاج السنة 1/142.(2/531)
المبحث الثالث: ذكر النصوص التي فيها الإشارة إلى خلافته من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية
أولاً: الآيات القرآنية:
لقد وردت آيات في الكتاب العزبز فيها الإشارة إلى أبا بكر الصديق رضي الله عنه أحق الناس من هذه الأمة بخلافة سيد الأولين والآخرين وتلك الآيات هي:
1/ قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} 1 ووجه الدلالة أن أبا بكر رضي الله عنه داخل فيمن أمر الله ـ جل وعلا ـ عباده أن يسألوه أن يهديهم طريقهم وأن يسلك بهم سبيلهم وهم الذين أنعم الله عليهم وذكر منهم الصديقين في قوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} 2 وقد أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم أن أبا بكر رضي الله عنه من الصديقين3 فدل ذلك على أنه واحد منهم بل هو المقدم فيهم ولما كان أبو بكر رضي الله عنه ممن طريقهم هو الصراط المستقيم فلا يبقى أي شك لدى العاقل في أنه أحق خلق الله من هذه الأمة بخلافة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
قال محمد بن عمر الرازي: " قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ
__________
1ـ سورة الفاتحة آية/6-7.
2ـ سورة النساء آية/69.
3ـ انظر صحيح البخاري 2/293.(2/532)
الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} يدل على إمامة أبي بكر رضي الله عنه لأنا ذكرنا أن تقدير الآية: اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم والله تعالى قد بين في آية أخرى أن الذين أنعم الله عليهم من هم؟ فقال: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ} الآية ولا شك أن رأس الصديقين ورئيسهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه فكان معنى الآية أن الله أمرنا أن نطلب الهداية التي كان عليها أبو بكر الصديق وسائر الصديقيين ولو كان أبو بكر ظالماً لما جاز الاقتداء به فثبت بما ذكرناه دلالة هذه الآية على إمامة أبي بكر رضي الله عنه"1.
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: "يؤخذ من هذه الآية الكريمة صحة إمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه لأنه داخل فيمن أمرنا الله في السبع المثاني والقرآن العظيم ـ أعني الفاتحة ـ بأن نسأله أن يهدينا صراطهم فدل على أن صراطهم هو الصراط المستقيم وذلك في قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} وقد بين الذين أنعم عليهم فعد منهم الصديقين وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن أبا بكر رضي الله عنه من الصديقين فاتضح أنه داخل في الذين أنعم الله عليهم الذين أمرنا الله أن نسأله الهداية إلى صراطهم فلم يبق لبس في أبي بكر الصديق رضي الله عنه على الصراط المستقيم وأن إمامته حق"2.
2/ وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} 3.
هذه الصفات المذكورة في هذه الآية الكريمة أول من تنطبق عليه أبو بكر
__________
1ـ التفسير الكبير للرازي 1/260.
2ـ أضواء البيان 1/36.
3ـ سورة المائدة آية/54.(2/533)
الصديق رضي الله عنه وجيوشه من الصحابة الذين قاتلوا المرتدين فقد مدحهم الله بأكمل الصفات وأعلى المبرات ووجه دلالة الآية على خلافة الصديق أنه "كان في علم الله سبحانه وتعالى ـ ما يكون بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من ارتداد قوم فوعد سبحانه ووعده صدق ـ أنه يأتي بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل ولا يخافون لومة لائم، فلما وجد ما كان في علمه في ارتداد من ارتد بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد تصديق وعده بقيام أبي بكر الصديق رضي الله عنه بقتالهم فجاهد بمن أطاعه من الصحابة من عصاه من الأعراب ولم يخف في الله لومة لائم حتى ظهر الحق وزهق الباطل وصار تصديق وعده بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم آية للعالمين ودلالة على صحة خلافة الصديق رضي الله عنه"1.
روى ابن جرير الطبري بإسناده إلى علي رضي الله عنه أنه قال في قوله: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} قال: فسوف يأتي الله المرتدة في دورهم بقوم يحبهم ويحبونه بأبي بكر وأصحابه"2 وروى الحافظ أبو بكر البيهقي بإسناده إلى الحسن البصري رحمه الله أنه قال في قوله: {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} قال: هم الذين قاتلوا مع أبي بكر أهل الردة من العرب حتى رجعوا إلى الإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: وكذلك قال عكرمة وقتادة والضحاك، وروينا عن عبد الله بن الأهتم أنه قال لعمر بن عبد العزيز: إن أبا بكر قام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا إلى سنته ومضى على سبيله فارتدت العرب، أو من ارتد منهم فعرضوا أن يقيموا الصلاة ولا يؤتوا الزكاة فأبى أن يقبل منهم إلا ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قابلاً في حياته فانتزع السيوف من أغمادها وأوقد النيران في شعلها وركب بأهل حق الله أكتاف أهل الباطل حتى قررهم بالذي نفروا منه وأدخلهم من الباب الذي خرجوا
__________
1ـ الاعتقاد للبيهقي ص/173-174.
2ـ جامع البيان 6/285.(2/534)
منه حتى قبضه الله"1.
فدلت الآية السابقة على خلافة الصديق حيث حصل في خلافته ما نطقت به الآية من ارتداد الكثير من العرب عن الإسلام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وجاهدهم أبو بكر رضي الله عنه هو والصحابة الكرام رضي الله عنهم حتى رجعوا إلى الإسلام كما أخبر الله تعالى في الآية وهذا من الكائنات التي أخبر بها الرب ـ جل وعلا ـ قبل وقوعها.
3/ قال تعالى: {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} 2 ففي هذه الآية الكريمة جعل الله أبا بكر في مقابلة الصحابة أجمع حيث خاطبهم بأنهم إن لم يعينوا رسوله صلى الله عليه وسلم بالنفير معه للمقاتلة في سبيل الله فقد نصره بصاحبه أبي بكر رضي الله عنه وأيده بجنود من الملائكة ثم بين ـ تعالى ـ أنه ثاني اثنين ـ ثالثهما رب العالمين وهذه الميزة الشريفة والمنزلة العظيمة اعتبرها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من صفاته العالية التي جعلته أحق الناس بالإمامة بعد النبي صلى الله عليه وسلم3 لأنه لا أفضل في الأمة المحمدية من أبي بكر الذي هو ثاني اثنين قال عليه الصلاة والسلام في شأنهما: "ما ظنك باثنين الله ثالثهما" 4.
قال أبو عبد الله القرطبي: "قال بعض العلماء في قوله تعالى: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} ما يدل على أن الخليفة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه لأن الخليفة لا يكون إلا ثانياً وسمعت شيخنا أبا العباس أحمد بن عمر يقول: إنما استحق الصديق أن يقال له ثاني اثنين لقيامه بعد النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر كقيام النبي صلى الله عليه وسلم به أولا، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات ارتدت العرب
__________
1ـ الاعتقاد ص/174.
2ـ سورة التوية آية/40.
3ـ انظر صحيح البخاري 4/248, المصنف لابن أبي شيبة 15/570.
4ـ صحيح البخاري 2/288، صحيح مسلم 4/1854.(2/535)
كلها ولم يبق الإسلام إلا بالمدينة وجواثاً1 فقام أبو بكر يدعو الناس إلى الإسلام ويقاتلهم على الدخول في الدين كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم فاستحق من هذه الجهة أن يقال في حقه ثاني اثنين"2.
4/ قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} 3. الآية "ووجه دلالة الآية على أحقية الصديق بلإمامة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أن الهجرة فعل شاق على النفس ومخالف للطبع فمن أقدم عليه أولا صار قدوة لغيره في هذه الطاعة وكان ذلك مقوياً لقلب الرسول عليه الصلاة والسلام وسبباً لزوال الوحشة عن خاطره وكذلك السبق في النصرة فإن الرسول عليه الصلاة والسلام لما قدم المدينة فلا شك أن الذين سبقوا إلى النصرة والخدمة فازوا بمنصب عظيم وإذا ثبت هذا فإن أسبق الناس إلى الهجرة أبو بكر الصديق فإنه في خدمة المصطفى عليه الصلاة والسلام وكان مصاحباً له في كل مسكن وموضع فكان نصيبه من هذا المنصب أعلى من نصيب غيره وإذا ثبت هذا صار محكوماً عليه بأنه رضي الله عنه ورضي هو عن الله وذلك في أعلى الدرجات من الفضل، وإذا ثبت هذا وجب أن يكون إماماً حقاً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصارت هذه الآية من أدل الدلائل على فضل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وعلى صحة إمامتهما"4.
5/ قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} 5
__________
1ـ جواثاً: قرية بالبحرين معروفة "انظر معجم البلدان" 2/174، لسان العرب 2/126.
2ـ الجامع لأحكام القرآن 8/147-148.
3ـ سورة التوبة آية/100.
4ـ انظر التفسير الكبير للفخر الرازي 16/168-169.
5ـ سورة النور آية/55.(2/536)
"هذه الآية منطبقة على خلافة الصديق رضي الله عنه وعلى خلافة الثلاثة بعده فلما وجدت هذه الصفة من الاستخلاف والتمكين في أمر أبي بكر وعمر وعثمان وعلي دل ذلك على أن خلافتهم حق"1.
قال الحافظ ابن كثير: "وقال بعض السلف خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما حق في كتاب الله ثم تلا هذه الآية"2.
6/ قال تعالى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} 3.
قال أبو الحسن الأشعري رحمه الله تعالى: "وقد دل الله على إمامة أبي بكر في سورة براءة فقال للقاعدين عن نصرة نبيه عليه السلام والمتخلفين عن الخروج معه {فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوّاً} 4 وقال في سورة أخرى: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} يعني قوله: {لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً} ثم قال: {كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} وقال: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا} ـ يعني تعرضوا عن إجابة الداعي لكم إلى قتالهم ـ {كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} 5 والداعي لهم إلى ذلك غير النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال الله ـ عز وجل ـ له {فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوّاً} وقال في سورة الفتح:
__________
1ـ انظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير 5/121.
2ـ المصدر السابق.
3ـ سورة الفتح آية/16.
4ـ سورة التوبة آية/83.
5ـ سورة الفتح آية/15-16.(2/537)
{يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} "فمنعهم عن الخروج مع نبيه عليه السلام وجعل خروجهم معه تبديلاً لكلامه فوجب بذلك أن الداعي الذي يدعوهم إلى القتال داع يدعوهم بعد نبيه صلى الله عليه وسلم"1.
وقد قال مجاهد في قوله: {أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} : هم فارس والروم وبه قال الحسن البصري. وقال عطاء: هم فارس وهو أحد قولي ابن عباس رضي الله عنه، وفي رواية أخرى عنه أنهم بنو حنيفة يوم اليمامة فإن كانوا أهل اليمامة فقد قوتلوا في أيام أبي بكر: وهو الداعي إلى قتال مسيلمة وبني حنيفة من أهل اليمامة، وإن كانوا أهل فارس والروم2 فقد قوتلوا في أيام أبي بكر وقاتلهم عمر من بعده وفرغ منهم وإذا وجبت إمامة عمر وجبت إمامة أبي بكر كما وجبت إمامة عمر لأنه العاقد له الإمامة فقد دل القرآن على إمامة الصديق والفاروق رضي الله عنهما، وإذا وجبت إمامة أبي بكر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وجب أنه أفضل المسلمين رضي الله عنه"3.
7/ قال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} 4.
وجه دلالة هذه الآية على خلافته رضي الله عنه أن الله ـ جل وعلا ـ سماهم "صادقين" ومن شهد له الرب ـ جل وعلا ـ بالصدق فإنه لا يقع في الكذب ولا يتخذه خلقاً بحال وقد أطبق هؤلاء الموصوفون بالصدق على تسمية الصديق رضي الله عنه "خليفة رسول الله"5 صلى الله عليه وسلم ومن هنا كانت الآية دالة على ثبوت خلافته رضي الله عنه.
__________
1ـ الإبانة عن أصول الديانة ص/67، وانظر مقالات الإسلاميين 2/144، الاعتقاد للبيهقي ص/172-173.
2ـ انظر جامع البيان للطبري 26/82-84، الاعتقاد للبيهقي ص/173، تفسير القرآن العظيم لابن كثير 6/340.
3ـ الإبانة عن أصول الديانة ص/67.
4ـ سورة الحشر آية/8.
5ـ انظر الفصل في الملل والأهواء والنحل 4/107، منهاج السنة 1/135.(2/538)
ثانياً: وأما الأحاديث النبوية التي جاء التنبيه فيها على خلافة أبي بكر رضي الله عنه فكثيرة شهيرة متواترة ظاهرة الدلالة إما على وجه التصريح، أو الإشارة ولاشتهارها وتواترها صارت معلومة من الدين بالضرورة بحيث لا يسع أهل البدعة إنكارها ومن تلك الأحاديث:
1- ما رواه الشيخان في صحيحيهما عن جبير من مطعم قال: أتت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم فأمرها أن ترجع إليه قالت: أرأيت إن جئت ولم أجدك ـ كأنها تقول الموت ـ قال صلى الله عليه وسلم: "إن لم تجديني فأتي أبا بكر" 1.
اشتمل هذا الحديث على إشارة واضحة في أن الذي يخلفه على الأمة هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
قال أبو محمد بن حزم: "وهذا نص جلي على استخلاف أبي بكر"2.
وقال الحافظ ابن حجر: "وفي الحديث أن مواعيد النبي صلى الله عليه وسلم كانت على من يتولى الخلافة بعده تنجيزها وفيه رد على الشيعة في زعمهم أنه نص على استخلاف علي والعباس"3.
2- وروى مسلم رحمه الله بإسناده إلى ابن أبي مليكة قال: سمعت عائشة وسئلت: من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخلفاً لو استخلفه؟ قالت: أبو بكر. فقيل لها: ثم من بعد أبي بكر؟ قالت: عمر، ثم قيل لها: من بعد عمر؟ قالت: أبو عبيدة بن الجراح ثم انتهت إلى هذا"4.
قال النووي: "هذا دليل لأهل السنة في تقديم أبي بكر ثم عمر للخلافة مع إجماع الصحابة وفيه دلالة لأهل السنة أن خلافة أبي بكر ليست بنص من
__________
1ـ صحيح البخاري 2/289، صحيح مسلم 4/1856-1857.
2ـ الفصل في الملل والأهواء والنحل 4/108.
3ـ فتح الباري 7/24.
4ـ صحيح مسلم 4/1856.(2/539)
النبي صلى الله عليه وسلم على خلافته صريحاً بل أجمعت الصحابة على عقد الخلافة له وتقديمه لفضيلته ولو كان هناك نص عليه أو على غيره لم تقع المنازعة من الأنصار وغيرهم أولا ولذكر حافظ النص ما معه ولرجعوا إليه لكن تنازعوا أولا ولم يكن هناك نص ثم اتفقوا على أبي بكر واستقر الأمر وأم ما تدعيه الشعية من النص على علي والوصية إليه فباطل لا أصل له باتفاق المسلمين والاتفاق على بطلان دعواهم من زمن علي وأول من كذبهم علي رضي الله عنه بقوله: ما عندنا إلا ما في هذه الصحيفة الحديث1 ولو كان عنده نص لذكره ولم ينقل أنه ذكره في يوم من الأيام ولا أن احداً ذكره له والله أعلم وأما قوله صلى الله عليه وسلم ... للمرأة حين قالت: يا رسول الله أرأيت إن جئت فلم أجدك قال: "فإن لم تجديني فأتي أبا بكر " فليس فيه نص على خلافته وأمر بها، بل هو إخبار بالغيب الذي أعلمه الله تعالى به والله أعلم"2.
3- وروى الإمام أحمد وغيره عن حذيفة قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم جلوساً فقال: "إني لا أدري ما قدر بقائي فيكم فاقتدوا باللذين من بعدي" وأشار إلى أبي بكر وعمر "وتمسكوا بعهد عمار وما حدثكم ابن مسعود فصدقوه" 3.
فقوله صلى الله عليه وسلم: "اقتدوا باللذين من بعدي" أي: "بالخليفتين اللذين يقومان من بعدي وهما أبو بكر وعمر. وحث على الاقتداء بهما لحسن سيرتهما وصدق سريرتهما وفي الحديث إشارة لأمر الخلافة"4.
4- وروى الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بينا أنا نائم أريت أني أنزع على حوضي أسقي الناس فجاءني أبو بكر فأخذ الدلو من يدي ليروحني فنزع دلوين وفي نزعه
__________
1ـ انظر هذا الحديث في صحيح مسلم 3/1567.
2ـ شرح النووي 15/154-155.
3ـ المسند 5/385 ـ وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني 3/233-236.
4ـ انظر فيض القدير للمناوي 2/56، تحفة الأحوذي بشرح الترمذي 10/147.(2/540)
ضعف والله يغفر له فجاء ابن الخطاب فأخذ منه فلم أر نزع رجل قط أقوى منه حتى تولى الناس والحوض ملآن يتفجر" 1.
هذا الحديث فيه إشارة ظاهرة إلى خلافة أبي بكر وعمر وصحة ولايتهما وبيان صفتها وانتفاع المسلمين بها.
قال الشافعي رحمه الله تعالى: "رؤيا الأنبياء وحي وقوله: وفي نزعه ضعف قصر مدته وعجلة موته وشغله بالحرب لأهل الردة عن الافتتاح والتزيد الذي بلغه عمر في طول مدته"2.
5- وروى الشيخان في صحيحيهما من حديث عائشة قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه: "ادعي لي أبا بكر، وأخاك حتى أكتب كتاباً فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل: أنا أولى. ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر" 3.
6- وعند الإمام أحمد عنها رضي الله عنها قالت: لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعبد الرحمن بن أبي بكر: "ائتني بكتف 4 أو لوح حتى أكتب لأبي بكر كتاباً لا يختلف عليه" فلما ذهب عبد الرحمن ليقوم قال: "أبى الله والمؤمنون أن يختلف عليك يا أبا بكر" 5.
دل هذا الحديث دلالة ظاهرة على فضل الصديق رضي الله عنه حيث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما سيقع في المستقبل بعد التحاقه بالرفيق الأعلى وأن المسلمين يأبون عقد الخلافة لغيره رضي الله عنه وفي الحديث إشارة أنه سيحصل نزاع ووقع كل
__________
1ـ صحح البخاري 2/290، صحيح مسلم 4/1861-1862 واللفظ له.
2ـ الاعتقاد للبيهقي ص/171.
3ـ صحيح البخاري 2/247-248، صحيح مسلم 4/1857 واللفظ له.
4ـ الكتف: عظم عريض يكون في أصل كتف الحيوان من الناس والدواب كانوا يكتبون فيه لقلة القراطيس "النهاية" 4/150.
5ـ المسند 6/47.(2/541)
ذلك كما أخبر عليه الصلاة والسلام ثم اجتمعوا على أبي بكر رضي الله عنه قال أبو محمد بن حزم بعد أن ذكر هذا الحديث: "فهذا نص جلي على استخلافه عليه الصلاة والسلام أبا بكر على ولاية الأمة بعده"1.
7- وروى البخاري من حديث طويل عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر ولكن أخوة الإسلام ومودته لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر" 2.
وفي لفظ آخر للشيخين: "لا يبقين في المسجد خوخة3 إلا سدت إلا خوخة أبي بكر" 4 فأمره صلى الله عليه وسلم بسد الأبواب جميعها إلا باب أبي بكر فيه إشارة قوية إلى أنه أول من يلي أمر الأمة بعد وفاته عليه الصلاة والسلام.
قال الحافظ ابن حجر: "قوله إلا باب أبي بكر" هو استثناء مفرغ والمعنى لا تبقوا باباً غير مسدود إلا باب أبي بكر فاتركوه بغير سد قال الخطابي وابن بطال وغيرهما: في هذا الحديث اختصاص ظاهر لأبي بكر وفيه إشارة قوية إلى استحقاقه للخلافة ولا سيما وقد ثبت أن ذلك كان في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي أمرهم فيه أن لا يؤمهم إلا أبو بكر وقد ادعى بعضهم أن الباب كناية عن الخلافة والأمر بالسد كناية عن طلبها5 كأنه قال: لا يطلبن أحد الخلافة إلا أبا بكر فإنه لا حرج عليه في طلبها وإلي هذا جنح ابن حبان فقال بعد أن أخرج هذا الحديث: "في هذا الحديث دليل على أنه الخليفة بعد النبي صلى الله عليه وسلم لأنه حسم بقوله سدوا عني
__________
1ـ الفصل في الملل والأهواء والنحل 4/108.
2ـ صحيح البخاري 2/288-289.
3ـ الخوخة: الباب الصغير بين البيتين أو الدارين "شرح النووي" 15/151، النهاية لابن الأثير 2/86.
4ـ صحيح البخاري 2/331.
5ـ الصحيح في تأويل الحديث أن سد الخوخات كان حسياً وليس معنوياً ولذلك بادروا إلى سد الخوخات بالماء والطين والله أعلم.(2/542)
كل خوخة في المسجد أطماع الناس كلهم على أن يكونوا خلفاء بعده"1.
8- وروى الشيخان في صحيحيهما عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: مرض النبي صلى الله عليه وسلم فاشتد مرضه فقال: "مروا أبا بكر فليصل بالناس" فقالت عائشة: إنه رجل رقيق إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلي بالناس قال: "مروا أبا بكر فليصل بالناس" فعادت فقال: "مري أبا بكر فليصل بالناس، فإنكن صواحب يوسف" 2 فأتاه الرسول فصلى بالناس في حياة النبي صلى الله عليه وسلم3.
9- وفي رواية أخرى عنها رضي الله عنها أنها قالت: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه: "مروا أبا بكر يصلي بالناس" قالت عائشة: قلت: إن أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع الناس من البكاء، فمر عمر فليصل للناس فقالت عائشة: فقلت لحفصة: قولي له: إن أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع الناس من البكاء فمر عمر فليصل للناس ففعلت حفصة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مه إنكن صواحب يوسف مروا أبا بكر فليصل بالناس" فقالت حفصة لعائشة: "ما كنت لأصيب منك خيراً"4.
10- وروى مسلم في صحيحه بإسناده إلى عبيد الله بن عبد الله قال: دخلت على عائشة فقلت لها: ألا تحدثيني عن مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: بلى ثقل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أصلى الناس" قلنا: لا وهم ينتظرونك يا رسول الله قال: "ضعوا لي ماء في المخضب" 5 ففعلنا فاغتسل ثم ذهب لينوء6 فأغمي عليه ثم
__________
1ـ فتح الباري 7/14.
2ـ قوله: فإنكن صواحب يوسف: أي في الظاهر على ما تردن وكثرة إلحاحكن في طلب ما تردنه وتملن إليه أهـ. شرح النووي 4/140.
3ـ صحيح البخاري 2/124، صحيح مسلم 1/316.
4ـ صحيح البخاري 2/124، صحيح مسلم 1/313.
5ـ المخضب: بالكسر شبه المركن وهي إجانة تغسل فيها الثياب "النهاية في غريب الحديث 2/39، شرح النووي 4/136.
6ـ ينوء: أي يقوم وينهض "شرح النووي" 4/136.(2/543)
أفاق فقال: "أصلى الناس" قلنا: لا وهم ينتظرونك يا رسول الله فقال: "ضعوا لي ماء في المخضب" ففعلنا فاغتسل ثم ذهب لينوء فأغمي عليه ثم أفاق فقال: "أصلى الناس" فقلنا: لا وهم ينتظرونك يا رسول الله قالت: والناس عكوف في المسجد ينتظرون رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء الآخرة قالت: فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر أن يصلي بالناس فأتاه الرسول فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تصلي بالناس فقال أبو بكر، وكان رجلاً رقيقاً: يا عمر صل بالناس قال: فقال عمر: أنت أحق بذلك قالت: فصلى بهم أبو بكر تلك الأيام ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد من نفسه خفة فخرج بين رجلين أحدهما العباس لصلاة الظهر وأبو بكر يصلي بالناس فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يتأخر وقال لهما: "أجلساني إلى جنبه" فأجلساه إلى جنب أبي بكر وكان أبو بكر يصلي وهو قائم بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم والناس يصلون بصلاة أبي بكر والنبي صلى الله عليه وسلم قاعد قال عبيد الله: فدخلت على عبد الله بن عباس فقلت له: ألا أعرض عليك ما حدثتني عائشة عن مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هات فعرضت حديثها عليه فما أنكر منه شيئاً غير أنه قال: أسمت لك الرجل الذي كان مع العباس قلت: لا قال: هو علي"1.
هذا الحديث اشتمل على فوائد عظيمة منها: "فضيلة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وترجيحه على جميع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين وتفضيله، وتنبيه على أنه أحق بخلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم من غيره ومنها أن الإمام إذا عرض له عذر عن حضور الجماعة استخلف من يصلي بهم وأنه لا يستخلف إلا أفضلهم ومنها فضيلة عمر بعد أبي بكر رضي الله عنه لأن أبا بكر رضي الله عنه لم يعدل إلى غيره"2.
__________
1ـ صحيح مسلم 1/311-312.
2ـ شرح النووي 4/137.(2/544)
11- وروى الشيخان من حديث أنس رضي الله عنه أن أبا بكر كان يصلي لهم في وجع رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي توفي فيه حتى إذا كان يوم الاثنين وهم صفوف في الصلاة كشف رسول الله صلى الله عليه وسلم ستر الحجرة فنظر إلينا وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف ثم تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاحكاً قال: فبهتنا ونحن في الصلاة من فرح بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف وظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خارج للصلاة فأشار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده أن أتموا صلاتكم قال: ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرخى الستر قال: فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه ذلك"1.
12- وروى البخاري بإسناده إلى أنس رضي الله عنه قال: "لم يخرج النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثاً فأقيمت الصلاة فذهب أبو بكريتقدم فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم بالحجاب فرفعه فلما وضح وجه النبي صلى الله عليه وسلم ما نظرنا منظراً كان أعجب إلينا من وجه النبي صلى الله عليه وسلم حين وضح لنا فأومأ النبي صلى الله عليه وسلم بيده إلى أبي بكر أن يتقدم وأرخى النبي صلى الله عليه وسلم الحجاب فلم يقدر عليه حتى مات"2 فهذه الأحاديث التي فيها تقديم الصديق رضي الله عنه في الصلاة على اختلاف رواياتها واضحة الدلالة على أن أبا بكر رضي الله عنه أفضل الصحابة على الإطلاق وأحقهم بالخلافة وأولاهم بالإمامة وقد فهم هذه الدلالة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
13- فقد روى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير قال: فأتاهم عمر رضي الله عنه فقال: يا معشر الأنصار، ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر أبا بكر يؤم الناس فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر رضي الله عنه فقالت الأنصار: نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر"3.
__________
1ـ صحيح البخاري 2/124، صحيح مسلم 1/315.
2ـ صحيح البخاري 2/124-125.
3ـ المستدرك 3/67.(2/545)
14- وروى ابن سعد بإسناده إلى الحسن قال: قال علي: لما قبض النبي صلى الله عليه وسلم نظرنا في أمرنا فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم قد قدم أبا بكر في الصلاة فرضينا لدنيانا من رضي رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا فقدمنا أبا بكر"1.
وكما فهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من تقديم الصديق في الصلاة أن ذلك إشارة إلى أنه أحق الناس بالإمامة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم كذلك فهم هذا الفهم من جاء بعدهم من أهل العلم، فقد قال أبو بكر المروذي2: "قيل لأبي عبد الله ـ أحمد بن حنبل ـ قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يؤم القوم أقرؤهم" فلما مرض قال: "قدموا أبا بكر يصلي بالناس" وقد كان في القوم من هو أقرؤ من أبي بكر فقال أبو عبد الله: إنما أراد الخلافة3.
وقال أبو الحسن الأشعري رحمه الله تعالى: "وتقديمه له أمر معلوم بالضرورة من دين الإسلام قال: وتقديمه له دليل على أنه أعلم الصحابة وأقرؤهم لما ثبت في الخبر المتفق على صحته بين العلماء: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأكبرهم سناً، فإن كانوا في السن سواء فأقدمهم إسلاماً" قال ابن كثير ـ وهذا من كلام الأشعري رحمه الله مما ينبغي أن يكتب بماء الذهب ثم قد اجتمعت هذه الصفات كلها في الصديق رضي الله عنه وأرضاه4.
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي بعد أن ساق الأحاديث التي فيها تقديم أبي بكر الصديق في الصلاة: "فهذه الأخبار وما في معناها تدل على أن النبي
__________
1ـ الطبقات 3/183.
2ـ هو أحمد بن محمد بن الحجاج بن عبد العزيز أبو بكر المروذي كان رحمه الله مقدماً في أصحاب أحمد لورعه وفضله وكان أحمد يأنس به وينبسط إليه وهو الذي تولى إغماض أحمد لما مات وغسله وروى عن الإمام أحمد مسائل كثيرة توفي سنة خمس وسبعين ومائتين هجرية "انظر ترجمته في طبقات الحنابلة" 1/56-63.
3ـ المسند من مسائل الإمام أحمد للخلال ورقة 43 وهو مخطوط يوجد في مكتبة مخطوطات الجامعة الإسلامية، وانظر مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص/160.
4ـ البداية والنهاية 5/265.(2/546)
صلى الله عليه وسلم رأى أن يكون الخليفة من بعده أبو بكر الصديق فنبه أمته بما ذكر من فضيلته وسابقته وحسن أثره، ثم بما أمرهم به من الصلاة خلفه، ثم الاقتداء به وبعمر ابن الخطاب رضي الله عنهما على ذلك وإنما لم ينص عليه نصاً لا يحتمل غيره والله أعلم لأنه علم بإعلام الله إياه أن المسلمين يجتمعون عليه وأن خلافته تنعقد بإجماعهم على بيعته"أ. هـ1.
ولا يفوتنا أن نذكر في ختام هذا المبحث أن أهل السنة لهم قولان في إمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه من حيث الإشارة إليها بالنص الخفي أو الجلي.
القول الأول:
منهم من قال: إن إمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه ثابتة بالنص الخفي والإشارة وهذا القول ينسب إلى الحسن البصري رحمه الله تعالى وجماعة من أهل الحديث2 وهو رواية عن الإمام أحمد بن حنبل3 رحمة الله عليه واستدل أصحاب هذا القول بتقديم النبي صلى الله عليه وسلم له في الصلاة وبأمره صلى الله عليه وسلم بسد الأبواب إلا باب أبي بكر وقد تقدمت هذه الأحاديث قريباً.
القول الثاني:
ومنهم من قال: إن خلافة أبي بكر رضي الله عنه ثابتة بالنص الجلي وهذا قول طائفة من أهل الحديث4 وبه قال أبو محمد بن حزم الظاهري5 واستدل
__________
1ـ الاعتقاد ص/172.
2ـ انظر "الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم 4/107، منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية 1/134-135، تفسير القرآن العظيم لابن كثير 1/125، شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي ص/533.
3ـ انظر المعتقد في أصول الدين لأبي يعلى الفراء ص/226، منهاج السنة 1/134.
4ـ انظر الفصل في الملل والأهواء والنحل 4/107، منهاج السنة 1/134-135، تفسير القرآن العظيم لابن كثير 1/125، شرح العقيدة الطحاوية ص/533.
5ـ الفصل في الملل والأهواء والنحل 4/107.(2/547)
هذا الفريق بحديث المرأة التي قال لها: "إن لم تجديني فأتي أبا بكر" وبقوله لعائشة رضي الله عنها: "ادعي لي أبا بكر وأخاك حتى أكتب كتاباً فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل أنا أولى ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر" وحديث رؤياه صلى الله عليه وسلم:"أنه على حوض يسقي الناس فجاء أبو بكر فنزع الدلو من يده ليروحه" وكل هذه الأحاديث تقدم تخريجها قريباً في هذا المبحث.
والقول الذي يطمئن إليه القلب وترتاح له النفس في خلافة أبي بكر رضي الله عنه أن يقال: إن المصطفى صلى الله عليه وسلم لم يأمر المسلمين بأن يكون الخليفة عليهم من بعده أبا بكر رضي الله عنه وإنما دلهم عليها لإعلام الله ـ سبحانه ـ له بأن المسلمين سيختارونه لما له من الفضائل العالية التي ورد بها القرآن والسنة وفاق بها غيره من جميع الأمة المحمدية رضي الله عنه وأرضاه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بعد ذكره للخلاف الوارد في خلافة الصديق هل ثبتت بالنص الجلي، أو الخفي: "والتحقيق أن النبي صلى الله عليه وسلم دل المسلمين على استخلاف أبي بكر وأرشدهم إليه بأمور متعددة من أقواله وأفعاله وأخبر بخلافته إخبار راض بذلك حامد له وعزم على أن يكتب بذلك عهداً ثم علم أن المسلمين يجتمعون عليه فترك الكتاب اكتفاء بذلك ... فلو كان التعيين مما يشتبه على الأمة لبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم بياناً قاطعاً للعذر ولكن لما دلهم دلالات متعددة على أن أبا بكر هو المتعين وفهموا ذلك حصل المقصود ولهذا قال عمر بن الخطاب في خطبته التي خطبها بمحضر من المهاجرين والأنصار: وليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر، رواه البخاري ومسلم.." إلى أن قال ـ "فخلافة أبي بكر الصديق دلت النصوص الصحيحة على صحتها وثبوتها ورضا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم له بها وانعقدت بمبايعة المسلمين له واختيارهم إياه اختياراً استندوا فيه إلى ما علموه من تفضيل الله ورسوله وأنه أحقهم بهذا الأمر عند الله ورسوله فصارت ثابتة بالنص والإجماع جميعاً لكن النص دل على(2/548)
رضا الله ورسوله بها وأنها حق وأن الله أمر بها وقدرها وأن المؤمنين يختارونها وكان هذا أبلغ من مجرد العهد بها لأنه حينئذ كان يكون طريق ثبوتها مجرد العهد، وأما إذا كان المسلمون قد اختاروه من غير عهد ودلت النصوص على صوابهم فيما فعلوه ورضا الله ورسوله بذلك كان ذلك دليلاً على أن الصديق كان فيه من الفضائل التي بان بها عن غيره ما علم المسلمون به أنه أحقهم بالخلافة فإن ذلك لا يحتاج فيه إلى عهد خاص"1.
فهذا هو الرأي الراجح في هذه المسألة لأن النصوص متفقة على إثبات فضله الذي لا يلحقه فيه أحد، وإرشاد الأمة إلى أنه أحق الناس بنيابة الرسول صلى الله عليه وسلم بعد وفاته فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن المسلمين سيجتمعون على خلافة أبي بكر لسابقته إلى الإسلام وفضله العظيم الذي لا يشاركه فيه أحد فخلافته رضي الله عنه ورد في القرآن والسنة التنبيه والإشارة إليها والله أعلم.
__________
1ـ منهاج السنة 1/139-141 وانظر مجموع الفتاوى 35/47-49.(2/549)
المبحث الرابع: بيان الإجماع على خلافته رضي الله عنه
...
المبحث الرابع: بيان انعقاد الإجماع على خلافته رضي الله عنه:
لقد أجمع أهل السنة والجماعة سلفاً وخلفاً على أن أحق الناس بالخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه لفضله وسابقته ولتقديم النبي صلى الله عليه وسلم إياه في الصلوات على جميع الصحابة وقد فهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مراد المصطفى عليه الصلاة والسلام من تقديمه في الصلاة فأجمعوا على تقديمه في الخلافة ومتابعته ولم يتخلف منهم أحد ولم يكن ـ الرب جل وعلا ـ ليجمعهم على ضلالة فبايعوه طائعين وكانوا لأوامره ممتثلين ولم يعارض منهم أحد في تقديمه وما يزعمه الشيعة من أن علياً تخلف عن بيعته هو والزبير قد قدمنا قريباً ما يدل على بطلان هذا الزعم من ثبوت بيعتهما في البيعة العامة التي كانت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الثاني من بيعة السقيفة ومن زعم أن علياً والزبير رضي الله عنهما بايعا ظاهراً وخالفا باطناً فقد قال فيهما أقبح القول فهما رضي الله عنهما أجل قدراً وأكبر محلاً من هذا، وقد نقل إجماع الصحابة ومن جاء بعدهم من أهل السنة والجماعة على أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه أولى بالخلافة من كل أحد جماعة من أهل العلم المعتبرين.
فقد روى الخطيب البغدادي بإسناده إلى أبي محمد عبد الله بن محمد بن عثمان الحافظ أنه قال: أجمع المهاجرون والأنصار على خلافة أبي بكر قالوا له: يا خليفة رسول الله ولم يسم أحد بعده خليفة، وقيل: إنه قبض النبي صلى الله عليه وسلم عن ثلاثين ألف مسلم كل قال لأبي بكر: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضوا به من بعده رضي الله عنهم1.
__________
1ـ تاريخ بغداد 10/130-131.(2/550)
وقال أبو الحسن الأشعري: "أثنى الله ـ عز وجل ـ على المهاجرين والأنصار والسابقين إلى الإسلام، ونطق القرآن بمدح المهاجرين والأنصار في مواضع كثيرة وأثنى على أهل بيعة الرضوان فقال عز وجل: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} الآية1 قد أجمع هؤلاء الذين أثنى الله عليهم ومدحهم على إمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وسموه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعوه وانقادوا له وأقروا له بالفضل وكان أفضل الجماعة في جميع الخصال التي يستحق بها الإمامة من العلم والزهد وقوة الرأي وسياسة الأمة وغير ذلك"2
وقال أيضاً: بعد أن ذكر آيات من القرآن الكريم استدل بها على خلافة أبي بكر: "ومما يدل على إمامة الصديق رضي الله عنه أن المسلمين جميعاً تابعوه وانقادوا لإمامته ... ثم رأينا علياً والعباس قد بايعاه وأجمعا على إمامته فوجب أن يكون إماماً بعد النبي صلى الله عليه وسلم بإجماع المسلمين، ولا يجوز لقائل أن يقول: كان باطن علي والعباس خلاف ظاهرهما، ولو جاز هذا لمدعيه لم يصح إجماع وجاز لقائل أن يقول ذلك في كل إجماع المسلمين وهذا يسقط حجية الإجماع لأن الله ـ عز وجل ـ لم يتعبدنا في الإجماع بباطن الناس وإنما تعبدنا بظاهرهم وإذا كان ذلك كذلك فقد حصل الإجماع والاتفاق على إمامة أبي بكر الصديق"3.
وقال أبو بكر الباقلاني في معرض ذكره للإجماع على خلافة الصديق رضي الله عنه: "وكان رضي الله عنه مفروض الطاعة لإجماع المسلمين على طاعته وإمامته وانقيادهم له حتى قال أمير المؤمنين علي عليه السلام مجيباً لقوله رضي الله عنه لما قال: أقيلوني فلست بخيركم، فقال: لا نقيلك ولا نستقيلك قدمك رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا ألا ترضاك لدنيانا يعني بذلك حين قدمه للإمامة في الصلاة مع حضوره واستنابته في إمارة الحج فأمرك علينا وكان رضي الله عنه أفضل الأمة وأرجحهم
__________
1ـ سورة الفتح آية/18.
2ـ الإبانة عن أصول الديانة ص/66.
3ـ المصدر السابق ص/67-68.(2/551)
إيماناً وأكملهم فهماً وأوفرهم علماً"1.
وقال أبو عثمان الصابوني: "ويثبت أهل الحديث خلافة أبي بكر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم باختيار الصحابة واتفاقهم عليه، وقولهم قاطبة: رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا فرضيناه لدنيانا، وقولهم: قدمك رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن يؤخرك وأرادوا أنه صلى الله عليه وسلم قدمك في الصلاة بنا أيام مرضه فصلينا وراءك بأمره فمن ذا الذي يؤخرك بعد تقديمه إياك وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكلم في شأن أبي بكر في حال حياته مما يبين للصحابة أنه أحق الناس بالخلافة بعده فلذلك اتفقوا عليه واجتمعوا فانتفعوا بمكانه والله وارتفعوا به وارتقوا"2.
وقال أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي بعد ذكره روايات عدة في مبايعة الصحابة جميعاً بالخلافة لأبي بكر رضي الله عنه: "وقد صح بما ذكرنا اجتماعهم على مبايعته مع علي بن أبي طالب فلا يجوز لقائل أن يقول: كان باطن علي أو غيره بخلاف ظاهره فكان علي أكبر محلا وأجل قدراً من أن يقدم على هذا الأمر العظيم بغير حق أو يظهر للناس خلاف ما في ضميره ولو جاز هذا في اجتماعهم على خلافة أبي بكر لم يصح إجماع قط والإجماع أحد حجج الشريعة ولا يجوز تعطيله بالتوهم والذي روي أن علياً لم يبايع أبا بكر ستة أشهر ليس من قول عائشة إنما هو من قول الزهري فأدرجه بعض الرواة في الحديث عن عائشة في قصة فاطمة رضي الله عنهم وحفظه معمر بن راشد فرواه مفصلاً وجعله من قول الزهري منقطعاً من الحديث وقد روينا في الحديث الموصول عن أبي سعيد الخدري ومن تابعه من المغازي أن علياً بايعه في بيعة العامة بعد البيعة التي جرت في السقيفة ويحتمل أن علياً بايعه بيعة العامة كما روينا في حديث أبي سعيد الخدري وغيره، ثم شجر بين فاطمة وأبي بكر كلام بسبب الميراث إذ لم تسمع من رسول الله
__________
1ـ الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به ص/65.
2ـ عقيدة السلف وأصحاب الحديث ضمن مجموعة الرسائل المنيرية 1/128.(2/552)
صلى الله عليه وسلم في باب الميراث ما سمعه أبو بكر وغيره فكانت معذورة فيما طلبته وكان أبو بكر معذوراً فيما منع فتخلف علي عن حضور أبي بكر حتى توفيت، ثم كان منه تجديد البيعة والقيام بواجباتها كما قال الزهري ولا يجوز أن يكون قعود علي في بيته على وجه الكراهية لإمارته ففي رواية الزهري أنه بايعه بعد وعظم حقه ولو كان الأمر على غير ما قلنا لكانت بيعته آخراً خطأ، ومن زعم أن علياً بايعه ظاهراً وخالفه باطناً فقد أساء الثناء على علي، وقال فيه أقبح القول وقد قال علي في إمارته وهو على المنبر: ألا أخبركم بخير هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم قالوا: بلى قال: أبو بكر ثم عمر ونحن نزعم أن علياً كان لا يفعل إلا ما هو حق ولا يقول إلا ما هو صدق وقد فعل في مبايعة أبي بكر ومؤازرة عمر ما يليق بفضله وعلمه وسابقته وحسن عقيدته وجميل نيته في أداء النصح للراعي والرعية ... فلا معنى لقول من قال بخلاف ما قال وفعل وقد دخل أبو بكر الصديق على فاطمة في مرض موتها وترضاها حتى رضيت عنه فلا طائل لسخط غيرهما ممن يدعي موالاة أهل البيت ثم يطعن على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويهجن من يواليه ويرميه بالعجز والضعف واختلاف السر والعلانية في القول والفعل وبالله العصمة والتوفيق"1.
وقال عبد الملك الجويني: "أما إمامة أبي بكر رضي الله عنه فقد ثبتت بإجماع الصحابة فإنهم أطبقوا على بذل الطاعة والانقياد لحكمه ... وما تخرص به الروافض من إبداء علي شراساً2 وشماساً3 في عقد البيعة له كذب صريح، نعم لم يكن رضي الله عنه في السقيفة وكان مستخلياً بنفسه قد استفزه الحزن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم دخل فيما دخل الناس فيه وبايع أبا بكر على ملأ من الأشهاد"4.
__________
1ـ الاعتقاد ص/179-180.
2ـ الشراس: شدة المعاملة "مختار الصحاح" ص/346.
3ـ شموس: أي صعب الخلق "لسان العرب" 6/111.
4ـ كتاب الإرشاد ص/361.(2/553)
وقال ابن قدامة رحمه الله تعالى: "وهو ـ أي أبو بكر ـ أحق خلق الله تعالى بالخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم لفضله وسابقته وتقديم النبي صلى الله عليه وسلم له في الصلاة على جميع الصحابة رضوان الله عليهم، وإجماع الصحابة رضي الله عنهم على تقديمه ومتابعته ولم يكن الله ليجمعهم على ضلالة"1.
وقال أبو عبد الله القرطبي: "وأجمعت الصحابة على تقديم الصديق بعد اختلاف وقع بين المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة في التعيين حتى قالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير فدفعهم أبو بكر وعمر والمهاجرون عن ذلك وقالوا لهم: إن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش ورووا لهم الخبر في ذلك فرجعوا وأطاعوا لقريش"2.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في سياق رده على الرافضي: "فلما اتفقوا على بيعته3 ولم يقل قط أحد: إني أحق بهذا الأمر منه لا قرشي ولا أنصاري فإن من نازع أولاً من الأنصار لم تكن منازعته للصديق بل طلبوا أن يكون منهم أمير ومن قريش أمير وهذه منازعة عامة لقريش، فلما تبين لهم أن هذا الأمر في قريش قطعوا المنازعة وقال لهم الصديق: رضيت لكم أحد هذين الرجلين عمر بن الخطاب وأبي عبيدة بن الجراح قال عمر: فكنت والله أن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك إلى إثم أحب إلي أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر، وقال له بمحضر الباقين: أنت خيرنا وأفضلنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة، ثم بايعوا أبا بكر من غير طلب منه ولا رغبة بذلتهم ولا رهبة فبايعه الذين بايعوا الرسول تحت الشجرة والذين بايعوه ليلة العقبة، والذين بايعوه لما كانوا يهاجرون إليه والذين بايعوه لما كانوا يسلمون من غير هجرة كالطلقاء وغيرهم، ولم يقل أحد قط: إني أحق بهذا من أبي بكر ولا قاله أحد في
__________
1ـ لمعة الاعتقاد ص/27.
2ـ الجامع لأحكام القرآن 1/264.
3ـ الضمير عائد إلى أبي بكر رضي الله عنه.(2/554)
أحد بعينه إن فلاناً أحق بهذا الأمر من أبي بكر وإنما قال من فيه أثر جاهلية عربية أو فارسية: إن بيت الرسول أحق بالولاية لأن العرب ـ في جاهليتها ـ كانت تقدم أهل الرؤساء وكذلك الفرس يقدمون أهل بيت الملك فنقل عمن نقل عنه كلام يشير به إلى هذا وصاحب هذا الرأي لم يكن له غرض في علي بل كان العباس عنده بحكم رأيه أولى من علي، فأما الذين لا يحكمون إلا بحكم الإسلام المحض وهو التقديم بالإيمان والتقوى فلم يختلف منهم اثنان في أبي بكر ولا خالف أحد من هؤلاء ولا هؤلاء وفي أنه ليس في القوم أعظم إيماناً وتقوى من أبي بكر فقدموه مختارين له مطيعين فدل على كمال إيمانهم وتقواهم واتباعهم لما بعث الله به نبيهم من تقديم الأتقى فالأتقى وكان ما اختاره الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ولهم أفضل لهم والحمد لله على أن هدى هذه الأمة وعلى أن جعلنا من أتباعهم"1
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: "قد اتفق الصحابة رضي الله عنهم على بيعة الصديق حتى علي بن أبي طالب والزبير بن العوام رضي الله عنهما"2.
وقال يحيى بن أبي بكر العامري رحمه الله تعالى: "وقد كانت بيعته إجماعاً من الصحابة الذين هم أعرف بالحال وأدرى بصحة الدليل في المقال والإجماع حجة قطعية من غيرهم فما ظنك بهم"3.
فهذه النقول للإجماع عمن تقدم ذكره من الأئمة كلها وضحت أن أهل السنة والجماعة أجمعوا على أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه هو الأحق بالخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم لإجماع الصحابة على إمامته وانقيادهم له جميعاً وإطباقهم على مخاطبتهم له بالخلافة فقالوا بأجمعهم: يا خليفة رسول الله وما حصل عليه الإجماع لا يكون إلا حقاً فهذا سبيل المؤمنين أهل السنة والجماعة في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه فلا يجوز لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتبع سبيلاً غيره.
__________
1ـ منهاج السنة 3/269-270.
2ـ البداية والنهاية 6/340.
3ـ الرياض المستطابة في جملة من روى في الصحيحين من الصحابة ص/142-143.(2/555)
المبحث الخامس: ذكر بعض شبه الشيعة الإمامية في أن الخليفة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه وبيان بطلانها
يزعم الشيعة الإمامية بأن علياً رضي الله عنه هو الإمام بعد النبي صلى الله عليه وسلم بلا فصل ويدعون أن النبي صلى الله عليه وسلم نص عليه وأوصى له بالخلافة1 ويعتقدون هذا اعتقاداً جازماً والناظر بعين البصيرة في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم يجد أنه ليس هناك دليل فيهما يدل على معتقدهم هذا، وبالنظر في كتب الملل والنحل اتضح أن أول من أحدث هذه المقالة التي مضمونها أن علياً وصي النبي صلى الله عليه وسلم وأنه أوصى له بالخلافة ـ عبد الله بن سبأ اليهودي2 الذي رام بهذه المقالة الكيد للإسلام وتفريق كلمة المسلمين وقد تقبل مقالته الفاسدة من بعده الشيعة الإمامية والنظام3 ومن وافقه من فرق المعتزلة وقد جعل الشيعة الإمامة ركناً من أركان الإيمان التي لا يكمل إيمان الإنسان إلا بها4 بل بالغوا فيها حتى قالوا: إنها أفضل من أركان الإسلام الأخرى5 ثم زعموا أن كل إمام من أئمتهم من أهل البيت
__________
1ـ انظر الطرائف في معرفة مذهب الطوائف لابن طاووس 1/168 وما بعدها، الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم للعاملي 2/30-47، مقالات الإسلاميين 1/89، الفرق بين الفرق ص/59-60، الملل والنحل للشهرستاني 1/146.
2ـ الفرق بين الفرق ص/235، الملل والنحل للشهرستاني 1/174.
3ـ انظر الملل والنحل للشهرستاني 1/57.
4ـ جاء في كتاب الكافي للكليني 2/15 كتاب الإيمان والكفر باب دعائم الإسلام حديث رقم 1 فقد ذكر بإسناده إلى جعفر عليه السلام قال: بني الإسلام على خمس: على الصلاة، والزكاة والصوم، والحج، والولاية ولم يناد بشيء كما نودي بالولاية وانظر ما قاله الخميني في هذا الصدد في كتابه كشف الأسرار ص/149.
5ـ روى الكليني في "الكافي" أيضاً: 2/17 حديث رقم 5 عن أبي جعفر عليه السلام(2/556)
منصوص على إمامته بالتلميح تارة، وبالتصريح أخرى حيث إن كل إمام من أئمتهم يوصي بالإمامة لمن بعده1 ولكي يضللوا على جهلة المسلمين وليستميلوهم إلى اعتقاد أن الخليفة بعد النبي صلى الله عليه وسلم هو علي رضي الله عنه عمدوا إلى آيات من كتاب ـ تعالى ـ فيها ثناء ومدح لعامة عباد الله الصالحين وأوليائه المتقين وجعلوها خاصة برابع الخلفاء الراشدين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وجعلوا يؤولونها على حسب معتقدهم الباطل، كما اختلقوا كثيراً من الأحاديث لنصرة بدعتهم الفاسدة واعتقادهم الباطل ويجادلون بها على أنها أدلة مسلمة، وفي الحقيقة إنها شبه يصطادون بها جهلة المسلمين ومن قل نصيبه من العلم منهم وسأذكر في هذا المبحث طائفة من الآيات القرآنية، والأحاديث التي يذكرها عوامهم ومن يدعي العلم منهم عند محاجتهم في مسألة الإمامة وسأقرن تلك الآيات والأحاديث بالرد بما يبين بطلان دلالتهما على ما يدعون وما يهدفون إليه.
أولاً: ذكر بعض شبههم من الآيات القرآنية وهي:-
الشبهة الأولى:
قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} 2 وجه استدلالهم بهذه الآية أنهم يذكرون عن ابن عباس أنه قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب عليه فقال: "سأله بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين أن يتوب عليه فتاب عليه" وهذه فضيلة لم يلحقه أحد من الصحابة فيها فيكون هو الإمام لمساواته النبي صلى الله عليه وسلم في التوسل به إلى الله3.
__________
= بني على خمس أشياء على الصلاة، والزكاة، والحج، والصوم، والولاية. قال زرارة: فقلت وأي شيء من ذلك أفضل؟ فقال: الولاية أفضل لانها مفتاحهن والوالي هو الدليل عليهن قلت: ثم الذي يلي ذلك في الفضل؟ فقال: الصلاة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الصلاة عمود دينكم. ..إلخ".
1ـ الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم للعاملي 2/160-170.
2ـ سورة البقرة آية/37.
3ـ منهاج الكرامة لابن المكرم الحلي المطبوع مع كتاب منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية 4/36- وانظر تفسير العياشي 1/41، تفسير فرات الكوفي ص/13، كتاب الصافي في تفسير القرآن 1/82-83، ص/138.(2/557)
وهذا الاستدلال باطل من وجوه:
الأول: أنهم يطالبون بثبوت هذا النقل إلى ابن عباس ولا سبيل لهم إلى هذا.
الثاني: أن هذا الذي نسبوه إلى ابن عباس كذب موضوع باتفاق أهل العلم وقد أورده أبو الفرج بن الجوزي في الموضوعات1 من أفراد أبي الحسن علي بن عمر الدارقطني فإن له كتباً في الأفراد والغرائب قال الدارقطني: تفرد به حسين الأشقر2 رواي الموضوعات عن الأثبات عن عمرو3 بن ثابت وليس بثقة ولا مأمون.
الثالث: أن الكلمات التي تلقاها آدم قد جاءت مفسرة في قوله تعالى: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} 4 وقد روي عن السلف هذا وما يشبهه وليس في شيء من النقول الثابتة لتفسير الآية ما يذكره الشيعة من القسم.
الرابع: أن الكفار والفساق إذا تاب أحدهم إلى الله تاب الله عليه وإن لم يقسم عليه بأحد فكيف يحتاج آدم في توبته إلى ما لا يحتاج إليه أحد من المذنبين لا مؤمن ولا كافر، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر أحداً في توبته بمثل هذا الدعاء.
__________
1ـ الموضوعات 3/3.
2ـ هو الحسين بن الحسن الأشقر الفزاري الكوفي صدوق يهم ويغلو في التشيع من العاشرة مات سنة ثمان ومائتين، قال أبو يعلى: سمعت أبا معمر الهذلي يقول: الأشقر كذاب. وقال ابن معين: كان من الشيعة الغالية "انظر ترجمته وأقوال العلماء فيه " كتاب الضعفاء الكبير للعقيلي 1/249-250، تهذيب التهذيب 2/335-337.
3ـ هو عمرو بن ثابت وهو ابن أبي المقدام الكوفي مولى بكر بن وائل ضعيف رمي بالرفض من الثامنة مات سنة اثنين وسبعين وهو رافضي خبيث "انظر ترجمته وأقوال العلماء فيه" في تهذيب التهذيب 8/9-10، ميزان الاعتدال 3/249.
4ـ سورة الأعراف آية/23.(2/558)
الخامس: يقال لهم: إن هذه الخصيصة المكذوبة التي ذكرتموها ليست من خصائض الأئمة إذ أنها حسب زعمكم ثابتة لفاطمة رضي الله عنها وخصائص الأئمة لا تثبت للنساء وما لم يكن من خصائصهم لم يستلزم الإمامة فإن دليل الإمامة لا بد أن يكون ملزوماً لها يلزم من وجوده استحقاقها فلو كان هذا دليلاً على الإمامة لكان من يتصف به يستحقها والمرأة لا تكون إماماً بالنص والإجماع.1
الشبهة الثانية:
قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} 2 الآية، وجه استدلالهم بهذه الآية أنهم ينسبون إلى ابن مسعود أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "انتهت الدعوة إلي وإلى علي لم يسجد أحدنا لصنم قط فاتخذني نبياً واتخذ علياً وصياً" وهذا نص في الباب3.
والرد على هذا الاستدلال من وجوه:
الأول: إن هذا الحديث كذب باتفاق الحفاظ.
الثاني: أن قوله انتهت الدعوة إلينا كلام لا يجوز أن ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإنه إن أريد أنها لم تصب من قبلنا كان ممتنعاً لأن الأنبياء من ذرية إبراهيم دخلوا في الدعوة فقد قال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَةِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ} 4 وقال عن بني إسرائيل: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} 5 ففي هاتين الآيتين إخبار بأنه ـ تعالى ـ جعل أئمة
__________
1ـ انظر منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية 4/36، الميزان في تفسير القرآن محمد حسين الطباطبائي 1/279.
2ـ سورة البقرة آية/124.
3ـ منهاج الكرامة لابن المطهر الحلي المطبوع مع كتاب "منهاج السنة" 4/36، المنتقى للذهبي ص/439.
4ـ سورة الأنبياء آية/73.
5ـ سورة السجدة آية/24.(2/559)
من ذرية إبراهيم قبل أمتنا، وإن أريد انتهت الدعوة إلينا أنه لا إمام بعدنا لزم ألا يكون باقي الاثني عشر أئمة.
الثالث: أن كونه لم يسجد لصنم فضيلة يشاركه فيها جميع من ولد على الإسلام مع أن السابقين الأولين أفضل منهم فكيف يجعل المفضول مستحقاً لهذه المرتبة دون الفاضل وليس كل من لم يكفر أو من لم يأت بكبيرة أفضل ممن تاب عنها مطلقاً بل قد يكون التائب من الكفر والفسوق أفضل ممن لم يكفر ولم يفسق كما دل على ذلك الكتاب فإن الله فضل الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا على الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وأولئك كلهم أسلموا من بعد وهؤلاء فيهم من ولد على الإسلام، وفضل السابقين الأولين على التابعين لهم بإحسان وأولئك آمنوا بعد الكفر والتابعون ولدوا على الإسلام وقد ذكر الله في القرآن أن لوطاً آمن لإبراهيم وبعثه الله نبياً وقال شعيب: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} 1 وقد أخبر الله عن إخوة يوسف بما أخبر ثم نبأهم بعد توبتهم وهم الأسباط الذين أمرنا أن نؤمن بما أوتوا وإذا كان في هؤلاء من صار نبياً فمعلوم أن الأنبياء أفضل من غيرهم وهذا مما تنازع فيه الرافضة وغيرهم ويقولون من صدر منه ذنب لا يصير نبياً والنزاع فيمن أسلم أعظم لكن الاعتبار بما دل عليه الكتاب والسنة والذين منعوا من هذا عمدتهم أن التائب من الذنب يكون ناقصاً مذموماً لا يستحق النبوة ولو صار من أعظم الناس طاعة وهذا هو الأصل الذي نوزعوا فيه والكتاب والسنة يدلان على بطلان قولهم فيه"2.
وبهذه الوجوه اتضح بطلان استدلال الشيعة بالآية الكريمة على إمامة علي رضي الله عنه
__________
1ـ سورة الأعراف آية/89.
2ـ منهاج السنة 4/37، وانظر المنتقى للذهبي ص/439.(2/560)
الشبهة الثالثة: آية المباهلة:
وهي قوله تعالى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} 1.
ووجه استدلالهم بهذه الآية على إمامة علي رضي الله عنه أنهم يزعمون أنها دلت على أفضليته من وجهين:
أحدهما: أن موضوع المباهلة ليتميز المحق من المبطل وذلك لا يصح أن يفعل إلا بمن هو مأمون الباطن مقطوعاً على صحة عقيدته أفضل الناس عند الله.
الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم جعله مثل نفسه بقول: {وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ} لأنه أراد بقوله: {أبناءنا} الحسن والحسين ((ع)) وبقوله: {أنفسنا} نفسه ونفس علي ((ع)) ... وإذا جعله مثل نفسه وجب أن لا يدانيه ولا يقاربه في الفضل أحد2.
قال السماوي مبيناً وجه الدلالة من الآية على ما يريده الشيعة: "فإذا عرفنا أن علياً بنص الكتاب هو نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ... فهل يصح الرجوع إلى أحد من الناس أياً كان ونفس الرسول موجود بينهم وهل يحكم الناس حاكم ... ونفس الرسول حاضر"3.
وقال ابن المطهر الحلي مبيناً وجه الدلالة من الآية: "نقل الجمهور كافة أن أبناءنا إشارة إلى الحسن والحسين ونساءنا إشارة إلى فاطمة، وأنفسنا إشارة إلى علي وهذه الآية دليل على ثبوت الإمامة لعلي لأنه تعالى قد جعله نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم والاتحاد محال فيبقى المراد بالمساواة له الولاية وأيضاً لو كان غير
__________
1ـ سورة آل عمران آية/61.
2ـ تفسير التبيان للطوسي 3/485.
3ـ الإمامة في صوء الكتاب والسنة 2/98-99.(2/561)
هؤلاء مساوياً لهم وأفضل منهم في استجابة الدعاء لأمره تعالى بأخذهم معه لأنه في موضوع الحاجة وإذا كانوا هم الأفضل تعينت الإمامة فيهم وهل تخفى دلالة هذه الآية على المطلوب إلا على من استحوذ الشيطان عليه وأخذ بمجامع قلبه وحببت إليه الدنيا التي لا ينالها إلا بمنع أهل الحق من حقهم"1.
والرد على استدلالهم هذا:
يقال لهم: إن استدلالكم بهذه الآية على إمامة علي رضي الله عنه مردود وباطل ودليل واضح على الجهل والقول بغير علم إذ تقريرهم أن الرسول عنى بقوله: أنفسنا نفسه ونفس علي غير مسلم لهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى مبيناً بطلان فهمهم من الآية مساواة علي للرسول صلى الله عليه وسلم حيث قال: "وهو خلاف المستعمل في لغة العرب ومما يبين ذلك أن قوله: {نساءنا} لا يختص بفاطمة بل من دعاه من بناته كانت بمنزلتها في ذلك لكن لم يكن عنده إذ ذاك إلا فاطمة، فإن رقية وأم كلثوم كن قد توفين قبل ذلك فكذلك أنفسنا ليس مختصاً بعلي بل هو صيغة جمع كما أن نساءنا صيغة جمع وكذلك أبناءنا صيغة جمع وإنما دعا حسناً وحسيناً لأنه لم يكن ممن ينسب إليه بالبنوة سواهما"2 "وجاء في مختصر التحفة الاثنى عشرية" وما قاله علماؤهم بأن الشخص لا يدعو نفسه فكلام مستهجن إذ قد شاع وذاع في العرف القديم والجديد أن يقال: دعته نفسه إلى كذا ودعوت نفسي إلى كذا {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ} 3، وأمرت نفسي، وشاورت نفسي إلى غير ذلك من الاستعمالات الصحيحة الواقعة في كلام البلغاء فكان معنى (ندع أنفسنا) نحضر أنفسنا وأيضاً: لو قررنا أن الأمير من قبل النبي لمصداق (أنفسنا) فمن
__________
1ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/33-34، حق اليقين 1/148، كتاب الصافي في تفسير القرآن 1/268.
2ـ منهاج السنة 4/35.
3ـ سورة المائدة آية/30.(2/562)
تقرره، من قبل الكفار لمصداق (أنفسكم) في أنفس الكفار مع أنهم مشتركون في صيغة (ندعو) ولا معنى لدعوة النبي إياهم وأبناءهم بعد قوله: (تعالوا) فعلم أن الأمير داخل في الأبناء حكماً كما أن الحسنين داخلان في الأبناء كذلك لأنهما ليسا بابنين حقيقة ولأن العرف يعد الختن من غير ريبة في ذلك وأيضاً: قد جاء لفظ النفس بمعنى الشريك في النسب والدين كقوله تعالى: {وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} 1 أي: أهل دينكم {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} 2 {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً} 3 فلما كان للأمير اتصال بالنبي صلى الله عليه وسلم، في النسب والقرابة والمصاهرة واتحاد في الدين والملة وكثرة المعاشرة والألفة وهذا غير بعيد فلا يلزم المساواة"4
ولو سلم للشيعة بمساواة علي للرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الصفات كما يزعمون للزم من ذلك "اشتراكه في خصائص النبوة وغيرها من الأحكام الخاصة به وهو باطل بالإجماع لأن التابع دون المتبوع، وأيضاً: لو كانت الآية دليلاً لإمامته لزم ـ أن يكون علي ـ إماماً في زمنه صلى الله عليه وسلم وهو باطل بالاتفاق وإن قيدوا بوقت دون وقت فالتقييد لا دليل عليه في اللفظ فلا يكون مفيداً للمدعي إذ هو غير متنازع فيه"5.
أما زعمهم لو كان غير من دعاهم عند المباهلة مساوياً لهم وأفضل منهم في استجابة الدعاء لأمره تعالى بأخذهم معه لأنه في موضع الحاجة وإذا كانوا هم الأفضل تعينت الإمامة فيهم يقال لهم: "لم يكن المقصود من أخذه صلى الله عليه وسلم علياً وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم إجابة الدعاء إذ دعاؤه صلى الله عليه وسلم وحده كاف
__________
1ـ سورة البقرة آية/84.
2ـ سورة الحجرات آية/11.
3ـ سورة النور آية/12.
4ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/156.
5ـ المصدر السابق نفس الصفحة.(2/563)
ولو كان المراد بمن دعاه معه أن يستجاب دعاؤه لدعا المؤمنين كلهم ودعا بهم كما كان يستسقي بهم وكما كان يستفتح بصعاليك المهاجرين وكان يقول: "فهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم"1 أي: بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم ومن المعلوم وإن كان علي وفاطمة والحسن والحسين مجابي الدعوة فكثرة الدعاء أبلغ في الإجابة لكن لم يكن المقصود من دعوة من دعاه إجابة دعائه بل لأجل المقابلة بين الأهل والأهل، ومن المعلوم بالضرورة لدى كل مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لو دعا أبا بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وغيرهم للمباهلة لكانوا من أعظم الناس استجابة لأمره وكان دعاء هؤلاء وغيرهم أبلغ في إجابة الدعاء لكن لم يأمره الله ـ سبحانه ـ بأخذهم لأنه لم يحصل به المقصود فإن المقصود أن أولئك يأتون بمن يشفقون عليه طبعاً كأبنائهم ونسائهم ورجالهم الذين هم أقرب الناس إليهم فلو دعا النبي صلى الله عليه وسلم قوماً أجانب لأتى أولئك بأجانب ولم يكن يشتد عليهم نزول البهلة بأولئك الأجانب كما يشتد عليهم نزولها بالأقربين إليهم فإن طبع البشر يخاف على أقربيه ما لا يخاف على الأجانب فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو قرابته وأن يدعو أولئك قرابتهم"2.
فتبين مما تقدم ذكره عن أهل العلم أن الآية ليست فيها ما يدل على إمامة علي وبنيه كما يزعم الشيعة ذلك وأن استدلال الشيعة بها على هذا المطلب تعسف منهم وتلكف خاطئ وفاسد وغاية ما تدل عليه الآية هو اختصاص علي رضي الله عنه بهذه المنقبة على غيره من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين وكون الرسول صلى الله عليه وسلم أشركه في المباهلة إنما هو إرضاء للخصم وإفحام له إذ المعروف من طبيعة الإنسان ألا يعرض أقاربه للهلاك فكونه عليه الصلاة والسلام يدعو ألصق الناس به وأقربهم إليه دليل واضح على صحة نبوته ولهذا لما رأى نصارى
__________
1ـ انظر الحديث في مسند أحمد 5/198، صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 6/88 من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
2ـ منهاج السنة 4/35.(2/564)
نجران صدقه خافوا على أنفسهم وتخلوا عن مباهلته ولكن الشيعة لما ابتلوا بدفع الحق وعدم التسليم له أصيبوا بعدم فهم ما تدل عليه آيات الكتاب العزيز.
الشبهة الرابعة:
قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} 1 ووجه استدلالهم بهذه الآية أنهم يكذبون على الثعلبي أنه قال: إنما نزلت في علي وهذا دليل على أنه أفضل فيكون هو الإمام2.
وهذا الاستدلال مردود بوجوه:
الوجه الأول: أن هذا كذب على الثعلبي وأنه قال في تفسيره لهذه الآية: قال علي وقتادة والحسن أنهم أبو بكر وأصحابه.
الوجه الثاني: أن هذا قول بلا حجة فلا يجب قبوله ولا الالتفات إليه.
الوجه الثالث: أن قولهم هذا معارض لما هو أشهر منه وأظهر وهو أنها نزلت في أبي بكر وأصحابه3 الذين قاتلوا معه أهل الردة وهذا هو المعروف كما تقدم، لكن الشيعة أرادوا أن يجعلوا فضائل الصديق لعلي وهذا من المكر السيء الذي لا يحيق إلا بأهله.
ولا يشك مسلم في أن علياً رضي الله عنه ممن كان يحب الله ويحبه الله لكن ليس بأحق بهذه الصفة من أبي بكر وعمر وعثمان ولا كان جهاده للكفار أعظم من جهاد هؤلاء ولا حصل به من المصلحة للدين أعظم مما حصل بهؤلاء بل كل منهم له سعي مشكور وعمل مبرور وآثار صالحة في الإسلام والله يجزيهم عن الإسلام وأهله خير الجزاء فهم الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون.
__________
1ـ سورة المائدة آية/54.
2ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/58، وانظر تفسير العياشي 1/327، تفسير القمي 1/170، "كتاب الصافي" في تفسير القرآن 1/488.
3ـ انظر جامع البيان للطبري 6/285، الدر المنثور للسيوطي 3/102.(2/565)
الوجه الرابع: يقال لهم: على سبيل الفرض: إنها نزلت في علي فهل يصح أن يقول قائل: إنها مختصة به ولفظها يصرح بأنهم جماعة قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} إلى قوله: {وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} فهذا صريح في أن هذا ليسوا رجلا واحداً فإن الواحد لا يسمى قوماً في لغة العرب لا حقيقة ولا مجازاً، ولو قيل: المراد هو شيعته لقيل إذا كانت الآية أدخلت مع علي غيره فلا ريب أن الذين قاتلوا الكفار والمرتدين أحق بالدخول فيها من غيرهم.
الوجه الخامس: أن قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} لفظ مطلق ليس فيه تعيين وهو متناول لمن قام بهذه الصفات كائناً من كان لا يختص ذلك بأبي بكر ولا بعلي وإذا لم يكن مختصاً بأحدهما لم يكن هذا من خصائصه فبطل أن يكون بذلك أفضل ممن يشاركه فيه فضلاً عن أن يستوجب بذلك الإمامة بل هذه الآية تدل على أنه لا يرتد أحد إلى يوم القيامة إلا أقام الله قوماً يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون هؤلاء المرتدين1.
وبهذه الوجوه الخمسة يبطل استدلال الشيعة بهذه الآية على إمامة علي رضي الله عنه.
الشبهة الخامسة: آية الولاية.
وهي قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} 2.
ووجه استدلالهم بهذه الآية أنهم يدعون الإجماع أنها نزلت في علي رضي الله عنه ويذكرون حديثاً يعزونه إلى تفسير الثعلبي عن أبي ذر أنه قال: سمعت
__________
1ـ منهاج السنة 4/58-60، وانظر المنتقى للذهبي ص/451-452.
2ـ سورة المائدة آية/55.(2/566)
رسول الله صلى الله عليه وسلم بهاتين وإلا صمتا ورأيته بهاتين وإلا عميتا يقول: علي قائد البررة وقاتل الكفرة فمنصور من نصره ومخذول من خذله أما إني صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً صلاة الظهر فسأل سائل فلم يعطه أحد شيئاً فرفع السائل يده إلى السماء وقال: اللهم إنك تشهد أني سألت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يعطني أحد شيئاً وكان علي راكعاً فأومأ بخنصره اليمنى وكان متختماً فيها فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم وذلك بعين النبي صلى الله عليه وسلم فلما فرغ من صلاته رفع رأسه إلى السماء وقال: "اللهم إن موسى سألك وقال: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} 1 فأنزلت عليه قرآنا ناطفاً {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآياتِنَا} اللهم وأنا محمد نبيك وصفيك اللهم فاشرح لي صدري ويسر لي أمري واجعل لي وزيراً من أهلي علياً اشدد به ظهري" قال أبو ذر: فما استتم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل عليه جبريل من عند الله فقال: "يا محمد اقرأ قال: وما أقرأ قال: اقرأ {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} 2.
قال ابن المطهر الحلي مبيناً وجه الدلالة من الآية: "ونقل ابن المغازلي الواسطي الشافعي أن هذه الآية نزلت في علي، والولي هو المتصرف وقد أثبت له الولاية في الآية كما أثبتها الله تعالى لنفسه ولرسوله"3.
وقال الطوسي: "ووجه الدلالة فيها أنه قد ثبت أن الولي في الآية بمعنى
__________
1ـ سورة طه آية/25-32.
2ـ ذكر هذا الخبر ابن المطهر الحلي وانظر منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/2، تفسير فرات الكوفي ص/38-40، العياشي 1/327، تفسير القمي 1/170، تفسير الكاشاني المسمى كتاب الصافي في تفسير القرآن 1/450-451.
3ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/2.(2/567)
الأولى والأحق وثبت أيضاً: أن المعني بقوله: {الذين آمنوا} أمير المؤمنين1.
((ع)) .
والناظر بعين البصيرة يرى أن هذا الخبر الذي ساقوه لبيان وجه دلالة الآية على إمامة علي رضي الله عنه بعد النبي صلى الله عليه وسلم بلا فصل خبر مفترى وكذب على النبي صلى الله عليه وسلم يعرف فيه ذلك من ألفاظه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وقد وضع بعض الكذابين حديثاً مفترى أن هذه الآية نزلت في حق علي لما تصدق بخاتمه في الصلاة وهذا كذب بإجماع أهل العلم بالنقل"2.
وقد بين رحمه الله وجوه بطلان هذا الخبر المفترى فقال: "وكذبه بين من وجوه كثيرة: منها أن قوله: الذين، صيغة جمع وعلي واحد.
ومنها: أن الواو ليست واو الحال إذ لو كان كذلك كان لا يسوغ أن يتولى إلا من أعطى الزكاة في حال الركوع فلا يتولى سائر الصحابة والقرابة ومنها: أن المدح إنما يكون بعمل واجب أو مستحب وإيتاء الزكاة في نفس الصلاة ليس واجباً ولا مستحباً باتفاق علماء الملة فإن في الصلاة شغلاً ومنها: أنه لو كان إيتاؤها في الصلاة حسناً لم يكن فرق بين حال الركوع وغير حال الركوع بل إيتاؤها في القيام والقعود أمكن ومنها: أن علياً لم يكن عليه زكاة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
ومنها أن إيتاء غير الخاتم في الزكاة خير من إيتاء الخاتم فإن أكثر الفقهاء يقولون لا يجزئ إخراج الخاتم في الزكاة.
ومنها أن هذا الحديث فيه أنه أعطاه السائل والمدح في الزكاة أن يخرجها ابتداء ويخرجها على الفور لا ينتظر أن يسأله سائل، ومنها: أن الكلام في سياق
__________
1ـ تفسير التبيان للطوسي 3/559، وانظر المفصح في إمامة أمير المؤمنين له أيضاً: ص/129.
2ـ منهاج السنة 1/155-156.(2/568)
النهي عن موالاة الكفار والأمر بموالاة المؤمنين كما يدل عليه سياق الكلام"1.
وقال أيضاً: رحمه الله تعالى: "إن ألفاظ الحديث مؤذنة بأنه حديث موضوع على النبي صلى الله عليه وسلم فإن علياً رضي الله عنه ليس قائداً لكل البررة بل لهذه الأمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس هو أيضاً: قاتلاً لكل الكفرة بل قتل بعضهم كما قتل غيره بعضهم وما أحد من المجاهدين القاتلين لبعض الكفار إلا وهو قاتل لبعض الكفرة وكذلك قوله: منصور من نصره مخذول من خذله هو خلاف الواقع والنبي صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا حقاً ... وأيضاً: فالدعاء الذي عن النبي صلى الله عليه وسلم عقب التصديق بالخاتم من أظهر الكذب لأن من المعلوم أن الصحابة رضي الله عنهم أنفقوا في سبيل الله وقت الحاجة إليه ما هو أعظم قدراً ونفعاً من إعطاء سائل خاتماً وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما نفعني مال كمال أبي بكر إن أمن الناس علي في صحبته وذات يده أبو بكر ولو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً "2.
وقد تصدق عثمان بألف بعير في سبيل الله في غزوة العسرة حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم" 3.
والإنفاق في سبيل الله وفي إقامة الدين في أول الإسلام أعظم من صدقة على سائل محتاج ـ والإنفاق ـ الذي صدر في أول الإسلام في إقامة الدين ما بقي له نظير يساويه وأما إعطاء السائلين لحاجتهم فهذا البر يوجد مثله إلى يوم القيامة فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لأجل تلك النفقات العظيمة النافعة الضرورية لا يدعو بمثل هذا الدعاء فكيف يدعو هذه لأجل إعطاء خاتم لسائل قد يكون كاذباً في سؤاله ولا ريب أن هذا ومثله من كذب جاهل أراد أن يعارض ما ثبت لأبي بكر بقوله: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} 4 بأن يذكر لعلي رضي الله عنه
__________
1ـ منهاج السنة 1/155-156.
2ـ صحيح البخاري 2/289.
3ـ انظر سنن الترمذي 5/289.
4ـ سورة الليل آية/17-21.(2/569)
من هذا الجنس فما أمكنه أن يكذب أنه فعل ذلك في أول الإسلام فكذب هذه الأكذوبة التي لا تروج إلا على جاهل.. إلى أن قال: فمن زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل الله أن يشد بشخص من الناس كما سأله موسى أن يشد أزره بهارون فقد افترى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبخسه حقه"1.
وقد خطأ ابن كثير رحمه الله تعالى من ظن أن قوله تعالى في الآية: {وَهُمْ رَاكِعُونَ} جملة حالية وعلل ذلك بأنه: يلزم منه أن يكون دفع الزكاة في حال الركوع أفضل من غيره لأنه ممدوح وليس الأمر كذلك عند أحد من العلماء وممن نعلمه من أئمة الفتوى2.
وقال الدهلوي مبيناً عدم نزول الآية في علي وعدم صحة الحديث الذي اختلقه الرافضة لبيان دلالتها على إمامة علي رضي الله عنه حيث قال: وأما القول بنزولها في حق علي بن أبي طالب ورواية قصة السائل وتصدقه بالخاتم عليه في حالة الركوع فإنما هو للثعلبي فقط وهو متفرد به ولا يعد المحدثون من أهل السنة روايات الثعلبي قدر شعيرة ولقبوه بحاطب ليل3 فإنه لا يميز بين الرطب واليابس وأكثر رواياته عن الكلبي عن أبي صالح وهو من أوهى ما يروي في التفسير عندهم4.
وأما زعم الشيعة أن لفظ: الولي هو المتصرف وقد أثبتت له5 الولاية في الآية كما أثبتها الله تعالى لنفسه ولرسوله.
فهذا يدل على جهل الشيعة حيث "يجعلون الولي هو الأمير ولم يفرقوا بين الولاية بالفتح والولاية بالكسر والأمير يسمى الوالي ولكن قد يقال: هو ولي الأمر كما يقال: وليت أمركم، ويقال: أولو الأمر وأما إطلاق القول بالمولى وإرادة
__________
1ـ منهاج السنة 4/6-7.
2ـ انظر تفسير القرآن العظيم 2/597.
3ـ انظر منهاج السنة 4/4.
4ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/141-142.
5ـ الضمير يعود إلى علي رضي الله عنه.(2/570)
الولي فهذا لا يعرف بل يقال في الولي المولى ولا يقال: الوالي فتبين أن الآية دلت على الموالاة المخالفة للمعاداة الثابتة لجميع المؤمنين بعضهم على بعض وهذا مما يشترك فيه الخلفاء الأربعة وسائر أهل بدر وأهل بيعة الرضوان فكلهم بعضهم أولياء بعض ولم تدل الآية على أحد منهم يكون أميراً على غيره بل هذا باطل إذ لفظ الولي والولاية غير لفظ الوالي والآية عامة في المؤمنين والإمارة لا تكون عامة"1.
وبما تقدم ذكره اتضح بطلان استدلال الشيعة على إمامة علي رضي الله عنه إذ هي بعيدة كل البعد عن مراد الشيعة من حيث النزول والدلالة.
الشبهة السادسة:
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} 2 وجه استدلالهم بهذه الآية أنهم يقولون: إن الحافظ أبا نعيم الأصبهاني روى بإسناده إلى ابن عباس قال: نزلت في علي والود محبة في القلوب المؤمنة، وفي تفسير الثعلبي عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: "يا علي قل اللهم اجعل لي عندك عهداً واجعل لي في صدور المؤمنين مودة" فأنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} ولم يثبت لغيره ذلك فيكون هو الإمام3.
والرد على هذا الاستدلال وبيان بطلانه من وجوه:
الوجه الأول: أنهم يطالبون بالدليل على صحة هذا النقل وإلا فالاستدلال بما لا تثبت مقدماته باطل بالاتفاق وهو من القول بلا علم ومن قفو الإنسان، ما ليس له به علم ومن المحاجة بغير علم والعزو المذكور لا يقبل الثبوت باتفاق
__________
1ـ منهاج السنة النبوية 4/8.
2ـ سورة مريم آية/96.
3ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/37، وانظر تفسير فرات الكوفي ص/88-89، تفسير القمي 2/56، تفسير الكاشاني المسمى "الصافي" في تفسير القرآن 2/58.(2/571)
أهل السنة والشيعة.
الوجه الثاني: أن هذين الحديثين من الكذب باتفاق أهل المعرفة بالحديث.
الوجه الثالث: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} عام في جميع المؤمنين فلا يجوز تخصيصها بعلي بل هي متناولة لعلي وغيره والدليل على ذلك أن الحسن والحسين وغيرهما من المؤمنين الذين تعظمهم الشيعة داخلون في الآية فعلم بذلك الإجماع على عدم اختصاصها بعلي رضي الله عنه.
الوجه الرابع: أن الله ـ تعالى ـ أخبر أنه سيجعل للذين آمنوا وعملوا الصالحات وداً وهذا وعد منه صادق والله لا يخلف الميعاد فقد جعل للصحابة رضي الله عنهم الود في قلوب جماهير المسلمين ولا سيما الخلفاء رضي الله عنهم ولا سيما أبو بكر وعمر وعلي رضي الله عنه في مقدمة من يودهما ويحبهما رضي الله عن صحابة نبيه أجمعين"1.
وبهذه الوجوه تبين أنه لا دلالة في الآية على ما تدعيه الشيعة من تقديم علي رضي الله عنه في الإمامة.
الشبهة السابعة:
قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} 2 ووجه استدلالهم بها أنهم يقولون: قال الثعلبي بإسناده عن أنس وبريدة قالا: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية فقام رجل فقال: أي بيوت هذه يا رسول الله فقال: "بيوت الأنبياء" فقام إليه أبو بكر فقال: يا رسول الله هذا البيت منها يعني بيت علي وفاطمة، قال: "نعم من أفضلها"، وصف فيها الرجال بما يدل على أفضليتهم؛ فيكون علي هو الإمام وإلا لزم
__________
1ـ انظر منهاج السنة 4/37-38.
2ـ سورة النور آية/37.(2/572)
تقديم المفضول"1.
واستدلالهم بهذه الآية مردود لوجوه:
الوجه الأول: أنهم يطالبون بصحة هذا النقل إذ مجرد عزو ذلك إلى الثعلبي ليس بحجة باتفاق أهل السنة والشيعة وليس كل خبر رواه واحد من الجمهور يكون حجة عند الجمهور بل علماء الجمهور بل علماء الجمهور متفقون على أن ما يرويه الثعلبي وأمثاله لا يحتجون به لا في فضيلة أبي بكر وعمر ولا في إثبات حكم من الأحكام إلا أن يعلم ثبوته بطريقه ... ثم علماء الجمهور متفقون على أن الثعلبي وأمثاله يروون الصحيح والضعيف ومتفقون على أن مجرد روايته لا توجب اتباع ذلك ... وتفسيره وإن كان غالب الأحاديث التي فيه صحيحة ففيه ما هو كذب موضوع باتفاق أهل العلم.
الوجه الثاني: أن هذا الحديث موضوع عند أهل المعرفة بالحديث ولهذا لم يذكره علماء الحديث في كتبهم التي يعتمد عليها في الحديث كالصحاح والسنن والمسانيد مع أن في بعض هذه الكتب ما هو ضعيف بل ما يعلم أنه كذب لكن هذا قليل جداً وأما هذا الحديث وأمثاله فهو أظهر كذباً من أن يذكروه في مثل ذلك.
الوجه الثالث: أن يقال: الآية باتفاق الناس هي في المساجد كما قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} الآية وبيت علي ليس موصوفاً بهذه الصفة.
الوجه الرابع: يقال لهم: بيت النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من بيت علي باتفاق المسلمين ومع هذا لم يدخل في هذه الآية لأنه ليس في بيته رجال وإنما فيه هو والواحدة من نسائه ولما أراد بيت النبي قال: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} 2 وقال
__________
1ـ منهاج الكرامة في معرفة الإمامة لابن المطهر مع منهاج السنة 4/25، وانظر" تفسير فرات الكوفي" ص/103، تفسير القمي 2/104.
2ـ سورة الأحزاب آية/53.(2/573)
{وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ} 1.
الوجه الخامس: دعواهم أن الآية في بيوت الأنبياء كذب فإنه لو كان كذلك لم يكن لسائر المؤمنين فيها نصيب وقوله: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} متناول لكل من كان بهذه الصفة. إذ لفظ الآية دل على أنهم رجال، وليسوا رجلا واحداً فهذا دليل على أن هذا لا يختص بعلي بل هو وغيره مشتركون فيها وحينئذ فلا يلزم أن يكون أفضل من المشاركين له فيها.
السادس: وأما دعواهم امتناع تقديم المفضول على الفاضل فإنه إذا سلم فإنما هو في مجموع الصفات التي تناسب الإمامة وإلا فليس كل من فضل في خصلة من الخير استحق أن يكون هو الإمام ولو جاز هذا لقيل ففي الصحابة من قتل من الكفار أكثر مما قتل علي وفيهم من كان عنده من العلم ما ليس عند علي وبالجملة لا يمكن أن يكون واحد من الأنبياء له مثل ما لكل واحد من الصحابة من كل وجه ولا أحد من الصحابة يكون له مثل ما لكل واحد من الصحابة من كل وجه ولا أحد من الصحابة يكون له مثل ما لكل واحد من الأنبياء من كل وجه ولا أحد من الصحابة يكون له مثل ما لكل واحد من الصحابة من كل وجه بل يكون في المفضول نوع من الأمور التي يمتاز بها عن الفاضل ولكن الاعتبار في التفضيل بالمجموع2.
فالآية لا دلالة فيها على ما ذهب إليه الرافضة حيث إن المراد بالبيوت فيها هي المساجد وهي عامة في كل من لا تلهيه تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وليس فيها دلالة على إمامة علي رضي الله عنه ولا على أفضليته.
الشبهة الثامنة: آية التطهير:
وهي قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ
__________
1ـ سورة الأحزاب آية/34.
2ـ منهاج السنة النبوية 4/25-26. وانظر المنتقى للذهبي ص/431.(2/574)
وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} 1 هذه الآية فهم الشيعة منها أنها تدل على عصمة أهل البيت ثم أخذوا منها الدلالة على إمامة علي رضي الله عنه.
قال الطوسي: "إن لفظ إنما تجرى ليس ... فيكون تلخيص الكلام ليس يريد الله إلا إذهاب الرجس على هذا الحد عن أهل البيت فدل ذلك أن إذهاب الرجس قد حصل فيهم، وذلك يدل على عصمتهم، وإذا ثبتت عصمتهم ثبت ما أردناه"2.
وقال ابن المطهر الحلي: "وفي هذه الآية دلالة على العصمة مع التأكيد بلفظة "إنما" وإدخال اللام في الخبر والاختصاص في الخطاب بقوله: {أَهْلَ الْبَيْتِ} والتكرير بقوله: {وَيُطَهِّرَكُمْ} والتأكيد بقوله: {تَطْهِيراً} وغيرهم ليس بمعصوم فتكون الإمامة في علي ولأنه ادعاها في عدة من أقواله كقوله: والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة وهو يعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى وقد ثبت نفي الرجس عنه فيكون صادقاً فيكون هو الإمام"3.
والرد على هذا الاستدلال:
يقال لهم: إن الآية ليس فيها أي إشارة تدل على عصمة أحد من أئمة أهل البيت التي يلزم منها عند الشيعة إمامتهم وذلك أن الآية ما هي إلا كقوله: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} 4 وكقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} 5 وكقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} 6 فإن إرادة الله في هذه
__________
1ـ سورة الأحزاب آية/33.
2ـ تفسير التبيان للطوسي 8/340.
3ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/20، وانظر حق اليقين 1/150.
4ـ سورة المائدة آية/6.
5ـ سورة البقرة آية/185.
6ـ سورة النساء آية/26-27.(2/575)
الآيات متضمنة لمحبة الله لذلك المراد ورضاه به وأنه شرعه للمؤمنين وأمرهم به ليس في ذلك أنه خلق هذا المراد ولا أنه قضاه وقدره ولا أنه يكون لا محالة ـ وكما هو معلوم ـ "أن الإرادة في كتاب الله نوعان: إرادة شرعية دينية تتضمن محبته ورضاه، وإرادة كونية قدرية تتضمن خلقه وتقديره"1.
والإرادة في آية التطهير إنما هي إرادة دينية شرعية تذهب الرجس عن أهل البيت بامتثالهم الأوامر الربانية واجتنابهم المنهيات "والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول آية التطهير قال: "اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً" 2 فطلب من الله لهم إذهاب الرجس والتطهير فلو كانت الآية تتضمن إخبار الله بأنه قد أذهب عنهم الرجس وطهرهم لم يحتج إلى الطلب والدعاء"3.
وإذا كان الشيعة يستدلون بهذه الآية على عصمة أهل البيت فإنه يلزم، على معتقدهم هذا أن "يكون الصحابة لا سيما الحاضرين في غزوة بدر قاطبة معصومين لأن الله تعالى قال في حقهم في مواضع من التنزيل: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} 4 وقال: {لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ} 5 وظاهر أن إتمام النعمة في الصحابة كرامة زائدة بالنسبة إلى ذينك اللفظين ووقوع هذا الإتمام أدل على عصمتهم لأن إتمام النعمة لا يتصور بدون الحفظ عن المعاصي وشر الشيطان"6.
وأما زعمهم أن علياً ادعاها وقد ثبت نفي الرجس عنه فيكون صادقاً ... الخ
__________
1ـ منهاج السنة 4/21.20.
2ـ رواه أحمد في المسند 6/304.292، ورواه الترمذي في سننه 5/30-31.
3ـ منهاج السنة 4/20.
4ـ سورة المائدة آية/6.
5ـ سورة الأنفال آية/11.
6ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/153.(2/576)
فإن هذا "لا يسلم بل كل مسلم يعلم بالضرورة أن علياً ما ادعاها قط حتى قتل عثمان ـ وما قال: "إني معصوم ولا أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعلني الإمام بعده ولا أنه أوجب على الناس متابعتي ولا نحو هذه الألفاظ بل من المعلوم بالضرورة أن من نقل هذا ونحوه عنه فهو كاذب عليه إذ أن علياً رضي الله عنه كان أتقى لله من أن يدعي الكذب الظاهر الذي يعلم الصحابة كلهم أنه كذب"1.
فآية التطهير ليس فيها دلالة على عصمة أهل البيت لأنها لم ترد بصيغة الإخبار وليس فيها أي إشارة لا من قريب ولا من بعيد على إمامتهم ومما يدل على ذلك "أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مذكورات في الآية. والسياق إنما هو في مخاطبتهن من قوله: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} إلى قوله {وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} 2 فالخطاب كله لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم لكن لما تبين ما في هذا من المنفعة التي تعمهن وتعم غيرهن من أهل البيت جاء التطهير بهذا الخطاب وغيره وليس مختصاً بأزواجه بل هو متناول لأهل البيت كلهم وعلي وفاطمة والحسن والحسين أخص من غيرهم بذلك ولذلك خصهم النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء لهم"3.
الشبهة التاسعة: آية المودة:
وهي قوله تعالى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} 4 وجه استدلالهم بهذه الآية أنهم ينسبون إلى الإمام أحمد أنه روى في مسنده عن ابن عباس قال: لما نزلت: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} قالوا يا رسول الله: من قرابتك الذين وجبت علينا مودتهم؟ قال: "علي وفاطمة وابناهما" وكذا في تفسير الثعلبي ونحوه في الصحيحن وغير علي من الصحابة
__________
1ـ منهاج السنة 4/24.
2ـ سورة الأحزاب آية/32-33.
3ـ منهاج السنة 4/21، وانظر مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/149.
4ـ سورة الشورى آية/23.(2/577)
والثلاثة لا تجب مودته فيكون علي أفضل فيكون هو الإمام ولأن مخالفته تنافي المودة وبامتثال أوامره تكون مودته فيكون واجب الطاعة وهو معنى الإمامة"1.
والرد على بطلان هذا الاستدلال من وجوه:
الوجه الأول: أنهم يطالبون بصحة هذا الحديث ودعواهم أن أحمد روى هذا الحديث في المسند كذب ظاهر فإن مسند أحمد موجود وبه من النسخ ما شاء الله وليس هو في الصحيحين، بل فيهما وفي غيرهما ما يناقض ذلك، ولا ريب أن الرافضة جهال بكتب أهل العلم لا يطالعونها ولا يعلمون ما فيها ... فهم يعزون إلى المسند والصحيحين وغيرهما باطلاً لا حقيقة له يعزون إلى مسند أحمد ما ليس فيه أصلاً لكن أحمد رحمه الله صنف كتابا في فضائل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وقد يروي في هذا الكتاب ما ليس في المسند.
الوجه الثاني: أن هذا الحديث كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث وهم المرجوع إليهم في هذا ولهذا لا يوجد في شيء من كتب الحديث التي يرجع إليها.
الوجه الثالث: أن هذه الآية في سورة الشورى وهي مكية باتفاق أهل السنة. ومن المعلوم أن علياً إنما تزوج فاطمة بالمدينة بعد غزوة بدر والحسن ولد في السنة الثالثة من الهجرة، والحسين في السنة الرابعة فتكون هذه الآية قد نزلت قبل وجود الحسن والحسين بسنين متعددة فكيف يفسر النبي صلى الله عليه وسلم الآية بوجوب مودة قرابة لا تعرف ولم تخلق.
الوجه الرابع: أن تفسير الآية الذي في الصحيحين عن سعيد بن جبير قال:
__________
1ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/26-27، حق اليقين لعبد الله شبر 1/150، وانظر تفسير القمي 2/275، تفسير فرات الكوفي ص/147-150، تفسير الكاشاني المسمى الصافي في تفسير القرآن 2/513-514.(2/578)
سئل ابن عباس عن قوله تعالى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} فقلت: ألا تؤذوا محمداً في قرابته فقال ابن عباس: عجلت إنه لم يكن بطن من قريش إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم قرابة فقال: "لا أسألكم عليه أجراً لكن أسألكم أن تصلوا القرابة التي بيني وبينكم" 1.
فهذا ابن عباس ترجمان القرآن وأعلم أهل البيت بعد علي ليس معناها مودة ذي القربى لكن معناها: لا أسألكم يا معشر العرب ويا معشر قريش عليه أجراً لكن أسألكم أن تصلوا القرابة التي بيني وبينكم، فهو سأل الناس الذين أرسل إليهم أولاً أن يصلوا رحمه فلا يعتدوا عليه حتى يبلغ الرسالة.
الوجه الخامس: أنه قال لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى: لم يقل: إلا المودة للقربى ولا المودة لذوي القربى فلو أراد المودة لذوي القربى لقال: المودة لذوي القربى كما قال: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} 2 وكذلك قوله: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} 3 وهكذا في غير موضع فجميع ما في القرآن من التوصية بحقوق ذوي قربى النبي صلى الله عليه وسلم وذوي قربى الإنسان إنما قيل فيها ذوي القربى لم يقل: في القربى فلما ذكر هذا المصدر دون الاسم دل على أنه لم يرد ذوي القربى.
الوجه السادس: يقال لهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يسأل عن تبليغ رسالة ربه أجراً البتة بل أجره على الله كما قال تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} 4 {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ} 5 ولا ريب أن محبة أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم واجبة لكن لم يثبت
__________
1ـ انظر الحديث في صحيح البخاري 3/185.
2ـ سورة الأنفال آية/41.
3ـ سورة الروم آية/ 38.
4ـ سورة ص آية/86.
5ـ سورة سبأ آية/47.(2/579)
وجوبها بهذه الآية ولا محبتهم أجر للنبي صلى الله عليه وسلم مما أمرنا الله به، كما أمرنا بسائر العبادات ... فمن جعل محبة أهل بيته أجراً له يوفيه إياه فقد أخطأ خطأ عظيماً ولو كان أجراً له لم نثب عليه نحن لأنا أعطينا أجره الذي يستحقه بالرسالة فهل يقول مسلم مثل هذا؟.
الوجه السابع: أنا نسلم أن علياً تجب مودته وموالاته بدون الاستدلال بهذه الآية لكن ليس في وجوب موالاته ومودته ما يوجب اختصاصه بالإمامة ولا الفضيلة. وأما اعتقادهم: "أن الثلاثة لا تجب موالاتهم" فممنوع بل يجب أيضاً: مودتهم وموالاتهم فإنه قد ثبت أن الله يحبهم ومن كان الله يحبه وجب علينا أن نحبه فإن الحب في الله والبغض في الله واجب، وهو أوثق عرى الإيمان وكذلك هم من أكابر أولياء المتقين وقد أوجب الله موالاتهم بل قد ثبت أن الله قد رضي عنهم ورضوا عنه بنص القرآن وكل من رضي الله عنه فإنه يحبه والله يحب المتقين والمحسنين والمقسطين والصابرين وهؤلاء أفضل من دخل في هذه النصوص من هذه الأمة بعد نبيها"1.
وأما استنباطهم من هذا الحديث الذي لم يثبت أن المخالفة تنافي المودة وامتثال أوامره هو مودته فيكون واجب الطاعة وهو معنى الإمامة.
فالجواب عليه من وجوه:
الوجه الأول: إن كان المودة توجب الطاعة فقد وجبت مودة ذوي القربى فتجب طاعتهم فيجب أن تكون فاطمة أيضاً إماماً وإن كان هذا باطلاً فهذا مثله.
الوجه الثاني: أن المودة ليست مستلزمة للإمامة في حال وجوب المودة، فليس من وجبت مودته كان إماماً حينئذ بدليل أن الحسن والحسين تجب مودتهما قبل مصيرهما إمامين، وعلي تجب مودته في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن إماماً بل
__________
1ـ انظرهذه الوجوه في منهاج السنة 4/27-29.(2/580)
تجب وإن تأخرت إمامته إلى مقتل عثمان.
الوجه الثالث: زعمهم أن المخالفة تنافي المودة. يقال لهم: متى؟ إذا كان ذلك واجب الطاعة أو مطلقاً؟ الثاني ممنوع وإلا لكان من أوجب على غيره شيئاً لم يوجبه الله عليه إن خالفه فلا يكون محباً له ولا يكون مؤمن محباً لمؤمن حتى يعتقد وجوب طاعته وهذا معلوم الفساد، وأما الأول فيقال: إذا لم تكن تلك المخالفة قادحة في المودة إلا إذا كان واجب الطاعة فحينئذ يجب أن يعلم أولاً وجوب الطاعة حتى تكون مخالفته قادحة في مودته فإنه لا يعلم أن المخالفة تقدح في المودة حتى يعلم وجوب الطاعة ولا يعلم وجوب الطاعة إلا إذا علم أنه إمام ولا يعلم أنه إمام حتى يعلم أن مخالفته تقدح في مودته.
الوجه الرابع: يقال: المخالفة تقدح في المودة إذا أمر بطاعته أو لم يؤمر؟ والثاني منتف ضرورة، وأما الأول فإنا نعلم أن علياً لم يأمر الناس بطاعته في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان.
الوجه الخامس: يقال هذا بعينه في حق أبي بكر وعمر وعثمان فإن مودتهم ومحبتهم وموالاتهم واجبة ومخالفتهم تقدح في ذلك1.
الآية إذاً ليس فيها دليل على ما ذهب إليه الشيعة أي: من الادعاء أنها نزلت في أهل البيت وأنها تدل على إمامتهم وفضلهم.
الشبهة العاشرة: قوله تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا} 2 وجه استدلالهم بهذه الآية على إمامة علي أنهم يعزون إلى ابن عبد البر وأبي نعيم أنهما رويا أن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به جمع الله بينه وبين الأنبياء ثم قال: سلهم يا محمد علام بعثتم؟ قالوا: بعثنا على شهادة أن لا إله إلا الله وعلى الإقرار بنبوتك والولاية
__________
1ـ منهاج السنة 4/30.
2ـ سورة الزخرف آية/45.(2/581)
لعلي بن أبي طالب وهذا صريح في ثبوت الإمامة لعلي"1. ويرد على هذا الاستدلال من وجوه:
الوجه الأول: أنهم يطالبون في هذا الكذب القبيح بثبوت صحته إذ لا يشك أحد في أن هذا وأمثاله من أسمج الكذب وأقبحه لكن على طريق التنزل في المناظرة وأن هذا لم يعلم أنه كذب لم يجز أن يحتج به حتى يثبت صدقه فإن الاستدلال بما لا تعلم صحته لا يجوز بالاتفاق فإنه قول بلا علم وهو حرام بالكتاب والسنة والإجماع.
الوجه الثاني: أن مثل هذا مما اتفق أهل العلم على أنه كذب موضوع.
الوجه الثالث: أن هذا مما يعلم من له علم ودين أنه من الكذب الباطل الذي لا يصدق به من له عقل ودين وإنما يختلق مثل هذا أهل الوقاحة والجراءة في الكذب فإن الرسل صلوات الله عليهم كيف يسألون عما لا يدخل في أصل الإيمان وقد أجمع المسلمون على أن الرجل لو آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وأطاعه ومات في حياته قبل أن يعلم أن الله خلق أبا بكر وعمر وعثمان وعلي لم يضره ذلك ولم يمنعه ذلك من دخول الجنة فإذا كان هذا في أمة محمد صلى الله عليه وسلم فكيف يقال: إن الأنبياء يجب عليهم الإيمان بواحد من الصحابة والله ـ تعالى ـ قد أخذ الميثاق عليهم لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه هكذا قال ابن عباس وغيره2.
قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَْ} 3. فأما
__________
1ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/45، حق اليقين في معرفة أصول الدين 1/151 وانظر تفسير القمي 2/285.
2ـ انظر جامع البيان لابن جرير الطبري 3/332، تفسير البغوي على حاشية تفسير الخازن 1/314، تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2/65، الدر المنثور للسيوطي 2/252-253.
3ـ سورة آل عمران آية/81.(2/582)
الإيمان بتفصيل ما بعث به محمد فلم يؤخذ عليهم فكيف يؤخذ عليهم موالاة واحد من الصحابة دون غيره من المؤمنين.
الوجه الرابع: أن لفظ الآية {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} 1 ليس في هذا سؤال لهم بماذا بعثوا.
الوجه الخامس: يقال لهم: إن كنتم تزعمون أن الرسل إنما بعثوا بهؤلاء الثلاثة فهذا كذب عليهم وإن كنتم تزعمون أنها أصول ما بعثوا به فهذا أيضاً كذب، فإن أصول الدين التي بعثوا بها من الإيمان بالله واليوم الآخر، وأصول الشرائع أهم عندهم من ذكر الإيمان بواحد من أصحاب نبي غيرهم بل ومن الإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم فإن الإقرار بمحمد يجب عليهم مجملاً، كما يجب علينا نحن الإقرار بنبواتهم مجملاً لكن من أدركه منهم وجب عليه الإيمان بشرعه على التفصيل كما يجب علينا، وأما الإيمان بشرائع الأنبياء على التفصيل فهو واجب على أممهم، فكيف يتركون ذكر ما هو واجب على أممهم ويذكرون ما ليس هو الأوجب.
الوجه السادس: أن ليلة الإسراء كانت بمكة قبل الهجرة بمدة قيل: إنها سنة ونصف وقيل إنها خمس سنين وقيل غير ذلك، وكان علي صغيراً ليلة المعراج لم يحصل له هجرة ولا جهاد ولا أمر يوجب أن يذكره به الأنبياء، والأنبياء لم يذكر علي في كتبهم أصلاً وقد دخل في الإسلام كثير من أهل الكتاب ولم يذكر أحد منهم أن علياً رضي الله عنه ذكر في كتبهم فكيف يجوز أن يقال: أن كلاً من الأنبياء بعثوا بالإقرار بولاية علي ولم يذكروا ذلك لأممهم ولا نقله أحد منهم2.
وبهذه الوجوه تبين أنه لا دلالة في الآية للشيعة الرافضة على ما يذهبون
__________
1ـ سورة الزخرف آية/45.
2ـ انظر هذه الوجوه في منهاج السنة 4/45-46، المنتقى للذهبي ص/446.(2/583)
إليه من أنها دالة على إمامة علي رضي الله عنه.
الشبهة الحادية عشر:
قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} 1. وجه استدلالهم بهذه الآية أنهم ينسبون إلى أبي نعيم أنه روى عن ابن عباس قال في هذه الآية: سابق هذه الأمة علي بن أبي طالب كما يقولون: روى الفقيه ابن المغازلي الشافعي عن مجاهد عن ابن عباس في قوله: {السابقون السابقون} قال سبق يوشع بن نون إلى موسى، وسبق هارون إلى موسى، وسبق صاحب يس إلى عيسى وسبق علي إلى محمد صلى الله عليه وسلم وهذه الفضيلة لم تثبت لغيره من الصحابة فيكون هو الإمام2.
وهذا الاستدلال باطل من وجوه:
الوجه الأول: أنهم يطالبون بصحة هذا النقل لأن أبا نعيم وابن المغازلي يدونان كثيراً من الأحاديث الموضوعة.
الوجه الثاني: أن هذا باطل عن ابن عباس ولو صح لم يكن حجة إذا خالفه من هو أقوى منه.
الوجه الثالث: أن الله تعالى يقول: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ} 3 وقال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} 4
__________
1ـ سورة الواقعة آية/10-11.
2ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/42، وانظر تفسير القمي 2/347، تفسير فرات الكوفي ص/177-178، المناقب لمحمد بن علي بن شهرشوب ص/5، البرهان في تفسير القرآن للبحراني 4/274.
3ـ سورة التوبة آية/100.
4ـ سورة فاطر آية/32.(2/584)
"والسابقون الأولون هم الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، الذين هم أفضل ممن أنفق من بعد الفتح وقاتل دخل فيهم أهل بيعة الرضوان وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة فكيف يقال: إن سابق هذه الأمة واحد".
الوجه الرابع: دعواهم أن هذه الفضيلة لم تثبت لغيره من الصحابة ممنوع فإن الناس متنازعون في أول من أسلم فقيل أبو بكر أول من أسلم فهو أسبق إسلاماً من علي وقيل: إن علياً أسلم قبله لكن علي كان صغيراً وإسلام الصبي فيه نزاع بين العلماء ولا نزاع في أن إسلام أبي بكر أكمل وأنفع فيكون هو أكمل سبقاً بالاتفاق وأسبق على الإطلاق على القول الآخر فكيف يقال: علي أسبق منه بلا حجة تدل على ذلك.
الوجه الخامس: أن هذه الأفضلية للسابقين الأولين لم تدل على أن كل من كان أسبق إلى الإسلام كان أفضل من غيره وإنما يدل على أن السابقين أفضل قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} 1. فالذين سبقوا إلى الإنفاق والقتال قبل الحديبية أفضل ممن بعدهم فإن الفتح فسره النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية2.
وإذا كان أولئك السابقون قد سبق بعضهم بعضاً إلى الإسلام فليس في الآيتين ما يقتضي أن يكون أفضل مطلقاً بل قد يسبق إلى الإسلام من سبقه غيره إلى الإنفاق والقتال ولهذا كان عمر رضي الله عنه ممن أسلم بعد تسعة وثلاثين وهو أفضل من أكثرهم بالنصوص الصحيحة وبإجماع الصحابة والتابعين وما علمت أحد قط قال: إن الزبير ونحوه أفضل من عمر والزبير أسلم قبل عمر ولا قال من يعرف من أهل العلم أن عثمان أفضل من عمر، وعثمان أسلم قبل عمر وإن كان الفضل بالسبق إلى الإنفاق والقتال فمعلوم أن أبا بكر أخص بهذا فإنه
__________
1ـ سورة الحديد آية/10.
2ـ المسند 3/420، سنن أبي داود 2/69.(2/585)
لم يجاهد قبله أحد لا بيده ولا بلسانه بل هو من حين آمن بالرسول ينفق ما له ويجاهد بحسب الإمكان فاشترى من المعذبين في الله غير واحد وكان يجاهد مع الرسول قبل الأمر بالقتال كما قال تعالى: {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً} 1.
فكان أبو بكر أسبق الناس وأكملهم في أنواع الجهاد بالنفس والمال ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "إن أمن الناس علينا في صحبته وذات يده أبو بكر" 2. والصحبة بالنفس وذات اليد هو المال فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه أمنّ الناس عليه في النفس3 والمال" وحسبنا هنا من الآيات القرآنية التي يدعون أنها أدلة على أن علياً رضي الله عنه هو الإمام بعد النبي صلى الله عليه وسلم بلا فصل ما تقدم. ونقتصر عليها في هذا المبحث لأنه كما تقدم معنا أن هذه الآيات التي ذكرناها هنا يذكرها عوامهم ومن يدعي العلم منهم عندما يحاجون في مسألة الإمامة وإلا فالآيات التي يستدلون بها على إمامة علي رضي الله عنه كثيرة فقد أورد ابن المطهر الحلي في كتابه "منهاج الكرامة في معرفة الإمامة" أربعين آية4 وذكر الخميني في كتبابه "كشف الأسرار"5 أن مائة وأربعين آية تدل على أن الإمام هو علي رضي الله عنه وكما قدمنا أنها ليست أدلة وإنما هي شبه يتصيدون بها ضعاف العقول من المسلمين ومن حظه قليل من العلم فهي آيات قرآنية عامة واردة في جميع المؤمنين والشيعة يخصصونها بعلي رضي الله عنه، وكما تقدم من الآيات التي أسلفناها أنه لا دلالة فيها على إمامة علي رضي الله عنه ولا على أفضليته وكذلك بقية الآيات التي لم يرد ذكرها هنا كلها من هذا القبيل.
__________
1ـ سورة الفرقان آية/52.
2ـ صحيح البخاري 2/289.
3ـ انظر هذه الوجوه في منهاج السنة النبوية 4/42-43، المنتقى للذهبي ص/442.
4ـ انظر منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/2-79.
5ـ ص/161.(2/586)
ثانياً: شبههم من الأحاديث:
أما شبههم من الأحاديث التي يستدلون بها على أن علياً رضي الله عنه هو الخليفة بعد النبي صلى الله عليه وسلم فهي إما أحاديث صحيحة تدل على فضله ولا تدل على إمامته وإما أحاديث ضعيفة غير صحيحة لعلل في أسانيدها وإما أحاديث مكذوبة مختلقة على النبي صلى الله عليه وسلم ومن تلك الشبه ما يلي:
الشبهة الأولى: حديث المنزلة، فقد روى الشيخان من طريق سعيد بن المسيب عن عامر بن سعد عن ابيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي" 1 فقد فهم الشيعة من هذا الحديث النبوي أن النبي عليه الصلاة والسلام نصب علياً رضي الله عنه إماماً للمسلمين فقد روى الصدوق2 بإسناده إلى هارون العبدي قال: سألت جابر بن عبد الله الأنصاري عن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي" قال: استخلفه بذلك والله على أمته في حياته وبعد وفاته وفرض عليهم طاعته فمن لم يشهد له بعد هذا القول بالخلافة فهو من الظالمين3 وقال ابن المطهر الحلي مبيناً وجه دلالة حديث المنزلة على إمامة علي رضي الله عنه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم: "ومن جملة منازل هارون أنه كان خليفة لموسى ولو عاش بعده لكان خليفة أيضاً: ولأنه خلفه مع وجوده وغيبته مدة يسيرة فعند موته تطول الغيبة فيكون أولى بأن يكون خليفة"4.
__________
1ـ صحيح البخاري 2/300، صحيح مسلم 4/1870 واللفظ له.
2ـ هو أبو جعفر محمد بن علي، ابن الحسين بن بابويه القمي ت: 381هـ، انظر ترجمته في تنقيح المقال للمامقاني 3/154.
3ـ معاني الأخبار للصدوق ص/74.
4ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/87.(2/587)
والرد على هذا الاستدلال.
يقال لهم: لا يشك مسلم في صحة هذا الحديث وأنه يدل على فضل علي رضوان الله عليه لا على أنه الإمام بعد النبي صلى الله عليه وسلم إذ مناسبة ورود الحديث تأبى أن يكون مراد النبي عليه الصلاة والسلام التنصيص على خلافة علي وإمامته ولو أراد ذلك لصرح بلفظ لا يتطرق إليه احتمال وذلك أنه عليه الصلاة والسلام كان لا يخرج من المدينة لغزو أو غيره إلا ويستخلف أحد الصحابة على المدينة فلما كانت غزوة تبوك لم يأذن لأحد في التخلف عنها وهي آخر مغازيه صلى الله عليه وسلم ولم يجتمع معه أحد كما اجتمع معه فيها فلم يتخلف إلا النساء والصبيان أو من هو معذور لعجزه عن الخروج أو من هو منافق وتخلف الثلاثة الذين تيب عليهم"1.
ولم يكن في المدينة رجال من المؤمنين يستخلف عليهم كما كان يستخلف في كل مرة بل كان هذا الاستخلاف أضعف من الاستخلافات المعتادة منه لأنه لم يبق في المدينة رجال من المؤمنين أقوياء يستخلف عليهم أحداً كما كان يبقي في جميع مغازيه فإنه كان يكون بالمدينة رجال كثيرون من المؤمنين أقوياء يستخلف عليهم من يستخلف فكل استخلاف يستخلفه في مغازيه مثل استخلافه في غزوة بدر الكبرى والصغرى وغزوة بني المصطلق وخيبر وفتح مكة وسائر مغازيه التي لم يكن فيها قتال ومغازيه بضعة عشر غزوة وقد استخلف فيها كلها إلا القليل وقد استخلف في حجة الوداع وعمرتين قبل غزوة تبوك وفي كل مرة يكون بالمدينة أفضل ممن بقي في غزوة تبوك فكان كل استخلاف قبل هذه يكون على أفضل ممن استخلف عليه علياً فلهذا خرج إليه علي رضي الله عنه وقال: "أتخلفني في النساء والصبيان"2.
__________
1ـ الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك وتيب عليهم هم: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع "انظر قصتهم في صحيح مسلم" 4/2120-2128.
2ـ صحيح مسلم 4/1871.(2/588)
وقيل: إن بعض المنافقين طعن فيه وقال: إنما خلفه لأنه يبغضه فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أنه إنما استخلفه لأمانته عنده وإن الاستخلاف ليس بنقص ولا غض فإن موسى استخلف هارون على قومه فكيف يكون نقصاً وموسى يفعله بهارون، فطيب بذلك قلب علي وبين أن جنس الاستخلاف يقتضي كرامة المستخلف وأمانته لا يقتضي إهانته ولا تخوينه ... ولم يكن هذا الاستخلاف كاستخلاف هارون لأن العسكر كان مع هارون وإنما ذهب موسى وحده، وأما استخلاف النبي صلى الله عليه وسلم فجميع العسكر كان معه ولم يتخلف بالمدينة غير النساء والصبيان أو معذور أو عاص وقول القائل: هذا بمنزلة هذا وهذا مثل هذا هو كتشبيه الشيء بالشيء يكون بحسب ما دل عليه السياق لا يقتضي المساواة في كل شيء ـ فإنه قد ثبت ـ من قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الأسارى لما استشار أبا بكر وأشار بالفدى واستشار عمر فأشار بالقتل قال: "أخبركم عن صاحبيكم مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم إذ قال: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 1 ومثل عيسى إذ قال: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 2 ومثلك يا عمر مثل نوح إذ قال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} 3 أو مثل موسى إذ قال: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} 4 فقوله: لهذا: مثلك كمثل إبراهيم وعيسى ولهذا مثل نوح وموسى أعظم من قول: أنت مني بمنزلة هارون من موسى فإن نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى أعظم من هارون وقد جعل هذين مثلهم ولم يرد أنهما مثلهم في كل شيء لكن فيما دل عليه السياق من الشدة في الله واللين في الله وكذلك هنا إنما هو بمنزلة هارون فيما دل عليه
__________
1ـ سورة إبراهيم آية/36.
2ـ سورة المائدة آية/118.
3ـ سورة نوح آية/26.
4ـ انظر الحديث بطوله في مسند الإمام أحمد 1/383-384، وأورده ابن كثير في تفسيره 3/345-346.(2/589)
السياق وهو استخلافه في مغيبه كما استخلف موسى هارون وهذا الاستخلاف ليس من خصائص علي بل ولا هو مثل استخلافاته فضلاً عن أن يكون أفضل منها وقد استخلف من علي أفضل منه في كثير من الغزوات ولم تكن تلك الاستخلافات توجب تقديم المستخلف على علي إذا قعد معه فكيف يكون موجباً لتفضيله على علي بل قد استخلف على المدينة غير واحد وأولئك المستخلفون منه بمنزلة هارون من موسى ومن جنس استخلاف علي ... وليس في الحديث دلالة على أن غيره لم يكن منه بمنزلة هارون من موسى ... وأما زعمهم "أنه جعله بمنزلة هارون في كل الأشياء إلا في النبوة باطل فإن قوله: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى. . دليل على أنه يسترضيه بذلك ويطيب قلبه لما توهم من وهن الاستخلاف ونقص درجته فقال هذا على سبيل الجبر له وقوله: "بمنزلة هارون من موسى" أي: مثل منزلة هارون وأن نفس منزلته من موسى بعينها لا تكون لغيره وإنما يكون له ما يشابهها فصار هذا كقوله: هذا مثل هذا، وقوله عن أبي بكر: مثله مثل إبراهيم وعيسى، وعمر مثله مثل نوح وموسى ... ومما يبين ذلك أنه لو أراد أن يكون خليفة على أمته بعده لم يكن هذا خطاباً بينهما يناجيه به ولا كان أخره حتى يخرج إليه علي ويشتكي، بل كان هذا من الحكم الذي يجب بيانه وتبليغه للناس كلهم بلفظ يبين المقصود، ثم من جهل الرافضة أنهم يتناقضون فإن هذا الحديث يدل على النبي صلى الله عليه وسلم لم يخاطب علياً بهذا الخطاب إلا ذلك اليوم في غزوة تبوك فلو كان علي قد عرف أنه المستخلف من بعده كما رووا ذلك فيما تقدم لكان علي مطمئن القلب أنه مثل هارون بعده في حياته ولم يخرج إليه يقول: "أتخلفني مع النساء والصبيان"1.
ولو كان علي بمنزلة هارون مطلقاً لم يستخلف عليه أحداً وقد كان يستخلف على المدينة غيره وهو فيها كما استخلف على المدينة عام خيبر غير علي وكان علي بها أرمد حتى
__________
1ـ تقدم تخريجه قريباً.(2/590)
لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم الراية حين قدم وكان قد أعطى الراية رجلاً فقال: لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله" 1.
وأما قولهم في الاستدلال: "لأنه خليفة مع وجوده وغيبته مدة يسيرة فعند موته تطول الغيبة يكون أولى بأن يكون خليفة".
فالجواب أنه مع وجوده وغيبته قد استخلف غير علي استخلافاً أعظم من استخلاف علي واستخلف أولئك على أفضل من الذين استخلف عليهم علياً وقد استخلف بعد تبوك على المدينة غير علي في حجة الوداع فليس جعل علي هو الخليفة بعده لكونه استخلف على المدينة بأولى من هؤلاء الذين استخلفهم على المدينة كما استخلفه وأعظم مما استخلفه وآخر الاستخلاف كان على المدينة عام حجة الوداع وكان علي باليمن وشهد معه الموسم لكن استخلف عليها في حجة الوداع غير علي، فإن كان الأصل بقاء الاستخلاف فبقاء من استخلفه في حجة الوداع أولى من بقاء استخلاف من استخلفه قبل ذلك، وبالجملة فالاستخلافات على المدينة ليست من خصائصه ولا تدل على الأفضلية ولا على الإمامة بل قد استخلف عدداً غيره ـ ولكن الرافضة ـ يجعلون الفضائل العامة المشتركة بين علي وغيره خاصة بعلي رضي الله عنه2.
قال أبو نعيم الأصبهاني في معرض رده على الطاعنين في إمامة الصديق رضي الله عنه: "فإن قال: قد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لعلي: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى" 3. قيل له: كذلك نقول في استخلافه على المدينة في حياته بمنزلة من
__________
1ـ صحيح البخاري 2/300، صحيح مسلم 4/1871.
2ـ منهاج السنة 4/87-90، وانظر المنتقى من منهاج الاعتدال للذهبي ص/468-470.
3ـ تقدم تخريجه قريباً.(2/591)
موسى وإنما خرج هذا القول له من النبي صلى الله عليه وسلم عام تبوك إذ خلفه بالمدينة فذكر المنافقون أنه مله وكره صحبته فلحق بالرسول صلى الله عليه وسلم فذكر له قولهم فقال صلى الله عليه وسلم: "بل خلفتك كما خلف موسى هارون" 1.
قال أبو محمد بن حزم مبيناً المراد من قوله صلى الله عليه وسلم: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى": وهذا لا يوجب له فضلاً على من سواه ولا استحقاق الإمامة بعده عليه والسلام لأن هارون لم يل أمر بني إسرائيل بعد موسى عليهما السلام وإنما ولي الأمر بعد موسى عليه السلام يوشع بن نون فتى موسى الذي سافر معه في طلب الخضر عليهما السلام كما ولي الأمر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحبه في الغار الذي سافر معه إلى المدينة وإذا لم يكن علي نبياً كما كان هارون نبياً ولا كان هارون خليفة بعد موت موسى فقد صح أن كونه رضي الله عنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنزلة هارون من موسى إنما هو في القرابة فقط وأيضاً فإنما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا القول إذ استخلفه على المدينة في غزوة تبوك فقال المنافقون استقله فخلفه فلحق علي برسول الله صلى الله عليه وسلم فشكى ذلك إليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى يريد عليه السلام أنه استخلفه على المدينة مختاراً استخلافه كما استخلف موسى عليه السلام أيضاً مختاراً لاستخلافه، ثم قد استخلف عليه السلام قبل تبوك وبعد تبوك على المدينة في أسفاره رجالاً سوى علي رضي الله عنه فصح أن هذا الاستخلاف لا يوجب لعلي فضلاً على غيره ولا ولاية الأمر بعده كما لم يوجب ذلك لغيره من المستخلفين"أ. هـ2.
وقال الحافظ ابن حجر عند شرحه للحديث: "واستدل بحديث الباب على استحقاق علي للخلافة دون غيره من الصحابة فإن هارون كان خليفة موسى
__________
1ـ كتاب الإمامة والرد على الرافضة ص/221.
2ـ الفصل في الملل والأهواء والنحل 4/94-95، وانظر شرح النووي على صحيح مسلم 15/174.(2/592)
وأجيب بأن هارون لم يكن خليفة موسى إلا في حياته لا بعد موته لأنه مات قبل موسى باتفاق أشار إلى ذلك الخطابي"1.
فلا دلالة في الحديث للشيعة من أن الخلافة كانت من جملة منازل هارون كما يزعمون ولا يسلم لهم بهذا الادعاء "لأن هارون كان نبياً مستقلاً في التبليغ ولو عاش بعد موسى أيضاً لكان كذلك ولم تزل عنه هذه المرتبة قط وهي تنافي الخلافة لأنها نيابة للنبي ولا مناسبة بين الأصالة والنيابة في القدر والشرف فقد علم أن الاستدلال على خلافة ـ علي رضي الله عنه ـ من هذا الطريق لا يصح أبداً"2.
الشبهة الثانية: حديث الراية
فقد زعم ابن المطهر الحلي أن الجمهور رووا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حاصر خيبر تسعاً وعشرين ليلة وكانت الراية لأمير المؤمنين علي فلحقه رمد أعجزه عن الحرب وخرج مرحب يتعرض للحرب فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر فقال: خذ الراية فأخذها في جمع من المهاجرين ولم يغن شيئاً ورجع منهزماً فلما كان من الغد تعرض لها عمر فسار غير بعيد ثم رجع يخبر أصحابه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "جيئوني بعلي" فقيل: إنه أرمد فقال: "أرونيه أروني رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ليس بفرار" فجاءوا بعلي فتفل في يده ومسحها على عينيه ورأسه فبرأ فأعطاه الراية ففتح الله على يديه وقتل مرحب ووصفه عليه السلام بهذا الوصف يدل على انتفائه عن غيره وهو يدل على أفضليته فيكون هو الإمام"3.
والرد على هذا الاستدلال من وجوه:
__________
1ـ فتح الباري 7/74.
2ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/163-164.
3ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/97، العاملي في كتابه الصراط المستقيم إلى مستحقي التقديم 2/2.(2/593)
الوجه الأول: أنهم يطالبون بتصحيح هذا النقل ولا سبيل لهم إلى هذا.
الوجه الثاني: دعواهم أنه رواه الجمهور يقال لهم: إن الثقات الذين رووه لم يرووه هكذا بل الذي في الصحيحين أن علياً رضي الله عنه كان غائباً عن خيبر لم يكن حاضراً فيها حيث كان أرمد ثم إنه شق عليه التخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم فلحقه فقال النبي صلى الله عليه وسلم قبل قدومه: "لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه" ـ ولم تكن الراية قبل ذلك لأبي بكر ولا لعمر ولا قربها واحد منهما بل هذا من الأكاذيب ولهذا قال عمر: فما أحببت الإمارة إلا يومئذ وبات الناس كلهم يرجوا أن يعطاها فلما أصبح دعا علياً فقيل له إنه أرمد فجاءه فتفل في عينه حتى برأ فأعطاه الراية"1.
وكان هذا التخصيص جزاء مجيء علي مع الرمد وكان إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وعلي ليس بحاضر لا يرجونه من كراماته صلى الله عليه وسلم فليس في الحديث تنقيص بأبي بكر وعمر أصلاً"2.
الوجه الثالث: أن مدعى الشيعة غير حاصل ـ من هذا الحديث الصحيح ـ إذ لا ملازمة بين كونه محباً لله ورسوله ومحبوباً لهما وبين كونه إماماً بلا فصل أصلاً على أنه لا يلزم من إثباتهما له نفيهما عن غيره كيف وقد قال الله ـ تعالى ـ في حق أبي بكر ورفقائه {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} 3 وقال في حق أهل بدر: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} 4. ولا شك أن من يحبه الله يحبه رسوله ومن يحب الله من المؤمنين يحب رسوله وقال في شأن أهل مسجد قباء: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} 5. وقال صلى الله عليه وسلم لمعاذ: يا معاذ: "إني أحبك" 6 ولما سئل من أحب
__________
1ـ صحيح البخاري 2/299-300، صحيح مسلم 4/1872.
2ـ منهاج السنة 4/97-98، وانظر المنتقى من منهاج الاعتدال للذهبي ص/472.
3ـ سورة المائدة آية/54.
4ـ سورة الصف آية/ 4.
5ـ سورة التوبة آية/108.
6ـ المسند 5/245، سنن أبي داود 1/349، سنن النسائي 3/53.(2/594)
الناس إليك؟ قال: عائشة قيل ومن الرجال قال: أبوها" 1 وإنما نص على المحبة والمحبوبية في حق علي مع وجودهما في غيره لنكتة دقيقة تحصل من ضمن قوله: "يفتح الله على يديه" 2 وهي أنه لو ذكر مجرد الفتح لربما توهم أن ذلك غير موجب لفضيلته لما ورد: "إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر" 3 فأزال ذلك التوهم بإثبات هاتين الصفتين له فصار المقصود منه تخصيص مضمون "يفتح الله على يديه" وما ذكر من الصفات لإزالة ذلك التوهم"4.
الشبهة الثالثة: حديث الثقلين: فقد استدل الشيعة به على إمامة علي رضي الله عنه وبنيه وهم يسوقونه بطرق مختلفة وقد ساقه ابن المطهر الحلي بلفظ: "إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض" وقال: "أهل بيتي هم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق" ثم قال: ـ وهذا يدل على وجوب التمسك بقول أهل بيته وعلي سيدهم فيكون واجب الطاعة على الكل فيكون هو الإمام5.
وقال الصدوق مبيناً وجه دلالة هذا الحديث الذي لم يصح بهذا اللفظ كما سنرى قريباً حيث قال: "والعترة علي بن أبي طالب وذريته من فاطمة وسلالة النبي صلى الله عليه وسلم وهم الذين نص الله تبارك وتعالى عليهم بالإمامة على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم وهم اثنا عشر أولهم علي وآخرهم القائم عليه السلام على جميع ما ذهبت إليه العرب
__________
1ـ صحيح البخاري 2/290.
2ـ صحيح مسلم 4/1872.
3ـ صحيح البخاري 4/145، صحيح مسلم 1/106.
4ـ مختصر التحفة الاثنى عشرية ص/169.
5ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/104، وأورده الصدوق في كتابه معاني الأخبار ص/91، الطرائف في معرفة مذهب الطوائف ص/113-117، بصائر الدرجات الكبرى في فضائل آل محمد للصفار ص/432-433.(2/595)
من معنى العترة"1.
وقال ابن طاووس2 بعد ذكره لروايات كثيرة لحديث الثقلين: "فهذه عدة أحاديث برجال متفق على صحة أقوالهم يتضمن الكتاب والعترة فانظروا وأنصفوا هل جرى من التمسك بهما ما قد نص عليهما، وهل اعتبر المسلون من هؤلاء من أهل بيتي الذين ما فارقوا الكتاب؟ وهل فكروا في الأحاديث المتضمنة أنهما خليفتان من بعده؟ وهل ظلم أهل بيت نبي من الأنبياء مثل ما ظلم أهل بيت محمد صلى الله عليه وسلم بعد هذه الأحاديث المذكورة المجمع على صحتها؟ وهل بالغ نبي أو خليفة أو ملك من ملوك الدنيا في النص على من يقوم مقامه بعد وفاته أبلغ مما اجتهد فيه محمد رسول الله؟ لكن له أسوة بمن خولف من الأنبياء قبله، وله أسوة بالله الذي خولف في ربوبيته بعد هذه الأحاديث المذكورة المجمع على صحتها"3.
ولقد كفانا مؤنة الرد على استدلالهم بحديث الثقلين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى فإنه قد رد عليهم وأبطل استدلالهم بوجوه عدة هي:
الوجه الأول: أن لفظ الحديث الذي في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فينا خطيباً بماء يدعى خماً بين مكة والمدينة فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر ثم قال: "أما بعد ألا أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به" فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال: "وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي" 4 وهذا اللفظ يدل
__________
1ـ معاني الأخبار للصدوق ص/92.
2ـ هو علي بن موسى بن طاووس الحسني الحسيني المتوفى سنة أربع وستين وستمائة له ترجمة في أول كتابه الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف 1/3 وما بعدها.
3ـ الطرائف في معرفة الطوائف لابن طاووس 1/117.
4ـ صحيح مسلم 4/1873.(2/596)
على أن الذي أمر بالتمسك به وجعل المتمسك به لا يضل هو كتاب الله وأما قوله: "وعترتي أهل بيتي وأنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض" فهذا رواه الترمذي1 وقد سئل عنه أحمد بن حنبل فضعفه وضعفه غير واحد من أهل العلم وقالوا: لا يصح2، وقد أجاب عنه طائفة بما يدل على أن أهل بيته كلهم لا يجتمعون على ضلالة قالوا: ونحن نقول بذلك كما ذكر ذلك القاضي أبو يعلى وغيره لكن أهل البيت لم يتفقوا على شيء من خصائص مذهب الرافضة بل هم المبرؤون المنزهون عن التدنس بشيء منه ـ وأما قوله: "مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح" فهذا لا يعرف له إسناد صحيح ولا هو في شيء من كتب الحديث التي يعتمد عليها.
الوجه الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن عترته: إنها والكتاب لن يفترقا حتى يردا علي الحوض وهو الصادق المصدوق فيدل على أن إجماع العترة حجة وهذا قول طائفة من علماء الحنابلة رحمهم الله ـ تعالى ـ لكن العترة هم بنو هاشم كلهم ولد العباس وولد علي وولد الحارث بن عبد المطلب وسائر بني أبي طالب وغيرهم وعلي وحده ليس هو العترة وسيد العترة هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين ذلك أن علماء العترة كابن عباس وغيره لم يكونوا يوجبون اتباع علي في كل ما يقوله ولا كان علي يوجب على الناس طاعته في كل ما يفتي به ولا عرف أن أحداً من أئمة السلف لا من بني هاشم ولا غيرهم قال: إنه يجب اتباع علي في كل ما يقوله.
الوجه الثالث: أن العترة لم تجتمع على إمامته ولا أفضليته بل أئمة العترة
__________
1ـ سنن الترمذي 5/328.
2ـ لأن في سنده زيد بن الحسن القرشي أبو الحسن الكوفي صاحب الأنماط وهو ضعيف من الثامنة. قال أبو حاتم: "منكر الحديث" الجرج والتعديل 3/560، ميزان الاعتدال للذهبي 2/102، تهذيب التهذيب 3/406، تقريب التهذيب 1/273، ويعده الشيعة منهم وله ترجمة عند المامقاني في كتابه "تنقيح المقال في علم الرجال" 1/462، وهو غير محمود عندهم.(2/597)
كابن عباس وغيره يقدمون أبا بكر وعمر وفيهم من أصحاب مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم أضعاف من فيهم من الإمامية والنقل الثابت عن جميع علماء أهل البيت من بني هاشم من التابعين وتابعيهم من ولد الحسين بن علي وولد الحسن وغيرهما أنهم كانوا يتولون أبا بكر وعمر وكانوا يفضلونهما على علي والنقول عنهم ثابتة متواترة.
الوجه الرابع: أن هذا معارض بما هو أقوى منه وأن إجماع الأمة حجة بالكتاب والسنة والإجماع، والعترة بعض الأمة فيلزم من ثبوت إجماع الأمة إجماع العترة وأفضل الأمة أبو بكر1 فإن كانت الطائفة التي إجماعها حجة يجب اتباع أفضلها مطلقاً فهو أبو بكر، وإن لم يكن بطل ما يذكر الشيعة في إمامة علي رضي الله عنه"2.
ومما تجدر الإشارة إليه أن حديث الثقلين قد تعددت رواياته في مصادر أهل السنة والجماعة وأن الدكتور علي أحمد الثالوث قد تتبع هذا الحديث وقام بدراسة طرقه المتعددة وأخرجها في كتابه "حديث الثقلين وفقهه" وتوصل إلى أن "ما رواه الإمامان مسلم وأحمد عن زيد بن أرقم لا خلاف حول صحته "وأما بقية الروايات فقد قال عنها: "ورأينا الروايات الأخرى لهذا الحديث وظهر ما بها من ضعف وهنا ملحظ هام وهو أن الضعف أساساً جاء من موطن واحد وهو الكوفة وهذا يذكرنا بقول الإمام البخاري في حديث رواه عطية: أحاديث الكوفيين هذه مناكير. ومن هنا ندرك لماذا اعتبر ابن الجوزي هذا الحديث من الأحاديث الموضوعة وإن كانت الروايات في جملتها كما يبدو لا تجعل الحديث ينزل إلى درجة الموضوع"3.
فدعوى ابن طاووس من الاتفاق على صحة أقوال رجال الأحاديث التي ساقها وحديث الثقلين الوارد في صحيح مسلم ليس
__________
1ـ منهاج السنة 4/104-105.
2ـ انظر المنتقى من منهاج الاعتدال للذهبي ص/476.
3ـ حديث الثقلين ص/24.(2/598)
فيه أكثر من الحث على حب آل بيت النبوة وحفظ حقوقهم لأن ذلك من كمال حبه صلى الله عليه وسلم وحفظ حقوقهم وتذكيره صلى الله عليه وسلم بأهل بيته لا يلزم منه إمامتهم، ولو كان مراد الرسول صلى الله عليه وسلم بيان إمامتهم لأفصح عن ذلك بلفظ في غاية البيان والوضوح.
الشبهة الرابعة: حديث الغدير:
لقد أخذ حديث الغدير عند الشيعة منزلة رفيعة وافتخروا به وأشادوا به وأفردوه بالتأليف وفيه يقول الأميني: "للإمامية مجتمع باهر يوم الغدير عند المرقد العلوي الأقدس يضم إليه رجالات القبائل، ووجوه البلاد من الدانين والقاصين إشادة بهذا الذكر"1.
ومفاد قصة الغدير كما يذكرونها في كتبهم أن النبي صلى الله عليه وسلم عزم على الحج في سنة عشر من الهجرة وأعلن ذلك للناس فاجتمعوا إليه جماعات ووحدانا وقاد النبي صلى الله عليه وسلم قافلة الحجيج إلى مكة قاصدين البيت الحرام مصطحباً معه نساءه وسائر أهل بيته، ثم بعد أن قضى مناسكه قفل راجعاً إلى المدينة وسار حتى وصل غدير خم من الجحفة وذلك يوم الخميس الثامن عشر من ذي الحجة ويومها نزل عليه جبريل من الله بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} 2 وأمره أن ينصب عليهم علياً إماماً ويبلغهم ما نزل فيه من الولاية وفرض الطاعة على كل أحد فحشر الناس في ذلك الموضع وأوقف سيرهم ورد مقدمتهم على مؤخرتهم ثم وقف عليهم خطيباً إلى أن قال: يا أيها الناس من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "إن الله مولاي وأنا مولى المؤمنين وأنا أولى بهم من أنفسهم فمن كنت مولاه فعلي مولاه" يقولها ثلاث مرات ثم قال
__________
1ـ الغدير في الكتاب والسنة والأدب 1/13.
2ـ سورة المائدة آية/67.(2/599)
"اللهم والي من والاه وعادي من عاداه وأحب من أحبه وأبغض من أبغضه وانصر من نصره واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار ألا فليبلغ الشاهد الغائب" ثم لم يتفرقوا حتى نزل أمين وحي الله بقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} 1 فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر على إكمال الدين وإكمال النعمة ورضا الرب برسالتي وولاية علي من بعدي" 2.
ووجه استدلالهم من حديث الغدير عبارة: "من كنت مولاه فعلي مولاه" وهذه العبارة لا تعني عند الشيعة إلا النص على إمامة علي رضي الله عنه بعد النبي صلى الله عليه وسلم.
قال ابن المطهر الحلي مبيناً وجه الدلالة منه: "والمراد بالمولى هنا الأولى بالتصرف لتقدم التقوى منه صلى الله عليه وسلم بقوله: "ألست أولى منكم بأنفسكم" 3
وروى الصدوق بإسناده إلى أبي إسحاق قال: قلت لعلي بن الحسين عليهما السلام ما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من كنت مولاه فعلي مولاه " قال: أخبرهم أنه الإمام بعده"4.
وقبل أن أبين بطلان حديث الغدير هذا نبين أنه يحمل في ثناياه جهل الشيعة المركب بعدم معرفتهم بمكان وزمان نزول آيات القرآن الكريم فدعواهم أن قوله
__________
1ـ سورة المائدة آية/3.
2ـ انظر كتاب الغدير في الكتاب والسنة والأدب للأميني 1/9-11 وكتاب الطرائف في معرفة مذهب الطوائف 1/139-148، وكتاب اليقين لابن طاووس ص/113-115، الطبرسي في الاحتجاج 1/55، والصدوق في معاني الأخبار ص/67 وانظر منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/84، حق اليقين 1/153.
3ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/84، وانظر حق اليقين لعبد الله شبر 1/154.
4ـ معاني الأخبار ص/65.(2/600)
عالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} أنزلت يوم الغدير فهذه الدعوى غير صحيحة فقد رجح العلامة ابن كثير أنها مما نزل بالمدينة بل إنها من أواخر ما نزل فقد قال رحمه الله تعالى: "والصحيح أن هذه الآية مدينة بل هي من أواخر ما نزل بها والله أعلم"1.
وسياق الآية يشعر ببعد نزولها يوم الغدير بشأن خلافة علي رضي الله عنه ذلك أن الآية سبقت بآيات كلها وردت في ذم أهل الكتاب وبيان تعداد معاصيهم وتعديهم حدود الله ـ جل وعلا ـ قال العلامة ابن جرير عند تفسيره لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} " وهذا أمر من الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بإبلاغ هؤلاء اليهود والنصارى من أهل الكتابين الذين قص الله تعالى قصصهم في هذه السورة وذكر فيها معايبهم وخبث أديانهم واجترائهم على ربهم، وتوثبهم على أنبيائهم وتبدليهم كتابه وتحريفهم إياه ورداءة مطاعمهم ومآكلهم وسائر المشركين غيرهم ما أنزل عليه فيهم من معايبهم والإزراء عليهم والتقصير بهم، والتهجين لهم وما أمرهم به ونهاهم عنه وألا يشعر نفسه حذراً منهم أن يصيبهم في نفسه مكروه، ما قام فيهم بأمر الله ولا جزعاً من كثرة وقلة عدد من معه وألا يتقي أحداً في ذات الله فإن الله تعالى كافيه كل أحد من خلقه ودافع عنه مكروه كل من يتقي مكروهه"2.
وأما قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} 3 فإن نزولها كان بعرفة وحادثة الغدير كانت بعد رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع وهو في طريقه إلى المدينة قال ابن جرير رحمه الله تعالى ذاكراً القول الراجح في مكان ووقت نزول هذه الآية: "وأولى الأقوال في وقت نزول الآية القول الذي روي عن عمر بن الخطاب أنها نزلت يوم
__________
1ـ انظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2/611.
2ـ جامع البيان عن تأويل آي القرآن 6/307.
3ـ سورة المائدة آية/3.(2/601)
عرفة يوم جمعة لصحة سنده ووهن أسانيد غيره"1.
فادعاهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عند نزولها: "الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضا الرب برسالتي وولاية علي من بعدي " فإنه كما قال الألوسي: "من مفترياتهم وركاكة الأمر شاهدة على ذلك"2.
وقد قرر شيخ الإسلام ابن تيمية أن المائدة لم ينزل منها شيء في غدير خم أو بعده حيث قال رحمه الله تعالى: "فمن زعم أن المائدة نزل منها شيء في غدير خم أو بعده فهو كاذب باتفاق أهل العلم"3.
وأما لفظ حديث الغدير فقد تصدى أهل العلم من أهل السنة والجماعة لبيان درجته كما أوضحوا ما يدل عليه ما صح من لفظه من وجوه:
الوجه الأول: أن لفظ "من كنت مولاه فعلي مولاه" ليس هو في الصحاح ولكن رواه طائفة من أهل العلم4 وقد تنازع الناس في صحته أو عدمها على قولين: ـ القول الأول: نقل عن الإمام البخاري وإبراهيم الحربي وطائفة من أهل العلم بالحديث أنهم طعنوا فيه وطعفوه وإلى هذا القول ذهب أبو محمد بن حزم فإنه ذكر عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أنه قال: "وأما من كنت مولاه فعلي مولاه" "فلا يصح
__________
1ـ جامع البيان 6/84.
2ـ روح المعاني 6/61.
3ـ منهاج السنة 4/85.
4ـ أخرجه الترمذي بهذا اللفظ في سننه 5/297 من حديث أبي سريحة أو زيد بن أرقم شك شعبة وقال: عقبه هذا حديث حسن غريب، ورواه أحمد في المسند 4/368 عن زيد بن أرقم 5/361 من حديث بريدة ولفظه: "من كنت وليه فعلي وليه" ورواه ابن ماجه في سننه 1/45 من حديث سعد بن أبي وقاص كما أخرجه أيضاً من حديث البراء بن عازب 1/43 وقال محققه في الزوائد: إسناده ضعيف لضعف علي بن زيد بن جدعان وقد صححه الألباني كما في سلسلة الأحاديث الصحيحية 4/330-344.(2/602)
من طرق الثقات أصلاً"1.
القول الثاني: نقل عن الإمام أحمد بن حنبل أنه حسنه كما حسنه الترمذي2 ثم إن القائلين بصحة الحديث من أهل السنة سلفاً وخلفاً بينوا المراد من الحديث وما الذي يدل عليه وأنه ليس المراد به الخلافة.
فقد روى الحافظ أبو بكر البيهقي بإسناده إلى فضيل بن مرزوق قال: سمعت الحسن بن الحسن وسأله رجل ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كنت مولاه فعلي مولاه" قال لي: بلى والله لو يعني بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم الإمارة أو السلطان لأفصح لهم بذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أنصح للمسلمين فقال: "يا أيها الناس هذا ولي أمركم والقائم عليكم من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا والله لئن كان الله ورسوله اختار علياً لهذا الأمر وجعله القائم به للمسلمين من بعده ثم ترك علي أمر الله ورسوله لكان علي أول من ترك أمر الله ورسوله"، ثم قال: ورواه شبابة بن سوار عن الفضيل بن مرزوق قال سمعت الحسن بن الحسن أخا عبد الله بن الحسن وهو يقول لرجل ممن يتولاهم: فذكر قصة ثم قال: ولو كان الأمر كما يقولون إن الله ورسوله اختار علياً لهذا الأمر والقيام على الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كان علي لأعظم الناس خطية وجرماً في ذلك إذ ترك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أمره ويعذر فيه إلى الناس قال: فقال له الرافضي: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: "من كنت مولاه فعلي مولاه" فقال: أما والله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كان يعني بذلك الإمرة والسلطان والقيام على الناس بعده لأفصح لهم بذلك كما أفصح لهم بالصلاة والزكاة وصيام رمضان وحج البيت ولقال لهم: إن هذا ولي أمركم من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا فما كان من رواء هذا شيء فإن أنصح الناس كان للمسلمين رسول الله صلى الله عليه وسلم3.
__________
1ـ انظر كتاب ابن حزم الأندلسي ورسالته في المفاضلة بين الصحابة ص/264.
2ـ منهاج السنة 4/86، وانظر المنتقى للذهبي ص/466-467.
3ـ الاعتقاد للبيهقي ص/182-183 وانظر تفسير روح المعاني للألوسي 6/195.(2/603)
ففي هذين الأثرين عن الحسن بن الحسن تكذيب لما نسبه الصدوق إلى علي بن الحسين من أنه قال: إن المراد بقوله: من كنت مولاه فعلي مولاه" أنه أخبرهم بأنه الإمام بعده فاتضح أن ذلك من زيادات الشيعة المنكرة على أهل البيت وأنهم يدخلون ألفاظاً منكرة في الأحاديث والآثار على حسب ما تملي لهم به أهواؤهم.
وروى البيهقي بإسناده إلى الربيع بن سليمان أنه قال: سمعت الشافعي رحمه الله يقول في معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه:"من كنت مولاه فعلي مولاه" يعني بذلك ولاء الإسلام وذلك قول الله ـ عز وجل ـ {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} 1.
وأما قول عمر بن الخطاب لعلي: "أصبحت مولى كل مؤمن يقول: ولي كل مسلم"2.
وقال أبو نعيم الأصبهاني في معرض رده لحجج الرافضة التي يدعون أنها تدل على إمامة علي رضي الله عنه مباشرة بعد النبي صلى الله عليه وسلم: فإذا احتج بالأخبار وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كنت مولاه فعلي مولاه" قيل له: مقبول منك ونحن نقول وهذه فضيلة بينة لعلي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ ومعناه من كان النبي صلى الله عليه وسلم مولاه فعلي والمؤمنون مواليه دليل ذلك قول الله تبارك وتعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ} 3. والولي والمولى في كلام العرب واحد والدليل عليه قوله ـ تبارك وتعالى ـ: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} أي: لا ولي لهم وهم عبيده وهو مولاهم وإنما أراد لا ولي لهم ... وإنما هذه منقبة من النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه وحث على محبته وترغيب في ولايته لما ظهر من ميل المنافقين عليه وبغضهم له وكذلك قال صلى الله عليه وسلم: "لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق" 4.
__________
1ـ سورة محمد آية/11.
2ـ الاعتقاد للبيهقي ص/182.
3ـ سورة التوبة آية/71.
4ـ كتاب الإمامة والرد على الرافضة ص/217-218 والحديث في صحيح مسلم 1/86، سنن الترمذي 5/299.(2/604)
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي رحمه الله تعالى: "وأما حديث الموالاة فليس فيه إن صح إسناده نص على ولاية علي بعده فقد ذكرنا من طرقه في كتاب "الفضائل" ما دل على مقصود النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك وهو أنه لما بعثه إلى اليمن كثرت الشكاة عنه وأظهروا بغضه فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يذكر اختصاصه به ومحبته إياه ويحثهم بذلك على محبته وموالاته وترك معاداته فقال: "من كنت وليه فعلي وليه" وفي بعض الروايات "من كنت مولاه فعلي مولاه" والمراد به ولاء الإسلام ومودته وعلى المسلمين أن يوالي بعضهم بعضاً ولا يعادي بعضهم بعضاً وهو معنى ما ثبت عن علي رضي الله عنه أنه قال: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي صلى الله عليه وسلم إلي أنه لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق1 وفي حديث بريدة "حين شكى علياً فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أتبغض علياً؟ فقلت: نعم فقال: "لا تبغضه وأحببه وازدد له حباً" قال بريدة: فما كان من الناس أحد أحب إلي من علي بعد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم"2.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بعد أن ذكر قولي أهل العلم في الحديث من حيث الصحة وعدمها: "ونحن نجيب بالجواب المركب فنقول إن لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قاله فلا كلام فإن قاله فلم يرد به قطعاً الخلافة بعده إذ ليس في اللفظ ما يدل عليه ومثل هذا الأمر العظيم يجب أن يبلغ بلاغاً مبيناً وليس في الكلام ما يدل دلالة بينة على أن المراد به الخلافة وذلك أن المولى كالولي والله تعالى قال: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} 3 وقال: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} 4 فبين أن الرسول ولي المؤمنين وأنهم مواليه أيضاً: كما بين أن الله ولي المؤمنين وأنهم أولياؤه وأن المؤمنين بعضهم أولياء بعض
__________
1ـ صحيح مسلم 1/86.
2ـ الاعتقاد ص/181-182.
3ـ سورة المائدة آية/55.
4ـ سورة التحريم آية/4.(2/605)
الوجه الثاني: أما الزيادة وهي قوله: "اللهم والي من والاه وعادي من عاداه" فلا ريب أنه كذب وقد نقل أحمد بن محمد بن هاني الأثرم قال قلت لأبي عبد الله حسين الأشقر تحدث عنه؟ قال: لم يكن عندي ممن يكذب في الحديث فقال له العباس بن عبد العظيم: حدّث في أبي بكر وعمر فقلت له يا أبا عبد الله صنف باباً فيه معايب أبي بكر وعمر فقال ما هذا بأهل أن يحدث عنه وذكر أنه حدثه بحديثين.
أحدهما أنه قال: أن علياً قاله له إنك ستعرض على البراءة مني فلا تتبرأ مني فاستعظمه أبو عبد الله وأنكره.
الثاني: "اللهم والي من والاه وعادي من عاداه" فأنكره أبو عبد الله جداً وكأنه لم يشك أن هذين كذب1.
الوجه الثالث: زعمهم أن المراد بالمولى: "هو الأولى بالتصرف" غير صحيح وإنما المراد بالمولاة المضادة للمعاداة وهذا حكم ثابت لكل مؤمن فعلي رضي الله عنه من المؤمنين الذين يتولون المؤمنين ويتولونه وفي الحديث إثبات إيمان علي في الباطن والشهادة له بأنه يستحق الموالاة باطناً وظاهراً ويرد ما يقوله فيه أعداؤه من الخوارج والنواصب لكن ليس فيه أنه ليس من المؤمنين مولى غيره فكيف ورسول الله صلى الله عليه وسلم له موال وهم صالحوا المؤمنين فعلي أيضاً له مولى بطريق الأولى والأحرى وهم المؤمنون الذين يتولونه"2.
وبهذه الوجوه المتقدمة يبطل استدلال الشيعة على خلافة علي بحديث الغدير الذي هو من عمدة أدلتهم على ذلك، بل إن "أخبار الغدير التي فيها الأمر باستخلاف علي غير صحيحية عند أهل السنة ولا مسلمة لديهم أصلاً"3.
__________
1ـ انظر كتاب الضعفاء الكبير للعقيلي 1/249، منهاج السنة النبوية 4/85-86، المنتقى من منهاج الاعتدال للذهبي ص/467، تهذيب التهذيب 2/335-337.
2ـ منهاج السنة 4/86.
3ـ انظر روح المعاني للألوسي 6/193(2/606)
الشبهة الخامسة: حديث الدار:
لقد تداول الشيعة هذا الحديث فيما بينهم وتناقلوه في كتبهم وقبلوه وسلموا به سنداً ومتناً وجعلوه دليلاً على إثبات إمامة علي رضي الله عنه بل استنبط منه بعضهم بداية نشأة التشيع.
فقد قال الزنجاني: "إن الدعوة إلى التشيع ابتدأت من اليوم الذي هتف فيه المنقذ الأعظم محمد صلوات الله عليه وآله صارخاً بكلمة لا إله إلا الله في شعاب مكة وجبالها فإنه لما نزل عليه قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} 1 جمع النبي صلى الله عليه وسلم بني هاشم وأنذرهم وقال: أيكم يؤازرني فيكون أخي ووارثي ووزيري ووصيي وخليفتي فيكم بعدي فاسمعوا له وأطيعوا" 2.
وحديث الدار كما قال الحلي وهو "ما نقله الناس كافة أنه لما نزل قوله {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب في دار أبي طالب وهم أربعون رجلاً وأمر أن يصنع لهم فخذ شاة مع مد من البر ويعد لهم صاعاً من اللبن وكان الرجل يأكل الجذعة في مقعد واحد ويشرب الفرق3 من الشراب في ذلك المقام فأكلت الجماعة كلهم من ذلك الطعام اليسير حتى شبعوا ولم يتبين ما أكلوا فبهرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك وتبين لهم آية نبوته فقال: "يا بني عبد المطلب إن الله بعثني إليكم خاصة" فقال: وأنذر عشيرتك الأقربين "وأنا أدعوكم إلى كلمتين خفيفتين على اللسان ثقيلتين في الميزان تملكون بها العرب والعجم وتنقاد لكم بها الأمم وتدخلون بهما الجنة وتنجون بهما من النار شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فمن يجيبني إلى هذا الأمر ويؤازرني على القيام به يكن أخي ووزيري ووصيي ووارثي
__________
1ـ سورة الشعراء آية/214.
2ـ عقائد الإمامية للزنجاني 1/271.
3ـ الفرق: مكيال يسع ستة عشر رطلاً وهي اثنى عشر مداً أو ثلاثة آصع عند أهل الحجاز "النهاية في غريب الحديث" 3/437.(2/607)
وخليفتي من بعدي".
فلم يجبه أحد منهم فقال أمير المؤمنين أنا يا رسول الله أؤازرك على هذا الأمر فقال اجلس، ثم أعاد القول على القوم ثانية فصمتوا فقال علي: فقمت فقلت مثل مقالتي الأولى فقال: "اجلس"، ثم أعاد القول ثالثة فلم ينطق أحد منهم بحرف فقمت فقلت أنا أؤازرك يا رسول الله على هذا الأمر فقال: " اجلس فأنت أخي ووزيري ووصيي ووارثي وخليفتي من بعدي فنهض القوم وهم يقولون لأبي طالب ليهنئك اليوم أن دخلت في دين ابن أخيك فقد جعل ابنك أميراً عليك" 1.
قال الشيعي مهدي السماوي مشيداً بهذا الافتراء: "قد بلغ حداً من التواتر والشهرة لا تستطيع الأقلام إغفاله ولا الألسن أن تكم عن التحدث به لواسع شهرته وانتشاره من حيث السند، وأما مضمونه فأوضح من أن يحتاج إلى بيان في دلالته على إمامته ((ع)) وخلافة رسول الله ((ص)) ووراثته له سائر ما يورث الأنبياء فهو يثبت بوضوح كون الإمام وزير الرسول وأخاه ووصيه وخليفته من بعده"2.
وحديث الدار هذا تناوله شيخ الإسلام ابن تيمية بالنقد والتفنيد وبين زيفه وبطلانه من وجوه عدة هي:
الوجه الأول: أنهم يطالبون بصحة هذا النقل وما يدعونه من نقل الناس كافة من أبين الكذب عند أهل العلم بالحديث فإن هذا الحديث لا يوجد في شيء من كتب المسلمين التي يستفيدون منها علم النقل لا في الصحاح ولا في المسانيد والسنن والمغازي والتفسير التي يذكر فيها الإسناد الذي يحتج به وإذا كان يوجد في بعض كتب التفسير التي ينقل فيها الصحيح والضعيف مثل تفسير الثعلبي
__________
1ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/80، وأورده القمي في تفسيره 2/124، البرهان في تفسير القرآن للبحراني 3/190-192، حق اليقين لعبد الله شبر 1/155، وانظر الصراط المستقيم إلى متسحقي التقديم 2/30.
2ـ الإمامة في ضوء الكتاب والسنة 1/136(2/608)
والواحدي والبغوي بل وابن جرير وابن أبي حاتم لم يكن مجرد رواية واحد من هؤلاء دليلاً على صحته باتفاق أهل العلم فإنه إذا عرف أن تلك المنقولات فيها صحيح وضعيف فلا بد من بيان أن هذا المنقول من قسم الصحيح دون الضعيف، وهذا الحديث غايتة أن يوجد في كتب التفسير التي فيها الغث والسمين فيها أحاديث كثيرة موضوعة مكذوبة مع أن كتب التفسير التي يوجد فيها مثل تفسير ابن جرير وابن أبي حاتم والثعلبي والبغوي ينقل فيها بالأسانيد الصحيحة الثابتة التي اتفق أهل العلم على صحتها ما يناقض ذلك ولكن هؤلاء المفسرون ذكروا ذلك على عادتهم في أنهم ينقلون ما ذكر في سبب نزول الآية من المنقولات الصحيحة والضعيفة ولهذا يذكر أحدهم في سبب نزول الآية عدة أقوال يذكر أقوال الناس وما نقلوه فيها وإن كان بعض ذلك هو الصحيح وبعضه كذب، وإذا احتج بمثل هذا الضعيف وأمثاله واحد فذكر بعض ما نقل في تفسير الآية من المنقولات وترك سائرها ينقل مما يناقض ذلك كان هذا من أفسد الحجج.... ـ وهذا الحديث ـ مناقض لما علم بالتواتر من أئمة التفسير الذين لم يذكروا هذا بحال لعلمهم أنه باطل.
الوجه الثاني: أن هذا الحديث كذب موضوع ولهذا لم يروه أحد منهم في الكتب التي يرجع إليها في المنقولات لأن أدنى من له معرفة بالحديث يعلم أن هذا كذب وقد رواه ابن جرير1 والبغوي2 بإسناد فيه عبد الغفار بن القاسم بن فهد أبو مريم الكوفي وهو مجمع على تركه3....، ورواه أيضاً ابن
__________
1ـ جامع البيان للطبري 19/121-122.
2ـ تفسير البغوي على حاشية الخازن 5/105.
3ـ هو عبد الغفار بن القاسم أبو مريم الأنصاري، رافضي ليس بثقة قال علي بن المديني: كان يضع الحديث ويقال: كان من رؤوس الشيعة وقال يحيى بن معين: ليس بشيء وقال البخاري: عبد الغفار بن القاسم بن قيس بن فهد ليس بالقوي عندهم، وقال أحمد: كان أبو مريم يحدث ببلايا في عثمان، وقال أبو حاتم والنسائي وغيرهما: متروك الحديث، انظر ترجمته في" الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 6/53-54، الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي 5/1964-1965، منهاج السنة 4/81، ميزان الاعتدال للذهبي 2/640.(2/609)
أبي حاتم وفي إسناده عبد الله بن عبد القدوس وهو ليس بثقة1، ... وإسناد الثعلبي أضعف لأن فيه ما لا يعرف.
الوجه الثالث: أن بني عبد المطلب لم يبلغوا أربعين رجلاً حين نزلت هذه الآية فإنها نزلت بمكة في أول الأمر ثم ولا بلغوا أربعين رجلاً في مدة حياة النبي صلى الله عليه وسلم فإن بني عبد المطلب لم يعقب منهم بالاتفاق إلا أربعة وهم بنو هاشم ولم يدرك النبوة من عمومته إلا أربعة العباس، وحمزة، وأبو طالب، وأبو لهب، فآمن اثنان وهما حمزة والعباس ونفر اثنان أحدهما نصره وأعانه وهو أبو طالب والآخر عاداه وأعان أعداءه وهو أبو لهب، وأما العمومة وبنو العمومة فأبو طالب كان له أربعة بنين؛ طالب وعقيل وجعفر وعلي، وطالب لم يدرك الإسلام وأدركه الثلاثة فآمن علي وجعفر في أول الإسلام وهاجر جعفر إلى أرض الحبشة، ثم إلى المدينة عام خيبر وكان عقيل قد استولى على رباع بني هاشم وتصرف فيها ولهذا لما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم في حجته تنزل غداً في دارك بمكة قال: "وهل ترك لنا عقيل من دار"، وأما العباس فبنوه كلهم صغار إذ لم يكن فيهم بمكة ـ رجل وعلى سبيل الفرض أنهم كانوا رجالاً ـ فهم عبد الله وعبيد الله والفضل وأما قثم فولد بعدهم وأكبرهم الفضل وبه كان يكنى وعبد الله ولد في الشعب بعد نزول قوله: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} 2وكان سنه في الهجرة نحو ثلاث سنين أو أربع سنين ولم يولد للعباس في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إلا الفضل وعبد الله وأما سائرهم فولدوا بعد، واما الحارث بن عبد المطلب وأبو لهب فبنوهما أقل والحارث كان له ابنان أبو سفيان وربيعة وكلاهما تأخر إسلامه وكان من مسلمة
__________
1ـ هو عبد الله بن عبد القدوس التميمي السعدي أبو محمد ويقال: أبو سعيد ويقال: أبو صالح قال يحيى بن معين: ليس بشيء رافضي خبيث: وقال البخاري: هو في الأصل صدوق إلا أنه يروي عن أقوام ضعاف، وقال النسائي: ليس بثقة، وقال الدارقطني: ضعيف، انظر ترجمته في الجرح والتعديل 5/104، الكامل لابن عدي 4/1514، كتاب الضعفاء الكبير للعقيلي 2/279-280، منهاج السنة 4/81، تهذيب التهذيب 5/303-304.
2ـ سورة الشعراء آية/214.(2/610)
الفتح، وكذلك بنو أبي لهب تأخر إسلامهم إلى زمن الفتح، وكان له ثلاثة ذكور فأسلم منهم اثنان عتبة ومغيث وشهدا الطائف وحنيناً وعتيبة دعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأكله الكلب فقتله السبع بالزرقاء من الشام كافراً1.
فهؤلاء بنو عبد المطلب لا يبلغون عشرين فأين الأربعون.
الوجه الرابع: أما دعواهم أن الرجل منهم كان يأكل الجذعة ويشرب الفرق من اللبن كذب على القوم ليس بنو هاشم معروفين بمثل هذه الكثرة في الأكل ولا عرف فيهم من كان يأكل الجذعة ولا يشرب فرقا.
الوجه الخامس: أن قوله للجماعة: من يجيبني إلى هذا الأمر ويؤازرني على القيام به يكن أخي ووزيري ووصيي وخليفتي من بعدي كلام مفترى على النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز نسبته إليه فإن مجرد الإجابة إلى الشهادتين والمعاونة على ذلك لا يوجب هذا كله فإن جميع المؤمنين أجابوا إلى هاتين الكلمتين وأعانوه على هذا الأمر وبذلوا أنفسهم وأموالهم في إقامته وطاعته وفارقوا أوطانهم وعادوا إخوانهم وصبروا على الشتات بعد الألفة وعلى الذل بعد العز وعلى الفقر بعد الغنى وعلى الشدة بعد الرخا، وسيرتهم معروفة مشهورة، ومع هذا فلم يكن أحد منهم خليفة له، وأيضاً فإن كان عرض هذا الأمر على أربعين رجلاً أمكن أن يجيبوه، أو أكثرهم أو عدد منهم فلو أجاب منهم عدد من كان الذي يكون الخليفة بعده أيعين واحدا بلا موجب أم يجعل الجميع خلفاء في وقت واحد وذلك أنه لم يعلق الوصية والخلافة والأخوة والمؤازرة إلا بأمر سهل وهو الإجابة إلى الشهادتين والمعاونة على هذا الأمر وما من مؤمن يؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر إلى يوم القيامة إلا وله من هذا نصيب وافر ومن لم يكن له من ذلك حظ فهو منافق فكيف يجوز نسبة مثل هذا الكلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
الوجه السادس: أن حمزة وجعفراً وعبيدة بن الحارث أجابوا إلى ما أجابه
__________
1ـ انظر مجمع الزوائد للهيثمي 6/18-19، 9/217(2/611)
علي من الشهادتين والمعاونة على هذا الأمر فإن هؤلاء من السابقين الأولين الذين آمنوا بالله ورسوله في أول الأمر بل حمزة أسلم قبل أن يصير المؤمنون أربعين رجلاً ولكان النبي صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم بن أبي الأرقم وكان اجتماع النبي صلى الله عليه وسلم به في دار الأرقم ولم يكن يجتمع هو وبنو عبد المطلب كلهم في دار واحدة فإن أبا لهب كان مظهراً لمعاداة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما حصر بنو هاشم في الشعب لم يدخل معهم أبو لهب.
الوجه السابع: أن الذي في الصحاح من نزول هذه الآية غير هذا ففي الصحيحين عن ابن عمر وابي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً فاجتمعوا فخص وعم فقال "يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار يا فاطمة أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لكم من الله شيئاً غير أن لكم رحماً سأبلها ببلالها" 1.
فإن قالوا ـ هذا الحديث قد ذكره طائفة من المفسرين والمصنفين في الفضائل كالثعلبي والبغوي وأمثالهما والمغازلي ـ يقال لهم: ـ مجرد رواية هؤلاء لا توجب ثبوت الحديث باتفاق أهل العلم بالحديث فإن في كتب هؤلاء من الأحاديث الموضوعة ما اتفق أهل العلم على أنه كذب موضوع وفيها شيء كثير يعلم بالأدلة اليقينية السمعية والعقلية أنها كذب بل فيها ما يعلم بالاضطرار أنه كذب والثعلبي وأمثاله لا يتعمدون الكذب بل فيهم من الصلاح والدين ما يمنعهم من ذلك لكن ينقلون ما وجدوه في الكتب ويروون ما سمعوه وليس لأحدهم من الخبرة بالأسانيد ما لأئمة الحديث"2.
وبهذه الوجوه تبين عدم صحة هذا الحديث الذي جعله الرافضة من أدلتهم.
__________
1ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 8/501، صحيح مسلم 1/192 واللفظ له.
2ـ منهاج السنة النبوية 4/80-84، وانظر المنتقى للذهبي ص/465-466.(2/612)
على أن الإمامة بعد النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه.
الشبهة السادسة: خبر الطائر:
مفاده أنهم يقولون روى الجمهور كافة أن النبي صلى الله عليه وآله ـ أتي بطائر فقال: "اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر" فجاء علي ـ عليه السلام ـ فدق الباب فقال أنس بن مالك إن النبي صلى الله عليه وآله على حاجة فرجع، ثم قال النبي صلى الله عليه وآله كما قال أولاً فدق علي ـ عليه السلام ـ الباب قال أنس: أولم أقل لك إن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ على حاجة؟ فانصرف فقال النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ كما قال في الأولين فسمعه النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ وقد قال له أنس إنه على حاجة فأذن له في الدخول فقال: "يا علي ما أبطأك عني؟ " قال: جئت فردني أنس ثم جئت فردني أنس ثم جئت الثالثة فردني فقال: "يا أنس ما حملك على هذا" فقال: رجوت أن يكون الدعاء لأحد من الأنصار فقال: "يا أنس أوفي الأنصار خير من علي ـ عليه السلام ـ؟ أوفي الأنصار أفضل من علي ـ عليه السلام ـ؟ ـ" وإذا كان أحب الخلق إلى الله تعالى وجب أن يكون الإمام"1.
ويرد على هذه الشبهة من وجوه:
الوجه الأول: أنهم يطالبون بتصحيح هذا النقل ودعواهم أن كافة الجمهور رووه محض افتراء عليه فإن حديث الطير هذا لم يروه أحد من أصحاب الصحيح ولا صححه أئمة الحديث ولكن هو مما رواه بعضهم2 كما رووا أمثاله
__________
1ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/99، الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف لابن طاووس 1/71-73.
2ـ رواه الترمذي في سننه 5/300 وقال عقبه: هذا حديث غريب لا نعرفه عن حديث السدي إلا من هذا الوجه، وأخرجه الحاكم في المستدرك 3/130-131.(2/613)
في فضل غير علي بل قد روي في فضائل معاوية أحاديث كثيرة وصنف في ذلك مصنفات وأهل العلم بالحديث لا يصححون لا هذا ولا هذا.
الوجه الثاني: أن أكل الطير ليس فيه أمر عظيم يناسب أن يجيئ أحب الخلق إلى الله ليأكل منه فإن إطعام الطعام مشروع للبر والفاجر وليس في ذلك زيادة وقربة عند الله لهذا الآكل ولا معونة على مصلحة دين ولا دنيا فأي أمر عظيم هنا يناسب جعل أحب الخلق إلى الله يفعله.
الوجه الثالث: أن هذا الحديث يناقض مذهب الرافضة فإنهم يقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم أن علياً أحب الخلق إلى الله وأنه جعله خليفة من بعده وهذا الحديث يدل على أنه ما كان يعرف أحب الخلق إلى الله.
الوجه الرابع أن يقال لهم إما أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرف أن علياً أحب الخلق إلى الله أو ما كان يعرف، فإن كان يعرف ذلك كان يمكنه أن يرسل يطلبه كما كان يطلب الواحد من الصحابة أو يقول: اللهم ائتني بعلي فإنه أحب الخلق إليك فأي حاجة إلى الدعاء والإبهام في ذلك ولو سمي علي لاستراح أنس من الرجاء الباطل ولم يغلق الباب في وجه علي وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يعرف ذلك بطل ما يدعونه من كونه كان يعرف ذلك ثم إن في لفظه أحب الخلق إليك وإليّ فكيف لا يعرف أحب الخلق إليه.
الوجه الخامس: أن الأحاديث الثابتة في الصحاح التي أجمع أهل الحديث على صحتها وتلقيها بالقبول تناقض هذا فكيف تعارض بهذا الحديث المكذوب الموضوع الذي لم يصححوه يبين هذا لكل متأمل ما في صحيح البخاري ومسلم وغيرهما من فضائل القوم فقد جاء في الصحيحين1 عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر" وهذا الحديث مستفيض بل متواتر عند أهل العلم بالحديث أنه قد أخرج في الصحاح من وجوه متعددة
__________
1ـ صحيح البخاري 2/229، صحيح مسلم 4/1855(2/614)
وهو صريح في أنه لم يكن عنده من أهل الأرض أحد أحب إليه من أبي بكر فإن الخلة هي كمال الحب وهذا لا يصلح إلا لله فإذا كانت ممكنة ولم يصلح لها إلا أبو بكر علم أنه أحب الناس إليه وقوله في الحديث الصحيح لما سئل أي الناس أحب إليك قال عائشة قيل: من الرجال قال: أبوها" 1.
وقول الصحابة أنت خيرنا وسيدنا وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله عمر بين المهاجرين والأنصار ولا ينكر ذلك منكر وأيضاً فالنبي صلى الله عليه وسلم محبته تابعة لمحبة الله وأبو بكر أحبهم إلى الله تعالى فهو أحبهم إلى رسوله وإنما كان كذلك لأنه أتقاهم وأكرمهم وأكرم الخلق على الله تعالى أتقاهم بالكتاب والسنة وإنما كان أتقاهم لأن الله تعالى قال: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} 2. وأئمة التفسير يقولون إنه أبو بكر"3.
الوجه السادس: أن حديث الطير موضوع وممن صرح بوضعه ابن طاهر فقد قال: حديث الطائر موضوع إنما يجيء من سقاط أهل الكوفة عن المشاهير والمجاهيل عن أنس وغيره"4.
وقد صرح العلامة ابن الجوزي بعدم صحته فقد أورده في كتابه "العلل المتناهية" عن ابن عباس رضي الله عنهما من طريق واحد وقال: هذا حديث لا يصح، وأورده أيضاً عن أنس من ستة عشر طريقاً وبين علة كل طريق
__________
1ـ تقدم تخريجه.
2ـ سورة الليل آية/17-21.
3ـ منهاج السنة النبوية 4/99-100 وانظر المنتقى من منهاج الاعتدال للذهبي ص/472، وانظر في شأن تفسير قوله تعالى: {وسيجنبها الأتقى} وما بعدها فإن المفسرين أطبقوا على أن المقصود بها هو أبو بكر رضي الله عنه. انظر جامع البيان للطبري 30/228، زاد المسير لابن الجوزي 9/152، تفسير البغوي على حاشية الخازن 7/213، تفسير القرآن العظيم لابن كثير 7/310، الدر المنثور للسيوطي 8/538.
4ـ العلل المتناهية في الأحاديث الواهية 1/233-234.(2/615)
ثم قال في الآخر وقد ذكره ابن مردوية من نحو عشرين طريقاً كلها مظلم وفيها مطعن، فلم أر الإطالة بذلك وقال أنبأنا محمد بن ناصر قال أنبأنا محمد بن طاهر المقدسي قال: كل طرقه باطلة معلولة"1.
فإن اعترض معترض وقال: إن الحاكم قد أخرجه في مستدركه على الصحيحين وقال: إنه على شرطهما ولم يخرجاه"2.
يرد على هذا الحديث بأن حكم الحاكم على هذا الحديث بهذا الحكم لم يسلم له به فقد تعقبه الحافظ الذهبي بقوله: "ولقد كنت زمانا طويلاً أظن أن حديث الطير لم يجسر الحاكم أن يودعه في مستدركه فلما علقت هذا الكتاب رأيت الهول من الموضوعات التي فيه فإذا حديث الطير بالنسبة إليها سماء"3.
وذكر أيضاً أن الحاكم سئل عن حديث الطير فقال: لا يصح ولو صح لما كان أحد أفضل من علي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم"4.
وبهذه الوجوه المتقدمة يتضح أن حديث الطير غير صحيح وأنه حديث موضوع ولا حجة للرافضة فيه على ما يدعون.
الشبهة السابعة: حديث التسليم على علي بإمرة المؤمنين زعمت الشيعة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة أن يسلموا على علي بإمرة المؤمنين وجعلوا هذا دليلاً على إمامته. وهذا الحديث ذكره الحلي فقال: "ما رواه الجمهور أنه أمر الصحابة بأن يسلموا على علي بإمرة المؤمنين وقال بأنه سيد المرسلين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين وقال هذا ولي كل مؤمن بعدي وقال في حقه إن علياً مني وأنا منه أولى بكل مؤمن ومؤمنة فيكون علي وحده هو الإمام لذلك وهذه نصوص في الباب"5.
__________
1ـ المصدر السابق 1/225-233.
2ـ المستدرك 3/131.
3ـ المستدرك 3/131.
4ـ تذكرة الحفاظ 3/1042، وانظر المنتقى ص/472، وانظر طبقات الشافعية للسبكي 4/168-169.
5ـ منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/102-103.(2/616)
والرد على هذه الشبهة من وجوه:
الوجه الأول:
أنهم يطالبون بإسناد هذا الحديث وبيان صحته وأما قوله: رواه الجمهور فهذا من الكذب المحض عليهم حيث إنه غير موجود في كتب الأحاديث المعروفة لا الصحاح ولا المسانيد ولا السنن وغيرها وإن كان وجد في بعض الكتب التي يروى فيها الصحيح والضعيف والموضوع فليس ذلك بحجة يجب اتباعها باتفاق المسلمين والرب ـ جل وعلا ـ قد حرم علينا الكذب وأن نقول عليه ما لا نعلم وقد تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" 1.
الوجه الثاني: أن هذا الحديث كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث وكل من له أدنى معرفة بالحديث يعلم أن هذا كذب موضوع لم يروه أحد من أهل العلم بالحديث في كتاب يعتمد عليه.
الوجه الثالث: أن هذا مما لا يجوز نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإن قال هذا كاذب والنبي صلى الله عليه وسلم منزه عن الكذب وذلك أن سيد المرسلين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين هو رسول الله صلى الله عليه وسلم باتفاق المسلمين. فإن قيل علي هو سيدهم بعده، قيل: ليس في الحديث ما يدل على هذا بل هو مناقض لهذا لأن أفضل المسلمين المتقين المحجلين هم القرن الأول ولم يكن لهم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم سيد ولا إمام ولا قائد غيره فكيف يخبر عن شيء لم يحضر ويترك الخبر عما هو أحوج إليه وهو حكمهم في الحال ثم القائد يوم القيامة هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن يقود علي؟.
وأيضاً فعند الشيعة جمهور المسلمين المحجلين كفار أو فساق فلمن يقود، فقد جاء في الحديث الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام قال: "وددت أني قد رأيت إخواني قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله قال: "أنتم أصحابي وإخواننا الذين لم يأتوا بعد قالوا: كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله قال: "أرأيتم
__________
1ـ صحيح البخاري 1/31 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(2/617)
لو أن رجلاً له خيل غير محجلة بين ظهري خيل دهم1 بهم2 ألا يعرف خيله قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "فإنهم يأتون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء وأنا فرطهم على الحوض" 3الحديث، فهذا يبين أن كل من توضأ وغسل وجه ويديه ورجليه فإنه من الغر المحجلين وهؤلاء جماهيرهم إنما يقدمون أبا بكر وعمر، والرافضة لا تغسل بطون أقدامها ولا أعقابها ولا يكونون من المحجلين في الأرجل وحينئذ فلا يبقى أحد من الغر المحجلين يقودهم ولا يقادون مع الغر المحجلين فإن الحجلة لا تكون في ظهر القدم وإنما الحجلة تكون في الرجل كالحجلة في اليد، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "ويل للأعقاب من النار" 4.
ومعلوم أن الفرس لو لم يكن البياض إلا لمعة في يده أو رجله لم يكن محجلاً، وإنما الحجلة بياض اليد أو الرجل فمن لم يغسل الرجلين إلى الكعبين لم يكن من المحجلين فيكون قائد الغر المحجلين بريئا منه كائنا من كان.
الوجه الرابع: زعمهم أن علياً رضي الله عنه سيدهم وإمامهم وقائدهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يعلم بالاضطرار أنه كذب وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل شيئاً من ذلك بل كان يفضل عليه أبا بكر وعمر تفضيلاً بيناً ظاهراً عرفه الخاصة والعامة حتى إن المشركين كانوا يعرفون منه ذلك ولما كان يوم أحد قال أبو سفيان وكان حينئذ أمير المشركين: أفي القوم محمد فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا تجيبوه" فقال: أفي القوم ابن أبي قحافة قال لا تجيبوه فقال أفي القوم ابن الخطاب فقال: إن هؤلاء قتلوا فلو كانوا أحياء لأجابوا فلم يملك عمر نفسه فقال: كذبت يا عدو الله أبقى الله عليك ما يخزيك"5.الحديث. فهذا مقدم
__________
1ـ دهم: أي عددها كثير. انظر النهاية في غريب الحديث 2/145.
2ـ بهم: البهيم من الخيل الذي لا شية فيه تخالف معظم لونه. النهاية 1/168.
3ـ صحيح مسلم 1/218.
4ـ صحيح البخاري 1/21، صحيح مسلم 1/214.
5ـ صحيح البخاري 3/20.(2/618)
الكفار إذ ذاك لم يسأل إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر لعلمه وعلم الخاص والعام أن هؤلاء الثلاثة هم رؤوس هذا الأمر وأن قيامه بهم ودل ذلك على أنه كان ظاهراً عند الكفار أن هذين وزيراه وبهما تمام أمره وأنهما أخص الناس به وأن لهما من السعي في إظهار الإسلام ما ليس لغيرهما وهذا أمر كان معلوماً للكفار فضلاً عن المسلمين والأحاديث الكثيرة متواترة بمثل هذا"1.
الوجه الخامس: أما قوله: "هو ولي كل مؤمن بعدي" هذا كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم بل هو في حياته وبعد مماته ولي كل مؤمن وكل مؤمن وليه في المحيا والممات فالولاية التي هي ضد العداوة لا تختص بزمان فأما الولاية التي هي الإمارة فإنما يقال فيها والي كل مؤمن"2 وبهذه الوجوه ظهر بطلان هذه الشبهة التي هي أوهى من بيت العنكبوت وحسبنا من حججهم التي يدعون أنها أدلة مسندة إلى السنة ما تقدم وقد اتضح أنها أحاديث مكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم لم تثبت عنه وما صح عنه منها فإنما يدل على فضل علي رضي الله عنه لا على أنه أفضل الصحابة ولا على أنه الإمام بعد النبي صلى الله عليه وسلم وقد صح عن علي وغيره نصوص عدة كلها تبين بطلان اعتقاد الشيعة في الإمامة جملة وتفصيلاً من أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوص له بالإمامة وأنه لم ينص على الخلافة عيناً لأحد من الناس وتلك النصوص هي:
1- روى البخاري بإسناده إلى عبد الله بن عباس أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجعه الذي توفي فقال الناس: يا أبا الحسن كيف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أصبح بحمد الله بارئاً فأخذ بيده عباس بن عبد المطلب فقال له: أنت والله بعد ثلاث عبد العصا، وإني والله لأرى رسول الله صلى الله عليه وسلم سوف يتوفى من وجعه هذا إني لأعرف وجوه
__________
1ـ منهاج السنة 4/103-104، المنتقى للذهبي ص/473-475.
2ـ المنتقى من منهاج الاعتدال ص/475.(2/619)
بني عبد المطلب عند الموت اذهب بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلنسأله فيمن هذا الأمر؟ إن كان فينا علمنا ذلك وإن كان في غيرنا علمنا فأوصى بنا فقال علي: إنا والله لئن سألناها رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعناها لا يعطيناها الناس بعده، وإني والله لا أسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم"1.
فهذا نص صريح من علي رضي الله عنه في أنه لا نص عليه من رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخلافة ولو كان هناك نص كما تزعمه الرافضة لقال للعباس: لماذا نذهب إليه ونسأله وقد نص عليّ وأوصى لي بالخلافة، ولما اعتدى عليه الخبيث الخارجي عبد الرحمن بن ملجم ظلماً وعدواناً وضربه ضربة أودت به إلى الموت قيل له: ألا تستخلف فكان رده على هذا العرض أن المصطفى صلى الله عليه وسلم لم يستخلف أحداً عند وفاته حتى يتأسى به.
2- فقد روى أبو بكر البيهقي بإسناده إلى شقيق بن سلمة قال قيل لعلي بن أبي طالب: ألا تستخلف علينا فقال: ما استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستخلف ولكن إن يرد الله بالناس خيراً فسيجمعهم بعدي على خيرهم كما جمعهم بعد نبيهم على خيرهم"2. فهذا دليل واضح من أن دعوى النص عليه إنما هو من اختلاق الرافضة الذين ملئت قلوبهم بالبغض والحقد لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بما فيهم علي وأهل بيته إنما يدعون حبهم تستراً ليتسنى لهم الكيد للإسلام وأهله.
3- وروى أيضاً بإسناده إلى عمرو بن سفيان قال: لما ظهر علي يوم الجمل قال: أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعهد إلينا في هذه الإمارة شيئاً حتى رأينا من الرأي أن نستخلف أبا بكر فأقام واستقام حتى مضى لسبيله
__________
1ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 8/141.
2ـ الاعتقاد ص/184، وأورده الحافظ ابن كثير في البداية وعزاه إلى البيهقي بهذا اللفظ عن أبي وائل وقال عقبه: إسناد جيد ولم يخرجوه: البداية والنهاية 5/282.(2/620)
ثم قال: إن أبا بكر رأى من الرأي أن يستخلف عمر فأقام واستقام حتى مضى لسبيله أو قال حتى ضرب الدين بجرانه ثم إن أقواماً طلبوا الدنيا فكانت أموراً يقضي الله فيها"1.
4- وروى الشيخان في صحيحيهما عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: خطبنا علي بن أبي طالب فقال: من زعم أن عندنا شيئاً نقرؤه إلا كتاب الله وهذا الصحيفة قال: وصحيفة معلقة في قراب سيفه2 فقد كذب، فيها أسنان الإبل3 وأشياء من الجراحات وفيها قال النبي صلى الله عليه وسلم: "المدينة حرم ما بين عير إلى ثور4 فمن أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً وذمة المسلمين واحدة5 يسعى بها أدناهم6 ومن ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً" 7.
فهذا الحديث الثابت في الصحيحين وفي غيرهما عن علي رضي الله عنه يرد على فرقة الرافضة في زعمهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى إليه بالخلافة ولو كان الأمر كما زعموا لما رد ذلك أحد من الصحابة فإنهم كانوا أطوع لله ولرسوله في حياته وبعد وفاته من أن يفتاتوا عليه فيقدموا غير من قدمه ويؤخروا من قدمه بنصه حاشا ـ وكلا ـ ولما؟ ومن ظن بالصحابة رضوان الله عليهم غير ذلك فقد نسبهم بأجمعهم
__________
1ـ الاعتقاد ص/184، ورواه الإمام أحمد بلفظ مقارب انظر المسند مع الفتح الرباني 23/4-5 وأورده بهذا اللفظ المباركفوري في تحفة الأحوذي 6/478 وقال: أخرجه أحمد ولبيهقي في دلائل النبوة بسند حسن.
2ـ القراب: هو الغلاف الذي يجعل فيه السيف بغمده.
3ـ أي: في تلك الصحيفة بيان أسنان الإبل التي تعطي دية.
4ـ هو جبل صغير واء أحد.
5ـ المراد بالذمة هنا الأمان، ومعناه أن أمان المسلمين للكافر صحيح فإذا أمنة أحد المسلمين حرم على غيره التعرض له ما دام في أمان المسلم.
6ـ أي: يتولاها ويلي أمرها أدنى المسلمين مرتبة.
7ـ صحيح البخاري 1/321، صحيح مسلم 2/994-998 واللفظ له.(2/621)
إلى الفجور والتواطؤ على معاندة الرسول ومضادتهم في حكمه ونصه ومن وصل من الناس إلى هذا المقام فقد خلع ربقة الإسلام وكفر بإجماع الأئمة الأعلام"1.
قال الإمام النووي بعد ذكر قول علي رضي الله عنه: "من زعم أن عندنا شيئاً نقرؤه إلا كتاب الله وهذه الصحيفة فقد كذب هذا تصريح من علي رضي الله عنه بإبطال ما تزعمه الرافضة والشيعة ويخترعونه من قولهم إن علياً أوصى إليه النبي بأمور كثيرة من أسرار العلم وقواعد الدين وكنوز الشريعة وإنه صلى الله عليه وسلم خص أهل البيت بما لم يطلع عليهم غيرهم، وهذه دعاوى باطلة واختراعات فاسدة لا أصل لها ويكفي في إبطالها قول علي رضي الله عنه هذا"2.
5- روى البخاري بإسناده إلى الأسود بن يزيد قال: ذكروا عند عائشة أن علياً رضي الله عنهما كان وصياً فقالت: متى أوصي إليه وقد كنت مسندته إلى صدري أو قالت حجري فدعا بالطست فلقد انخنث3 في حجري فما شعرت أنه قد مات فمتى أوصى إليه4.
فقوله: "ذكروا عند عائشة أن علياً رضي الله عنهما كان وصياً":
قال القرطبي كانت الشيعة قد وضعوا أحاديث في أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بالخلافة لعلي فرد عليهم جماعة من الصحابة ذلك وكذا من جاء بعدهم فمن ذلك ما استدلت به عائشة، ومن ذلك أن علياً لم يدع ذلك لنفسه ولا بعد أن ولي الخلافة، ولا ذكره أحد من الصحابة يوم السقيفة وهؤلاء ـ الشيعة ـ تنقصوا علياً من حيث قصدوا تعظيمه لأنهم نسبوه ـ مع شجاعته العظمى
__________
1ـ البداية والنهاية 5/283-284.
2ـ شرح النووي على صحيح مسلم 9/143.
3ـ أي: انكسر وانثنى لاسترخاء أعضائه عند الموت النهاية لابن الأثير 2/82.
4ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 5/356.(2/622)
وصلابته في الدين ـ إلى المداهنة والتقية والإعراض عن طلب حقه مع قدرته على ذلك وقال غيره الذي يظهر أنهم ذكروا عندها أنه أوصى له بالخلافة في مرض موته فلذلك ساغ لها إنكار ذلك واستندت إلى ملازمتها له في مرض موته إلى أن مات في حجرها ولم يقع منه شيء من ذلك فساغ لها نفي ذلك لكونه منحصراً في مجالس معينة لم تغب عن شيء منها"1.
6- وروى البخاري بإسناده إلى طلحة بن مصرف قال: سألت عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما هل كان النبي صلى الله عليه وسلم أوصى؟ فقال: لا فقلت: كيف كتب على الناس الوصية وأمروا بالوصية؟ قال أوصى بكتاب الله"2.
والوصية المنفية في قول عبد الله بن أبي أوفى إنما هي الوصية في الخلافة فقد توفي عليه الصلاة والسلام عن غير وصية في شأن الخلافة وأما الوصايا بغير الخلافة فوردت في عدة أحاديث اشتملت على وصيته بأشياء كثيرة أما الذي لم يوص به قطعاً هو الخلافة فإنه لم يوص بها لأحد من بعده3.
7- فقد روى الشيخان من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن ابن عمر رضي الله عنهما أن عمر بن الخطاب لما طعن قيل له: ألا تستخلف يا أمير المؤمنين فقال: إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني ـ يعني أبا بكر ـ وإن أترك فقد ترك من هو خير مني ـ يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ قال ابن عمر فعرفت حين ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه غير مستخلف"4.
فهذه النصوص القطعية تبين بطلان زعم الشيعة من دعوى النص على علي رضي الله عنه في الخلافة ـ وأن علياً رضي الله عنه براء مما نسبه إليه الشيعة من أنه الخليفة المنصوص عليه بعد ـ النبي صلى الله عليه وسلم فإن دعواهم النص عليه إنما يتضمن الطعن فيه رضي الله
__________
1ـ فتح الباري 5/361-362.
2ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 5/356.
3ـ انظر الطبقات الكبرى لابن سعد 2/253-257، فتح الباري 5/362.
4ـ صحيح البخاري 2/248، صحيح مسلم 3/1454-1455.(2/623)
عنه لأنه لو كان معه نص فلما لا يحتج به على الصحابة على إثبات إمارته عليهم وإمامته لهم فإن لم يقدر على تنفيذ ما معه من النص فهو عاجز والعاجز لا يصلح للإمارة وإن كان يقدر ولم يفعله فهو خائن والخائن معزول عن الإمارة، وإن لم يعلم بوجود النص فهو جاهل"1.
وحاشاه رضي الله عنه من هذه الصفات كلها وحاشا الإمام الأكبر والصديق الأعظم أن يتقدم على وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي شهد الله له بأنه أتقى الأمة وأبرها على الإطلاق.
8- قال هذيل بن شرحبيل: أبو بكر يتأمر على وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم ود أبو بكر أنه وجد عهداً من رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرم أنفه بخرامة"2.
فكل هذه النصوص التي ختمنا بها هذا المبحث المروية عن علي رضي الله عنه وعن غيره من الصحابة دلت دلالة قطعية على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينص ولم يعهد بالخلافة من بعده لأحد لا لأبي بكر ولا لعلي رضي الله عنهما وإنما أشار إشارة قوية يفهما كل ذي لب وعقل إلى الصديق رضي الله عنه وأخبر أن المؤمنين لن يختاروا سواه ووقع كما أخبر عليه الصلاة والسلام.
كما توضح هذه النصوص لكل من له أدنى معرفة أن النصوص التي يستدل بها الشيعة الرافضة على أن علياً رضي الله عنه هو الخليفة بالنص بعد النبي صلى الله عليه وسلم موضوعة وأنها من اختراعاتهم الباطلبة وأن عقيدتهم في الإمامة مبنية على الأحاديث الموضوعة التي اختلقها الزنادقة الملحدون وأن قصدهم منها هو إفساد دين الإسلام فعلى من افتراها من الله ما يستحق وحسبه ما وعده به الرسول صلى الله عليه وسلم حيث قال: "من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" 3.
__________
1ـ انظر البداية والنهاية 5/284.
2ـ أورده ابن كثير في البداية والنهاية 5/283.
3ـ صحيح البخاري 1/31 حديث أبي هريرة رضي الله عنه ورواه مسلم أيضاً في صحيحه 1/10.(2/624)
الفصل الثاني: خلافة الفاروق رضي الله عنه
المبحث الأول: استخلاف الفاروق بعهد من أبي بكر رضي الله عنهما
...
المبحث الأول: استخلاف الفاروق بعهد من أبي بكر رضي الله عنهما
إن طريقة تولية الفاروق رضي الله عنه الخلافة بعد الصديق الأعظم رضي الله عنه كانت باستخلاف أبي بكر إياه، وذلك أن أبا بكر رضي الله عنه مرض قبل وفاته خمسة عشر يوماً ولما أحس بدنو أجله رضي الله عنه عهد في أثناء هذا المرض بالأمر من بعده إلى عمر بن الخطاب وكان الذي كتب العهد عثمان بن عفان رضي الله عنه. وقرئ على المسلمين فأقروا به وسمعوا له وأطاعوا، ولم يعهد الصديق رضي الله عنه بالخلافة لعمر رضي الله عنه إلا بعد أن استشار نفراً من فضلاء الصحابة فيه مع أن عمر رضي الله عنه هو المعروف بصلابته في الدين، وأمانته وشدته على المنافقين إلى غير ذلك من الصفات الحميدة التي اتصف بها في ذات الله ـ عز وجل ـ ولكن الصديق رضي الله عنه فعل هذا مبالغة في النصح للأمة المحمدية وقد ذكر أهل السير والتواريخ صيغة عهد الصديق بالخلافة للفاروق رضي الله عنه فقد روى ابن سعد وغيره: أن أبا بكر الصديق لما استعز1 به دعا عبد الرحمن بن عوف فقال: أخبرني عن عمر بن الخطاب فقال عبد الرحمن: ما تسألني عن أمر إلا وأنت أعلم به مني فقال أبو بكر: وإن فقال عبد الرحمن: هو والله أفضل من رأيك فيه، ثم دعا عثمان بن عفان فقال: أخبرني عن عمر فقال: أنت أخبرنا به فقال: على ذلك يا أبا عبد الله فقال: عثمان: اللهم علمي به أن سريرته خير من علانيته وأنه ليس فينا مثله، فقال أبو بكر: يرحمك الله والله لو تركته ما عدوتك وشاور معهما
__________
1ـ استعز به: أي: اشتد به المرض وأشرف على الموت ... يقال: عز يعز ـ بالفتح ـ إذا اشتد، واستعز به المرض وغيره، واستعز عليه إذا اشتد عليه وغلبه النهاية في غريب الحديث والأثر 3/228.(2/629)
سعيد بن زيد أبا الأعور وأسيد بن الخضير وغيرهما من المهاجرين والأنصار فقال أسيد: اللهم أعلمه الخيرة بعدك يرضى للرضى ويسخط للسخط الذي يسر خير من الذي يعلن، ولم يل هذا الأمر أحد أقوى عليه منه، وسمع بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بدخول عبد الرحمن وعثمان على أبي بكر وخلوتهما به فدخلوا على أبي بكر فقال له قائل منهم: ما أنت قائل لربك إذ سألك عن استخلافك عمر علينا وقد ترى غلظته؟ فقال أبو بكر: أجلسوني فقال: أبا لله تخوفوني؟ خاب من تزود من أمركم بظلم، أقول: اللهم استخلفت عليهم خير أهلك أبلغ عني ما قلت لك من وراءك، ثم اضطجع ودعا عثمان بن عفان فقال: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجاً منها وعند أول عهده بالآخرة داخلاً فيها حيث يؤمن الكافر ويوقن الفاجر ويصدق الكاذب إني استخلفت عليكم بعدي عمر بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوا وإني لم آل الله ورسوله ودينه ونفسي وإياكم خيراً، فإن عدل فذلك ظني به وعلمي فيه، وإن بدل فلكل امرئ ما اكتسب من الإثم والخير أردت ولا أعلم الغيب وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون والسلام عليكم ورحمة الله، ثم أمر بالكتاب فختمه، ثم قال بعضهم لما أملى أبو بكر صدر هذه الكتاب: بقي ذكر عمر فذهب به قبل أن يسمي أحداً فكتب عثمان: إني قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب ثم أفاق أبو بكر فقال: اقرأ علي ما كتبت فقرأ عليه ذكر عمر فكبر أبو بكر وقال: أراك خفت إن أقبلت نفسي في غشيتي تلك يختلف الناس فجزاك الله عن الإسلام وأهله خيراً، والله إن كنت لها لأهلاً، ثم أمره فخرج بالكتاب مختوماً ومعه عمر بن الخطاب وأسيد بن سعيد القرظي فقال عثمان للناس: أتبايعون لمن في هذا الكتاب؟ فقالوا: نعم، وقال بعضهم: قد علمنا به قال ابن سعد: علي القائل وهو عمر، فأقروا بذلك جميعاً ورضوا به وبايعوا، ثم دعا أبو بكر عمر خالياً فأوصاه بما أوصاه به ثم خرج من عنده فرفع أبو بكر يديه مداً فقال: اللهم إني لم أرد بذلك إلا صلاحهم وخفت عليهم(2/630)
الفتنة فعملت فيهم بما أنت أعلم به واجتهدت لهم رأيي فوليت عليهم خيرهم وأقواهم عليهم وأحرصهم على ما أرشدهم وقد حضرني من أمرك ما حضر فاخلفني فيهم فهم عبادك ونواصيهم بيدك أصلح لهم وإليهم واجعله من خلفائك الراشدين يتبع هدي نبي الرحمة، وهدي الصالحين بعده وأصلح له رعيته"1.
وذكر أبو الفرج بن الجوزي عن الحسن بن أبي الحسن قال: لما ثقل أبو بكر واستبان له من نفسه جمع الناس إليه فقال: إنه قد نزل بي ما قد ترون ولا أظنني إلا ميت لما بي وقد أطلق الله أيمانكم من بيعتي وحل عنكم عقدتي، ورد عليكم أمركم، فأمروا عليكم من أحببتم، فإنكم إن أمرتم في حياة مني كان أجدر أن لا تختلفوا بعدي فقاموا في ذلك وخلوا عليه فلم تستقم لهم، فرجعوا إليه فقالوا: رأينا يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيك قال: فلعلكم تختلفون قالوا: لا قال: فعليكم عهد الله على الرضى قالوا: نعم. قال: فأمهلوني حتى أنظر لله ولدينه ولعباده فأرسل أبو بكر إلى عثمان بن عفان فقال: أشر علي برجل ووالله إنك عندي لها لأهل وموضع فقال: عمر فقال: اكتب فكتب حتى انتهى إلى الاسم فغشي عليه ثم أفاق، فقال: اكتب عمر2 "ومن هذا السياق تبين واتضح أن تولية الفاروق رضي الله عنه الخلافة كانت بعهد من الصديق رضي الله عنه ولقد صدقت فراسة أبي بكر في عمر حين اجتهد في العهد بالخلافة من بعده له رضي الله عنه فلقد قام بالخلافة أتم القيام حيث كان إماماً ناصحاً لله ولرسوله ولدين الإسلام حيث كثرت في خلافته الفتوح واتسعت رقعة الدولة الإسلامية ونعمت الأمة الإسلامية بعدله رضي الله عنه ولحسن اختيار الصديق رضي الله عنه في أن يكون الفاروق هو الخليفة من بعده اعتبر من أشد الناس فراسة بسبب
__________
1ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 3/199-200، تاريخ الأمم والملوك للطبري 3/428-429، كتاب الثقات لابن حبان 2/190-191، تاريخ عمر لأبي الفرج بن الجوزي ص/66-67، الكامل في التاريخ 2/425-426.
2ـ تاريخ عمر لابن الجوزي ص/66-67.(2/631)
ذلك فقد روى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إن أفرس الناس ثلاثة العزيز حين تفرس في يوسف فقال لامرأته: أكرمي مثواه، والمرأة التي رأت موسى عليه السلام فقالت: لأبيها: يا أبت استأجره، وأبو بكر حين استخلف عمر رضي الله عنهما قال الحاكم: فرضي الله عن ابن مسعود لقد أحسن في الجمع بينهم. بهذا الإسناد صحيح"1.
__________
1ـ المستدرك للحاكم 3/90، وصححه الذهبي.ورواه أبو بكر الخلال في كتاب السنة ص/277-278.(2/632)
المبحث الثاني: حقية خلافته رضي الله عنه
إن حقية خلافة الفاروق رضي الله عنه مما لا يشك فيها مسلم لما هو معلوم عند كل ذي عقل وفهم أنه يلزم من حقية خلافة أبي بكر حقية خلافة عمر وقد قدمنا في الفصل الثاني من هذا الباب أن نصوص الكتاب والسنة والإجماع كلها دلت على حقية خلافة أبي بكر، وما دل على حقية خلافة الصديق رضي الله عنه دل على حقية خلافة الفاروق رضي الله عنه لأن الفرع يثبت له من حيث كونه فرعاً ما ثبت للأصل فحينئذ لا مطمع لأحد من الشيعة الرافضة في النزاع في حقية خلافة عمر لما قدمناه من الأدلة الواضحة القطعية على حقية خلافة مستخلفه، ولما سنذكره هنا من بعض النصوص التي فيها الإشارة إلى حقية خلافة الفاروق رضي الله عنه، وإذا ثبت حقية خلافة الصديق رضي الله عنه قطعاً صار النزاع في حقية خلافة الفاروق عناداً وجهلاً وغباوة وإنكاراً لما هو معلوم في الدين بالضرورة ومن اعتقد عدم حقية خلافة الفاروق رضي الله عنه كالشيعة الرافضة إنما يعد من الجهلة الحمقى حقيق أن يعرض عنه وعن أكاذيبه وأباطيله، ولا يلتفت إليه ولا يعول في شيء من الأمور عليه، فخلافة الفاروق رضي الله عنه حق بعد أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهذا معتقد الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة وقد وردت الإشارة إلى حقية خلافته في طائفة من النصوص القطعية الصحيحة منها:-
1- في نص القرآن دليل على صحة خلافة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم وعلى وجوب الطاعة لهم وهو أن الله ـ تعالى ـ قال مخاطباً لنبيه صلى الله عليه وسلم في(2/633)
الأعراب: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوّاً} 1 وكان نزول براءة التي فيها هذا الحكم بعد غزوة تبوك بلا شك2 التي تخلف فيها الثلاثة المعذرون الذين تاب الله عليهم ـ في سورة براءة ولم يغز ـ عليه الصلاة والسلام ـ بعد غزوة تبوك إلى أن مات صلى الله عليه وسلم وقال تعالى أيضاً: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ} فبين أن العرب لا يغزون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد تبوك لهذا، ثم عطف ـ سبحانه وتعالى ـ عليهم أثر منعه إياهم من الغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} 3 فأخبر ـ تعالى ـ أنهم سيدعوهم غير النبي صلى الله عليه وسلم إلى قوم يقاتلونهم أو يسلمون ووعدهم على طاعة من دعاهم إلى ذلك بجزيل الأجر العظيم وتوعدهم على عصيان الداعي لهم إلى ذلك العذاب الأليم.
قال أبو محمد بن حزم: وما دعا أولئك الأعراب أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قوم يقاتلونهم أو يسلمون إلا أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم فإن أبا بكر رضي الله عنه دعاهم إلى قتال مرتدي العرب بني حنيفة وأصحاب الأسود وسجاح وطليحة والروم والفرس وغيرهم، ودعاهم عمر إلى قتال الروم والفرس وعثمان دعاهم إلى قتال الروم والفرس والترك4 فوجب طاعة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم بنص القرآن الذي لا يحتمل تأويلاً وإذ قد وجبت طاعتهم فقد صحت إمامتهم وخلافتهم رضي الله عنهم"5.
__________
1ـ سورة التوبة آية/83.
2ـ انظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور 4/119-122.
3ـ سورة الفتح آية/ 16-17.
4ـ انظر الاعتقاد للبيهقي ص/173.
5ـ الفصل في الملل والأهواء والنحل 4/109-110.(2/634)
2- ما رواه الشيخان في صحيحيهما من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أريت في المنام أني أنزع بدلو بكرة على قليب فجاء أبو بكر فنزع ذنوباً أو ذنوبين نزعاً ضعيفاً والله يغفر له، ثم جاء عمر بن الخطاب فاستحالت غرباً فلم أر عبقرياً يفري فريه حتى روى الناس وضربوا بعطن" 1.
هذا الحديث تضمن الإشارة إلى خلافة الشيخين رضي الله عنهما، كما تضمن الإشارة إلى حقية خلافة الفاروق رضي الله عنه، وإلى كثرة الفتوح وظهور الإسلام في زمنه فهذا المنام النبوي مثال واضح لما حصل لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما في خلافتهما وحسن سيرتهما وظهور آثارهما وانتفاع الناس بهما وكل ذلك مأخوذ عن المصطفى صلى الله عليه وسلم وآثار صحبته فقد كان عليه الصلاة والسلام هو صاحب الأمر فقام به أكمل قيام حيث قرر قواعد الدين ومهد أموره وأوضح أصوله وفروعه ودخل الناس في دين الله أفواجاً وأنزل الله تعالى عليه قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} 2.
ولما التحق صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى خلفه أبو بكر رضي الله عنه على الأمة سنتين وأشهراً وهو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: "ذنوباً أو ذنوبين" ـ وهذا شك من الراوي والمراد ذنوبان كما جاء التصريح بذلك في رواية أخرى3 وقد حصل في خلافته رضي الله عنه قتال المرتدين وقطع دابرهم واتساع رقعة الإسلام ولما توفي الصديق رضي الله عنه خلفه عمر رضي الله عنه فانتشر الإسلام في زمنه أكثر وتقرر لهم من أحكامه ما لم يقع مثله لطول ولايته واتساع بلاد الإسلام وكثرة الأموال من الغنائم وغيرها فالحديث اشتمل على حقية خلافة عمر رضي الله عنه وصحتها وبيان صفتها وانتفاع المسلمين بها.
__________
1ـ صحيح البخاري 2/294، صحيح مسلم 4/1860-1862.
2ـ سورة المائدة آية/3.
3ـ انظر صحيح مسلم 4/1861.(2/635)
3- روى الإمام أحمد وغيره بإسناده إلى حذيفة رضي الله عنه قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم جلوساً فقال: "إني لا أدري ما قدر بقائي فيكم فاقتدوا باللذين من بعدي وأشار إلى أبي بكر وعمر وتمسكوا بعهد عمار وما حدثكم ابن مسعود فصدقوه" 1.
دل هذا الحديث دلالة صريحة على حقية خلافة عمر رضي الله عنه فقوله صلى الله عليه وسلم: "اقتدوا باللذين" بفتح الذال ـ أي الخليفتين اللذين يقومان من بعدي أبو بكر وعمر، فأمره صلى الله عليه وسلم بطاعتهما يتضمن الثناء عليهما لكونهما أهلاً لأن يطاعا فيما يأمران به وينهيان عنه المؤذن بحسن سيرتهما وصدق سريرتهما وإيماء لكونهما الخليفتين بعده وسبب الحث على الاقتداء بالسابقين الأولين ما فطروا عليه من الأخلاق المرضية والطبيعة القابلة للخير ولذلك كانوا أفضل الناس بعد الأنبياء وصار أفضل الخلق بعدهم من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين"2.
4- روى الشيخان في صحيحيهما بإسناديهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "بينا أنا نائم إذ رأيت قدحاً أتيت به فيه لبن فشربت منه حتى إني لأرى الري يجري في أظفاري، ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب قالوا: فما أولت ذلك يا رسول الله قال: العلم" 3.
ففي هذا الحديث إشارة إلى حقية خلافة عمر رضي الله عنه "والمراد بالعلم هنا العلم بسياسة الناس بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم واختص عمر بذلك لطول مدته بالنسية إلى أبي بكر ـ وباتفاق الناس على طاعته بالنسبة إلى عثمان فإن
__________
1ـ المسند 5/385، 402، سنن الترمذي 5/271، ورواه الطحاوي في مشكل الآثار 2/83-84، ابن سعد في الطبقات 2/334، وروا أبو نعيم في الحلية 9/109، الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد 12/20، الحاكم في المستدرك 2/75 وأورده الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 3/233-236.
2ـ انظر فيض القدير للمناوي 2/56.
3ـ صحيح البخاري 2/294، صحيح مسلم 4/1859-1860.(2/636)
مدة أبي بكر كانت قصيرة فلم يكثر فيها الفتوح التي هي أعظم الأسباب في الاختلاف ومع ذلك فساس عمر فيها ـ مع طول مدته ـ الناس بحيث لم يخالفه أحد ثم ازدادت اتساعاً في خلافة عثمان فانتشرت الأقوال واختلفت الآراء، ولم يتفق له ما اتفق لعمر من طواعية الخلق له فنشأت من ثم الفتن إلى أن أفضى الأمر إلى قتله ـ واستخلف علي فما ازداد الأمر إلا اختلافاً، والفتن إلا انتشاراً"1. فالحديث فيه إشارة واضحة إلى حقية خلافة الفاروق رضي الله عنه.
4- روى أبو داود وغيره من حديث الأشعث عن الحسن عن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم: "من رأى منكم رؤيا؟ " فقال رجل: أنا رأيت كأن ميزاناً نزل من السماء فوزنت أنت وأبو بكر فرجحت أنت بأبي بكر، ووزن عمر وأبو بكر فرجح أبو بكر، ووزن عمر وعثمان فرجح عمر، ثم رفع الميزان فرأينا الكراهية في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم"2.
في هذا الحديث إشارة إلى ترتيب الثلاثة في الفضل فأفضلهم أبو بكر ثم عمر، ثم عثمان رضي الله عنهم جميعاً كما أن الحديث تضمن الإشارة إلى حقية خلافة عمر رضي الله عنه وأنه يلي الخلافة بعد الصديق رضي الله عنه وقوله له في الحديث: "فرأينا الكراهية في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم" "وذلك لما علم صلى الله عليه وسلم من أن تأويل رفع الميزان انحطاط رتبة الأمور وظهور الفتن بعد خلافة عمر"3.
6- وروى الشيخان في صحيحيهما من حديث ابن عباس رضي الله عنهما كان يحدث أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت الليلة في المنام ظلة تنطف4 السمن والعسل، فأرى الناس...........................
__________
1ـ فتح الباري 7/46.
2ـ سنن أبي داود 2/512، ورواه أحمد في المسند 5/44، ورواه الترمذي في سننه 3/369.
3ـ انظر عون المعبود شرح سنن أبي داود 13/387.
4ـ أي: تقطر: النهاية في غريب الحديث 5/75.(2/637)
يتكففون1 منها: فالمستكثر والمستقل وإذا سبب واصل من الأرض إلى السماء فأراك أخذت به فعلوت، ثم أخذ به رجل آخر فعلاً به، ثم أخذ به رجل آخر فانقطع ثم وصل. فقال أبو بكر: يا رسول بأبي أنت والله لتدعني فأعبرها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اعبرها قال: أما الظلة فالإسلام، وأما الذي ينطف من العسل والسمن فالقرآن حلاوته تنطف فالمستكثر من القرآن والمستقل، وأما السبب الواصل من السماء في الأرض فالحق الذي أنت عليه تأخذ به فيعليك الله ثم يأخذ به رجل فيعلو به، ثم يأخذ به رجل آخر فيعلو به ثم يأخذ به رجل فينقطع به، ثم يوصل له فيعلو به، فأخبرني يا رسول الله ـ بأبي أنت ـ أصبت أم أخطأت؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً" قال: فوالله يا رسول الله لتحدثني بالذي أخطأت. قال لا تقسم" 2.
تضمن هذا الحديث الإشارة إلى حقية عمر رضي الله عنه وأرضاه. ووجه ذلك أن قوله في الحديث: "ثم أخذ به رجل آخر فعلا به" هو أبو بكر رضي الله عنه وقوله ثانياً: ثم أخذ به رجل آخر فانقطع إشارة إلى خلافة الفاروق رضي الله عنه.
7- روى أبو داود بإسناده إلى جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه كان يحدث أن ـ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أري الليلة رجل صالح أن أبا بكر نيط 3 برسول الله صلى الله عليه وسلم، ونيط عمر بأبي بكر، ونيط عثمان بعمر، قال جابر: فلما قمنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا: أما الرجل الصالح فرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما تنوط بعضهم ببعض فهم ولاة هذا الأمر الذي بعث الله به نبيه صلى الله عليه وسلم"4.
دل هذا الحديث بالإشارة الواضحة إلى ترتيب الثلاثة في الخلافة وإلى حقية
__________
1ـ أي: يأخذون منها بأكفهم انظر: النهاية في غريب الحديث 4/190.
2ـ صحيح البخاري 4/219، صحيح مسلم 4/1777-1778.
3ـ أي: علق انظر النهاية في غريب الحديث 5/141.
4ـ سنن أبي داود 2/513.(2/638)
11- وروى الشيخان في صحيحيهما عن ابن أبي مليكة قال: سمعت ابن عباس يقول: وضع عمر بن الخطاب على سريره فتكنفه1 الناس يدعون ويثنون ويصلون عليه قبل أن يرفع وأنا فيهم قال: فلم يرعني إلا برجل قد أخذ بمنكبي من ورائي فالتفت إليه فإذا هو علي فترحم على عمر وقال: ما خلفت أحداً أحب إلي أن ألقى الله بمثل عمله منك وايم الله إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك وذاك أني كنت أكثر أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: جئت أنا وأبو بكر وعمر ودخلت أنا وأبو بكر وعمر وخرجت أنا وأبو بكر وعمر فإن كنت لأرجو أو لأظن أن يجعلك الله معهما2.
12- ومما دلَّ على حقية خلافته رضي الله عنه اجتماع الصحابة على أنهم لا يقدمون إلا أفضلهم وأخيرهم مع قول أبي بكر وعلي رضي الله عنهما فيه.
فأما قول أبي بكر رضي الله عنه فيه فهو قوله: "اللهم أمرت عليهم خير أهلك"3. وأما قول علي رضي الله عنه فيه فهو ما رواه البخاري عن محمد بن الحنفية وهو ابن علي بن أبي طالب قال: قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال أبو بكر قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر وخشيت أن يقول: عثمان قلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين"4.
فهذه الأحاديث التي أوردناها في هذا المبحث كلها فيها الدلالة الواضحة على حقية خلافة عمر رضي الله عنه وأرضاه.
قال السفاريني رحمه الله تعالى: "اعلم أن خلافة سيدنا عمر بن الخطاب أمير المؤمنين رضي الله عنه مرتبة ولازمة لحقية خلافة الصديق الأعظم أبي بكر
__________
1ـ أي: أحاطوا به.
2ـ صحيح البخاري 2/294، صحيح مسلم 4/1858-1859.
3ـ كتاب الإمامة والرد على الرافضة لأبي نعيم ص/276، وانظر الطبقات لابن سعد 3/274.
4ـ صحيح البخاري 2/291.(2/640)
رضي الله عنه وقد قام الإجماع وإشارات الكتاب والسنة على حقية خلافته فما ثبت للأصل الذي هو الصديق من حقية الخلافة يثبت لفرعه الذي هو عمر بن الخطاب فيها فلا مطمع لأحد من فرق الضلال في الطعن والنزاع في حقية الخلافة وقد علم أهل العلم علماً باتاً ضرورياً أن الصحابة الكرام أجمعوا على تولية الصديق الخلافة ومن شذ لا يقدح في ذلك من غير مرية"1.
__________
1ـ لوامع الأنوار البهية 2/326.(2/641)
المبحث الثاني: حقية خلافته رضي الله عنه
...
خلافتهم رضي الله عنهم وهذا ما فهمه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الرؤيا ولذلك عبروا تنوط بعضهم ببعض بولاية الأمر بعده عليه الصلاة والسلام.
8- روى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: بعثني بنو المصطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: سل لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من ندفع صدقاتنا بعدك قال: فأتيته فسألته فقال: "إلى أبي بكر" فأتيتهم فأخبرتهم فقالوا: ارجع إليه فسله فإن حدث بأبي بكر حدث فإلى من؟ فأتيته فسألته فقال: "إلى عمر" فأتيتهم فأخبرتهم.. الحديث1.
اشتمل هذا الحديث على الإشارة إلى حقية خلافة عمر رضي الله عنه وأنه يلي أمر المسلمين بعد وفاة الصديق رضي الله عنه.
9- روى البزار والطبراني كما في مجمع الزوائد عن ابن عمر رضي الله عنه قال: كنا نقول على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر وعثمان يعني في الخلافة"2 وهذا أيضاً: من الآثار التي إشارتها واضحة إلى حقية خلافة الفاروق رضي الله عنه.
10- وروى مسلم في صحيحه بإسناده إلى ابن أبي مليكة قال: وسمعت عائشة وسئلت: من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخلفاً لو استخلفه قالت: أبو بكر فقيل لها: ثم من بعد أبي بكر قالت: عمر، ثم قيل لها: من بعد عمر قالت: أبو عبيدة بن الجراح ثم انتهت إلى هذا"3. يعني وقفت على أبي عبيدة وهذا الحديث من أدلة أهل السنة والجماعة على تقديم أبي بكر ثم عمر للخلافة مع إجماع الصحابة"4.
__________
1ـ المستدرك 3/77 وقال عقبة: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
2ـ مجمع الزوائد 5/177 وقال عقبه: "رواه البزار والطبراني ورجال البزار رجال الصحيح.
3ـ صحيح مسلم 4/1856.
4ـ انظر شرح النووي على صحيح مسلم 15/154.(2/369)
المبحث الثالث: انعقاد الإجماع على خلافته رضي الله عنه
إن خلافة الفاروق رضي الله عنه لم يختلف فيها اثنان فإنه لما عهد الصديق رضي الله عنه بالخلافة من بعده لعمر رضي الله عنه أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبول ذلك العهد ولم يعارض في ذلك منهم أحد بل أقروا بذلك وسمعوا له وأطاعوا وكذلك التابعون لهم بإحسان من أهل السنة والجماعة أجمعوا على صحة خلافة الفاروق رضي الله عنه واعتقدوا اعتقاداً جازماً أنه رضي الله عنه أحق الناس بالخلافة بعد أبي بكر رضي الله عنه.
وقد نقل إجماع الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم على خلافة عمر طائفة من أهل العلم الذين يعتمد عليهم في النقل.
فقد تقدم معنا قريباً ما رواه ابن سعد وغيره في صيغة عهد الصديق بالخلافة لعمر رضي الله عنه وفيه أن الصديق رضي الله عنه أمر عثمان أن يخرج بالكتاب "مختوماً ومعه عمر بن الخطاب وأسيد بن سعيد القرظي فقال عثمان للناس: أتبايعون لمن في هذا الكتاب؟ فقالوا: نعم، وقال بعضهم: قد علمنا قال ابن سعد: علي القائل: وهو عمر فأقروا بذلك جميعاً ورضوا به وبايعوا"1.
وروى ابن الأثير بإسناده إلى يسار المدني قال: لما ثقل أبو بكر أشرف على الناس من كوة فقال: يا أيها الناس إني قد عهدت عهداً أفترضون به؟ فقال الناس: قد رضينا يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال علي: لا نرضى إلا أن يكون
__________
1ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 3/199، وانظر كتاب الإمامة والرد على الرافضة لأبي نعيم ص/276 الكامل في التاريخ لابن الأثير 2/425(2/642)
عمر بن الخطاب"1.
فكان ما توقعوه لأنهم كانوا رضي الله عنهم يعلمون أنه لا أحد أفضل من عمر رضي الله عنه بعد أبي بكر ولذلك أقروا جميعاً بعهد الصديق ورضوا به، ثم بايعوه. وروى ابن جرير بإسناده إلى أبي السفر سعيد بن محمد قال: أشرف أبو بكر على الناس من كنيفة2 وأسماء بنت عميس ممسكته وهو يقول: أترضون بمن أستخلف عليكم؟ فإني والله ما ألوت من جهد الرأي، ولا وليت ذا قرابة، وإني قد استخلفت عمر بن الخطاب، فاسمعوا له وأطيعوا فقالوا: سمعنا وأطعنا"3.
وروى أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي بإسناده إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: دخلت على عمر حين طعن. فقلت: أبشر بالجنة يا أمير المؤمنين أسلمت حين كفر الناس، وجاهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خذله الناس، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنك راض ولم يختلف في خلافتك اثنان، وقتلت شهيداً فقال: أعد علي فأعدت عليه فقال: والله الذي لا إله غيره لو أن لي ما على الأرض من صفراء وبيضاء لافتديت به من هول المطلع"4.
وقال أبو نعيم الأصبهاني رحمه الله تعالى مبيناً الإجماع على خلافة الفاروق رضي الله عنه: لما علم الصديق رضي الله عنه من فضل عمر رضي الله عنه ونصيحته وقوته على ما يقلده وما كان يعينه عليه في أيامه من المعونة التامة لم يكن يسعه في ذات الله ونصيحته لعباد الله ـ تعالى ـ أن يعدل هذا الأمر عنه إلى غيره، ولما كان يعلم من أمر شأن الصحابة رضي الله عنهم أنهم يعرفون منه
__________
1ـ أسد الغابة 4/169، وانظر تاريخ الأمم والملوك 3/428.
2ـ قال ابن الأثير: وفي حديث أبي بكر حين استخلف عمر أنه أشرف من كنيف فكلمهم أي: من سترة وكل ما ستر من بناء أو حظيرة فهو كنيف "النهاية في غريب الحديث" 4/205.
3ـ تاريخ الأمم والملوك 3/428.
4ـ الاعتقاد ص/188.(2/643)
ما عرفه ولا يشكل عليهم شيء من أمره فوض إليه ذلك فرضي المسلمون له ذلك وسلموه، ولو خالطهم في أمره ارتياب أو شبهة لأنكروه ولم يتابعوه كاتباعهم أبا بكر رضي الله عنه فيما فرض الله عليه الاجتماع وأن إمامته وخلافته ثبتت على الوجه الذي ثبت للصديق، وإنما كان كالدليل لهم على الأفضل والأكمل فتبعوه على ذلك مستسلمين له راضين به"1.
وقال أبو عثمان الصابوني رحمه الله تعالى بعد ذكره خلافة الصديق باختيار الصحابة وإجماعهم عليه قال: "ثم خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه باستخلاف أبي بكر رضي الله عنه إياه واتفاق الصحابة عليه بعده وإنجاز الله ـ سبحانه ـ بمكانه في إعلاء الإسلام وإعظام شأنه وعده"2.
وقال النووي في معرض ذكره لإجماع الصحابة على تنفيذ عهد الصديق بالخلافة لعمر حيث قال: "أجمعوا على اختيار أبي بكر وعلى تنفيذ عهده إلى عمر"3.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وأما عمر فإن أبا بكر عهد إليه وبايعه المسلمون بعد موت أبي بكر فصار إماماً لما حصلت له القدرة والسلطان بمبايعتهم"4.
وقال شارح الطحاوية: "ونثبت الخلافة بعد أبي بكر رضي الله عنه لعمر رضي الله عنه وذلك بتفويض أبي بكر الخلافة إليه، واتفاق الأمة بعده عليه"5.
وقال أبو حامد محمد المقدسي بعد ذكره لطائفة من الأدلة على ثبوت خلافة
__________
1ـ كتاب الإمامة والرد على الرافضة ص/274.
2ـ عقيدة السلف وأصحاب الحديث ضمن مجموعة الرسائل المنيرية 1/129.
3ـ شرح النووي على صحيح مسلم 12/206.
4ـ منهاج السنة 1/142.
5ـ شرح الطحاوية ص/539.(2/644)
أبي بكر: "وإذ قد صحت إمامة أبي بكر رضي الله عنه فطاعته فرض في استخلاف عمر رضي الله عنه بما ذكرناه، وبإجماع المسلمين عليها"1.
وقال الملا علي القاري ذاكراً للإجماع على فضل عمر وحقية خلافته فقال: "وقد أجمعوا على فضيلته وحقية خلافته"2.
ومن هذه النقول التي تقدم ذكرها تبين أن خلافة عمر رضي الله عنه تمت بإجماع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث تلقوا عهد أبي بكر رضي الله عنه بالخلافة لعمر بالقبول والتسليم ولم يعارض في ذلك أحد وكذا أجمعت الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة على ما أجمع عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يخالفهم إلا من لا يعتد بخلافه ممن ابتلي ببغض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كالشيعة الرافضة ومن جرى في ركابهم ممن فتن بهم فإن اعترض معترض على إجماع الصحابة المتقدم ذكره بما رواه ابن سعد وغيره من أن بعض الصحابة سمعوا بدخول عبد الرحمن بن عوف وعثمان على أبي بكر فقال له قائل منهم: ما أنت قائل لربك إذا سألك عن استخلاف عمر علينا؟ وقد نرى غلظته؟ فقال أبو بكر: أجلسوني أبا لله تخوفني؟ خاب من تزود من أمركم بظلم، أقول: اللهم استخلفت عليهم خير أهلك أبلغ عني ما قلت لك من وراءك"3 والجواب عن هذا أن هذا الإنكار الصادر إن صح من هذا القائل ليس عن جهالة لتفضيل عمر بعد أبي بكر واستحقاقه للخلافة، وإنما كان خوفاً من خشونته وغلظته لا اتهاماً له في قوته وأمانته"4.
فالذي يجب على المسلم أن يعتقد اعتقاداً جازماً لا مرية فيه أن أحق
__________
1ـ الرد على الرافضة ص/283-284.
2ـ شرح الفقه الأكبر ص/98.
3ـ الطبقات الكبرى 3/199، الكامل في التاريخ 2/425، وانظر كتاب الإمامة والرد على الرافضة لأبي نعيم ص/276.
4ـ انظر كتاب الإمامة والرد على الرافضة ص/276.(2/645)
خلق الله تعالى بالخلافة بعد أبي بكر رضي الله عنه هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه لفضله وعهد أبي بكر إليه وإجماع المسلمين كافة على صحة خلافته وحقيتها.(2/646)
الفصل الثالث: خلافة ذي النورين عثمان رضي الله عنه
المبحث الأول: كيفية تولية الخلافة
...
المبحث الأول: كيفية توليه الخلافة رضي الله عنه
لما طعن عمر رضي الله عنه لم يستخلف أحداً بعينه ليكون الخليفة على المسلمين من بعده بل أوصى أن يكون الأمر شورى بعده في ستة ممن توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض وهم: عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وتحرج أن يجعلها لواحد من هؤلاء على التعيين وقال: لا أتحمل أمرهم حياً وميتاً1، وإن يرد الله بكم خيراً يجمعكم على خير هؤلاء، كما جمعكم على خيركم بعد نبيكم صلى الله عليه وسلم، ومن تمام ورعه لم يذكر في الشورى سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل لأنه ابن عمه، خشي أن يراعى فيولى لكونه ابن عمه فلذلك تركه وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، ولما مات الفاروق رضي الله عنه ودفنه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبي بكر رضي الله عنه اجتمع النفر الذين جعل عمر الأمر فيهم شورى للتشاور فيمن يلي الخلافة بعد عمر رضي الله عنه ففوض ثلاثة منهم ما لهم في ذلك إلى ثلاثة حيث فوض الزبير ما يستحقه من الإمارة إلى علي وفوض سعد ماله في ذلك إلى عبد الرحمن بن عوف وترك طلحة حقه إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه فقال عبد الرحمن لعلي وعثمان: أيكما يبرأ من هذا الأمر فنفوض الأمر إليه؟
__________
1ـ في صحيح مسلم من حديث ابن عمر أن الصحابة قالوا له: استخلف فقال: أتحمل أمركم حياً وميتاً لوددت أن حظي منها الكفاف لا علي ولا لي فإن أستخلف فقد أستخلف من هو خير مني "يعني أبا بكر" وإن أترككم فقد ترككم من هو خير مني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عبد الله: فعرفت أنه حين ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مستخلف "صحيح مسلم" 3/1454.(2/651)
والله عليه والإسلام ليولين أفضل الرجلين الباقيين فسكت علي وعثمان رضي الله عنهما، فقال عبد الرحمن: إني أترك حقي من ذلك، والله علي والإسلام أن أجتهد فأولي أولاكما بالحق فقالا: نعم ثم خاطب كل واحد منهما بما فيه من الفضل، وأخذ عليه العهد والميثاق لئن ولاه ليعدلن، ولئن ولي عليه ليسمعن وليطيعن فقال كل واحد منهما: نعم ثم تفرقوا1.
وقد روى البخاري في صحيحه من حديث طويل عن عمرو بن ميمون فيه تفاصيل حادثة استشهاد عمر رضي الله عنه وعدد الذين طعنوا معه، ووصية عمر لابنه عبد الله أن يحسب ما عليه من الدين وكيف يقضيه، وطلبه رضي الله عنه الاستئذان من أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في أن يدفن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه فأذنت في ذلك رضي الله عنها بطيب نفس كما اشتمل هذا الحديث على الكيفية التي بويع بها لعثمان والاتفاق عليه ومما جاء فيه بشأن خلافة عثمان رضي الله عنه أنهم "قالوا: أوص يا أمير المؤمنين استخلف قال: ما أجد أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر أو الرهط الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض فسمى علياً وعثمان والزبير وطلحة وسعداً وعبد الرحمن وقال: يشهدكم عبد الله بن عمر وليس له من الأمر شيء كهيئة التعزية له فإن أصابت الإمرة سعداً فهو ذلك وإلا فليستعن به أيكم ما أمر فإني لم أعزله عن عجز لا خيانة ـ إلى أن قال ـ لما فرغ من دفنه اجتمع هؤلاء الرهط فقال عبد الرحمن: اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم فقال الزبير: قد جعلت أمري إلى علي، فقال طلحة: قد جعلت أمري إلى عثمان وقال سعد: قد جعلت أمري إلى عبد الرحمن بن عوف فقال عبد الرحمن بن عوف: أيكما تبرأ من هذا الأمر فنجعله إليه والله عليه والإسلام لينظرن أفضلهم في نفسه فاسكت الشيخان فقال عبد الرحمن: أفتجعلونه إلي والله علي أن لا آلو عن أفضلكم قالا: نعم. فأخذ بيد أحدهما فقال: لك قرابة من
__________
1ـ انظر البداية والنهاية لابن كثير 7/158-159.(2/652)
رسول الله صلى الله عليه وسلم والقدم في الإسلام ما قد علمت فالله عليك لئن أمرتك لتعدلن ولئن أمرت عثمان لتسمعن ولتطيعن ثم خلا بالآخر فقال له مثل ذلك فلما أخذ الميثاق قال: ارفع يدك يا عثمان فبايعه فبايع له علي وولج أهل الدار فبايعوه"1.
وروى أيضاً: بإسناده إلى الزهري أن حميد بن عبد الرحمن أخبره أن المسور بن مخرمة أخبره أن الرهط الذين ولاهم عمر اجتمعوا فتشاوروا قال لهم عبد الرحمن: لست بالذي أنافسكم على هذا الأمر ولكنكم إن شئتم اخترت لكم منكم فجعلوا ذلك إلى عبد الرحمن فلما ولوا عبد الرحمن أمرهم فمال الناس على عبد الرحمن حتى ما أرى أحداً من الناس يتبع أولئك الرهط ولا يطأ عقبه، ومال الناس على عبد الرحمن يشاورونه تلك الليالي حتى إذا كانت الليلة التي أصبحنا منها فبايعنا عثمان قال المسور: طرقني عبد الرحمن بعد هجع2 من الليل فضرب الباب حتى استيقظت فقال: أراك نائماً فوالله ما اكتحلت هذه الليلة بكبير نوم انطلق فادع الزبير وسعداً فدعوتهما له فشاورهما ثم دعاني فقال: ادع لي علياً فدعوته فناجاه حتى ابهار3 الليل، ثم قام علي من عنده وهو على طمع وقد كان عبد الرحمن يخشى من علي شيئاً، ثم قال: ادع لي عثمان فدعوته فناجاه حتى فرق بينهما المؤذن بالصبح، فلما صلى للناس الصبح واجتمع أولئك الرهط عند المنبر فأرسل إلى من كان حاضراً من المهاجرين والأنصار وأرسل إلى أمراء الأجناد وكانوا وافوا تلك الحجة مع عمر فلما اجتمعوا تشهد عبد الرحمن ثم قال: أما بعد يا علي إني قد نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان فلا تجعلن على نفسك سبيلاً، فقال: أبايعك على سنة الله ورسوله والخليفتين من بعده،
__________
1ـ صحيح البخاري 2/297-299.
2ـ قال ابن الأثير: الهجع والهجعة، والهجيع: طائفة من الليل، والهجوع: النوم ليلاً، النهاية في غريب الحديث 5/247.
3ـ أي: انتصف الليل وبهرة كل شيء وسطه انظر الفائق في غريب الحديث 4/94، النهاية في غريب الحديث والأثر1/165.(2/653)
فبايعه عبد الرحمن وبايعه الناس المهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون"1.
ففي هذين الحديثين بيان أن عمر رضي الله عنه لم يعهد بالخلافة من بعده إلى واحد بعينه وإنما جعلها شورى في الستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، وقد التمس بعض أهل العلم وجه الحكمة من جعل عمر الأمر شورى بين الستة دون أن يعين واحداً.
فقد قال ابن بطال: "إن عمر سلك في هذا الأمر مسلكاً متوسطاً خشية الفتنة فرأى أن الاستخلاف أضبط لأمر المسلمين فجعل الأمر معقوداً على الستة لئلا يترك الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، فأخذ من فعل النبي صلى الله عليه وسلم طرفاً وهو ترك التعيين، ومن فعل أبي بكر طرفاً وهو العقد لأحد الستة وإن لم ينص عليه"أ. هـ2.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وأما عمر رضي الله عنه فرأى الأمر في الستة متقارباً فإنهم وإن كان لبعضهم من الفضيلة ما ليس لبعض فلذلك المفضول مزية أخرى ليست للآخر ورأى أنه إن عين واحداً فقد يحصل بولايته نوع من الخلل فيكون منسوباً إليه فترك التعيين خوفاً من الله ـ تعالى ـ وعلم أنه ليس واحد أحق بهذا الأمر منهم فجمع بين المصلحتين بين تعيينهم إذ لا أحق منهم وترك تعيين واحد منهم لما تخوفه من التقصير، والله تعالى قد أوجب على العبد أن يفعل المصلحة بحسب الإمكان فكان ما فعله غاية ما يمكن من المصلحة وإذا كان من الأمور أمور لا يمكن دفعها فتلك لا تدخل في التكليف وكان كما رآه فعلم أنه إن ولّي واحداً من الستة فلا بد أن يحصل نوع من التأخر عن سيرة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وأن يحصل بسبب ذلك مشاجرة كما جبل الله على ذلك طباع بني آدم، وإن كانوا من أولياء الله المتقين، وذكر في
__________
1ـ صحيح البخاري 4/245-246.
2ـ فتح الباري 13/207.(2/654)
كل واحد من الستة الأمر الذي منعه من تعيينه وتقديمه على غيره ثم إن الصحابة اجتمعوا على عثمان رضي الله عنه لأن ولايته كانت أعظم مصلحة وأقل مفسدة من ولاية غيره والواجب أن يقدم أكثر الأمرين مصلحة، وأقلها مفسدة، وعمر رضي الله عنه خاف أن يتقلد أمراً يكون فيه ما ذكر، ورأى أنهم إذا بايعوا واحداً منهم باختيارهم حصلت المصلحة بحسب الإمكان وكان الفرق بين حال المحيا وحال الممات أنه في الحياة يتولى أمر المسلمين فيجب عليه أن يولي عليهم أصلح من يمكنه، وأما بعد الموت فلا يجب عليه أن يستخلف معيناً إذا كانوا يجتمعون على أمثلهم، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما علم أنهم يجتمعون على أبي بكر استغنى بذلك عن كتابة العهد الذي كان قد عزم على أن يكتبه لأبي بكر وأيضاً: فلا دليل على أنه يجب على الخليفة أن يستخلف بعده فلم يترك عمر واجباً ولهذا روجع في استخلاف المعين وقيل له: أرأيت لو أنك استرعيت1 فقال: إن الله تعالى لم يكن يضيع دينه ولا خلافته ولا الذي بعث به نبيه صلى الله عليه وسلم فإن عجل بي أمر فالخلافة شورى بين هؤلاء الستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض"أ. هـ2.
ومما تقدم تبين لنا الكيفية التي تولى بها ذو النورين عثمان رضي الله عنه الخلافة وأنها تمت باختيار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم له قاطبة فهو أحق الناس على الإطلاق بالخلافة بعد عمر رضي الله عنه.
__________
1ـ في صحيح مسلم 4/1405 قال عبد الله بن عمر مخاطباً لأبيه: "إني سمعت الناس يقولون مقالة فآليت أن أقولها لك زعموا أنك غير متسخلف وإنه لو كان لك راعي إبل وراعي غنم ثم جاءك وتركها رأيت أن قد ضيع فرعاية الناس أشد قال فوافقه قولي فوضع رأسه ساعة ثم رفعه إلي فقال إن الله عز وجل يحفظ دينه، وإني لئن لا أستخلف فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستخلف، وإن أستخلف فإن أبا بكر قد استخلف.. الحديث.
2ـ منهاج السنة 3/164.(2/655)
المبحث الثاني: حقية خلافته رضي الله عنه
لا يشك مؤمن في حقية خلافة عثمان رضي الله عنه وصحتها وأنه لا مطعن فيها لأحد إلا ممن أصيب في قلبه بزيغ فنقم على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب ما حل في قلبه من الغيظ منهم وهذا لم يحصل إلا من الشيعة الرافضة الذين جعلوا رأس مالهم في هذه الحياة الدنيا هو سب الصحابة رضي الله عنهم وبغضهم ولا قيمة لما يوجهونه من المطاعن على خلافة الثلاثة رضي الله عنهم لظهور بطلانه وأنها افتراءات لا تصح، وقد جاء في جملة من النصوص القطعية الصحيحة والآثار الشهيرة التنبيه والإيماء إلى حقية خلافة عثمان رضي الله عنه ومن ذلك:-
1- قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} 1 الآية وجه الاستدلال بهذه الآية على حقية خلافة عثمان رضي الله عنه أنه من الذين استخلفهم الله في الأرض ومكن لهم فيها وسار في الناس أيام خلافته سيرة حسنة حيث حكم فيهم بالعدل وأقام الصلاة وآتى الزكاة وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهذه الآية تضمنت الإشارة إلى حقية خلافته رضي الله عنه.
2- قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} 2.
__________
1ـ سورة النور آية/55.
2ـ سورة الفتح آية/16.(2/656)
ووجه الاستدلال بهذه الآية على حقية خلافة عثمان رضي الله عنه هو أن الداعي لهؤلاء الأعراب داع يدعوهم بعد نبيه صلى الله عليه وسلم وهو أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم فأبو بكر دعاهم إلى قتال مرتدي العرب بني حنيفة وأصحاب الأسود، وسجاح وطليحة والروم والفرس وغيرهم ودعاهم عمر إلى قتال الروم والفرس وعثمان دعاهم إلى قتال الروم والفرس والترك فوجبت طاعة هؤلاء الثلاثة رضي الله عنهم بنص القرآن، وإذا وجبت طاعتهم صحت خلافتهم1 رضي الله عنهم وأرضاهم.
3- روى الشيخان عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: " إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل حائطاً وأمرني بحفظ باب الحائط، فجاء رجل يستأذن فقال: ائذن له وبشره بالجنة فإذا أبو بكر، ثم جاء آخر يستأذن فقال: ائذن له وبشره بالجنة فإذا عمر ثم جاء آخر يستأذن فسكت هنيهة ثم قال: ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه فإذا هو عثمان بن عفان" 2 هذا الحديث فيه إشارة إلى ترتيب الثلاثة في الخلافة وإخبار عن بلوى تصيب عثمان وهذه البلوى حصلت له رضي الله عنه وهي حصاره يوم الدار حتى قتل آنذاك مظلوماً فالحديث علم من أعلام النبوة وفيه الإشارة إلى كونه شيهداً رضي الله عنه وأرضاه.
4- وروى أبو داود بإسناده إلى أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم: "من رأى منكم رؤيا؟ " فقال رجل: أنا رأيت كأن ميزاناً أنزل من السماء فوزنت أنت وأبو بكر فرجحت أنت بأبي بكر، ووزن عمر وأبو بكر فرجح أبو بكر، ووزن عمر وعثمان فرجح عمر، ثم رفع الميزان فرأينا الكراهية في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم"3.
تضمن هذا الحديث الإشارة إلى ترتيب الخلفاء الثلاثة في الفضل كما تضمن
__________
1ـ انظر الفصل في الملل والأهواء والنحل 4/109-110.
2ـ صحيح البخاري 2/296، صحيح مسلم 4/1867.
3ـ سنن أبي داود 2/512.(2/657)
الإشارة إلى أن ترتيبهم في الخلافة يكون على حسب ترتيبهم في الفضل وإلى حقية خلافتهم جميعاً رضي الله عنهم وأرضاهم.
5- وروى أبو داود رحمه الله بإسناده إلى جابر بن عبد الله أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أري الليلة رجل صالح أن أبا بكر نيط برسول الله صلى الله عليه وسلم، ونيط عمر بأبي بكر، ونيط عثمان بعمر" قال جابر: فلما قمنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلنا: أما الرجل الصالح فرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما تنوط بعضهم ببعض فهم ولاة هذا الأمر الذي بعث الله به نبيه صلى الله عليه وسلم"1.
هذا الحديث علم من أعلام النبوة الدالة على صدق المصطفى صلى الله عليه وسلم حيث حصل في شأن ترتيب الخلافة الراشدة طبقاً لهذه الرؤيا كما اشتمل على التنبيه على حقية خلافة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم "وفيه إشارة واضحة إلى ترتيب الخلافة الراشدة بعده صلى الله عليه وسلم وقد فهم هذا راوي الحديث وكان كما قال"2.
6- وروى الشيخان في صحيحيهما من حديث ابن عباس رضي الله عنهما كان يحدث أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت الليلة في المنام ظلة تنطف السمن والعسل، فأرى الناس يتكففون منها: فالمستكثر والمستقل وإذا سبب واصل من الأرض إلى السماء فأراك أخذت به فعلوت، ثم أخذ به رجل آخر فعلا به ثم أخذ به رجل آخر فانقطع ثم وصل، فقال أبو بكر: يا رسول الله بأبي أنت والله لتدعني فأعبرها فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: اعبرها قال: أما الظلة فالإسلام، وأما الذي ينطف من العسل السمن فالقرآن حلاوته تنطف فالمستكثر من القرآن والمستقل، وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض فالحق الذي أنت عليه تأخذ به فيعليك الله، ثم يأخذ به رجل فيعلو به، ثم يأخذ به رجل آخر فيعلو
__________
1ـ سنن أبي داود 2/513.
2ـ الدين الخالص 3/445.(2/658)
به، ثم يأخذ به رجل فينقطع به، ثم يوصل له فيعلو به، فأخبرني يا رسول الله ـ بأبي أنت ـ أصبت أم أخطأت؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً" قال: فوالله يا رسول الله لتحدثني بالذي أخطأت قال: "لا تقسم"1.
تضمن هذا الحديث الإشارة إلى حقية خلافة عثمان رضي الله عنه، فقوله في الحديث: "ثم يأخذ به رجل آخر فينقطع ثم يوصل له فيعلوا به" هو عثمان رضي الله عنه لكن قوله: "ثم يأخذ به رجل آخر فينقطع ثم يوصل له فيعلو به" فيه إشكال من حيث كونه يوصل له بعد انقطاعه مع العلم ان خلافة عثمان رضي الله عنه لم يحصل فيها انقطاع ولم تنقطع إلا بموته رضي الله عنه وأرضاه. وقد ذكر العلامة ابن القيم وجه الإشكال في شرحه الحديث على سنن أبي داود مع بيان إزالته حيث قال رحمه الله تعالى: "وهذا يشكل عليه شيئآن:
أحدهما: أن في نفس الرؤيا "ثم وصل له، فعلا به" فتفسير الصديق لذلك مطابق لنفس الرؤيا.
والثاني: أن قتل عثمان رضي الله عنه لا يمنع أن يوصل له، بدليل أن عمر قد قتل ومع هذا فأخذ به وعلا به، ولم يكن قتله مانعاً من علوه به.
أما الأول: فلفظه: "ثم وصل له" لم يذكر هذا البخاري، ولفظ حديثه " ثم أخذ به رجل آخر فانقطع به، ثم وصل" فقط وهذا لا يقتضي أن يوصل له بعد انقطاعه به وقال الصديق في تفسيره في نفس حديث البخاري: "فينقطع به ثم يوصل له" فهذا موضع الغلط، وهذا مما يبين فضل صدق معرفة البخاري، وغور علمه في إعراضه عن لفظة "له" وإنما انفرد بها مسلم، وأما الثاني: فيجاب عنه: بأن عمر رضي الله عنه لم ينقطع به السبب من حيث علا به، وإنما انقطع به بالأجل المحتوم، كما ينقطع الأجل بالسم وغيره، وأما عثمان فانقطع
__________
1ـ صحيح البخاري 2/294، صحيح مسلم 4/1860-1862، سنن أبي داود 2/511-512.(2/659)
به من حيث وصل له من الجهة التي علا بها وهي الخلافة، فإنه إنما أريد منه أن يخلع نفسه، وإنما قتلوه لعدم إجابتهم إلى خلع نفسه، فخلعوه هم بالقتل ظلماً وعدواناً، فانقطع به من الجهة التي أخذ به منها ثم وصل لغيره رضي الله عنه وهذا سر سكوت النبي صلى الله عليه وسلم عن تعيين موضع خطأ الصديق فإن قيل: لم تكلفتم أنتم بيانه، وقد منع النبي صلى الله عليه وسلم الصديق من تعرفه، والسؤال عنه؟ قيل: منعه من هذا: ما ذكرناه من تعلق ذلك بأمر الخلافة، وما يحصل للرابع من المحنة، وانقطاع السبب به فأما وقد حدث ذلك ووقع فالكلام فيه كالكلام إلى غيره من الوقائع التي يحذر الكلام فيها قبل وقوعها سداً للذريعة، ودرءا للمفسدة فإذا وقعت زال المعنى الذي سكت عنها لأجله"أ. هـ1 فالحديث فيه إشارة إلى حقية خلافة عثمان رضي الله عنه وأرضاه.
7- وروى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنها ستكون فتنة واختلاف أو اختلاف وفتنة قال قلنا يا رسول الله: فما تأمرنا قال: عليكم بالأمير وأصحابه وأشار إلى عثمان" 2.
وهذا الحديث أيضاً: فيه معجزة ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم الدالة على صدق نبوته حيث أخبر بالفتنة التي حصلت أيام خلافة عثمان وكانت كما أخبر تضمن الحديث التنبيه على حقية خلافة عثمان إذ أنه صلى الله عليه وسلم أرشد الناس إلى أن يلزموه وأخبر بأنه حين وقوع الفتنة والاختلاف أمير المؤمنين ومقدمهم وأمرهم بالالتفاف حوله وملازمته لكونه على الحق، والخارجون عليه على الباطل أهل زيغ وهوى، وقد شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه سيكون مستمراً على الهدى لا ينفك عنه.
8- فقد روى الترمذي بإسناده إلى أبي الأشعث الصنعاني أن خطباء قامت
__________
1ـ شرح ابن القيم على سنن أبي داود على حاشية عون المعبود 13/383-386.
2ـ المستدرك 3/99 ثم قال عقبه: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.(2/660)
بالشام وفيهم رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقام آخرهم رجل يقال له: مرة بن كعب فقال: لولا حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قمت وذكر الفتن فقربها فمر رجل مقنع في ثوب فقال: هذا يومئذ على الهدى فقمت إليه إذا هو عثمان بن عفان فأقبلت عليه بوجهه فقلت هذا؟ قال نعم"1.
9- وروى الإمام أحمد بإسناده إلى جبير بن نفير قال: كنا معسكرين مع معاوية بعد قتل عثمان رضي الله تعالى عنه فقام كعب بن مرة البهزي فقال: لولا شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قمت هذا المقام فلما سمع بذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أجلس الناس فقال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ مر عثمان عليه مرجلاً قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لتخرجن فتنة من تحت قدمي أو من بين رجلي هذا، هذا يومئذ ومن اتبعه على الهدى" قال: فقام ابن حوالة الأزدي من عند المنبر فقال: إنك لصاحب هذا قال: نعم قال: والله إني لحاضر ذلك المجلس ولو علمت أن لي في الجيش مصدقاً كنت أول من تكلم به"2.
10- وروى أيضاً: بإسناده إلى كعب بن عجرة قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر فتنة فقربها فمر رجل متقنع فقال هذا يؤمئذ على الهدى قال فاتبعته حتى أخذت بضبعيه فحولت وجهه إليه وكشفت عن رأسه وقلت: هذا يا رسول الله قال: نعم فإذا هو عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه"3.
فهذه الثلاثة الأحاديث كلها تضمنت الإشارة إلى حقية خلافة عثمان رضي الله عنه وأنه سيبتلى بالفتنة المذكورة في الحديث والتي كان من آثارها قتله رضي الله عنه ظلماً وعدواناً بغير حق لما علم الله تعالى له أن سيكون في عداد الشهداء كما وضحت هذه الأحاديث أنه هو ومن اتبعه على الهدى عند وقوع تلك الفتن
__________
1ـ سنن الترمذي 5/291-292، المسند 4/235، وابن ماجه 1/41.
2ـ المسند 4/236.
3ـ المصدر السابق 4/243.(2/661)
الفتن من قبيل قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} 1 فعثمان رضي الله عنه كان على الحق، والفتنة التي وقعت في زمنه أهلها على الباطل ففي ذلك فضيلة عظيمة لعثمان رضي الله عنه.
ولقد أعلم النبي صلى الله عليه وسلم أن عثمان رضي الله عنه سيكون أحد الخلفاء الراشدين من بعده، الذين يتولون أمر الأمة، فقد أوصاه في غير ما حديث أنه إن خرج عليه الخارجون وأرادوا منه أن يخلع نفسه فلا يستجيب لهم ولا كرامة وأنه يتمسك بحقه فيه ولا يطع أحداً في تركه.
11- فقد روى أبو عيسى الترمذي بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا عثمان إنه لعل الله يقمصك قميصاً فإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه لهم" 2.
ففي هذا الحديث "الإشارة إلى الخلافة واستعارة القميص لها وذكر الخلع ترشيح أي: سيجعلك الله خليفة، فإن قصد الناس عزلك، فلا تعزل نفسك عنها لأجلهم لكونك على الحق، وكونهم على الباطل"3.
12- وروى الترمذي بإسناده إلى أبي سهلة قال: "قال لي عثمان يوم الدار: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عهد إلي عهداً فأنا صابر عليه"4.
فقوله: "قد عهد إلي عهداً" أي: أوصاني أن لا أخلع بقوله: "وإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه لهم" فأنا صابر عليه "أي: على ذلك العهد" 5.
__________
1ـ سورة البقرة آية/5.
2ـ سنن الترمذي 5/292 وقال عقبه: "هذا حديث حسن غريب".
3ـ الدين الخالص 3/446.
4ـ سنن الترمذي 5/295، وقال عقبه: "هذا حديث حسن صحيح".
5ـ تحفة الأحوذي 10/209.(2/662)
13- وروى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى أبي سهلة مولى عثمان عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ادعوا لي أو ليت عندي رجلاً من أصحابي" قالت قلت: أبو بكر قال: "لا" قلت: عمر قال: "لا" قلت ابن عمك علي قال: " لا" قلت فعثمان قال: "نعم" قالت: فجاء عثمان فقال: "قومي" قال: فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يسر إلى عثمان ولون عثمان يتغير قال: فلما كان يوم الدار قلنا: ألا تقاتل قال: لا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلي أمراً فأنا صابر نفسي عليه"1.
فهذا الحديث والذي قبله فيهما دلالة على صحة خلافته، فمن أنكر خلافته لم يره من أهل الجنة والشهداء وأساء الأدب فيه باللسان، أو الجنان فهو خارج عن دائرة الإيمان وحيز الإسلام"2.
ولقد عمل رضي الله عنه وأرضاه بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم طبقاً لما أوصاه به ولذلك ما عزل نفسه حين حاصروه يوم الدار.
14- وروى ابن سعد بإسناده إلى عبد الله بن عمر قال: قال لي عثمان وهو محصور في الدار: ما ترى فيما أشار به علي المغيرة بن الأخنس؟ قال قلت: ما أشار به عليك؟ قال: إن هؤلاء القوم يريدون خلعي فإن خلعت تركوني وإن لم أخلع قتلوني؟ قال قلت: أرأيت إن خلعت تترك مخلداً في الدنيا؟ قال: لا، قال: فهل يملكون الجنة والنار؟ قال: لا قال: قلت: أرأيت إن لم تخلع هل يزيدون على قتلك؟ قال: لا قلت: فلا أرى أن تسن هذه السنة في الإسلام كلما سخط قوم على أميرهم خلعوه، لا تخلع قميصاً قمصكه الله"3.
15- ومما دل على صحة خلافته وإمامته ما رواه البخاري بإسناده عن
__________
1ـ المستدرك 3/99 وقال عقبه: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، سنن ابن ماجه 1/42.
2ـ الدين الخالص 3/446.
3ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 3/96.(2/663)
ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كنا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا نعدل بأبي بكر أحداً، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نترك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم"1.
وفي هذا إشارة إلى أن الله ـ تعالى ـ ألهمهم وألقى في روعهم ما كان صانعه بعد نبيه صلى الله عليه وسلم من أمر ترتيب الخلافة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "فهذا إخبار عما كان عليه الصحابة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من تفضيل أبي بكر، ثم عمر، ثم عثمان وقد روي أن ذلك كان يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينكره، وحينئذ فيكون هذا التفضيل ثابتاً بالنص وإلا فيكون ثابتاً بما ظهر بين المهاجرين والأنصار على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من غير نكير، وبما ظهر لما توفي عمر فإنهم كلهم بايعوا عثمان بن عفان من غير رغبة ولا رهبة ولم ينكر هذه الولاية منكر منهم"2.
وكل ما تقدم ذكره من النصوص في هذا المبحث أدلة قوية كلها فيها الإشارة والتنبيه إلى حقية خلافة عثمان رضي الله عنه وأرضاه وأنه لا مرية في ذلك ولا نزاع عند المتمسكين بالكتاب والسنة والذين هم أسعد الناس بالعمل بهما وهم أهل السنة والجماعة فيجب على كل مسلم أن يعتقد حقية خلافة عثمان رضي الله عنه وأن يسلم تسلمياً كاملاً للنصوص المشيرة إلى ذلك.
__________
1ـ صحيح البخاري 2/297.
2ـ منهاج السنة 3/165.(2/664)
المبحث الثالث: انعقاد الإجماع على خلافته رضي الله عنه
لقد أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذا من جاء بعدهم ممن سلك سبيلهم من أهل السنة والجماعة على أن عثمان بن عفان رضي الله عنه أحق الناس بخلافة النبوة بعد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولم يخالف أو يعارض في هذا أحد بل الجميع سلم له ذلك لكونه أفضل خلق الله على الإطلاق بعد الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
وقد نقل الإجماع على أحقية عثمان رضي الله عنه بالخلافة بعد عمر رضي الله عنه طائفة من أهل العلم بالحديث وغيرهم ومن تلك النقول:-
ما رواه ابن أبي شيبة بإسناده إلى حارثة بن مضرب قال: حججت في إمارة عمر فلم يكونوا يشكون أن الخلافة من بعده لعثمان"1.
وروى أبو نعيم الأصبهاني بإسناده إلى حذيفة ـ رضي الله عنه ـ قال: إني لواقف مع عمر تمس ركبتي ركبته فقال: من ترى قومك يؤمرون قال: إن الناس قد أسندوا أمرهم إلى ابن عفان"2.
ونقل الحافظ الذهبي عن شريك بن عبد الله القاضي أنه قال: قبض النبي صلى الله عليه وسلم فاستخلف المسلمون أبا بكر فلو علموا أن فيهم أحداً أفضل منه كانوا قد غشوا ثم استخلف أبو بكر عمر فقام بما قام به من الحق والعدل، فلما احتضر جعل الأمر شورى بين ستة، فاجتمعوا على عثمان، فلو علموا أن فيهم أفضل
__________
1ـ المصنف 14/588.
2ـ كتاب الإمامة والرد على الرافضة ص/306.(2/665)
منه كانوا قد غشونا"1.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وأخرج يعقوب بن شيبة في مسنده من طريق صحيح إلى حذيفة قال: قال لي عمر من ترى قومك يؤمرون بعدي؟ قال: قلت: قد نظر الناس إلى عثمان وأشهروه لها"2.
وقال أيضاً: وأخرج البغوي في معجمه وخيثمة في "فضائل الصحابة" بسند صحيح عن حارثة بن مضرب قال: حججت مع عمر فكان الحادي يحدو أن الأمير بعده عثمان بن عفان"3.
وروى أبو نعيم الأصبهاني بإسناده إلى حارثة بن مضرب قال: حججت مع عمر أول خلافة عمر فلم يشك أن الخليفة بعده عثمان بن عفان رضي الله عنه"4.
فهذه النقول فيها بيان واضح في أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قد اشتهر بينهم أولوية عثمان بالخلافة وما زال عمر بن الخطاب رضي الله عنه حياً لما سبق من علمهم ببعض النصوص المشيرة إلى أن ترتيبه سيكون في خلافة النبوة بعد الفاروق رضي الله عنه ولعلمهم أنه أفضل الناس على الإطلاق بعد أبي بكر وعمر رضي الله عنهم جميعاً.
فقد روى ابن سعد بإسناده إلى النزال بن سبرة رضي الله عنه قال: قال عبد الله بن مسعود حين استخلف عثمان: استخلفنا خير من بقي ولم نأله "وفي رواية أخرى قال: "أمرنا خير من بقي ولم نأل"5 ولما استشهد الفاروق رضي الله عنه بايع المهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون عثمان رضي الله عنه ليكون الخليفة للمسلمين بعد عمر رضي الله عنه ولم يتأخر منهم أحد عن بيعته.
__________
1ـ ميزان الاعتدال 2/273.
2ـ فتح الباري 13/198.
3ـ فتح الباري 13/198.
4ـ كتاب الإمامة والرد على الرافضة ص/306.
5ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 3/63، وانظر كتاب الإمامة والرد على الرافضة لأبي نعيم ص/307 وقوله: ولم نأل أي لم نقصر في اختيار الأفضل.(2/666)
فقد روى البخاري رحمه الله تعالى بإسناده إلى المسور بن مخرمة في قصة بيعة عثمان رضي الله عنه من حديث طويل وفيه: "أن عبد الرحمن أرسل إلى من كان حاضراً من المهاجرين والأنصار، وأرسل إلى أمراء الأجناد ـ وكانوا وافوا تلك الحجة مع عمر ـ فلما اجتمعوا تشهد عبد الرحمن ثم قال: أما بعد يا علي إني قد نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان، فلا تجعلن على نفسك سبيلاً فقال: أبايعك على سنة الله وسنة رسوله والخليفتين من بعده: فبايعه عبد الرحمن وبايعه الناس: المهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون"1.
وقال الحسن بن محمد الزعفراني سمعت الشافعي يقول: "أجمع الناس على خلافة أبي بكر واستخلف أبو بكر عمر، ثم جعل عمر الشورى إلى ستة على أن يولوها واحداً فولوها عثمان رضي الله عنهم أجمعين"2.
وقد نقل أبو حامد محمد المقدسي كلاماً عزاه للإمام الشافعي أنه قال: "واعلموا أن الإمام الحق بعد عمر رضي الله عنه عثمان رضي الله تعالى عنه بجعل أهل الشورى اختيار الإمامة إلى عبد الرحمن بن عوف واختياره لعثمان رضي الله عنه وإجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم وصوبوا رأيه فيما فعله وأقام الناس على محجة الحق وبسط العدل إلى أن استشهد رضي الله عنه"3.
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى أنه قال: "لم يجتمعوا على بيعة أحد ما اجتمعوا على بيعة عثمان"4.
وقال أبو الحسن الأشعري رحمه الله تعالى: "وثبتت إمامة عثمان رضي الله عنه بعد عمر بعقد من عقد له الإمامة من أصحاب الشورى الذين نص عليهم
__________
1ـ صحيح البخاري 4/245-246.
2ـ مناقب الشافعي للبيهقي 1/434-435.
3ـ الرد على الرافضة ص/319-320.
4ـ منهاج السنة 3/166(2/667)
عمر فاختاروه ورضوا بإمامته وأجمعوا على فضله وعدله"1.
وقال أبو نعيم الأصبهاني رحمه الله تعالى في صدد ذكره للإجماع على خلافة عثمان: "فاجتمع أهل الشورى ونظروا فيما أمرهم الله به من التوفيق وأبدوا أحسن النظر والحياطة والنصيحة للمسلمين وهم البقية من العشرة المشهود لهم بالجنة واختاروا بعد التشاور والاجتهاد في نصيحة الأمة والحياطة لهم عثمان بن عفان رضي الله عنه لما خصه الله به من كمال الخصال الحميدة والسوابق الكريمة وما عرفوا من علمه الغزير وحلمه لم يختلف على ما اختاروه وتشاوروا فيه أحد ولا طعن فيما اتفقوا عليه طاعن فأسرعوا إلى بيعتة، ولم يتخلف عن بيعتة من تخلف عن أبي بكر ولا تسخطها متسخط بل اجتمعوا عليه راضين به مجيبين له"2.
وقال أبو عثمان الصابوني مبيناً عقيدة السلف وأصحاب الحديث في ترتيب الخلافة بعد أن ذكر أنهم يقولون أولاً بخلافة الصديق ثم عمر قال: "ثم خلافة عثمان رضي الله عنه بإجماع أهل الشورى الأصحاب كافة ورضاهم به حتى جعل الأمر إليه"3.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وجميع المسلمين بايعوا عثمان بن عفان لم يتخلف عن بيعته أحد ... فلما بايعه ذوو الشوكة والقدرة صار إماماً وإلا لو قدر أن عبد الرحمن بايعه ولم يبايعه علي ولا غيره من الصحابة أهل الشوكة لم يصر إماماً ولكن عمر لما جعلها شورى في ستة عثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف ثم إنه خرج طلحة والزبير وسعد باختيارهم وبقي عثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف واتفق الثلاثة باختيارهم على أن عبد الرحمن بن عوف لا يتولى ويولي أحد الرجلين وأقام
__________
1ـ الإبانة عن أصول الديانة ص/68.
2ـ كتاب الإمامة والرد على الرافضة ص/299-300.
3ـ عقيدة السلف وأصحاب الحديث ضمن مجموعة الرسائل المنيرية 1/129.(2/668)
عبد الرحمن ثلاثاً حلف أنه لم يغتمض فيها بكبير نوم يشاور السابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان يشاور أمراء الأجناد، وكانوا قد حجوا مع عمر ذلك العام، فأشار عليه المسلمون بولاية عثمان وذكر أنهم كلهم قدموا عثمان فبايعوه لا عن رغبة أعطاهم إياها ولا عن رهبة أخافهم بها، ولهذا قال غير واحد من السلف والأئمة كأيوب السختياني وأحمد بن حنبل والدارقطني وغيرهم من قدم علياً على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار وهذا من الأدلة الدالة على أن عثمان أفضل لأنهم قدموه باختيارهم واشتوارهم"1.
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى حاكياً لإجماع الصحابة على خلافة عثمان رضي الله عنه: "ويروى أن أهل الشورى جعلوا الأمر إلى عبد الرحمن ليجتهد للمسلمين في أفضلهم ليوليه فيذكر أنه سأل من يمكنه سؤاله من أهل الشورى، وغيرهم فلا يشير إلا بعثمان بن عفان حتى أنه قال لعليّ: أرأيت إن لم أولك بمن تشير بع علي؟ قال بعثمان، وقال لعثمان: أرأيت إن لم أولك بمن تشير به؟ قال: بعلي بن أبي طالب والظاهر أن هذا كان قبل أن ينحصر الأمر في ثلاثة، وينخلع عبد الرحمن منها لينظر الأفضل، والله عليه والإسلام ليجتهدن في أفضل الرجلين فيوليه، ثم نهض عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يستشير الناس فيهما ويجمع رأي المسلمين برأي رؤوس الناس وأقيادهم جميعاً وأشتاتاً، مثنى وفرادى، ومجتمعين سراً وجهراً حتى خلص إلى النساء المخدرات في حجابهن، وحتى سأل الولدان في المكاتب، وحتى سأل من يرد من الركبان والأعراب إلى المدينة في مدة ثلاثة أيام بلياليها، فلم يجد اثنين يختلفان في تقدم عثمان بن عفان فسعى في ذلك عبد الرحمن ثلاثة أيام بلياليها لا يغتمض بكثير نوم إلا صلاة ودعاء واستخارة وسؤالا من ذوي الرأي عنهم، فلم يجد أحداً يعدل بعثمان بن عفان رضي الله عنه فلما كانت الليلة يسفر صباحها عن اليوم
__________
1ـ منهاج السنة 1/143.(2/669)
الرابع من موت عمر بن الخطاب ـ جاء إلى منزل ابن اخته المسور بن مخرمة وأمره أن ينادي له علياً وعثمان رضي الله عنهما فناداهما فحضرا إلى عبد الرحمن فأخبرهما أنه سأل الناس فلم يجد أحداً يعدل بهما أحداً ثم أخذ العهد على كل منهما أيضاً لئن ولاه ليعدلن، ولئن ولي عليه ليسمعن وليطعن ـ ثم خرج بهما إلى المسجد وقد لبس عبد الرحمن العمامة التي عممه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقلد سيفاً، وبعث إلى وجوه الناس من المهاجرين والأنصار، ونودي في الناس عامة الصلاة جامعة فامتلأ المسجد بالناس حتى غص بالناس، وتراص الناس وتراصوا حتى لم يبق لعثمان موضع يجلس فيه إلا في أخريات الناس ـ وكان رجلاً حيياً رضي الله عنه ـ ثم صعد عبد الرحمن بن عوف منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقف وقوفاً طويلاً ودعا دعاء طويلاً لم يسمعه الناس ثم تكلم فقال: أيها الناس إني سألتكم سراً وجهراً عن إمامكم فلم أجدكم تعدلون بأحد هذين الرجلين إما علي، وإما عثمان فقم إلي يا علي، فقام إليه فوقف تحت المنبر فأخذ عبد الرحمن بيده فقال: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وفعل أبي بكر وعمر؟ قال: اللهم لا. ولكن على جهدي من ذلك وطاقتي قال: فأرسل يده وقال: قم إلي يا عثمان، فأخذ بيده وقال: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وفعل أبي بكر وعمر؟ قال: اللهم نعم قال: فرفع رأسه إلى سقف المسجد ويده في يد عثمان وقال: اللهم اسمع واشهد، اللهم اسمع واشهد، اللهم اسمع واشهد، اللهم إني قد جعلت ما في رقبتي من ذلك في رقبة عثمان قال: وازدحم الناس يبايعون عثمان حتى غشوه تحت المنبر قال: فقعد عبد الرحمن مقعد النبي صلى الله عليه وسلم وأجلس عثمان تحته على الدرجة الثانية، وجاء إليه الناس يبايعونه، وبايعه علي بن أبي طالب أولاً، ويقال ثانياً"1.
فهذه النقول المتقدم ذكرها للإجماع عن هؤلاء الأئمة كلها تفيد إفادة
__________
1ـ البداية والنهاية 7/159-161.(2/670)
قطعية أن البيعة بالخلافة تمت لعثمان رضي الله عنه بإجماع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ولم يخالف أو يعارض في ذلك أحد، وما يذكره كثير من المؤرخين كابن جرير وغيره عن رجال لا يعرفون1 أن علياً تلكأ فقال: عبد الرحمن: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} 2 فرجع علي يشق الناس حتى بايع وهو يقول: خدعة وأيما خدعة 3.
فهذا باطل من وجوه:
الوجه الأول: أن هذه القصة مخالفة لما ثبت في الحديث الصحيح وذلك أنه ثبت في صحيح البخاري في قصة البيعة والاتفاق على عثمان أن علياً رضي الله عنه بايع عثمان بعد عبد الرحمن بن عوف مباشرة ثم بايع الناس بعده وما جاء مخالفاً لهذا فهو مردود على قائله وناقليه.
الوجه الثاني: أخرج ابن سعد بإسناده إلى مولى عمر بن الخطاب عن أبيه عن جده قال: أنا رأيت علياً بايع عثمان أول الناس، ثم تتابع الناس فبايعوا"4.
الوجه الثالث: أن المظنون بالصحابة خلاف ما يتوهم كثير من الرافضة وأغبياء القصاص الذين لا تمييز عندهم بين صحيح الأخبار وضعيفها ومستقيمها وسقيمها وميادها وقويمها"5.
فكل ما يذكر من أن علياً رضي الله عنه تلكأ عن بيعة عثمان أو تأخر عنها فهو مبني على خبر غير صحيح رجاله لا يعرفون قد يكون في الغالب من وضع الرافضة الذين أوبقوا أنفسهم ببغض الصحابة رضي الله عنهم. فبيعة عثمان تمت بإجماع المسلمين كافة ولا مطعن فيها لأحد من أهل الزيغ.
__________
1ـ انظر البداية والنهاية 7/161.
2ـ سورة الفتح آية/10.
3ـ تاريخ الأمم والملوك لابن جرير 4/238-239.
4 ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 3/62.
5 ـ البداية والنهاية 7/161.(2/671)
الفصل الرابع: خلافة علي رضي الله عنه
المبحث الأول: كيف تمت له البيعة بالخلافة
...
المبحث الأول: كيف تمت له البيعة بالخلافة
لقد تمت بيعة علي رضي الله عنه بالخلافة بطريقة الاختيار وذلك بعد أن استشهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه على أيدي الخارجين المارقين الشذاذ الذين جاءوا من الآفاق ومن أمصار مختلفة، وقبائل متباينة لا سابقة لهم، ولا أثر خير في الدين فبعد أن قتلوه رضي الله عنه ظلماً وعدواناً "يوم الجمعة لثماني عشرة ليلة مضت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين"1.
قام كل من بقي بالمدينة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بمبايعة علي رضي الله عنه بالخلافة وذلك لأنه لم يكن أحد أفضل منه على الإطلاق بعد عثمان رضي الله عنه، ولذلك لم يدع الإمامة لنفسه أحد بعد عثمان رضي الله عنه ولم يكن أبو السبطين رضي الله عنه حريصاً عليها، ولذلك لم يقبلها إلا بعد إلحاح شديد ممن بقي من الصحابة بالمدينة وخوفاً من ازدياد الفتن وانتشارها ومع ذلك لم يسلم من معرة تلك الفتن كموقعة الجمل وصفين التي أوقد نارها وأنشبها الحاقدون على الإسلام كابن سبأ وأتباعه الذين استخفهم فأطاعوه لفسقهم ولزيغ قلوبهم عن الحق والهدى، وقد روى الكيفية التي تم بها اختيار علي رضي الله عنه للخلافة بعض أهل العلم.
فقد روى أبو بكر الخلال بإسناده إلى محمد بن الحنفية قال: كنت مع علي رحمه الله وعثمان محصر قال: فأتاه رجل فقال: إن أمير المؤمنين مقتول الساعة قال: فقام علي رحمه الله: قال محمد: فأخذت بوسطه تخوفاً عليه فقال: خل لا أم لك قال: فأتى علي الدار وقد قتل الرجل رحمه الله فأتى داره فدخلها فأغلق بابه، فأتاه الناس فضربوا عليه الباب فدخلوا عليه فقالوا: إن هذا قد قتل،
__________
1ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 3/31.(2/677)
ولا بد للناس من خليفة ولا نعلم أحداً أحق بها منك فقال لهم علي: لا تريدوني فإني لكم وزير خير مني لكم أمير فقالوا: لا والله لا نعلم أحداً أحق بها منك قال: فإن أبيتم علي فإن بيعتي لا تكون سراً، ولكن أخرج إلى المسجد فبايعه الناس.
وفي رواية أخرى عن سالم بن أبي الجعد عن محمد بن الحنفية: "فأتاه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن هذا الرجل قد قتل ولا بد للناس من إمام ولا نجد أحداً أحق بهذا منك أقدم مشاهد، ولا أقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال علي: لا تفعلوا فإني وزير خير مني أمير، فقالوا: لا والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك قال: ففي المسجد فإنه لا ينبغي بيعتي أن تكون خفياً ولا تكون إلا عن رضا من المسلمين قال: فقال سالم بن أبي الجعد: فقال عبد الله بن عباس فلقد كرهت أن يأتي المسجد كراهية أن يشغب عليه وأبى هو إلا المسجد فلما دخل المسجد جاء المهاجرون والأنصار فبايعوا وبايع الناس"1.
وقال ابن جرير: "وكتب إلى السري عن شعيب عن سيف عن أبي حارثة وأبي عثمان ـ يزيد بن أسيد الغساني ـ قال: لما كان يوم الخميس على رأس خمسة أيام من مقتل عثمان رضي الله عنه جمعوا أهل المدينة فوجدوا سعداً والزبير خارجين ووجدوا طلحة في حائط له ... فلما اجتمع لهم أهل المدينة قال لهم أهل مصر: أنتم أهل الشورى، وأنتم تعقدون الإمامة وأمركم عابر2 على الأمة فانظروا رجلاً تنصبونه ونحن لكم تبع فقال الجمهور: علي بن أبي طالب نحن به راضون".
وفي رواية أخرى: أن جمهور الصحابة لما عرضوا على علي رضي الله عنه الخلافة قال لهم: "دعوني والتمسوا غيري ... فقالوا: ننشدك الله ألا ترى الفتنة ألا تخاف الله؟ فقال: إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم وإن تركتموني فإنما أنا
__________
1ـ المسند من مسائل الإمام أحمد للخلال ق62/أ، ب، تاريخ الأمم والملوك للطبري 4/427، الكامل في التاريخ لابن الأثير 3/190-191.
2ـ عند ابن الأثير "وحكمك جائز على الأمة" الكامل 3/192.(2/678)
كأحدكم إلا أني أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم ثم افترقوا على ذلك واتعدوا الغد ... فلما أصبحوا يوم الجمعة حضر الناس المسجد وجاء علي حتى صعد المنبر فقال: "يا أيها الناس ـ عن ملأ وإذن ـ إن هذا أمركم ليس لأحد فيه حق إلا من أمرتم، وقد افترقنا بالأمس على أمر فإن شئتم قعدت لكم، وإلا فلا أجد على أحد فقالوا: نحن على ما فارقناك بالأمس"1.
وقال الحافظ ابن كثير: "وذكر سيف2 بن عمر عن جماعة من شيوخه قالوا: بقيت المدينة خمسة أيام بعد مقتل عثمان وأميرها الغافقي بن حرب يلتمسون من يجيبهم، إلى القيام بالأمر، والمصريون يلحون على علي وهو يهرب منهم إلى الحيطان ويطلب الكوفيون الزبير فلا يجدونه والبصريون يطلبون طلحة فلا يجيبهم، فقالوا فيما بينهم: لا نولي أحداً من هؤلاء الثلاثة فمضوا إلى سعد بن أبي وقاص فقالوا: إنك من أهل الشورى فلم يقبل منهم، ثم راحوا إلى ابن عمر فأبى عليهم، فحاروا في أمرهم ثم قالوا: إن نحن رجعنا إلى أمصارنا بقتل عثمان من غير إمرة ـ اختلف الناس في أمرهم ولم نسلم فرجعوا إلى علي فألحوا عليه، وأخذ الأشتر بيده، فبايعه وذلك يوم الخميس الرابع والعشرين من ذي الحجة وذلك بعد مراجعة الناس لهم في ذلك وكلهم يقول: لا يصلح لها إلا علي، فلما كان يوم الجمعة وصعد المنبر بايعه من لم يبايعه بالأمس"3.
ومما تقدم تبين أن خلافة علي رضي الله عنه تمت بطريق الاختيار من جميع من كان موجوداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد استشهاد ذي النورين رضي الله عنه، وهذه الطريقة التي تم بها اختيار علي رضي الله عنه كالطريق التي
__________
1ـ تاريخ الأمم والملوك 4/433-435، الكامل 3/192-193.
2ـ هو سيف بن عمر التميمي صاحب "كتاب الردة" ويقال له: الضبي ويقال غير غير ذلك الكوفي ضعيف في الحديث عمدة في التاريخ من الثامنة، مات زمن الرشيد انظر ترجمته في "الميزان للذهبي" 2/255-256، التهذيب 4/295-296، التقريب 1/244.
3ـ البداية والنهاية 7/247، وانظر الكامل في التاريخ لابن الأثير 3/192.(2/679)
ثبتت بها خلافة الصديق أبي بكر رضي الله عنه حيث إن عثمان رضي الله عنه لم يعين أحداً يقوم بالخلافة بعده فقد روى الإمام أحمد والبخاري والحاكم عن مروان بن الحكم أن عثمان رضي الله عنه أصابه رعاف شديد سنة الرعاف حتى حبسه عن الحج وأوصى وطلب منه أن يستخلف فلم يستخلف رضي الله عنه وأرضاه"1 كما تبين أيضاً: مما تقدم "أن بيعة علي رضي الله عنه كانت كبيعة إخوانه من قبل جاءت على قدر وفي إبانها وأنها مستمدة من رضا الأمة في حينها لا من وصية سابقة مزعومة، أو رموز خيالية موهومة"2.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: "وأما ما يغتر به كثير من جهلة الشيعة والقصاص الأغبياء من أنه أوصى إلى علي بالخلافة فكذب وبهت وافتراء عظيم يلزم منه خطأ كبير من تخوين الصحابة، وممالأتهم بعده على ترك إنفاذ وصيته وإيصالها إلى من أوصى إليه، وصرفهم إياها إلى غيره لا لمعنى ولا لسبب وكل مؤمن بالله ورسوله يتحقق أن دين الإسلام هو الحق ـ يعلم بطلان هذا الافتراء لأن الصحابة كانوا خير الخلق بعد الأنبياء وهم خير قرون هذه الأمة التي هي أشرف الأمم بنص القرآن، وإجماع السلف والخلف في الدنيا والآخرة ولله الحمد"3.
__________
1ـ المسند 1/64، صحيح البخاري مع الفتح 7/89، المستدرك 3/363.
2ـ من كلام محب الدين الخطيب في تعليقه على العواصم في القواصم ص/143.
3ـ البداية والنهاية 7/245.(2/680)
المبحث الثاني: حقية خلافته رضي الله عنه
إن أحق الناس بالخلافة بعد الثلاثة المتقدمين أعني أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهذا معتقد الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة بل ومعتقد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قاطبة وهذا هو ما يجب على المسلم اعتقاده والديانة لله به في شأن ترتيب الخلافة الراشدة، وقد ورد الإيماء إلى حقية خلافة علي رضي الله عنه في كثير من النصوص الشرعية منها:-
1- قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} 1 الآية ووجه الاستدلال بها على حقية خلافة علي رضي الله عنه أنه أحد المستخلفين في الأرض الذين مكن الله لهم دينهم"2.
2- قوله عليه الصلاة والسلام: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ" 3.
ووجه الدلالة في هذا الحديث على حقية خلافة علي رضي الله عنه أنه أحد الخلفاء الراشدين المهديين الذين أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وحافظوا على
__________
1ـ سورة النور آية/55.
2ـ انظر منهاج القاصدين في فضل الخلفاء الراشدين لابن قدامة ص/74 "مخطوط" برقم 253 في مكتبة عارف حكمت بالمدينة.
3ـ رواه أحمد في المسند 4/126-127، سنن أبي داود 2/506، سنن ابن ماجه 1/16، سنن الترمذي 4/150، سنن الترمذي 1/45.(2/681)
حدود الله وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وساروا بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في العدل وإقامة الحق.
3- روى أبو عبد الله الحاكم وغيره بإسناده إلى أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فانقطعت نعله فتخلف علي يخصفها فمشى قليلاً ثم قال: "إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله" فاستشرف لها القوم وفيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما قال أبو بكر: أنا هو قال "لا" قال عمر: أنا هو قال "لا" ولكن خاصف النعل" ـ يعني علياً فأتيناه فبشرناه فلم يرفع به رأسه كأنه قد سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم"1.
هذا الحديث فيه إيماء إلى ولايته حيث إنه رضي الله عنه قاتل في خلافة أهل التأويل الذين خرجوا عليه بالتأويل، ومنه أخذت أحكام قتال البغاة في أنه لا يتبع مدبرهم ولا يجاز على جريحهم ولا يغنم لهم مال ولا يسبى لهم ذرية وغير ذلك من أحكامهم وقاتل أيضاً الحرورية2 الذين تأولوا القرآن على غير تأويله وكفروا أهل الحق ومرقوا من الدين مروق السهم من الرمية.
4- روى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين يقتلها أولى الطائفتين بالحق".
وفيه أيضاً: أنه قال: "تكون في أمتي فرقتان فتخرج من بينهما مارقة يلي قتلهم أولاهم بالحق".
وفي لفظ: قال: "تمرق مارقة في فرقة من الناس فيلي قتلهم أولى الطائفتين بالحق".
__________
1ـ المستدرك 3/122-123 وقال عقبه: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وأقره الذهبي، والحديث رواه أحمد في المسند 3/31، 33، 82، تهذيب خصائص الإمام علي للنسائي ص/118-119، وأبو نعيم في الحلية 1/67.
2ـ إحدى فرق الخوارج وسيأتي التعريف بها في الباب الرابع.(2/682)
وجاء أيضاً بلفظ: "يخرجون على فرقة مختلفة يقتلهم أقرب الطائفتين من الحق" 1.
فقوله صلى الله عليه وسلم على حين فرقة ـ بضم الفاء ـ أي: في وقت افتراق الناس أي: افتراق يقع بين المسلمين وهو الافتراق الذي كان بين بين علي ومعاوية رضي الله عنهما"2.
والمراد بالفرقة المارقة هم "أهل النهروان كانوا في عسكر علي رضي الله عنه في حرب صفين فلما اتفق علي ومعاوية على تحكيم الحكمين خرجوا وقالوا: إن علياً ومعاوية استبقا إلى الكفر كفرسي رهان فكفر معاوية بقتال علي ثم كفر علي بتحكيم الحكمين وكفروا طلحة والزبير فقتلتهم الطائفة الذين كانوا مع علي وقد شهد النبي صلى الله عليه وسلم أن الطائفة التي تقتلهم أقرب إلى الحق وهذا شهادة من النبي صلى الله عليه وسلم لعلي وأصحابه بالحق وهذا من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم لكونه أخبر بما يكون فكان على ما قال وفيه دلالة على صحة خلافة علي رضي الله عنه وخطأ من خالفه"3.
5- وروى البخاري بإسناده إلى خالد الحذاء عن عكرمة قال لي ابن عباس ولابنه علي: انطلقا إلى أبي سعيد فاسمعا من حديثه، فانطلقنا فإذا هو في حائط يصلحه، فأخذ رداءه فاحتبى، ثم أنشأ يحدثنا حتى أتى على ذكر بناء المسجد فقال: "كنا نحمل لبنة لبنة وعمار لبنتين فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فينفض التراب عنه ويقول: ويح 4 عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار
__________
1ـ هذه الأحاديث في صحيح مسلم 2/745-746.
2ـ شرح النووي على صحيح مسلم 7/166.
3ـ منهاج القاصدين في فضل الخلفاء الراشدين لابن قدامة ص/75-76 مخطوط، وانظر شرح النووي 7/166.
4ـ ويح: كلمة رحمة تقال لمن وقع في هلكة لا يستحقها يرثى له قال الأصمعي: الويل: قبوح، والويح: ترحم. غريب الحديث لابن الجوزي 2/486، الفائق في غريب الحديث 4/85، النهاية في غريب الحديث 5/235.(2/683)
قال: يقول عمار: أعوذ بالله من الفتن"1.
6- عند مسلم عن أبي سعيد أيضاً: قال أخبرني من هو خير مني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمار حين جعل يحفر الخندق وجعل يمسح رأسه ويقول: "بؤس 2 ابن سمية تقتلك فئة باغية" 3.
هذان الحديثان دلا على حقية خلافة علي رضي الله عنه وأنه الإمام الحق بعد عثمان رضي الله عنه وأن الذين قاتلوه مجتهدون مخطئون "لا إثم عليهم ولا لوم فيما وقع بينهم من القتال".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بعد ذكره لقوله صلى الله عليه وسلم: "تقتل عماراً الفئة الباغية" 4:"وهذا أيضاً يدل على صحة إمامة علي ووجوب طاعته وأن الداعي إلى طاعته داع إلى الجنة والداعي إلى مقاتلته داع إلى النار وإن كان متأولا وهو دليل على أنه لم يكن يجوز قتال علي وعلى هذا فمقاتله مخطئ وإن كان متأولاً، أو باغ بلا تأويل وهو أصح القولين لأصحابنا وهو الحكم بتخطئة من قاتل علياً وهو مذهب الأئمة الفقهاء الذين فرعوا على ذلك قتال البغاة المتأولين وكذلك أنكر يحيى بن معين على الشافعي استدلاله بسيرة علي في قتال البغاة المتأولين قال: أيجعل طلحة والزبير معاً بغاة؟ رد عليه الإمام أحمد فقال: ويحك وأي شيء يسعه أن يضع في هذا المقام يعني: إن لم يقتد بسيرة علي في ذلك لم يكن معه سنة من الخلفاء الراشدين في قتال البغاة ـ إلى أن قال ـ ولم يتردد أحمد ولا أحد من أئمة السنة في أنه ليس غير علي أولى بالحق منه"5.
__________
1ـ صحيح البخاري 1/89.
2ـ قال ابن الأثير: ومنه حديث عمار رضي الله عنه "بؤس ابن سمية" كأنه ترحم له من الشدة التي يقع فيها" أهـ النهاية في غريب الحديث 1/89.
3ـ صحيح مسلم 4/2235.
4ـ المصدر السابق 4/2236.
5ـ مجموع الفتاوى 4/437-438(2/684)
فلو قال قائل: إن قتل عمار كان بصفين "وهو مع علي والذين قتلوه مع معاوية وكان معه جماعة من الصحابة فكيف يجوز عليهم الدعاء إلى النار، فالجواب أنهم كانوا ظانين أنهم يدعون إلى الجنة وهم مجتهدون لا لوم عليهم في اتباع ظنونهم فالمراد بالدعاء إلى الجنة الدعاء إلى سببها وهو طاعة الإمام وكذلك كان عمار يدعوهم إلى طاعة علي وهو الإمام الواجب الطاعة إذ ذاك وكانوا هم يدعون إلى خلاف ذلك لكنهم معذورون للتأويل الذي ظهر لهم"1.
قال الإمام النووي بعد قوله صلى الله عليه وسلم: "بؤس ابن سمية تقتلك فئة باغية":"قال العلماء: هذا الحديث حجة ظاهرة في أن علياً رضي الله عنه كان محقاً مصيباً والطائفة الأخرى بغاة لكنهم مجتهدون فلا إثم عليهم لذلك.. وفيه معجزة ظاهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أوجه: منها: أن عماراً يموت قتيلاً وأنه يقتله مسلمون وأنهم بغاة. وأن الصحابة: يقاتلون وأنهم يكونون فرقتين باغية وغيرها وكل هذا وقع مثل فلق الصبح صلى الله عليه وسلم على رسوله الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى"2.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى بعد ذكره لقوله صلى الله عليه وسلم: "تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين تقتلها أولى الطائفتين بالحق": "وفي هذا وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "تقتل عماراً الفئة الباغية" "دلالة واضحة على أن علياً ومن معه كانوا على الحق وأن من قاتلهم كانوا مخطئين في تأويلهم"3.
10- وروى أبو داود بإسناده إلى سفينة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم يؤتي الله الملك أو ملكه من يشاء" 4.
__________
1ـ فتح الباري 1/542.
2ـ شرح النووي على صحيح مسلم 18/40-41.
3ـ فتح الباري 6/619.
4ـ سنن أبي داود 2/514-515.(2/685)
وعند الترمذي بلفظ: "الخلافة في أمتي ثلاثون سنة ثم ملك بعد ذلك" 1.
وفي هذا الحديث إشارة إلى حقية خلافة علي رضي الله عنه حيث إن خلافته كانت آخر الثلاثين من مدة خلافة النبوة التي حددها النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث وبموجب هذا قال أهل العلم.
قال أبو عمر: قال أحمد بن حنبل: حديث سفينة في الخلافة صحيح وإليه أذهب في الخلفاء2.
وقد وصف الإمام أحمد رحمه الله تعالى قول من يقول بأن علياً رضي الله عنه ليس من الخلفاء بأنه سيء ورديء.
قال عبد الله بن أحمد رحمه الله تعالى: قلت لأبي إن قوماً يقولون إنه ليس بخليفة قال: هذا قول سوء رديء فقال: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون له يا أمير المؤمنين أفنكذبهم وقد حج وقطع ورجم فيكون هذا إلا خليفة3.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في رسالة له في حديث سفينة: "وهو حديث مشهور من رواية حماد بن سلمة وعبد الوارث بن سعيد والعوام بن حوشب عن سعيد بن جمهان عن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه أهل السنة كأبي داود. وغيره واعتمد عليه الإمام أحمد وغيره في تقرير خلافة الخلفاء الراشدين الأربعة وثبته أحمد واستدل به على من توقف في خلافة علي من أجل افتراق الناس عليه حتى قال أحمد: "من لم يربع بعلي في الخلافة فهو أضل من حمار أهله ونهى عن مناكحته"4.
وقال شارح الطحاوية: "ونثبت الخلافة بعد عثمان لعلي رضي الله عنهما
__________
1ـ سنن الترمذي 3/341، والحديث في المسند 5/220-221.
2ـ جامع بيان العلم 2/225، وانظر كتاب السنة لعبد الله بن أحمد ص/235.
3ـ كتاب السنة لعبد الله بن الإمام أحمد ص/235.
4ـ هذه الرسالة بالمكتبة الظاهرية بخطه في مسودته ق 81/2-84/2 كما في سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني 1/200.(2/686)
لما قتل عثمان وبايع الناس علياً صار إماماً حقاً واجب الطاعة وهو الخليفة في زمانه خلافة نبوة كما دل عليه حديث سفينة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم يؤتي الله ملكه من يشاء" 1.
فهذه النصوص المتقدم ذكرها كلها دالة على حقية خلافة علي رضي الله عنه وأنه رضي الله عنه أحق بالأمر وأولى بالحق من كل أحد بعد الثلاثة رضي الله عنهم جميعاً فيجب على كل مسلم أن يعتقد اعتقاداً جازماً أن علياً رضي الله عنه رابع الخلفاء الراشدين وأحد الأئمة المهديين.
__________
1ـ شرح العقيدة الطحاوية ص/545، والحديث في سنن أبي داود 2/514-515.(2/687)
المبحث الثالث: انعقاد الإجماع على خلافته رضي الله عنه
لقد انعقد إجماع الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة على أن علياً رضي الله عنه كان متعيناً للخلافة بعد عثمان رضي الله عنه لفضله على من بقي من الصحابة، وأنه أقدمهم إسلاماً، وأوفرهم علماً، وأقربهم بالنبي صلى الله عليه وسلم نسباً، وأشجعهم نفساً، وأحبهم إلى الله ورسوله وأكثرهم مناقب، وأفضلهم سوابق وأرفعهم درجة وأشرفهم منزلة، وأشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم هدياً وسمتاً فكان رضي الله عنه متعيناً للخلافة دون غيره، وقد قام من بقي من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعقد البيعة به بالخلافة بالإجماع فكان حينئذ إماماً حقاً وجب على سائر الناس طاعته وحرم الخروج عليه ومخالفته وقد نقل الإجماع على خلافته كثير من أهل العلم: فقد نقل محمد بن سعد إجماع من له قدم صدق وسابقة في الدين ممن بقي من أصحاب النبي بالمدينة على بيعة علي رضي الله عنه حيث قال: "وبويع لعلي بن أبي طالب رحمه الله بالمدينة الغد من يوم قتل عثمان بالخلافة بايعه طلحة والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وعمار بن ياسر، وأسامة بن زيد، وسهل بن حنيف، وأبو أيوب الأنصاري ومحمد بن مسلمة وزيد بن ثابت، وخزيمة بن ثابت وجميع من كان بالمدينة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم"1.
كما نقل إجماع الصحابة ومن جاء بعدهم من أهل السنة والجماعة على بيعة علي رضي الله عنه الإمام أحمد بن حنبل، وأبو الحسن الأشعري وأبو نعيم
__________
1ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 3/31.(2/688)
الأصبهاني وغيرهم من أهل العلم.
فقد روى الإمام أحمد بإسناده إلى محمد بن الحنفية قال: كنت مع علي وعثمان محصور قال: فأتاه رجل فقال: إن أمير المؤمنين مقتول، ثم جاء آخر فقال: إن أمير المؤمنين مقتول الساعة قال: فقام علي قال محمد: فأخذت بوسطه تخوفاً عليه فقال: خل لا أم لك قال فأتى علي الدار وقد قتل الرجل فأتى داره فدخلها وأغلق عليه بابه فأتاه الناس فضربوا عليه الباب فدخلوا عليه فقالوا: إن هذا الرجل قد قتل ولا بد للناس من خليفة ولا نعلم أحداً أحق بها منك فقال لهم علي: لا تريدوني فإني لكم وزير خير مني لكم أمير فقالوا: لا والله ما نعلم أحداً أحق بها منك قال: فإن أبيتم علي فإن بيعتي لا تكون سراً ولكن أخرج إلى المسجد فمن شاء أن يبايعني بايعني قال: فخرج إلى المسجد فبايعه الناس"1.
وذكر ابن قدامة رحمه الله تعالى أن الإمام أحمد رحمه الله تعالى روى بإسناده عن عبد الرزاق عن محمد بن راشد عن عوف قال: كنت عند الحسن فكأن رجلاً انتقص أبا موسى باتباعه علياً فغضب الحسن ثم قال: سبحان الله قتل أمير المؤمنين عثمان فاجتمع الناس على خيرهم فبايعوه أفيلام أبو موسى باتباعه"2.
فقد نقل الإمام أحمد رحمه الله في هاتين الروايتين أن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على بيعة علي رضي الله عنه وأن إجماعهم رضي الله عنهم كان على خيرهم وأفضلهم على الإطلاق وأحقهم بالخلافة بعد عثمان رضي الله عنه.
وقال أبو الحسن الأشعري رحمه الله تعالى: "ونثبت إمامة علي بعد عثمان رضي الله عنه بعقد من عقد له من الصحابة من أهل الحل والعقد ولأنه لم يدع
__________
1ـ فضائل الصحابة للإمام أحمد 2/573.
2ـ منهاج القاصدين في فضل الخلفاء الراشدين ص/77-78 وانظر فضائل الصحابة للإمام أحمد 2/577.(2/689)
أحد من أهل الشورى غيره في وقته وقد اجتمع على فضله وعدله، وأن امتناعه عن دعوى الأمر لنفسه في وقت الخلفاء قبله كان حقاً لعلمه أن ذلك ليس بوقت قيامه فلما كان لنفسه في غير وقت الخلفاء قبله كان حقاً لعلمه أن ذلك وقت قيامه، ثم لما صار الأمر إليه أظهر وأعلن ولم يقصر حتى مضى على السداد والرشاد، كما مضى من قبله من الخلفاء وأئمة العدل على السداد والرشاد متبعين لكتاب ربهم وسنة نبيهم هؤلاء الأربعة المجمع على عدلهم وفضلهم رضي الله عنهم"1.
وقال أبو نعيم الأصبهاني مبيناً كيف تدارك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الموقف بعد استشهاد الخليفة الراشد عثمان بن عفان، ومبيناً المزايا العالية التي تميز بها علي رضي الله عنه على باقي الصحابة وجعلته أهلاً لأن يختاروه خليفة للمسلمين فقال: "فلما اختلفت الصحابة كان على الذين سبقوا إلى الهجرة والسابقة والنصرة والغيرة في الإسلام الذين اتفقت الأمة على تقديمهم لفضلهم في أمر دينهم ودنياهم لا يتنازعون فيهم ولا يختلفون فيمن أولى بالأمر من الجماعة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة في العشرة ممن توفي وهو عنهم راض فسلم من بقي من العشرة الأمر لعلي رضي الله عنه ولم ينكر أنه من أكمل الأمة ذكراً وأرفعهم قدراً لقديم سابقته وتقدمه في الفضل والعلم، وشهوده المشاهد الكريمة يحبه الله ورسوله، ويحب الله ورسوله ويحبه المؤمنون ويبغضه المنافقون لم يضع منه تقديم من تقدمه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بل ازداد به ارتفاعاً لمعرفته بفضل من قدمه على نفسه إذ كان ذلك موجوداً في الأنبياء والرسل عليهم السلام قال الله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} إلى قوله: {مَا يُرِيدُ} 2 فلم يكن تفضيل بعضهم على بعض بالذي يضع ممن هو دونه فكل الرسل صفوة الله ـ
__________
1ـ الإبانة عن أصول الديانة ص/78، وانظر مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين 1/346.
2ـ سورة البقرة آية/253.(2/690)
عز وجل ـ وخيرته من خلقه، فتولى أمر المسلمين عادلاً زاهداً آخذاً في سيرته بمنهاج الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه رضي الله عنهم حتى قبضه الله ـ عز وجل ـ شهيداً هادياً مهدياً سلك بهم السبيل المستبين والصراط المستقيم"1.
وقال أبو منصور البغدادي: "أجمع أهل الحق والعدل على صحة إمامة علي رضي الله عنه وقت انتصابه لها بعد قتل عثمان رضي الله عنه"2.
وقال الزهري رحمه الله تعالى بعد ذكره لما قام به أبو الحسن من الوفاء بالعهد لإخوانه الثلاثة الخلفاء السابقين قبله قال: "وكان قد وفى بعهد عثمان حتى قتل وكان أفضل من بقي من الصحابة فلم يكن أحد أحق بالخلافة منه، ثم لم يستبد بها مع كونه أحق الناس بها حتى جرت له بيعة وبايعه مع سائر الناس من بقي من أصحاب الشورى"3.
وقال عبد الملك الجويني في صدد ذكره للطريق التي تمت بها خلافة عمر وعثمان وعلي وأنه لا يعبأ بقول من يقول: إن إمامة علي لم يحصل عليها إجماع فقال: "وأما عمر وعثمان وعلي رضوان الله عليهم فسبيل إثبات إمامتهم واستجماعهم لشرائط الإمامة كسبيل إثبات إمامة أبي بكر، ومرجع كل قاطع في الإمامة إلى الخبر المتواتر والإجماع ... ولا اكتراث بقول من يقول: لم يحصل إجماع على إمامة علي رضي الله عنه فإن الإمامة لم تجحد له وإنما هاجت الفتن لأمور أخر"4.
وقال أبو عبد الله بن بطة رحمه الله تعالى حاكياً لثبوت الإجماع على خلافة أبي الحسن رضي الله عنه حيث قال: "كانت بيعة علي رحمه الله بيعة اجتماع
__________
1ـ كتاب الإمامة والرد على الرافضة ص/360-361.
2ـ كتاب أصول الدين ص/286-287.
3ـ الاعتقاد ص/193.
4ـ كتاب الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد ص/362-363.(2/691)
ورحمة لم يدع إلى نفسه ولم يجبرهم على بيعته بسيفه ولم يغلبهم بعشيرته ولقد شرف الخلافة بنفسه وزانها بشرفه وكساها حلة البهاء بعدله ورفعها بعلو قدره ولقد أباها فأجبروه وتقاعس عنها فأكرهوه"1.
فقد بين رحمه الله تعالى أن بيعة علي رضي الله عنه كانت بالإجماع وأن حصول الإجماع عليها من قبل أهل الحل والعقد كان رحمة من الله بالأمة المحمدية، كما بين رحمه الله أن علياً رضي الله عنه زين الخلافة ولم تزينه، ورفعها ولم ترفعه وهكذا كان من تقدمه من الخلفاء رضي الله عنهم زينوا الخلافة وجملوا الأمة المحمدية، وأتموا الدين وأظهروه، وأسسوا الإسلام وأشهروه رضي الله عنهم أجمعين.
وقال الغزالي: "وقد أجمعوا على تقديم أبي بكر، ثم نص أبو بكر على عمر، ثم أجمعوا بعده على عثمان، ثم على علي رضي الله عنهم، وليس يظن منهم الخيانة في دين الله ـ تعالى ـ لغرض من الأغراض وكان إجماعهم على ذلك من أحسن ما يستدل به على مراتبهم في الفضل، ومن هذا اعتقد أهل السنة هذا الترتيب في الفضل، ثم بحثوا عن الأخبار فوجدوا فيها ما عرف مستند الصحابة وأهل الإجماع في هذا الترتيب"2.
وقال أبو بكر بن العربي في معرض سياقه لحادثة قتل عثمان ظلماً وعدواناً على أيدي الخارجين عليه الظلمة المعتدين قال: "فلما قضى الله من أمره ما قضى ومضى في قدره ما مضى علم أن الحق لا يترك الناس سدى، وأن الخلق بعده مفتقرون إلى خليفة مفروض عليهم النظر فيه ولم يكن بعد الثلاثة كالرابع قدراً وعلماً وتقى وديناً فانعقدت له البيعة ولولا الإسراع بعقد البيعة لعلي لجري
__________
1ـ ذكره عنه العلامة ابن قدامة في كتابه منهاج القاصدين في فضل الخلفاء الراشدين ص/77 وانظر لوامع الأنوار البهية للسفاريني 2/346.
2ـ الاقتصاد في الاعتقاد ص/154.(2/692)
على من بها من الأوباش ما لا يرقع خرقه ولكن عزم عليه المهاجرون والأنصار ورأى ذلك فرضاً عليه فانقاد إليه"1.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعوا على بيعة عثمان بعد عمر رضي الله عنهم جميعاً كما بين كذلك أن أهل السنة والجماعة أجمعوا عامة على تقديم الصديق، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي رضي الله عنهم.
فقد قال رحمه الله: "واتفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة عثمان بعد عمر وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة" فكان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه آخر الخلفاء الراشدين المهديين " وقد اتفق عامة أهل السنة من العلماء والعباد والأمراء والأجناد على أن يقولوا: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي"2.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: "وكانت بيعة علي بالخلافة عقب قتل عثمان في أوائل ذي الحجة سنة خمس وثلاثين فبايعه المهاجرون والأنصار وكل من حضر وكتب بيعته إلى الآفاق فأذعنوا كلهم إلا معاوية في أهل الشام فكان بينهم بعد ما كان"3.
والذي نستفيده من هذه النقول المتقدمة للإجماع أن خلافة علي رضي الله عنه محل إجماع على حقيتها وصحتها في وقت زمنها وذلك بعد قتل عثمان رضي الله عنه حيث لم يبق على الأرض أحق بها منه رضي الله عنه فقد جاءته رضي الله عنه على قدر في وقتها ومحلها، وقد جاء في بعض هذه النقول للإجماع النص على
__________
1ـ العواصم من القواصم ص/142.
2ـ الوصية الكبرى ص/33.
3ـ فتح الباري 7/72.(2/693)
مبايعة طلحة والزبير رضي الله عنهما لعلي رضي الله عنه وهذا فيه رد لبعض الروايات التي ذكرها بعض المؤرخين من أنهما بايعا مكرهين فقد جاء في بعض تلك الروايات أن طلحة رضي الله عنه قال: "بايعت واللج على قفي"1.
وقد رد العلامة ابن العربي على هذا بقوله: "اخترع هذا الحديث من أراد أن يجعل في "القفا" لغة "قفي" كما يجعل في "الهوى": "هوى" وتلك لغة هذيل لا قريش2 فكانت كذبه لم تدبر"3.
بل قد جاء في بعض الروايات أن طلحة رضي الله عنه كان أول من بايع علياً حتى قال حبيب بن ذؤيت: بايع علياً يد شلاء لا يتم هذا الأمر4 "وأهل الكوفة يقولون: أول من بايعه الأشتر"5.
وقد رد القاضي أبو بكر ابن العربي على قول القائل في طلحة "يد شلاء" بقوله: "أما قولهم: "يد شلاء" لو صح فلا متعلق لهم فيه فإن يداً شلبت في وقاية رسول الله صلى الله عليه وسلم يتم لها كل أمر ويتوقى بها من كل مكروه وقد تم الأمر على وجهه ونفذ القدر بعد ذلك على حكمه وجهل المبتدع ذلك فاخترع ما هو حجة عليه"6.
وهذا الرد من ابن العربي على ما قيل في يد طلحة رضي الله عنه يستحق أن يكتب بماء الذهب لأنه لو كانت يد طلحة هي الأولى في البيعة لكانت أكثر بركة ونفعاً لأنها يد ذبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين يوم أحد، أما يد الأشتر
__________
1ـ العواصم من القواصم لابن العربي ص/144 وانظر تاريخ الأمم والملوك 4/431-435 وانظر أيضاً الكامل في التاريخ لابن الاثير 3/193، النهاية في غريب الحديث 4/234، البداية والنهاية 7/247.
2ـ بل إنها أبعد عن لغة قريش من لهجة هذيل فقد ذكر العلامة ابن الأثير في كتابه "النهاية في غريب الحديث 4/234 أنها لغة طيء.
3ـ العواصم من القواصم ص/144.
4ـ تاريخ الأمم والملوك 4/428، الكامل لابن الأثير 3/191.
5ـ تاريخ الأمم والملوك 4/433، البداية والنهاية 7/247.
6ـ العواصم من القواصم ص/144-145.(2/694)
اللئيم فإنها كانت لا تزال رطبة من دم الإمام الشهيد المبشر بالجنة عثمان رضي الله عنه، فدعوى أن طلحة والزبير بايعا مكرهين دعوى غير صحيحة بل الثابت أنه لما قتل عثمان رضي الله عنه طلب جمهور الصحابة رضي الله عنهم من علي أن يتولى أمر المسلمين فكان يفر منهم في حيطان المدينة1 وأيضاً: لما توفي عمر رضي الله عنه جعل الأمر شورى في ستة منهم طلحة والزبير واتفقوا على أن الأمر دائر بين عثمان وعلي فاتفقوا على تقديم عثمان وبعد استشهاده رضي الله عنه كان صاحب الحق هو علي رضي الله عنه.
وقد اعترض بعض الناس على الإجماع على خلافة علي رضي الله عنه من وجوه:
1- تخلف عنه من الصحابة جماعة منهم سعد بن أبي وقاص، ومحمد بن مسلمة وابن عمر وأسامة بن زيد وسواهم من نظرائهم2.
2- إنما بايعوه على أن يقتل قتلة عثمان3.
3- أن أهل الشام معاوية ومن معه لم يبايعوه بل قاتلوه.
وهذه الاعتراضات لا تأثير لها على الإجماع المذكور، ولا توجب معارضته وذلك أنها مردودة من وجوه:
الوجه الأول: أن دعوى أن جماعة من الصحابة تخلفوا عن بيعته دعوى غير صحيحية إذ أن بيعته لم يتخلف عنها وأما نصرته فتخلف عنها قوم منهم من ذكر لأنها كانت مسألة اجتهادية فاجتهد كل واحد وأعمل نظره وأصاب قدره"4.
__________
1ـ انظر تاريخ الأمم والملوك 4/432، البداية والنهاية 7/246.
2ـ العواصم من القواصم ص/146-147.
3ـ المصدر السابق ص/145.
4ـ العواصم من القواصم ص/147، وانظر كتاب "التمهيد" للباقلاني ص/233-234.(2/695)
الوجه الثاني: أن عقد الخلافة ونصب إمام واجب لا بد منه، ووقف ذلك على حضور جميع الأمة واتفاقهم مستحيل أو متعذر فلا يجوز اشتراطه لإفضاء ذلك إلى انتفاء الواجب ووقوع الفساد اللازم من انتفائه"1.
الوجه الثالث: أن الإجماع حصل على بيعة أبي بكر بمبايعة الفاروق وأبي عبيدة ومن حضرهم من الأنصار مع غيبة علي وعثمان وغيرهما من الصحابة وكذلك حصل الإجماع على خلافة علي بمبايعة عمار ومن حضر من البدريين وغيرهم من الصحابة ولا يضر هذا الإجماع من غاب عن البيعة أو لم يبايعه من غيرهم رضي الله عنهم جميعاً.
قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: "والله ما كانت بيعة علي إلا كبيعة أبي بكر وعمر رضي الله عنهم"2.
الوجه الرابع: دعوى أنه إنما بويع على أن يقتل قتلة عثمان "هذا لا يصح في شرط البيعة. وإنما يبايعونه على الحكم بالحق وهو أن يحضر الطالب للدم، ويحضر المطلوب وتقع الدعوى ويكون الجواب وتقوم البينة ويقع الحكم"3 بعد ذلك.
الوجه الخامس: أن معاوية رضي الله عنه لم يقاتل علياً على الخلافة ولم ينكر إمامته وإنما كان يقاتل من أجل إقامة الحد الشرعي على الذين اشتركوا في قتل عثمان مع ظنه أنه مصيب في اجتهاده ولكنه كان مخطئاً في اجتهاده ذلك فله أجر الاجتهاد فقط.
قال عبد الملك الجويني: "ومعاوية وإن قاتل علياً فإنه لا ينكر إمامته ولا يدعيها لنفسه وإنما كان يطلب قتلة عثمان رضي الله عنه ظاناً أنه مصيب ولكنه
__________
1ـ منهاج القاصدين في فضل الخلفاء الراشدين ص/76-77.
2ـ انظر المصدر السابق ص/77.
3ـ العواصم من القواصم ص/145-146.(2/696)
كان مخطئاً"1.
فخلافة علي رضي الله عنه ثابتة بالنص والإجماع ولا تأثير لأي اعتراض يورد على الإجماع فيجب على كل مسلم أن يعتقد اعتقاداً جازماً أن علياً رضي الله عنه رابع الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين الذين أمرنا بالتمسك بسنتهم والاقتداء بهم وترتيبهم في الإمامة كترتيبهم في الفضل أولاً أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي رضي الله عنهم أجمعين وهذا معتقد الفرقة الناجية من أهل السنة والجماعة فقد روى البيهقي بإسناده إلى الإمام الشافعي رحمه الله تعالى أنه قال: "في الخلافة والتفضيل نبدأ بأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم"2 وروى أيضاً بإسناده إلى الإمام أحمد رحمه الله تعالى أنه قيل له: "إلى ما تذهب في الخلافة قال: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي فقيل له: كأنك تذهب إلى حديث سفينة قال: أذهب إلى حديث سفينة وإلى شيء آخر رأيت علياً في زمن أبي بكر وعمر وعثمان لم يتسم بأمير المؤمنين ولم يقم الجمع والحدود ثم رأيته بعد قتل عثمان قد فعل ذلك فعلمت أنه قد وجب له في ذلك الوقت ما لم يكن له قبل ذلك"3.
وقال محمد بن إسحاق بن خزيمة رحمه الله تعالى: "خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولاهم بالخلافة أبو بكر الصديق، ثم عمر الفاروق، ثم عثمان ذو النورين ثم علي بن أبي طالب رحمه الله ورضوانه عليهم أجمعين"4.
وقال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى: "ونثبت الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أولاً لأبي بكر الصديق رضي الله عنه تفضيلاً له وتقديماً على جميع الأمة ثم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثم لعثمان رضي الله عنه، ثم لعلي بن
__________
1ـ لمع الأدلة في عقيدة أهل السنة ص/115 مخطوط نقلاً عن كتاب "أباطيل يجب أن تمحى من التاريخ" ص/115.
2ـ الاعتقاد ص/168-169.
3ـ المصدر السابق.
4ـ ذكره عنه البيهقي بالإسناد في كتابه "الاعتقاد" ص/196-197.(2/697)
أبي طالب رضي الله عنه وهم الخلفاء الراشدون والأئمة والمهديون"1.
وقال أبو بكر الباقلاني رحمه الله تعالى موضحاً الدليل على ترتيب الخلافة الراشدة: "والدليل على إثبات الإمامة للخلفاء الأربعة رضي الله عنهم على الترتيب الذي بيناه: أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا أعلام الدين ومصابيح أهل اليقين شاهدوا التنزيل وعرفوا التأويل، وشهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم خير القرون فقال: "خير القرون قرني" 2.
فلما قدموا هؤلاء الأربعة على غيرهم ورتبوهم على الترتيب المذكور علمنا أنهم رضي الله عنهم لم يقدموا أحداً شهيا منهم، وإنما قدموا من قدموه لاعتقادهم كونه أفضل وأصلح للإمامة من غيره في وقت توليه قال الشريف الأجل الإمام جمال الإسلام: ووقع لي أنا دليل من نص الكتاب في ترتيبهم على هذه الرتبة: أنه لا يجوز أن يكون غير ذلك هو قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} 3.
ووعده حق، وخبره صدق لا يقع بخلاف مخبره فلا بد من أن يتم ما وعدهم به، وأخبر أن يكون لهم، ولا يصح إلا على هذا الترتيب لأنه لو قدم علي عليه السلام لم تصر الخلافة فيها إلى أحد من الثلاثة لأن علياً عليه السلام مات بعد الثلاثة وكذلك لو قدم عثمان رضي الله عنه لم تصر الخلافة إلى أبي بكر وعمر لأن عثمان مات بعد موتهما، ولو قدم عمر لم تصر الخلافة إلى أبي بكر لأن عمر مات بعده والله تعالى أخبر ووعد أنها تصير إليهم فلم يصح أن تقع إلا على الوجه الذي وقعت ولله الحمد على الهداية والتوفيق"4.
__________
1ـ شرح العقيدة الطحاوية ص/533-545.
2ـ انظر صحيح البخاري 2/288، صحيح مسلم 4/1963.
3ـ سورة النور آية/55.
4ـ الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به ص/66-76.(2/698)
فهذه الأقوال عن هؤلاء الأئمة كلها فيها البيان الشافي لعقيدة الفرقة الناجية في ترتيب الخلافة الراشدة كما علم مما تقدم في هذا المبحث من نقول للإجماع أن علياً رضي الله عنه رابع الخلفاء الراشدين باتفاق أهل الحل والعقد وأنه قد اتفق على بيعته عامة من حضر المدينة من البدريين والأنصار كاجتماع أهل السقيفة على بيعة أبي بكر رضي الله عنه وبناء على ما تقدم فإن الذي لا يسعه في عقيدة ترتيب الخلافة ما وسع الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة فإنه رافضي مقيت.(2/699)
المبحث الرابع: ذكر الحرب التي دارت بينه وبين بعض الصحابة وموقف أهل السنة منها
المراد بالحرب التي أريد ذكرها في هذا المبحث هي حرب الجمل وصفين وقبل الدخول في ذكر هاتين الموقعتين أذكر بين يديهما لمحة عن أمرين.
الأمر الأول: متى بدأ التشاجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الأمر الثاني: ما هو الدافع لهم على ذلك.
فأما عن الأمر الأول فإن قتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه ظلماً وعدواناً من قبل الخارجين عليه من من أهل مصر، وأهل الكوفة، وأهل البصرة سنة خمس وثلاثين للهجرة1 كان مصدر بدء التشاجر بين الصحابة الكرام رضي الله عنهم والقارئ لكتب التواريخ والسير يخرج منها بأن بداية التشاجر بين خير القرون كان بعد قتل ثالث الخلفاء الراشدين وبداية خلافة أبي الحسن رضي الله عنهما.
وأما عن الأمر الثاني: فإن أعظم دافع لهم إلى ذلك ليس إلا مطالبة الخليفة الرابع بوجوب الإسراع بأخذ القود من أولئك الأشرار قتلة عثمان رضي الله عنه وأرضاه ذلك أن طائفة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أم المؤمنين عائشة وطلحة والزبير ومعاوية رضي الله عنهم أجمعين كانوا يرون أنه لا بد من المطالبة بدم عثمان ووجوب الإسراع بإقامة حد الله عليهم كما أمر الله2.
__________
1ـ انظر تاريخ الطبري 4/365 وما بعدها، الكامل لابن الأثير 3/178، البداية والنهاية 7/186.
2ـ انظر تاريخ الأمم والملوك 4/462-464، 5/6، الكامل في التاريخ 3/212-213، ص/286، البداية والنهاية 7/251-253، ص/281-282.(2/700)
بينما كان يرى علي رضي الله عنه إرجاء الأمر حتى يبايعه أهل الشام ويستتب له الأمر ليتسنى له بعد ذلك التمكن من القبض عليهم لأنهم كانوا كثيرين في جيش علي ومن قبائل مختلفة وكانوا لهم بعض التمكن حينذاك.
قال الحافظ ابن كثير: "ولما استقر أمر بيعة علي دخل عليه طلحة والزبير ورؤوس الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ وطلبوا منه إقامة الحدود والأخذ بدم عثمان فاعتذر إليهم بأن هؤلاء لهم مدد وأعوان، وأنه لا يمكنه ذلك يومه هذا"أ. هـ1.
ومما يؤكد أن سبب البداية للتشاجر بين الصحابة هو قتل عثمان رضي الله عنه أن علياً رضي الله عنه بعد أن بويع له بالخلافة شرع في إرسال عماله إلى الأمصار فكان من أرسله إلى الشام بدل معاوية سهل بن حنيف فسار حتى بلغ تبوك فتلقته خيل معاوية فقالوا: من أنت؟ فقال: أمير قالوا: على أي شيء؟ قال: على الشام فقالوا: إن كان عثمان بعثك فحيهلا بك وإن كان غيره فارجع فقال: أو ما سمعتم بالذي كان؟ قالوا: بلى فرجع إلى علي، وأما قيس بن سعد بن عبادة ـ فاختلف عليه أهل مصر فبايع له الجمهور، وقالت طائفة: لا نبايع حتى نقتل قتلة عثمان، وكذلك أهل البصرة، وأما عمارة بن شهاب المبعوث أميراً على الكوفة فصده طليحة بن خويلد الأسدي ـ غضباً لعثمان فرجع إلى علي فأخبره"2.
"وقام في الناس معاوية وجماعة من الصحابة معه، يحرضون الناس على المطالبة بدم عثمان، ممن قتله من أولئك الخوارج منهم عبادة بن الصامت وأبو الدرداء وأبو أمامة، وعمرو بن عنبسة وغيرهم من الصحابة ومن التابعين: شريك بن حباشة وأبو مسلم الخولاني، وعبد الرحمن بن غنم ... وغيرهم من التابعين"3.
ولما كان رأي كل واحد من الفريقين مضاداً لرأي الآخر من هنا
__________
1ـ البداية والنهاية 7/248-249، وانظر تاريخ الأمم والملوك للطبري 4/437، الكامل لابن الأثير 3/195-196.
2ـ تاريخ ابن جرير الطبري 4/442، كتاب الكامل لابن الأثير 3/201، البداية والنهاية 7/249-250.
3ـ البداية والنهاية 7/248.(2/701)
اختلفت الكلمة وتفاقم الأمر، وانتشرت الفتنة فما كان من علي رضي الله عنه وهو الخليفة الحق الذي تجب طاعته إلا أن قام بإرسال الكتب المتتابعة إلى معاوية رضي الله عنه يدعوه فيها في البيعة غير أن معاوية رضي الله عنه لم يرد شيئاً فكرر عليه علي رضي الله عنه ذلك مراراً إلى أن دخل الشهر الثالث من مقتل ذي النورين رضي الله عنه، ثم بعث بعد ذلك طوماراً1 من رجل فدخل به على علي فقال: ما وراءك؟ قال: جئتك من عند قوم لا يريدون إلا القود كلهم موتور2 ... فقال علي: أمني يطلبون دم عثمان؟ ألست موتوراً كترة عثمان؟ اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان"3.
وقد وجه علي رضي الله عنه جماعة إلى معاوية رضي الله عنه وهو بصفين منهم بشير بن عمرو الأنصاري وقال لهم: "ائتوا هذا الرجل فادعوه إلى الطاعة والجماعة واسمعوا ما يقول لكم فلما دخلوا على معاوية قال له بشير بن عمرو: يا معاوية إن الدنيا عنك زائلة، وإنك راجع إلى الآخرة، والله محاسبك بعملك ومجازيك بما قدمت يداك إني أنشدك الله أن لا تفرق جماعة هذه الأمة وأن تسفك دماءها بينها ـ إلى أن قال له: ـ وإنه ـ أي علي ـ يدعوك إلى مبايعته فإنه أسلم لك في دنياك وخير لك في آخرتك فقال معاوية: ويطل4 دم عثمان؟ لا والله لا أفعل ذلك أبداً"5.
وقد دخل أبو الدرداء، وأبو أمامة رضي الله عنهما أيام صفين على معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما فقالا له: يا معاوية علام تقاتل هذا الرجل؟ فوالله إنه أقدم منك ومن أبيك إسلاماً وأقرب منك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحق
__________
1ـ الطومار: الصحيفة "لسان العرب" 4/503.
2ـ الموتور: الطالب بالثأر "النهاية في غريب الحديث والأثر" 5/148.
3ـ تاريخ الطبري 4/444.
4ـ أي يهدر "انظر النهاية 3/136، المصباح المنير 2/377.
5ـ تاريخ الطبري 4/573، الكامل لابن الأثير 3/285-286، البداية والنهاية 7/280.(2/702)
بهذا الأمر منك ـ فكان جوابه عليهم ـ "أقاتله على دم عثمان وأنه أوى قتلته فاذهبا إليه فقولا له: فليقدنا من قتلة عثمان ثم أنا أول من يبايعه من أهل الشام"1.
فهذه الرواية وما قبلها تبين لنا أن معاوية رضي الله عنه كان باذلاً للبيعة بالخلافة لعلي رضي الله عنه لكن بشرط تعجيل القود من قتلة عثمان وكان رأي علي رضي الله عنه أن يدخل معاوية في البيعة أولاً ثم بعد ذلك يتتبع القتلة ويقام عليهم الحد الشرعي بعد إقامة الدعوى والإجابة ثم صدور الحكم فيهم كما أمر الله به. ولكن لما كان رأي علي ومعاوية رضي الله عنهما رأيين متضادين لا يلتقيان أدى ذلك إلى المنازعة واختلاف الكلمة، ولما رأى علي رضي الله عنه أن الكتب التي وجهها إلى معاوية لم تجد شيئاً بل إن الفتنة بدأت تشتد ولم تزدد الأمور إلا تعقيداً حيث استأثر معاوية رضي الله عنه ببلاد الشام ولم يسمح لأمر علي أن يمتد إليها وهو الخليفة الحق بعد ذي النورين عثمان، وأن من حقه على الناس أن يسمعوا له ويطيعوا أخذ في إعداد جيش وعزم على قتال أهل الشام ولما رآه ولده الحسن رضي الله عنه يهيئ الجيش لقتام أهل الشام حاول أن يثنيه عن ذلك وقال له: يا أبتي دع هذا فإن فيه سفك دماء المسلمين"2.
فلم يسمع لقوله بل هيأ الجيش ودفع اللواء إلى ولده محمد بن علي ـ المعروف بابن الحنفية ـ غير أنه لم يتمكن مما قصده من تسيير الجيش إلى بلاد الشام فإنه جاءه ما شغله عن ذلك وهو توجه أم المؤمنين عائشة وطلحة والزبير رضي الله عنهم إلى البصرة وعندما بلغ هذا الخبر علياً ـ رضي الله عنه ـ عدل عن وجهته إلى الشام وغير رأيه وتوجه إلى البصرة بدلاً من الشام وهكذا بدأ النزاع يتدرج بين الصحابة رضي الله عنهم من طور المكاتبة والمحاورة إلى طور التعبئة وتجهيز الجيوش استعداداً للقتال والمواجهة للضرب بالسيوف وقد تمثل ذلك في موقعتين:
__________
1ـ ذكره ابن كثير في البداية والنهاية 7/283.
2ـ المصدر السابق 7/250.(2/703)
الأولى: موقعة الجمل.
الثانية: موقعة صفين.
أما موقعة الجمل فقد دارت رحا الحرب فيها بين علي رضي الله عنه ومن معه وبين أم المؤمنين عائشة وطلحة والزبير ومن معهم رضي الله عنهم وذلك أنه: "لما وقع قتل عثمان بعد أيام التشريق سنة خمس وثلاثين للهجرة ـ كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ـ أمهات المؤمنين قد خرجن إلى الحج في هذا العام فراراً من الفتنة فلما بلغ الناس أن عثمان قد قتل أقمن بمكة1 وقد تجمع بمكة خلق كثير وجم غفير من سادات الصحابة منهم طلحة والزبير حيث استأذنا علياً في الاعتمار فأذن لهما فخرجا إلى مكة وتبعهما كثير من الناس وكذا قدم إلى مكة ابن عمر ومن اليمن يعلى بن أمية عامل عثمان عليها وعبد الله بن عامر عامله على البصرة ولم يزل الناس حينذاك يفدون على مكة ولما كثروا فيها قامت فيهم أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فحثتهم على القيام بطلب دم عثمان وذكرت ما افتات به أولئك من قتله في بلد حرام وشهر حرام ولم يراقبوا جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سفكوا الدماء وأخذوا الأموال، فاستجاب الناس لها وطاوعوها على ما تراه من الأمر بالمصلحة وقالوا: لها: حيثما سرت سرنا معك وبعد أن تعددت آراؤهم في تحديد الجهة التي يسيرون إليها أجمعوا على الذهاب إلى البصرة فلما أتوا البصرة منعهم من دخولها عثمان بن حنيف عامل علي عليها حينذاك وجرت بينه وبينهم مراسلة ومحاورة حتى وصل الأمر بهم إلى المشاجرة ثم ما لبثوا أن اصطلحوا بعد ذلك إلى أن يقدم علي رضي الله عنه لأنه بلغهم أنه متوجه إليهم ـ وكما تقدم قريباً أنه عدل عن المسير إلى الشام بعد أن بلغه مسير أم المؤمنين عائشة إلى البصرة فأخذ في الاتجاه بعدهم في جمع كبير وهو يرجو أن يدركهم قبل وصولهم إلى البصرة فلما علم أنهم قد فاتوه، استمر في طريقه إليهم قاصداً البصرة من أرض
__________
1ـ البداية والنهاية 7/250.(2/704)
العراق"1.
لما انتهى إلى البصرة كاتب أبا موسى الأشعري رضي الله عنه ـ عامله على الكوفة وطلب منه أن يستنفر الناس ليلحقوا به غير أن أبا موسى رضي الله عنه كان يرى عكس رأي علي فكان يدعو إلى القعود ويقول: "إنما هي فتنة وجعل كلما جاء رسول من عند علي رده بمثل ذلك حتى أرسل علي ابنه الحسن وعمار بن ياسر فقال الحسن لأبي موسى: لم تثبط الناس عنا؟ فوالله ما أردنا إلا الإصلاح ولا مثل أمير المؤمنين يخاف على شيء فقال: صدقت بأبي وأمي ولكن المستشار مؤتمن سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إنها ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الراكب" 2 وقد جعلنا الله إخواناً وحرم علينا دماءنا وأموالنا فكان كلما قام رجل فحرض الناس على النفير يثبطهم أبو موسى من فوق المنبر ـ ولكن مع ذلك استجاب للنفير كثير من الناس فخرج مع الحسن جمع كبير من أهل الكوفة وقدموا على علي رضي الله عنه فتلقاهم بذي3 قار إلى أثناء الطريق في جماعة منهم ابن عباس فرحب بهم وقال: يا أهل الكوفة أنتم لقيتم ملوك العجم وفضضتم جموعهم وقد دعوتكم لتشهدوا معنا إخواننا من أهل البصرة، فإن يرجعوا فذاك الذي نريده وإن أبوا داويناهم بالرفق حتى يبدؤونا بالظلم، ولن ندع أمراً فيه صلاح إلا آثرناه على ما فيه الفساد إن شاء الله تعالى"4.
وفي هذا توضيح لمقصد أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وأن ـ مقصده الأول والأخير هو طلب الإصلاح وأن القتال كان غير محبب إلى نفسه لا سيما مع إخوانه البررة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهكذا كان مقصد أم المؤمنين
__________
1ـ تاريخ الأمم والملوك 4/455، الكامل 3/221-222، البداية والنهاية 7/255.
2ـ الحديث رواه البخاري من حديث أبي هريرة 4/225، ورواه مسلم أيضاً 4/2212.
3ـ ذو قار: ماء لبكر بن وائل قريب من الكوفة بينها وبين واسط ... وفيه كانت الوقعة المشهورة بين بكر بن وائل والفرس "معجم البلدان" 4/293.
4ـ انظر تاريخ الأمم والملوك 4/477-478، الكامل 3/227-232، البداية والنهاية 7/257-258.(2/705)
عائشة رضي الله عنها وطلحة والزبير من خروجهم من مكة إلى البصرة من أرض العراق وهو التماس الإصلاح بين المسلمين بأمر يرتضيه طرفا النزاع ويحسم به الاختلاف وتجتمع به كلمة المسلمين ولم يخرجوا مقاتلين ولا داعين لأحد منهم ليولوه الخلافة وهذا ما قرره العلماء من أهل السنة، قال أبو محمد بن حزم رحمه الله تعالى: "وأما أم المؤمنين والزبير وطلحة رضي الله عنهم ومن معهم فما أبطلوا قط إمامة علي ولا طعنوا فيها ولا ذكروا فيه جرحة تحطه عن الإمامة ولا أحدثوا إمامة أخرى ولا حددوا بيعة لغيره هذا ما لا يقدر أن يدعيه أحد بوجه من الوجوه بل يقطع كل ذي علم على أن كل ذلك لم يكن فإذ لا شك في كل هذا فقد صح صحة ضرورية لا إشكال فيها أنهم لم يمضوا إلى البصرة لحرب علي ولا خلافاً عليه ولا نقضاً لبيعته ولو أرادوا ذلك لأحدثوا بيعة غير بيعته هذا مما لا يشك فيه أحد ولا ينكره أحد فصح أنهم إنما نهضوا إلى البصرة لسد الفتق الحادث في الإسلام من قتل أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه ظلماً، وبرهان ذلك أنهم اجتمعوا ولم يقتتلوا ولا تحاربوا فلما كان الليل عرف قتلة عثمان أن الإراغة1 والتدبير عليهم فبيتوا عسكر طلحة والزبير وبذلوا السيف فيهم فدفع القوم عن أنفسهم في دعوى حتى خالطوا عسكر علي فدفع أهله عن أنفسهم وكل طائفة تظن ولا شك أن الأخرى بديء بها بالقتال واختلط الأمر اختلاطاً لم يقدر أحد على أكثر من الدفاع عن نفسه والفسقة من قتلة عثمان لا يفترون من شن الحرب وإضرامه فكلتا الطائفتين مصيبة في غرضها ومقصدها مدافعة عن نفسها"2.
وقال أبو بكر بن العربي في صدد ذكره للغرض الذي خرجت له عائشة ومن معها من مكة إلى البصرة: "ويمكن أنهم خرجوا في جمع طوائف المسلمين
__________
1ـ أي: الطلب "انظر لسان العرب" 8/430.
2ـ الفصل في الملل والأهواء والنحل 4/158.(2/706)
وضم نشرهم وردهم إلى قانون واحد حتى لا يضطربوا فيقتتلوا وهذا هو الصحيح لا شيء سواه"1.
وقال أبو الوليد بن رشد المالكي2: بعد ذكره قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} 3 الآية "فأرادت عائشة رضي الله عنها بقولها والله أعلم: ما رأيت ما ترك الناس في هذه الآية " نسبة التقصير إلى من أمسك من الصحابة عن الدخول في الحرب التي وقعت بينهم واعتزلهم وكف عنهم ولم يكن مع بعضهم على بعض ورأت أن الحظ لهم والواجب عليهم إنما كان أن يروموا الإصلاح بينهم"4.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في صدد ذكره لبعض الأدلة التي تدل على أن عائشة رضي الله عنها ما خرجت إلا للإصلاح: "ويدل لذلك أن أحداً لم ينقل أن عائشة ومن معها نازعوا علياً في الخلافة ولا دعوا إلى أحد منهم ليولوه الخلافة"5.
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: "وبلغ الخبر6 عائشة وهي حاجة ومعها طلحة والزبير فخرجوا إلى البصرة يريدون الإصلاح بين الناس واجتماع الكلمة"7.
فأهل السنة والجماعة مجمعون على أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ما قصدت بخروجها إلى البصرة إلا الإصلاح بين بنيها رضي الله عنها وبهذا وردت ـ أخبار منها:
__________
1ـ العواصم من القواصم ص/151.
2ـ هو محمد بن أحمد بن رشد "الجد" المتوفى سنة عشرين وخمسمائة انظر: ترجمته في "الغنية" للقاضي عياض ص/122-123.
3ـ سورة الحجرات آية/9.
4ـ البيان والتحصيل 16/360.
5ـ فتح الباري 13/56.
6ـ أي: خبر قتل عثمان رضي الله عنه.
7ـ مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ص/251.(2/707)
1- روى ابن جرير الطبري: أن عثمان بن حنيف لما بلغه مجيء عائشة رضي الله عنها إلى البصرة أرسل إليها عمران بن حصين وأبا الأسود الدؤلي فقال لهما: "انطلقا" إلى هذه المرأة فاعلما علمها، وعلم من معها فخرجا فانتهيا إليها وإلى الناس وهم بالحفير1 فاستأذنا فأذنت لهما فسلما وقالا: إن أميرنا بعثنا إليك نسألك عن مسيرك فهل أنت مخبرتنا؟ فقالت: والله ما مثلي يسير بالأمر المكتوم ولا يغطي لبنيه الخبر إن الغوغاء من أهل الأمصار ونزاع القبائل غزوا حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحدثوا فيه الأحداث وآووا فيه المحدثين واستوجبوا فيه لعنة الله ولعنة رسوله، مع ما نالوا من قتل إمام المسلمين بلا ترة ولا غذر فاستحلوا الدم الحرام، فسفكوه وانتهبوا المال الحرام، وأحلوا البلد الحرام والشهر الحرام ومزقوا الأعراض والجلود وأقاموا في دار قوم كانوا كارهين لمقامهم ضارين مضرين غير نافعين ولا متقين لا يقدرون على امتناع ولا يأمنون فخرجت في المسلمين أعلمهم ما أتى هؤلاء القوم وما فيه الناس وراءنا وما ينبغي لهم أن يأتوا في إصلاح هذا وقرأت: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} 2.
2- وروى أيضاً: أن علياً رضي الله عنه لما نزل بذي قار دعا القعقاع بن عمرو فأرسله إلى أهل البصرة وقال له: الق هذين الرجلين يا ابن الحنظلية فادعهما إلى الألفة والجماعة وعظم الفرقة.. فخرج القعقاع حتى قدم البصرة فبدأ بعائشة رضي الله عنها فسلم عليها وقال: أي أمه ما أشخصك وما أقدمك هذه البلدة؟ قالت: أي بني إصلاح بين الناس قال: فابعثي إلى طلحة والزبير حتى تسمعي كلامي وكلامهما فبعثت إليهما فجاآ فقال: إني سألت أم المؤمنين ما أشخصها وأقدمها هذه البلاد؟ فقالت: إصلاح بين الناس فما تقولان أنتما؟
__________
1ـ الحفير: ماء لباهلة بينه وبين البصرة أربعة أميال "معجم البلدان" 2/277.
2ـ تاريخ الأمم والملوك 4/461-462، الكامل 3/211، البداية والنهاية 7/252.(2/708)
أمتابعان أم مخالفان؟ قالا: متابعان قال: فأخبراني ما وجه هذا الإصلاح؟ فو الله لئن عرفناه لنصلحن، ولئن أنكرناه لا نصلح قالا: قتلة عثمان رضي الله عنه فإن هذا إن ترك كان تركاً للقرآن"1.
3- لما رجع القعقاع بن عمرو إلى علي رضي الله عنه وأخبره أن أصحاب الجمل استجابوا إلى ما بعثه به إليهم أذعن علي لذلك وبعث إلى طلحة والزبير يقول: "إن كنتم على ما فارقتم عليه القعقاع بن عمرو فكفوا حتى ننزل فننظر في هذا الأمر فأرسلا إليه: "إنا على ما فارقنا عليه القعقاع بن عمرو من الصلح بين الناس"2.
ففي هذه الأخبار دليل واضح على أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لم تكن تقصد بخروجها هي ومن معها تفريق الجماعة ولا شفاء حقد بينها وبين علي كما يزعمه ذلك مبغضوا الصحابة من الرافضة، وإنما الغرض الذي كانت تريده الإصلاح بين الناس ابتغاء مرضات الله راجية الثواب على ذلك من الله، كما أن الذين طلبوا منها الخروج وهم طلحة والزبير ومن معهما كانوا كذلك، وكانوا يعلقون آمالاً على خروجها في حسم الاختلاف وجمع الكلمة ولم يكن يخطر على بالهم قتل أحد لأنهم ما أرادوا إلا الإصلاح ما استطاعوا.
قال أبو بكر بن العربي في صدد ذكره لبيان الغرض الذي خرجت من أجله أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها هي ومن معها قائلاً" "فخرج طلحة والزبير وعائشة أم المؤمنين رضي الله عنهم رجاء أن يرجع الناس إلى أمهم فيراعوا حرمة نبيهم واحتجوا عليها عندما حاولت الامتناع بقول الله تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} 3 ثم قالوا لها: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد خرج في الصلح وأرسل فيه فرجت المثوبة واغتنمت
__________
1ـ تاريخ الأمم والملوك 4/448، الكامل لابن الأثير 3/233، البداية والنهاية 7/259.
2ـ ذكره ابن كثير في البداية والنهاية 7/261.
3ـ سورة النساء آية/114.(2/709)
الفرصة وخرجت حتى بلغت الأقضية مقاديرها"1.
وقال أيضاً: في معرض الرد على من قال: إن أهل البصرة لما عرفوا بمجيء عائشة وطلحة والزبير خرجوا ليقاتلوهم وعلى رأسهم حكيم بن جبلة قال في شأن حكيم هذا: "وعن أي شيء كان يدافع؟ وهم ما جاءوا مقاتلين ولا ولاة وإنما جاءوا ساعين في الصلح راغبين في تأليف الكلمة، فمن خرج إليهم ودافعهم وقاتلهم دافعوا عن مقصدهم كما يفعل في سائر الأسفار والمقاصد"2.
وقال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله تعالى بعد أن بين بطلان الحديث الذي نصه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: "تقاتلين علياً وأنت ظالمة" بين أن هذا الحديث لا يعرف في شيء من كتب العلم المعتمدة ولا له إسناد معروف وبين أنه إلى الموضوعات أشبه ثم قال بعد ذلك: "فإن عائشة لم تقاتل ولم تخرج لقتال وإنما خرجت بقصد الإصلاح بين المسلمين" ... لا قاتلت ولا أمرت بقتال هكذا ذكر غير واحد من أهل المعرفة بالأخبار"3.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى مبيناً القصد الذي خرجت من أجله عائشة رضي الله عنها هي ومن معها: "والعذر في ذلك عن عائشة أنها كانت متأولة هي وطلحة والزبير وكان مرادهم إيقاع الإصلاح بين الناس وأخذ القصاص من قتلة عثمان رضي الله عنهم أجمعين وكان رأي علي الاجتماع على الطاعة وطلب ألياء المقتول القصاص ممن يثبت عليه القتل بشروطه"4.
فلا مقصد إذن من خروج أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها هي ومن معها من الصحابة من مكة إلى البصرة إلا بغية الإصلاح بين المسلمين ولم تخرج لقتال ولا أمرت به ثم أيضاً: إن فكرة الصلح لم تكن عند أم المؤمنين عائشة رضي الله
__________
1ـ العواصم من القواصم ص/152.
2ـ المصدر السابق ص/154.
3ـ منهاج السنة 2/185.
4ـ فتح الباري 7/108.(2/710)
عنها هي ومن معها فحسب بل كانت أيضاً: تجول في فكر علي رضي الله عنه ومن معه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تقدم معنا قريباً أن علياً رضي الله عنه بعث إلى طلحة والزبير يقول: "إن كنتم على ما فارقتم عليه القعقاع بن عمرو فكفوا حتى ننزل فننظر في هذا الأمر" فأرسلا إليه: "إنا على ما فارقنا عليه القعقاع بن عمرو من الصلح بين الناس"1.
ولما كان جوابهم على علي رضي الله عنه بهذا "اطمأنت النفوس وسكنت واجتمع كل فريق بأصحابه من الجيشين فلما أمسوا بعث علي عبد الله بن عباس إليهم وبعثوا إليه محمد بن طلحة السجاد وعولوا جميعاً على الصلح وباتوا بخير ليلة لم يبيتوا بمثلها للعافية"2.
فهكذا كانت فكرة الصلح مسيطرة على عقول الجميع من الطرفين كما كانت هدفهم الذي يهدفون إليه حتى في وقت استعدادهم للقتال وفي أثناء تنظيم الجيوش.
قال ابن الأثير رحمه الله تعالى: "ولما خرج طلحة والزبير نزلت مضر جميعاً وهم لا يشكون في الصلح، ونزلت ربيعة فوقهم وهم لا يشكون في الصلح ونزلت اليمن أسفل منهم ولا يشكون في الصلح.. ونزل علي بحيالهم، فنزلت مضر إلى مضر وربيعة إلى ربيعة، واليمن إلى اليمن فكان بعضهم يخرج إلى بعض لا يذكرون إلا الصلح وكان أصحاب علي عشرين ألفاً، وخرج علي وطلحة والزبير فتوافقوا فلم يروا أمراً أمثل من الصلح ووضع الحرب فافترقوا على ذلك"3.
ولما أرسلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إلى علي رضي الله عنه تعلمه أنها إنما جاءت للصلح فرح هؤلاء وهؤلاء لاتفاقهم على رأي واحد وهو الصلح ولما رجع القعقاع بن عمرو من عند أم المؤمنين وطلحة والزبير بمثل رأيهم "جمع علي الناس ثم قام خطيباً فيهم ـ فحمد الله ـ عز وجل وأثنى عليه وصلى على النبي
__________
1ـ البداية والنهاية 7/261.
2ـ انظر تاريخ الأمم والملوك 4/506، الكامل لابن الأثير 3/242، البداية والنهاية 7/261.
3ـ تاريخ الأمم والملوك 4/505، الكامل لابن الأثير 3/241-242.(2/711)
صلى الله عليه وسلم وذكر الجاهلية وشقاءها، والإسلام والسعادة وإنعام الله على الأمة بالجماعة بالخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الذي يليه ـ ثم حدث هذا الحدث الذي جره على هذه الأمة أقوام طلبوا هذه الدنيا، حسدوا من أفاءها الله عليه على الفضيلة وأرادوا رد الأشياء على أدبارها، والله بالغ أمره، ومصيب ما أراد ألا وإني راحل غداً فارتحلوا، ألا ولا يرتحلن معي أحد أعان على قتل عثمان في شيء من أمور الناس"1.
ففكرة الصلح كانت هي المقصد الذي يطلبه الفريقان واتفقوا عليه وكان المسلمون حينئذ مجمعين على وجوب إقامة الحد وتنفيذ القصاص في قتلة عثمان ولم يخطر القتال على بال أحد منهم، ولكن المفسدين في الأرض الذين قتلوا عثمان رضي الله عنه أصابهم الغم وأدركهم الحزن من اتفاق الكلمة وجمع الشمل، وأيقنوا أن الصلح الذي حصل الاتفاق عليه بين علي وأم المؤمنين وطلحة والزبير رضي الله عنهم سيكشف أمرهم وسيسلم رؤوسهم إلى سيف الحق وقصاص الخليفة فباتوا يدبرون أمرهم بليل شديد الظلمة فلم يجدوا سبيلاً لنجاتهم إلا بأن يعملوا على إبطال الصلح وتفريق صفوف المسلمين وذلك بأن يقوموا بعمل يحير العقلاء ويجعل كل فريق يسيء الظن بالآخر. فقد أجمعوا على إنشاب الحرب في السر واستسروا بذلك خشية أن يفطن بما حاولوا من الشر وخاصة بعد أن تيقنوا أن رأي علي فيهم موافق لرأي طلحة والزبير وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنهم وقض مضجعهم قوله رضي الله عنه في خطبته التي ذكرناها آنفاً: "ألا وإني راحل غداً فارتحلوا ألا ولا يرتحلن معي أحد أعان على قتل عثمان في شيء من أمور الناس"2 " فلما قال هذا اجتمع من رؤوسهم جماعة كالأشتر النخعي، وشريح بن أوفى وعبد الله بن سبأ ـ المعروف بابن السوداء، وسالم بن ثعلبة
__________
1ـ تاريخ الأمم والملوك 4/493، وانظر البداية والنهاية 7/260.
2ـ البداية والنهاية 7/260.(2/712)
وعلياء بن الهيثم وغيرهم في ألفين وخمسمائة وليس فيهم صحابي ولله الحمد فقالوا: ما هذا الرأي؟ وعلي والله أعلم بكتاب الله ممن يطلب قتلة عثمان، وأقرب إلى العمل بذلك وقد قال ما سمعتم غداً يجمع عليكم الناس، وإنما يريد القوم كلهم أنتم فكيف بكم وعددكم قليل في كثرتهم؟
فقال الأشتر: قد عرفنا رأي طلحة والزبير فينا وأما رأي علي فلم نعرفه إلى اليوم فإن كان اصطلح معهم فإنما اصطلحوا على دمائنا، فإن كان الأمر هكذا ألحقنا علياً بعثمان فرضي القوم منا بالسكوت فقال ابن السوداء: بئس ما رأيت لو قتلناه قتلنا فإنا يا معشر قتلة عثمان ـ في ألفين وخمسمائة ـ وطلحة والزبير وأصحابهما في خمسة آلاف لا طاقة لكم بهم وهم إنما يريدونكم.
فقال علياء بن الهيثم: دعوهم وارجعوا بنا حتى نتعلق ببعض البلاد فنمتنع بها فقال ابن السوداء: بئس ما قلت، إذا والله كان يتخطفكم الناس، ثم قال ابن السوداء: قبحه الله يا قوم إن عزكم في خلطة الناس فإذا التقى الناس فأنشبوا الحرب والقتال بين الناس ولا تدعوهم يجتمعون، فمن أنتم معه لا يجد بداً من أن يمتنع ويشغل الله طلحة والزبير ومن معهما عما يحبون ويأتيهم ما يكرهون فأبصروا الرأي وتفرقوا عليه"1 فاجتمعوا على هذا الرأي الذي تفوه به الخبيث عبد الله بن سبأ اليهودي "فغدوا مع الغلس وما يشعر بهم جيرانهم فخرجوا متسللين وعليهم ظلمة فخرج مضريهم إلى مضريهم، وربيعهم إلى ربيعهم ويمانيهم إلى يمانيهم فوضعوا فيهم السلاح بغتة فثار أهل البصرة، وثار كل قوم في وجوه أصحابهم الذين أتوهم، وبلغ طلحة والزبير ما وقع من الاعتداء على أهل البصرة فقالا: ما هذا؟ قالوا: طرقنا أهل الكوفة ليلاً وفي نفس الوقت حسب خطة أولئك المفسدين ذهبت منهم فرقة أخرى في ظلمة الليل ففاجأت معسكر علي بوضع السيف فيهم وقد وضعت السبئية رجلاً قريباً من علي يخبره بما يريدون
__________
1ـ البداية والنهاية 7/260.(2/713)
فلما سمع علي الصوت عندما هجموا على معسكره قال: ما هذا؟ قال ذلك الرجل: ما شعرنا إلا وقوم من أهل البصرة قد بيتونا"1.
"فثار كل فريق إلى سلاحه ولبسوا اللأمة وركبوا الخيول، ولا يشعر أحد منهم بما وقع الأمر عليه في نفس الأمر وكان أمر الله قدراً مقدرواً وقامت الحرب على قدم وساق وتبارز الفرسان، وجالت الشجعان فنشبت الحرب وتوافق الفريقان وقد اجتمع مع علي عشرون ألفاً، والتف على عائشة ومن معها نحو من ثلاثين ألفاً فإنا لله وإنا إليه راجعون والسبئية أصحاب ابن السوداء ـ قبحه الله ـ لا يفترون عن القتل ومنادي علي ينادي ألا كفوا، ألا كفوا فلا يسمع أحد"2 فاشتدت المعركة وحمي الوطيس "وقد كان من سنتهم في هذا اليوم أنه لا يذفف3 على جريح ولا يتبع مدبر وقد قتل من هذا خلق كثير جداً"4 حتى حزن علي رضي الله عنه أشد الحزن وجعل يقول لابنه الحسن: يا بني ليت أباك مات منذ عشرين سنة فقال له: يا أبه قد كنت أنهاك عن هذا قال: يا بني إني لم أر أن الأمر يبلغ هذا"5 ثم نزل بنفسه إلى ميدان المعركة لإنهاء القتال "وطلب طلحة والزبير ليكلمهما فاجتمعوا حتى التقت أعناق خيولهم فذكرهما بما ذكرهما به فانتهى الأمر برجوع الزبير يوم الجمل وفي أثناء رجوعه رضي الله عنه "نزل وادياً يقال له: وادي السباع فاتبعه رجل يقال له عمرو بن جرموز فجاءه وهو نائم فقتله غيلة"6 وأما طلحة رضي الله عنه فإنه بعد " أن اجتمع به علي فوعظه تأخر فوقف في بعض الصفوف فجاءه سهم غرب فوقع في ركبته
__________
1ـ تاريخ الأمم والملوك 4/506-507، الكامل لابن الأثير 3/242، البداية والنهاية 7/261-262، فتح الباري 13/56.
2ـ البداية والنهاية 7/262.
3ـ أي: لا يجهر عليه "النهاية في غريب الحديث" 2/162.
4ـ البداية والنهاية 7/262.
5ـ ذكره ابن كثير في البداية والنهاية 7/262.
6ـ انظر تاريخ الأمم والملوك 4/535، البداية والنهاية 7/264، الرياض النضرة 4/288.(2/714)
وقيل في رقبته والأول أشهر، وانتظم السهم مع ساقه خاصرة الفرس فجمح به حتى كاد يلقيه وجعل يقول: إلى عباد الله فأدركه مولى له فركب وراءه وأدخله البصرة فمات بدار فيها ويقال: إنه مات بالمعركة"1 ولم تنته موقعة الجمل برجوع الزبير واستشهاد طلحة رضي الله عنهما بل اشتدت الحرب بين الفريقين حتى أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تقدمت وهي في هودجها وناولت كعب بن سور قاضي البصرة مصحفاً وقالت ادعهم إليه وذلك حين اشتد الحرب وحمي القتال فلما تقدم كعب بن سور بالمصحف يدعو إليه استقبله مقدمة جيش الكوفيين وكان عبد الله بن سبأ ـ وهو ابن السوداء ـ وأتباعه بين يدي الجيش يقتلون من قدروا عليه من أهل البصرة لا يتوقفون في أحد، فلما رأوا كعب بن سور رافعاً المصحف رشقوه بنبالهم رشقة رجل واحد فقتلوه ووصلت النبال إلى هودج أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فجعلت تنادي الله الله يا بني اذكروا يوم الحساب ورفعت يديها تدعو على أولئك النفر من قتلة عثمان فضج الناس معها بالدعاء حتى بلغت الضجة إلى علي فقال: ما هذا؟ فقالوا: أم المؤمنين تدعو على قتلة عثمان وأشياعهم فقال: اللهم العن قتلة عثمان"2.
ولما رأى علي رضي الله عنه أن المعركة حميت حول الجمل أمر بعقره على ما يقال كي لا تصاب أم المؤمنين لأنها بقيت غرضاً للرماة ولينفصل هذا الموقف الذي تفاني فيه الناس ولما سقط البعير إلى الأرض انهزم من حوله من الناس وانتهت المعركة وحملت أم المؤمنين بأمر من علي وهي مكرمة معززة ودخلت البصرة ومعها أخوها محمد بن أبي بكر"3.
وأما علي رضي الله عنه، فإنه "أقام بظاهر البصرة ثلاثاً ثم صلى على القتلى من الفريقين ... ثم جمع ما وجد لأصحاب عائشة في المعسكر، وأمر به أن يحمل إلى مسجد البصرة فمن عرف شيئاً هو
__________
1ـ البداية والنهاية 7/264، 270، الرياض النضرة في مناقب العشرة 4/266.
2ـ انظر تاريخ الأمم والملوك 4/513، البداية والنهاية 7/264.
3ـ انظر تاريخ الأمم والملوك 4/533-534، البداية والنهاية 7/266-267.(2/715)
لأهلهم فليأخذه إلا سلاحاً كان في الخزائن عليه سمة السلطان وكان مجموع من قتل يوم الجمل من الفريقين ـ عشرة آلاف خمسة من هؤلاء وخمسة من هؤلاء رحمهم الله ورضي عن الصحابة منهم وقد سأل بعض أصحاب علي علياً أن يقسم فيهم أموال أصحاب طلحة والزبير فأبى عليهم"1.
"ولما أرادت أم المؤمنين عائشة الخروج من البصرة بعث إليها علي رضي الله عنه بكل ما ينبغي من مركب وزاد ومتاع وغير ذلك وأذن لمن نجا ممن جاء في الجيش معها ـ أن يرجع إلا أن يحب المقام، واختار لها أربعين امرأة من نساء أهل البصرة المعروفات وسير معها أخاها محمد بن أبي بكر، فلما كان اليوم الذي ارتحلت فيه، جاء علي فوقف على الباب وحضر الناس وخرجت من الدار2 في الهودج فودعت الناس ودعت لهم وقالت: يا بني لا يعتب بعضنا على بعض إنه والله ما كان بيني وبين علي في القديم إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها فقال علي: صدقت والله ما كان بيني وبينها إلا ذاك وإنها لزوجة نبيكم صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة وسار علي معها مودعاً ومشيعاً أميالاً، وسرح بنيه معها بقية ذلك اليوم وكان يوم السبت مستهل رجب سنة ست وثلاثين ـ وقصدت في مسيرها ذلك إلى مكة، فأقامت بها إلى أن حجت عامها ذلك ثم رجعت إلى المدينة رضي الله عنها"3.
ومما تقدم ذكره بشأن موقعة الجمل تبين أن القتال وقع بين الصحابة فيما بينهم كان بدون قصد منهم ولا اختيار وأن حقيقة المؤامرة التي قام بها قتلة عثمان خفيت على كلا الفريقين حتى ظن كل منهما أن الفريق الآخر قصده بالقتال.
وقد وضح حقيقة هذه المؤامرة العلامة ابن حزم وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمهما الله:
قال أبو محمد بن حزم: "وأما أهل الجمل فما قصدوا قط قتال علي
__________
1ـ تاريخ الأمم والملوك 4/538-539، البداية والنهاية 7/267..
2ـ هي دار عبد الله بن خلف الخزاعي وهي أعظم دار كانت بالبصرة "تاريخ الطبري" 4/539، البداية والنهاية 7/267.
3ـ البداية والنهاية 7/268-269.(2/716)
رضوان الله عليه ولا قصد علي رضوان الله عليه قتالهم وإنما اجتمعوا بالبصرة للنظر في قتلة عثمان رضوان الله عليه وإقامة حق الله تعالى فيهم، فتسرع الخائفون على أنفسهم أخذ حد الله تعالى منهم وكانوا أعداداً عظيمة يقربون من الألوف فأثاروا القتال خفية حتى اضطر كل واحد من الفريقين إلى الدفاع عن أنفسهم إذ رأوا السيف قد خالطهم"1.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "ولم يكن يوم الجمل لهؤلاء2 قصد في القتال ولكن وقع الاقتتال بغير اختيارهم فإنه لما تراسل علي وطلحة والزبير وقصدوا الاتفاق على المصلحة وأنهم إذا تمكنوا طلبوا قتلة عثمان أهل الفتنة وكان علي غير راض بقتل عثمان ولا معيناً عليه كما كان يحلف فيقول: والله ما قتلت عثمان ولا مالأت على قتله3 وهو الصادق البار في يمينه فخشي القتلة أن يتفق علي معهم على إمساك القتلة فحملوا دفعاً عن أنفسهم فظن علي أنهم حملوا عليه فحمل دفعاً عن نفسه فوقعت الفتنة بغير اختيارهم"4.
فهكذا أنشب الحرب بين علي وأخويه الزبير وطلحة قتلة عثمان الأشرار دون أن يفطن لذلك أولئك الأخيار من الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم.
وأما موقعة صفين: 5
فقد دارت رحا الحرب فيها بين أهل العراق من أصحاب علي رضي الله عنه وبين أهل الشام من أصحاب معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما ذلك أن علياً رضي الله عنه لما فرغ من وقعة الجمل ودخل البصرة وشيع أم المؤمنين
__________
1ـ الإحكام في أصول الأحكام 2/85.
2ـ المقصود بالإشارة إلى الصحابة الذين اقتتلوا في موقعة الجمل.
3ـ انظر المصنف لابن أبي شيبة 15/208-209، المصنف لعبد الرزاق 11/450، المستدرك 3/95.
4ـ منهاج السنة 2/185.
5ـ صفين: موضع بقرب الرقة على شاطيء الفرات من الجانب الغربي بين الرقة وبالس وفيه كانت وقعة صفين بين علي ومعاوية رضي الله عنهما في شهر صفر سنة 37 هجرية معجم البلدان 3/414.(2/717)
عائشة رضي الله عنها لما أرادت الرجوع إلى مكة ثم سار من البصرة إلى الكوفة فدخلها وكان في نيته أن يمضي ليرغم أهل الشام على الدخول في طاعته كما كان في نية معاوية ألا يبايع حتى يقام الحد على قتلة عثمان رضي الله عنه، أو يسلموا إليه ليقتلهم ولما دخل علي رضي الله عنه الكوفة شرع في مراسلة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما فقد بعث إليه جرير بن عبد الله البجلي ومعه كتاب أعلمه فيه "باجتماع المهاجرين والأنصار على بيعته ودعاه فيه إلى الدخول فيما دخل فيه الناس فلما انتهى إليه جرير بن عبد الله أعطاه الكتاب فطلب معاوية عمرو بن العاص ورؤوس أهل الشام فاستشارهم فأبوا أن يبايعوا حتى يقتل قتلة عثمان، أو أن يسلم إليهم قتلة عثمان وإن لم يفعل لم يبايعوه حتى يقتل قتلة عثمان رضي الله عنه فرجع جرير إلى علي فأخبره بما قالوا: وحيئنذ خرج من الكوفة عازماً على دخول الشام فعسكر بالنخيلة1 وبلغ معاوية أن علياً قد خرج بنفسه فاستشار عمرو بن العاص فقال له: اخرج أنت أيضاً بنفسك فتهيأ أهل الشام وتأهبوا، وخرجوا أيضاً: إلى نحو الفرات من ناحية صفين حيث يكون مقدم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وسار علي رضي الله عنه بمن معه من الجنود من النخيلة قاصداً أرض الشام فالتقى الجمعان في صفين ـ أوائل ذي الحجة سنة ست وثلاثين"2.
ومكث علي يومين لا يكاتب معاوية، ولا يكاتبه معاوية، ثم دعا علي بشير بن عمرو الأنصاري وسعيد بن قيس الهمداني، وشبث بن ربعي التميمي فقال لهم: ائتوا هذا الرجل فادعوه إلى الطاعة والجماعة واسمعوا ما يقول لكم: فلما دخلوا على معاوية جرى بينه وبينهم حوار لم يوصلهم إلى نتيجة فما كان من معاوية إلا أن أخبرهم أنه مصمم على القيام بطلب دم عثمان الذي قتل
__________
1ـ النخلة: تصغير نخلة: موضع قرب الكوفة على سمت الشام وهو الموضع الذي خرج إليه علي رضي الله عنه "معجم البلدان" 5/278.
2ـ تاريخ الأمم والملوك 4/563-565، الكامل 3/276-279، البداية والنهاية 7/276-277.(2/718)
مظلوماً"1.
ولما رجع أولئك النفر إلى علي رضي الله عنه وأخبروه بجواب معاوية رضي الله عنه لهم وأنه لن يبايع حتى يقتل القتلة أو يسلمهم" عند ذلك نشبت الحرب بين الفريقين واقتتلوا مدة شهر ذي الحجة كل يوم، وفي بعض الأيام ربما اقتتلوا مرتين ولما دخل شهر المحرم تحاجز القوم رجاء أن تقوم بيهم مهادنة وموادعة يؤول أمرها إلى الصلح بين الناس وحقن دمائهم"2 ثم في خلال هذا الشهر بدأت مساعي الصلح والمراسلة تتكرر بين الطرفين ولكن انسلخ شهر المحرم ولم يحصل لهم أي اتفاق، ولم يقع بينهم صلح.
ثم نشبت الحرب بين الطائفتين أياماً ثمانية وكان أشدها وأعنفها ليلة التاسع من صفر سنة سبع وثلاثين حيث سميت هذه الليلة "ليلة الهرير" تشبيهاً لها بليلة القادسية اشتد القتال فيها حتى توجه النصر فيها لأهل العراق على أهل الشام"3.
وتفرقت صفوفهم وكادوا ينهزمون فعند ذلك رفع أهل الشام المصاحف فوق الرماح وقالوا: هذا بيننا وبينكم قد فنى الناس فمن لثغور أهل الشام بعد أهل الشام، ومن لثغور أهل العراق بعد أهل العراق، فلما رأى الناس المصاحف قد رفعت قالوا: نجيب إلى كتاب الله ـ عز وجل ـ وننيب إليه"4.
ولما رفعت المصاحف بالرماح توقفت الحرب ولما رفع أهل الشام المصاحف اختلف أصحاب علي رضي الله عنه وانقسموا عليه فمنهم: من رأى الموافقة على التحكيم ومنهم من كان يرى الاستمرار في القتال حتى يحسم الأمر، وهذا كان رأي علي رضي الله عنه في بادئ الأمر، ثم وافق أخيراً على التحكيم".
فتم الاتفاق بين الفريقين على التحكيم بعد انتهاء موقعة صفين وهو أن يحكم
__________
1ـ انظر تاريخ الأمم والملوك 4/573، الكامل لابن الأثير 3/285-286، البداية والنهاية 7/280.
2ـ انظر تاريخ الطبري 4/574-575، 5/5، الكامل 3/286-287، ص/289، البداية والنهاية 7/280-281.
3ـ انظر تاريخ الطبري 5/12-48، الكامل 3/294-315، البداية والنهاية 7/284-297.
4ـ انظر تاريخ الأمم والملوك 5/48، الكامل 3/316-318، البداية والنهاية 7/298.(2/719)
كل واحد منهما رجلاً من جهته، ثم يتفق الحكمان على ما فيه مصلحة المسلمين فوكل معاوية عمرو بن العاص ووكل علي أبا موسى الأشعري رضي الله عنهم جميعاً، ثم أخذ الحكمان من علي ومعاوية ومن الجندين العهود والمواثيق أنهما آمنان على أنفسهما وأهلهما والأمة لهما أنصار على الذي يتقاضيان عليه، وعلى المؤمنين والمسلمين من الطائفتين التي كليهما ـ عهد الله وميثاقه أنهما على ما في ذلك الكتاب وأجلا القضاء إلى رمضان1 وإن أحبا أن يؤخرا ذلك فعلى تراض منهما وكتب في يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت من صفر سنة سبع وثلاثين على أن يوافي علي ومعاوية موضع الحكمين بدومة الجندل في رمضان، ومع كل واحد من الحكمين أربعمائة من أصحابه، فإن لم يجتمعا لذلك اجتمعا من العام المقبل بأذرح2 ولما كان شهر رمضان جعل الاجتماع كما تشارطوا عليه وقت التحكيم بصفين وذلك أن علياً رضي الله عنه لما كان مجيئ رمضان بعث أربعمائة فارس مع شريح بن هانيء ومعهم أبو موسى، وعبد الله بن عباس وإليه الصلاة، وبعث معاوية عمرو بن العاص في أربعمائة فارس من أهل الشام ومعهم عبد الله بن عمر، فتوافوا بدومة الجندل بأذرح وهي نصف المسافة بين الكوفة والشام بينها وبين كل من البلدين تسع مراحل ـ وشهد معهم جماعة من رؤوس الناس كعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، والمغيرة بن شعبة، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي وعبد الرحمن بن عبد يغوث الزهري، وأبو جهم ابن حذيفة فلما اجتمع الحكمان وتراوضا على المصلحة للمسلمين ونظرا في تقدير أمور3 ثم اتفقا على أن يكون الفصل في موضوع النزاع بين علي ومعاوية يكون لأعيان الصحابة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راضٍ عنهم هذا ما اتفق
__________
1ـ انظر تاريخ الطبري 5/48-49، الكامل 3/316-318، البداية والنهاية 7/298-299.
2ـ أذرح: اسم بلد في أطراف الشام من أعمال الشراة ثم من نواحي البلقاء وعمان مجاورة لأرض الحجاز "معجم البلدان" 1/129.
3ـ البداية والنهاية 7/302-303، ص/308-309، وانظر تاريخ الأمم والملوك 5/67، الكامل في التاريخ 3/329.(2/720)
عليه الحكمان فيما بينهما لا شيء سواه.
أما ما يذكره المؤرخون من أن الحكمين لما اجتمعا بأذرح من دومة الجندل1 وتفاوضا واتفقا على أن يخلعا الرجلين فقال عمرو بن العاص لأبي موسى: اسبق بالقول فتقدم فقال: إني نظرت فخلعت علياً عن الأمر وينظر المسلمون لأنفسهم كما خلعت سيفي هذا من عنقي أو من عاتقي وأخرجه من عنقه فوضعه في الأرض، وقام عمرو فوضع سيفه في الأرض وقال: إني نظرت فأثبت معاوية في الأمر: كما أثبت سيفي هذا في عاتقي وتقلده، فأنكر أبو موسى فقال عمرو: كذلك اتفقنا وتفرق الجمع على ذلك من الاختلاف"2.
فهذه الحكاية وما يشبهها من اختلاق أهل الأهواء والبدع الذين لا يعرفون قدر أبي موسى وعمرو بن العاص ومنزلتهما الرفيعة في الإسلام. قال أبو بكر بن العربي مبيناً كذب ذلك: "هذا كله كذب صراح ما جرى منه حرف قط، وإنما هو شيء أخبر عنه المبتدعة ووضعته التاريخية للملوك فتوارثه أهل المجانة والجهارة بمعاصي الله والبدع"3.
ولم يكتف الواضعون من أهل التاريخ بهذا بل وسموا الحكمين بصفات يتخذون منها وسيلة للتفكه والتندر، وليتخذ منها أعداء الإسلام صوراً هزيلة لأعلام الإسلام في المواقف الحرجة، فقد وصفوا عمرو بن العاص رضي الله عنه بأنه كان صاحب غدر وخداع"4 ووصفوا أبا موسى بأنه كان أبله ضعيف
__________
1ـ دومة الجندل: اسم مكان على سبع مراحل من دمشق بينها وبين مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وبعضهم يعدها من أعمال المدينة "معجم البلدان" 2/486.
2ـ ذكره ابن العربي في العواصم من القواصم ص/174-176، وانظر تاريخ الأمم والملوك 5/71، الكامل لابن الأثير 3/332-333، البداية والنهاية 7/309-310، ومروج الذهب 2/684-685.
3ـ العواصم من القواصم ص/177.
4ـ انظر تاريخ الطبري 5/70-71، الكامل لابن الأثير 3/332-333، مروج الذهب 2/684-685.(2/721)
الرأي مخدوع في القول كما وصفوه بأنه كان على جانب كبير من الغفلة"1.
ولذلك خدعه عمرو بن العاص في قضية التحكيم حيث اتفقا على خلع الرجلين فخلعهما أبو موسى واكتفى عمرو بخلع علي دون معاوية كل هذه الصفات الذميمة يحاول المغرضون إلصاقها بهذين الرجلين العظيمين اللذين اختارهما المسلمون ليفصلا في خلاف كبير أدى إلى قتل الآلاف من المسلمين وكل ذي لب يعلم أن المسلمين لا يسندون الفصل في هذا الأمر إلى أبي موسى وعمرو بن العاص رضي الله عنهما إلا لعلمهم بما هما عليه من الفضل، وأنهما من خيار الأمة المحمدية ومن أكثرهم ثقة وورعاً وأمانة فكيف يصف الغافلون هذين الرجلين بما وصفوهما به من المكيدة والخداع وضعف الرأي والغفلة، ولكن تلك الأوصاف هي أليق بمن تفوه بها من أهل الأهواء، وقد تجاهل أولئك الواصفون لأبي موسى وعمرو بما تقدم ذكره أموراً لو دققوا النظر فيها لاستحيوا من ذكر تلك الأوصاف وتلك الأمور هي:
الأمر الأول: أنهم تجاهلوا أن معاوية لم يكن خليفة ولا هو ادعى الخلافة يومئذ حتى يحتاج عمرو إلى خلعها عنه أو تثبيتها له.
الأمر الثاني:
أن سبب النزاع هو أخذ الثأر لعثمان رضي الله عنه من قتلته فلما طلب علي البيعة من معاوية "اعتل بأن عثمان قتل مظلوماً وتجب المبادرة إلى الاقتصاص من قتلته وأنه أقوى الناس على الطلب بذلك والتمس من علي أن يمكنه منهم ثم يبايع له بعد ذلك"2 ومعنى هذا أن معاوية كان مسلماً لعلي بالخلافة لأنه طلب منه بوصفه الخليفة تسليم القتلة، أو إقامة الحد عليهم باعتباره أمير المؤمنين، وكان
__________
1ـ انظر تاريخ الطبري 5/70، الكامل 3/332-333، مروج الذهب 2/684-685.
2ـ فتح الباري 12/284.(2/722)
قال أبو محمد بن حزم مبيناً أن القتال الذي دار بين علي ومعاوية كان مغايراً لقتال علي الخوارج حيث قال: "وأما أمر معاوية رضي الله عنه فبخلاف ذلك ولم يقاتله علي رضي الله عنه لامتناعه من بيعته لأنه كان يسعه في ذلك ما وسع ابن عمر2 وغيره لكن قاتله لامتناعه من إنفاذ أوامره في جميع أرض الشام وهو الإمام الواجبة طاعته فعلي المصيب في هذا ولم ينكر معاوية قط فضل علي واستحقاقه الخلافة لكن اجتهاده أداه إلى أن رأى تقديم أخذ القود من قتلة عثمان رضي الله عنه على البيعة ورأى نفسه أحق بطلب دم عثمان والكلام فيه من ولد عثمان وولد الحكم بن أبي العاص لسنه ولقوته على الطلب بذلك كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن سهل أخا عبد الله بن سهل المقتول بخيبر بالسكوت وهو أخو المقتول وقال له: كبر كبر3 فسكت عبد الرحمن وتكلم محيصة وحويصة ابنا مسعود وهما ابنا عم المقتول لأنهما كانا أسن من أخيه"4 فلم يطلب معاوية من ذلك إلا ما كان له من الحق أن يطلبه وأصاب في ذلك الأثر الذي ذكرنا وإنما أخطأ في تقديمه ذلك على البيعة فقط فله أجر الاجتهاد في ذلك ولا إثم عليه فيما حرم من الإصابة كسائر المخطئين في اجتهادهم الذين أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لهم أجراً واحداً وللمصيب أجران ـ إلى أن قال ـ وقد علمنا أن من لزمه حق واجب وامتنع من أدائه وقاتل دونه فإنه يجب على
__________
1ـ فتح الباري 13/56.
2ـ كانت عادة ابن عمر رضي الله عنه عدم البيعة في حال الاختلاف وكان يبايع عند اجتماع الكلمة فقد أخرج يعقوب بن سفيان في تاريخه عن ابن عمر أنه قال: "ما كنت لأعطي بيعتي في فرقة ولا أمنعها من جماعة" أورده الحافظ ابن حجر في كتابه فتح الباري 13/195.
3ـ أي: أترك الكلام لمن هو أكبر منك سناً.
4ـ الحديث متفق عليه. انظر اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان 2/178.(2/723)
الإمام أن يقاتله وإن كان منا وليس ذلك بمؤثر في عدالته وفضله ولا بموجب له فسقاً بل هو مأجور لاجتهاده ونيته في طلب الخير فبهذا قطعنا على صواب علي رضي الله عنه وصحة إمامته وأنه صاحب الحق وأن له أجرين أجر الاجتهاد، وأجر الإصابة وقطعنا أن معاوية رضي الله عنه ومن معه مخطئون مجتهدون مأجورون أجراً واحداً"1.
فابن حزم رحمة الله عليه يقرر في هذا النص أن النزاع الذي كان بين علي ومعاوية إنما هو في شأن قتلة عثمان وليس اختلافاً على الخلافة إذ أن معاوية رضي الله عنه لم ينكر فضل علي واستحقاقه للخلافة وإنما امتنع عن البيعة حتى يسلمه القتلة أو يقتلهم وكان علي رضي الله عنه يستمهله في الأمر حتى يتمكن ويفعل ذلك فتحكيمهما إذن إنما هو في محل النزاع، وليس من أجل الخلافة.
الأمر الثالث:
أن موقف أبي موسى الأشعري في التحكيم لم يكن أقل من موقف عمرو بن العاص في شيء ولذلك عد المؤرخون المنصفون هذا الموقف من مفاخر أبي موسى بعد موته بأجيال وصار مصدر فخر لأحفاده من بعده حتى قال ذو الرمة الشاعر مخاطباً بلال بأبي بردة بن أبي موسى الأشعري بأبيات منها:
أبوك تلافى الدين والناس بعدما ... تشاءوا2 وبيت الدين منقطع الكسر
فشد أصار الدين أيام أذرح ... ورد حروباً قد لقحن إلى عقر3
فلم يول رضي الله عنه في الفصل في قضية التحكيم إلا لما علم فيه من الفطنة والعلم وقدرته على حل المعضلات فقد ولاه النبي صلى الله عليه وسلم هو ومعاذ بن جبل قبل حجة الوداع على بلاد اليمن حيث بعث كل واحد منهما على
__________
1ـ الفصل في الملل والأهواء والنحل 4/159-161، وانظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير 4/306.
2ـ أي: تنازعوا.
3ـ ديوان ذي الرمة ص/361-362، معجم البلدان 1/130.(2/724)
مخلاف1 وأوصاهما عليه الصلاة والسلام بأن ييسرا ولا يعسرا وأن يبشرا ولا ينفرا2 وما توليته عليه الصلاة والسلام لأبي موسى إلا لعلمه بصلاحه للإمارة.
قال العلامة ابن حجر رحمه الله عند شرحه لحديث بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا موسى ومعاذاً إلى اليمن: "واستدل به على أن أبا موسى كان عالماً فطناً حاذقاً، ولولا ذلك لم يوله النبي صلى الله عليه وسلم الإمارة، ولو كان فوض الحكم لغيره لم يحتج إلى توصيته بما وصاه به، ولذلك اعتمد عليه عمر، ثم عثمان، ثم علي وأما الخوارج والروافض فطعنوا فيه ونسبوه إلى الغفلة وعدم الفطنة لما صدر منه في التحكيم بصفين3 فالتحكيم لم يقع فيه خداع ولا مكر ولم تتخلله بلاهة ولا غفلة، وأن عمراً لم يغالط أبا موسى ولم يخدعه ولم يقرر في التحكيم غير الذي قرره أبو موسى ولم يخرج عما اتفقا عليه من تفويض الحسم في موضع النزاع إلى النفر الذين بقوا على قيد الحياة ممن توفي عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راضٍ عنهم.
قال ابن كثير: "والحكمان كانا من خيار الصحابة وهما: عمرو بن العاص السهمي ـ من جهة أهل الشام والثاني: أبو موسى عبد الله بن قيس الأشعري ـ من جهة أهل العراق، وإنما نصبا ليصلحا بين الناس ويتفقا على أمر فيه رفق بالمسلمين وحقن لدمائهم وكذلك وقع"4.
وإذا كان قرارهما الذي اتفقا عليه لم يتم فما في ذلك تقصير منهما فهما قد قاما بمهمتهما بحسب ما أدى
__________
1ـ كان اليمن حينذاك مقسماً إلى مخلافين. "والمخلاف ـ بكسر الميم وسكون المعجمة وآخره فاء هو بلغة أهل اليمن وهو الكورة والإقليم ـ والرستاق ـ بضم الراء ـ وسكون المهملة بعدها مثناة وآخرها قاف وكانت جهة معاذ العليا إلى صوب عدن وكان من عمله الجند ـ بفتح الجيم والنون وله بها مسجد مشهور إلى اليوم وكانت جهة أبي موسى السفلى والله أعلم."فتح الباري" 8/61، وقد ذكر ياقوت أن اليمن مخاليف كثيرة انظر معجم البلدان 5/67-70.
2ـ انظر الحديث بطوله في صحيح البخاري 3/72.
3ـ فتح الباري 8/62.
4ـ البداية والنهاية 6/245.(2/725)
إليه اجتهادهما واقتناعهما ولو لم تكلفهما الطائفتان معاً بأداء هذه المهمة لما تعرضا لها ولا أبديا رأيا فيها، وكل ما تقدم ذكره في هذا المبحث عن موقعتي الجمل وصفين وقضية التحكيم هو اللائق بمقام الصحابة فهو خال مما دسه الشيعة الرافضة وغيرهم على الصحابة في تلك المواطن من الحكايات المختلقة والأحاديث الموضوعة ومما يعجب له الإنسان أن أعداء الصحابة إذا دعوا إلى الحق أعرضوا عنه وقالوا: لنا أخبارنا ولكم أخباركم ونحن حينئذ نقول لهم: سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين.(2/726)
موقف أهل السنة من تلك الحرب:
إن موقف أهل السنة والجماعة من الحرب التي وقعت بين الصحابة الكرام رضي الله عنهم هو الإمساك عما شجر بيهم إلا فيما يليق بهم رضي الله عنهم لما يسببه الخوض في ذلك من توليد العداوة والحقد والبغض لأحد الطرفين وذلك من أعظم الذنوب وقالوا: إنه يجب على كل مسلم أن يحب الجميع ويترضى عنهم ويترحم عليهم ويحفظ لهم فضائلهم، ويعترف لهم بسوابقهم، وينشر مناقبهم وأن الذي حصل بينهم إنما كان عن اجتهاد والجميع مثابون في حالتي الصواب والخطأ غير أن ثواب المصيب ضعف ثواب المخطئ في اجتهاده وأن القاتل والمقتول من الصحابة في الجنة، ولم يجوز أهل السنة والجماعة الخوض فيما شجر بينهم.
وقبل أن أذكر طائفة من أقوال أهل السنة التي تبين موقفهم فيما شجر بين الصحابة أذكر بعض النصوص التي فيها الإشارة إلى ما وقع بين الصحابة من الاقتتال وبما وصفوا به فيها وتلك النصوص هي:
1- قال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} 1.
ففي هذه الآية أمر الله تعالى بالإصلاح بين المؤمنين إذا ما جرى بينهم قتال لأنهم إخوة وهذا الاقتتال لا يخرجهم عن وصف الإيمان حيث سماهم الله ـ عز وجل ـ مؤمنين وأمر بالإصلاح بينهم وإذ كان حصل اقتتال بين عموم المؤمنين ولم يخرجهم ذلك من الإيمان فأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين اقتتلوا في موقعة الجمل وبعدها أول من يدخل في اسم الإيمان الذي ذكر في هذه الآية فهم لا يزالون عند ربهم مؤمنين إيماناً حقيقياً ولم يؤثر ما حصل بينهم من شجار في
__________
1ـ سورة الحجرات آية/9.(2/727)
إيمانهم بحال لأنه كان عن اجتهاد1.
2- روى الإمام أحمد والبخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان وتكون بينهما مقتلة عظيمة ودعواهما واحدة" 2.
فالمراد بالفئتين جماعة علي وجماعة معاوية والمراد بالدعوة الإسلام على الراجح وقيل المراد اعتقاد كل منهما الحق3.
3- وروى الإمام أحمد ومسلم: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق" 4.
والفرقة المشار إليها في الحديث هي ما كان من الاختلاف بين علي ومعاوية رضي الله عنهما وقد وصف صلى الله عليه وسلم الطائفتين معاً بأنهما مسلمتان وأنهما متعلقتان بالحق. والحديث علم من أعلام النبوة "إذ قد وقع الأمر طبق ما أخبر به عليه الصلاة والسلام، وفيه الحكم بإسلام الطائفتين: أهل الشام وأهل العراق، لا كما يزعمه فرقة الرافضة والجهلة الطغام من تكفيرهم أهل الشام، وفيه أن أصحاب علي أدنى الطائفتين إلى الحق وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة أن علياً هو المصيب وإن كان معاوية مجتهداً وهو مأجور إن شاء الله ولكن علي هو الإمام فله أجران كما ثبت في صحيح البخاري من حديث عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجره"5.
4- وروى البخاري بإسناده إلى أبي بكرة قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب
__________
1ـ انظر العواصم من القواصم لابن العربي ص/169-170، أحكام القرآن له أيضاً 4/1717-1718.
2ـ المسند 2/313، صحيح البخاري 4/231، صحيح مسلم 4/2214.
3ـ فتح الباري 12/303.
4ـ المسند 3/48، صحيح مسلم 2/745.
5ـ البداية والنهاية 7/305، والحديث في صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري13/318.(2/728)
جاء الحسن فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين" 1.
ففي هذا الحديث شهادة من النبي صلى الله عليه وسلم بإسلام الطائفتين أهل العراق وأهل الشام والحديث فيه رد واضح على الخوارج الذين كفروا علياً ومن معه ومعاوية ومن معه بما تضمنه الحديث من الشهادة للجميع بالإسلام ولذا كان يقول سفيان ابن عيينة: "قوله فئتين من المسلمين يعجبنا جداً" قال البيهقي: وإنما أعجبهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم سماهما جميعاً مسلمين وهذا خبر من رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كان من الحسن بن علي بعد وفاة علي في تسليمه الأمر إلى معاوية بن أبي سفيان"2.
فهذه الثلاثة الأحاديث المتقدم ذكرها كلها فيها الإشارة إلى أهل العراق الذين كانوا مع علي وإلى أهل الشام الذين كانوا مع معاوية بن أبي سفيان وقد وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم من أمته3.
كما وصفهم بأنهم جميعاً متعلقون بالحق لم يخرجوا عنه كما شهد لهم صلى الله عليه وسلم بأنهم مستمرون على الإيمان ولم يخرجوا عنه بسبب القتال الذي حصل بينهم وقد دخلوا تحت عموم قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} 4 وقد قدمنا أن مدلول الآية ينتظمهم رضي الله عنهم أجمعين فلم يكفروا ولم يفسقوا بقتالهم بل هم مجتهدون متأولون وقد بين الحكم في قتالهم ذلك علي رضي الله عنه فقد شهد للفريقين بالحسنى فقد روى ابن جرير الطبري أن علياً لما وصل البصرة خطب الناس فقام إليه أبو سلامة الدالاني فقال: أترى لهؤلاء القوم حجة فيما طلبوا من هذا الدم إن كانوا أرادوا الله ـ عز وجل ـ بذلك قال: نعم قال: فترى لك حجة بتأخيرك
__________
1ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 13/61.
2ـ الاعتقاد للبيهقي ص/198، وانظر فتح الباري 13/66.
3ـ في صحيح مسلم 2/746 "تكون في أمتي فرقتان فيخرج من بينهما مارقة يلي قتلهم أولاهم بالحق".
4ـ سورة الحجرات آية/9.(2/729)
ذلك؟ قال: نعم إن الشيء إذا كان لا يدرك فالحكم فيه أحوطه وأعمه نفعاً قال: فما حالنا وحالهم إن ابتلينا غداً؟ قال: إني لأرجو ألا يقتل أحد نقى قلبه لله إلا أدخله الله الجنة"1.
وروى ابن سعد بإسناده إلى محمد بن علي ـ المعروف بابن الحنفية ـ قال: قال علي: إني لأرجو أن أكون وطلحة والزبير من الذين قال الله ـ عز وجل ـ: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} 2.
كما شهد رضي الله عنه بالحسنى للقتلى من الفريقين في موقعة صفين:
فقد روى ابن أبي شيبة بإسناده إلى يزيد بن الأصم قال: سئل علي عن قتلى يوم صفين فقال: قتلانا وقتلاهم في الجنة"3.
وشهادة علي رضي الله عنه للقتلى من الفريقين بالجنة شهادة حق وصدق لأن الباري ـ جل وعلا ـ أخبر بأنه وعد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة ووعده ـ سبحانه ـ حق وصدق لا خلف فيه.
قال تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} 4 فالخطاب في هذه الآية الكريمة موجه لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والوعد فيها بالجنة لجميعهم رضي الله عنهم فكل من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم بنية صادقة ولو ساعة واستمر على الإيمان حتى مات فإنه من أهل الجنة لا يدخل النار لتعذيب إلا أن الذين أسلموا من بعد الفتح وقاتلوا لا يلحقون من أسلم وقاتل قبل الفتح في المرتبة وعلو الدرجة وكلاً وعد الله الجنة ورضي عنهم ومن كمال ورع علي
__________
1ـ تاريخ الأمم والملوك 4/496، الكامل لابن الأثير 3/337-338، البداية والنهاية 7/261.
2ـ الطبقات الكبرى لابن سعد 3/113، والبيهقي في الاعتقاد ص/195 والآية رقم 47 من سورة الحجر.
3ـ المصنف 15/303 وأورده الذهبي في كتابه "سير أعلام النبلاء" 3/144.
4ـ سورة الحديد آية/10.(2/730)
ذلك هو معتقد علي رضي الله عنه في قتلى الصحابة رضي الله عنهم في موقعتي الجمل وصفين فقد شهد للقاتل والمقتول منهم بالجنة لأنهم لم يقصدوا بقتالهم إلا الحق الاجتهاد ولم يكونوا مقاتلين لغرض دنيوي أو لإيثار باطل أو لدافع الحقد حاشاهم من كل ذلك وقد ثبت كذلك أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ترحمت على من قاتلها يوم الجمل أو قتل معها من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقد ذكر ابن الأثير: أنها رضي الله عنها لما كانت بالبصرة بعد وقعة الجمل سألت يومئذ عمن قتل من الناس منهم معها ومنهم عليها والناس عندها فكلما نعي واحد من الجميع قالت: يرحمه الله فقيل لها: كيف ذلك؟ قالت: كذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فلان في الجنة، وفلان في الجنة" 2.
وقولها رضي الله عنها: فلان في الجنة، وفلان في الجنة تعني بذلك من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة وسماه مثل طلحة والزبير رضي الله عنهما. ولقد تقدم معنا أن علياً رضي الله عنه تصرف فيما خلفه القتلى في يوم الجمل تصرفاً يدل على أن تلك الحرب لم تكن بين مسلمين وغير مسلمين وإنما هي حرب بين فريقين من المسلمين يرى كل فريق منهما أن الحق في جانبه حيث جمع كل مخلفات موقعة الجمل وبعث بها إلى مسجد البصرة وقال: "من عرف شيئاً فليأخذه إلا سلاحاً كان في الخزائن عليه سمة السلطان"3.
وصلى على جميع القتلى من الفريقين ودفن كثيراً منهم في قبر كبير4 كل عمله هذا يدل على إيمانه أنهم جميعاً كانوا يقاتلون اجتهاداً لا عناداً ولا شهوة،
__________
1ـ المصنف لابن أبي شيبة 15/332.
2ـ الكامل في التاريخ 3/257-258.
3ـ انظر تاريخ ابن جرير الطبري 4/538، الكامل لابن الأثير 3/55، البداية والنهاية 7/267.
4ـ انظر تاريخ الطبري 4/538.(2/731)
ولا شفاء خصومة كانت بينهم رضي الله عنهم أجمعين ومما ينبغي أن يعلم أن شهادة علي رضي الله عنه بالجنة للقتلى من الفريقين كما تقدم لا يدخل فيها من مرق عن الحق في إثارة الفتنة الأولى على عثمان كما لا يعد من إحدى الطائفتين اللتين وصفتا بأنهما متعلقتان بالحق وإن قاتل معها والتحق بها لأن الذين تلوثت أيديهم ونياتهم وقلوبهم بالبغي الظالم على أمير المؤمنين عثمان ـ كائنا من كانوا ـ استحقوا إقامة الحد الشرعي عليهم سواء استطاع ولي الأمر أن يقيم عليهم هذا الحد أو لم يستطع وفي حالة عدم استطاعته، فإن مواصلتهم تسعير نار الحرب بين صالحي المسلمين كلما أحسوا منهم بالعزم على الإصلاح والتآخي كما فعلوا في وقعة الجمل وبعدها يعد إصراراً منهم على الاستمرار في الإجرام ما داموا على ذلك، فإذا قال أهل السنة والجماعة: إن الطائفتين كانتا على الحق فإنما يريدون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كانوا في الطائفتين ومن سار معهم على سنته صلى الله عليه وسلم من التابعين.
فالواجب على المسلم أن يسلك في اعتقاده فيما حصل بين الصحابة الكرام رضي الله عنهم مسلك الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة وهو الإمساك عما حصل بينهم رضي الله عنهم ولا يخوض فيه إلا بما هو لائق بمقامهم.
وكتب أهل السنة مملوءة ببيان عقيدتهم الصافية النقية في حق أولئك الصفوة المختارة وقد حددوا موقفهم من تلك الحرب التي وقعت بينهم في أقوالهم الحسنة التي منها.
1- سئل عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى عن القتال الذي حصل بين الصحابة فقال: تلك دماء طهر الله يدي منها أفلا أطهر منها لساني مثل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل العيون، ودواء العيون ترك مسها"1.
__________
1ـ مناقب الشافعي للرازي ص/136، والإنصاف للباقلاني ص/69، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 16/122، الطبقات الكبرى لابن سعد 5/394.(2/732)
قال البيهقي معلقاً على قول عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: "هذا حسن جميل لأن سكوت الرجل عما لا يعنيه هو الصواب"1.
والمسلم مطلوب منه أن يتحرز من الوقوع في الخطأ، والحكم على بعض الصحابة بما لا يكون مصيباً فيه.
2- قال عامر بن شراحبيل الشعبي رحمه الله تعالى في المقتتلين من الصحابة: "هم أهل الجنة لقي بعضهم بعضاً فلم يفر أحد من أحد"2.
3- سئل الحسن البصري رحمه الله تعالى عن قتال الصحابة فيما بينهم فقال: "قتال شهده أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وغبنا، وعلموا وجهلنا، واجتمعوا فاتبعنا، واختلفوا فوقفنا"3.
ومعنى قول الحسن هذا: أن الصحابة كانوا بما دخلوا فيه منا وما علينا إلا أن نتبعهم فيما اجتمعوا عليه، ونقف عندما اختلفوا فيه ولا نبتدع رأيا منا، ونعلم أنهم اجتهدوا وأرادوا الله ـ عز وجل ـ إذ كانوا غير متهمين في الدين"4.
4- سئل جعفر بن محمد الصادق عما وقع بين الصحابة فأجاب بقوله: "أقول ما قال الله: {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} 5.
5- قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى بعد أن قيل له: ما تقول فيما كان بين علي ومعاوية قال: ما أقول فيهم إلا الحسنى6.
6- وقال أبو بكر المروذي: سمعت أبا عبد الله وذكر له أصحاب رسول الله فقال: رحمهم الله أجمعين ومعاوية وعمرو بن العاص وأبو موسى
__________
1ـ ذكره عنه الرازي في مناقب الشافعي ص/136.
2ـ ذكره ابن كثير في البداية والنهاية 7/303.
3ـ ذكره القرطبي في الجامع لأحكام القرآن 16/332.
4ـ انظر المصدر السابق 16/332.
5ـ ذكره الباقلانبي في كتابه الإنصاف ص/69 والآية رقم 52 من سورة طه.
6ـ مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص/164.(2/733)
الأشعري والمغيرة كلهم وصفهم الله تعالى في كتابه فقال: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} 1.
7- قال إبراهيم بن آرز الفقيه: حضرت أحمد بن حنبل وسأله رجل عما جرى بين علي ومعاوية؟ فأعرض عنه فقيل له: يا أبا عبد الله هو رجل من بني هاشم فأقبل عليه فقال: اقرأ: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 2.
8- وقال أبو الحسن الأشعري: "فأما ما جرى بين علي والزبير وعائشة رضي الله عنهم فإنما كان على تأويل واجتهاد، وعلي الإمام وكلهم من أهل الاجتهاد وقد شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة والشهادة فدل على أنهم كلهم على حق في اجتهادهم وكذلك ما جرى بين علي ومعاوية رضي الله عنهما كان على تأويل واجتهاد، وكل الصحابة أئمة مأمونون غير متهمين في الدين، وقد أثنى الله ورسوله على جميعهم وتعبدنا بتوقيرهم وتعظيمهم وموالاتهم والتبري ممن ينقص أحداً منهم رضي الله عن جميعهم"3.
9- وقال ابن أبي زيد القيرواني في صدد عرضه لما يجب أن يعتقده المسلم في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ينبغي أن يذكروا به فقال: "وأن لا يذكر أحد من صحابة الرسول إلا بأحسن ذكر والإمساك عما شجر بينهم وأنهم أحق الناس أن يلتمس ـ لهم أحسن المخارج ويظن بهم أحسن المذاهب"4.
10- وقال أبو نعيم الأصبهاني مبيناً حق الصحابة على المسلمين بعدهم وما يجب عليهم نحوهم: "فالواجب على المسلمين في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إظهار ما مدحهم الله تعالى به وشكرهم عليه من جميل أفعالهم وجميل سوابقهم
__________
1ـ مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص/126 والآية رقم 29 من سورة الفتح.
2ـ مناقب الإمام لابن الجوزي ص/126 والآية رقم 141 من سورة البقرة.
3ـ الإبانة عن أصول الديانة ص/78.
4ـ رسالته المشهورة مع شرحها الثمر الداني في تقريب المعاني ص/23.(2/734)
وأن يغضوا عما كان منهم في حال الغضب والإغفال وفرط منهم عند استزلال الشيطان إياهم ونأخذ في ذكرهم بما أخبر الله تعالى به فقال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ} 1 الآية فإن الهفوة والزلل والغضب والحدة والإفراط لا يخلو منه أحد وهو لهم مغفور ولا يوجب ذلك البراءة منهم ولا العداوة لهم ولكن يحب على السابقة الحميدة ويتولى للمنقبة الشريفة"2.
11- وقال أبو عبد الله بن بطة رحمه الله أثناء عرضه لعقيدة أهل السنة والجماعة: "ومن بعد ذلك نكف عما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد شهدوا المشاهد معه وسبقوا الناس بالفضل فقد غفر الله لهم وأمرك بالاستغفار لهم والتقرب إليه بمحبتهم وفرض ذلك على لسان نبيه وهو يعلم ما سيكون منهم وأنهم سيقتتلون وإنما فضلوا على سائر الخلق لأن الخطأ والعمد قد وضع عنهم وكل ما شجر بينهم مغفور لهم"3أ. هـ
12- قال أبو بكر بن الطيب الباقلاني: "ويجب أن يعلم: أن ما جرى بين أصحاب النبي ورضي عنهم من المشاجرة نكف عنه ونترحم على الجميع ونثني عليهم ونسأل الله تعالى لهم الرضوان والأمان والفوز والجنان ونعتقعد أن علياً عليه السلام أصاب فيما فعل وله أجران، وأن الصحابة رضي الله عنهم إن ما صدر منهم كان باجتهاد فلهم الأجر ولا يفسقون ولا يبدعون والدليل عليه قوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} 4 وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر" فإذا كان الحاكم في وقتنا له أجران
__________
1ـ سورة الحشر آية/10.
2ـ الإمامة والرد على الرافضة ص/343.
3ـ كتاب الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة ص/268.
4ـ سورة الفتح آية/18.(2/735)
على اجتهاده فما ظنك باجتهاد من رضي الله عنهم ورضوا عنه، ويدل على صحة هذا القول: قوله صلى الله عليه وسلم للحسن عليه السلام: "إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين" 1 فأثبت العظم لكل واحدة من الطائفتين وحكم لهم بصحة الإسلام وقد وعد الله هؤلاء القوم بنزع الغل من صدورهم بقوله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} 2 ... إلى أن قال: "ويجب الكف عن ذكر ما شجر بينهم والسكوت عنه"أ. هـ3.
13- وقال أبو عثمان الصابوني في صدد ذكره لعرض عقيدة السلف وأصحاب الحديث: ويرون الكف عما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتطهير الألسنة عن ذكر ما يتضمن عيباً ونقصاً فيهم ويرون الترحم على جميعهم والموالاة لكافتهم"4.
14- وقال أبو الوليد بن رشد المالكي: كلهم محمود على ما فعله، القاتل منهم والمقتول في الجنة فهذا الذي يجب على كل مسلم أن يعتقده فيما شجر بينهم لأن الله تعالى قد أثنى عليهم في كتابه وعلى لسان رسوله فقال عز من قائل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} 5 وقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} 6 أي: خياراً عدولاً ... وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عشرة من قريش في الجنة" فسمى فيهم علياً وطلحة والزبير والذي يقول أئمة أهل السنة والحق: إن علياً رضي الله عنه ومن اتبعه كان على الصواب والحق، وإن طلحة والزبير كانا
__________
1ـ صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 13/61.
2ـ سورة الحجر آية/47.
3ـ الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به ص/67-69.
4ـ عقيدة السلف واصحاب الحديث ضمن مجموعة الرسائل المنيرية 1/129.
5ـ سورة آل عمران آية/110.
6ـ سورة البقرة آية/143.(2/736)