الصَّواعِق القَواصِمِيّة
لبيانِ
أنّ من عَلاماتِ أَصحابِ الأَهْواءِ
رُدودهم على أهلِ الأَثرِ في خطئِهم
في اللُّغة العَربيَّة
تأليف
أَبي عَبدالرحمنِ فَوْزيّ بنِ عَبداللهِ بنِ مُحمّد الحُمَيديّ الأَثَريّ
قال تعالى: { وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا }
سورة المائدة آية (77).
ijk
دُّرَةٌ نَادِرَةٌ
للحافظ الذهبي رحمه الله في أن العالم
لو قَصّر في علم من العلوم فهو من أهل السنة ولا يُقدح فيه
قال الحفافظ الذهبي رحمه الله في تذكرة الحفاظ (ج3 ص1031): (فكم من إمام في فنٍّ مقصرٌ عن غيره، كسيبويه مثلاً إمامٌ في النَّحْو ولا يدري ما الحديث، ووكيعٌ إمامٌ في الحديث ولا يعرفُ العربية، وكأبي نوّاسٍ رأسٌ في الشّعر عَرِيٌّ من غيره، وعبدُالرحمن بن مهدي إمام في الحديث لا يدري ما الطبّ قطُّ، وكمحمد بن الحسن رأسٌ في الفقه ولا يدري ما القراءات، وكحفص إمامٌ في القراءة تالفٌ في الحديث).اهـ
ijk
(رَبِّ زدنِي عِلماً وحِفظاً وفهماً)
المقدمة
إنَّ الحَمدَ لله نحمدُهُ ونستعينُهُ ونستغفره ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل لهُ ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبدُهُ ورسوله.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } [آل عمران:102].
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1) } [النساء:1].
{(1/1)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71) } [الأحزاب:70-71].
أمَّا بَعْد،،
فَإنَّ أصْدَقَ الحَدِيثِ كتَابُ اللهِ وَخَيْرُ الهَدْي هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، وَشَرَّ الأمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٍ، وكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٍ، وَكُلَّ ضَلاَلَةٍ فِي النَّار .
اعلم أخي المسلم الكريم بأن التوسع لا ينبغي في علم اللغة العربية والاهتمام به، الاهتمام البالغ عن غيره من العلوم المهمة كـ(التوحيد والفقه والحديث والتفسير) وغير ذلك، مما يشغل عن أهم العلوم.
وقد كره أهل العلم التوسع في معرفة اللغة العربية كـ(الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله وأبي عبيدة رحمه الله) وغيرهما.
قال ابن الجوزي رحمه الله في تلبيس إبليس (ص167): (ذكر تلبيسه على أهل اللغة والأدب: قد لبس على جمهورهم فشغلهم بعلوم النحو واللغة من المهمات اللازمة التي هي فرض عين، عن معرفة ما يلزمهم عرفانه من العبادات، وما هو أولى بهم من آداب النفوس وصلاح القلوب... فأذهبوا الزمان في علوم لا تراد لنفسها، بل لغيرها، فإن الإنسان إذا فهم الكلمة، فينبغي أن يترقى إلى العمل بها، إذ هي مرادة لغيرها.(1/2)
فترى الإنسان منهم لا يكاد يعرف من آداب الشريعة إلا القليل، ولا من الفقه، ولا يلتفت إلى تزكية نفسه وصلاح قلبه، ومع هذا ففيهم كبر عظيم وقد خيل لهم إبليس: أنكم من علماء الإسلام، لأن النحو واللغة من علوم الإسلام، وبها يعرف معنى القرآن العزيز، ولعمري إن هذا لا ينكر، ولكن معرفة ما يلزم من النحو لإصلاح اللسان، وما يحتاج إليه من اللغة في تفسير القرآن والحديث أمر قريب، وهو أمر لازم وما عدا ذلك فضل لا يحتاج إليه، وإنفاق الزمان في تحصيل هذا الفاضل وليس بمهم مع ترك المهم غلط، وإيثاره على ما هو أنفع وأعلى رتبة كالفقه والحديث غبن، ولو اتسع العمر لمعرفة الكل كان حسناً، ولكن العمر قصير، فينبغي إيثار الأهم والأفضل). اهـ
وقال ابن الجوزي رحمه الله في تلبيس إبليس (ص167): (ولما كان عموم اشتغالهم بأشعار الجاهلية، ولم يجد الطبع صاداً عما وضع عليه من مطالعة الأحاديث، ومعرفة سير السلف الصالح، سالت بهم الطباع إلى هوة الهوى، فانبثّ شرع البطالة يعبث، فقلّ أن ترى منهم متشاغلاً بالتقوى، أو ناظراً في مطعم، فإن النحو يغلب طلبُه على السلاطين، فيأكل النحاة من أموالهم الحرام... وقد يظنون جواز الشيء وهو غير جائز لقلة فقههم(1)... وبهذا تبين مرتبة الفقه على غيره). اهـ
ولذلك يتعلم من اللغة العربية ما يفهم بها كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولغة العرب والتفسير، وما زاد على ذلك فلا يحتاج إليه طالب العلم.
وليس العبرة ببلاغة وفصاحة الإنسان بالبيان والأسلوب وبسط القول لكي يكون داعيه يشار إليه بالبنان على جهل مركب فيه في العلم الشرعي!.
__________
(1) قلت: انظروا ماذا يصنع قلة الفقه اللهم غفراً.(1/3)
والنبي - صلى الله عليه وسلم - كره البيان السحري، وكره السلف الصالح التشقيق في الكلام، والغلو في الفصاحة به لأنه ليس شرط في الدعوة إلى الله تعالى، ولا يذم طالب العلم بترك ذلك.(1)
وإليك الدليل:
1) عَنْ أنسِ بنِ مالكٍ أنَّ عُمَرَ - رضي الله عنه - رأى رَجلاً يَخْطب فأكثرَ فقالَ عُمَرُ: (إنَّ كثيراً من الخُطبِ مِنْ شَقَاشِقَ الشَّيطان).
أثر صحيح
أخرجه ابن عبدالبر في جامع بيان العلم (ج2 ص987) وابن وهب في الجامع في الحديث (ج1 ص438) وابن أبي الدنيا في الصمت (ص112) وفي الغيبة (ص31) والبخاري في الأدب المفرد (ص293) والبغوي في شرح السنة تعليقاً (ج12 ص364) من طرق عن حُمَيْد أنه سمع أنساً به.
قلت: وهذا سنده صحيح.
ويشهد له ما أخرجه أحمد بن حنبل في المسند (ج2 ص94) وابن وهب في الجامع في الحديث (ج1 ص433) وأبو نعيم في الحلية (ج3 ص224) من حديث ابن عمر قال: ((قَدِمَ رجلان من المَشْرق خطيبان على عهدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فقامَا فتكلما، ثم قعدا، وقامَ ثابتُ بن قَيس خطيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتكلَّم، ثم قعد، فَتَعجّبَ النّاسُ من كلامِهم فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((يا أيّها النَّاسُ، قولُوا بقولِكُم، فإنما تَشْقيق الكلام مِنَ الشَّيطان)) وقال: ((إنّ من البيانِ سِحْراً)).(2)
__________
(1) وانظر فضل علم السلف على علم الخلف لابن رجب الحنبلي (ص21و24و38).
(2) قوله - صلى الله عليه وسلم - (إن من البيان سحراً) يعني إن منه لنوعاً يحل من المعقول والقلوب في التمويه محل السحر... فإن الساحر بسحرة يزين الباطل في عين المسحور حتى يراه حقاً، فكذا المتكلم بمهارته في البيان، وتقلبه في البلاغة وترصيف النظم، يسلب عقل السامع، ويشغله عن التفكير فيه والتدبر، حتى يخيل إليه الباطل حقاً والحق باطلاً، فتستمال به القلوب كما تستمال بالسحر.
وانظر فتح الباري لابن حجر (ج10 ص337) وإرشاد الساري للقسطلاني (ج12 ص571) وعمدة القاري للعيني (ج17 ص426) وتهذيب السنن لابن القيم (ج7 ص292).(1/4)
وإسناده صحيح، وقد صححه الشيخ أحمد شاكر في شرح المسند (ج6 ص296).
وأخرجه البخاري في صحيحه (ج1 ص337) مختصراً ومالك في الموطأ (ج2 ص986) وأبو مصعب الزهري في الموطأ (ج2 ص164) وابن القاسم في الموطأ (ص218) والحدثاني في الموطأ (ص593) والجوهري في مسند الموطأ (ص310) وأبو داود في سننه (ج5 ص275) والبغوي في شرح السنة (ج12 ص362) والقسطلاني في إرشاد الساري (ج12 ص571) وابن عبدالبر في التمهيد (ج5 ص170) وفي الاستذكار (ج27 ص318) عن ابن عمر به.
قال الشيخ أحمد شاكر: (تشقيق الكلام والتطلب فيه ليخرجه أحسن مخرج وقوله (قولوا بقولكم) أي تكلموا على سجيتكم دون تعمُّل وتصنُّع للفصاحة والبلاغة). اهـ
فالتشقيق: التقعر في الكلام بالتشدق، وتكلف أسلوب واللباقة، والتصنع فيه بالشبهات والمقدمات وجري الأسلوب به عادة أهل الرأي المدعين للخطابة والوعظ لكسب الثقة وود الناس بالغش والخديعة في الدين، وكل ذلك من التصنع المذموم.
قال أبو عبيد رحمه الله في غريب الحديث (ج1 ص228): (المعنى أنه يبلغ من بيانه يمدح الإنسان فيُصَدّق فيه حتى يصرف القلوب إلى قوله، ويذمّه فيصدّق فيه، حتى يصرف القلوب إلى قوله الآخر، فكأنّه قد سحر السامعين بذلك). اهـ
وقال ابن عبدالبر رحمه الله في التمهيد (ج5 ص176): (وهذا إذا كان ممن يحاول تزيين الباطل وتحسينه بلفظه، ويريد إقامته في صورة الحق فهذا هو المكروه الذي ورد فيه التغليظ). اهـ
وقال البغوي رحمه الله في شرح السنة (ج12 ص364): (شبّه الذي يتفيهق في كلامه ولا يُبالي بما قال من صدقٍ أو كذبٍ بالشيطان). اهـ
2) وعَنْ عبدِالله بنِ عَمْرو أنّ رسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: ((إنّ الله يَبْغُضُ البليغَ من الرِّجال الذي يَتَخَلَّلُ بلسانهِ كما تَتَخلَّلُ البَقَرةُ)).
حديث حسن(1/5)
أخرجه أبو داود في سننه (ج5 ص274) وابن أبي شيبة في المصنف (ج9 ص15) وفي الآداب (ص161) والدارمي في الرد على بشر المريسي (ج2 ص874) والترمذي في سننه (ج5 ص141) وفي العلل الكبير (ج2 ص782) والبيهقي في شعب الإيمان (ج4 ص251) وفي الآداب (ص247) وأحمد في المسند (ج2 ص165) والهروي في ذم الكلام (ج1 ص413) وأبو الشيخ في الأمثال (ص354) والحاكم في المعرفة (ص152) والطبراني في المعجم الأوسط (ج9 ص27) وابن أبي حاتم في العلل (ج2 ص341) من طريق نافع بن عمر الجُمَحِيّ عن بشر بن عاصم عن أبيه عن عبدالله به.
قلت: وهذا سنده حسن.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
وقال الشيخ الألباني في الصحيحة (ج2 ص540): (وهو حسن كما قال الترمذي).
وأقره العراقي في المغني (ج2 ص38).
قال الترمذي رحمه الله في العلل الكبير (ج2 ص873): (سألت محمداً - يعني البخاري - عن هذا الحديث، فقال: إن نافع بن عمر يقول عن عبدالله بن عمرو، ومرة يقول: أراه عن عبدالله بن عمرو.
قال محمد: وأرجو أن يكون محفوظاً). اهـ
وقال ابن أبي حاتم رحمه الله في العلل (ج2 ص341): (وسألتُ أبي عن حديثٍ رواه وكيع(1) عن نافع بن عمر الجُمَحِي عن بِشْر بن عاصم عن أبيه قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : (إنّ اللهَ عزّوجلَّ يُبْغِضُ البَلِيغَ مِنَ الرِّجال الذي يَتَخَلَّلُ بلسانه كما تَتَخَلَّلُ(2) البَقَرُ بلِسانِها) فقلتُ لأبي: أليس حدّثْتَنَا عن أبي الوليد، وسعيد بن سُليمان عن نافع بن عمر عن بِشْر بن عاصم الثّقَفِي عن أبيه عن عبدالله بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟
__________
(1) روايته أخرجها في الزهد (302).
وأخرج الحديث ابن أبي الدنيا في الصمت (723) من طريق أبي قتيبة عن نافع بن عمر به.
(2) قوله (تَتَخَلَّلُ) ويجوز أن تقول (يتخلل) فتحتمل الفوقية والتحتية وهما صحيحان من جهة اللغة العربية لأن (البَقَرَ) اسم جنس جمعي، يجوز تذكر الفعل وتأنيثه.(1/6)
فقال: نَعَمْ.(1)
__________
(1) قوله (نَعَمْ) جوابُ (أَلَيْسَ) والأحسنُ: أن يكون جوابها: (بَلَى) غيرَ أن الجواب بـ(نَعَمْ) جائزٌ في مثل هذا الموضع على قلَّة، لأن الاستفهامَ المتقدم على النفي في (أَلَيْسَ) استفهامٌ تقريريٌّ، أي: كأن السائل قال: (لقد حَدَّثْتَنَا عن أبي الوليد...) فالكلامُ في معناه: إيجابٌ فمن هنا ساغ الجوابُ بـ(نَعَمْ).
ونَعَمْ: حرف جواب، ويكون تصديقاً للمخبِر في جواب الخبر... ووعداً للطالب في جواب الأمر أو النهي... وإعلاماً للسائل في جواب الاستفهام.
وقد ذهب جماعةٌ من متقدِّمي النحاة ومتأخِّريهم إلى: أن النفي إذا سُبقَ باستفهام، فإن كان الاستفهامُ على حقيقته، أي: استفهاماً عن النفي، فجوابُه: كجوابِ النّفْي المجّرد من الاستفهام، أي: تدخلُه (نَعَمْ) لتقرير النفي، وتدخلُهُ (بَلَى) لتكذيب النفي، وإفادة الإثبات، وإن كان الاستفهامُ تقريريّاً أي يُراد به تقريرُ ما بعد النفي، فالأكثر الغالب أن يجاب بما يجابُ به النفي، أي: (نَعَمْ) لتقرير النفي، و(بَلَى) لتكذيب النفي، وإفادة الإثبات مراعاةً للفظه، ويجوز عند أمَنْ اللّبْس أن يجابَ بما يُجابُ به الإيجابُ، أي: (نَعَمْ) في الحالتين مراعاةً لمعناه.
وانظر مغني اللبيب لابن هشام (ج4 ص302) ومعجم الوسيط (ص935) ومختصر مغني اللبيب لشيخنا الشيخ محمد العثيمين (ص39 و121).
قال الفيومي رحمه الله في مصباح المنير (ص316): (وقولُهم في الجوابِ (نَعَمْ) معناها (التّصديق) إنْ وقعتْ بعدَ الماضي، نَحْوُ: (هلْ قامَ زيدٌ؟، و(الوَعْدُ) إنْ وقَعَتْ بعدَ المُستقبلِ، نَحْوُ: (هلْ تقومُ). =
= قال سِيَبَويْه (نَعَمْ) عِدَةٌ وتصديقٌ.
قال ابنُ بابِشَاذَ: يريدُ أنَّها عِدَةٌ في الاسْتِفهامِ، وتصديقٌ للإخبارِ، ولا يريدُ اجتماعَ الأمرين فيها في كلِّ حالٍ.
قال النِّيليُّ: وهي تُبْقِي الكلامَ على ما هو عليه مِنْ إيجابٍ، أو نَفْيٍ، لأّنها وُضِعَتْ لتصديقِ ما تقدَّمَ من غيرِ أنْ تَرْفَعَ النَّفي وتُبْطِلَهُ فإذا قال القائل: ما جاءَ زيدٌ، ولَم يكُنْ قد جاءَ، وقُلْتَ في جوابهِ: (نَعَمْ) كان التَّقْديرُ: (نَعَمْ ما جاءَ) فصدّقْتَ الكلام على نفيه، ولم يُبْطِل النّفي كما تُبْطِلُهُ (بَلَى) وإن كان قدْ جاء قُلْتُ في الجواب (بَلَى) والمعنى قد جاءَ (فَنَعم) تُبقِي النّفي على حاله، ولا تُبطِلُهُ، وفي التنزيل: { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى } [الأعراف:172] ولو قالوا: (نَعَمْ) كان كُفْراً إذ معناه: نَعَمْ لَسْتَ بربِّنا لأّنها تُزيلُ النفيَ بخلاف (بَلَى) فإنها للإيجاب بعد النفي). اهـ(1/7)
وقال: جميعاً صَحِيحَيْن، قَصّر وكيع). اهـ
وقوله (يَتَخَلَّلُ بِلسَانِهِ): أي يَتَشَدَّقُ في الكلام، ويُفَخِّم به لسانه ويلُفُّه كم تَلُفُّ البَقَرَةُ الكلأَ بلسانها لفّاً.(1)
قال أبو عبدالرحمن آبادي رحمه الله في عون المعبود (ج13 ص348): (قوله (البَلِيغُ) أي المبالغ في فصاحة الكلام وبلاغته وقوله (الَّذِي يَتَخَلَّلُ بِلسَانِهِ) أي يأكل بلسانه، أو يدير لسانه حول أسنانه مبالغة في إظهار بلاغته وقوله (تَتَخلَّلُ البَاقِرَةُ بِلسَانِهَا) أي البقرة كأنه أدخل التاء فيها على أنه واحد من الجنس كالبقرة، واستعمالها مع التاء قليل، قاله القاري). اهـ
وقال النووي رحمه الله في الأذكار (ص572): (يكره التقعير في الكلام بالتشدق، وتكلف السجع، والفصاحة والتصنع بالمقدمات التي يعتادها المتفاصحون وزخارف القول، فكل ذلك من التكلف المذموم). اهـ
قلت: وقد أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الأمر لما يخالطه من الكذب والتزيد على الكتاب والسنة.(2)
3) وعن عَدِيِّ بن حاتمٍ قالَ: (أنّ رَجُلاً خَطَبَ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: (مَنْ يُطعِ اللهَ ورسولَهُ فقَد رَشَدَ، ومن يَعْصِهِمَا فقد غَوَى، فقالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : ((بِئْسَ الخطيبُ أنتَ، قُلْ ومَنْ يَعْصِ اللهَ ورسولَهُ)).
وفي رواية: (قُمْ أو اذْهَب، بِئْسَ الخطيبُ أنتَ).
وفي رواية: (بِئْسَ الخطيبُ أنتَ، قُمْ).
وفي رواية: (قُلْ من يُطعِ اللهَ ورسولَهُ فقدْ رَشَدَ، ومن يَعْصِ اللهَ ورسولَهُ فقد غوى، ولا تقلْ: ومَنْ يَعْصِهِما).
__________
(1) انظر النهاية لابن الأثير (ج2 ص73) والقاموس المحيط للفيروز آبادي (ج1 ص375).
(2) انظر معالم السنن للخطابي (ج7 ص228) وتهذيب السنن لابن القيم (ج7 ص291).(1/8)
أخرجه مسلم في صحيحه (ج6 ص159) وابن أبي شيبة في المصنف (ج10 ص347) وأبو داود في سننه (ج1 ص660) و(ج5 ص259) والطيالسي في المسند (ج2 ص363) والبغوي في شرح السنة (ج12 ص360) وابن حجر في الموافقة (ج1 ص33) والنسائي في السنن الكبرى (ج5 ص229) وفي السنن الصغرى (ج6 ص90) وأحمد في المسند (ج4 ص256) والبيهقي في السنن الكبرى (ج3 ص216) وفي الشعب تعليقاً (ج4 ص313) وفي المعرفة (ج4 ص371) وفي الآداب تعليقاً (ص251) وابن النحاس في القطع والائتناف (ص28) والطحاوي في مشكل الآثار (ج8 ص371) وابن حبان في صحيحه (2798) والحاكم في المستدرك (ج1 ص289) وأبو نعيم في المستخرج (ج2 ص457) والطبراني في المعجم الكبير (ج17 ص98) من طريق عبدالعزيز بن رُفَيْع عن تمِيم بن طَرَفَةَ عن عَدِيّ به.
فأنت ترى أنه - صلى الله عليه وسلم - أنكر على الخطيب قوله (ومن يعصهما)... وإنما أنكر عليه لتشريكه في الضمير المقتضي للتسوية، وأمره بالعطف تعظيماً لله تعالى بتقديم اسمه سبحانه.(1)
قال أبو العباس القرطبي رحمه الله في المفهم (ج2 ص510): (ظاهره: أنه أنكر عليه جَمْعَ اسمِ الله، واسم رسوله - صلى الله عليه وسلم - في ضمير واحد). اهـ
وقال القاضي عِياض رحمه الله في إكمال المعلم (ج3 ص275): (أنكر عليه السلام جمع اسمه مع اسم الله في كلمة واحدة وضمير واحد لما فيه من التسوية تعظيماً لله تعالى). اهـ
وقال البغوي رحمه الله في شرح السنة (ج12 ص360): (وفيه - يعني الحديث - تعليمُ الأدب في المنطق، وكراهيةُ الجمع بين اسم الله تعالى، واسم غيره... لأنه يتضمن نوعاً من التسوية). اهـ
__________
(1) انظر شرح صحيح مسلم للنووي (ج6 ص159) وخُطبة الحاجة للألباني (ص17) والمفهم لابي العباس القرطبي (ج2 ص511).(1/9)
وقال السِّنْدِي رحمه الله في حاشيته على سنن النَّسائي (ص80): (وقال الشيخ عزالدين بن عبدالسلام من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يجوز له الجمع في الضمير بينه وبَيْنَ ربه تعالى، وذلك ممتنع على غيره.
قال: وإنما يمتنع من غيره دونه لأن غيره إذا جمع أوهم إطلاقه التسوية، بخلافه هو فإن منصبه لا يتطرَّقُ إليه إيهام ذلك). اهـ
وقال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم (ج6 ص159): (أن سبب النهي أن الخطب شأنها البسط والإيضاح واجتناب الإشارات والرموز).اهـ
قلت: وأصبح في هذا الزمان عند الخطباء الجهل علماً، والعلم جهلاً عندما أخذوا بالرأي والهوى، وتركوا الآثار والسنة فوقعت الفتنة بين المسلمين ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قال ابن بطال رحمه الله: (أعلم - صلى الله عليه وسلم - أن أمته ستتبع المحدثات من الأمور والبدع والأهواء كما وقع للأمم قبلهم وقد أنذر في أحاديث كثيرة بأن الآخر شر، والساعة لا تقوم إلا على شرار الناس، وأن الدين إنما يبقى قائماً عند خاصة من الناس).(1) اهـ
قال ابن حجر رحمه الله: (وقد وقع معظم ما أنذر به - صلى الله عليه وسلم - وسيقع بقية ذلك).
قلت: فالناظر إلى جمهور خطباء الجُمع الذين يتصدرون ويُجيزون لأنفسهم ارتقاء المنابر للوعظ والتدريس والفتوى والتوجيه، يرى بأن هؤلاء القوم يجيدون الكلام والتشدق، ولا يجيدون العلم وتطبيقه.
إن أحوال الخطباء عجيبة... تراهم لا يعرفون كيف يوجهون الناس وإلى أي اتجاه يدور بهم... فمن هذا حالهم كيف سيفهم الناس كلامهم، وإلى أي وجهة يتجهون بهم اللهم غفراً.
إذاً فلا تغتر بحذلقة متحذلق، أو فيقهة متفيهق، أو تشدق متشدق، بل { وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ } [الشورى:15].
__________
(1) انظر الفتح لابن حجر (ص13 ص301).(1/10)
هذا وأسأل الله تعالى أن ينفع بهذا الكتاب جميع الأمة، وأن يتقبل مني هذا الجهد، ويجعله في ميزان حسناتي يوم لا ينفع مال ولا بنون، وأن يتولانا بعونه ورعايته إنه نعم المولى، ونعم النصير.
وصلى الله على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أبو عبدالرحمن
فوزي بن عبدالله بن محمد الحميدي الأثري
بسم الله الرحمن الرحيم
ذكر
أن من علامات أصحاب الأهواء لمزهم أهل الأثر بالخطأ في النحو
واللغة العربية!
أصحاب الأهواء ولا سيما الحاقدون منهم فإنهم لحرصهم على إسقاط طلبة الأثر والسنة إذا لم يجدوا شيئاً في التوحيد والعقيدة والمنهج يرموهم بأنهم لا يعرفون في النحو واللغة العربية(1) ... فيفرحون بمثل هذا الذي لا يسلم منه أحد ... ظناً منهم أنهم قد ظفروا بما يحلمون به، ويتمنونه انتقاماً لأنفسهم ولرؤوسهم(2) الذين خرجوا عن صف منهج أهل السنة والجماعة.
__________
(1) وللعلم بأن أهل الحديث والأثر هم أهل اللغة العربية الصحيحة، لأنهم يعرفون المعاني الصحيحة في التفسير، والترجيح في معاني الأحاديث اللغوية الصحيحة، وهذا هو مراد الشرع المطهرّ.
قلت: وبذلك تعرف الاحكام الصحيحة التي هي مدار الدين عليها.
فهذا هو المقصد من معرفة اللغة العربية، وهذه المعرفة العلمية لا يتقنها إلاّ أهل الحديث والأثر، وما عليك إلا أن تنظر في كتبهم المصنفة في ذلك.
وأما المبالغة في النحو والأوجه فيه، فهذا ليس مراد الشرع، بل هذا مما يُضيّع الأوقات عن المهمات ويشغل عن العلوم المهمة عن الأمة، فأذهبوا الزمان في علم لا يراد بنفسه، بل لغيره، وهو من تلبيس إبليس على النّحْويين من أهل الزمان، والله المستعان.
(2) قلت: ولو جمعت أخطاء رؤوس أهل البدع مع أتباعهم في اللغة العربية لبلغت المجلدات اللهم غفراً.(1/11)
وفعلوا ذلك عندما عجزوا أن يجدوا لأهل الأثر ما يسقطهم في مجال المنهج، وهزموا في هذا المجال شر هزيمة، فذهبوا ينقبون عنهم فلم يجدوا إلا بعض الأخطاء(1) التي لا تضر صاحبها إذا كان من أهل السنة والجماعة،فجعلوها في مصاف البدع الكبرى، وصوروها في صور الموبقات المهلكات!!... نعوذ بالله من الخذلان.
وأهل العلم لم يدعوا العصمة، والكمال في شيء من أعمالهم العلمية ولا غيرها... ولا ادعى هذا أحد من أهل العلم، فقد يقع العالم في الأخطاء، والمخالفات للكتاب والسنة، فضلاً عن الأخطاء اللغوية والإملائية.
وقد يبحث العالم عن حديث، أو ترجمة رجل من مظانه من المصادر فلا يقف عليه فيعتذر، وقد يكون إماماً في فن من الفنون فتوجد له الأخطاء في فنه، فهذا سيبويه رحمه الله إمام في اللغة العربية، قد استدرك عليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ثمانين خطأً، وكم من فقيه له أخطاؤه؟ وكم من محدث، ومفسر لهم أخطاؤهم في العلم.
وكل هذه الأخطاء لا تضر أصحابها، ولا تحط من مكانتهم إذ لا يحط من مكانة الرجل إلا ارتكاب الكبائر، أو اقتحام البدع وعداء أهل السنة، هذا هو منهج أهل السنة والجماعة، أما أهل البدع ولا سيما الحاقدون منهم فإنهم لحرصهم على إسقاط أهل السنة يفرحون بمثل هذه السقطات التي لا يسلم منها أحد، ظناً منهم أنهم قد ظفروا بما يحلمون به، ويتمنونه انتقاماً لرؤوسهم المبتدعة الذين خرجوا عن منهج أهل السنة عقيدة وشريعة متعمدين لكثير مما خرجوا عنه .
فإذا ظفروا بشئ من الأخطاء التي لا تضر جعلوها في مصاف البدع الكبرى وصوروها في صور الموبقات المهلكات.(2)
__________
(1) تلك الأخطاء النحوية التي يقع فيها بعض العلماء ولا تضرهم كما سوف يأتي.
(2) وأصلُ الجهلةِ المبتدعة في دين الله مُحاربةُ ما جَهِلوا اللهم غفراً.(1/12)
قال ابن القيم رحمه الله في هداية الحيارى (ص18): (والأسباب المانعة من قبول الحق كثيرة جداً فمنها الجهل به، وهذا السبب هو الغالب على أكثر النفوس فإن من جهل شيئاً عاداه، وعادى أهله).اهـ
وهذا الكوثري المبتدع(1) يتجرأ في الطعن في كبار الأئمة بلمزهم بالنحو واللغة العربية، وذلك عندما لم يجد عليهم من الأخطاء في المنهج والشريعة اللهم غفراً.
__________
(1) والكوثري هذا ينتسب إلى مذهب الجهمية والأشاعرة في الاعتقاد، ومع ذلك ينتسب إلى مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله، وهذا الانتساب من أبطل الباطل، بل يعتبر من التناقض، لأن التناقض في الانتساب هو: أن ينتسب إلى الشيء، وهو مخالف له.
فهذا الكوثري ينتسب إلى الإمام أبي حنيفة رحمه الله مع إظهاره ترك اتباعه في الاعتقاد، ومذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله في الاعتقاد على مذهب أهل السنة.
والذي ينتسب إلى الأئمة الأربعة رحمهم الله، يجب أن يوافقهم في الاعتقاد، ولا يخالفهم إلى اعتقاد غيرهم من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة وغيرهم.
فهؤلاء ينتسبون إلى الأئمة رحمهم الله، وهم يخالفونهم في العقيدة، فينتسبون إلى الإمام أبي حنيفة رحمه الله، وإلى الإمام مالك رحمه الله، وإلى الإمام الشافعي رحمه الله، وإلى الإمام أحمد رحمه الله، وهم على عقيدة المعتزلة والأشاعرة، وينسبون هذا الاعتقاد الباطل إلى الأئمة اللهم غفراً.
قلت: والانتساب الصحيح: هو أن ينتسب إلى الشيء ويكون موافقاً له، فالذي ينتسب إلى الأئمة يوافق ما هم عليه من التوحيد الصحيح الخالص من توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الاسماء والصفات، والله ولي التوفيق.
وانظر شرح مسائل الجاهلية للشيخ صالح بن فوزان الفوزان (ص95 -99).(1/13)
فطعن في نسب الإمام الشافعي رحمه الله المُتفق على إمامته، وجعلَهُ من الموالي لا من قُريش...!!، بل جعله من الجهال باللغة العربية وبالحديث وبأحكام الفقهِ...!!.(1)
قال الكوثري المبتدع في تأنيبه (ص27): (وابن فارسٍ هو الإمام المشهورُ في اللُّغة، وهو الذي قال عنه المَيداني: إنَّه شَرَعَ يُصْلحُ ألفاظ الشافعيِّ، فَسُئل عن ذلك فقال: هذا إصلاحُ الفاسدَ، فَلَمّا كثُرَ عليه أنِفَ من مذهبه، وانتقل إلى مذهب مالك).اهـ
وقال الكوثري المبتدع في تأنيبه (ص28): (حكى محمد بن يحيى عن الجاحظ أنه قال: سَمِعْتُهُ - أي - الشافعي ينادي يا معشر الملاّحون، فقلت له: خَرِبَ بيتُك لَحنْتَ لِلَّهِ فقال: هذا لسان أهلِ سَيْفِ الحجاز).(2) اهـ
قلت: وهذه أكاذيب الكوثري على الإمام الشافعي رحمه الله.
وطعن الكوثري في نسب الإمام مالكٍ رحمه الله وجعله من الموالي لا من العرب، ونَسَبه إلى الجهلِ بالعربية، واللّحْنِ الفاحش الذي لا ينطقُ به شَرْكسيّ،
فضلاً عن عاميٍّ عربيٍّ، فضلاً عن الإمام مالك رحمه الله.(3)
__________
(1) انظر بيان تلبيس المفتري محمد زاهد الكوثري لأحمد الغماري (ص72).
(2) وهذه القصة من كذب الكوثري نعوذ بالله من الكذب.
قلت: فمن نهج هذا المنهج في النقد بإسقاط أهل العلم بخطئهم في اللغة العربية، فقد اقتدى بالكوثري المبتدع ألا ساء ما يقتدون.
(3) ومثل قول الكوثري المبتدع، قول أهل البدع أيضاً بأن الإمام أحمد رحمه الله ليس بفقيه، لكنه محدِّثٌ!!!.
قال ابن عقيل رحمه الله: (مِنْ عجيب ما سمعتُه عن هؤلاء الأحْداث الجُهّال أنهم يقولون: أحمد - يعني ابن حنبل - ليس بفقيه، لكنّه محدِّثٌ. قال: وهذا غاية الجهل، لأن له اختيارات بناها على الأحاديث بناءً لا يعرفُه أكثرهُم، وربّما زاد على كبارهم).
انظر سير أعلام النبلاء للذهبي (ج11 ص321).
قلت: هكذا يطعنوان في الإمام أحمد رحمه الله لإسقاطه لكن هيهات هيهات.
قال الذهبي رحمه الله في السير (ج11 ص321): (ووالله لقد بلغ - يعني الإمام أحمد - في الفقة خاصةً رتبةَ الليث، ومالك، والشافعي، وأبي يوسف...). اهـ(1/14)
قال الكوثري المبتدع في تأنيبه (ص27): (أن المبرَّد ذكر في كتاب (اللُّحْنَةَ) عن محمد بن القاسم عن الأصمعيّ قال: دخلت المدينةَ على مالك بن أنس فما هِبْتُ أحداً هيبتي له، فتكلّم فَلَحَنَ، فقال: مُطِرْنا البارَحةَ مَطَراً أي مَطَراً، فَخَفّ في عيني، فقلت: يا أبا عبد الله، قد بَلَغْتَ من العلم هذا المبلغَ فَلَو أصلحتَ من لسانك، فقال: فكيفَ لو رأيتمُ ربيعةَ؟ كُنّا نقول له: كيف أصبحت ؟ فيقول : بخيراً بخيراً قال: وإذا هو قد جعلَهُ لنفسه قدوةً في اللّحْنِ وعذْراً ).اهـ
هكذا ينقل هذه الخُرافةَ المكذوبةَ حتى على الأصمعيّ!، بلا حياء ولا خوف اللهم غفراً.
عن أبي مَسْعود عُقبةَ بنِ عَمْرو الأنصاريّ البَدْرِيّ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : ((إنّ مِمّا أَدركَ النّاسُ من كلامِ الُّنبُوّةِ الأُولَى: إذا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ)).(1/15)
أخرجه البخاري في صحيحه (ج6 ص515) وفي الأدب المفرد (ص206) وأبو داود في سننه (ج4 ص252) وابن ماجه في سننه (ج2 ص1400) وأحمد في المسند (ج4 ص121 و122) و(ج5 ص273) والبيهقي في السنن الكبرى (ج10 ص192) وفي شعب الإيمان (ج6 ص143) وفي الآداب (ص132) وابن أبي شيبة في المصنف (ج8 ص336) والدارمي في الرد على المريسي (ص173) وابن الجوزي في الحدائق (ج2 ص546) وفي مشيخته (ص86) والطحاوي في مشكل الآثار (ج1 ص479) وابن الجعد في المسند (ج1 ص464) وابن الأبار في المعجم (ص148 و149) والطيالسي في المسند (ص86) وعبدالله بن أحمد في زوائد المسند (ج5 ص273) وابن فاخر في مجلس من أماليه (ص482) وأبو بكر الأنصاري في المشيخة الكبرى (ج2 ص600) والقاسم الثقفي في الأربعين (ص220) وأبو طاهر السِّلَفِي في الأربعين البُلدانية (ص49) والغطريفي في جزئه (ص122) وتمام في الفوائد (1086) والمزي في تهذيب الكمال (2/ق/742/ط) ونجم الدين النسفي في علماء سمرقند (ص298) وابن النَّقور في مشيخته (ص79) وابن نجيد السلمي في حديثه (1003) وأبو نعيم في الحلية (ج4 ص370) و(ج8 ص124) والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (ج10 ص304 و356) و(ج6 ص114 و115) و(ج3 ص100) وابن أبي الدنيا في مكارم الأخلاق (ص18) والبغوي في شرح السنة (ج13 ص173) والنَّعّال البغدادي في مشيخته (ص93) وصدر الدين البكري في الأربعين (ص97) وأبو نصر العُكْبَري البقّال في حديثه (ص45) وابن البخاري في مشيخته (ج3 ص1844) والخرائطي في مساوئ الأخلاق (ص189) والقسطلاني في إرشاد الساري (ج7 ص495) وابن عساكر في تاريخ دمشق (ج40 ص508 و509) و(ج46 ص301) و(ج64 ص63) وفي معجم الشيوخ (ج1 ص479) والشجري في الأمالي (ج2 ص196) والسمان في مشيخته كما في التدوين في أخبار قزوين للرافعي (ج1 ص468) والقضاعي في مسند الشهاب (ج2 ص187 و188) وابن قدامة في التوابين (ص237) وابن عدي في الكامل (ج6 ص2102) وابن حبان في صحيحه (ج3 ص3)(1/16)
والإسماعيلي في المعجم (ج2 ص629 و630) وابن عبدالبر في التمهيد (ج2 ص68 و69) والطبراني في المعجم الأوسط (ج3 ص164) وفي المعجم الكبير (ج17 ص236 و237) والذهبي في معجم الشيوخ (ج2 ص99) وفي السير (ج1 ص259) و(ج16 ص102) وأبو الشيخ في الأمثال (ص122) وفي طبقات المحدثين بأصبهان (ج4 ص235) من طرق عن منصور بن مُعتمر عن رِبْعِيّ بن حِرَاش عن أبَيِ مَسْعُودٍ به.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : (إنّ مِمّا أَدركَ النّاسُ من كلامِ الُّنبُوّةِ الأُولَى) يشير النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أن هذا مأثورٌ عن الأنبياء المتقدمين، وأنَّ الناس تداولوه بينهم، وتوارثوه عنهم قرناً بعد قرنٍ.
وهذا يدلُّ على أن النبوة المتقدِّمة جاءت بهذا الكلام، وأنه اشتهر بَيْنَ الناسِ حتى وصل إلى أول هذه الأمة.(1)
إذاً الحياء مما أُثر عن الأنبياء السابقين، وتداوله الناس وتوارثوه قرناً بعد قرن.
قلت: وهذا يدل على اتفاق الأنبياء على هذا الأمر، وما اتفاقهم إلا لفضل الحياء، وذم فاقده.
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ((فاصْنَعْ ما شِئْتَ)) هو أمر بمعنى الخبر، أوهو للتهديد والوعيد أي اصنع ما شئت فإن الله يجزيك، أو إذا لم يكن لك حياء فاعمل ما شئت فإن الله يجازيك عليه.(2)
قال تعالى: { اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) } [فصلت:40].
قلت: وإذا لم يكن فيك حياء صنعت ما شئت والله المستعان.(3)
__________
(1) انظر جامع العلوم والحكم لابن رجب (ص497) وشرح الأربعين النووية لشيخنا الشيخ محمد العثيمين (ص206).
(2) انظر جامع العلوم والحكم لابن رجب (ص498) ومعالم السنن للخطابي (ج7 ص172).
(3) انظر شرح الأربعين النووية لشيخنا الشيخ محمد العثيمين (ص207).(1/17)
وقال الخَطَّابِيّ رحمه الله: (الحكمة في التعبير بلفظ الأمر دون الخبر في الحديث: أن الذي يكف الإنسان عن مواقعة الشر هو الحياء، فإذا تركه صار كالمأمور طبعاً بارتكاب كل شر). (1) (2) اهـ
قال شيخنا الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله في شرح الأربعين النووية (ص210): (والحياء نوعان: الأول: فيما يتعلق بحق الله عزوجل. والثاني: فيما يتعلق بحق المخلوق. أما الحياء فيما يتعلق بحق الله عزوجل فيجب أن تستحي من الله عزوجل أن يراك حيث نهاك، وأن يفقدك حيث أمرك، وأما الحياء من المخلوق فإن تكفّ عن كل ما يخالف المروءة والأخلاق). اهـ
وقال ابن رجب رحمه الله في جامع العلوم (ص497): (وقوله ((إذا لَمْ تَسْتَحِِي فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ)) في معناه قولان: أحدهما: أنه ليس بمعنى الأمر أن يصنع ما شاء، ولكنه على معنى الذمِّ والنهي عنه، وأهل هذه المقالة لهم طريقان:
1) أنه أمرٌ بمعنى التهديد والوعيد، والمعنى: إذا لم يكن لك حياء، فاعمل ما شئت، فإن الله يجازيك عليه كقوله تعالى: { اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) } [فصلت:40].
2) أنه أمر، ومعناه الخبر، والمعنى: أن من لم يستحي، صنع ما شاء، فإن المانعَ من فعل القبائح هو الحياء، فمن لم يكن له حياءٌ، انهمك في كلِّ فحشاء ومنكر.
والقول الثاني: في معنى قوله ((إذا لَمْ تَسْتَحِِي فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ)): أنه أمر بفعل ما يشاء على ظاهر لفظه، وأن المعنى: إذا كان الذي تريدُ فعله مما لا يُستحيى من فعله، لا من الله ولا من الناس، لكونه من أفعال الطاعات، أو من جميل الأخلاق والآداب المستحسنة، فاصنع منه حينئذ ما شئت). اهـ
__________
(1) قلت: فلما ترك الكوثري الحياء ارتكب الشرور والعياذ بالله.
(2) انظر فتح الباري (ج6 ص523).(1/18)
وقوله ((النُّبُوّة الأُولَى)) أن الحياء لم يزل أمره ثابتاً، واستعماله واجباً منذ زمان النبوة الأولى، وأنه ما من نبي إلا وقد ندب إلى الحياء، وحث عليه، وأنه لم ينسخ فيما نسخ من شرائعهم، ولم يبدّل فيما يدل منها، وذلك أنه أمر قد علم صوابه، وبانَ فضلُه، واتفقت العقول على حسنه، وما كان هذا خصته: لم يجز عليه النسخ والتبديل.(1)
قلت: فمن أراد أن يقتدي بالأنبياء عليهم السلام فاليستحي من الله تعالى من قبيح الأمور(2)... لأن الحياء مانع من الأعمال القبيحة كـ(الكذب) وغيره.
قلت: والشرائع السابقة للأنبياء جاءت بالفضيلة ونهت عن الرذيلة... فهم متفقون على الحياء.
ويظهر كذب الكوثري الكذاب على الإمام الشافعي رحمه الله، بأن الإمام الشافعي رحمه الله كان فصيح اللسان بليغاً حجة في لغة العرب، كرّس من حياته الأعوام الطوال للاشتغال بالعربية حتَّى أنه عاش فترةً طويلةً من الزمن مَعَ بطنٍ من بطون هُذَيْل، يرحل برحيلهم، وينزل حيثما حلوا لا لشيء إلاّ ليأخذ العربية من منابعها الصافية، وليسلم لسانه من كدر العجمة التي شابت الكثير من أحياء العرب بسبب دخول الأعاجم والموالي نتيجة لفتوحات المسلمين لبلاد العجم، فكان لذلك أثره الواضح على فصاحته، وتضلعه في اللغة العربية والأدب والنحو حتى غدا حجةً يرجع إليه في اللغة والنحو(3)، وإليك الدليل:
__________
(1) انظر معالم السنن للخطابي (ج7 ص171 و172) وشرح الأربعين للنووي (ص95) والتعيين في شرح الأربعين للطُّوفي (ص168).
(2) والكوثري بقدحه في العلماء وكذبه عليهم وغير ذلك فَقَدْ فَقَدَ الحياء نعوذ بالله من الخذلان.
قال النووي في شرح الأربعين (ص94): (إذا ترك المرء الحياء فلا تنتظرون منه خيراً). اهـ
(3) وانظر مناقب الشافعي للبيهقي (ج2 ص44 و45، 49) وتاريخ دمشق لابن عساكر (ج51 ص297، 298) وتوالي التأنيس لمعالي محمد بن إدريس لابن حجر (ص54) والسير للذهبي (ج10 ص6و249).(1/19)
1) عن الإمام الشافعي قال: (أَقمتُ في بُطونِ العَربِ عشرينَ سنةً آخذ أَشْعارهَا، ولغاتها).(1)
2) وعن يحيى بن هشام النحوي قال: (طاَلتْ مُجالَسَتُنَا لمحُمّدِ بنِ إدْريسٍ الشّافِعيّ فما سَمِعْتُ منهُ لَحْنَةً قطُّ، ولا كَلمةً غيرَها أحسنَ مِنْهَا).(2)
3) وعن أبي ثَوْر قالَ: (من زَعَمَ أنّه على رأيّ مِثل مُحمد بن إدريس في علمِهِ، وفصاحتِهِ، وثباتِهِ فقد كَذَبَ).(3)
4) وعن مُصْعبِ بنِ عَبداللهِ الزُّبَيْريّ قالَ: (كانَ الشّافِعيُّ في ابْتَداءِ أمرهِ يَطلب الشّعر، وأيّام النّاسِ، والأدبَ، ثُمّ أخذَ في الفقهِ بَعْد).(4)
5) وعَنِ ابْن هِشامٍ صَاحب المَغَازيّ قالَ: (الشّافعيُّ يُؤْخذ عنه اللُّغَة).(5)
6) وعَنْ أَبي العباسِ ثَغْلب - وهو أمامٌ في اللُّغةِ - قالَ: (إنّما تَوَحّدَ الشّافعيّ باللُّغةِ لأنّه مِنْ أَهْلِهَا).(6)
__________
(1) أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (ج51 ص297) والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (ج2 ص63) والمزي في تهذيب الكمال (ج24 ص410) والبيهقي في مناقب الشافعي (ج2 ص42) بإسناد حسن.
(2) أخرجه أبو نعيم في الحلية (ج9 ص128) والبيهقي في مناقب الشافعي (ج2 ص43) وابن عساكر في تاريخ دمشق (ج51 ص297) وابن حجر في توالي التأنيس تعليقاً (ص96) والذهبي في السير تعليقا (ج10 ص49) بإسناد صحيح.
(3) أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (ج2 ص67).
(4) أخرجه البيهقي في مناقب الشافعي (ج1 ص96 و97) وابن عساكر في تاريخ دمشق (ج51 ص298) والمزي في تهذيب الكمال (ج24 ص373) والذهبي في السير تعليقا (ج10 ص75) بإسناد صحيح.
(5) أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (ج51 ص297) والبيهقي في مناقب الشافعي (ج2 ص43) وابن حجر في توالي التأنيس تعليقاً (ص96) بإسناد صحيح.
(6) أخرجه البيهقي في مناقب الشافعي (ج2 ص51) بإسناد صحيح.(1/20)
7) وعَنْ أَيّوب بن سُوَيْدٍ قالَ: (خُذوا عَنِ الشّافِعيِّ اللُّغَة).(1)
8) وعَنِ الرَّبيع بن سُليمان قالَ: (لو رأيتَ الشَّافِعيّ، وحُسنَ بيانِهِ، وفصاحتِهِ لتعجبت مِنْهُ).(2)
9) وعن أَبي عُبَيْد القاسم بن سَلام يقول: (ما رأيتُ قطُّ رَجلاً أَعْقل، ولا أَوْرع، وَلا أَفْصح مِنَ الشّافِعيّ).(3)
10) وعَنِ الرّبيع بن سُليمان قالَ: (كانَ الشافعي عَرَبيّ النّفس، عَرَبيّ اللِّسان).(4)
11) وعَنْ أحمدَ بنِ حَنْبل قالَ: قالَ الشّافِعيُّ: (أَنَا قرأتُ عَلَى مالكٍ، وكانَ يُعْجبه قراءتِي، قالَ أحمدُ: لأنّه كَانَ فَصيِحاً).(5)
وأما جمعه للشعر، وفصاحته فيه، فقد قال (الأَصْمعِيّ - وهو إمام اللُّغةِ والأدبِ - (صَحَّحّت أشعارَ الهُذَلِيّين عَلَى شابٍ من قُريش بمكةَ يقالُ له: مُحّمد بن إدريس).(6)
وعن الحسن بن محمد الزعفراني قال: (ما رأيت أحداً قط أفصح، ولا أعلم من الشافعي، كان أعلم الناس، وأفصح الناس، وكان يقرأ عليه من كل الشعر فيعرفه).(7)
__________
(1) أخرجه البيهقي في مناقب الشافعي (ج2 ص45) بإسناد حسن.
(2) أخرجه البيهقي في مناقب الشافعي (ج2 ص49) بإسناد صحيح.
(3) أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (ج51 ص301، 302) والمزي في تهذيب الكمال (ج24 ص372) والبيهقي في مناقب الشافعي (ج2 ص44) بإسناد صحيح.
(4) أخرجه ابن أبي حاتم في آداب الشافعي (ص137) والبيهقي في مناقب الشافعي (ج2 ص49) وابن حجر في توالي التأنيس تعليقا (ص96) بإسناد صحيح.
(5) أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (ج51 ص296) والبيهقي في مناقب الشافعي (ج2 ص41) وابن أبي حاتم في آداب الشافعي (ص28) بإسناد صحيح.
(6) أخرجه البيهقي في مناقب الشافعي (ج2 ص44).
قلت: وهذا يدل على كذب قصة الكوثري التي وضعها على الأصمعي والله المستعان.
(7) أخرجه البيهقي في مناقب الشافعي (ج2 ص49) بإسناد صحيح.(1/21)
وعَن مُصعبِ بنِ عَبدالله الزُّبَيْريّ قالَ: (كانَ الشّافِعيّ في ابتداءِ أمرهِ يَطلب الشِّعر، وأيامَ النّاسِ، والأدبَ، ثمَّ أخذَ في الفقهِ بَعْد).(1)
وعَنِ الرّبيع بن سُليمان قالَ: (كانَ الشافعي عَرَبيّ النّفس، عَرَبيّ اللِّسان).(2)
وأما الإمام مالك بن أنس رحمه الله فقد كان عربياً فصيحاً لغوياً، بل كان مفسراً، وهذا مما يدل على أنه حجة في اللغة العربية، وله كتاب في (التفسير لغريب القرآن) الذي يرويه خالد بن عبدالرحمن المخزومي.
ولقد استعان الإمام مالك بن أنس في تفسيره، كما يبدو ذلك من خلال النص المجموع في ذلك، بالقرآن نفسه، واعتمده أصلاً في بيان معاني ألفاظ الكلمة، وتوضيحها، والاستدلال على تلك المعاني بما ورد من معناها في آيات أخرى، وهذا يدل على صحة منهجه العلمي في اللغة العربية.(3)
قال القاضي عياض رحمه الله في ترتيب المدارك (ج1 ص81): (وله - يعني مالكاً - في تفسير القرآن كلامٌ كثير، وقد جُمع، وتفسير يرويه عنه بعض أصحابه وقد جمع أبو محمد مكي مصنفاً فيما روي عنه في التفسير، والكلام في معاني القرآن، وأحكامه مع تجويده له، وإحسانه وضبط حروفه، وقد ذكره أبو عمرو المقرئ في كتابه طبقات القراء المتصدرين، وذكر روايتَه عن نافع). اهـ
__________
(1) أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (ج51 ص298) والبيهقي في مناقب الشافعي (ج1 ص96 و97) والذهبي في السير تعليقاً (ج10 ص75) بإسناد صحيح.
(2) أخرجه ابن أبي حاتم في آداب الشافعي (ص137) والبيهقي في مناقب الشافعي (ج2 ص49) وابن حجر في توالي التأنيس تعليقاً (ص96) بإسناد صحيح.
(3) وانظر طبقات القراء للجزري (ج2 ص35) والديباج المذهب لابن فرحون (ج1 ص77) وروح المعاني للآلوسي (ج19 ص58) والدر المنثور للسيوطي (ج5 ص42) و(ج8 ص146).(1/22)
قال القاضي عياض رحمه الله في ترتيب المدارك (ج2 ص90): (اعلموا وفقكم الله أن لمالك رحمه الله أوضاعاً شريفة مروية عنه، أكثر بأسانيد صحيحه في غير فن من العلم... ومن ذلك كتابه في التفسير لغريب القرآن الذي يرويه عنه خالد بن عبدالرحمن المخزومي).(1) اهـ
قلت: وهذا يدل أيضاً على كذب الكوثري المبتدع على الإمام مالك رحمه الله.
قلت: ولم يكن أهل العلم يحاسبون أحداً على مثل هذه الأخطاء إلا نصحاً له.
والأخطاء اللغوية لا تضر أصحابها، ولا تحط من مكانتهم كما سبق الكلام في ذلك.
فهذا الحافظ ابن عدي صاحب كتاب الكامل في الضعفاء إمام في الحديث قد استدرك عليه أهل العلم اللحن في اللغة العربية.
وهذا الخطأ لا يضره ولا يحط من مكانته عند أهل العلم لصحة منهجه وعقيدته.
قال الذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء (ج16ص154) عن ابن عدي: (هو الإمام الحافظ الناقد الجوّال... وطال عمره وعلا إسناده، وجرّح وعَدَّل وصحّح وعَلّل، وتقدم في هذه الصناعة على لحن فيه يظهر في تأليفه، وهو مصنف في الرجال بحسب اجتهاده). اهـ
وقال ابن عساكر رحمه الله في تاريخ دمشق (ج9ص773) عن ابن عدي: (كان ثقة على لحن فيه). اهـ
قلت: فكان يلحن في العربية، وأما في العلل والرجال والحديث فحافظ متقن لا يجارى.(2)
قال السمعاني رحمه الله في الأنساب (ج3ص238) عن ابن عدي: (كان حافظ عصره). اهـ
وقال الخليلي رحمه الله في الإرشاد (ج2ص794) عن ابن عدي :
(عديم النظير حفظاً وجلالة). اهـ
وقال ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية (ج11ص283) عن ابن عدي: (الحافظ الكبير المُفيد الإمام العالم الجوّال النقاّل الرّحال). اهـ
وقال الذهبي رحمه الله في تذكرة الحفاظ (ج3ص940) عن ابن عدي: (الإمام الحافظ الكبير... كان أحد الأعلام... وهو مصنف في الكلام على الرجال عارفاً بالعلل). اهـ
__________
(1) أخرجه القاضي عياض في ترتيب المدارك (ج2 ص92).
(2) انظر طبقات الشافعية للسبكي (ج3ص316).(1/23)
والسلف وقع منهم شيء في اللغة العربية ولم يضرهم ذلك، وإليك الدليل:
1) عَنْ عُثْمَانَ بنِ عَطَاءٍ قالَ: (كانَ مَكْحُولاً(1) رَجُلاً أَعْجمِيّاً لا يَسْتَطيع أنْ يقولَ: ("قُلْ" يَقُولُ "كُل" قالَ: ومَكْحُول فكلّ مَا قالَ بالشَّامِ قُبل منه).
أثر حسن
أخرجه الخطيب في الكفاية في علم الرواية (ج1ص549) من طريق حنبل بن إسحاق ثنا هارون بن معروف ثنا ضمرة عن عثمان بن عطاء به.
قلت: وهذا سنده حسن، ولا يضر هنا ضعف عثمان بن عطاء لأنه هو الراوي مباشرة عن مكحول فتنبه.
قال الخطيب البغدادي رحمه الله في الكفاية (ج1 ص550): (أراد عثمان أن مكحولاً كان عندهم - مع عجمة لسانه - محل الأمانة وموضع الإمامة، ويقبلون قوله ويعملون بخبره، ولم يريد أنهم كانوا يحكمون لفظه).اهـ
2) وَعَنْ أَبِي عَبْدِ الرّحمن النَّسَائِي قالَ : ( لا يُعَابُ اللَّحن عَلَى المُحَدِّثِينَ، وقَدْ كانَ إسْماعيلُ بنُ أبي خَالد يُلْحِن وسُفْيان ومَالِك بنُ أَنَسٍ وغيرُهُم مِنَ المُحَدِّثِينَ).
أثر صحيح
أخرجه الخطيب في الكفاية (ج2ص555) من طريق أحمد بن محمد بن القاسم بن مرزوق المُعدَّل أنا الحسن بن رشيق ثنا أبو عبدالرحمن أحمد بن شعيب النَّسَائِيّ به.
قلت: وهذا سنده صحيح.
3) وَعَنْ إسْماعيلَ بنِ أُمية قالَ: (كُنّا نُريد نَافِعاً(2) عَلَى أنْ لا يُلْحِن، فَيَأْبَى إلا الّذي سَمِعَ).
أثر صحيح
أخرجه ابنُ أَبِي شَيْبَةَ في المصنّف (ج5ص317) والخطيب في الكفاية (ج2ص555) وفي الجامع (ج2ص5) وابن عبد البر في جامع بيان العلم (ج1ص351) من طرق عن سفيان بن عُيَيْنَة عن إسماعيل به.
قلت: وهذا سنده صحيح.
__________
(1) مكحول: هو أبو عبدالله الشامي، ثقة فقيه مشهور من الطبقة الخامسة.
انظر التقريب لابن حجر (ص569).
(2) نافع: هو أبو عبدالله المدني، مولى ابن عمر ثقة ثبت فقيه مشهور من الطبقة الثالثة.
انظر التقريب لابن حجر (ص996).(1/24)
وأخرجه الرَّامَهُرْمُزِيّ في المحدث الفاصل (ص526) من طريق ابن جُرَيْج قال: (كنّا نُريد أن نَرد نَافِعاً عَنِ اللَّحْنِ فَلا يَرْجع).
4) وَعَنْ عُمَارَةَ بنِ عُمَيْرٍ قالَ: (كانَ أَبُو مَعْمَر(1) يحدّث الحَدِيَث فيهِ اللَّحْنُ، فَيُلْحِن اقْتداء بما سَمِعَ).
أثر صحيح
أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (ج6ص103) والدَّارِميّ في المُسْند (ج1ص94) وابنُ أَبيِ شَيْبَةَ في المصنّف (ج5ص317) والرَّامَهُرْمُزِيّ في المُحدِّث الفاصل (ص40) وابن عبد البر في الجامع (ج1ص81) والخطيب البغدادي في الكفاية (ج2ص554) وفي الجامع (ج2ص5) وعياض في الإلماع (ص185) من طرق عن الأَعْمَش عن عُمَارة به.
قلت: وهذا سنده صحيح.
5) وقالَ عَبْدُالمَلك بنُ عبدِالحَمِيد بن مَيْمُون بن مِهْران سألتُ: (أحمد بن حَنْبل عن اللَّحْنِ فيِ الحَدِيثِ، قال: (لا بَأْسَ بِهِ).
أخرجه الرَّامَهُرْمُزِيّ في المُحدِّث الفاصل (ص526) والخطيب في الكفاية (ص556) واللفظ له.
وإسناد صحيح.
قلت: وكم من عالم في السابق، وفي زماننا له أخطاؤه في اللغة العربية في أشرطته أو كتبه... وكل هذه الأخطاء لم تضره، لأن ما وقع فيه أهل العلم من الطبائع البشرية الذي هو وصف لازم للبشر جميعاً، وأبى الله أن يكون الكمال المطلق إلا له سبحانه وتعالى.
وهذا الذي ذكره شيخنا الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله في شرحه لحلية طالب العلم في شريط مسجل تحت باب (احْذَر اللَّحْن) وذكر: وكم من فقيه له أخطاؤه في اللغة العربية ولا تُحط من مَكانتهم.
__________
(1) أبو معمر: هو عبدالله بن سَخْبَرَةَ الأزدي ثقة من الطبقة الثانية.
انظر اتلقريب لابن حجر (ص510).(1/25)
قال الحافظ الذهبي رحمه الله في تذكرة الحفاظ (ج3 ص1031): (فكم من إمام في فنٍّ مقصرٌ عن غيره، كسيبويه مثلاً إمامٌ في النَّحْو ولا يدري ما الحديث، ووكيعٌ إمامٌ في الحديث ولا يعرفُ العربية، وكأبي نوّاسٍ رأسٌ في الشّعر عَرِيٌّ من غيره، وعبدُالرحمن بن مهدي إمام في الحديث لا يدري ما الطبّ قطُّ، وكمحمد بن الحسن رأسٌ في الفقه ولا يدري ما القراءات، وكحفص إمامٌ في القراءة تالفٌ في الحديث).اهـ
ويتبين من ذلك بأن من لمز أهل الأثر بالنحو واللغة العربية، وأصر على ذلك، ولم يتب يعتبر من أصحاب الأهواء الذين إذا ظفروا بشيء من الأخطاء في اللغة العربية(1) التي لا تضر صاحبها لصحة منهجه جعلوها من الموبقات المهلكات انتقاماً لأنفسهم و لشيوخهم الذين خرجوا عن منهج أهل السنة والأثر اللهم غفراً.
إذاً فغلط بعض أهل العلم من هذا النوع موجود، ولم يفكر أحد من النُّقاد في إسقاط من ينتقده ويخطؤه، ولم يقل أحد بذلك، لأن هذه الأمور لا تعد ذنوباً، ولا بدعاً يفسق، أو يكفر بها، أو يجرح بها في عدالته.!!
هذا هو منهج العلماء من أهل السنة والجماعة من فجر تاريخهم إلى يومنا هذا، ولكن أهل الأهواء والفتن ظهروا للناس بمناهج جديدة في النقد لأسقاط أهل العلم(2)... وما أكذب انتحال هذا الصنف لمنهج السلف، فأعمالهم، ومواقفهم تدينهُم بأنهم أشد خصوم هذا المنهج، ولكن الله أحبط مكائدهم وهتك أستارهم وخيب آمالهم فقد باءت ولله الحمد بالفشل.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فهرس الموضوعات
الرقم ... الموضوع ... الصفحه
__________
(1) وممكن أن تكون هذه الأخطاء مطبعية مما لا يسلم منه مُؤَلَّف، فيستغل أصحاب الأهواء ذلك الطعن في المُؤَلِّف !.
(2) قالوا: فلان لا يعرف النحو واللغة العربية، أو يغلط في النحو واللغة العربية!!!.
قلت: فهذا المنهج في النقد من منهج أهل البدع اللهم غفراً.(1/26)
1 ... درة نادرة: للحافظ الذهبي رحمه الله في أن العالم لو قصر في علم من العلوم فهو من أهل السنة ولا يُقدح فيه.......... ... 3
2 ... المقدمة................................................ ... 4
3 ... ذكر تلبيس إبليس على أهل اللغة والأدب................ ... 5
4 ... كراهة النبي - صلى الله عليه وسلم - المبالغة في الكلام........................ ... 6-8
5 ... كراهة العلماء المبالغة في الكلام.......................... ... 8
6 ... ذم البليغ من الرجال في كلامه.......................... ... 9
7 ... ذم العلماء البليغ من الرجال في كلامه................... ... 11
8 ... ذم الخطباء المتعالمين..................................... ... 14
9 ... ذكر أن من علامات أصحاب الأهواء لمزهم أهل الأثر بالخطأ في النحو واللغة العربية........................... ... 16
10 ... الخطأ في اللغة العربية لا يضر العالم وطالب العلم.......... ... 17
11 ... بيان طعن الكوثري المبتدع في كبار الأئمة بلمزهم بالنحو واللغة العربية.......................................... ... 18
12 ... بيان بأن الانتساب الصحيح إلى الأئمة أن يوافقهم في الأصول والفروع...................................... ... 18
13 ... بيان طعن الكوثري المبتدع في الإمام الشافعي رحمه الله.... ... 19
14 ... بيان كذب الكوثري المبتدع على العلماء................. ... 20
الرقم ... الموضوع ... الصفحه
15 ... ذم الذي لا يستحي.................................... ... 20
16 ... الحياء نوعان: الأول: فيما يتعلق بحق الله تعالى، والثاني: فيما يتعلق بحق المخلوق................................. ... 23
17 ... ذكر الدليل على حجة الإمام الشافعي رحمه الله في اللغة العربية................................................ ... 25-26
18 ... ذكر الدليل على حجة الإمام مالك رحمه الله في اللغة العربية................................................. ... 28(1/27)
19 ... ذكر أن الأخطاء اللغوية لا تضر أصحابها، ولا تحط من مكانتهم............................................... ... 29
20 ... ذكر منزلة الإمام ابن عدي رحمه الله في الدين مع لحنه في اللغة العربية............................................ ... 29
21 ... ذكر الدليل على لحن السلف في اللغة العربية، ولم يضرهم ذلك.................................................. ... 31-33
22 ... بيان بدعية نقد الرجال بأخطائهم في اللغة العربية......... ... 34(1/28)