مقدمة:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ به تعالي من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا إنه من يهدِ الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدة لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) أما بعد ، فإن خير الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هديُ محمد صلي لله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار ، وبعد :
تقديم:-
هذا الاسم اسْتَنْفدَ منى وقتاً طويلاً على مدى عدة أشهرٍ في الدراسة والكتابة ، لأني لم أجد له مراجع عندي إلا بالقدر اليسير الذي لم يخرج عن التعريفات إلا قليلاً ، ذلك مع قناعتي بأن هذا الاسم على الخصوص له شأن وأي شأن، فرجوت الفتاح العليم ( وأنا في محنتي بعيداً عن مكتبتي إلا قليلاً مما تَيسَّر من الكتب ) أن يفتح علىّ بفتح من لدنه ، لكي أتعرف على معاني هذا الاسم العظيم في إطار المنهج السلفي القويم المعتمد على الحقائق والأدلة ، لا على التهيؤات والشطحات ، فمنّ الله تعالى علي ّبهذا الفتح ، فما كان من صواب فمن الله و ما كان من خطأ فمن نفسي ومن الشيطان . وسأبدأ البيان بضرب مثالين ولله المثل الأعلى في السماوات والأرض:-
المثال الأول :-(1/1)
لو فرضنا البشر كلهم على أجملهم صورة ، على صورة جمال يوسف ( ، ثم جُمعَ جمالهم كُلُّه في شخص واحد ، هل يُتَصَوَّر جماله ؟! الحق أنه لا يمكن تَصَوُّرُه لبلُوغه درجات عالية في كمال الجمال المخلوق فكيف لو أنضاف إليه الجمال في جميع المخلوقات من الطير والوحش والفلَكَ والحدائق والغابات واللؤلؤ وغيره ، لا شك أنه سيكون أبعد عن التصور ، ومن ثَمَّ يستحيل وجود عيوب أو قبح أو نقص في هذه الحالة ، ثم لو نسبنا ذلك الجمال المفروض إلى جمال الخالق ، لكان أقل من شمعه ضعيفة إلى قرص الشمس ، فهل يخطر ببال أحد إمكانُ تصور جمال الرب سبحانه الذي له منتهى الكمال في الجمال ؟! فإذا كان ذلك مستحيلاً فهل يُتَصَوَّر بعد ذلك وجود عيوب أو نقص في جمال الرب سبحانه ؟! إن ذلك أبطل الباطل .
المثال الثاني :-
لو فرضنا مصباحاً كهربياً ذا قدرة عالية في الإضاءة فإنه يمكن تَصوَّر النَّظَرُ إليه وتصورُ قدرته الضَّوئية ، فلو فرضنا أن مصابيح العالم كلِّه تَركَّزَت في مِصْباح واحد ، فهل يمكن تصور النظر إليه عن قرب ، وتَصُّور قدرتهِ الضوئية ؟! أنا لا أستطيع تصور ذلك . فكيف لو انضاف إلى ذلك كل وقود الأرض وجميع الطاقات الكهربية الموجودة وفرضناها إضاءة مركزة ، فهل يمكن التصور ؟! إن ذلك مستحيل . فكيف بنور الشمس كُلَّه لو رُكِّز في المصباح المفترض ؟! فكيف لو انضاف إليها أنوار جميع النجوم في جميع المجرات في زينة السماء الدنيا ؟! وكل هذه أنوار مخلوقه ، فكيف بأنوار الخالق ؟ هل يمكن تصور عَظَمَتِها وكمالِها ؟ وإذا كان ذلك التصور مستحيلاً تماماً ؛ فهل بعد ذلك يُتصور وجود نقص أو عيب ؟! حاشا لله . واعتبر ذلك وقِسْ عليه في جميع صفات الله عز وجل ، وستأتي أمثله أخرى تحت عنوان :-
( القداسة في الصفات )(1/2)
إن هذه القمم والنهايات في كمالات الرب الأعلى عز وجل من عُلُوَها وجلالها ونقاءها وصفاتها لا يستطيع أن يتصورها مخلوق ، فكيف يُتَصَوَّر وجود مثيل أو نقص أو عيوب ؟! إن الاسم الذي يُبَيِّن ويُظْهِر بلوغَ كُلِّ صِفة لله أكملَ الكمال وأعلاه وقِمَّته بما لا يتصوره أو يتخيله مخلوق ، هو ( القدوس ) . ولقد عَرَّفَه الغَزَالِيُّ قائلاً :
( هو المُنَزَّه عن كل وصف يدركه حس ، أو يتصوره خيال أو يسبق إليه وهم ، أو يختلج به ضمير ، أو يقضى به تفكير ).
وكذلك الألوسي في التفسير ( روح المعاني ) 28 / 62 قَالَ في أحد اختياراته عن تعريف القدوس ( أو الذي لا يُحدُّ ولا يُتَصَوَّر ) . وذلك لأن عُلُوَّهُ وقداسَتَه في كل صِفة كمالٍ لا يُحصيه ولا يحيط به إلا هو سبحانه . وسيأتي بيان ذلك تفصيلاً ، وبيان أن لفظة ( القدوس ) تدل على كمالِ الطَّهارة وكَمَالِ البَرَكة ، وأَنّ لفظه الطَّهارة تدل على النَّقَاء ، والصَّفَاء وزَوَال الدَّنس ، كما سيأتي النقولات بأقوال العلماء في تعريف القدوس ولكن لا تحسب أن قراءة التعريفات الموجزة للأسماء الحسنى تكفي في حصول الثمرة المطلوبة من معرفة الله والتأله له بتلك المعرفة حباً وخضوعاً وشوقاً وإخباتاً وغيره ، بل يلزم القراءة المتأنية بحضور القلب / تفكراً وتدبراً حتى تترسخ المعاني فتُؤْتِى أُكلها علماً وعملاً ، ولا تستطيل الكلام عن المفردات اللغوية وشواهدها ، فهي أساسية في استيعاب المعاني والشعور بها .
التعريف الوجيز ( وهو لا يخرج عن كلام السلف في شيء ، غير أني رتبت كلماته لتكون اختصاراً لما سأتناوله وأكمل في البحث كله ) .
القدوس :-
الذي له المنتهى أكمل الكمال في الطَّهارة وصفاً وملكاً ، وله المنتهى وأكمل الكمال في البركة وصفاً وملكاً ، فالخير كله بيديه والشر ليس إليه .(1/3)
بيان معنى التعريف فأما كمال الطَّهارة وصفاً فهو كمال النقاء والصفاء والجمال والعظمة والنزاهة المتناهية من الأدناس ، فذلك وصف لازم لكل كمالات الله في ذاته وأسمائه وصفاته ( من عظمة وعزة ورحمة وكرم ومجد وحمد وعيره ) وأفعاله ، فالنزاهة كاملة عن العيب والنقص والشر والمثيل والشريك ، وأما كمال الطَّهارة ملكاً فهو الذي يُطهِّر من أراد أن يُطِّهر من خلقه ، ومن لم يردْ أن يُطَهره فقد هلك في الأرجاس والأنجاس والأدناس ، إذ لا يملك الطَّهارة إلا الله ، وأما كمال البركة وصفاً فهو أن كل كمال لله فهو خير مطلق ( حتى في صفات البطش والقهر والانتقام فهي عدل والعدل خير ) وهذا الخير المطلق ، المتنوع بتنوع الكمالات ، هو من لوازم الذات ، فهو خير دائم باقٍ ببقاء الله الحي الذي لا يموت ، وذلك هو التبارك الذي يختص به الله سبحانه ( خير مطلق بدوام مطلق ) فلا يتطرق إلى الله زوال أو تغير أو تحول أو تبدل ، وأما كمال البركة ملكاً فهو الذي يملكها ولا يملك أحدٌ من خلقه مثقَالَ ذرة منها ؛ بل هو الذي يبارك على من شاء أن يجعلَه مباركاً من خلقِه من الملائكة والنبيين والصالحين والأزمنة والأمكنة وغيرها.
ومن عَرَّف القدوس بأنه الطّاهرُ من كل عيب ، المنزهُ عن كل نقص فهو تعريف صحيح لكنه تعريف للاسم ببعض معناه أو ببعض ما يتضمنه ، فهو متقارب جداً مع تعريف السبّوح والسلام ، بل لا يكاد يوجد فرق ظاهر سوى في العبارة ، وذلك يخالف معنى القاعدة المعروفة بأن الأسماء وإن كانت متقاربة متناسبة بل متلازمة فلابد من فروق بينها مهما كانت لطيفة دقيقة ، فالقدوس فيه تصريح بالعظمة لله وذلك يتضمن التنزيه ، بخلاف السبّوح الذي فيه تصريح بالتنزيه وذلك يتضمن التعظيم وسنوضح ذلك في شرح السبّوح بإذن الله.
مثال لغوى واضح مُبَيِّنٌ لمعنى التعريف السابق للقدوس ( ولله المثل الأعلى ) : -(1/4)
العرب يطلقون كلمة ( قديس ) على الدُّر ( كبار اللؤلؤ ) لاكتمال نقائه وصفائه وبريقه وجماله ، وثباته على وصْفِهِ وخصائصه مهما توالت عليه الدهور ، وبالتالي فهو أبعد عن التبدُّل والتحوُّلِ والنقص والعيب ، بخلاف المصنوعات المقلَّدِة له من البلاستيك والزجاج ، التي يأتيها الغبش والسرطان الزجاجي وما شابه ، فَدلَّت كلمة ( قِديس ) على هذه المعاني بدقه من جهتي مادتها وبنائها كما يلي :-
(1) القداسة :- الطَّهارة الجيِّدة الدائمة والبركة ( والطَّهارة تدل على نقاء وزوال دنس ) وسيأتي ببانُ ذلك تفصيلاً .
(2) قديس :- على بناء "فعيل" وهو بناء السجايا والطبائع من : قدُسَ فهو قَدِيٌس ، كعَظُمَ فهو عظيم ، وكَرُمَ فهو كريم ، وبالتالي :تدل لفظة قديس على طبيعة الدر وأن هذا الوصفَ لازمٌ له ، فلا يحتاج إلى مُطَهِّرات أو إضافات ولا يُخْشَى عليه من التغير ، وما كان بهذا الوصف فهو شيء مبارك ( خير دائم ) والناس يعرفون قيمته فلا يقصرون في حِفْظِه وصيانته فهو "قديس" . ومعلوم أن كُلَّ وصف كمال وجمال وعظمة للمخلوق ، فالخالق أحَقُّ به وأَوْلَى على ما يليق بالقدوس المُقَدّس المُتَقدّس وقريب من معنى القَدِيس : القُدَاس وهو شئ يعمل كالجُمَاية ( اللؤلؤ ) من فِضَّة ، وهو تقليد لا يَرْقَى لمرتبه الأصل ، وإن كان يقاربه في الخصائص وثباتها . وعُلُوّ قدر الفضة في المعادن معلوم . وينبغي استصحاب ذلك المعنى عند الكلام على قداسة الذات وقداسة الأسماء والصفات والأقوال والأفعال .
من استعمالات العرب لمادة ( قدس ) :- معنى الطَّهارة ( انظر لسان العرب ، مادة قدس ) .
(1) القادس:- السفينة ( لاستمرار تواجدها في الماء واحتكاكها به ، والماء طهور مُبارك ).
(2) القَادِسُ والقَدَّاس :- حصاةٌ توضع في الماء قدْراً لِريِّ الإبل ( فالحصاة دائمة التواجد في الماء والاحتكاك به ) .(1/5)
(3) القُدَاس :- الحجر الذي يُنْصب على مصب الماء في الحَوْض ( فالحجر دائم التَّنظُّف والتَّطَهُّر بالماء ) .
(4) القَدَسْ :- السَّطْلُ أو الإناء الذي يُتَطَهَّر منه ، وفيه معنى زائد على ما سبق وهو استعماله في التطهر .
(5) القادوس :- الإناء المستعمل في الساقية في الريف ( حيث يملأ بالماء ويفرغ منه في كل دورة للساقية ). ( وهذه كلمة متداولة في أصحاب الحقول في الريف ، ولم أجدها في لسان العرب ).
(6) قُدْسُ أوَارَه وقُدْسُ الأبْيض والأَسْود:- جبال عظيمة ( تكثر فيها السيول وحركة الماء )
ولما كان الدر طاهراً في نفسه وطبيعته لا يحتاج إلى ما يطهره ، بل طهارته عالية وثابتة ، فلذا سُمِّىَ ( قديس ) .
* من أقوال السلف في تعريف القدوس ( لاحظ أنها تثبت التعظيم أولاً ثم ذلك يتضمن التنزيه ثانياً ) .
1- قَالَ ابن القيم في النونية :- هذا ومن أوصافه القدوس ... ذو التنزيه بالتعظيم للرحمن فهو تنزيه مُتَضَمَّنٌ في التعظيم . ولابن القيم كلام آخر في شفاء العليل : قَالَ : القدوس: المنزه من كل شر ونقص وعيب ، كما قَالَ أهل التفسير : هو الطاهر من كل عيبَّ المنزه عما لا يليق به . وهذا قول أهل اللغة. وأصل الكلمة من الطَّهارة والنزاهة ، ومنه بيت المقدس لأنه مكان يتطهر فيه من الذنوب ، ومن أَمَّه لا يريد إلا الصلاة فيه رجع من خطيئته كيوم ولدته أمه ، ومنه سُمِّيت الجنة حظيرة القدس لطهارتها من آفات الدنيا ، ومنه سُمِّى جبريل : روح القدس لأنه طاهر من كل عيب ، ومنه قول الملائكة ( وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ) البقرة 30 ( شفاء العليل 179 )
2- قَالَ ابن كثير :- هو المُنَزَّه عن النقائص الموصوف بصفات الكمال" التفسير 4 / 363 وبنحوه قَالَ الشوكاني "فتح القدير 5 / 207" يعنى : المنزه عن النقائص لأنه الموصوف بصفات الكمال المُنَافِي للنقص .(1/6)
قَالَ الألوسي :- هو البليغ في النزاهة عما يوجب نقصانا ، أو الذي له الكمال في كل وصف اختص به ، أو الذي لا يُحَدَّ لا يُتَصّور "روح المعاني 28 / 62" ( أي فالذي له الكمال في كل وصف اختص به تكون نزاهتُه بليغة عما يوجب نقصاناً" وتقدم بيان قوله ( لا يُحَدُّ ولا يتصور ) في المقدمة .
قَالَ السعدي :- القدوس السلام :- أي الذي له كل قدس وطهارة وتعظيم وتَقَدُّسٍ عن صفات النقص . فالقدوس يرجع إلى صفات العظمة ، وإلى السلامة من العيوب والنقائص ، كما أن السلام يدل على المعنى الثاني فهو السالم من كل عيب وآفة ونقص ( ثم بين رَحِمَة اللهُ في النوع الأول من نوعى التنزيه أن القدوس الذي له المنتهى في كل صفة كمال ) ( فبين أن له صفات التعظيم التي تتضمن التنزيه).المرجع .
قَالَ الحليمي:- المَمْدُوح بالفضائل والمحاسن ، والتقديس مُضَمّن في صريح التسبيح ، والتسبيح مُضَمّنٌ في صريح التقديس ، لأن نفي المذامِّ إثبات للمدائح ( وضرب لذلك أمثله ) ثم قَالَ : إلا أن قولنا هو كذا ظاهره التقديس ، وقولنا ليس بكذا ظاهره التسبيح ، لأن التسبيح موجود / في ضمن التقديس ، والتقديس موجود في ضمن التسبيح ، وقد جمع الله تبارك وتعالى بينهما في سورة الإخلاص ، فقَالَ عز اسمه (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ ) فهذا تقديس ، ثم قَالَ (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) فهذا تسبيح ، والأمران راجعان إلى إفراده وتوحيده ونفي الشريك والتشبيه عنه ."المنهاج في شعب الإيمان 1/ 197" .
قَالَ أبو إسحاق :- السبّوح الذي ينزه من كل سوء والقدوس المبارك ، وقيل الطّاهر أنظر لسان العرب مادة سبح .(1/7)
قَالَ البيهقي :- هو الطاهر من العيوب المنزه عن الأولاد والأنداد وهذه صفة يستحقها بذاته "الاعتقاد البيهقي ، وانظر كذلك النهاية لابن الأثير 4 / 23 ، وشرح أسماء الله الحسنى للرازي ص86 ، وكذلك في لسان العرب بنحوه ، وكذلك قَالَ القرطبي في التفسير بنحوه في سورة الحشر" ( وقد بينت الملاحظة فيما تقدم على هذا المعنى) .
قَالَ مجاهد :- في قوله ( وَنُقَدِّسُ لَكَ ) نعظمك ونكبِّرُك ، ذكره ابن جرير في تفسير الآية .
قَالَ قتادة :- القدوس : أي المبارك ، ابن جرير في تفسيره 28 / 36 .
ولما نسب أهل الكفِر والشركِ الولدَ والمثيلَ لله ونَفْوا الرسالات والبعث والحساب ، أبطل الله باطلهم ونزه نفسه عنه بذكر كمالاته وصفاته المقدسة التي تتنافي مع ما ادعوه ، وتبطله من جميع الوجوه ، وخذ لذلك أمثله من كتاب الله يستبين بها المعنى المراد :-
(1) نسبة الولد إلى الله تعالى وتقدس:- قَالَ تعالى (وَقَالَواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ * بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) 116 / 117 البقرة، وقَالَ :- (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) 101 / الأنعام ، وكذلك آيه يونس : ( إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) 68 / يونس ، وقوله (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) الإخلاص ، فرد عليهم سبحانه دعواهم له إتخاذ الولد ونزه نفسه عنه ثم ذكر الحجج على استحالة اتخاذه الولد ؛ وهذه الحجج هي من كمالات الله كما يلي :-(1/8)
الحجة الأولى :- كمال مُلْكِه وعمُومه لكل شئ ، وهذا ينافي أن يكون في السماوات والأرض ولد ، لأن الولد بعضُ الوالد وشريكُه فلا يكون مخلوقا له ، لأن المخلوق مملوك مربوب عبد من العبيد ، والابن نظير الأب ، فكيف يكون عبدُه تعالى ومخلوقُه ومملوكُه بعضَه ونظيره ؟! فهذا من أبطل الباطل. ثم أكد مضمون هذه الحجة بقوله : ( كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ) فهذا تقرير لعبوديتهم له ، وأنهم مملوكون مربوبون ليس فيهم شريك ولا نظير ولا ولد. وكُلُّ من أقر بأن لله ما في السماوات وما في الأرض لَزِمَهُ أن يُقرّ له بالتوحيد ولابد .
الحجة الثانية :- كمال القدرة والإبداع والاختراع في قوله تعالى : (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) وهذه من أبلغ الحجج على استحالة نسبه الولد إليه ولهذا قَالَ في سورة الأنعام (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ) أي : من أين لبديع السماوات والأرض ولد ؟ لأن من اخترع هذه السماوات والأرض وفطرهما وابتدعهما مع عظمتها وآياتهما فهو قادر على اختراع ما هو دونهما ولا نسبة له إليهْما الْبَتَه ؟ فكيف يُخْرِجُون هذا الشخص ( المسيح أو غيره ) عن قدرته وإبداعه ، ويجعلونه نظيراً وشريكاً وجزءاً !؟ مع أنه تعالى بديع العالم العلوي والسفلي وفاطره ومخترعه وبارئه ، فكيف يعجزه أن يُوجِد هذا الشخصَ من غير أب حتى يقولوا إنه ولده !!
الحجة الثالثة:- كمال كفاية القدرة في إيجاد ما يريد إيجاده بمجرد أمره وقوله : كن ( وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) فأي حاجة به إلى ولد وهو لا يتكثر به من قلة ، ولا يتفرد به ، ولا يستعين به ولا يعجز عن خلقِ ما يريد خلقَهُ ، وأيضاً الذي بدع السماوات والأرض على غير مثال سبق ، هل يُظن به أن يحاكى مخلوقاتِه الضعيفةَ من ذَوَاتِ الولدِ كالنَّمل والطَّيْر والوَحْش والدَّوَابّ والأنعام والإنسان وغيره ، تعالى الله عن ذلك وتقدس .(1/9)
الحجة الرابعة :- كمال غناه كما قَالَ تعالى في سورة يونس : ( قَالَواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ ) ونسبة الولد إليه تقدح في كمال غناه وكمال ربوبيته وكمال قدرته .
الحجة الخامسة :- كمال علمه وعمومه ( وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) فلو كان له ولد لعلمه ، لأنه بكل شئ عليم ، وهو سبحانه لا يعلم له ولداً ، فيستحيل أن يكون له ولد لا يعلمه.
الحجة السادسة :- عموم خلقه : فإنه لو كان له ولد لم يكن مخلوقاً بل جزءً وهذا منافي كونه خالق كل شئ .
الحجة السابعة:- كمال صمديته وكمال أحديته : معلوم أن التوالد لا يكون إلا من أصلين وانفصال جزء من كلٍ منهما ، الله سبحانه وتعالى له كمال الصمدية ، فلا ينفصل ولا يخرج منه شئ ، وله كمال الأحديه فَلَيْسَ له مثيل وليس له صاحبه ، فأنى يكون له ولد؟؟
والخلاصة أن القدوس عز وجل له المنتهي في هذه الكمالات المقدسة ومن ثم فهو يتقدس عن نسبة الولد إليه " أنظر بدائع الفوائد 4 / 152 / 155 بتصرف "(1/10)
(2) نسبة الشريك إلى الله تقدس وتعالى :- قَالَ تعالى ( هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) فأثبت الله من كمالاته ما هو مذكور في أواخر سورة الحشر ، ومن ثَمَّ نَزَّه نَفْسَه عن الشَّريك ، وذلك كثير جداً في كتاب الله ، حيث يبين الله من توحيد ربوبيته وتوحيد أسمائه وصفاته مما يتنافي ويتضاد تماماً مع الشريك ، وذلك مَسطُور في كتب التوحيد ولا يمكن إستيعاب ذلك هنا قَالَ تعالى (شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) 18 / آل عمران ، وقَالَ (أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء قُلْ سَمُّوهُمْ ... الآية ) 33 / الرعد ، والقرآن مملوءٌ من هذا والمراد هنا أن الله عز وجل يستشهد بقدسيته على نفي المثيل في الصفات والشريك في الأفعال والحقوق ، فمن جعل لله مثيلاً أو نداً أو شريكاً ، فما فعل ذلك إلا بسبب تعطيله لكمالات الله أو بعضها ، وظن السوء بالله تعالى ، وكل ذلك جحدٌ لقدسيته عز وجل . يقول ابن القيم ( بل كل شرك في العالم فأصله التعطيل فإنه لو تعطل كماله ـ أو بعضه ـ / وظن السّوء به لما أشرك به ، كما قَالَ إمام الحنفاء وأهل التوحيد لقومه : ( أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) 86 / 87 الصآفات ، أي فما ظنكم به حتى جعلتم معه شركاء ؟ أظننتم أنه محتاج إلى الشركاء والأعوان ؟ أما ظننتم أنه يخفي عليه شئ من أحوال عبادة حتى يحتاج إلى شركاء تعرفه بها كالملوك ؟ أم ظننتم أنه لا يقدر وحدة على استقلاله بتدبيرهم وقضاء حوائجهم؟ أم هو قاسٍ فيحتاج إلى شفعاء يستعطفونه(1/11)
على عبادة ؟ أم ذليلٌ فيحتاج إلى ولىٍّ يتكثر به من القلة ويتعزز به الذلة ؟ أم يحتاج إلى الولد فيتَخذ صاحبةً يكون الولد منها ومنه ؟ تعالى الله عن ذلك علوا كبيراً "مدارج السالكين ج 3 / 322 .
(3) إنكار النبوات والمعاد :- قَالَ تعالى :- ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ) 115 ، 116 / المؤمنون ، فذلك الحسْبَانُ الباطلُ الذي ظَنَّه أعداؤه ، أن الإنسان يترك مهملاً كالأنعام بغير شريعة ولا أمر ولا نهى ولا حساب على ذلك ولا ثواب ولا عقاب ، ردَّه الله عز وجل بذكر كمالاته المقدسة التي تتنافي معه تماماً ، إذ المَلِكُ الحَقُّ هو الذي يكون له الأمر والنهى ، فيتصرف في خلقه بفعله وأمره ، فمن ظن أنه يترك خَلْقَهُ عبثاً لا يأمُرُهُم ولا ينهاهم فقد طعن في مُلْكِه وحكْمِتِه ولم يَقْدُرْهُ حق قدرةِ بكمالاته المقدسة قَالَ تعالى ( وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالَواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ ... الآية ) 91 / الأنعام . وأيضاً كونه تعالى إلهَ الحَقّ يقتضي كمال ذاته وصفاته وأسمائه ، ووقوعَ أفعالِه على أكمل الوجوه وأتمِّها ، فكما أن ذاته الحق ، فقوله الحق ووعدهُ الحق ، وأَمْرهُ الحق وأفعاله كلها حق ، وجزاؤه المستلزم لشرعه ودينه واليوم الآخر حق ، فمن أنكر شيئاً من ذلك فما وصف الله بأنه الحق المطلق من كل وجه وبكل اعتبار ، فكونه حقاً يستلزم شرعه ودينه وثوابه وعقابه ، وأيضاً كونه ربَّ العرش الكريم ( وبسط ذلك في شرح اسمه الكريم ) قَالَ تعالى ( يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ(1/12)
وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ..)الجمعة ، وقَالَ تعالى:(أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) فُصلت ، هنا : الله تقدس وتعالى يستدل بكماله المقدس علي صدق رسله وخاتمهم محمد صلي الله عليه وسلم ، لأن كماله المقدس يأبي كل الإباء أن يُقر من يكذب عليه أعظم الكذب ، ويتقول عليه أقاويل تشمل كل شئ في حياة الناس ، ويأتي بشريعة من عند نفسه ، ينسخ بها جميع الشرائع السابقة ، ويستحل بها دماء المعاندين له ، وسَبْى نساءِهم وذريتهم ويَفْرِضُ لنفسه على أتباعه الطاعة الكاملة ، زاعماً أنها طاعة لله ، وأن من فعلها له الجنة ومن لم يؤدها له النار ، ويخبر أنه خاتم البنين ، إلى آخر ما جاءت به الرسالة المحمدية لجميع الناس إلى يوم القيامة . إن ملوك البشر وهم على ما هم عليه من نقصٍ في العلم والقدرة والعزة والحكمة وكل شئ ، لا يقبل أحدُهم على جاهِه ورئاسته ومِلِكيتّه أن يتقوَّل عليه أحد من رعيته - بل بطانته - بشيء لم يأذن به ، إلا أن تكون الرعيةُ قد استهزأت وتلاعبت به تماماً فلا تقيم له وزناً ، وهو لم يعد له من ملكيته وسلطانه شئ ، فكيف بصاحب الكمال المقدس الذي لم يُقر عبده محمداً فقط ، بل نَصَرهُ على ذلك وأَيَّده بالآيات البينات المتنوعات ، وبجنودٍ من عنده وبالمؤمنين ، وأعلى كلمته ، ورفع شأنه وذِكْره ، وأجاب دعوته وأهلك عدوة ، وأظهر على يديه من الآيات والبراهين والأدلّة ما تعجز عن مِثْلِه جميع البشر ، فهل مع ذلك يكون محمد ( مُفترياً على الله الكذب ساعياً في الأرض الفساد ؟! من ظن ذلك فقد طعن وقدح في كمالات الله عز وجل وتقدس وتعالى ، حيث يلزم من تكذيبه أن الله لم يعلم عنه شيئاً ، أو يعلم ولكن لا يقدر أن يوقفه ويحذر الناس منه ، أو يقدر على ذلك ولكن تعطَّلت الحكمة فرأي أن يتركه وشأنه مع كل هذا الإفساد وسفك الدماء في الحروب ، وهكذا ترى أن كل من كذَّب البني ((1/13)
فهو طاعن قادحٌ في كمالات الله تعالى ، فهو من أشد الناس كفراً بالله ، بل الله هو السُبّوح الملك القدوس العزيز الحكيم ، فلا نقص أبداً في مِلِكِيَّته ولا في قدسيته ولا في قدرته وعزته ولا في حكمته ، لذا ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ ) وهذه الجملة معرَّفَة المبتدأ والخبر ، ففيها التوكيد المؤكد والحصر لمصدر الرسالة ، فلا يمكن إلا أن يكون الله هو الذي بعث محمد ( لأنه : (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ) وتأمل قوله تعالى (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ... الآية ) الحآقة ، وقوله تعالى (وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً * إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا ) الإسراء.
وليس هذا موضع شرح هذه الآيات ، إنما المراد بيان أن الله تعالى يستدل بكماله المقدس على النزاهة من كل ما نَسَبه إليه أعداءه وأهل الكفر والشرك به ؟ .
ومن ثم يظهر معنى التعريف الذي ذكرناه عن أسم الله تعالى : القدوس .
ذِكْرُ الاسم في القرآن والسنة ( مقرناً بالمَلك )
(1) (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) وقد تقدم بيان مناسبة ورود الاسم في هذا السياق.(1/14)
(2) ( يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ ..) الآتيان 1 ، 2 من سورة الجمعة وتقدم بعض بيانه وسنزيده بما يلي :-
معلوم أن ملوك البشر لا يَخْلُون من النقص والعيب فِي الذات والصفات ، كما لا يخلون من المثيل والشريك ، بل يحتاج أحدهم ضرورة إلى المعاون والظَّهير والشَّريك ، بل نوعُ عبودية لهم لأن بقاءه بهم ( وهم أيضاً عندهم نوع عبودية له لأن بقاءهم به ) وغايته أن يستعين بالناس ويستعبدهم لهواه ومصالحه وملكه ، ولا يخلو مِنَ الظلم ، ثم هو فَقيْرَ فقر البشر ، ويُغْلب ويُسلب ملكه ، و يريد ما لا يفعل ، وقد يفعل ما لا يريد ، ويمرض ويموت ، وهكذا من النقص والعيب الكثير . أما الملك القدوس سبحانه ، فقد جاء أسمه القدوس مقرناً باسمه الملك في الكتاب والسنة وصفاً له بالكمال المقدس وذاتاً وأسماءً وصفاتٍ وأفعالا ) عظمةً وجمالاً وجلالاً وغنى وألهيه ، فلا سبيل إليه لشيء من تلك النقائص بوجه ما ، فهو وحْده الفعال لما يريد ، واستعبد النَّاسَ لأنه أولاً : رَبِّ النَّاسِ، مَلِكِ النَّاسِ، إِلَهِ النَّاسِ، وإنما خلقهم ليعبدوه ، وثانياً : ليطهرهم من الضلال المبين ، ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ، ويُقدسَّ أرواحهم بما يليق بمجاورته في داره حظيرة القدس . وثالثاً : ليرحمهم ويكرمهم في دار كرامته ، وهو الملك القدوس فلا يظلم مثقَالَ ذرة ، ورسالاته وشرائعه وأمره ونهيه وأحكامه وجزاؤه وثوابه وعقابه كل ذلك على القداسة ، فلا عيب ولا شر ولا ظلم . قَالَ تعالى ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ ... الآية ) وقدم لهذه الآية وما بعدها بالكمالات المقدسة في الآية الأولى كما تقدم ..(1/15)
(3) عن أبى بن كعب قَالَ : كان رسول الله ( : (عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْوِتْرِ بِسَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى وَقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فَإِذَا سَلَّمَ قَالَ سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ1 ، هذا الذكر بعد صلاة الوتر ، أي بعد نهاية عمل اليوم والليلة كمسك الختام للعمل اليومي ، الذي هو تقديس لله عز وجل ثم هو تقديس ( تطهير وتبريك ) للروح والقلب ليكون لائقاً بمقام القدوس ولقائه عز وجل.(1/16)
(4) في صحيح مسلم عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ( كَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ) إن أعداد الملائكة لا يمكن تصورها بالعقل البشرى ، كما لا يمكن تسجيلها على الأوراق بكل الأرقام التي يعرفها البشر ، كما لا يمكن إحصاء الوظائف التي يقومون بها في السماوات والأرض وما بينهما ، وكذلك العبادة والتسبيح بالحمد والتقديس ، وهم لا يعلمون شيئاً إلا أن يعلمهم ربهم ، فهو سبحانه يسألهم عن عبادة وهو أعلم بعباده منهم ، يعلم ما في نفوس عباده ويُعْلِم بذلك الحَفَظَة ، كما أنهم لا يعلمون شيئاً إلا بأمره - على كل هَذه الأعداد التي لا يحصيها الخلق - وهم يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ، فما الظن بعظمة ربهم وقداسته !!! قَالَ تعالى ( حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالَوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالَوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ) 13 / سبأ . قَالَ ابن كثير في تفسير هذه الآية : وهذا أيضاً مقام رفيع في العظمة وهو أنه تعالى إذا تكلم بالوحي فسمع أهل السماوات قوله أرعدوا من الهيبة حتى يلحقهم مثل الغشيّ ، قَالَه ابن مسعود رضى الله عنه ومسروق وغيرهما (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ ) أي زال الفزع عنها . ثم ذكر رحمة الله كلام السلف في الآية ، وأورد حديث أبى هريرة في صحيح البخاري قَالَ إن نَّبِيَّ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :" إِذَا قَضَى اللَّهُ الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتْ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ كَالسِّلْسِلَةِ عَلَى صَفْوَانٍ فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالَوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالَوا لِلَّذِي قَالَ الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ فَيَسْمَعُهَا مُسْتَرِقُو السَّمْعِ ... الحديث ) كما أورد حديث النواس بن(1/17)
سمعان عند أبى حاتم قَالَ : قَالَ رسول الله( (إذا أراد الله تبارك وتعالى أن يوحي بأمره تكلم بالوحي فإذا تكلم أخذت السماوات منه رجفة أو قَالَ رعدة شديدة من خوف الله تعالى فإذا سمع بذلك أهل السماوات صعقوا وخروا لله سجدا فيكون أول من يرفع رأسه جبريل عليه الصلاة والسلام فيكلمه الله من وحيه بما أراد فيمضي به جبريل عليه الصلاة والسلام على الملائكة كلما مر بسماء سماء يسأله ملائكتها ماذا قَالَ ربنا يا جبريل فيقول عليه السلام قَالَ الحق وهو العلي الكبير فيقولون كلهم مثل ما قَالَ جبريل فينتهي بالوحي إلى حيث أمره الله تعالى من السماء والأرض ) وكذا رواه ابن جرير وابن خزيمة . والمقصود بيان خشيتهم من ربهم وطاعتهم له كما قَالَوا ( وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ) يعنى نسبِّح بَحمْدك ونعظمك ونُمجِّدك ونكبّرك - كما تقدم ذكره - وهذا لا يمنع من صحة ما قَالَه الزجاج والضحاك وغيره أنهم يطهرون أنفسهم ويقدسونها له بالعبوديات المأمور بها ، ليليق ذلك بمقام القرب منه سبحانه ، فمهما تطهر المخلوق فمقام الرب القدوس يستوجب تطهيراً وتقديساً أعلى وأعلى ، وإنه ليرفع الملك رأسه من الركوع - وقد قضى عمره كذلك - قائلاً : سبحانك ما عبدناك حق عبادتك ، وهم لا يسأمون من التسبيح ليلاً ونهاراً ، ولا يفترون كما نطق بذلك التنزيل ، ومع ذلك يستعملهم كلهم القدوس الغفور الرحيم في الاستغفار لمن في الأرض . قَالَ تعالى ( تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) فيطلبون منه تعالى وتَقَّدس الحلم والغفران ، وألا يعاجل البشر بالانتقام عندما يصدر منهم مالا يليق بمقام ربهم المقدس ، وإلا زالت السماوات والأرض . قَالَ تعالى ( إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ(1/18)
أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ) فاستعمل القدوس ملائكته سبباً عظيماً في الحلم على أهل الأرض لعلهم يتوبون ويستغفرون .
بيان أن معني القدوس يجمع معني الطهر والبركة لغة وشرعاً :
قَالَ بن فارس في المقاييس ( "قدس" القاف والدال والسين أصل صحيح يدل على الطهر - الأرض المقدسة : المُطَّهرة ) وكذا في اللسان ( القدس : الطَّهارة ، روح القدس : جبريل عليه السلام لأنه خلق من طهارة ، ومعناه روح الطَّهارة ، القدس: البركة . الأرض المقدسة : المباركة ، لا قدَّسه الله : لا بارك عليه ، التقديس : التطهير والتبريك ) والماء موصوف في القرآن بالطهر وموصوف بالبركة .
قَالَ تعالى ( وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا ) 48 / الفرقان وقَالَ ( وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكًا ) ق ، وفي صحيح البخاري كتاب المناقب من حديث عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود : قَالَ رسول الله ( (حَيَّ عَلَى الطَّهُورِ الْمُبَارَكِ وَالْبَرَكَةُ مِنْ اللَّهِ ) وحول الأقصى أرض مقدسة . قَالَ تعالى :( ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ ) المائدة ، وكذلك هي أرض مباركة . قَالَ تعالى :( الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ) الإسراء ، وهذه الأرض إلى يوم القيامة إما أن تكون حكم الإسلام وشرائعه ( وهذا تقديس عظيم ) وإما أن تكون محلا للجهاد وإهراق الدماء عليها في سبيل الله ( وذلك أيضاً تقديس عظيم ) والطهر والبركة كالمتلازمين ، فإن الشيء إذا طهر وتنظف مما يفسده زكا ونما وصلح وزاد في نفسه كالزرع ينقى من الدغل ، والنماء والزيادة من البركة والتي معناها كثرة الخير ودوامه.
وأيضاً المسجد الأقصى هو بيت المقدس لأنه يتطهر فيه من الذنوب ، وفي ذلك بركة عظيمة إذ ليس بعد المغفرة إلا الجنة .(1/19)
ومع ذلك فغضبهم لله شديد ، وغيرتهم على جناب الله أشد بكثير من غيرة السَّماوات والأرض والجبال ، فهذا جبريل عليه السلام يتشوف إلى اللحظة التي يأتيه الأمر بإهلاك فرعون عدو الله ، فيقول لرسول الله ( ( فَلَوْ رَأَيْتَنِي وَأَنَا آخُذُ مِنْ حَالِ الْبَحْرِ فَأَدُسُّهُ فِي فِيهِ مَخَافَةَ أَنْ تُدْرِكَهُ الرَّحْمَةُ ) 2 ، لأن فرعون قَالَ عند الغرق آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وجبريل أعلم بسعة رحمة ربه فيخاف أن تدرك فرعون الذي طغي وعلا وتجبر وآذي الله ورسوله والمؤمنين .(1/20)
ومن يراجع ذكر الملائكة في الكتاب والسنة يُطْلِقْ ذلك على علو وقداسة صفات ربهم عز وجل ، ويسهل عليه الربط في المعنى بين قوله : سبّوح قدوس وقوله رب الملائكة والروح . وسيأتي مزيد ذكر لهذا تحت عنوان : قداسة الذات ، وأيضاً المسجد الحرام يسمى القادس لنفس المعنى ، وهو المبارك . وأيضاً : الجنة فهي ( حظيرة القدس ) إذ ليس فيها إلا طاهر طهارة تليق بمجاورة القدوس عز وجل ولا يدخلها على المؤمنين إلا طاهر مُطَهَّر قَالَ الله تعالى :( وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ ... الآية ) وبركاتها تفتح على أهلها بمزيد لا ينتهي ، فهي جنة عرضها السماوات والأرض وموضع سوط فيها خير من الدنيا وما فيها كما في حديث سهل بن سعد الساعدى في الصحيحين ، فكم يكون خيرها !! رزقها ما له من نفاد ودوامها آبد الآباد ، ومن ثم لا تنتهي بركاتها فلا يحصيها إلاّ رب العباد . إن رزق الحياة الدنيا مُنْذُ بَدْء الخلق وإلي يوم القيامة لا يُعَدُّ شيئاً يُذكر أمام رزق الجنة وخيرها ، بل من الظلم البيّن مقارنة الضئيل المنقطع بدائم لا يحصى ، فالجنة التي هي ( حظيرة القدس ) هي موضع بركات الملك القدوس الذي تبارك سبحانه ، وتبارك اسمه . فتَبيّن غاية البيان أن مادة ( قدس ) تجمع مادتي الطهر والبركة .
معنى التبارك
(1) معلوم أن الله تعالى له صفات الكمال وَصْفاً ومُلكْاً ، فمثلاً الحمد كله لله وصْفاً وملكاً ، فهو المحمود في ذاته وهو الذي يجعل من يشاء من عباده محموداً ، وكذلك العزة كلها له وصفاً وملكاً ، وهو العزيز الذي لا شئ أعز منه ، ومن عز من عبادة فبإعزازه له ، وكذلك الرحمة كلها له وصفاً وملكاً .(1/21)
فكذلك البركة كلها لله وصفاً وملكاً ؛ فهو تبارك في ذاته ، وهو الذي يبارك فيمن شاء من خلقه فيجعله مباركاً - قَالَ تعالى ( وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ .. الآية ) مريم وقَالَ ( وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَقَ .. الآية ) الصآفات . وليلة القدر مباركة ، وحول الأقصى مبارك ، وأرضها الشام كذلك ، فهو تعالى الذي تبارك وهو المبارك بكسر الراء.
(2) البركة : كثرة الخير ودوامه ، وفعل ( تبارك ) يختص بالله عز وجل ولا يطلق على غيره ، واطَّرَدَ ذكره في القرآن والسنة جارياً عليه مختصاً به. قَالَ تعالى ( تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) 54 / الأعراف ، وقَالَ :"( تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ )1/تبارك ، وقوله:( فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) وقَالَ :( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ ) الفرقان ، وقَالَ (تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَاء جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِّن ذَلِكَ جَنَّاتٍ ... الآية ) الفرقان ، قَالَ (تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجًا ... الآية ) وقَالَ (تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ) الرحمن .
ومن حديث ثَوْبَانَ في صحيح مسلم ( تَبَارَكْتَ ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ) " 2 / 336" في المساجد ، وفي مسلم أيضاً في الصلاة (سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ تَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ)(1/22)
3- تبارك : على بناء السعة والمبالغة كقوله تعالي وتعاظم ونحوهما ؛ فهو دال علي كمال بركته وعِظَمِها وسَعَتها "وهو فعل لازم ، أمَّا بَارَك فهو فعل متعّد بنفسه تارة ، وبأداة على تارة ، وبأداة في تارة . فيقَالَ باركه ، بارك عليه ، بارك فيه" وما من وصف لله إلا وهو كمال وخير كثير دائم ، فالله تعالى حيّ لا يموت ، هو الأول بلا ابتداء ، والآخر بلا انتهاء ، وخذ مثالاً لذلك بصفات العلم والحكمة والقدرة ، وعلم الله ولا نهاية له وكذلك حكمته وقدرته فهو العليم الحكيم القدير ، ودوام ذلك كما تقدم ، فهذه بركة واسعة عظيمة متناهية ، وهى البركة التي تضاف إلى الله وصفاً كإضافة الرحمة والعزة وغيرها، والفعل منها ( تبارك ) . وآثار العلم والحكمة والقدرة واضحة في الخلق والأمر ( والأمر متضمّن للشرائع والنُّبوَّات ) قَالَ تعالى ( أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) وقَالَ : (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا) 12 / الطلاق وقَالَ تعالى ( تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ) فهذه من آيات لله الدالة على سعة علمه وحكمته وقدرته وعظمته وأوصافه وكمالاته ، وكل ذلك مُتَضَمَّن في قوله ( تَبَارَكَ ) . وقَالَ تعالى : ( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ) الفرقان وإنزال الفرقان يدل على سعة رحمة الله وعلمه وحكمته وعظمته وكمالاته وأيضاً ذلك مُتَضَمَّن في قوله (تَبَارَكَ ) ، وهكذا في جميع المواضع(1/23)
التي وردت فيها لفظة تبارك ، وسنختار منها موضعاً وهو من سورة الرحمن نبسط فيه / القول شيئاً ما ليتضح المراد "انظر كلام ابن القيم في معنى البركة في بدائع الفوائد 2 / 185 -187."
4) قوله تعالى : ( تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ )
الاسم هنا الذي تبارك هو الرحمن ، ودَلّ على ذلك آثاره المذكورة في السورة من الآيات والآلاء المتنوعة : تعليم القرآن - خلق الإنسان - والشمس والقمر - والنجم والشجر - ورفع السماء ووضع الميزان وتمهيد الأرض للأنام - وما أنبت الله فيها من الأطعمة والفاكهة والنخل والريحان ونظام الليل والنهار ، والمشرقين والمغربين والأنهار والبحار وما فيها من الآيات والآلاء وما يخرج منها من اللؤلؤ والمرجان والسفن العملاقة الجارية على الماء ، ثم بعد ذلك من نظام العالم ، وانتهاء الدنيا وحُلُول دار الجزاء والبقاء ، وكل ذلك قدرة الله تقديراً . فمن قَبَل نعمة الله في الدنيا وأدى شكرها أدام الله عليه نعمته في الدنيا والآخرة ، وصارت النعمة في حقه بركة خالدة من الله عز وجل ، ومن لم يقبل ويؤدِ شكرها فقد خسر نفسه وخسر كل شئ ، وصارت النعمة في حقه نقمة واستدراجاً ، ويُسْأل عن نعيمها ، إذ لا حقَّ له في شئ من بركة الله عز وجل ؛ بل يؤخذ بالنواصي والأقدام ، مأواه جهنم يطوف بينها وبين حميم آن .(1/24)
فليس الشأن في جزء الرحمة الذي أنزله الله في الدنيا تتراحم به الخلائق ، وتكون به الآلاء والنعم ، ويكون به الإمهال للكافرين والمعاندين ، وإعطاؤهم الفرصة والتعمير مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ ، لعلهم يتوبون ، فهذه المهلة ما هي إلا رحمة من آثار اسمه تعالى الرحمن : فإذا اعتبرنا مليارات الكفار والمشركين والعصاة على مَرَّ العصور ، علمنا سعة هذه الرحمة وضخامتها ، ومع ذلك فهي بعضٌ من جزءٍ واحد من الرحمة المخلوقة التي جعلها الله مائة جزءاً ، وادّخر منها تسعة وتسعين جزءاً لأوليائه يوم القيامة ، وإنما الشأن كل الشأن في استمرار الرحمة ودوامها في الجنة على هذا النحو المذكور في سورة الرحمن ، على الاتساع والعظمة والدوام أبد الآباد ، وكله من آثار الاسم العظيم الرحمن . فتبارك الرحمن ( تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ) . أما في مصحف أهل الشام ، وقراءة ابن عامر (تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ) . فالاسم نفسه مذوَّي بالجلال والإكرام وهو تبين على المسمى كما في قوله تعالى :( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ) فإن كان وجهه تعالى ذا الجلال والإكرام كان هذا تنبيهاً على المسمى سبحانه كما في قوله : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ ) ، وقوله (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ ) فالاسم نفسه يُسبّح ويذكر ويراد بذلك تسبيح المسمّى ، لا يراد تسبيح مجرد الاسم وكذلك الأمر في دعاء الاسم يراد به دعاء المسمى كما قوله تعالى (قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ .. الآية ) الإسراء ، فالداعي يقول يا ألله يا رحمن ومراده المسَمَّى . ويستفاد من قوله تعالى (تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ) أن اسم الله مبارك تُنَال معه البركة لاسيما الرحمن. يقول بن القَيِّم رحمة الله : وتأمل قوله تعالى ( الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ * عَلَّمَهُ(1/25)
الْبَيَانَ ) كيف جعل الخلق والتعليم ناشئاً عن صفة الرحمة متعلقا باسم الرحمن ، وجعل معاني السورة مرتبطة بهذا الاسم ، وختمهاً بقوله (تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ) فالاسم الذي تبارك هو الاسم الذي اُفتتح به السورة إذ مجيء البركة كلها منه وضعت البركة في كل مبارك ، فكل ما ذكر عليه بورك فيه . وكل ما أخلى منه نزعت منه البركة ( مختصر الصواعق 2 / 124 )
بحث موجز في معاني الطَّهارة وما يتعلق بها
( للتوسع : راجع كلام ابن القيم في الإغاثة عن طهارة القلب من أدرانه وأنجاسه وكذا : تعليق شيخ الإسلام على الآيات من سورة النور )
قَالَ بن فارس : طهر : اصل واحد صحيح يدل على نقاء وزوال دنس .
التطهر : التنزه عن الذم وكل قبيح .
فلان طاهر الثياب : إذا لم يدنس ( المقاييس مادة طهر ) .
وفي القاموس : طهره بالماء : غسله ، طَهَرَه : أبعده . أ . هـ
والطَّهارة الشرعية طهارتان : طهارة البدن ( بإزالة النجاسة والوضوء والغسل والتيمم ) ، وطهارة القلب : من رجس ونجس المعصية ( وهذه تكون بالتوبة وأسباب المغفرة والعمل الصالح ) .(1/26)
* والنجس في اللغة والشرع : هو المستقذر الذي يطلب مباعدته والبعد عنه ، بحيث لا يملس ولا يشم ولا يرى فضلاً عن أن يخالط ويُلامس لقذارته ونفرة الطباع السليمة عنه ، ونجاسة الذنوب هي أشد المستقذر التي يطلب القلب السليم مباعدتها والبعدَ عنها ، وهى تتفاوت غلظة وخفة بحسب المعصية ، فأغلظها النجاسة العينية التي تكون بالشرك والنفاق ، حيث يصير الإنسان نفسه نجَسا ( معنوياً ) "بفتح الجيم " ، أما نَجِس بالكسر فهو المتُنَجَّس ببول مثلاً أو بغيره ، فالبول نَجَس ، والثوب مُتَجَنِّس ( نَجِسَ ) قَالَ تعالى : ( إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ) وقَالَ تعالى عن المنافقين : ( فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ ) 95/ التوبة ، فهؤلاء نَجَسٌ ورجْسٌ فلا يدخلون الجنة أبداً ، ( حظيرة القدس ) بمجاورة القدوس عز وجل ، إذ لا يدخلها إلا طاهر ، بل مأواهم جهنم هي مولاهم وبئس المصير ، بل في الدنيا أيضاً منع الله المشركين قُربَاَن المسجد الحرام. أما الشرك الأصغر ( كيسير الرياء - والتصنع للمخلوق والحلف به وغير ذلك ) فنجاسته مُخَفَفَةٌ عن نَجَاسَة الشركِ الأكبرِ ، الذي هو هضم لحق الربوبية وتنقيص لعظمة الإلهية , وسوء ظن برب العالمين ،كما قَالَ تعالى :( وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ 000الآية) (6/الفتح)،فهؤلاء منتقصون لله سبحانه ، والتنقص لازم لهم ضرورة ، وإن زعموا أنهم يعظمون.(1/27)
أما نجاسة الذنوب والمعاصي فأنها لا تستلزم تنقيص الربوبية ولا سوءَ الظَّن بالله عز وجل ، ولهذا لم يُرِتَّبِ اللهُ عليها من العقوبات والأحكام ما رتبه على الشرك ، وأغلظ هذه الذنوب والمعاصي نجاسة الزنا وعمل قوم لوط من جهة أنها تفسد القلب وتضعف توحيده جداً ، فليس في الذنوب أفسدُ للقلب والدَّين من هاتين الفاحشتين ، ولهما خاصية في تبعيد القلب من الله ، فأنهما من أعظم الخبائث ، فإذا إنْصَبَغَ القلب بهما بَعُد ممن هو طيب ولا يصعد إليه سبحانه إلاّ طيب ، وكلما أزداد خبثاً أزداد من الله بعداً ، قَالَ تعالى : (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ ) 26 /النور وقَالَ تعالى ( وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ ) ( 74 الأنبياء ) ، وقَالَ قوم لوط ( أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ) 56 / النمل ، وآلُ لوط لم يقربوا الفاحشة بل جاهدوا قومهم عليها ، فتَطَهُّرُهم إذاً هو بعدهم عن الفاحشة ونجاستها ومباعدتُهم لها ببغْضِها والنهى عنها وتحمل الأذى في سبيل ذلك ، ومن ذلك المعنى : الأمر للمؤمنين وأمهات المؤمنين بمجانبة أسباب الريبة في قوله تعالى : ( وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ) 53 / الأحزاب ، وذلك من نوع مَجَانَبِة الذنوب والبعدِ عنها ومباعدتِها ، فذلك أطهر لقلوب الطائفتين كما يقول شيخ الإسلام في تعليقه على آيات سورة النور . وكذلك ما جاء في سورة الأحزاب ( بعد ذكر غزوة الأحزاب وما كان منها من الظروف البالغة في الشدة من الخوف والجوع والبرد ) من التشديد فِي وعْظِ نساء النبي ( وأمِرهن وتهديدهن ، ثم بَيَّن اللهُ سبحانه وتعالى أن لم يرد أن يجعل(1/28)
عليهن حرجاً ولا مشقة ، وإنما حكمة ذلك كما قَالَ تعالى : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) والرِّجس يضاد الطَّهارة ، فإذا كانت الطَّهارة تُقّدم القلب ، فأن الرجس يؤخره ويمنعه ( بحبسَِه ) عن الفهم وقبولِ الهُدى والعملِ به ، وهو يشمل كلَّ العقوبات المنزلةِ على القلوبِ بسببِ الذنوبِ ، وكل عقوبة على القلب تؤخره بحبسها ، ولقد أحصى ابن القيم رحمة الله من كتاب الله أربعاً وثلاثين نوعاً من تلك العقوبات كالختم والطبع والغيّ والقفل والران والإزاغة وجعلها قاسية وزيادتها مرضاً وغير ذلك ، وبيت النبوة هو أطهر بيت على وجه الأرض إلى يوم القيامة ، ونساءه هن سيدات نساء أهل الجنة فهن أزواج النبي ( دنيا وآخره ، فتطلب ذلك تقدماً هائلاً واقتراباً دون أي ابتعاد أو تأخر ، وذلك استلزم البعَد والمباعدةَ المستمرةَ لدَاعِية للشر وأسبابه ، بالتزام منهاج النبوة ، فيصير أهل البيت بذلك طاهرين مُطهّرين ، وذلك فضل الله عليهم ، والنبي نفسه ( في بدايات الوحي يأمره ربه قائلاً ( وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ) 4 / المدثر ، وجمهور المفسرين على أن المراد بالثياب هاهنا القلب ، والمراد بالطَّهارة : إصلاح الأعمال والأخلاق ، كما قَالَ السُّدِّي: يقَالَ للرجل إذا كان صالحاً : إنه لطاهر الثياب ، وإذا كان خبيثاً : إنه لخبيث الثياب ، وذهب بعضُهم في تَفسير الآية إلى ظاهرها وقَالَ : أنه أُمِرَ بتطهيرِ ثيابهِ من النجاسات ، وأن تكون قصيرة ، ومن مالٍ حلال ، وهكذا ، وقَالَ ابن القيم : الآية تعم هذا كلَّه وتدل عليه بطريق التنبيه واللزوم وإن لم تَتَنَاولْ ذلك لفظاً ، فإن المأمورَ به إنْ كان طهارة القَلْبِ ، فطهارةُ الثوبِ وطيبُ مَكْسبِه تكميلٌ لذلك ، فإن خبث الملبس يُكْسب القلبَ هيئةً خبيثة كما أن خُبْثَ المَطْعِم يُكْسِبه ذلك. ثم يقول النبي ( في حديث الْأَغَرِّ(1/29)
الْمُزَنِيِّ في صحيح مسلم (قَالَ إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ) ، والغَيْنُه كما يقول شيخ الإسلام : هو أرق شئ يكون على القلب ، ولا يشعر به إلا القلبُ الطَّاهر المطَّهر ، فيتدارك الرسول ذلك بالاستغفار مائة مرة ، وهذا تَطَهُّر مستمرٌّ حتى لا تَقِلَّ سرعةُ سيرِة إلى اللهِ عن الدرجةِ اللائقةِ بالوصول إلى أعلى مكانه عند الملك القدوس عز وجل .(1/30)
فتبين مما سبق أن الطَّهارة لا تستلزم ارتكاب الفواحش أو مقدماتها ليُتَطهِّر منها ، وإنما هي البعدُ والمباعدةُ عن المخالفات ، وذلك يكون بالعلم الصحيح والعمل الصالح الذي يزكو به القلب ويقوى ويتحصن بعيداً عن الأرجاس والأنجاس . ومن دعاء النبي ( : (اللَّهُمَّ طَهِّرْنِي بِالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ وَالْمَاءِ الْبَارِدِ )3 ، ودعا للشاب الذي نَصَحَهُ وقد جاء مستأذناً في الزنا : ( اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ وَطَهِّرْ قَلْبَهُ وَحَصِّنْ فَرْجَهُ )4 . وقَالَ تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ) 12 المجادلة ، فالصَّدَقَة عَمَلٌ صَالح يطهر به القلب وأيضاً في قوله تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا .. الآية ) 103 التوبة فالصدقة تُطهِّر من السَّيئات وتُنَمِّى القَلْبَ وتزكِّيه ، وكذلك قوله تعالى : (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ ) 30 النور فالغَضَّ من البَصر وحفظ الفرج يتضمن البعد عن نجاسة الذنوب ، ويتضمن الأعمال الصالحة التي يزكو بها الإنسان ، وفي قوله (وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ ) 28 النور ، فالرجوع عملٌ صالحٌ يزيد المؤمن زكاة وطهارة ، وفي قوله بعد ذكره لأحكام الطلاق الشرعية ( ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ ) 232 / البقرة ، لأن الالتزام بالأحكام الشرعية هو سبيل التقدم ومجانبة التأخر ، يقول ابن القيم ( والله سبحانه بحكمته جعل الدخول عليه موقوفاً على الطَّهارة ، فلا يدخل المصلى عليه حتى يتطهر ، وكذلك جعل الدخول إلى جنته موقوفاً على الطيب والطَّهارة فلا يدخلها إلا طيب طاهر ، فهما طاهرتان : طهارة البدن وطهارة القلب ، ولهذا شرع للمتوضئ أن(1/31)
يقول عُقيب وضوئه (أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ التَّوَّابِينَ وَاجْعَلْنِي مِنْ الْمُتَطَهِّرِينَ ) أخرجه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة5 .
( فطهارة القلب بالتوبة ، وطهارة البدن بالماء ، فلما اجتمع له الطُّهْران صَلَحَ للدخولِ على الله تعالى والدخول بين يديه ومناجاته ) إغاثة اللهفان ص60 .
والحقيقة أن من طَهَّر الله قلبه فقد فاز ، ومن لم يرد أن يطهر قلبه فليس له إلا المسارعة في الكفر والُهوىِّ إلى أسفل سافلين عياذ بالله .
كما في قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إلي قوله : أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ... الآية ) 41 / المائدة.
قدسية الذات :-
عرفنا أن القدس هو الدر لما فيه الجمال والبريق والنقاء والصفاء والثبات على ذلك ، فكيف بخالقه القدوس وله المثل الأعلى في السَّماوات والأرض !! وهو أحق وأولى بكل كمال وجمال وجلال من المخلوق ، وليس لنا أن نتكلم عن الذات الأقدس إلا بما جاءت به نصوص الوحي .
وسنذكر منها ما يلي :-(1/32)
(1) روى مسلم في صحيحة أن أَبا ذَرٍّ رضي الله عنه سَأَل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ قَالَ : نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ " . ثم روى بعده مباشرة حديثاً كالمفسِّر له ، وهو حديث أَبِي مُوسَى قَالَ : قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ فَقَالَ : إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ حِجَابُهُ النُّورُ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ النَّارُ لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ " والسؤال على هذا : كيف يراه ( وينظر إلى سُبُحَاتُ وجهه وهى التي لا يقوم لها شئ إلا أحرقته ؟ والجواب أنه ( رأي نوراً ، وهو الحجاب المخلوق الذي يكشفه ربنا عز وجل في الجنة لعباده لينظروا إليه . أما أنوار الذات التي تُحْجَب الأبصارُ عن إدراكِها كما قَالَ تعالى ( لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) الأنعام ، فذاك الحجاب صفة للذات الأقدس لا تفارق ذات الربَّ عز وجل ، ولو كَشَفَ ذلك الحجاب لأحرقت سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا أدركه بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ ، ولهذا لما حصل للجبل أدنى شئ من تجلى الربّ تسافي الجبل واندَّك لسُبُحَاتُ ذلك القَدْرِ من التجلي كما قَالَ تعالى : ( فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا ) الأعراف وجاء في الحديث تسميةَ هذا الحجاب برداء الكبرياء على وجهه تعالى ، كما رواه البخاري في صحيحة في تفسير سورة الرحمن : قَالَ ( "جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا(1/33)
وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ" ، فهذا يدل على أن رداءَ الكبرياءِ على وجهه تبارك وتعالى هو المانع من رؤية الذات ولا يمنع من أصل الرؤية ، فإن الكبرياء والعظمة أمرٌ لازم لذاته سبحانه( انظر ابن القيم في تعليقه على الآية من سورة النجم بتصرف )
والسُبُحَاتُ هي أنْوارُ وَجْهِهِ تعالي . يَقُول الإمَامُ أبو بكر بن خزيمة " إن لِوَجْه ربِّنا عز وجلّ من النور والضياء والبهاء ، ما لو كشف حجابه لأحرقت سُبُحَاتُ وجهه كل شئ أدركه بصره تعالي " أ . هـ . وينبغي لكل مسلم أن يستصحب هذه المعاني مع كل تسبيحه وتكبيرة وتحميده ، إذ لو تجلى الملك القدوس بعضَ التجلي للكرة الأرضية لدُكَّت الأرضُ كلها دكةَ واحدة بما عليها من الآلة العسكرية والقنابل الهيدروجينية وغيرها مما وصل إليه البشر من قوة وأسباب ، ملك قدوس عظمته متناهية ، ينظر فقط إلي ما يريد إحراقه فينتهي الأمر للشيء كن فيكون وهو الذي يقول : ( مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) 74 / الحج .
(2) روى مسلم ( 181 ) وأحمد ( 4 / 332 ) وبن ماجة ( 187 ) والترمذي ( 2552 ) واللفظ للترمذي من حديث صُهَيْبٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ قَالَ إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ نَادَى مُنَادٍ إِنَّ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَوْعِدًا قَالُوا أَلَمْ يُبَيِّضْ وُجُوهَنَا وَيُنَجِّنَا مِنْ النَّارِ وَيُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ قَالُوا بَلَى قَالَ فَيَنْكَشِفُ الْحِجَابُ قَالَ فَوَاللَّهِ مَا أَعْطَاهُمْ شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ النَّظَرِ إِلَيْهِ " .(1/34)
قَالَ عبد الرحمن بن أبى ليلى : فما ظنك بهم حين ثقلت موازينهم ، وحين طارت صحفهم في أيمانهم ، وحين جازوا جسر جهنم فقطعوه ، وحين دخلوا الجنة فأعطوا فيها من النعيم والكرامة ( وكل من هذه المواقف يطير لها الفؤاد فرحا .. بل هو فَرَحٌ من شدته لا يتصور ) قَالَ : فكأن هذا لم يكن شيئاً فيما أُعطوه ( أي بالنسبة للنظر إلى وجه الله الكريم ) .
ويوم المزيد في الجنة ، يرجع المؤمن بعد لقاءَ الله والنظر إلى وجهه تعالى ، وقد ازداد نضرة ونوراً وجمالاً يراه أهله فيبتهجون ويبشرون به . والله تعالى يقول ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) قَالَ الحسن البصري : الناضرة : الحسنة ، حسنها الله بالنظر إلى ربها ، وحُقَّ لها أن تنضْرُ وهى تنظُرُ إلى ربها . مع أن هذه الوجوه قد دخلت الجنةَ بنورٍ على قدر إيمانها ، ففي الصحيحين من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال :" أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ وَالَّذِينَ عَلَى آثَارِهِمْ كَأَحْسَنِ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ إِضَاءَةً .. الحديث " .
فمن نظر إلى جمال ونور الله عز وجل أزداد جمالاً ونوراً مهما كان جماله ونوره السابق قبل النظر فكيف بجمال وأنوار القدوس الخالق !!
(3) القداسة لله ملكاً وخلقاً وفعلاً تستلزم وتدل على قداسة اللهِ وَصْفاً ، وأعظم وأوسَعُ ذلك في حظيرة القدس كما سبق ، ولنتذكر أن القداسة تجمع الطهر والبركة وأن الطهر نقاء وصفاء وجمال وزوال دنس ، ولنأخذ بعض الأمثلة :-(1/35)
حديث أبى موسى الْأَشْعَرِيِّ في الصحيحين أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْخَيْمَةُ " في الجنة " دُرَّةٌ مُجَوَّفَةٌ طُولُهَا فِي السَّمَاءِ ثَلَاثُونَ مِيلًا فِي كُلِّ زَاوِيَةٍ مِنْهَا لِلْمُؤْمِنِ أَهْلٌ لَا يَرَاهُمْ الْآخَرُونَ ) ينبغي تأمل هذه الأخبار الصحيحة والاجتهاد في تصورها - درة عملاقة لا نسبة فيها لدر الدنيا كلها نوعاً وحجما وقداسة ، وأعدادها لا يحصيها إلا القدوس عز وجل ، فكيف بالقداسة له وصفاً !!
- كم أعداد المؤمنين فيها وكم أنوارهم وطهارتهم وجمالهم ، وكم أعداد الحور العين وكم أنوارهن ، وإحداهن لو أطلَّت بطرفها بين السماء والأرض لأضاءت ما بينهما ، سبحان الملك القدوس . جاء في الصحيحين من حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :" إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الْغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ كَمَا يَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الْغَابِرَ فِي الْأُفُقِ مِنْ الْمَشْرِقِ أَوْ الْمَغْرِبِ لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ .. الحديث " وهكذا لا نهاية لما في الجنة من طهر وجمال ونور وبركة ، والجنة عَرْضُها السَّماوات والأرض ، فكيف بوصف القدوس الذي خلق ذلك ولديه مزيد ؟ !! وكذلك يكون الكلام على أعداد الملائكة وطهارتهم وأنوارهم وجمالهم كما في البند التالي :-
(4) عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله ( كان يقول في ركوعه وسجوده سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ . ( وقد تقدم ذكر الحديث وبعض التعليق على معانية ) .
هذا النص كأنه يفسر معنى القدوس بأنه رب الملائكة والروح على النحو التالي :-(1/36)
- معلوم أن كل وصف حسن تتصف به الملائكة فخالقهم أحق وأولى به أعظم وأجل ومن ذلك أنهم خلقوا من نور فهم مطهرَّون كرام بررة ، فإذا كان المؤمنون متطهرون فإن الملائكة مُطَهَّرون فلا يأكلون ولا يشربون ولا يتنخّمون ولا يتمَّخطون ولا يبولون ولا يتغوطون ، بل مُظهَّرون عن ذلك كله ، ويتأذوْن من رائحة الثوم والبصل ومما يتأذى به بنو آدم ، ولا يدخلون بيتا فيه كلب أو صورة أو تماثيل ، وهم عبادٌ مكرمون لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ، فهم مطهَّرون عن الإثم والمعصية وكل عملهم طاعة وعبادة وتسبيح وتقديس لربهم ، وهم من الكثرة ما لا يُحْصِيهم إلا الله تعالى .
أ- في حديث الإسراء " الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ " 6 ، بمعنى في كل قرن قرابة 2600 مليون ملك ، فكيف بملايين القرون إلى يوم القيامة ؟!
ب- روى الترمذي وابن ماجة والبزار من حديث أَبِي ذَرٍّ مرفوعاً " أَطَّتْ السَّمَاءُ وَحَقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلَّا عَلَيْهِ مَلَكٌ سَاجِدٌ "7 .
جـ- روى الطبراني من حديث جابر مرفوعاً ( ما في السماوات السبع موضع قدم ولا شبر ولا كف إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد )8 .
إن زينة السماء الدنيا تبلغ مئات آلاف الملايين من المجرات ، والمجرة بها مئات آلاف الملايين من المجموعات الشمسية ( النجم وتوابعه ) ، والشمس في مجموعتنا الشمسية تعدل مليوناً وثلاثمائة ألف مرة قدر الأرض ، وتبعد عنها حوالي 150 مليون كيلو متر ، ومن النجوم ما يبعد عن الشمس بمليارات السنوات الضوئية ... ، والسنة الضوئية هي المسافة التي يقطعها الشعاع الضوئي في سنة وسُرعة 300 ألف كيلو متر في الثانية .. سبحان الله ...(1/37)
يعنى لا يستطيع الإنسان إحصاء مساحات زينة السماء الدنيا من السعة والضخامة التي هي فوق العقول ، فكيف بمساحة السماء الدنيا نفسها !!؟ وهى في السماء الثانية كحلقة في فلاة والثانية في الثالثة كحلقة في فلاة ... وهكذا إلى السابعة .. فكم تكون هذه المساحات ؟!
وإذا كانت الملائكة فيها على النحو الذي ذُكر ، فكم يكون عدد ملائكة السماوات السبع ؟! ، والذين ينزلون في السحاب ، والذين يكتبون الناس يوم الجمعة ، والذين يتعاقبون ، والذين يؤَمِّنُون على قراءة المُصَلىِّ ، ويقولون ربنا لك الحمد ، ويدعون لمنتظر الصلاة أو المقسمات أمراً ، والمدبرات أمراً ، وكل إنسان معه عدد من الملائكة وغير ذلك كثير ، وبالإجمال لا يمكن لبشر أن يحيط بأعداد الملائكة علماً ( وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ) المدثر ، ولا يحصي نورَهم وطهارتهم وبركتهم إلا القدوس الذي خلقهم ، وإذا كان ذلك من خلقه ومُلْكِه وفِعْلِه ، فكيف بِوصْفه هو سبحانه . والروح جبريل هو الروح الأمين وهو روح القدس ، وهو زعيم الملائكة وأقربهم إلى القدوس عز وجل وهو " ذِي قُوَّةٍ " " شَدِيدِ الْقوي " " عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ " أي له مكانه ووجاهة عنده وعلو منزلة إذْ كان قريباً من ذي العرش (عِندَ ذِي الْعَرْشِ) وهو " ذُو مِرَّةٍ " أي جميل المنظر حسن الصورة ذو جلالة ، فهو من أجمل الخلق وأقواهم وأعظمهم أمانة ومكانة عند الله .(1/38)
عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ في قولة تعالى " وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى" النجم 13 - 14 ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :" رَأَيْتُ جِبْرِيلَ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عَلَيْهِ سِتُّ مِائَةِ جَنَاحٍ يُنْثَرُ مِنْ رِيشِهِ التَّهَاوِيلُ الدُّرُّ وَالْيَاقُوتُ " أحمد 1 / 395 ، 412 / 460 واصل الحديث في الصحيحين، والتَّهَاوِيلُ : الألوان المختلفة وزينة الصور والنقوش والحلي
ومن حديث عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا في الصحيحين قَالَتْ :" مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ ، ولكن قد يأتي جبريل في صورته وخلقه سادا ما بين الأفق وَلَكِنْ قَدْ رَأَى جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ وَخَلْقُهُ سَادٌّ مَا بَيْنَ الْأُفُقِ" وفي هذا المعنى أحاديث وروايات ، وعلى القارئ أن يتأمل فيما دَلَّت عليه النُّصوص من جمال جبريل وجلاله وبهاء منظره وعِظَم خلقه ، قَالَ تعالى (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ ) وقَالَ رسول الله ( " إن روح القدس نفث في روعي ... الحديث "9 . ودعا ( لحسان رضي الله عنه فقَالَ (أَجِبْ عَنِّي اللَّهُمَّ أَيِّدْهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) 10 وقَالَ تعالى ( إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ ) .
وإذا كان القَدْس والقُدس : الطَّهارة العالية المتكررة ، و الثابتة حيث لا تزول كما تقدم في تسمية الدُّرِّ بالقدِسِ ، فإن جبريل هو روح ذلك ، فسبحان رِّبه القدوس ، رب الملائكة والروح .
قداسة الصفات(1/39)
ذَكَرْتُ في المقدمة مثالين على قداسة الصفات ، وهما : الجمال والنور ، وَبَيَّنْتُ هناك أن قداسةَ الصفةِ هو بلوغها من الكمال أكمله ، ومن العلو أعلاه ، وتلك درجة ورتبه لا يَتَصَوَّرهَا مخلوق من علوها ، وما ينبغي له ذلك وما يستطيع ، وأنى له ذلك وهو لا يحيط بالله علماً ، وبالتالي لا يُتَصَوَّر ولا يَرِدُ بالخاطر إمكانيةُ وجود العيب أو النقص ، ومن كان وَصْفه على هذا البيان فهو القدوس . وسأذكر هنا مثلين آخرين لترسيخ المعنى : -
1) الرحمة المخلوقة لا يمكن لمخلوق أن يتصورها بكمالها ، بل لا يستطيع المخلوق أن يتخيل ذلك الجزء الواحد الذي أنزله الله في الدنيا تتراحم به الخلائق - كما سبق بيانه - فكيف بالمائة جزء ، وكيف بالجنة وما فيها ، وكل ذلك رحمة مخلوقة ، فكيف بالرحمة التي هي وصفه عز وجل !! هو الرحمن وهو الذي وسع كل شئ رحمة وعلماً وبيان الكلام على الرحمة مذكور تفصيلاً في شرح اسْميْه "الرحمن الرحيم" والمقصودُ ببيان قداسة رحمة الله تعالى عن تصورها ووجود النقص والعيب فيها.(1/40)
2) العلم من صفات الله عز وجل ، والله تعالى علَّم الإنسان ما لم يعلَمْ ، وأودع في المخلوقات علوماً لا تدخل تحت الحصر ولا التخيل ، وما عليك إلا أن تقوم بإحصاء بسيط لما تم من أبحاث ورسالات ماجستير ودكتوراه وغيرها ، وما يُدَّرس في المداس والجامعات والأكاديميات وغيرها ، وعلوم الطب والهندسة والآلة العسكرية وغزو الفضاء وعلوم البحار والفلك وغير ذلك كثير ، وستعلم حينئذ أنه لا يمكن لمخلوق أن يحيط بذلك ، ثم الاكتشافات اليومية والتطوير المستمر لعلوم الكمبيوتر والاتصالات وغيرها في جميع المجالات ، حتى أصبح من المُسَلَّمات أن علمَ اليوم قليلٌ في علم الغَدِ ، وكل ذلك وإلى يوم القيامة قليل كما قَالَ تعالى ( وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ) فكيف بعلْم الله الذي هو صفةٌ له سُبْحانه ، هو بكل شئ عليم . ووسع كل شئ رحمة وعلماً ، وهو علام الغيوب ، يعلم أسرار القلوب وما سيكون فيها إلى موتها ، لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ . إن أعداد النجوم والكواكب تستعصي على الحصر" فكيف بِذَرَّاتِها وإلكتروناتها إن ذلك في علم الله يسير قَالَ تعالى : (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ) لقمان . فالكمال في علم الله لا يحصيه إلا الله سبحانه وما كان لِمَخْلوق أن يتصور ذلك الكمال أو يَتَخيَّله ، فكيف يَردُ على العقل احتمالُ النَقْصِ فيه !! تقدَّس الله عن ذلك وتعالى علواً كبيراً . ألا ذلك هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ .
قداسة الأسماء(1/41)
قَالَ بن القيم ( صفاته كلها صفات كمال محض ، فهو موصوف من الصفات بأكملها ، وله من الكمال أكمله . وهكذا أسماؤه الدالة على صفاته هي أحسن الأسماء وأكملها ، فليس في الأسماء أحسن منها ولا يقوم غيرها مقامها ، ولا يؤدي معناها ، وتفسير الاسم منها بغيره ليس تفسيرا بمرادف محض بل هو على سبيل التقريب والتفهيم وإذا عرفت هذا فله من كل صفة كمال أحسن اسم وأكمله وأتمه معنى ، وأبعده وأنزهه عن شائبة عيب أو نقص فله من صفة الإدراكات العليم الخبير دون العاقل الفقيه والسميع البصير دون السامع والباصر والناظر.ومن صفات الإحسان البر الرحيم الودود دون الرفيق والشفوق ونحوهما ، وكذلك العلي العظيم دون الرفيع الشريف ، وكذلك الكريم دون السخي ، والخالق البارئ المصور دون الفاعل الصانع المشكل ، والغَفُور العفُوّ دون الصَّفُوح السَّاتر وكذلك سائر أسمائه تعالى يجري على نفسه منها أكملها وأحسنها وما لا يقوم غيره مقامه ، فتأمَّل ذلك ، فأسماؤه ( كلها حسني )أحسن الأسماء كما أن صفاته أكمل الصفات ، فلا عدل عما سمى به نفسه إلى غيره ،كما لا تتجاوز ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله إلى ما وصفه به المُبْطلون والمُعَطِّلون ) ا . هـ . بدائع الفوائد جـ1 صـ167 .(1/42)
إذا كانت صفات الله تعالى على السَّعة والكثرة حيث لا يستطيع الخلق إحْصَاءَها ، وكذلك على الكمال المُقدَّس عن إدراكه أو تصوُّره ، فكيف يمكن التعبير عنها والدلالة عليها بأسماء هي مجرد ألفاظ أو كلمات ؟! إنه لو اجتهد جميع الخلق في وضع أسماء تستوعب ذلك وتدل عليه دلالة كافية . ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً . ولكنَّ الله عز وجل كما أثنى على نفسه ، وسمَّى نفسه بالأسْماء الحْسنى ( أعلاما وأوصافاً ) كما قَالَ تعالى ( وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) 180 الأعراف وقَالَ ( اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى ) 8 طه . والحسنى مؤنث الأحسن ، فمَهْما تَعَقَّل الخلق من حسنها فهي أعلى من ذلك وأحسن ، أي في استيعاب الدلالة على الصفات مع سعتها وكمالها ، وفي حُسْنها في الأسْمَاع والقلوب التي فُطرتْ عليها ، فلن تجد القلوبُ ألذَّ ولا أنْعَم ولا أحْسَن من التعرُّف على الأسْماءَ الحُسْنى وتعلُّمِها تعلُّماً صحيحاً ، كما أن الله لا يُدْعي إلا بها قَالَ تعالى ( قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى .... الآية ) الإسراء . وهى وسيلة مُقَرِّبة إلى الله يُحبُّها ، ويُحبُّ من يُحبُّها ويُحبُّ من يحفظها ويبحث عن معانيها ويتعبد له بها .
أما عن تنوع وجوه الدلالة لتستوعب جميع الصفات وتستغرق جميع معانيها بكمالاتها العالية المتناهية فمنها ما يلي :-(1/43)
1) دلالة الاسم عندما يذكر مفرداً : كالعزيز : حيث يدل على جميع معاني العزة والكمال فيها من عزة النُّدْرَةَ ونَفَاسَة القَدْرِ فلا يُعادِلُه شئ ، ولا مثيل له ولا نظير . وعزة القوة والشدة فهو القوى الشديد . وعزة الامتناع فلا يرام جنابه ولا يغلب أبدا . وعزة الغلبة فهو القهَّار الغالب على أمره .
2) دلالةُ الاسْم عند الاقْتِرَان بغيره حيث تتسع دلالتهُ ليتناول كمالا آخر لم يظهر عند الإفْراد ، فمثلاً : العزيز الرحيم : يدل على العزة ، ويدل على الرحمة في العزة فهي عزة بلا قسوة ، وكذلك يدل على الرحمة وعلى العزة في الرحمة فهي رحمة بلا ذل ، وقس على ذلك في العزيز الحكيم ، والعزيز الغفار ، والعزيز الغفور ، والعزيز العليم ، والعزيز الوهاب والعزيز الحميد والعزيز المقتدر ، وعزيز ذو انتقام ، والعزيز الكريم فتأمل ذلك الإعجاز في الدلالة لهذا الاسم : العزيز : كيف أصبح بهذه الاقترانات دالَّا على أنواع العزة الأربعة وقد دخلت فيها الرحمة والحكمة والمغفرة الكثيرة والجيدة والعلم والْهِبَة والحَمْد والاقْتِدَار ومْلِكية الانتقام ، والكرم . وذلك الأمر يحتاج إلى كتاب كبير ، ولكنها الآن إشارة لبيان قداسة الأسماء ، وأنها في عظمة دلالاتها تفوق التصور بكثير . وهكذا عامة الصَفات المقتربة والأسماء المزدوجة في القرآن .(1/44)
3) أسماء يدل الواحد منها على جملة أوصاف عديدة لا تختص بصفة معينة ، بل هو دال على معناه لا على معنى مفرد كالمجيد والكريم والعظيم والصمد . فإن المجيد من اتصف بصفات متعددة من صفات الكمال ولفظه يدل على هذا فإنه موضوع للسعة والكثرة والزيادة ومنه ( ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ ) صفة للعرش لسعته وعِظَمِه وشرفه . والكريم الذي يجمع صفات الجود والعزة والصفح والجمال ، والعظيم من أتصف بصفات كثيرة من صفات الكمال ، والصَّمد يدل على كل كمالات الله عز وجل وأنه يصمد إليه كل الخلق ، فهو السيد الذي كمل في سؤدده ، والعظيم الذي كمل في عظمته ، والكريم الذي قد كمل في كرمه وهكذا ، واشتقاقه يدل على هذا ، فإنه من الجمع والقَصد ، الذي اجتمعت فيه صفات السؤدد فاجتمع القصد نحوه . والعجب العجاب عند اقتران هذا النوع من الأسماء كما في ( حَمِيدٌ مَّجِيدٌ ) ، ( الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ) ، ( غَنِيٌّ كَرِيمٌ ) ، ( ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ) وذلك مبسوط في مواضعه.
4) من أسماء الله أسماء مزدوجة تجرى الأسماء منها مجرى الاسم الواحد الذي يمتنع فصل بعض حروفه عن بعض ، فهي وإن تعددت ؛ جارية مجرى الاسم الواحد لذلك لم ترد مفردة ولم تطلق عليه إلا مقترنة ، مثل : الخافض الرافع الضآر النافع ، المعطى المانع ، المعز المذل ، لأن الكمال في اقتران كل اسم من هذه بما يقابله لأنه يراد به أنه المنفرد بالربوبية وتدبير الخلق والتصرف فيهم عطاء ومنعاً ونفعاً وضرا وعفوا وانتقاماً .(1/45)
5) اسم الله الواسع إذا قرن في الذهن بأي اسم آخر فقد وسع دلالة ذلك الاسم على صفته ، فهو يخدم جميع الأسماء في ذلك ، فمثلاً : واسع عليم يدل على سعة علم الله ليسع كل شئ ، واسع حكيم ، واسع المغفرة . قَالَ السعدي ( الواسع هو الواسع الصفات والنعوت ومتعلقاتها بحيث لا يحصى أحد ثناء عليه ، بل هو كما أثنى على نفسه ، واسع العظمة والسلطان والملك ، واسع الفضل والسلطان عظيم الجود والكرم ) تيسير الكريم 5 / 305 . فكذلك القدوس والأعلى والعليّ والمتعال ، إذا قرن أحدها في الذهن بأي اسم من أسماء الله فقد دل على علو تلك الصفة وبلوغها أكمل الكمال ، وهذا والله أعلم يفسر سر اقتران القدوس بالملك في الكتاب والسنة كما تقدم ، إذ : الملك يستلزم كل صفات الكمال ، ويأتي في القرآن متبوعاً لا تابعاً ، والمراد هنا بيان قداسة الأسماء في الدلالة على المُسَمَّى وصفاته ، سبحانه الملك القدوس .
قداسة الأقوال والأفعال(1/46)
إن أفعال الله وأقواله أو الخلق والأمر إنما صدرا عن أسمائه الحسنى وصفاته المقدسة كما تقدم بيانه ، وبالتالي فلله القداسة في الخلق والأمر ، يعنى أكمل الكمال في الخلق والأمر ، فلا ترى في الخلق من فطور ولا تفاوت ولا خلل ولا فروج ولا عبث ، ولم يخلق خلقه باطلاً ولا عبثاً ولا سدىً ، ولا تجد شراً أبداً ينسب إلى فعل الله عز وجل ، وإنما ينسب الشر إلي مفعولاته ومخلوقاته ، بل أفعاله كلها حكمه ومصلحه ورحمة وفضل وعدل ، وكذلك أكمل الكمال في الأمر ، فأَمْرهُ كُلُّه حسن لا يخرج عن مصالح العباد والرأفة والرحمة بهم والإحسان إليهم بتكميلهم بما أمرهم به ونهاهم عنه ، فلا تجد فيه باطلاً ولا ظلماً ولا حرجاً ولا إعناتاً ولا قَسْوةً ، وَإنَّما يكون الخلل واقعاً فيما يفعله العبد ويأمر به ، إما لجهله به المنافي لعلمه ، وإما لسفهه المنافي لحكمته ، وحاجته المنافية لغناه أو لنقصه وعيبه ، وأما الرب تعالى فهو العليم الحكيم ، الغنى الحميد ، أفعاله وأقواله مقدسة لأنها كلها عن كمالِهِ المقدَّس ، ولو اجتمع علماء بنى آدم في الدنيا والدين من عهد آدم وإلى يوم القيامة ليكتبوا ما علموه من ذلك فكتبوا ما لا يحصى من الكتب ، فوالله لن يكون ذلك إلا مجرد جزئيات سطحية بالنسبة إلى ما في أفعال الله وأقواله من أدلة القداسة قَالَ تعالى ( وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) 27 لقمان ولكن حسبنا بعض الإشارات كما يلي :-
أولاً : قداسة الأفعال ( الخير بيده والشر ليس إليه )(1/47)
خلق الله السماوات والأرض وما بينهما بالحق ولم يخلق ذلك باطلاً ولا عبثاً ولا لعباً ، بل خلقه خلقاً صادراً عن الحق آيلاً إلى الحق مشتملاً على الحق ، فالحق لخلقها مُقَارنٌ له غايةٌ له ، ولهذا أُتى بالباء الدالَّة على هذا المعنى دون اللام المفيدة لمعنى الغاية وحدها ، فالباء مُفِيدَةْ معنى اشتمال خَلقِها على الحق السَّابق والمقارنة والغاية.
فالحق السَّابق :- صُدُور ذلك عن عِلمه وحكمته ، فصدّرَ خلقُه تعالى وأمرُهُ عن كمال عِلمِه وحكمته ، وبكمال هاتين الصفتين يكون المفعول الصادر عن الموصوف بهما حكمةً كلُّه وَمصْلَحة وحقاً . لقد قَالَت الملائكة لامرأة إبراهيم حين قَالَت ( أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ ) قَالُوا ( كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ) وهذا راجع إلى قوله وخلقه ، وهو خَلْقُه الولد لها على الكِبَر . وأما مقارنة الحق لهذه المخلوقات فهو ما اشتملت من الحكم والمصالح والمنافع والآيات الدالة للعباد على الله ووحدانيته وصفاته وكمالاته وصدق رُسُلِه ، وأَن لقاءَه حق لا ريب فيه ، وهذه طريقة القرآن في إرشاد الخلق إلى الاستدلال بأصناف المخلوقات وأَحْوَالها على إثبات الكمالات والتوحيد والنبوات والمعاد ، والآيات القرآنية في ذلك لا تكاد تخلو منها صفحة من صفحات المصحف .(1/48)
وأما الحق الذي هو غاية خلقها فهو غاية تراد من العباد ، وغاية تراد بهم . فالتي تراد منهم : أن يعرفوا الله تعالى وصفاتِ كماله عز وجل ، وأن يعبدوهُ لا يشركوا به شيئاً . قَالَ تعالى ( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ) . ومعرفة كمال القدرة . وإحاطة العلم يستلزم معرفته ومعرفة أسمائه وصفاته وتوحيده . قَالَ تعالى (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) فهذه الغاية هي المراده من العباد ، وهى أن يعرفوا رَبَهم ويعبدوه وحده . وأما الغاية المراده بهم فهي الجزاء بالعدل والفضل والثواب والعقاب كقوله تعالى ( وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ) وكقوله تعالى ( إِنَّ السَّاعَةَ أَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ) والمقصود بيان أن الله تعالى لا يفعل شيئاً إلا على مقتضى العلم الكامل والحكمة الكاملة ، وعندما ينتهي الفصل بين العباد ، وسَوْق الكافرين إلى جهنم ، وسَوْق المتقين إلى الجنة ، تقول جميع الخلائق : الحمد الله رب العالمين ، حيث لم يجدوا على الله سبيلاً ولو بمثقَالَ ذرة من ظلم أو خطأ ، وذلك لأن أفعال الله تعالى مقدسة ، وهو الذي أتقن كل شئ ، وأحسن كل شئ خلقه . فالإحكام والإتقان إنما هما على قداسة العلم والحكمة ، فكيف يُتَصوَّر العَيْب والنَّقْص في خلقِ الله وفِعْله .(1/49)
قَالَ تعالى ( الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ) الملك . الله تعالى يعلم أنه خَلَقَ فَسَوَّى ، وقَدَّرَ فَهَدَى، والتَّفَاوُتُ يَتَنَافي مع التَّسْون ، فإذا إنْعَدم التفاوت فقد أنْعَدَمت الشُّقوق والخُروق ، ومن ثمَ يَحُثُّ الله تعالى بني آدم على النظر المتكرر الفاحِصِ مَّرة بعد مرة ، ويْوماً بعد يوم ، وشهراً بعد شهر ، ودهراً بعد دهر ، مع الاجتهاد والحرص البالغ واستعمال جميع الأسباب عَلَّهم يجدون خللاً أو عيباً ، وأنبأهم الله عز وجل بالنتيجة مقدماً : أنَّ البصرَ سينقلب إلى صاحبة ذليلاً صاغراً وقد ظهر إعياؤه وكلالته وعْجزة ويأْسه الكامل أن يجد مثقَالَ ذرة من خلل ، إذ كيف يجد الخلل في الأفعال المقدسة ؟ التي صدرت عن الأسماء والصفات المقدسة !!! قَالَ تعالى ( أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ .. الآية ) ق . أما أن نذكر الآن في هذا الموضع أمثله من الفلك ومواقعِ النجُّوم ، والنجومِ الخُنَّس والأعداد بالأحجام وبالسُّرْعات وكلٌ في فلكٍ يسبحون ، فهذا لا يمكن ، وكذلك عن الأمثلة الطِّبِّيِّة في الأنفس والنَّباتيَّة والكيميائية والذّرية إلي مليارات الأنواع من المخلوقات فهذا مستحيل ، ولكن يرجع إليه في مراجعه وهى كثيرة والحمد الله 11 . وكذلك الأمر في أفعال الله تعالى وأقداره وآياته في البشر وغيرهم . لكن يجب الإجابة على السؤالين الآتيتين بعدُ حتى تزال الشُّبْهة وهما :-(1/50)
س1 / كيف تتفق قداسةُ الأفعال مع وجود الشرور الكثيرة المتنوعة في المخلوقات والتي علَّمنا الله الاستعاذة به منها في سورتيّ الفلق والناس في قوله تعالى (مِن شَرِّ مَا خَلَقَ) (وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ) ، (مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ .. الآيات ) وشر ما خلق هو الشر العام الذي يدخل فيه جميع الشرور التي تخطر بالبال من الشيطان والهَامَّة والعَيْن اللَّامَّة ، والسَّرقة والظُّلم والبَغْي والقتل والسباع المفترسة والفيروسات والأمراض وآلامها ، والحوادث والبراكين والانهيارات الأرضية والحرائق والقحْطِ والحُرُوبِ والآم الأطفالِ والحيوانِ بغير ذنب .. إلخ ، فأين قداسة الأفعال من ذلك !؟(1/51)
الإجابة : كل هذه الشرور إنما هي في مفعولات الله وليست في أفعاله ، تعالى عن ذلك وتقدس ، إذ الفعل غير المفعول ، والقضاء غير المقضيّ ، فمثلاً قَالَ تعالى (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ) فالتَّسْيير فعلُ الله وذلك خيرٌ كله ، والسَّيْر فعل الإنسان وذلك فيه الخير وفيه الشر . وقَالَ (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ)الأعراف . فالصَّرف فعل الله وهو خيرٌ كله لأنه عدل مع الذين يتكبرون بغير الحق ، والانْصِراَف فعل المنصرفين وذلك شر لأنه معصية للإله المستحق للعبادة والطاعة . وقَالَ ( يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ ) إبراهيم فالتثبيت فعل الله والثبات فعل المؤمنين وإضلال الظالمين فعل الله وهو عدل ، والضلال فعل الظالمين وهو شر ، وهكذا ، ففعل الله وقضاءه وخلقُه وتكوينه مُتَّصِلٌ به عز وجل ، يريد من نفسه أن يفعل أو أن يخلق ويقضى فيقول كن فيكون المخلوق المفعول الذي قد يصدر منه شرور قليلة أو كثيرة ، فمثلاً إبليس مَفْعُول الله مخلوق له ، وأي شر يصدر منه إنما هو شرٌ منفصل عن الله تعالى ، شر في مخلوقِهِ ومْفعُولِهِ ، أما فعل الله المتصل به سبحانه في أن أراد خَلْق إبليس وجَعْلَه في الأرض فِتْنةً للناس وعَدُوّاً لهم إلى حين ، فذلك الفعل خيرٌ كله ليس فيه شر بوجه من الوجوه ، إذ كل أفعاله تعالى تصدر عن الأسماء الحسنى والصفات المقدسة عن صدور شر عنها . لكن يرد السؤال الثاني الآتي بعدُ عن حكمة الله في خلق إبليس مع أنه سبب الفساد والشر ، وسيأتي بيانه ، ونفس الشيء يقَال عن فعل الله في خلق الهوامَّ السَّامة القاتلة والمؤذية والمُخيفة ، والشرور الكثيرة الصادرة عنها وهكذا يقَال عن كل مصادر الشر من المخلوقات ، والله تعالى هو خالق كل شئ ،(1/52)
فهو خالق الخير والشر ، وهو سبحانه يَبْلُو عبادهُ بالشر والخير فتنةً ثم الرجعى إليه للحساب يوم الدين ، وهو سبحانه يَكْرهُ الشَّر ويَبْغَضُهُ ، ولا يأمره به ولا يُرِيده شرعاً ، وإنما خَلقَهُ وَأَرَادَه قَدَراً لما في ذلك من الحِكَم البالغات التي لا يدركها على تمامها إلا هو سبحانه ، ولما فيه من المصالح والخير الذي لا يكون بدونه ( أي بدون ذلك الشر ) كما أن الولد لا يَكُون بدون الوطْءِ والإنْجاب ، وسيأتي ذكر شئ من الحكمة بعد قليل ، كما يقول ابن القيم: الشر مسند في الآية إلي المخلوق المفعول لا إلى خلق الرب تعالى الذي هو فعله وتكوينه فإنه لا شر فيه بوجه ما ، فإن الشر لا يدخل في شئ من صفاته ، ولا في أفعاله ،كما لا يلحق ذاته تبارك وتعالى ، بل أفعاله كلها خيرات محضة لا شر فيها ، ولو فعل الشر سبحانه لاشتق له منه أسم ، ولم تكن أسماؤه كلها حسنى ، ولَعَاَد إليه منه حُكْمٌ ، تعالى وتقدس عن ذلك ، وما يفعله من العدل بعباده وعقوبة من يستحق العقوبةَ منهم فهُوُ خَيْرٌ محض ، إذ هو محض العدل والحكمة ، وإنما يكون شراً للمعاقَبين وهو أمر نِسْبِىّ إضافي : فهو خير من جهة تعلُّق فعل الَّربِ وتكْوِينه به ، وشر من جهة نسبته إلى من هو شر في حقه ، فله وجهان : من أحدهما خير ، وهو الوجه الذي نُسب منه إلى الخالق سبحانه وتعالى خلقاً وتكويناً ومشيئة : لما فيه من الحكمة البالغة التي استأثر بعلمها ، وأطلع من شاء من خلقه على ما شاء منها ، وأكثر الناس تضيق عقولهم عن مبادئ معرفتها فضلاً عن حقيقتها ، فيكفيهم الإيمانُ المجمل بأن الله سبحانه هو الغني الحميد ، وفاعل الشر لا يفعله لحاجته المُنَافِية لِغِنَاه ، أو لنْقص حَمْده ، فيستحيل صدور الشر من الغني الحميد فعلاً ، وإن كان هو الخالق للخير والشر كما هو معلوم ، وخذ مثالاً على ذلك:- قطع يد السارق شر بالنسبة إليه ، وخير محض بالنسبة إلى عموم الناس لما فيه من حفظ(1/53)
أموالهم ودفع الضرر عنهم ، وخير بالنسبة إلى متولي القطع أمراً وحكماً لما في ذلك من الإحْسان إلى عبيده عموماً بإتلاف هذا العضو المؤذي لهم المضر بهم ، فهو محمودٌ على حُكْمِه بذلك وأَمْرِهِ به ، مشكورٌ عليه يستحقُّ عليه الحمدَ من عبادهِ والثناءَ عليه والمحبة . ( أ. هـ بتصرف ) أنظر بدائع الفوائد جـ 2 صـ210 .
س2 / إذا كان الشر في مفعولات الله ومخلُوقَاتِه وليس في أَفعاله ، فلا يزال السؤال قائماً لماذا خَلَق الله مخلوقاتٍ يَصْدُرُ منها الشر وهو يَعْلَم ، ألم يكن الأولى أن يُبْقيها على عدمها فيتمحض الخير في الأرض وينعدم الكفُر والشركُ والفَسَاد وسفكُ الدماءِ والظلمُ بأنواعه ، وتنعدم الآلام وصَرْخات التألمُّ والاسْتِغَاثة ، لا سيما من كل طفل برئ بلا ذنب جناه ، ومن كل بائس جائع فقير ، ومن كل مريض ، ومن ضحايا الحروب المُدَمِّرة .
ومن كل فريسةٍ ضَعِيفَةٍ يَفْتَرِسُها سَبُع متوحِّش ، ومن كل بهيمة تَئِن من حادث أو مرض وغير ذلك مما لا يدخل تحت الحصر ، بل أولى من ذلك أن تكون هذه الدنيا جنةً كلها والله على كل شئ قدير ، فما الحكمة في العدول عن هذا إلي الواقع المؤلم بشرورهِ الذي يعيشه كثير من الأحياء من الناس وغيرهم ؟
الإجابة : (1) هذه الأسئلة غالباً ما تكون من إنسانٍ ظَلُومٍ جَهول ، ظلوم لنفسه وفي أحكَامِه ورأيه ، جهولٍ بِربِّه ، لا يعرف قداسَتهَ سبحانه في عِلِمه وحكْمته المقدَّسةِ ، جهولٍ بنفسه لا يعرفها بعجزها وقُصُورِها وحقارتها ، فيجعل من رأيه الفاسد الكاسد حكماً على أقدار ربه يقول هذا لا يصلح وذاك لا ينبغي ، بل ينبغي كذا وكذا ، مع أنه لو تأمل في أيسر قدر يعرفه من حِكْمته الله في مخلوقاته لهداه ذلك إلى التَّسْليم لله فيما لا يعرفه .(1/54)
2) يحلم أصحاب هذه التساؤلات بجنة في الدنيا ، ونَسَوَا أن يعترضوا على الموت ، لِم يكْتُبُ الله الموتَ على الناسِ والأحياء !! فالموت مصيبةٌ كبيرةٌ واللآم وأحزان ( لكنهم لا يعترضون على أكل لحم الحيوان والطير والسمك ، ففي ذلك لذات لهم ، فلا يهم إيلام المخلوقات حينئذ ) يريدونها جَنَّة بلا آلام ولا أَنْكَاد ولا أَحْزان ولا غم ولا هم ولا نصب ولا وصب ولا نوم ولا موت ولا أمراض ولا أبتلاءات ولا ظلم ولا شر ولا سوء في القول .. إلى أخر ما يمكن تَمَنِّيه .(1/55)
إن الجنة في الآخرة حق ، وفيها من النعيم وانعدام الشر ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، وخلود بلا موت ، فماذا يقْتَرِحُون على الله بعد ذلك ؟! إنهم يريدون أن تكون هذه الجنة في الدنيا بلا ابتلاء ولا امتحان ولا دين ولا رسالات ولا عبوديات ولا حقوق لله ولا حساب ، فهم يريدون سِلْعة الله بغير شئ يُقَدِّمُونه - وكل ذلك من ظلمهم وجهلهم ، وبيان ذلك :- ( 3 ) الكون كله آثار ومقتضيات وأحكام لأسماء الله تعالى وصفاتِه وإنما خُلِقَ الكَوْنُ وبُنِىَ على هذا الأصل وهذه الغاية ( بالحق وللحق كما تقدم بيانه ) ، أي ليكون مظهراً لأسماءِ الله تعالى وصفاتهِ ، لا ليكون تبعاً لأهواء الظالمين الجاهلين وقَالَ تعالى ( وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ) وتبعاً لذلك الأصل الأصيل في خلق السماوات والأرض وما بينهما ، وخلق اللهُ الجن والأنس ليعبدوه فُيْدخلَهم بذلك جنات النعيم ، وتلك العبوديات متنوعة بتنوع دعاء الله بأسمائه الحسنى ، فقدر الله الخَلْقَ والأَمْر - على هذا النَّحوِ الوَاقِع بالسنة الربَّانية التي لا تَتَبدَّل ولا تَتَحوّل إلى يوم القيامة . بما يستخرج به تلك العبوديات المتنوعة من أتباع الرسل ، ومن أبى فقد ظلم نَفْسَه وخَسِرهَا في جهنَّم التي هي أشد شَرَّاً له كما قَالَ تعالى ( يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) الحج ، فالنار في حق أصحابها شر مَا بَعْدهُ شر ، وأما في حق الله خلقاً وتقديراً فهي مَظْهَرُ عدلِه ، وهى الجزاء الوفاق ( والعدل كله خير ) . نعود إلى العبوديات المتنوعة كالجهاد وما يتبعه من الحب والبغض والموالاة والمعاداة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والصبر على الأذى ، والاستغفار(1/56)
والتوبة والاستعاذة والهجرة والصبر عن المعصية وعلى الطاعة وعلى البلاء ، وغير ذلك فكيف تكون هذه العبوديات بدون سُنَّة اللهِ عَزَّ وجل في المواجهة بين الحق والباطل الحق بقيادة الرسل والباطل بقيادة إبليس وأعْوانِه من شياطين الجن والأنس ؟!
قَالَ تعالى ( قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ) الأعراف . فخلق إبليس هو السبب الرئيسي الذي قدرة الله تعالى ، لاستخراج مثل هذه العبوديات ، فأين حكمتكم أيها الظَّلَمة الجَهَلَة من حِكْمة الله عز وجل ؟ وحكمتكم هذه ( إن كان لكم حِكْمة ) إنما هي مخلوقَةٌ مَفْعُولَةٌ لله ، ولا تعدل مثقَالَ ذرة في حِكْمة الله عز وجل المخلوقة في السماوات والأرض ، فكيف تجرأتم بالاعتراض على الحكيم الذي له الحكمة وصفاً وملكاً، وقد تبين لجميع العقلاء إن هذه الحِكْمة المخلوقة الموزَّعَة في أجزاء الكَوْن لا تدخل تحت إحصاءه بحال ، والاكتشافات المستمرة والمعارف الحديثة تؤكد ذلك لكل من له مسكه من عقل .
4) من أسمائه تعالى : الغَفَّار التَوَّاب العفوّ الحليم ( الصبور ) ، وظهور هذه الأسماء مستلزم للذنوب والمعاصي ، ولا يكون ذلك بدون عدو الله إبليس وجنوده ، فَلِمَنْ يَغْفِر اللهْ !! ، وعلى من يتوب ويحلم ويصبر ويعفو إذا إنعدمت الذنوب من الجن والأنس ؟ روى مسلم من حديث هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :" وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ " وهذا أصل ينبغي أن يعرفه الصغير قبل الكبير .(1/57)
5) أيضاً من أسمائه تعالى : القهار المعز المذل ، الضآر النافع ، الخافض الرافع ، النصير العدل ، عزيز ذو انتقام . ومن صفاته أن بطشه شديد ، وأنه لا يعذب عذابه أحد ، ولا يُوثق وثاقه أحد . فَبِمَنْ وفِيمَنْ يكون ذلك إلا بأعدائِه وأعداءِ رِسلهِ !! ، ولا يكون ذلك في حكمةِ الله إلا بخلق عَدُوِّ الله إبليس وما يترتب عليه من شرور تتضاءل أمام تلك المصالح .
6) ومن أثار قدرته وحكمته خلق المتقابلات من الخير والشر ، والقوة والضعف ، وجعل الظلمات والنور ، وخلق جبريل عليه السلام والملائكة وإبليس والشياطين ، والسلامة العافية ، والجن والإنس والصحة والمرض ، والذكر والأنثى وأصحاب النار وأصحاب الجنة وغير ذلك كثير .
7) أما عن إيلام الأطفال بغير ذنب ، وكذلك الحيوانات في الأمراض والحوادث والافتراس والذبح وغير ذلك ، فمثل هذه المعارضات لم تكن لتخطر ببال هؤلاء إلا لكثرة ما يرون من النعم والعافية وأنها هي الأصل ، فطمعوا أن تكون جنة بلا غُصَّة .
وسأجعل إجابتي في نقاط مركزة خشية الإطالة التي لا يتحملها هذا الموضع :-
(أ) أما رحمتكم وشفقتكم المزعومة ، فإن كانت حقيقة ( وما هي إلا نتيجة للظلم والجهل ) فإنما خلقها وجعلها في قلوبكم الخالق سبحانه ولقد علمتم أنها لا نسبة لها في جزء الرحمة الذي أنزله الله إلى الأرض تتراحم به الخلائق وهو جزء من مائة جزء في الرحمة المخلوقة ، فكيف برحمة الله وصفاً ؟! فعلى من تَعْتَرِضُون !!قَالَ تعالى (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ ) يس .
(ب) ما قيل في الرحمة يقال أيضاً في الحِكْمة كما تقدم ، فلا وجه للمُعَارضةِ بمثل هذه الأسئلة إلاَّ أن يكون كفرا بواحاً أو يكون استفساراً عن وُجُوهِ الحكمة ، وعلى ذلك نُجيب بهذه الإجابة .(1/58)
( جـ ) الآلام تدفع الإنسان إلى الفرار إلى الله والتوبة والرجوع إليه خشية زيادتها في الدنيا ووقعها في الآخرة ، وكيف يخاف الإنسان عذاب ربِّه ، وكيف يستَقْبل تَخو يف الله له ، إذا لم يكن قد ذاق وعرف الألم ؟! قَالَ تعالى (لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ) الزمر . وقَالَ (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ) هود . وقَالَ (هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ * فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) الرحمن . فجهنم حَقٌ وعدلٌ وهو خير فهو من الآلام ، والتخويف بها رحمةٌ من اللهِ حتى يَبْتَعِد عنها المؤمن . فكيف لو كان المخاطبون لا يَعْرفُونَ شيئاً عن الألم ؟ بل كيف يحمى الإنسانُ نفسَهُ ويَحفظُها إذَا لم يشعر بالألم !؟ إن الألم الذي يصدر من أي عضو من أعضاء الجسم إنما هو صَيْحةُ استغاثةٍ للإنقاذ والعلاج ، وذلك من رحمة الله وحكْمَتِهِ ، إن المريض بالقدم السكرية مثلاً لا تَشعر قَدَمُه بالإبرة تغوص فيها ، وقد تكون مُسَمَّمَةً أَوْ مُلَوَّثهً فتتَسبب في بتر القدم وأكثر ، إن الشعور بالألم جزء لا يتجزأ من الخَلْقِ والرِّعَاية والحفظِ لجميع الأحياء في البر والبحر والجو . فلا حول ولا قوةَ إلا بالله العليّ العظيم . اللهم إنا نبرأ إليك من الضلال .(1/59)
(د) من سُنَنِ الله التي لا تتبدل ولا تتغير . أنه لن يَنْجوَ من الآلام مخلوق ؛ إنسان أو حيوان ، جنٌّ أو هوامّ ، صغير أو كبير ، عظيم أو حقير ، مؤمن أو كافر ، طائع أو عاصي ، سليم أو مريض ، آَكَلَهُ اللَّحْم أو آكله العُشْب ، أحياء الماء أو أحياء البر ، وهكذا ، وتنتهي الآم الدنيا وعافيتُها بسكرات الموت ، والسَّكْرة الواحدةُ تعْدِل أَلْفَ ضربةٍ بالسَّيْف مجتمعه ، وبعد ذلك ما يحدث في القبر وضمتِه التي لو نجا منها أحد لنجا سعد بن معاذ الذي أهتز العرش لموته فرحاً بقدومه ، وبعد ذلك أهوال ومشاهدُ القيامةِ وما يحدث من رعب عند تطاير الصحف والميزان والصراط ، وفي النهاية يستقر الكافر في النار هي أمه ومأواه ومثواه ، ويستقر المؤمن في الجنة ونعيمها المقيم وقَالَ تعالى (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ) وقَالَ (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) فالآلام لا ينجو منها مخلوقٌ حَيٌّ على المرض وإن اختلفت في حِدَّتها ومُدَّتِها وأسْبَابِها . وأنْواعها وزَمَانِها بِحَسب الأَحْوَال ، وما من ألمٍ يُصِيُبُ الجنَّ والأنسْ والحيوانَ إلا وهو مكتوب عند الله ومُقَدَّر ، فَمِنْ هذه الآلام ما يَكْفِر السَّيئَات ومنها ما يُخَفَّفُ به من السَّكرات ومنها ما يُخَفَّف به الحساب ، ومنها ما تُرفَعُ بها الدرجات ، وهكذا ، فالمْقُصود هنا الآم الأطفال ، فلو أنَّ الطَّفْل مات قبل البلوغ ، فهو في رحمةِ اللهِ بإذنه مع الولدان المخلدين ، فأين هذه الآلام المُنْقَطِعةُ من ذلك النعيم المقيم ؟!! علاوة على ما تَنَعَّمَ به الطَّفْل في دنياه من مأكلٍ ومشربٍ ومَلْبسٍ ولعبٍ وغيرهِ كَإنَسانٍ فُضِّلَ على كثير من خَلْقِ اللهِ تفضيلاً .(1/60)
أما إذا بلغ سِنَّ البلوغ وصار مُكلَّفاً ، فإن الآم طُفولتهِ قد تكون سبباً في التخفيف عليه حينئذ ، أو في هدايته أو في تخفيف السكرات أو في صَقِلْ رُجُولَته ونُضُوجِهِ وسَبْقِهِ لإقْراَنه وما شابه ، مما لا يعلمهُ إلا الله ، ولله في خلقهِ شئون علاوةً على ما يكون في حَقِّ الوالدين مثلاً من الابتلاء بِمَرضِ الوَلَد وتوجُّعه .
(هـ ) من الذي يجزم بأن الآم الأطفال كآلام الكبار !؟ بل ألام الأطفال أقل بكثير من مثيلها في الكبار ، وذلك أَمْرٌ معلوم بِالمُشَاهدة ، والرحمن تعالى يجعل من رَحْمتِه مع الأطْفَال ما لا يَجْعَلُها مَع الكبار ، فالطفل يسقط من سريرة على الأرض ، ويرتطم في جَرْيِهِ بالحائط وغيرهِ ، بل يسقط بعضهم من ارتفاع خمسه أمتار ، ومع ذلك لا نجد شيئاً قد حدث إلا بعضَ الخَوْفِ والصِّياح والبكاء ثم ينتهي الأمر . ومن المعلوم أنه لا نِسْبةَ للأطفال المرضى في المعافِين ، فإذا وجَدْتَ طفلاً يَبْكى من الأَلم ، فإنك تجد بجواره مئات يضحكون ويلعبون .
(و ) لقد كانت الآم الأطفال سبباً في تطور المعلومات الطيبة باستمرار ، وأُنْشِئت الأقسام والتخصصات والمستشفيات الخاصة بطب الأطفال ، والأبحاث التي لا تتوقف ، وظهرت من آيات الله في خلق الإنسان ما لم تكن لتظْهَرَ بدون ذلك ، وكذلك في الأغذية والأدْوِية وغيرها ويسأل في ذلك أساتذة طِبِّ الأَطْفَال لِتُعْرَفَ الحقائق .(1/61)
(ز) لقد قتل الخَضِر عليه السلام غلاماً بلا مقدماتٍ يعرفها موسى عليه السلام بل لم يُحِطْ بها خُبْرا ، فأنكره بشدة قائلاً ( أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا ) ثم تَبَيَّنَتْ حِكْمةُ اللهِ وظَهَر أَنهَّا رَحْمةٌ بالغة بالغلام وأَبَويْه المؤمنين الطِّيبين ، إذ الغلام جاءه أجله في ساعته المحددة بإذن ربِّه ، وبذلك يدخل الجنة برحمة الله ، ولو عاش لأفسد في الأرض ولأرْهَق أبويه طغياناً وكفراً ويكون مصيرهُ النار ، ولكن برحمة الله فَقَبضهُ قبل بلوغ سن المحاسبة ، والأبوان سَلَّمهما الله من بوائق ولدهما ، وأبدلهما خيراً منه زكاة وأقرب رُحما ، ونفس الأمر في خرق السفينة وإقامة الجدار ، حيث ظاهر الأمر شر وحقيقته رحمة وحكمه بالغة ، ولكن الإنسان ظلوم جهول .
(ح ) أما عن الحيوان فنقول للمعترضين ( لا للمستفسرين ) أكنتم حيوانات حتى تشعروا بالآم الحيوان ؟! وسأذكر لكم شيْئين فقط يكفيان كل من له أدنى مِسْكَه من عقل :-
(1) إن الله تعالى وتقدس يبعث الشاه الجَلحَاء لتقتص من القرناء التي نطحتها في الدنيا ، ثم يقول لها كوني تراباً 12 ، فعندها يقول الكافر يا ليتني كنت تراباً ، والرسول ( يضحك تعجباً من عدل الله عز وجل . إذا كانت هذه النطحة اليسيرة ترتب عليها ما ذُكِر ، فكيف بما فوق ذلك من الآم الأمراض والحوادث ، أذلك يمر بغير تقدير وحساب !! ومع ذلك فهو سبحانه أعلم بما خلق ، وارحم بِخَلِقِهِ من جميع البشر.(1/62)
(2) عندما يذبح الحيوان تُقْطع العروقُ الموصلةُ للدماء إلى المخ والمخيخ ، فَيُصْدرُ المخ أوامرهُ السريعةَ جداً عبر الجهاز العصبي بالنخاع الشوكي إلى عضلات الجسم لتنقبض وتنبسط بشده وبسرعة تضح الدماء إلى المخ والإغاثة ، فيظهر التَّرْفِيسُ الشديد من الحيوان وَيَنْدفع الدم بغزارةٍ بعيداً عن جسم الذَّبيحة ، لأن بقاءه ( مع الَّلحم ) مفسدةٌ عظيمةٌ يعرفها الأطباء ، فيظن الجاهل أن لذلك الترفيس تعبيراً عن أشد الآلام بالحيوان ( المسكين ! ) ، فيعترض على شرع الله في الذبح ، ويجعل من نفسه نِدَّاً لله في رحمته وحِكْمتِه قائلاً: أليست هذه وحشيةً وبربريةً !! مع أن الذَّبِيحةَ لا تشعر بأي ألم بعد قطع العروق بقليل حيث ينقطع الدم عن المخيخ وتصاب الذبيحه بالإغماء . ونفس الشيء يحدث عند الافتراس ، لأن الله عز وجل خلق فسوى وقدر فهدى ، فنجد السَّبُعَ قد أمسك بالفريسة على العروق الحاملة للدَّمَاء إلى المخ والمخيخ ثم يضغط عليها بفكَّيْه بقوة لِيُحْكِم الخَنْقةَ ، وبذلك لا تصل الدماء للمخ والمخيخ فتصاب الفريسة بالإغماء فلا تشعر بأي الآم وتقوم بعملية الترفيس الشديدة التي سبق بيانها ولا علاقة لها بالآلام ومع هذا فالوحوش تحشر إلى ربها عز وجل قَالَ تعالى ( وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ) فيا ويله إذا قتل فريسته من غير مَقتلها هذا ، أو عذّبها قبل قتلها فسبحان الله العظيم الحكيم في حلمه وصَبْره على الأذى يَسمعُه ...(1/63)
ومن أراد التوسع في تنزيه القضاء الإلهي عن الشر فلينظر كتاب شفاء العليل لابن القيم وليصبر على الإطَّلاع ليكون على يقين مِنْ قَدَاسِة أَفْعَال الله ، وأن الشر ليس إليه كما أخبر رسولهُ ( بذلك ، ومَا ذَكَرْتُه هنا مجردُ إشاراتٍ سريعةٍ لأن المقام لا يناسب الإطَالَة . أمَّا عن بيان حكم الله في مخلوقاته فقد صَنَّف ابن القيم أيضاً كتاباً كبيراً في ذلك وهو الجزء الأول من كتاب مفتاح دار السعادة ، ولكن في زماننا هذا لا تكفي آلاف الكتب لبيان ما ظهر من الحكمة في شتى مجالات المعارف الحديثة .
قداسة الأقوال
كما تقدم : العليم الحكيم لا يَصُدُر عنه إلاَّ الأفعالُ المقدسةُ والأقوال المقدَّسةُ ، أي على أكمل الكمال . ومن ثم فأفعاله وأقواله مطهرَّة تماماً من أي عيب أو خلل ، فهو الحق وقوله الحق ، ووعده الحق ، ورسالاته الحق ، والساعة حق ، قَالَ تعالى ( قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ ) ص ، وقَالَ (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ .. الآية ) الأنعام 73 ، وكذلك كلماته عز وجل لا تَنفذ ، كما قَالَ ( وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) لقمان وكلماته في رسالاته وشرائعه صدق وعدل كما قَالَ ( وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً ) صدقاً في الخبر لا تزيد ولا تنقص ، عدلاً في الأمر أيضاً لا تزيد ولا تنقص .(1/64)
لا تزيد عن الوسع كما قَالَ تعالى (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ) ( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) الحج ولا تنقص عن حاجة الإنسان والأرض للصلاح والفلاح دنيا وآخره . وأيْضاً القرآن كلام اللهَ تعالى فهو مُقَدَّس عن الباطل وأن يأتي مخلوق بمثله قَالَ تعالى ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) 41، 42 فصلت ، وقَالَ ( أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا ) النساء ، وقَالَ ( وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) والقرآن حكيم وكريم ومجيد وعزيز وعلىّ حكيم وعظيم ، والآيات في هذه المعاني كثيرة . أما عن الكلام عن عظمة القرآن وهيمنته ووجوه الإعجاز فيه ، محاسن شريعته ، ومناحِي القداسة فيه ، وكذلك السنة المطهَّرة التي هي الحِكمةُ . فلن يستطيعَ جميع أئمة المسلمين وعلمائهم تَوْفيةَ ذلك حَّقه إلا بما يكفي من البيان ، وهذا ابن القيم لما أراد أن يكتب عن محاسن الشريعة في كتاب مفتاح دار السعادة قَالَ ( ثمُ رأَيْنا أن نُتْبِعه فصلا في دلالةِ دينه وشرعه على وحدانيِته وعلْمِهِ وحكْمتِه ورحْمَتِه وسائر صفات كماله ، إذ هذا من أشرف العلوم التي يكتسبها العبد في هذه الدار ويدخل بها إلى الدار الآخرة وقد كان الأولى بنا الإمساك عن ذلك لان ما يصفه الواصفون منه وتنتهي إليه علومهم هو كما يدخل الرجل إصبعه في اليَمِّ ثم ينزعها ، فهو يصف البحر بما يعلق على إصبعه من البلل ، وأين ذلك من البحر ، فيظن السامع أن تلك الصَّفَة أحاطت بالبحر وإنما(1/65)
هي صِفةُ ما علق بالإصبع منه وإلا فالأمر أجل وأعظم وأوسع من أن تحيط عقول البشر بأدنى جزء منه ، وماذا عسى أن يصف به الناظر إلى قرص الشمس من ضوئها وقدرها وحسنها وعجائب صنع الله فيها ، ولكن قد رضى الله من عباده بالثناء عليه وذكر آلائه وأسمائه وصفاته وحكمته وجلاله ، مع انه لا يحصى ثناء عليه أبداً ، بل هو كما أثنى على نفسه ، فلا يبلغ مخلوق ثَنَاءً عليه تبارك وتعالى ولا وصفَ كتابِه ودينه بما ينبغي له ، بل لا يبلغ أحدٌ من الأمَّةِ ثناء على رسوله كما هو أهل أن يثني عليه بل هو فوق ما يثنون به عليه ومع هذا أن الله تعالى يُحِبُّ أن يحمد ويثني عليه وعلى كتابه ودينه ورسوله ، فهذه مقدمةُ اعتذار بين يدي القصور والتَّقصير من راكب هذا البحر الأعظم والله عليم بمقاصد العباد ونياتهم ، وهو أولى بالعذر والتجاوز ) أ . هـ 341 مفتاح دار السعادة في أواخر الجزء الأول .
ولقد اخترت جزئِيَّةً من بيان ابن القيم لمحاسن الشريعة عن تحية الإسلام المباركة، وذلك من كتاب بدائع الفوائد صـ 178 / 2 قَال :
ما الحكمةُ في اقْتران الرَّحمة والبركةِ بالسَّلام (فالجواب عنه ) أن يقال لما كان الإنسان لا سبيل له إلى انتفاعه بالحياة إلاَّ بثلاثة أشياء . أحدهما سلامته من الشر ومن كل ما يضاد حياته ومَعيشَتَه .(1/66)
والثاني حصول الخير له . والثالث دوامه وثباته له فإنَّ بهذه الثلاثة يكمل انتفاعه بالحياة فشُرعَت التَّحيةُ متضمنةً للثَّلاثة فقولُه سلام عليكم يتضمن السَّلامة من الشر ، وقوله ورحمةُ الله يتضمن حصولَ الخير ، وقوله وبركاته يتضمن دوامَهُ وثباتَه كما هو موضوع لفظ البركة وهو كثرة الخير واستمراره . ومن هنا يُعْلَم حِكْمةُ اقترانِ اسْمِه الغفور باسمه الرحيم في عامة القرآن ، ولما كانت هذه الثلاثة مطلوبةً لكل أحد بل هي متضمنةٌ لكل مطالِبِه ، وكل المطالب دونها ووسائل إليها وأسباب لتحصيلها جاء لفظُ التَّحِيِة دَالاَّ عليها بالمطابقة تارة وهو كمالها وتارة دالا عليها بالتضمن وتارة دالا عليها بالُّلزُوم ، فدلالةُ اللفظ عليها مطابقة إذا ذكرت بلفظها (السلام والرحمة والبركة) ، ودلالته بالتضمن إذا ذكر السلام والرحمة ، فإنهما يتضمنان الثالث ودلالته عليها باللزوم إذا اقتصر على السلام وحده ، فإنه يستلزم حصول الخير وثباته ، إذ لو عدم لم تحصل السلامة المطلقة فالسلامة مستلزمة لحصول الرحمة كما تقدم تقريره . وقد عرف بهذا فضل هذهِ التَّحية وكمالِها على سائر تحيات الأمم ولهذا اختارها الله لِعبَادِهِ وجَعَلَهَا تحيتَهُم بينهم في الدنيا وفي دار السلام .
وقد بان لك أنها من محاسن الإسلام وكماله ، فإذا كان هذا في فرع من فروع الإسلام وهو التحية التي يعرفها الخاص والعام ، فما ظنك بسائر محاسن الإسلام !!؟(1/67)
وجلالته وعظمته وبهجته التي شهدتَ بها العقول والفطر حتى أنها من أكبر الشواهد وأظهر البراهين الدالة على نبوة محمد صلي الله عليه وسلم وكمال دينه وفضله وشرفه على جميع الأديان وأن معجزته في نفس دعوته ، فلو اقتصر عليها كانت آية وبرهانا على صدقه وأنه لا يحتاج معها إلى خارق ولا آية منفصلة ( تكفي ) بل دينه وشريعته ودعوته وسيرته من أعظم معجزاته عند الخاصة من أمته ، حتى أن إيمانهم به إنما هو مستند إلى ذلك والآيات في حقهم مقويات بمنزلة تظاهر الأدلة . أ . هـ
دعاء الله باسْمه القدوس :
1) دعاءُ المَسْألة : كقولنا : الَّلهم يا قدوس طَهِّر قلوبنا من الكفر والنفاق ، وأعمالَنا من الشرك والرياء ، وأعيننا من الخيانة . اللهم يا قدوس قَدِّسْ أرواحنا باستعمالنا في مراضيك عنا حتى نلقاك شهداء في سبيلك ، وطهِّرنا من ذنوبنا وخطايانا كما طَهَّرت الثوبَ الأَبْيَض من الدنس ، واسلل سَخِيمةَ صدورنِا . وطهِّر قَلوبَنَا حتى لا تَشْبَعَ من كلامك ، اللهم بَلِّغْنَا مَنَازِل الأَبْرَار وأرفع درجاتنا عندك ، اللهم بارك لنا في أوقاتنا وأعمالنا وذرياتنا . اللهم قدس أمة الإسلام كما كانت في العهد الأول إنك أنت الملك القدوس ، اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها . اللهم بارك في ذرِّياتنا وأموالنا وأوقاتنا .
وهكذا عامة ما يُطْلب له الطُّهر والبركة .
2) دعاء الثناء : ذِكْرُه بالقداسةِ على النحو الذي تقدم مع حُبِّهِ وتعْظيمه ، وأنه تعالى ما أرسل رسله بِشَرَائعه إلا ليُطَهِّر الناس من ظلمهم وجَهْلِهِم ، وليرفَع درجاتهم بما يليق بمجاورة القدوس في الجنة ( حظيرة القدس ) .(1/68)
3) دعاء العبادة : كل عبادة من شأنها التطهير من الذنوب والتزكية وتكميل النفس ورفع درجاتها فهي من دعاء العبادة باسم القدوس عز وجل ، ويَظْهَرُ ذلك جَليّاً في أوائل سورة الجمعة حيث ذكر في الآية الأولى : الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ ، وفي الآية الثانية : يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ . ونضرب لذلك مثلاً بالوضوء :
يقول ابن القيم :- فتأمل محاسن الوضوء بين يدي الصلاة وما تضمَنُه من النظافة والنزاهة ومُجَانَبَة الأوساخ والمستقذرات ، وتأمل كيف وضع على الأعضاء الأربعة التي هي آلةُ البطش والمشي ومَجْمع الحواس التي تعلق أكثر الذنوب والخطايا بها ، ولهذا خصَّها النبي صلى الله علية وسلم بالذكر في قوله ( إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة فالعين تزني وزناها النظر والأذن تزني وزناها السمع واليد تزني وزناها البطش والرجل تزني وزناها المشي ، والقلب يتمني ويشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه )13 فلما كانت هذه الأعضاء هي أكثر الأعضاء مباشرة للمعاصي ، كان وسخُ الذنوب ألْصقَ بها وأعْلَق من غيرها ، فَشَرع أحْكَم الحاكمين الوُضُوء عليها لتَتَضَمَّن نَظَافَتَها وطهارتها من الأوساخ الِحِّسية وأوساخ الذنوب والمعاصي ، وقد أشار النبي صلي الله عليه وسلم إلى هذا المعنى بقوله ( إذا توضأ العبد المسلم خرجت خطاياه مع الماء أو مع آخر قطرة من الماء حتى يخرج من تحت أظفاره 14 ...) الحديث أخرجه النسائي ( 1 / ج 147 ) ، والأحاديث في هذا الباب كثيرة فاقتضت حكمة أحكم الحاكمين ورحمته أن شرع الوضوءَ على هذه الأعضاء التي هي أكثر الأعضاء مباشرة للمعاصي ، وهي الأعضاء الظاهرة البارزة للغبار والوسخ ، أيضا وهي أسهل الأعضاء غسلا فلا يشق تكرار غسلها في اليوم والليلة ) أ. هـ مفتاح دار السعادة صـ 374 ، صـ 375 .(1/69)
والله تعالى لما أراد أن يَمْتَنَّ على المؤمنين لم يذكر نعمته في خلقهم وإحيائهم وإطعامهم وما شابه ، ولكن ذكر نعمته في رسالته وشريعته وهدايتهم للإيمان وتلاوة آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ، قَالَ تعالى ( بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) وقَالَ ( لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ) آل عمران فليست الغاية في تربية البدن وتنميتهِ وتَقْويته ، وإنما الغاية والشأن كل الشأن في تربية القلب وتزكيتِه واتّساعِهِ مع كل اتِّساع وترقِّ في العبوديات ، وإذا كان للبدن حدود في نُموِّه وقُوِّتِه فَإن القلبَ ليس له حدود في نُموِّه وَزَكاتِه ، بل يقبل التَّقْديس المستمِرَّ ما غُذِىَ بدعاء الله بأسمائه الحسنى ، فأغتنم يا عبد الله تلك النعمة حتى تفوز بمقام الاقتراب والقربى من القدوس في دارة ( حظيرة القدوس ) اللهم أعنا على ذلك واجعلنا أهلاً له آمين .
في الخاتمة بعدما تبينت معاني القداسة في الذات والأسماء والصفات والأفعال والأقوال نستطيع أن نقول :
القدوس " هو الذي له وصف القداسة في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله وأقواله " .
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
ملحوظة : جميع الحقوق محفوظة إلا للتوزيع الخيري ، وجزاكم الله خيراً . ومن أراد أن يُرسل ملحوظة أو تعليق للشيخ فليرسله علي هذا الإيميل وسوف يصله إن شاء الله .
eltawhed@islamway.net
كتب فضيلة الشيخ فوزي سعيد علي موقع صيد الفوائد (www.saaid.net)
العنوان : http://saaid.net/book/search.php?do=all&u=%DD%E6%D2%ED(1/70)
1 رواه النسائي وأبو داود وابن ماجة وأحمد في مسنده ، وصححه الشيخ الألباني في صحيح أبي داود برقم ( 1284 )
2 رواه الترمذي وأحمد وهو صحيح أنظر حديث رقم (4353 ) في صحيح الجامع
3 متفق عليه
4 قال الألباني رواه أحمد والطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح .
5 صحيح . انظر حديث رقم: 6167 في صحيح الجامع .
6 متفق عليه
7 ( صحيح ) برقم : (1020) في صحيح الجامع .
8 صحيح برقم ( 95 ) في صحيح الجامع .
9 صحيح برقم : (2085) في صحيح الجامع .
10 رواه البخاري ومسلم .
11 ومنها شرائط الشيخ عن الإعجاز العلمي ، وغيره من المشايخ مثل د . زغلول النجار وله موقع علي الإنترنت www.ssqs.net .
12 كما في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه .
13 رواه البخاري ومسلم .
14 ورواه بمثله وابن ماجة وأحمد ، ( صحيح ) انظر حديث رقم : 2724 في صحيح الجامع .
??
??
??
??
شرح إسم الله القدوس ... الشيخ / فوزي سعيد(1/71)