الرد على شبهات من أجاز الاحتفال بالمولد
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين ،
أما بعد :
فإن من البدع المنتشرة بين أوساط كثير من الناس ؛ ما يمسى بالاحتفال بالمولد النبوي ، وقد كتب كثير من أهل العلم قديما وحديثاً عدة كتب ورسائل وفتاوى في التحذير من هذه البدعة ؛ فجزاهم الله خير الجزاء على ما بينوا ونصحوا .
ولقد وفقني الله عزوجل ـ وله الحمد والمنة ـ في جمع بعض الفوائد التي وقفت عليها والمتعلقة بالرد على الشبهات التي يثيرها من يقول بجواز الاحتفال بالمولد.
فأحببت نشر ما قمت بجمعه ، لعل يكون في ذلك فائدة لي ولمن يطلع عليه .
سائلاً الله أن يجعل أعمالي خالصة لوجهه الكريم ، موافقه لسنة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - .
وأرجو ممن كان عنده ملاحظة أو فائدة ألا يبخل بها على أخيه وجزاكم الله خيراً.
وصلى الله على نبينا وقدوتنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
* * *
الفصل الأول :
بيان كذب من يزعم أن من ينكر الاحتفال بالمولد بأنه مبغض
للرسول - صلى الله عليه وسلم - ومكفر لمن يحضر ذلك الاحتفال
لقد أشاع الكثير ممن يقيمون الاحتفال بالمولد النبوي أن من ينكر هذا الاحتفال إنما هو يكره الرسول - صلى الله عليه وسلم - ! ! وهذا من الكذب الصريح !
كما أشاعوا أن من ينكر ذلك الاحتفال يعتبره شركا اكبر!
وأن من يحتفل بالمولد يعتبر مشركا ! وهذا أيضاً كذب صريح !!
وإليك فيما يلي بعض أقوال أولئك المحتفلين حول هذا الأمر وبيان كذبهم في ذلك :
1 ـ قال يوسف الرفاعي في " الرد المحكم المنيع على منكرات وشبهات ابن منيع"
(ص15- 16) وهو يشير إلى مقال له نشره في جريدة السياسة الكويتية :
( وكان عنوان وموضوع مقالي ( الرد على الشيخ عبدالعزيز بن باز ) عندما هاجم الاحتفال بالمولد النبوي واعتبره شركا وبدعة … الخ ) .
2 ـ قال راشد المريخي في " إعلام النبيل " ( ص17 ـ 18 ) :(1/1)
( وإذا احتفل أحد بليلة مولده - صلى الله عليه وسلم - تعظيما له وإقامة لأبهة الإسلام قالوا : هذا مشرك …
فنعوذ بالله من ناشئة تكفر الأمة بمدح النبي - صلى الله عليه وسلم - أو الاحتفال بمولده ) انتهى باختصار.
ولبيان كذب أولئك أنقل فيما يلي بعض أقوال المنكرين للاحتفال بالمولد وتصريحهم أن إنكارهم للمولد هو بسبب انه بدعة وليس شركا :
1 ـ قال الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز ـ رحمه الله ـ في "مجموع فتاوى ومقالات متنوعة"
( 2 /380 ) :
( كتبت منذ أيام مقالاً يتضمن جواب سؤال عن حكم الاحتفال بالمولد ، وأوضحت فيه أن الاحتفال بها من البدع المحدثة في الدين .
وقد نشر المقال في الصحف المحلية السعودية وأذيع من الإذاعة .
ثم علمت بعد ذلك أن إذاعة لندن نقلت عني في إذاعتها الصباحية أني أقول بأن الاحتفال بالموالد كفر.
فتعين علي إيضاح الحقيقة للقراء فأقول إن ما ذكرته هيئة الإذاعة البريطانية في إذاعتها الصباحية في لندن منذ أيام عني أني أقول بأن الاحتفال بالموالد كفر ، كذب لا أساس له من الصحة وكل من يطلع على مقالي يعرف ذلك .
وإني لآسف كثيراً لإذاعة عالمية يحترمها الكثير من الناس ثم تقدم هي أو مراسلوها على الكذب الصريح .
وهذا بلا شك يوجب على القراء التثبت في كل ما تنقله هذه الإذاعة خشية أن يكون كذباً كما جرى في هذا الموضوع ... الخ ) .
2 ـ وقال الشيخ أبو بكر الجزائري ـ حفظه الله ـ في "الإنصاف فيما قيل في المولد من الغلو والإجحاف" (ص76) :
( إن مثل هذه البدعة ـ أي بدعة المولد النبوي ـ لا تكفر فاعلها ولا من يحضرها، ووصم المسلم بالكفر والشرك أمر غير هين ).
3 ـ وقال أيضا (ص 5) من المصدر السابق :
( يشاع بين المسلمين أن الذين ينكرون بدعة المولد هم أناس يبغضون الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا يحبونه، وهذه جريمة قبيحة كيف تصدر من عبد يؤمن بالله واليوم الآخر ؟(1/2)
إذ بغض الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو عدم حبه كفر بواح لا يبقى لصاحبه أية نسبة إلى الإسلام والعياذ بالله تعالى ) اهـ .
4 ـ قال الشيخ علي بن حسن الحلبي ـ حفظه الله ـ في تعليقه على "المورد في عمل المولد" للفاكهاني (ص19) :
( يظن بعض الجهلة في زماننا أن الذين لا يجيزون عمل المولد والاحتفال به لا يحبون النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا ظن آثم ، ورأي كاسد ، إذ المحبة وصدقها تكون في الاتباع الصحيح للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، كما قال تعالى : { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم } (آل عمران:31) ) اهـ .
* * *
الفصل الثاني :
أقوال للمحتفلين بالمولد توضح أنهم يعتبرونه من الدين وان من يحضره
يثاب على فعله
في هذا الفصل سأنقل بعض أقوال من يرى الاحتفال بالمولد يتضح من خلالها أنهم يعتبرون الاحتفال بالمولد من الدين يثاب على فعله !
1 ـ قال السيوطي ـ رحمه الله ـ في "حسن المقصد في عمل المولد" ضمن "الحاوي للفتاوى"
( 1/189) :
( أصل عمل المولد الذي هو اجتماع الناس وقراءة ما تيسر من القرآن ، ورواية الأخبار الواردة في مبدأ أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وما وقع في مولده من الآيات ، ثم يمد لهم سماط يأكلونه ، وينصرفون من غير زيادة على ذلك هو من البدع الحسنة التي يثاب عليها صاحبها لما فيه من تعظيم قدر النبي - صلى الله عليه وسلم -وإظهار الفرح والاستبشار بمولده الشريف ) .
2 ـ وقال محمد بن علوي المالكي في "حول الاحتفال بالمولد النبوي" (ص15 ـ 16) :
( أن المولد اشتمل على اجتماع وذكر وصدقة ومدح وتعظيم للجناب النبوي فهو سنة ، وهذه أمور مطلوبة شرعاً وممدوحة ، وجاءت الآثار الصحيحة بها وبالحث عليها ) اهـ .
3 ـ وقال أيضاً في أثناء كلامه على المولد في المصدر السابق (ص20) و" الذخائر المحمدية"(1/3)
( ص326 ) : ( فكل خير تشمله الأدلة الشرعية ولم يقصد بإحداثه مخالفة الشريعة و لم يشتمل على منكر فهو من الدين ) اهـ .
4 ـ قال عيسى الحميري في " بلوغ المأمول في حكم الإحتفاء والاحتفال بمولد الرسول" (ص30) بعد ان قال ان القران عرض لنا قصص لكثير من الأنبياء :
( وبذلك يستدل بصحة استحباب الاحتفال بمولده - صلى الله عليه وسلم - ) اهـ .
5 ـ وقال أيضاً في نفس المصدر (ص55) بعد ان أورد حديث استدل به على جواز الاحتفال بالمولد :
( يفهم منه استحباب ذكر النعمة والاحتفاء والاحتفال بأيامها... الخ ) .
6 ـ وقال محمد بن أحمد الخزرجي في "القول البديع في الرد على القائلين بالتبديع" (ص29) :
( للعلماء في مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب وسوف نبين استحباب قراءة المولد لقوله تعالى :
{ ومآ أرسلناك إلا رحمة للعالمين } ) اهـ .
7 ـ قال مصطفى عبد القادر عطا في مقدمته لكتاب "حسن المقصد في عمل المولد" للسيوطي طبعة دار الكتب العلمية في بيروت (ص9) نقلاً عن مقدمة الشيخ علي الحلبي
لـ "المورد في عمل المولد" للفاكهاني (ص12 – 13) ؛ بعد كلام :
( .. كل هذا يوجبُ علينا الاحتفال به – أي بالمولد النبوي - … !! ) .
تنبيه :
قال محمد بن علوي المالكي في "حول الاحتفال بالمولد النبوي" (ص6) :
( أننا نقول بجواز الاحتفال بالمولد الشريف والاجتماع لسماع سيرته والصلاة والسلام عليه وسماع المدائح التي تقال في حقه ، وإطعام الطعام ، وإدخال السرور على قلوب الأمة ) .
وقال يوسف الرفاعي في "الرد المحكم المنيع" (ص153) :
( إن احتفالات المسلمين بذكرى المسلمين بذكرى مولده - صلى الله عليه وسلم - و المناسبات المشابهة لا تسمى بدعة قبل كل شيء . لان أحداً من القائمين على أمرها لا يعتقد أنها جزء من جوهر الدين وأنها داخلة في قوامه وصلبه ، بحيث إذا أهملت ارتكب المهملون على ذلك وزرا . وإنما هي نشاطات اجتماعية يتوخى منها تحقيق خير ديني ) .(1/4)
وقد أجاب فضيلة الشيخ عبد الله بن منيع ـ حفظه الله ـ على هذا القول في "حوار مع المالكي" (ص26–27) بما يلي :
( ان قول محمد المالكي هذا يدل على انه لا يرى مشروعية الاحتفال بالمولد النبوي ، لأن مشروعية الأمر تعني وجوبه أو استحبابه ، وبالتالي إثابة فاعله وعقوبة تاركه ان كان واجبا، وإذا كان مستحباً فيثاب عليه فاعله ولا يعاقب تاركه ، أما جواز ذلك فمعناه إباحته فلا إثابة على فعل ولا عقوبة على ترك .
ولكن من خلال ما نقلته من أقواله السابقة وغيرها مما سأذكره فيما بعد ان شاء الله ؛ نجده يقول بمشروعية ذلك ويؤكده حيث أشار إلى القول بسنية الاحتفال بالمولد في ليلة غير مخصوصة !! .
فان قال بإباحة الاحتفال بالمولد من غير أن يكون واجبا أو مسنونا ألزمناه بالتناقض في قوله على ما سبق إيضاحه ، وان قال بمشروعيتها على سبيل الاستحباب أو الوجوب طالبناه بمستنده على ذلك من كتاب الله تعالى أو من سنة رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقرير، أو من عمل الصحابة الذين هم أولى بالنبي - صلى الله عليه وسلم - .
وأما ما ادعاه ان له استنباطات تدل على مشروعية الاحتفال بالمولد مما ذكره في كثير
من كتبه فقد ناقشها العلماء وردوا عليه وعلى غيره ممن يستدل بها وسوف انقل تلك الاستنباطات المزعومة مع إجابات العلماء عليها بإذن الله فيما بعد ) انتهى كلام الشيخ
ابن منيع بتصرف .
أما بالنسبة لقول الرفاعي: ( ان احتفالات المسلمين بذكرى مولده - صلى الله عليه وسلم - والمناسبات المشابهة، لا تسمى بدعة قبل كل شيء ) فمردود بقول السيوطي السابق وبقول المالكي في "حول الاحتفال" (ص19) و " الذخائر" (ص320 – 321) :
(فالاحتفال بالمولد و إن لم يكن في عهده - صلى الله عليه وسلم - فهو بدعة ، ولكنها حسنة ...الخ)، وبغيرها من الأقوال التي سأنقلها مع إجابات العلماء عليها فيما بعد ان شاء الله .(1/5)
أما قوله : ( لان أحدا من القائمين على أمرها لا يعتقد أنها جزء من جوهر الدين و أنها داخلة في قوامه وصلبه ، بحيث إذا أهملت ارتكب المهملون على ذلك وزرا ) فمردود بأقوال السيوطي والمالكي والحميري وغيرهم السابقة والتي يقولون فيها بإثابة من يقيم الموالد وانهم يعدونها من الدين .
* * *
الفصل الثالث :
بيان أن الاحتفال بالمولد النبوي لم يقع من السلف الصالح وأنه من البدع
اتفق أهل العلم من لا يرى منهم عمل المولد ومن يراه على أن الاحتفال بالمولد النبوي لم يفعله السلف الصالح ومن تصريحاتهم بذلك ما يلي :
1ـ قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ عن الاحتفال بالمولدالنبوي في "اقتضاء الصراط المستقيم" (2/619) : (لم يفعله السلف ، مع قيام المقتضى له وعدم المانع منه ، ولو كان هذا خيراً محضا ، أو راجحاً لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا، فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتعظيماً له منا، وهم على الخير أحرص ، وإنما كمال محبته وتعظيمه في متابعته وطاعته واتباع أمره ، وإحياء سنّته باطناً وظاهراً ، ونشر ما بعث به ، والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان، فإن هذه طريقة السابقين الأولين ، من المهاجرين والأنصار،والذين اتبعوهم بإحسان ) اهـ .
2ـ قال الإمام تاج الدين عمر بن سالم اللخمي المشهور بالفاكهاني ـ رحمه الله ـ في "المورد في عمل المولد" (ص20 ـ 21) :
( لا أعلم لهذا المولد أصلا في كتاب ولا سنة ، ولا ينقل عمله عن أحد من علماء الأمة ، الذين هم القدوة في الدين ، المتمسكون بآثار المتقدمين ، بل هو بِدعة ) .
3ـ قال العلامة ابن الحاج ـ رحمه الله ـ في "المدخل" (2/312) نقلاً من "القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل" للعلامة الأنصاري رحمه الله (ص57) :(1/6)
( فإن خلا ـ أي عمل المولد ـ منه ـ أي من السماع ـ وعمل طعاما فقط ، ونوى به المولد ودعا إليه الاخوان ، وسلم من كل ما تقدم ذكره ـ أي من المفاسد ـ فهو بدعة بنفس نيته فقط ، إذ إن ذلك زيادة في الدين ليس من عمل السلف الماضين ، وإتباع السلف أولى بل أوجب من أن يزيد نية مخالفة لما كانوا عليه ، لأنهم أشد الناس اتباعاً لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وتعظيما له ولسنته - صلى الله عليه وسلم -، ولهم قدم السبق في المبادرة إلى ذلك ، ولم ينقل عن أحد منهم أنه نوى المولد ، ونحن لهم تبع ، فيسعنا ما وسعهم ، وقد علم ان إتباعهم في المصادر والموارد... الخ ) .
4ـ قال العلامة عبدالعزيز بن باز ـ رحمه الله ـ في "حكم الاحتفال بالمولد النبوي وغيره" ضمن "أربع رسائل في التحذير من البدع" (ص3) :
( الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يفعله ـ أي المولد النبوي ـ ، ولا خلفاؤه الراشدون ، ولا غيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم ، ولا التابعون لهم بإحسان في القرون المفضلة ، وهم أعلم الناس بالسنة ، وأكمل حباً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومتابعة لشرعه ممن بعدهم ... الخ ) .
5ـ وقال محمد بن عبد السلام الشقيري في "السنن والمبتدعات المتعلقة بالأذكار والصلوات" (ص138ـ139) :
( فاتخاذ مولده موسماً والاحتفال به بدعة منكرة ضلالة لم يرد بها شرع ولا عقل ، ولو كان في هذا خير كيف يغفل عنه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر الصحابة والتابعون وتابعوهم والأئمة وأتباعهم ؟ ) .
(و بهذه النقول يتضح أن السلف الصالح لم يحتفلوا بمولد النبي - صلى الله عليه وسلم - بل تركوه ، وما تركوه
لا يمكن أن يكون تركهم إياه إلا لكونه لا خير فيه كما أوضحه ابن الحاج في "المدخل"
( 4/278) ؛ حيث قال بصدد استنكاره لصلاة الرغائب ما نصه :
( ما حدث بعد السلف رضي الله عنهم لا يخلو إما أن يكونوا علموه وعلموا أنه موافق للشريعة ولم يعملوا به ؟ !(1/7)
ومعاذ الله أن يكون ذلك ، إذ إنه يلزم منه تنقيصهم وتفضيل من بعدهم عليهم ، ومعلوم أنهم أكمل الناس في كل شيء وأشدهم اتباعا.
وإما أن يكونوا علموه وتركوا العمل به ؟ ولم يتركوه إلا لموجب أوجب تركه ، فكيف يمكن فعله ؟ ! هذا مما لا يتعلل .
وإما أن يكونوا لم يعلموه فيكون من ادعى علمه بعدهم أعلم منهم وافضل واعرف بوجوه البر وأحرص عليها!
ولو كان ذلك خيراً لعلموه ولظهر لهم ومعلوم أنهم أعقل الناس وأعلمهم…الخ ) .
وفيه دليل من ناحية أخرى على أن ما تركه السلف الصالح لابد أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد تركه وتركه - صلى الله عليه وسلم - للشيء مع قيام المقتضي له وعدم المانع منه سنة كما ان فعله سنة فمن استحب فعل ما تركه النبي - صلى الله عليه وسلم - كان كمن استحب ترك ما فعله ولا فرق )(1) .
ولا يقول قائل ما هو الدليل على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته رضي الله عنهم لم يحتفلوا بالمولد لأنه لو وقع لنقل إلينا ، ولذكره من يحتفل بالمولد النبوي لأن الحجة تكون حينئذ أقوى .
ومما يدل كذلك على أن السلف الصالح لم يحتفلوا بيوم المولد النبوي اختلافهم في تحديد اليوم الذي ولد فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد بسط الكلام على ذلك الخلاف الإمام ابن كثير في "البداية والنهاية" ( 2/260 ـ 261) .
وفيما يلي أنقل أقوالا لبعض من يرى مشروعية الاحتفال بالمولد يتضح من خلالها كذلك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يحتفل بالمولد وأنه لم يكن من فعل السلف :
1ـ قال السيوطي ـ رحمه الله ـ في "حسن المقصد" ضمن "الحاوي للفتاوى" (1/189) :
( أول من أحدث فعل ذلك ـ أي فعل المولد ـ صاحب إربل الملك المظفر ) .
2ـ قال أبو شامة ـ رحمه الله ـ في "الباعث على إنكار البدع والحوادث" (ص95) :
__________
(1) : "القول الفصل" (ص58 ـ 59) للعلامة اسماعيل الأنصاري رحمه الله .(1/8)
( ومن أحسن ! ما ابتدع في زماننا من هذا القبيل : ما كان يفعل بمدينة إربل جبرها الله تعالى كل عام في اليوم الموافق ليوم مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - من الصدقات والمعروف ، وإظهار الزينة والسرور... الخ ) .
3ـ قال الإمام السخاوي ـ رحمه الله ـ نقلاً من "المورد الروي في المولد النبوي" لملا علي قارى
(ص12) : ( أصل عمل المولد الشريف لم ينقل عن أحد من السلف الصالح في القرون الثلاثة الفاضلة ، وإنما حدث بعدها بالمقاصد الحسنة ) .
4ـ قال محمد بن علوي المالكي في "حول الاحتفال بالمولد" (ص19) :
( فالاحتفال بالمولد وإن لم يكن في عهده - صلى الله عليه وسلم - ، فهو بدعة ، ولكنها حسنة لاندراجها تحت الأدلة الشرعية ، والقواعد الكلية ) .
5ـ قال يوسف الرفاعي في "الرد المحكم المنيع" (ص153) :
( ان اجتماع الناس على سماع قصة المولد النبوي الشريف ، أمر استحدث بعد عصر النبوة ، بل ما ظهر إلا في أوائل القرن السادس الهجري ) ! .
* * *
الفصل الرابع :
إثبات احتفال الفاطميون بالموالد قبل صاحب إربل وأنهم
أول من احتفل بها
وهذا الفصل مختصر من "القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل" للعلامة إسماعيل الأنصاري رحمه الله (ص64 ـ 72) :
1 ـ قال تقي الدين المقريزي ـ رحمه الله ـ في "المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار"
(1/490 ) ؛ تحت عنوان "ذكر الأيام التي كان الخلفاء الفاطميون يتخذونها أعيادا ومواسم تتسع بها أحوال الرعية وتكثر نعمهم" :
( كان للخلفاء الفاطميين في طول السنة أعياد ومواسم ، وهي موسم راس السنة وموسم
أول العام ، ويوم عاشوراء ، ومولد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، ومولد الحسن ومولد الحسين عليهما السلام ، ومولد فاطمة الزهراء عليها السلام ، ومولد الخليفة الحاضر، وليلة أول رجب ، وليلة نصفه ، وليلة أول شعبان ، وليلة نصفه... ) اهـ.(1/9)
2 ـ وقال مفتي الديار المصرية سابقا الشيخ محمد بن بخيت المطيعي في "أحسن الكلام فيما يتعلق بالسنة والبدعة من الأحكام" (ص44) :
( مما أحدث وكثر السؤال عنه الموالد، فنقول :
إن أول من أحدثها بالقاهرة الخلفاء الفاطميون، وأولهم المعز لدين الله .. الخ ) .
3 ـ وقال الشيخ علي محفوظ ـ رحمه الله ـ وهو من كبار علماء مصرـ في "الإبداع في مضار
الابتداع" (ص251) :
( قيل أول من أحدثها ـ أي الموالد ـ بالقاهرة الخلفاء الفاطميون في القرن الرابع ، فابتدعوا ستة موالد :
المولد النبوي ، ومولد الإمام علي رضي الله عنه ، ومولد السيدة فاطمة الزهراء رضي الله عنها، ومولد الحسن والحسين رضي الله عنهما، ومولد الخليفة الحاضر... الخ ) .
4 ـ وقال الدكتوران حسن إبراهيم حسن مدير جامعة أسيوط سابقا وطه احمد شرف مفتش المواد الاجتماعية بوزارة التربية والتعليم في كتابهما "المعز لدين الله" (ص284) تحت عنوان "الحفلات والأعياد" :
( ان المعز كان يشترك مع رعاياه في الاحتفال بعيد راس السنة الهجرية ، ومولد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وليلة أول رجب ونصفه ، وأول شعبان ونصفه ، وموسم غرة رمضان ، حتى لا يثير نفوس السنيين ! ويقرب مسافة الخلف بين المبادئ السنية والعقائد الشيعية ! ! وكذلك كان المعز لدين الله يستغل هذه الأعياد التي كان زخر بها عهده في نشر خصائص المذهب الإسماعيلي وعقائده!! لذلك كان يحتفل بيوم عاشوراء ليحيي فيها ذكرى الحسين رضي الله عنه ، كما كان يحي ذكرى مولد كثير من الأئمة ، وذكرى مولد الخليفة القائم بالأمر، وهكذا اتخذ المعز من الاحتفال بهذه الأعياد وسيلة لجذب رعاياه إليه ونشر مبادئ المذهب الإسماعيلي) اهـ.
الفصل الخامس :
الجواب على الشبهات التي اعتمد عليها من قال بمشروعية
الاحتفال بالمولد النبوي
لقد استدل من يرى مشروعية الاحتفال بالمولد النبوي ببعض الشبه ؛ وفي هذا الفصل اذكر تلك الشبه مع إجابات العلماء عليها.(1/10)
ولكن قبل ذكر الشبه التي استند إليها من يقول بجواز إقامة الموالد ؛ أنقل تنبيه مهم لأهل العلم متعلق باستدلال أهل البدع على بدعهم عموما ، وقد ذكره الشيخ علي الحلبي ـ حفظه الله ـ في "علم أصول البدع" (ص137 – 145) حيث قال :
( يستدل كثير من الناس بالنصوص العامة لتمشية بدعهم ، والتدليل على واقعهم !
وفي هذا خطأ كبير ، يناقض قاعدة مهمةً في علم الأصول ، سيأتي تقريرها ـ بعد ـ إن شاء الله .
فمثلاً :
لو أن عدداً من الناس قَدِموا مسجداً للصلاة فيه، فما إن دخلوا ؛ حتى اقترح أحدهم عليهم أن يصلوا تحية المسجد جماعة ! !
فجابهه بعض أصحابه بالإنكار و الرد ! !
فاستدل عليهم المقترِح بحديث : { صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل } ! !
فافترقوا رأيين ! !
بعضهم وافق على هذا الاستدلال ، والبعض الآخر خالف ؛ لأن هذا الدليل إنما مورده في غير هذا المقام ! فما هو القول الفصل ؟
قال الإمام ابن تيمية في "مقدمة في أصول التفسير" (ص8–9) : ( يجب أن يعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بين لأصحابه معاني القرآن كما بين لهم ألفاظه ، فقوله تعالى : { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم } (النحل:44) يتناول هذا وهذا ، وقد قال أبو عبد الرحمن السلمي حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن ـ كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما ـ أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل ، قالوا: فتعلمنا القرآن و العلم جميعاً.
ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة.
وقال أنس : كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جلَّ في أعيننا.
وأقام ابن عمر على حفظ البقرة عدة سنين – قيل ثمان سنين – ذكره مالك .
وذلك أن الله تعالى قال : { كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا ءايته } (ص:29) وقال :(1/11)
{ أفلا يتدبرون القرءان } (النساء:82) وقال: { أفلم يدبروا القول } (المؤمنون:68).
وتدبر الكلام بدون فهم معانيه لا يمكن.
وكذلك قال تعالى : { إنآ أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون } (يوسف:2) ، وعقل الكلام متضمن لفهمه ومن المعلوم أن كل كلام فالمقصود منه فهم معانيه دون مجرد ألفاظه ، فالقرآن أولى بذلك .
وأيضاً فالعادة تمنع أن يقرأ قوم كتاباً في فن من العلم كالطب والحساب ولا يستشرحوه فكيف بكلام الله الذي هو عصمتهم وبه نجاتهم وسعادتهم وقيام دينهم ودنياهم ؟ ) اهـ .
وقال الإمام الشاطبي في "الموافقات" (3/72) رداً على من يستدل بالأدلة العامة على خلاف فهم السلف ؛ والدعاء إلى العمل به على غير الوجه الذي مضوا عليه في العمل به ماملخصه:
" لو كان دليلاً عليه ؛ لم يعزب عن فهم الصحابة والتابعين ثم يفهمه هؤلاء، فعمل الأولين كيف كان مصادم لمقتضى هذا المفهوم ومعارِض له ، ولو كان ترك العمل .
فما عمل به المتأخرون من هذا القسم مخالف لإجماعِ الأولين ، وكل من خالف الإجماع ؛ فهو مخطئ ، وأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - لا تجتمع على ضلالةٍ ، فما كانوا عليه من فعلٍ أو تركٍ ؛ فهو السنة
والأمر المعتبر ، وهو الهدى ، وليس ثم إلاَ صواب أو خطأ فكل من خالف السلف الأولين ؛ فهو على خطأ، وهذا كافٍ… ومن هنالك لم يسمع أهل السنة دعوى الرافضة : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص على علي أنه الخليفة بعده ؛ لأن عمل كافة الصحابة على خلافه دليل على بطلانه أو عدمِ اعتباره ؛ لأن الصحابة لا تجتمع على خطا.
وكثيراً ما تجد أهل البدعِ والضلالة يستدلون بالكتاب والسنة ؛ يحملونهما مذاهبهم ، ويغبرون بمشتبهاتهما على العامة ، ويظَنون أنهم على شيء " .
ثم قال (3/77) : " فلهذا كله ؛ يجب على كل ناظر في الدليل الشرعي مراعاة ما فهم منه الأولون ، وما كانوا عليه في العمل به ؛ فهو أحرى بالصواب ، وأقوم في العلم والعمل " .(1/12)
وقال الإمام الحافظ ابن عبد الهادي ـ رحمه الله ـ في "الصارم المنكي في الرد على السبكي" (ص 318) : ( ولا يجوز إحداث تأويل في آيةٍ أو سنةٍ لم يكن على عهد السلف ولا عرفوه
ولا بينوه للأمة ؛ فإن هذا يتضمن أنهم جهِلوا الحق في هذا، وضلوا عنه ، واهتدى إليه هذا المعترض المستأخر ) اهـ .
وقال الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ في "الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة" (2/1 28مختصره) :
" إن إحداث القول في تفسير كتاب الله الذي كان السلف والأئمة على خلافه يستلزم أحد أمرين :
إما أن يكون خطأ في نفسه ، أو تكون أقوال السلف المخالفة له خطأ ولا يشك عاقل أنه أولى بالغلط والخطأ من قول السلَف " .
إلا عند ساقطٍ رقيعٍ يقول في مثل هذا المقام : " نحن رجال وهم رجال " ! !
فمثل هذا المغرور قد سقطَ معه الخطاب ، وسد في وجهه الباب ! !
والله الهادي إلى نهج الصواب !
قلت : فإذا وضحت هذه القاعدة ظهر لك أي الفريقين أهدى في المثال الذي صدرنا لك الكلام به !
إذ ذاك الدليل العام لم يجرِ عليه عمل السلف رضي الله عنهم أو فهمهم ؛ استدلالاً به على الجماعة في غيرِ الوارد ؛ كالفرائض أو التراويح ونحوهما .
فهو جرى – إذاً – على جزءٍ من أجزاء عمومه لا على جميع أجزائه .
ومثال آخر تطبيقي سلفي :
روى أبو داود في "سننه" (رقم 538) بسند حسن عن مجاهد ؛ قال : "كنت مع ابن عمر ،
فثوب رجل في الظهرِ أو العصر ، فقال : اخرج بنا ؛ فإن هذه بدعة" !
و " معنى التثويب : هؤلاء الَذين يقومون على أبواب المساجد ، فينادون : الصلاة ؛ الصلاة" كما قال الطرطوشي في "الحوادث والبدع" (ص149).
فلو جاء أحد قائلاً : هل من ضيرٍ على من ذكر بالصلاة والله سبحانه يقول :
{ وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين } ؟ ! لما قبل قوله ، بل رد عليه فهمه ، إذ لم يفهم السلف رضي الله عنهم من هذه الآية هذا الإطلاق وهذا العموم ، ومعلوم عن ابن عمر رضي الله عنهما شدة اتباعه ، ودقة التزامه .(1/13)
ومثال آخر وهو ما رواه الترمذي ، والحاكم وغيرهما عن نافع أن رجلاً عطس إلى جنب ابن عمر رضي الله عنهما، فقال : الحمد لله، والسلام على رسوله قال ابن عمر : ( وأنا أقول : الحمد لله والسلام على رسول الله وليس هكذا علمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، علمنا أن نقول : الحمد لله على كل حالٍ ) .
فقد أنكر ابن عمر رضي الله عنهما على هذا الرجل مع أن عموم قولِ الله تعالى : { إِن الله وملائكته يصلون على النبي يأيها الَذين ءامنوا صلوا عليه وسلموا تسليما } (الأحزاب:56) تدخل فيه تلك الصلاة !
ولكن ، ما هكذا فهمها الصحابة فمن بعدهم وما هكذا طبقها السلف الصالح رضي الله عنهم ، وفهمهم أولى ، ومرتبتهم أعلى .
ورحم الله الإمام الأوزاعي حيث قال: ( اصبر نفسك على السنة ، وقف حيث وقف لقوم، وقل بما قالوا، وكف عما كفوا عنه، واسلك سبيل سلفك الصالح ؛ فإنه يسعك ما وسعهم).
وعليه ؛ نقول : " الحذر الحذر من مخالفة الأولين ! فلو كان ثَمَّ فضل ما ؛ لكان الأولون أحق به ، والله المستعان " ) انتهى كلام الشيخ علي الحلبي حفظه الله بتصرف يسير.
فكن أخي القارئ على ذكر لهذا الكلام لان مناقشة الشبهات ستكون في البداية بالإحالة عليه غالباً .
وبعد بيان ما سبق ؛ أذكر الشبه التي اعتمد عليها من قال بجواز الاحتفال بالمولد مع ردود أهل العلم عليها بالتفصيل ، علماً أني في بعض الشبه أكتفي بنقل الشبهة دون الإحالة على مرجع لانتشار هذه الشبهة أما إذا كان هناك خطأ آخر متعلق بالشبهة فسوف أنقل من ذكر الشبهة وأنقل كلام أهل العلم في الرد على كلامه :
1 ـ الشبهة الأولى: قوله تعالى: { قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون } (يونس:58) .
حيث يفسر بعضهم الرحمة هنا بالرسول - صلى الله عليه وسلم - !
والجواب :
أولاً : يفهم الجواب مما سبق (ص16ـ21) .(1/14)
ثانياً : (قد فسر هذه الآية الكريمة كبار المفسرين ، كابن جرير وابن كثير والبغوي و القرطبي وابن العربي وغيرهم ، ولم يكن في تفسير واحد منهم أن المقصود بالرحمة في هذه الآية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وإنما المقصود بالفضل والرحمة المفروح بهما ما عنته الآية السابقة لهذه الآية ، وهو قوله تعالى : { يأيها الناس قد جآءتكم موعظة من ربكم وشفآء لما في الصدورِ وهدى ورحمة للمؤمنين } (يونس:57 ـ 58) ذلك هو القرآن الكريم .
فقد قال ابن كثير في تفسيره (2/421) : ( { هدى ورحمة للمؤمنين } أي يحصل به الهداية والرحمة من الله تعالى ، وإنما ذلك للمؤمنين به ، والمصدقين الموقنين بما فيه ، كقوله تعالى :
{ وننزل من القرآن ما هو شفآء ورحمة للمؤمنين ولا يزِيد الظالمين إلا خساراً } (الاسراء:82). وقوله { قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء } (فصلت:44) وقوله : { قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا } أي بهذا الذي جاءهم من الله من الهدى ودين الحق ، فليفرحوا فإنه أولى ما يفرحون به ) اهـ .
وقال ابن جرير: ( يقول تعالى ذكره لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: قل يا محمد لهؤلاء المكذبين بك ،
وبما أنزل إليك من عند ربك : بفضل الله ؛ أيها الناس الذي تفضل به عليكم وهو الإسلام ، فبينه لكم ودعاكم إليه ، وبرحمته التي رحمكم بها فأنزلها إليكم ، فعلمكم ما لم تكونوا تعلمون من كتابه ، فبصركم بها معالم دينكم ؛ وذلك القرآن .
{ فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون } يقول : فإن الإسلام الذي دعاهم إليه والقرآن الذي أنزله عليهم ، خير مما يجمعون من حطام الدنيا وأموالها وكنوزها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ) اهـ .(1/15)
وقال القرطبي : قال أبو سعيد الخدري و ابن عباس رضي الله عنهما : ( قل الله القرآن ، ورحمته الإسلام ) ، وعنهما أيضا : ( فضل الله القرآن ، ورحمته أن جعلكم من أهله ). وعن الحسن والضحاك ومجاهد وقتادة ( فضل الله الإيمان ورحمته القرآن ) على العكس من القول الأول ) اهـ ) انتهى نقلا من "حوارمع المالكي"(52 – 54) بتصرف.
وقد قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ في "اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة و الجهمية "
(ص38) في تفسير قوله تعالى : { قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا } :
(وقد دارت أقوال السلف على أن فضل الله ورحمته – أي في هذه الآية – الإسلام والسنة ) انتهى كلامه رحمه الله .
ثالثاً: ( إن الرحمة للناس لم تكن بولادة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإنما كانت ببعثه وإرساله إليهم ،
وعلى هذا تدل النصوص من الكتاب والسنة.
أما الكتاب فقول الله تعالى : { ومآ أرسلناك إلا رحمة للعالمين } فنص على أن الرحمة للعالمين إنما كانت في إرساله - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يتعرض لذكر ولادته .
وأما السنة ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قيل : يا رسول الله ادع علَى المشركين . قال: { إني لم أبعث لعاناً.وإنما بعثت رحمة } .
وروى الإمام احمد وأبو داود بإسناد حسن عن سلمان رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب فقال : { أيما رجل من أمتي سببته سبة أو لعنته لعنة في غضبي فإنما أنا من ولد آدم أغضب كما يغضبون وإنما بعثني رحمة للعالمين فاجعلها عليهم صلاة يوم القيامة } ) .
انتهى نقلا من "لرد القوي على الرفاعي والمجهول وابن علوي وبيان أخطائهم في المولد النبوي" للشيخ حمود التويجري رحمه الله (ص66) .
2 ـ الشبهة الثانية : قوله تعالى : { إن الله وملائكته يصلون على النبي يأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما } ( الأحزاب : 56 ) .(1/16)
ويقولون ان المولد يبعث على الصلاة على الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
الجواب :
أولاً : يفهم الجواب مما سبق (ص16ـ21).
ثانياً : قال الشيخ التويجري في "الرد القوي" (ص70–71) :
( يستحب الإكثار من الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل وقت لما رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: { .. صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا .. } وقد حث النبي - صلى الله عليه وسلم - على الإكثار من الصلاة عليه أوقات معينه كيوم الجمعة وبعد الأذان وعند ذكره - صلى الله عليه وسلم - إلى غير تلك الأوقات ومع ذلك لم يأمر أو يحث على الصلاة عليه في ليلة مولده فيعمل بما أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويرد ما لم يأمر به لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : { من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد } ) انتهى بتصرف .
3 ـ الشبهة الثالثة : يقولون ان الله كرم بعض الأماكن المرتبطة بالأنبياء مثل مقام إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - حيث قال الله تعالى : { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } وهذا فيه حث على الاهتمام بكل ما يتعلق بالأنبياء ومنها الاهتمام بيوم مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - .
الجواب :
أولاً : يفهم الجواب عن هذا الاستدلال مما سبق (ص16ـ21).
ثانياً : قال الشيخ التويجري ـ رحمه الله ـ في "الرد القوي" (ص83) :
( ان العبادات مبناها على التوقيف والإتباع لا على الرأي والابتداع . فما عظمه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - من زمان أو مكان فانه يستحق التعظيم وما لا فلا .
والله تبارك وتعالى قد أمر عباده أن يتخذوا من مقام إبراهيم مصلى و لم يأمرهم أن يتخذوا يوم مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - عيداً ويبتدعوا فيه بدعاً لم يؤمروا بها ) انتهى بتصرف .(1/17)
وأضيف إلى كلام الشيخ رحمه الله أنه قد صح عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما أنه كان يستلم أركان الكعبة الأربعة فقال له ابن عباس رضي الله عنهما : ( إنه لا يستلم هذان الركنان ) .
فقال معاوية رضي الله عنه : ( ليس شيءٌ من البيت مهجوراً ) رواه البخاري ومسلم والترمذي وأحمد.
وزاد أحمد: (فقال ابن عباس رضي الله عنهما: { لَقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } فقال معاوية رضي الله عنه : ( صدقت ) .
4 ـ الشبهة الرابعة : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم يوم الاثنين فلما سئل عن ذلك قال :
{ ذلك يوم ولدت فيه وأنزل علي فيه } رواه أحمد ومسلم وأبو داود .
استدل به محمد المالكي في "حول الاحتفال بالمولد" (ص10) .
حيث قال: ( أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يعظّم يوم مولده ، ويشكر الله تعالى فيه على نعمته الكبرى عليه، وتفضله عليه بالوجود لهذا الوجود ، إذ سعد به كل موجود ، وكان يعبر عن ذلك التعظيم بالصيام كما جاء في الحديث عن أبي قتادة :( أن النبي- صلى الله عليه وسلم - سئل عن صوم يوم الاثنين فقال : { ذلك يوم ولدت فيه وأنزل علي فيه } ) رواه الإمام مسلم في الصحيح في كتاب الصيام .
وهذا في معنى الاحتفال به إلا أن الصورة مختلفة ولكن المعنى موجود سواء كان ذلك بصيام أو إطعام طعام أو اجتماع على ذكر أو صلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - أو سماع شمائله الشريفة ) اهـ.
والجواب :
أولاً : يفهم الجواب عن هذا الاستدلال مما سبق (ص16ـ21) .
ثانياً : قال الشيخ أبو بكر الجزائري ـ حفظه الله ـ في "لإنصاف فيما قيل في المولد"
(ص64–66 ) :
( إذا كان المراد من إقامة المولد هو شكر الله تعالى على نعمة ولادة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيه فإن المعقول والمنقول يحتم أن يكون الشكر من نوع ما شكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ربه وهو الصوم ؛(1/18)
لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يختار إلا ما هو أفضل ، وعليه فلنصم كما صام ، وإذا سئلنا قلنا :
إنه يوم ولد فيه نبينا فنحن نصومه شكرا لله تعالى.
ثالثا: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يصم يوم ولادته وهو اليوم الثاني عشر من ربيع الأول إن صح
أنه ذلك ، وإنما صام يوم الاثنين الذي يتكرر مجيئه في كل شهر.
رابعاً : هل النبي - صلى الله عليه وسلم - لما صام يوم الاثنين شكراً على نعمة الإيجاد والإمداد وهو تكريمه
ببعثته إلى الناس كافة بشيراً ونذيراً أضاف إلى الصيام احتفالاً كاحتفال أرباب الموالد من تجمعات ومدائح ؟
والجواب: لا، وإنما اكتفى بالصيام فقط إذاً ألا يكفي الأمة ما كفى نبيها ، ويسعها ما وسعه؟ وهل يقدر عاقل أن يقول : لا ؟
وإذاً فلم ألافتيات على الشارع والتقدم بالزيادة عليه ، والله يقول : { ومآ آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } ويقول : { يأيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عَلِيم } ورسوله - صلى الله عليه وسلم - يقول : { إياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثةٍ بدعة ، وكل بدعةٍ ضلالَة } ) انتهى كلام الشيخ الجزائري بتصرف .
وحال من قال بجواز إقامة المولد زيادة على صيام يوم الاثنين الثابت في السنة يشبه حال من صلى سنة المغرب مثلاً ثلاث أو أربع ركعات بحجة أنه أتى بالركعتين التي ثبتت بالسنة ثم أضاف إليها ركعتين زيادة في الخير! ! .
خامساً : قال الشيخ التويجري ـ رحمه الله ـ في "لرد القوي"(61–62) :
( ان النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يخص اليوم الثاني عشر من ربيع الأول ان صح ان ذلك هو يوم
مولده بالصيام ولا بشيء من الأعمال دون سائر الأيام ولو كان يعظم يوم مولده ، كما يزعمون لكان يتخذ ذلك اليوم عيداً في كل سنة ، أو كان يخصه بالصيام أو بشيء من الأعمال دون سائر الأيام .(1/19)
وفي عدم تخصيصه بشيء من الأعمال دون سائر الأيام دليل على أنه لم يكن يفضله على غيره وقد قال تعالى : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر } ) انتهى كلام الشيخ التويجري بتصرف.
سادساً: قال الشيخ بن منيع ـ حفظه الله ـ في "حوار مع المالكي" ( 50–51) :
( أما قول المالكي عن صيام الرسول - صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين : ( وهذا في معنى الاحتفال به ،
إلا أن الصورة مختلفة ، ولكن المعنى موجود ) فالجواب عنه يفهم من الجواب عن السؤال التالي:
هل يجوز لنا أن نقول : أن مشروعية الصلاة في الأوقات الخمسة تعني مشروعية الصلاة في الجملة ، وأنه يجوز لنا أن نحدث وقتا أو وقتين زيادة على الصلوات الخمس المكتوبة ؟
وأنه يجوز لنا أن نقول : أن مشروعية صيام رمضان ، تعني مشروعية الصيام في الجملة !
وأنه يجوز لنا أن نحدث صيام شهر آخر غير رمضان على سبيل الوجوب؟
هل يجوز لنا أن نقول : أن مشروعية الحج في زمان مخصوص ، تعني مشروعيته في الجملة ، وأنه يجوز لنا أن نقول : أن بتوسعة وقت الحج طوال العام كالعمرة تخفيفا على الأمة وتوسعة عليها ؟
إننا حينما نقول بذلك لا نقول بأن الصورة مختلفة ، بل الصلاة هي الصلاة ، والصوم هو الصوم، والحج هو الحج ، إلا أن الجديد في ذلك الزيادة على المشروع فقط .
يلزم المالكي أن يقول : بجواز ذلك كما قال : بأن صيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم مولده ، يدل على جواز إقامة الاحتفال بذكرى المولد ) انتهى كلام الشيخ ابن منيع بتصرف.
5 ـ الشبهة الخامسة : ما ثبت في الصحيحين ان النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قدم المدينة رأى اليهود تصوم عاشوراء فقال : { ما هذا ؟ } قالوا : ( يوم صالح نجى الله فيه موسى وبني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى ) فقال : { أنا أحق بموسى منكم فصامه وأمر بصيامه } .
ورد الاستدلال بهذا الحديث في جواب للحافظ ابن حجر العسقلاني عن سؤال وجه إليه(1/20)
عن عمل المولد حسبما ذكره السيوطي في "حسن المقصد في عمل المولد" ضمن "الحاوي للفتاوى" (1/196) حيث جاء فيه :
( أصل عمل المولد بدعة لم تنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة ولكنها مع ذلك قد اشتملت على محاسن وضدها فمن تحرى في عملها المحاسن وتجنب ضدها كان بدعة حسنة وإلا فلا .
وقد ظهر لي تخريجها على أصل ثابت وهو ما ثبت في الصحيحين ( ثم ذكر الحديث ) فيستفاد منه فعل الشكر لله على ما من به في يوم معين من إسداء نعمة أو دفع نقمة ويعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سنة والشكر لله يحصل بأنواع العبادة كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة. وأي نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبي نبي الرحمة في ذلك اليوم وعلى هذا فينبغي أن يتحرى اليوم بعينه حتى يطابق قصة موسى في يوم عاشوراء .
ومن لم يلاحظ ذلك لا يبالي بعمل المولد في أي يوم من الشهر بل توسع قوم فنقلوه إلى يوم من
السنة وفيه ما فيه… إلى آخر كلامه ) .
وقد نقل محمد بن علوي المالكي كلام الإمام ابن حجر مختصرا في "البيان والتعريف"
(ص10–11) وقال في رسالته "حول الاحتفال بالمولد" (ص11–12) :
( أن النبي - صلى الله عليه وسلم -كان يلاحظ ارتباط الزمان بالحوادث الدينية العظمى التي مضت وانقضت
فإذا جاء الزمان الذي وقعت فيه كان فرصة لتذكّرها وتعظيم يومها، لأجلها ولأنه ظرف لها.
وقد أصّل - صلى الله عليه وسلم - هذه القاعدة بنفسه كما صرح في الحديث ( ثم ذكر حديث صيام يوم
عاشوراء) اهـ.
والجواب :
أولاً : يفهم مما سبق (ص16ـ21) .
ثانياً : قال العلامة الأنصاري في "القول الفصل" (ص78 – 79) :(1/21)
( أن المحاسن التي ورد في فتوى الحافظ أن من تحراها في عمل المولد وتجنب ضدها كان عمل المولد بدعة حسنة لا تعد هي بنفسها من البدع وإنما البدعة فيها جعل ذلك الاجتماع المخصوص بالهيئة المخصوصة في الوقت المخصوص واعتبار ذلك العمل من قبيل شعائر الإسلام التي لا تثبت إلا بنص من كتاب أو سنة بحيث يظن العوام الجاهلون بالسنن أن عمل المولد من أعمال القرب المطلوبة شرعا !.
وعمل المولد بهذه القيود بدعة سيئة وجناية على دين الله وزيادة فيه تعد من شرع ما لم يأذن به الله ومن الافتراء على الله والقول في دينه بغير علم .
ثم أن حديث صوم يوم عاشوراء لنجاة موسى عليه السلام فيه وإغراق فرعون فيه ليس فيه سوى أن النبي - صلى الله عليه وسلم -صامه وأمر بصومه دون زيادة على ذلك ) انتهى بتصرف.
ثالثاً : أن الشرط الذي شرطه الحافظ ابن حجر للاحتفال بالمولد النبوي وهو تحري ذلك اليوم بعينه حتى يطابق قصة موسى عليه السلام لا يلتزمه كثير ممن تبعوه في الاستدلال بهذا الحديث على مشروعية الاحتفال بالمولد فقد قال محمد بن علوي المالكي في "حول الاحتفال بالمولد" (ص6) :
( أننا لا نقول بسنية الاحتفال بالمولد المذكور في ليلة مخصوصة بل من اعتقد ذلك فقد ابتدع في الدين ، لأن ذكره - صلى الله عليه وسلم - والتعلق به يجب أن يكون في كل حين ، ويجب أن تمتلئ به النفوس … الخ ) .
وعلى كلامه فإن الإمام ابن حجر العسقلاني يكون قد وقع في الابتداع في الدين فإنه خصص الاحتفال بيوم واحد في العام كما هو واضح في كلامه السابق ! .
رابعاً : قال الشيخ الجزائري في "الإنصاف فيما قيل في المولد"(ص63) :(1/22)
( ان الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد صام يوم عاشوراء وحث على صيامه فكان صيامه سنة وسكت عن يوم ولادته الذي هو الثاني عشر من ربيع الأول كما يقول به اكثر المحتفلين فلم يشرع فيه شيئاً فوجب أن نسكت كذلك، ولا نحاول أن نشرع فيه صياماً ولا قياماً فضلاً عن احتفالاً) انتهى كلامه بتصرف.
ثم أقول للمالكي حيث أجاز الاحتفال بالمولد في أي يوم :
هل يجوز أن نصوم أو نعمل أي عمل صالح في أي يوم غير يوم عاشورا شكرا لله لأنه نجى موسى عليه السلام وقومه من فرعون ؟ ! .
وأما بالنسبة لقول المالكي : ( ان النبي - صلى الله عليه وسلم -كان يلاحظ ارتباط الزمان بالحوادث الدينية العظمى التي مضت وانقضت فإذا جاء الزمان الذي وقعت فيه كان فرصة لتذكرها وتعظيم يومها لاجلها ولأنه ظرف لها ) ؛ فقد أجاب عنه الشيخ التويجري رحمه الله في "الرد القوي"
(ص68 – 69) :
( ان من أعظم الأمور التي وقعت في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، مجيء الملك إليه بالنبوة وهو في غار حراء وتعليمه أول سورة { اقرأ باسم ربك الذي خلق } .
ومن أعظم الأمور أيضاً الإسراء به إلى بيت المقدس والعروج به إلى السموات السبع وما فوقها وتكليم الرب تبارك وتعالى له وفرضه الصلوات الخمس ، ومن أعظم الأمور أيضاً هجرته - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة ، ومن أعظم الأمور أيضاً وقعة بدر وفتح مكة ، و لم يرد عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يعمل الاجتماع لتذكر شيء من هذه الأمور العظيمة وتعظيم أيامها.
ولو كانت قاعدة ابن علوي التي توهمها وابتكرها صحيحة لكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يهتم بأوقات هذه الأمور العظيمة ويعقد الاجتماعات لتذكرها وتعظيم أيامها.
وفي تركه - صلى الله عليه وسلم - ذلك أبلغ رد على مزاعم ابن علوي وغيره وتقولهم على النبي - صلى الله عليه وسلم - ) انتهى بتصرف واختصار.(1/23)
6 ـ الشبهة السادسة : ما جاء عن عروة أنه قال في ثويبة مولاة أبي لهب : وكان أبولهب أعتقها فأرضعت النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما مات أبو لهب أريه بعض أهله بشر حيبة قال له : ماذا لقيت؟ قال أبو لهب : لم ألق بعدكم غير أني سقيت في هذه بعتاقتي ثويبة " .
استدل محمد بن علوي المالكي بهذه القصة في رسالته "حول الاحتفال بالمولد" (ص8) حيث قال :
( أن الاحتفال بالمولد النبوي الشريف تعبير عن الفرح والسرور بالمصطفى - صلى الله عليه وسلم - وقد
انتفع به الكافر ..
فقد جاء في البخاري أنه يخفَف عن أبي لهب كل يوم اثنين بسبب عتقه لثويبة جاريته لما بشرته بولادة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -...
وهذه القصة رواها البخاري في الصحيح في كتاب النكاح ونقلها الحافظ ابن حجر في الفتح … وهي وإن كانت مرسلة إلا أنها مقبولة لأجل نقل البخاري لها واعتماد العلماء من الحفاظ لذلك ولكونها في المناقب والخصائص لا في الحلال والحرام وطلاب العلم يعرفون الفرق في الاستدلال بالحديث بين المناقب والأحكام وأما انتفاع الكفار بأعمالهم ففيه كلام بين العلماء ليس هذا محل بسطه ، والأصل فيه ما جاء في الصحيح من التخفيف عن أبي طالب بطلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) انتهى باختصار.
والجواب :
أولاً : يفهم مما جاء في (ص16ـ21) .
ثانياً : قال العلامة الأنصاري رحمه الله في "القول الفصل" (ص84 – 87) :
( ان هذا الخبر لا يجوز الاستدلال به لأمور:
أولاً : أنه مرسل كما يتبين من سياقه عند البخاري في باب { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم } { ويحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب } من صحيحه فقد قال :
(حدثنا الحكم بن نافع أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني عروة بن الزبير أن زينب ابنة أبي سلمة أخبرته أن أم حبيبة بنت أبي سفيان أخبرتها أنها قالت : ( يا رسول الله انكِحْ أختي بنت أبي سفيان ، فقال: { أو تحبين ذلك ؟ } فقلت : نعم ، لست لك بمخليةٍ ،(1/24)
وأحب من شاركني في خيرٍ أختي .
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : { إن ذلك لا يحل لي } .
قلت : فإنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة . قال : بنت أم سلمة ؟
قلت : نعم . فقال : { لو أنها لم تكن ربيبتي في حجري ماحلت لي . إنها لاَبنة أخي من الرضاعة . أرضعتني وأبا سلمة ثويبة فلا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن } .
قال عروة : وثويبة مولاة لأبي لهبٍ وكان أبو لهبٍ أعتقها فأرضعت النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلما مات أبو لهب أريه بعض أهله بشر حِيبةٍ ، قال له : ماذا لقيت ؟
قال أبو لهب : لم ألق بعدكم . غير أني سقيت في هذه بعتاقتي ثويبة " ) انتهى.
ولهذا قال الحافظ ابن حجر "فتح الباري" (9/49) : ( إن الخبر ـ أي المتعلق بتلك القضية ـ مرسل أرسله عروة ولم يذكر من حدثه به...الخ ) .
وبهذا نعلم انه لا يجوز الاستدلال بهذا الخبر لأنه مرسل ، والمرسل من قسم الضعيف لأننا
لا نعلم صدق من أخبر عروة بذلك الخبر ؛ والبخاري رحمه الله لم يشترط الصحة في كتابه
إلا على الأحاديث المتصلة السند .
ثانياً : أن ذلك الخبر لو كان موصولا لا حجة فيه لأنه رؤيا منام ورؤيا المنام لا يثبت بها حكم شرعي ذكر ذلك أيضا الحافظ ابن حجر.
وقد قال علوي بن عباس المالكي ـ والد محمد المالكي ـ في "نفحات الإسلام من البلد الحرام" (ص164–165) والذي جمع مواضيعه ورتبه محمد المالكي نفسه ؛ أثناء إنكاره القصة المشهورة الباطلة عن الشيخ احمد خادم الحجرة النبوية :
( النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة ، وترك للناس شريعة واحدة
لا تحتاج إلى تتميم برؤيا في المنام ، والرؤيا المنامة ليست طريقاً للتشريع ولا مستنداً لحكم شرعي أصلاً لأن النائم لا يضبط لغفلته بمنامه فكيف يعتمد على رؤياه ...الخ ) .(1/25)
ثالثاً : أن ما في مرسل عروة هذا من أن إعتاق أبي لهب ثويبة كان قبل إرضاعها النبي صلى الله عليه وسلم يخالف ما عند أهل السير من أن إعتاق أبى لهب إياها كان بعد ذلك الإرضاع بدهر طويل كما ذكر الحافظ ابن حجر في " الفتح" (9/48) وأوضحه في " الإصابة في تمييز الصحابة" (4/250) والحافظ ابن عبدالبر في "الاستيعاب في أسماء الأصحاب"
(1/12) والحافظ ابن الجوزي في "الوفا بأحوال المصطفى" (1/106).
رابعاً : أن هذا الخبر مخالف لظاهر القرآن كما أوضحه الحافظ ابن حجر في " الفتح " حيث قال في كلامه عليه (9/49) : ( وفي الحديث دلالة على أن الكافر قد ينفعه العمل الصالح في الآخرة ؛ لكنه مخالف لظاهر القرآن ، قال الله تعالى { وقدمنآ إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هبآء منثوراً } ) ثم نقل عن حاشية ابن المنير أن ما في ذلك المرسل من اعتبار طاعة الكافر مع كفره محال لأن شرط الطاعة أن تقع بقصد صحيح وذلك مفقود مع الكافر.
فإعتاق أبى لهب لثويبة ما دام الأمر كذلك لم يكن قربة معتبرة فإن قيل إن قصة إعتاق أبى لهب ثويبة مخصوصة من ذلك كقصة أبى طالب قلنا : إن تخفيف العذاب عن أبى طالب ثبت بنص صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأما ما وقع لأبى لهب في ذلك المرسل فمستنده مجرد كلام لأبى لهب في المنام فشتان ما بين الأمرين ) انتهى كلام الأنصاري بتصرف .
يضاف إلى ذلك ان تخفيف العذاب عن أبي طالب كان بسبب شفاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما قال
الرسول - صلى الله عليه وسلم - : { لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منها دماغه } .
خامساً: قال الشيخ أبو بكر الجزائري في "الإنصاف فيما قيل في المولد"(ص60) :(1/26)
( ان الفرح الذي فرحه أبو لهب بمولود لأخيه فرح طبيعي لا تعبدي ، إذ كل إنسان يفرح بالمولود يولد له ، أو لأحد إخوانه أو أقاربه ، والفرح إن لم يكن لله لا يثاب عليه فاعله ، وهذا يضعف هذه الرواية و يبطلها ) اهـ .
سادساً: قال العلامة التويجري رحمه الله في "الرد القوي" (ص56) :
(لم يجيء في هذه الرواية مع ضعفها أنه يخفف عن أبي لهب العذاب كل إثنين ولا أن أبا لهب
أعتق ثويبة من أجل بشارتها إياه بولادة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، فكل هذا من التقول على البخاري ) انتهى كلام العلامة التويجري بتصرف .
سابعاً : وقال العلامة التويجري رحمه الله أيضاً في المصدر السابق :
(لم يثبت من طريق صحيح أن أبا لهب فرح بولادة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا أن ثويبة بشرته بولادته ، فكل هذا لم يثبت ، ومن ادعى ثبوت شيء من ذلك فعليه إقامة الدليل على ما ادعاه.ولن يجد إلى الدليل الصحيح سبيلاً ) انتهى بتصرف.
ثامناً : قول المالكي : (وهذه القصة رواها البخاري في الصحيح في كتاب النكاح ونقلها الحافظ ابن حجر في الفتح ـ إلى ان قال ـ وهي وان كانت مرسلة الا أنها مقبولة لأجل نقل البخاري لها واعتماد العلماء من الحفاظ لذلك ولكونها في المناقب والخصائص لا في الحلال والحرام وطلاب العلم يعرفون الفرق في الاستدلال بالحديث بين المناقب والأحكام .
وأما انتفاع الكفار بأعمالهم ففيه كلام بين العلماء ليس هذا بسطه والأصل فيه ما جاء في الصحيح من التخفيف عن أبي طالب بطلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) يثير عندي بعض الأسئلة وهي :
من أين نقل الحافظ ابن حجر هذه القصة في "الفتح" ؟ !
ولماذا أورد المالكي هذه القصة ؟ !
ان كتاب الحافظ ابن حجر "فتح الباري" إنما هو شرح للأحاديث والآثار الواردة في صحيح البخاري ، فما معنى التفريق بين إخراج البخاري لهذه القصة في صحيحه وبين نقل ابن حجر لها في الفتح ؟! أم ان المقصود تكثير المصادر ليوهم السذج ؟(1/27)
ثم ان المالكي إنما أورد هذه القصة ليستدل بها على جواز بل سنية الاحتفال بالمولد كما مر معنا سابقا، فما معنى قوله عن هذه القصة : (أنها مقبولة لأجل نقل البخاري لها واعتماد العلماء من الحفاظ لذلك ولكونها في المناقب والخصائص لا في الحلال والحرام وطلاب العلم يعرفون الفرق في الاستدلال بالحديث بين المناقب والأحكام ) ؟ !
هل يقصد انه لا يريد ذكر هذه القصة لبيان حلال أو حرام وإنما لبيان للمناقب والخصائص ؟ فما فائدة ذكرها كدليل على جواز الاحتفال بالمولد ؟
وأما بالنسبة إلى تخفيف العذاب عن الكافر فقد مر معنا قول ابن حجر في ذلك واستدلاله بالآية ، والأصل في ذلك تلك الآية بالإضافة إلى بعض الأحاديث الصحيحة ومنها ما جاء عن عائشة رضي الله عنها قالت :
قلت : ( يا رسول الله إن ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين ، فهل ذلك نافعه ؟
قال : { لا ينفعه إنه لم يقل يوماً رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين } .
فهذا هو الأصل وقد قال محمد بن علوي المالكي نفسه في "شرح منظومة الورقات"( ص28) في باب النهي :
( الكفار داخلون في الخطاب بجميع فروع الشريعة فهم مخاطبون بها مع انتفاء شرطها وهو الإسلام فيعذبون حينئذ على أمرين :
على ترك الفروع وعلى ترك الإسلام الذي بدونه فروع الشريعة ممنوعة لا تصح ومع كونهم مخاطبين بالفروع إلا أنها لا تصح منهم إذا فعلوها إلا بالإسلام ) اهـ.
أما تخفيف العذاب عن أبي طالب فإنه مستثنى من هذا الأصل وذلك بسبب شفاعة - صلى الله عليه وسلم - كما مر معنا وباعتراف المالكي ! .
7 ـ الشبهة السابعة : قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - في فضل يوم الجمعة : { إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة ، فيه خلق آدم ، وفيه قبض } رواه أبو داود.
استدل بهذا محمد المالكي في " حول الاحتفال" (ص14) حيث قال :(1/28)
( يؤخذ من قوله - صلى الله عليه وسلم -في فضل يوم الجمعة ، وعدّ مزاياه : وفيه خلق آدم تشريف الزمان الذي ثبت أنه ميلاد لأي نبي كان من الأنبياء عليهم السلام فكيف باليوم الذي ولد فيه أفضل النبيين وأشرف المرسلين.
ولا يختص هذا التعظيم بذلك اليوم بعينه بل يكون له خصوصاً ولنوعه عموماً مهما تكرر
كما والحال في يوم الجمعة ، شكراً للنعمة ، وإظهاراً لمزية النبوة وإحياءً للحوادث التاريخية) .
الجواب :
أولاً : يفهم الجواب مما سبق (ص16ـ21) .
ثانياً : قال العلامة ابن منيع حفظه الله في "حوار مع المالكي" (ص87) :
(جاءت النصوص الشرعية الصريحة الثابتة بفضل يوم الجمعة ، واعتباره أحد أعياد المسلمين، واختصاصه بخصائص ليست لغيره ، فنحن نقف مع النصوص الشرعية حيث وقفت ، ونسير معها حيث اتجهت : { ومآ آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا }
ولا نبيح لأنفسنا أن نشرع تفضيل يوم بعينه ، لم يرد النص بتفضيله ، إذ لو كان خيرا لشرع لنا تفضيله ، كما شرع لنا تفضيل يوم الجمعة { وما كان ربك نسياً } .
ولو جاءت نصوص شرعية تنص على فضل يوم ذكرى ميلاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لكنا بتوفيق الله وهدايته أسرع الناس إلى اعتبار ذلك والأخذ به ، امتثالا لقوله تعالى :
{ ومآ آتاكم الرسول فخذوه } ) اهـ .
ثالثا ً: قال العلامة التويجري ـ رحمه الله ـ في "ارد القوي"(ص82) :
( ان النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يخص يوم الجمعة بشيء من نوافل الأعمال وقد نهى عن تخصيصه
بالصيام وعن تخصيص ليلة الجمعة بالقيام ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : { لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم } .(1/29)
وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يخص يوم الجمعة بشيء من نوافل الأعمال من أجل آدم عليه السلام قد خلق فيه فأي متعلق لابن علوي وغيره في ذكر ذلك الاستدلال به على جواز الاحتفال بالمولد ) انتهى بتصرف.
رابعاً : قال علي العيسى في "العقلية الإسلامية وفكرة المولد"(ص64–65) :
( لماذا نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صيام يوم الجمعة تطوعاً وحده ؟
ولماذا لم يقل إثر إخباره أو فيما بعد : فأقيموا لأبيكم وأبي عيد وجود ، أو حلقة ذكر بمناسبة الذكرى نتدارس فيها نعم الله على خلقه ، ونذكر فيها العامة ، وتكون سنة لمن بعدنا ؟ كما يقول بما يشبه هذا بعض المتأخرين.
وهل يمكن أن يجرؤ الشك على أن يوحى لنا بأن محمدا - صلى الله عليه وسلم - ذا الخلق العظيم محبته لأبيه آدم عليه السلام قاصرة أو معدومة ؟ ) انتهى بتصرف.
خامساً : أما بالنسبة لقول المالكي : (ولا يختص هذا التعظيم بذلك اليوم بعينه ، بل يكون له خصوصا ولنوعه عموما).
فقد أجاب عنه الشيخ عبدالله بن منيع في "حوار مع المالكي"(ص88) بقوله :
( ان هذا القول يقتضي أن نقيس في العبادات ، ولا يخفى ما عليه أهل العلم من علماء الأصول و فقهاء الأمة ، ممن يقولون بالقياس من أنهم يمنعون القياس في العبادات ، لأن القياس مبني على اتحاد المقيس والمقيس عليه في العلة ، والعبادات مبناها على التوقيف والتعبد، سواء كانت علة التشريع ظاهرة أو خفية ، فلا يجوز أن نقيس على أصل مشروعية الصلاة بتشريع صلاة سادسة بين الفجر والظهر مثلا ، ولا بتشريع صيام آخر بعد رمضان أو قبله ، ولا بزيادة ركعة أو أكثر على ركعات صلاة من الصلوات الخمس ، بحجة أن التشريع في الصلوات أو في الصيام أو في غيرهما من أنواع العبادة لها خصوصا ولنوعها عموما.(1/30)
إن الله حينما فضل يوم الجمعة على غيره من الأيام الأخرى على غيره من الأيام الأخرى ، وتحدث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما يدل على ذلك التفضيل و يؤكده قادر على تفضيل غيره من الأيام،كيوم مولد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، أو بعثته أو هجرته، ويعطي عباده نصوصا صريحة من قوله تعالى ، أو قول رسوله الأمين - صلى الله عليه وسلم - ، في تفضيل ذلك اليوم كما هو الحال في يوم الجمعة ، و في ليلة القدر ) انتهى كلامه باختصار.
8 ـ الشبهة الثامنة : ما أخرجه البيهقي عن انس رضي الله عنه : { أن النبي - صلى الله عليه وسلم -عق عن نفسه بعد النبوة } .
خرج السيوطي في "حسن المقصد في عمل المولد" عمل المولد عليه ولفظه : ( قلت قد ظهر لي تخريجه ـ أي عمل المولد ـ على أصل آخر وهو ما أخرجه البيهقي عن انس رضي الله عنه: { أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عق عن نفسه بعد النبوة } مع أنه قد ورد أن جده عبد المطلب عق عنه في سابع ولادته ، والعقيقة لا تعاد مرة ثانية فيحمل ذلك على أن الذي فعله النبي - صلى الله عليه وسلم -
اظهار للشكر على إيجاد الله إياه رحمة للعالمين وتشريع لأمته كما كان يصلي على نفسه لذلك
فيستحب لنا أيضا إظهار الشكر بمولده ) إلى آخر كلامه ، كما استدل بهذا الحديث محمد المالكي في "البيان والتعريف" (ص11) .
الجواب :
أولاً : قال العلامة الأنصاري ـ رحمه الله ـ في "القول الفصل في حكم الاحتفال بمولدخير الرسل"(ص80–84) :
( ان تخريج السيوطي عمل المولد النبوي على هذا الحديث ساقط لعدم ثبوت ذلك الحديث عند أهل العلم .
فقد قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في (كتاب العقيقة) من"تلخيص الحبير" (4/147) :
( قوله ـ أي الرافعي ـ روى أنه - صلى الله عليه وسلم -عق عن نفسه بعد النبوة البيهقي من حديث قتادة(1/31)
عن انس وقال : منكر ؛ وفيه عبدالله ابن محرر وهو ضعيف جدا، وقال عبد الرزاق إنما تكلموا فيه لأجل هذا الحديث ، قال البيهقي وروى من وجه آخر عن قتادة ومن وجه آخر عن انس وليس بشيء ، قلت ـ القائل ابن حجر العسقلاني ـ أما الوجه الآخر عن قتادة فلم أره مرفوعا وإنما ورد أنه كان يفتي به كما حكاه ابن عبد البر بل جزم البزار وغيره بتفرد عبدالله بن محرر به عن قتادة ، وأما الوجه الآخر عن انس فأخرجه أبو الشيخ في الأضاحي وابن أيمن في مصنفه والخلال من طريق عبدالله بن المثنى عن ثمامة بن عبدالله بن انس عن أبيه وقال النووي في "شرح المهذب" هذا حديث باطل ) اهـ .
كما ضعفه في "فتح الباري" (9/509) .
وقال الإمام النووي ـ رحمه الله ـ في "المجموع شرح المهذب" (8/412) في ( باب العقيقة ) : ( أما الحديث الذي ذكره ـ أي الشيرازي ـ في عق النبي - صلى الله عليه وسلم - عن نفسه فرواه البيهقي بإسناده عن عبدالله بن محرر بالحاء المهملة والراء المكررة عن قتادة عن انس { أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عنه نفسه بعد النبوة } وهذا حديث باطل ، قال البيهقي هو حديث منكر ، وروى البيهقي بإسناده عن عبد الرزاق قال : ( إنما تركوا عبدالله بن محرر بسبب هذا الحديث ) ، قال البيهقي : وقد روى هذا الحديث من وجه آخر عن قتادة ، ومن وجه آخر عن انس وليس بشيء ، فهو حديث باطل وعبدالله بن محرر ضعيف متفق على ضعفه قال الحفاظ هو ـ أي عبدالله بن محررـ متروك ) اهـ .
وقال الحافظ الذهبي في ترجمة عبدالله بن محرر من "ميزان الاعتدال في نقد الرجال" :
( من بلاياه ـ أي عبدالله بن محررـ روى عن قتادة عن انس ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عق عن
نفسه بعدما بعث ) رواه شيخان عنه ) اهـ .
وقال البزار : ( تفرد به عبدالله بن المحرر وهو ضعيف جدا إنما يكتب عنه ما لا يوجد عند غيره ) ورد هذا في ( باب قضاء العقيقة ) من كتاب "كشف الأستار عن زوائد البزار" للحافظ الهيثمي .(1/32)
وقال البيهقي في ( باب العقيقة سنة ) من " السنن الكبرى" (9/300) :
( قال عبدالزاق إنما تركوا عبدالله ابن محرر لحال هذا الحديث وقد روى من وجه آخر عن قتادة ومن آخر عن انس وليس بشيء ) . انتهى كلام البيهقي الذي عزا إليه السيوطي ذلك الحديث الذي ادعى أنه ظهر له تخريج عمل المولد عليه وقد أساء السيوطي التصرف حيث لم يذكر كلام البيهقي في الحديث بل تركه ليوهم من يقرأ تخريجه أنه صالح للاستدلال به.
وقال ابن القيم ـ رحمه الله ـ في "تحفة المودود بأحكام المولود" (ص57) :
( قال أحمد : عبدالله بن المحرر عن قتادة عن أنس " أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - عقَّ عن نفسه ،
منكر، وضعف عبدالله بن محرر.
وفي "مصنف عبدالرزاق" أنبأنا عبدالله بن محرر عن قتادة عن أنس ، انَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - عقَّ عن نفسه بعد النبوة ، قال عبدالرزاق : إنما تركوا ابن محرر لهذا الحديث ) انتهى كلام ابن القيم باختصار.
وقال الزرقاني في "شرح المواهب اللدنية" (1/140) تعليقا على قول السيوطي السابق :
( تعقبه النجم بأنه حديث منكر كما قاله الحافظ بل قال ـ أي النووي ـ في "شرح المهذب"
( انه حديث باطل ) فالتخريج عليه ساقط ) انتهى كلام الزرقاني .
كما ضعف هذا الحديث الإمام مالك كما في ( كتاب العقيقة ) من "المقدمات الممهدات لبيان ما اقتضته رسوم المدونة من الأحكام" لابن رشد (2/15) .
كما ضعف راويه عبدالله بن محرر ابن حبان في "كتاب المجروحين" (2/29) ) انتهى كلام العلامة الأنصاري رحمه الله بتصرف .
ثانياً: قال الشيخ أبو بكر الجزائري ـ حفظه الله ـ في "الإنصاف فيما قيل في المولد"
(ص61 –62):
( هل ثبت أن العقيقة كانت مشروعة لأهل الجاهلية وهم يعملون بها حتى نقول إن عبدالمطلب قد عق عن ابن ولده ؟
وهل أعمال أهل الجاهلية يعتد بها في الإسلام؟ حتى نقول إذا عق النبي - صلى الله عليه وسلم - عن نفسه شكراً لا قياماً بسنة العقيقة، إذا قد عق عنه ؟(1/33)
سبحان الله ما أعجب هذا الاستدلال وما أغربه ، وهل إذا ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذبح شاة
شكراً لله تعالى على نعمة إيجاده وإمداده يلزم من ذلك اتخاذ يوم ولادته - صلى الله عليه وسلم -عيداً للناس ؟
و لم لم يدعُ إلى ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويبين للناس ماذا يجب عليهم فيه من أقوال وأعمال ؟ كما بين ذلك في عيدي الفطر والأضحى .
أنسي ذلك أم كتمه ، وهو المأمور بالبلاغ ؟
سبحانك اللهم إن رسولك - صلى الله عليه وسلم - ما نسي ولا كتم ولكن الإنسان كان أكثر شيء جدلاً) اهـ.
9 ـ الشبهة التاسعة : ان جبريل عليه السلام طلب ليلة الإسراء والمعراج من النبي - صلى الله عليه وسلم -،
بصلاة ركعتين ببيت لحم ، ثم قال : ( أتدري أين صليت ؟ صليت ببيت لحم حيث ولد عيسى عليه السلام ) .
استدل به محمد علوي المالكي في "حول الاحتفال" (ص14ـ15) .
الجواب :
أولاً : قال العلامة الأنصاري ـ رحمه الله ـ في "القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل" (ص 138–145) :
( ان أمر جبريل عليه السلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - بذلك ورد من رواية شداد ابن أوس وانس
بن مالك وأبي هريرة رضي الله عنهم لقصة الإسراء لكنه مستنكر كما يتبين فيما يلي :
أ – أما رواية شداد بن أوس رضي الله عنه فقد قال الإمام الترمذي : حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن العلاء بن الضحاك الزبيدي حدثنا عمرو بن الحارث عن عبدالله بن سالم الأشعري عن محمد بن الوليد بن عامر الزبيدي حدثنا أبو الوليد بن عبد الرحمن عن جبير بن نفير حدثنا شداد بن أوس قال: قلنا: يا رسول الله كيف أسري بك قال : ( … ( فذكر فيه ) ثم بلغنا أرضا بدت لنا قصور فقال ( أي جبريل عليه السلام ) :
انزل فنزلت فقال صل . فصليت ثم ركبنا فقال أتدري أين صليت ؟ قلت : الله أعلم . قال : صليت ببيت لحم حيث ولد عيسى بن مريم … ) الخ .(1/34)
ومن طريق الترمذي هذا بسنده ومتنه روى البيهقي هذه الرواية كما بينه ابن كثير في تفسيره و هذه الرواية تكلم فيها الحافظان الذهبي وابن كثير متعقبين بكلامهما قول البيهقي في إسنادها ( هذا إسناد صحيح ) .
فقد قال الحافظ الذهبي في "تاريخ الإسلام" (1/142) بعد إيراد كلام البيهقي هذا في إسنادها :
( قلت : ابن زبريق ـ أي إسحاق بن إبراهيم بن العلاء الزبيدي ـ تكلم فيه النسائي ) اهـ .
وقال في ترجمته من "ميزان الاعتدال" (1/181) ان النسائي قال ليس بثقة ثم قال أبو داود ليس بشيء وكذبه محدث حمص محمد ابن عوف الطائي.
تعقب الذهبي بهذا قول أبي حاتم في ابن زبريق : ( لا باس به سمعت ابن معين يثني عليه ) .
وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره لسورة الإسراء بعد إيراده حديث شداد بن أوس هذا من طريق الترمذي :
( رواه البيهقي من طريقين عن أبي إسماعيل الترمذي به ) ثم قال بعد تمامه : ( هذا إسناد صحيح قال وقد روى هذا الحديث عن شداد بن أوس بطوله الإمام أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم في تفسيره عن أبيه عن إسحاق بن إبراهيم بن العلاء الزبيدي به ) ذكر ابن كثير هذا كله ثم قال : ( ولا شك أن هذا الحديث أعني الحديث المروي عن شداد بن أوس مشتمل على أشياء منها ما هو صحيح كما ذكره البيهقي ومنها ما هو منكر كالصلاة في بيت لحم وسؤال الصديق عن نعت بيت المقدس وغير ذلك والله أعلم ) اهـ .
وأما رواية أنس رضي الله عنه لهذا الحديث فعند النسائي في كتاب الصلاة تحت عنوان فرض الصلاة في (1/221) من "المجتبى" قال : (اخبرنا عمرو ابن هشام قال حدثنا مخلد هو ابن الحسين عن سعيد بن عبدالعزيز قال حدثنا يزيد ابن أبي مالك قال حدثنا أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ثم ذكر الحديث وفيه) : (ثم قال : نزل فصل فنزلت فصليت فقال أتدري أين صليت ؟ صليت ببت لحم حيث ولد عيسى عليه السلام … ) الخ .(1/35)
ومن طريق "المجتبى"للنسائي هذا أورد ابن كثير هذه الرواية في "تفسيره" (3/6) ضمن أحاديث الإسراء وقال في (ص5) : (فيها غرابة ونكارة جداً ) .
وقال في "الفصول في اختصار سيرة الرسول" في حديث انس هذا الذي رواه النسائي في "المجتبى":
( غريب منكر جدا وإسناده مقارب وفي الأحاديث الصحيحة ما يدل على نكارته والله أعلم ) اهـ .
وأما رواية أبي هريرة رضي الله عنه لهذا الحديث فعند ابن حبان في "المجروحين"
(1/187-188) في ترجمة بكر بن زياد الباهلي قال أبو حاتم بن حبان بعد أن ذكر أنه شيخ
دجال يضع الحديث على الثقات لا يحل ذكره في الكتب الا على سبيل القدح فيه قال : (روى ـ أي بكر بن زياد الباهلي ـ بكر بن زياد عن عبدالله بن المبارك عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن أبي هريرة ( ثم ذكر الحديث )وهذا شيء لا يشك عوام أصحاب الحديث أنه موضوع فكيف البزل في هذا الشأن ) انتهى كلام ابن حبان.
وقد تلقى كلام ابن حبان في بكر بن زياد الباهلي هذا ابن الجوزي في "الموضوعات" (1/ 113 –114 ) ، والسبكي في "شفاء السقام" (ص133) ، والذهبي في "ميزان الاعتدال" (1/345) ، والشوكاني في "الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة" (ص441).
وقال ابن كثير في "الفصول في اختصار سيرة الرسول" (ص122) بعد ان ذكر حديث انس المتقدم و ذكر انه غريب منكر جدا قال : ( وكذلك الحديث الذي تفرد به بكر بن زياد الباهلي المتروك عن عبدالله بن المبارك عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : { ليلة أسري بي قال جبريل هذا قبر أبيك إبراهيم انزل فصل فيه } لا يثبت أيضا لحال بكر بن زياد المذكور ) اهـ .
وقال شيخ الاسلام ابن تيمية في "تفسير سورة الإخلاص" (ص 169) :(1/36)
(الذي يرويه بعضهم في حديث الإسراء أنه قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم - هذه طيبة انزل فصل فنزل فصلى هذا مكان أبيك انزل فصل كذب موضوع ؛ لم يصل النبي - صلى الله عليه وسلم - تلك الليلة الا في المسجد الأقصى خاصة كما ثبت ذلك في الصحيح ولا نزل إلا فيه ) اهـ .
وقال ابن القيم في "زاد المعاد" : ( قد قيل انه ـ أي النبي - صلى الله عليه وسلم - ـ نزل ببيت لحم و صلى فيه ولم يصح ذلك عنه ألبته ) اهـ .
هذا كلام أولئك العلماء في روايات أمر جبريل عليه السلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وبه يتضح بطلان
دعوى الحافظ ابن حجر في "لسان الميزان" (2/50–51) : ( ان الموضوع من حديث بكر بن زياد هو من قوله ( ثم أتى الصخرة ) وأما باقية فقد جاء في طريق أخرى فيها الصلاة ببيت لحم وردت من حديث شداد بن أوس ) اهـ ) انتهى كلام العلامة الأنصاري رحمه الله بتصرف.
وقال الشيخ حمود التويجري ـ رحمه الله ـ عن رواية انس رضي الله عنه لهذا الحديث "الرد القوي" (ص 86) :
(رواه النسائي في سننه عن عمرو بن هشام عن مخلد ـ وهو ابن يزيد القرشي ـ عن سعيد بن
عبدالعزيز عن يزيد بن أبي مالك عن انس بن مالك رضي الله عنه ، وقد قال الحافظ ابن حجر في كل من يزيد ومخلد أنه صدوق له أوهام.
وقال الذهبي في "الميزان" يزيد بن أبي مالك صاحب تدليس وإرسال عمن لم يدرك، وقال يعقوب الفسوي يزيد بن أبي مالك فيه لين، وقال الذهبي أيضا في ترجمة مخلد بن يزيد القرشي صدوق مشهور روى حديثا في الصلاة مرسلا فوصله قال أبو داود مخلد شيخ إنما رواه
الناس مرسلا وقال الحافظ ابن حجر في ترجمة مخلد بن يزيد القرشي من "تهذيب التهذيب" قال الأثرم عن احمد لا باس به وكان يهم وقال الساجي : كان يهم ثم ذكر ابن حجر من أوهامه حديثا وصله وهو مرسل .(1/37)
وهذا مما يدعو إلى التوقف في قبول الحديث لأنه يحتمل أن يكون قد وقع فيه وهم من أحد الرجلين.ولهذا قال الحافظ ابن كثير ان فيه غرابة ونكارة جدا ) اهـ.
ثانياً : قال العلامة التويجري ـ رحمه الله ـ في "الرد القوي" (ص87 ـ 88) :
( روى الإمام احمد وأبو داود الطيالسي بإسناد صحيح عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه الله عنهما ان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : { أتيت بالبراق وهو دابة أبيض فوق الحمار ودون البغل فلم نزايل ظهره أنا وجبريل حتى انتهينا إلى بيت المقدس.. } الحديث وقد رواه الترمذي وقال : ( هذا حديث حسن صحيح ) وصححه أيضا ابن حبان والحاكم والذهبي .
وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - : { فلم نزايل ظهره أنا وجبريل حتى انتهينا إلى بيت المقدس } أبلغ رد على ما جاء في حديث انس وشداد بن أوس وأبي هريرة رضي الله عنهم ، ولو ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى ليلة الإسراء وهو ذاهب إلى بيت المقدس في بيت لحم لم يكن في ذلك ما يؤيد بدعة المولد ولا غيرها من البدع ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر أمته بتعظيم بيت لحم و لم يأمرهم بالصلاة فيه ولم يكن أحد من الصحابة رضي الله عنهم يعظم بيت لحم ويصلي فيه.
والخير كل الخير في اتباع ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -وأصحابه رضي الله عنهم ، والشر كل الشر في مخالفتهم والأخذ بالبدع وتعظيمها وتعظيم أهلها وإطراح الأحاديث الصحيحة في ذم المحدثات والتحذير منها ) اهـ .
( ( ( التأكد من صحة الحديث )))) .
10 ـ الشبهة العاشرة : ان شعراء الصحابة كانوا يقولون قصائد المدح في الرسول - صلى الله عليه وسلم - مثل كعب بن زهير وحسان بن ثابت ؛ فكان يرضى عملهم ؛ ويكافئهم على ذلك بالصلات والطيبات.
استدل بهذا هاشم الرفاعي في مقاله كما في " الرد القوي" (ص78) للتويجري والحميري في "بلوغ المأمول" (ص49–52) .(1/38)
الجواب : قال العلامة التويجري رحمه الله في "الرد القوي" (ص79) :
( لم يذكر عن أحد من شعراء الصحابة رضي الله عنهم ، أنه كان يتقرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بإنشاد القصائد في ليلة مولده وإنما كان إنشادهم في الغالب عند وقوع الفتوح والظفر بالأعداء ، وعلى هذا فليس إنشاد كعب بن زهير وحسان بن ثابت وغيرهما من شعراء الصحابة رضي الله عنهم بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يتعلق به الرفاعي وغيره في تأييد بدعة المولد) انتهى كلامه باختصار.
11 ـ الشبهة الحادية عشر : أن الموالد اجتماع ذكر وصدقة ومدح وتعظيم للجناب النبوي وهذه أمور مطلوبة شرعا وممدوحة وجاءت الآثار الصحيحة بها وبالحث عليها.
الجواب :
قال العلامة إسماعيل الأنصاري ـ رحمه الله ـ في "القول الفصل" :
( الجواب عن هذه الشبهة بأمور أحدها: ما أوضحه السيد رشيد رضا في الجزء الخامس من "الفتاوى" وهو أن الإنكار على إقامة المولد وان كان يحتوي على بعض الأمور المشروعة يرجع إلى ذلك الاجتماع المخصوص بتلك الهيئة المخصوصة في الوقت المخصوص وإلى اعتبار ذلك العمل من شعائر الإسلام التي لا تثبت إلا بنص الشارع بحيث يظن العوام والجاهلون بالسنن أن عمل المولد من أعمال القرب المطلوبة شرعا.
وعمل المولد بهذه القيود بدعة سيئة وجناية على دين الله وزيادة فيه تعد من شرع ما لم يأذن به الله ومن الافتراء على الله والقول في دينه بغير علم .
قال العلامة ابن الحاج ـ رحمه الله ـ في "المدخل" (2/312) :(1/39)
( فإن خلا ـ أي عمل المولد ـ منه ـ أي من السماع ـ وعمل طعاما فقط ، ونوى به المولد ودعا إليه الاخوان ، وسلم من كل ما تقدم ذكره ـ أي من المفاسد ـ فهو بدعة بنفس نيته فقط ، إذ إن ذلك زيادة في الدين ليس من عمل السلف الماضين ، وإتباع السلف أولى بل أوجب من أن يزيد نية مخالفة لما كانوا عليه ، لأنهم أشد الناس اتباعاً لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وتعظيما له ولسنته - صلى الله عليه وسلم - ، ولهم قدم السبق في المبادرة إلى ذلك ، ولم ينقل عن أحد منهم أنه نوى المولد، ونحن لهم تبع ، فيسعنا ما وسعهم...الخ ) .
وقال أيضاً فيمن اقتصر في عمل المولد على إطعام الاخوان ليس إلا ونوى بذلك المولد :
( هذا ـ أي قراءة البخاري عوضا عن تلك الأعمال بنية المولد ـ وإن كانت قراءة الحديث في نفسها من أكبر القرب والعبادات وفيها البركة العظيمة والخير الكثير لكن إذا فعل ذلك بشرطه اللائق به على الوجه الشرعي كما ينبغي لا بنية المولد ألا ترى أن الصلاة من أعظم القرب إلى الله تعالى ومع ذلك فلو فعلها إنسان في غير الوقت المشروع لها لكان مذموماً مخالفا فإذا كانت الصلاة بهذه المثابة فما بالك بغيرها)) انتهى النقل عن " القول الفصل" باختصار .
فالأعمال الصالحة لا تقبل إلا بشرطين كما قال أهل العلم : الإخلاص ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم .
12 ـ الشبهة الثانية عشر : أن الاحتفال بالمولد النبوي أمر استحسنه العلماء وجرى به العمل في كل صقع فهو مطلوب شرعا للقاعدة المأخوذة من أثر ابن مسعود رضي الله عنه :
( ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وما رآه المسلمون قبيحا فهو عند الله قبيح ) .
ورد الاستدلال بهذا في رسالة محمد بن علوي المالكي "حول الاحتفال" (ص15) .
الجواب :
أولاً : ان المقصود بقول ابن مسعود رضي الله عنه الصحابة لأنه قال هذا القول استدلالا على إجماع الصحابة على اختيار أبوبكر الصديق رضي الله عنه للخلافة.(1/40)
ومن توسع في الاستدلال بهذا الأثر قصد به الإجماع كما بينت ذلك بشيء من التفصيل في
"البراهين على ألا بدعة حسنة في الدين" .
ثانياً: قال الإمام ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم" (2 /613ـ 614) في كلامه على المواسم المبتدعة من موالد وغيرها: ( إذا فعلها قوم ذوو فضل ودين فقد تركها في زمان هؤلاء، معتقداً لكراهتها ، وأنكرها قوم إن لم يكونوا أفضل ممن فعلها ؛ فليسوا دونهم. ولو كانوا دونهم في الفضل فقد تنازع فيها أولو الأمر، فترد إلى الله والرسول.وكتاب الله وسنة رسوله مع من كرهها، لا مع من رخص فيها.
ثم عامة المتقدمين ، الذين هم أفضل من المتأخرين ؛ مع هؤلاء ) اهـ .
ثالثاً: قال العلامة ابن منيع ـ حفظه الله ـ في "حوار مع المالكي" (ص90) :
( نقول للمالكي وأمثاله من أول من استحسن المولد من العلماء، هل هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
قطعاً : لا ..
هل هم التابعون؟
قطعاً : لا ..
هل هم تابعو التابعين ؟
قطعاً : لا...
هل هم قادة القرامطة والفاطميين والرافضة بمختلف طوائفهم ونحلهم ؟
اللهم : نعم ..
هل هم أهل الطرق الصوفية ؟
اللهم : نعم ) انتهى كلامه بتصرف.
( فهل نقبل أمرا أتى به شر من وطأ الحصا، القرامطة والفاطميون وغيرهم ، ممن يشهد التاريخ الإسلامي بتدنيسهم محيا الإسلام ، ونترك ما عليه أصحاب القرون الثلاثة المفضلة ، من صحابة وتابعين وعلماء إجلاء، لهم أقداحهم المعلاة في العلم والتقى ، والصلاح والاستقامة وسلامة المعتقد، ودقة النظر وصدق الاتباع والاقتداء بمن أمرنا الله تعالى أن نجعله أسوة لنا وقدوة لمسالكنا وهو رسولنا وحبيبنا ونبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -)(1).
13ـ الشبهة الثالثة عشر : يستدل البعض بأقوال لبعض أهل العلم الذين قالوا بجواز الاحتفال بالمولد النبوي .
والجواب :
__________
(1) : "حوار مع المالكي" (ص57) .(1/41)
ان هذه المسألة قد أختلف فيها منذ القديم وليست أقوال أولئك العلماء وغيرهم حجة وانما الحجة في كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } .
فالواجب علينا إذاً ان نرجع إلى كتاب ربنا وسنة نبينا بفهم سلفنا الصالح رضي الله عنهم أجمعين .
وعندما رجعنا إلى الكتاب والسنة بفهم سلفنا الصالح لم نجد ما يدل على جواز إقامة المولد كما مر معنا فيما سبق .
وأختم الجواب عن هذه الشبهة بما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في "اقتضاء الصراط المستقيم"(2/613ـ614) أثناء كلامه عن الموالد وغيرها من البدع :
(إذا فعلها قوم ذوو فضل ودين فقد تركها في زمان هؤلاء، معتقداً لكراهتها، وأنكرها قوم إن لم يكونوا أفضل ممن فعلها، فليسوا دونهم.
ولو كانوا دونهم في الفضل فقد تنازع فيها أولو الأمر.
فترد إلى الله والرسول وكتاب الله وسنة رسوله مع من كرهها، لا مع من رخص فيها.ثم عامة المتقدمين ، الذين هم أفضل من المتأخرين ، مع هؤلاء ) اهـ .
14 ـ الشبهة الرابعة عشر : دعوى تلقي الأوامر النبوية بالاحتفال بذلك اليوم في المنام !
فقد ورد في مقدمة مولد محمد عثمان الميرغني المسمى " الأسرار الربانية" (ص7) :
( رأيت في تلك الليلة النبي - صلى الله عليه وسلم -رؤية مناميه ، ورؤيته حق كما أورد عنه ثقات الرواة بطرق الإحصان ، فأمرني أن أصنف مولداً وأجعل إحدى قافيتيه هآءً بهية ، والأخرى نوناً كما فعلت لأنها نصف دائرة الأكوان وبشرني أنه يحضر في قراءته إذا قرىء فسطرت ليتشرف به كلما تلي حكاية نوميه وأنه يستجاب الدعاء عند ذكر الولادة وعند الفراغ منه فنسأل الله الغفران) اهـ .
الجواب :
قال الشيخ العلامة اسماعيل الأنصاري ـ رحمه الله ـ في " القول الفصل " :(1/42)
(ان الاعتماد على دعوى تلقي أوامر نبوية في المنام بالاحتفال بالمولد النبوي فلا يعتبر لأن الرؤيا في المنام لا تثبت بها سنة لم تثبت ولا تبطل بها سنة ثبتت كما بينه أهل العلم.
فقد قال الإمام النووي في شرح قول مسلم في "الكشف عن معايب رواة الحديث" من "صحيحه " (1/115) : ( لا يجوز إثبات حكم شرعي به ـ أي بالرؤيا المناميه ـ لأن حالة النوم ليست حالة ضبط وتحقيق لما يسمعه الرائي وقد اتفقوا على أن من شرط من تقبل روايته وشهادته أن يكون متيقظا لا مغفلا ، ولا سيئ الحفظ ولا كثير الخطأ ولا مختل الضبط والنائم ليس بهذه الصفة فلم تقبل روايته لاختلال ضبطه.
هذا كله في منام يتعلق بإثبات حكم على خلاف مايحكم به الولاة .
أما إذا رأى النبي - صلى الله عليه وسلم -يأمره بفعل ما هو مندوب إليه أو ينهاه عن منهي عنه أو يرشده
إلى فعل مصلحة فلا خلاف في استحباب العمل على وفقه لأن ذلك ليس حكما بمجرد المنام بل بما تقرر من أصل ذلك الشيء والله أعلم ) اهـ .
وقال ابن الحاج في "المدخل" (4/302–304) :
( ليحذر مما يقع لبعض الناس في هذا الزمان وهو أن من يرى النبي - صلى الله عليه وسلم -في منامه فيأمره
بشيء أو ينهاه عن شيء ينتبه من نومه فيقدم على فعله أو تركه بمجرد المنام دون أن يعرضه على كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى قواعد السلف رضي الله عنهم قال تعالى في كتابه العزيز: { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } .(1/43)
ومعنى قوله : { فردوه إلى الله } أي إلى كتاب الله تعالى ، ومعنى قوله : { والرسول } أي إلى الرسول في حياته وإلى سنته بعد وفاته على ما قاله العلماء رحمة الله عليهم وإن كانت رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - حقا لا شك فيها لقوله - صلى الله عليه وسلم -: { ومن رآني في المنام فقد رآني ، فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي } على اختلاف الروايات ، لكن لم يكلف الله تعالى عباده بشيء مما يقع لهم في منامهم قال - صلى الله عليه وسلم - : { رفع القلم عن ثلاثة } وعد منهم { النائم حتى يستيقظ } لأنه إذا كان نائما فليس من أهل التكليف فلا يعمل بشيء يراه في نومه.
هذا وجه ؛ ووجه ثان وهو أن العلم والرواية لا يوخذان إلا من متيقظ حاضر العقل والنائم ليس كذلك.
ووجه ثالث : وهو أن العمل بالمنام مخالف لقول صاحب الشريعة صلوات الله عليه وسلامه حيث قال : { تركت فيكم الثقلين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله و سنتي } فجعل - صلى الله عليه وسلم - النجاة من الضلالة في التمسك بهذين الثقلين فقط لا ثالث لهما.ومن اعتمد على ما يراه في نومه فقد زاد لهما ثالث فعلى هذا من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم -في منامه وأمره بشيء أو نهاه عن شيء فيتعين عليه عرض ذلك على الكتاب والسنة إذ إنه - صلى الله عليه وسلم - إنما كلف أمته باتباعهما وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : { فيبلغ الشاهد الغائب } إلى ان قال : ( فإذا عرضها على شريعته - صلى الله عليه وسلم - فإن وافقتها علم أن الرؤيا حق وأن الكلام حق وتبقى الرؤيا تأنيساً له وإن خالفتها علم ان الرؤيا حق وأن الكلام الذي وقع له فيها ألقاه الشيطان له في ذهنه والنفس الأمارة لأنهما يوسوسان له في حال يقظته فكيف في حال نومه … الخ ) .(1/44)
وقال الإمام الشاطبي في "الاعتصام" (1/ 209) : ( الرؤيا من غير الأنبياء لا يحكم بها شرعا على حال إلا أن تعرض على ما في أيدينا من الأحكام الشرعية فإن سوغتها عمل بمقتضاها وإلا وجب تركها والإعراض عنها وإنما فائدتها البشارة أو النذارة خاصة وأما استفادة الأحكام فلا ) اهـ .
وقال الإمام ابن كثير في " البداية والنهاية" (1/94) تعليقاً على ما ذكره الحافظ ابن عساكر في ترجمة احمد بن كثير أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبابكر وعمر وهابيل واستحلف هابيل أن هذا ـ أي الدم الموجود بالمكان الذي يقال ـ بأنه هو الذي قتل فيه قابيل أخاه هابيل المسمى بمغارة الدم بدمشق ـ دمه ـ أي هابيل ـ فحلف له وذكر أنه سأل الله تعالى أن يجعل هذا المكان يستجاب عنده الدعاء فأجابه إلى ذلك وصدقه في ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال إنه وأبا بكر وعمر يزورون هذا المكان في كل يوم خميس ) قال ابن كثير تعليقاً على ذلك ما نصه :
( هذا منام لو صح عن احمد بن كثير هذا لم يترتب عليه حكم شرعي ) اهـ ) انتتهى جواب العلامة الأنصاري رحمه الله باختصار .
وقد نقلت فيما سبق أثناء الرد على من استدل بقصة تخفيف العذاب عن أبي لهب الضعيفة كلاما لعلوي بن عباس المالكي ـ والد محمد المالكي ـ في "نفحات الإسلام من البلد الحرام"والذي جمع مواضيعه ورتبه محمد بن علوي المالكي نفسه (ص164–165) حول عدم شرعية اخذ الأحكام من المنامات .
15ـ الشبهة الخامسة عشر : قول السخاوي رحمه الله في "التبر المسبوك" (ص14) :
( إذا كان أهل الصليب اتخذوا ليلة مولد نبيهم عيداً أكبر فأهل الإسلام أولى بالتكريم وأجدر) .
استدل بهذا القول هاشم الرفاعي في مقاله كما في "الرد القوي" للتويجري رحمه الله (ص25).
الجواب :
قال العلامة التويجري ـ رحمه الله ـ في "الرد القوي" (ص25–26) :(1/45)
( لا شك أن الاحتفال بالمولد النبوي واتخاذه عيداً مبني على التشبه بالنصارى في اتخاذهم مولد المسيح عيداً .
وهذا مصداق ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : { لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع ، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه . قلنا : يا رسول الله ، اليهود والنصارى ؟ قال : فمن ؟ } رواه البخاري ومسلم واحمد.
وإذا علم أن عيد المولد مبني على التشبه بالنصارى فليعلم أيضاً أن التشبه بالنصارى وغيرهم من المشركين حرام شديد التحريم لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : { من تشبه بقوم فهو منهم } رواه احمد وأبو داود ) انتهى كلامه باختصار .
وقد تعقب هذا القول الملا علي القارئ في "المورد الروي في المولد النبوي" ( ص16) بقوله :
( قلت لكن يرد عليه أنا مأمورون بمخالفة أهل الكتاب ) .
16 ـ الشبهة السادسة عشر: ان الاحتفال بالمولد يعتبر إحياء لذكرى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهذا مشروع في الإسلام .
استدل بذلك محمد بن علوي المالكي في "حول الاحتفال بالمولد" (ص20) حيث قال :
( أن الاحتفال بالمولد إحياء لذكرى المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وذلك مشروع عندنا في الإسلام ، فأنت ترى أن أكثر أعمال الحج إنما هي إحياء لذكريات مشهودة ومواقف محمودة... الخ ) .
الجواب:
أولاً : قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ ـ رحمه الله ـ في رسالته "حكم الاحتفال بالمولد النبوي والرد على من أجازه" (ص29ـ30) :
( النبي - صلى الله عليه وسلم -قد قال الله في حقه { ورفعنا لك ذكرك } فذكره مرفوع في الأذان والإقامة(1/46)
والخطب والصلوات وفي التشهد والصلاة عليه وفي قراءة الحديث واتباع ما جاء به ، فهو أجل من أن تكون ذكراه سنوية فقط ، ولكن الأمر كما قال السيد رشيد رضا في كتابه "ذكرى المولد النبوي" قال – أي السيد رشيد رضا ـ : ( إن من طباع البشر أن يبالغوا في مظاهر تعظيم أئمة الدين أو الدنيا في طور ضعفهم ـ أي البشر ـ في أمر الدين أو الدنيا ؛ لأن هذا التعظيم لا مشقة فيه على النفس ، فيجعلونه بدلاً مما يجب عليهم من الأعمال الشاقة التي يقوم بها أمر الدين أو الدنيا ، و إنما التعظيم الحقيقي بطاعة المعظم ، والنصح له ، والقيام بالأعمال التي يقوم بها أمره ويعتز دينه إن كان رسولاً ، وملكه إن كان ملكاً.
وقد كان السلف الصالح أشد ممن بعدهم تعظيما للنبي - صلى الله عليه وسلم - ثم للخلفاء ، وناهيك ببذل أموالهم وأنفسهم في هذا السبيل ، ولكنهم دون أهل هذه القرون التي ضاع فيها الدين في مظاهر التعظيم اللساني ، و لا شك أن الرسول الأعظم - صلى الله عليه وسلم - أحق الخلق بكل تعظيم ، وليس من التعظيم الحق له أن نبتدع في دينه بزيادة أو نقص أو تبديل أو تغيير لأجل تعظيمه به ، وحسن النية لا يبيح الابتداع في الدين فقد كان جل ما أحدث أهل الملل قبلنا من التغيير في دينهم عن حسن نية ، ومازالوا يبتدعون بقصد التعظيم وحسن النية حتى صارت أديانهم غير ما جاءت به رسلهم ، ولو تساهل سلفنا الصالح كما تساهلوا ، وكما تساهل الخلف الذين اتبعوا سننهم شبرا بشبر وذراعا بذراع لضاع أصل ديننا أيضا ، ولكن السلف الصالح
حفظوا لنا الأصل فالواجب علينا أن نرجع إليه ، ونعض عليه بالنواجذ ) اهـ .
هذا مع أن الاحتفال بالمولد النبوي إذا كان بطريق القياس على الاحتفالات بالرؤساء صار النبي صلى الله عليه وسلم ملحقا بغيره وهذا ما لا يرضاه عاقل ) انتهى كلام الشيخ محمد ابن إبراهيم رحمه الله .
ثانياً: قال الشيخ التويجري ـ رحمه الله ـ في "الرد القوي" (ص101) :(1/47)
( ما زعمه المالكي وغيره من أن الاجتماع في المولد لإحياء ذكرى المصطفى - صلى الله عليه وسلم -،
أمر مشروع في الإسلام فهو من التقوّل على الله وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فإن الله تعالى لم يشرع الاجتماع لإحياء ذكرى المصطفى - صلى الله عليه وسلم - لا في يوم المولد ولا في غيره من الأيام ، و لم يشرع ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا بقوله ولا بفعله ) اهـ .
ثالثاً: قال الشيخ التويجري ـ رحمه الله ـ في المصدر السابق (ص103) :
( من أكبر الخطأ أيضاً زعم ابن علوي وغيره أن أعمال الحج هي إحياء لذكريات مشهودة إلى آخر كلامه الذي تقدم ذكره.
وهذا الخطأ مردود بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: { إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الحجار لإقامة ذكر الله } رواه أبو داود و الترمذي و قال الترمذي حديث حسن صحيح ) اهـ .
الفصل السادس :
ما ترتب على الاحتفال بذلك اليوم من أمور خطيرة ومفاسد كثيرة
هذا الفصل مختصر من"القول الفصل" للشيخ إسماعيل الأنصاري (ص172–183).
( ترتب على الاحتفال باليوم الذي يقال بأنه يوافق يوم المولد النبوي أمور خطيرة ومفاسد كثيرة ، ومن هذه الأمور الخطيرة التي ترتبت عليه :
أولاً : صدور أوامر من بعض الولاة في العصور المتأخرة بتصيير ذلك اليوم عيداً وورود تصريحات من بعض أهل العلم المشجعين على الاحتفال بذلك اليوم باعتباره عيداً وعلى سبيل التمثيل لذلك لا الحصر أورد ما يلي :
1 ـ ما ورد في "الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصا" (2/43) للشيخ احمد السلاوي ونصه :
( في سنة إحدى وسبعين وستمائة أمر السلطان يوسف بن يعقوب بن عبد الحق بعمل المولد النبوي وتعظيمه والاحتفال به وصيره عيداً من الأعياد في جميع بلاده وذلك في شهر ربيع الأول من السنة المذكورة ) .
2 ـ ما جاء في "الإعلام بأعلام بيت الله الحرام" للشيخ قطب الدين الحنفي (ص196) :(1/48)
( كيف لا يفرح المؤمنون بليلة ظهر فيها أشرف الأنبياء والمرسلين - صلى الله عليه وسلم - وكيف لا يجعلونه عيداً من أكبر أعيادهم ) .
وعلى أساس اعتبار ذلك اليوم عيداً أفتى ابن عباد وابن عاشر بمنع صومه ! كما بينه الشيخ محمد بن محمد الطرابلسي المعروف بالحطاب في "مواهب الجليل شرح مختصر خليل "
حيث قال :
( قال الشيخ زروق في شرح القرطبية صيام يوم المولد كرهه بعض من قرب عصره ممن صح علمه وورعه ! قال: انه من أعياد المسلمين فينبغي أن لا يصام فيه وكان شيخنا أبو عبدالله القورى يذكر ذلك كثيرا ويستحسنه . انتهى
قلت – القائل الحطاب – لعله – أي زروق – يعني ابن عباد فقد قال في رسائله الكبرى ما نصه ( وأما المولد فالذي يظهر لي أنه عيد من أعياد المسلمين وموسم من مواسمهم وكل ما يفعل فيه مما يقتضيه وجود الفرح والسرور بذلك المولد المبارك من إيقاد الشمع وإمتاع البصر والسمع والتزين بلبس فاخر الثياب وركوب فاره الدواب أمر مباح لا ينكر على أحد قياساً على غيره من أوقات الفرح.
والحكم بكون هذه الأشياء بدعة في هذا الوقت الذي ظهر فيه سر الوجود وارتفع فيه علم الشهود وانقشع فيه ظلام الكفر والجحود وادعاء أن هذا الزمان ليس من المواسم الشرعية لأهل الإيمان ومقارنة ذلك بالنيروز والمهرجان أمر مستثقل تشمئز منه القلوب السليمة وتدفعه الآراء المستقيمة.
ولقد كنت فيما خلا من الزمان خرجت في يوم مولد إلى ساحل البحر فاتفق أن وجدت هناك سيدي الحاج ابن عاشر رحمه الله وجماعة من أصحابه وقد أخرج بعضهم طعاما مختلفا ليأكلوه هناك فلما قدموه لذلك أرادوا مني مشاركتهم في الأكل وكنت إذ ذاك صائما فقلت لهم: إنني صائم، فنظر الي سيدى الحاج نظرة منكرة ، وقال لي ما معناه: إن هذا اليوم يوم فرح و سرور ويستقبح في مثله الصيام بمنزلة العيد فتأملت كلامه فوجدته حقا!
وكأنني كنت نائما فأيقظني) ) اهـ .(1/49)
وقد اغتر بهذه الفتوى الخاطئة الشيخ محمد بن عرفة الدسوقي حيث قال في "حاشيته على شرح الدردير لمختصر خليل" (1/474) في باب الصيام :
( تنبيه :
من جملة الصيام المكروه كما قاله بعضهم صوم يوم المولد المحمدي إلحاقا له بالأعياد ) اهـ .
ولا شك في ان اعتبار ذلك اليوم عيداً بدعة، كما لا شك في أن منع صوم اليوم الموافق ليوم المولد النبوي لو كان معلوما مخالف لما خرجه مسلم في صحيحه من حديث أبى قتادة الأنصاري رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن صيام يوم الاثنين فقال : { ذلك يوم ولدت فيه وانزل علي فيه } فإن في إجابة النبي - صلى الله عليه وسلم - إشارة إلى استحباب صوم يوم الاثنين لأنه اليوم الذي ولد فيه صلى الله عليه وسلم لا كراهة ذلك كما أفتى به هؤلاء والله المستعان .
ثانياً: دعوى أن من صادف في ذلك اليوم الساعة التي ظهر فيها نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - يسأل
الله فيها شيئا أعطاه إياه قياسا على ساعة يوم الجمعة التي صح فيها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه
لا يصادفها عبد مسلم يسأل الله تعالى فيها شيئا إلا أعطاه إياه! .
فقد قال القسطلاني في "المواهب اللدنية" (1/132) : ( إذا كان يوم الجمعة الذي خلق فيه آدم عليه السلام خص بساعة لا يصادفها عبد مسلم يسأل الله فيها خيرا إلا أعطاه إياه فما بالك بالساعة التي ولد فيها سيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم - ) اهـ .(1/50)
وعبر عن ذلك المعنى محمد بن علوي المالكي في"حول الاحتفال" (ص14) بقوله : ( يؤخذ من قوله - صلى الله عليه وسلم - في فضل يوم الجمعة وعد مزاياه { فيه خلق آدم عليه السلام } تشريف الزمان الذي ثبت أنه ميلاد لأي نبي كان من الأنبياء عليهم السلام فكيف باليوم الذي ولد فيه أفضل النبيين وأشرف المرسلين .ولا يختص هذا التعظيم بذلك اليوم بعينه بل يكون له خصوصاً ولنوعه عموماً مهما تكرر كما هو الحال في يوم الجمعة شكراً للنعمة وإظهاراً لمزية النبوة) .
وقد تعقب الزرقاني في "شرحه للمواهب اللدنية" (1/132– 133) القسطلاني في إيراده لذلك بقوله: ( إن أراد – إي القسطلاني – أن في ذلك اليوم ومثله إلى يوم القيامة ساعة كساعة الجمعة أو أفضل فدليله هذا لا ينتج ذلك وإن أراد عين تلك الساعة فساعة الجمعة
لم تكن موجودة حينئذ وإنما جاء تفضيلها في الأحاديث الصحيحة بعد ذلك بمدة فلم يمكن اجتماعهما حتى يفاضل بينهما وتلك انقضت وهذه باقية إلى اليوم وقد نص الشارع عليها
ولم يتعرض لساعة مولده ولا لأمثالها فوجب علينا الاقتصار على ما جاءنا عنه ولا نبتدع
شيئا من عند نفوسنا القاصرة عن إدراكه إلا بتوقيف) انتهى كلام الزرقاني وقد أجاد فيه).
ثالثاً : من الأمور الخطيرة التي ترتبت على الاحتفال بالمولد دعوى أن ليلة المولد النبوي أفضل من ليلة القدر ! !
وهي دعوى ذكرها القسطلاني في "المواهب اللدنية" (1/135–136) بعد ان تكلم عن
الاختلاف في وقت ولادة النبي - صلى الله عليه وسلم - هل هو في النهار أم في الليل حيث قال :
( فإن قلت إذا قلنا بأنه عليه السلام ولد ليلاً فأيما أفضل ليلة القدر أو ليلة مولده عليه السلام؟
أجيب : بأن ليلة مولده عليه السلام أفضل من ليلة القدر من وجوه ثلاثة !!
أحدها: أن ليلة المولد ليلة ظهوره صلى الله عليه وسلم وليلة القدر معطاة له.(1/51)
وما شرف بظهور ذات المشرف من أجله أشرف مما شرف بسبب ما أعطيه ولا نزاع في ذلك فكانت ليلة المولد أفضل من ليلة القدر.
الثاني : أن ليلة القدر شرفت بنزول الملائكة فيها؛ وليلة المولد شرفت بظهوره- صلى الله عليه وسلم -.
ومن شرفت به ليلة المولد أفضل ممن شرفت بهم ليلة القدر على الأصح المرتضى ، فتكون ليلة المولد أفضل.
الثالث: أن ليلة القدر وقع فيها التفضيل على أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وليلة المولد الشريف وقع التفضيل فيها على سائر الموجودات فهو الذي بعثه الله عز وجل رحمة للعالمين فعمت به النعمة على جميع الخلائق فكانت ليلة المولد أعم نفعاً فكانت أفضل ) .
وقد نقل كلام القسطلاني هذا مقرا له محمد بن علوي المالكي في "الذخائر المحمدية"
(ص40 – 42) .
وقد تعقب هذه الدعوى الشيخ الزرقاني في "شرح المواهب اللدنية" (1/136) بقوله :
( وهذا الذي ساقه المصنف – يعني القسطلاني – وأقره متعقب، قال الشهاب الهيتمي : فيه إجمال واستدلال بما لا ينتج المدعى! لأنه إن أريد أن تلك الليلة ومثلها من كل سنة إلى يوم القيامة أفضل من ليلة القدر فهذه الأدلة لا تنتج ذلك كما هو جلي وإن أريد عين تلك الليلة فليلة القدر لم تكن موجودة إذ ذاك وإنما أتى فضلها في الأحاديث الصحيحة على سائر ليالي السنة بعد الولادة بمدة فلم يمكن اجتماعهما حتى يتأتى بينهما تفضيل وتلك انقضت وهذه باقية إلى اليوم وقد نص الشارع على أفضليتها ولم يتعرض لليلة مولده ولا لأمثالها بالتفضيل أصلاً!
فوجب علينا أن نقتصر على ما جاء عنه ولا نبتدع شيئاً من عند نفوسنا القاصرة عن إدراكه إلا بتوقيف منه - صلى الله عليه وسلم - على أنا وإن سلمنا أفضلية ليلة مولده لم يكن له فائدة !
إذ لا فائدة في تفضيل الأزمنة الا بفضل العمل فيها.
وأما تفضيل ذات الزمن لا يكون بكون العمل فيه فليس له كبير فائدة ) قال الزرقاني بعد إيراد كلام الهيتمي هذا : (هو وجيه) .(1/52)
وتعقب أيضا الملا علي القارى تلك الدعوى فقال في "المورد الروي" (ص52) :
(أغرب القسطلاني وقال : ليلة مولده - صلى الله عليه وسلم - أفضل من ليلة القدر من وجوه ثلاثة ذكرها
حيث لا يفيد الإطلاق مع أن الأفضلية ليست إلا لكون العبادة فيها أفضل بشهادة النص القرآني: { ليلة القدر خير من ألف شهر } ولا تعرف هذه الأفضلية لليلة مولده - صلى الله عليه وسلم - لا من الكتاب ولا من السنة ولا عن أحد من علماء هذه الأمة ) .
يؤيد ذلك التعقب ما جاء عن قتادة في تفسير قوله تعالى : { إن عدة الشهور عند الله أثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم } فقد جاء عن قتادة في تفسير هذه الآية ما نصه : ( إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزرا من الظلم فيما سواها وإن كان الظلم على كل حال عظيما ولكن الله يعظم من أمره ما يشاء ) .
وقال : ( إن الله اصطفى صفايا من خلقه ؛ اصطفى من الملائكة رسلا ومن الناس رسلا ، واصطفى من الكلام ذكره ، واصطفى من الأرض المساجد ، واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم ، واصطفى من الأيام يوم الجمعة ، واصطفى من الليالي ليلة القدر فعظموا ماعظم الله فإنما تعظيم الأمور بما عظمها الله به عند أهل الفهم وأهل العقل ) هكذا أورده ابن كثير في تفسير الآية المذكورة و عزاه السيوطي في "الدر المنثور في التفسير بالمأثور" إلى
ابن المنذر وابن أبى حاتم وأبى الشيخ .
ثم أن ما أسس عليه القول بتفضيل ليلة المولد النبوي على ليلة القدر وهو تقدير كون ولادة النبي صلى الله عليه وسلم ليلاً غير موافق لما روى مسلم في صحيحه عن أبي قتادة الأنصاري في حديث طويل و لفظه : وسئل عن صوم يوم الاثنين ؟(1/53)
قال : { ذلك يوم ولدت فيه وأنزل علي فيه } فإن هذا الحديث يدل أوضح دلالة على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولد نهارا لقوله: { ذلك يوم ولدت فيه } وقد رجح القسطلاني نفسه هذا !
وليس للقول بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولد ليلا مستند ثابت ومن عدم تأمل محمد بن علوي المالكي ذلك استساغ التعليق على كلام الملا علي قاري في تعليقه على "المورد الروي" الآنف الذكر بقوله : ( أما نفس ليلة مولده التي مضت وانقضت فهي أفضل من ألف ليلة من ليالي القدر لأن ليلة القدر من بركاتها وأما ليلة المولد من كل عام الموافق ليلة المولد التي مضت فصحيح أنها
لا تعرف لها هذه الفضيلة ) !
فإن تفضيله ليلة المولد التي مضت على ألف ليلة من ليالي القدر يحتاج إلى الدليل كما يحتاج
إليه تفضيل الليلة الموافقة لتلك الليلة التي وافق على أنها لا تعرف لها الفضيلة التي ثبتت لليلة القدر ولو تمسك في كل واحدة من الليلتين بقوله تعالى : { ليلة القدر خير من ألف شهر }
لم يتورط فيما تورط فيه .
الفصل السابع :
القيام عند ذكر ولادته - صلى الله عليه وسلم - وخروجه إلى الدنيا أثناء قراءة قصص المولد
( حثت القصص التي تقرأ بمناسبة الاحتفال بالمولد على القيام عند ذكر ولادة النبي - صلى الله عليه وسلم -
وخروجه إلى الدنيا ومما جاء فيها من ذلك ما يلي :
1 – قال البرزنجي في "مولده" (ص77) : ( قد استحسن القيام عند ذكر مولده الشريف أئمة ذوو رِواية و روية فطوبى لمن كان تعظيمه - صلى الله عليه وسلم - غاية مرامه ومرماه ) .
2 – قال الشيخ محمد بن محمد العزب في "مولده" (ص11) :
ولذكر مولده يسن قيامنا * * * أدباً لدى أهل العلوم تأكدا
وقد ذكر في توجيه ذلك عدة أشياء :
أحدها: أنه للترحيب بالنبي - صلى الله عليه وسلم - الذي يعتقد أولئك القائمون أنه يحضر بجسده الشريف(1/54)
مجلس الاحتفال بالمولد وقد يوضع له البخور والطيب في ذلك المجلس على أساس أنه يتطيب ويتبخر كما يوضع له الماء على أساس أنه يشرب منه.
الثاني: أن القيام الذي يقع هو لحضور روح النبي - صلى الله عليه وسلم - في تلك اللحظة وهذا هو الذي
اختاره محمد بن علوي المالكي في "حول الاحتفال بالمولد" بعد جزمه بأن القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم يحضر المولد بجسده الشريف باطل فقد قال (ص26) :
( إننا نعتقد أنه - صلى الله عليه وسلم - حي حياة برزخية كاملة لائقة بمقامه، وبمقتضى تلك الحياة الكاملة
العليا تكون روحه جوالة سياحة في ملكوت الله سبحانه وتعالى ويمكن أن تحضر مجالس الخير ومشاهد النور والعلم وكذلك أرواح خلص المؤمنين من أتباعه ، وقد قال مالك: بلغني أن الروح مرسلة تذهب حيث شاءت، وقال سلمان الفارسي : أرواح المؤمنين في برزخ من الأرض تذهب حيث شاءت كذا في "الروح" لابن القيم (ص144) ) .
الثالث: أن ذلك القيام لتشخيص ذات النبي - صلى الله عليه وسلم -.
جاء ذلك في نظم "مولد البرزنجي" ونصه :
وقد سن أهل العلم والفضل والتقى * * * قياماً على الأقدام مع حسن إمعان
بتشخيص ذات المصطفى وهو * * * حاضر بأي مقام فيه يذكر بل داني
وفي تفسير ذلك التشخيص يقول محمد بن علوي المالكي في "حول الاحتفال بالمولد"
(ص30 –31) :
(فالناس يقومون احتراما وتقديرا لهذا التصور الواقع في نفوسهم عن شخصية ذلك الرسول العظيم مستشعرين جلال الموقف وعظمة المقام هو أمر عادي كما تقدم ويكون استحضار الذاكر ذلك موجباً لزيادة تعظيمه - صلى الله عليه وسلم -) .
الرابع : أن ذلك القيام هو لتعظيم النبي - صلى الله عليه وسلم -.(1/55)
ذكر ذلك بعض الموجهين لذلك القيام من دون بيان ، وقد وصل الأمر ببعض القائلين بهذا إلى تكفير تارك القيام كما بينه محمد علي بن حسين المالكي في "تهذيب الفروق والقواعد السنية في الأسرار الفقهية" (4/277) حيث ذكر أن المولى أبا السعود قال : ( إنه – أي القيام عند ذكر مولد النبي صلى الله عليه وسلم – في تلك القصص قد اشتهر في تعظيمه - صلى الله عليه وسلم - واعتيد في ذلك فعدم فعله يوجب عدم الاكتراث بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وامتهانه فيكون كفرا مخالفا لوجوب تعظيمه - صلى الله عليه وسلم - ) .
ولم يتعقب محمد علي بن حسين المالكي ذلك إلا بقوله : ( أي ان لاحظ من لم يفعله تحقيره - صلى الله عليه وسلم - بذلك وإلا فهو معصية ) اهـ .
ومن الواضح أن تعظيم النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما يكون بما شرع تعظيمه به وهذا القيام غير مشروع.
الخامس: أن ذلك القيام مقيس على القيام الذي وقع من الشيخ علي بن عبد الكافي السبكي حينما سمع قول الصرصري في قصيدته التي أولها :
قليل لمدح المصطفى الخط بالذهب.
قوله وأن ينهض الأشراف عند سماعه.
وقد ذكر قصته ابنه التاج أبو نصر عبد الوهاب في ترجمة والده من كتابه "طبقات الشافعية الكبرى" (6/174) حيث قال : (حضر – أي والده – مرة ختمة بالجامع الأموي ! وحضرت القضاة وأعيان البلد بين يديه وهو جالس في محراب الصحابة فأنشد المنشد قصيدة الصرصري التي أولها:
قليل لمدح المصطفى الخط بالذهب .
فلما قال : وأن ينهض الأشراف عند سماعه .. البيت ؛ حصلت للشيخ حالة وقام واقفا للحال فاحتاج الناس كلهم أن يقوموا فقاموا أجمعون ) ، وممن ذكر هذا التوجيه احمد زيني دحلان في "السيرة النبوية والآثار المحمدية" (1/45) وعلي بن برهان الحلبي في "السيرة الحلبية" (1/100) .
هذه المسالك التي ذكرها أولئك في توجيه ذلك القيام بعد استعراضها نجيب عن كل مسلك منها فنقول وبالله التوفيق :(1/56)
أما دعوى حضور النبي - صلى الله عليه وسلم - الاحتفال بجسده الشريف فأساسها دعوى خاطئة لجماعة من المتصوفة تعلقوا بما رواه البخاري ان الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال : { من رآني في المنامِ فسيراني في اليقظة ولا يتمثل الشيطان بي } ؛ فزعموا أنهم رأوا النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام ثم رأوه بعد ذلك في اليقظة وسألوه عن أشياء كانوا منها متخوفين فأرشدهم إلى طريق تفريجها فجاء الأمر كذلك، وقد تحمس لهذه الدعوى ابن أبي جمرة وابن الحاج والسيوطي ومحمد عليش ، واستنكرها المحققون من أهل العلم الذين نذكرهم وعباراتهم فيما يلي :
1 – القاضي أبو بكر بن العربي قال : ( شذ بعض الصالحين فزعم أنها – أي رؤية النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته – تقع بعيني الرأس حقيقة ) نقل ذلك عنه الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري"(12/384) .
2 – الإمام أبو العباس احمد بن عمر القرطبي في "المفهم لشرح صحيح مسلم" ذكر هذا القول وتعقبه بقوله : ( وهذا يدرك فساده بأوائل العقول ويلزم عليه أن لا يراه أحد إلا على صورته التي مات عليها وأن يراه رائيان في آن واحد في مكانين وأن يحيا الآن ويخرج من قبره ويمشي في الأسواق ويخاطب الناس ويخاطبوه ويلزم من ذلك أن يخلو قبره من جسده ولا يبقى من قبره فيه شيء فيزار مجرد القبر ويسلم على غائب لأنه جائز أن يرى في الليل والنهار مع اتصال الأوقات على حقيقته في غير قبره .
وهذه جهالات لا يلتزم بها من له أدنى مسكة من عقل ) وإلى كلام القرطبي هذا أشار الحافظ ابن حجر في "الفتح" بذكره اشتداد إنكار القرطبي على من قال : (من رآني في المنام فقد رأى حقيقته ثم يراها كذلك في اليقظة ) .
3 – شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالة "…العبادات الشرعية والفرق بينها وبين البدعية" :
( منهم من يظن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج من الحجرة وكلمه وجعلوا هذا من كراماته ومنهم من يعتقد أنه إذا سأل المقبور أجابه .(1/57)
وبعضهم كان يحكي أن ابن منده كان إذا أشكل عليه حديث جاء إلى الحجرة النبوية ودخل فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأجابه – وآخر من أهل المغرب حصل له مثل ذلك وجعل ذلك من كراماته حتى قال ابن عبد البر لمن ظن ذلك: ويحك أترى هذا أفضل من السابقين الأولين من المهاجرين و الأنصار فهل في هؤلاء من سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الموت وأجابه وقد تنازع الصحابة في أشياء فهلا سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فأجابهم، وهذه ابنته فاطمة تنازع في ميراثها فهلا سألته فأجابها ؟ ) .
وحكاية ابن منده التي أشار إليها ابن تيمية رحمه الله في هذا الكلام ذكرها الحافظ الذهبي في "ير أعلام النبلاء" (17/37 – 38) في ترجمة أبى عبد الله محمد بن أبى يعقوب إسحاق بن الحافظ أبى عبد الله محمد بن يحي بن منده وقال الذهبي فيها : ( هذه حكاية نكتبها للتعجب ) .
قال في إسنادها : ( إسنادها منقطع ) اهـ .
4 – قال الحافظ الذهبي في ترجمة الربيع بن محمود المارديني في "ميزان الاعتدال في نقد الرجال":
( دجال مفتر ادعى الصحبة والتعمير في سنة تسع وتسعين وخمسمائة وكان قد سمع من ابن عساكر عام بضع وستين ) .
يعني الحافظ الذهبي بالصحبة التي ادعاها الربيع ما جاء عنه أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في النوم وهو بالمدينة الشريفة فقال له: أفلحت دنيا وأخرى فادعى بعد أن استيقظ أنه سمعه وهو يقول ذلك.
ذكر ذلك الحافظ ابن حجر العسقلاني في "الإصابة في تمييز الصحابة" (1/513).(1/58)
5 – الحافظ ابن كثير ذكر في ترجمة احمد بن محمد بن محمد أبى الفتح الطوسي الغزالي في "البداية والنهاية" (12/196) أن ابن الجوزي أورد أشياء منكرة من كلامه منها أنه – أي أبا الفتح الطوسي كان كلما أشكل عليه شيء رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في اليقظة فسأله عن ذلك فدله على الصواب ، وأقر ابن كثير ابن الجوزي على عد هذا من منكرات أبى الفتح الطوسي، وابن الجوزي ذكر هذا في كتابه "القصاص والمذكرين" (ص156).
6 – ذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (12/385) أن ابن أبى جمرة نقل عن
جماعة من المتصوفة أنهم رأوا النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام ثم رأوه بعد ذلك في اليقظة وسألوه عن أشياء كانوا منها متخوفين فأرشدهم إلى طريق تفريجها فجاء الأمر كذلك ثم تعقب الحافظ ذلك بقوله :
(وهذا مشكل جدا ولو حمل على ظاهره لكان هؤلاء صحابة ولأمكن بقاء الصحبة إلى يوم القيامة ويعكر عليه أن جمعا جما رأوه في المنام ثم لم يذكر واحد منهم أنه رآه في اليقظة وخبر الصادق لا يتخلف ) .
7 – قال السخاوي في رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - في اليقظة بعد موته : ( لم يصل إلينا ذلك – أي
ادعاء وقوعها – عن أحد من الصحابة ولا عمن بعدهم وقد اشتد حزن فاطمة عليه - صلى الله عليه وسلم -حتى ماتت كمداً بعده بستة أشهر على الصحيح وبيتها مجاور لضريحه الشريف ولم تنقل عنها رؤيته في المدة التي تأخرتها عنه ) .
كما جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه على جلالة قدره وعظمة شأنه أنه كان يظهر الحزن على عدم معرفته ببعض المسائل الفقهية فيقول : ( ثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفارقنا حتى يعهد إلينا عهداً . : الجد ، والكلالة ، وأبواب من أبواب الرِبا ) متفق عليه.
فلو كان يظهر لأحد بعد موته لظهر لعمر الفاروق وقال له : لا تحزن حكمها كذا وكذا.
8 – وقال ملا علي قاري في "جمع الوسائل شرح الشمائل للترمذي" (2/238) : ( إنه أي(1/59)
ما دعاه المتصوفة من رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - في اليقظة بعد موته لو كان له حقيقة لكان يجب العمل
بما سمعوه منه - صلى الله عليه وسلم - من أمر ونهي وإثبات ونفي ومن المعلوم أنه لا يجوز ذلك إجماعا كما
لا يجوز بما يقع حال المنام ولو كان الرائي من أكابر الأنام وقد صرح المازري وغيره بأن من رآه
يأمر بقتل من يحرم قتله كان هذا من الصفات المتخيلة لا المرئية) انتهى كلام الملا علي قاري وفيه فائدة أخرى هي حكايته الإجماع على عدم جواز العمل بما يدعى من يزعم أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في اليقظة أنه سمع منه أمر أو نهي أو إثبات أو نفي، وفي حكايته الإجماع على ذلك الرد على قول الزرقاني في "شرح المواهب اللدنية" (7/29) ما نصه : ( لو رآه يقظة – أي بعد موته صلى الله عليه وسلم – وأمره بشيء وجب عليه العمل به لنفسه ولا يعد صحابيا وينبغي أن يجب على من صدقه العمل به قاله شيخنا ) .
9 – قال العلامة رشيد رضا في "فتاويه" (6/2385) : (صرح بعض العلماء المحققين بأن دعوى رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد موته في اليقظة والأخذ عنه دعوى باطلة واستدلوا على ذلك بأن(1/60)
أولى الناس بها لو كانت مما يقع ابنته سيدة النساء وخلفاؤه الراشدون وسائر أصحابه العلماء وقد وقعوا في مشكلات وخلاف أفضى بعضه إلى المغاضبة وبعضه إلى القتال فلو كان - صلى الله عليه وسلم - يظهر لأحد ويعلمه ويرشده بعد موته لظهر لبنته فاطمة عليها السلام وأخبرها بصدق خليفته أبى بكررضي الله عنه فيما روى عنه من أن الأنبياء لا يورثون وكذا للأقرب والأحب إليه من آله وأصحابه ثم لمن بعدهم من الأئمة الذين أخذ اكثر أمته دينهم عنهم ولم يدع أحد منهم ذلك وإنما ادعاه بعض غلاة الصوفية بعد خير القرون وغيرهم من العلماء الذين تغلب عليهم تخيلات الصوفية فمن العلماء من جزم بأن من ذلك ما هو كذب مفترى وأن الصادق من أهل هذه الدعوى من خيل إليه في حال غيبة أو ما يسمى " بين النوم واليقظة " أنه رآه - صلى الله عليه وسلم - فخال أنه رآه حقيقة على قول الشاعر: ومثلك من تخيل ثم خالا.
والدليل على صحة القول بأن ما يدعونه كذب أو تخيل ما يروونه عنه - صلى الله عليه وسلم - في هذه الرؤية. وبعض الرؤى المنامية مما تختلف باختلاف معارفهم وأفكارهم ومشاربهم وعقائدهم وكون بعضه مخالفا لنص كتاب الله وما ثبت من سنته - صلى الله عليه وسلم - ثبوتا قطعيا ومنه ما هو كفر صريح بإجماع المسلمين نعم إن منهم من يجلهم العارف بما روى من أخبار استقامتهم أن يدعوا هذه الدعوى افتراء وكذبا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن غلبة التخيل على المنهمكين في رياضاتهم وخلواتهم لا عصمة منها لأحد وكثيراً ما تقضي إلى جنون ) اهـ )(1)
10 – قال الشيخ عبد الحي بن محمد اللكنوي ـ رحمه الله ـ في "الآثار المرفوعة في الأخبار
الموضوعة" (ص46) :
( ومنها – أي من القصص المختلقة الموضوعة – ما يذكرونه من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يحضر
__________
(1) : من بداية الفصل إلى هنا نقلا من "القول الفصل" (ص302-312) باختصار.(1/61)
بنفسه في مجالس وعظ مولده عند ذكر مولده وبنوا عليه القيام عند ذكر المولد تعظيماً وإكراماً.
وهذا أيضا من الأباطيل لم يثبت ذلك بدليل، ومجرد الاحتمال والإمكان خارج عن حد البيان) .
11 – قال الشيخ عبدالعزيز بن بازـ رحمه الله ـ في "حكم الاحتفال بالمولد النبوي" ضمن
"أربع رسائل في التحذير من البدع" (ص7–8) :
( بعضهم يظن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحضر المولد ؛ ولهذا يقومون له محيين ومرحبين ، وهذا من أعظم الباطل وأقبح الجهل، فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يخرج من قبره قبل يوم القيامة ، ولا يتصل بأحد من الناس ، ولا يحضر اجتماعاتهم ، بل هو مقيم في قبره إلى يوم القيامة، وروحه في أعلى عليين عند ربه في دار الكرامة، كما قال الله تعالى في سورة المؤمنون : { ثم إنكم بعد ذلك لميتون * ثم إنكم يوم القيامة تبعثون } (المؤمنون : 15 ) ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: { أنا أول من تنشق الأرض عنه يوم القيامة ولا فخر . وأنا أول شافع وأول مشفع ولا فخر } عليه من ربه أفضل الصلاة و السلام.
فهذه الآية الكريمة والحديث الشريف وما جاء في معناهما من الآيات والأحاديث ، كلها تدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره من الأموات إنما يخرجون من قبورهم يوم القيامة … الخ ) .(1/62)
12 – قال عبد الفتاح أبو غدة(1) في تعليقه على "المصنوع في معرفة الحديث الموضوع" لعلي قاري ـ رحمه الله ـ (ص273) : ( ومن غريب ما وقفتُ عليه بصَدَدِ ( التصحيح الكشفي ) و ( التضعيف الكشفي ) : ما أورده الشيخ إسماعيل العجلوني الدمشقي في مقدمة كتابه "كشف الخفاء ومزيل الإلباس"(1/9–10) ، على سبيل الإقرار والاعتداد به ! قال :
( والحكم على الحديث بالوضع والصحة أو غيرهما، إنما بحسب الظاهرِ للمحدثين، باعتبار الإسناد أو غيره، لا باعتبار نفس الأمرِ والقطع، لجواز أن يكون الصحيح مثلاً باعتبار نظر المحدث: موضوعاً أو ضعيفاً في نفس الأمر، وبالعكس. نعم المتواتر مطلقاً قطعي النسبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - اتفاقاً.
ومع كون الحديث يحتمل ذلك، فيعمل بمقتضى ما يثبت عند المحدثين، ويترتب عليه الحكم الشرعي المستفاد منه للمستنبطين.
وفي "الفتوحات المكية " ! للشيخ الأكبر قدس سره الأنور! ! ، ما حاصله : فرب حديث يكون صحيحاً من طريق رواته، يحصل لهذا المكاشف أنه غير صحيح، لسؤاله لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيعَلم وضعه، ويترك العمل به وإن عمل به أهل النقل لصحة طريقه.
ورب حديثٍ ترِك العمل به لضعف طريقه، من أجل وضاع في رواته، يكون صحيحاً في نفس الأمر، لسماعِ المكاشف له من الروح حين إلقائه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) انتهى.
قال عبد الفتاح – أبو غدة ـ : هذا ما نقله العجلوني وسكت عليه واعتمده ! ولا يكاد ينقضي عجبي من صنيعه هذا !
__________
(1) : وابو غدة إنما نقلت كلامه حجة على اتباعه الصوفية وغلا ففي كتبه كثير من الضلال وقد رد عليه العلامة الألباني رحمه الله في " كشف النقاب " و في مقدمة " شرح العقيدة الطحاوية " كما رد عليه العلامة بكر ابو زيد في " براءة أهل السنة من الوقيعة في علماء السنة " وقدم لهذه الرسالة العلامة عبدالعزيز بن باز رحمه الله(1/63)
وهو المحدث الذي شرح "صحيح البخاري" ، كيف استساغ قبول هذا الكلام الذي تهدر به
علوم المحدثين ، وقواعد الحديث والدين ؟ و يصبح به أمر التصحيح والتضعيف من علماء الحديث شيئاً لا معنى له بالنسبة إلى من يقول : إنه مكاشَف أو يَرى نفسه أنه مكاشَف! ومتى كان لثبوت السنة المطهرة مصدران : النقل الصحيح من المحدثين والكشف من المكاشفين ؟ !
فحذارِ أن تغتر بهذا ، والله يتولاك ويرعاك ) اهـ.
وللشيخ محمد أحمد لوح ـ حفظه الله ـ كلاماً مهماً حول رواية { من رآني في المنام فسيراني في اليقظة } في "تقديس الأشخاص في الفكر الصوفي" (2/39 –52) أنقل فيما يلي :
قال حفظه الله :
( أما رواية : { من رآني في المنام فسيراني في اليقظة } لابد من إلقاء ضوء كاشف على الحديث رواية ودراية حتى نعرف قدر هذا اللفظ الذي استدل به أولئك على إمكانية رؤية
النبي - صلى الله عليه وسلم - في اليقظة :
1 – أما الحديث فقد رواه اثنا عشر من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو يزيد، مما يدل
على شيوعه واستفاضته.
2 – أن ثمانية من أئمة الحديث المصنفين اهتموا بهذا الحديث فأخرجوه في كتبهم مما يؤكد اهتمامهم به وفهمهم لمدلوله. ومع ذلك لم يبوب له أحد منهم بقوله مثلاً : باب في إمكان رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة، ولو فهموا منه ذلك لبوبوا به أو بعضهم على الأقل ؛ لأنه أعظم من كل ما ترجموا به تلك الأبواب.
3 – أن المواضع التي أخرجوا فيها هذا الحديث بلغ (44) موضعاً، ومع كثرة هذه المواضع
لم يرد في أي موضع لفظ { فسيراني في اليقظة } بالجزم إلا في إحدى روايات البخاري عن أبي هريرة .
أما بقية الروايات فألفاظها: { فقد رآني } أو { فقد رأى الحق } أو { فكأنما رآني في اليقظة } أو { فسيراني في اليقظة أو فكأنما رآني في اليقظة } بالشك .
وبالنظر في ألفاظ الحديث ورواياته نجد ملاحظات على لفظ { فسيراني في اليقظة }(1/64)
لا ريب أنها تقلل من قيمة الاستدلال بها وهذه الملاحظات هي :
أولاً : أن البخاري أخرج الحديث في ستة مواضع من صحيحه : ثلاثة منها من حديث أبي هريرة، وليس فيها لفظ { فسيراني في اليقظة } إلا في موضع واحد .
ثانياً: أن كلا من مسلم (حديث رقم 2266) ، وأبي داود (حديث رقم 5023) ، و أحمد
(5/306) ، أخرجوا الحديث بإسناد البخاري الذي فيه اللفظ المذكور بلفظ { فسيراني في اليقظة . أو لكأنما رآني في اليقظة } وهذا الشك من الراوي يدل على أن المحفوظ إنما هو لفظ { فكأنما رآني } أو { فقد رآني } لأن كلا منهما ورد في روايات كثيرة بالجزم وليس فيها شيء شك فيه الراوي .
وعند الترجيح ينبغي تقديم رواية الجزم على رواية الشك.
ثالثا: إذا علمنا أنه لم يرد عند مسلم ولا عند أبي داود غير رواية الشك أدركنا مدى تدليس السيوطي حين قال في "تنوير الحلك" :
( وتمسكت بالحديث الصحيح الوارد في ذلك: أخرج البخاري ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : { من رآني في المنام فسيراني في اليقظة ولا يتمثل الشيطان بي } ) فأوهم أن مسلماً وأبا داود أخرجا الحديث برواية الجزم، وأغفل جميع روايات البخاري الأخرى التي خلت من هذا اللفظ.
رابعاً : ذكر الحافظ ابن حجر في "الفتح" (12/400) أنه وقع عند الإسماعيلي في الطريق المذكورة { فقد رآني في اليقظة } بدل قوله : { فسيراني } .
وهذه الأمور مجتمعة تفيد شذوذ هذا اللفظ، ولعل الحافظ ابن حجر أشار إلى ذلك ضمناً حين قال :
( وشذ بعض الصالحين فزعم أنها تقع– يعني الرؤية – بعيني الرأس حقيقة ) .
ونقل عن المازري قوله : ( إن كان المحفوظ { فكأنما رآني في اليقظة } فمعناه ظاهر ) .
هذا ما يتعلق بالحديث رواية، وإن تعجب فعجب استدلال هؤلاء بهذا اللفظ الشاذ على تقرير إمكان رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - في اليقظة ووقوعها مع اتفاقهم على : أن حديث الآحاد لا يحتج به في العقيدة.(1/65)
أما ما يتعلق به دراية فنقول: لو فرضنا أن هذا اللفظ { فسيراني } هو المحفوظ فإن العلماء المحققين لم يحملوه على المعنى الذي حمله عليه الصوفية.
قال النووي في شرحه (15/26) : ( فيه أقوال : أحدها: أن يراد به أهل عصره ، ومعناه : أن من رآه في النوم ولم يكن هاجر يوفقه الله للهجرة ورؤيته- صلى الله عليه وسلم - في اليقظة عياناً .
وثانيها: أنه يرى تصديق تلك الرؤيا في اليقظة في الدار الآخرة؛ لأنه يراه في الآخرة جميع أمته .
وثالثها: أنه يراه في الآخرة رؤية خاصة في القرب منه وحصول شفاعته ونحو ذلك ) .
ونقل الحافظ ابن حجر هذه الأقوال بعد ما ذكر القول بحمله على الرؤية بالعين المجردة وحكم على القائلين به بالشذوذ.
وجملة القول أن إدعاء إمكان رؤيته - صلى الله عليه وسلم - في اليقظة ووقوعها مذهب ضعيف مرجوح وذلك من وجوه :
الوجه الأول : اختلاف القائلين به في المقصود بالرؤية، وهل هي رؤية لذاته - صلى الله عليه وسلم - على الحقيقة، أورؤية لمثال لها، نقله السيوطي في "نوير الحلك" ضمن "الحاوي للفتاوى" (2/263)
ثم قال : ( الذين رأيتهم من أرباب الأحوال يقولون بالثاني، وبه صرح الغزالي فقال: ليس المراد أنه يرى جسمه وبدنه بل يرى مثالاً له ) .
ثم نقل عن ابن العربي واستحسن قوله : ( رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - بصفته المعلومة إدراك على الحقيقة ورؤيته على غير صفته إدراك للمثال ) ثم قال السيوطي :
( ولا يمتنع رؤية ذاته الشريفة بجسده وروحه ؛ وذلك لأنه - صلى الله عليه وسلم - وسائر الأنبياء أحياء ردت إليهم أرواحهم بعد ما قبضوا وأذن لهم بالخروج من قبورهم والتصرف في الملكوت العلوي
والسفلي ) ! ! .
أقول: إذا كان أرباب الأحوال الذين رآهم السيوطي – على كثرتهم – يقولون إن النبي - صلى الله عليه وسلم -
لا يرى بروحه وجسمه بل يرى مثال له فقط، فكيف يدافع السيوطي عنهم ويخالفهم في الوقت نفسه؟(1/66)
الوجه الثاني : أنهم اختلفوا أيضاً هل هذه الرؤية تكون بالقلب أو بالبصر ؟
أشار السيوطي إلى ذلك ثم اضطرب اضطراياً شديداً حين قال في نفس المصدر:
( أكثر ما تقع رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - في اليقظة بالقلب ثم يترقى إلى أن يرى بالبصر) فإلى هنا يبدو أنه قصد الجمع بين القولين، ثم قال : ( لكن ليست الرؤية البصرية كالرؤية المتعارفة عند الناس من رؤية بعضهم لبعض، وإنما هي جمعية حالية وحالة برزخية وأمر وجداني … ) .
الوجه الثالث : أن بعض كبار الصوفية ينفي وقوع رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - في اليقظة.
فيقول أبو القاسم القشيري في "الرسالة القشيرية" (باب رؤيا القوم) (ص368) :
( وقال بعضهم : في النوم معان ليست في اليقظة ، منها: أنه يرى المصطفى- صلى الله عليه وسلم - والصحابة والسلف الماضين في النوم ولا يراهم في اليقظة ) اهـ .
وقد يقول قائل : إن هذا نقله القشيري عن بعضهم ولا ندري هل هم من الصوفية أو من غيرهم ؟
والجواب : أ – أن القشيري نفسه من كبار الصوفية وقد نقل العبارة وأقرها.
ب – أنه لا ينقل في رسالته مثل هذا الكلام إلا عن الصوفية، حيث ذكر في مقدمة كتابه أنه إنما يذكر سير شيوخ التصوف وآدابهم … وما أشاروا إليه من مواجيدهم ، وأكده في الخاتمة.
الوجه الرابع : أن هذه العقيدة مخالفة لإجماع أهل السنة والجماعة وهي خاصة بأهل البدعة، قال ابن حزم في "مراتب الإجماع" (ص176) : (واتفقوا أن محمداً عليه السلام وجميع أصحابه لا يرجعون إلى الدنيا إلا حين يبعثون مع جميع الناس ) .
الوجه الخامس : أنه يلزم من القول بإمكان رؤيته في اليقظة ووقوعها لوازم باطلة قد ذكرتها أثناء نقل أقوال أهل العلم في هذا الموضوع.
وأخيراً : نقل السيوطي عن بعض أهل العلم احتجاجه على حياة الأنبياء بأن النبي - صلى الله عليه وسلم -
اجتمع بهم ليلة الإسراء في بيت المقدس.(1/67)
ومقصده أن ما دام هذا ممكناً في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - معهم فيمكن أن يكون جائزاً في حق(1)أولياء أمته معه،فيرونه في اليقظة. والجواب على هذه الشبهة أن يقال :
أولاً : ليس النزاع في حياة الأنبياء في قبورهم ولا في اجتماع النبي - صلى الله عليه وسلم - بهم ليلة الإسراء
ولا صلاته بهم إماماً، فإن ذلك كله ثابت رواية، فيجب على جميع المؤمنين التصديق به.
ثانياً: أن مما يجب أن يعلم أن حياة الأنبياء في قبورهم حياة برزخية لا نعلم كيف هي، وحكمها كحكم غيرها من المغيبات، نؤمن بها ولا نشتغل بكيفيتها، ولكننا نجزم بأنها مخالفة لحياتنا الدنيا.
ثالثاً: أن الذي أخبرنا بأنه اجتمع بالأنبياء ليلة الإسراء هو الصادق المصدوق الذي يجب على كل مؤمن أن يصدقه في كل ما أخبر به من المغيبات دقيقها وجليلها، ولذا آمنا بما أخبرنا به واعتقدناه عقيدة لا يتطرق إليها شك إن شاء الله تعالى.
أما من جاءنا بخبر وقوع رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - في اليقظة فمجموعة من الدراويش خالفت الكتاب والسنة والإجماع والمعقول، فلم يجز –ولا أقول فلم يجب– أن نصدقهم في دعواهم تلك.بل وجب على كل موحد ذاب عن حمى التوحيد أن يردها بما استطاع لأنه باب يؤدي فتحه إلى ضلال عظيم وخراب للأديان والعقول ويفتح باب التشريع من جديد، ولا حول ولا قوة إلا بالله.والله أعلم ) انتهى كلام الشيخ محمد أحمد لوح جزاه الله خيراً بتصرف .
ولمزيد من الفائدة انظر كتاب "المصادر العامة للتلقي عند الصوفية عرضاً ونقداً" للشيخ صادق سليم صادق (ص405 ـ430) وكتاب "تقديس الأشخاص في الفكر الصوفي" للشيخ محمد أحمد لوح (2/36ـ52) .
__________
(1) : نقلاً من "تقديس الأشخاص في الفكر الصوفي" (2/39–52) بتصرف.(1/68)
وأما دعوى أن الذي يحضر مجلس المولد هو روحانية النبي - صلى الله عليه وسلم - فالرد عليها يستفاد من الجواب السابق وهو أن ابنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته رضي الله عنهم أجمعين هم أولى الناس بهذه المزية العظيمة لو حصلت ولم يدعي أحد منهم هذه الدعوى.
وأما قول الإمام مالك : "بلغني أن الروح مرسلة تذهب حيث شاءت" فالجواب عنه بما يلي :
أولاً: ما صحة نسبة هذا القول إلى الإمام مالك ؟
ثانياً: هل قول الإمام مالك حجة، وخصوصا أن قوله هذا في مسألة متعلقة بالغيب فهي من مسائل العقيدة ؟
وكثير ممن يستدل بقول الإمام مالك هذا ومنهم محمد علوي الم(1)لكي يقولون بعدم حجية حديث الآحاد في العقيدة وان كان في صحيح البخاري أو صحيح مسلم !!.
ثالثاً: قال العلامة الأنصاري ـ رحمه الله ـ في "القول الفصل" :
( أن قول الإمام مالك هذا ليس المراد به ما ادعاه محمد بن علوي المالكي من أن الأرواح جوالة يمكن أن تحضر مجالس الخير ومشاهد النور بل المراد به بيان سرعة انتقال أرواح المؤمنين الموتى من العرش إلى الثرى ثم انتقالها من الثرى إلى مكانها كما بينه ابن القيم في نفس كتاب "الروح" ! ! .
وأما ما روي عن سلمان الفارسي أنه قال : ( أرواح المؤمنين في برزخ من الأرض تذهب حيث شاءت ) فقد فسره ابن القيم في ( ص ) من "الروح" بما نصه :
( وأما قول من قال إن أرواح المؤمنين في برزخ من الأرض تذهب حيث شاءت فهذا مروي عن سلمان الفارسي والبرزخ هو الحاجز بين شيئين وكأن سلمان أراد بها في أرض بين الدنيا والآخرة مرسلة هناك تذهب حيث شاءت) قال (وهذا قول قوي فإنها قد فارقت الدنيا
__________
(1) : نقلا من "القول الفصل" (ص315) بتصرف.(1/69)
ولم تلج الآخرة بل هي في برزخ بينهما فأرواح المؤمنين في برزخ واسع فيه الروح و الريحان والنعيم وأرواح الكفار في برزخ ضيق فيه الغم والعذاب قال تعالى: { ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون } فالبرزخ هنا ما بين الدنيا والآخرة و أصله الحاجز بين الشيئين ) اهـ ) انتهى كلام الأنصاري بتصرف .
( وقد جاء في سنن ابن ماجة والترمذي عن جابر ابن عبدالله قال : لما قتل عبدالله بن عمرو بن حرام يوم أحد، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : { ياجابر أَلا أخبرك ما قال الله لإبيك }
قلت: بلَى .
قال: { ما كلم الله أَحداً إلا من وراء حجابٍ ، وكلم أَباك كفَاحاً، فَقَال : يا عبد الله تمن علي أعطك. قال: يا رب تحيينِي فأقتل فيك ثانية.
قال: إنه سبق مني أنهم إلَيها لا يرجِعون.
قال: يا رب فأبلغ من ورائي، فأنزل الله هذه الآية: { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أَمواتاً بل أحياءٌ } (آل عمران:961) الآية كلها } ؛ وحسنه الألباني في "صحيح سنن ابن ماجة" (2/392–393).
وقد اخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن مستقر أرواح الشهداء كما في صحيح مسلم عن مسروق
قال: ( سألنا عبد الله هو ابن مسعود عن هذه الآية: { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون } (آل عمران الآية :961) قَال : أما إنا قد سألنا عن ذلك.
فقال : { ارواحهم في جوف طير خضر . لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت } . ثم تأوي إلى تلك القناديل . .. الخ "
وأخبر - صلى الله عليه وسلم - عن أرواح المؤمنين الصالحين فقال: { إِنما نسمة المسلم طَير يعلَق بشجرِ الجنة حتى يرجعهُ الله تبارك وتعالى إِلَى جسده يوم يبعثهُ } رواه احمد والنسائي وابن ماجة ومالك .(1/70)
وأما اعتبار ذلك القيام الذي يقع عند ذكر وضع النبي - صلى الله عليه وسلم - وخروجه إلى الدنيا في قصص المولد من تعظيم الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقد جزم الشامي والهيتمي ورشيد رضا بأنه غير صحيح وأنه بدعة لا يعذر من يفعلها من الخواص وصرح الشيخ محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي
بأنه محرم وفيما يلي نصوصهم :
قال الشيخ محمد الشامي في "سيرته" (1/415) : (جرت عادة كثير من المحبين إذا سمعوا بذكر وضعه - صلى الله عليه وسلم - أن يقوموا تعظيما له - صلى الله عليه وسلم - وهذا القيام بدعة لا أصل لها ) .
وقال ابن حجر الهيتمي في "الفتاوى الحديثية" (ص58) بصدد كلامه عن الوثوب عند
قراءة قوله تعالى : { أتى أَمر الله } واعتباره إياه بدعة بعد زوال سبب الوثوب عند نزوله وهو الفزع الذي زال بنزول { فلا تستعجلوه } كما ذكره الواحدي ، فلا ينبغي فعله بعد زواله لما فيه من إيهام العامة ندبه قال بعد استنكاره ذلك الوثوب ما نصه : ( ونظير ذلك فعل كثير عند ذكر مولده - صلى الله عليه وسلم - ووضع أمه له من القيام وهو أيضا بدعة لم يرد فيه شيء على أن الناس إنما يفعلون ذلك تعظيما له - صلى الله عليه وسلم - فالعوام معذورون لذلك بخلاف الخواص ) اهـ .
وقال رشيد رضا في جوابه عن تلقين العلويين في جاوه الناس أن من لم يقم أثناء حفلات (1)لمولد عند سماعه ( مرحبا بالنبي ) الخ فهو كافر قال في "فتاويه" (5/2113) ما نصه :
( أما القيام عند ذكر وضع أمه - صلى الله عليه وسلم - وإنشاد بعض الشعراء أو الأغاني في ذلك فهو من جملة هذه البدع وقد صرح بذلك الفقيه ابن حجر المكي الشافعي الذي يعتمد هؤلاء العلويين على كتبه في دينهم ( ثم نقل كلام ابن حجر الهيتمي السابق ) ) اهـ .
__________
(1) : نقلاً من "القول الفصل" (ص ؟؟) بتصرف.(1/71)
وقال الشيخ محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي الفاسي في كتابه "الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي" (1/93) : (ومنه – أي من الاستحسان المحرم – أيضا القيام عند ذكر الولادة النبوية مع ورود النص بل النصوص الصريحة بالنهي عنه انظر رسالتنا "صفاء المورد في عدم القيام عند سماع المولد" ورسالتنا "الحق المبين في الرد على من رد عليها " وهو صاحب
"حجة المنذرين" ) اهـ .
و أما قول الصرصري في قصيدته :
وأن ينهض الأشراف عند سماعه قياما صفوفا أو جثيا على الركب
فليس بدليل شرعي على صنيع السبكي فضلا عن قياس القيام أثناء قراءة بعض القصص التي تقرأ في الاحتفال بالمولد النبوي على قيام السبكي وليس الصرصري ممن يؤخذ بقوله في مثل هذا وشعره يقع منه أحيانا ما لا يرضي كما بينه شيخ الإسلام ابن تيمية في "الرد على البكري" ) انتهى كلام الأنصاري رحمه الله بتصرف .
وحجة من أنكر هذا القيام هو ما جاء عن أنس رضي الله عنه انه قال :
( لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال : وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهيته لذلك) .
الخاتمة
هذا ما وفقني الله لجمعه من أقوال أهل العلم في الرد على شبهات من أجاز المولد ، اسأل الله أن ينفعني ومن يطلع عليه بما فيه .
كما أسأل الله أن يجزي علمائنا خير الجزاء على ما قاموا به من بيان للحق ورد للباطل وأن يجعل ذلك في ميزان حسناتهم .
كما أسأله أن يهدي ضال المسلمين إلى أتباع السنة وترك البدعة .
وصلى الله على نبينا وقدوتنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
وسبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد ألا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك .
وكتبه / أبو معاذ السلفي(1/72)