مقدمة:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ به تعالي من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا إنه من يهدِ الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدة لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) أما بعد ، فإن خير الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هديُ محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار ، وبعد :
تقديم:-
سُبُّوحٌ عز وجل
أولاً : ثبوت الاسم : ثبت في صحيح مسلم من حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت : كان النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْمَلَائِكَةِ وَالرُّوحِ " فثبت السُبُّوحٌ بالسنة ، ولم يرد بالقرآن إلا ذكراً لمادة التَّسْبيح : بالفعل الماضي "سَبَّح " والمضارع " يسبح " ، والأمر " سَبِّح" ، والمصدر " تسْبيح " ، وبالكلمة المشهورة التي يسبِّح الله بها نَفْسَه والتي قد تقوم مقامَ المصدرِ "سبحان" ، واسمُ الفاعل " مُسَبِّح " ، فاستوعب الكتابُ كل أوجه الكلمة تقريباً .
ثانياً : المعاني اللغوية :(1/1)
1- قال في المقاييس : " السين والباء والحاء " أصْلاَن : أحدهما جنس من العبادة ( كصلاة النافلة : سُبْحَه، والتسبيح : تنزيه الله جل ثناؤه من كل سوء، والتنزيه : التَّبعيد ، وفي صفات الله جل وعز : سُبُّوح ، واشتِقَاقه أنَّه تنزه من كل شئ لا ينبغي له )
والأصل الآخر : السَّبْح والسِّبَاحة : العَوْمُ في المَاء ، والسَّابح من الخيل : الْحَسَنُ مَدُّ اليدين في الجري . أنظر مادة سبح في مقاييس اللغة لابن فارس باختصار .
2- قال في لسان العرب : انشد ثعلب (وهو من علماء اللسان ، يمدح الخيل السَّبُوح :
ولقد كان فيها للأمانة موضع ... وللعين ملتَذٌ ولِلَكّف مَسْبَحُ(1/2)
فسَّرَه فقال : معناه إذا لَمَسَتْها الكف وجدت فيها جميع ما تريد ( قلت : أي من نعومة المَلْمَس ، وتَحَسُّسِ العضلاتِ والَّلحْم المُكْتَنِز ، والأضْلُع المَكْسُوَّةِ لحما ، والشَّعر الجميل بالرقبة والذيل ، وهكذا تَسْبَحُ الكفُّ بأريَحِيَّةٍ وانسيابيَّةٍ بلا خشونةٍ تستوقفها ، ولا عيب يَسُوؤُها ، فهي تَسْبَح في مَسْبَح جميل ليس فيه ما يعكِّرُ الصَّفْو ، بل تنتقل الكف من جمال إلى جمال آخر . ولله المثل الأعلى : له من الأسماء الحسني وصفات الكمال والأفعال المقدسة ما هي مَسْبح عظيم ، تَسْبَح فيها القلوبُ أَبَدَ الآباد تذكرا وتفكرا فلا تجد لها نهاية ، ولا تجد بها عيبا ولا نقصا ولا مثيلا ولا شرا 1 ، بل تَسْبَح بغَيْر توقُّفٍ فتنتقل من جمال إلى جمال ، ومن كمال إلى كمال ، ومن حمد إلى حمد ، ومن خير إلى خير ، فتلتذ بذلك أعظم اللذة بل الصفة الواحدة لله ، تسبح فيها القلوب كذلك أبد الآباد فلا تصل فيها إلى نهاية ، ولا تجد فيها مثقال ذرة من سوء بل النزاهة الكاملة ، فذلك هو "السُبُّوح" عز وجل ولقد خلق الله القلوب تحب خالقها وتريد السفر إليه ، فذلك السبح وما يقتضيه هو غذاء القلوب ولذتها وبهجتها وانشراحها وزكاتها وسكينتها وطمأنينتها ( أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) الرعد ، فإذا كّلت وتم الترويح عنها وجب عودتها وإلا ماتت وبدأت المعيشة الضنك حقا على كل من أعرض عن الذكر (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي .. الآية ) طه كما تموت الأسماك إذا خرجت من الماء ولم تعد . ولذلك وظف الله أوقات المسلم على هذه المهمة وما يتبعها ، فالتسبيح مثلا قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ، وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ .(1/3)
وأدبار السجود ، وإدبار النجوم ، والصلوات المكتوبات والنوافل وغير ذلك ، والجنة في يوم الخلود يلهم أهلها التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس بلا كلفه ( كما ثبت ذلك في صحيح مسلم ) 2 حيث سقطت التكاليف في دار الجزاء ، فخلص السبح من التكاليف ، وبقي على حقيقته ألذ عليهم من جميع لذات البدن وبه تطمئن القلوب وتفرح ، وتحيا الحياة الطبية ، علاوة على ما ينعم به البدن 3 وسيأتي ذكر تسبيح الملائكة الليل والنهار لا يفترون ولا يسأمون ، بقوة وبرغبة ومحبة كاملة ، كما سيأتي ذكر تسبيح ما في السماوات والأرض وكل شئ لله وبحمده على مر الأوقات بلا توقف ، وبيان ما فيه من المعاني ، والعجب من الجمادات وغيرتها الشديدة على السُبُّوح إذ نسب الكفار إليه شراً ، وقالوا عليه قولا عظيما ) .
نعود إلى المعاني اللغوية من اللسان :
3- السَّبْحَة (بفتح السَّين) : ثُوب من جلد ( لأنه ثوب قوى شديد أمْلَس فلا تَجد الكف فيه عيبا من ضعف أو خشونة أو ما ينفذ منه الهواء ولا يشفّ ، فهو ثوب منزه من تلك العيوب ، ولذلك قالوا عن الثوب القوى الشديد (وليْس جلدا) : توبٌ مُسَبَّح ) .
وهذه المعاني مما يؤيد ما تقدم ذكره في البند (3) .
السَّبْح والسَّبَاحة : العَوْمُ في المَاءِ (وهو تحرُّكٌ مُنتظِمٌ مُسْتَمِر في المَاء الخالي من العيوب المانعة للعوم ، وهو مما تلذ به الأبدان وتَسْتجِمّ ) .
** فَرَسٌ سَبُوحُ وسَابح : يسْبَحُ بيَدْيهِ في سَيْرِهِ ( كأنه يسبح في الهواء وظَهْرُه ثَابتٌ الارتفاع عن الأرض فلا يضطرب براكبه مع سرعته واستمراره في التباعد ) .
** سَبْحُ النجوم في أفلاكها . قال تعالي ( وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) ولم يقل تسبح لأنه وصفها بفعل من يعقل (حيث ذهابها بَسْطا في الفضاء الواسع بسرعاتها الهائلة ، وأحجامها الضخمة ، لكن في فَلَك لا تتخطاه ولا تضطرب فيه ، ولا تتوقف عن الحركة والتبعيد المستمر ) .(1/4)
* سَبَحْت في الأرض وسَبَحْت فيها : إذا تباعدت فيها .
* سَبَح في الكلام : إذا أكثرَ فيه ( استمر في الكلام بانسيابية ولم يتوقف ) .
* سُبْحان من كذا : تقولها العرب إذا تعجَّبت من كذا : أي ما أبعده كقول الأعشى :
أقول لما جاءَنِي فخره ... سُبْحان من عَلْقَمَةَ الفاخر !
(يعني : عجبا لعَلْقَمَةَ إذ يفخر ، إذ ما أبعده عن أهلية ذلك )
* سَبُوحَة : البلد الحرام (حيث يأتي الناس إليها أفواجا من كل فج عميق متباعدين عن ديارهم لتعظيم شعائر الله والصلاة والذكر في الحرم ، والأفواج تنهمر بغير توقف على مر القرون ) .
فسَبْح العائم في الماء والفرس في الهواء والنجم في الفضاء ، كله سَبْح فيه معاني السرعة والاستمرار والزينة والجمال ، والاتزان المُتْقِن والتبعيد المستمر ، والانبسَاط في المَسْبح الواسع . وهذه المعاني مُعْتَبرة في سبح القلب في مَسْبَحِهِ العظيم فيها يتعلق بأمرين : الأمر الأول : أوصاف كمال السُبُّوح عز وجَلّ وبُعْدُه عن النقص والمثيل ، على نحو ما تقدم في البند (2) في قول ثعلب : وللكَفِّ مَسْبح " .
والأمر الثاني : حال المُسَبِّح وما يجب عليه من المُسَارعَة في الخير والبُعْد عن الشَّرَّ .
كما قال بن شميل 4 والشوكاني وغيرهما .
قال ابن شُميْل : رأيت في المنام كأن إنساناً فسَّر لي سبحان الله فقال : أما ترى الفرس يَسْبح في سرعته ؟ وقال : سبحان الله : السُّرعة إليه والخِفَّةُ في طاعته ( قلت فهذا عن حال المُسَبِّح ) قال : وجماع معناه : بعده تبارك وتعالي عن أن يكون له مثل أو شريك أو ضد (وهذا عن المسبح عز وجل) .(1/5)
وقال الشَّوْكاني : قوله سبحانك : التسبيح : تنزيه الله تعالي ، وأصله كما قال ابن سيد الناس : المَرُّ السريع في عبادة الله 5 فالمُسَبَّحُ وهو السُبُّوحُ عز وجل له أوصاف الكمال والجمال بلا نقص ، وله الأفعال المقدَّسة عن الشَّرَّ والسوء ، حيث يسْبحُ فيها قلبُ المُسَبِّح تذكُّرا وتفكُّرا فلا يرى إلا العظمةَ والبعدَ عن النَّقْص والشَّرّ ، فيقول ما أبْعَد الله عن السوء ، ثم يقطع مسافةً أو مَرْحَلةً أخرى في معرفةِ ومشاهدةِ الأَوْصَاف والأفعال ـ وهي على الكمال بلا نقص ـ فيزداد تعظيماً لله وتبعيدا له من السوء ، ( أي تَنْزيهاً له سُبْحَانه ) ، والقلب في ذلك يبتعد من الظلمات إلى النور ، ومن إرادة الشر إلى إرادة الخير ، ومن عَمَي القُلُوب وأَدْوَائها إلى نُورِها وشِفَائِها ، ومن فَسَادِها وَسَيْطرة الأهواء عليها إلى صَلاَحِها وسَيْطرة الوَحْي عليها ، وهكذا تبعيد مَسْتَمِرُّ للقلب من السوء على ما يليق به ) ، وتَبْعيد مُسْتمِر لله سُبْحَانه من السوء ( على ما يليق به سبحانه ) ، بحسب قَطْعِة المراحلّ والمَسَافاتِ في طريق سَيْره وسَفَرِه إلى الله ، وإذا كان القلب مَلِكاً فالأعضاء جُنُوده تأتمر بأمره ، وتَسْبَح بسَبْحِه، وسَأبِّينهُ في الكلام على دعاء اللهِ باسْمِه السُبُّوح .
ولا يحْسَبِ القارئُ أن هذا كلام نظري ، بل هو من الحق الذي خُلِقَتْ به السَّماوات والأرض ، فليجّربِ القارئُ الكريمُ قَلبَه عندما يعرف من أسْرار وحِكَمِ المخلوقات ، من الذرة إلى المجرة ، في الحرث أو النسل ، في البَرّ أو في الجو أو في البحر ، وسيعلم سبْح قلبه تعظيماً وتنزيهاً لله ومحبة له ، وسَيسْمع لِسَانَه يقول فِطْرةً : سبحان الله ، وكذلك ينطقها كلُّ مُسْلِم كُلَّمَا وَجَد شَيْئاً من أدِلة العظمة .
ولا يقتصر الأمر على الإنسان ، بل كل شئ يسبح بحمده سبحانه ، وسيأتي بيانه .(1/6)
ثالثاً : التعريف : قال ابن منظور : التسبيح : تعظيم الله وتنزيهه من كل سوء . 6
قال أبو إسحاق : السُبُّوح : الذي ينزه عن كل سوء . 7
قال ابن سيده : سبوح لأنه يُسَبَّح ( قلت : لأنه يستحق أن يُسَبَّح ) 8 .
قال ابن فارس : وفي صفات الله جل وعز سبوح واشتقاقه أنه تنزه من كل شئ لا ينبغي له) .
قال ابن فارس والزبيدي وغيرهما : سبوح : هو الله عز وجل ، والمراد : المُسَّبح والمُقدَّس ، فكأنه يقول يُسَبَّح مَقدَّس . ومعني سبوح : المبرأ من النقائص والشريك وكل ما لا يليق بالإلهية ، وقدوس : المطهر من كل ما لا يليق بالخالق .
قلت : وسأبين في معني التسبيح سر اقتصار بعضهم في معنى السُبُّوحٌ : على التنزيه .
السُبُّوحٌ : اسْم لله يدل على وصف عام بصفات الكمال والأفعال المقدَّسة ، فهو أَهْل أَن تسبِّحَهُ جميعُ الخَلاَئق تعظيماً وتنزيها ، تسبيحاً بحمده ليلا ونهاراً لَا يَفْتُرُونَ ولا يَسْأمون ، بل بمَحَّبة كاملة وأقوى رغبة .
رابعاً : معني التَّسْبيح : التسبيح له ركنان : التعظيم والتنزيه ، ومن اقتصر من السَّلَف على تعريف التسبيح بأنه تنزيه الله من كل سوء ، فلأن التنزيه من السُّوء لا يكون مَدْحاً إلاَّ إذَا تَضَمَّن ثُبُوتاً للمَحَاسِن والكَمَالِ المُقَابِل ، فيكونُ الأصلُ هو إثبات المحاسن والكمال ، ثم يلزم نَفْي ما يُنَاقض ذلك ( وهو التَّنْزيه ) .(1/7)
ولما كان أكْثَر النَّاس كافرين ومُشْركين ، قال تعالي( وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ) يوسف 103 ، وقال ( وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ ) يوسف 106 وقال هؤلاء على الله بغير علم قولا وعظيماً ، ونسبوا إليه تعالي الشريك ، والولد والمثيل والنقص والشر ، فقد لزم ـ لذلك ـ الاعتناء بأمر التنزيه كَرُكْنٍ أصيل في التسبيح ، إذ كيف يُنْسَبُ العَيْب إلى ذي الجلال والإكرام !! سبحانه وتعالي عما يقولون علوَّا كبيراً . ولو أن إنساناً أو مخلوقاً واحداً تجرأ على الله مَرَّة بأن نَسَب إليه ما لا يَليق به لَلَزِم أن تُنزِّهَه جَميعُ الخلائق على مجرى النفس أبد الآباد ، لبعد الله عز وجل بعدا لا نهاية له عن مظنة العيب ، وكل المخلوقات آيات شاهدات بذلك ، فكيف لو كان المتجرئون بالمليارات ، وعلى مَرِّ القرون ، بل كَثِيرٌ من المُسْلِمين يَظُنُّ ظنَّ السَّوْء باللهِ عندما يُبْتَلَي الواحِدُ منهم بابتلاءٍ شديد يَتزَلْزل مِنَه ، أو عندما يقع البلاء الرَّهيب في بلاد المسلمين أو في بعضها من غلبة الكفار وتَسَلُّطِ المجرمين العُتاة ، وما أكثر ذلك اليوم ولا حول ولا قوة إلا بالله . وسيأتي مزيد ذلك في فصل مستقل عن ظنّ السوء ، سبحان الله وتعالى عن ذلك علوا كبيراً ، ولقد فزع الملائكة لما علموا أن من ذرية آدم من سَيَقُع في ذلك فَسَألُوا عن الحكمة فقالوا ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا ( أي بالقول على الله بغير علم وما يتبع ذلك ) وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) البقرة 30 ، ولقد أخذ موسى عَلَيْهِ السَّلاَم برأس أخيه هارون ولحيته وهو رسول ، لَمَّا عاين من قومِه اتِّخَاذَهم العجل إلها .(1/8)
لِشِدَّةِ وسُرْعَة غَضَبه لله تَعَالَي ، ومَا ذَاكَ الفَزَعُ من المَلاَئِكَة ومِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَم إلا من مُقْتَضَى التسبيح ، وكذلك يَنْبغي أن تكون غَيْرهُ كُلِّ مُسَبِّحٍ على جَنَابِ اللهِ العظيم .
قال شيح الإسلام ابن تيميه ـ رحمه الله : -
وقوله سبحانك : يتضمن تعظيمه وتنزيهَه عن الظُّلم وغَيْرِه من النَّقَائص ، فإن التَّسْبِيح وإنْ كان يُقال : يتضمن نفي النَّقَائض ـ وقد رُوِىَ في حديث مرسل من مراسيل أبي موسى بن طلحة أنها براءةُ الله من السوء ـ فالنَّفي لا يكون مَدْحاً إلا إذا تضمَّن ثبوتاً ، وإلا فالنَّفْي المَحْض لا مَدْح فيه ، ونفي السوء عنه والنقص يستلزم إثباتَ محاسنِه وكمالِه ، ولله الأسماء الحسني . وكذلك عامة وما يأتي القرآن به في نفي السوء والنقص عنه ، يتضمن إثبات محاسنِه وكماله أ . هـ . 9
وقال أيضاً : والأمر بتْسبيحه يقتضي تنزيهَه عن كل عيب وسوءٍ ، وإثباتَ صفاتِ الكمال له ، فإنَّ التَسبيِحَ يقتضي التنزيه والتعظيمَ ، والتعظيمُ يستلزم إثبات المحامدِ التي يُحْمد عليها ، فيقتضي ذلك تنزيهَه وتحميدَه وتكبيره وتوحيده ، قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ثنا ابن نفيل الحرَّاني ، ثنا النضر بن عربي ، قال سأل رجل مَيْمونَ ابنَ مِهران 10 عن سُبْحَان اللهِ فقال : اسْمٌ يُعَظَّمُ اللهُ به ويُحاشَي به من السوء 11 . وروى ابن أبى حاتم عن ابن أبي مُلَيْكه عن ابن عباس قال : " سبحان " : تنزيه الله نفسه من السوء ، وقد جاء من غير واحد من السَّلف مثل قول ابن عباس : أنه تنزيه نفسه من السوء ، وروى ذلك في حديث مرسل ، وهو يقتضي تنزيه نفسه من فعل السيئات ، كما يقتضي تنزيهه عن الصفات المذمومة . ونفْيُ النقائِص يقتضي ثبوتَ صفاتِ الكمال وفيها التعظيمُ ، كما قال مَيْمون ابن مِهران : اسْمٌ يعظم الله به ويحاشي به من السوء .(1/9)
قال ابن القيم : ومعني هذه الكلمة " سبحان " تنزيهُ الرب تعالي وتعظيمُه وإجلالُه عما لا يليق به 12 . وقال في مَعْني النَّفي : قولهُ تعالي ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) الشورى 11 هذا من أَعْظم الأدلَّة على كثرة صفاتِ كما لِه ونعوتِ جلاله ، وأنَّها لكثرتها وعظمتها وسَعَتِها لم يكن له مثل فيها . وقال : جميع العقلاء إنما يفهمون من قول القائل : فلان لا مثل له ، وليس له نظير ولا شبيه ولا مثيل : أنه قد تميز على الناس بأوصاف ونعوت لا يشاركونه فيها ، وكلما كثرت أوصافه ونعوته فاق أمثالَه ، وبَعُدَ عن مشابهةِ أَضْرَابه فقولُه : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) من أَدَلِّ شَيءٍ على ثُبُوتِ نعوتهِ وصِفاتِه أ . هـ من تعليق ابن القيم على الآية . بدائع التفسير .
قال ابن كثير : ولما كان التسبيح يتضمن التنزيه والتبرئة من النقص بدلالة المُطَابقة ، ويستلزم إثبات الكمال ، كما أن الحمد يدل على إثبات صفات الكمال مطابقة ، ويستلزم التبرئة من النقص ، قرن بينهما في هذا الموضوع وفي مواضع كثيرة من القرآن ، ولهذا قال تبارك وتعالي ( سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) الصافات ( تفسير سورة الصافات ) أ . هـ .
قلت : اقتران الحمد والكمال بالتسبيح إنما هو لتأكيد ما سبق ذكره من أن التعظيم وإثباتَ الكمال : أصل للتنزيه الذي هو نَفْي ما يناقض العظمة والكمال ، أما إذا ذكر التسبيح مجردا عن ذكر صفات الكمال والأَفْعَال المُقَدَّسَة ، فإنه يدل عليها كما يدل على التَّنْزِيه ، ولذلك قال مَيْمُونَ بن مِهْرَان : سُبْحَان الله : اسم يعظم به الله ويحاشي به من السوء ، فَذَكَرَ التَّعظيم قبل التنزيه .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح :(1/10)
يعني قول سبحان الله : ومعناه تنزيه الله عما لا يليق به من كل نقص ، فيلزم نفي الشريك والصاحبة والولد وجميع الرذائل . ويُطْلق التسبيح ويراد به جميع ألفاظ الذكر ، ويطلق ويراد به صلاة النافلة ، وأمَّا صلاة التسبيح فَسُمِّيَتْ بذلك لكثرة التسبيح فيها . و"سبحان" : اسمٌ منصوبٌ على أنه واقعٌ موقعَ المصدر لفعل محذوف تقديره : سَبَّحت الله سبحانا كسبَّحت الله تسبيحاً . ولا يستعمل غالباً إلا مضافاً ، وهو مضاف إلى المفعول : أي سبحت الله ، ولا يجوز أن يكون مضافاً إلى الفاعل : أي نزَّه اللهُ نَفسه ، والمشْهُورُ الأَوَّل أ . هـ . 13
معني سبحان الله : " الله " : معناه : الإله ، فَفِيه التصريحُ بالإلهية ، لكنه يتضمن جميع معاني الأسماء الحسني ، كأننا قلنا : سبحان العليم الحكيم العزيز الوهاب .. وهكذا .
وفي ذلك الدلالة الكافية ، والمستندُ الواضح لما في التسبيح من التعظيم والتَنْزِيه .
تنبيه (1) كما قال الحافظ ( ويطلق التسبيح ويراد به الذكر ) فإن مَنْ أثْنَي على الله ونزَّهَه عن السُّوءِ فقد سَبَّحه ، فكل تَعْظِيم لله وتنزيه فإن تسبيحٌ وإن لم يتلفظ بكلمة سُبْحَان أو أسُبِّح أو ما شابه .
تنبيه (2) معرفة معني الحمد هامَّةٌ جداً في التسبيح الذي هو من تمام الحمد ، فالحمد هو الإخْبَار عن محاسن المحمود على وجه الحُبِّ له ، ومحاسنُه تعالي إمَّا قائمة بذاته وإمَّا ظاهرة في مخلوقاته ، وهذا الحمد يملأ جميعَ المَخْلوقَات ، ما وُجد منها ويوجد ، فكل ذرةَ في الكون شاهدة بحمده ، وهو حمد يتضَمّن الثناء على الله بكماله القائم بذاته ، والمحاسن الظاهرة في مخلوقاته 14(1/11)
خامساً : معني التَّسْبِيح بالحَمْد : عَلِمْنَا أن التَّسْبيحَ تَعْظيمٌ وتَنْزِيه ، فإذا اقترن به ذكرٌ لصفات الكمال والجمال أو ذكر الأفْعَال المُقَدَّسَة الدالة على الكمال ، أو ذكرٌ لهما معاً ( للصفات والأفعال ) ، فإنَّ ذلك الاقتران يفيد ثلاثة أمُوَرْ : الأوَّل : تأكيد معنى التعظيم المتضمَّن في التَّسْبيح مع ذكر بَيَانِه وتَفْصِيله . فَيذِلُّ المُسْلِم غاية الذل لما ذُكِرَ من العظمة . والأمر الثاني : ذكر المَحَاسن والمحامد التي يستحق بها سبحانه أن يُحَبَّ بغاية الحُبّ ، فبذلك يجتمع غاية الحب بغاية الذل ، وهما أصْلاَ العبادة . ولذلك إنما يأتي التَّسْبيح في القرآن والسُّنَّة في معظم المواضع مَقْرُونا بصفات الكمال إجمالا أو تفصيلاً أو ما يدل عليها من الأفعال المقدسة . والحمد : كلمةٌ جَامعة لذلك(للمحامد والمحاسن والكمالات والأفعال) ولذلك اصطفي الله لملائكته : سَبْحان الله وبحمده ، وأفضل الكلام بعد القرآن وهن من القرآن سُبْحَان الله والحَمْد لله ولا إله إلا الله واللهُ أَكْبر ، وسيأتي مزيد لذلك .
والأمر الثالث : أنَّ الَحَمْد إثبات الكمالات ، والتَّسْبيحَ يتضمن التنزيه وهو نَفْي ما يناقض تلك الكمالات ، وذلك هو الثناء الذي يحبُّه الله عز وجل ، فكأن المُسَبِّح يقول : أُسَبِّح الله بلساني وقلبي ناظر إلى محامده سابح فيها تذكرا وتفكرا منزَّه لها عما يناقضها ، فهو تسبيح مُلَبَّس بالحمد ( كما قال الكرماني وغيره ) لِيُعْلَم ثُبُوتُ الكمالِ له نَفْيا وإثْباتاً . وحَقيقةُ الأمر أن التسبيح من تمام الحمد(1/12)
ومن الناس من جعل الحمد هنا بمعني الشكر على نعمة التسبيح ، بمعني : سَبَّحْتُك وبنعمتك سَبَّحْتك ، أي لم يكن تسبيحي إلا بتوفيقك 15 . وهذا الذي ذكروه يلزم كل مسلم عند كل طاعة ، فهي نعمة مِنَ الله عليه . أَمَّا أَنْ يَكُون هو المُرَاد باقْتِرَان الحمد بالتَّسْبِيح فَلاَ ، لأنه إِهْدارٌ لما تقدم من المعاني ، لا سيما إذا كان كل شئ يُسَبِّح بحمده ، من الجَمَادات والأحْيَاء والمَلائِكة . 16 تكملة تنبيه : سبحان الله تتضمن هذه المعاني أيضاً ، لكن لَيْس بطريق التصريح كما في التسبيح بالحمد.
سادساً :
معني قوله تعالي ( سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ )
قوله ( مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ) يشمل كل شئ وأحواله من الملائكة والأحياء والحيوان والجمادات بما فيها ذراتها وإلكتروناتها وما شابه ، وإذا كان تسبيح الملائكةَ والجن والأنس معلوماً ولا غرابةَ فيه، فإن تسبيح الأشياء الأخرى يطلب بيانه كما يلي : -(1/13)
(أ) تسبيح الطير والدوابّ والحيتان وغيرها : - قال تعالي ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ) النور 41 ، وقال تعالي ( وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ )سبأ 10 ، وقال ( إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ ) ص 18 - 19 ، وقال ( وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ .. ) الأنبياء 79 ، (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ) النمل 16 ، وقال ( وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ) النمل 17 ـ 18، وقال تعالي حاكيا قَوَل الهدهد لسليمان عَلَيْهِ السَّلاَم ( فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ * أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لَا إِلَهَ(1/14)
إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ )النمل 22 ـ 27 ، وقال الإمام أحمد : عن أنس أن رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مَرَّ عَلَى قَوْمٍ وَهُمْ وُقُوفٌ عَلَى دَوَابَّ لَهُمْ وَرَوَاحِلَ فَقَالَ لَهُمْ ارْكَبُوهَا سَالِمَةً وَدَعُوهَا سَالِمَةً وَلَا تَتَّخِذُوهَا كَرَاسِيَّ ( لِأَحَادِيثِكُمْ فِي الطُّرُقِ وَالْأَسْوَاقِ فَرُبَّ مَرْكُوبَةٍ خَيْرٌ مِنْ رَاكِبِهَا وَأَكْثَرُ ذِكْرًا لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنْهُ ) 17 . وفي حديث أَبِي أُمَامَةَ أن رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :" إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرَضِينَ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ " رواه الترمذي وقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ18 ومن حديث أَبِي الدَّرْدَاءِ قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْمَاءِ " أبو داود والترمذي 19 . وقد أخبر رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نَمْلَةٌ قَرَصَتْ نَبِيًّا فَأَمَرَ بِقَرْيَةِ النَّمْلِ فَأُحْرِقَتْ ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ : أَنْ قَرَصَتْكَ نَمْلَةٌ ، أَحْرَقْتَ أُمَّةً مِنْ الْأُمَمِ تُسَبِّحُ !! " السلسلة الصحيحة . 20
وشكا الجمل إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن صاحبه يُدْئِبُه 21 ويجيعه ، وهو أيضاً في السلسلة(1/15)
وأختم هذه الطائفة من النصوص بقوله تعالي ( وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ) الأنعام 38 قال ابن القيم : وهذا يتضمن أنها أمم أمثالنا في الخلق والرزق والأكل والتقدير الأول ، وأنها لم تُخْلَقْ سُديً ، بل هي مُعَبَّدة مُذلَّلة ، قد قُدِّر خلقُها وأجلها ورزقها وما تصير إليه ، ثم ذكر عاقبتها ومصيرها بعد فنائها ثم قال :( إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ) فذكر مبدأها ونهايتها وأدخل بين هاتين الحالتين قوله ( مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ) . أي كُلُّها قد كتبت وقُدِّرت وأُحصيت قبل أن تُوجَد . وقال أيضاً : ثم يميتهم ثم يحشرهم إليه . أ . هـ 22 .(1/16)
على القارئ أن يعيد قراءة هذه النصوص ويتدبرها وسيعلم أن الله تعالي خلق هذه الأمم من الأحياء ، والتي لا يحصيها إلا هو سُبحانه ـ فألهَمهَا وعَلَّمها تسبيحَها ، ولها منطق ( عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ ) لكن الله لم يُعِّمله إلا من شاء من خلقه كداود وسليمان عليهما السلام وكالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ يَهْمس الجَمَلُ في أُذنِه يشكو صَاحبه ، وحديث الهدهد عجب ؛ إذ أنكر علي القوم سجودَهم لغير الله ، وعَلِمَ أن ذلك من تَزْيين الشيطان لهم أن ما هم عليه من السجود للشمس حق ، وعَلِمَ أنهم صُدُّوا عن السبيل فلا يهتدون ، كما عَلِمَ أن سليمان لم يَعْلَم بهذا الأمر برغم تمكينه من كل هذه الجنود من الجن والإنس والطير ، وإلا فلو عَلِمَ سليمان به ما كان يترك المشركين وشأنهم ، فَجَزَمَ الهدهد بأنه لم يُحِطْ بخبرهم فقال ( أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ ) ، كما عَلِم الهدهد أن الله وحده يَسْتَحِق السُّجُود والعبادة ، واستدل على ذلك بكمال علم الله بالخَفِيّ الخَبِئ في أقطار السماوات وأنحاء الأرض ، من صغار المخلوقات ، وبذور النباتات والفطريات ، وخفايا الصدور ، كما استدل بأن الله يخرج خَبْأ الأرض والسماء بإنزال المطر ، وإنبات النباتات ، ويُخْرج خبء الأرض عند النَّفخ في الصور ، وإخراج الأموات من الأرض ، ليجازيهم بأعمالهم ، كما استدل بربوبية الله للعرش العظيم الذي هو سقْفُ المخْلُوقات ، ووَسِعَ الأرض والسَّماوات . والمقْصودُ هنا بيان أن هذه الأحْيَاء ليْست بَكْمَاء صَمَّاء لا تعْلَم شيئا ، بل هي كما قد تبيَّن من ذكرها لله وتسبيحها له ، والعجب أنها تُحْشَر إلى ربها للحساب ، سبحان الله العظيم إذ أحصاها وما كان من أشياء تحاسَبُ عليها ، كالنَّعْجة القَرْناء التي يُقتصُّ منها للجلحاء إذ نطحتها القَرْناء ، ثم يقول لها كوني تراباً فتكون تراباً ، وفي هذا القدر كفاية حتى لا يطول بنا الحديث في(1/17)
ذلك .
ب - تسبيح الجمادات :
قال تعالي ( تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ) الإسراء 44 ، فكل الجَوامِد تُسَبِّح بحَمْدِه ولكنَّنا لا نَفْقه تَسْبيحَها إلا ما أخبرنا الله بِشَأنِها ، كما تقدم من تسبيح الجبال وتأويبها مع داود عَلَيْهِ السَّلاَم . وكما في هذه الآية الجامعة وغيرها ، وكما في الأخبار الثابتة كحنين الجذع . روى البخاري في عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا " كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ إِلَى جِذْعٍ فَلَمَّا اتَّخَذَ الْمِنْبَرَ تَحَوَّلَ إِلَيْهِ فَحَنَّ الْجِذْعُ فَأَتَاهُ فَمَسَحَ يَدَهُ عَلَيْهِ " وفي نفس الباب عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا :" فَجَعَلُوا لَهُ مِنْبَرًا ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ دُفِعَ إِلَى الْمِنْبَرِ ، فَصَاحَتْ النَّخْلَةُ صِيَاحَ الصَّبِيِّ ، ثُمَّ نَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَمَّهُ إِلَيْهِ ؛ تَئِنُّ أَنِينَ الصَّبِيِّ الَّذِي يُسَكَّنُ ، قَالَ كَانَتْ تَبْكِي عَلَى مَا كَانَتْ تَسْمَعُ مِنْ الذِّكْرِ عِنْدَهَا " 23(1/18)
وفي حديث ابن مسعود ( وَلَقَدْ كُنَّا نَسْمَعُ تَسْبِيحَ الطَّعَامِ وَهُوَ يُؤْكَلُ ) 24 أي في عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غالباً . وفي حديث أبي ذر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال : تناول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سبع حصيات فسَبَّحن، في يده حتى سمعت لهن حنينا ، ثم وَضَعهُنّ في يد أبى بكر فسبَّحن ، ثم وَضَعهُنّ في يد عمر فسبَّحن ، ثم وَضَعهُنّ في يد عثمان فسبَّحن ) 25 وفي رواية الطبراني : ( فسمع تسْبيحَهن من في الحلقة ) وفيه ( ثم دفعهن إلينا فلم يسبحن مع أحد منا ) والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكر عِلْمَه بحجر في مكة كان يسلم عليه ، وأشهر شيء في هذا : الحجر الأسود ، وكان أبيض اللون وسوَّدته خطايا أهل الشرك ، وقال تعالي ( وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ ) البقرة 74 ،أي من الحجارة ، وقال تعالي ( فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ ) الدخان 29 ، ولقد ذكر ابن كثير في هذه الآية طائفة من الأخبار الدالة على بكاء مواضع من السماء والأرض علي موت الصالحين ، وقال تعالي ( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ) الأحزاب 73 ، فالله عرض الأمانة عليها عرض تَخْيير لا تَحتيم ، فأبَيْن ذلك خَوْفاً أن لا يَقُمْن بما حُمِّلن ، لا عصيانا لربِّهن ، ولا زهدا في ثوابه ، ومع ذلك فهي أشد غضبا لله وغَيْرَة على جنابه العظيم من أكثر الناس ، قال تعالي ( وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا ) مريم 88 -90 ، كما أن لهذه الجوامد سجودا قَرَنَه(1/19)
اللهُ تعالي في الذكر بسجود الناس : قال تعالي ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء ) الحج 18، ولقد ذكر ابنُ القيِّم رَحِمَة الله أن المراد بقوله ( سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) هو التَّسْبِيح الذي هو السُّجُود والخُضُوع والطَّاعة . فقال : ( فإن قيل فما الفائدة في دخول الباء في قوله (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) ولم تدخل في قوله ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ) ؟ قيل : التَّسْبيح يراد به التَّنزيه ، والذكر المُجَردُ دون معني آخر ، ويراد به ذلك مع الصلاة ، وهو ذكر وتنزيه مع عمل ، ولهذا تُسَّمي الصلاة تسبيحا ، فإذا أريد التَّسْبِيُح المُجَرَّد فلا معني للباء ، لأنه لا يتعدى بحرف جَرّ ، لا تقول : سبحت بالله . وإذا أردت المقرون بالفعل وهو الصلاة ، أدخلت الباء تنبيها على ذلك المراد ، كأنك قلت : سبح مفتتحاً باسم ربك أو نَاطِقاً باسم ربك ، كما تقول : صل مفتتحا أو ناطقاً باسمه ، ولهذا السر - والله أعلم - دخلت اللام في قوله ( سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) الحديد ، والمراد : التَّسْبيح الذي هو السُّجُود والخُضُوع والطَّاعة ، ولم يقل في موضع : سَبَّحَ اللهَ ما في السماوات كما قال (وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) وتأمل قوله تعالي ( إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ) الأعراف 206 ، كيف قال : ويسبحونه لما ذكر السجود باسمه الخاص ، فصار التسبيح ذكرهم له وتنزيههم إياه أ . هـ بدائع الفوائد(1/20)
جـ 1
ص 19 ـ 20 .
سابعاً :
الأمر بالتَّسْبيح : لأهمِّية التسبيح كما مضى ، فقد جاء الأمر به كثيراً في الكتَاب بصيغٍ متنوعةٍ بحسب المطلوب . كقوله تعالي (وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) الأحزاب 42 وقوله ( وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ ) ق 40، وقوله ( وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ) الأعراف 206 ، ففي هذه الآيات أمرٌ بتسْبيح الله ، ليس فيه ذكر لحرف اللام أو الباء أو الاسم .
وجاء الأمر بالتسبيح بالحمد ( فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ) وقد عرفنا معناه ، وسيأتي مزيد بيان لخصوصيته وأهَمِّيته في تسبيح النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وجاء الأمر بِتَسْبيح الاسْم : قال تعالي ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ) وذلك لفائدتين علاوة على ما سبق . الأولي : للتنبيه على تسبيح المُسَمَّى من باب الأولي ، لأنه إذا كان الاسْم مُسَبَّحاً فكيف بمُسَمَّاه !!(1/21)
والفائدة الثانية : أنه يصبح المعني : سَبَّح بقلبك ولسانك ، أي سَبِّح ناطقاً باسم ربِّك 26 ، قال ابن القيم : الذكر الحقيقي محله القلب لأنه ضد النسيان ، والتَّسْبيح نوعٌ من الذكر ، فلو أُطلق الذكر والتسبيح لما فهم منه إلا ذلك دون اللفظ باللسان ، والله تعالي أراد من عباده الأمرين جميعاً ، ولم يقبل الإيمانَ وعقدَ الإسْلاَم إلا باقترابهما واجتماعهما ، فصار معني الآيتيْن : سَبِّح ربَّك بقَلْبِك ولِسَانِك ، واذكُر ربَّك بقَلْبِك ولسانك ، فأُقْحِم الاسم تنبيهاً على هذا المعني حتى لا يخلو الذكر والتسبيح من اللفظ باللسان ، لأنَّ ذِكْرَ القَلْبِ مُتَعَلَّقُة المُسَمَّي المدْلُولُ عليه بالاسْم دون ما سِوَاه ، والذكر باللسان مُتَعَلَّقُة اللفظ مَعَ مدلوله ، لأن اللفظ لا يراد لنفسه فلا يتوهم أحد أن اللفظ هو المُسَبَّح دون ما يدل عليه من المعني وعَبَّر لي شيخُنا أبو العباس بن تيميه ـ قدس الله روحه ـ عن هذا المعني بعبارة لطيفة وجيزة فقال : المعني : سبح ناطقاً باسم رَبِّك متكلما به ، وكذلك : سبح ربَّك ذاكراً اسمه . وهذه الفائدة تساوى رحلة لكن لمن يعرف قدرها ، فالحمد لله المنان بفصله ونسأله تمام نعمته 27 ) أ . هـ . وجاء الأمر بالتسبيح بالاسْم في قوله تعالي ( فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) وقد عَلمنا قَوَلَ ابْن القيم في إدخال البَاء على الاسْم ، أنها تفيد عَمَلاً مع التَّسْبِيح .(1/22)
وهي أيضاً تفيدُ معَني المُلاَبَسة كما سَبَق في معني التَّسْبِيح بالحمد ، كما تَجْمَع معني المصاحبة والاسْتِعَانَة ، على ما تَبيَّن في بدَاية البَحْث من معني التسبيح ، والذي أصله سَبْح القلب تذكُّرا وتفكُّرا في عظمة الله وكمالاته ، ومعلوم أن العظمة الكاملة تستلزم نفي جميع النقائض والمثيل والنظير ، فالتفكر في العظمة يدفع القلب واللسان إلى قول : سبحان الله ، والعظيم هو الذي له كثرة صفات الكمال مع سعتها ، كما أن له العظمة في ذاته ، ومن عظمته أن كرسيه وَسِع السماوات والأرضَ ، وأنه ربُّ العرشِ العظيمِ ، وما الكرسِيُّ في العرش إلا كحلقة في فلاة ، فإذا كان العَرْش بهذه العَظَمة ، فكيف بعظَمِة ربِّه سُبْحانه !! ولقد جاء هذا الأمر في سُورَتَي الواقعة والحاقة ، وسيأتي الكلام عليه مُوَسَّعَّاً في ورود التسبيح في الكتاب ، وفي اختصاص التَّسْبيح بحال الانخفاض .
تنبيه : قال شيخ الإسلام ابن تيميه : قوله ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ) ، ( فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) : أمر بتسبيح ربِّه ليس أمرا بصيغة معينة ، فإذا قال : سبحان الله وبحمده ، أو سبحانك اللهم وبحمدك ، فقد سبَّح ربَّه الْأَعْلَى والْعَظِيمِ ، فإن الله هو الْأَعْلَى والْعَظِيمِ ، واسمه " الله " يتناول معاني سائر الأسماء الحسني بطريق التضمن ، وإن كان التصريح بالعلو والعظمة ليس هو فيه ، ففي اسمه " الله " : التصريح بالإلهية ، واسمه الله أعظم من اسمه "الرب" ، وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ : أَيُّ الْكَلَامِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : مَا اصْطَفَى اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ أَوْ لِعِبَادِهِ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ .أ.هـ .
ثامناً : تسبيح الملائكة :(1/23)
لا يعلمُ أعدادَ الملائكة إلا اللهُ وحده ، إذ في كل موضع إصبعين من السَّماء مَلَكٌ ساجد أو راكع ، وعرض السماء لا يمكن تصوره بحال ، فمثلاً : السماء الدنيا : زينتها من النجوم والكواكب : أبعادها ومواقعها مستحيلة التصور لضخامتها واتساعها ؛ لدرجة أنه تم رصد مجرَّة بينها وبين الأرض مليار مليار سنة ضوئية ، يعني مسافة يقطعها الشعاع الضوئي في مليون مليون مليون سنة ، ( وهو الذي يقطع المسافة من الشمس إلى الأرض في ثمان دقائق وهي قرابة 150 مليون كيلو مترا ) فكيف لو سَارَ يوماً ؛ بل سنة ؛ بل مليون سنة ؛ بل مليار مليار سنة !! فكم يكون عرض السماء الدنيا ، وهي التي لا تعدل حلقةً في فلاة بالنِّسْبة للسماء الثانية ، وهكذا إلى السابعة ، هذا بخلاف السبعين ألفا الذين يدخلون البيت المعمور كل يوم ، بخلاف الحافظين الكرام الكاتبين ، بخلاف الْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا والْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا والْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا وأنواع وأنواع ... قال تعالي(وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ) المدثر 31 ـ وكلهم يُسَبِّحُونَ بحمد الله اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ ولا يَسْأَمُونَ . قال تعالي ( فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ ) فصلت 38 وقال ( إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ) الأعراف 206 . وقال ( وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ ) الأنبياء 19 ـ 20 وقال ( تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ(1/24)
الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) الشورى 5 وقال ( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا .. الآية ) غافر 7 ، وقال ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) البقرة 30 ، وقال ( وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) الزمر 75 . فإذا استكبر الكفار من الجن والإنس ، فما وزنهم في الملائكة إلا قليل ، بل ليس شيئاً ، لا سِيَّما وكل شئ يُسَبِّح بحمده ، فسبحان الله العظيم .
تاسعاً :
التَّسْبيحُ بالحَمْد مَلاَذ ومَفْزَعٌ للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا ضاق صدره مما يقول أعداؤه:ـ(1/25)
لقد شرح الله صدر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكان قلبُه أعظم قلوب البشر حياة ونورا ، مما جَعَلَه أَشَد حياءً من العذراء في خِدْرِها ، وأعداؤه يقولون على الله وعليه قولا عظيما يحزنه ويغُمُّه ويهُمُّه فيضيق صدره (حيث يقولون : افتراه ، ساحر ، كاهن ، شاعر ، ويقولون مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ ، ويقولون اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ، وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلآئِكَةِ إِنَاثًا ، وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا ، وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا ، وَجَعَلُوا لهم آلهة تشفع عنده بغير إذنه . . . وغير ذلك من أقوالهم ) فَوَعَظَه الله بما يشرح به صدره ، ويقوى به قَلْبُه ، فَأَمَرَه بأن يُسَبّحَ بحمده ويتزوَّدَ به على الدوام ، حيث يَسْبَح قلبه تذكرا وتفكرا في مَحَامِدِ الله تعظيماً وتنزيهاً ، على نحو مما يلي :ـ أن لَوْ شَاء اللّهُ مَا فَعَلُوهُ وما قالوه ، .. أن لو شاء الله لنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ ، أن لَوْ شَاء الله لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ، أن لو شاء الله لحَبَس أقوات ألسِنَتهِم فلم تَسْتَطع النطق بشيء ، لَقَدْ حَبَس اللهُ القُوتَ عن لِسَان زكريا عَلَيْهِ السَّلاَم فلا يكلم الناس ثلاثةَ أيام إلا رمزا إلا أن يسبح الله ويذكره فعندئذ ينطلق لِسَانه ، أمَّا ما قالوه من الباطل ، فعليه أن يُعَظِّم اللهَ ويجلَّه بمحامده عن ذلك ، فَيُسِّبحه بحمده ، .. وهكذا كل طاعة وعبودية منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما تشْرحُ صدْرَه وتزيدُه قوة ، قال تعالي ( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) الحجر 97 ـ 99(1/26)
وقال : ( فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى ) طه 130 ، وقال ( فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ ) ق 39 - 40
وقال ( وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ ) سورة الطور 84 ـ وقال ( فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ) غافر 58 : ( وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا ) الفرقان 58 ، ولما دنا أجله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وانتهت مهمته بتبليغ الرسالة وأداء الأمانة ، وجَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ، ودخل الناس فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا ، وأتم الله نعمته ، وظهرت حكمته الباهرة البالغة ، حينئذ نُعيتْ إليه نفسه بسورة النصر ، بعد طول عناء وكثير جهاد بكل أنواعه ومراحله ، حيث أمره ربه أن يسبح بحمد ربه ويستغفره ، مع أنه كان يفعل ذلك طيلة حياته ، فعُلِم أن المأمورَ به في سورة النصر أمرٌ أكبر من ذلك المتقدم ، وذلك مقدمة بين يدي انتقاله إلى الرفيق الأعلى ، وأنه قد بَقيَتْ عليه من عبودية التسبيح والاستغفار التي ترقيه إلى ذلك المقام بَقِيَّة ، فأمَره بتوفيتها في نهاية دعوته وحياته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (انظر أعلام الموقعين 1/436 لابن القيم) .(1/27)
قال تعالي ( إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ) النصر .
عاشراً : التسبيح مختص بحَالِ الانخفاض : -
قال شيح الإسلام ابن تيميه رحمه الله ولأن التكبير مختص بالذكر في حال الارتفاع ، كما أن التسبيح مختص بحال الانخفاض ، كما في السنن عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ :" كُنَّا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَعِدْنَا (علونا) كَبَّرْنَا وَإِذَا نَزَلْنَا (هبطا) سَبَّحْنَا " 28 .
فوضعت الصلاة على ذلك . ولما نزل قوله ( فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) الواقعة 74،96 . قال ( اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ ) ولما نزل ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ) قال: (اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ) 29 وثبت عنه أنه كان يَقُولُ في ركوعه : سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ وفي سَجَودَه ( سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى) 30 ولم يكن يكبر في الركوع والسجود . أ.هـ . جـ 16 صـ 113 .
وقال : وأما قراءة القرآن فيها فقد ثبت عنه أنه قال : (إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا) 31 وذلك أن القرآن كلام الله فلا يُتلى إلا في حال الارتفاع ، والتكبير أيضاً محله الارتفاع . أ.هـ . جـ 16صـ 114 .
وقال : والمقصود هنا أن التسبيح قد خُصّ به حال الانخفاض ، كما خص حال الارتفاع بالتكبير ، فذكر العبد في حال انخفاض وذله وما تصف به الرب مقابل ذلك ، فيقول في السجود : سبحان ربي الأعلى ، وفي الركوع : سبحان ربي العظيم . أ . هـ . جـ 16 ص 119 .(1/28)
قال الحافظ ابن حجر : قال المهلب : تكبيره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند الارتفاع : اسْتِشعَار لكبرياء الله عز وجَلَّ وعندما يقع عليه العين من عظيم خلقه أنه أكبر من كل شئ ، وتسبيحه في بطون الأودية مُسْتنبط من قِصَّة يونس عَلَيْهِ السَّلاَم ، فإن بتسبيحه في بطن الحوت نجَّاه الله من الظلمات ، فسبح النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بطون الأودية لينجيه الله منها .
وقيل : مناسبة التسبيح في الأماكن المنخفضة من جهة أن التسبيح هو التنزيه ، فناسب تنزيه الله عن صفات الانخفاض ، كما ناسب تكبيره عند الأماكن المرتفعة أ . هـ الفتح كتاب الجهاد والسير باب : التكبير إذا علا شرفا .
وقال في موطن آخر :
ومناسبة التكبير عند الصعود إلى المكان المرتفع أن الاستعلاء والارتفاع محبوب للنفوس لما فيه من استشعار الكبرياء ، فشرع لمن تلبَّس به أن يذكر كبرياء الله تعالي وأنه أكبر من كل شئ ، فيكبره ليشكر له ذلك فتزيده من فضله . ومناسبة التسبيح عند الهبوط : لكون المكان المنخفض محل ضيق فيشرع فيه التَّسْبيح وأنه من أسباب الفرج ، كما وقع في قصة يونس عَلَيْهِ السَّلاَم حين سبَّح في الظلمات فنجي من الغم أ . هـ . ك الدعوات باب الدعاء إذا هبط واديا .
قلت : لا تلازم بين المحل المنخفض والضيق ، بل الانخفاض في السُّجود يكون العبد فيه أقرب ما يكون من ربه ، وإنما كان تسبيح يونس عَلَيْهِ السَّلاَم لِينزِّه اللهَ عن ظلمه إذ الْتَقَمَهُ الْحُوت ، بل اعترف أنه هو الذي ظلم نفسه ، ولا وجه للربط بين تَسْبيحه هنا وحال انخفاضه في الظلمات ، ولكنه نجي لأَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ . والأقرب : هو تنزيه الله تعالي من صفات الانخفاض ، وذكر ما يتصف به سُبْحَانَه مُقَابل ذلك و هو " الأعلى" .(1/29)
وثمة معني آخر أراه مناسباً ـ والله تعالي أعلم ـ وهو أن القَلْب السَّليم ـ الذي يَسْبَحُ تذكرا وتفكُّراً في كمالاتِ الله ـ إذا ذكر ما يَنْسُبُه الظالمون الجاهلون من السُّوء والنَّقْصِ والعَيْبِ إلى رَبِّه ، فإنه يَحْزنُ ويأسفُ ويَغتم ويَبْرَأُ إليْه تعالي عَمَّا يقولون ، كما يَذِلّ ويُخْبِت وتضامن لعظمة الله سُبْحَانه أَنْ تجرأَ عليه الكفرة الفجرة ، فما أجمل أن يتواطأ البدن واللسان مع القلب في ذلك فينخفض البدن ( الرأس والصدر ) بنوعي الانخفاض ركوعاً وسجوداً مع التسبيح بذكر الصفات المقابلة لذلك كما تقدم 32 ، فانخفاض البدن وذُلّهُ نَاسَبَ جداً انخفاضَ القلبِ وذِلَّه بالتسْبيح ، ويمكن قياسُ ذلك على انخفاض البَصَر وذُلِّه وكَلاَلَته بعد تَطلُّعِه في خَلْقِ الرَّحْمن مَّرات وكَرَّات يَبْحَثُ عن تفاوتٍ أو فطورٍ فلم يَجدْ شيئا ، واستَحكم يَأسُه أن يجد - فما هو إلا الكمال ـ فارتد خَاسِئاً وهو حَسِير . قال تعالي ( الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ ) الملك 3، 4 خَاسِئا : ذليلا صاغرا ، حَسِيرٌ : منقطع من الإعياء وقد انكشف له عَجْزه وَيَأْسُه مِنْ كثرة التكرُّرِ ولا يرى نقصا . وأيضاً ما يكاد أن يحدث للسَمَاوات والأرض والجبال من هدمٍ وانخفاض فَزَعَاً وغَضَبًا لله أن نَسَبُوا إليه الوَلد ، قال تعالي ( تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا ) وهذا مرتبط بتْسبيح كل شئ بحمده .
ثم يأتي تخصيص آخر ، وهو تَخصيصُ الركوع بالعظيم ، والسُّجُود بالأعلى : -(1/30)
قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ عَزَّ وَجَلَّ وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ ) رواه مسلم في الصلاة (1 / 248 رقم 479 ) من حديث ابْنِ عَبَّاس .
قال ابن تيميه : فجعل التعظيم في الركوع أخَص منه في السجود ، والتسبيح يتضمن التعظيم 33 .
قال الشوكاني : والحكمة في تخصيص الركوع بالتعظيم ، والسجود بالأعلى : أن السجود لمَّا كان فيه غاية التواضع لما فيه من وضع الجبهة ـ التي هي أشرف الأعضاء ـ علي مواطئ الأقدام كان أفضل من الركوع ، فحسن تخصيصه بما فيه صيغة أفعل التفصيل وهو الأعلى بخلاف العظيم جعلا للأبلغ مع الأبلغ ، والمطلق مع المطلق 34 .
قلت : السُّجود هو النهاية في الانخفاض والذل ، فيقابله النهاية في العلو ، وهو " الأعلى " ، وذلك إضافة إلى التعظيم المتَضَمَّن في التسبيح في " سبحان ربي الأعلى " ، أمَّا الركوع فالأمر فيه بتعظيم الرب في ( سبحان ربي ) وتأكيد ذلك التعظيم بالتصريح بذكر اسْمِه العظيم في مقابل الانحناء ومطلق الانخفاض .
قال الكرماني : ووصفه بالعظيم لأنه الشامل لسَلْب ما لا يليق به ، وإثبات ما يليق به ، إذ العظمة الكاملة مستلزمة لعدم النظير والمثيل ونحو ذلك ، وكذا العلم بجميع المعلومات ، والقدرة على جميع المقدورات ونحو ذلك أ . هـ . ك التوحيد ب : قول الله تعالي ( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ) .
حادي عشر : سؤال وجوابه : -
سؤال : ما الحاجة إلى التنزيه ونفي العيوب ، والله ليس بمظنة للعيوب أبداً ، بل بعده عنها متناهي ؟
الجواب : لأن الكفرة والظلمة نسبوا إليه العيب والنقص والسوء والشريك والولد والند والمثيل ، ولأن التنزيه مما قالوا يتضمن تقرير الكمال المقابل . فالتنزيه من تمام الحمد فلا غني عنه .(1/31)
سؤال : ولماذا قدَّر الله وجود من يقول على الله بغير علم ، ويفسد في الأرض على هذا النحو ؟ ألم يكن الأولي جعل كل الناس صالحين مصلحين ، فلا يُحْتاج إلى تنزيه ولا إلى صراع بينهم ؟
الجواب : هذه القضية صُنِّفَتْ فيها الكتب المطولة ، لكن سأذكر هنا نبذة سريعة عن موقع التنزيه من تقرير صفات الكمال وتكميل أنواع الحمد ، فيترتب على ذلك غاية الحب لله بغاية الذل له ، وهي العبادة التي خُلِق الجن والإنس من أجلها وما يترتب عليها من الثواب والعقاب ، فأقول :
كما يقال : بضدها تتميز الأشياء ، فإن مَحَاسِن الشيء لا تظهر تمام الظهور إلا بمعرفة ما يضاده ويخالفه ، وبالتالي فإنَّ ظهورَ الحق تمامَ الظُّهُور يَسْتلزم وجودَ ما يضاده ويخالِفه من البَاطِل الذي كلما ظهر بطلانه أسْفَر وجهُ الحق وتقررت أدلته وبراهينه فهزم البَاطل ودَمَغة ودَحَض حُجَجَهُ ، ولنأخذ مثالاً على ذلك : -(1/32)
الله تعالي هو الغني ، والناسُ يعرفون ، لكن ظهور غناه تمام الظهور ، وتقرُّرَه في الأسماع والقلوب حق التقرُّر ، إنما عند التَّصدِّى للمجرمين الذين يقولون( إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء ) ويقولون ( يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ ) والذين يقولون ( اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ) ونحو ذلك من الأقوال ، فيكون ذلك التصدي بمناظرتهم ومُحَاجَّتهم بأن الله تعالى له الكمال المنافي للنقص ، ومنه كمال الغني المنافي للحاجة ، فلا يحتاج لشيء من الولد أو المال أو المشارك أو الظهير والمعين أو غيره ، وإنما نحن البشر مثلا نحتاج إلى الولد للاستمتاع به كقُرَّتِ عَيْن ، والتَّعُّوذ به ، والاستظهار والاستعانةُ به ، وليكون وريثا يحمل الاسم ويطول به الذكر ، وغير ذلك ، فالله تعالي لم يتخذ ولدا لأنه غنيُّ بالذات ، وكل الخلق إليه فقراء بالذات ، ولأنه هو الواحد القهار فلا يحتاج إلى من يتعزَّز به ، ومن غناه أن له ما في السماوات وما في الأرض ولم تكن له صاحبه ، فأني يكون له ولد ، ومن غناه أنه يقول للشيء كن فيكون ، فلا يحتاج للظهير والمعين من الولد وغيره ، وهكذا تتابع الأدلة والبراهين على تنزيه الله تعالي مما قالوا ، فالله تعالي كثَّر هؤلاء المجرمين فكثرت مقالاتهم وتنوعت بين كفر وشرك وتعطيل وإلحاد وزندقة وتَشَيُّع وتَصوُّف وغيره ، فاحتاج الأمر إلى تنوع للتنزيه بتنوع الأدلة التي تَدمغُ كلَّ ما قالوا من الباطل ، فكان ذلك سببا في ظهور الكمالات المتنوعة ، وتكميل المحامد الكثيرة ، ولقد جاء القران بكل ذلك مستوفي على التمام ، ولم يتركْه اللهُ لاجتهاد المجتهدين ، بل بيَّنه أعْظَمَ بَيَانٍ ، وفَصَّله بَعْد أن أحْكَمه ، وضرب له الأمثال ، وسورة الإخلاص التي تعدل ثلث القرآن ، كلها في التنزيه وتقرير الحمد والكمال ، وآية الكرسيّ وهي سيدة آي القرآن فيها البيان والشفاء في هذا المقصد القرآنيّ العظيم ، فالتنزيه عن السِّنة(1/33)
والنوم : تقرير لكمال الحياة والقيومية ، والتنزيه عن الشفيع بغير إذنه : تقريرٌ لكمال الملك ، والتنزيه عن الإحاطة بشيء من علمه إلا بما شاء : تقريرٌ لِكَمَال علمه ، والتنزيهُ عن مَشقَّة حفظ مُلْكِه مع سَعَتِه : تقريرٌ لكمال سعته سبحانه وقدرته وعلوه وعظمته ، وهكذا يَثْبت أن التنزيه من تمام الحمد ، كما أن الحمد من تمام التنزيه ، لأن الحمد هو أدلة التنزيه . وسأترك الكلام هنا لابن القيم من موطن موجز له من كتاب طريق الهجرتين .(1/34)
قال رحمه الله : وهذا القرآن المجيد عمدته ومقصوده الإخبار عن صفات الرب سبحانه وأسمائه وأفعاله وأنواع حمده ، والثناء عليه والإِنباء عن عظمته وعزته وحكمته وأنواع صنعه والتقدم إلى عباده بأمره ونهيه على ألسنة رسله ، وتصديقه لهم بما أقامه من الشواهد والدلالات على صدقهم وبراهين ذلك ودلائله ، وتَبْيين مراده من ذلك كله ، وكان من تمام ذلك : الإخبار عن الكافرين والمكذبين وذكر ما أجابوا به رسلهم ، وقابلوا به رسالات ربهم ، ووصف كفرهم وعنادهم وكيف كذبوا على الله وكذَّبوا رُسُلَه ، وردّوا أمره (ومصالحه) ، فكان في اجتلاب ذلك من العلوم والمعارف والبيان ، ووضوح شواهد الحق وقيام أدلته وتنوعها ، وكان موقع هذا من خلقه موقع تسبيحه تعالى وتنزيهه من الثناء عليه ، وأن أسماءه الحسنى وصفاته العليا هي موضع الحمد ، ومن تمام حمده تسبيحه وتنزيهه عما وصفه به أعداؤه والجاهلون به مما لا يليق به ، وكان في تنوع تنزيهه عن ذلك من العلوم والمعارف وتقرير صفات الكمال وتكميل أنواع الحمد ما في بيان الشيء وكماله عند معرفة ما يضاده ويخالفه ، ولهذا كان تسبيحه تعالى من تمام حمده ، وحمده من تمام تسبيحه ، ولهذا كان التسبيح والتحميد قرينين ، وكان ما نسبه إليه أعداؤه والمعطلون لصفات كماله - من علوه على خلقه وإنزاله كلامه الذي تكلم به على رسله وغير ذلك - مما نزه عنه نفسه وسبح به نفسه ، وكان في ذلك ظهور حمده بخلقه ، وتنوع أسبابه وكثرة شواهده وسعة طرق الثناء عليه به وتقرير عظمته ومعرفته في قلوب عباده ، فلولا معرفة الأسباب التي يُسَبَّح ويُنَزَّه ويتعالى عنها ، وخَلْقُ من يضيفها إليه ويصفه فيها ، لما قامت حقيقة التَّسْبيح ، ولا ظهر لقلوب أهل الإيمان عن أي شيء يسبحونه وعماذا ينزهونه !! فلمَّا رأوا في خَلْقِه من قد نَسَبه إلي ما لا يليق به وجحد من كماله ما هو أولي به : سبَّحوه حينئذ تسْبيح مُجِلِّ له مُعظِّم له منِّزه له عن أمر(1/35)
قد نسبه إليه أعداؤه والمعطِّلون لصفاته ، ونظير هذا : اشتمال كلمة الإسلام - وهي شهادة أن لا إله إلا الله - على النفي والإثبات ، فكان في الإتيان بالنفي في صدر هذه الكلمة من تقرير الإثبات وتحقيق معنى الإلهية ، وتجريد التوحيد الذي يقصد بنفي الإلهية عن كل ما ادُّعيت فيه سوى الإله الحق تبارك وتعالى ، فتجريد هذا التوحيد من العقد واللسان بِتَصَوُّر إثبات الإلهية لغير الله كما قاله أعداؤه المشركون ، ونَفْيُه وإبطاله من القلب واللسان من تمام التوحيد وكماله وتقريره وظهور أعلامه ووضوح شواهده وصدق براهينه . ونظير ذلك أيضا أن تكذيب أعداء الرسل وردَّهم ما جاءوهم به كان من الأسباب الموجبة ظهور براهين صدق الرسل ودفع ما احتج به أعداؤهم عليهم من الشُّبَه الداحضة ، ودحض حججهم الباطلة ، وتقرير طرق الرسالة ، وإيضاح أدلتها ، فإن الباطل كلما ظهر بطلانه أسفر وجه الحق ، واستنارت معالمه ، ووضحت سبله ، وتقررت براهينه ، فكسر الباطل ودحض حُججه ، وإقامة الدليل على بطلانه من أدلة الحق وبراهينه . فتأمل كيف اقتضى الحق وجود الباطل ، وكيف تم ظهور الحق بوجود الباطل ، وكيف كان كفر أعداء الرسل بهم وتكذيبهم لهم ودَفْعُهم ما جاءوا به ، وهو من تمام صدق الرسل وثبوت رسالات الله وقيام حججه على العباد . وضرب ابن القيم مثالا طويلا يتبين به ما مضي ثم قال : والمقصود أن خلق الأسباب المضادة للحق وإظهارها في مقابلة الحق من أبين دلائله وشواهده ، فكان في خلقها من الحكمة ما لو فاتت لفاتت تلك الحكمة ، وهي أحب إلى الله من تفويتها بتقدير تفويت هذه الأسباب . والله أعلم . طريق الهجرتين صـ 143 ـ 145 35 .
ثاني عشر :
ظَنّ السَّوْء : ( نبذة سريعة )(1/36)
آفة الآفات ، وأصل البليَّات ، هي ظن السَّوْء بالله سبحانه وتعالي وهو ظن غير الحق لأنه ظن غير ما يليق بأسمائه الحسنى وصفاته العليا ، فما كفر كافر ولا أشرك مُشْرِك ولا ابْتَدع مُبْدَع بِدْعَة في العقائد ( كالقدرية والجبرية والخوارج والمرجئة وغيرها ) إلا وأصل ذلك ظَنُّ السَّوْء . قال تعالي ( وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا ) وقال ( وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ ) فصلت 22 ـ 23 . وقال للمخلَّفين من الأعراب ( بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا ) الفتح 12 وقال عن أهل الشك والرَّيْب من الذين نافقوا ومن ضُعَفَاء الإيمان ـ لما ظهر المشركون في غزوة أحد ـ حيث ظنوا أنها الفَيْصَلة وأنَّ الإِسْلاَم قَدْ باد وأهله ، فأساءوا الظن بربهم وبِنَبيِّه وبدينه ، وكذبوا بقدر الله ، وسفَّهُوا رأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورأىَ أصحابه ، وزكَّوْا أنفسهم .. إلي آخر ما جاءت به الآية في قوله ( ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ ... الآية ) آل(1/37)
عمران 154 . وفي غزوة الأحزاب حيث اشتد الأمر واستحكمت الأسباب واشتد الخوف على النساء والذرِّية ، واشتد البرد والجوع ووقع الابتلاء والزلزلة الشديدة بالمؤمنين ، فمن الناس من ظن بالله الظنون السيِّئة أن الله لا ينصر دينه ولا يتم كلمته ولا يحقق وُعُودَه وأن لا أمل بعد ذلك ، وبلغ الظن بهم مداه ، قال تعالي ( إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ) الأحزاب 10 ـ 11 وليس هذا موضع بسط هذه السِّيَاقات ، والمْقُصودُ هنا بَيَان خَطر ظن السَّوْء وأنه أصْل للشر ، حتى يَحْذرَه المُسَجِّون .
ولما واجه إبراهيم عَلَيْهِ السَّلاَم الصَّابئين المُشْركين مِنْ قومه ذكَّرهُم بما أوقعهم في شِرْكهم وهو ظَن السَّوء بربِّ العالمين ، قال تعالى ( إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ )الصافات 85-87 .
قال بن القيم أي فما ظنكم به أن يجازيكم وقد عبدْتم معه غيره ؟ وما الذي ظننتم به حتى جعلتم معه شركاء ؟ أظننتم أنه محتاج إلى الشركاء والأعوان ؟ أم ظننتم أنه يخفي عليه شئ من أحوال عباده حتى يحتاج إلى شركاء تعرفه بها كالملوك ؟ أم ظننتم أنه لا يقدر وحده على استقلاله بتدبيرهم وقضاء حوائجهم ؟ أم هو قاس فيحتاج إلى شفعاء يستعطفونه على عباده ؟ أم ذليل فيحتاج إلى ولي يتكثر به من القِلَّة ويتعوذ به من الذِّلَّة ؟ أم يحتاج إلى الولد ، فيتخذ صاحبة يكون الولد منها ومنه ؟ تعالي الله عن ذلك كله علوا كبيراً أ . هـ مدارج جـ3 ص322 درجات المعرفة .(1/38)
وقال أيضا : وبالجُمْلَة : فمن ظنَّ به خلاف ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله ، أو عَّطل حقائق ما وصف به نفسه ، ووصفته به رسله فقد ظن به ظن السوء .
ثم ضرب رحمه الله على ذلك أمثلة كثيرة فقال :
* فمن ظن أنه لا ينصر رسوله ، ولا يتم أمره ، ولا يؤيده ويؤيد حزبه ويعليهم ، ويظفرهم بأعدائه ، ويظهرهم عليهم ، وأنه لا ينصر دينه وكتابه ، وأنه يديل الشرك على التوحيد ، والباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها التوحيد والحق اضمحلالا لا يقوم بعده أبدا ، فقد ظن بالله ظن السوء ، ونسبه إلى خلاف ما يليق بكماله وجلاله وصفاته ونعوته ، فإن حمده وعزته وحكمته وإلهيته تأبى ذلك ، وتأبى أن يذل حزبه وجُنده ، وأن تكون النصرة المستقرة ، والظفر الدائم لأعدائه المشركين به ، العادلين به ، فمن ظن به ذلك ؛ فما عرفه ، وما عرف أسماءه ، ولا عرف صفاته وكماله ،
* وكذلك من أنكر أن يكون ذلك بقضائه وقدره ؛ فما عرفه ولا عرف ربوبيته ، وملكه وعظمته .(1/39)
* وكذلك من أنكر أن يكون قدَّر ما قدَّره من ذلك وغيره لحكمه بالغة ، وغاية محمودة يَسْتحق الحمد عليها ، وأن ذلك إنما صدر عن مشيئة مجردة عن حكمة ، وغاية مطلوبة هي أحب إليه من فوتها ، وأن تلك الأسباب المكروهة المفضية إليها لا يخرج تقديرها عن الحكمة لإفضائها إلى ما يحب ، وإن كانت مكروهة له ، فما قدَّرها سدى ، ولا أنشأها عبثا ، ولا خلقها باطلا ( ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ) . وأكثر الناس يظنون بالله غير الحق ظن السَّوْء فيما يختص بهم ، وفيما يفعله بغيرهم ، ولا يسلم عن ذلك إلا من عرف الله وَعَرَف أسماءه وصفاته ، وعرف موجب حمده وحكمته ، فمن قنط من رحمته ، وأيس من رَوْحه فقد ظن ظن السَّوْء * ومن جوز عليه أن يعذب أوليائه مع إحسانهم وإخلاصهم ويسوي بينهم وبين أعداؤه فقد ظن به ظن السوء * ومن ظن به أن يترك خلقه سُدى ، مُعَطَّلين عن الأمر والنهي ، ولا يرسل إليهم رُسُلَه ، ولا ينزِّل عليهم كتبه ، بل يتركهم هَملاً كالأنعام ، فقد ظن به ظن السَّوْء * ومن ظن أنه لن يجمع عبيده بعد موتهم للثواب والعقاب في دار يجازي المحسن فيها بإحسانه ، والمسيء بإساءته ، ويبين لخلقه حقيقة ما اختلفوا فيه ، ويظهر للعالمين كلهم صِدْقه وصدق رسله ، وأن أعداءه كانوا هم الكاذبين ( كما يقول ويعتقد منكروا الرسالات والبعث ) فقد ظن به ظن السَّوء .ثم ذكر رحمه الله مثالين طويلين ؛ الأول عن الجبرية ونفاة الحكمة ونفاة التحسين والتقبيح العقلي وأنهم بذلك ظنوا ظن السوء . الثاني عن الأشعرية في اعتقادهم فيما وصف الله به نفسه وأفعاله وأنهم بذلك ظنوا به ظن السوء .(1/40)
ثم قال * ومن ظن به أن يكون في ملكه ما لا يشاء ولا يقدر على إيجاده وتكوينه ( كما تقول القدرية نفاة القدر ) فقد ظن به ظن السوء * ومن ظن به أنه فوق سماواته على عرشه بائنا من خلقه ، وأن نسبة ذاته تعالى إلى عرشه كنسبتها إلى أسفل سافلين ، وإلى الأمكنة التي يرغب عن ذكرها ، وأنه أسفل ، كما أنه أعلى ( كمن يقول : هو في كل مكان ) فقد ظن به أقبح الظن وأَسْوأَه * ومن ظَنَّ أنه يسوي بين المتضادين ، أو يفرق بين المتساويين من كل وجه . أو يحبط طاعات العمر المديد الخالصة الصواب بكبيرة واحدة تكون بعدها فيخلد فاعل تلك الطاعات في النار أبدَ الآبدين بتلك الكبيرة ، ويحبط بها جميع طاعاته ، ويخلِّده في العذاب ، كما يخلد من لا يؤمن به طرفة عين ، وقد استنفد ساعات عمره في مساخطه ومعاداة رسله ودينه ( كما يقول الخوارج والمعتزلة ) فقد ظَنَّ به ظَنَّ السوء .
* ومن ظن أن له ولدا أو شريكا ، أو أن أحدا يشفع عنده بدون إذنه ، أو أن بينه وبين خلقه وسائط يرفعون حوائجهم إليه ، أو أنه نصب لعباده أولياء من دونه يتقربون بهم إليه ، ويتوسلون بهم إليه ، ويجعلونهم وسائط بينهم وبينه ، فيدعونهم ، ويحبونهم كَحُبِّه ، ويخافونهم ويرجونهم ( كما يفعل القبوريون ) فقد ظَنَّ به أقبح الظن وأسْوَأه .
* ومن ظن به أنه إذا ترك لأجله شيئا لم يعوضه خيرا منه ، أو من فعل لأجله شيئا لم يعطه أفضل منه ، فقد ظن بن ظن السَّوْء * ومن ظن به أنه يغضب على عبده ، ويعاقبه ويحرمه بغير جرم ولا سبب من العبد إلا بمجرد المشيئة ، ومحض الإرادة ، فقد ظن به ظن السَّوْء .
* ومن ظن به أنه إذا صدقه في الرغبة والرهبة ، وتضرع إليه ، وسأله ، واستعان به ، وتوكل عليه أنه يُخَيبُه ولا يعطيه ما سأله ، فقد ظن به ظن السَّوْء ، وظن به خلاف ما هو أهله .(1/41)
* ومن ظن به أنه إذا أغضبه ، وأسخطه ، وأوضع في معاصيه ، ثم اتخذ من دونه وليا ، ودعا من دونه مَلَكا ، أو بشرا حَيَّا أو ميِّتاً ، يرجو بذلك أن يَنْفعه عند ربِّه ، ويخلصه من عذابه ( كما يفعل القبوريون ) فقد ظنَّ به ظن السَّوْء ، وذلك زيادة في بعده من الله ، وفي عذابه .
ثم ذكر رحمه الله مثالا طويلا عن الرافضة والقدرية ثم قال : فأكثر الخلق ، بل كلهم إلا من شاء الله يظنون بالله غير الحق ظنَّ السَّوْء . فإن غالب بني آدم يعتقد أنه مبخوس الحق ، ناقص الحظ وأنه يستحق فوق ما أعطاه الله ، ولسان حاله يقول : ظلمني ربي ومنعني ما أستحقه ، ونفسه تَشهد عليه بذلك ، وهو بلسانه ينكره ولا يتجاسر على التصريح به ، ومن فتَّش نَفْسَه ، وتَغَلْغَل في معرفة دَفَائِنها وَطَواياَها ، رأى ذلك فيها كامنا كُمُون النار في الزناد ، فاقدح زناد من شئت ينبئك شراره عما في زناده ، ولو فَتَّشت من فَتَّشته ، لرأيت عنده تعتُّبا على القدر وملامة له ، واقتراحا عليه خلاف ما جرى به ، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا ، فمستقل ومستكثر ، وفَتِّش نفسك هل أنت سالم في ذلك ؟
فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة ... وإلا فإني لا إخالك ناجيا .
فليعتن اللبيب لنفسه بهذا الموضع ، وليتب إلى الله تعالى وليستغفره كل وقت من ظنه بربِّه ظن السَّوْء ، وليظنَّ السوء بنفسه التي هي مأوى كل سوء ، ومنبع كل شر ، المركبة على الجهل والظلم ، فهي أولى يظن السَّوْء من أحكم الحاكمين ، وأعدل العادلين ، وأرحم الراحمين ، الغنيّ الحميد ، الذي له الغنى التام ، والحمد التام ، والحكمة التامة ، المنزه عن كل سوء في ذاته وصفاته وأفعاله وأسمائه ، فذاته لها الكمال المطلق من كل وجه ، وصفاته كذلك ، وأفعاله كذلك ، كلها حكمة ومصلحة ، ورحمة وعدل ، وأسماؤه كلها حسنى أ . هـ باختصار وتصرف زاد المعاد بعد ذكر بعض الحكم والغايات المحمودة التي كانت في وقعة أحد ( 3/ 218 - 244 ) .(1/42)
قلت : فإذا كان هذا حال الناس في زمان ابن القيم ، فكيف بأهل زماننا !! أعني الذين يصلون ويُسَبِّحون بألسنتهم دون قلوبهم إلا قليلا ، ثم كلما هوت الرياح بما لا تشتهى السفن ، أساءوا الظن بربهم - لو خسرت تجارته وربحت تجارة من حوله أساء الظن بربه - لو رُزق الإناث ، ورُزق جاره أو قريبة بالذكور أساء الظن ـ لو أبتُلي بمرض ثقيل مع صحة من حوله أسَاء الظَّن ـ لو ظلمه الناس أساء الظن ـ لو رأى الظالمين ممتعين وممكنين أسَاء الظَّن ـ لو رأى التقدم التكنولوجي الهائل لدى الكُفَّار أساء الظن ـ لو رأى يتيما فقيرا أصابته حادثة أسَاء الظَّنَّ ـ لو رأى حيوانا يتألم أساء الظَّن ـ لا تكاد تمر عليه لحظه بغير ظَن السَّوْء ـ ومع ذلك يمسك بالمسبحة يتمتم بها كثيراً بلسانه . أَلاَ فلْيَعْتَن المُسْلِم بشَأن التَّسْبيح ، وليذكر أنه عمل قلبي قبل اللسان وليذكر أن الله تعالي يُحبُّ أن يُحْمد ويثني عليه بتنزيهه من الشر وأنه ليس إليه ، كما ثبت في صحيح مسلم أن رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم كان يثني على ربه بذلك في دعاء الاستفتاح في قوله : ( لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ ، أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ ، تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ ) رواه مسلم 771 صلاة المسافرين وقصرها ، والترمذي في الدعوات 32 ، والنسائي (2/130) في الافتتاح .
ثالث عشر
ورُودُ التَّسْبيح في القُرْآن :
ورد التَّسْبيح في القُرآن في أكثر من سِتِّين موضعاً ينبغي تَدُّبرُهَا لِتَرْسيخ ما تقدم من المعاني ، وسأتناول منها ما تيسر بتعليق موجز في الأغلب : -(1/43)
(1) قال تعالي (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) الحشر 22 ـ 24 واضح هنا جدا اقتران المحامد بالتسبيح ، وهذه المحامد منها ما يدل علي صفات الذات ومنها ما يدل علي صفات الأفعال . والسِّياق كله واضح الدلالة علي أن التسبيح من تمام الحمد ، وأن الحمد من تمام التسبيح . فسبَّحَ نفسه عن شرك المشركين به عقب تَمدُّحه بأسمائه الحسني المقتضية لتوحيده واستحالة إثبات شريك له . حيث عَّظّم نفسه تعالي بأنه الإله الحق عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْمُتَكَبِّرُ ، ثم أكَّد العظمة ونَفَي ما يناقضها فقال : سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ، ثم ذكر أفراد أخرى من أفراد العظمة ( الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى ) ومن عظمته أنه يسبح له ويفتقر إليه ويخضع له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم
(2) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ : الواقعة 74ـ 96 ، الحاقة 52 .(1/44)
سبق الحديثُ عَنْ هذه الآية في الأمْر بالتسبيح وفي معني تسبيح ما في السماوات والأرض لله ، وفي اختصاص السّجود بحال الانخفاض ، وبقي الحديث عن سياقات وٌرٌودِها ، وتقدم لذلك ببيان عن ذكر الرُّبُوبِيَّة في القرآن : - حيث ورد اسْمه تعالي الرَّبّ في أكثر من تسعمائة وسبعين موضعاً من كتاب الله موزعة على أقسام ثلاثة : القسم الأول : الخلق وقيامُه وتدبير أمره ، ويسمَّي بالقدري الكوني لقوله تعالي ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ) القمر 49 ، وبقوله ( إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) النحل 40 وكل ما يأتي من آيات الله وآلائه في جميع المخلوقات يدخل في هذا القسم ، وهي الأدلة القاطعة على ثبوتِ القِسْمَيْن الآخَرين .
القسم الثاني : النُّبُوَّات وإرسال الرسل وإنزال الكتب ، أو يُسَمَّي بالقِسَمْ التَّشْرِيعي لِقَوْله (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ . . . الآية) الشورى أو الأَمْر بقوله ( أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) الأعراف 54 وكل ما يأتي به الوحي من الكتاب والسُّنة ، من خَبَرٍ أو طلب يدخل في هذا القسم ويدخُل فيه أيضاً نَصْرُ الرُّسُلِ وتمكينُهم وجعل الخير والبركة من طريقهم وحدهم .
القسم الثالث : - الجزائي وهو يَشْمَلُ الحِسَابَ والثوابَ والعقابَ في الدنيا والآخرة وهذه الأقسام الثلاثة متلازمة ، وبَسْط ذلك في شرح اسْمِه تعالي " الرَّب " .(1/45)
ومن الأمثلة الواضحة على هذه الأقسام : سورة الواقعة التي تكررت فيها الآية مرتين : فبدأت السورة بالجزاء وجعل الناس أزواجا ثلاثة وذكر جَزَاء كل منهم . وذلك إلى قوله (هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ) الواقعة 56 ثم بدأ ذكر القسم القدري الكوني بقوله ( نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ ) الواقعة 57 إلى قوله ( نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ ) 73 وكلها آيات دالات على العظمة في الخَلْق والتَّقْدِير ، في خَلْقِ الإنْسَان مما يُمْنون ، ودلالة ذلك على النشأة الآخرة ، وفي خلق النَّبات والزرع وإخراجه من الأرض ، ولو شاء لجعله حطاماً بلا ثمرة ، وفي إنزال الماء عذبا ولو شاء لجعله ملحا أجاجا لا يُشْرَب ولا ينتفع به ، وفي خلق النار في الدنيا والاسْتمتاع بها وتذكُّرِ نار الآخرة ، فدَلَّت هَذِه الآيات على الأفعالِ المُقَدَّسَة الظَاهِرَة في المخلوقات ، والتي بِدَوْرِها تَدُلُّ على كَمَال عِلْمِ اللهِ وحِكْمَته وقدْرَتِه وغير ذلك من أفراد العَظَمَة الكَامِلة المُسْتَلْزمة للتنزيه من النقائص ومنها أن يترك عبادَه هَمَلاَ بلا رِسَالاَتٍ وما يَتَرتَّبُ عليها من الجزاء ، لذلك عَقَّبَ على الآيات بقوله (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) وهو الأمر بالتَّسبيح المتَضمن للتعظيم والتنزيه .(1/46)
ثم استأنف تعالي بالقَسَمِ بإحدى الكبر من آياته للدلالة على ما سبق ، وهي مواقع النجوم والتي تقدر أعدادها بمليارات المليارات ، وكلها تسبح بِسُرْعات فلكيِة هَائِلة ، وبمسَافَاتٍ بَيْنِيَّة تُقَدَّر بملْيَارات المْلَيارات من السِّنين الضَّوئية ، ومنها الخُنَّس المُسَمَّاه حالياً في علوم الفلك الحديثة ، بالثقوب السوداء ، حيث الخانس الواحد يجرى مبتلعا ما يقابله من النجوم والكّواكب حتى يصل إلى الكتلة الحرجة فينفجر إلى مجرة كَامِلَة بها مِئَاتُ آلاف الملايين من النجوم ، يتم ذلك بلا خلل ولا فطور ولا فروج وإلا انتهت الدنيا ، بل كله بِحُسْبَان ، وسبحان ربنا العظيم ، وتأمَّلْ في القَسَم بمواقع النُّجوم ، والتَّنبيه إلى أنه قَسَمٌ - لو يعلمُ النَّاسُ - عظيم ، لتعرف عظمة المُقْسَم به ودلالته على ثبوت الوحي والحساب ، إذ لا يليق بعظمة خالقة أن يخلق النَّاسَ عبثا ويتركهم سُدىً ، فالمُقْسَمُ عليه هو القرآن وَوَصْفُه قال تعالي ( فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ) فهذا هو القِسْمُ التَّشْريعي ، ثم اسْتَطْردت الآيات بعد ذلك في ذكر الموت ومتعلقاته ودلالاته ، وختمت السورة بذكر الجزاء وتقسيم الناس أزواجا ثلاثة ، ثم جاءت الآية خاتمة للسورة كمسك الختام تعظيماً وتنزيها لرب الأنام ، ( فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) ولولا خوف الإطالة والملالة لذكرت من كنوز السورة ما هو العجب العجاب ، ولكني أُحِيلُ القارئ إلى تعليقات ابن القيم رحمة الله في بدائع التفسير .(1/47)
أما في سورة الحاقة فابتدأت السورة بذكر الجزاء الأخروي بالحق ، ثم ذكرت أمثلة من الجزاء الدنيوي بمصارع الظالمين المكذبين - وهي آيات عظيمات في الدلالة على صدق الرسل وأنهم حق ، وأن البعث حق ، والجزاء والحساب حقّ ، - كإهلاك ثمود بالطاغية ، وعاد بريح صرصر عاتية ، وفرعون بالأخذة الرابية ، وقوم نوح بالغرق مع إنجاء المؤمنين في الجارية ، ثم ذكرت الجزاء في الآخرة والعرض على الله حيث لا تخفي من الناس خافيه ، ثم ما يكون مع المؤمنين ( أهل اليمن ) من الفضل ، ومع أهل الشمال من العدل ، لأنه كان لا يؤمن بالله العظيم ، الذي عظمته لا تخفي على مخلوق ، فلم يعظم الحق ، ولم يرحم الخلق ، والآيات تحتاج إلى تدبُّر وبَيَان وتَفْصيل ليس هذا موضعه ، ثم ختمت السورة بذكر القِسْم التَّشْريعي ، بالتركيز على أن محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم حق ، وكل ما جاء به حق ، ويستحيل أن يكون متقوِّلا على اللهِ كَاذِباً عليه ، ومن رَمَاه بذلك فقد نَسَبَ إلي اللهِ أعظم النقص في عِلمِه وحِكْمتِه وقُدْرَتِه ومُلْكِه وتَصَرُّفِه ، بل هو طعن في ربوبية الله عز وجل ، ولا عذر لأحد في ذلك بعد ما ذُكر من أول السُّورة إلى قَوْلَهِ تعالي ( لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِؤُونَ ) الحاقة 37 ، وما بيَّنته الآيات في القِسمَيْن القدري الكوني ، والجزائي ، وأثبتت له العظمة الكاملة ، فكيف لا يَعْلم بأمر رجل زعم الرسالة إلى الناس كافة ، واستباح دماءَ المكذِّبِين له وأموالَهم ، وسَبَي ذريتهم ، وذاع صِيُته وانتشرت رسالته ، وتوالت انتصاراته ، وكثر جنده ، واستفز دينه في الأرض محفوظا إلى يوم الدين بعد أن نسخ شرائع السابقين ، وأتباعه على الحق منصورون طالما كانوا على نهجه وسنته ، فإذا خالفوه قَلَّ دَفْعُ اللهِ عنهم ، ونَصْره لهم ، بحسب المُخَالَفة ، هل كل ذلك واقع في ملك الله والله لا يعلم عنه شيئا ولم يرسله ولم يوح إليه ؟!! حاشا لله العظيم(1/48)
.. ثم حاشا لله العظيم . . فإن كان يَعْلم بأمْرِه فلماذا تركه يكذبُ عليه ويُضلُّ النَّاسَ ويغير وجه الأرض ؟!! أليْس الله بقادر على قطع دابره ؟!
بلي قادر . فما الحكمة في تَرْكه يُتمُّ دَعْوتَه ، بَلْ في تأييده بالمعجزات ، ونصرِه وإمدادِه بجند من السَّماء والأرض ؟! فهل ذلك يجوز في حكمة الله مع مفتر كذاب ؟!! بل سنته تعالي في كل من كذب عليه أن يفضحه ويخزيه أعظم الخزي ، ويقتله ويهلكه أشد الإهلاك ، كما قال تعلي ( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ) الحاقة 44 ـ 47 أي فما يحجزه مني أحد ولا يمنعه مِنيِّ أن أقتله أو أميته . وقال ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) الأحقاف 8 فالله أعلم بما تفيضون فيه فلا يخفي عليه أمري ، وهو عّلىَّ قادر ، وأنتم لا تملكون لي منه شيئا إن أرادني بضر أو أرادني برحمة ، فما الذي يمنع انتقامه إن كنت كاذبا ؟! فهذا برهان قاطع على صدق الرسول الكريم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم ، وأنه لم يتقول على الله فيما قاله ، وأنه لو تقول عليه ـ كما يقولون ـ لما أقره ، ولعاجله بالإهلاك بدلا من تأييده وإجابة دعواته ونصره وتمكينه ، لذا أقسم الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم بقسم عظيم بأعم قسم في القرآن قائلاً : ( فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَوْ تَقَوَّلَ(1/49)
عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ .. إلي قوله فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) الحاقة 38 - 52 فكان مسكُ الختام أمْرَّا بالتَّسْبيح باسم الرب العظيم ، لتعظيمه كما تبين ، وإجلاله وتنزيهه عن أن يكون محمد غيرَ مُرْسَلٍ وكتابُه غَيرَ منزلٍ من رب العالمين .
قال ابن القيم : ثم ختم السورة بقوله ( فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) الحاقة 52 وهي جديرة بهذه الخاتمة لما تضمنته من الإخبار عن عظمة الرب تعالى وجلاله ، وذكر عظمة ملكه وجريان حكمه بالعدل على عباده في الدنيا والآخرة ، وذكر عظمته تعالى في إرسال رسوله وإنزال كتابه ، وأنه تعالى أعظم وأجل وأكبر عند أهل سماواته والمؤمنين من عباده من أن يقرَّ كذبا متقوَّلا عليه ، مفترى عليه ، يبدل دينه وينسخ شرائعه ، ويقتل عباده ، ويخبر عنه بما لا حقيقة له ، وهو سبحانه مع ذلك يؤيده وينصره ويجيب دعواته ويأخذ أعداءه . ويرفع قدره ويعلي ذكره ، فهو سبحانه العظيم الذي تأبى عظمته أن يفعل ذلك بمن أتى بأقبح أنواع الكذب والظلم ، فسبحان ربنا العظيم وتعالى عما ينسبه إليه الجاهلون علوا كبيرا أ . هـ التبيان في أقسام القرآن 194 .
ولقد صَالَ ابن القيم وجال في هذه الآيات ، في كتاب التبيان في أقسام القرآن (175 ـ 194) ونُقِل في بدائع التفسير ، بما فيها مناظرة بينه وبين يهودي أنكر نبوَّته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم ، فأنظر لزاما هذا الموضع لنفاستة وأهميته .
(3) ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى )
أ ـ هذا أمر بتسبيح الاسم كالأمر بذكر الاسم ، والمراد : التنبيه على تسبيح المُسَمَّي بالأسماء الحسني وما تدل عليه من صفات الكمال التي تسبح فيها القلوب بسكينه بلا ملل ولا سآمة كما تقدم من معني التسبيح .(1/50)
ب ـ أسم " الأعلى " يتضمن اتصافه تعالي بجميع صفات الكمال ، وتنزيهه عما ينافيها من صفات النقص ، وعن أن يكون له مثل ، وأنه لا إله إلا هو ولا رب سواه ، لأنه يتضمن جميع معاني العلو : علو القهر وعُلُو القدر وعُلُوّ الذات ، والتعالي عن السوء والمثل . ومن ثم فهو يتضمن رُكْني التسبيح : التعظيم والتنزيه .
جـ ـ ثم تأتي الآيات بعدها بذكر الأفعال المشرفة الدالَّة على العظمة المتناهية المستلزمة للنزاهة الكاملة ، وهي قوله تعالي ( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاء أَحْوَى ) الأعلى 2-5 ، العدل والتسوية بين المتماثلين أساس في جميع المخلوقات والمصنوعات وإلا وقع فيها الفساد . وجسم الإنسان كمثال ، قائم على ذلك ، ومنه التَّسْوية بين الخلايا المتماثلة في الوظيفة المطلوبة في العضو ، والمعلوم أن النُّطُفَة الأمشاج هي الخلية الأولي التي تنقسم إلى خليتين متماثلتين ، ثم يتتابع الانقسام والتكاثر حتى تتكون العلقة ، وتتابع مراحل الخلق فَتَتَمَايز الخلايا لتكوين الأنسجة المختلفة ، فخلايا النَّسيج العظمي تختلف عن خلايا النسيج الجلدي والكلوي والكبدي وهكذا ، لأن الخَليةَ العْظمِيَّةَ تَنْشَطُ فيها الجينات المناسبة لتكوين العظم ووظيفته ، وتكمن فيها باقي الجينات ، وكذلك الخلية الجلدية تَنْشَطُ فيها الجينات المناسبة لتكوين الجلد ووظيفته ، وتكمن باقي الجينات وهكذا ، فلو أن الخلايا العظمية اختلطت معها الخلايا الجلدية مثلا ، فإن الناتج فساد كبير ، لا هو عظم ولا هو جلد ، فلابد من التَّسْوية بين الخلايا المتماثلة في الوظيفة المطلوبة . فَلَوْ نَشَط جين وكَمُن آخر ، تغير نشاطُ الخلية ، لذا فإن التسوية هنا إتقان لا يقدر عليه إلا الأعلى العزيز العليم اللطيف الخبير ، وهذا مجرد مثال ، وفي الجسم ملايين الأمثلة . فكل عضو يتناسب ويتناغم مع أعضاء أخرى بلا(1/51)
خلل في الجسم السليم ، وكذلك تعمل الأجهزة فيما بينها على التسوية الكاملة ، الجهاز الهضمي والتنفُّسِ والدَّمَوِي والبولي وغيرها حتى يكون الجسم كله على التسوية والعدل . يأكل الإنسان ما يريد من الحلوى والسكريات ، فيفرز العضو المتخصص ( البنكرياس ) مادة الأنسولين بكمية تتساوى تماماً مع المطلوب ، حتى لا يرتفع ولا ينخفض السكر في الدم عن الحدود المعتدلة ، فتم خلق البنكرياس على التَّسْوية ، وتم عملُه وأدى وظيفته على التَّسْوية . قال تعالي (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ) الانفطار 6 ـ 8 . والسَّماء كذلك على التسوية . قال تعالي : ( أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا ) النازعات 27-28 فما لها من فروج ولا فطور ولا تفاوت أو اختلاف ، وإلا اختل النظام والتوازن قال تعالي ( وَالسَّمَاء ذَاتِ الْحُبُكِ ) الذاريات ، والنبات كذلك على التسوية ، وكل المخلوقات ، بل المصنوعات التي يصنعها الإنسان لابد أن تكون على العدل والتسوية وإلا فسدت(1/52)
قال تعالي ( وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ) : خلق كل شئ فسوَّاه وقدَّره تقديرا ، ثم قدَّر الأرزاق والأقوات وساقها إلى ذويها ، وهدى كل مخلوق حَيّ إلى رزقه ومأواه وتَنَاسُله وتكاثُرِه ، النملُ مثلا هُديت إلى رزقها وتخزينه ، وإلى مَسْكنها وإعْداده ، فإذا جَمَعَتِ الحَبَّ أزالت زبائنه قبل تخزينه حتى لا يَنْبُت إذا وصَلَتْه الرُّطوبة فَيَفْسَد غذَاؤُها ومسْكنُها ، فمن الذي علم النملة ذلك ؟ إنه قانون : قَدَّرَ فَهَدَى الذي يعمل في الخلق فلا يخطئ ( وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاء أَحْوَى ) وسواء فُسِّر الغثاء الأحوى بالفحم أو البترول أو بذبول المرعي وصَيْرُورته حطاماً ليكون رمزاً للحياة الدنيا ، فكل ذلك من آيات الله القدرية الكونية الدالة على كمال الربوبية والإلهَّية من قوله ( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى إلى قوله غُثَاء أَحْوَى ) وبالتالي يتنزه من له ذلك الكمال عن ترك عبادة هَمَلاً كالأنعام السَّائمة ، بل أَرْسَلَ رَسُوله بالهدى ودين الحق قال تعالي ( سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى * إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى * وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى * فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى ) الأعلى وذلك هو القسْم التشريعي من الربوبية ، وهو أيضاً يستلزم الجزاء ، قال تعالي ( سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى إلي قوله وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ) الأعلى فتضمنت السورة أَقسام الرّبُوبية الثلاثة وكذلك الإلهية وإثبات الكمال والتنزيه من السوء والمثيل فسبحان ربي الأعلى ، وكل ذلك متضَمن في أسم " الأعلى " ، فكان الأمر بالتَّسبيح في أول السورة أمرا بتسبيحه بما يليق بجلاله ، بذكر أسمائه الحسني العالية على كل الأسماء ، وأفعاله المقدسة عن الشر والأخطاء ، وكل ما ذكرته السورة ليس بدعا من الرسل ، بل في الصحف(1/53)
الأولي لأشْرَاف الرُّسُل : إبراهيم وموسى .
(4) قوله ( سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) الصافات 180 ـ 182 .
سلام الله على المرسلين يقتضي سلامتهم من كل ما يقول المكذبون لهم ، المخالفون لهم ، ويلزم من ذلك سلامة كل ما جاء به الرسل من الكذب والفساد ، وأعظم ما جاءوا به : التوحيد ومعرفة الله ووصفه بما يليق بجلاله مما وصف به نفسه من محامده على ألْسِنتهم ، وتنزيهُه مما نسبه إليه أعداؤه من السوء .
فتبين بهذا سر عظيم من أسرار القرآن ، وهو سر اقتران السلام على المرسلين بالتسبيح قبله والحمد بعده ، علاوة على ما تقدم ذكره من كلام ابن كثير في اقتران التسبيح بالحمد في هذه الآيات في خاتمة سورة الصافَّات ، بعد أن ذكر الله فيها من نبإ المرسلين قائلا سبحانه ( سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ ) الصافات 79 ( سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ) الصافات 109 ، ( سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ ) الصافات 120 ، ( سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ ) الصافات 130 ، ( سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ) الصافات 159-160 ، يعني إلا ما يصفه به المرسلون .(1/54)
(5) قال تعالي ( أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ ) النحل 1-2 هاتان الآيتان فيهما إثبات أمر الله بالبعث والحساب والجزاء ، وإثبات ما يستلزمه الحِسَابُ مِنَ الرُّسُلِ والرِّسَالات والأمرِ والنهي ، وإثبات الإلهية لله وحده ، وفيْهما التنزيه من عدم الأمرين ، ومن الشريك . ثم جاءت الآيات بعدها من الثالثة إلى الثامنة عشر ( القسم القدري الكوني ) بالأدلة المتوافرة القَاطِعة الدِّلاَلة على مَا جاء في الآيتين من المطالب العالية ( النبوات ـ الإلهيَّةَ ـ المعاد ) ومن هذه الآيات : خلق السماوات والأرض بالحق ، وخلق الإنسان من نطفة ، والأنعام وما فيها من ضروريات النعم وأصولها كالمطعم ودفع البرد والجلود والركوب في النقلة والزينة ، وإنزال الماء وإخراج الزرع والثمرات كلها به ، وتسخير الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم ، وما ذرأه الله في الأرض مختلفا ألوانه ، وتسخير البحر للمطعم منه لحما طريا ، واستخراج الحلية منه ، وجرى الفلك فيه ، وإلقاء الرواسي في الأرض حتى لا تميد بأهلها ، وجعل الأنهار فيها والسبل والعلامات ، والاهتداء بالنجوم ، ونعم لا تحصي وكلها تدل على كمالات اللهِ القَائِمة بذاته ، وأفْعَاله المقدَّسَة الظَّاهِرة في مخلوقاته . حيث يستحيل مع ذلك أن يخلق الناس متميزين بالأفَئِدة والتعقل ، ويُسَخِّرُ لهم ما في السَّماوات وما في الأرض جميعاً منه ، ثم يتركهم بغير تكليف وابتلاء وحساب ، حاشا لله ثم حاشا لله . قال تعالي ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ )(1/55)
المؤمنون 115 ـ 116 وقال تعالي ( أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى ) القيامة 36 -40 .
(6) ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ) آل عمران 190 ـ 191 أدلة العظمة هنا مجملة في آية واحدة في خلق السَّماوات والأرض تكفي أولي الألباب ( أي القلوب السليمة من أمراض الشهوات والشبهات ) حيث لو تفكروا فيها لأيقنوا بثبوت الكمالات لله عموما ، والعلم والحكمة والقدرة خصوصا ، وإذاً لعلموا علم اليقين صحة الحساب والثواب والعقاب وأنَّ الجنة حق والنَّارَ حق ، فنطقوا بتعظيم الله وإجلاله وتنزيهه عما يقول الكافرون والمشرِكون ( سبحانك ) ، وسارعوا بطلب الوقاية من عذاب النار ، ولسارعوا إلى مُنادِى الإيمان فآمنوا بربهم ينتظرون وعده ما استطاعوا . كما تحكيه الآيات 192 إلى 194 .(1/56)
(7) ( فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ ) الروم 17 -18 ثم نجد اللحاق - من الآية 19 إلي الآية 27 - كله عن آيات الربوبية في الجزء القدري الكوني والذي دلالاته كما تقدم . أما السِّيَاق الذي سبق هذا التسبيح ففيه التنبيه على خلق السماوات والأرض وما بينها بالحق وأجل مسمي ، وعلى النظر في عاقبة الذين أساءوا ومصارع الظالمين ، وهذا دليل على أن الله لا يترك الناس بغير جزاء ، وفيه أيضاً ذكر الساعة ومصير المؤمنين . مصير المكذبين . فمناسبة التسبيح واضحة كما تقدم .(1/57)
(8) ( سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ ) يس 36 سبق هذه الآية ذكر كفر الكافرين وشركهم وتكذيبهم للرسل ومحاربتهم لهم مع الاستهزاء بهم ، فذكر الله ما يدحض ذلك ويدمغه ، من إهلاك القرون المكذبين قبلهم (والدلالة في هذه كما تقدم) ومن الآيات الدالة على كمال العظمة لله في أوصافه وأفعاله عموما وفي العلم والحكمة والقدرة خصوصاً ، فقال تعالي ( وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنْ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ * سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ * وَآيَةٌ لَّهُمْ . . . إلى قوله وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ) يس 33 - 42 فذكر من آياته وآلائه الشَّيء الكثير ، من إخراج النبات والحب والجنات من النخيل والأعناب ، ومن تفجير العيون من باطن الأرض ، ومن خلق الثمار الجنيِّه بدون أي عمل للإنسان في ذلك ، ومن خلق جميع الأزواج مما تنبت الأرض . فنوع هذه الأزواج حيث لا يحصيها الإنسان مهما اجتهد ، كما نوَّع ألوان النَّاس وألسنتهم وطبائعهم وأخلاقهم ، ومن الطير والوحش والأنعام كذلك ، والفطريات وأجناس لا نعلمها ، ثم من آيات الفلك والليل والنهار والشمس والقمر والنجوم ، والفلك التي تجرى في البحر ، والتي تجرى في الجو ، والتي تجرى على البر حيث يحمل الإنسان بأمتعته كما يشاء برا وبحرا وجوا . والدلالة في هذه الآيات لا يخفي كما تقدم ، فكان ذكر التسبيح في هذا السياق مؤيدا ومؤكَّدا بالأفعال المقدسة الدالة على العظمة المستلزمة للنزاهة من(1/58)
الشريك والمعين والصاحبة والولد والند والمثيل وما يقوله الظالمون .
(9) ( فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) يس 83 وهذه أتركها للقارئ الكريم ليرى ما سبقها من الآيات ، من قوله تعالي (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا .. الآية ) يس71 حتى قوله ( أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) 71 ـ 82 وسيعلم أن الأمر أصبح جليا والحمد لله .
وعلي القارئ أيضاً قراءة هذه الآيات المصرح فيها بنفي الولد ، وذكر التسبيح المجرد يكفي ، لكن قرن بوصف العظمة .
(10) ( وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ * بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) البقرة 116 ـ 117 ذكر الملك وخضوع كل شئ له وطلاقة القدرة ، وإبداع السماوات والأرض علي غير مثال سبعة .
(11)(مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ) مريم35 (12) ( إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً ) النساء 17 .
(13) ( قَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) يونس 68 ذكر الغني والملك كاف في التعظيم المستلزم نفي الولد .(1/59)
(14) ( قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ * سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ) الزخرف 81 ذكر ربوبيته للسماوات والأرض وربوبيته للعرش كاف في التعظيم .
(15) ( وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ * بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) الأنعام .
هذه الآيات فيها ما يكفي من صفات الله عز وجل ، ولقد سبقها ذكر طويل لأفعال الله المقدسة من قوله تعالي ( إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى .. إلى قوله إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) 95 ـ 99 ودلاله هذه الأفعال على التعظيم والتنزيه المؤكد لمعني التسبيح ، كما تقدم بيانه .
(16) ( مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) المؤمنون 91 ـ 92 .
هذه الآيات التي فيها التسبيح والتعالي ، سبقتها الآيات من قوله تعالي ( وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ .. إلى قوله بَلْ أَتَيْنَاهُم بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) 78 ـ 90 .(1/60)
وقد جمعت من الأفعال المقدسة ، وصفات الكمال ما يكفي للتعظيم والتنزيه المطلوب كما تقدم . في نظائره .
(17) ( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) الزمر 67 هذه الآية من أوضح الآيات بيانا لعظمة الله وجلالة قدره بما يستلزم التنزيه الكامل عن الشريك والند والمثيل والسوء .
(18) ( وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) الأنبياء يقول يونس عَلَيْهِ السَّلاَم لربه : أنت مقدس ومنزه عن ظلمي وعقوبتي بغير ذنب بل أنا الظالم الذي ظلمت نفسي . إذ العبد عليه أن يعترف بعدل الله وإحسانه فإنه لا يظلم الناس شيئا فلا يعاقب أحدا إلا بذنبه ، وهو يحسن إليهم ، فكل نقمة منه عدل وكل نعمة منه فضل .(1/61)
(19) (وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ) النور أي قلتم ما يكون لنا وما ينبغي وما يليق بنا أن نتكلم بأمر هو قدح في ربوبيته الله للنَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، إذ كيف تزني أمراه نَبِي ، بل سيد الأنبياء ، كيف قدَّرها أمراه له ، وكيف قدَّر لها أن تقع في الفاحشة ، أم حدث بغير علم الله !! حاشا لله من كل هذا ، سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (20) ( قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ * قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ) القلم أوسطهم هو أفضلهم وأحسنهم طريقه ، وهم أصحاب الجنة الذين ابتلاهم الله ببستانهم وقد طاب ثمرة فأرادوا جَنْيه مبكرين خفية بحيث لا يأخذ منها المساكين شيئا ، فأقسموا على فعل ذلك جازمين ، ولم يعلقوا فعلهم على مشيئة الله ، بل ظنوا استقلالهم بالأمر ، وأنه لا خوف عليهم إذ حرموا المساكين حقهم الذي فرضه الله ، واغتروا لأن الثمر موجود وحان قطافه بدون موانع ، والأسباب ميسرة ، فأصبحت وقد نُسفَت أشجارها وثمارها وهم لا يشعرون . فلما رأوها قال أخوهم الأفضل : أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ ، أي لولا تعظمون الله وتجلونه عن أن يكون غافلا عما تعلمون ، ولولا تعظمون الله وتجلونه عن أن يترككم وشأنكم بغير حساب ، وعن أن يجعل مشيئة أحدٍ من خلقه مطلقة غير مقيدة بمشيئة سبحانه ، وعن ظن السوء الذي ظنَّوه .
وأذكر هنا طرفه لها مغزاها : قال حجا : غداً أشترى حمارا . قالوا له : قل : إن شاء الله . قال ولماذا ؟ الفلوس في جيبي والحمار في السوق . فلما كان الغد ذهب للسوق ثم رجع خائبا بدون الحمار . فقالوا له لم رجعت بدون الشراء ؟ قال : إن شاء الله الفلوس سرقت .(1/62)
(21) قال تعالي ( دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) يونس .
أ - الميم في كلمه ( اللَّهُمَّ ) إيذان بتضمين جميع معاني أسماء الله وصفاته ومحامده ، وذلك من أوضح وآكد الدلالة على ما في كلمة سُبْحَانَكَ من التعظيم والتنزيه ، وسبحان الله هي من أحب الكلام إلى الله .
ب - كلمة " دَعْوَاهُمْ " إما أن تكون دعاء عبادة وثناء فمعلوم أنه لا تكليف في الجنة ، وليس فيها إلا التنعم والتلذذ ، وأول ذلك النظر إلى وجه السبوح القدوس عز وجل ، وثانية ذكر الله وتسبيحه وتحميده حيث لا تطمئن القلوب والأرواح إلا به ، لشده محبتها لخالقها وباريها ، ولا حياة طيبة بدونه ، وأهل الجنة لا يجدون كُلْفةً ولا مشقة فيه ، بل يلهمونه كما يلهمون النفس ، والقلوب السليمة والأرواح في الدنيا لمن يكن لها غذاء تلتذ وتسكن وتطمئن وتنشرح إلا به وما يقتضيه من الأقوال والأعمال الصالحة ، ومن أعرض عنه فإن له معيشة ضنكا .
وإمَّا أن تكون ( دَعْوَاهُمْ ) دعاء مسألة ، عندما يريد المؤمن أو يتمني شيئا فما عليه إلا أن يقول ( سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ ) فيجد مطلوبة ، فيقول : الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (ذكره ابن كثير بمعناه عن ابن جريج ) .
رابع عشر : فضائل التسبيح : كل ما يأتي من النصوص في فضل التسبيح إنَّما يكون في حق المسبِّح بقلبه مع لسانه ، وتقدم بيان معني التسبيح بالقلب وأنه يعتمد على ما فيه من العلم بأوصاف السُّبُّوح تعالي وعبادته .(1/63)
قال ابن تيميه : كما أنَّه إذا سبَّح لله وذكره فهو مسبح لله وذاكر له بقدر ما في قلبه من معرفته وعبادته ، ولذلك جاء التسبيح تارة لاسم الله كما في قوله ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ) الأعلى 1 وتارة كما في قوله ( وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ) الأحزاب 42 وكذلك الذكر كما في قوله ( وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا )الإنسان 25 مع قوله:( اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ) الأحزاب 41
فحيث عظم العبد ربه بتسبيح اسمه أو الحلف به أو الاستعاذة به ، فهو مسبح له بتوسط المثل الأعلى الذي في قلبه من معرفته وعبادته وعظمته ومحبته علما وفضلا وإجلالا وإكراما ، وحكم الإيمان والكفر إنما يعود إلى ما كسبه قلبه من ذلك كما قال سبحانه ( لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ .. ) البقرة 224 أ . هـ ج 21 ص 422 .
قال ابن القَّيّم : إن الذكر الحقيقي محله القلب لأنه ضد النسيان ، والتسبيح نوع من الذكر ، فلو أطلق الذكر والتسبيح لما فهم منه إلا ذلك دون اللفظ باللسان ، والله تعالي أراد من عباده الأمرين جميعاً ، ولم الإيمان وعقْد الإسلام إلا باقترابهما واجتماعهما أ . هـ وتقدم تخريجه .
قال ابن بطال : هذا الفضائل الواردة في فضل الذكر إنما هي لأهل الشرف في الدين والكمال ، كالطهارة من الحرام والمعاصي العِظَام ، فلا تظن أن من أدمن الذكر وأصَرَّ على ما شاء من شهواته ، وانتهك دين الله وحرماته . أن يلتحق بالمطهَّرين المقدَّسين بكلام أجراه على لسانه لَيْس معه تقوى ولا عمل صالح أ . هـ الفتح ك . التوحيد . ب قول الله تعالي (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ) .(1/64)
قال الله تعالي عن يونس عَلَيْهِ السَّلاَم ( فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) الصافات يعني لولا ما تقدَّم له من العمل في الرخاء ( ذكره ابن كثير عن طائفة من السلف ) قلت : وصلاح العمل ورتبته إنما يكون بحسب ما في القلب واللسان من التعظيم والتنزيه ، ويونس عَلَيْهِ السَّلاَم من المرسلين ، فرتبة أعماله وصلاته عالية جداً ، فنعم الوصف : " كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ " ورأينا كيف أمِرَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يختم حياته بالتسبيح بالحمد وبالاستغفار ، وذلك قدر زائد على تسبيحه وتحميده واستغفاره طوال حياته فهو سَيِّد المسَبِّحين . عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : قَالَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ : أَيُّ الْكَلَامِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ؟ قَالَ ( مَا اصْطَفَاهُ اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ سُبْحَانَ رَبِّي وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ رَبِّي وَبِحَمْدِهِ ) 36 وفي لفظ :إن أَحَبِّ الْكَلَامِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَه : (سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ ) .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ حُطَّتْ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ ) 37 .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( كَلِمَتَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ ، خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ ) 38(1/65)
قال ابن تيميه : وهاتان الكلمتان إحداهما مقرونة بالتحميد ، والأخرى بالتعظيم ، فإنا قد ذكرنا أن التسبيح فيه نفي السوء والنقائص المتضمن إثبات المحاسن والكمال ، والحمد إنما يكون على المحاسن . وقرن بين الحمد والتعظيم كما قرن بين الجلال والإكرام ، إذ ليس كل معظم محبوبا محموداً ، ولا كل محبوب محموداً معَّظما ، وقد تقدم أن العبادة تتضمن كمال الحب المتضمن معنى الحمد ، وتتضمن كمال الذل المتضمن معنى التعظيم ، ففي العبادة حبه وحمده على المحاسن ، وفيها الذل له الناشئ عن عظمته وكبريائه . ففيها إجلاله وإكرامه ، وهو سبحانه المستحق للجلال والإكرام أ . هـ جـ 10 ص 252 .
عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَحَبُّ الْكَلَامِ إِلَى اللَّهِ أَرْبَعٌ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ ) 39 .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ جَلَسَ فِي مَجْلِسٍ فَكَثُرَ فِيهِ لَغَطُهُ فَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِهِ ذَلِكَ : سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ ، إِلَّا غُفِرَ لَهُ مَا كَانَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ ) 40 .(1/66)
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا جَلَسَ مَجْلِسًا أَوْ صَلَّى تَكَلَّمَ بِكَلِمَاتٍ ، فَسَأَلَتْهُ عَائِشَةُ عَنْ الْكَلِمَاتِ فَقَالَ إِنْ تَكَلَّمَ بِخَيْرٍ كَانَ طَابِعًا عَلَيْهِنَّ -يعني خاتما عليه - إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَإِنْ تَكَلَّمَ بِغَيْرِ ذَلِكَ كَانَ كَفَّارَةً لَهُ ( سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ ) 41 . وختم الحافظ الفتح بطريق من طرق هذا الحديث بالسند المتصل العالي بالسماع والإجازة إلى منتهاه .
عَنْ سَعْدٍ بْنِ أَبِي وقاص قَالَ : كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : ( أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكْسِبَ كُلَّ يَوْمٍ أَلْفَ حَسَنَةٍ ؟ قَالَ : يُسَبِّحُ مِائَةَ تَسْبِيحَةٍ فَيُكْتَبُ لَهُ أَلْفُ حَسَنَةٍ أَوْ يُحَطُّ عَنْهُ أَلْفُ خَطِيئَةٍ ) 42 .
عَنْ جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا بُكْرَةً حِينَ صَلَّى الصُّبْحَ وَهِيَ فِي مَسْجِدِهَا ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ أَنْ أَضْحَى وَهِيَ جَالِسَةٌ فَقَالَ : ( مَا زِلْتِ عَلَى الْحَالِ الَّتِي فَارَقْتُكِ عَلَيْهَا ؟ قَالَتْ : نَعَمْ ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَقَدْ قُلْتُ بَعْدَكِ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْتِ مُنْذُ الْيَوْمِ لَوَزَنَتْهُنَّ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ عَدَدَ خَلْقِهِ وَرِضَا نَفْسِهِ وَزِنَةَ عَرْشِهِ وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ ) 43 وفي رواية ( سُبْحَانَ اللَّهِ عَدَدَ خَلْقِهِ ، سُبْحَانَ اللَّهِ رِضَا نَفْسِهِ ، سُبْحَانَ اللَّهِ زِنَةَ عَرْشِهِ ، سُبْحَانَ اللَّهِ مِدَادَ كَلِمَاتِهِ ) .(1/67)
خامس عشر : دعاءُ اللهِ باسْمه السُّبُّوح :
(1) دعاء العبادة والثناء : سَبْح القَلْب في عظمة اللهِ وعلوه تفكراً وتذكرا ، وفى أسمائه وصفاته وأفعاله المقدَّسة حتى يكون مُسَبَّحاً تسبيحاً حقيقياً بالتعظيم والتنزيه كما تقدم من المعاني ، في الصلاة المكتوبة والنافلة وفى الأذكار المشروعة ، والاهتمام بتعلُّم حُجَجِ القُرْآن في دَحْض ودَمْغِ البَاطِل، في التنزيه من النقص والولد والشريك والند والظهير ، وفى دفع ظَنِّ الجاهلية ظَنِّ السَّوْء كما تَبيَّن . والقَلْبُ في سَبْحه هذا يَقْطع سَفرَه وسَيْرَه إلى الله بحياة طيبة تَحْدُوه إلى مواصلة السفر حتى لقاء الله .
قال ابن القيم مُتَحَدِّثاً عن القلب وسفره وتفكره في الأفلاك وعلوها وسعتها فقال : -(1/68)
فتفتح له أبواب السماء فيجول في أقطارها وملكوتها وبين ملائكتها ثم يفتح له باب بعد باب حتى ينتهي به سير القلب إلى عرش الرحمن فينظر سعته وعظمته وجلاله ومجده ورفعته ويرى السماوات السبع والارضين السبع بالنسبة إليه كحلقه ملقاة بأرض فلاة ، ويرى الملائكة حافين من حوله لهم زجل بالتسبيح والتحميد والتقديس والتكبير ، والأمر ينزل من فوقه بتدبير الممالك والجنود التي لا يعلمها إلا ربها ومليكها فينزل الأمر بإحياء قوم وإماتة آخرين ، وإعزاز قوم وإذلال آخرين ، وإسعاد قوم وشقاوة آخرين ، وإنشاء ملك وسلب ملك ، وتحويل نعمة من محل إلى محل ، وقضاء الحاجات على اختلافها وتباينها وكثرتها من جَبْر كسْر وإغناء فقير ، وشفاء مريض ، وتفريج كْرب ومغفرة ذنب وكشف ضر ، ونصر مظلوم ، وهدايةَ حْيران ، وتعليم جاهل ، وردِّ آبق ، وأمان خائف وإجارة مُسْتَجير ومدد لضعيف ، وإغاثة الملهوف ، وإعانة لعاجز ، وانتقام من ظالم ، وكف العدوان ، فهي مراسيم دائرة بْين العدل والفضل والحكمة والرحمة ، تنفذ في أقطار العوالم لا يشغله سمع شيء منها عن سمع غيره ولا تغلطه كثرة المسائل والحوائج على اختلافها وتباينها ، واتحاد وقتها ولا يتبرم بإلحاح الملحين ، ولا تنقص ذرة من خزائنه لا إله إلا هو العزيز الحكيم ، فحينئذ يقوم القلب بين يدي الرحمن مطرقا لهيبته ، خاشعا لِعَظَمته ، عانٍ لعزته ، فَيَسْجد بَيْن يدي الملك الحق المبين سجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم المزيد فهذا سفر القلب وهو في وطنه وداره ومحل ملكه ، وهذا من اعظم آيات الله وعجائب صنعه ، فَيَاله مِنْ سفر ما أبْرَكه وأرْوَحه واعظم ثمرته وربحه ، واجل منفعته ، واحسن عاقبته ، سفر هو حياة الأرواح ، ومفتاح السَّعَادة ، وغنيمته العقول والألباب ، لا كالسَّفر الذي هو قطعة من العذاب 44 .(1/69)
(2) دعاء المسألة : - كقولك : اللَّهُمَّ اهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ ، وَقِنِي واصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ 45 . اللهم ارزقْني التَّنَزُّه من كل قبيح في سمعي وبصري ولساني وقلبي . وهكذا .
ملحوظة : من أراد أن يُرسل ملحوظة أو تعليق للشيخ فليرسله علي هذا الإيميل وسوف يصله إن شاء الله .
eltawhed@islamway.net
كتب فضيلة الشيخ فوزي سعيد - فك الله أسره - علي موقع صيد الفوائد (www.saaid.net)
العنوان: : http://saaid.net/book/search.php?do=all&u=%DD%E6%D2%ED
1 فهو المنزه عن كل ذلك .
2 كتاب : الجنة وصفة نعيمها وأهلها ، باب : في صفات الجنة وأهلها وتسبيحهم فيها بكرة وعشيا ؛ في صحيح مسلم .
3 سيأتي توضيح ذلك في التعليق على قوله تعالي ( دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ ... الآية ) .
4 أنظر اللسان مادة سبح .
5 أنظر نيل الأوطار باب ذكر الاستفتاح بين التكبير والقراءة .
6 انظر اللسان مادة سبح .
7 انظر اللسان مادة سبح .
8 انظر اللسان مادة سبح .
9 جـ 10 صـ 147 ، 148 .
10 هو أبو أيوب ميمون ابن مهران الرَّقَّي ، فقيه من القضاة ، كان عالم الجزيرة القرآنية وسيدها ، واستعمله عمر بن عبد العزيز علي خراجها وقضائها ، وكان ثقة في الحديث كثير العبادة .
11 جـ 16 صـ 125 -126 باختصار بسيط .
12 حادي الأرواح 292 .
13 كتاب الدعوات فضل التَسْبيح .
14 أنظر طريق الهجرتين لابن القيم صـ 114 وما بعدها .(1/70)
15 قال في الفتح : وبحمده : قيل الواو للحال . والتقدير : أسبح الله متلبساً بحمدي له من أجل توفيقه . وقيل : عاطفة . والتقدير أسبح الله وأتلبس بحمده . ويحتمل أن يكون الحمد مضافا للفاعل ، والمراد من الحمد لازمه أو ما يوجب الحمد من التوفيق ونحوه . ويحتمل أن تكون الباء متعلقة بمحذوف متقدم ، والتقدير : وأثني عليه بحمده ، فيكون سبحان الله جملة مستقلة ، وبحمده جملة أخري .
16 قال القرطبي ويظهر وجه آخر وهو إبقاء معني الحمد علي أصله ( أي علي المعني الذي ذكرناه ) ، وتكون الباء باء السببية ، ويكون معناه : بسبب أنك موصوف بصفات الكمال والجلال سبَّحك المسبِّحون وعظمَك المعظمون . أ . هـ . نيل الأوطار - باب الذكر في الركوع والسجود .
17 ( صحيح ) برقم ( 908 ) في صحيح الجامع وما بين قوسين ضعيف عند الألباني انظر ضعيف الجامع رقم ( 783 ) .
18 ( صحيح ) برقم ( 1838 ) في صحيح الجامع .
19 ( صحيح ) برقم ( 6297 ) في صحيح الجامع .
20 متفق عليه .
21 أي تتعبه بالكد والعمل .
22 بدائع التفسير في التعليق علي الآية .
23 الفتح كتاب المناقب باب علامات النبوة في الإسلام 3583 ، 3584 .
24 نفس المصدر السابق برقم 3579 .
25 البزار والطبراني في الأوسط ، كذا ذكره الحافظ في الحديث السابق ، وقال ابن كثير هو حديث مشهور في المسانيد .
قال الشيخ الألباني : رواه الطبراني في الأوسط وفيه محمد بن أبي حميد وهو ضعيف ، وله طريق أحسن من هذا في علامات النبوة وإسناده صحيح .
26 واسمه الأعلى يتضمن اتصافه سبحانه بجميع صفات الكمال وتنزيهه عما ينافيها من صفات النقص ، وعن أن يكون له مثل ، وأنه لا إله إلا هو ولا رب سواه . ( ذكره ابن تيميه جـ16 صـ 124 ) .
27 بدائع الفوائد ( 1-18/19 ) .
28 البخاري في الجهاد 2993 .
29 أبو داود في الصلاة ( 89 ، 870 ) وابن ماجة في الصلاة وضعفه الألباني في الإرواء ( 334 ) ، المشكاة ( 879 ) .
30 رواه مسلم .(1/71)
31 مسلم في الصلاة عن ابن عباس وعن عليّ .
32 ومن أولها وأشْهَرِها العظيم والأعلى . وهما من الأسماء الجامعة ، فالعظيم يدل علي كثرة صفات الكمال وسَعَتَها ، والأعلى يدل علي علوها وارتفاعها بجميع معاني العلو .
33 ( علو الذات والقْدر والقهر والملك والتعالي عن السوء ) جـ 10 صـ 253 .
34 نيل الأوطار . باب الذكر في الركوع والسجود .
35 بتصرف .
36 رواه مسلم والترمذي وأحمد .
37 صحيح البخاري .
38 في الصحيحين .
39 صحيح مسلم - الآداب - 2 / 1685 .
40 الترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحه والطبراني في الدعاء والحاكم ، وهو صحيح برقم (6192) في صحيح الجامع .
41 رواه النسائي وأحمد ، وقال الألباني : صحيح في التعليق الرغيب ( 2 / 236 ) .
42 رواه مسلم .
43 رواه مسلم .
44 مفتاح دار السعادة جـ 1 .
45 جزء من حديث رواه مسلم .
??
??
??
??
شرح إسم الله السبوح ... الشيخ / فوزي سعيد(1/72)