علم أصول الدين
مقدمة
...
مقدمة:
أ- اسم العلم وموضوعه وغايته:
علم أصول الدين هو العلم الذي يرمي إلى إثبات العقائد الدينية بالأدلة اليقينية, أي: تأسيس العقيدة الإسلامية على أسس عقلية برهانية حتى يمكن فهم العقيدة وعرضها والدفاع عنها. وهو مواز لعلم أصول الفقه الذي يستنبط الأحكام الشرعية من أدلتها. كلاهما علم أصول، إلا أن الأول يؤسس النظر، في حين أن الثاني يؤسس العمل.
وله أسماء عدة:
أولا: علم أصول الدين، وهو هذا العلم الذي يستدل على العقيدة الدينية ويؤسسها في العقل. وهو الاسم الديني الذي غلب في المصنفات المتأخرة.
ثانيا: علم الكلام، وهو أشهر الأسماء، وهو العلم الذي يأخذ كلام الله، وهو القرآن، موضوعا له، فالعقيدة الدينية مستمدة من القرآن. أو لأن أشهر بحث فيه هو كلام الله، هل هو قديم أم حادث. وفي هذه الحالة يكون الاسم مستمدا من موضوع العلم العام، وهو القرآن، أو الخاص وهي مسألة قدم الكلام أو حدوثه. وأحيانا يكون الاسم مشتقا من منهج العلم، وهو الكلام والمناقشة والجدل والرد على الخصوم.(1/7)
لذلك يبدأ العلم فصوله بالكلام في كذا, ويورث صاحبه قدرة على الكلام. وأحيانا يكون العلم هو الكلام، أي: الكلام الصحيح دون غيره؛ لأنه يعتمد على الكلام، أي: كلام الله في الحجج النقلية المؤثرة في القلوب، فالكلم هو الجرح أي: الأثر. وهو الاسم الذي غلب في كتب العقائد المتأخرة وفي موسوعات العلوم الدينية.
ثالثا: علم العقائد الإسلامية، وهو العلم الذي يبين العقائد الإسلامية ويرتبها حتى يؤمن بها الناس، وهو ما حدث أيضا في كتب العقائد المتأخرة مثل العقائد النسفية، والعقائد العضدية، وقد وصلت إلى خمسين عقيدة تقريبا، واحدة وأربعين في الله وتسع في الرسول. وهو العلم الذي سماه أبو حنيفة "الفقه الأكبر" في مقابل "الفقه الأصغر" وهي الأحكام العملية.
رابعا: علم التوحيد، وهو العلم الذي يضع التوحيد عقيدة أولى، أو كعقيدة أم، ومنها تخرج باقي العقائد بالاستدلال، وهو الاسم الذي فضله الإمام محمد عبده في "رسالة التوحيد"، وأحيانا "علم التوحيد والصفات".
خامسا: علم الذات والصفات، وهو العلم الذي جعل المسألة الأولى فيه مسألة الذات والصفات. فعلى أساس الصلة بينهما تتحدد باقي العقائد. فاعتبار الصفات زائدة على الذات يؤدي إلى جميع مواقف الأشاعرة من كسب وأولوية للنقل على العقل، والتوحيد بين الذات والصفات يؤدي إلى جميع أصول المعتزلة في العدل والوعد والوعيد.
ووجه الحاجة إليه هو تنظير العقيدة واستنباط أدلتها بعد موت الرسول والاعتماد على العقل والنقل. ومنفعته في الدنيا انتظام أمر المعاش، وفي الآخرة النجاة من العذاب ونيل السعادة. غايته التصديق(1/8)
بالعقيدة وتحلية الإيمان بالإيقان. لذلك كانت مرتبته أشرف العلوم، فهو يدرس أشرف الموضوعات، وهو الله.
ب- مصنفات العلم وتطورها:
هناك نوعان من المصنفات في علم أصول الدين:
1- مصنفات في تاريخ الفرق الإسلامية تعرض لأفكار كل فرقة، وتبين في النهاية عقائد الفرقة الناجية، أهل السنة الأشاعرة. وأكبر الفرق أربع: المعتزلة، والخوارج، والرافضة "الشيعة"، والمرجئة. وقد خرجت كل فرقة من ثنايا الفرقة الأخرى وكرد فعل عليها. فالشيعة ضد الخوارج، كلاهما محب مفرط ومبغض في حق علي. والمرجئة عكس الخوارج فيما يتعلق بالإيمان والعمل، وأهل السنة ضد الشيعة فيما يتعلق بالتوحيد والإمامة. والأشاعرة ضد المعتزلة فيما يتعلق بالتوحيد والعدل والوعد والوعيد. والمعتزلة ضد الجهمية فيما يتعلق بحرية الأفعال.. وأشهر المصنفات من هذا النوع "مقالات الإسلاميين" للأشعري "توفي 520هـ" "الفرق بين الفرق" للبغدادي "429هـ"، "الملل والنحل" للشهرستاني" "548هـ"، "اعتقادات فرق المسلمين والمشركين" للرازي "606هـ" ثم اختفت هذه المصنفات بعد أن بلغت ذروتها في القرنين الرابع والخامس وأصبحت تذييلا في كتب العقائد الإسلامية بعد موضوع الإمامة كما هو الحال في "الاقتصاد في الاعتقاد" للغزالي "505هـ"، و"أصول الدين" للبغدادي "429هـ"، "والموافق" للإيجي "756هـ".
2- مصنفات في العقائد الإسلامية وعرض أراء الفرق من خلال العقائد، وهي المصنفات الغالبة والتي أصبحت تحتوي على مادة علم أصول الدين. وقد تطورت هذه المصنفات بتطور العلم. ويمكن التمييز بين خمس مراحل متداخلة:(1/9)
أ- ظهور الموضوعات من خلال الفرق وظهور الفرق من خلال الموضوعات. وقد تمثلت هذه الفترة في القرنين الرابع والخامس في "التنبيه والرد" للملطي الشافعي "377هـ"، و"التمهيد" للباقلاني "403هـ" والتركيز على موضوعات التوحيد والنبوة والإمامة. ثم تم الانتقال من الفرق إلى الموضوعات في "الإبانة" للأشعري "330هـ" ومن الموضوعات إلى الفرق في "الملل والنحل" للشهرستاني "548هـ"، وغلبت عليها موضوعات التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والسمع والعقل. ثم تم أخيرا الانتقال من الفرق إلى الموضوعات بلا بناء إلى الفرق والموضوعات المبنية، كما هو الحال في "مقالات الإسلاميين" للأشعري "330هـ"، "الفصل" لابن حزم "456هـ"، وقد غلبت عليها موضوعات التوحيد، والقدر، والإيمان، والوعيد، والإمامة وبعض المسائل الطبيعية.
ب- من المسائل إلى الموضوعات ومن الموضوعات إلى الأصول. وتتمثل هذه الفترة أيضا من القرن الأول حتى القرن الخامس. فقد بدأ التفكير في مسائل العقائد منذ نهاية القرن الأول حتى القرن الثالث في موضوعات القدرة والاستطاعة والقضاء والقدر عند عمرو بن عبيد "144هـ" وجهم بن صفوان "128هـ"، وواصل بن عطاء "181هـ" وأبو الهذيل العلاف "226هـ" والنظام "220هـ/231هـ" والجاحظ "255هـ" وأبو علي الجبائي "295هـ" وابنه أبو هاشم "321هـ". ولكن لسوء الحظ لم تصل معظم مؤلفات المتكلمين الأوائل وكلهم من المعتزلة. ولكن بدأت بعض المسائل المتفرقة في الظهور من خلال الجدل والنقاش حولها، كما يبدو ذلك في "الانتصار" للخياط "300هـ" أو مجرد مسائل وموضوعات والرد على مخالفيها مثل "كتاب التوحيد" للماتريدي "333هـ" و"المسائل الخمسون" للرازي "606هـ". وقد استمر هذا اللون من التأليف إلى عصر متأخر في "مسائل" أبي الليث "373هـ". وأخيرا تحولت المسائل والموضوعات في فصول وأبواب وأصول كما هو الحال في "الإنصاف" للباقلاني "403هـ"،(1/10)
و"اللمع" للأشعري "330هـ". و"لمع الأدلة"، و"الإرشاد"، و"الشامل" وكلها للجويني "478هـ". و"أساس التقديس" للرازي، و"بحر الكلام" للنسفي "508هـ" وغاية المرام للآمدي "631هـ". وقد كانت معظم موضوعات التوحيد والنبوة والإمامة بلا ترتيب أو إحصاء. ثم تم إحصاء الموضوعات في أصول في "نهاية الإقدام" للشهرستاني "548هـ"، في عشرين أصلا "أصول الدين" للبغدادي "429هـ"، في خمسة عشر أصلا وكلها للأشعرية. ثم "المغني"، في عشرين بابا و"المحيط" في بابين، و"شرح الأصول الخمسة" وكلها للقاضي عبد الجبار "415هـ" من المعتزلة.
جـ- من أصول الدين إلى بناء العلم. وتتمثل هذه الفترة أساسا في القرن السادس والسابع والثامن عندما تحولت أصول الدين المتفرقة إلى بناء متكامل للعلم. بدأت بـ "العقيدة النظامية" للجويني "478هـ" ثم "الاقتصاد في الاعتقاد" للغزالي "505هـ" ثم اكتملت في "المحصل في أصول الدين" للرازي "606هـ" وفي "طوالع الأنوار" للبيضاوي "685هـ" و"المواقف للإيجي" "756هـ" و"أشرف المقاصد" للتفتازاني "791هـ". وقد ظهر بناء العلم على أنه مقدمة في العلم, ثم مقدمة ثانية في المعلوم وهو الموجود. ثم تحدد بناء العلم على أنه أولا: نظرية في الإلهيات "العقليات" وتشمل نظرية الذات والصفات والأفعال: أوصاف الذات الستة ثم صفاتها السبع ثم خلق الأفعال ثم الحسن والقبح أي: أربعة موضوعات. ثانيا: نظرية في السمعيات "النبوة" وتضم أيضا أربع موضوعات: النبوة والمعاد، والإيمان والعمل، وأخيرا الإمامة.
د- من بناء العلم إلى عقائد الإيمان. وهي الفترة التي انهار فيها بناء العلم العقلي وتحول إلى مجرد إحصاء لعقائد الإيمان. وبالرغم من وجود نموذج مبكر في "الفقه الأكبر" لأبي حنيفة، إلا أنه قد ظهر من جديد في الفترة(1/11)
ابتداء من القرن التاسع حتى الآن ولم ينته بعد. وقد تركزت العقائد كلها حول قطبين أساسيين: الله والرسول، وتحولت المقدمتان عن نظرية العلم ونظرية الوجود إلى نظرية أحكام العقل الثلاثة: الواجب والممكن والمستحيل. وقد انتقلت العقائد من مرحلة عرض ما يجب على المؤمن الإيمان به كما هو الحال في "العقائد النسفية" للنسفي "642هـ" و"العقائد العضدية" لعضد الدين الإيجي "756هـ" و"العقيدة الطحاوية" للطحاوي "321هـ" إلى مرحلة العد والإحصاء، فأصبح على المؤمن أن يؤمن بثمان وأربعين عقيدة، أربعين في الله وثمان في الرسول، وقد تصاغ العقائد شعرا كما هو الحال في "جوهرة التوحيد" للقاضي و"الخريدة البهية" للدردير "1177هـ" و"وسيلة العبيد" للظاهري "270" وأحيانا أخرى تكون العقائد خمسين عقيدة بإضافة واحدة ثم عكسها للرسول كما هو الحال في "كفاية العوام" للقضاعي. وقد انهار التأليف كلية في علم الكلام عندما ظهرت الكتب المدرسية والمقررات الجامعية تنقل عن القدماء دون إضافة أو تغيير أو إعادة نظر، وتحول التأليف إلى وسيلة للكسب وللمعاش.
هـ- من عقائد الإيمان إلى أيديولوجية الثورة. وهي الفترة التي بدأت منذ القرن الماضي منذ الحركات الإصلاحية الأخيرة، والتي تتمثل في "رسالة التوحيد" عند محمد عبده "1323هـ" من أجل إحياء التراث الاعتزالي والتركيز على حرية العقل واستقلال الإرادة, ثم ظهور التاريخ وانتشار الإسلام فيه، حتى يعي المسلمون نهضتهم ازدهارا ثم انهيارا ثم نهضة بقي دفع الإصلاح خطوة إلى الأمام وتحويل العقائد الدينية إلى أيديولوجية ثورية للمسلمين حتى يستطيعوا بها مواجهة ما يعرض لهم من مشاكل رئيسية في حياتهم مثل: الاستعمار والصهيونية والإقطاع والرأسمالية والتخلف وحتى يمكن تجنيد الأمة من جديد وتوحيدها ابتداء من "التوحيد"1.
__________
1 يمثل كاتب هذا المقال هذا التيار.(1/12)
1- نظرية العلم:
يبدأ علم أصول الدين بمقدمة نظرية عن العلم؛ لأنه لا يمكن معرفة العلم إلا بعد معرفة المعرفة نفسها، مبادئها وحججها وأحكام النظر، حتى يمكن تحديد إمكانيات الإنسان للمعرفة أولا حتى لا يبغي الإنسان أقل ما يستطيع أو أكثر مما تؤهله إليه حواسه وعقله. وقد أسقطنا نحن الآن هذه المقدمة من حياتنا العلمية والعملية وبدأنا بعقائد الإيمان مباشرة، عن طريق الإيمان أو التقليد.
وقد تطورت نظرية العلم ابتداء من مجرد الحديث عن مضادات العلم، من ظن وشك وتقليد ووهم وإلهام ومصادر العلم ذاته, مثل: المحسوسات والمجربات والمشاهدات والأوليات والبديهيات والمتواترات، إلى أن أصبحت نظرية متكاملة في العلم ابتداء من القرن السادس حتى التاسع، ثم اتحدت نظرية العلم ونظرية الوجود معا فيما بعد، فيما يعرف بأحكام العقل الثلاثة: الممكن والواجب والمستحيل، التي عرضها الجويني لأول مرة في القرن الخامس، والتي استمرت حتى الآن كمقدمة نظرية وحيدة للعلم.
وقد ظهر أثر المباحث المنطقية الفلسفية في بناء العلم، وقسمته إلى(1/13)
تصور وتصديق، وقسمت كلا منهما إلى بديهي وكسبي، البديهي هو الفطري، والكسبي يأتي من الحس والمشاهدة والتجربة. أما النظر فإنه ترتيب أمور معلومة للتوصل به إلى مجهول، فإن كان قولا شارحا فهو التصور، وإن كان حجة، أو دليلا فهو التصديق. والقول الشارح الذي يعرف بالشيء، لا بد أن يكون العلم به سابقا على المجهول، وليس مساويا له في الجلاء والخفاء أو أخفى منه، ولا بد من تقديم الأعم وتجنب الألفاظ الغربية والمجازية وتحاشي التكرار. وما تعرف به الحقائق، إما أن يكون بسيطا لا يتركب عنه غيره مثل الواجب، أو يتركب عنه غيره مثل الجوهر، وإما مركبا مثل الإنسان والحيوان. وهناك أنواع عديدة من المعرف: داخلي يشمل جميع أجزائه وهو الحد التام، أو بعض أجزائه وهو الحد الناقص. وخارجي وهو الرسم الناقص، ومركب من الداخلي والخارجي وهو الرسم التام.
أما الحجج فإنها على أنواع. فهي قياس في حالة الانتقال من الكلي إلى الجزئي، وتمثيل في حالة الانتقال من الجزئي إلى الجزئي، واستقراء في حالة الانتقال من الجزئي إلى الكلي. ويكون ناقصا إذا تم حصر بعض الجزئيات، وتاما إذا تم حصر جميع الجزئيات. والقياس، وهو الأكثر استعمالا، يكون استثنائيا سواء كان شرطيا متصلا أو شرطيا منفصلا، ويكون أيضا اقترانيا كما هو معروف في أشكال القياس الأربعة. وإلى هنا لا تزيد نظرية العلم كثيرا عما وصل إليه المنطي الصوري القديم من تحليل لأشكال الفكر.
ولكن تبدو أصالة نظرية العلم في تحليل مواد الحجج، تلك التي لم يفصل فيها القدماء. فالحجج إما عقلية أو نقلية. والعقلية إما قطعية تعتمد على البرهان والدليل، أو ظنية تعتمد على مقدمات يجوز نقضها، أو مقدمات مشهورة أو مغالطات تقوم على الوهميات واعتبار غير المحسوس(1/14)
كالمحسوس. والمبادئ اليقينية تشمل الأوليات وهي البديهيات، والقضايا التي تحمل قياساتها معها، والمشاهدات وهي الحسيات، والتجريبيات وهي اجتماع التجربة مع العقل، والحدسيات وهي بداهات الحس، وأخيرا المتواترات وهي اجتماع الحس مع العقل كأساس للسمع، فالنقل يفيد اليقين، إذا ما صح نقله عمن عرف صدقه عقلا، وهم الأنبياء، وعلمنا عصمة رواة العربية، وعدم الاشتراك، والمجاز، والإضمار، والتخصيص، والنسخ. وإذا ما غاب المعارض العقلي الذي لو كان لترجح، إذ العقل أصل النقل، وتكذيب الأصل لتصديق الفرع محال لاستلزامه تكذيبه أيضا. فالنقل لا يستقل بذاته، إذ يعتمد على صحة النقل وعلى اللغة وأسباب النزول والناسخ والمنسوخ، كما يعتمد أيضا على العقل، وبالتالي يخطئ كل من يستدل على العقيدة الإسلامة بقال الله وقال الرسول, كما نفعل في عصرنا هذا. وقد أجمع علماء أصول الدين من قبل على أن كل الحجج النقلية، حتى لو تضافرت على إثبات شيء يقيني، ما استطاعت ولظل ظنيا، ولا يتحول إلى يقين إلا بحجة عقلية ولو واحدة.
والنظر الصحيح يقيد العلم، وهو ما أنكرته السمنية التي لا تعترف إلا بالمعرفة الحسية. كما أنكره المهندسون في الإلهيات، فالمهندسون يعملون العقل، والإلهيات ليست عقلية بل وجدانية. فالتصديق موقوف على التصور وذات الله غير معقولة ولا جائزة التعقل حتى يكون محكوما عليها. ولما كان من أقرب الأمور إلى الإنسان هويته وعليها خلافات، فما بالنا بأبعدها عن الأوهام والعقول وهي ذات الله؟
والنظر الصحيح يعد الذهني, وتفيض النتيجة عليه عادة عند الأشعري ووجوبا عند الحكماء. ويولد النتيجة في الذهن عند المعتزلة. والخلاف أساسا في السببية والارتباط الضروري بين العلة والمعلول. تنكره(1/15)
الأشاعرة وتثبته المعتزلة. والنظر الصحيح كاف في معرفة الله عند أهل السنة ولا حاجة إلى معلم، كما هو الحال عند الإسماعيلية، نظرا للخلاف بين العقلاء وصعوبة الموضوع. بل إن وجوب النظر في معرفة الله، واجب سمعا عند الأشاعرة وعقلا عند المعتزلة، فما لا يتم الواجب به فهو واجب. والحقيقة أن الوجوب في معرفة العالم وليس في معرفة الله؛ لأننا لا نعرف ذات الله بل نعرف آثاره في العالم من أجل معرفة قوانين الطبيعة وتسخيرها لصالح البشر. لذلك كانت معرفة الطبيعة مقدمة لمعرفة الله، وكانت الطبيعيات مقدمات للإلهيات على ما يبدو في المقدمة الثانية نظرية الوجود.
وخلاصة القول إنه بالرغم من أن نظرية العلم استطاعت أن تصل إلى بعض الأسس المعرفية العامة مثل تأسيس النقل على العقل، إلا أنها ظلت في نطاق نظرية العلم القديمة، العلم الصوري. ولا يستطيع عالم اليوم أن يؤسس العلم دون أن يأخذ في اعتباره بناء العلم في الشعور الإنساني وارتباط الدين بمصالح الأمة، وأثر التصورات الدينية على الأوضاع الاجتماعية إيجابا وسلبا. فالعقيدة الدينية تقوم حاليا في الأمة بدور الأيديولوجية الثورية.(1/16)
2- نظرية الوجود:
وبعد الإجابة عن سؤال: كيف أعلم؟ في نظرية العلم تأتي الإجابة عن سؤال ماذا أعلم؟ في نظرية الوجود. وتشمل النظرية ثلاثة مباحث رئيسية: الأمور الكلية، والأعراض، والجواهر. وقد تطورت النظرية من الأفكار الأولية حول الموجود والمعدوم، والماهية والوجود، والقدم والحدوث حتى شملت المباحث الفلسفية في الوجوب والإمكان، والوحدة والكثرة، والعلة والمعلول. وقد اتسع مبحثا الأعراض والجواهر حتى أصبحا أكثر من نصف العلم كله، مما يدل على أهمية المعلوم على العلم وإمكانية التحويل "التيولوجيا" إلى "أنطولوجيا"، والأمور الكلية، وهو المبحث الأول، يشمل المبادئ الميتافيزيقية العامة للوجود. تبدأ بتقسيم المعلومات إلى موجود ومعدوم أو إلى موجود ومعدوم وحال. فالحال هو توسط بين الوجود والعدم؛ لأنه انتقال وتغير. أما المعتزلة فقد قسموا المعلوم إلى ثابت ومنفي، والثابت إلى موجود ومعدوم؛ لأنهم أثبتوا المعدوم شيئا فالمعدوم ليس بثابت. وقد اتفق الجمهور على نفي الحال باستثناء القاضي أبي بكر الباقلاني والجويني وأبي هاشم. أما الوجود فهو تصور بديهي بسيط مثل تصور الإنسان لوجوده. وهو أيضا تصور مشترك عند الجمهور خلافا للشيخ "الأشعري"؛ وذلك لأنه يطلق على الإنسان والحيوان والنبات والجماد، كما يطلق على الإنسان العالم والله. فالإنسان موجود، والعالم موجود، والله موجود باشتراك الاسم. ويكون السؤال: أي الموجودات الثلاثة أحق باسم الوجود؟ الإنسان موجود؛ لأنه يشعر بوجوده, ثم يعزو إلى العالم وجودا بفعل تحركه ونشاطه فيه، ثم يثبت لله وجودا عن طريق المماثلة والقياس. فالإنسان موجود بالحقيقة والله موجود بالمجاز. والوجود زائد على الماهية على خلاف الشيخ مطلقا والحكماء في الواجب. فالجمهور يعني الوجود الإنساني والطبيعي حيث يتمايز الوجود عن الماهية، والأشعري والفلاسفة يعنون الوجود الإلهي حيث يتحد فيه الوجود بالماهية. أما الماهية فهي حقيقة الشيء، وهي إما مجردة مطلقة أو مخلوطة. الأولى عقلية لها وجود في الذهن، والثانية حسية لها وجود في الخارج. وبالتالي يخطئ أفلاطون عندما يعزو إلى المثل وجودا واقعيا في الخارج، وهي مجرد مثل ذهنية خالصة. وتنقسم الماهية أيضا إلى بسيطة ومركبة، والبسيطة ما لا أجزاء فيها، والمركبة إما أن تكون خارجية مركبة من أجزاء عقلية مثل المفارقات كالعقل والنفس، أو متخارجة أو متداخلة أو متباينة أو متخالفة، وتكون أيضا إما وجودية أو إضافية أو ممتزجة البسائط غير مجعولة. أما المركبات فإن(1/17)
قامت بنفسها استقلت أجزاؤها، وإن قامت بغيرها قامت بها جميع أجزائها. وتتعين الماهية وبالتالي فهي لا تأبى الشركة، في حين أن الشخصي يأباها عند الحكماء، وأنكر المتكلمون ذلك؛ لأن الله ماهية لا تجوز الشركة فيه. ووجود الشخص زائد عليها عند الحكماء، وأنكر المتكلمون ذلك؛ لأن ماهية الله عين وجوده، وعند الحكماء أن الماهية إن اقتضت التشخص لذاتها، انحصر نوعها في شخصها.
ثم يحلل علماء أصول الدين الوجوب، والإمكان، والقدم، والحدوث كمفاهيم تساعد على بداية الحديث في الله وإثبات وجوده، باعتباره قديما بمصطلحاتهم أو واجبا بمصطلحات الحكماء. وبما أنها أمور عقلية لا وجود لها في الخارج، وبالتالي فإنها لا تثبت وجود الله بالفعل كحقيقة موجودة في عالم الأعيان، وليس فقط كتصور في عالم الأذهان، فالممكن وما يحتاج في وجوده إلى سبب، هو الذي لا يكون أحد طرفيه أولى بذاته من الطرف الآخر، وهو ما لم يتعين صدوره، وما يحتاج إلى البقاء. أما الواجب فإنه على عكس منه، يوجد بذاته لا بغيره، بسيط غير مركب، ليس بزائد على الذات. والقديم ما لا يتأثر. وقد قال الحكماء بقدم العالم وأثبتوه إلى الصانع، في حين نفى المتكلمون القدم عن كل شيء سوى عن الله. أما الحادث فإنه ما يكون وجوده مسبوقا بعدم، وما يحتاج في وجوده إلى غيره. فالواجب مثل القديم، والممكن مثل الحادث.
أما الوحدة والكثرة فإنهما أيضا مفهومان عقليان يدلان على تفكير إلهي عقلي مجرد. فالواحد هو الله، والكثرة هي الموجودات المتعددة في العالم. ويفصل علماء أصول الدين في الواحد. فهو إما بالشخص فيكون وحدة أو ذا وضع أو مفارق أو متصل أو مجتمع، وإما واحد من وجه، وكثير من وجه، مثل الواحد بالنوع أو بالجنس والفعل أو بالعرض موضوعا أو(1/18)
محمولا. ويكون الواحد أيضا إما طبيعيا أو وضعيا أو صناعيا، وإما غير تام. وقد يحصل الواحد بالاتحاد. فيكون الاتحاد حينئذ بالنوع كالمماثلة، أو بالجنس كالمجانسة، أو بالعرض. فإذا كان العرض مادة يكون مساواة، وإذا كان كيفا يكون مشابهة، وإذا كان مضافا يكون مناسبة، وإذا كان شكلا يكون مشاكلة، وإذا كان وضعا يكون موازاة، وإذا كان طرفا يكون مطابقة. أما الكثرة فإنها تظهر في التغاير، والغيران إما أن يكونا مشتركين في الماهية فيكونان متماثلين أو مختلفين، أو مشتركين في الموضع فيكونان متلاقيين أو متساويين. وإن كان الغيران غير مشتركين فإنهما يكونان متباينين أو متقابلين، ضدين أو مضافين، حقيقين أو مشهورين. ودلالة ذلك كله أن علماء أصول الدين يريدون أن يفردوا الله بالواحد الحق المتميز عن الواحد الرياضي أو الطبيعي.
وآخر الأمور الكلية هما العلة والمعلول، فالعلية هي أحد البراهين على وجود الله. وبعد التقسيم الرباعي للعلة إلى فاعلة وغائية، وصورية ومادية، يتم إفراد علة لا تكون معلولة لعلة أخرى؛ لأن الشيء لا يكون قابلا وفاعلا معا، مما يتيح إثبات وجود الله كعلة أولى. هذه الأمور الكلية في الحقيقة ليست مبادئ ميتافيزيقيا خالصة، وليست تحليلا محايدا للوجود، بل هي إلهيات عقلية أو عقليات إلهية تسمح فيما بعد بالحديث عن الله. وقد ساعدت المبادئ العقلية اليونانية، بما تحتوي من ثنائيات بين الصورة والمادة، العقل والحس ... إلخ على تسهيل إعداد مقدمات الفكر كي تكون ممهدة للإلهيات.
وبعد عرض هذه الأمور الكلية، يبدأ مبحث الأعراض، وهو أطول البحوث في علم أصول الدين المتأخر في القرنين السابع والثامن. فالأعراض طبقا للتصور القديم تسعة: الكم والكيف، والزمان والمكان، والوضع، والجهة، وأن يفعل، وأن ينفعل، والإضافة. وتنطبق(1/19)
عليها جميعا أحكام واحدة مثل امتناع الانتقال عليها، وامتناع قيام العرض بالعرض، وامتناع بقاء الأعراض، وامتناع قيام العرض الواحد بمحلين. وهي كلها أحكام تدل على أن الأعراض لا تقوم بذاتها وتقوم بغيرها؛ لأن الله جوهر يقوم بذاته ولا يحتاج إلى غيره. فالحديث عن الأعراض حديث عن الله عن طريق السلب.
والكم والكيف أهم عرضين، وما دونهما أعراض نسبية. فالكم إما منفصل مثل العدد، أو متصل مثل: الزمان، والمقدار، والخط، والسطح، والحجم. والزمان عند البعض جوهر، وعند البعض الآخر مرتبط بالفلك والحركة؛ لأنه مقدارها. والكميات كلها عدمية؛ لأنها أعراض.
أما الكيف، وهو أهم الأعراض وأكثرها تحليلا وتفصيلا، فإنه يكون أربعة أنواع: محسوسات، أو نفسانيات، أو كميات، أو استعدادات. فإذا كان المحسوسات راسخة تكون انفعاليات، وإن لم تكن راسخة فإنها تكون المحسوسات الخمس: الملموسات، والمبصرات والمسموعات، والمذوقات، والمشمومات. الملموسات حرارة وبرودة، رطوبة ويبوسة، خفة وثقل، صلابة ولين. والمبصرات ألوان وأضواء. والمسموعات مصمتة ومصوتة، كما هو الحال في الحروف. والمذوقات هي الطعومات، أي: اجتماع الحرارة والبرودة والاعتدال مع الكثيف واللطيف والمعتدل وبالتالي تكون لدنيا تسع طعومات: المرارة "الحرارة والكثيف"، والحراقة "الحرارة واللطيف"، والملوحة "الحرارة والمعتدل"، والعفوصة "البرودة والكثيف"، والحموضة "البرودة واللطيف"، والقبض "البرودة والمعتدل"، والحلاوة "الاعتدال والكثيف"، والدسامة "الاعتدال واللطيف"، والتفاهة "الاعتدال والمعتدل". والمشمومات طيبة أو نتنة. هذا التحليل التفصيلي للمحسوسات يتم في علم أصول الدين لتأصيل(1/20)
العقيدة الإسلامية على غير ما يرى البعض. فتحليل الطبيعة من خلال الحواس جزء من العقيدة الإسلامية. أما النفسانيات فإنها تشمل الحياة، والإدراك، والأفعال مثل القدرة والإرادة والملكة والحال، واللذة والألم، والصحة والمرض. وأهم عنصر في النفسانيات هو الإدراك. فالإدراك يكون ظاهرا، وهي المشاعر الخمسة، أو باطنا وهما التصور والتصديق. والتصديق يكون جازما بغير موجب وهو التقليد، أو جازما بموجب، فإن قبل النقيض فهو الاعتقاد، وإن لم يقبل فهو العلم. ويكون التصديق غير جازم. فإذا تساوى الطرفان. فهو الشك وإن رجح طرف فهو الظن، ويكون المرجوح هو الوهم. أما الكميات فإنها تكون إما عارضة متصلات أو منفصلات أو مركبة. أما الاستعدادات فإنها تتفاوت فيما بينها قوة وضعفا. والقوة تكون إما خارجية فهي القسرية، أو شعورية وهي الإرادية أو طبيعية، كما تكون القوة أيضا سريعة وبطيئة.
أما باقي الأعراض النسبية مثل الأين من حيث التخلخل أو التكاتف، والوضع من حيث الحركة الدورية أو حركة الأفلاك، والإضافة وأنواعها إلى آخر الأعراض التسعة، فإنها أقل أهمية في التحليل. ويغيب الفعل والانفعال نظرا لوجود العلة والمعلول في المبادئ الكلية العامة. ويتضح من هذا التحليل للأعراض أنه يميل إلى الذاتية وإلى نظرية العلم، وكأن المعلوم لا وجود له إلا من خلال العلم.
أما الجواهر، وهو المبحث الأخير في نظرية الوجود، فإنه يشمل مباحث الأجسام المادية أولا، ثم المفارقات ثانيا. تنقسم الأجسام المادية عند المتكلمين إلى ما يقبل القسمة مثل الجسم، وما لا يقبل القسمة مثل الجوهر الفرد. أما عند الحكماء فإن الجوهر ينقسم إلى هيولي وهو المحل، وصورة وهو الحال، والجسم وهو المركب منهما، والمفارق وهو غير مركب مثل النفس والعقل. يثبت المتكلمون الأجسام المركبة المنقسمة، بينما يثبت(1/21)
الحكماء الأجسام المتصلة، فالصورة لا تنفك عن الهيولي. يثبت المتكلمون الجوهر الفرد وينفيه الحكماء، فالجوهر الفرد أو الجزء الذي لا يتجزأ، يساعد المتكلمين على إثبات وجود الله؛ لأنه في حاجة إلى سبب وجود وهو الله. أما الأجسام البسيطة فهي كروية الشكل كالممكنات والعناصر. والممكنات هي الأفلاك والكواكب التسعة بالإضافة إلى فلك الأرض المركب، وهي أجسام شفافة، لا خفيفة ولا ثقيلة، لا حارة ولا باردة، متحركة حادثة على عكس ما يقوله أرسطو بقدمها.
أما المفارقات فهي إما مؤثرة وهي العقول والملأ الأعلى، وإما مدبرة علوية أو سفلية، والسفلية مدبرة للبسائط أو للأشخاص، وإما لا مؤثرة ولا مدبرة مثل: الملائكة والشياطين. وقد أثبت الحكماء العقول العشرة ووصفوها بأنها ليست حادثة ولا فاسدة، واعتبروا أن للأفلاك نفوسا، في حين أنكر المتكلمون وأوائل المعتزلة الجواهر المجردة. وقد فصل الحكماء في النفس، فهي إما مدركة أو محركة. وتكون المدركة ظاهرة في المشاعر الخمسة، أو باطنة في مشاعر خمسة أخرى: المتعرفة، والحافظة، والوهم, والخيال, والحس المشترك. وتكون المحركة اختيارية بالقوى الثلاث الشهوية والغضبية والعاقلة، وتكون الطبيعية بالشخص غاذية ونامية، أو بالنوع مولدة ومصورة. والنفس تفعل في البدن. فهي جاذبة وهاضمة وماسكة وواقعة. والهاضمة تظهر في المضغ والمعدة والكبد والأعضاء أما النفس العاقلة فهي إما هيولي قبل التعلم، أو بالملكة بمجرد الاستعداد، أو بالفعل بعد التعلم، أو مستفادة بعد التحقق من العلم. والنفوس الناطقة متجردة أي: متميزة عن البدن، حادثة. وبالرغم من تعلقها بالبدن، إلا أنها باقية.
يتضح من نظرية الوجود ارتباطها بالثقافات القديمة ومستوى فكر العصر، وغزو الكلام بالفلسفة، وتقابل آراء المتكلمين وآراء الحكماء. ولو استمر علم أصول الدين في تطوره ولم يتوقف، ثم يتحول إلى عقائد، لابتلعت نظرية العلم ونظرية الوجود الإلهيات والسمعيات، وتحولت الثيولوجيا إلى متيافيزيقا وأنطولوجيا.(1/22)
3- أوصاف الذات:
الذات الإلهية أول موضوع في علم أصول الدين. وقد ظهر في علم الكلام المتأخر كموضوع منفصل عن الصفات الإلهية، وإن كان التمييز التام بين أوصاف الذات وصفاتها، لم يتم إلا في كتب العقائد الإيمانية المتأخرة.
وللذات الإلهية أوصاف ستة: الوجود، والقدم، والبقاء، والمخالفة للحوادث، والقيام بالنفس، والوحدانية. ثم تحولت في العقائد الإيمانية المتأخرة إلى اثني عشر وصفا عن طريق نفي نقيض كل من الأوصاف الستة. فنشأت ستة أوصاف جديدة منفية وهي: ليس عدما، ليس حادثا، ليس فانيا، ليس مشابها للحوادث، ليس في محل، وليس كثيرا.
كانت مفاهيم الحادث والقديم، والممكن والواجب، والعلة والمعلول، مجرد مقدمات نظرية لإثبات الوصف الأول للذات الإلهية، وهو الوجود. ويتم إثباته بطريقتين: الأولى إبطال الدور والتسلسل، فلا يمكن أن يكون الشيء أثرا ومؤثرا في نفس الوقت، ولا يمكن أن تسلسل المعلولات إلى ما لا نهاية. والثانية إثبات واجب الوجود؛ لأنه لا يمكن تصور الممكن بلا واجب، كما لا يمكن تصور الحادث بلا قديم، والحقيقية أن هذين البرهانين وغيرهما من البراهين التي أوردها المتكلمون لإثبات وجود الله، لا تثبت أمام النقد العقلي. وقد قام ابن رشد بهذا النقد في "مناهج الأدلة"، واعتبرها براهين لا تفيد الذكي ولا ينتفع بها البليد. فالدور حادث في الطبيعة(1/23)
أي: وجود أثر ومؤثر في نفس الشيء، كما أن التسلسل يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية أيضا عن طريق الدورة الطبيعية، مثل الماء والبخار. لذلك رفض الحكماء هذه البراهين، واعتبروا أن الطاقة البشرية لا تكفي لمعرفة الذات؛ لأنها غير متصورة بالبداهة وليست قابلة للتمديد لانتفاء التركيب عنها. يمكن معرفة صفاتها بالرسم فقط ولكن الرسم لا يفيد حقيقة.
أما باقي الأوصاف الخمسة الأخرى، فيضمها جميعا لفظ واحد وهو التنزيهات؛ لأنها ترمي كلها إلى تنزيه الله، في حين أن الوجود هو مجرد إثبات لحقيقة. فالقدم يعني عدم الأولية، والقديم هو الأزلي الذي لا أول له. والبقاء يعني عدم الآخرية، والباقي أي: الأبدي لا نهاية له ولا يلحقه العدم. والمخالفة للحوادث تعني نفي المخالفة والمماثلة والمشابهة للمخلوقات. وقد فصل علم الكلام المتأخر هذه الصفة على حساب القدم والبقاء وجعلها تشمل عدة أوصاف مستقلة. فهو لا يماثل غيره، وليس له جسم ولا جهة، وليس محلا للحوادث، خلافا للكرامية والمشبهة، وليس له أعراض محسوسة. والقيام بالنفس تعني الاستغناء عن المحل والمخصص ونفي الاتحاد والحلول. أما الوحدانية فتعني عدم التعدد في الذات والصفات والأفعال، وأنه ليس مركبا من أجزاء. والدليل على وحدانية الله هو دليل التمانع الذي صاغه الأشعري، القائم على تناقض افتراض إلهين يتفق مرادهما في كل شيء، وعلى أن الأولى في هذه الحالة، وجود إله واحد.
والحقيقة أن هذه الأوصاف كلها تنزيهات عقلية لا تصف شيئا في الواقع بقدر ما تعبر عن رغبة الذهن البشري في التنزيه، وهو الاتجاه العقلي في التبجيل والتعظيم، وهما موقفا نفسيان. فالوجود أولى من العدم؛ لأن الإنسان يفضل الوجود على العدم. والقدم أولى من الحدوث؛ لأن الإنسان يعتز بالقديم في تجاربه ونظرته إلى العالم. والبقاء أولى من الفناء؛ لأن الإنسان يرى أن الفناء عدم ونقص. والمخالفة للحوادث تشير إلى حرص الإنسان على نفي مظاهر النقص من تغير وحركة. والقيام بالنفس يجعل الذات خير من الغير، والاستقلال أفضل من التبعية. أما الواحد فإنه مطلب الإنسان، لذلك كان الرئيس واحدا، فالكثرة عيب ونقص وتكرار. ويدل على ذلك، الأوصاف السلبية الستة التي تنفي عن الله نقيض الأوصاف الإيجابية. فالأمر لا يتعلق بإثبات موضوع حقيقي مستقل عن الإنسان بل بنفي مظاهر النقص الإنساني عما يعتبره الإنسان خارجا عنه.(1/24)
4- صفات الذات:
صفات الذات سبع: العلم، والقدرة، والحياة، والسمع، والبصر، والكلام، والإرادة. أحيانا تضم في مجموعتين صفات معان، وهي الثلاث الأولى، وصفات أفعال وهي الأربع الأخيرة. ونظرا للخلاف بين الأشاعرة والمعتزلة في الصلة بين الذات والصفات، فقد جعلت المعتزلة الصفات عين الذات، بينما جعلت الأشاعرة الصفات زائدة على الذات. ظهرت سبع صفات أخرى عند الأشاعرة، فالله عالم بعلم، وقادر بقدرة وحي بحياة، وسامع بسمع، وبصير ببصر، ومتكلم بكلام، ومريد بإرادة، فأصبحت الصفات أربع عشرة، وحرصا على نفي الضد، فقد زادت العقائد المتأخرة أربع عشرة صفة أخرى، فالله عالم بعلم وليس جاهلا بجهل، وقادر بقدرة وليس عاجزا بعجز ... إلخ فأصبحت أوصاف الذات وصفاتها أربعين على المسلم أن يؤمن بها.
وقد خضعت الصفات السبع الأولى لترتيب عقلي منطقي، فأول صفة هو العلم. ولما كان علم الله نافذا واقعا، كانت القدرة هي الصفة الثانية. ولما كانت الحياة شرط العلم والقدرة، أصبحت هي الصفة الثالثة، والسمع والبصر والكلام والإرادة كلها مظاهر للحياة. فالله عالم(1/25)
بكل المعلومات بالواجبات والجائزات والمستحيلات. وهو قادر، قادر على كل الممكنات. وهو حي، فالحيات تصح كصفة للعالم القادر. وهو سميع بصير عالم بالمسموعات والمبصرات. وهو مريد، والإرادة علمه عند الحكماء, وهو متكلم والكلام وسائر الصفات قديم عند الأشاعرة، حادث عند المعتزلة. أما سائر الصفات مثل: الاستواء واليد والوجه والعين والتكوين، فهي ليست صفات مستقلة ولم يجمع عليها جمهور المتكلمين. كما اختلفوا في جواز الرؤية أثبتتها الأشاعرة وأولتها المعتزلة وجعلتها العقائد المتأخرة الصفة الواحدة والأربعين، فيما يجوز على الله.
وقد أضاف بعض المتكلمين "الأسماء" على الصفات، وهي أسماء الله الحسنى التسعة والتسعون، كمجرد شرح لها دون تصنيف، مع أنها يمكن تصنيفها في مجموعات ثلاث: ما يتعلق بالعقل النظري مثل الحكيم، العاقل، الملهم، وما يتعلق بالعقل العملي مثل الرازق، الواهب، المعطي، المحسن، المانع، وما يتعلق بملكة الحكم مثل الحاكم، المثيب المسيء. وهي تدل على أن الإنسان يسمي الله طبقا لقدراته الثلاث في النظر والعمل والحكم.
والحقيقة أن هذه الصفات السبع لا تصف الله على نحو موضوعي بقدر ما تصف الإنسان, ثم يسقط الإنسان صفاته الذاتية على الله. فالله عالم، تعني أن الإنسان عالم. ولما كان الإنسان لا يستطيع تحقيق علمه في الدنيا، فإن العلم لديه يتحول إلى مثل أعلى لا يمكن أن يتخلى عنه. فإذا أراد وصف الله وهو أغلى ما لديه، فإنه يصف أغلى ما لديه بأعز ما لديه وهو العلم، ويقول الله عالم. وكذلك الحال في سائر الصفات. فإذا نفى عنه الله نقائض الصفات، وقال الله ليس جاهلا، فإن ذلك يعني أن الإنسان جاهل. ولما كان الجهل نقصا، فإن الإنسان ينفي عن الله ما يظنه أنه نقص، ويقول الله ليس جاهلا، وهكذا الحال في سائر الصفات. وهذا(1/26)
هو معنى القدم والحدوث. فالصفات حادثة بمعنى أنها من خلق الإنسان ومن صنعه، أسقطها على الله ظانا منه أنه يصف الله بصفات موضوعية. وكذلك تجد مشكلة علاقة الصفات بالذات حلها في التجربة الإنسانية، مثل تجربة الحب أو عقوبة الإعدام، فالعفو في الحب والجريمة يقوم على أن الصفات زائدة على الذات، وأنه مهما كان للإنسان من صفات، فإن الذات تكون زائدة عليها ولا يجوز هجرها أو إعدامها، وهو ما ارتضته الأشاعرة. ولذلك سموا بأهل الرحمة. أما الهجر والإعدام، فيشيران إلى أنه لا توجد صفات زائدة على الذات، وأن الذات هي صفاتها، وهو ما ارتضته المعتزلة. لذلك سموا بأهل العدل.(1/27)
5- خلق الأفعال:
وتشمل الأفعال موضوعين: خلق الأفعال، والحسن والقبح، ويدخلان في الممكن بعد إثبات الواجب، وهي الصفات ونفي المستحيل وهي نقائض الصفات، ويرى الأشعري أن أفعال العباد كلها واقعة بقدرة الله، وهي مخلوقة له. أما القاضي أبو بكر الباقلاني، فإنه يرى الأفعال من حيث أنها طاعة ومعصية بقدرة العبد حتى يصح الثواب والعقاب. ويرى إمام الحرمين أبو المعالي الجويني وأبو الحسين البصري، والحكماء، أن أفعال العباد واقعة بقدرة خلقها الله في العباد، وهو رأي مشابه لنظرية الكسب عند الأشعري: يخلق الله الاستطاعة للعبد ساعة إتيان الفعل لا قبله ولا بعده. وهي نظرية للتوفيق بين قدرة الله وأفعال العباد، ومسئوليتهم عنها صعبة الفهم حرم السلف المناظرة فيها. ويرى الأسفراييني أن المؤثر في الفعل مجموع قدرة الله وقدرة العبد كمحاولة أخرى للتوفيق بين القدرتين.(1/27)
أما المعتزلة فإنهم يرون أن العبد يوجد فعله باختياره؛ لأنه لو لم يكن مختارا لقبح تكليفه ولأمحت مسئوليته. كما أن القرآن صريح في إضافة الأفعال إلى العباد. ولقد اعترف الأنبياء بذنوبهم، مما يدل على أنهم أصحاب أفعالهم. وأفعال الله منزهة عن أفعال الظلم، وهو صفة لأفعال العباد. أما حجج الأشاعرة لمنع اختيار العبد والرد على المعتزلة، فإنها حجج منطقية تقوم على التصور الأشعري. فمثلا القول بأن الترك إن امتنع حال الفعل كان العبد مجبورا، وإن لم يمتنع احتاج إلى مرجح لا يكون من العبد، وإلا لزم التسلسل قول يتصور الفعل بعيدا عن الباعث والغاية كمرجح. كما أن القول بأن الفعل الاختياري يحتاج إلى العلم بتفاصيل الحركات والسكنات يؤدي إلى امتناع الفعل كلية, ويتصور الفعل على أنه مجزأ إلى أقسام متناهية في الصغر، لا يمكن الإحاطة بها وأشبه بحجج زينون الإيلي ضد الحركة. أما القول بأن فعل العبد لو ناقض مراد الله، لزم جمعهما أو رفعهما أو الترجيح بلا مرجح، ولما كانت قدرة الله أعم كانت هي المرجح قول يقوم على افتراض التناقض ووضع إرادة الله في مواجهة إرادة العبد، مع أن اتفاق الإرادتين أولى من اختلافهما، لما كانت أفعال العباد منفذة لإرادة الله في العالم. فالعالم هو الطرف الثاني لأفعال العباد وليست إرادة الله. وبالتالي يكون موقف الأشاعرة بافتراض تعارض الإرادتين وترجيح مراد الله موقف مزايدة في الإيمان على حساب الخصوم.
أما أفعال العباد الداخلية، أفعال القلب أو الشعور مثل الإيمان والكفر، فإن الله تعالى، عند الأشعري، مريد للكائنات من الخير والشر والإيمان والكفر؛ لأنه موجد الكل ومبدعه؛ ولأنه علم بمن يموت على كفره عدم إيمانه فامتنع وجوده، وإلا لأمكن انقلاب علمه جهلا، فلا تتعلق الإرادة به. أما المعتزلة فإنهم يرون أن أفعال العباد القلبية أفعال تدبر وروية يكون الإنسان مسئولا عنها كمسئوليته عن الأفعال الخارجية. واحتجت المعتزلة بأن الكفر غير مأمور به وبالتالي لا يكون مرادا لله. لو كان الكفر مرادا لله لوجب الرضاء به، ولكان الكافر مطيعا. والله لا يرضى الكفر لعباده. والحقيقة أن أفعال الشعور الداخلية تتوقف على درجة وعي الإنسان ومدى إحساسه بالمسئولية وقدرته على تمثل الهدف والغاية التي تولد فيه طاقات لا نهاية لها للإتيان بأفعال يظنها الناس خارقة للعادة. ينشأ الإنسان ويعيش في ظروف اجتماعية يستمد منها اتجاهاته ويقابلها باتجاهات جديدة. فأفعال الشعور الداخلية هي التقاء الأهداف والغايات الإنسانية مع الواقع الاجتماعي الذي يعيش الإنسان فيه.(1/28)
6- الحسن والقبح:
يظهر هذا الموضوع مع أفعال الله الممكنة في علم الكلام المتأخر وكان قد أصبح عند الشهرستاني في "الملل والنحل" موضوعا تختلف حوله الفرق، وسماه "العقل والنقل" كما أصبح من قبل عند المعتزلة الأصل الثالث من أصولهم الخمسة. وقد اختفى كليه في العقائد الإيمانية وحل محله الإيمان الخالص بما يجب على المكلف الإيمان به.
ترى الأشاعرة أنه لا قبيح بالنسبة إلى ذات الله، فإنك مالك كل شيء، يفعل ما يشاء ويختار، لا علة لصنعه، ولا غاية لفعله. فالقبيح ما نهى عنه الشرع، والحسن ما ليس كذلك. وعند المعتزلة القبيح في نفسه ولذاته أو لصفة قائمة به، يقبح من الله ومنا وكذلك الحسن يدركه العقل ضرورة أو استدلالا يحكم به المتدين والبراهمة، ومنها ما لا يدرك حسنه مثل العبادات. وبعض الأشاعرة يقبلون رأي المعتزلة في الدنيا ويرفضونه في الآخرة. فإذا كان المراد بالحسن والقبح صفة كمال أو نقص أو ملاءمة الطبع ومنافرته، فلا خلاف في كونهما عقليين. وإن كان يتعلق بهما في الآجل ثواب أو عقاب، فالعقل لا مجال فيه. لذلك ارتبط موضوع الحسن والقبح بمسألة الوعد والوعيد. فبينما ترى المعتزلة أن إثابة المحسن وعقاب المسيء،(1/29)
قانون عقلي حسن في ذاته، ترى الأشاعرة أنه لا واجب على الله وإنه في الآجل يفعل ما يشاء. لا يجب على الله شيء فلا حكم عليه. وقد أوجب المعتزلة أمورا أخرى منها: اللطف وهو ما يقرب العبد إلى الطاعة، والثواب على الطاعة، والعقاب على الكبائر قبل التوبة، وأن يفعل الأصلح لعباده في الدنيا، وأن لا يفعل القبيح عقلا لعلمه بقبحه واستغنائه عنه قياسا على الشاهد.
كما ترى الأشاعرة أن أفعال الله لا تتعلق بالأغراض، فالغرض نقص لا يجوز على الله، كما أنه بإمكانه تحصيل الغرض ابتداء دون القصد إليه. كما أن الغرض من اختصاص الحادث المعين وليس قبله، والله ليس حادثا. أما المعتزلة فقد اتفقت على أن أفعاله وأحكامه معللة برعاية مصالح العباد، وأن نفي الغرض عبث، وأن العالم يسير وفقا لقانون الصلاح والأصلح. وقالت المعتزلة أيضا: إن الغرض من التكليف استحقاق التعظيم، فإن التفضل بدونه قبيح، أما لدى الأشاعرة فإن العبد مجبور على التكليف.
والواقع أن إنكار صفات الأفعال من حسن وقبح كصفات ذاتية، وقوع في نسبية إلهية، نظرا لارتباط الحسن والقبح بإرادة الله. ومن ثم يكون الموقف العقلي وحده هو الموقف القادر على الشمول والعمومية. وما أسهل أن يستغل الموقف النسبي لصالح الحكام وربط الخير والشر بإرادتهم التي لا معقب عليها، وانتفاء موضوعية الحكم. أما إنكار الغائية والصلاح فهو إنكار للقصد الإنساني ومصالح العباد، مما يسبب كثيرا من العشوائية ونقص التخطيط وعدم الاعتراف بمصالح الأغلبية.(1/30)
7- النبوة:
والنبوة أول موضوع في السمعيات. وأصبحت عنوانا لها عند البيضاوي في "طوالع الأنوار" تشمل الحشر والجزاء والإمامة. وقد اختلفت الآراء في النبوة بين الوجوب والاستحالة والإمكان. فقالت الأشاعرة: إن النبوة واجبة، ثم اختلفوا بعد ذلك هل هي واجبة بالسمع أم بالعقل. فالإنسان يحتاج بالضرورة إلى النبي؛ لأنه لا يستطيع أن يقيم معاشه ويستقل بنفسه. وقد ظلت هذه الحاجة حتى عند محمد عبده في "رسالة التوحيد"، فالإنسان لديه ما زال في حاجة إلى وصي وهو النبي. فكثيرا ما يتوقف العقل في أمور الدين كالبعث والجنة والنار والطاعات والعبادات والشريعة وكل ما يند عن التجربة وما تتفاوت فيه العقول. وقالت البراهمة: إن النبوة مستحيلة لعدم حاجة الإنسان إليها وقدرته على أن يستقل بعقله في تدبير أمور دنياه وآخرته. والعقل البديهي لا يتوقف في أمور الدنيا أو الدين، وعقل الأمة قادر على أن يكون محكا لاختلاف العقول الفردية. فكل ما حسنه العقل مقبول وكل ما قيمه العقل مردود. فالعقل بديل عن النبي. أما مسائل البعث والجنة والنار، فإنها موضوعات سمعية خارج التجربة، تظل في مجال الظن أو الصور الفنية. أما أمور الدنيا من معاش وصناعة، فتقوم على جلب المنفعة ودفع الضرر، وهما مقياس الفقهاء وأساس الشريعة. أما المعتزلة فقالت: إن النبوة ممكنة الوقوع لا يحتاجها الإنسان ضرورة ولكنها قد تحدث إمكانا، لطفا بالعباد.
والمعجزات بمعنى خرق قوانين الطبيعة، ممكنة عند جمهور المتكلمين. وهذا في الحقيقة خلط في فهم تطور الوحي ومراحله. كانت المعجزة بهذا المعنى أداة تصديق للنبي قبل الوحي الإسلامي، وفي المراحل السابقة عليه، ولكنها لم تعد كذلك في الوحي الإسلامي {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآَيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} [17: 51] واستبدل الإسلام بالمعجزة بهذا المعنى الإعجاز بمعنى تحدي القدرة البشرية على الخلق والإبداع. فهو إعجاز أدبي فكري تشريعي وليس خرقا لقوانين الطبيعة. وقد قيل في سبب الإعجاز أراء عدة منها الإعجاز في الحروف في أوائل السور، ومنها الإعجاز العددي، ومنها الإخبار عن الغيب. كما كان الحال في وظيفة النبي عند بني(1/31)
إسرائيل {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} [3: 49] ولكنها ليست كذلك في الوحي الإسلامي. وإذا كان القرآن أو الحديث قد تنبأ بشيء في التاريخ، فإن هذا التنبؤ يكون لمساره طبقا لقانون التاريخ الذي يمكن للإنسان أيضا، وليس النبي وحده، التنبؤ به. أما صرف الدواعي أي: صرف الله دواعي الإنسان عن التقليد، فذلك إبطال لمعنى التحدي. فما قيمة التحدي إن كان الله قد صرف دواعي الإنسان وقيده ومنعه. وليست المعجزة أيضا حياة النبي وصفاته الخاصة وما عليه من أخلاق وما يتصف به من بلاغة وخطابة وفصاحة؛ لأن ذلك ربط للنبوة بشخص النبي {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [3: 144] . أما باقي معجزات النبي مثل انشقاق القمر، وتسليم الحجر، ونبوع الماء من بين أصابعه، وحنين الخشب، وشكاية الناقة، وشهادة الشاة المسمومة، فكلها أخبار غير متواترة، لعب فيها الخيال الشعبي الكثير وتعارض النقل والعقل. فالشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحد. كما رد القرآن بقوله: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} [17: 93] وبالإضافة إلى المعجزة، أثبت الأشاعرة الكرامة وأنكرها المعتزلة حتى لا يلتبس النبي بالولي؛ ولأن النبي يتميز بالتحدي العلني.
ونسخ النبوات بعضها لبعض قائم. فقد نسخت المسيحية اليهودية كما نسخ الإسلام المسيحية. وقد منع اليهود النسخ؛ لأنه لم يتواتر عن موسى؛ ولأنه لا يوجد نص يمنع من دوام الشريعة. والحقيقة أنه لم تتوافر الدواعي عن اليهود لنقل أصل النسخ حتى يبقي اليهود على خصائصهم المميزة كشعب. كما أن الظاهر فقط لا يدل على النسخ دون القطع بذلك. وقد أنكر اليهود والمسيحيون نبوة محمد باستثناء العيسوية التي جعلتها للعرب خاصة وليس للناس كافة. والحقيقة أن محمدا قد أرسل للخلق كافة. هناك إذن تطور في النبوة حتى آخر الأنبياء معلنا كمال الدين، أي: استقلال الإنسانية عقلا وإرادة وظهور الوعي الفردي مسئولا وعاقلا وحرا.(1/32)
والأنبياء معصومون من الخطأ من الكفر والمعاصي بعد الوحي عند الجمهور، أما الفضلية من الخوارج، فقد جوزت عليهم المعاصي، وكل معصية لديهم كفر. وقد جوز عليهم آخرون الكفر تقية بل واجبا؛ لأن إلقاء النفس إلى التهلكة حرام. وقد رفض أهل السنة هذا الرأي؛ لأنه لو جاز الكفر عليهم لوجب اتباعهم فيه؛ ولأن الكافر لا ينال عهد النبوة؛ ولأن معصية آدم كانت قبل النبوة؛ ولأن إبراهيم لم يكفر في استدلاله على الله، ولكنه كان يتحقق من صدق الفروض والاحتمالات المختلفة. وقد منع آخرون منع تعمد الأنبياء للكبائر وجواز تعمد الصغائر. ولكن جمهور أهل السنة منع عليهم الكبائر مطلقا وجوزوا الصغائر أحيانا. وقد عرفوا العصمة بأنها ملكة نفسانية تمنع من الفجور وتتوقف على العلم بالطاعات والمعاصي. وقد كان الوحي يقوم بتذكير النبي أو تصحيحه إذا ما وقع في السهو أو الخطأ. والحقيقة أن موضوع عصمة الأنبياء يتعلق بأشخاص الأنبياء وليس برسالاتهم، فالأنبياء مجرد وسائل للتعبير عن الوحي، بهم صفات الأمانة والصدق والتبليغ والفطنة ويستحيل عليهم الخيانة والكذب والكتمان والتهور، ويجوز عليهم الفناء وسائر الأعراض البشرية، كما هو الحال في العقائد الإيمانية المتأخرة، ولا يجوز تعظيمهم وإطراؤهم كما أطرى أهل الكتاب أنبياءهم.
وبالتالي فإن سؤال: أيهما أفضل الملائكة أم الأنبياء؟ سؤال ليس في محله بالرغم من أراء المتكلمين فيه. فقد جعلت الشيعة وجماهير الأمة معهم، الأنبياء أفضل من الملائكة؛ لأن الملائكة سجدت لآدم؛ ولأن آدم كان أعلم من الملائكة؛ ولأن طاعة البشر لله أشق من طاعة الأنبياء له؛ ولأن الله اصطفى الأنبياء. أما المعتزلة والقاضي أبو بكر الباقلاني والحكماء، فإنهم يرون أفضلية الملائكة على الأنبياء؛ لأن الله يقدم ذكرهم على الأنبياء؛ ولأن الأنبياء عبيد لله؛ ولأن الملائكة لا يستكبرون عن عبادة الله؛ ولأنهم يعلمون الأنبياء؛ ولأن أرواحهم مطلعة على الغيب مبرأة من الشهوات.(1/33)
والحقيقة أن ذلك موضوع متعال لا قبل لنا به. ولا يجوز التفضيل بين البشر وغير البشر؛ لأنهما ليسا من نوع واحد؛ ولأننا إن أمكننا معرفة سير الأنبياء من التاريخ فإننا لا يمكننا معرفة سير الملائكة وأحوالهم إلا بالسمع، والسمع لا يعطي إلا الظن. بل إنه لا يوجد تفاضل بين الأنبياء، فكل نبي يؤدي دوره في مرحلة، والكل على مستوى واحد من الأداء من حيث الأمانة والصدق والتبليغ. ولقد انتهت العقائد الإيمانية المتأخرة بالحديث عن النبي وأزواجه وأصحابه وبناته وأحفاده، وكل ذلك تشخيص لرسالة الأنبياء، وهو المسئول عن التشخيص المماثل للمبادئ والأفكار والنظم والمؤسسات في حياتنا المعاصرة.(1/34)
8- المعاد:
ويسمى أحيانا الحشر والجزاء أو النفوس الناطقة وأحوال القيامة. وقد غلب على العقائد المتقدمة والمتأخرة، الموضوعات السمعية الخالصة، كما غلب على علم الكلام في القرنين السابع والثامن، الموضوعات الفلسفية مثل المعاد الجسماني والمعاد الروحاني وأحوال النفس الناطقة.
فإعادة المعدوم جائزة عند جمهور المسلمين خلافا للحكماء والكرامية والبصري من المعتزلة؛ وذلك لأن النفي لا يعود، ولو وقع لما تميز عن المبدأ، ولو أمكن لعاد وكان مبتدأ معادا، وهو محال. وقد أثبت المسلمون المعاد البدني، وأثبت الفلاسفة المعاد النفساني، وأثبت جمهور المسلمين والنصارى كليهما، ونفتهما الدهرية، وتوقف جالينوس فيهما. وقد نشأ هذا الخلاف نتيجة لتعريف الإنسان بقوله أنا، فقال المتكلمون: إنه جسماني أي: بنية محسوسة جعلها ابن الرادني جزءا لا يتجزأ في القلب، وجعلها النظام أجزاء لطيفة سارية في الأعضاء، واعتبرها الأطباء الروح اللطيف في يسار القلب، واعتبرها البعض الآخر الروح الدماغي أو(1/34)
الأخلاط الأربعة أو الدم. وقال فريق ثان من المتكلمين: إن الإنسان جسماني سواء كان المزاج أو شكل البدن أو الحياة. وقال فريق ثالث على رأسهم المعتزلة ومعمر والغزالي: إنه لا جسمي ولا جسماني، وقال فريق رابع: إنه مركب منهما ثنائيا أو ثلاثيا.
وقد اتفق جمهور المتكلمين على حشر الأجساد؛ لأن إحياء الأبدان ممكن عقلا ونقلا. وقد منعه البعض نظرا لاختلاط المادة المأكولة مع المأكول والأكل واستحالة جمعهما معا؛ ولأنه لم يثبت بدليل قاطع أن الله يعدم الأجزاء ثم يعيدها. ونظرا لأن إحداث الإيذاء أو جلب اللذة لا يليق بالحكيم, ونظرا لأن الإبقاء على العدم يكفي كعقاب دون بعث. والحقيقة أن المعدوم ما هو إلا تحول للمادة من صورة إلى صورة أخرى، وبالتالي يكون البعث هو إعادة تشكيل لمادة باقية لا تفنى.
وقد اختلف المتكلمون والفلاسفة في موضوع النفس، فبينما هي عند أرسطو محدثة بالنوع حادثة خلافا لأفلاطون، وبالتالي يمتنع القول بالتناسخ، فإنها عند الفلاسفة يمتنع عدمها، تدرك الجزئيات خلافا لأرسطو وابن سينا، وسعادة النفوس العالمة النقية بعلمها وشقاء النفوس الجاهلة بجهلها. والحقيقة أن الفلاسفة بقولهم بالمعاد الروحاني، قد قاربوا القول بالخلود عن طريق الفكر والأثر في الناس والبقاء من خلال أعمال الفكر في الحضارة الإنسانية.
لذلك نفى بعض المتكلمين الجنة والنار. فإما أن يكونا في هذا العالم، فيكونان في عالم الأفلاك؛ لأنها لا تنخرق ولا تخالط المفسدات، وإما في عالم العناصر، فيكون الحشر تناسخا، وإما أن يكونا في عالم آخر، وهو باطل؛ لأن هذا العالم كروي، فلو فرضت كرة أخرى لحدث بينهما خلاء، وهو محال؛ ولأنه لو حدثت فيه العناصر لكانت متماثلة لهذه العناصر. وهما مخلوقتان عند جمهور المتكلمين خلافا لأبي هاشم الجبائي(1/35)
والقاضي أبي بكر الباقلاني. والحقيقة أن الجنة والنار ليستا في المكان ولا في الزمان، بل صورتان فنيتان من أجل إحداث آثار نفسية للترغيب والترهيب.
وقد ارتبطت بعض مسائل العباد، وهي التي سماها المعتزلة الوعد والوعيد بموضوع العدل في الحسن والقبح. فعند المعتزلة، الثواب على الطاعة حق على الله، وسماها الأشاعرة الثواب والعقاب، وواجب عليه لوجود الغرض والغاية واستحالة العبث عليه وعود الفوائد إليه. لو أبقانا على العدم لاسترحنا، ولو كان النفع قبل الفعل لكان مستقبحا. فالعمل يستدعي الثواب. أما الأشاعرة فإنهم ينفون أي غرض لفعل الله وأية علة لحكمه، فإن حصول النفع من سوابق النعم. ويرى المعتزلة والخوارج أنه يجب عقاب الكافر وصاحب الكبيرة؛ لأن العفو تسوية بين المطيع والعاصي، وإلا كان ذلك إغراء على العصيان. وقد أخبر الله بأن الكافر والفاسق في النار، والكذب في خبره محال. أما الأشاعرة فإنهم يرون أن الله لا يعذب العاصي ولا يثيبه إثابة المطيع رحمة منه، وأن العقاب كاف للتهديد والردع، ولكن لا وجوب للعقاب في نفسه. الثواب فضل عن الله والعقاب عدل منه، والعمل دليل، وكل ميسر لما خلق له. والله يخلد المؤمن الموفق للطاعات في جناته وفاء لوعده ويعذب الكافر المعاند في نيرانه أبدا بمقتضى وعيده. ووعيد صاحب الكبيرة عند المعتزلة لا ينقطع ولكنه ينقطع عند الأشاعرة. ووعيد الكافر المعاند دائم بالإجماع. أما الكافر الذي بالغ في الاجتهاد ولم يصل إلى المطلوب، فهو معذور عند الجاحظ والعنتري، والدوام لا يعني الخلود؛ لأن الله وحده هو الباقي.
والشفاعة والعفو عند الأشاعرة لأصحاب الكبائر. أما المعتزلة فقد منعوا العذاب على الصغائر قبل التوبة والكبائر بعدها، وأنكروا الشفاعة؛ لأنها ضد العدل والاستحقاق.(1/36)
أما باقي السمعيات مثل: عذاب القمر، وعلامات الساعة مثل انشقاق القمر وشروق الشمس عن المغرب وغروبها من المشرق، وخروج الدابة، والصراع بين يأجوج ومأجوج، وظهور المسيح الدجال وكذلك الصراط، والميزان، والحوض، وإنطاق الجوارح، وتطاير الكتب، وأحوال أهل الجنة والنار، فإن الأشاعرة يثبتونها وينكرها جهم بن صفوان والمعتزلة. وهي من السمعيات التي لا يمكن تأييدها بالحس والمشاهدة والتجربة أو العقل والاستدلال. ولذلك تظل ظنية ولا ترتقي إلى مرتبة اليقين. إنما يمكن تأويلها على فرض صحة أخبارها ومعرفة دلالاتها على انهيار كل شيء واضطراب قوانين الطبيعة وهو ما يسمى بآخر الزمان أو على العدل ومنع الظلم في عالم الرجاء والتمني.(1/37)
9- الإيمان والعمل:
ويسمى أحيانا "الأسماء الشرعية"، وهو ملحق بموضوع الحشر والجزاء عند البيضاوي في "طوالع الأنوار" وبأحوال القيامة عند الرازي في "معالم أصول الدين". وقد استقر في علم الكلام المتأخر بعنوان "الأسماء والأحكام"، مما يدل على البعد اللفظي الشرعي. والإيمان في اللغة هو التصديق. وفي الشرع تصديق الرسول بكل ما يحلم مجيئه ضرورة، الإيمان عبارة عن الاعتقاد، والقول سبب ظهوره والأعمال خارجة عن مسمى الإيمان. أما المعتزلة فإنهم جعلوه سمعا للطاعات وللسعادات فإنهم قالوا: إنه اسم للتصديق بالقلب والإقرار باللسان والعمل بالأركان أي: امتثال الواجبات واجتناب المحرمات. وقد اعتمد المعتزلة على عدد حجج منها أن فصل الواجب هو الدين، والدين هو الإسلام، والإسلام هو الإيمان، فيكون فعل الواجبات هو الإيمان، وأن قاطع الطريق يجزى يوم القيامة، في حين أن المؤمن لا يجزى، فالقاطع غير مؤمن، وأنه لو كان الإيمان هو التصديق لكان كل من صدق الله أو الخبث أو الطاغوت مؤمنا، وأن الإيمان(1/37)
هو الصلاة في القرآن. فإذا كانت المرجئة تجعل الإيمان مجرد قول أي: نطق بالشهادتين، حتى ولو أضمر الإنسان الكفر في قلبه ولم تكن له أعمال صالحة، وإذا كانت الأشاعرة تجعل الإيمان قولا وتصديقا وتخرج الأعمال من الإيمان، فإن المعتزلة والخوارج يجعلون العمل من الإيمان، فالإيمان قول وتصديق وعمل. حتى كتب المصلحون "ما أكثر القول وأقل العمل"! وقد انضم أهل السلف وعلى رأسهم الفقهاء مثل ابن حزم، إلى مفهوم المعتزلة والخوارج في التوحيد بين الإيمان والعمل.
وصاحب الكبيرة مؤمن مطيع بإيمانه، عاص بفسقه عند الأشاعرة. ولسيس مؤمنا ولا كافرا عند المعتزلة، ولكنه في منزلة بين المنزلتين، وهو الأصل الرابع من أصولهم الخمسة. وهو كافر عند جمهور الخوارج، ومشرك عند الأزارقة، وكافر لنعم الله عند الزيدية، ومنافق عند الحسن البصري، وكان من الطبيعي أن يظل مؤمنا عند الأشاعرة؛ لأنهم يخرجون العمل عن الإيمان، والإيمان لا يزيد ولا ينقص عند جمهور الأشاعرة؛ لأنه اسم لتصديق الرسول عند جمهور الأشاعرة. ولما كان الإيمان أسماء لأداء العبادات عند المعتزلة، فإنه يزيد وينقص. ولما كان أسماء للإقرار والاعتقاد والعمل عند أهل السلف، فإنه أيضا يزيد وينقص. ويحاول البعض التوفيق بين هذين الرأيين المتعارضين لما كان البحث لغويا، ويجعل الأعمال من ثمرات التصديق. فكل ما دل على أن الإيمان لا يقبل الزيادة أو النقصان، كان معروفا لأهل التصديق، وما دل على أنه قابل لهما، فهو معروف إلى الإيمان الكامل.
وقد جوز جمهور الأشاعرة أن يقول الإنسان أنا مؤمن إن شاء الله، لا لقيام الشك في نفسه، ولكن للقبول أو للصرف أو للعاقبة، في حين أن المعتزلة والخوارج تتحقق من صدق الإيمان في الحاضر بالعمل والتأكد حينئذ من حسن العاقبة. وقد استمر الرأي الأشعري حتى الآن، حتى أصبحت "إن شاء الله" ستارا تخفي قلة العمل أو غيابه مطلقا.
والكفر هو إنكار ما علم بالضرورة مجيء الرسول به. وبالتالي لا تكفر الأشاعرة أحدا من أهل القبلة؛ لأن كونهم منكرين لما جاء به الرسول غير معلوم ضرورة بل نظرا, ومن ثم أصبح كل من يقول: "لا إله إلا الله محمدا رسول الله"، ينتسب إلى الأمة الإسلامية وفردا فيها. ولا يجوز الدخول في قلوب الناس والتفتيش في ضمائرهم والحكم عليهم بالكفر أو الإيمان، كما يحدث في عصرنا هذا، من أجل الطعن في الخصوم وتجريحهم علنا أمام الناس.(1/38)
10- الإمامة:
والإمامة أصل من أصول الدين عند الشيعة، ولكنها مجرد فرع ملحق بأصول الدين عند أهل السنة الذين يعتبرونها من الفروع وليس من الأصول، مما جعلها الشيعة أكثر تسييسا من أهل السنة، خاصة بعد أن تخلى أهل السنة عن ممارسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الأصل الخامس من أصول المعتزلة، والذي يقوم بدور الأصل. وقد كانت من أوائل الموضوعات التي دار حولها الخلاف والتي نشأ بعدها علم الكلام كعلم للفرق. ويتضح ذلك في كتب العقائد الأولى التي يغلب عليها موضوع الإمامة مثل "التمهيد" للقاضي أبي بكر الباقلاني، حيث بلغت الإمامة أكثر من نصف الكتاب، ثم توارت أهميتها حتى بلغت في علم الكلام المتأخر مجرد ملحق لعلم أصول الدين، ثم اختفت تماما في علم العقائد الإيمانية، بعد أن قامت على قطبين رئيسيين، الله والرسول فقط.
وقد اختلف المتكلمون في وجوب نصب الإمام. فهو واجب على الله عند الشيعة. وعند الإمامية لطف، حتى يكون المكلف أقرب إلى الطاعة(1/39)
وأبعد عن المعصية حافظا للشريعة ومبينا لها. وعند الإسماعيلية ليعلمنا معرفة الله أو يعلمنا اللغات ويرشدنا إلى الأغذية ويميزها عن السموم. وهي عند جمهور الأمة أشاعرة ومعتزلة واجبة على العباد، واجبة بالفعل عند بعض الزيدية والمعتزلة مثل: الجاحظ والكعبي وأبي الحسن البصري، وواجبة بالسمع عند أهل السنة والفريق الآخر من المعتزلة لرفع ضرر وجلب مصلحة؛ لأن الله لا يجب عليه شيء. وهي غير واجب عند الخوارج والأمم من المعتزلة في وقت السلم فقط دون الحرب حيث لا داعي لها عند البعض، أو في وقت الحرب فقط دون الحرب حيث يظهر الداعي لها وقت الاضطراب عند فريق آخر أو في كل الأوقات عند فريق ثالث. والحقيقة أن الإمامة واجبة حتى تقوم دولة المسلمين، فلا أمة بلا دولة، ولا دولة بلا سلطة.
وصفات الإمام عند أهل السنة، أن يكون مجتهدا في الأصول والفروع، وأن يكون ذا رأي، شديدا في الحرب والسلم، شجاعا، عدلا، عاقلا، بالغا، ذكرا، حرا. وقد وقع الاختلاف في شرط القرشية، فأثبتته الأشاعرة، ونفته الخوارج والمعتزلة. كما لا يشترط العصمة خلافا للإسماعيلية والاثنا عشرية، فقد قالت كلتاهما بشرط العصمة بالإضافة إلى التقية والرجعة، وأن يكون من نسل علي وبنيه وأن تجب له الطاعة. والحقيقة أن شروط الإمام عند أهل السنة أكثر قبولا للعقل واتفاقا مع روح الشرع، وتحصل الإمامة، عند الإمامية بالنص من الله ومن الرسول ومن الإمام السابق، وبالبيعة عند الأشاعرة والمعتزلة. أما عند الزيدية فإن حصولها بالنص جائز، وبالدعوة والخروج جائز مع حصول الأهلية، فكل فاطمي عالم خرج بالسيف وادعى الإمامة، تجوز إمامته. وقد اعتمدت الإمامية في قولها بحصول الإمامة بالنص على عدة حجج، منها أن الإمامة لا تعرف لهم في أمر غيرهم فكيف تعرف في أمرهم، وذلك منقوض بالشاهد؛ لأنه يمكن معرفة إمام الناس، ومنها أن البيعة تحدث(1/40)
الفتنة، ولكن شروط الإمام من الورع والعلم وباقي الصفات تحرز من الفتنة. ومنها أن القضاء لا يحصل بالبيعة، والحقيقة أن ذلك قياس على أصل فاسد، فالإمامة غير القضاء. ومنها أن الإمام نائب الله والرسول ولا يثبت إلا بهما، والحقيقة أن الإمام يثبت باختيار الأمة، فالأمة هي خليفة الله والرسول.
والدليل على أن الإمام الحق بعد الرسول، هو أبو بكر من القرآن والخبر والإجماع خلافا للشيعة التي احتجت على إمامة علي نصا من القرآن والسنة، وهي كلها نصوص مؤولة من القرآن ومشهورة أو غير متواترة من السنة. أما صفات علي من شجاعة وتقوى وعلم، فإنها لا تقل عن صفات باقي الصحابة. والحقيقة أن هذه مسألة تاريخية صرفة وليست مسألة أصولية.
وأخيرا تأتي مسألة فضل الصحابة. فأبو بكر أفضل الناس بعد الرسول عند أهل السنة. وعند الشيعة وكثير من المعتزلة، هو علي. وقد ارتبط موضوع الإمامة بالتفضيل للإجابة عن سؤال: هل تجوز إمامة المفضول مع وجود الأفضل؟ وقد أنكر الشيعة ذلك، في حين أثبته أهل السنة حرصا على وحدة الأمة، ومنعا للفتنة وتحاشيا للأخطار. ولذلك لا يجوز الطعن في الأئمة الثلاثة حتى ولو كانوا مفضولين؛ لأن المطاعن محتملة، في حين أن الإمامة قطعية.
والمسألة كلها سياسية، والعقيدة أتت لتبرير اختلاف المواقف السياسية، مما يدل على أن علم أصول الدين، هو علم سياسي، وأن مشاكله كلها أتت كصدى للمشاكل السياسية، وأن الفرق الكلامية هي في حقيقة أمر فرق سياسية، تأخذ العقيدة كسلاح أيديولوجي في مجتمع تحركه العقيدة وهي أيديولوجية العصر.
ومهمة عصرنا هو كشف القناع وتحويل علم أصول الدين إلى أيديولوجية ثورية تأخذ في اعتبارها وحدة الأمة ومصلحة جماهير المسلمين.(1/41)
11- التاريخ:
وبعد أن كانت الفرق الدينية تمثل علما مستقلا هو علم الخلاف وله مؤلفاته الخاصة وهي مصنفات الفرق، بالإضافة إلى علم العقائد الإسلامية والمصنفات الكلامية، فإن التداخل بين النوعين حدث في البداية، فظهرت الفرق من خلال الموضوعات، كما ظهرت الموضوعات من خلال الفرق. ولكن ابتداء من القرن الخامس حتى الثامن، تحولت الفرق الدينية إلى موضوع يلحق بالإمامة في كتب علم الكلام المتأخر مثل "الاقتصاد في الاعتقاد" للغزالي، و"أصول الدين للبغدادي"، و"المواقف" للإيجي. وكان من الطبيعي أن يكون هذا الموضوع ملحقا بالإمامة؛ لأنه يصف تاريخ الأمة الإسلامية ونشأة فرقها الدينية وكيفية تحول وحدة الفكر إلى كثرة العقائد. فهو يمثل التاريخ العقائدي للأمة الإسلامية من أجل الحفاظ على وحدتها الفكرية والحكم على هذه الفرق "الضالة" ومعرفة أحكامها. يسميه الغزالي "في بيان من يجب تكفيره من الفرق"، ويسميه البغدادي "بيان أحكام الكفر وأهل الأهواء والبدع" ويجعله الإيجي مجرد "تذييل في ذكر الفرق" ويذكر في آخرها الفرقة الناجية على طريقة كتب الفرق حين تحصر الفرق في ثلاث وسبعين فرقة، وتكون الناجية هي الأخيرة منها.
وقد انتقلت وحدة الأمة إلى تعدد فرقها في ست دوائر متداخلة، مركزها أئمة الدين في علم الكلام، وأوسعها الكفرة الذين لا يؤخذ منهم الجزية، جذعها الفرقة الناجية وهم المتكلمون من أهل السلف، وفروعها هم أهل الكفر والأهواء والبدع.
1- أول متكلمي أهل السنة من الصحابة هو علي بن أبي طالب لمناظرته الخوارج في مسائل الوعد والوعيد ومناظرته القدرية في القدر(1/42)
والقضاء والمشيئة والاستطاعة، وعبد الله بن عمر في كلامه على القدرية وبراءته منهم. وأول متكلمي أهل السنة من التابعين عمر بن عبد العزيز، وله رسالة في الرد على القدرية، ثم زيد بن علي بن الحسين، وله كتاب في الرد على القدرية، ثم الحسن البصري وله رسالة في ذم القدرية، ثم الشعبي وكان من أشد الناس على القدرية، ثم الزهري وهو الذي أفتى عبد الملك بن مروان بدماء القدرية، ثم جعفر بن محمد الصادق وله كتاب في الرد على القدرية، وأخر في الرد على الخوارج، ورسالة في الرد على غلاة الروافض. وأول متكلميهم من الفقهاء أبو حنيفة وله "الفقه الأكبر" في الرد على القدرية ورسالة لنصرة أهل السنة، واتهم صاحبه أبو يوسف المعتزلة بأنهم زنادقة. ثم الشافعي وله كتاب في تصحيح النبوة والرد على البراهمة، وآخر في الرد على أهل الأهواء. ثم صاحبه المريسي الذي كفر المعتزلة في خلق الأفعال. ثم تلاميذ الشافعي مثل الحارث بن أسد المحاسبي وأبي علي الكرابيسي، وحرملة البويطي، وداود الأصبهاني. ثم داود الظاهري وابنه أبو بكر وأبو العباس ابن شريح، ومن متكلمي أهل السنة أيام المأمون، عبد الله بن سعيد التميمي، ومن تلاميذه عبد العزيز المكي وابن الفضل البجلي والجنيد. ثم أتى أبو إسماعيل الأشعري فنصر السنة، ومن تلاميذه أبو الحسن الباهلي وأبو عبد الله مجاهد وأبو بكر الباقلاني ومحمد بن الحسين بن فورك وأبو إسحاق إبراهيم بن محسن المهراني، وأبو الحسن علي بن مهدي الطبري، وأبو عبد الله الحسين بن محسن البزازي، وأبو علي الثقفي، وأبو العباس القلانسي. وهم جميعا يمثلون الفرقة الناجية. وقد كان لهم دور في تكفير الخصوم، يتعاونون مع السلطان ويصدرون الفتاوى بالكفر، وكان البعض منهم يعتقد ببعض مقالات خلق القرآن مثل المريسي. وكان الهجوم كله على القدرية الذين كانوا يمثلون مع الشيعة والخوارج المعارضة السياسية للدولة الأموية التي رعت متكلمي أهل السنة واستخدمتهم كسلاح عقائدي ضد الخصوم السياسييين.(1/43)
ثم يوضع هؤلاء كلهم مع علماء الفقه والحديث والإسناد والتصوف والإرشاد والنحو واللغة لبيان أحكام العلماء والأئمة، ومما يدل على وحدة العلوم الإسلامية داخل وحدة الحضارة الإسلامية، وأن علماء الأمة وأئمتها هم مركز الحضارة ومحور التاريخ.
2- وعلى النقيض من متكلمي أهل السنة من الصحابة والتابعين والفقهاء وأهل السنة هم متكلمو الفرق "أهل الأهواء والبدع" يذكر الغزالي المعتزلة والمشبهة والفرق كلها دون إحصاء، ويذكر الإيجي سبعا منها: المعتزلة، والشيعة، والخوارج، والمرجئة، والنجارية، والجبرية، والمشبهة بالإضافة إلى الفرقة الناجية. ويذكر البغدادي ثمانية منها وهي: الباطنية، الغلاة من الروافض، الخوارج والشراة، الجهمية، النجارية, المعتزلة والقدرية، المجسمة والمشبهة، البكرية والضرارية. فالباطنية خالفت المسلمين في التوحيد والنبوات وتأويل الآثار والآيات. فالله هو الأول الذي خلق الثاني وكلاهما مدبران للكون، وأنكروا المعجزات ونزول الملائكة من السماء وأولوها، واعتبروا الأنبياء ساسة وزعماء، وأولوا أركان الإسلام الخمسة، وهم أقرب إلى الكفرة منهم إلى أهل الأهواء. فهم مثل المجوس عند البعض تؤخذ منهم الجزية وتحرم ذبائحهم ونكاحهم. ومثل المرتدين، عند البعض الآخر، إما التوبة أو القتل. أما غلاة الروافض مثل البيانية والمغيرية والمنصورية والخطابية والسبائية والكاملية وأتباع عبد الله بن معاوية وأتباع المقنع، فإنهم يدعون أن الله على صورة إنسان، فحكمهم مثل حكم أهل الردة. أما الخوارج والشراة مثل الحكمة الأولى والأزارقة والنجدات والميمونية واليزيدية، فإنهم يجمعون على أن مخالفيهم كفرة أو مشركون. وحكمهم أيضا حكم المرتدين. أما الجهمية فإنهم يقولون بالجبر ولكنهم كفرة لقولهم بفناء الجنة والنار وبحدوث علم الله. أما النجارية فإنهم يقولون بخلق القرآن وبنفي الصفات وبنفي الرؤية، وبالتالي فهم كفرة. أما المعتزلة القدرية فهم كفرة جميعا عند أهل السلف، فقد قال(1/44)
واصل بن عطاء بخلق الأفعال للعباد وبالمنزلة بين المنزلتين وشك مع عمرو بن عبيد في شهادة الصحابة، وقال أبو الهذيل بفناء مقدورات الله. أما النظام فقد نفى نهاية الجزء وأنكر علم الله بالجزئيات، وقال بأن الإنسان هو الروح، وأن الأعراض حركات من جنس واحد، وقال بالطفرة، وادعى حشر الحيوانات إلى الجنة، وقال معمر بأن الله لم يخلق الأعراض بل خلق الأجسام فقط، ووصف الإنسان بما يوصف به الله، وقال بشر بن المعتمر: إن الإنسان يخلق الأعراض عن طريق التوليد. وقال تمامة والنظام: إن المعارف كلها ضرورية، وزعم الجبائي أن الله مطيع عباده إذا فعل مرادهم، وحكمهم جميعا حكم المرتدين، أما المحجة والمشبهة فقد شبهوا الله بصورة إنسان مثل البيانية والغيرية والجواربية، والهشامية والخطابية والرزامية والكرامية، أما البكرية فقالت: بأن الله يرى يوم القيامة في صورة يخلقها، كما قالت الضرارية: إن الله يرى بحاسة زائدة، وقد أجاز أهل السلف مبايعة أهل الأهواء في البياعات والعقود وأوجبوا قتلهم إن امتنعوا عن التوبة على السلطان. ولكن لا يحل أكل ذبائحهم ولا يجوز نكاحهم، ولا يرثو أهل السنة. ورد مالك وأبو حنيفة شهادتهم، وأوجب الفقهاء إعادة الصلاة إذا ما تمت وراءهم. ودارهم دار حرب وكفر. والحقيقة أن معظم هذه المسائل قد اندثرت، ولم يعد هناك من يقول بها. وإذا كان فيها البقية، فهي اجتهادات تخطئ وتصيب ولا يجوز قتل أحد لفكرة أو لرأي. بل إننا أحوج الآن إلى الاجتهاد وإعمال النظر حتى نخرج عن التقليد ويفكر الناس.
3- أما المرتدون فإنهم يستتابون، فإن امتنعوا قتلوا. وعند أبي حنيفة لا تقتل المرأة المرأة المرتدة. وأجمعوا على أنه لا يحل ذبيحة المرتد ولا نكاحه ولا دية ولا قصاص على قاتله. وهي مسألة قديمة انعدم وجودها الآن، إلا فيما ندر. والارتداد يعني هنا الرجوع إلى مرحلة سابقة للوحي، وإنكار التقدم والرغبة في العودة إلى الوراء. ويمكن للحس والمشاهدة والعقل إثبات(1/45)
تطور الوحي وارتقاء النبوة، وأن آخر مراحلها هي أكمل المراحل.
4- أما من لم تبلغهم دعوة الإسلام، فإنهم إن كانوا مصاحبين لدليل العقل من حدوث العالم وتوحيد صانعه وصفاته، فإنهم كالمسلمين. عليهم أو يُدعوا إلى الإسلام، فإن امتنعوا ولم يكونوا على أحد شرائع أهل الكتاب، صاروا كالوثنية، وإن كانوا أهل كتاب قبلت منهم الجزية، ولا يجوز قتلهم إلا بعد دعوتهم إلى الإسلام. فإذا قتل المسلم واحدا منهم تكون عليه الدية عند الشافعي، ولا دية عليه عند أبي حنيفة. والحقيقة أنها مسألة افتراضية خالصة، ولا يوجد أحد لم يصله خبر الإسلام. بعض القبائل تعيش على الفطرة وهي مسئولية المسلمين في إبلاغهم الرسالة.
5- أما من تقبل منهم الجزية فهم أربعة أصناف:
أولا: الصائبة؛ لأنها تقول بحدوث العالم وتثبت صانعه، ثانيا: اليهود وكل فرقهم تنكر نبوة محمد باستثناء العيسوية حيث أثبتتها للعرب وحدهم. ثالثا: النصارى وقد ضلوا في التوحيد. رابعا: المجوس وقد ضلوا في إثبات إلهين. تجوز ديته عند أبي حنيفة ولا تجوز عند الشافعي. والحقيقة أن هذا الأمر كان والإسلام في قوته ودولته قائمة وقد تغير الحال وأصبح أهل الكتاب أقوى من المسلمين. وعلى المسلمين توحيد أمتهم وتكوين دولتهم.
6- أما الكفرة الذين لا تؤخذ منهم الجزية فهم عدة أصناف: السوفسطائية الذين ينكرون الحقائق، والدهرية الذين قالوا بقدم العالم، والسمنية الذين أبطلوا النظر والاستدلال، وأصحاب الهيولي الذين قالوا بقدم المادة، وأصحاب الطبائع الذين قالوا بقدم العناصر الأربعة، والفلاسفة الذين قالوا بقدم العالم، وكفرة المنجمين الذين قالوا بقدم الأفعال، وعبدة الإنسان، وعبدة الرأس، وعبدة الملائكة، والحلولية، وأهل التناسخ، والخرمدينية القائلون بالإباحة وفقا للطبع، والباطنية القائلون بتأويل الشرائع على وفق مذهب المجوس حتى تعود دولتهم،(1/46)
والبراهمة الذين أنكروا النبوات. هؤلاء الكفرة لا تقبل منهم الجزية ولا تحل ذبائحهم ولا نكاح نسائهم. يستتابون أو يقتلوا إذا امتنعوا في دار الإسلام، ويحاربون إذا كانوا في دار الحرب، ولا دية ولا قصاص لهم. والحقيقة أن كل هذه المذاهب قديمة لم يعد لها وجود على هذا النحو إلا من بعض الآراء العلمية التي تخضع للعلم والبرهان. والمسلمون اليوم في حالة ركود وتخلف وضعف. لا يمكنهم محاربة أهل الملل والنحل. كما أن تقدمهم مرهون بالاطلاع على المذاهب القديمة والمعاصرة. فالأولى عدم تكفير أحد، والدعوة إلى الإسلام بالبرهان والإعلان عن التوحيد وإظهار مآثره في حياة المسلمين. فالكل بشر، ولكل مجتهد حياة وفكر على قدم المساواة مع كل فرد آخر.
مهمة المسلمين اليوم عدم تكفير أحد، والعودة إلى وحدة الأمة عن طريق الوحد الفكرية، وذلك بعقد الحوار بين اتجاهاتها المختلفة وبالتالي لا يكون التاريخ انهيارا طبقا لحديث "خير القرون قرني" أو إدانه لكل اجتهاد ورأي طبقا لحديث الفرقة الناجية. ولكنه يكون ارتقاء أو تقدما وتجديدا للعقيدة وقبول كل الآراء ما دامت مدعمة بالدليل والبرهان.
وإذا كانت الظروف القديمة قد تغيرت، وكانت الآراء والمذاهب صدى لهذه الظروف، فإن ظروفنا الحالية وحياة المسلمين الآن، جديرة بتوليد فكر جديد حتى تظهر العقيدة الإسلامية في مواجهة مشاكل المسلمين الحالية من تخلف واستعمار. وبالتالي تتحول العقيدة الإسلامية إلى تقدم في مواجهة التخلف، وإلى تحرر في مواجهة الاستعمار، وإلى عدالة اجتماعية في مواجهة التفاوت الطبقي، وإلى توحيد للأمة في مواجهة تفككها. حينئذ يصبح "علم التوحيد" هو علم نهضة المسلمين، وتصبح العقيدة الإسلامية هي الأيديولوجية الثورية الجماهير المسلمين.(1/47)
علم أصول الفقه
مقدمة: تعريفه ومصنفاته وبناؤه
...
مقدمة: تعريفه ومصنفاته وبناؤه
علم أصول الفقه هو علم استنباط الأحكام الشرعية عن أدلتها اليقينية، وقد تم تعريف العلم من قبل في علم أصول الدين هل هو ضروري أم مكتسب، يقيني أو ظني، جازم أو غير جازم. ومطلق التعريف للشيء قد يكون حقيقيا عن طريق تعريف الماهيات الحقيقية أو اسميا عن طريق الماهيات الاعتبارية. ويقبل علماء الأصول في نهاية الأمر التعريف المنطقي للعلم، وهو أن العلم إما تصور أو تصديق، والتصور ينال بالحد والتصديق ينال بالبرهان. والأصل لغة هو ما ينبني عليه الشيء,
واصطلاحا هو القاعدة الكلية. والفقه لغة هو الفهم, واصطلاحا العلم بالأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية بالاستدلال، وهو خلاف علم أصول الدين الذي يتناول أصول العقيدة النظرية من أجل تنزيه الله ذاتا وصفات وأفعالا. وهو أيضا غير "علم الخلاف" الذي يرصد خلاف الفقهاء في الأصول والفروع، كما أنه غير "علم الفقه" الذي يبوب الأحكام العلمية دون استنباطها من أدلتها الشرعية بل اعتمادا على النقل وحده.
وموضوعه الأعراض الذاتية للأدلة والأحكام من حيث إثبات الأدلة للأحكام وثبوت الأحكام بالأدلة، بمعنى أن جميع مسائل هذا العلم هي الإثباب أو الثبوت.(1/51)
وفائدته العلم بأحكام الله قطعا أو ظنا، وهي غاية شريفة، إن نالها الإنسان نال السعادة في الدنيا والآخرة.
وتستمد أدلته من ثلاثة علوم. الأول علم الكلام لتوقف الأدلة الشرعية على بعض المسائل الكلامية مثل الأفعال والحسن والقبح. ويطلق على الله في هذا العلم اسم "الشارع" أي: واضع الشريعة احترازا من الدخول في مسائل الذات والصفات والأفعال. والثاني علم اللغة العربية؛ لأن مباحث الألفاظ التي يتم بها فهم الأصول المكتوبة مستمدة من قواعد اللغة العربية، والتي هي أيضا شرط التفسير والفهم الصحيح للنصوص الدينية. والثالث الأحكام الشرعية من حيث تصورها؛ لأن المقصود إثباتها أو نفيها، أي: علم الفقه. وقد اشترط الغزالي في مقدمة "المستصفى" المنطق، فمن لا منطق له لا ثقة له بعلمه والحقيقة أن علم أصول الفقه له منطقه الخاص الأعم والأشمل من المنطق الصوري. هذا بالإضافة إلى أن المنطق آلة لكل العلوم وليس لعلم أصول الفقه وحده.
ومصنفاته كثيرة. والمخطوط منها أكثر من المطبوع. والخلاف فيه بين المذاهب الفقهية الأربعة لا يظهر كثيرا فيها نظرا لوجودها في علم مستقل هو "علم الخلاف". ويكاد يجمع العلماء على أن الشافعي "204هـ" هو واضع علم الأصول في إملائه العظيم "الرسالة" والتي يظهر فيها علم أصول الفقه وهو ينشأ من داخل البيئة الإسلامية نشأة تلقائية، وظهور مصطلحات العلم وموضوعاته ومشاكله دون أدنى أثر خارجي، وارتباط العلم باللغة العربية ورفض المنطق اليوناني باعتباره وثيق الصلة باللغة اليونانية. ثم كتب الدبوس "430هـ" "تقويم الأدلة"، و"تأسيس النظر" يبدو فيها أصول الفقه إبداعا إسلاميا خالصا. ثم كتب أبو الحسن البصري "430هـ" "المعتمد في أصول الفقه" وهو المؤلف الوحيد في علم أصول الفقه الاعتزالي، بعد أن ساد الأشاعرة معظم مصنفات هذا العلم.(1/52)
ثم كتب ابن حزم "456هـ" "الإحكام في أصول الأحكام" بلغة حماسية خطابية وبأسلوب يغلب عليه النقد، وبموقف رفض للإجماع العام وقبول لإجماع الصحابة وحدهم ورفض للتعليل والقياس في كل أشكاله من استحسان واستصحاب واستصلاح. وهو يمثل أصول الفقه الظاهري. ثم صنف إمام الحرمين الجويني "478هـ" كتابه الضخم "البرهان" وكتابا أصغر "الدرقات" حيث تبدأ المادة الأصولية في التجميع التلقائي في بناء رباعي. ثم كتب البزدودي " هـ" كشف الأسرار والمعروف باسم "أصول البزدوي تغلب عليه تحليل المبادئ اللغوية ويكرر المادة السابقة. ثم صنف السرخسي "483هـ" ما يعرف باسم "أصول السرخسي" ممثلا لأصول الفقه الحنفي. ثم كتب الغزالي "505هـ" "المستصفي في علم أصول الفقه" يحدد فيه بناء العلم الرباعي ويحاجج المعتزلة وأصول الفقه العقلي بالرغم من مقدمته الطويلة عن المنطق كمقدمة لعلم الأصول. وكان الغزالي قد كتب من قبل "تهذيب الأصول" مطولا، و"المتحول" مختصرا. ثم كتب الرازي "606هـ" "المحصول" والساعاتي "614هـ" "بدائع النظام" والبيضاوي "615هـ" "منهاج الوصول" يجمع فيه مادة العلم ويزيد عليها. وقد قام الأنصاري "772هـ" بشرحه في "نهاية السؤال". ثم كتب الأموي "631هـ" "الإحكام في أصول الأحكام" يحتوي على مادة أصولية غنية ويضم كثيرا من النصوص القديمة. ثم كتب القرافي "684هـ" "أنوار البروق في أنواء الفروق" وكذلك "الذخيرة". كما كتب النسفي "710هـ" "المنار" يكرر المادة القديمة دون إدخال أي تعديل عليها. ثم كتب ابن القيم "751هـ" "أعلام الموقعين" يغلب عليه الفقه ويختلط بالأصول. ثم كتب السبكي "771هـ" "جمع الجوامع" يحاول فيه، كما يبدو من الاسم، الجمع بين المادة القديمة. ثم كتب الشاطبي "790هـ" مؤلفه المشهور "الموافقات في أصول الشريعة" يجدد فيه علم أصول الفقه ويقدم فكرة المقاصد، مقاصد الشارع ومقاصد(1/53)
المكلف، ويجعل الوحي منطقا قصديا كما يميز بين أحكام الوضع وأحكام التكليف، ويحكم بناء العلم إضافة على بناء القدماء الرباعي. ثم كتب الزركشي "794هـ" "البحر المحيط" موسوعة أصولية ضخمة حوت كل ما قاله القدماء حرصا عليها من الضياع. ثم صنف ابن الهمام "861هـ" "التحرير" كما كتب ابن عبد الشكور "1119هـ" "مسلم الثبوت" وقد شرحه الأنصاري في "فواتح الرحموت" وكلاهما شرح لنص البهاري "1110هـ". وأخيرا كتب الشوكاني "1255هـ" "إرشاد الفحول" بصيغة مركزة حتى يمكن الإقلال عن إسهاب عصر الشروح والملخصات خاصة وأن الشوكاني من زعماء الإصلاح اليمني.
وبالإضافة إلى هذه المصنفات الكاملة في علم الأصول، فقد ظهرت أيضا عدة مصنفات جزئية تحتوي على بعض الموضوعات مثل القياس أو الإجماع أو تنقد المنطق الأرسطي وتضع مكانه أصول الفقه باعتباره المنطق الإسلامي. وقد قام الفقهاء بهذه المهمة، مثل ابن حزم "456هـ" في "التقريب في حد المنطق" يعرض فيه للمنطق الأرسطي محتويا إياه داخل المنطق الإسلامي بالاعتماد على الكتاب والسنة. "ملخص إبطال القياس والرأي والاستحسان والتقليد" يبطل فيه الأصل الرابع من أصول الشرع. "النبذ في أصول الفقه الظاهري" يلخص فيه ابن حزم "الأحكام" ويهدف إلى هدم القياس. كما ألف ابن تيمية "728هـ" "نقد مراتب الإجماع" ينقد فيه كتاب ابن حزم "مراتب الإجماع" يميز فيه بين الإجماع التام والإجماع الناقص، ولا يرفض وجود الخلاف. كما ألف أيضا "القياس في الشرع الإسلامي" جاعلا القياس استدلالا في النص دون أن يكون أصلا رابعا مستقلا عن النص. وكتب أيضا "نقد المنطق" للرد على المنطق الأرسطي وكذلك "نصيحة أهل الإيمان في الرد على منطق اليونان" وقد لخصه السيوطي " هـ" في "صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام"(1/54)
لإفساح المجال للمنطق الإسلامي في أصول الفقه. كما كتب ابن القيم "751هـ" "القياس في الشرع الإسلامي" مضيفا على كتاب ابن تيمية بعض الأمثلة الفقهية. ثم انتهى التأليف في علم أصول الفقه، وتحول إلى كتب جامعية أو أزهرية تكرر القدماء دون أية إضافة جديدة. حتى ظهور "مناهج التفسير، محاولة في علم أصول الفقه باللغة الفرنسية، لمؤلف هذا المقال عام 1385هـ "1965م" معيدا بناء العلم كنظرية في الشعور: الشعور التاريخي، الشعور التأملي، الشعور العملي.
وقد تطور بناء العلم ابتداء من "الرسالة" للشافعي، حتى أخذ العلم بناءه الرباعي. وقد غلب على معظم المصنفات مجرد عرض المادة على طريقة القدماء مثل الكلام في كذا أو القول في كذا، كما هو الحال في "اللمع" للشيرازي "476هـ". ثم تحولت هذه المادة في أبواب وفصول وأقسام وكتب. سبعة من "إرشاد الفحول" للشوكاني، واثنا عشر في "المنخول" للغزالي، وأربعة عشر في "أصول السرخسي"، وعشرون في أصول القرافي، وأربعون في "الأحكام" لابن حزم. ولكن فرض البناء الرباعي على مادة أصول الفقه في "المستصفى" للغزالي، وفي "الأحكام" للآمدي، وفي "الموافقات" للشاطبي. وتختلف المقدمات فيما بينها بين المنطق واللغة. فالأحكام الشرعية تأتي أولا ثم الأدلة الشرعية ثانيا ثم طرق الاستدلال ثالثا، وأخيرا أحكام الاجتهاد والتقليد والمفتى والمستفتى والتعارض والتراجيح. ولما كانت الأحكام الشرعية هي الثمرة، فالأقرب أن تأتي في النهاية كما فعل السرخسي. ولما كانت الأدلة الشرعية هي الوحي ذاته الذي منه تأتي الثمرة، كان من الأفضل أن يأتي في البداية. أما طرق الاستدلال فمكانها الطبيعي في الوسط. ولما كان علم أصول الفقه منهجا يصف أفعال المكلفين ومقاصدهم كما يصف الوحي ذاته باعتباره مقصدا، فرض التقسيم الكلامي نفسه ابتداء من الشعور. فأصبح لدينا أولا "الشعور التاريخي" ووظيفته ضمان صحة نصوص الوحي في التاريخ.
ثانيا "الشعور التأملي" ووظيفته فهم نصوص الوحي وتفسيرها ابتداء من قواعد اللغة وأسباب النزول. ثالثا "الشعور العملي" ووظيفته تطبيق أحكام الشرع في العالم وتحقيق مقاصد الوحي في التاريخ.(1/55)
أولا: الشعور التاريخي "الأدلة الأربعة"
الشعور التاريخي هو شعور الراوي الذي وظيفته ضمان صحة نصوص الوحي في التاريخ. ومناهج الرواية نوعان: الأول منهج النقل المكتوب، والثاني منهج النقل الشفاهي. وعن طريق منهج النقل المكتوب أتى القرآن، وعن طريق منهج النقل الشفاهي روت السنة. والقرآن والسنة أول مصدرين كتابيين للأحكام.
وقد عرض الأصوليون القدماء للكتاب أو القرآن كأصل أو دليل أول. وعرضوا لعدة مسائل جزئية مثل: الزيادة والنقصان في النص أو قراءة النص، أو أهل البسملة جزء من القرآن أم لا، وهي كلها مسائل قتلها القدماء بحثا، فقد كانوا أقرب إلى عهد التدوين. وقد جمع القرآن ساعة نزول الوحي وقورنت المصاحف بعضها مع البعض الآخر، وأصبح مصحف عثمان هو الذي ينقله الناس جيلا عن جيل حتى الآن، إلى آخر ما هو معروف في علوم القرآن مثل "الإتقان" للسيوطي أو "كتاب المصاحف" للسجستاني. ولديهم تحديد القرآن بأنه كلام الله القديم القائم بذاته؛ لأن هذه مسألة كلامية تخرج عن علم أصول الفقه. ولكن حده هو ما نقل إلينا بين دفتي المصحف على الأحرف السبعة المشهورة نقلا متواترا. والبسملة آية من القرآن والخلاف في كونها آية من كل سورة، ومال الشافعي إلى إثبات ذلك. والقرآن يشتمل على الحقيقة والمجاز وهو عربي(1/56)
اللسان لا عجمة فيه. والكلمات الأعجمية فيه قد تم تعريبها من قبل. ويشتمل أيضا على المحكم والمتشابه، والظاهر والمؤول وهي كلها أبحاث لغوية من مباحث الألفاظ. ولكن المسألة التي غلبت على القدماء وهم يعرضون للأصل الأول هي مسألة النسخ. والنسخ يعني لغة الرفع أو الإزالة، واصطلاحا "الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتا مع تراخيه عنه" لأن ورود الحكم ابتداء لا يكون نسخا بل مزيلا لبراءة الذمة. ولا بد من وجود فترة زمنية بين الحكمين وإلا كان الحكم اللاحق بيانا للحكم السابق. والنسخ ممكن وواقع في الكتاب؛ لأن الحسن والقبح من الله عند الأشاعرة؛ ولأن شريعة الإسلام ناسخة لشريعة موسى وشريعة عيسى. والنسخ ممكن حتى قبل التمكن من الامتثال خلافا للمعتزلة. ويجوز لبعض العبادة أو شرطها أو سنة من سننها، ولا يكون نسخا لأصل العبادة. والزيادة على النص نسخ عند البعض وليست نسخا عن البعض الآخر. وليس من شرط النسخ إثبات بدل غير المنسوخ، ولو أنه عند البعض يستحيل، نظرا لانتفاء الحكمة. ويجوز النسخ بالأخف ولا يجوز بالأثقل سمعا عند فريق وعقلا عند فريق آخر. ولا بد من تبليغ الناسخ؛ لأن النسخ لا يثبت في حق من لا يبلغه.
وأركان النسخ أربعة: النسخ والناسخ، والمنسوخ، والمنسوخ عنه. فإذا كان النسخ هو الرفع أو الإزالة، فالناسخ هو الله، والمنسوخ هو الحكم المرفوع والمنسوخ عنه هو المكلف. وللنسخ شروط أربعة: أن يكون المنسوخ حكما شرعيا لا عقليا أصليا كبراءة الذمة، وأن يكون النسخ بخطاب وليس وليس بموت المكلف، وألا يكون حكم الخطاب المرفوع مقيدا بوقت، وأن يكون الخطاب الناسخ متراخيا. وما من حكم شرعي إلا وهو قابل للنسخ، خلافا للمعتزلة لقولها بالحسن والقبح العقليين فلا يمكن نسخ معرفة الله والعدل، وشكر المنعم. ويمكن نسخ تلاوة آية(1/57)
دون حكمها، أو نسخ حكمها دون تلاوتها، أو نسخهما معا. ويجوز نسخ القرآن بالسنة، والسنة بالقرآن فكلاهما من الله. ولكن الإجماع لا ينسخ، إذ لا نسخ بعد انقطاع الوحي. أما السنة فالمتواتر منها ينسخ المتواتر، والآحاد ينسخ الآحاد، واختلف الناس في جواز نسخ المتواتر بالآحاد، جوزه البعض ومنعه البعض الآخر. وقد منع الخوارج نسخ القرآن بالخبر المتواتر، وجوزه الشافعي. ولا يجوز نسخ النص القاطع المتواتر بالقياس بالظن، والاجتهاد على اختلاف مراتبه. كما لا يجوز نسخ حكم بقول الصحابي؛ لأنه ليس أصلا. ويعرف تاريخ النسخ عندما يتناقض نصان فيكون المتأخر ناسخا للمتقدم. كما يعرف بعدة قرائن منها أن يكون في اللفظ ما يدل عليه، أو أن تجمع الأمة على الناسخ والمنسوخ، أو أن يذكر الراوي التاريخ.
والحقيقة أن النسخ في القرآن يدل على وجود الوحي في الزمان وتغيره طبقا للأهلية والقدرة وتبعيته لمدى الرضى الفردي والاجتماعي في التاريخ. الوحي ليس خارج الزمان، ثابتا لا يتغير بل داخل الزمان يتطور بتطوره. ليس هدف الوحي هو مجرد الإعلان عنه كشعار بلا مضمون، أو تحقيقه دون وعي بالزمان فيفشل، بل تطبيقه في الزمان ونجاحه في التاريخ طبقا لقدرات الفرد والجماعة.
والأصل الثاني هو السنة. ولفظ السنة أوسع من الحديث، فالسنة قول وفعل وإقرار، والحديث هو القول فحسب. وصدق الرسول بالمعجزة أو بالإعجاز ليس موضوعا لأصول الفقه، بل يدخل في موضوع النبوة في علم أصول الدين. والسنة القولية أو الحديث تنقسم إلى ثلاثة أجزاء:
أولا: ألفاظ الصحابة التي يبدءون بها الرواية، ثانيا: السند، ثالثا: المتن.
وألفاظ الصحابة على خمس مراتب: الأولى وهي أقواها، يقول الصحابي سمعت أو أخبرني أو حدثني، وهذه لا يتطرق إليها احتمال(1/58)
الخطأ. الثانية، قال رسول الله أو أخبر أو حدث، وتحتوي هذه الصيغة على احتمال واحد للخطأ؛ لأن الاستماع قد لا يكون مباشرا. الثالثة، أمر رسول الله أو نهي، وهي صيغة يتطرق إليها بالإضافة إلى الاحتمال الأول للخطأ احتمال آخر، وهو أن صيغة الأمر قد لا تكون أمرا. والرابعة، أمرنا بكذا أو نهينا عن كذا ويتطرق إليه بالإضافة إلى الاحتمالات السابقة، احتمال آخر، وهو أن الآمر قد لا يكون هو الرسول. والخامسة، كانوا يفعلون، ويتطرق إليه بالإضافة إلى احتمالات الخطأ السابقة، احتمال آخر وهو احتمال، أن يكون الفعل قد تم ليس في زمن الرسول.
وينقسم السند إلى نوعين: المتواتر والآحاد.
والتواتر يفيد العلم خلافا للسمنية الذين حصروا العلوم كلها في المعارف الحسية، كما أن الكعبي اعتبر العلم الذي يفيده التواتر، علما نظريا لا تؤخذ منه الأحكام. وللتواتر شروط أربعة: الإخبار عن علم لا عن ظن، استناد هذا العلم إلى محسوس، مسواة الطرفين والوسط "تجانس انتشار الرواية في الزمان"، والعدد الكافي الذي به يحصل اليقين دون تحديد له بثلاثة مخبرين، كأقل للجمع كما هو الحال عند البعض. ولا يشترط فيه العدد الذي لا يحصر واختلاف الأنساب، أو أن يكونوا أولياء مؤمنين، أو ألا يكونوا محمولين بالسيف على الرواية، أو أن يكون الإمام المعصوم بينهم، كما تطالب الرافضة.
والمتواتر هو الخبر الذي يجب تصديقه بالإضافة إلى ما أخبر الله به وخبر الرسول وما أخبرت به الأمة إذ ثبت عصمتها، وكل ما يوافق ما أخبر به الله أو الرسول أو الأمة، وكل ما أخبر به المخبرون أمام الرسول وأقرهم عليه، وكل ما أخبر به أمام جماعة سكتت عن تكذيبه. وذلك في مقابل الخبر الذي يجب تكذيبه، مثل ما يعرف خلافة بضرورة العقل أو الحس أو التواتر، وما خالف النص القاطع من الكتاب والسنة أو إجماع الأمة، أو ما(1/59)
خرج بتكذيبه الجمع الغفير. وما سوى ذلك خبر يجب التوقف فيه.
أما الآحاد، فإنه يفيد اليقين في العمل والظن في النظر على عكس المتواتر الذي يفيد اليقين في النظر والعمل على السواء. والآحاد هو كل خبر لا يستوفي شروط التواتر، وليس بالضرورة خبرا ينقله راو واحد. والتعبد به واقع سمعا لا عقلا، خلافا لجماهير القدرية ومن تابعهم من أهل الظاهر بتحريمهم العمل به سمعا. ولما وجب العمل بخبر الواحد، فإن شروطه ليست فيه، كما هو الحال في التواتر، بل في الراوي وصفته. فيجب أن يكون الراوي مكلفا عدلا مسلما، ضابطا، منفردا كان أو مع غيره. فلا تقبل رواية الصبي أو المغفل أو الكافر والفاسق. فالتكليف والإسلام والعدالة والضبط شروط في الرواية والشهادة؛ لأن الراوي شاهد على ما يسمع ويرى. أما الحرية، والذكورة، والبصر، والقرابة، والعدد، والعداوة، فهي تؤثر في الشهادة لا في الرواية.
وزيادة في ضبط الرواة، فقد وضع علماء الأصول علما آخر هو علم الجرح والتعديل أو علم نقد الرجال أو ميزان الاعتدال، معتمدين فيه على علم الحديث، من أجل تقييم رواة الحديث إيجابا وهو التعديل، أم سلبا وهو التجريح. ولا يشترط عدد معين للمزكين، ولكن يشترط ذكر سبب الجرح والتعديل. وتتم التزكية نفسها بأربعة أشياء: بالقول أو بالرواية عنه، أو بالعمل بخبره، أو بالحكم بشهادته، وأعلاها القول. والصحابة عدول تجوز الرواية عنهم بإجماع الأمة. ولا يجوز تكفير أحد منهم أو تفسيقهم كما يفعل أهل الأهواء.
ومستند الراوي وضبطه خمسة أمور: قراءة الشيخ عليه، وقراءته على الشيخ، وإجازة الشيخ له أن يروي عنه، ومناولة الشيخ له مسنده، والاعتماد على خط الشيخ والتعرف عليه ثم القراءة منه. ولا يجوز للراوي أن يروي عن شك.(1/60)
وانفراد الثقة بزيادة في الحديث مقبول عند الجمهور، سواء كانت الزيادة لفظا أو معنى. ولكن رواية بعض الخبر ممتنعة عند أكثر من منع النقل بالمعنى؛ لأن نقل الحديث بالمعنى دون اللفظ، حرام على الجاهل بمواقع الخطاب ودقائق الألفاظ. والحديث المرسل مقبول عند مالك وأبي حنيفة والجمهور، ومردود عند الشافعي والقاضي أبي بكر الباقلاني، وهو الأصح، والمرسل هو أن يقول الراوي قال الرسول دون أن يعاصره. وخبر الواحد فيما تعم به البلوى مقبول خلافا للكرخي وبعض أصحاب الرأي؛ لأن كل ما رواه العدل يجب قبوله.
يبدو من هذا التحليل للإخبار ولعمل الرواة، مناهج النقل التاريخي التي وضعها المسلمون، والتي سبقوا فيها الغربيين الذين انتبهوا لذلك منذ القرن الماضي فحسب. بل إن هذه المناهج هي التي كانت وراء نشأة علم النقد التاريخي للكتب المقدسة في الغرب بعد أن تعرف عليها المستشرقون.
إذا كان الأصل الأول والثاني، أي: الكتاب والسنة، وحي مكتوب من عند الله، فإن الأصلين الثالث والرابع أي: الإجماع والقياس وحي غير مكتوب. فأصل الأحكام كلها واحد وهو كلام الله الملزم. وقول الرسول ليس بملزم ولا بحاكم إلا بقدر إخباره عن أحكام الله. والإجماع يدل على السنة كما تدل السنة على حكم الله؛ أما العقل فإنه لا يدل على الأحكام الشرعية، بل على نفي الأحكام عند انتفاء السمع. فتسمية العقل أصلا من أصول الأدلة تجوزا. الوحي إذن على درجات، وحي مباشر من الله، وهو الكتاب، ووحي تفصيلي من الرسول بتوجيه من الله، ووحي جماعي من الأمة، فالأمة خليفة الله، ووحي فردي من العقل مستندا إلى وحي الكتاب والسنة والجماعة. الأصلان الأول والثاني يدلان على الوحي المكتوب، والأصلان الثالث والرابع يدلان على الوحي الحي.
الأصل الثالث إذن هو الإجماع. ويعني اتفاق الأمة الإسلامية على(1/61)
أمر من الأمور الدينية. وذهب النظام إلى أن الإجماع هو كل قول قامت حجته وإن كان قولا واحدا، ولم ير الإجماع حجة. وقد اتفقت الأمة على أن الصلوات خمس وأن صوم رمضان واجب. ويمكن معرفة ذلك بمشافهة الأمة، على الرغم من تباعدها في الأقطار، وإن لم يكن ذلك يكفي عند الشافعي التواتر. والدليل على إجماع الأمة واستحالة الخطأ عليها من الكتاب والسنة المتواترة والعقل. ولكن لا يمكن إثبات الإجماع بالإجماع. فالقرآن يصف الأمة بأنها وسط، وخير، وتهدي بالحق، وأنها واحدة لا تنازع فيها. والسنة تصفها بأنها لا تجتمع على خطأ أو ضلالة. والعقل يرى أن الصحابة قد أجمعوا على أمور قاطعة ويستحيل عليهم الكذب، وبالتالي يثبت الإجماع.
ويقوم الإجماع على ركنين: الأول المجمعون والثاني نفس الإجماع فالمجمعون هم الأمة الإسلامية "والتي يسميها القدماء أمة محمد" أي: كل مجتهد مقبول الفتوى من أهل الحل والعقد قطعا، وليس الأطفال والمجانين والأجنة. ولكن الأشكال في الوسط بين هذين أي: العوام المكلفون، والفقيه غير الأصولي، والأصولي غير الفقيه، والمجتهد الفاسق، والمبتدع، والناشئ من التابعين إذا قارب رتبة الاجتهاد في عصر الصحابة. ويتصور دخول العوام في الإجماع، فإن الشريعة بها ما يمكن للعوام إدراكه كالصلوات الخمس، وهو ما يسمى إجماع الأمة قاطبة. وفي أيامنا هذه تكون العوام أحيانا أكثر قدرة على التعبير عن مصالحها، من الخواص المداهنين للحكام. ورب متكلم ونحوي ومفسر ومحدث من الخواص ناقص الآلة في درك الأحكام. أما المبتدع إذا خالف لم ينعقد الإجماع دونه إذا لم يكفر بل هو كمجتهد فاسق. وقد قال قوم أنه لا يعقد إلا بإجماع الصحابة، كما قال آخرون إنه يعتد بإجماع التابعين بعد الصحابة ولكن لا يعتد بخلاف التابعي زمن الصحابة، ولا يندفع إجماع الصحابة بخلافه، وكلاهما فاسد. والإجماع من الأكثر ليس بحجة مع مخالفة(1/62)
الأقل. وقال قوم: هو حجة. وقال آخرون: إن بلغ عدد الأقل عدد التواتر، اندفع الإجماع، وإن نقص فلا يندفع. وعند الأشاعرة إن العصمة تثبت للأمة كلها. وقد قال مالك: الحجة في إجماع أهل المدينة فقط. وقال آخرون: المعتبر إجماع أهل الحرمين: مكة والمدينة، والمصرين: الكوفة والبصرة, نظرا لجمعها كثيرا من أهل الحل والعقد، وهو ليس بصحيح نظرا لانفتاح هذه المدن للخارجين عنها والداخلين إليها. وقد اختلف الأئمة في هل يشترط أن يبلغ أهل الإجماع عدد التواتر؟ والأرجح أنه لا يشترط لا عقلا ولا سمعا. وقد ذهب داود الظاهري وأصحابه من أهل الظاهر كابن حزم، إلى أنه لا حجة إلا في إجماع الصحابة، وهو فاسد؛ لأن الإجماع حجة بالكتاب والسنة والعقل دون اشتراطه بعصر دون عصر.
والركن الثاني هو نفس الإجماع، أي: اتفاق آراء الأمة في مسألة ما في لحظة واحدة، انقرض عليه العصر أو لم ينقرض، سواء أفتت عن اجتهاد أو نص مهما كانت الفتوى نطقا صريحا. فإذا أفتى بعض الصحابة بشيء وسكت آخرون، لم ينعقد الإجماع إلا إذا دلت القرائن على أن السكوت يعني إضمار الرضى، وإلا كان السكوت يعني المخالفة والاعتراض. وإذا اتفقت كلمة الأمة ولو في لحظة، انعقد الإجماع ووجبت عصمتهم من الخطأ. وقال قوم: إنه لا بد من انقراض العصر وموت الجميع، وهذا غير صحيح؛ لأن الحجة في اتفاقهم لا في موتهم. ويجوز انعقاد الإجماع عن اجتهاد وقياس ويكون حجة، ومنع ذلك آخرون؛ لأنه لا يمكن اتفاق الخلق في ظن، ولو أمكن ذلك لتحول الظن إلى يقين والأصح الأول عند الأشاعرة.
أما حكم الإجماع فهو وجوب الاتباع، وتحريم المخالفة، والامتناع عن كل ما ينسب الأمة إلى تضييع الحق، والنظر فيما هو خرق ومخالفة وما ليس بمخالفة. فإذا اجتمعت الأمة في مسألة على قولين: لم يجز عند البعض إحداث قول ثالث وإلا نسبت إلى الأمة الغفلة وتضييع الحق وجاز ذلك عند(1/63)
البعض الآخر، وهو رأي الأشاعرة. وإذا خالف واحد من الأمة أو اثنان، لم ينعقد الإجماع دونه. وإذا اتفق التابعون على أحد قولي الصحابة، لم يصر القول الآخر مهجورا، ولم يكن الذاهب إليه خارقا للإجماع، خلافا للكرخي والشافعي وجماعة من أصحاب أبي حنيفة وكثير من المعتزلة كالجبائي وابنه. وإذا اختلفت الأمة على قولين ثم رجعوا إلى قول واحد، صار ما اتفقوا عليه إجماعا قاطعا عند من شرط انقراض العصر. والإجماع لا يثبت بخبر الواحد، خلافا لبعض الفقهاء؛ وذلك لأن الإجماع دليل قاطع وخبر الواحد لا يعطي إلا الظن. والأخذ بأقل ما قيل ليس تمسكا بالإجماع، خلافا لبعض الفقهاء.
خلاصة القول: إن الإجماع دليل على اتفاق الأمة وأخذ مصالح كل عصر في الاعتبار مع اعتبار المخالفة، كما أنه دليل على وحدة الجماعة وعلى أن مصالح الأمة مصدر للتشريع، فما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن.
والأصل الرابع يسميه الغزالي دليل العقل والاستصحاب، وعند البعض الآخر الاجتهاد أو القياس، ويعني أن العقل قد دل على براءة الذمة عن الواجبات، وسقوط الحرج عن الخلق قبل بعثة الرسول. فالاستصحاب يعني النفي الأصلي وبراءة الذمة، فهو يؤدي وظيفة نافية أكثر منها وظيفة مثبتة. كما يعني أيضا استصحاب العموم إلى أن يرد الخصوص، واستصحاب النص إلى أن يرد نسخ، واستصحاب حكم الشرع على ثبوته ودوامه. ولا حجة في استصحاب الإجماع في محل الخلاف، خلافا لبعض الفقهاء. وقد اختلف الفقهاء في أن النافي عليه دليل أم لا. فقال قوم: عليه دليل، وقال آخرون: ليس عليه دليل. وميز فريق ثالث بين العقليات والشرعيات وأوجبه في الأول دون الثاني.
ولكن الاسم الغالب عليه هو الاجتهاد أو القياس. والاجتهاد من(1/64)
بذل الجهد، والقياس وهو تقدير الشيء على مثاله وتسويته به. والقياس هو الأكثر شيوعا. وفي الاصطلاح حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم ما، أو نفيه عنهما بأمر جامع بينهما من حكم أو صفة، وهو تعريف القاضي أبي بكر، وقد عرفه بعض الفقهاء بتعريفات عدة مثل: مساواة فرع لأصل في علة الحكم أو زيادته عليه في المعنى المعتبر في الحكم. وعرفه أبو الحسين البصري بأنه تحصيل حكم الأصل في الفروع لاشتباههما في علة الحكم عند المجتهد, وقيلت أيضا عدة تعريفات أخرى مثل: إدراج خصوص في عموم، إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به، إلحاق المختلف فيه بالمتفق عليه، استنباط الخفي من الجلي، حمل الفرع على الأصل ببعض أوصاف الأصل، حمل الشيء على غيره وإجراء حكم أحدهما على الآخر، حمل الشيء على الشي في بعض أحكامه بضرب من الشبه. وكلها تعريفات تشير إلى مباحث الألفاظ وما يؤخذ من اللفظ من حيث المفهوم والمعنى. وهذا الأصل الرابع هو الذي جعله إقبال مبدأ الحركة في الإسلام والذي يناط به التجديد والتغير والتحديث والتطور وتقدم المسلمين، ففيه يصبح الجهد الإنساني طرفا مع الوحي في التنظير والتشريع. وهو الأصل الذي تحدث عنه مصلحونا منذ القرن الماضي وسموه "إعادة فتح باب الاجتهاد"، مع أنه لم يغلق أبدا.
وهناك أصول أخرى ليست أصلا من أصول الشرع عند الشافعية وهي أربعة: شرع من قبلنا، وقول الصحابي، والاستحسان، والاستصلاح. فشرع من قبلنا ما لم يرد نسخ له ليس أصلا، والنبي لم يكن متعبدا بأي من الشرائع. ولو كان متعبدا بها للزمه البحث عنها ولتعلمها ونقلها. كما أجمعت الأمة على أن شريعة الإسلام ناسخة لما قبلها من الشرائع. أما قول الصحابي، فقد ذهب البعض إلى أنه حجة مطلقا، وذهب آخرون إلى أنه حجة إذا خالف القياس، وقال فريق: بأن الحجة في قولي أبي بكر وعمر خاصة، وقال فريق رابع: بأن الحجة في(1/65)
أقوال الخلفاء الراشدين، وكلهم في الحقيقة يجوز عليهم السهو والخطأ، ولم تثبت عصمة أحدهم. بل إنه لا يجوز تقليدهم إلا من العامي، أما العالم فلا. أما الاستحسان، فقد قال به أبو حنيفة ورفضه الشافعي بقوله: "من استحسن فقد شرع". والاستحسان هو ما يستحسنه المجتهد بعقله، أو هو دليل ينقدح في نفس المجتهد ولا تساعده الألفاظ على التعبير عنه، أو هو العدول بحكم المسألة عن نظائرها بدليل خاص من القرآن أو من السنة. وعند الشافعية، إن جاز التعبد به عقلا، فإنه لا يجوز سمعا. أما الاستصلاح، وهو ما يسميه البعض المصالح المرسلة، فقد اختلف العلماء في جوازه. والمصلحة بالإضافة إلى شهادة الشرع، ثلاثة أنواع: ما يثبته الشرع، وما ينفيه الشرع، وما يتوقف فيه الشرع. وما يثبته الشرع حجة ويرجع إلى القياس، وهو اقتباس الحكم من معقول النص والإجماع. وما ينفيه الشرع ليس حجة بل يخضع لتغير الأحوال والظروف. وما يتوقف فيه الشرع فهو إما ضرورات أو حاجات أو تحسينات. فإذا كانت المصلحة تعني في اللغة جلب منفعة ودفع مضرة، فإنها تعني في الشرع، المحافظة على مقاصد الشرع الخمسة: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، وهي تمثل الضرورات وهي أساس التشريع، أما الحاجات من المصالح والمناسبات، والتحسينات فلا يجوز الحكم بها دون شهادة الأصل، نظرا لاختلافها بحسب الأفراد والعصور. أما المالكية فإنهم يعتبرون المصالح المرسلة أصلا من أصول التشريع طبقا لقاعدة "لا ضرر ولا ضرار". وسيحاول الشاطبي في القرن الثامن التوفيق بين المالكية والشافعية ويجعل من الاستصلاح لب أصول الفقه في تحليل لمقاصد الشرع ومقاصد المكلف. والحقيقة أن هذا الجزء سيدخل في مباحث القياس وطرق معرفة العلة المؤثرة. ففي هذا الأصل الرابع، بصرف النظر عن اسمه، يتم الاتحاد بين الشعور التاريخي والشعور التأملي.(1/66)
ثانيا: الشعور التأملي "مباحث الألفاظ والمعاني والعلل"
وظيفة الشعور التأملي فهم النصوص وتفسيرها، بعد أن تأكد الشعور التاريخي من صحتها وشرعيتها، وهو أهم جزء في علم الأصول؛ لأنه هو الجزء المنهجي الذي بواسطته يتم استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة الأربعة، وهو الجزء الذي يتمثل فيه الجهد الإنساني وقدرته على الفهم والتأويل؛ لأن الأدلة الأربعة لا مدخل للإنسان فيها. لما كان الوحي منطوقا من النبي في الكتاب والسنة، ومنطوقا به أيضا في الإجماع، كان تحليل الألفاظ هو البداية وهو الغالب على فعل الرسول وعلى سكوته أو إقراره. ولما كان اللفظ يدل على الحكم بصيغته ومنظومه أو بفحواه ومفهومه أو بمعناه ومعقوله، وهو الاقتباس الذي يسمى قياسا، اتجه الشعور التأملي نحو المنظوم والمفهوم والمعقول أي: بتحليل الألفاظ والمعاني والعلل. وقبل أن يعرض الأصوليون للمنظوم وكيفية الاستدلال بالصيغة من حيث اللغة والوضع يعقدون مقدمات عامة عن مبدأ اللغات وعن الأسماء اللغوية والعرفية والشرعية، وعن الحقيقة والمجاز.
فعلى عادة المفكرين المسلمين في البحث عن الأصل والبداية في العقل أو في التاريخ، تساءل الأصوليون عن مبدأ اللغات، فاعتبرها فريق اصطلاحية، وقال فريق ثان توقيفية، وقال فريق ثالث ما يحصل به التنبيه والبعث على الاصطلاح يكون بالتوقيف وما سواه يكون بالاصطلاح. والآراء الثلاثة جائزة عقلا، أما وقوعها فلا يتم إلا ببرهان عقلي أو نقل متواتر أو سمع قاطع. ولما كان البرهان العقلي يصدق على الآراء الثلاثة، وكان البرهان السمعي ظني التأويل، كان تناول مثل هذا الموضوع خارج علم الأصول وأقرب إلى ميتافيزيقا اللغة. ويأخذ هذا الموضوع صيغة ثانية في سؤال، هل تثبت الأسماء اللغوية قياسا أم أن كلها توقيفا؟ وعند الأشاعرة أنها توقيف وليس فيها قياس أصلا.(1/67)
والأسماء اللغوية تنقسم إلى وضعية وعرفية. فالأسماء الوضعية هي تلك التي وضعت لمعانيها التي تدل عليها. أما الأسماء العرفية فهي الأسماء التي خصصت معانيها أو أصبحت تدل عليها بالمجاز. وجميع أسماء أرباب الصناعات والحرف، عرفية. فالغالب على الأسماء كلها أنها عرفية؛ لأن الوضعية منها أيضا قد تم التعارف عليها. وذلك يدل على أن اللغة وظيفة اجتماعية، تقوم على اتفاق مما يعطي قدرة هائلة على تغيير معاني الأسماء.
والأسماء عند المعتزلة والخوارج وطائفة من الفقهاء، إما لغوية أو دينية أو شرعية. فالأسماء اللغوية هي الأسماء العادية في عرف اللغة. والأسماء الدينية ما نقلته الشريعة إلى أصل الدين مثل ألفاظ الإيمان والكفر. والأسماء الشرعية هي تلك التي أعطاها الشرع معاني محددة كما وكيفا مثل الصلاة والصوم.
وبعد أن يتحدث الأصوليون عن الأسماء، وهي الوحدات الرئيسية التي تتكون منها العبارة، يحللون الكلام المفيد عن طريق القسمة. فالكلام إما يدل وهو الكلام المفيد، أو لا يدل. والذي يدل إما يدل بذاته مثل الأدلة العقلية، أو يدل بوضع الكلام. والذي يدل بالوضع إما أن يكون صوتا، وهو الكلام، أو إشارة ورمزا. وما يدل بالصوت إما أن يكون مفيدا يدل على معنى، أو غير مفيد إن كان لا يدل على معنى. والمفيد يدل على معنى باجتماع الاسم والفعل والحرف، اسمين أو اسما وفعلا، وليس باجتماع اسم وحرف أو فعل وحرف أو حرفين. وهو إما مستقل بالإفادة، أو غير مستقل بالإفادة، فتلزمه القرينة، أو مستقل من وجه وغير مستقل من وجه. والمستقل بالإفادة وهو النص، إما أن يكون مفيدا بلفظه أو بفحواه. ثم ينتهي الأصوليون من ذلك كله إلى أن اللفظ المفيد بالإضافة إلى مدلوله، إما أن لا يتطرق إليه احتمال فيسمى نصا، أو تتعارض فيه الاحتمالات من غير ترجيح فيسمى مجملا ومبهما، أو يترجح أحد(1/68)
احتمالاته على الآخر بالإضافة إلى الاحتمال الأرجح ظاهرا وبالإضافة إلى الاحتمال البعيد مؤولا. فاللفظ المفيد إذن إما نص أو ظاهر أو مؤول.
وطريق فهم المراد بالنسبة للأمة هي اللغة. أما سماع النبي من الله أو من الملك، فعند الأصوليين لا يكون حرفا ولا صوتا ولا لغة موضوعة، بل يعرف معناه بأن يخلق الله في السامع علما ضروريا بالمتكلم وكلامه والمراد منه. والحقيقة أن سماع النبي من الله أو الملك لا يدخل في علم أصول الفقه. بل في علوم الحكمة في نظرية النبوة. أما سماع الأمة من الرسول فيتم عن طريق اللغة وفهم المراد. فإن كان نصا كفت معرفة اللغة. وإن تطرق إليه الاجتمال فإنه يحتاج إلى قرينة تفهمه، وقد تكون القرينة لفظا، أو دليل العقل.
ثم يقدم الأصوليون موضوع "الحقيقة والمجاز" من ضمن المبادئ اللغوية العامة وليس ضمن منطق اللغة الذي يشمل المجمل والمبين، الظاهر والمؤول، الأمر والنهي، العام والخاص. فالحقيقة في اللغة تعني ما استعمل في موضوعه، والمجاز ما استعمل في غير موضوعه. والمجاز ثلاثة أنواع: الأول ما استعير للشيء بسبب المشابهة في خاصية مشهورة، والثاني الزيادة مثل الكاف الزائدة في آية {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، والثالث النقصان الذي لا يبطل التفهيم كما هو في آية {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} . ويعرف المجاز بعلامات أربع: جريان الحقيقة على العموم، وامتناع الاشتقاق عليه، واختلاف صيغة الجمع على الاسم، وتعلق الحقيقي بالغير. وكل مجاز له حقيقة، ولكن ليس من الضروري أن يكون لكل حقيقة مجاز، فأسماء الاعلام والأسماء التي لا أعم منها لا يدخلها المجاز. وذلك يدل في نهاية الأمر على البعد الجمالي للغة، وعلى استعمال الصور الفنية في الوحي للتأثير على النفوس وتوجيه البواعث نحو السلوك. أما منطق اللغة المستمد من المنظوم، فإنه يضم أربع قواعد: المجمل والمبين، والظاهر والمؤول، والأمر والنهي، والخاص والعام.(1/69)
فالمبين هو اللفظ الذي يتعين معناه بحيث لا يحتمل غيره ويسمى أيضا نصا. والمجمل هو اللفظ الذي يتردد بين معنيين فأكثر من غير ترجيح لا بوضع اللغة ولا بعرف الاستعمال. ويسمى أيضا ظاهرا إذا ظهر في أحد المعنيين ولم يظهر في المعنى الآخر. وإذا أمكن حمل لفظ الشارع على ما يفيد معنيين وحمله على ما يفيد معنى واحدا، وهو مردود بينهما، فهو مجمل للاحتراز. وإذا دار الاسم بين معناه اللغوي ومعناه الشرعي، يكون مجملا عند القاضي أبي بكر. أما إذا دار اللفظ بين الحقيقة والمجاز، فاللفظ للحقيقة إلا أن يدل الدليل على أنه للمجاز ولا يكون مجملا. ويكون الإجمال تارة في لفظ مفرد، وتارة في لفظ مركب، وتارة في نظم الكلام والتعريف وحروف النسق ومواضع الوقف والابتداء.
والبيان هو أمر يتعلق بالتعريف والإعلام، ويحصل الإعلام بالدليل، والدليل محصل للعلم. وجده آخرون بأنه إخراج الشيء من حيز الأشكال إلى حيز التجلي، ولما كان ليس من شرط البيان أن يحصل التبيين به لكل أحد، كما أن ليس من شرطه بيان المشكل، كان الحد الأول أولى. وكل مفيد من كلام الشارع وفعله وسكوته واستبشاره وتنبيهه بفحوى الكلام على علة الحكم يكون دليلا. ولا خلاف في عدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة خلافا للمعتزلة وكثير من أصحاب أبي حنيفة وأهل الظاهر. وفرق جماعة بين العام والمجمل فقالوا: يجوز تأخير بيان المجمل، إذ لا يحصل من المجمل جهل، ولا يجوز تأخير العام؛ لأنه يوهم العموم إذا ما أريد به الخصوص. وذهب بعض المجوزين لتأخير البيان في العموم إلى منع التدريج في البيان، وهو غير صحيح، إذ يجوز التدريج وهو واقع في الكتاب. والحقيقة أن المجمل والمبين يفسحان المجال للجهد البشري من أجل اختيار أحد المعنيين طبقا للظروف وتحقيقا للمصلحة، ويكشفان عن أهمية الواقع وضرورة الاختيار بين المعنيين طبقا لمصالح الأمة.(1/70)
والظاهر والمؤول يحتملان القاعدة اللغوية الثانية. وهي مرتبطة بالقاعدة الأولى؛ وذلك لأن اللفظ الدال الذي ليس بمجمل، إما أن يكون نصا وإما أن يكون ظاهرا، والنص هو الذي لا يحتمل التأويل، والظاهر هو الذي يحتمله. النص اسم مشترك يقال على ثلاثة أوجه، الظاهر كما هو الحال عند الشافعي، وما لا يتطرق إليه الاحتمال أصلا لا عن قرب ولا عن بعد، وما لا يتطرق إليه احتمال بقول يعضده دليل. أما التأويل فهو احتمال يعضده دليل يصير به أغلب الظن من المعنى الذي يدل عليه الظاهر. ويشبه أن يكون كل تأويل حرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز وكذلك تخصيص العموم. ولا بد من دليل من قرينة أو قياس أو ظاهر آخر أقوى. وقد تجتمع قرائن تدل على فساد التأويل ولا تدل عليه قرينة واحدة. وقال بعض الأصوليين: كل تأويل يرفع النص أو شيئا منه فهو باطل. والحقيقة أن التأويل يكشف أيضا عن إمكانية تكييف نصوص الوحي طبقا لظروف الأمة واحتياجاتها، كما يكشف عن رفض حرفية النصوص والجمود عليها والتضحية بمصالح الأمة.
ويمثل الأمر والنهي القاعدة الثالثة التي تدل على قسم من أقسام الكلام. والأمر هو القول الذي يقتضي طاعة المأمور بفعل المأمور به، والنهي هو القول الذي يقتضي ترك الفعل. وقد بحث الأصوليون مسألة هل القول باللسان أو كلام النفس؟ واختلف الناس فريقين: الأول مثبت لكلام النفس والثاني منكر له يجعله إما حرفا وصوتا، وإما صيغة وتجرد عن القرائن التي تدل على جهة الأمر، كالتهديد والإباحة، وإما باجتماع إرادة المأمور وإرادة إحداث الصيغة وإرادة الدلالة بها على الأمر كما يقول بعض المعتزلة، وهذه مسألة نظرية صرفة ومبحث ميتافيزيقي خالص في ميتافيزيقا اللغة. وقد اختلف الأصوليون في مسألة صيغة الأمر "افعل" تدل على الأمر بمجرد الصيغة، إذا تجرد عن القرائن فإنها قد تدل على الوجوب والندب والإرشاد والإباحة والتأديب والامتنان والإكرام والتهديد والتسخير والإهانة والتسوية(1/71)
والإنذار والدعاء، كما تدل صيغة النهي على التحريم والكراهية والتحقير والدعاء واليأس والإرشاد. والأصح أن صيغة الأمر تقتضي اقتضاء الطاعة على جهة الندب والوجوب؛ لأن الندب داخل تحت الأمر. وإذا أتى أمر بالفعل بعد الحظر، فلا تأثير لتقدم الحظر عند البعض، أو يكون إلى الإباحة عند البعض الآخر، ويكون رفعا للذم إذا ما غابت علة الحظر بصرف النظر عن الوجوب والإباحة عند الأشاعرة. وكما أن لفظ أفعل يتردد بين الوجوب والندب، فإنه أيضا يتردد بين الفور والتراخي، بالإضافة إلى الزمان، وبين المرة الواحدة والتكرار، بالإضافة إلى المقدار. واختلف القائلون بأن الأمر ليس للتكرار في الأمر المضاف إلى شرط، فقال قوم: لا أثر للإضافة، وقال آخرون: يتكرر بتكرر الشرط. ومطلق الأمر يقتضي الفور عند قوم، ويقتضي التراخي عند قوم، ويقتضي الامتثال الذي يستوي فيه البداء والتأخير عند فريق ثالث. ومذهب الفقهاء أن وجوب القضاء لا يفتقر أمر مجدد، ومذهب المحصلين "الصوفية" أن الأمر بعبادة في وقت لا يقتضي القضاء؛ لأن العبادة مخصصة بوقت محدد. كما ذهب بعض الفقهاء إلى أن الأمر يقتضي وقوع الإجزاء بالمأمور به إذا امتثل، خلافا للمتكلمين. والأمر بالشيء ليس أمرا، ما لم يدل عليه دليل. وظاهر الخطاب مع جماعة بالأمر يقتضي على كل واحد، إلا أن يدل على سقوط الفرض عن الجميع بفعل واحد، أو يرد الخطاب بلفظ لا يعم الجميع. وذهبت المعتزلة إلى أن المأمور لا يعلم كونه مأمورا قبل التمكن من الامتثال. وذهب القاضي وجماهير الأشاعرة إلى أنه يعلم ذلك. وجميع مسائل الأمر تنطبق أيضا على النهي، بالإضافة إلى مسألة واحدة، وهي أن النهي عن البيع والنكاح والتصرفات المفيدة للأحكام، يقتضي فسادها عند جمهور الأشاعرة ولا يقتضي الفساد عند آخرين طبقا لمسألة الحسن والقبح العقليين وتعليل الأحكام. ثم اختلف الذين قالوا بعدم اقتضاء الفساد في دلالة النهي على صحة الأحكام. فعند أبي حنيفة يدل على الصحة وعند الشافعي لا يدل(1/72)
عليها. والحقيقة أن مبحث الأمر والنهي يدل على بعد الفعل في الزمان في الوحي، وأن الوحي ما هو إلا منطق للأفعال.
والعام والخاص يمثلان القاعدة الرابعة، وهي أشمل القواعد وأطولها. فالعام هو اللفظ الواحد الدال من جهة واحدة على شيئين فصاعدا. فاللفظ إما عام مطلقا، أو خاص مطلقا، وإما عام وخاص بالإضافة. وللعموم عند أصحاب العموم صيغة وهي ألفاظ الجموع، وما إذا ورد للشرط والجزاء، ومتى وأين للمكان والزمان، وألفاظ النفي، والاسم المفرد المعرف، والألفاظ المؤكدة. وهي كلها للاستغراق بالوضع، إلا أن يتجوز به عن وضعه. وعند أرباب الخصوص أن هذه الألفاظ الخمسة موضوعة لأقل الجمع، اثنين أو ثلاثة. وعند الواقفية لم توضع لا لخصوص ولا لعموم، بل أقل الجمع داخل فيه لضرورة صدق اللفظ بحكم الوضع، وهو بالإضافة إلى الاستغراق للجميع أو الاقتصار على الأقل أو تناول صنف أو عدد بين الأقل، والاستغراق مشترك يصلح لكل واحد من الأقسام. ولكل فريق حجج يعتمد عليها من اللغة والعقل والنقل والعادة والعرف. وإذا خصص العموم فإنه يصير مجازا في الباقي عند البعض، وحقيقة عند البعض الآخر. حقيقة في تناوله مجازا في الاقتصار عليه عند فريق ثالث، مجازا إذا أخرج منه البعض بدليل منفصل من عقل أونقل، وحقيقة إذا أخرج منه البعض بدليل متصل كالاستثناء وموضوعا لشيء آخر عند القاضي أبي بكر.
ويقع العموم فيما ذكره الشارع على سبيل الابتداء. أما ما ذكره في جواب السائل إن كان بلفظ مستقل ابتدأ به، كان عاما، وإذا كان بلفظ غير مستقل ولم يكن لفظ السائل عاما فلا يثبت العموم للجواب. وورود العام على سبب خاص لا يسقط دعوى العموم كما هو الحال في الأحكام المتعلقة بأسباب النزول. والمقتضى لا عموم له وإنما العموم للألفاظ لا للمعاني وتضمنها من ضرورة الألفاظ. أما الفعل المتعدي إلى مفعول، فهو لا عموم(1/73)
له عند أبي حنيفة. ولا يمكن دعوى العموم في الفعل؛ لأن الفعل لا يقع إلا على وجه معين، فلا يجوز أن يحمل على كل وجه. وفعل النبي ذاته لا عموم له، بالإضافة إلى أحوال الفعل أو إلى غيره، بل يكون خاصا في حقه، إلا إذا أشار إلى غير ذلك. وقول الصحابي نهى النبي عن كذا أو قضى النبي بكذا، لا عموم له؛ لأن الحجة في المحكي لا في قول الحاكي ولفظته. ولا يمكن دعوى العموم في واقعة لشخص معين قضى فيها النبي بحكم، وذكر علة حكمه لجواز اختصاص العلة بصاحب الواقعة. وليس في المفهوم عموم؛ لأن العموم من مباحث الألفاظ. والاقتران بالعام والعطف عليه ليس فيه عموم لجواز الجمع بين المختلفين، كما أن الاسم المشترك بين مسميين لا يمكن دعوى العموم فيه، خلافا للقاضي أبي بكر والشافعي؛ لأن المشترك لم يوضع للجمع. وما ورد من الخطاب مضافا إلى الناس والمؤمنين يدخل تحته العبد. كما يدخل الكافر تحت خطاب الناس، وكل لفظ عام؛ لأن خطابه بفروع العبادات ممكن. ويدخل النساء تحت الحكم المضاف إلى الناس، على حين اختلف الفقهاء في اندراجهن تحت المسلمين والمؤمنين، نظرا لوجود صيغ التأنيث واحتمال وضع جمع المؤنث في لغة العرب مع جمع المذكر. ولا تدخل الأمة تحت خطاب النبي، في حين يدخل النبي تحت خطاب الأمة في "يأيها الناس ويأيها الذين آمنوا". والمخاطبة شفاها لا يمكن دعوى العموم فيها بالإضافة إلى جميع الحاضرين. ومن الصيغ ما يظن عموما وهي أقرب إلى الإجمال. ويندرج المخاطب تحت الخطاب العام عند قوم، ولا يندرج عند قوم، والفصل في ذلك بالقرائن عند فريق ثالث. واسم الفرد، وإن لم يكن يدل على صيغة الجمع، فإنه يفيد العموم إذا دخل عليه الألف واللام، أو إذا كان نكرة منفيا، أو إذا كان مضافا إلى أمر أو مصدر، والفعل ما زال منتظرا. وحرف العموم إلى غير الاستغراق جائز، وهو معتاد، أما رده إلى ما دون أقل الجمع فغير جائز ولا بد من بيان أقل الجمع.(1/74)
ويتخصص العموم بدليل العقل أو السمع. وتتفصل هذه الأدلة في عشرة: دليل الحس، دليل العقل، دليل الإجماع، النص الخاص، المفهوم بالفحوى، فعل الرسول، تقرير الرسول، عادة المخاطبين، مذهب الصحابي، خروج العام على سبب خاص. أما خبر الواحد إذا ورد مخصصا لعموم القرآن، فإنه يجوز التعبد به لتقديم أحدهما على الآخر، ولكن الخلاف في وقوعه على أربعة مذاهب: تقديم العموم، تقديم الخبر، تقابل الاثنين، التوقف لحين ظهور دليل آخر. أما إذا قابل قياس نص خاص عموم نص آخر، فالذاهبون إلى أن العموم حجة لو انفرد والقياس حجة لو انفرد اختلفوا على خمسة مذاهب. فذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة والأشعري، إلى تقديم القياس على العموم. وذهب الجبائي وابنه وطائفة من المتكلمين والفقهاء، إلى تقديم العموم. وذهب القاضي وجماعة إلى التوقف لحصول التعارض. وقال قوم: يقدم على العموم جلي القياس دون خفيه. وقال عيسى بن أبان: يقدم القياس على عموم دخله التخصيص دون ما لم يدخله.
فإذا ما تعارض العمومان فالمهم معرفة محل التعارض. فكل ما دل العقل فيه على أحد الجانبين، فليس للتعارض فيه مجال، إذ يستحيل نسخ الأدلة العقلية وتكاذبها. فإن ورد دليل سمعي على خلاف العقل وكان غير متواتر، فهو غير صحيح، وإن كان متواترا فيكون مؤولا ولا يكون متعارضا. وإن كان نصا متواترا لا يحتمل الخطأ والتأويل، وهو على خلاف دليل العقل، فذلك محال؛ لأن دليل العقل لا يقبل النسخ والبطلان. وأما إذا أمكن الجمع فإنه يكون على عدة مراتب: عام وخاص، ظاهر ومؤول، زيادة ونقصان. وقد اختلف الفقهاء في جواز إسماع العموم من لم يسمع الخصوص، فقد منعه البعض؛ لأن فيه إلباسا وتجهيلا، وجوزه أخرون إذا ما ذكر دليل الخصوص مقترنا أو متراخيا. وليس من ضرورة كل مجتهد بلغه العموم أن يبلغه دليل الخصوص، بل يجوز أن يغفل عنه(1/75)
ويكون الواجب عليه العمل بالعموم. وليس على المجتهد أن يبحث عن الأدلة المخصصة العشرة إلى ما لا نهاية، بل تكفي عند البعض غلبة الظن بالانتفاء بعد الاستقصار، ولا بد عند آخرون الآخر، من اعتقاد جازم وسكون نفس بأنه لا دليل، ولا بد عند القاضي من القطع بانتفاء الأدلة.
وينتهي مبحث العموم والخصوص عند الأصوليين بملحق له في الاستثناء والشرط والتقييد بعد الإطلاق. والاستثناء هو قول ذو صيغ مخصوصة محصورة، دال على أن المذكور فيه لم يرد بالقول الأول "إلا، عدا، حاشا، سوى ... إلخ" ويشترط في الاستثناء اتصاله على عكس التخصيص ويتطرق إلى الظاهر والنص. فإذا كان النسخ رفعا لما دخل تحت اللفظ، والاستثناء منع أن يدخل تحت اللفظ، والتخصيص قصور اللفظ عند البعض. فالنسخ قطع ورفع، والاستثناء رفع والتخصيص بيان. وشروطه ثلاثة: الاتصال، وأن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه، وأن لا يكون مستغرقا. فإذا ما تعاقب الاستثناء على عدة جمل، فإنه يرجع إلى جميعها عند البعض، وعند الأخيرة فقط عند البعض الآخر، ويجوز كلاهما عند فريق ثالث، وبالتالي وجب التوقف. أما الشروط فهو مفهوما لا يوجد المشروط مع عدمه ولكن لا يلزم أن يوجد عند وجوده، ولهذا يفارق العلة، إذ يلزم من وجودها وجود المعلول، في حين أن الشرط يلزم من عدمه عدم المشروط ولا يلزم من وجوده وجود المشروط. وقد يكون الشرط عقليا وشرعيا ولغويا. العقلي كالحياة للعلم، والشرعي كالطهارة للصلاة، واللغوي المعروف بجمل الشرط البادئة بأدوات الشرط مثل إن. أما المطلق والمقيد فإن التقييد اشتراط والمطلق محمول على المقيد إن اتحد الموجب والموجب مثل لا نكاح إلا بولي وشهود. وفي النهاية يدل مبحث العموم والخصوص على أن الأحكام موجهة إلى الأفراد والجماعات، وأن الهدف منها هو توجيه السلوك الإنساني الفردي والاجتماعي وتحويله إلى تاريخ.
أما ما يقتبس من الألفاظ من حيث الفحوى والإشارة أي: المفهوم،(1/76)
فإنه على خمسة أنواع: الأول، اقتضاء اللفظ وهو الذي لا يدل عليه اللفظ ولا يكون منطوقا به، ولكن يكون من ضرورة اللفظ، إما من حيث لا يمكن أن يكون التكلم صادقا إلا به، أو من حيث يمتنع وجود الملفوظ شرعا إلا به، أو من حيث يمتنع ثبوته عقلا إلا به. والثاني ما يؤخذ من إشارة اللفظ لا من اللفظ، أيهما يتبع اللفظ من غير أن يكون اللفظ قد قصد إليه. والثالث فهم التعليل من إضافة الحكم إلى الوصف المناسب. والرابع، فهم غير النطق به من المنطوق بدلالة سياق الكلام ومقصوده. والخامس، والاستدلال بتخصيص الشيء بالذكر على نفي الحكم عما عداه ويسمى المفهوم؛ لأنه مفهوم مجرد لا يستند إلى منطوق، كما يسمى أيضا دليل الخطاب، وهذا النوع الخامس ينفيه بعض المتكلمين مثل القاضي أبي بكر وبعض الفقهاء مثل ابن شريح، ويثبته البعض الآخر مثل الشافعي وكثير من أئمة اللغة. ولدليل الخطاب هذا درجات متعددة توهم النفي من الإثبات مثل: مفهوم اللقب كتخصيص الأشياء الستة في الربا، وهي أبعد الدرجات، وقد أقر ببطلانها كل محصل من القائلين بالمفهوم، والاسم المشتق الدال على جنس، وتخصيص الأوصاف التي تطرأ وتزول، وذكر الاسم العام ثم الصفة الخاصة في معرض الاستدراك والبيان، والشرط؛ لأنه يقصر الدلالة على الحكم عند عدم الشرط، وإنما فهي إثبات فقط عن أبي حنيفة ونفي أيضا عند القاضي؛ لأنها تدل على الحصر، ومد الحكم إلى غاية بصيغة إلى وحتى، ولا إله إلا الله التي هي نفي وإثبات معا. وهذا يدل على أن اللغة تغير معانيها ليس بآحاد الألفاظ بل بمجموعها وإيحاءاتها وسياقها وإيحاءاتها إلى النفس وهو ما يعادل لغة الرمز والإشارة التي تحتاج إلى تفسير وتأويل، كما هو الحال عند الصوفية، وتمتد الفحوى والإشارة من اللفظ إلى الفعل، إلى دلالة أفعال النبي وسكوته واستبشاره. فلما كان الأنبياء معصومين، فإن أفعالهم تصبح قدوة ودليلا، وهو موضوع من موضوعات علم أصول الدين. فما عرف بقوله إنه قام به بيانا للواجب أو علما بقرينة الحال أنه تنفيذ(1/77)
الحكم فهو دليل وبيان. وما عرف أنه خاص به فلا يكون دليلا في حق غيره. وما لم يقترن به بيان نفي أو إثبات، فهو لا دلالة له بل متردد بين الإباحة والندب والوجوب، وبين أن يكون مخصوصا به، وبين أن يشاركه غيره فيه، ولا يتعين أحد هذه الوجوه إلا بدليل زائد. بل يحتمل الحظر أيضا عند من يجوز على الأنبياء ارتكاب الصغائر. وقد قال قوم: إنه على الحظ وقال آخرون: على الإباحة، وقال فريق ثالث: على الندب، وقال فريق: رابع على الوجوب في العبادات وعلى الندب في العادات، ويستحسن التأسي به. وهي كلها أراء لا دليل عليها؛ لأن الفعل لا صيغة له. ولا يتصور وقوع التعارض بين فعلين؛ لأنه لا بد من فرض الفعلين في زمانين أو في شخصين مختلفين، وبالتالي يمكن الجمع بين وجوب أحدهما وتحريم الآخر. وهذا يدل أيضا على أن المعنى لا يأتي من الألفاظ وحدها، أي: من اللغة، بل قد يأتي من الأفعال والأشياء، أي: من العالم، وبالتالي يجتمع معا تفسير النصوص وفهم الأشياء في اللغة.
أما ما يؤخذ من معقول اللفظ، فإنه يتم عن طريق القياس. والقياس هو حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما بأمر جامع بينهما من إثبات حكم أو صفة أو نفيهما عنهما. فإن كان الجامع موجبا للاجتماع على الحكم، كان القياس صحيحا، وإلا كان فاسدا. ولا بد في كل قياس، من فرع وأصل وعلة وحكم. وليس من شرط الفرع والأصل كونهما موجودين، بل ربما يستدل بالنفي على النفي. والعلة في الشرعيات مناط الحكم، أي: ما أضاف الشرع الحكم إليه وناطه به ونصبه علامة عليه. ويكون الاجتهاد في العلة بثلاثة طرق: الأول, تحقيق مناط الحكم ولا خلاف في جوازه، مثل الاجتهاد في تعيين الإمام والولاة والقضاء. والثاني, تنقيح مناط الحكم ويثبته حتى منكرو القياس وهو إضافة الحكم إلى سبب وينوطه وتقترن به أوصاف لا مدخل لها في الإضافة فيجب حذفها. والثالث, تخريج مناط الحكم واستنباطه مثل أن يحكم بتحريم في محل ولا(1/78)
يذكر إلا الحكم والمحل، ولا يتعرض لمناط الحكم وعلته، ثم يستنبط المناط بالرأي والنظر. وهذا هو الاجتهاد القياسي الذي عظم الخلاف عليه، وأنكره أهل الظاهر وطائفة من معتزلة بغداد وجميع الشيعة، والعلة المستنبطة عند الجمهور لا يجوز التحكم بها بل كعلم بالإيحاء وإشارة النص فتلحق بالمنصوص. وقد تعلم بالسبر والتقسيم حيث يقوم دليل على وجوب التعليل فيصح دليلا ويبطل الباقي. وقد يكون الدليل على كون الوصف المستنبط مؤثرا بالإجماع، فيلحق به ما لا يفارقه إلا فيما لا مدخل له في التأثير.
وقد قالت الشيعة وبعض المعتزلة: يستحيل التعبد بالقياس عقلا لشبهات أربع: أن التعبد لا يكون إلا بالدليل القاطع والقياس رجم بالظن وجهل، ولا صلاح للخلق به. وأن القياس لا يستقيم إلا بعلة، والعلة توجب الحكم لذاتها، وعلل الشرع ليست كذلك، فما نصب علة للتحريم قد يكون علة للتحليل، وأن حكم الله لا يعرف إلا بالتوقيف، وأن احتمال الخطأ في القياس يمنع من الفعل وبالتالي تستحيل الأفعال. وقد ذهب فريق آخر إلى النقيض وجعل التقيد بالقياس واجبا عقلا، وذلك لشبهتين: الأولى أن الأنبياء مأمورون بتعميم الحكم في كل أمر، والوقائع نهاية لها، والنصوص لا تحيط بها. الثانية أن العقل يدل على العلل الشرعية كما يدل على العلل العقلية. ومناسبة الحكم هي مناسبة عقلية ومصلحة يقضي العقل ورود الشرع بها. وقد ذهب فريق ثالث أنه لا حكم للعقل فيه بإحالة ولا إيجاب، ولكنه في مظنة الجواز؛ لأنه لا دليل على الحكم بالرأي، ولا يجوز الحكم في الشرع إلا بحكم قاطع مثل النص أو ما يجري مجراه. ويعترضون على شواهد القياس ووقوعه في الأمة باعتراضات خمسة: الأول, إنكار كون الإجماع حجة مثل النظام، ولو التزم الصحابة بالعمل بما أمروا لما وقع بينهم الخلاف ولكفوا عن إعمال الرأي والقياس. الثاني, إنكار تمام الإجماع في القياس؛ لأنه منقول عن بعضهم وليس للباقين إلا السكوت، وقد نقل عن بعضهم إنكار الرأي. الثالث, السكوت عن إنكار القياس،(1/79)
دليل على المجاملة في ترك الاعتراض لا على الموافقة في الرأي. الرابع, الإقرار بالإجماع على القياس مع شبهة تفسيق الصحابة يطعن في الإجماع. الخامس, الرأي مردود إلى عموم الألفاظ ومقتضياتها، وإلى تحقيق مناط الحكم، وليس إلى القياس. وقد أنكر أهل الظاهر وقوع القياس وادعوا خطر الشرع له واعتمدوا على حجج من الكتاب والسنة كلها تفيد بأن الكتاب لم يفرط في شيء بل بين كل شيء، وما لم يشرع فيه شيء يبقى على النفي الأصلي. فالحكم بما أنزل الله أمر شرعي، والقياس دون المنزل. وقد حرم الله القول بما لا نعلم؛ لأن الظن لا يغني من الحق شيئا؛ ولأن بعض الظن إثم. كما حرم القرآن الجدل، والقياس جدل. كما أمر الله، والخلاف إلى الله والرسول وليس إلى القياس. كما حرم الرسول العمل بغير الكتاب والسنة وجعل القياس مؤديا إلى الضلال. ويضيف الشيعة أن النصوص محيطة بكل شيء ولا يعلم معناها إلا الإمام المعصوم وهو نائب الرسول، كما اعتمدوا على حجج معنوية. منها قول الشيعة: إن الاختلاف ليس من دين الله، وأن دين الله واحد، وفي رد الخلق إلى الظنون اختلاف بالضرورة، وقد ذم الله الاختلاف. ولما كان حكم السكوت عنه هو النفي الأصلي والاستثناء عنه معلوم بالنص، فإن المعلوم بالقطع لا يندفع بالقياس المظنون. كما أنه لا يجوز التصرف بالقياس، في شرع يقوم على الفرق بين المتماثلات والجمع بين المتفرقات. والرسول قد أوتي جوامع الكلم، وكان بإمكانه إيجاز الكلام الواضح بدلا من القياس المطول غير المفهوم. هذا بالإضافة إلى أن الحكم يثبت في الأصل بالنص لا بالعلة، والفرع تابع للأصل لا يثبت أيضا بالعلة. وأخيرا إن الحكم لا يثبت إلا بتوقيف، وأقصى ما تعطيه العلة أن يكون منصوصا عليها. وقد قال النظام: إن العلة المنصوصة توجب الإلحاق لكن لا بطريق القياس بل بطريق اللغظ والعموم. وقد ذهب القاشاني والنهرواني إلى الإقرار بالقياس لأجل إجماع الصحابة في موضعين اثنين: أن تكون العلة منصوصة، وأن تكون الأحكام معلقة بأسبابها. وقد جوز بعض(1/80)
القدرية القياس في الترك لا في الفعل، وما عليه الصحابة وجماهير الفقهاء والمتكلمين، هو وقوع التعبد بالقياس شرعا.
أما الطريق إلى إثبات علة الأصل وكيفية الدلالة على صحة آحاد الأقيسة، فإنه لا حاجة في القياس إلى الدليل إلا في محل الاحتمال، مثل أن لا يكون الأصل معلولا فيكون القائس قد علل ما ليس بمعلل، إذ الخطأ في العلة، أو في أوصاف العلة، أو في إدخال أوصاف جديدة ليس منها، أو في الخطأ في وضع العلة في الفرع أو الاستدلال على صحة العلة بما ليس بدليل. وهذه الأدلة لا تكون إلا سمعية، ولا مجال فيها للنظر العقلي إلا في التحقق من وجود علة الأصل في الفرع. وتنقسم الأدلة السمعية إلى ظنية وقطعية، وبالتالي فإن إلحاق المسكوت بالمنطوق ينقسم إلى مقطوع ومظنون. والمقطوع على مرتبتين: أن يكون السكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق به، وأن يكون المسكوت عنه مثل المنطوق به ولا يكون أولى منه ولا دونه. ويكون أيضا بطريقين متباينين: الأول أن لا يتعرض إلا للفارق وسقوط أثره؛ لأنه لا مدخل لهذا الفارق في التأثير, وبالتالي لا يكون هناك فرق في الحكم، وهو لا يسمى قياسا. والثاني أن يتعرض للجامع ويقصد نحوه ولا يلتفت إلى الفوارق وإن كثرت ويظهر تأثيرا لجامع في الحكم وهو الذي يسمى قياسا بالاتفاق.
والقياس إذن هو رد الفرع إلى الأصل بعلة جامعة بينهما، ويحتاج إلى إثبات مقدمتين: الأولى مثلا أن علة تحريم الخمر الإسكار، والثانية أن الإسكار موجود في النبيذ. تثبت والثانية بالحس ودليل العقل والعرف، وبدليل الشرع وسائر أنواع الأدلة. أما الأولى فلا تثبت إلا بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع، أو استدلال مستنبط. ويستفاد إثبات العلة بأدلة نقلية، من صريح النطق وهو أن يرد لفظ التعليل بقوله علة كذا أو لأجل كذا، إلى آخر صيغ التعليل أو من التنبيه والإيماء(1/81)
على العلة، أو من التنبيه على الأسباب بترتيب الأحكام عليها بصيغة الجزاء والشرط وبقاء التعقيب. وتثبت بالإجماع على كونها مؤثرة في الحكم. كما تثبت بالاستنباط وطرقه، مثل السبر والتقسيم، ومناسبة العلة للحكم، سواء كانت العلة المناسبة مؤثرة أو ملائمة أو غريبة. ولا تثبت العلة بطرق أخرى مثل سلامة العلة عن المعارضة التي تقضي نقيض حكمها، أو المراد جريانها في حكمها، أو الطرد والعكس.
أما قياس الشبه، فهو يطلق على كل قياس يلحق فيه الفرع بالأصل لجامع يشبهه، وكذلك الطرد الذي يعني السلامة عن النقض؛ لأن الاطراد شرط كل علة جمع فيها بين الأصل والفرع. فإن كانت العلة الجامعة مؤثرة أو مناسبة، عرفت بأقوى صفاتها وهو التأثير والمناسبة دون الأخص الأعم الذي هو الاطراد والمشابهة. وهو قياس صحيح؛ لأنه كثيرا ما يغلب على نفس المجتهد، مع أنه ليس دليلا قاطعا. هناك إذن تدريج في منازل هذه الأقيسة من أعلاها إلى أدناها. فأدناها الطرد وأعلاها ما في معنى الأصل. فالقياس إذن أربعة أنواع: المؤثر ثم المناسب ثم الشبه ثم الطرد. فالمؤثر هو ما ظهر تأثيره في الحكم الذي عرف إضافة الحكم إليه. وقد يكون الأثر من عين العلة في عين الحكم أو من عين العلة في جنس الحكم، أو من جنس العلة في عين الحكم، أو من جنس العلة في جنس الحكم، وهو المناسب الغريب. وهناك بعض الحالات لا تدخل في قياس الشبه مثل ما عرف منه مناط الحكم قطعا وافتقر إلى تحقيق المناط، وما عرف منه مناط الحكم ثم اجتمع مناطان متعارضان في موضع واحد فيجب ترجيح أحد المناطين ضرورة، وما لم يوجد فيه كل مناط على الكمال لكن تركيب الواقعة من مناطين وليس يتمحض أحدهما فيحكم فيه بالأغلب.
وأركان القياس أربعة: الأصل، والفرع، والعلة، والحكم. ولكل منها شروط. فالأصل يجب أن يكون حكمه ثابتا بطريق سمعي، ومستنبطا أيضا بطريق سمعي، وألا يكون فرعا لأصل آخر، وأن يكون(1/82)
الدليل مخصوصا بالأصل، لا يعم الفرع، وألا يتغير حكم الأصل بالتعليل، وألا يكون الأصل معدولا به عن سنن القياس، مثل ما استثنى من قاعدة عامة أو ما استفتح ابتداء من قاعدة مقررة بنفسها لم تقطع من أصل سابق. أما شروط الفرع فإنه يجب أن تكون علة الأصل في الفرع، وألا يتقدم الفرع في الثبوت على الأصل، وألا يفارق حكم الفرع حكم الأصل، وألا يكون حكم الفرع مما ثبتت جملته بالنص، وألا يكون الفرع منصوصا عليه. أما شرط الحكم فهو أن يكون حكما شرعيا لم يتعبد فيه بالعلم. والحكم العقلي والاسم اللغوي لا يثبتان بالقياس، كذلك ما تعبد فيه بالعلم لا يثبت بالقياس. أما النفي الأصلي، أي: البقاء على ما كان الشيء عليه قبل ورود الشرع، فإنه يعرف بقياس الدلالة وليس بقياس الشبه أو العلة، وهو أن يستدل بانتفاء الحكم عن الشيء على انتفائه على مثله، ويكون ذلك ضم دليل إلى دليل، وإلا فهو باستصحاب موجب العقل النافي للأحكام قبل ورود الشرع مستغن عن الاستدلال بالنظر. وكل حكم شرعي أمكن تعليله فالقياس جار فيه. كما أن القياس يجري في الكفارات والحدود لا كما ينفي البعض. أما العلة فيجوز أن تكون حكما أو وصفا محسوسا عارضا، أو من أفعال المكلفين، أو وصفا مجردا أو مركبا. ولا فرق بين أن يكون نفيا أم إثباتا، ويجوز أن يكون مناسبا وغير مناسب، أو متضمنا لمصلحة مناسبة. ويجوز أن لا تكون العلة موجودة في محل الحكم. فإذا ما تخلف الحكم عن العلة مع وجودها، سمى الأصوليون ذلك النقض والتخصص، وإذا ما وجد الحكم دون العلة سمي بالعكس وتعليل الحكم بعلتين. والحكم في محل النص يضاف إلى النص أو إلى العلة. أما العلة القاصرة فصحيحة عند الشافعي، باطلة عند أبي حنيفة.
وقد تفسد العلة قطعا إذا ما وقع الفساد في الأصل أو الفرع أو في وضع القياس غير موضعه، كمن أراد أن يثبت أصل القياس أو أصل خبر الواحد بالقياس. وتفسد أيضا إذا ما انتفى دليل على صحتها، أو أن يستدل(1/83)
عليها بدليل عقلي، أو أن تكون العلة واقعة للنص. أما المفسدات الظنية الاجتهادية، فهي العلة المخصوصة، والمخصصة لعموم القرآن، والمعارضة بعلة أخرى، والتي لا يدل على صحتها إلا الطرد والعكس، والتي تتضمن زيادة على النص، أو أن تستنبط من خبر الواحد، أو إذا ما خالفت مذهب الصحابة عند من يوجب اتباع مذهب الصحابة. ويختتم الأصوليون مباحث الألفاظ والمعاني والعلل، ببيان حكم الاجتهاد، وأحكام التقليد والاستفتاء، وطرق الترجيح عند تعارض الأدلة.
فالاجتهاد في اللغة هو بذل المجهود، واستفراغ الوسع في فعل من الأفعال. وفي الاصطلاح بذل الجهد في طلب العلم بأحكام الشريعة. وللمجتهد شرطان: أن يكون محيطا بمدارك الشرع، وأن يكون عدلا متجنبا للمعاصي، وحتى يجوز الاعتماد على فتواه. فالعدالة شرط قبول الفتوى، وليس شرط الاجتهاد. ومدارك الشرع هي أن يعرف المدارك المثمرة للأحكام، وهي الأدلة اليقينية الأربعة: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس. ثم كيفية الاستثمار التي تتم بعلوم أربعة. ولا يشترط معرفة كل آيات الكتاب، بل آيات الأحكام وهي خمسمائة، ولا يشترط حفظها بل تكفي معرفة مواضعها، وكذلك الحال في الأحاديث بهذين التخفيفين، كما يجب معرفته بمواضع الإجماع، ويكفيه معرفة أن فتواه ليست مخالفة للإجماع. أما العقل فهو الذي يقضي بنفي الأحكام والإبقاء على البراءة الأصلية. أما العلوم الأربعة، فهي معرفة نصب الأدلة وشروطها التي تصير بها هذه البراهين منتجة، ومعرفة اللغة والنحو حتى يمكن فهم خطاب العرب. واجتماع هذه العلوم يشترط في حق المجتهد المطلق الذي يفتي في جميع الشرع. ويجوز أن يفتي فقط في المسائل التي يعرفها والتي يستوفي علومها. والمجتهد فيه هو كل حكم شرعي ليس فيه دليل قطعي، أما العقليات ومسائل الكلام فالحق فيها واحد والمصيب واحد، أما المجتهد فالمخطئ فيه لا يكون آثما. وقد أجاز قوم التعبد بالقياس والاجتهاد في زمان النبي، ومنعه(1/84)
آخرون، وأجازه فريق ثالث للقضاة والولاة في غيبته. كما أجاز قوم حكم النبي بالاجتهاد فيما لا نص فيه، ومنعه آخرون.
وينتفي الإثم عن جميع المخطئين في الاجتهاد. وليست المسألة كلامية بل هي مسألة أصولية خالصة، فالأعمال بالنيات. وقد ذهب العنبري إلى أن كل مجتهد مصيب في العقليات كما في الفروع. ولكن ذهب بشر المريسي إلى أن الإثم غير محطوط عن المجتهدين في الفروع بل فيها حق معين ودليل قاطع. والأولى تصويب جميع المجتهدين وهو رأي الجمهور؛ لأن هذه المسائل ليس فيها دليل قاطع وليس فيها حكم معين. ولم ينكر الصحابة على أحد من المختلفين. وقد ذهب قوم إلى أن كل مجتهد في الظنيات مصيب، وقال آخرون: المصيب واحد، والواقعة التي ليس فيها نفي ليس لها حكم معين بل الحكم يتبع الظن، وحكم الله على كل مجتهد ما غلب على ظنه. وقد ذهب قوم من المصوبة إلى أنه فيه حكم معين، والأولى أن المسألة التي لا نص فيها لا خطأ فيها. ولا يوجد حكم معين في المجتهدات. وإذا تعارض دليلان عند المجتهد وعجز عن الترجيح ولم يجد دليلا من موضع آخر وتحير، فالمصوبة قالوا: يتوقف، والبعض منهم قال: يتخير. ولا يجوز نقض الاجتهاد بالاجتهاد وإلا تسلسل الأمر إلى ما لا نهاية واضطربت الأحكام. والاجتهاد واجب على المجتهد ويحرم التقليد عليه لغيره. والتقليد هو قبول قول بلا حجة وهو ليس طريقا إلى العلم لا في الأصول ولا في الفروع، خلافا للحشوية وأصحاب التعليم "الباطنية" الذين ذهبوا إلى وجوب التقليد وتحريم البحث والنظر. أما العامي فيجب عليه الاستفتاء واتباع العلماء، خلافا لقوم من القدرية الذين أوجبوا النظر عليهم، وخلافا للإمامية الذين أوجبوا عليهم اتباع الإمام المعصوم. ولا يستفتي العامي إلا من عرفه بالعلم والعدالة. فإذا لم يكن في البلدة إلا مفت واحد، وجب على العامي مراجعته، وإن كانوا جماعة فله أن يستفتي من يشاء.(1/85)
وعلى المجتهد أن يرجح الأدلة عند تعارضها. فعليه أولا أن يرد نظره إلى النفي الأصلي قبل ورود الشرع، ثم يبحث بعد ذلك عن الأدلة السمعية فينظر في الإجماع أولا فإن وجد المسألة فيه ترك الكتاب والسنة فإنهما يقبلان النسخ، والإجماع لا يقبله، والإجماع على خلاف ما في الكتاب والسنة دليل قاطع على النسخ، إذ لا تجتمع الأمة على الخطأ. ثم نظر في الكتاب والسنة وهما على مرتبة واحدة؛ لأن كل واحد يفيد العلم القاطع ولا تعارض بين القطعيات. ثم ينظر في عمومات الكتاب وظواهره ثم في مخصصات العموم، ثم في قياس النصوص. فإن تعارض قياسان أو خبران أو عمومان، طلب الترجيح، فإن تساويا، توقف عند بعض، وتخير عند البعض الآخر، ويتم الترجيح بين ظنين؛ لأن الظنون تتفاوت في القوة. والدليل عليه إجماع الأمة في تقديم الأخبار بعضها على بعض. فإن كان التعارض في خبرين، فأحدهما كاذب، والكذب محال على الله ورسوله وإن كان في حكمين من أمر ونهي وحظر وإباحة، فالجمع تكليف بالمحال، فإما أن يكون أحدهما كذبا أو يكون متأخرا ناسخا أو أمكن الجمع بينهما بالتنزيل على حالتين مختلفتين، وإن عجزنا عن الجمع، رجحنا وأخذنا بالأقوى. ويقوى الخبر بصدق الراوي وصحته أو يضعف باضطراب في متنه أو بضعف في إسناده، أو بأمر خارج عن السند والمتن مثل كيفية استعمال الخبر، كما يتم الترجيح بين العلل وذلك بالرجوع إلى قوة الأصل أو قوة نفي العلة في ذاتها، أو قوة طريق إثبات العلة من نص أو إجماع أو إمارة، أو ما يقوي حكم العلة الثابت بها أو أن تقوى بشهادة الأصول وموافقتها لها.
تمثل مباحث الألفاظ والمعاني والعلل إذن أصالة علماء الأصول في الدقة والتحليل، بالرغم مما يغلب عليها من دقة تصل إلى حد البحث عن المتناهي في الصغر. فتشعبت القواعد، خاصة في طرق البحث عن العلة، حتى تحول العلم إلى منطق خالص وابتعد عن منطق الأحكام. وغلب على(1/86)
الكثير منها الصورية التي لا يمكن فهمها دون الرجوع إلى الأمثلة الفقهية الشارحة لها. واختلفت الآراء والمذاهب، حتى إنه يصعب على الإنسان الحر الانتهاء إلى رأي واحد، وقد يكون هذا التعدد ذاته هو ما يسمح بتجدد الوقائع، وتغير الظروف والأحوال وطواعية المبادئ، حتى تسمح باختيار أكثر الوقائع والأوضاع تحقيقا لمصالح المسلمين، كما تكشف عن قدرة العقل الإسلامي على تحويل الدين إلى علم، والوحي إلى منطق، والنص إلى منهج، كما هو الحال في نظريتي التوقيف والوضع. كما يتضح أيضا منهج البداية الأولى والقسمة العقلية التي تقوم باحتواء الموضوع كله وتحديد بنائه ومعرفة احتمالاته، ورصد المواقف كلها ابتداء مما يدل على التوحيد بين العقل وموضوعه، حيث تكون خطوات النهج هي ذاتها بناء الموضوع. وتبلغ قمة المنهج الإسلامي الأصيل في القياس الشرعي الذي يعتمد على الأصل الذي كان في نشأته أيضا معبرا عن مصالح الجماعة حيث التشريع، وعلى الفرع أي: الواقع المتجدد المتغير في كل العصور، وعلى العلة التي تجعل الأحكام قائمة على غاية وسبب، ضد الصورية والشكلية في التشريع. فالعلة هي مادة الشرع وهدفه الأول. لذلك كان مبحث العلل هو قلب علم أصول الفقه، والذي يدل على اتجاه الإسلام نحو العالم، وعلى قياس الأحكام على أسس مادية تعرف بالإحصاء والاستقراء.(1/87)
ثالثا: الشعور العملي "الأحكام الشرعية"
بعد تأكد الشعور التاريخي من صحة النصوص، وبعد تأكد الشعور التأملي من صحة الفهم والتفسير، يأتي الشعور العملي أخيرا لتنفيذ الأحكام، وتطبيق الأوامر والنواهي، وتحويل الوحي إلى فعل في العالم وإلى حركة في التاريخ. ويعتبره الأصوليون "النمرة". ونظرا لأهميته، فإنهم يضعونه في بداية العلم ثم يقدمون بعد ذلك بتحليل كيفية الاستثمار وشروط المستثمر والمستثمر منه. ويسمونه "الأحكام الشرعية".
ويقسمونها تقسيما رباعيا: الحاكم وهو الشارع، والمحكوم عليه وهو المكلف، والمحكوم فيه وهو الفعل، ونفس الحكم وهو الأمر والنهي. وقد استمر الحال كذلك إلى أن أتى الشاطبي "790هـ" في "الموافقات في أصول الشريعة" وفصل الشعور العملي وجعله أكثر من نصف العلم، وأخذ التقسيم الرباعي على نحو جديد اثنين اثنين: الأحكام والمقاصد. وتنقسم الأحكام إلى أحكام التكليف وأحكام الوضع، كما تنقسم المقاصد إلى مقاصد الشارع ومقاصد المكلف. فأحكام التكليف هي أفعال الإنسان في العالم طبقا لمستويات الفعل وطاقات الإنسان وقدرته على التمثل والمقاومة والتضحية، في حين أن أحكام الوضع هي الأحكام الموضوعة في العالم قبل أن يتمثلها الإنسان، والتي ترتكز على أسس موضوعية وليس على مجرد التعبير عن الإرادة الإلهية، أو الأهواء والانفعالات الذاتية. أما مقاصد الشارع فتعني الوحي باعتباره قصدا إلهيا يتجه إلى الإنسان ويقوم على أسس وضعية، وهو الدفاع عن المصالح العامة. ثم يتحول هذا القصد العام الشامل إلى قصد إنساني في مقاصد المكلف ويصبح النية على الفعل والباعث على السلوك.
والحكم اصطلاحا يعني خطاب الشرع بأعمال المكلفين ولا حكم للشارع بدون هذا الخطاب، خلافا للمعتزلة الذين يوجبون الحكم بالعقل، فالأفعال لديهم تنقسم إلى حسنة وقبيحة، فمنها ما يدرك بضرورة العقل، ومنها ما يدرك بنظر العقل، ومنها ما يدرك بالسمع، وهي مسألة تدخل في علم أصول الدين في موضوع الحسن والقبح. ولا يجب شكر المنعم عقلا قبل ورود الحكم الشرعي، خلافا للمعتزلة الذين يوجبونه بالعقل، وهي أيضا مسألة كلامية عارية عن علم أصول الفقه. وقد ذهبت جماعة من المعتزلة إلى أن الأفعال قبل ورود الشرع على الإباحة، وقال آخرون على الحظر، وتوقف فريق ثالث، وهي عند الأشاعرة بلا حكم بدليل الاستصحاب والبراءة الأصلية.(1/88)
وقد اتفق علماء الأصول على أن أحكام التكليف خمسة: الواجب والمحظور والمباح والمندوب والمكروه. وهي منطقية للأفعال؛ لأن خطاب الشرع يرد إما باقتضاء الفعل أو الترك أو التخيير بين الفعل والترك، فاقتضاء الفعل هو الأمر، فإن اقترن به الإشعار بالعقاب على الترك فهو الواجب، وإن لم يقترن فهو المندوب. واقتضاء الترك هو الحظر، فإن اقترن به الإشعار بالعقاب على الفعل فهو المحظور، وإن لم يقترن هو المكروه. أما إن ورد بالتخيير، فهو المباح. فالأفعال إذن تترواح بين الأمر بالفعل المطلق وهو الواجب، والنهي عن الفعل المطلق، وهو المحظور، ثم يتراوح بين التخيير في الفعل وهو المندوب، أو التحذير في الترك وهو المكروه، أو التخيير بين الفعل والترك وهو المباح.
ويسمى الواجب أيضا الفرض، وهو الفعل الذي يثاب المكلف على فعله ويعاقب على تركه. وينقسم إلى معين ومبهم بين أقسام محصورة ويسمى واجبا مخيرا، خلافا للمعتزلة التي أنكرت الإيجاب مع التخيير. كما ينقسم بالإضافة إلى الوقت، إلى مضيق وموسع، خلافا للبعض الذي أنكر الوجوب مع التوسيع، وما لا يتم الواجب إلا به يكون واجبا، إذا تعلق باختيار العبد وكان شرطا شرعيا أو حسيا، ولا يكون واجبا إذا كان لا دخل لقدرة العبد فيه. فإذا زاد الواجب الذي لا يتقدر بحد محدود، كانت الزيادة ندبا عند البعض، واجبا عند البعض الآخر. فإذا فسخ الواجب فإنه لا يصير مباحا بل يرجع إلى ما كان عليه قبل الوجوب.
أما المحظور ويسمى أيضا الحرام، فإنه الفعل الذي يعاقب المكلف على فعله ويثاب على تركه على عكس الواجب، وهو أمر مطلق بالترك، ويقال عنه أيضا المعصية والذنب والمزجور عنه والمتوعد عليه والقبيح، ويكتفي الأصوليون بهذا التعريف ولا يفيضون في مسائله كما يفيضون في الواجب؛ نظرا لأنه يشتمل على نفس المسائل ولكن في ترك الفعل.(1/89)
فإذا كان الحرام ضد الواجب، استحال أن يكون الشيء الواحد واجبا حراما، طاعة معصية خاصة في الواحد بالعدد، وإن لم يكن في الواحد بالنوع. ولذلك ثارت مسألة "الصلاة في الدار المغصوبة" وعدم جوازها عند القائلين بالنوع الواحد. كما ثارت مسألة هل الأمر بالشيء نهي عن ضده ونفي ذلك لاختلاف الصيغة ولاختلاف المعنى القائم في النفس.
والمندوب هو الفعل الذي يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه، أو هو الفعل الذي فعله خير من تركه، والفاعل مأمور به؛ لأن الأمر اقتضاء وطلب على عكس المباح.
والمكروه هو الفعل الذي لا يعاقب فاعله ويثاب تاركه، أو هو الفعل الذي تركه خير من فعله، ويقال عند الفقهاء على عدة معان متفاوتة، مثل المحظور أو المحرم عند الشافعي أو ما نهى عنه نهي تنزيه أو ترك ما هو الأولى أو ما وقعت فيه الريبة والشبهة. وكما أن الحرام ضد الواجب فالمكروه ضد المندوب، وكما أن الحرام والواجب لا يكونان في فعل واحد، فكذلك المكروه والمندوب.
والمباح هو الفعل الذي لا يثاب ولا يعاقب فاعله أو تاركه، أو هو الفعل الذي يستوي فيه فعله وتركه. وخوفا من إلحاقه بأفعال الصبي والطفل والمجنون والبهيمة، أو أيضا بأفعال الله التي يتساوى فيها العقل والترك دون أن يسمى ذلك مباحا قيل في حده إنه الفعل الذي ورد الإذن من الشرع بفعله, وتركه غير مقرون بذم فاعله ومدحه ولا بذم تاركه ومدحه، أو هو الفعل الذي لا ضرر عليه ولا نفع في تركه أو فعله. وقد أنكرته بعض المعتزلة؛ لأنه يعني رفع الحرج عن الفعل والترك، وذلك ثابت قبل السمع ولم يفعل الشرع شيئا، وما لم يثبت تحريمه ولا وجوبه بقي على النفي الأصلي. ولكنه عند الأشاعرة، النفي الأصلي شيء وورود حكم الشرع بالإباحة حكم شرعي يرفع الحرج والذي يسميه بعض الفقهاء مرتبة(1/90)
العفو. وقد جعل البعض المباح أمرا بالمباح ضد الصوفية الذين يتخلون عنه طواعية. والحقيقة أن هذه الأحكام الخمسة تدل على أفعال الإنسان المطلقة بين الإيجاب والسلب، ثم أفعاله الاختيارية بين الإيجاب والسلب كذلك، ثم أفعاله الطبيعية حيث تكون الشرعية في مجرد الأفعال وحركتها في الطبيعة وهو المباح.
هذه الأحكام الخمسة هي الركن الأول في الحكم، وهو أهم الأركان الأربعة. فالركن الثاني هو الحاكم أي: الشارع، ويكتفي علماء أصول الفقه بهذه التسمية حتى لا يدخلوا في مسائل حكم أصول الدين، حتى إنهم لا يستعملون لفظ الله. والركن الثالث هو المحكوم عليه وهو المكلف، وشرطه أن يكون عاقلا يفهم الخطاب. وتكليف الناس والغافل والصبي والمجنون محال. أما شرط وجود المأمور ووجود كلام الله في الأزل، فإنها مسألة كلامية عارية عن أصول الفقه. والركن الرابع هو المحكوم فيه، وهو الفعل الاختياري، ويشترط صحة حدوثه، وجواز كونه مكتسبا للعبد، وكونه معلوما للمأمور، وكون إيقاعه طاعة، وهو أكثر العبادات، وهي كلها مسائل كلامية تتعلق بخلق الأفعال.
أما أحكام الوقع، وهي التي تشير إلى نباء الأحكام موضوعيا في العالم ليس بفعل الإنسان، ولكن كما بناها الشارع، فهي خمسة أيضا: السبب، والشرط، والمانع، والصحة والبطلان، والعزيمة والرخصة. وأحيانا يضم السبب والشرط والمانع معا في ثلاثي واحد، والصحة والبطلان، والعزيمة والرخصة في ثنائي واحد.
فالسبب هو الذي أضاف الحاكم الحكم الشرعي له، كعلامة ودليل للتعرف على الحكم، خاصة بعد انقطاع الوحي مثل الاضطرار كسبب لإباحة الميتة. وأطلقه الفقهاء على أربعة معان: المباشرة، وعلة العلة، وذات العلة مع تخلف وصفها، والموجب. أما الصلة بين السبب والمسبب(1/91)
فهي مسألة كلامية فلسفية لا تدخل في أصول الفقه وتثير موضوع الحتمية والاحتمال في الطبيعة، وخطورة عدم ربط الأسباب بالمسببات وما قد يسبب ذلك من عدم الثقة بقوانين الطبيعة وبأفعال النفس. أما الحتمية فإنها أكثر مدعاة لهذه الثقة في المستقبل على تحقيق الفعل، إذا ما تم الأخذ بالأسباب. فإذا قيل إن مشروعية الأسباب لا تستلزم مشروعية المسببات حدث عدم الاطمئنان. وكان الفاعل أقرب إلى التوكل. أما إذا تم الربط بينهما فيكون ذلك داعية على الإقدام والرجاء.
والشرط هو ما كان وصفا مكملا لمشروطه فيما اقتضاه مثلا الإحصان مكمل لوصف الزاني، والمقصود هنا الشرط الشرعي وليس الشرط العقلي أو العادي، والشرط صفة للمشروط ومكمل له وليس جزءا منه. ولا يكفي السبب وحده في وقوع المسبب، بل لا بد أيضا من حصول الشرط.
والمانع هو ما يرفع الحكم. وقد يكون رافعا للطلب أصلا مثل الجنون، أو رافعا لأصل الطلب مثل الحيض والنفاس، أو رافعا للحكم بحيث يصبح مخيرا كالأنوثة بالنسبة للعيدين والجمعة، أو رافعا للإثم بمخالفة الطلب مثل الرخص التي تمنع من انختام الفعل. ولا يطلب من المكلف تحصيل المانع ولا دفعه من حيث هو مانع، كما لا يجوز التحيل لإسقاط حكم السبب بفعل المانع. والصحة والبطلان يمثلان شرعية الفعل. فالصحة يراد بها آثار العمل في الدنيا وأثارها في الآخرة على السواء. وعكسها البطلان، أي: عدم ترتب آثار الفعل عليه في الدنيا وفي الآخرة. وغياب القصد والنية على الفعل، أحد أسباب بطلانه. أما إذا اختلفت نسبة الفعل إلى الزمان فإنه لا يبطل بل يكون أداء، إذا تم في وقته، وقضاء، إذا تم خارج وقته، وإعادة، إذا حدث في الفعل الأول خلل.
والعزيمة والرخصة يمثلان الطاقة على الفعل في صورتها المثلى، وهي(1/92)
العزيمة، أو في صورتها الواهنة، وهي الرخصة. فالعزم يعني القصد، والعزيمة في الشرع هو ما لزم العباد بإيجاب الشارع. والرخصة تعني اليسر والسهولة، وفي الشرع ما وسع للمكلف في فعله لعذر وعجز عنه مع قيام السبب المحرم. وحكم الرخصة الإباحة، وعند البعض الوجوب؛ لأن التيسير أمر مفروض، والعذر الواحد يعتبر في شخص دون شخص، وإباحة الرخصة تعني دفع الحرج وليس التخيير.
وهنا تكشف أحكام الوضع الخمسة عن أن الأحكام الشرعية ليست أحكاما صورية، تطبق في أي زمان وفي أي ظرف بل أوضاع اجتماعية على الفقيه أن يستقصيها قبل أن يطبق الحكم، فإذا غاب السبب أو الشرط أو حضر المانع، رفع الحكم.
أما مقاصد الشارع فأربعة: وضع الشريعة ابتداء، ووضع الشريعة للأفهام، ووضع الشريعة للتكليف، ووضع الشريعة للامتثال. ويعني وضع الشريعة ابتداء السبب الأولي الذي لأجله وضعت الشريعة، وهو حفظ مصالح العباد عاجلا أو آجلا. والمصالح إما ضرورية أو حاجية أو تحسينية، وكل منها يكمل الآخر. فالضروريات أصل الحاجيات والتحسينات، ويلزم من اختلالها اختلال الاثنين الآخرين، ولكن لا يلزم من اختلالهما اختلال الضروري. والضروريات هي مصالح العباد الخمس التي يذكرها الأصوليون أحيانا في الاستصلاح في طرق البحث عن العلة، وهي المحافظة على الدين، والحياة، والعقل، والعرض، والمال. ويكون الحفاظ عليها بثبيت وجودها ودرء الأخطار عنها. وقد يختلف بعض أسمائها مثل الحياة أو النفس، العرض أو النسل، كما قد يختلف الترتيب حسب العلاقة الداخلية لها وطبقا لأهميتها. فالحياة أولها؛ لأنه لا دين ولا عقل ولا عرض ولا مال بدون الحياة. ثم تظهر الحياة في الدين أي: الحقيقة المطلقة، وفي العقل وسيلة إدراك هذه الحقيقة، كما تظهر في الدعامتين الماديتين لها وهي القوة البشرية المعنوية، أي: النسل، والقوة المادية في(1/93)
المال. وليس في الدنيا مصلحة محضة ولا مفسدة محضة، ومقصود الشارع ما غلب منهما. فإذا تعارضا، نظر في التساوي والتراجيح. والمقاصد الشرعية لا تنخرم بل هي كلية أبدية. وهي ليست تابعة لأهواء النفوس، بل إن الشريعة أتت لإخراج الشعور من حيز الهوى إلى حيز الموضوعية. فالمصلحة والضرر ليسا إضافيين كما يقول الرازي، ويمكن من استقراء الشريعة معرفة ضابط للمصلحة والمفسدة، وعدم تركها بلا ضابط ردا لاعتراض العرافي ومنعا عند الأشاعرة من القول بالعقل كضابط للمصلحة والمفسدة. وإن تخلف الحكم أو الحكمة في بعض الجزئيات، لا يقدم في كلية المقاصد مثل العقوبات المشرعة للازدجار. ولما كانت الأحكام مبنية على المصالح عند المصوبة والمخطئة جميعا، كانت الشريعة معصومة من الضياع، وكان الحفاظ على الكليات هو أساس الحفاظ على الجزئيات.
أما وضع الشريعة للأفهام، فإن ذلك يعني مخاطبتها للعقل حتى تتحول إلى اقتناع داخلي، وتعبير عن طبيعة المكلف، وليست مجرد أمر خارجي يتم تنفيذه طاعة للشارع. فالشريعة عربية تفهم على أسلوب العرب. واللغة العربية تشارك باقي الألسنة في المعاني الأولية، ولكنها تتفرد بمعان ثانوية. فإذا أمكن ترجمة الأولى إلى لسان آخر، فإنه لا يمكن ترجمة الثانية. والشريعة أمية لا تخرج عما ألفه الأميون، تقوم على الطبيعة والفطرة وتتأسس في الجبلة. فليست غاية القرآن إعطاء مباحث علمية أو إعطاء أصول العلوم كلها، كما يدعي البعض، بل إعمال النظر، وتوخي الوضوح، وتوجيه الإنسان نحو الطبيعة لمعرفة قوانينها والسيطرة عليها. وما كان مضادا لذلك رفضه القرآن، من خرافة وجهل، كما هو الحال في علوم الفأل والطير، والقيافة، والزجر، والكهانة، وخط الرمل، والضرب بالحصى في الجاهلية. وما كان متفقا معه، مثل علم النجوم، وعلوم الأنواء، وعلم التاريخ، وعلوم الطب، وفنون البلاغة، قبله القرآن(1/94)
أما وضع الشريعة للتكليف فيعني أن الشريعة لا تكلف بما لا يطاق، وأنها وضعت طبقا للقدرة الإنسانية، ممكنة التحقيق. فالقدرة شرط التكليف. ولا تكليف بالأوصاف الجبلية كشهوة الطعام؛ لأنه لا تمايز فيها، أما الانفعالات التي تتردد الجبلي والكسبي، كالشجاعة والحب والغضب والأناة، فإنها أقرب إلى الجبلي، لا يتم التكليف بها بل بآثارها ومبادئها. وكذلك الأمر في سائر أحوال الباطن، فإنها خارج التكليف؛ لأنها خارج القدرة. ويمتنع التكليف بالشاق، فالمشقة على أربعة أنواع: الأول مشقة ما لا يطاق وهي مانعة من التكليف، والثاني المشقة الخارجة على المعتاد وهي أيضا مانعة من التكليف، والثالث المشقة الزائدة على المعتاد وهي غير مانعة من التكليف ولا مقصودة منه، ويتفاوت فيها المكلفون حسب الأهلية وحسب العزيمة، وحتى يترك للإنسان مجال التسابق نحو الخير والمنافسة في تحقيق المقاصد الشرعية. ولكن للمكلف قصد العمل الشاق وليس المشقة ذاتها، كما أن ليس له الدخول في المشقة باختياره. والحرج مرفوع على من لا يقدر خوفا من الضرر أو الملل، فمن خف عليه ما يثقل على غيره أبيح احتماله أو خوفا من تعطيل الأعمال الشرعية الأخرى، فأما من أمن ذلك فلا بأس عليه أن يبلغ جهده في العبادة. والرابع مشقة مخالفة الهوى وهي المقصودة بالتكليف. والتكاليف جارية على الحد الأوسط، فإن مالت بالمكلف إلى أحد الطرفين، فإنما يكون ذلك لكي تنقل المكلف من الطرف الآخر إلى الطرف الوسط. كذلك يجوز التشديد والزجر لمن غلب عليه الانحلال في الدين، كما يجوز التخفيف والترخيص لمن غلب عليه التشدد.
أما وضع الشريعة للامتثال فإن ذلك يعني إخراج المكلف من حيز الهوى إلى حيز الوجود الموضوعي الثابت. لذلك يبطل العمل المبني على الهوى، حتى ولو كان الفعل محمودا؛ لأنه قد يؤدي إلى المذموم. ومتبع الهوى، كالمرائي يتخذ الأحكام آلة لتحقيق أغراضه. والمقاصد الشرعية(1/95)
ضربان: أصلية وتابعة. فالأصلية لا يراعي فيها حظ المكلف، سواء كانت عينية أم كفائية؛ لأنها تحقق المصالح الضرورية العامة للجميع. والتابعة هي التي روعي فيها حظ المكلف مثل الاستمتاع بالمباحات. والتابعة خادمة للأصلية وليست مستقلة عنها. ومن سنن التشريع ألا يؤكد الطلب فيما يوافق الحظوظ، كالأكل والشرب اتكالا على الجبلة، وأن يؤكد الطلب إذا خالف حظ النفس، كالعبادة والنظر في مصالح الغير. فإذا ما روعي فيه الحظ ولكن تجرد عنه المكلف بالنية، فإن حكمه يكون حكم المجرد شرعا، ويكون المكلف قد سابق في الفضل. ولكن إذا روعيت المقاصد الأصلية في العمل فلا إشكال في صحته، بل يكون قصدها أقرب إلى الإخلاص. وبهذا القصد يصير العمل عبادة وإن كان عادة، ويصير المندوب واجبا والمكروه حراما، وهو أجمع لمقاصد الشارع فيكون الثواب أجزل للأتقياء الأصفياء. أما كبائر الذنوب فإنها في مخالفة المقاصد الأصلية وكبار الطاعات تكون في مراعاة تلك المقاصد. أما إذا روعيت المقاصد التابعة وحدها أو مع الأصلية، فإن ذلك قد يقدح في الإخلاص حسب نوح الحظوظ. عادة أو عبادة، دنيوية أو أخروية. فالقصد الأخروي بالعبادة غير قادح فيها، أما قصد الحظ الدنيوي على الامتثال، فإنه قد يقدح في القصد. وأما قصد الحظ الدينوي بالعادات فهو جائز وصحيح. ومن الأعمال ما يقبل النيابة مثل العادات الجارية بين الخلق لكسب الحظوظ العاجلة، وما لا يقبلها مثل العبادات اللازمة للمكلف. ومقصود الشارع من العمل المداومة عليه وتكراره، وهو ما يحاول الصوفية فعله بالأوراد. ومع ذلك فالشريعة موضوعة بحسب المكلفين عامة، وليست لفئة خاصة مثل الصوفية الذين زعموا أنه يباح لهم ما لا يباح لغيرهم، وأن لهم شريعة خاصة غير شريعة العامة. بل إن الرسول نفسه لم يختص بشريعة خاصة، فمزاياه ومناقبه عماة للأمة كما أن أحكامه عامة لهم أيضا ما لم ترد على الخصوص. ولذلك ليس للكرامات أصل في المعجزات ولا يجوز العمل(1/96)
بمقتضاها. والشريعة هي المرجع الأول والأخير في أحكام الباطن والظاهر، وكل ما يسمى بالمكاشفات يعرض على الشريعة أولا. فاطراد العادات كليا مقطوع لا مظنون وأساس الشرع، والأحكام تابعة للعوائد الشرعية والوجودية، فلو تغيرت الأنظار في الأولى لم تتغير أحكامها بخلاف الثانية، فيتغير الحكم تبعا لها. فالعوائد معتبرة في الشرع قطعا فإذا انخرقت بعادي فلها حكم العادات وإن انخرقت بغير جنس العادات ردت إلى العادات. والعوائد الكلية لا تختلف باختلاف الأمصار والأعصار فيقضى بها على الماضي والمستقبل.
فإذا ما تم تحديد مقاصد الشارع الأربعة، وهي المقاصد الكلية للوحي، فإنها تتوجه جميعا وتصب في مقاصد المكلف والتي يطلق عليها حينئذ النية. فالأعمال بالنيات، والمطلوب من المكلف موافقة قصده لقصد الشارع، وكل عمل قصد به غير ما قصد الشارع فهو باطل. فإذا ما قصد أحد المخالفة فوافق في العمل فعمله باطل، أما إذا قصد الموافقة فخالف في العمل فعمله صحيح. ولا يجوز الإتيان بفعل فيه مصلحة للنفس وإضرار بالغير. وليس لأحد أن يقوم بمصالح غيره العينية إلا عند الضرورة. ومن كلف القيام بمصالح غيره وجب على المسلمين القيام بمصالحه، ويكون ذلك من بيت المال. فإذا قام المكلف بالمصلحة العامة وكان في ذلك إضرار بنفسه، فإنه يؤثر العام على الخاص عند البعض، والخاص على العام عند البعض الآخر؛ وذلك لأن المفسدة قد تلغى بجانب المصلحة العظمى. وللمكلف قصد مصالح الشرع يقينا وله أيضا ما قد يقصده الشرع ظنا, والأحوط امتثال الشرع بالقصد. والحيل ممنوعة بالكتاب والسنة والإجماع، والتحيل هو قلب أحكام الأفعال بعضها إلى بعض في ظاهر الأمر، ثم جعل الأفعال المقصود بها في الشرع معان وسائل إلى قلب تلك الأحكام. فالحيل مفوتة للمصالح المقصودة من التشريع، أما الحيل التي لا تناقض مصلحة شرعية، فقد جوزها البعض مثل النطق بكلمة الكفر(1/97)
إكراها عليها.
فإذا ما تم تنفيذ مقاصد الوحي وتحويلها إلى مقاصد المكلف، ثم تنفيذ الإرادة الإلهية من خلال الإرادة الإنسانية وأصبح الفعل الإلهي ممتدا في الفعل الإنساني، وأمكن أن يصبح الوحي نظاما مثاليا للعالم من خلال فعل المكلف، وبالتالي تتحقق خلافة الله في الأرض من خلال المكلف. وعلى هذا النحو يكون علم أصول الفقه هو علم "التنزيل" الذي يستنبط الأحكام الشرعية ويتجه من الله إلى الإنسان، على عكس علوم "التأويل" كما يشرحها الصوفية الذين يريدون الرجوع من الإنسان إلى الله. وفي هذه الحالة يكون علم أصول الفقه هو العلم الذي يعطي للمسلمين ما يحتاجون إليه في عالمهم هذا، وفي عصرهم هذا، من العودة إلى السيطرة على مقدراتهم فيصبحون بحق خلفاء الله في الأرض.(1/98)
العقل والنقل
مقدمة
...
مقدمة:
موضوع "العقل والنقل" أحد موضوعات علم أصول الدين. ويسمى أيضا "السمع والعقل". واختلاف البداية بالعقل أو النقل يدل على اختلاف الفرق الإسلامية في تصور العلاقة بينهما، هل يكون العقل أساس النقل أم هل يكون النقل أساس العقل؟ وقد عرض الفقهاء لهذه القضية أيضا من الناحية المنهجية. فرفض ابن تيمية في "منهاج السنة" منهج المعتزلة والرافضة الذي يقضي باتفاق النقل مع العقل، فإن اختلفا يؤخذ العقل ويؤول النقل. ووضع بدله منهج "موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول" فإن حدث خلاف بينهما يفوض النقل إذ لا يعلمه إلا الله. وقد أخذ الفلاسفة نهج المعتزلة على ما بين ابن رشد في "مناهج الأدلة" عندما رفض أن يكون النقل أساس العقل على ما تفعل الحشوية وعلى ما يفعل أهل الظاهر، كما رفض أن يكون العقل مبررا للنقل على ما تفعل الأشعرية فتعطي حججا لا تقنع الذكي ولا ينتفع بها البليد، وأراد إعمال العقل البرهاني، وفي هذه الحالة يكون متفقا مع النقل. وقد عرض ابن رشد لذلك أيضا في "فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال" مببينا اتفاقهما في المنهج والغاية. وكان الفلاسفة قبل ابن رشد قد(1/101)
عرضوا لما عرض له المتكلمون في موضوع "العقل والنقل" وسموه "الصلة بين الفلسفة والدين" عند الكندي والفارابي وابن سينا. فقد بين الكندي في رسالة إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى اتفاق الفلسفة والدين في الوسيلة والغاية، وأن التعارض بينهما ناشئ من رجال الدين الذين يدافعون عن مناصبهم المزورة ويؤسسون شرعيتهم على رفض الحقائق، مع أن الحكمة ضالة المؤمن، لا يهمه من أي مصدر أتت. تم تباين منهجهما عند الفارابي وابن سينا في نظرية النبوة، فالفلسفة منهجها العقل والدين طريقة الخيال، ولكن عندهما الغاية واحدة وهو تحقيق السعادة.
ولم يترك الصوفية أيضا هذا الموضوع بمعارضتهم الشريعة للحقيقة والعلوم العقلية للعلوم الدينية في بدايات التصوف حتى تحول في النهاية إلى فلسفة إلهية تم التوحيد فيه بين علوم العقل وعلوم القلب، كما وضح ذلك في "حكمة الإشراق" عند السهروردي. أما علماء أصول الفقه فقد استطاعوا تأسيس النقل ليس فقط على العقل بل على العقل والتجربة كما هو الحال في مناهج استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها اليقينية، وكما وضح في طرق البحث عن العلة وتقسيمها إلى مؤثرة وفاعلة وملائمة ومناسبة على ما هو معروف في القياسين، الأصل الرابع من أصول التشريع. ومع ذلك فقد انقسموا إلى فريقين: أهل الرأي بالعراق وأهل الحديث بالحجاز كما انقسمت مناهج التفسير إلى قسمين: التفسير بالمأثور والتفسير بالمعقول.
ولم يظهر موضوع "العقل والنقل" كموضوع مستقل في علم أصول الدين وكأحد مسائله فقط بل ظهر في ثنايا العلم كله من مقوماته الأولى حول نظرية العلم حتى موضوعيه الأخيرين الإمامة والتاريخ. ففي نظرية العلم يظهر العقل مع الحس والمشاهدة والتجربة كأساس للمتواترات أي: للنقل. كما يظهر في الدليل العقلي القادر على تحويل جميع الأدلة النقلية بالرغم من توافرها وتضافرها من الظن إلى اليقين. فالظن وحده مرتبط بأسباب النزول وبالناسخ والمنسوخ وبمباحث الألفاظ من(1/102)
محكم ومتشابه، وظاهر ومؤول، وحقيقة ومجاز، ومطلق ومعين، وخاص وعام، وأمر ونهي وبالتالي لا يعطي اليقين. وقد كان الخلاف بين المعتزلة والأشاعرة حول التنزيه والتشبيه هو خلاف ناشئ أيضا عن الصلة بين النقل والعقل، فالتنزيه ينتج عن تأسس النقل على العقل، والتشبيه ينتج عن إقامة العقل على النقل. وكذلك نشأ الخلاف بين الجبر والاختيار أيضا من الصلة بين النقل والعقل، فالجبر ناتج عن النقل ورفض إعمال العقل والاختيار ناتج عن العقل وتأويل النقل. أم الخلاف حول النبوة هل هي واجبة أو ممكنة أو مستحيلة فنشأت أيضا من أن القائلين بوجوب النبوة أي: ضرورة النقل، وهم الأشاعرة، يقولون بقصر العقل وحاجته إلى النبي، أما الذين يجعلون النبوة مستحيلة مثل البراهمة فيجعلون العقل قادر على الوصول إلى الحقائق في غير ما حاجة إلى نبي أو وصي. أما الخلاف في أمور المعاد فإنه أيضا يرجع إلى أن أهل السنة يعتمدون على النقل في إثبات الحوض والصراط والشفاعة والميزان، في حين يؤولها المعتزلة ويجعلونها صورا فنية على العدل وقانون الاستحقاق. ويمكن القول إن مواقف أهل السنة والفقهاء والحشوية وأهل الظاهر والأشاعرة في علم أصول الدين ومسائله كلها في الذات والصفات والأفعال والنبوات والمعاد والإمامة، كلها ترجع إلى إعطاء الأولوية للنقل على العقل، في حين إن مواقف المعتزلة والفلاسفة كلها في هذه المسائل نفسها إنما ترجع إلى إعطاء الأولوية للعقل على النقل. موضوع العقل والنقل إذن هو المنهج المزدوج الذي تم استعماله لدى الفرق الكلامية في موضوعات علم أصول الدين، فنشأت عنه الاختلافات المشهورة.
ولما كان المعتزلة هم أهل العقل فقد تحول العقل لديهم إلى أحد أصولهم الخمسة وهو العدل، ويشمل خلق الأفعال من العباد والحسن والقبح العقليين. واعتبروا النظر أول الواجبات العقلية واعتبر أبو هاشم الجبائي الشك قبل النظر هو أول الواجبات. ورفضوا تقليد الأزهدين، وتقليد الأكثرين، وخالفوا أصحاب المعارف الضرورية بالطبع أو الإلهام.(1/103)
وقد فصل القاضي عبد الجبار "توفي 415هـ" هذا الأصل في شرح الأصول الخمسة، كما عقد له جزءا في موسوعته الاعتزالية الضخمة "المغني في أبواب التوحيد والعدل" بعنوان "التعديل والتجوير" واللطف، وأجزاء أخرى في "النظر والمعارف"، و"الصلاح والأصلح، والاستحقاق والتوبة"، و"التكليف". كما ظهر أيضا مع العدل في "المحيط بالتكليف".
وقد ظهر موضوع "العقل والنقل" في علم أصول الدين عند الأشاعرة كإحدى مسائل الإلهيات في موضوع "الأفعال" هل من الله أم من العبد؟ كما يظهر أيضا بعد ظهور نظرية أحكام العقل الثلاثة: الواجب والممكن والمستحيل ضمن ما يجوز على الله مثل الرؤية كما هو الحال في "المواقف" للإيجي "756هـ". وقد تحدثت عنه معظم مصنفات الأشاعرة في علم أصول الدين في باب "التعديل والتجوير" كما هو الحال في "اللمع" و"الإبانة" للأشعري، "330هـ" وفي "الإرشاد"، و"لمع الأدلة" للجويني "478هـ". وقد فصل الغزالي "505هـ" في "الاقتصاد في الاعتقاد" نظرا لأهميته لهدم العقل تحت عنوان "في أفعال الله تعالى وجملة أفعال جائزة لا يوصف منها شيء بالوجوب". أما الشهرستاني "548هـ" فقد جعله قاعدة من قواعد أربع: الأولى الصفات والتوحيد، والثانية العذر والعدل، والثالثة الوعد والوعيد والأسماء والأحكام، والرابعة "السمع والعقل والرسالة والأمانة، وهي تشتمل على مسائل التحسين أو التقبيح، والصلاح والأصلح، واللطف، والعصمة في النبوة، وشرائط الإمامة نصا عند جماعة وإجماعا عند جماعة، وكيفية انتقالها على مذهب من قال بالنص وكيفية إثباتها على مذهب من قال بالإجماع، والخلاف فيها بين الشيعة والخوارج والكرامية والأشعرية". يدخل الشهرستاني هنا موضوع الإمامة ويجعله تابعا لموضوع السمع والعقل، فالقائلون بأن الإمامة تكون بالنص والتعيين مثل الشيعة يعتمدون على السمع, والقائلون بأن الإمامة تكون بالبيعة والاختيار مثل أهل السنة يعتمدون على العقل. كما خصص(1/104)
الشهرستاني في "نهاية الإقدام" بباب بأكمله "في التحسين والتقبيح وبيان أنه لا يجب على الله تعالى شيء من قبيل العقل ولا يجب على العباد شيء قبل ورود الشرع". كما عقد بابا آخر "في إبطال الفرض والعلة في أفعاله تعالى، وإبطال القول بالصلاح والأصلح واللطف ومعنى التوفيق والخذلان والشرح والختم والطبع، ومعنى النعمة والشكر ومعنى الآجال والأرزاق"، وهنا يبدو الموضوع متصلا بأفعال الشعور الداخلية ومدى حرية الإنسان فيها. ويدخل الموضوع أحيانا في مسألة "تكليف ما لا يطاق" كما هو الحال في "معالم أصول الدين" الرازي "606هـ". ونظرا لغياب الوجوب العقلي عند الأشاعرة، فقد اختفى موضوع "العقل والنقل" من بعض مصنفاتهم مثل "أصول الدين" للبغدادي "429هـ" و"بحر الكلام" لأبي المعين النسفي "508هـ" واستمر الحال كذلك في كتب العقائد الإيمانية المتأخرة التي اكتفت بسرد ما يجب على المؤمن اعتقاده في الله والرسول من حيث الوجوب والاستحالة والإمكان. ولكن لحسن الحظ عاد الموضوع للظهور من جديد في بعض الكتابات الإصلاحية في أصول الدين وعلى رأسها "رسالة التوحيد" للإمام محمد عبده "1323هـ" والعودة إلى الموقف الاعتزالي في العدل وإن ظل أشعريا في التوحيد، والقول بالحسن والقبح العقليين.
وقد تناول علماء أصول الدين موضوع النقل والعقل في مسألة الحسن والقبح أو التحسين والتقبيح. وعرضوا لأربع مسائل: الأولى، هل الحسن والقبح في ذاتهما يدركهما العقل؛ أم لأن الله أمرنا بالحسن ونهانا عن القبيح ولا سبيل إلى معرفة ذلك إلا من الشرع؟ والثانية، هل يجب على الله شيء بالعقل أم أن الله لا يجب عليه شيء؟ والثالثة، هل يمكن تعليل أفعال الله وتعليقها بالغاية أم أن أفعال الله لا تتعلل بالأغراض؟ والرابعة، هل الغاية من التكليف الاستحقاق أم أن التكليف لا غاية له؟(1/105)
أولا: الموضوعية والذاتية
هل الحسن والقبح صفات موضوعية للأفعال، مستقلة، يمكن للعقل إدراكهما أم أنهما صفتان ذاتيتان خاضعتان للإرادة الإلهية ولا يمكن إدراكهما إلا بالسمع؟ يرى الأشاعرة أنه لا قبيح بالنسبة إلى ذات الله، فإنه مالك الأمور على الإطلاق، يفعل ما يشاء، ويختار، لا علة لصنعه ولا غاية لفعله. والقبيح بالنسبة لنا ما نهي عنه شرعا، والحسن ما أمرنا به شرعا.
ويقدم الرازي في "المحصل" حججا ثلاثا: الأولى أنه لو كان قبح تكليف ما لا يطاق قبيحا لما فعله الله. ولكن الله فعله بالفعل بدليل تكليف الكافر بالإيمان وهو يعلم أنه لا يؤمن، وهو جمع بين الضدين، محال على الله. والحقيقة أن هذه الحجة تقوم على افتراض أن الله هو خالق الأفعال وأن الإنسان ليس مسئولا عنها، فالله لم يكلف الكافر بالإيمان بل إنه عرض الإيمان والكفر على الإنسان، وهو قادر على التمييز بينهما واختيار الإيمان دون الكفر. فبدلا من إثبات التناقض في الإرادة الإلهية وهو تكليف الكافر بالإيمان، وبدلا من إثبات المحال وهو الجمع بين النقيضين، فإنه يمكن رفض القضية من أساسها والرجوع إلى حرية الأفعال ومسئولية الإنسان عنها. الثانية أنه لو قبح تكليف ما لا يطاق لقبح من الله والإنسان، وقبحه من الله باطل؛ لأنه لا يقبح من الله شيء، وقبحه من الإنسان باطل؛ لأن الإنسان مضطر لأفعاله، وبالتالي لم يقبح تكليف ما لا يطاق. والحقيقة أن هذه النتيجة قائمة على خطأ المقدمة الثانية من أن الإنسان مضطر لأفعاله، فالإنسان حر ومختار ومسئول عن أفعاله. كما تخطئ المقدمة الأولى القائلة بأنه لا يقبح من الله شيء، وكأن الإرادة الإلهية عشوائية غير عاقلة، هوائية متقلبة في حين أنها إرادة عاقلة مريدة. والثالثة أنه لا يقال إن الكذب قبيح في حالة إنجاء الظالم؛ لأنه قد لا يموت الأثر المطلوب؛ ولأنه لو تم يكون فيه(1/106)
شيء من الصدق وهو الرغبة في الانحاء. والحقيقة أن ذلك يدل على إمكانية الحكم على الأفعال بالحسن والقبح بصرف النظر عن إمكانية تحقيق ذلك الحكم وإحداث أثره في الحياة العملية.
وقد حاول الرازي الخروج من المأزق الأشعري والاقتراب من المعتزلة إلى المنتصف بإثبات الحسن والقبح في الشاهد بمقتضى العقل وعدم إثباتهما في حق الله. فكل شيء يكون حسنا أو قبيحا لغرض والله منزه عن الأغراض، أما البديهة والفطرة فيؤكدان وجود الحسن والقبيح في ذاتهما في الشاهد. ويكون السؤال الآن: ولماذا لا يقاس الغائب على الشاهد، وهو قياس أصولي استعمله المسلمون في علم الأصول؟ ويصيغ الرازي حجته بطريقة أكثر وضوحا بتعريف الحسن والقبح بجلب المنافع ودفع المضار، فإذا كان المراد بالحسن والقبح ما يكون صفة كمال كعلم أو صفة نقص كجهل أو يكون ملائما لطبع أو منافرا له فلا خلاف في كونهما عقليين. أما إن كان يتعلق به في الأجل ثواب أو عقاب فالعقل لا مجال له فيه، خاصة وقد بان بأن العبد غير مختار في فعله ولا مستبد بتحصيله! فلماذا يكون الحسن والقبح عقليين في الدنيا فقط وكأن الآخرة لها قانونها الخاص الذي لا يمكن للعقل تصوره؟ إن الشرع يمكن معرفة حسنه بالعقل، وما لا يعرف حسنه بالعقل ويكون تكليفا فإنه يحيل الإنسان إلى مجرد آلة طيعة لا عقل لها ولا إرادة.
وقد حاول الغزالي أيضا إيجاد مخرج من المأزق الأشعري عن طريق تحليل ألفاظ الواجب، والحسن، والقبيح، والعبث، والسفه والحكمة؛ لأنها ألفاظ مشتركة لها معان متباينة ويستعملها المتكلمون في غير مواضعها، مما يسبب الخلاف والشقاق. فالواجب له معان ثلاثة: الأول، هو الفعل الذي يتم لا محالة، وهو الفعل القديم، الفعل الذي لا يترجح فعله على تركه مثل أفعال الله وهو ليس المقصود. الثاني، الواجب بمعنى دفع الضرر(1/107)
وجلب المصلحة وهو الواجب المادي العملي الحادث وهو المقصود عند الأشاعرة. الثالث وهو الواجب الذي يؤدي عدم وقوعه إلى أمر محال، وهو المعنى العقلي المجرد الذي تقصده المعتزلة. أما الحسن فله أيضا معان ثلاثة: الأول موافقة الغرض، والثاني منافرة الغرض والثالث ما ليس في فعله ولا في تركه غرض، وهو العبث. وبالتالي يدافع الغزالي عن المعنى الأشعري للحسن والقبح وهو ملاءمة الغرض ومنافرته، وهو معنى حسي ذاتي مادي قد يتغير من فرد إلى فرد ومن جماعة إلى جماعة، ومن عصر إلى عصر. ويكون السؤال كيف يمكن التوفيق بين هذا المعنى النسبي المتغير والمعنى المطلق الذي تفرضه الإرادة الإلهية المطلقة المستقلة عن الظروف والأحوال؟ ولا يرى الغزالي أي حرج في الاعتراف بهذه النسبية الأشعرية قائلا: "فبهذا يتبين على القطع أن الحسن والقبيح عبارتان عن الخلق كلهم عن أمرين إضافيين يختلفان بالإضافات لا عن صفات الذوات التي لا تختلف بالإضافة".
ويحذر الغزالي من الوقوع في هذه النسبية عن طريق التنبيه على أغلاط ثلاثة من استعمال هذه الألفاظ. الأولى، نسبية الحسن والقبيح، فالموافقة والمخالفة للغرض يكونان بالنسبة إلى الفرد، ويختلفان من فرد لآخر، في حين أنه يمكن التغلب على هذه النسبية عن طريق الإرادة الإلهية. ولكن ما يحدث في الواقع هو أن كل فرد يتمثل الإمامة الإلهية ويجعلها تعبيرا عن مصلحته الخاصة وبالتالي فلن يتم تجاوز النسبية، بل ستتأكد خاصة بعد أن تجد المصلحة الشخصية تبريرا لها من الإرادة الإلهية. والثانية الذهول عن الحالة النادرة والحكم بالحسن والقبح بأغلبية الحالات وكأن الغزالي يرفض مقياس مصالح الأغلبية وهو المقياس الشرعي الوحيد الممكن؛ لأن ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن. والثالثة هو كون الأخص مقرونا بالأعم في حين أن الأعم لا يلزم أن يكون مقرونا بالأخص مما يجعل الوهم يسبق باستمرار إلى العكس. وهنا يهدم الغزالي أي واجب عقلي كلية ويعتبر(1/108)
العقل مجرد وهم ولا يقدر عليه إلا الأولياء فيقول: "وأما اتباع العقل الصرف فلا يقوى عليه إلا أولياء الله تعالى الذين أراهم الله الحق حقا وقواهم على اتباعه". والحقيقة أن العقل مشاع بين الجميع، ونور فطري يشارك فيه كل الناس.
وقد اتفق جميع المعتزلة على أن أصول المعرفة وشكر النعمة واجب قبل ورود السمع والحسن والقبيح يجب معرفتهما بالعقل واعتناق الحسن واجتناب القبيح واجب كذلك. وقد ذهب أبو الهذيل العلاف "226هـ" أن على الإنسان أن يعرف الله بالدليل قبل ورود السمع من غير خاطر وإن قصر في المعرفة استوجب العقوبة أبدا، فهو يعلم حسن الحسن وقبح القبيح فيجب عليه الإقدام على الحسن والإعراض عن القبيح. أما النظام فإنه يرى أن الإنسان إذا كان متمكنا قادرا على النظر والاستدلال فإن عليه أن يحصل على معرفة الله بالعقل. ولكن لا بد من خاطرين: أحدهما يأمر بالإقدام والآخر بالكف ليصح الاختيار. أما بشر بن المعتمر "260هـ" فقال: إن المفكر قبل ورود السمع يعلم الله بالنظر والاستدلال ولكن دون ما حاجة إلى الخاطرين. وقد قال جعفر بن حرب "234هـ" وجعفر بن مبشر "236هـ" بأن العقل يوجب معرفة الله بجميع أحكامه وصفاته قبل ورود الشرع. فإن لم يعرفه وجبت عقوبته وخلوده في النار بالعقل. أما تمامة بن الأشرس "213هـ" فقد أعذر الكفار؛ لأن المعارف ضرورية ومن لم يعرف الله كان معذورا. أما أبو علي الجبائي "295هـ" وابنه أبو هاشم "321هـ" فقد أثبتا شريعة العقل إلى جانب الشريعة النبوية، فالمعرفة وشكر المنعم ومعرفة الحسن والقبح كلها واجبات عقلية.
فإثبات الحسن والقبح صفتان للأفعال يجعلانهما موضوعين مستقلين عن الإرادات والأهواء والمصالح ويقدر العقل على إدراكهما. وبالتالي يكون الموقف الاعتزالي أقرب إلى شمول الإرادة الإلهية وأبعد عن الوقوع في النسبية والتغير. وكأن المدافع عن حق الله ينتهي به إلى تدمير موضوعية العالم في حين أن المدافع عن وضعية العالم ينتهي به الأمر إلى إثبات صدق الله.(1/109)
ثانيا: الواجبات العقلية
يرى الأشاعرة أنه لا يجب على الله شيء إذ لا حاكم عليه؛ ولأنه لو وجب عليه شيء فإن لم يستوجب الندم بتركه لم يتحقق الوجوب وإن استوجب كان ناقصا لذاته مستكملا بفعله وهو محال. ويلخص الإمام الجويني في "لمع الأدلة" موقف الأشاعرة بقوله: "لا يجب على الله تعالى شيء، وما أنعم به هو فضل منه وما عاقب به فهو عدل منه. ويجب على العبد ما يوجبه الله تعالى عليه -ولا يستفاد بمجرد العقول وجوب شيء بل جميع الأحكام المتعلقة بالتكليف متلقاة من قضية الشرع وموجب السمع". والحقيقة أن الوجوب ليس نقصا بل الوجوب كمال، فإذا كان الوجوب ذاتيا فإنه يكون تأكيدا للحرية. والله لا يمثل إرادة عشوائية بل إرادة عاقلة مريدة. القول بالوجوب العقلي إذن لا ينال من كمال الله أو حرية إرادته.
وقد قدم الرازي في "معالم أصول الدين" ثلاث حجج للبرهنة على أنه لا يمكن إثبات جلب المنافع ودفع المضار في حق الله. الأولى أن الفعل الصادر عن الله إما أن يكون وجوده وعدمه على السوية أو لا يكون الأمر كذلك. والأول يبطل الحسن والقبح؛ لأنه لا مجال للترجيح والثاني لزم كون الله ناقصا بذاته لوجود المرجح وهو محال على الله. والحقيقة أن ترجيح الحسن على القبيح ليس نقصا في الله بل تحقيق الاختيار الإلهي لمصلحة الإنسان، وأن الغاية من الأفعال ليست إثبات تنزيه الله، فالله غني عن العالمين، ولكن تحقيق المصلحة الإنسانية وهو أساس الشرع. فالأشاعرة يدافعون عن حق الله على حساب حقوق الإنسان والله ليس في حاجة إلى(1/110)
دفاع بل الإنسان الذي في حاجة إلى ذلك. الثانية أن العالم محدث، المحدث مختص بوقت معين، فإن تساوت الأوقات بطل تعليق الحسن والقبح بفعل معين، وإن كان لخاصية فاعلة بطل كون الله محدثا. والحقيقة أن هناك تمييزا بين الإرادة الإلهية في ذاتها وبين المرادات الإلهية عند التحقق فإذا كانت الأولى خارج الزمان والمكان لمقتضيات التنزيه، فإن الثانية تتحقق في العالم الحادث ولا تنال من قدم الصفات كحق إلهي. فتحقيق المرادات الإلهية في العالم لا يبطل الحسن والقبح بل يحقق فاعلية الله في العالم. أما وجود المخصص أي: المرجح للحسن على القبح، فإن ذلك ليس نقصا بل تأكيدا للحرية الإنسانية والقدرة على الاختيار. والثالثة أن الله علم كفر الكفار ومحال أن يأمرهم بالإيمان والطاعة، والحقيقة أن علم الله كفر الكفار هو علم بنتيجة حرية الأفعال الإنسانية ولا يتدخل في سيرها. كما أنه لا يجوز ضرب الصفات الإلهية بعضها ببعض مثل العلم والقدرة ثم التضحية بإحداها من أجل إثبات اتفاقها فيما بينها ثم إثبات كليهما والتضحية بحرية الأفعال الإنسانية.
ويحدد الغزالي موقف الأشاعرة في القطب الثالث من "الاقتصاد في الاعتقاد" بعنوان: "في أفعال الله تعالى وجملة أفعال جائزة لا يوصف شيء منها بالوجوب". ويحدد الغزالي هذه الأفعال الجائزة التي لا وجوب فيها في سبعة: يجوز لله أن لا يكلف عباده، ويجوز أن يكلفهم ما لا يطاق، ويجوز منه إيلام العباد بغير عوض وجناية، ولا يجب رعاية الأصلح لهم، ولا يجب عليه ثواب الطاعة وعقاب المعصية، ولا يجب على العبد شيء بالعقل بل بالشرع مثل معرفة الله وشكره، وأخيرا لا يجب على الله بعث الرسل وأنه لو بعث لم يكن قبيحا ولا محال بل أمكن إظهار صدقهم بالمعجزة.
ثم يفصل الغزالي هذه الدعاوي السبع ويدعمها بالحجج والبراهين على النحو الآتي:(1/111)
الأولى، يجوز على الله أن لا يخلق الخلق، وإذا خلق فلم يكن ذلك واجبا عليه، وإذا خلقهم فله ألا يكلفهم، وإذا كلفهم فلم يكن ذلك واجبا عليه. ويعتمد الغزالي في إثبات هذه الدعوى على حجة أنه من المحال إثبات النفع والضرر بالنسبة لله. والحقيقة أن النفع والضرر لا يكونان بالنسبة لله، فالله منزه عن كل شيء ولكن بالنسبة للإنسان. وأن افتراض ألا يخلق الله الخلق يعني أن خلق الخلق كان خطأ ووجودا لا مبرر له، وأن خلق الخلق بلا تكليف معناه إنكار الرسالة وخلافة الإنسان لله في الأرض. إن الخلق ذاته نعمة من نعم الله حيث ينعم الإنسان بالدنيا ويعمل فيها ويحقق ذاته ونشاطه ويخلد في الدنيا بعمله وذكراه وفي الآخرة باستحقاقه لذلك قالت طائفة من المعتزلة: إنه يجب عليه الخلق والتكليف بعد الخلق لا بمعنى الوجوب على الله ولكن بمعنى ضرورة الوجود الإنساني وتحقق الغاية منه.
الثانية، يجوز على الله تكليف العباد ما يطيقونه وما لا يطيقونه. فقد كلف الله أبا جهل بالإيمان وهو يعلم أنه سيكفر. فشرط التكليف عند الأشاعرة هو فهم الأمر وليس إمكان تحقيقه. والحقيقة أن تكليف أبي جهل بالإيمان مثل تكليف كل المؤمنين ثم كفر أبو جهل؛ لأنه لم يعمل عقله ولم يمارس حريته. لذلك أنكر المعتزلة تكليف ما لا يطاق؛ لأنه لا فائدة منه؛ ولأنه عبث؛ ولأن العبث على الله محال.
الثالثة، يجوز على الله إيلام الحيوان البريء عن الجنايات ولا يلزم عليه ثوابا، فالله عند الأشاعرة مالك كل شيء، حر التصرف، يفعل ما يشاء، إن شاء ظلم وإن شاء عدل. وقد أنكرت المعتزلة ذلك؛ لأنه قبيح. والحقيقة أنه إذا كان الفكر الإلهي كله يقوم على قياس الغائب على الشاهد فإن الإيلام بغير ذنب أو عوض في هذا العالم قبيح، ولما كان الله منزها عن القبائح فإنه أيضا لا يفعل الإيلام بغير ذنب أو عوض. ولا عجب أن يكون لكل برغوث عوض كما يتهكم الغزالي.(1/112)
الرابعة، لا يجب على الله، رعاية الأصلح لعباده بل يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. ويثبت الأشاعرة ذلك بالنقاش الذي دار بين الأشعري وبين الجبائي حول ثلاثة أطفال مات أحدهم وهو مسلم في الصبا، وبلغ الآخر وأسلم ومات مسلما بالغا، وبلغ الثالث وكفر ومات كافرا. فالعدل يقتضي أن يخلد الكافر البالغ في النار وأن يكون البالغ المسلم في الجنة في رتبة فوق رتبة الصبي؛ لأن البالغ قد بلغ وأطاع الله عكس الصبي الذي لم يبلغ. فإذا سأل هذا الصبي الله يوم القيام لماذا أمتني وأجاب الله بأنه كان يعلم بأن الصبي سيعصي فكان الأصلح له أن يموت، هنا يصيح الكافر: أو لم يكن الأصلح لي أن أموت قبل أن أكفر؟ لا يجد المعتزلي جوابا طبقا لقانون الصلاح والأصلح. والحقيقة أن هذا القانون إنساني خالص لا يقاس فيه الشاهد على الغائب بل الغائب على الشاهد فإذا كان هذا القانون غير مقصور في الغائب ولكنه قائم في الشاهد.
الخامسة، لا يجب على الله الثواب، إن كلف العباد وأطاعوه، إن شاء أثابهم وإن شاء عاقبهم، وإن شاء أعدمهم ولم يحشرهم. لا يبالي لو غفر لجميع الكافرين وعاقب جميع المؤمنين. لا يستحيل ذلك في نفسه، ولا يناقض صفاته الإلهية. التكليف تصرف في عبيده ومماليكه. أما الثواب ففعل آخر على سبيل الابتداء فلا معنى في أفعاله للحسن أو للقبح. والحقيقة أن هذا أيضا ضرب لصفات الله بعضها بالبعض الآخر، فالقدرة لا تعارض العدل. وافتراض القدرة على الظلم هو ضرب للصفات بعضها ببعض ولا يستطيع الإنسان أمامها إلا أن يثبتهما معا فيوقع نفسه في التناقض كما يفعل الأشاعرة أو ينفيهما معا فينتهي إلى نفي الصفات جميعها أو إلى إثبات واحدة منها على حساب الأخرى كما يفعل المعتزلة من أجل إفساح المجال لحقوق الإنسان في العدل والحرية. فالتكليف مع القدرة على الثواب ثم ترك الثواب قبيح عند المعتزلة. وكل كافر يجب على الله أن يعاقبه ويخلده في النار، وكل من ارتكب كبيرة قبل التوبة يكون في النار. كما يجب الشكر(1/113)
على العباد ثم يجب الثواب على الشكر، وأن يعيش الإنسان في عالم معقول متسق خير من أن يعيش في تناقض غير مفهوم.
السادسة، لو لم يرد الشرع لما كان يجب على العباد معرفة الله وشكر نعمته؛ لأنه لو وجب ذلك عليهم لكان لفائدة والفوائد لا تجوز على الله وإن لم يكن لفائدة لكان عبثا، والعبث محال. والحقيقة أن ذلك إلغاء للفطرة البشرية ولبداهة العقل بعد استقلال الإنسانية عقلا وإرادة وظهور وعيها بعد تربية الوحي لها على فترات حتى اكتملت. وبالتالي انتهى دور الوحي في التاريخ بظهور الوعي الإنساني مكتملا ومستقلا عقلا وإرادة. ومعرفة الله وشكره لا تحقق فائدة لله، فالله غني عن العالمين بل تحقق فائدة للإنسان، فمعرفة الله معرفة المبادئ العامة والشاملة ومعرفة التنزيه وشكر الله تعني الثقة بالقدرات البشرية والعمل بها. لذلك قال المعتزلة: إن العقل بمجرده موجب لمعرفة الله وشكره حتى قبل ورود السمع. فإذا ورد السمع فإنه يكون لطفا بالله للعباد. فورد التكاليف ألطاف من الباري أرسلها إلى العباد وبتوسط الأنبياء امتحانا ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من يحيى عن بينة.
السابعة، جواز بعثة الأنبياء ليس بمحال كما تقول البراهمة ولا بواجب كما تقول المعتزلة. والحقيقة أن موقف المعتزلة قريب من موقف البراهمة بالإضافة لي قولهم باللطف. فالبراهمة تقدم حججا ثلاثا لإثبات اكتفاء العقل. الأولى أنه لو بعث النبي بما تقتضيه العقول فالعقول غنية عنه، وإن بعث بما يخالف العقول استحال التصديق. الثانية أن صدق النبي بالمعجزة ويصعب التفرقة بين المعجزة والسحر. الثالثة أنه حتى لو عرف صدق المعجزة فإن المعجزة ليست طريقا لصدق النبي. فإثبات النبوة لطفا عند المعتزلة أفضل من جوازها بلا غاية أو غرض عند الأشاعرة.
أما المعتزلة فقد أثبتوا الواجبات العقلية مثل: معرفة الله وشكر المنعم،(1/114)
وأنه لا يفعل القبيح، واللطف، والثواب على الطاعة، والعقاب على الكبائر قبل التوبة، وفعل الصلاح والأصلح. وقد اختلف المعتزلة في عددها ولكن يمكن إجمالها أيضا في سبعة:
الأولى معرفة الله بالنظر هو أول الواجبات. ولما كان الله لا يعرف ضرورة ولا بالمشاهدة فيجب أن يعرف بالتفكير والنظر على ما يقول القاضي عبد الجبار في "شرح الأصول الخمسة". معرفة الله من الواجبات المضيقة مثل: الصلاة التي لا يسع الإخلال بها ولا يقوم غيرها مقامها؛ لأنه مما يقبح تركها. وقد تقرر في العقل وجوب التحرز من القبيح. فإذا كان لا يمكن التحرز من القبيح إلا بالمعرفة وجب أن يقضي وجوبها.
الثانية، شكر المنعم، فأول نعم الله هو خلق الإنسان حيا لنفعه لا لمضرته. وكل منعم وجب أن يستحق الشكر على نعمه لما كان قصده الإحسان. فالشكر اعتراف بنعمة المنعم، وهو شكر باللسان وبالقلب وبالفعل.
الثالثة، أن الله لا يفعل القبيح عقلا لعلمه بقبحه واستغنائه عنه قياسا على الشاهد. يرى النظام أنه إن كان القبح صفة ذاتية للقبيح وهو المانع من الإضافة إليه فعلا ففي نفي تجويز وقوع القبيح منه قبح أيضا فيجب أن يكون مانعا. ففاعل العدل لا يوصف بالقدرة على الظلم. إن الله لا يقدر على ظلم العقلاء بل على ظلم الأطفال والمجانين. ووافقه في ذلك جعفر بن مبشر وجعفر بن حرب وأبو علي الإسواري والجاحظ في حين أن أبا الهذيل وأكثر المعتزلة ولا سيما البصريين والقاضي عبد الجبار يرون أنه تعالى موصوف بالقدرة على ما لو فعله، لكان قبيحا دفاعا عن القدرة من حيث المبدأ دون وقوعها بالفعل.
الرابعة، اللطف وهو أن يفعل الله ما يقرب العبد إلى الطاعة. ويعرفه القاضي عبد الجبار بأنه هو كل ما يختار عنده المرء الواجب(1/115)
ويتجنب القبيح أو ما يكون عنده أقرب إما إلى اختيار الحسن أو إلى ترك القبيح. وهو ما يسميه الأشاعرة توفيقا أو عصمة. وقد أنكره المجبرة كما أنكره من المعتزلة بشر بن المعتمر وأصحابه من البغداديين؛ وذلك لأنه لو وجب على الله لكان لا يوجد في العالم عاص وهو خلاف الواقع ويناقض حرية الأفعال. لذلك يميز القاضي عبد الجبار بين أزمنة اللطف الثلاثة. إما أن يكون متقدما للتكليف أو مقارنا له أو متأخرا. وينفي تقدمه ومقارنته للتكليف ويثبت تأخره حتى يفسح المجال لخلق الأفعال. وقد رفضت الأشاعرة اللطف بحجة أن هذا التقريب يمكن أن يتم ابتداء وبالتالي يكون الوسط عبثا. والحقيقة أن اللطف لا يتم ابتداء حتى يقوم العبد بجهده أولا ثم يلحقه اللطف ثانيا. وقد عرف الرازي اللطف بأنه هو الذي يفيد ترجيح الداعية بحيث لا ينتهي إلى حد الإلجاء، وهو ممكن في الوجود نفسه، والله قادر على كل الممكنات دون ما حاجة إلى داعية أو إلى واسطة. يثبت الرازي اللطف من حيث المبدأ لا من حيث الواقع وبالتالي كان أقرب الأشاعرة إلى المعتزلة.
الخامسة، الثواب على الطاعة، فكل فعل شاق عليه ثواب، ولا تعارض بين أن يكون الغرض من التكليف شكر المنعم وبين الثواب على المشاق. وقد اعترضت الأشاعرة على ذلك بأن الأعمال لا تكافئ النعم السابقة فكيف تقتضي مكافأة؟ والحقيقة أن ذلك ليس بكثير على الله، فالله جواد كريم.
السادسة، العقاب على الكبائر قبل التوبة عند البغداديين؛ وذلك لأن الله قد أوجب الواجبات ونهى عن المقبحات وعرف الإنسان وجه التحسين والتقبيح لكليها وبالتالي خضع للعقاب. وقد أضاف أبو هاشم الجبائي أن الله خلق في الإنسان شهوة القبيح ونفرة الحسن فلا بد أن يكون في مقابل ذلك ما يزجر الإنسان عن المقبحات وهو العقاب.(1/116)
السابعة، أن الله يفعل الأصلح لعباده في الدنيا. وقد اختلفت مذاهب البغداديين والبصريين فيه. فقد أوجبه البغداديون على الله ولا يجوز في حكمته تبقية شيء من الصلاح للعباد في الآجل أو العاجل بل عليه فعل أقصى ما يقدر عليه لصلاح العباد. وابتداء الخلق واجب على الله، وإذا كلفهم وجب إكمال عقولهم. وكل ما يحدث في العالم فهو الأصلح لهم. ولم يسر البصريون إلى هذا الحد بالرغم من إثباتهم الواجبات العقلية. واتفق كلاهما على وجوب فعل الأصلح في الدين ثم اختلفوا في وجوب فعل الأصلح في الدنيا. وقد اعترض الأشاعرة بأن الأصلح للكافر الفقير بأن لا يخلق على ما هو معروف في قصة الأطفال الثلاثة، ومع ذلك فالخلق نعمة يتم شكر الله عليها ولا تعادلها نعمة. وقد صاغ النظام نظرية المعتزلة في الصلاح والأصلح بقوله: إن الله يقدر على فعل ما يعلم أن فيه صلاحا لعباده ولا يقدر على أن يفعل لعباده في الدنيا ما ليس في صلاحهم. أما في أمور الآخرة فإن الباري لا يوصف بالقدرة على أن يزيد في عقاب أهل النار ولا أن ينقص منه أو من نعيم أهل الجنة أو يخرج أحدا منها.(1/117)
ثالثا: الغائبة والغوض
...
ثالثا: الغائية والغرض
يرى الأشاعرة أن أفعال الله لا تتعلل بالأغراض ولا تهدف إلى غاية. ويعتمدون في ذلك على حجج ثلاث: الأولى أن الله لو فعل لغرض لكان ناقصا لذاته مستكملا بغيره وهو محال. والحقيقة أن الغائية لا تمثل نقصا بل كانت تعادل الله عند القدماء. وهي دليل على الإرادة العاقلة والقدرة الواعية. والغائية محور الوحي. بل إن الوحي كله قصد الله. وغائية الوحي بالنسبة للإنسان تحقيق مصلحته. ولا يمكن تصور الحياة الإلهية حياة تتعادل فيها المرجحات، وتنتفي فيها الغائية. الثانية أن تحصيل الأغراض ابتداء مقدور الله وجعلها غايات عبث، وهو ينافي الغرض. والحقيقة أنه مما لا شك فيه أن تحقيق أفعال الله ابتداء في مقدور الله ولكن الغاية لا تعني بالضرورة وجودها في النهاية بل في البداية، فالغاية هي الباعث على الفعل. وقد جعل كثير من الفلاسفة العلة الغائية هي العلة الفاعلية وتعليل الأحكام الشرعية قائم على الغاية التي درسها الأصوليون وحددوا ألفاظها بلام التعليل، وكي، وحتى، وأن.. إلى آخر ما هو معروف في اللغة العربية. الثالثة، أن الغرض من اختصاص الحادثة المعينة بوقتها المعين إن وجد قبله لزم أن يكون الحادث حينئذ وأن لا يكون الغرض غرض هذا الحادث وإن وجد معه عاد الكلام في اختصاصه به ولزم التسلسل أو التنزيه عن الغرض. والحقيقة أن الغائية داخلة في وجود الحوادث، وسارية في نسيج الوجود كإمكانية واستعداد مثل كون الشجرة في البذرة ولا يحتاج ذلك إلى تسلسل أو إلى انكار الغرض. وقد فصل محمد إقبال في الغائية وجعلها مصدر الإبداع فالحياة تتخلق بالمقاصد، وتتولد بالغايات.
أما المعتزلة فترى أن أفعال الله كلها معللة برعاية مصالح العباد؛ لأن ما لا غرض فيه عبث وهو على الحكيم محال. والغائية تجربة إنسانية لا يمكن نفيها بحجة منطقية كما تفعل الأشاعرة عندما تقول: العبث إن كان هو الخالي عن الغرض فهو عين الدعوى وإن كان غيره فلا بد من تصويره أولا وتقريره ثانيا. وقد اتفقت المعتزلة على أن الحكيم لا يفعل إلا الصلاح والخير ويجب من حيث الحكمة رعاية مصالح العباد. فالفعل الخالي من الغرض عبث وقبح يجب تنزيه الله عنه لكونه عالما بقبحه مستغنيا عن غيره. وقد ذهب أكثر الماتريدية ومنهم الصدر الشريعة إلى تعليل أفعاله تعالى بالأغراض. كما ذهب التفتازاني إلى أن تعليل بعض أفعاله معلوم قطعا وعليه مبني القياس.
والعجيب أن الأشاعرة وهم يتهمون المعتزلة بالتنزيه ويفضلون عليه الوقوع في التشبيه، ينكرون تعليل أفعال الله بالغائية والغرض حرصا على التنزيه فينتهون إلى إبطال الحكمة. كما يؤدي إنكار الغائية إلى الفصل التام(1/117)
بين الخالق والمخلوق ويجعل الله فعالا لما يريد دون سبب أو غاية أو باعث وهو ما يعادل الحرية المطلقة بلا باعث أو سبب، وهي حرية العبث. في حين أن الغائية هي محور الفكر الأصولي في إقامة الشرع على أساس المصلحة. إن إنكار العلية إنكار لأساس الشرع وسبب وجود الوحي وإرسال الرسل كما هو واضح في الآيات القرآنية: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [51: 56] أو {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [21: 107] . إن نفي التعليل هو هدم للقوانين الإنسانية وترك للعالم بلا إدراك، وللواقع بلا أساس نظري. الغائية أساس الوجود في الإنسان في الطبيعة. واعتبار الطبيعة مجرد تعبير عن الجود والكرم من وجود مطلق مشخص هو إلغاء لوجود الطبيعة واستغلالها. فالغائية في الطبيعة لا تعني حاجة طرف وكرم طرف آخر. فالطبيعة مستقلة عن أطرافها، وليست علاقات الأطراف علاقة احتياج وكرم على ما تتصور المجتمعات التي يقوم سلوك الناس فيها على التملق والمداهنة أو السؤال والاستجداء. ولا تتحقق الغائية في الطبيعة بفعل قدرة مشخصة كما لا تتحقق آليا دون قصد وروية بل تتحقق بفعل الإنسان. وإذا لم تتحقق فقد تخلى الإنسان عن رسالته، وعن خلافته لله في الأرض، ويكون الإنسان هو المسئول لا الغائية. لو تخلى الإنسان عنها اندثر في التاريخ وأتى إنسان غيره أو جماعة أخرى تحقق الرسالة وتعمل في التاريخ. والصلاح باعتباره غائية لا يعني النفع المادي بقدر ما يعني إبقاء الوجود والحفاظ على الحياة الإنسانية فيه.
وقد حاول بعض الأشاعرة الخروج من هذا المأزق عن طريق إثبات الحكمة في الأفعال الإلهية دون إثبات العلة والغائية. فأفعال الحكيم كلها محكمة متقنة تقع على حسب علمه كما يقول الشهرستاني "548هـ" في "نهاية الإقدام" ويؤيده في ذلك ابن حزم في "الفصل" والآمدي في "غاية المرام".(1/119)
أما المعتزلة فإنهم يرون أن القبيح قبيح في نفسه، وقبحه يكون لذاته أو لصفة قائمة به، فيقبح من الله كما يقبح من الإنسان، وكذلك الحسن. ومنهما ما يستقل العقل بإدراكه ضرورة مثل إنقاذ الغرقى وقبح الظلم أو استدلالا مثل قبح الصدق الضار وحسن الكذب النافع. ولذلك يحكم بهما المتدين. وغيره مثل البراهمة. ومنهما ما ليس كذلك كحسن صوم آخر رضمان وقبح صوم أول شوال. وفي هذه الحالة الأخيرة يكون النقل مرشدا ومخبرا ودليلا. فالعلم الضروري حاصل بقبح الظلم والكذب ولا يجوز إسناده إلى الشرع لحصوله لمن لا يقول بالشرع.
فالحكيم لا يفعل فعلا إلا لحكمة وغرض، والفعل من غير غرض سفه وعبث والحكيم من يفعل أحد أمرين إما ينتفع هو نفسه أو أن ينفع غيره. ولما تقدس الله عن الانتفاع تعين أنه إنما يفعل لينفع غيره وبالتالي لا يخلو فعله من صلاح. كما قام الدليل على أن الرب حكيم، والحكيم من تكون أفعاله على إحكام وإتقان فلا يفعل فعلا جزافا بل لا بد وأن ينحو غرضا، ويقصد صلاحا، ويريد خيرا. والحكمة في خلق العالم ظاهرة لمن تأملها بالفعل ومنصوص عليها لمن طلبها في السمع. شهد العقل بأن الحكمة في خلق العالم إظهار آيات ليستدل بها على وحدانيته ويتوصل بها إلى معرفته فيعرف ويعبد ويستوجب به الثواب الأبدي.
ومع إجماع المعتزلة على القول بالعلة والغاية والغرض إلا أنهم اختلفوا فيما بينهم في تحديدها. فقد قال أبو الهذيل العلاف: إن الله خلق الخلق لعلة والعلة هو الخلق، والخلق هو الإرادة والقول، وإن الله خلق الخلق لمنفعتهم ولولا ذلك كان لا وجه لخلقهم؛ لأن من خلق ما لا ينتفع به ولا يزيل بخلقه ضررا، ولا ينتفع به غيره، ولا يضر به غيره فهو عابث. وقال النظام: إن الله خلق الخلق لعلة تكون هي المنفعة، والعلة هي الغرض في خلقه لهم وما أراد من منفعتهم. وقال معمر: لقد خلق الله الخلق لعلة،(1/120)
ونظرا لما تنطوي عليه الغائية من صلاح للعباد فقد أبرزها المصلحون الدينيون وفصلها الإمام محمد عبده في "رسالة التوحيد" يبدأ الإمام بإحالة الغائية إلى علم الله وإرادته المختارة التي لا يجب عليها شيء. ثم رفض الموقفين معا إنكار العلة والغاية والغرض عند أهل السنة وإثباتها عند المعتزلة قائلا: "نريد تلك المقالات المضطربة في أنه يجب على الله رعاية المصلحة في أفعاله وتحقيق وعيده فيمن تعدى حدوده من عبيده وما يتلو ذلك من وقوع أعماله تحت العلل والأغراض. فقد بالغ قوم في الإيجاب حتى ظن الناظر في مزاعمهم أنهم عدوه واحدا من المكلفين يفرض عليه أن يجهد للقيام بما عليه من الحقوق وتأدية ما لزمه من الواجبات. وغلا آخرون في نفي التعليل عن أفعاله حتى خيل للممعن في مقالاتهم أنهم لا يرضونه إلا قلبا يبرم اليوم ما نقضه بالأمس، ويفصل غدا ما أخبر بنقيضه اليوم أو غافلا لا يشعر بما يستتبعه عمله.. وهو أحكم الحاكمين، وأصدق القائلين. جبروت الله وطهارة دينه أعلى وأرفع من هذا كله". وينتهي محمد عبده إلى إثبات أن أفعال الله لا تخلو من حكمة. فحكمة كل عمل ما يترتب عليه ما يحفظ نظاما أو يرفع فسادا خاصا أو عاما. فصنع الله الذي أتقن كل شيء وأحسن خلقه مشحون بضروب الحكم. والله مريد لحكمته من حيث هي تابعة للفعل. فوجوب الحكمة في أفعاله تابع لوجود الكمال في علمه وإرادته.
وبالرغم من محاولة محمد عبده في التوفيق بين الرأيين المتعارضين، إلا أنه من الأصلح الآن للأمة الإسلامية إبراز رأي المعتزلة وإثبات العلة والغائية والغرض حتى تخف منها العشوائية والتشتت والشك وقد يكون غياب التخطيط في حياة المسلمين العامة راجعا إلى عدم التركيز على الغائية والغرض في نظر السيادة الأشعرية في ثقافتنا الوطنية وتوجيهها لسلوك عامة المسلمين.(1/121)
رابعا: الآلام والعوض
قانون الاستحقاق والعوض قانون اعتزالي خالص فصل فيه المعتزلة واكتفى الأشاعرة بالإنكار والرفض. فقالت المعتزلة: إن الغرض من التكليف هو التعويض لاستحقاق التعظيم فإن التفضل بدونه قبيح. ورفضت الأشاعرة هذا القول؛ لأنه مبني على القول بالحسن والقبح في أفعال الله وهو ما ترفضه الأشاعرة. هذا بالإضافة إلى أن التفضل إنما يقبح ممن يتصور له النفع والضرر وهو محال على الله.
والآلام عند الأشاعرة لا تقع مقدورة لغير الله، فإذا وقعت من فعل الله فهي منه حسن سواء وقعت ابتداء أو حدثت منه فتسمى جزاء. ولا يحتاج الأشاعرة في تقريرها حسنة إلى إثبات سبق استحقاقها عليها أو استلزام أعواض عنها بل كل ما وقع منها فهو من الله حسن لا اعتراض عليه ولا تبرير لأحكامه. والحقيقة أن هذا الموقف الأشعري يدعو الإنسان إلى تقبل الألم بلا داع أو سبب, ويجعل الله علة لآلام البشر ويغفل أسبابها الحقيقية في العالم. والحقيقة أن موقف الجبرية لا يختلف كثيرا عن موقف الأشاعرة إذ تعتبر أن الآلام تحسن وتقبح بحال فاعلها. فإن كان فاعلها القديم يحسن منه سواء كان ظلما أو اعتبارا وإن كان فاعلها الإنسان لا يحسن منه. فالله مالك كل شيء ومن حقه أن يفعل في ملكه ما يشاء. لذلك قالت الثنوية بأن الآلام ظلم قبيح لعينه وهي تصدر عن إله الشر وليس عن إله الخير. فالآلام كلها قبيحة والملاذ كلها حسنة، ولا يكون كلاهما من فاعل واحد. كما ذهبت البكرية أتباع بكر ابن أخت عبد الواحد بن يزيد إلى أن البهائم تتألم أصلا وكذلك الأطفال الذين لم يبلغوا عمر العقل. ويحاول الأشاعرة تفنيد موقف الثنوية والبكرية. وذلك بإثبات نسبة الحسن والقبيح وتغيرهما من وجه لآخر، ومن فرد لآخر، ومن وقت لآخر، وهذا في الحقيقة نفي لمطلق الإرادة الإلهية ولشمولية مقاييس المنفعة والضرر وموضوعيتها. وقد قالت(1/122)
طائفة من غلاة الروافض بالتناسخ. فالبهائم تتألم؛ لأن أرواحها كانت في أجساد وقوالب أحسن من أجسادها وقد قارفت آثاما فنقلت إلى أجساد أخرى تتعذب فيها. فإذا ما استوفت العقاب نقلت إلى أجسام أفضل. والله لديهم لا يبتدئ بالآلام إلا عن استحقاق سابق. والبهائم لديهم مكلفة، ثم اختلفوا في ابتداع التكليف فذهب البعض إلى أنه ابتداء من أصل الأرواح وذهب البعض الآخر إلى أنه في ابتداء الفطرة. والغلاة منهم أنكروا الحشر والآخرة وقالوا: العقاب والثواب في الدنيا بالتعاقب على الأجسام ثوابا أم عقابا.
أما المعتزلة فقد قالوا: إن الآلام الحالة بالأطفال والبهائم تحسن لعدة أوجه: منها أن تكون مستحقة على سوابق، ومنها أن تجلب منافع أزيد منها بقدر واف، ومنها أن يقضي بها على دفع ضرر أخطر منها. واتفقوا على أن ما يحسن من الألم لأجله لو علم فإنه يحسن إذا اعتقد أو غلب على الظن ما يحسن الآلام لأجله في عادات الناس لتوقع منافع زائدة عليها. وبصرف النظر عن صحة القول أو خطئه فإن الشاهد لا يقاس على الشاهد. فإيلام الأطفال والبهائم شاهد لا يقاس على شاهد آخر وهو إيلام الإنسان. إنما قد يحدث إسقاط من إيلام الإنسان على الأطفال والبهائم، ومع ذلك فكل ما هو خارج التجربة الإنسانية لا يمكن معرفته إلا قياسا.
وقد اختلفت المذاهب أيضا في الأعواض. فعند الأشاعرة أن التعويض غير لازم؛ لأنه لا يقبح من الله شيء. فالرب قادر على التفضل بمثل ما يصدر عنه عوضا فلا غرض في تقديم ألم ثم التعويض عليه مع القدرة على التفضل بمثله. وكثيرا ما يرفض الإنسان إعطاء عوض عن إيلامه إنسانا آخر. وقال أهل التناسخ: إن الابتداء بالإيلام من غير عوض قبيح ولا يحسن التعويض عليه مع القدرة على التفضل بأمثال العوض وأضعافه. أما المعتزلة فقالوا: إن الألم يحسن للتعويض عليه بنعيم يفوقه حتى يخرج بالألم عن كونه ظلما. وعند أبي علي يحسن الألم من الله لمجرد العوض؛ لأن العوض لا(1/123)
يجوز التفضل به ولا الابتداء بمثله. وعند أبي هاشم لا بد في الألم من غرض آخر وهو الاعتبار. وهو ما يقبله القاضي عبد الجبار ويحاول تأييده. وقد ذهب عباد الصيمري أيضا إلى أن الآلام تحسن بمحض الاعتبار من غير تقدير عوض عليها ويعتمد في ذلك على شبهتين: الأولى أن الإنسان يستحق ما يستحقه ثوابا أو عوضا بفعل نفسه والإيلام من فعل الله فلا يجوز أن يستحق عوضا. والثانية أنه لو كان يحسن من الله الإيلام للعوض لكان يحسن منا الألم للعوض.
وقد فصل القاضي عبد الجبار في أحكام العوض. فالعوض هو كل منفعة مستحقة لا على طريق التعظيم والإجلال. ولا يحسن من الله أن يؤلم الإنسان من غير اعتبار رضاه. وبالتالي فإن العوض لا يستحق على طريق الدوام عند أبي هاشم. أما أبو علي وأبو الهذيل وبعض البغداديين والصاحب الكافي "385هـ" فإن العوض لديهم يستحق على طريق الدوام. والأصح هو طريق الانقطاع؛ لأن العوض حادث طارئ. وقد أورد بعض الملاحدة شبهة في طلبهم العوض من جنس المنافع في الدنيا وما تعود عليه الإنسان، في حين أنه ليس من الضروري أن يكون العوض من جنس الألم. أما المستحق للعوض فإنه إن كان مكلفا ومن أهل الثواب ويكون عوضه مستحقا على الله فإن الله يوفره له بتمامه وكماله مفرقا على الأوقات. وإن كان مستحقا على غير الله فإن الله أيضا يأخذ من ذلك الغير العوض سواء كان مكلفا أو غير مكلف. أما إن كان المستحق للعوض مكلفا ولكن من أهل العقاب ويكون عوضه مستحقا على الله فإن الله أيضا يوفره له في الدنيا أو في الآخرة قبل دخول النار أو بعدها. وإن كان مستحقا على غير الله فإن الله أيضا يأخذه من ذلك الغير ويوصله له بالتمام والكمال. والحقيقة أن كل ذلك هو محاولة لفهم آلام الإنسان وتحقيق أكبر قسط ممكن من العدل في الدنيا والآخرة بقياس الغائب على الشاهد وهو أساس الفكر الإلهي كله.(1/124)
وفي النهاية يمكن استنتاج الآتي من موضوع "العقل والنقل" كما عرضه علماء أصول الدين:
أولا: أهمية العقل في علم أصول الدين وضرورة إقامة النقل عليه. فالعقل أساس النقل، والنقل بدون العقل يكون مجرد ظن، ولا يرقى إلى مرتبة اليقين. فالنقل لا يتحدث بنفسه، ولا يعرض نفسه إلا من خلال الذهن الإنساني. النقل وحده لا يثبت شيئا. وقال الله، وقال الرسول لا يعتبر حجة.
ثانيا: أهمية العقل في موضوع العدل. إذ يشمل العدل عند المعتزلة موضوعين: حرية الأفعال والحسن والقبح. وكأن الحرية لا تقوم إلا على العقل والتمييز بين الخير والشر. فالعقل هو الذي يجعل الحرية ممكنة.
ثالثا: أهمية موضوع الظلم والألم ورغبة الإنسان في أن يعيش في عالم يحكمه قانون الاستحقاق وقانون الصلاح والأصلح، ووفقا لغاية وغرض حتى يستطيع الإنسان أن يعمل الروية والقصد في حياته بدلا من أن يعيش في عالم يسوده العبث والفوضى والتشتت والتناقض.
رابعا: أهمية قياس الغائب على الشاهد كمصدر للفكر الإلهي. فالإنسان لا يعلم إلا ما يعرفه عن طريق تجاربه الخاصة ومن خلال ما يراه في دنياه. فإذا ما وجد نفسه أمام موضوعات متعالية فإنه لا يملك إلا أن يتصورها طبقا لما لديه من معرفة تجريبية.
خامسا: إن الرغبة في التنزيه وفي التأليه تجعل المتكلم ينسى أن الهدف ليس هو الدفاع عن حقوق الله بقدر ما هو الدفاع عن حقوق الإنسان. فالله غني عن العالمين، أما الإنسان فإنه في حاجة إلى كل شيء. وبالتالي لا يمكن التضحية بحقوق الإنسان من أجل إثبات حقوق الله. فالله نفسه بإرساله الوحي أراد تثبيت حقوق الإنسان.(1/125)
سادسا: لا بد من النظر في صالح المسلمين الآن، ومعرفة أي الآراء والمذاهب الكلامية يكون فيها تحقيق لمطالبهم. فإثبات الغائية والغرض يحقق نفعا لهم ويبعد عنهم مخاطر العبث والعشوائية. وقد يكون دفع الألم خيرا من قبول العوض عنه.(1/126)
الفهرست:
5 علم أصول الدين.
7 مقدمة.
13 نظرية العلم.
16 نظرية الوجود.
23 أوصاف الذات.
25 صفات الذات.
27 خلق الأفعال.
29 الحسن والقبيح.
30 النبوة.
34 المعاد.
37 الإيمان والعمل.
39 الإمامة.
42 التاريخ.
49 علم أصول الفقه.
51 مقدمة.
56 الشعور التاريخي.
67 الشعور التأملي.
87 الشعور العملي.
99 العقل والنقل.
101 مقدمة.
106 الموضوعية والذاتية.
110 الواجبات العقلية.
117 الغائية والغرض.
122 الآلام والعوض.(1/127)