قضاء الله لا يرد
قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله جل وعلا يقول: يا محمد! إني إذا قضيت قضاءً فإنه لا يرد)، قال بعضهم: إن هذا القضاء إذا كان قضاءً مبرماً، وهذا ليس صحيح، فالقضاء الذي يقضيه الله جل وعلا كله لا يرد، كل قضاء يقضيه ليس له راد، فلا راد لما قضى جل وعلا، وكل شيء يقع في الكون قد قضاه الله جل وعلا؛ لأن الله كتب مقادير الأشياء قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، ومقادير الأشياء تعم كل شيء {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد:8]، وقد أخبر جل وعلا: أنه ما تسقط من ورقة من شجرة ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب، والكتاب هذا هو الكتاب الذي كتبه جل وعلا قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وليس فيه زيادة ولا نقص.
وفي هذا الكتاب أهل الجنة بأسمائهم وأسماء آبائهم وأسماء قبائلهم، وأهل النار كذلك ما يزاد عليهم واحد، ولا ينقص منهم واحد، فكل شيء قد كتب وانتهى ولا يرد ذلك، ثم لا يتصور الإنسان أن معنى هذا أنه مجبر على الشيء، مقهور عليه؛ لأن هذا غيب، والله أمر الخلق بأن يعملوا ويجتهدوا ويحرصوا على الخير، فهم لا يعرفون الكتاب؛ فالإنسان لا يعرف ماذا كتب عليه، ومع ذلك لا يعمل شيئاً إلا وقد كتب، كل شيء يعمله مكتوب لا يمكن أن يخرج عن هذه الكتابة؛ لهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك ولا تعجزن، فإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا، فإن (لو) تفتح عمل الشيطان، ولكن قل: قدر الله، وما شاء فعل).
فأخبر صلى الله عليه وسلم أن المؤمن القوي في إرادته وفي عمله أحب إلى الله، وأنه أكثر خيراً من المؤمن الضعيف الكسلان؛ لأن خيريته في العمل، ثم أرشد صلى الله عليه وسلم إلى الشيء الذي ينفع فقال: (احرص على ما ينفعك)، والحرص هو بذل الوسع والاجتهاد بالطلب حتى لا يترك شيئاً، (احرص على ما ينفعك ولا تعجزن) لا تقل: إذا كان المكتوب علي كذا وكذا فلا فائدة، لأن الكتابة حصلت لكل شيء، الأسباب والمسببات كتبت، وأنت أمرت بالعمل، فعليك أن تمتثل الأمر وتجتهد، فإن بذلت السبب واجتهدت ثم لم تتحصل على النتيجة المطلوبة فهنا لا تلوم نفسك، ولا تلوم القدر وتقول: لو أني فعلت كذا وكذا، ولا فائدة في هذا، هذا فيه تحسر، وفيه ميل إلى ما يريده الشيطان، وهو التأفف والحسرة، ثم بعد ذلك يكره الواقع ويبغض ما وقع له، وإنما على الإنسان أن يعلم أن هذا شيء مقدر لا يمكن أن يرد، ولا يمكن أن يقع خلافه ولو عمل أي عمل.
والمقصود: أن الكتابة السابقة لا تنافي العمل ولا تنافي الحرص، فإن كل شيء مكتوب، والله جل وعلا قد علم من هذا المخلوق أنه سيوجد، وسيكون عنده ميل إلى الباطل ومحبة له وبغض للحق، وعدم إرادة له، فكتب ذلك فوقع على وفق كتابته، ويعلم أن هذا المخلوق الآخر عنده حب للحق وكراهية للباطل، وعمل للحق وإرادة له، فكتب ذلك فوقع كما كتب {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:5 - 10]، وقال عليه الصلاة والسلام: (كل ميسر لما خلق له) يعني: أن العمل الذي يكتسب به الخير يسهل عليه وتتيسر له أسبابه، ومن ذلك الاجتهاد، وإذا اجتهد لا يلوم الإنسان نفسه، بخلاف إذا فرط فإن اللوم عليه؛ ولهذا قال بعض السلف لما ليم بكثرة الاجتهاد: سوف لا أدخر شيئاً من اجتهادي حتى لا أندم إذا ألقيت في النار، فأقول: قد بذلت ما أستطيع، فلا أندم على نفسي، وإن كان في الجنة فلن يضيع الله عمله واجتهاده، وسوف يرفع درجة.
ثم وقت الإنسان قصير، فعلى الإنسان أن يتأمل ما ذكره الله جل وعلا عن الساعة، أخبر أنها كلمح البصر أو هي أقرب، فأخبر جل وعلا عن المجرمين أنهم يقسمون ويحلفون بالله أنهم ما لبثوا غير ساعة، هل نسوا؟ ما نسوا، هم يعرفون أنهم لبثوا في الدنيا كذا وكذا، ولكن هي كأنها ساعة فقط أو أقل من الساعة كلمح البصر، فلا يجوز أن يذهب هذا الوقت القصير الذي سوف ينسى في اكتساب السيئات والقرب إلى النار، يجب أن يجتهد الإنسان، ويكتسب بهذه السويعات القليلة رضا الله والسعادة الأبدية، ويحرص على ما ينفعه، ولا يعجز كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث كما يقول ابن القيم: يجب أن يتعلمه كل مسلم وأن يعمل به، فإن كل واحد مضطر إليه ضرورة، (احرص على ما ينفعك ولا تعجزن)، وكل نقص يأتي في الإنسان فهو من عدم العمل بهذا الحديث.(71/14)
حديث: (تدور رحى الإسلام لخمس وثلاثين)
قال الشارح رحمه الله: [قوله: وروى أبو داود أيضاً عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تدور رحى الإسلام لخمس وثلاثين أو ست وثلاثين أو سبع وثلاثين فإن يهلكوا فسبيل من هلك، وإن يقم لهم دينهم يقم سبعين عاما قلت: أمما بقى أو مما مضى؟ قال: مما مضى)].
معنى: (تدور رحى الإسلام) أي: دوران الرحى على أهل الإسلام، والرحى إذا دارت تطحن، وطحنها هنا يكون البشر، وهذا من الإخبارات التي أخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم قبل وقوعها ووقعت كما أخبر، فدارت الرحى في آخر أيام الصحابة، فقتل فيها خلق كثير جداً، وهذا عبارة عن الحروب التي وقعت بين أهل الشام وأهل العراق، أهل الشام مع معاوية، وأهل العراق مع علي بن أبي طالب، وما كان قبلها في قتال الجمل وغيرها، فقد اشتغلوا بالقتال بينهم، وتركوا قتال الكفار حتى طمع الكفار في بلادهم، وأخذوا أطراف البلاد بسبب ذلك.
وقوله: (إن يهلكوا فسبيل من هلك وإن يقم لهم الأمر فسبعين سنة) المقصود بقيام الأمر: الأمر الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا مثل ما جاء في الحديث الصحيح: (خير القرون الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يأتي قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته، ويظهر فيهم النفاق والسمن) فالقرون التي مضت كانت في عافية وفي خير، فصارت الفتن في المتأخرين.
وفي الصحيح من حديث أنس أنه قال: (لا يأتي زمان إلا وما بعده شر منه، سمعت ذلك من نبيكم صلى الله عليه وسلم) وهذا عام، ولكن ليس معنى ذلك أن الشر يكون في كل فرد، ليس هذا هو المقصود، وإنما المقصود النسبة، فإن الشر في المتأخرين نسبته أكثر من نسبته في المتقدمين، حتى يأتي الزمان الذي قبيل قيام الساعة، ولا يعرف أحد الله، ولا يذكر اسمه جل وعلا، ويتهارجون كتهارج الحمر، فهم شرار خلق الله، وعليهم تقوم الساعة.
والساعة عبارة عن نفخ الصور، هذه هي الساعة، ونفخ الصور هو نفختان، النفخة الأولى لهلاك من كان حياً، وذهاب كل شيء حتى الجبال تصبح كالعهن المنفوش، كما قال الله جل وعلا: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} [طه:105 - 107] وتتفطر الأرض وتتصدع، والسماء كذلك، وتسقط النجوم كالمطر، مطر ولكن من نجوم! أهوال هائلة جداً {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ} [إبراهيم:48]، ثم بعد ذلك ينفخ في الصور نفخة أخرى، فيحيا كل ميت، ويجمعون في هذه الأرض التي بدلت، ومدت مد الأديم حتى تتسع لهم، والملائكة يحيطون بهم، فيبقون قياماً وقتاً طويلاًَ جداً لا يتصوره الإنسان، ولا يعقل أن الإنسان يستطيع أن يبقى كذا، ولكن لا يوجد موت، والبعث بعد النفخ في الصور النفخة الثانية، وتستقر كل روح في جسدها بعدما ينبت في قبره، وهذا الاستقرار ما يقبل المفارقة، استقرار للروح واتصال بالبدن اتصالاً ما يقبل المفارقة أصلاً، ما فيه موت أبداً، وإنما عذاب أبدي دائم أو نعيم سرمدي ما دامت السموات والأرض.
ولهذا يقول الله جل وعلا في أهل العذاب: {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} [إبراهيم:17] يعني: تأتيه أسباب الموت لو قدر أنه يموت لكن لا يوجد موت، يلقى في جهنم ويصبح وقوداً لها ولا يموت، وإنما يحترق جلده ولحمه ثم يعاد، يحترق ثم يعاد، وهكذا وإذا استغاث من الظمأ يغاث بماء يشوي الوجه، إذا قربه من وجهه ليشربه سقطت فروة وجهه فيه من شدة حراراته، وإذا شربه صار يغلي في بطنه كغلي الحميم، عذاب لا يتصوره الإنسان! لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من هذا العذاب.
هذا الذي ينتظر الإنسان، ولكن هل يعقل الإنسان ذلك ويتصوره؟ لو تصوره كما ينبغي ما يمكن أن يهنأ له عيش أو نوم أو راحة أبداً، سيكون كما يقول بعض السلف: كيف يهنأ لي نوم والله توعدني بالنار إذا عصيته؟! والله! لو توعدني أن يسجنني في حمام لحق لي أن أبكي وألا أستقر، فكيف وقد توعد أن يسجن العصاة في جهنم؟! ولكن الإنسان ظلوم مع جهله، وهذه حكمة الله جل وعلا.(71/15)
حديث: (يتقارب الزمان)
قال الشارح: [(وروى في سننه أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يتقارب الزمان، وينقص العلم، وتظهر الفتن، ويلقى الشح، ويكثر الهرج، قيل: يا رسول الله! أيه هو؟ قال: القتل القتل)].
يعني: في الهرج بأنه القتل، يكثر الهرج، أي: القتل يزداد، وكلما تأخرت الأزمان ازداد ولكنه يكون في جهة، ويكون في جهات متعددة، ويخف مرة هنا، ويكثر هنا، كما هو الواقع، ولا تخلو الأرض من قتال دائماً، وبعض القتال قد يكون في حق، وبعضه يكون بين أهل الحق والباطل، بين الكفر والإيمان، ولكن لا بد أن يكثر، والمصيبة أنه في آخر الزمان يقتل الإنسان الآخر وهو لا يدري في أي شيء قتل، ويأتي الإنسان إلى القبر ويتمرغ فيه ويقول: ليتني مكان صاحبه، ليس به الدين، يعني: ليس ذلك من الدين، بل من كثرة الفتن التي يراها ويشاهدها، فيختار أن يموت ولا يكون حياً.
قال الشارح: [قوله: (وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين) أي: الأمراء والعلماء والعباد، فيحكمون فيهم بغير علم فيضلونهم كما قال تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} [الأحزاب:67] وكان بعض هؤلاء يقول لأصحابه: من كان له حاجة فليأت إلى قبري فإني أقضيها له، ولا خير في رجل يحجبه عن أصحابه ذراع من تراب ونحو هذا].
هذا ذكره الشعراني في طبقاته عن أحد ساداته، يعني: شيوخه، يقول: إنه لما حضره الموت -وهذه مصيبة في الواقع- قال لأصحابه: يا أصحابي! إذا كان لأحدكم حاجة فليأت إلى قبري، وليستغث بي، ويطلب مني الحاجة فإنه لا خير في إنسان يحول بينه وبين أصحابه وقضاء حوائجهم ذراع من تراب.
وهذا شبه الجنون، ليس جهلاً فقط، وذكر عن آخر ويسميه سيداً، وهو من الصوفية الهالكين الذين يدعون إلى عبادة غير الله، وعندهم سخافة العقل، بل عندهم الجنون الذين يخرجون به عن حد التكليف، يذكر عنه أنه قال: إذا كان يوم القيامة أنصب على جهنم خيمتي، فلا أدع إنسان يدخلها من العارفين بي والمحبين! كيف يكتب هذا في الكتب وينشر على الناس؟ كيف يطبع في المطابع مثل هذه السخافات؟ ومع ذلك يزعم أن هذه كرامة، سخافة إلى النهاية، جهل الجاهلية الأولى ما وصل إلى هذا الحد، جهل أبي جهل ما وصل إلى هذا الحد ولا قريب منه، ومع ذلك يزعمون أن هؤلاء أولياء، وصدقوا فإنهم أولياء ولكن لمن؟ للشيطان، أولياء للشيطان، فإنهم أصبحوا دعاة الشيطان، يدعون إليه، ويضلون كثيراً من خلق الله جل وعلا.
قال الشارح: [وهذا هو الضلال البعيد، يدعو أصحابه إلى أن يعبدوه من دون الله، ويسألوه ما لا يقدر عليه من قضاء حاجاتهم وتفريج كرباتها وقد قال تعالى: {يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ * يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} [الحج:12 - 13]، وقال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا} [الفرقان:3]، وقال تعالى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [العنكبوت:17]، وأمثال هذا في القرآن كثير، يبين الله تعالى به الهدى من الضلال.
ومن هذا الضرب: من يدعي أنه يصل مع الله إلى حال تسقط فيها عنه التكاليف، ويدعي أن الأولياء يدعون ويستغاث بهم في حياتهم ومماتهم، وأنهم ينفعون ويضرون ويدبرون الأمور على سبيل الكرامة، وأنه يطلع على اللوح المحفوظ، ويعلم أسرار الناس وما في ضمائرهم، ويجوز بناء المساجد على قبور الأنبياء والصالحين، وإيقادها بالسرج ونحو ذلك من الغلو والإفراط والعبادة لغير الله، فما أكثر هذا الهذيان والكفر والمحادة لله ولكتابه ولرسوله].
ولكن مع الأسف هو هذيان وكفر ومحادة لله ورسوله، ولكن صار له نتائج، فأصبح ما تجده في غالب بلاد المسلمين من هذه المساجد المبنية على القبور، وهذه القبور تقصد للتبرك، وسؤال أصحابها، ودعائهم، والنذر لهم، وهذا جهل فضيع، وهذيان، وكفر، ومحادة لله، والسبب في هذا -ما ذكر في هذا الحديث- الأئمة المضلون، والذين أضلوهم أشباه العلماء، يقال: إنهم علماء، وربما يكون معهم شهادات، ويفتي بعضهم بالمذاهب الأربعة، إذا جاءته مسألة من مسائل الفقه تجده يقول: مذهب الشافعي كذا، ومذهب مالك كذا، ومذهب أبي حنيفة كذا، ومذهب الإمام أحمد كذا، وهو مع ذلك يدعو إلى عبادة القبور! جهل حق الله، وعرف أشياء دقيقة.
وتجده أيضاً يؤلف الكتب، ويذكر الدقائق، ويفسر القرآن ويشرح الحديث في مجلدات، وهو لا يعرف الإخلاص ما هو، ولا يعرف العبادة ما هي، ولا يعرف معنى لا إله إلا الله، فصار من الأئمة المضلين بهذا الفعل، وأكثر ما وقع الضلال بسبب ذلك، أما الملوك والأمراء فإنهم غالباً يكونون تبع للعلماء، لا يستطيعون أن يرغموا الناس على شيء إلا إذا وافقهم العلماء على ذلك واتفقوا معه، والنادر لا حكم له، ولكن هذا هو الغالب، فالأمر يرجع إلى العلماء، فالأئمة المضلون يتبعهم المنفذون الذين ينفذون الأمر، ويكون ذلك عن رأيهم وعن اجتماعهم وعن مشورتهم.
والعباد أثرهم في هذا أنه يقتدى بهم، يرى الناس أنهم صلحاء، وأنهم زهاد، وأنهم أتقياء، وأنهم أولياء، فيغترون بهم من هذه الناحية، فيقتدى بهم، فيكونون فتنة لكل مفتون، فكل هؤلاء أسباب لما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يخافه على أمته (وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين)، فهؤلاء هم الذين يضلون.
إذاً: الأئمة منهم أئمة يهدون بالحق وبه يعدلون، ويقولون بالحق، وأئمة يقولون بالضلال، ويهدون إليه، وهم من دعاة النار، فالإمام اسم لكل من يقتدى به في شيء، سواء كان في حق أو باطل؛ ولهذا أخبر الله جل وعلا أن فرعون ومن معه أئمة الضلال يهدون إلى النار، الرجل قد يكون إماماً بنفسه كما قال الله جل وعلا عن إبراهيم: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا} [النحل:120] يعني: إماماً يهتدى به في الحق، ويتبع في ذلك.(71/16)
حديث: (إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين)
قال الشارح: [وقوله صلى الله عليه وسلم: (وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين) أتى بإنما التي قد تأتي للحصر بياناً لشدة خوفه على أمته من أئمة الضلال، وما وقع في خلد النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك إلا لما أطلعه الله عليه من غيبه أنه سيقع نظير ما في الحديث قبله من قوله: (لتتبعن سنن من كان قبلكم) الحديث وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلون) رواه أبو داود الطيالسي، وعن ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين) رواه الدارمي.
وقد بين الله تعالى في كتابه صراطه المستقيم الذي هو سبيل المؤمنين، فكل من أحدث حدثاً ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهو ملعون، وحدثه مردود كما قال صلى الله عليه وسلم: (من أحدث حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً) وقال: (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد)، وقال: (كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) وهذه أحاديث صحيحة، ومدار أصول الدين وأحكامه على هذه الأحاديث ونحوها].
مدار أصول الدين وأحكامه على هذه الأحاديث؛ لأن الدين مداره على أن يكون الدين كله لله وحده، وأن يكون الدين بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فالدين كله ينحصر في هذا، أن يكون خالصاً لله، وأن يكون الدين بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فالبدعة والمحدثات ليست من الدين، وإنما فيها تغيير الدين وتبديله؛ ولهذا لعن من فعل ذلك ومن وقع منه ذلك.
قال الشارح: [وقد بين الله تعالى هذا الأصل في مواضع من كتابه العزيز كما قال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف:3]، وقال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية:18] ونظائرها في القرآن كثير.
وعن زياد بن حدير قال: قال لي عمر رضي الله عنه: هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قلت: لا، قال: يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين.
رواه الدارمي.
وقال يزيد بن عمير: كان معاذ بن جبل رضي الله عنه لا يجلس مجلساً للذكر إلا ويقول: الله حكم قسط: هلك المرتابون، وفيه: فاحذروا زيغة الحكيم، فإن الشيطان قد يقول الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق، قلت لـ معاذ: وما يدريني -رحمك الله- أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة والمنافق قد يقول كلمة الحق؟ فقال: اجتنب من كلام الحكيم المشتبهات التي تقول: ما هذه؟ ولا يثنيك ذلك عنه].
التي تقال: ما هذه؟ أو تقول: ما هذه؟ يعني: أنك تستنكرها.
[التي تقول: ما هذه؟ ولا يثنيك ذلك عنه فإنه لعله أن يراجع الحق، وتلق الحق إذا سمعته فإن على الحق نوراً.
رواه أبو داود وغيره.
قوله: (وإذا وقع السيف لم يرفع إلى يوم القيامة) وكذلك وقع فإن السيف لما وقع بقتل عثمان رضي الله عنه لم يرفع، وكذلك يكون إلى يوم القيامة، ولكن قد يكثر تارة ويقل أخرى، ويكون في جهة ويرتفع عن أخرى.
قوله: (ولا تقوم بالساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين) الحي واحد الأحياء وهي القبائل، وفي رواية أبي داود: (حتى يلحق قبائل من أمتي بالمشركين) والمعنى: أنهم يكونون معهم ويرتدون برغبتهم عن أهل الإسلام، ويلحقون بأهل الشرك].
هذا هو الشاهد من الحديث؛ لأن المقصود الرد على الذين يقولون: إن الشرك لا يقع في هذه الأمة، ومن قال: لا إله إلا الله فهو مسلم داخل في شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وناجٍ من النار، وإن وقع منه ما وقع، فأراد أن يبين أن هذا ضلال، وأنه ليس المقصود من قول (لا إله إلا الله) التلفظ بها، وإنما المقصود اعتقاد معناها والعمل بها، وإلا إذا كان الإنسان يتلفظ بها وهو لا يعرف معناها، بل ويأتي بما يخالف ما دلت عليه، فيكون قوله لها مثل الذي يقولها وهو سكران، أو وهو نائم يهذي، والهذيان لا فائدة فيه.
[وقوله: (حتى تعبد فئام من أمتى الأوثان) الفئام بكسر الفاء مهموز: الجماعات الكبيرة قاله أبو السعادات].
وهذا إخبار بأن جماعة من قبائل الأمة ترتد عن الإسلام، وترغب في دين الكفار، وجماعة أخرى تعبد الأوثان، فكله خلاف ما دعا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد أخبر به خلافاً لما يدعيه هؤلاء الضلال.
[وفي رواية أبي داود: (حتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان)، وهذا هو شاهد الترجمة، ففيه الرد على من قال بخلافه من عباد القبور الجاحدين لما يقع منهم من الشرك بالله بعبادتهم الأوثان؛ وذلك لجهلهم بحقيقة التوحيد وما يناقضه من الشرك والتنديد، فالتوحيد هو أعظم مطلوب، والشرك هو أعظم الذنوب.
وفي معنى هذا الحديث، ما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: (لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس على ذي الخلصة) قال: وذو الخلصة طاغية دوس التي كانوا يعبدون في الجاهلية، وروى ابن حبان عن معمر قال: إن عليه الآن بيتاً مبنياً مغلقاً].
ذو الخلصة عبارة عن صخرات كانت في جبل يأتون إليه، ويتعبدون عنده مثل اللات تماماً، فهدم زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأزيل، وأخبر أنه سوف يبعث من جديد، وتطوف عليه النساء وقد وقع ذلك من أزمنة قريبة، ثم أزيل، ويجوز أن يعود مرة أخرى، وكل هذا خلاف ما يقوله هؤلاء.(71/17)
عدم جواز إبقاء مواضع الشرك
قال الشارح: [قال العلامة ابن القيم رحمه الله في قصة هدم اللات لما أسلمت ثقيف: فيه أنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت بعد القدرة على هدمها وإبطالها يوماً واحداً، وكذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور، والتي اتخذت أوثاناً تعبد من دون الله، والأحجار التي تقصد للتبرك والنذر لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض مع القدرة على إزالتها، وكثير منها بمنزلة اللات والعزى ومناة، أو أعظم شركاً عندها وبها، فاتبع هؤلاء سنن من كان قبلهم، وسلكوا سبيلهم حذو القذة بالقذة، وغلب الشرك على أكثر النفوس؛ لظهور الجهل، وخفاء العلم، وصار المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، والسنة بدعة، والبدعة سنة، وطمست الأعلام، واشتدت غربة الإسلام، وقل العلماء، وغلب السفهاء، وتفاقم الأمر، واشتد البأس، وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، ولكن لا تزال طائفة من العصابة المحمدية بالحق قائمين، ولأهل الشرك والبدع مجاهدين، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
انتهى ملخصاً.
قال: قلت: فإذا كان هذا في القرن السابع وقبله فما بعده أعظم فساداً كما هو الواقع].
ذكر بعض المؤرخين من اليمن في القرن الثاني عشر عن اثنين من أهل اليمن أنهما جاءا إلى مكة لطلب العلم، وكان أحدهما أفقه من الآخر، فلما أقبلا على الطائف قال أحدهما لزميله: أهل الطائف لا يعرفون الله، وإنما يعرفون ابن عباس، فقال له زميله: معرفتهم بـ ابن عباس تكفي عن معرفة الله، فـ ابن عباس يعرفهم بالله جل وعلا، ثم ذكر هذا المؤرخ أن القبة التي كانت على قبر ابن عباس هي موضع اللات، ويقول: إنها أعيدت كما كانت في الجاهلية، ثم بعد ذلك أزيلت والحمد لله.
[وقوله: (وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي) قال القرطبي: وقد جاء عددهم معيناً في حديث حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يكون في أمتي كذابون دجالون سبع وعشرون منهم أربع نسوة) أخرجه أبو نعيم وقال: هذا حديث غريب.
انتهى وحديث ثوبان أصح من هذا].
حديث ثوبان فيه أنهم ثلاثون، وليس فيه أنهم سبع وعشرون، وفيهم أربع نسوة.
[قال القاضي عياض: عد من تنبأ من زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الآن ممن اشتهر بذلك، وعرف، واتبعه جماعة على ضلاله؛ فوجد هذا العدد فيهم، ومن طالع كتب الأخبار والتواريخ عرف صحة هذا].
لكن هم كثير في الواقع، ولكن ليس المقصود كل من ادعى النبوة؛ لأن بعض من ادعى النبوة قد يكون عن مرض، وقد يكون عن سخافة عقل، وإنما المقصود الذي يدعي النبوة، ويكون له شبه، ويكون له أتباع، ويكون له قوة، هؤلاء هم الذين قصدوا بالحديث.(71/18)
من دلائل النبوة
قال الشارح: [وقال الحافظ: وقد ظهر مصداق ذلك في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج مسيلمة الكذاب باليمامة، والأسود العنسي باليمن، وفي خلافة أبي بكر طليحة بن خويلد في بني أسد بن خزيمة، وسجاح في بني تميم، وقتل الأسود قبل أن يموت النبي صلى الله عليه وسلم، وقتل مسيلمة في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، قتله وحشي قاتل حمزة يوم أحد، وشاركه في قتل مسيلمة يوم اليمامة رجل من الأنصار، وتاب طليحة، ومات على الإسلام في زمن عمر رضي الله عنه.
ونقل أن سجاح تابت أيضاً، ثم خرج المختار بن أبي عبيد الثقفي، وغلب على الكوفة في أول خلافة ابن الزبير، وأظهر محبة أهل البيت، ودعا الناس إلى طلب قتلة الحسين، فتتبعهم فقتل كثيراً ممن باشر ذلك وأعان عليه، فأحبه الناس، ثم ادعى النبوة، وزعم أن جبريل عليه السلام يأتيه، ومنهم الحارث الكذاب خرج في خلافة عبد الملك بن مروان فقتل، وخرج في خلافة بني العباس جماعة.
وليس المراد بالحديث من ادعى النبوة مطلقاً، فإنهم لا يحصون كثرة؛ لكون غالبهم تنشأ دعوته عن جنون أو سوداء، وإنما المراد من قامت له شوكة، وبدى له شبهة كمن وصفنا، وقد أهلك الله تعالى من وقع له منهم ذلك وبقي منهم من يلحقه بأصحابه، وآخرهم الدجال الأكبر.
قوله: (وأنا خاتم النبيين) قال الحسن: الخاتم الذي ختم به يعني أنه آخر النبيين كما قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40]، وإنما ينزل عيسى ابن مريم في آخر الزمان حاكماً بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، مصلياً إلى قبلته، فهو كواحد من أمته، بل هو أفضل هذه الأمة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده! لينزلن فيكم ابن مريم حكماً مقسطاً، فليكسرن الصليب، وليقتلن الخنزير، وليضعن الجزية)].
معنى يضع الجزية يعني: أنه لا يقبلها، لا يقبل من الناس إلا الإسلام أو القتل، هذا معنى يضع الجزية، وليس هذا تشريع جديد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر به فدل على أنه شرع، فعيسى عليه السلام ينزل ويحكم بهذه الشريعة، ويكون من هذه الأمة، فهو أفضلها لأنه نبي، بل هو من أولو العزم من الرسل.(71/19)
الطائفة المنصورة
قال الشارح: [قوله: (ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم) قال يزيد بن هارون وأحمد بن حنبل: إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم].
أهل الحديث ليس هم الذين ينقلون الحديث ويحفظونه فقط، بل هم الذين يعملون به، ويفقهونه ويتبعون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو لم يحفظوا، فكل من عمل به واتبعه وسار على نهج الرسول صلى الله عليه وسلم فهو من أهل الحديث، يعني من أهل السنة.
[قال ابن المبارك وعلي بن المديني وأحمد بن سنان والبخاري وغيرهم: إنهم أهل الحديث، وعن ابن المديني رواية: هم العرب، واستدل برواية من روى: هم أهل الغرب، وفسر الغرب بالدلو العظيمة؛ لأن العرب هم الذين يستقون بها.
قال النووي: يجوز أن تكون الطائفة جماعة متعددة من أنواع المؤمنين: ما بين شجاع وبصير بالحرب، وفقيه ومحدث ومفسر، وقائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وزاهد وعابد، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين في بلد واحد، بل يجوز اجتماعهم في قطر واحد، وافتراقهم في أقطار الأرض، ويجوز أن يجتمعوا في البلد الواحد، وأن يكونوا في بعض دون بعض منه، ويجوز إخلاء الأرض من بعضهم أولاً بأول إلى ألا يبقى إلا فرقة واحدة ببلد واحد، فإذا انقرضوا جاء أمر الله.
انتهى ملخصاً مع زيادة فيه قاله الحافظ.
قال القرطبي: وفيه دليل على أن الإجماع حجة؛ لأن الأمة إذا اجتمعت فقد دخل فيهم الطائفة المنصورة.
قال المصنف رحمه الله: وفيه الآية العظيمة: أنهم مع قلتهم لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، وفيه البشارة بأن الحق لا يزول بالكلية.
قلت: واحتج به الإمام أحمد على أن الاجتهاد لا ينقطع ما دامت هذه الطائفة موجودة.
قوله: (حتى يأتي أمر الله) الظاهر أن المراد به ما روي من قبض من بقي من المؤمنين بالريح الطيبة ووقوع الآيات العظام، ثم لا يبقى إلا شرار الناس، كما روى الحاكم أن عبد الله بن عمرو قال: لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق، هم شر أهل الجاهلية، فقال عقبة بن عامر لـ عبد الله: اعلم ما تقول، وأما أنا فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله ظاهرين، لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك، قال عبد الله: ويبعث الله ريحاً ريحها المسك، ومسها مس الحرير، فلا تترك أحداً في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلا قبضته، ثم يبقى شرار الناس فعليهم تقوم الساعة)، وفي صحيح مسلم: (لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله الله)].
المقصود في قوله: حتى لا يقال في الأرض: الله الله.
يعني: أنه لا يذكر الله ولا يعبد، بل يصبحون لا يعرفون الله، وليس معنى ذلك أن هذه الكلمة مشروعة، أي: الذكر بالاسم المفرد؛ لأن هذا من الباطل ومن البدع، فيجب أن يعرف مراد الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال الشارح: [وعلى هذا فالمراد بقوله في حديث عقبة وما أشبهه: (حتى تأتيهم الساعة) ساعتهم، وهي وقت موتهم بهبوب الريح ذكره الحافظ.
وقد اختلف في محل هذه الطائفة فقال ابن بطال: إنها تكون في بيت المقدس كما رواه الطبراني من حديث أبي أمامة (قيل: يا رسول الله! أين هم؟ قال: في بيت المقدس)، وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: هم بالشام.
وفي كلام الطبري ما يدل على أنه لا يجب أن تكون في الشام أو في بيت المقدس دائماً، بل قد تكون في موضع آخر في بعض الأزمنة.
قلت: ويشهد له الواقع، وحال أهل الشام وأهل بيت المقدس، فإنهم من أزمنة طويلة لا يعرف فيهم من قام بهذا الأمر بعد شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه وأصحابه في القرن السابع وأول الثامن، فإنهم كانوا في زمانهم على الحق يدعون إليه ويناظرون عليه ويجاهدون فيه، وقد يجيء من أمثالهم بعد بالشام من يقوم مقامهم بالدعوة إلى الحق والتمسك بالسنة، والله على كل شيء قدير].
قوله: (حتى لا يقال في الأرض: الله الله) هذا لا يدل على أن اللفظ المفرد يشرع الذكر به؛ لأنه ليس هذا المقصود، وإنما المقصود أنه لا يكون في الأرض من يعرف الله، إنما يبقى أناس يتهارجون تهارج الحمر، لا يعرفون معروفاً، ولا ينكرون منكراً، أما الذكر بالاسم المفرد مثل الله سواء كان مظهراً أم مضمراً، مظهراً مثل: الله، الرحمن أو مضمراً مثل هو وما أشبه ذلك، فهذا غير مشروع.
إذاً: الذكر يجب أن يكون بجملة مفيدة، وهذا غير مفيد، والواجب التقيد بما جاء به الشرع مما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز للإنسان أن يخترع شيئاً من عنده سواء وجد عليه طائفة من الناس أو لم يجد عليه.
وقوله: الظاهر أن المراد به ما روي من قبض من بقي من المؤمنين بالريح الطيبة، هذا جمع بين الأدلة؛ لأن في الحديث أنهم لا يزالون على ذلك حتى تقوم الساعة، وفي الحديث الآخر حتى تهب الريح التي تأتي من قبل اليمن، وتأخذ كل من كان في قلبه إيمان، ويبقى الناس الذين لا إيمان فيهم، فتكون الساعة ساعتهم يعني موتهم الذي قضى الله جل وعلا أنهم يموتون بسبب هذه الريح، فتكون الأدلة مجتمعة بذلك.
وأما مكان هذه الطائفة فكما قال الإمام النووي رحمه الله: يجوز أن تكون في مكان دون آخر، ويجوز أن يكونون متفرقين في أماكن متعددة، ولا يجب أن يكونوا على طريقة واحدة يعني: عمل واحد، ويجوز أن يكون منهم العلماء ومنهم المجاهدون، ومنهم الدعاة إلى الله، ومنهم الصالحون العباد وغير ذلك، ثم إن كلمة (طائفة) لا يلزم أن يكونوا بكثرة، حيث يكون لهم قوة واستقلال، ما يلزم هذا؛ لأن الطائفة قد تطلق على الواحد، وقد تطلق على الثلاثة، وقد تطلق على الكثرة، فيجوز أنهم يكثرون في وقت، ويقلون في وقت آخر، ويجوز أن يكونوا متنقلين في وقت دون آخر.
أما الآثار التي جاءت إنهم في الشام أو في بيت المقدس فهذا يكون في وقت دون آخر، ولا يلزم أن يكون ذلك دائماً، وبهذا تجتمع النصوص ويصبح ليس بينها خلاف، وهذا الذي اختاره المحققون وهو الظاهر.
[ومما يؤيد هذا أن أهل الحق والسنة في زمن الأئمة الأربعة، وتوافر العلماء في ذلك الزمان، وقبله وبعده لم يكونوا في محل واحد، بل هم في غالب الأمصار: في الشام منهم أئمة، وفي الحجاز، وفي مصر، وفي العراق، وفي اليمن، وكلهم على الحق يناضلون ويجاهدون أهل البدع، ولهم المصنفات التي صارت أعلاماً لأهل السنة، وحجةً على كل مبتدع].
هذا إذا قصد بالطائفة أنها طائفة منصورة يعني: ظاهرة، فالنصر قد يكون بالحجة والبيان، وقد يكون بالقوة، يعني: السيف والسنان، فأهل البيان والحجة هم العلماء، وأما أهل السيف والسنان فهم الأمراء والولاة، وإذا اجتمع هؤلاء وهؤلاء على الحق يأتي النصر بإذن الله، وينصرهم الله نصراً متكاملاً، وإلا ستبقى منصورة وقائمة بنوع من الأنواع، ولو أن الإنسان مثلاً قام على الحق وثبت عليه فإنه منصور في نفسه وإن قتل عليه؛ لأن الله جل وعلا أخبرنا أنه ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51].
ومن المعلوم أن الله جل وعلا وعده حق، لا يخلف وعده تعالى وتقدس، وإذا أخبر بذلك فلابد منه، وقد علم أن بعض الأنبياء قتل، فهل يكون هذا المقتول مخذولاً؟ كلا، بل هو منصور؛ لأنه تمسك بالحق ومات عليه، فكل من كان متمسكاً بالحق ومات عليه فهو منصور.
ولا يلزم من النصر -كما يتصور بعض الناس- أن يكون له قوة تقهر الآخرين، لا، هذا ليس لازماً.
قال الشارح: [فعلى هذا: فهذه الطائفة قد تجتمع وقد تتفرق، وقد تكون في الشام وقد تكون في غيره، فإن حديث أبي أمامة وقول معاذ: لا يفيد حصرها بالشام، وإنما يفيد أنها تكون في الشام في بعض الأزمان لا في كلها.
وكل جملة من هذا الحديث علم من أعلام النبوة، فإن كل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث وقع كما أخبر صلى الله عليه وآله وسلم.
وقوله: (تبارك وتعالى) قال ابن القيم رحمه الله: البركة نوعان: أحدهما: بركة هي فعله، والفعل منها: بارك، ويتعدَّى بنفسه تارةً، وبأداة (على) تارة، وبأداة (في) تارةً، والمفعول منها مبارك، وهو ما جعل منها كذلك، فكان مباركاً بجعله تعالى.
والنوع الثاني: بركة تضاف إليه إضافة الرحمة والعزة، والفعل منها: تبارك؛ ولهذا لا يقال لغيره ذلك، ولا يصلح إلا له عز وجل، فهو سبحانه المبارِك، وعبده ورسوله هو المبارك، كما قال المسيح عليه السلام: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ} [مريم:31].
فمن بارك الله فيه وعليه فهو المبارك].
هذا ليس خاصاً بهذه الصفة، فمعظم الصفات هكذا يأتي منها فعل يكون فعله، والفعل قد يكون لازماً، وقد يكون متعدياً، فإن أفعال الله قد تكون لازمة مثل النزول والاستواء والمجيء، فهذه لازمة، وقد تكون متعدية مثل: الخلق والرزق والإحياء والإماتة، فالفعل فعله في الإماتة مثلاً أو الحياة.
وأما المحيي: فهو مفعول له في هذا الفعل، وهكذا البركة، إذا بارك الله جل وعلا شيئاً ففعله يضاف إليه، والذي وقعت عليه البركة مفعول له.
أما الصفة التي هي قائمة بالذات فهذه لا تنفك عن الله جل وعلا، ولهذا لا يجوز أن يقال لغيره: تبارك؛ لأن هذا خاص به تعالى وتقدس، فلا يقال: تبارك بكذا كما يقول بعض الناس: تباركوا بكذا ونتبارك بكذا هذا خطأ؛ لأن (تبارك) بهذه الصيغة وبهذا اللفظ لم يأت إلا لله جل وعلا، وإنما يأتي المبارك مباركاً، والبركة التي تقع على المخلوق هي من فعله جل وعلا؛ لأنه ليس هناك شيء يبارك من المخلوقات، وإنما المبارك هو(71/20)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [72]
زعم بعض القبوريين أن الشرك لا يقع في هذه الأمة، وقد رد عليهم أهل العلم بالأدلة القاطعة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والواقع أكبر شاهد على ذلك، ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور.(72/1)
مسائل باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان
قال المصنف رحمة الله عليه: [فيه مسائل: الأولى: تفسير آية النساء].(72/2)
تفسير آية النساء
سبق تفسيرها، وهذا واضح لا إشكال فيه.(72/3)
تفسير آية المائدة
[الثانية: تفسير آية المائدة].
كذلك آية المائدة يعني: قوله: {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} [المائدة:60] وتفسيرها واضح أيضاً وقد سبق.(72/4)
تفسير آية الكهف
[الثالثة: تفسير آية الكهف].
وآية الكهف هي قوله: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف:21]، وتقدم أن هذا لا يدل على المشروعية؛ لأنه خبر يراد به ذمهم.(72/5)
حقيقة معنى الإيمان بالجبت والطاغوت
[المسألة الرابعة وهي أهمها: ما معنى الإيمان بالجبت والطاغوت في هذا الموضع؟ وهل هو اعتقاد قلب أو هو موافقة أصحابها مع بغضها ومعرفة بطلانها؟].
يقصد أنه هو الأخير؛ لأن الدليل على هذا أن أهل الكتاب كـ حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف يعرفون أن الشرك من أعظم الذنوب، ويعيبون على المشركين؛ لأنهم أهل علم وكتاب، ولكن حملهم الحسد وبغض الرسول صلى الله عليه وسلم على أن يوافقوا المشركين في الظاهر فقط، لما قالوا لهم: أينا خير وأفضل أنحن أم محمد؟ قالوا لهم: ما هي الأوصاف التي تتصفون بها أنتم وهو؟ قالوا: نحن ننحر الإبل، ونفك العاني، ونسقي اللبن على الماء، ونقوم بخدمة الحجيج، ومحمد قطع أرحامنا، وجاء بما لا نعرف، فقالوا: أنتم خير وأهدى سبيلاً.
وكل من يعلم أخبار الناس وعلم التاريخ وما هم عليه يعرف يقيناً أن كلامهم هذا كذب وباطل، وأنهم لا يعتقدونه، وأنهم قالوا ذلك مجرد موافقة، وحملهم على ذلك بغض الرسول صلى الله عليه وسلم وحسدهم له فقط؛ ولهذا آمنوا بالجبت والطاغوت، وهل هو مجرد الموافقة أو إيمان قلوبهم؟ قد عرف أنه ليس إيمان قلوبهم وإنما هو مجرد موافقتهم على ذلك، بغضاً للحق وكراهيةً له.
فإذا وجد هذا من إنسان يوافق أهل الباطل لأنه يبغض الحق ويكره أصحابه فإنه يكون له هذا الحكم.(72/6)
قولهم: إن الكفار الذين يعرفون كفرهم أهدى سبيلاً من المؤمنين
[الخامسة: قولهم: إن الكفار الذين يعرفون كفرهم أهدى سبيلاً من المؤمنين].
المسألة التي قالها اليهود من الأشياء التي كفرهم الله جل وعلا بها، ومعلوم أنه يكفي في كفر هؤلاء أنهم ردوا ما جاء به الرسول حسداً، ولم يتابعوه مع أنهم يعلمون أنه رسول الله، فقد أخبرنا ربنا جل وعلا أنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، فكيف يردونه مع هذه المعرفة؟ بل قال عبد الله بن سلام: (والله إننا لنعرفه أكثر من معرفتنا لأبنائنا؛ لأن أحدنا يخرج من بيته فلا يدري ماذا صنعت زوجته، أما هو فعندنا العلم اليقيني أنه رسول الله) يعني: أكثر من معرفتهم لأبنائهم، ومع هذا كله الذين آمنوا به من هؤلاء لا يتجاوزون عدد أصابع اليد، والبقية كلهم كفروا به صلوات الله وسلامه عليه؛ حسداً وبغضاً للحق، لماذا؟ لأنه فقط ليس منهم؛ ولأنه من ولد إسماعيل، لماذا لم يكن من ولد يعقوب؟ كأنهم يريدون أن يحجروا فضل الله ولا يتعدى إلى غيرهم، وهكذا الحسد يعمل عمله في الإنسان حتى يحمله أن يختار الكفر على الإيمان، نقول: هذا وحده كاف في كفرهم، كيف إذا انضاف إلى ذلك تفضيل الشرك وأهله على التوحيد وأهله؟(72/7)
تفضيل بعض الظالمين الكفر على الإيمان
[السادسة: وهي المقصود بالترجمة: أن هذا لابد أن يوجد في هذه الأمة كما تقرر في حديث أبي سعيد].
يعني: أن تفضيل الكفار ودينهم على المسلمين ودينهم سيوجد في هذه الأمة، وليس معنى ذلك: أنه في هذه الأمة هم هم، هذا يوجد في طوائفنا، والدليل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، فقالوا: اليهود والنصارى -يعني: أتقصد اليهود والنصارى-؟ قال: نعم)، وفي رواية: (فمن؟) وفي رواية: (فمن الناس إلا أولئك) يعني: هم المقصود، فلابد أن يقع ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا كما سبق لا يدل على جواز ذلك، ولا يدل على إقراره، وإنما هذا خبر يراد به التحذير من الوقوع في ذلك، وأخبر بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه حكم قدري حكم الله جل وعلا به وقدره، فلابد من وقوعه، فيحذر أمته أن تفعل ذلك وتقع فيه، هذا هو المقصود.(72/8)
التصريح بوقوع عبادة الأوثان في هذه الأمة
[السابعة: التصريح بوقوعها، أعني: عبادة الأوثان في هذه الأمة في جموع كثيرة].
كما جاء نصه في حديث ثوبان: (حتى يلحق فئام من أمتي بالمشركين، وحتى يعبد قبائل من أمتي الأوثان) هذا نص صريح، وهذا فيه الرد على من يعبدون الأولياء والقبور وغيرها ويقولون: نحن نقول: لا إله إلا الله، ومن قال: لا إله إلا الله فهو في الجنة، يأتون بمتناقضات، يقولون: لا إله إلا الله وهم لا يعرفون معناها، ولا يعملون بما دلت عليه، فوقعوا في التناقض، ويستدلون بأشياء مجرد شبه، فيتمسكون بها ويقولون: من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة، ويغفلون عن المعنى، فمعنى لا إله إلا الله: أن يكون القائل لها معبوده الله وحده، يعني: لا يتوجه بالعبادة والتعلق والرجاء والخوف إلا إلى الله جل وعلا وحده.
وكذلك يقولون: إنه جاء في الحديث: (إن الشيطان أيس أن يعبد في جزيرة العرب) وسبق أن معنى هذا: أن الشيطان أيس أن يعود أهل الجزيرة كما كانوا في الجاهلية، ولكن هذا لا ينافي أنه يقع منهم شرك كما صح في الأحاديث الصحيحة: (إنها لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس على ذي الخلصة) وذو الخلصة صنم في الجزيرة في بلاد دوس، يعني: تطوف النساء عابدةً لها، فهذا لا يخالف ما ذكر، فيجب على الإنسان أن يعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا قال قولاً فإنه لا يخالف قولاً له آخر قد يتصور الذي ليس عنده علم أنه خلاف هذا، فأقواله كلها تتفق صلوات الله وسلامه عليه، كلها يصدق بعضها البعض وهذا الواجب، كذلك قول الله جل وعلا، ولكن قد يخفى المعنى على بعض الناس، فإذا خفى المعنى يجب أن يسأل من يعلم، وألا يتهم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه متناقض، أو يأخذ ما يوافق هواه، أو يوافق الوضع الذي هو عليه، فإنه ليس هذا شأن المؤمن، شأن المؤمن أن يبحث عن مراد الرسول صلى الله عليه وسلم فيعمل به، ومراد الله جل وعلا فيعمل به، فيعلم أن الدين لله وحده، فهو لا يأمر بعبادة أحد من الخلق؛ لأن هذا الأصل الذي جاءت به الرسل كلها، فإذا قال قائل: إن هذا يجوز؛ دل على أنه إما جاهل وإما متبع لهواه ومذهبه.(72/9)
خروج من يدعي النبوة مع تكلمه بالشهادتين
[الثامنة: العجب العجاب: خروج من يدعي النبوة مثل المختار مع تكلمه بالشهادتين، وتصريحه بأنه من هذه الأمة، وأن الرسول حق، وأن القرآن حق، وفيه: أن محمداً خاتم النبيين، ومع هذا يصدق في هذا كله مع التضاد الواضح، وقد خرج المختار في آخر عصر الصحابة فتبعه فئام كثيرة].
هذا ليس عجيباً في قدرة الله، وهذا المخلوق فيه من العجائب الشيء الذي إذا نظر الإنسان فيه عرف أن الله جل وعلا على كل شيء قدير، واستدل بذلك على قدرته الظاهرة، وأنه يأتي بالمتناقضات والأمور التي تظهر لمن له بصر أنها آيات لله جل وعلا، هذا شيء.
الشيء الثاني: أن القلوب بيد الله، يقلبها كيف يشاء، فلا يمتنع أن يكون الإنسان عالماً بأنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ثم يزيغ قلبه ويعبد غير الله، أو يترك دين الله نهائياً ويعبد الدنيا، أو يعبد معنى من المعاني.
والمختار بن أبي عبيد أراد الرئاسة، وصارت الرئاسة هي مقصده ومعبوده، وزين له الشيطان أن أقرب شيء إلى التمسك به؛ أن يزعم أنه يأتيه الوحي، وأن جبريل يأتيه، ولما أسمع أحد الصحابة أنه يزعم أن جبريل يأتيه أو أن الوحي يأتيه قال: صدق، يأتيه الوحي ولكن وحي الشيطان؛ ولهذا كان يأتي بأشياء قد تلتبس على بعض من لا يميز، فكل مدع دعوى لابد له من شبهة ولو حيلة من الحيل التي يستعملها أمام من تنطلي عليه حيل البشر، وهذا كثير وكثير، وكون الإنسان يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله لابد أن يكون مؤمناً بكتاب الله، ومؤمناً بأخبار الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلا لا يفيده، وكتاب الله يبين أنه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، ومعنى الخاتم: أنه ختم الأنبياء به، وليس بعده نبي، فهذه الشهادة لابد منها، وكذلك إخباره أنه آخر الأنبياء ولا نبي بعده، وأن على أمته تقوم الساعة، وأن أمته آخر الأمم، هذا أمر ضروري، فكل مسلم لابد أن يعتقد هذا، فكيف يأتي إنسان مؤمن يقول: لا إله إلا الله ويزعم أنه أوحي إليه؟! هذا تناقض، وكيف يصدق المتناقض في الأصل العظيم؟ ولكن للعبرة والاعتبار، فالإنسان عليه أن يسأل ربه الثبات دائماً، ولا يثق بعلمه وقوته وقدرته على كل شيء، والقلب أمره سهل، فقد ينقلب القلب، فبدل ما كان مستقيماً صار منتكساً، ولهذا في الدعاء المشروع: (اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه).
أما إذا كان الحق والباطل ملتبساً على الإنسان فإنه لابد أن يضل، فالأمر بيد الله.
على الإنسان أن يلهج بذلك دائماً، ويسأل الله جل وعلا أن يريه الحق ويثبته عليه، وإلا لا يستطيع أن يعرف الحق بقوته، ويسير عليه بقوته إن لم يثبته الله جل وعلا، ويمن عليه بالثبات، هذا هو الأصل في ذلك، وإذا خذل الإنسان وإن كان عالماً ضل، وكم من عالم وصل إلى مستوىً رفيع في العلم انحرف وأصبح ملحداً وزنديقاً يكفر بالله جل وعلا بعد العلم، وبعد العبادة، وبعد مضي الوقت في الجد والاجتهاد! خذل في آخر الأمر! وبالعكس قد يكون الإنسان ملحداً كافراً ثم يمن الله جل وعلا عليه ويهديه في آخر حياته، ويعرف ويبصر بعد العمى.(72/10)
البشارة بأن الحق لا يزول بالكلية
[التاسعة: البشارة بأن الحق لا يزول بالكلية كما زال فيما مضى، بل لا تزال عليه طائفة].
الحق في هذه الأمة -والحمد لله- سيبقى إلى قيام الساعة، فلا يزول مثل ما زالت الأديان الأخرى كالنصرانية واليهودية، ولما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان على وجه الأرض رجل أو جماعة على ما جاءت به الأنبياء إلا ربما واحد أو اثنان في بلاد مختلفة أو ثلاثة أفراد، ولهذا جاء في مسند أبي يعلى وغيره: أن الرسول صلى الله عليه وسلم التقى بـ زيد بن عمرو بن نفيل فقال: ما لقومك قلوك وآذوك؟ قال: والله ما نقصتهم بمال، ولا خالفتهم في أمر إلا أني أعيب عليهم دينهم؛ لأنه صار يعبد الله، ولكن بأي شيء يبحث عن الدين؟ وذكر أنه ذهب إلى المدينة وسأل اليهود عن ملة إبراهيم؟ فقالوا: هنا لا يوجد، وربما تجده في الشام، فذهب إلى الشام وسأل: هل يوجد؟ فدل على رجل في الجزيرة يعني: في العراق، فذهب إلى العراق، وكل هذا التعب والجهد ليبحث عن دين لله يتمسك به؛ لأنه رأى أن الشرك ليس شيئاً، وإنما هو بلاء، فلما جاء إلى هذا الرجل قال: الدين الذي تبحث عنه وراءك في بلدك، سيأتي يوم يدين بلدك كله بهذا الدين الذي تقول، يقول: هأنا أنتظر ما رأيت أحداً، وهذا الخطاب يقوله للرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا قبل البعثة، ثم بعد ذلك مات قبل أن يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهذا يدلنا على أن الأديان الأخرى لا يبقى عليها جماعات وإن بقي الواحد الفرد، وفي صحيح مسلم: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب) يعني: عدد بسيط من أهل الكتاب على الحق؛ لأنهم كلهم على الباطل، فهذه الخاصية لهذه الأمة فضل تفضل الله جل وعلا بها عليهم، وهو أن الحق يبقى.
ومن المعلوم أن الزمن الذي بين عيسى عليه السلام وبين نبينا صلى الله عليه وسلم قرابة ستمائة سنة فقط، ومع ذلك ذهب الأمر، الآن منذ هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ألف وأربعمائة سنة وزيادة، والأمر أيضاً أكثر من هذا، وسيبقى الدين إلى أن تقوم الساعة، وهذا الدين -والحمد لله- يوجد عليه من يتمسك به ومن يعرفه ويعمل به ويدعو إليه؛ لأن هذا هو الوصف الذي أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، بأن هذه الطائفة على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك.
والذي يكون على الحق لابد أن يكون بنفسه ملتزماً بالحق، وأن يدعو إليه، يدعو إلى الحق ويبينه، هذا فضل الله يؤتيه من يشاء، ومعلوم أن هذه الأمة أفضل الأمم، أما قول الله جل وعلا في بني إسرائيل: {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الجاثية:16] فالمقصود كما يقول المفسرون: فضلوا على عالم زمانهم، أما هذه الأمة فهي أفضل منهم.(72/11)
أهل الحق مع قلتهم لا يضرهم من خذلهم
[المسألة العاشرة: الآية العظمى، أنهم مع قلتهم لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم].
هذا كما سيأتي في كلام العلماء: أنه لا يلزم دائماً أن يكونوا قلة، فقد يكونون في وقت قلة، ويكونون في وقت آخر كثرة، وهي آية ظاهرة، فإذا كانوا قلة ما يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم.
أما الخذلان فيصدر ممن يرى أنهم على الحق ويوافقهم، فيخذلونهم ولا ينصرونهم عادة.
وأما المخالفة فلمن يعاديهم ويكون على غير دينهم وعقيدتهم، وكلا الأمرين لا يضر، لا الخاذل ولا المخالف، ومعنى الضرر: يجب أن يفسر بما قلنا: أنهم يتمسكون بدينهم ويبقون عليه حتى الموت، والضرر الذي يجب أن يكون ضرراً هو انحراف الإنسان عن دينه، أما كونه يناله أذى ولو إلى حد القتل فهذا ليس ضرراً حقيقياً، بل قد يكون خيراً له.(72/12)
أن ذلك الشرط إلى قيام الساعة
[الحادية عشرة: أن ذلك الشرط إلى قيام الساعة].
قيام الساعة أي: ساعتهم كما في حديث عبد الله بن عمرو، وساعتهم بهبوب الريح التي تأتي ومسها مس الحرير، وريحها ريح المسك، فتأخذ المؤمنين من آباطهم، كل من كان في قلبه إيمان تأخذهم فيموتون منها، أما غيرهم فلا، فيبقى الناس بعدهم وتقوم عليهم الساعة، والساعة تقوم على شرار الخلق، كما جاء في الحديث: (ويبقى معهم الذين يتخذون القبور مساجد) يعني: شرار الخلق الذين يتخذون القبور مساجد.(72/13)
الآيات العظيمة التي ذكرت في كلام النبي صلى الله عليه وسلم
[الثانية عشرة: ما فيه من الآيات العظيمة، منها: إخباره بأن الله زوى له المشارق والمغارب، وأخبر بمعنى ذلك فوقع كما أخبر، بخلاف الجنوب والشمال].
وإخباره بأنه قال: (فرأيت مشارقها ومغاربها) ما قال: رأيت جنوبها وشمالها، فصار الأمر كما أخبر، صار امتداد الأمة وملكها شرقاً وغرباً.
أما الجنوب معروف أنه ما عدا جزيرة العرب، وملك أمته ما عدا جزيرة العرب لم يجاوزها جنوباً.
والشمال كذلك ما تعدى وسط آسيا الصغرى إلا فيما بعد امتد قليلاً، فبقيت أوروبا لم يأتها الإسلام التي هي في الشمال، ولن يتمكن المسلمون من ذلك؛ لأن الخبر قال: (زوي لي مشارقها ومغاربها)، أما الشرق فوصل إلى الصين، وهو شيء يتعجب منه الإنسان كيف وصل الصحابة إلى تلك الأماكن؟! وأما الغرب فكذلك وصلوا إلى البحر فحال بينهم وبين ماوراءه، ولهذا قال أحد القواد لما وصل إلى البحر الأطلسي فخاضه بفرسه: والله لو أعلم أن خلفك من يقاتل في سبيل الله لتجشمت ذلك، يعتقد أن هذا آخر الدنيا ما وراء ذلك شيء من الأرض.
[وإخباره بأنه أعطي الكنزين، وإخباره بإجابة دعوته لأمته في الاثنتين، وإخباره بأنه منع الثالثة].
قد سبق أن إجابته: ألا يهلكهم بسنة عامة، وألا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وأنه أعطي هاتين الدعوتين، وأما الثالثة فمنع وهي: أن يكون بعضهم يهلك بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً، وإذا وجد ذلك يجوز أن يسلط عليهم غيرهم.
وأما كونه زويت له الأرض ورآها، فهذا سبق أن معناه: أنها جمعت له فصار ينظر إلى البعيد مثل القريب، ينظر إلى الشيء الذي سيصل إليه ملك أمته، وأما الكنزان فالمقصود بهما كما سبق: كنز كسرى، وكنز قيصر، وكسرى ملك الفرس، وقيصر ملك الروم، وهذا اسم لكل ملك، كما أن فرعون اسم لكل من ملك مصر في الكفر، وكذلك النجاشي اسم لكل من ملك الحبشة، وليس اسم علم وإنما هو جنس، فوقع ذلك في زمن الصحابة على أناس معينين لم يكن لهم بعد ذلك دولة.
[وإخباره بوقوع السيف، وأنه لا يرفع إذا وقع، وإخباره بظهور المتنبئين في هذه الأمة].
هذه كلها أعلام من أعلام النبوة يعني: دلائل على صدقه، وعلى أنه نبي من الله يخبر بالوحي كالذي يوحيه الله جل وعلا له.
[وإخباره ببقاء الطائفة المنصورة، وكل هذا وقع كما أخبر، مع أن كل واحد منها من أبعد ما يكون في العقول].
نعم، كون الصحابة على قلة عددهم يستولون على الدول العظيمة الكبيرة دولة الفرس، وفي ظرف خمسة وعشرين سنة فقط أو أقل من ذلك يستولون عليها نهائياً، ويزول ملكهم نهائياً، ويصبح ملكهم للمسلمين مع أنهم قلة، والصحابة قلة في عددهم وعدتهم، فهذا آية من آيات الله؛ ولهذا لا يزال الكفار يدرسون هذا الوضع كيف حصل؛ لأنهم لا يرون إلا الأمور المادية، فيحللونها ويدرسونها على أنها أمور عسكرية يدبرونها، وليس الأمر كذلك، هذا من الله جل وعلا، والصحابة عرفوا ذلك وقالوا: نحن لا نقاتل الناس بقوتنا ولا بعددنا؛ إنما نقاتل بإيماننا، الآيات ظاهرة وباهرة، وهذا حتى في أول الأمر ومبدؤه، فالجيش الذي أرسله الرسول صلى الله عليه وسلم بقيادة زيد بن حارثة وعين عليه الأمراء، وقال: إن قتل فـ جعفر، وإن قتل فـ عبد الله بن رواحة، فقتل كل الذين سماهم، وكان عددهم ثلاثة آلاف فقط، والجيش الذي قابلهم من المؤرخين من يقول: هم ثلاثمائة ألف، ومنهم من قال: كانوا مائتي ألف، مائة من الروم، ومائة من نصارى العرب، وأقل ما قاله المؤرخون: أنهم مائة وخمسون ألفاً، وهذا على أقل قول يقابل ثلاثة آلاف، ثم ما استطاع هؤلاء أن يستولوا عليهم، بل انتصروا، فكل فريق عرض عن الثاني بعدما جهد، يعني: ما استطاعوا أن يستولوا على المسلمين، فالنصر ليس بكثرة العدد، وإنما هو بيد الله جل وعلا، وهذا كثير جداً، كذلك وقعة القادسية وغيرها آيات باهرة، آيات من الله جل وعلا.
فالمقصود أن هذا من أبعد ما يكون في العقول يعني: الذي ينظر في الواقع ويقيس الأمور المشتبهة على نظائرها وينظر إلى الماديات يرى أن هذا بعيد.
وكذلك إخباره بأن الله زوى له الأرض، وأن ملك أمته يصل إلى الصين، ويصل إلى أقصى المغرب وغير ذلك، ولو نظر العاقل فيها بمجرد عقله استبعدها جداً، ولما أخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة رضوان الله عليهم آمنوا بها كما أخبر، وما صار عندهم في ذلك تردد.(72/14)
حصر الخوف على أمة محمد من الأئمة المضلين
[الثالثة عشرة: حصر الخوف على أمته من الأئمة المضلين].
الأئمة المضلون سبق أنهم ثلاثة أقسام: علماء وعباد وقادة؛ لأن هؤلاء هم الناس الذين يقتدى بهم، أما بقية الناس فهم تبع لهم؛ فلهذا إذا صلح العلماء والأمراء فالناس كلهم يصلحون تبعاً، وهذا هو الواقع في الناس، فإذا ضل العلماء كان في ضلالهم ضلال الخلق كله نسأل الله العافية؛ لأنه يقتدى بهم، وكذلك العباد لأنه ينظر إليهم ويرى أنهم على الحق، ويحسبهم الناس قدوة.(72/15)
التنبيه على معنى عبادة الأوثان
[الرابعة عشرة: التنبيه على معنى عبادة الأوثان] الوثن: كل ما عبد من دون الله سواءً كان على طريقة الجاهلية أو غيرها، فقد تتغير الأحوال، ويصبح الوثن على وضع آخر، فينبغي أن يعلم ذلك، وكل ما جعل له نصيب من العبادة فهو وثن، سواءً كان مكاناً أو كان قبراً أو كان شخصاً أو غير ذلك، فيكون وثناً.(72/16)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [73]
السحر واقع وله تأثير حقيقي، وقد حذر الله عز وجل من تعاطيه، وأخبر أنه فتنة وسبب للكفر بالله عز وجل، وهو من الموبقات التي تهلك صاحبها في الدنيا والآخرة عياذاً بالله! وقد سحر النبي صلى الله عليه وسلم من قبل اليهود، فكان يخيل إليه أنه يأتي الشيء ولا يفعله، ثم شفي بإذن الله.(73/1)
باب ما جاء في السحر
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في السحر].
لما كان السحر لا ينفك عن الشرك، أراد المؤلف أن يبين أن السحر مناف للتوحيد، فإنه وضع هذا الكتاب لبيان التوحيد ولذكر المضادات له أو المنقصات له؛ لأنها تنافيه.(73/2)
تعريف السحر لغة واصطلاحاً
السحر في اللغة: هو الشيء الخفي الذي يصرف الصارف، والصارف يعني: الشيء الذي يكون معتاداً لخفائه، ويسمى سحراً، وهو أنواع متعددة.
أما تعريفه في الاصطلاح: فهو رقى وعزائم وعقد وأمور من أدعية مع النفث فيها والعقد بواسطة الشيطان، وتؤثر في الأبدان والقلوب، فتمرض، وقد تميت، وتفرق بين المرء وزوجه، ولها حقيقة تؤثر، وليست خيالاً.
وهو أنواع متعددة، منها: ما هو سحر حقيقي، ومنها: ما يلحق بالسحر لخفائه، وإن كان بحيل وشعاوذ، وليس بسحر، ولكن يلحق به لأجل أنه يعمل عمله أو قريباً من ذلك، ولهذا ألحقت النميمة بالسحر؛ لأنها تعمل عملاً كعمل الساحر، تفرق بين المرء وصاحبه وصديقه، وتفرق بين القريب وقريبه، وبين المحب ومحبه، وتجعل المحبة بغضاء، وتعمل أعمالاً تفسد المجتمع والديار، فألحقت بالسحر.(73/3)
حقيقة السحر وأنواعه
السحر من أعظم المحرمات، والسحر الحقيقي -كما يقول أهل التحقيق- لا ينفك عن الشرك؛ لأنه بواسطة الشيطان، ولا يتأتى سحر إلا بواسطة الشياطين، ويكون شركاً بالله جل وعلا وكفراً، فيجب أن يحذر وأن يتنبه منه، وللأسف أنه في وقتنا الحاضر كثر السحر في بلاد المسلمين بواسطة من يأتي من الخارج، ومن لا خلاق له، ويتخذ هذا مهنةً له، ويريد أن يتحصل على أمور معينة بواسطة هذا السحر؛ لأنهم يتعلمونه ويعرفونه، ثم السحر الذي له حقيقة ليس معناه كما يقول بعض الناس: إنه قد يغير الأعيان ويقلبها من عين إلى عين أخرى، هذا لا يمكن؛ لأنه لو كان هذا لكان السحرة ملوك الدنيا، وأغنياء الخلق، ولم يقف في وجههم شيء، ولو وقف في وجههم أحد جعلوه حجراً أو حماراً ولكنهم في الواقع أفقر الناس، وأخس الناس وأذلهم، يتخفون بأمرهم، ولا يظهرونه خوفاً، وتجدهم أفقر الخلق، إذاً: لا يستطيع أحدهم أن يجعل الحجر ذهباً، فيقلب الأعيان، ولا يستطيع أن يجعل الإنسان حماراً، هذا لا يمكن، ولكنهم يعملون أعمالهم التي تكون بواسطة الشياطين فيحصل المرض والضر، ويحصل الفساد بواسطة ما يحدث.
ومن السحر شيء تخييلي لا حقيقة له، كما قال الله جل وعلا: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66] يعني: الحبال والعصي التي ألقوها، فقوله: (يخيل إليه) يعني: يدلنا على أن الواقع أنه ليس كذلك، وأنها لا تسعى، وإنما هو خيال.
وقد قال بعض العلماء: إنهم فعلوا حيلة، فأخذوا العصي، ونحتوا وسطها، وملئوها زئبقاً، وكذلك الحبال لفوا عليها زئبقاً، وجاءوا إلى الأرض التي يريدون أن يلقوا عليها هذه الأشياء، وحفروا فيها خنادق ووضعوا فيها النيران لكي تحمي الأرض فألقوها، والزئبق إذا ألقي بهذه الصفة على أرض حارة صار يتحرك، فصارت الحبال والعصي تتحرك بسبب ذلك، فهذه حيلة إذا كان كذلك، وهو نوع من السحر.
وقد يكون السحر في أعين الناس، تخيل إليهم أن هذا الشيء كذا وهو ليس كذلك، مثلما يقع لبعض الناس أنه يأخذ سكيناً فيطعن بها نفسه ويخرج الدم، وقد يلقي نفسه في النار وما أشبه ذلك، وهذا يكون في عين الإنسان فقط، والواقع أنه لا يعمل شيئاً من ذلك، وهذه حيل، وبعض الأذكياء قد يعمل أعمالاً خفية، ويظهر للناس أنه يعمل أشياء ويلفت أنظارهم إلى شيء آخر، ثم يأتي بشيء خلاف ذلك بسرعة، فيخيل إليه أنه فعل شيئاً عجيباً وغريباً.
ثم هناك سحر من نوع آخر: بواسطة عبادة النجوم ومخاطبتها، واستنزال ما يسمونه: روحانياتها، ويزعمون أنها أرواحها أو أنها ملائكة تقوم على تدبيرها وتسخيرها، والواقع أنها شياطين تضلهم، ولهذا يبنون لها هياكل على صورها كما زعموا، وقد يضعون في هذه الهياكل أصناماً، ثم يلبسون ثياباً على صفة معينة، ويدخنون بأدخنة وأبخرة، ويدعون بدعوات ونداءات معينة، ويستمعون لذلك، وهي دعوات الشياطين، فتكون بواسطة الشيطان، فيأتيهم الشيطان ويقضي بعض مآربهم بواسطة أمور يعملها.
وقد يكون السحر نوعاً آخر بواسطة الشيطان، وهو الذي كثيراً ما يقع من أن الساحر يعبد الشيطان عبادة صريحة ويدعوه، ثم إذا جاءه من يريد السحر اجتهد في دعوة هذا الشيطان، وقدم له عبادة، وصار يناديه ويتضرع له حتى يأتي إليه، فيشترط عليه شروطاً: أنك تعمل وتعمل كذا فيلقي شروطه على الذي يريد أن يسحر له، يقول: لابد أنك تذبح كذا أو تأتي بطعام على صفة كذا أو أنك تبقى في المكان الفلاني في مكان معين خالٍ من الناس فتبقى وأنت كذا وكذا فإذا امتثل ذلك أرسل ذلك الشيطان الكبير -الذي عبده وصار يتضرع له- شيطاناً آخر يجعله واسطة بينه وبين المسحور، يراقب هذا المسحور ويذهب إليه، فإذا انتهز فرصة تلبس به، وإن كان هذا المراد سحره يتحصن بالأذكار والإيمان لا يستطيع أن يأتي إليه، ويصعب عليه جداً، وقد يراقبه وقتاً طويلاً فإذا غفل أو حصل له انفعال من غضب أو ما أشبه ذلك تلبس به فعمل فيه السحر، وقد يلقي السحر في بدنه، وقد يعمله في خارج البدن وغير ذلك، وهذا النوع كثيراً ما يحصل، فيحس الساحر أنه وقع سحره في شيء يحفظه.
والمقصود: أن هذا كله عبادة لغير الله جل وعلا، وتقرب إلى الشيطان بما يحب من إضرار الناس، وإفساد أبدانهم وأخلاقهم وأديانهم، فلهذا يجب محاربة السحر، وسيأتي أن حكم الساحر أن يقتل.(73/4)
خطر السحر
قال الشارح: [وقول الله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة:102]].
السحر من الكبائر التي حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما سيأتي أنه قال: (اجتنبوا السبع الموبقات: فعد منها السحر)، فجعل السحر موبقاً، والموبق: هو المهلك، بمعنى: أن الساحر يكون هالكاً.
والسحر أنواع منه: ما هو كفر بالله جل وعلا وشرك، والمشرك والكافر ما ينفعه أي عمل ولو تصدق أو صلى أو صام ولو عمل أي عمل، وكما قال الله جل وعلا: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23].
وكذلك قوله عن أعمالهم: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} [النور:39].
وكما قال في الآية الأخرى: {كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [إبراهيم:18] هذه أعمال الكفار بهذه الصورة التي يمثلها لنا ربنا جل وعلا والمشركون.
والمشرك إذا مات على شركه فهو خالد في النار أبداً، ولا يغفر له، وكذلك الكافر إذا مات على كفره فهو خالد في النار، والجنة عليه حرام، ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يبلغ في المجامع ويأمر منادياً ينادي: (لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة) حتى يعلم الناس ذلك.
والإيمان ليس كما يقول بعض الناس: الإيمان في القلب، وإنما الإيمان في القلب والجوارح والسلوك والعمل، وليس في القلب فقط، والإيمان الذي في القلب لا يكفي إذا لم يكن هناك عمل.
فالساحر يتقرب إلى الشيطان بما يصنعه من العقد التي ينفث فيها، والعزائم والأبخرة والأدعية التي يدعو الشيطان بها؛ حتى ينعقد ما أراده بإذن الله الكوني القدري، فيحصل للمسحور الأذى إما مرض وإما تغير حال، يصبح بدل الحب بغضاً أو بالعكس، أو قد يغير مزاجه، وقد يمرضه، وقد يموت، وقد ذكروا: أن السحر له أنواع متعددة، ولكن بعض الأنواع التي ذكرت ليست من السحر المحرم، وإنما هي حيل، ولهذا جاء في اللغة: أن السحر هو الصرف، يعني: أن يصرف الإنسان عن الشيء الذي يراه على غير حقيقته، ومن ذلك قولهم: (سحرت الصبي إذا خدعته واستملته) ومن ذلك ما جاء في الحديث: (إن من البيان لسحراً) وذكر أن سبب هذا القول من الرسول صلى الله عليه وسلم أن ابن الأهتم لما حضر مع الزبرقان وقال للرسول صلى الله عليه وسلم عن الزبرقان: إنه لقوي العارضة، مطاع في أنديته، وإنه كذا وكذا فقال الزبرقان: والله إنه ليعلم أكثر من ذلك، ولكنه يحسدني، فقال: أنا أحسدك؟ ثم قال: والله إنه للئيم الخال، حديث المال كذا وكذا ثم قال: والله يا رسول الله! ما كذبت في الأولى ولا كذبت في الثانية، ولكني رضيت فقلت أحسن ما أعلم، وسخطت فقلت أسوأ ما أعلم، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن من البيان لسحراً) يعني: أن الذي عنده مقدرة على البيان قد يصف الباطل فيجعله بصورة الحق، فيخيل للإنسان أنه حق فيسحره يعني: يصرفه عن الحق بهذه الصورة.
وهذا على مذهب المحدثين أنه على سبيل الذم، يعني هذا القول: (إن من البيان لسحراً) على سبيل الذم، والمقصود: أن السحر في اللغة هو هذا.
أما السحر في الاصطلاح فهو -كما ذكر العلماء-: عزائم وعقد ينفث فيها كما قال الله جل وعلا: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق:4] يعني: السواحر، عقد وعزائم ورقى وأدخنة وأبخرة يتقرب بها إلى الشيطان، فتجتمع نفس الساحر مع نفس الشيطان على أذية المسحور، بواسطة ما يفعله من الأبخرة وغيرها، أو الأدوية التي يجمعها فينعقد ما أراده بإذن الله جل وعلا القدري الكوني، فهذا هو السحر الذي يكون شركاً وكفراً.
ولما كان السحر لا ينفك عن الشرك أراد المؤلف رحمه الله أن يبين أن هذا مناف للتوحيد، وأنه يجب على الموحد أن يعرف ذلك حتى يجتنبه ولا يقع فيه.
قال الشارح: [قوله: باب ما جاء في السحر أي: والكهانة].
الكهانة سيأتي لها باب مستقل، ولكنه قال: والكهانة؛ لأنها أدخلت فيه، بل ومن أنواع السحر النميمة كما سبق، وهناك أنواع ألحقت بالسحر مثل: اقتباس علم النجوم والنظر فيها والتأثير فيها، ومثل الحيل التي يصنعها بعض الناس، ويصرف وجوه الناس عنها، ومثل قوى النفس، فقد يكون لبعض الناس تأثيراً قوياً في نفسه فيؤثر على الآخرين بإصابة العين وما أشبه ذلك، كل هذا وغيره أدخل في السحر، ولكن الواقع أنه ليس من السحر.(73/5)
السحر شيء ثابت له حقيقة
قال الشارح: [السحر في اللغة: عبارة عما خفي ولطف سببه، ولهذا جاء في الحديث: (إن من البيان لسحراً).
وسمي السحر سحراً؛ لأنه يقع خفياً آخر الليل.
قال أبو محمد المقدسي في الكافي: السحر: عزائم ورقى وعقد تؤثر في القلوب والأبدان، فيمرض ويقتل، ويفرق بين المرء وزوجه، قال الله تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة:102]، وقال سبحانه: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق:4] يعني: السواحر اللاتي يعقدن في سحرهن، وينفثن في عقدهن، ولولا أن للسحر حقيقة لم يأمر الله بالاستعاذة منه].
هذا إشارة إلى أن بعض العلماء قالوا: إنه لا حقيقة له، وهذا في الواقع قول ضعيف جداً، والذي قال به قلة كما ذكر الحافظ ابن حجر وغيره، وقد ذكروا أنواعاً من السحر متفق عليها، ومنه ما هو كفر، الذي هو عقد ورقى ينفث فيها الساحر، وقد يكون بغير عقد ورقى؛ بواسطة أشياء يعالجها كما سيأتي في كون النبي صلى الله عليه وسلم سحر في مشط ومشاطة في جف طلع نخلة ذكر، ووضع في بئر يقال لها: بئر ذروان، فهذا نوع وهو، أشد السحر، وهذا يكون بواسطة الأرواح، وبواسطة العلاجات، فيؤثر على الروح والبدن، وهو أعظم السحر وأشده.
ونوع آخر وهو كفر أيضاً يكون بمساعدة الشيطان فقط، يدعوه ويخضع له ويذل له، ويكون عابداً له، فيفعل الشيطان الشيء الذي يريده، وهذا قد يكون على الروح فقط بالتخيلات.
ونوع آخر مثل سحر أصحاب الكواكب الذين يجعلونها مؤثرات على ما في الأرض، ويزعمون أن لها روحانيات، والروحانيات: هي أرواح -حسب زعمهم- تتنزل عند عبادة خاصة يتعبدونها لهذه الكواكب، ويعبدون الكواكب السبعة السيارة: الشمس، والقمر، والمريخ، وزحل، وعطارد، والزهرة، فهذه الكواكب يزعم هؤلاء السحرة أنها روحانيات، وهم في الواقع يعبدون شياطين، فتنزل عليهم وتعمل معهم بعض الذي يريدونه، ولهذا تكون بواسطة أبخرة وأدخنة ودعوات وعبادة خاصة يتعبدون بها، فهؤلاء هم الكلدانيون الذين بعث فيهم إبراهيم، وقد ذكر الله جل وعلا أنه أخبر عن اليهود أنهم اتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان، وكذلك أخبر أنهم يتبعون ما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة:102].
فهذه الآية توضح لنا أن السحر له حقيقة، وأنه يمكن تعلمه، ويمكن أن يكون الإنسان ساحراً بالتعلم، وبواسطة الشياطين، فالشياطين هي التي تعلم الناس ذلك، وعلى القول الصحيح الذي اختاره أكثر السلف أن الملكين ببابل هاروت وماروت كانوا يعلمون الناس السحر، قال: (وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر).
وقد ذكر العلماء في سبب نزول هذه الآية روايات عن الصحابة مثل ابن عباس وغيره، وعن سعيد بن المسيب وقتادة وغيرهم: أن سليمان عليه السلام أخذ كتب السحر من الشياطين ودفنها تحت كرسيه، والشياطين لا تستطيع أن تقرب إلى كرسيه، فلما مات سليمان عليه السلام جاءت الشياطين واستخرجت هذه الكتب ونشرتها في الناس وقالت: هذا الذي كان سليمان يسخر به الجن والإنس والدواب، فاعتقد اليهود وأهل الكتاب الذين أخذوا ذلك أن سليمان ساحر، فلما نزل القرآن وذكر سليمان عليه السلام مع الأنبياء أنكر ذلك اليهود وقالوا: سليمان ساحر، ولا يزال اليهود إلى الآن يعتقدون أنه ساحر؛ فأنزل الله جل وعلا هذه الآية: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [البقرة:102] يعني: بهذه الكتب التي زعمت أن سليمان هو الذي صنعها، وهو الذي يستعملها، وهي من صنع الشياطين؛ لتضل الناس بذلك، ولهذا قال: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة:102] ثم ذكر: {وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} [البقرة:102] (الملكين) بفتح اللام عند أهل القراءات المشهورة، وقد جاء في قراءة شاذة: (الملكين)، ولكن صحت الروايات عن مفسري السلف: أنهما من الملائكة، وذلك أن الملائكة لاموا بنو آدم على ارتكابهم المعاصي، يعني: حسب الروايات التي جاءت، فقال الله جل وعلا للملائكة: اختاروا اثنين ليكون لهما التركيب الذي في بني آدم، وينزلا في الأرض فيحكمان بين الناس، فاختير هاروت وماروت، فنزلا إلى الأرض، وركبت فيهم الشهوة التي في بني آدم، والطبائع التي في بني آدم، فصارا يحكمان بالعدل وبالحق حتى جاءت إليهما امرأة جميلة، فافتتنا بها فوقعا في المعصية، عند ذلك اختارا أن يعذبا في الدنيا، فعلقا برجليهما في بئر برهوت إلى يوم القيامة، وصار عليهما أن يعلمان السحر.
وبعض العلماء أنكر ذلك وقال: لا يمكن أن الملائكة تقع في مثل هذا، وهذا يحتاج إلى دليل ثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فأنكروا ذلك وقالوا: المعنى أن هذا نفي، يعني: والله ما أنزل على الملكين السحر، الله لا ينزل السحر الذي يتعلم الناس منه، وإنما ينزل الوحي والحق.
والمقصود: أن السحر حق ثابت وله حقائق، ومن أنكر حقيقته فهو مكابر، إلا أن يكون الإنكار للسحر الذي يقلب أعيان الأشياء كما يزعم كثير من الناس، ويتناقلون فيما بينهم حكايات وقصصاً لا حقيقة لها، ولو طلب من إنسان أن يثبت على ذلك دليلاً ما استطاع، فينقلون: أن الساحر يستطيع أن يقلب الإنسان حيواناً أو يقلبه حجراً أو بالعكس، وهذا ينكر؛ لأن هذا ليس له شيء ثابت.(73/6)
قصة عائشة مع العجوز الساحرة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم
روى الحاكم في مستدركه وابن جرير في تفسيره بإسناد صحيح عن عائشة رضي الله عنها، أنها بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم جاءت إليها امرأة تبكي بكاءً شديداً، وقد جاءت من دومة جندل تريد رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدته قد توفي، فصارت تبكي بكاءً شديداً، تقول عائشة: حتى كنت أرحمها لكثرة بكائها وشدته، فسألتها؟ فقالت: إني كان لي زوج قد غاب عني فاشتقت إليه، فجاءتني عجوز وشكوت أمري إليها، فقالت: إن فعلت ما أقول لك سيأتيك زوجك أو ما تريدين؟ فقلت: نعم، فذهبت فجاءتني بكلبين أسودين، فركبت واحداً، وقالت لي: اركبي الآخر فركبت معها، وأسرعا، فإذا نحن ببابل، وإذا بئر فيها رجلان معلقان بأرجلهما، فقالا لي: اتقي الله ولا تكفري وارجعي إلى أهلك، فقلت: أريد أن أتعلم السحر، فقالا لي: اتقي الله ولا تكفري، وارجعي إلى أهلك، فقلت: لابد، فقالا لي: اذهبي إلى تلك البئر فبولي فيها، تقول: فذهبت إلى البئر فخفت واقشعر جلدي، فرجعت ولم أفعل شيئاً، فقالا لي: أبلت؟ فقلت: نعم، فقالا لي: أرأيت شيئاً؟ فقلت: لا، فقالا: كذبت لم تبولي، اذهبي إلى أهلك واتقي الله ولا تكفري، فقلت: لا، فقالا: إذاً: اذهبي إليها وبولي، فذهبت فلما وصلتها خفت واقشعر جلدي فرجعت، فسألاني أبلت؟ فقلت: نعم فعلت، فقالا: أرأيت شيئاً؟ فقلت: لم أر شيئاً، فقالا: كذبت، اتقي الله وارجعي إلى أهلك، ولا تكفري، فقلت: لابد، قالا: اذهبي للبئر وبولي، تقول: فذهبت إليها فبلت، فرأيت فارساً خرج مني مقنعاً، فذهب حتى غاب عني في السماء، فرجعت إليهما فقالا لي: أبلت؟ قلت: نعم، قالا: أرأيت شيئاً؟ قلت: نعم، رأيت فارساً خرج مني مقنعاً حتى ذهب في السماء وغاب عني، فقالا: ذاك الإيمان خرج منك، فركبنا على الكلبين ورجعنا، فقلت لما رجعنا للعجوز: لم أر شيئاً ولم أسمع شيئاً! قالت: بلى، أي شيء تريدين الآن يأتيك؟ خذي هذا الحب فابذري، فأخذت الحب فبذرته فنبت، ثم استوى، ثم انطحن، ثم انعجن، ثم انخبز، ثم إني والله ندمت ولم أفعل شيئاً، تقول: فسألت الصحابة فأبوا وهابوا أن يقولوا لها شيئاً.
فهذه الحكاية سندها صحيح، وبعض العلماء طعن فيها وقالوا: لا يمكن أن يقلب السحر الأشياء، فيجعل الحب ينبت في الحال، ثم يستوي، ثم يحصد فيخرج من أكمامه، ثم ينطحن، ثم ينعجن، ثم ينخبز، ثم يستوي هذا لا يمكن؛ لأنه قلب الأشياء عن حقائقها، قالوا: وإن صح السند إلى عائشة فهذه المرأة قد خرج إيمانها فلا نصدقها بقولها هذا، والصحابة هابوا أن يقولوا لها شيئاً أو أن يفتوها بشيء، مع أنها كانت نادمة وكانت تبكي بكاءً شديداً، وتقسم أنها لا تفعل شيئاً.
فالمقصود: أن هذا من أدلة القائلين أن الساحر يمكن أن يحول بعض الأعيان إلى غير عينها، واستدلوا بهذه الحكاية فقط، وقد طعن فيها من طعن، وقالوا: إن هذه لا يعتمد عليها، وهي حكاية عن امرأة أقرت على نفسها أن الإيمان خرج منها فكيف نصدقها؟ لا نصدقها، ولو كلف إنسان من السحرة أو من غيرهم أن يقلب حيواناً إنساناً أو العكس ما استطاع، ولا نفتيه بشيء من ذلك، وإنما هي تخيلات تخيل على العيون، فيتخيل لبعض الناس أن ذلك كذلك وهو ليس كذلك، كما قال الله جل وعلا: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66].
وستأتي قصة جندب الخير مع الساحر الذي كان يدخل في البقرة من فمها ويخرج من دبرها، ويدخل من دبرها ويخرج من فمها، ويقطع رأسها ثم يقول لها: قومي فتقوم، وهذا تخييل؛ ولهذا لما رآه جندب يصنع هذا جاء مشتملاً على سيفه وضرب عنقه وقال: إذا كنت صادقاً فأحي نفسك؟ كان يخيل الشيء للناس، فيتخيل لهم أنه يصنع هذا الشيء، وهو ليس كذلك، ولهذا إذا جاء من لا يفطن له الساحر من جهة أخرى يرى أنها طبيعية تماماً وليس فيها شيء من التغيرات.(73/7)
حديث أن النبي عليه الصلاة والسلام سحره يهودي
قال الشارح: [وعن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سحر حتى إنه ليخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله، وأنه قال لها ذات يوم: أتاني ملكان فجلس أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي فقال: ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب، قال: ومن طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم، في مشط ومشاطة، في جف طلعة ذكر في بئر ذروان) رواه البخاري].
هذا الحديث رواه البخاري في خمسة مواضع من صحيحه، ورواه مسلم في السحر، ومعروف أن مسلماً رحمه الله لم يبوب الأحاديث التي ذكرها في كتابه على التراجم، وإنما يسند الأحاديث مرتبة بدون تراجم، والتراجم التي في صحيح مسلم الآن وضعها الشراح مثل النووي والقاضي عياض والقرطبي، وليس القرطبي صاحب التفسير، فهؤلاء هم الذين وضعوا هذه التراجم، فرواه في كتاب السحر في آخر الصحيح.
ومسلم رحمه الله ما كان يكرر الحديث، وإنما كان يذكر الأحاديث التي موضوعها واحد في مكان واحد، بخلاف البخاري فإنه يهتم بالتراجم أكثر من اهتمامه بمتون الحديث، ولهذا يقول العلماء: فقه البخاري في تراجمه، وقد جعل التراجم أكثر من الأحاديث؛ لأن تراجمه بلغت أربعة آلاف وثمانمائة وبضعة عشر، وأحاديثه بدون التكرار ألفان ومائتان وثلاثة عشر فقط، هذا هو المحرر الصحيح، والتراجم صارت مضاعفة؛ لأنه يكرر الحديث ويضع عليه عدة تراجم، ويكفي الإنسان أن يعرف أنه لما ذكر حديث جابر: في بيع الجمل عليه، لما غزا على جمل ضعيف، وفي رجوع الرسول صلى الله عليه وسلم من الغزوة صار الجمل يتأخر ولا يلحق الجيش، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يتفقد أصحابه، فوجد جابراً قد أنخذل عن أصحابه وتأخر، فسأله فقال: الجمل لا يسير، فزجره الرسول صلى الله عليه وسلم وضربه، فصار يسير سيراً حثيثاً حتى قال: كنت أقهقره لئلا يتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، ثم قال له صلى الله عليه وسلم وهو يحادثه ويؤانسه كما هي عادته صلى الله عليه وسلم: (هل تزوجت يا جابر؟! فقلت: نعم يا رسول الله! فقال: بكراً؟ فقلت: لا، ثيباً، فقال: ألا بكراً تلاعبها وتلاعبك؟ قلت: يا رسول الله! إن أبي توفي وترك سبع بنات، فكرهت أن آتي ببنت جاهلة مثلهن، وأردت أن آتي بامرأة عاقلة تصلحهن، فقال: أحسنت، ثم قال لي: أتبيع الجمل؟ فقلت: نعم، فاشتراه صلى الله عليه وسلم وجعله معه، فلما وصل إلى المدينة وحط رحله جاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: هذا الجمل، فوفاه وزاده -أعطاه القيمة وزاده- ثم قال له: اذهب بجملك).
هذا الحديث ذكره البخاري في ستة وثلاثين موضعاً وجعل عليه ستاً وثلاثين ترجمة، فهذا هو الفقه الذي يفيد وينفع، ويتأمله الإنسان، وهذا الكتاب لا يستغني عنه طالب العلم، ويجب أن يعتني به، ويردده ويكرره، ويتفهم التراجم مع مطابقة الأحاديث التي ذكرها البخاري، فإنه بذلك يخرج وقد علم شيئاً كثيراً بإذن الله.
وهناك شيء آخر يجب أن يتنبه له أيضاً فعله البخاري عمداً، وهو أنه إذا وضع ترجمة لا يأتي بالحديث الذي يدل على مضمونها دلالةً ظاهرة، وإنما يأتي بشيء فيه خفاء؛ ولهذا كثير من العلماء الشراح يعسر عليهم فهم مطابقة الحديث للترجمة؛ والسبب في هذا أنه يريد أن يدرب الطالب على الفهم والفقه، وعلى الاستنتاج، فهو في الواقع كتاب تعليم وتدريب وتفقيه، فهو كتاب عظيم جداً، مع أنه انتقى الأحاديث المهمة التي لا يستغني عنها طالب العلم، وهذا شيء عارض، والمقصود أن الرسول صلى الله عليه وسلم سحر.
ثم كذلك هذا الحديث رواه الإمام أحمد في المسند في عدة مواضع، وروي عن ثلاثة من الصحابة: عائشة وأنس وزيد بن أرقم، وهناك روايات أخرى غير هذه، والحديث ثابت.(73/8)
سبب إنكار بعض الناس لحديث سحر اليهودي للنبي صلى الله عليه وسلم
هذا الحديث أنكره بعض العلماء، وسبب إنكارهم أنهم قالوا: إن هذا يقدح في عصمة النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف يقع هذا السحر والسحر قد يغير الفكر والنظر والمزاج؟ وفي هذا الحديث نفسه في صحيح البخاري رواية أخرى غير هذه عن عائشة أنها قالت: إنه سحر، حتى إنه يخيل إليه أنه يأتي الشيء ولم يأته، وأنه يصنع الشيء ولم يصنعه، وهذا يقول العلماء: أشد أنواع السحر.
والقاضي عياض حاول أن يؤول هذا الكلام، وقال: معنى (أنه يخيل إليه) يعني: مثلما يحدث للإنسان في نومه أو في يقظته أنه اتصل بأهله ولم يتصل، وليس معناه أنه أثر في عقله أو في فكره صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنه معصوم من ذلك، هكذا قال القاضي عياض لئلا يقع في ذلك طعن.
ومعلوم أن السحر الذي وقع عليه هو في بدنه صلوات الله وسلامه عليه، وبدنه ليس معصوماً من أن يناله الأذى، ولهذا جرح يوم أحد، وكسرت البيضة على رأسه، وكسرت رباعيته، وسقط في حفرة من الحفر التي كان يحفرها الفاسق عامر، وحصل له ما حصل، فأنزل الله جل وعلا عليه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ} [آل عمران:128].
وكذلك كان يمرض صلوات الله وسلامه عليه، فكان يصيبه صداع ويصيبه غير ذلك مما يصيب البشر، فكان بدنه كأبدان الناس، كما قال الله جل وعلا: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} [فصلت:6].
أما فكره وعقله وما يوحيه الله جل وعلا إليه فمعصوم مما يخل به.
ويدلنا هذا الحديث على أن السحر قد يؤثر في أي إنسان كان، وقد لا تمنع منه التعوذات والأوراد والأذكار وقد لا تنفع، فالرسول صلى الله هو أكمل الخلق صلوات الله وسلامه عليه، وقلبه دائماً مع الله جل وعلا، وكذلك هو بنفسه دائماً في عبادة وذكر، ومع ذلك حصل له ما حصل.(73/9)
حقيقة سحر النبي صلى الله عليه وسلم
ورد أن اليهود جاءوا إلى لبيد بن الأعصم وهو ساحر بني زريق، فجعلوا له جعلاً فقالوا: أنت أسحرنا، وقد سحرنا محمداً فما أثر ذلك به، فنريد أن تسحره، فوضع السحر، فأثر به صلى الله عليه وسلم.
وذكر الواقدي عن مدة سحره وعن وقته: أن ذلك كان بعد رجوعه من غزوة الحديبية، والمدة ذكر فيها روايتين وذكرهما تلميذه ابن سعد أحدهما: أنه بقي مسحوراً أربعين يوماً، والأخرى: أنه بقي مسحوراً ستة شهور صلوات الله وسلامه عليه، وكان في أول الأمر وكل الأمر إلى الله، وترك العلاج توكلاً على الله واعتماداً عليه، ثم لما أثر فيه عالجه بالعلاج الصحيح وهو الدعاء، فلهذا تقول عائشة: (سحر حتى كان يخيل إليه أنه يصنع الشيء ولا يصنعه، فلما جاء عندي ذات يوم أو ليلة دعا ودعا، ثم قال لي: يا عائشة! أعلمت أن الله أفتاني؟ إنه أتاني آتيان -أو قال: ملكان- فجلس أحدهما عند رجلي، والآخر عند رأسي، فقال أحدهما للآخر: ما بالرجل؟ فقال: طب -والطب هو السحر- فقال: ومن طبه؟ فقال: لبيد بن الأعصم بمشط ومشاطة، في جف طلع نخلة ذكر في بئر ذروان، ثم إنه صلى الله عليه وسلم ذهب إليها هو وبعض أصحابه يقول: فرأيت ماءها كنقيع الحناء، ورءوس نخلها كرءوس الشياطين -وهي بئر رجل من اليهود- فأمر بها فدفنت، فقلت: يا رسول الله! ألا استخرجته؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أما أنا فقد شفاني الله، وكرهت أن أفتح للناس باب شر) هذا في رواية البخاري.
وقوله: (إنه لبيد بن الأعصم) هذا يهودي من اليهود السحرة، وهو من بني زريق.
وقوله: في (مشط ومشاطة) المشط: هو الذي يمشط به الشعر، والمشاطة: هي التي تخرج عند مشط الشعر من الشعر والوسخ وما أشبه ذلك، أخذها ووضعها مع المشاطة في طلع نخلة ذكر يعني: كافور النخلة الفحل، أخذ هذا الشيء ووضعه في الكافور ثم وضع هذا الشيء في البئر، وهذا مع النفث، ومع الشيء الذي يكون بواسطة الشيطان.
وهكذا يصنع السحرة! ولهذا إذا أخرج السحر وأحرق أو أتلف فإنه يبطل سحره، ولهذا يحافظ السحرة على هذا الشيء الذي يصنعونه، وبعضهم ربما وضعه في معدن وغلق عليه برصاص فحافظ عليه كثيراً حتى يبقى السحر؛ لأنه إذا ذهب وزال انتهى السحر.
فذكر صلوات الله وسلامه عليه أنه دعا، فاستجاب الله وشفاه، ولكن بعد ما عرف أنه سحر بواسطة الملائكة، وأن هذا هو الذي سحره.
ولم يعاقب هذا الرجل الكافر الخبيث، ومعلوم أن المعاهد إذا فعل مثل ذلك ينتقض عهده.
ولهذا استدل بعض العلماء بهذا الحديث: أنه لا يقتل الساحر، وليس كذلك؛ لأن هذا حق للنبي صلى الله عليه وسلم يتعلق بنفسه وبجسده الشريف صلوات الله وسلامه عليه، وله أن يحكم به بحكم الله، وله أن يعفو، فعفا مثل ما عفا عن اليهودية التي وضعت له السم في اللحم ولم يقتلها، مع أن الذين أكلوا معه أحدهما مات من السم، والعلماء يقولون: إذا وضع شخص سماً لأحد حتى قتله فإنه يقتل به، فالمقصود أن هذا لا يكون دليلاً على عدم القتل، وسيأتي أن حده ضربة بالسيف حتى يموت، وفي هذا دليل على تأثير السحر بالبدن، وفيه دليل على أن السحر يشفى الإنسان منه بالأدعية والرقية بكتاب الله وبأسمائه، وهذا أمر مجرب نافع جداً، ولكن ما وجد لكل أحد، إن كان الإنسان عنده إيمان وقوة وتصديق في ذلك فإنه بإذن الله يزول بسرعة، ويشفى كما شفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويبطل سحر الساحر بذلك، ولا سيما إذا عزم عليه بالآيات التي تناسب مما ذكر فيها السحر وإبطاله، وأن الساحر لا يفلح وما أشبه ذلك، وآيات الله كلها فيها شفاء كما قال الله جل وعلا: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ} [الإسراء:82] والصواب أنه شفاء عام، شفاء للأبدان، وشفاء للقلوب، وشفاء للأمراض والشبهات والشهوات وغيرها، هو شفاء عام، لكن لا يجوز أن يستعمل الاستعمال السيئ الذي يستعمله بعض الناس، حيث يجعله طريقاً لكسب المال فقط، ثم يلبس على الناس ويصير مقصوده فقط استغلال الناس وابتزاز أموالهم، وهذا لن يشفى أحد ممن يقصده إذا كانت هذه طريقته وهذا مقصوده، ولكن قد يشفى إنسان منهم بإرادة الله، وليس بسبب علاج هذا الذي يريد الدنيا.
فهذا يدلنا على أن العصمة التي أخبر الله جل وعلا عن نبيه أنه يعصمه ليست في بدنه، وإنما هي فيما يبلغه عن الله جل وعلا، وهذا باتفاق العلماء: أن الشيء الذي يبلغه عن الله جل وعلا من الدين وغيره أنه معصوم فيه، وأنه يقع فيه شيء خلاف ما أوحاه الله جل وعلا.(73/10)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [74]
حرم الله السحر في جميع الأديان والشرائع، ويشمل التحريم تعلّمه وتعليمه وصناعته، وكل ذلك موبقة من الموبقات، وكفر بالله جل وعلا؛ لأن الإنسان لا يتعاطى السحر إلا بعد أن يكفر بالله عز وجل ويعبد الشيطان.
وقد قرن النبي صلى الله عليه وسلم السحر بالشرك وقتل النفس، وما ذاك إلا لما يترتب عليه من الكفر بالله والإضرار بعباده.(74/1)
التحذير من السحر والسحرة(74/2)
السحر والإيمان لا يجتمعان
قال الشارح رحمه الله: [قوله: وقول الله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة:102] قال ابن عباس: من نصيب.
وقال قتادة: فقد علم أهل الكتاب فيما عهده إليهم: أن الساحر لا خلاق له في الآخرة.
وقال الحسن: ليس له دين].
معنى (اشتراه) أي: أنه أخذه بدل إيمانه وكفره به.
يعني: اعتاض بالسحر بدل الإيمان، وهذا يدلنا على أنه لا يجتمع السحر والإيمان بما جاءت به الرسل.
قال الشارح رحمه الله: [فدلت الآية على تحريم السحر، وكذلك هو محرم في جميع أديان الرسل عليهم السلام، كما قال تعالى: {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:69]].
يعني: تحريم السحر وتعلمه وتحريم استعماله وصنعه، فمن تعلمه فإنه يكون كافراً.
أي: أنه لا يمكن أن يكون ساحراً إلا بواسطة الشرك وعبادة الشيطان على ما قرر العلماء، وأما استعماله فهو إيمان به، وطلباً لأذية الخلق.
قال الشارح رحمه الله: [وقد نص أصحاب أحمد: أنه يكفر بتعلمه وتعليمه.
وروى عبد الرزاق عن صفوان بن سليم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تعلم شيئاً من السحر قليلاً كان أو كثيراً كان آخر عهده من الله)].
المرسل ضعيف، وليس هذا هو الدليل، بل الدليل ما في الآية وفي الأحاديث الأخرى الصحيحة.(74/3)
اختلاف العلماء في كفر الساحر وذكر الأقوال في ذلك
قال الشارح رحمه الله: [واختلفوا: هل يكفر الساحر أو لا؟ فذهب طائفة من السلف إلى أنه يكفر، وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد رحمهم الله.
قال أصحابه: إلا أن يكون سحره بأدوية وتدخين وسقي شيء يضر فلا يكفر].
يعني: يكون بأمور طبيعية، وليست موافقة للشياطين.
ومثل هذا أن يعطي للإنسان سماً يضره، فهذا يترتب عليه الحكم حسب ما يقع، ولا يكون كافراً.
أما السحر الذي يكون بتعلم السحر وبواسطة الشيطان فإن صاحبه يكفر.
قال الشارح رحمه الله: [وقال الشافعي: إذا تعلم السحر قلنا له: صف لنا سحرك؟ فإن وصف ما يوجب الكفر مثلما اعتقده أهل بابل من التقرب إلى الكواكب السبعة، وأنها تسأل ما يلتمس منها؛ فهو كافر، وإن كان لا يوجب الكفر؛ فإن اعتقد إباحته كفر].
هذا خلاف الشافعي.
قالوا: إنه خلاف لفظي؛ وذلك أنه لما قال له: (صف لنا سحرك، فإن ذكر ما يوجب الكفر كفر) فالذين خالفوا وقالوا: إن السحر لا ينفك عن الشرك، ولا يكون إلا بالشرك وبطاعة الشيطان وعبادته، وإذا كان في طاعة الشيطان وعبادته فيكون كافراً، فيتبين بهذا أنه يتفق معهم.
وإنما يعني: الكلام في حقيقة السحر.
والسحر يطلق على فعل الساحر، ويطلق على الشيء الذي يصنعه الساحر، والشيء الذي يصنعه من الأدوية ومن العقد وغيرها يقال له: سحر، وفعله يقال له: سحر.
فهذا لا يمكن أن يكون إلا من ساحر يكون مشركاً بواسطة الشياطين يعينونه على ذلك.
قال الشارح رحمه الله: [وقد سماه الله كفراً بقوله: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102]، وقوله: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} [البقرة:102].
قال ابن عباس في قوله: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102]: وذلك أنهما علما الخير والشر والكفر والإيمان فعرفا أن السحر من الكفر].(74/4)
معنى الجبت والطاغوت
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء:51].
] سبق بيان معنى الجبت والطاغوت، وأن الجبت: هو السحر كما فسره عمر، وهذا هو سبب ذكر هذه الآية وإعادتها، فهو داخل في الشرك؛ لأنه فسر الجبت بالشرك، وفُسر بالكاهن، وفسر بالذي يعتاض عن شرع الله جل وعلا بغيره.
قال الشارح رحمه الله: [قال عمر: (الجبت: السحر، والطاغوت: الشيطان) هذا الأثر رواه ابن أبي حاتم وغيره.
قوله: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء:51] تقدم الكلام عليهما في الباب الذي قبل هذا وفيه: أن السحر من الجبت.
قال الشارح رحمه الله: [وقول جابر: الطواغيت: كهان كان ينزل عليهم الشيطان في كل حي واحد، هذا الأثر رواه ابن أبي حاتم بنحوه مطولاً عن وهب بن منبه قال: (سألت جابر بن عبد الله عن الطواغيت التي كانوا يتحاكمون إليها؟ فقال: إن في دهينة واحداً، وفي أسلم واحداً، وفي هلال واحداً، وفي كل حي واحد، وهم كهان كانت تنزل عليهم الشياطين).
قوله: (قال جابر): هو ابن عبد الله بن حرام الأنصاري.
قوله: (الطواغيت كهان)، أراد أن الكهان من الطواغيت، فهو من أفراد المعنى.
قوله: (كان ينزل عليهم الشيطان) أراد الجنس لا الشيطان الذي هو إبليس خاصة، بل تنزل عليهم الشياطين ويخاطبونهم ويخبرونهم بما يسترقون من السمع فيصدقون مرةً ويكذبون مائة.
قوله: (في كل حي واحد): الحي واحد الأحياء وهم القبائل.
أي: في كل قبيلة كاهن يتحاكمون إليه ويسألونه عن الغيب.
وكذلك كان الأمر قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، فأبطل الله ذلك بالإسلام، وحرست السماء بكثرة الشهب].(74/5)
حديث: (اجتنبوا السبع الموبقات)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله! وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)].
قوله صلى الله عليه وسلم: (اجتنبوا السبع الموبقات).
(اجتنبوا): هذا أمر من الرسول صلى الله عليه وسلم لاجتناب السبع الموبقات.
ومعنى (اجتنبوا): ابتعدوا عنها، وهذا الأمر أبلغ من قولك: (لا تقرب أو لا تفعل)، بل اجعلها بعيداً عنك، وأنت عنها في جانب، وهذا يدل على عظم هذه الأفعال.
قوله: (السبع): معروف أن الألف واللام إذا دخلت على الاسم فإنها تجعله معهوداً معروفاً، ولكنه هنا غير مقصود، وإنما المقصود ما ذكر، ثم إن المذكور بالعدد غير مراد كما سيأتي.
(الموبقات): الموبق: هو المهلك، ومعنى: أنه موبق: أنه يجعل فاعله هالكاً بعذاب الله جل وعلا، والذي يفعل ذلك يكون هالكاً.(74/6)
الشرك بالله
أولاً: (الشرك)، الشرك هو أعظمها، ولهذا بدأ به، والشرك: هو أن تجعل شيئاً من العبادة الواجبة لله لمخلوق من المخلوقات، والعبادة كثيرة جداً، وكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وجوباً أو استحباباً فإنه عبادة، وكل أمر أمر به على سبيل الوجوب أو على سبيل الاستحباب فإنه عبادة، وكذلك كل ما نهى عنه تحريماً أو كراهة فاجتنابه عبادة وتركه عبادة، فلا يترك الإنسان شيئاً من ذلك لأجل مخلوق، فإنه إذا ترك شيئاً من ذلك لأجل مخلوق يكون واقعاً في الشرك.
وكما أنه لا يفعل شيئاً من الواجبات أو المستحبات من أجل مخلوق فلا يتركه لمخلوق، فإنه إذا فعل ذلك يكون واقعاً في الشرك.
ثم الشرك يتفاوت ونحن منذ بدأنا في هذا الكتاب إلى النهاية نتكلم وسنتكلم في أنواع الشرك، وما يجب أن يفعله الإنسان؛ لأن كتاب التوحيد يذكر الواجب ويذكر الشيء الذي يكون مضاداً له، فالشرك ضد التوحيد، وكذلك ما ينقصه أو يذهب بكماله، فإنه أيضاً يكون واجب الاجتناب.
وقد سبق تعريف الإخلاص، وهو تحقيق التوحيد، وسبق أن تحقيق التوحيد بأن تكون إرادة الإنسان خالصة لله، متجهاً بها إلى الله، وأن يجتنب أيضاً الذنوب والبدع، أما إذا وقع في الذنوب والبدع فإنه لم يحقق توحيده؛ وذلك أن الذنوب والبدع تنقص التوحيد.
فالشرك قد أخبر الله جل وعلا أنه لا يغفر لصحابه، كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] وهذا لمن يموت عليه، فالذي يموت على الشرك لا يغفر له، أما التائب فإن التوبة إذا كانت صادقة تمحو كل الذنوب، وتجب ما قبلها، سواءً كان الذنب شركاً وكفراً أو غير ذلك من سائر الذنوب، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له بشرط أن تكون التوبة نصوحاً، وهي واجبة على كل العباد، ومن لم يتب فهو ظالم قد ترك أمر الله؛ لأن الله جل وعلا يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم:8] فأمر بالتوبة النصوح، وهذا تكرر في القرآن في عدة مواطن.
والرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالتوبة وحث عليها، فدل ذلك على أن التوبة واجبة متعينة من كل ذنب، وإذا وفق الله جل وعلا عبده وتاب قبل أن يموت توبةً نصوحاً؛ فهو من أهل الجنة، بل يكون من السابقين إليها، أما إذا مات على شرك وكفر فإنه من أهل النار قطعاً بلا تردد والجنة عليه حرام.
وأما الذنوب الأخرى مع وجود أصل الإسلام ولو كانت من الكبائر فإنه تحت مشيئة الله، إن شاء عفا عنه بلا عقاب، وإن شاء عاقبه، وعقابه متنوع أوله: الموت ثم ما يتصل به في القبر، ثم ما يتصل بالقبر من النشر والحساب وكرباته، ثم بعد ذلك النار وعذاب النار يتفاوت، فمنهم من يبقى وقتاً قليلاً ثم يخرج، ومنهم من تطول مدته ولكنه في النهاية إذا كان معه أصل الإسلام لابد أن يخرج منها إلى الجنة، ولا يبقى فيها إلا الكفار المشركون، والكفر والشرك أنواع وأقسام، ولكن النتيجة واحدة.
وقوله: (اجتنبوا السبع الموبقات) يدلنا على أن الموبق يتفاوت، وأنه ليس المقصود في قوله: (السبع الموبقات) الكبائر، وإنما المقصود: كل موبق.
وعندما عد الشرك، فليس كالكبيرة التي يقول العلماء فيها: إن مرتكب الكبيرة لا يكون كافراً، فليس هذا مرادهم؛ لأن الشرك يخرج من الدين الإسلامي باتفاق، أما إذا كان كافراً أصلاً ولم يدخل في الدين فيجب عليه أن يؤمن أولاً، ويشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله؛ حتى يكون مسلماً، أما قبل ذلك فهو ليس بمسلم.
وليس المراد بالشهادتين: النطق بهما فقط، بل لابد مع النطق أن يعتقد المعنى الذي دلت عليه الشهادتان، ويجب أن يعتقده ويعمل به، وإلا فمجرد النطق مع الاستمرار على الشرك لا يفيد؛ لأن الشهادة وضعت لإبطال الشرك، ومن كان يقولها وهو يفعل الشرك فقوله لغو لا فائدة فيه.
إذاً: الموبق الأول: الشرك بالله.(74/7)
السحر
(السحر)، هذا الشاهد من الحديث: أنه جعل السحر قريناً للشرك، وقد سبق أن الساحر لا ينفك عن الشرك، وإنما هو أخص من الشرك، فهو شرك خاص لعمل خاص؛ وذلك لأنه يعبد الشيطان حينما يطلب منه السحر، والشيطان لا يؤتيه مطلوبه إلا إذا عبده، وعبادته، أن يطيعه فيما يأمره به، سواءً أمره أن يذبح، أو أمره أن يفعل فعلاً منكراً مخالفاً للشرع، فامتثال أمره عبادة له، ولابد أنه يطيعه ولو لم يطعه ما فعل الشيطان له شيئاً، فالسحر موبق ومهلك، وقد كثر السحر وللأسف في المسلمين الذين يدعون الإسلام؛ وذلك لجهلهم بدين الإسلام؛ أو لأنهم لا يهتمون بالدين أصلاً، وإنما همهم أن يتحصلوا على الدنيا بأي طريقة كانت، ولو بطرق خبيثة مضرة بالناس، فهذا مقصودهم، فصاروا به عباداً للدنيا بعد عبادتهم للشيطان، بل إن عبادة الشيطان وسيلة لعبادة الدنيا، وحصولهم على المقصود؛ ولذلك فليعلم أن السحر كفر بالله جل وعلا؛ لأنه يشتمل على الشرك، وقد دل كتاب الله جل وعلا على ذلك، كما قال جل وعلا: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102] فقوله: (فَلا تَكْفُرْ): يدل على أن تعلم السحر كفر، وكذلك بقية الآية فيها دلائل على أن السحر كفر.
{وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة:102] هذا أيضاً يدل على كفره، والذي ليس له في الآخرة من خلاق هو الكافر الهالك.
يعني: ليس له نصيب في الآخرة بل نصيبه النار.
ومعنى: (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ) أي: من تعلمه وفعله، فالذي يتعلمه ويفعله هو المشتري له.
ومن المعلوم أن الدنيا قليلة جداً، وأنها سوف تزول عن قرب كطرف العين؛ لأن الواقع أن الدنيا هي ما أنت فيه، أما ما مضى وما هو آتٍ فليس لك، وكأنه عدم.
اعلم أن الدنيا عمرك، فإذا انتهى عمرك وختم لك على عمل انتهت الدنيا بالنسبة لك، فالإنسان إذا كان ساحراً، فهو خاسر هالك موبق، قد خسر خسارةً لا يربح بعدها أبداً، ولا يمكن أن يستدرك هذا، لا بأثمان ولا بأشخاص ولا بغير ذلك، انتهت القضية، وأصبح ما تحصّل عليه وبالاً وحسرة ومضرة، وقد زالت متعته وكأن لم تكن.
ومن المعلوم أن العاقل يبحث عن الراحة وإزالة العذاب، وذلك لا يتأتى للإنسان إلا بطاعة الله جل وعلا فقط، ولا يوجد طريق غير هذا، وهذا أمر مؤكد بلا أدنى ريب وتردد، فالذي يرتكب شيئاً من هذه الأمور يعيش في هم ونكد وعاقبته خسارة.(74/8)
قتل النفس
ثالثاً: (قتل النفس)، بعد السحر جاء بقتل النفس بغير حق، والمقصود بالنفس: النفس المعصومة، وقتلها من أعظم الجرائم، وقد جاءت أحاديث كثيرة مع آيات في كتاب الله تدل على عظم ذلك، يقول الله جل وعلا: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93] أي: وعيد فوق هذا؟ وفي الحديث: (لو اجتمع أهل السموات والأرض على قتل مسلم بغير حق -أو قال: مؤمن- لأكبهم الله جل وعلا في النار)، وفي الحديث الآخر: (كل ذنب عسى الله أن يعفو عنه إلا الرجل يلقى الله مشركاً أو بدم حرام) فقرن الدم الحرام بالشرك.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الإنسان في فسحة حتى يصيب دماً حراماً).
وكذا ورد الترهيب في أحاديث كثيرة جداً، فهو أعظم الجرائم وأكبرها، وأول ما يقضى بين الناس في الدماء، كما جاء في الحديث الذي في السنن: (يأتي المقتول يحمل رأسه، ويمسك القاتل بيده، ويقول: يا رب! اسأل هذا فيم قتلني؟) فهو الآن وصل إلى حكم عدل يقضي بالحق جل وعلا، ولا يفوت حق لمقتول أبداً.
وهذا في قتل النفس بغير حق، وقوله: (بغير حق) يخرج بذلك القتل بحق كالقاتل فإنه يقتل قصاصاً، والزاني المحصن فإنه يقتل بالرجم بالحجارة حتى يموت، وهذا قتل بحق، ولهذا جاء في الحديث الصحيح أنه قال: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) (المفارق) يعني: المرتد وهنا يقتل، هؤلاء ثلاثة يقتلون: الثيب المحصن (الزاني المحصن)، وإذا قتل نفساً بغير حق فإنه يقتل بها، وإذا فارق دينه فإنه يقتل، وهذا قتله بحق، ومن قتله لا يكون آثماً، بل يكون مأجوراً، ولكن الذي يقتل هؤلاء هو ولي الأمر الذي يأمر بقتلهم أو يقتلهم، وليس أحد الناس.(74/9)
أكل الربا
رابعاً: (أكل الربا)، الربا: مأخوذ من الزيادة.
تقول ربا الشيء: إذا زاد، وهو المال الزائد على المشروع، فكل زيادة بالدراهم أو بالذهب أو بالبر أو بالشعير أو بالتمر -الأصناف التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم- فالزائد فيها ربا، والربا أمره عظيم جداً، فإن الله جل وعلا يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:278 - 279] فقوله: (إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ): يدل على أن الإيمان شرط في اجتناب الربا، ومن أكل الربا فإن الإيمان منتف عنه.
ثم قال: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا): يعني: تجتنبوا.
(فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) فإنكم حرب لله ولرسوله، من الذي يحارب الله ورسوله؟ وهل يستطيع الناس أن يحاربوا الله؟ فأكل الربا هو حرب لله، وآكله محارب لله ولرسوله، ودرهم من الربا كما جاء في الحديث أعظم من سبعين زنية، وآكل الربا يعذب في قبره قبل الآخرة؛ فإن من أسباب عذاب القبر: أكل الربا، وكما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه رأى أكلة الربا يسبحون في أنهار شبه الدم، ويلقمون حجارة وبطونهم كبيرة)، وإذا قاموا من قبورهم كأنهم مجانين، يقوم أحدهم ويسقط مثل الذي يتخبطه الشيطان من المس كأنه مجنون، وتكون بطونهم كالبيوت لا يستطيع أن يحمل بطنه كلما قام يسقطه بطنه على الأرض، ثم بعد ذلك يدخل النار نسأل الله العافية.
يقول العلماء: أكل الربا سبب في سوء الخاتمة، وكل من يتعاطاه غالباً تكون خاتمته سيئة، وهذا أمر يخاف منه جداً؛ لأن الذنوب وإن كانت كبيرة يرجى أن يتوب الإنسان منها، ولكن مثل هذا يخاف ألا يوفق للتوبة.(74/10)
أكل مال اليتيم
خامساً: (أكل مال اليتيم)، وأكل مال اليتيم جريمة كبرى؛ وذلك لأنه يدل على خسة آكل مال اليتيم؛ لأن هذا ضعيف، والضعيف ليس له من يحميه ويدافع عنه غالباً، فلهذا توعد الله جل وعلا آكل ماله بالنار، كما قال جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10]، فآكل مال اليتيم متوعد بأنه يصلى سعيراً، وقد جاءت النصوص الكثيرة تبين حرمة ذلك.(74/11)
الفرار من الزحف
سادساً: (الفرار من الزحف)، والزحف: هو ملاقاة العدو مواجهة، وسمي زحفاً؛ لأنهم يمشون ببطء وبشدة، فمن فر عند الملاقاة فإنه متوعد بالنار، وذلك أن فراره يدل على خوفه من الكفار، وشدة تعلقه بالدنيا؛ إذا لم يكن متحرفاً لقتال ولا متحيزاً إلى فئة أخرى من فئات المسلمين.
يعني: فر وهو لا يريد الفرار، بل يريد الاستعداد للكر عليهم من جانب آخر.
فهذا لا يسمى فراراً، بل هذا متحرف لقتال، والمتحيز إلى فئة هو الذي ينحاز إلى جانب آخر من صفوف المسلمين.
أما إذا فر راغباً بنفسه عن ملاقاة العدو فإنه متوعد بالنار، وهذه جريمة من الكبائر الموبقة.(74/12)
قذف المحصنات
سابعاً: (قذف المحصنات المؤمنات الغافلات)، المحصنة المراد بها: التي حصنت فرجها عن الفجور، والقذف في الأصل: الرمي، وقذفها بالفجور ادعاء أنها فعلت الفاحشة، وهذا بهت عظيم، والبهت أشد من الظلم، فمن فعله فإنه قد أوبق نفسه.(74/13)
الذنوب: صغائر وكبائر
هذه السبع التي ذكرت في هذا الحديث هل هي الموبقات فقط أم أن هناك موبقات أخرى؟ ثم هل هذا الحديث يدل على أن الذنوب منها موبق مهلك ومنها غير موبق أو لا يدل على ذلك؟
الجواب
اختلف العلماء في الذنوب، فمنهم من قال كما في ظاهر هذا الحديث: هناك ذنوب كبيرة تهلك صاحبها، وهناك ذنوب صغيرة أقل منها، ومنهم من قال: كل ذنب عصي الله به فهو كبير بالنظر إلى الآمر، فإنه وإن كان الذنب صغيراً فقد خالف أمره وارتكب نهيه، ومن وقعت منه مخالفة الله فإنه وقع في موبق؛ نظراً لعظم الله جل وعلا، وهذا روي عن ابن عباس وغيره من السلف، وهو قول أبي الطيب الباقلاني وأبي إسحاق الاسفراييني وغيرهما من العلماء.
ولكن التحقيق أن الذنوب تنقسم إلى قسمين: كبائر وصغائر بدليل قول الله جل وعلا: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31]، وقوله: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم:32].
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (الصلاة إلى الصلاة، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر)، وغير ذلك من الأدلة التي تدل على أن الذنوب منها كبائر وصغائر، فإذا كان الأمر هكذا فينبغي التمييز بين الكبائر والصغائر.
ما الذي يميز بين الكبيرة والصغير وبأي شيء نعرف أن هذه كبيرة وهذه صغيرة؟ هذا أيضاً فيه اختلاف كثير بين العلماء، وبعض العلماء يذهب إلى العدد كما في هذا الحديث، فعدد الكبائر، وهذا يتوقف على ورودها في الكتاب والسنة، ومنهم من أتى بضوابط تضبط وتميز بين هذا وهذا.(74/14)
من أنواع الكبائر
ورد في الكتاب والسنة الصحيحة غير هذه السبع، فمن الكبائر:(74/15)
عقوق الوالدين
أولاً: عقوق الوالدين، وقد جاء أنه من أكبر الكبائر كما في الصحيحين: (من أكبر الكبائر: أن يلعن الرجل أباه، قيل: كيف يلعن الرجل أباه؟ قال: يشتم أبا الرجل فيشتم أباه، ويشتم أمه فيشتم أمه) يعني: أن يكون سبباً للعن أبيه وأمه، وهذا إذا كان سبباً في لعنهما فكيف إذا لعنهما مباشرة؟ وللأسف فإنه يوجد في المسلمين من الأبناء التي تربوا في الشوارع والمقاهي وما أشبه ذلك من مجامع الفساد يلعنون آباءهم، وصار أحدهم أكره ما لديه والديه، وصار عند والديه شبه السبع، وتجده على أمه أشد، فإذا تكلمت انتهرها أو هددها وربما ضربها، وكذلك إن استطاع ذلك مع أبيه فعل، وهذا بلا شك يكون فاقداً للتربية مع فقده الإيمان بالله جل وعلا.(74/16)
شهادة الزور
ثانياً: شهادة الزور، فإنه صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أخبركم بأكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس فقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قال الصحابة: ليته يسكت) لما وصل إلى قول الزور وشهادة الزور غضب وصار يكررها؛ وذلك يدل على أنها تكثر في الناس، وهذا من إنذاراته صلوات الله وسلامه عليه وبلاغه، وقد كثرت وللأسف شهادة الزور في أوساط المسلمين، وقول الزور هو كل باطل، فإذا قاله الإنسان وتبناه أو دافع عنه أو ناصره فإنه قول زور.
وأما الشهادة فهي أخص من ذلك، شهادة الزور: أن يشهد على شيء وهو يعلم أنه فيه كاذب، وهذه هي شهادة الزور، ويشهد مقابل منفعة مال أو مقابل أن المشهود له صديق له أو ما أشبه ذلك، فإذا شهد بذلك فقد شهد بالزور، نسأل الله العافية.(74/17)
اليمين الغموس
ثالثاً: اليمين الغموس من الكبائر، وهو قريب من شهادة الزور، وهو أن يحلف الإنسان على شيء وهو يعلم أنه كاذب وسمي: غموساً؛ لأنه يغمس صاحبه في الإثم أو في النار، نسأل الله العافية.(74/18)
الزنا
رابعاً: الزنا، فقد جاء في كتاب الله التحذير منه، وأخبرنا جل وعلا: أنه فاحشة وساء سبيلاً، وأنه ليس من شأن المؤمنين.(74/19)
اللواط
خامساً: عمل قوم لوط، وهو أخبث من الزنا، ولهذا عذب الله جل وعلا أصحابه بأن حملوا ثم نكسوا على رءوسهم ثم أتبعوا بحجارةً.
ويقول جل وعلا: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83] ويفسرها العلماء: ما هي من ظالمي هذه الأمة الذين يفعلون هذا الفعل، فهي ليست بعيدة منهم بل هي قريبة.
وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه يكون في هذه الأمة خسف ومسخ) يعني: رجم، ومسخيعني: يمسخون قردة وخنازير، ويرجمون من السماء بالحجارة إذا فعلوا كما فعل أولئك الذي نكس الله فطرهم؛ لأن هذا أمر قبيح، تنفر منه الطبائع السليمة وتستقذره.
كيف يتركون النساء التي خلقها الله جل وعلا لهم، ويذهبون إلى الحشوش الخبيثة المنتنة؟ ولهذا يقول عبد الملك بن مروان: والله لو لم يذكره الله جل وعلا في القرآن ما صدقت أن رجلاً يأتي رجلاً؛ لقبح ذلك، ولكن هذا ليس عند كل أحد، فبعض الناس شبه البهيمة، بل البهائم أحسن حالاً منه، فلا يمكن أن بهيمة تأتي بهيمة، أي: ذكراً منها يأتي ذكراً، لا يمكن هذا إلا في نوع واحد وهو الحمار فقط، فهو الذي ينزل بعضه على بعض؛ لأنه من أبلد البهائم وأخسها، أما بقية البهائم فلا يمكن أن تجد ذكراً من البهائم يعلو ذكراً، وهذا الإنسان الذي أخبر الله جل وعلا أنه خلقه في أحسن تصوير قال عنه: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين:5].
(أسفل سافلين): أول السفول: الأخلاق السيئة المنتكسة، أن تنتكس أخلاقه وفطرته وأعماله، ثم بعد ذلك يسفل ولا يزال يسفل ويستمر في السفول إلى أن يستقر في أسفل سافلين في جهنم، وجهنم هي أسفل سافلين.(74/20)
إتيان المرأة في الدبر
سادساً: إتيان المرأة في دبرها، جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أن من أتى امرأةً في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم) فهو أيضاً من الكبائر.(74/21)
ضابط الكبيرة
الكبائر كثيرة جداً، ولو ذهبنا إلى تعدادها لطال بنا الوقت، وإنما نذكر الضوابط التي ذكرها العلماء.
الضابط الأول: فمن العلماء من يقول: كل ذنب توعد عليه بالنار، أو قيل لفاعله: (ليس منا)، أو رتب عليه حد في الدنيا، أو لعن فاعله، فإنه يكون كبيرة، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من غشنا فليس منا).
أو رتب عليه حد في الدنيا كحد الخمر والزنا، أو لعن فاعله كالربا، أو ذكر بالغضب وأنه مغضوب عليه وما أشبه ذلك.
وهذا من الضوابط المشهورة.
الضابط الثاني: كل ذنب ترتب عليه استهانة بأمر الله جل وعلا فإنه يكون كبيرة، وهذا أعم من الضابط الأول؛ لأنه هذا يجعل الأشياء الصغائر كبائر.
وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (ليس مع التوبة كبيرة كما أنه ليس مع الإصرار صغيرة) يعني: أن الإصرار على الصغيرة يكون كبيرة؛ ولذلك على الإنسان أن ينظر في نفسه ويحاسب نفسه ويراقبها عسى ألا يكون مرتكباً لكبيرة.(74/22)
شرح قول ابن عباس: (هي إلى السبعمائة أقرب)
قال الشارح رحمه الله: [قوله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله! وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) كذا أورده المصنف غير معزو، وقد رواه البخاري ومسلم.
قوله: (اجتنبوا) أي: ابعدوا، وهو أبلغ من قوله: دعوا واتركوا؛ لأن النهي عن القربان أبلغ في قوله: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام:151].
قوله: (الموبقات) بموحدة وقاف أي: المهلكات.
وسميت هذه موبقات؛ لأنها تهلك فاعلها في الدنيا بما يترتب عليه من العقوبات، وفي الآخرة من العذاب.
وفي حديث ابن عمر عند البخاري في الأدب المفرد، والطبري في التفسير، وعبد الرزاق مرفوعاً وموقوفاً، قال: (الكبائر تسع -وذكر السبعة المذكورة- وزاد: والإلحاد في الحرم، وعقوق الوالدين).
] الواقع أن العدد غير مقصود، ولا مفهوم للعدد لا للسبع ولا للتسع، ولهذا روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: (هن إلى سبعمائة أقرب منهن إلى السبع)، وقد عد العلماء منها ما أوصلوه إلى سبعمائة، وقد يزيد على هذا أو ينقص حسب التتبع والنظر.
ومن المعلوم أن الأفعال تنقسم إلى: أفعال جوارح، وأفعال قلوب، وأفعال القلوب فيها كبائر، كما أن أفعال الجوارح فيها كبائر، فمثلاً: الحسد، وسوء الظن بالله -نسأل الله العافية- والتسخط على القدر وما أشبه ذلك من كبائر القلوب، وقد تكون أشد من كبائر الجوارح والأفعال.
إذاً: المقصود: أن الحصر بهذا العدد غير مراد، وإنما يقصد شيء معين يذكر لمناسبة المقام لذلك.(74/23)
من الكبائر: الإلحاد في الحرم ونكث الصفقة
قال الشارح: [ولـ ابن أبي حاتم عن علي قال: (الكبائر -فذكر تسعة إلا مال اليتيم- وزاد: العقوق، والتعرب بعد الهجرة، وفراق الجماعة، ونكث الصفقة)].
الإلحاد في الحرم: هو ارتكاب الإثم والمعصية التي تتعلق بأمر الله جل وعلا ونهيه.
وأما نكث الصفقة: فهي إخلاف العهد الذي عقد بينه وبين آخر، ولو كان في أمور بيع أو غيرها ثم ينقضها عامداً قاصداً بغير رضا الآخر، وأعظم ذلك: العهود التي تبرم بين الجماعات أو مع إمام بأن يعطى صفقةً ثم يخالف ويناقض في ذلك، فإن هذا من أعظمها.
وأما الأمور الأخرى التي تكون بين الأفراد فهي تختلف باختلاف المفاسد التي تترتب عليها، ومعلوم أن حق الإنسان على الآخر ممنوع محرم إلا بطيبة نفس منه، وكل مال المسلم على المسلم حرام إلا بطيبة نفس منه، ولهذا جاء في الصحيح: (أن من أكل مال مسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان) وجاء (من اقتطع حق مسلم ظلماً لقي الله وهو عليه غضبان، قيل: وإن كان شيئاً قليلاً؟ قال: وإن كان قضيباً من أراك) يعني: وإن كان سواكاً، فهذا مبني على الاستقصاء، والظلم حرمه الله جل وعلا.
أما التعرب فمعناه: أن المهاجر إذا هاجر من بلد الكفر إلى بلد الإسلام فإنه لا يترك موطنه ويذهب أعرابياً في الصحراء.
هذا ممنوع، وهو ليس على إطلاقه فقد جاء ما يدل على جواز ذلك في حالات منها: إذا كثرت الفتن، فإنه جاء في الحديث: (إن خير مال المرء المسلم إذا كثرت الفتن غنم يتتبع بها شعب الجبال يفر بدينه من الفتن) إذا كان هذا المقصود، ولم يكن عند المسلمين اجتماع على الحق وجهاد في سبيل الله، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وإنما صار كل امرء معجب بنفسه، وكل إنسان تبع رأيه، وكثرت الفتن التي قد يقع فيها الإنسان صباح مساء، فهنا إذا ترك الناس وفر بدينه وأصبح أعرابياً كان أسلم له، وقد جاء الإذن في ذلك في هذه الحالة.
وأما إذا كان أمر المسلمين قائماً ومجتمعاً فإن التعرب فيه الجفاء وعدم إقامة الجماعات والتعاون معهم والقيام بأمر الله جل وعلا في كل ما أمر به.
ومن المعلوم أن الله أمر المسلمين أن يجتمعوا، ويعتصموا بحبل الله جميعاً ولا يتفرقوا، فالمقصود كون الإنسان يبقى معهم ولا يتعرب إلا لأمر ضروري.(74/24)
الحكمة من الاقتصار على ذكر سبع من الكبائر
قال الشارح رحمه الله: [قال الحافظ: ويُحتاج عند هذا إلى الجواب عن الحكمة في الاقتصار على سبع.
فيجاب بأن مفهوم العدد ليس بحجة وهو ضعيف، أو بأنه أعلم أولاً بالمذكورات ثم أعلم بما زاد، فيجب الأخذ بالزائد، أو أن الاقتصار وقع بحسب المقام بالنسبة إلى السائل.
].
الجواب
الثالث هو الظاهر والله أعلم، أنه وقع بحسب حاجة السامع إلى ذلك؛ ولهذا اختلفت الأحاديث في عدد الكبائر، فمرةً يأتي بها بأنواع، وفي مقام آخر يأتي بغيرها؛ لأنه صلوات الله وسلامه عليه يلاحظ السامعين فيذكر ما يحتاجون إليه.
قال الشارح رحمه الله: [وقد أخرج الطبراني وإسماعيل القاضي عن ابن عباس أنه قيل له: الكبائر سبع، قال: (هن أكثر من سبع وسبع).
وفي رواية: (هي إلى السبعين أقرب)، وفي رواية: (إلى السبعمائة)].
قد كتب العلماء في الكبائر الكتب، ومن أجمعها الزواجر لـ ابن حجر الهيتمي سماه: الزواجر عن اقتراف الكبائر، والإمام الذهبي له كتابان فيها، كتاب كبير وكتاب صغير، أحدهما كتبه لطلبة العلم والآخر المشهور المتداول كتبه لعامة المسلمين، وبناه على الوعظ والزجر؛ ولهذا ذكر فيه أحاديث ضعيفة وحكايات لا يعتمد عليها؛ وذلك لأن المواعظ يتساهل فيها أكثر من غيرها؛ لأنه قد يذكر حكاية يكون فيها من التأثير أكثر من تأثير آية لو تليت على بعض العوام، وكذلك ابن القيم له كتاب الكبائر وهو أصل كتاب ابن حجر الهيتمي.
وكذلك السخاوي صاحب الإقناع له كتاب في الكبائر، وغيرها من الكتب.
ومن أسهل الكتب في هذا: (تنبيه الغافلين) للنحاس؛ فإنه عد جملةً كبيرة منها، وبين حكمها في كتابه (تنبيه الغافلين).
إذاً: هي أكثر من سبع وسبع وأكثر من سبعمائة.
أي: أن العدد غير مقصود، وهذا مراد المصنف من إيراد هذا.(74/25)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [75]
السحركبيرة من الكبائر العظام، وهو أنواع كثيرة: منه ما هو كفر، وهو السحر الذي يكون عن طريق التقرب إلى الشياطين، ومنه ما هو كبيرة من الكبائر كالحيل ونحوها.
ومن السحر -وليس بكفر- النميمة؛ لأنه يحصل بها ما يحصل بالسحر من الفرقة والشقاق والفساد.(75/1)
ضرورة تحقيق معنى الشهادة
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (الشرك بالله) هو أن يجعل لله نداً يدعوه ويرجوه ويخافه كما يخاف الله، بدأ به؛ لأنه أعظم ذنب عصي الله به، كما في الصحيحين عن ابن مسعود سألت النبي صلى الله عليه وسلم: (أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك) الحديث.
وأخرج الترمذي بسنده عن صفوان بن عسال قال: قال يهودي لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي، فقال له صاحبه: لا تقل: نبي إنه لو سمعك لكان له أربع أعين، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن تسع آيات بينات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان ليقتله، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تقذفوا محصنةً، ولا تولوا للفرار يوم الزحف، وعليكم خاصة اليهود ألا تعدوا في السبت، فقبّلا يديه ورجليه وقالا: نشهد أنك نبي) الحديث، وقال: حسن صحيح.
] قالا: نشهد أنك نبي ولكنهما لم يؤمنا، فبقيا على يهوديتهما، وهذا يدلنا على أن الكفر عند اليهود -نسأل الله السلامة- متأصل، وأن قلوبهم مملوءة بالحقد وبغض الإسلام والمسلمين، وإلا فهم مثل ما أخبر جل وعلا يعرفون الرسول صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم ولكن الحسد منعهم من متابعته، فهم يحسدون الناس على فضل الله الذي آتاهم؛ لأنهم يريدون أن يحصروا فضل الله فيهم.
والحسود عدو النعم، وليس له علاج -نسأل الله العافية- إلا الهلاك، يحرقه حسده في الدنيا قبل أن يصل إلى النار.
والمقصود أن هؤلاء يشهدون أنه نبي ومع ذلك يكفرون به ولا يتابعونه، بل يبغضونه ويبغضون من يتابعه، فأي شهادة هذه؟ إن هذه الشهادة وبال عليهم نسأل الله العافية.(75/2)
خلاف العلماء في توبة القاتل
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (السحر) تقدم معناه، وهذا وجه مناسبة الحديث للترجمة.
وقوله: (وقتل النفس التي حرم الله) أي: حرم قتلها، وهي نفس المسلم المعصوم.
قوله: (إلا بالحق) أي: بأن تفعل ما يوجب قتلها كالشرك، والنفس بالنفس، والزاني بعد الإحصان، وكذا قتل المعاهد كما في الحديث: (من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة).
واختلف العلماء فيمن قتل مؤمناً متعمداً هل له توبة أم لا؟ فذهب ابن عباس وأبو هريرة وغيرهما إلى أنه لا توبة له، استدلالاً بقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء:93].
وقال ابن عباس: (نزلت هذه الآية وهي آخر ما نزل وما نسخها شيء).
وفي رواية: (لقد نزلت في آخر ما نزل، ما نسخها شيء حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما نزل وحي).
وروي في ذلك آثار تدل لما ذهب إليه هؤلاء، كما عند الإمام أحمد والنسائي وابن المنذر عن معاوية: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافراً، أو الرجل يقتل مؤمناً متعمداً).
وذهب جمهور الأمة -سلفاً وخلفاً- إلى أن القاتل له توبةً فيما بينه وبين الله، فإن تاب وأناب وعمل صالحاً بدل الله سيئاته حسنات، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:68 - 70] الآيات.
قوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} [النساء:93] قال أبو هريرة وغيره: (هذا جزاؤه إن جازاه)].
في هذه المسألة خلاف كما سمعنا، من العلماء من قال: لا توبة له، فقاتل النفس ليس له توبة، ولابد أن يعاقب على هذا القتل، وقد توعده الله جل وعلا بالنار فقال: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93].
كذلك الحديث الذي ذكره: (كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافراً أو الرجل يقتل مؤمناً متعمداً) يعني: أن هذا لا يعفى عنه، وهذا قول بعض العلماء، وقال الجمهور: إن له توبة، والتحقيق في هذا: أن قتل النفس يتعلق فيه ثلاثة حقوق: حق لأولياء المقتول، وحق لله جل وعلا، وحق للمقتول نفسه.
فأما حق أولياء المقتول فإنه يسقط بالقصاص أو بدفع الدية، وأما حق الله جل وعلا فإنه يسقط بالتوبة، ويبقى حق المقتول لابد من أدائه، ولابد أن تؤدى الحقوق إلى أصحابها، لأنه يأتي يوم القيامة ممسكاً قاتله فيقول: يا رب! اسأل هذا فيم قتلني؟ فهل يضيع حقه؟ لا.
لن يضيع حقه.
وهذا وجه استدل به الذين يقولون: إنه لا توبة له.
يعني: أن هذا لا يمكن حتى يؤدي حق المقتول يوم القيامة.
وكيف يؤدي حقه؟ التأدية في ذلك اليوم بالحسنات والسيئات فليس هناك غيرها، ومن كان له حق على الآخر فلابد أن يستوفيه ولكن من حسناته، فإن لم تف حسناته بذلك فإنه يؤخذ من سيئات صاحب الحق ويطرح عليه حتى يستوفي، حتى إذا لم يبق له حسنة طرح في النار.
فمن هنا قال من قال: إنه لا توبة له.
يعني: إن هذا غير ممكن، وأما فيما بينه وبين الله فله التوبة، ويجوز أن الله جل وعلا يرضي المقتول عن القاتل في ذلك الموقف إذا شاء، ولهذا جاء: (أن المقتول يأتي ممسكاً بالقاتل يقول: يا رب! اسأل هذا فيم قتلني؟ فيقول الله جل وعلا للقاتل: تعست)، ومن تعس في ذلك اليوم خسر وهلك.
وقد ثبت في الصحيح: أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر رجلاً ممن سبق كان مسرفاً على نفسه، يعني: كان قتالاً سفاكاً للدماء، قتل تسعة وتسعين رجلاً، فذهب يلوم نفسه لماذا هذا التمادي في الضلال؟ فذهب يسأل الناس: دلوني على عالم؟ فدلوه على رجل عابد فسأله: هل لي من توبة؟ فقال: لا.
فالإنسان إذا قتل نفساً واحدة فكأنما قتل الناس جميعاً، كيف وقد قتلت تسعة وتسعين نفساً؟ فقال: ما دام أنه ليس لي توبة إذاً أكمل بك المائة، فقتله، وبعد ذلك أراد الله به الخير، وسار يسأل ويبحث جاداً: دلوني على عالم من أهل الأرض؟ فدلوه على رجل عالم، فذهب وسأله فقال: قتلت مائة نفس فهل لي من توبة؟ قال له: نعم.
ومن يحول بينك وبين التوبة؟ ولكنك من بلد أهله مسرفون، ولكن اخرج إلى البلد الفلاني فأهله أهل خير وصلاح فاذهب واعبد الله معهم، فتاب وذهب إلى ذلك البلد، وفي أثناء الطريق قبل أن يصل البلد أدركه الموت، فجاءته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، كل يريد أن يقبضه ويتولاه، وملائكة الرحمة يقولون: جاء تائباً صادقاً في توبته، وملائكة العذاب يقولون: إن هذا ما فعل خيراً قط، وهو سفاك للدماء، فنحن أولى به، فبعث الله جل وعلا إليهم ملكاً ليحكم بينهم فتحاكموا إليه، فقال: قيسوا ما بين البلدين فإلى أيتهما كان أقرب فهو من أهلها؟ فقاسوا فوجدوه أقرب إلى بلد الخير بشبر أو ذراع فقبضته ملائكة الرحمة.
وجاء في رواية: إنه وهو يكابد الموت كان ينوء بصدره يريد أن يقرب ويريد أن يسير، ينوء بصدره ويعجز عن المسير؛ فدل ذلك على صدقه وصدق إقباله.
وجاء في رواية: أن الله أوحى إلى البلد الطيب أن تقاربي وإلى البلد الخبيث أن تباعدي، فقبضته ملائكة الرحمة.
إذا جاء شرع من قبلنا يوافق شرعنا فهو شرع لنا، أما إذا جاء مخالف له فمعلوم أن شرعنا مهيمن على الشرائع كلها وقاض عليه، وقد حذر الله جل وعلا من القتل، والمقصود: أن قاتل النفس تكون عليه هذه الحقوق الثلاثة: حقان يسقطان، ويبقى حق، وهذا مدار الكلام هل له توبة أم لا؟ فالذي يقول: ليس له توبة معنى ذلك: أنه يقول: لابد من استيفاء حق المقتول، وهذا حق لابد من استيفائه.
قال الشارح رحمه الله: [قوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً} [النساء:93] قال أبو هريرة وغيره: هذا جزاؤه إن جازاه.
] هذا تأويل، (إن جازاه) ويجوز ألا يجازيه، والمعنى أنه يجوز أن يعفو عنه رب العالمين، وإلا إن جازاه فهذا جزاؤه الذي يستحق.
قال الشارح رحمه الله: [وقد روي عن ابن عباس ما يوافق قول الجمهور، فروى عبد بن حميد والنحاس عن سعيد بن عبيد: أن ابن عباس رضي الله عنهما كان يقول: (لمن قتل مؤمناً توبة)، وكذلك ابن عمر رضي الله عنهما.
وروي مرفوعاً: (أن جزاؤه جهنم إن جازاه)].(75/3)
من الكبائر أكل الربا
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (وأكل الربا) أي: تناوله بأي وجه كان، كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة:275] الآيات [البقرة: 275 - 280] قال ابن دقيق العيد: وهو مجرب لسوء الخاتمة نعوذ بالله من ذلك.
] والربا سبق بيان معناه، وأنه من أعظم المحرمات، وقد أخبر الله جل وعلا أن الذي لا ينتهي عن أكله بعد ما كان جاهلاً وجاءه العلم أنه يكون حرباً لله ولرسوله.
والربا قسمان: ربا يسمى: ربا النسيئة وآخر: ربا الفضل.
فالنسيئة -مثلاً- أن يقرض شيئاً لأجل، فإذا جاء ذلك الأجل يرد عليه أكثر مما قدمه، فالزائد ربا.
وأما ربا الفضل فهو: أن يبيع شيئاً بشيء من جنسه متفاضلاً، وكله من أعظم المحرمات، ويجب على المسلم أن ينتهي عن ذلك، وقول ابن دقيق العيد رحمه الله: إنه مجرب لسوء الخاتمة، يعني: بتجربة أحوال الناس عند الموت، فصاحب الربا لا يستطيع أن يتلفظ بالشهادتين، ويسود وجهه، وتظهر عليه آثار العذاب وهو بين الناس، نسأل الله العافية.
ومعنى سوء الخاتمة: ألا يختم له بما يدل على رضا الله جل وعلا، ومعلوم أن الذنوب كلها خطرة؛ لأنها معاصٍ لله جل وعلا، ومن عصى الله جل وعلا فهو على خطر، فهذه الذنوب تحول بينه وبين ما يرضي الله جل وعلا عند آخر عمره، فيكون مختوماً له بسوء الخاتمة، ولكن الذنوب بعضها أعظم من بعض، ومن أعظمها وأكبرها: أكل الربا؛ لأنه أكل لأموال الناس بلا حق ولا مقابل، ومن أعظم المحرمات: حقوق الناس التي تناولها المرابي وإن كان يزعم أنه تناولها بصنعته وبطريقه وبكسبه، ولكن إذا حرم الله جل وعلا شيئاً فيجب الانتهاء عنه.(75/4)
من الكبائر: أكل مال اليتيم
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (وأكل مال اليتيم) يعني: التغذي به، وعبر بالأكل؛ لأنه أعم وجوه الانتفاع، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10]].
أكل مال اليتيم مثل أكل الربا، ليس لازماً أن يأكله في بطنه، بل لو أخذه وانتفع به فبنى به بيتاً أو اشترى به أثاثاً أو اشترى به أي حاجة ينتفع بها فهو في حكم الأكل، فإذا انتفع به بأي وجه من وجوه الانتفاع فهو آكل له شرعاً، وإنما عبر بالأكل لأن هذا هو الغالب الذي يقصد به في الغالب، ولهذا قال الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10]، فإذا وضعوه على ظهورهم فإنهم يضعون على ظهورهم ناراً، وكذلك إذا اُنتفع به بأي انتفاع آخر فإن المعنى واحد، إذ لا فرق بين الأكل وبين الانتفاع.(75/5)
من الكبائر التولي يوم الزحف
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (والتولي يوم الزحف) أي: الإدبار عن الكفار وقت التحام القتال، وإنما يكون كبيرةً إذا فر إلى غير فئة أو غير متحرف لقتال، كما قُيد به في الآية].
الفرار من الزحف: هو أن يفر من أمام الكفار، فإذا أقبل الكفار في صفوفهم على المسلمين في صفوفهم، وولاهم ظهره مدبراً فإنه يكون قد فعل موبقاً من الموبقات، كما نص الله جل وعلا على ذلك، ولكن هذا إذا لم يكن متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة، أما إذا لم يكن كذلك فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم، نسأل الله العافية؛ وذلك لأنه يرغب في الدنيا عن الآخرة.(75/6)
فضل الشهادة في سبيل الله
المؤمن الصادق يتمنى لقاء العدو من أجل أن يكون شهيداً؛ لأن الشهادة أشرف الموت، ولا موت أشرف من موت الشهداء، والذي يقدم على ذلك يكون مصدقاً لله ولرسوله بما يترتب على ذلك من الجزاء ومن الأمور التي ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنها: أن الشهيد يؤمن فتنة القبر، وهذه خصلة عظيمة.
ومنها: أن زوجاته الحور العين تحضره عند موته.
ومنها: أن الله جل وعلا يبيح له التمتع بالجنة قبل القيامة، وتجعل روحه في حوصلة طير تعلق من شجر الجنة، وروحه تتمتع بالجنة كيف يشاء، ويعلق في الجنة بأي شجرة يريد.
ومنها: أنه يشفع في سبعين من أهله، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (من آمن بالله وبرسوله وأقام الصلاة وآتى الزكاة وصام رمضان وحج البيت أدخله الله الجنة هاجر أو جاهد أو مات في بلده الذي ولد فيه فقالوا: ألا نبشر الناس يا رسول الله؟! قال: إن الله أعد للمجاهدين في الجنة مائة درجة، ما بين الدرجة والأخرى مثل ما بين السماء والأرض) يعني: أن المجاهدين لهم مائة درجة في الجنة، والدرجة معناها: المنزلة، فكل درجة جنة، وما بين كل واحدة والأخرى مثل ما بين السماء والأرض، فلا يجوز التفريط في ذلك لمن يؤمن بهذا ويصدق به، بل عليه أن يتسابق إلى هذه الأشياء.
وجاء أنه صلى الله عليه وسلم قال: (وددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا، ثم أقتل ثم أحيا، ثم أقتل ثم أحيا، ثم أقتل) يعني: يقتل ويحيا أربع مرات؛ لما في الشهادة من الفضل، وكل ميت من المؤمنين إذا رأى جزاءه لا يود أن يرجع إلى الدنيا وإن كان ما كان، إلا الشهيد فإنه يود أن يحيا ثم يقتل؛ لما يرى من عظم كرامة الله جل وعلا له.
ولما بكى جابر بن عبد الله على أبيه الذي قتل في أحد قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (أما أبوك فإن الله كلمه كفاحاً، وقال له: يا عبدي! تمنى علي، قال: ماذا أتمنى وأنا أرى ما أرى؟ فلما أكثر الله جل وعلا عليه طلب التمني، قال: يا رب! أريد أن تعيدني مرةً أخرى إلى الدنيا فأقتل، فقال: أما هذه فلا) لأن الله قضى ألا يعاد الميت مرةً أخرى إلى الدنيا.
وكذلك جاء في الشهداء الذين قتلوا في مسيرهم عند أن سيرهم الرسول صلى الله عليه وسلم لتعليم بعض من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم بأن قومه آمنوا، ثم اجتمعوا عليهم وقتلوهم غدراً، ولم يعلم بهم أحد، فأخبر الله جل وعلا عنهم نبيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله قال لهم: يا عبادي! تمنوا علي -ولما هم فيه مما يشاهدون من الفضل العظيم- قالوا: نتمنى أن تعيدنا إلى الدنيا مرةً أخرى فنقتل في سبيلك) وهكذا الشهيد يتمنى أن يتحصل على شهادة أخرى.
فإذا فر الإنسان عن قتال الكفار فمعنى ذلك أنه قدم الدنيا على الآخرة، ورغب بالدنيا عن الآخرة؛ ولهذا توعد بهذا الوعيد إلا إذا كان متحرفاً لقتال، ومعنى المتحرف للقتال: أنه يفر أمامهم ليريهم الفرار خدعة، ثم يكر عليهم من جهة أخرى فيكون ذلك أشد تنكيلاً فيهم، كما يفعله من يفعله من الشجعان، فإنه يُري العدو أنه منهزم حتى يتمكن منه ثم يرجع إليه فيتمكن من قتله ومن التنكيل به، أو أن يذهب إلى جهة أخرى ليساعد إخوانه من المسلمين الذين في الجانب الآخر على القتال، فلما كان هذا قد يظن أنه يكون فراراً بيَّن الله جل وعلا أنه ليس تولياً؛ لأنه يريد أن يتصرف في قتال العدو بما هو أنفع للمسلمين وأشد تنكيلاً بالعدو.(75/7)
القذف كبيرة من الكبائر
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)، وهو بفتح الصاد: المحفوظات من الزنا، وبكسرها: الحافظات فروجهن منه، والمراد بالحرائر: العفيفات، والمراد رميهن بزناً أو لواط، والغافلات أي: عن الفواحش وما رمين به، فهو كناية عن البريئات].
قذف المحصنات يعني: أن يقذفهن بالفاحشة، كأن يقول: هذه فعلت الفاحشة وهو كاذب، فإن هذا من المهلكات الموبقات، وإذا لم يقم عليه الحد في الدنيا سوف يقام عليه يوم القيامة، وحتى إن أقيم عليه حد القذف الذي هو ثمانون جلدة فإن هذا لابد فيه من التوبة، ولابد أن يبين أنه كاذب، وأن من رماه بريء من ذلك، فإن لم يفعل فلا يبرأ حتى وإن أقيم عليه الحد؛ لأنه متوعد بهذا الجرم، وهذا من حقوق المسلمين، وحقوق المسلمين أمرها عظيم، وسمي: قذفاً؛ لأنه كأنه قذفه بالحجارة، وقذف الكلام في الناس أصعب من القذف بالحجارة، فإذا كان بفواحش فهذا أصعب.
معنى قوله: (بزناً أو لواط) يعني: إن قذفت بأنها أُتيت من القبل أو من الدبر فكله سواء.
قال الشارح رحمه الله: [والغافلات أي: عن الفواحش وما رمين به، فهو كناية عن البريئات؛ لأن الغافل بريء عما بهت به، والمؤمنات أي: بالله تعالى احترازاً من قذف الكافرات].(75/8)
قتل الساحر جاء عن عدة من الصحابة
قال الشارح رحمه الله: [وعن جندب مرفوعاً: (حد الساحر ضربه بالسيف) رواه الترمذي وقال: الصحيح أنه موقوف.
قوله: عن جندب ظاهر صنيع الطبراني في الكبير أنه جندب بن عبد الله البجلي لا جندب الخير الأزدي قاتل الساحر، فإنه رواه في ترجمة جندب البجلي من طريق خالد العبد عن الحسن عن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وخالد العبد ضعيف.
قال الحافظ: والصواب أنه غيره، فقد رواه ابن قانع والحسن بن سفيان من وجهين عن الحسن عن جندب الخير: أنه جاء إلى ساحر فضربه بالسيف حتى مات، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فذكره.
وجندب الخير: هو جندب بن كعب، وقيل: جندب بن زهير، وقيل: هما واحد كما قاله ابن حبان.
أبو عبد الله الأزدي الغامدي صحابي، وروى ابن السكن من حديث بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يضرب ضربةً واحدة فيكون أمةً واحدة).
قوله: (حد الساحر ضربة بالسيف) وروي بالهاء والتاء، وكلاهما صحيح.
وبهذا الحديث أخذ مالك وأحمد وأبو حنيفة فقالوا: يقتل الساحر، وروي ذلك عن عمر وعثمان وابن عمر وحفصة وجندب بن عبد الله وجندب بن كعب وقيس بن سعد وعمر بن عبد العزيز، ولم ير الشافعي القتل عليه بمجرد السحر إلا إن عمل في سحره ما يبلغ الكفر، وبه قال ابن المنذر، وهو رواية عن أحمد، والأول أولى للحديث ولأثر عمر، وعمل به الناس في خلافته من غير نكير].
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وفي صحيح البخاري عن بجالة بن عبدة قال: كتب عمر بن الخطاب: (أن اقتلوا كل ساحر وساحرة)، قال: فقتلنا ثلاث سواحر].
قال الشارح رحمه الله: [هذا الأثر رواه البخاري كما قال المصنف رحمه الله لكن لم يذكر قتل السواحر.
قوله: (عن بجالة) بفتح الموحدة بعدها جيم ابن عبدة بفتحتين التميمي العنبري بصري ثقة.
قوله: (كتب إلينا عمر بن الخطاب: أن اقتلوا كل ساحر وساحرة)، وظاهره أنه يقتل من غير استتابة، وهو كذلك على المشهور عن أحمد، وبه قال مالك؛ لأن علم السحر لا يزول بالتوبة، وعن أحمد: يستتاب، فإن تاب قبلت توبته، وبه قال الشافعي؛ لأن ذنبه لا يزيد عن الشرك، والمشرك يستتاب وتقبل توبته؛ ولذلك صح إيمان سحرة فرعون وتوبتهم].
قال المصنف رحمه الله تعالى: وصح عن حفصة رضي الله عنها أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها فقتلت.
وكذلك صح عن جندب.
هذا الأثر رواه مالك في الموطأ.
وحفصة هي أم المؤمنين بنت عمر بن الخطاب، تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد خنيس بن حذافة، وماتت سنة خمس وأربعين.
قوله: (وكذا صح عن جندب) أشار المصنف بهذا إلى قتل الساحر، كما رواه البخاري في تاريخه عن أبي عثمان النهدي قال: (كان عند الوليد رجل يلعب، فذبح إنساناً وأبان رأسه، فعجبنا! فأعاد رأسه، فجاء جندب الأزدي فقتله)، ورواه البيهقي في الدلائل مطولاً وفيه: فأمر به الوليد فسجن، فذكر القصة بتمامها ولها طرق كثيرة.
قال المصنف رحمه الله: [قال أحمد: عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم) أحمد: هو الإمام أحمد بن محمد بن حنبل، قوله: (عن ثلاثة) أي: صح قتل الساحر عن ثلاثة أو جاء قتل الساحر عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: عمر وحفصة وجندباً.
والله أعلم].(75/9)
مسائل باب ما جاء في السحر
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيه مسائل: الأولى: تفسير آية البقرة].
آية البقرة هي قوله: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة:102].
سبق بعض الكلام عليها.(75/10)
تعريف الجبت
[الثانية: تفسير آية النساء].
وهي قوله جل وعلا: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء:51] فالجبت قيل: هو السحر، والإيمان به: فعله، فكون الإنسان يفعل الجبت، أو يأمر غيره أن يفعل له ذلك، فإنه يكون داخلاً في هذا، والجبت يطلق على السحر، ويطلق على الشيطان، وعلى طاعة الشيطان، ويطلق على الشرور.(75/11)
الفرق بين الجبت والطاغوت
[الثالثة: تفسير الجبت والطاغوت والفرق بينهما].
سبق الفرق بين الجبت والطاغوت، فالجبت: يطلق على الساحر والسحر، ويطلق على الكاهن والكهانة، ويطلق على الشر.
وأما الطاغوت: فهو مأخوذ من الطغيان وهو: التجاوز، وهو الذي ينازع الله جل وعلا في ربوبيته أو في شرعه أو في حكمه، فكل من كان منازعاً لله جل وعلا في شيء من ذلك فإنه طاغوت؛ ولهذا يقول العلماء: الطواغيت كثيرون جداً، ولكن رؤساؤهم خمسة: إبليس لعنه الله، وهو أولهم، ومن عبد وهو راضٍ، ومن دعا الناس إلى عبادة نفسه، ومن ادعى شيئاً من علم الغيب، ومن حكم بغير ما أنزل الله، هؤلاء هم رؤساء الطواغيت.(75/12)
الكبائر ليست محصورة في سبع
[الخامسة: معرفة السبع الموبقات المخصوصات بالنهي].
السبع الموبقات سبق الكلام عليها، وهي الشرك، والسحر، وقتل النفس بغير حق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات.
وسبق أنه ليس معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (اجتنبوا السبع) أنها تنحصر الموبقات في هذه السبع، بل هناك موبقات كثيرة يجب أن تجتنب؛ ولهذا جاءت نصوص أخرى في كل واحد منها الإخبار بأن هذه من الموبقات أو من أكبر الكبائر أو من الأمور التي تستوجب لعنة الله وغضبه وسخطه أو تستوجب النار، وهي كثيرة.
وسبق أن الجواب الصحيح عن هذا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم يذكر في كل مقام ما يناسبه، وما ينفع المتكلم، وما يكون المخاطب محتاجاً إليه.
فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يخاطب الناس بالشيء الذي هم بحاجة إليه، ويقتصر على الشيء الذي ينفعهم ويحتاجون إليه.
وتختلف أحوال الناس، والمجلس قد يكون فيه غير الذين سبق أن خاطبهم أولاً، فاختلفت خطابته على هذا الأساس.(75/13)
الطواغيت لا يختصون بالإنس فقط
[الرابعة: أن الطاغوت قد يكون من الجن وقد يكون من الإنس].
أي: أن الطاغوت قد يكون شيطاناً من شياطين الإنس وقد قد يكون شيطاناً من شياطين الجن.
والضابط في هذا: أن كل من فعل شيئاً من هذه الأفعال التي ذكرت فهو طاغوت.(75/14)
استتابة الساحر قبل قتله
[السادسة: أن الساحر يكفر.
السابعة: أنه يقتل ولا يستتاب].
هذا هو ظاهر النصوص: أنه يقتل ولا يستتاب، فـ عمر رضي الله عنه لم يأمر باستتابة السواحر، وكذلك جندب لم يقل للساحر: تب وإلا قتلتك، بل اخترط السيف وقتله، وكذلك حفصة رضي الله عنها لما دبرت مملوكةً لها فاستعجلت المملوكة عتقها فسحرت حفصة مولاتها؛ حتى تموت فتعتق، فأمرت بقتلها، وهذا من سنة الله أن من استعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه.
فالدلائل تدل على أنه لا يستتاب، وهناك ذنوب لا يستتاب صاحبها، حتى ولو تاب ما تقبل، مثل الذي يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يسب الله، فمثل هذا لو قال: أنا تبت، لا يقبل منه، ويجب على ولي الأمر أن يقتله.(75/15)
السحر وجد في القرون المفضلة
[الثامنة: وجود هذا في المسلمين على عهد عمر فكيف بعده؟!].
يعني: أن السحر كان موجوداً في وقت الخلفاء الراشدين، وذلك الوقت هو خير الأوقات، والناس في ذلك الوقت هم خير الناس؛ لنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بعثت في خير القرون) وفي رواية: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يأتي قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته إلخ).
وفي حديث أنس الذي في الصحيح: (لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه، سمعت ذلك من نبيكم صلى الله عليه وسلم)، وجاءت أحاديث كثيرة في هذا الباب، واتفقت الأمة على أن أفضل القرون قرن الصحابة رضوان الله عليهم، فهم خير الناس بعد الأنبياء؛ لأنهم صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلقوا الإيمان والعلم والأدب منه، وصاروا يعملون بطاعته ويتسابقون إلى مرضاته.
فالذي صحب النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون مثل الذي لم يصحبه، وإن عمل أي عمل.
والصحابي هو: الذي لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على ذلك، أما الذي لقيه وهو كافر فلا يكون صحابياً، وكذلك الذي ارتد -نسأل الله العافية- ومات على الردة لا يكون صحابياً، والصحابة ذكر الله جل وعلا أنه رضي عنهم في مواضع كثيرة من القرآن الكريم.
والمقصود: أن زمنهم هو أفضل زمن، فإذا كان هذا يوجد في زمنهم ففي الأزمنة المتأخرة يكون أكثر من باب أولى، والسحر في وقتنا صار أكثر من غيره، وصار في المسلمين من يتعاطى السحر، والذي لا يصنعه يطلب من الصانع أن يسحر له، ويكون الجرم كله سواء على الساحر وعلى الذي سُحر له، وهذا يدل على الجهل وعلى قلة الإيمان، نسأل الله العافية، فكثير ممن يتعاطاه يجهل حكم السحر وكونه موبقاً، أو أنه يريد أن يتحصل على نفع معين بهذا المحرم الذي لا يجوز استعماله بحال من الأحوال.(75/16)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [76]
الجبت أنواع كثيرة، ومنها: العيافة والطرق والطيرة، وقد حذر منها العلماء، وحذروا أيضاً من النظر في النجوم للتنجيم، وحذروا من تعلم السحر، والتشبه بالسحرة في عقد الخيوط والنفث فيها.(76/1)
السحر أنواع كثيرة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب بيان شيء من أنواع السحر].
لما ذكر رحمه الله السحر ذكر أن السحر أنواع متعددة؛ منها: ما هو سحر حقيقي، ومنها: ما هو ملحق بالسحر؛ لأنه يعمل عمل السحر، ومنها: ما يكون أيضاً ملحقاً به ولو من جانب يسير.
فأراد أن يبين بعض الأشياء التي يكثر وقوعها في المسلمين، والمصنف أراد بيان شيء من أنواع السحر، وليس كل الأنواع التي تقع، وإنما التي تكون ملتبسة على كثير من الناس، بل قد تنعكس القضية؛ ويصبح الذي عنده شيء من السحر يُعتقد أنه ولي من الأولياء، وهذا من أكبر الخطأ ومن أعظم الجهل والتخليط والتلبيس.
وهناك أشياء كثيرة تقع من كثير من الناس ويعتقد بعض الجهال أنها كرامة، وهي في الواقع إهانة؛ لأنها سحر أو طاعة للشيطان.
والكرامة لا تكون لصاحب السحر، وليست مخالفة العادة التي يعتادها الناس أو يرونها دليلاً على أن من وقعت على يده يكون من أولياء الله أو أنه كريم على الله، كلا، بل قد يكون كافراً، وقد يكون عدواً لله جل وعلا ولرسوله، فبعض من الناس قد يطير في الهواء ويمشي على الماء ويأتيه ما يريد من المال ومن المتاع وقد تأتيه امرأة فيفجر بها أو يأتيه صبي فيفجر به، وكل هذه الأشياء لا تكون إلا بواسطة الشياطين، وبواسطة السحر.
وقد يأخذ كوزاً فيملأه ذهباً، وقد يأخذ حجراً ويري الناس أنه ذهب، وقد يأخذ تراباً ويُري الناس أنه طعام، وقد يمد يده إلى الشيء فيموت ذلك الشيء، وما أشبه ذلك مما يصنعه أعداء الله وأعداء دينه من الذين يعبدون الشياطين ويتلبسون بهم، ولهذا كثير من هؤلاء تجده وسخاً، وله رعشة خفيفة، وقد يأكل الحيات والعقارب، وقد يتلبس بالنجاسات ولا يتطهر، وقد يكون مصاحباً للكلاب؛ لأن هذا هو الذي يريده الشيطان، فالشياطين تحب النجاسات، ومأواها الحمامات وأماكن النجاسات والقاذورات، فهم يريدون من أوليائهم أن يكونوا كذلك، ومع ذلك فكثير من الناس يقول: هذا ولي من الأولياء، وهو لا يصلي، بل بعضهم يكتب آيات الله بالنجاسة، فيكتب أسماء الله بالنجاسة ثم يعطيها الذي يأتي إليه ليشربها؛ لأن الشيطان يأمره بهذا ويحب هذا؛ وهذا فيه إهانة لأسماء الله جل وعلا ويكفر من يفعلها، والإنسان الذي يبتلى قد يحصل له شفاء من ذلك؛ لأن الشيطان يذهب إلى وليه فيصنع له هذا الشيء فيشفى.
والسحرة أعمالهم كثيرة، فمنهم من يدخل النار بحيلة ولا تضره، وقد يُشاهد أنه يطعن نفسه بسكين أو ما أشبه ذلك ولا تضره، أمور من هذا القبيل يلبس بها على الناس، وقد يكون هذا التلبيس بواسطة الشيطان ويزعم أن هذه ولاية وأنها كرامة، وهي في الواقع من أعمال الشياطين، ولهذا يقول العلماء: لا يجوز للإنسان أن يغتر بمن يقع على يده الخوارق حتى تسبر حالته ويعرف وقوفه مع كتاب الله ومع سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، كما جاء عن الشافعي أنه قال: (لا تغتر بالإنسان وإن مشى على الماء أو طار في الهواء حتى تسبر حاله مع كتاب الله ومع سنة رسوله صلى الله عليه وسلم).
فهذه الأشياء ليست دليلاً على الولاية، بل الدليل الفارق هو تقوى الله، ووقوف الإنسان عند المحرمات، وفعله للواجبات، وابتعاده عن المكروهات طاعةً لله جل وعلا، وخوفاً منه، هذا هو الفارق بين الولي والعدو، والله جل وعلا يقول: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63] وهذا وصف الأولياء: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:63].
وليس من شرط الولي أن تجري على يده شيء من الكرامات، وإنما هذا قد يحدث وقد لا يحدث، ولهذا باتفاق أهل العلم أن أفضل الأمة هم الصحابة، ومع هذا لم تكن الكرامات عندهم كثيرة، بل كانت قليلة، وهي في التابعين واتباع التابعين أكثر منها في الصحابة، وليس معنى ذلك أن التابعين وأتباعهم أفضل من الصحابة.
فالكرامة تكون لحاجة الإنسان، وإذا كانت لحاجته فلا كرامة؛ لأنها قد تكون شيء عجل له من عمله.
والمقصود: أن المؤلف أراد أن يبين لنا شيئاً من ذلك؛ لئلا نغتر بما يغتر به كثير من الناس، فمن الناس من يظهر أنه من الأولياء بفعل شيء خارق للعادة، وأولياء الله لا يمكن أن أحدهم يقول: انظروا إلي فإني من الأولياء، فإن هذا ولي ولكن للشيطان، وليس ولياً لله جل وعلا، فأولياء الله لا يدعون إلى تعظيم أنفسهم، وإلى التعلق بهم، وإلى الفخر على الناس والتكبر عليهم، بل يخافون الله جل وعلا، وتجد أحدهم دائماً خائفاً مشفقاً على نفسه، ويريد أن يخفي عمله، وألا يظهر عمله لأحد؛ لأن أهم ما لديه بل قصده كله هو طاعة ربه، والتحصل على رضاه، ولا يهمه فعل الناس أو قولهم، بل إذا أوذي أحب إليه من أن يمدح؛ لأن مدح الناس يكون فيه فتنة للنفس وإعجاب، وقد يكون في ذلك تكفير لسيئاته؛ لأنه يدل على أنه ما قام بما يجب لله جل وعلا، فسلط الله جل وعلا عليه من يؤذيه بسبب ذلك.(76/2)
شرح حديث: (العيافة والطَّرق والطيرة)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال أحمد: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا عوف عن حيان بن العلاء حدثنا قطن بن قبيصة عن أبيه: أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إن العيافة والطَّرْق والطيرة من الجبت).
قال عوف: العيافة: زجر الطير، والطرق: الخط يخط بالأرض].
هذا الحديث رواه الإمام أحمد، ورواه كذلك أهل السنن: أبو داود والنسائي، وإسناده جيد كما قال الحافظ ابن حجر رحمه الله، وقال عن حيان بن العلاء: إنه مقبول، وقال عن قطن بن قبيصة: إنه صدوق.
وعوف الأعرابي فسر العيافة والطَّرْق في قوله: (إن العيافة والطرق من الجبت) فقال: العيافة: زجر الطير، والطرق: الخط يخط في الأرض.
والعيافة: من عاف يعيف، وقد يسمون العيافة طيرة؛ لأنها نوع من الطيرة والتطير، وهي: أن يتطير أو يتشاءم بفعل الطيور أو بأسمائها وذواتها، فمثلاً: إذا رأى المتطير عقاباً قال: هذا يدل على العقاب، أو رأى غراباً قال: يدل على الغربة والكربة وهكذا، وهذه كانت عادتهم، والطيور ليس عندها علم الأمور المستقبلة، وليس لها من التصرف في الكون من الضر والنفع شيء، وإنما هي أوهام يلقيها الشيطان في نفوس بعض الناس، ثم قد يبتلى الإنسان بالوهم الذي يلقى في نفسه ابتلاًء واختباراً من الله جل وعلا؛ ولأن من تعلق قلبه بشيء فإنه يميل إليه، وقد يوكل إليه.
فإذا تعلق قلب الإنسان بمخلوق يوكل إلى ذلك المخلوق، ومن يوكل إلى مخلوق فقد وكل إلى ضعف.
أما الذي يتعلق قلبه بالله جل وعلا فإنه لا يلتفت لا إلى طيور ولا إلى حيوانات ولا إلى غيرها، بل يعلم أن ربه جل وعلا هو المتصرف في كل شيء، وأنه لا يكون حركة أو سكون إلا بإرادته ومشيئته، وأن كل أمر قد كتب على الإنسان، ولا يصيبه إلا ما كتبه الله عليه، وأما هذه المخلوقات فهي مدبرة مسخرة لله جل وعلا، لا تملك لنفسها نفعاً ولا ضراً فضلاً عن أن تملكه غيرها، فكيف يتعلق العاقل بشيء وهمي لا حقيقة له؟! وسيأتي الكلام عن الطيرة وأنها من الشرك.
وأما الخط فذكر أنه خطوط تُخط، ومن الناس من يتخذ هذه الأشياء ويستدل بها على شيء في المستقبل، فيأتي ويخط خطوطاً بسرعة، ثم ينحى اثنين واثنين واثنين، فإذا بقي اثنان قال: إنه سيكون كذا وكذا من الأمور المحبوبة له أو لمن أمره أن يخط له، وإن بقي واحد أخبر بأنه سيكون شيء مكروه، وأنه سيكون خلاف ما توقع وما أراد، أو أنه سيفعل كذا وكذا، ومن هذا القبيل ما يسميه بعض الناس قراءة الفنجان، أو مناجاة الفنجان أو ما أشبه ذلك من الأمور المستحدثة، وكلها أوهام من أوهام الشيطان.
وقد تغير أسلوب الكهنة والسحرة في هذه الأيام، فصاروا يسمون بعض هذه الأمور: التنويم المغناطيسي، وقد يسمونه: تحضير الأرواح، وما أشبه ذلك من الأمور التي هي محرمة، بل هي شركية من الشرك.
ومن ذلك ما يفعله بعض الجهلة من النساء وغيرهن وهو داخل في الطرق: الضرب بالحصى وأو الضرب بالودع وما أشبه ذلك، وصورته: أن يكون عندها شيء معين ثم تلقي من هذه الأشياء وتنظر ما الذي يكون، وهل هو زوجي أو فردي أو ما أشبه ذلك؟ ثم تحدس حدساً وظناً، وقد يتصل بها شيطان من شياطينها ويخبرها بشيء يعرفه ذلك الشيطان، فيقع بعض هذا المخبر به أو يصبح مطابقاً للواقع الذي مضى خبرها عنه؛ فيفتتن بها من يفتتن، وهذا نوع من أنواع السحر.
فالواجب على العبد أن يجتنب كل محرم حرمه الله جل وعلا وحذر منه رسولنا صلى الله عليه وسلم من هذه الأمور، وإن كانت هذه يفعلها الجهال أو يفعلها الذين يتكسبون بالأمور الوهمية ويدجلون على الناس فيجب أن تُمنع، وأن يُتنبه لها، وأن يُعلم أنها ضلال وباطل، وأن الغيب بيد الله جل وعلا، والتصرف بيده، ولا أحد يملك من ذلك شيئاً، والإنسان قد يستعجل الشيء الذي يتوقعه كالخبر عن غائب مسافر أو خبر عن أمر يريده لنفسه أو ما أشبه ذلك فيذهب إلى هؤلاء الطرقية أو السحرة فيستخبرهم، ويكون حكمه حكمهم؛ لأنه رضي بفعلهم وصدقهم، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد)، وهذا مناف للتوحيد؛ لأن التوحيد هو: أن يعتقد الإنسان أن التصرف بيد الله جل وعلا، وأنه النافع الضار الذي لا يقع شيء إلا بإذنه، وقد أعلمنا جل وعلا أنه اختص بالغيب، وأن الغيب لا يعرفه إلا فاطر السماوات والأرض تعالى وتقدس، وقد يُطلع بعض عباده على أمر مغيب، فيكون الغيب في هذا الأمر بالنسبة إليه معلوماً؛ لأن الغيب قسمان: غيب نسبي وغيب مطلق، فالنسبي في الأمور التي غابت عن الإنسان، ولا يجوز له أن يتكلم فيها، وإذا كان الإنسان يعرف منها شيئاً فهذا ليس غيباً، وإنما هو حاضر ومشاهد.
أما الغيب الذي يكون من الأمور المستقبلة والحوادث التي تحدث فإن هذا لا يعلمه إلا الله، ومن تعاطى شيئاً من ذلك فقد أبطل دينه، إذ إنه تعلق على شيطان ونازع الله جل وعلا في علم الغيب، وهو خصائصه، ومن نازع الله في خصائصه فإنه يكون محارباً لله جل وعلا، بل لا يكون عبداً لله، وإنما يكون عبداً للشيطان الذي أطاعه.
أما الجبت فقد فسره بأنه رنة الشيطان، فقال: والجبت: رنة الشيطان، ورنة الشيطان: هي صوته وأنينه، فإذا صوت متحزناً متألماً فإنه يعمل عملاً قدر ما يستطيع أن يضل الإنسان به، ويبعث جنوده لإضلالهم، ومن ذلك: أمره إياهم بأن يعلموا الناس الطرق والعيافة، وأن يحملوهم على ذلك.
وقد جاء أنه رن رنات: الأولى رن يوم لعنه الله؛ لأنه كان من المتعبدين أولاً، فلما عصى ربه وأبى السجود لآدم وقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12] لعنه الله جل وعلا، وجعله شيطاناً رجيماً مرجوماً ملعوناً.
الثانية: رن لما أهبط؛ لأنه كان في ملكوت السماء فأهبط إلى الأرض، وحرست السماء منه ومن جنوده.
الثالثة: لما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن ولادته مقدمةً لإبطال دينه، وما يدعو الناس إليه من الشرك.
الرابعة: يوم أنزلت فاتحة الكتاب؛ لأن فيها من الخير والفضل الذي أرغمه وأحزنه.
فالشيطان إذا رن اجتمعت عليه جنوده، فإذا اجتمعت أمرهم بالاجتهاد في إفساد عقائد الناس وأعمالهم، فكلما رن رنة انبعث من رنينه اجتهاد منه ومن جنوده وحرص على إفساد أديان الناس وكسبهم إليه.
وجاء عن ابن عباس أيضاً: أنه رن لما فتحت مكة، فمعنى رنة الشيطان: أن الشيطان يأمر بالطرق وبالعيافة وبالسحر، فهذا ناتج عن ذلك.(76/3)
ترجمة رجال سند حديث: (إن العيافة والطرق)
قال الشارح رحمه الله: [قوله قال أحمد: هو الإمام أحمد بن محمد بن حنبل.
ومحمد بن جعفر هو المشهور بـ غندر الهذلي البصري ثقة مشهور مات سنة ستين ومائتين.
وعوف هو ابن أبي جميلة العبدي البصري المعروف بـ عوف الأعرابي ثقة مات سنة ستين أو سبع وأربعين وله ست وثمانون سنة.
وحيان بن العلاء هو بالتحتية ويقال: حيان بن مخارق أبو العلاء البصري، مقبول].
قوله: (مقبول) هو قول الحافظ ابن حجر في التقريب، وهو اصطلاح له، فهذا منقول من كلام الحافظ رحمه الله.
[وقطن بفتحتين أبو سهل البصري صدوق، قوله عن أبيه: هو قبيصة -بفتح أوله- ابن مخارق -بضم الميم- أبو عبد الله الهلالي صحابي نزل البصرة].
إذا كان الخبر فيه المقبول والصدوق فإنه يرتقي إلى درجة الحسن، فإن انضاف إلى ذلك شواهد ومتابعات فإنه قد يرتقي إلى درجة الصحة.(76/4)
معنى: الطيرة والطرق
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت) قال عوف: العيافة: زجر الطير والتفاؤل بأسمائها وأصواتها وممرها، وهو من عادات العرب، وكثر في أشعارهم].
ممرها أي: مرورها، وقد كانوا ينظرون إلى الطائر: فإن ولى الإنسان ميامنه سموه: البارح، وإن ولاه مياسره سموه: السامح، ولكنهم كانوا يتشاءمون بما كان عن اليسار ويتفاءلون بما كان عن اليمين، أما إذا جاء من المقابل فكانوا يسمونه: الناطح أو النطيح، وهذه كلها اصطلاحات كانوا يتعارفون عليها؛ لأنهم يتعلقون بها، وهذا من الشرك؛ لأن الطيرة من الشرك كما سيأتي.
قال المصنف رحمه الله: [يقال: عاف يعيف عيفاً إذا زجر وحدس وظن.
قوله: (والطرق): الخط يخط بالأرض، كذا فسره عوف وهو كذلك، وقال أبو السعادات: هو الضرب بالحصى الذي يفعله النساء.
وأما الطيرة فسيأتي الكلام عليها في بابها إن شاء الله تعالى].
الطرق كما قلنا: إنه قد تغير الآن، ولا يزال موجوداً بالطريقة السابقة عند الكثير من النساء وأشباه النساء والدجالين، ولكن قد تغيرت الطرق الآن عند ناس من المثقفين كما يزعمون، فيكتبون جداول ويذكرون الحوادث التي تحدث في هذا البرج: يوم كذا يكون كذا وكذا، ومن كان مولده في اليوم الفلاني يحدث له كذا وكذا، وهذه كلها من الضلال، ولا يجوز أن يُنظر فيها؛ لأنها حدس ورجم بالغيب، وليس عندهم أي دليل على ما يقولونه، وإنما هو تضليل وأكل لأموال الناس بالباطل.
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (من الجبت) أي: السحر، قال القاضي: والجبت في الأصل: الفشل الذي لا خير فيه، ثم استعير لما يعبد من دون الله، وللساحر والسحر].(76/5)
معنى: رنة الشيطان
قال الشارح رحمه الله: [قوله: قال الحسن: رنة الشيطان، قلت: ذكر إبراهيم بن محمد بن مفلح أن في تفسير بقي بن مخلد: أن إبليس رن أربع رنات: رنةً حين لُعن، ورنةً حين أُهبط، ورنةً حين ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورنةً حين نزلت فاتحة الكتاب.
قال سعيد بن جبير: لما لعن الله تعالى إبليس تغيرت صورته عن صورة الملائكة، ورن رنةً، فكل رنة منها في الدنيا إلى يوم القيامة.
رواه ابن أبي حاتم].
قوله: (كل رنة منها إلى يوم القيامة) يعني: الرنين الذي هو ممنوع شرعاً مثل البكاء والنياحة، ومثل الأصوات التي تدل على الفجور أو الفسق، ومثل الصوت عند النعمة والصوت عند الفجيعة؛ التي تكون أصواتاً تدل على السخط للمقدور الذي وقع، أو تدل على التأسف والحزن على ذلك؛ لما يفوته من حظوظه، أو لأنه يطرب ويفسق ويظهر خلاف ما أمر به، وهو أن يكون شاكراً لأنعم الله، فكل ما خالف الحق وخالف الشرع فهو باطل، والباطل من أمر الشيطان.
قال الشارح رحمه الله: [وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: (لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة رن إبليس رنةً اجتمعت إليه جنوده) رواه الحافظ الضياء في المختارة.
الرنين: الصوت، وقد رن يرن رنيناً وبهذا يظهر معنى قول الحسن رحمه الله تعالى].
وليس المعنى: أنه رن وانتهت القضية، بل إذا رن واجتمعت إليه جنوده أمرهم بالحرص على إضلال بني آدم، ووجههم وأعطاهم الأوامر والتوجيهات التي يضلون بها بني آدم، فينتج عن رنينه بلاء، ومن ذلك السحر؛ لأن السحر من الشيطان، وكذلك التطير والطرق وكل ما خالف الشرع، فينتج عن رنينه فساد في الأرض بسبب إرضاء الشياطين، وشياطين الجن تتصل بشياطين الإنس فتتعاون وتتساعد على ذلك.
وقد أخبرنا رسولنا صلى الله عليه وسلم: أن كل واحد منا معه قرين من الشياطين، وقرين من الملائكة، فهذا الشيطان يأمره بالفساد وبالفجور وبكل ما يخالف الحق ويغريه بذلك، والملك ينهاه عن ذلك ويأمره بالخير، فلهذا لمه، ولهذا لمه، فإذا وجد الإنسان من نفسه الشيء الذي يغريه بالشر ويدفعه إليه ويزينه له فهذا من الشيطان، فيجب عليه أن يستعيذ منه، وإذا وجد من نفسه دافعاً يدفعه إلى الخير ويزينه له ويحثه عليه فهذا من الملك، والنفس أيضاً قد تكون مع هذا وقد تكون مع هذا، فإما أن تكون أمارة بالسوء وإما أن تكون مطمئنة.
ولما قال الرسول صلى الله عليه وسلم للصحابة: (كل واحد معه قرينه من الجن -والجن المراد الشياطين أولاد إبليس- قالوا: حتى أنت يا رسول الله؟! قال: حتى أنا، إلا أن الله أعانني عليه فأسلمَ -وروي: فأسلمُ) بضم الميم، وروي بفتحها، وإذا كان بضم الميم فمعناه: أسلم أنا من شره، وإن كان بالفتح فمعناه: أنه أسلم، أي: دخل في الإسلام وانقاد له، ولكن المعنى الأول هو الصحيح، لأن الشيطان لا يسلم، ولو أسلم لما كان قريناً يقابل قرين الملك.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولـ أبي داود والنسائي وابن حبان في صحيحه: المسند منه.
قال الشارح رحمه الله: ولم يذكر التفسير الذي فسره به عوف، وقد رواه أبو داود بالتفسير المذكور بدون كلام الحسن].(76/6)
حكم النظر في النجوم والتنجيم
قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من اقتبس شعبةً من النجوم فقد اقتبس شعبةً من السحر زاد ما زاد) رواه أبو داود، وإسناده صحيح].
قوله صلى الله عليه وسلم: (من اقتبس شعبةً من النجوم اقتبس شعبةً من السحر زاد ما زاد) الاقتباس: هو الأخذ والاكتساب في العلم والنظر، والشعبة: هي الطائفة من الشيء، فيقال: هذا من شعب الإيمان، فالإيمان له شعب، والكفر له شعب.
وشعبة من النجوم، يعني: أن من يقتبس شيئاً يستدل به، كأن يقول: اقتران النجم الفلاني بالنجم الفلاني يدل على كذا، أو اقتران النجم بالقمر يدل على كذا، أو كون النجم الفلاني يكون في المكان الفلاني في وقت كذا يدل على كذا وهكذا يقول المنجمون.
والتنجيم ينقسم إلى أقسام ثلاثة كما سيأتي: قسم يكون سحراً وشركاً بالاتفاق، وهو الاعتقاد بأن النجوم هي التي تدبر الكون وتصرفه، وهي التي تُخاطب وتُعبد وتُدعى ويُسبح لها كما يفعله الكنعانيون الذين بعث فيهم إبراهيم عليه السلام، فإنهم كانوا يبنون هياكل على صور الكواكب التي يرونها، ويجعلون بيوتاً لها، ويضعون فيها الصور، ثم يتقربون إليها بالدعاء، ويلبسون لباساً معيناً، ويبخرون عندها، ويتقربون إليها بالقرب، ويزعمون أنهم إذا صنعوا ذلك نزلت روحانياتها، وهذه الروحانيات التي يزعمون أنها روحانيات الكواكب هي الشياطين التي تنزل عليهم، وقد تخاطبهم، وقد تقضي حوائجهم، وتفعل لهم بعض الشيء الذي يريدونه؛ لأنهم فعلوا ما ترضاه الشياطين، فخدموها وعبدوها، فيأتون إليهم ببعض النفع، كما كانت الشياطين تكلم المشركين من داخل الأصنام، فالشيطان كان يخاطبهم ويكلمهم، وقد يجيبهم، وكان الصنم إما شجرة وإما حجراً أو شيئاًَ معمولاً من الطين، وما أشبه ذلك.
القسم الثاني: الاستدلال بالأحوال الفلكية من الاقتران والطلوع على الأمور التي تحدث في الأرض، وهذا أيضاً كفر بالله جل وعلا؛ لأن المصرف للأمور كلها هو الله، وهو مسخر الكواكب الذي خلقها وسيرها ودبرها، وليس للكواكب أي تصرف مع الله جل وعلا، ولا تدل على ما يحدث، وإنما هي كما قال الله جل وعلا: {عَلامَاتٍ} [النحل:16] أي: علامات يهتدى بها في البر والبحر، وهي كذلك رجوم للشياطين، وزينة للسماء.
فخلق الله جل وعلا الكواكب لأمور ثلاثة: الأمر الأول: علامات يهتدى بها، والعلامات قد تكون علامات في المسير في البر والبحر، وتكون علامات على أن المتصرف والخالق هو الله جل وعلا؛ لأنها مسخرة ومدبرة.
الأمر الثاني: أنها زينة، كما قال الله جل وعلا: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا} [الملك:5].
الأمر الثالث: أنها رجوم للشياطين، كما في هذه الآية: {وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} [الملك:5]، فمن نظر شيئاً للأحوال التي تجري في الكون وعلقها بالكواكب فإنه يكون مشركاً بالله جل وعلا.
القسم الثالث: هو الذي يعرف الآن بعلم الفلك، وهو: النظر إلى أبعاد الكواكب وأجرامها ومسيرها وأفلاكها واختلاف ذلك، وكذلك النظر في وقت طلوعها وأفولها والاستدلال بذلك على الزمن وتغيره، وأنه -مثلاً- في الوقت الفلاني إذا طلع هذا الكوكب يكون قد مضى كذا من الوقت، وإذا غرب يكون قد مضى كذا من الوقت، وكذلك النظر في منازل القمر التي قال الله جل وعلا عنها: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس:39]، والنظر كذلك في بروج الشمس التي كل يوم تنزله الشمس، ومنازل القمر معينة، كل ليلة يكون في واحدة منها، وهي ثمانية وعشرون منزلة، يكون دائماً على سطح الأرض يراها الرائي أربعة عشرة، كلما غرب واحد خرج مقابله، وهي التي سيأتي أن العرب كانوا يضيفون إليها نزول المطر، يستسقون بها، وهي الأنواء.
وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أربع من أمر الجاهلية في هذه الأمة لا يتركونهن: الطعن في الأنساب، والفخر بالأحساب، والاستسقاء بالأنواء، والنياحة على الميت).
وأمر الجاهلية مخالف لأمر الإسلام.
والمقصود: أن معنى قوله: (من اقتبس شعبةً من النجوم) يعني: أنه جعل طلوع النجم أو كونه يكون في هذا المكان أو كونه يقترن بالنجم الفلاني أو بالقمر يكون دليلاً على أنه يقع كذا وكذا، هذا من الكفر بالله جل وعلا.
وقوله: (اقتبس شعبةً من السحر) السحر: هو الباطل والكفر الذي يأمر به الشيطان، وليس معنى ذلك أنه يسحر غيره بهذا، ولكنه يكون أمراً خفياً، وقد يظهر شيء من الحوادث التي يخبر بها موافقةً، فيوافق قوله القدر؛ فيكون فيه فتنة وافتتان، وقد يعتقد السامع أنه صادق، فيكون هذا نوعاً من السحر لخفائه ولطافته.
والسحر كله باطل سواءً كان السحر الصناعي العملي الذي يعمل عمله في المسحور، وقد سبق أن هذا يكون بواسطة الشياطين وهو أنواع، ويكون بالنفث الذي ينفثه الشيطان؛ لأن الشيطان الإنسي الساحر يتصل بشيطانه الجني، فيأخذ خيوطاً ثم يعقدها عندما يريد أن ينعقد أمراً من الأمور، ثم ينفث عليها ويخرج شيئاً من ريقه الخبيث -وقد انعقد نفثه مع ريقه الخبيث وتكيف مع نفث الشيطان ومراده- فينعقد أمر بإرادة الله الكونية، ولهذا يقول الله جل وعلا: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق:1 - 4] والنفاثات: السواحر اللاتي تعقد إحداهن العقد وتنفث فيها لينعقد ما تريده من الضر أو ما تريد حصوله.
وقوله: (زاد ما زاد) يعني: كلما زاد اقتباس شيء من النجوم زاد إثماً وسحراً وابتعاداً عن الله جل وعلا.
[رواه أبو داود بإسناد صحيح، وكذا صححه النووي والذهبي، ورواه أحمد وابن ماجة.
قوله: (من اقتبس) قال أبو السعادات: قبست العلم واقتبسته إذا علمته.
اهـ.
قوله: (شعبة) أي: طائفةً من علم النجوم، والشعبة: الطائفة، ومنه الحديث: (الحياء شعبة من الإيمان) أي: جزء منه.
وقوله: (فقد اقتبس شعبةً من السحر) المحرم تعلمه.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: فقد صرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن علم النجوم من السحر، وقال تعالى: {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:69].
قوله: (زاد ما زاد) أي: كلما زاد من تعلم علم النجوم زاد الإثم الحاصل بزيادة الاقتباس من شعبه، فإن ما يعتقده في النجوم من التأثير باطل، كما أن تأثير السحر باطل].(76/7)
شرح حديث: (من عقد عقدة ثم نفث فيها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وللنسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (من عقد عقدةً ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئاً وكل إليه)].
إذا كان النظر لأجل الاستدلال على أمور تقع فإن هذا من الشرك بالله جل وعلا، ومن السحر الذي هو محرم.
أما إذا كان النظر في النجوم لأجل الاستدلال على الجهات -جهات القبلة أو جهات المسير- أو الاستدلال على أن هذه آيات على خالقها جل وعلا، ويتفكر في بعدها وكبرها ومسيرها؛ فهذا لا بأس به، والنجوم مختلفة على حسب اختلاف الأفلاك؛ لأن لكل نجم فلكاً يدور به، وبعضها قد يكون دورانها عكسي، يعني: بعضها يدور عكس دوران البعض الآخر، فإذا كان النظر فيها من هذا القبيل فإنه جائز ولا بأس به، بل يحمد فاعله على ذلك.
وكذلك إذا كان النظر في معرفة منازل القمر بأعيانها؛ لأن الله أخبر أنه قدره منازل، وكل ليلة بينها وبين الأخرى مسافة محددة، وما بين المنزلة والمنزلة ثلاثة عشر يوماً في الطلوع أو الغروب، وتنتهي بانتهاء السنة، يعني: طلوعاً وغروباً، فإذا كان ينظر ذلك لمعرفة المنازل ومعرفة الوقت والزمن ويستدل بها على وجود الله وآياته وعظمته فلا بأس بتعلم هذا، وما عدا ذلك فإنه لا يجوز النظر فيه؛ لأنه داخل فيما ذكر من السحر.
وأما الحديث الذي ذكره: (من عقد عقدةً ونفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئاً وكل إليه) فهذا يشمل حتى الإنسان الذي لا يحسن السحر، فإذا كان يتشبه بالساحر فهو داخل في هذا، كما يصنعه بعض الجهلة، إذا أراد شيئاً جاء بخيوط ثم تكلم بكلام ويقول: لا يكون هذا -أي: الذي لا يريد أن يكون- فيعقد عقدة، ثم يتفل عليها ليؤكد ذلك، فيكون بهذا التشبه بالساحر ساحراً، ولو لم يكن ساحراً، فيدخل في قوله: (من عقد عقدةً ونفث فيها فقد سحر)؛ لأنه فعل فعل السحرة، وإن لم يكن محسناً للسحر.
ومعروف أن عقد السحرة على هذا المنوال نوع من السحر، وقد أمر ربنا جل وعلا بالاستعاذة منهم.
والسحر أنواع متعددة وسبق ذكر بعض أنواعه وهذا نوع منه.
قوله: (ومن سحر فقد أشرك) هذا دليل على أن السحر لا ينفك عن الشرك، وأن كل ساحر مشرك؛ وذلك لأن السحر لا يكون إلا بواسطة الشيطان، وقد أخبر الله جل وعلا عن ذلك فقال: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} [البقرة:102].
فأخبر أن الشياطين هي التي تعلم السحر، فلا يكون السحر إلا بواسطتهم، وللأسف فإن السحر قد كثر في الناس اليوم، وكثير منهم يتعاطاه؛ وذلك لانعدام الإيمان عند الكثير منهم، فلما انعدم الإيمان عندهم أصبحوا يتعلقون بالشياطين التي تعلمهم السحر.
قوله: (ومن تعلق شيئاً وكل إليه) التعلق: هو من القلب عادةً، تعلق بالشيء، أي: كأن قلبه تعلق به، إذا تعلق بالسحر أو تعلق بالعقد التي يعقدها وكل إليها، ومن تعلق بمخلوق وكل إلى ذلك المخلوق، ومن تعلق بصنعة من صنعته أو عمل من عمله وكل إليه، ومن تعلق برب العالمين جل وعلا فإنه يكفيه ويقيه من كل سوء كما قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3].
فالتعلق: فعل القلب، ويتبعه أعمال الجوارح، وهذا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين أن الذي يتعلق على شيء يوكل إلى ذلك الشيء.
ومعلوم أن الذي يوكل إلى المخلوق يوكل إلى ضياع وإلى ضعف؛ لأن المخلوق ضعيف لا يستطيع أن يجلب لنفسه النفع، فمن تعلق بمخلوق وكل إلى ضياع وإلى عجز وإلى ضلال؛ فيهلك في أي وادٍ كان، وإنما يجب على العبد المؤمن أن يتعلق بربه جل وعلا، ومن تعلق قلبه بربه وتوكل عليه فإنه يكفيه ويقيه كل شر.(76/8)
عقد السحرة للخيوط ونفثهم فيها
قال الشارح رحمه الله: [هذا الحديث ذكره المصنف من حديث أبي هريرة وعزاه للنسائي، وقد رواه النسائي مرفوعاً، وحسنه ابن مفلح.
قوله: (وللنسائي) هو الإمام الحافظ أحمد بن شعيب بن علي بن سنان بن بحر بن دينار أبو عبد الرحمن صاحب السنن وغيرها، روى عن محمد بن المثنى وابن بشار وقتيبة وخلق، وكان إليه المنتهى في العلم بعلل الحديث، مات سنة ثلاث وثلاثمائة، وله ثمان وثمانون سنة رحمه الله تعالى.
قوله: (من عقد عقدةً ثم نفث فيها فقد سحر)، اعلم أن السحرة إذا أرادوا عمل السحر عقدوا الخيوط ونفثوا على كل عقدة حتى ينعقد ما يريدون من السحر، قال الله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق:4] يعني: السواحر اللاتي يفعلن ذلك، والنفث: هو النفخ مع الريق، وهو دون التفل، والنفث: فعل الساحر، فإذا تكيفت نفسه بالخبث والشر الذي يريده بالمسحور ويستعين عليه بالأرواح الخبيثة، نفخ في تلك العقدة نفخاً معه ريق، فيخرج من نفسه الخبيثة نَفَسٌ ممازج للشر والأذى مقارن للريق الممازج لذلك، وقد يتساعد هو والروح الشيطانية على أذى المسحور فيصيبه بإذن الله الكوني القدري لا الشرعي، قاله: ابن القيم رحمه الله تعالى.
قوله: (ومن سحر فقد أشرك) نص في أن الساحر مشرك؛ إذ لا يتأتى السحر بدون الشرك كما حكاه الحافظ عن بعضهم.
قوله: (ومن تعلق شيئاً وكل إليه) أي: من تعلق قلبه شيئاً بحيث يعتمد عليه ويرجوه وكله الله إلى ذلك الشيء، فمن تعلق على ربه وإلهه وسيده ومولاه رب كل شيء ومليكه؛ كفاه ووقاه وحفظه وتولاه، فنعم المولى ونعم النصير، قال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر:36].
ومن تعلق على السحرة والشياطين وغيرهم من المخلوقين وكله الله إلى من تعلقه فهلك.
ومن تأمل ذلك في أحوال الخلق ونظر بعين البصيرة رأى ذلك عياناً، وهذا من جوامع الكلم.
والله أعلم].(76/9)
شرح حديث: (ألا أنبئكم ما العضه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ألا أنبئكم ما العضه؟ هي النميمة القالة بين الناس) رواه مسلم].
العضه: من البهت والكذب، ومنه {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} [الحجر:91]، يعني: جعلوه -كذباً منهم وزوراً- سحراً أو شعراً أو كهانةً أو حسب ما قالوا، أو أنهم جعلوه أجزاءً مجزأة، أو ما أشبه ذلك.
فالعضه في اللغة يقصد به: الكذب والبهت، والعضه هنا في هذا الحديث المقصود به: النميمة، والنميمة: هي نقل حديث الغير على وجه الإفساد، كأن يأتي إلى إنسان ويقول: سمعت فلاناً يقول فيك: كذا وكذا، يريد الإغراء بينه وبين الآخر، وأن يفسد العلاقة التي بينهما، وليس على وجه النصح، أما إذا كانت نصيحة فلا تدخل في هذا، وأما إذا كان مجرد نقل كلام، وأن فلان يقول كذا وقال كذا فهذه تسمى: نميمة، من نمى الكلام ينمه وينميه، ولا تسمى: نميمة إلا إذا أراد بها الإفساد، أما إذا كانت مجردة عن إرادة الإفساد وليس فيها مصلحة فتسمى: غيبة، والغيبة: هي ذكر الغائب بما يكره عند الغير، فإن كان فيه ما يقول فهي غيبة، وإن كان كاذباً ليس فيه ما يقول فهي كذب وبهت وزور أكبر من أن تكون غيبة.
والقالة بين الناس انتشرت بين الناس مع أنها إثم كبير، وهي من أسباب إحباط العمل، نسأل الله العافية، ومن أسباب عذاب القبر، وأكثر عذاب القبر -نسأل الله العافية- منها ومن عدم التنزه من البول، كما جاء صريحاً في الحديث.
والنميمة شبيهة بالسحر، ولهذا جاء: أن النمام يفسد في الساعة ما لا يفسده الساحر في سنة؛ وذلك لأنه يفرق بين الأحبة ويغري الصدور بفعله، فشبهت بالسحر وألحقت به من هذا القبيل؛ لأن فيها الإفساد والتفريق بين الأحبة، فقد تفرق بين المرء وزوجه، وبين الصديق وصديقه، وبين الأخ وأخيه، وهذا فعل الساحر، فصارت النميمة شبيهةً بالسحر بالفعل، ولكن السحر يفارقها أنه كفر، وأنه تعلم من الشيطان، وهذه ليست كذلك، وهي من المحرمات.
وقد جاء في صحيح مسلم: (لا يدخل الجنة نمام)، فهي من أكبر الذنوب وأعظمها.
[قال: وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا هل أنبئكم ما العضه؟ هي: النميمة القالة بين الناس) رواه مسلم.
قوله: (ألا هل أنبئكم): أخبركم، والعضه: بفتح المهملة وسكون المعجمة.
قال أبو السعادات: هكذا يروى في كتب الحديث، والذي في كتب الغريب: (ألا أنبئكم ما العِضَه) بكسر العين وفتح الضاد، قال الزمخشري: أصلها العضهة فعلة من العضه وهو: البهت، فحذفت لامه كما حذفت من السنة والشفة، وتجمع على عضين].(76/10)
خطر النمام والكذاب
قال الشارح رحمه الله: [ذكر ابن عبد البر عن يحيى بن أبي كثير قال: يفسد النمام والكذاب في الساعة ما لا يفسد الساحر في سنة).
وقال أبو الخطاب في عيون المسائل: (ومن السحر: السعي بالنميمة والإفساد بين الناس).
قال في الفروع: وجهه: أنه يقصد الأذى بكلامه وعمله على وجه المكر والحيلة أشبه السحر، وهذا يعرف بالعرف والعادة أنه يؤثر، وينتج ما يعمله السحر أو أكثر، فيعطى حكمه تسويةً بين المتماثلين أو المتقاربين.
لكن يقال: الساحر إنما يكفر لوصف السحر، وهو أمر خاص ودليله خاص وهذا ليس بساحر].
قوله: (بوصف السحر) أي: بفعل السحر، أما كونه يوصف فلا يكفي في الكفر، وإنما يكفر بكونه يفعله.
[قال: وإنما يكفر لوصف السحر، وهو أمر خاص ودليله خاص، وهذا ليس بساحر، وإنما يؤثر عمله ما يؤثره فيعطى حكمه إلا فيما اختص به من الكفر وعدم قبول التوبة.
انتهى ملخصاً.
وبه يظهر مطابقة الحديث للترجمة، وهو يدل على تحريم النميمة وهو مجمع عليه.
قال ابن حزم رحمه الله: اتفقوا على تحريم الغيبة والنميمة في غير النصيحة الواجبة.
وفيه دليل على أنها من الكبائر.
قوله: (القالة بين الناس) قال أبو السعادات: أي: كثرة القول وإيقاع الخصومة بين الناس، ومنه الحديث: (فشت القالة بين الناس)].(76/11)
سحر البيان
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولهما عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن من البيان لسحراً)].
قوله صلى الله عليه وسلم: (إن من البيان لسحراً) عرفنا أن السحر محرم، وإذا كان شيء من البيان يكون سحراً فمعنى هذا: أنه مذموم، وهذا البيان هو الذي يقصد به تغطية الحق وإظهار الباطل وتحسينه.
وقد يكون الإنسان يخفى عليه ذلك فيغتر بالفصاحة والبلاغة والبيان، ويلتبس الحق عنده فيتبع الباطل؛ لأن هذا البيان شبيه بالسحر، هذا هو الصواب في معنى هذا الحديث، وليس كما يقول أهل الأدب: إن هذا من باب المدح، وبعضهم يقول: هذا هو السحر الحلال، والسحر ليس فيه شيء حلال، بل السحر كله حرام، والسبب الذي ذكر في هذا الحديث يبين هذا ويوضحه، وذلك أن رجلاً تكلم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وأثنى على نفسه وقال: هذا الرجل يعرف ذلك مني، فتكلم ذلك الرجل بكلام لم يعجب القائل، فقال: والله! إنه يعرف أكثر من هذا، ولكنه يحسدني، فتكلم كلاماً يدل على أن ذلك الرجل عنده من النقص ومن الخلل الشيء الذي قاله، فقال المتكلم: والله! ما كذبت في الأولى ولقد صدقت في الثانية، ولكنني لما رضيت قلت أحسن ما أعرف، ولما غضبت قلت أسوأ ما أعرف، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن من البيان لسحراً) يعني: أن الإنسان قد يكون عنده من البلاغة والفصاحة ما يغطي في كلامه على حق الآخر فيبطله ويستولي عليه، فيكون هذا نوعاً من السحر، ولهذا جاء: (أن الله جل وعلا يكره البليغ الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة بلسانها).
فهذا هو الصواب في معنى هذا الحديث.(76/12)
هل البيان ممدوح أو مذموم؟
قال الشارح رحمه الله: [البيان: البلاغة والفصاحة.
قال صعصعة بن صوحان: (صدق نبي الله، فإن الرجل يكون عليه الحق وهو ألحن بالحجج من صاحب الحق فيسحر القوم ببيانه فيذهب بالحق).
وقال ابن عبد البر: (تأولته طائفة على الذم؛ لأن السحر مذموم.
وذهب أكثر أهل العلم وجماعة أهل الأدب إلى أنه على المدح؛ لأن الله تعالى مدح البيان.
قال: وقد قال عمر بن عبد العزيز لرجل سأله عن حاجة فأحسن المسألة فأعجبه قوله، قال: هذا والله! السحر الحلال) انتهى].
هذا الكلام فيه نظر، ولا يثبت عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنه قال: هذا والله! السحر الحلال، فالسحر ليس فيه شيء حلال، بل هو كله محرم.
فإذا ألحق الكلام بالسحر فهو يدل على ذمه ولا يدل على مدحه.
[والأول أصح، والمراد به: البيان الذي فيه تمويه على السامع وتلبيس، كما قال بعضهم: في زخرف القول تزيين لباطله والحق قد يعتريه سوء تعبير مأخوذ من قول الشاعر: تقول هذا مجاج النحل تمدحه وإن تشأ قلت ذا قيء الزنابير مدحاً وذماً وما جاوزت وصفهما والحق قد يعتريه سوء تعبير قوله: (إن من البيان لسحراً) هذا من التشبيه البليغ؛ لكون ذلك يعمل عمل السحر، فيجعل الحق في قالب الباطل، والباطل في قالب الحق، فيستميل به قلوب الجهال حتى يقبلوا الباطل وينكروا الحق، ونسأل الله الثبات والاستقامة على الهدى.
وأما البيان الذي يوضح الحق ويقرره ويبطل الباطل ويبينه فهذا هو الممدوح، وهكذا حال الرسل وأتباعهم، ولهذا علت مراتبهم في الفضائل، وعظمت حسناتهم.
وبالجملة فالبيان لا يحمد إلا إذا لم يخرج إلى حد الإسهاب والإطناب، وتغطية الحق وتحسين الباطل، فإذا خرج إلى هذا فهو مذموم، وعلى هذا تدل الأحاديث كحديث الباب، وحديث: (إن الله يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة بلسانها) رواه أحمد وأبو داود].(76/13)
مسائل باب بيان شيء من أنواع السحر(76/14)
من أنواع الجبت
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيه مسائل: الأولى: أن العيافة والطرق والطيرة من الجبت].
العيافة هي: زجر الطير والتشاؤم في طيرانها ومرورها، ومن ذلك أيضاً كون الشخص إذا خرج من بيته سمع كلمه أو رأى شخصاً يتشاءم بهذا، ويقول: سيقع كذا وكذا، وهذا من الطيرة التي سيأتي أنها شرك.
وأما الطرق فهو: الخط في الأرض طلباً لمعرفة المغيب، أو الضرب بالحصى طلباً لذلك، أو قراءة الكأس -كما يقولون- وصوت الكأس أو فنجان القهوة أو ما أشبه ذلك، وكلها أوهام ووساوس لا تدل على شيء، ولكن الإنسان إذا تعلق بشيء ونسب ذلك الشيء إلى ما تعلق به فإنه يكون مخطئاً، وقد يكون مشركاً؛ لأنه معلوم أن الأمر إنما بتصريف الله، والغيب عند الله جل وعلا لا أحد يعرفه.(76/15)
المنجم لا يفلح
[المسألة الثانية: تفسير العيافة والطرق.
المسألة الثالثة: أن علم النجوم نوع من السحر].
يعني: اقتباس علم النجوم هو نوع من السحر لخفائه أو لمقارنته للباطل، فالسحر باطل، وقد أخبرنا أن الساحر لا يفلح، وكذلك المنجم لن يفلح.(76/16)
التشبه بالساحر حرام
[المسألة الرابعة: العقد مع النفث من ذلك].
يعني: كونه يعقد عقداً ثم ينفث فيه هذا من السحر، وهذا من المحرمات، سواءً كان الإنسان ساحراً أو يتشبه بالساحر.
وقد يفعل ذلك بعض الجهال تشبهاً بالساحر، فإذا رأى أن الساحر يفعل كذا فيريد أن يفعل مثله، ومن هذا ما يسمونه عقد الرجل عن زوجته؛ لأنه يكون بعقد، أو يتكلمون بكلام يريدون به منعه عن الوصول إلى زوجته فيعقدون عقدة، ثم يتكلمون كلاماً يقولونه للمنع أنه لا يصل إليها ولا يقربها فيعقدون عقدة وينفثون عليها، وهكذا حتى تكمل العقد التي يريدونها، وقد ينعقد ذلك الأمر كما ذكر ابن القيم: بمساعدة النفوس الخبيثة -نفوس الجن ونفوس الشياطين- مع هذا الفعل، فيتقرب الإنسي إلى الجني بطاعته، ويتقرب الجني إلى الإنسي بمساعدته على السحر، ثم ينعقد الشيء الذي قدره الله كوناً، وليس لهم في ذلك إلا أنهم وافقوا القدر، إلا أنه كان سبباً، وعقد هذا الأمر وحله بيد الله جل وعلا، فعلى الإنسان أن يلجأ إلى الله بالدعاء والاستعاذة من شر هؤلاء، فإنه ينحل.
[المسألة الخامسة: أن النميمة من ذلك].
أي: لا تجوز.
[المسألة السادسة: أن من ذلك بعض الفصاحة].
وهذا واضح.(76/17)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [77]
حذر النبي عليه الصلاة والسلام من الذهاب إلى الكهنة والعرافين لسؤالهم، وبين أن هذا الفعل من أعظم المحرمات، وأنه قد يفضي إلى الكفر والعياذ بالله، فإنه لا يعلم الغيب أحد إلا الله، ويجب الحذر من تصديق هؤلاء الذين يدعون معرفة الغيب.(77/1)
حكم الكهانة وإتيان الكهان
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في الكهان ونحوهم].
الكهانة كانت كثيرة في العرب في الجاهلية، وأصلها: الاتصال بالشياطين، أن يكون الإنسان له قرين من الشياطين يطيعه ويأتيه بالأخبار التي تغيب عن الناس، ومنها: استراق السمع.
واستراق السمع هو كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله جل وعلا إذا قضى الأمر من أمره وأمر به ملائكته وتكلم بالوحي؛ حصل للسماء من ذلك رعدة ورجفة، وكذلك الملائكة الذين يحفون بالعرش يفزعون ويصعقون خوفاً من الله جل وعلا، ثم إذا فُزِّع عن قلوبهم سألهم الملائكة الذين يلونهم: ماذا قال ربنا؟ فيقولوا: قال الحق، ثم ينتهي الخبر إلى السماء الدنيا، ثم ينتهي الخبر إلى الملائكة الذين في العنان -يعني: في السحاب- يدبرون أمر الله فينقلونه ويتكلمون به، والشياطين يركب بعضهم بعض ليسترقوا ما تقول الملائكة، فإذا سمعوا كلمة أخذها الأعلى وألقاها إلى من تحته، والذي تحته يأخذها ويلقيها إلى من تحته، إلى أن تصل إلى الذي في الأرض، ثم يذهب بها إلى قرينه الكاهن مسرعاً، فيخبره ويزيد معها مائة كلمة كذب، فالخبر الذي يقولونه ويكون على وجهه هو من هذا القبيل، فيصدقون مرة ويكذبون مائة مرة، وقد يرسل الشهاب إليه فيقتله، وقد يذهب بفكره وعقله ويصبح بلا عقل، وقد يصيبه إصابة لا يستطيع أن يتحرك معها.
والله جل وعلا ذكر أنه جعل النجوم رجوماً للشياطين، أي: يرجمون بها عند استراق السمع.
فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم حُرست السماء حراسة شديدة، فأصبح لا أحد من الشياطين يستطيع أن يصل إلى شيء من العنان؛ لأنهم يرجمون، فلهذا أخبر الله جل وعلا عن الجن أنهم قالوا: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن:9] أي: لا أحد منهم يستطيع استراق السمع، وكل هذا صيانة للوحي؛ لئلا يسترق شيطان من الشياطين شيئاً من الوحي الذي يوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيذهب به إلى الكهان؛ فيكون في ذلك فتنة للناس، ويقال: إن هذا الكاهن أخبر بما يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم، وما يقوله إنما هو من نوع الكهانة، فحماه الله جل وعلا، فلما انتهى الوحي بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم أصبحت الأمور على ما كانت عليه، يعني: أمكن الشياطين أن يستمعوا، ويأتون إلى أوليائهم من الإنس بما يخطفون ويزيدون معه، والشيطان يزيد مائة كذبة، فيلقيها على الكاهن، والكاهن كذلك يزيد فيها ويكذب، وهذا من العجائب أن يصدق مائة قول كذب من أجل كلمة واحدة!! إذاً: الكهانة نوع من السحر، ولهذا ذكرها بعده.(77/2)
العرافة من الكهانة
العرافة تصدق على التنجيم، وعلى الحدس والتخمين، وعلى الاتصال بالجن أيضاً؛ لأنهم يخبرونه بالأمور المغيبة التي تكون عند بعض من يتعاطى هذه الأمور، ومنهم الذين يزعمون أنهم يقرءون على المصروع ويخرجون الصرع، فإن منهم من يكون ولياً للشياطين وللجن، فإذا جاءه المصروع يخبره الجني أنه هو الذي صرعه، وأنه صرعه من أجل ذلك، ويأمره بأمور وأشياء يفعلها حتى يخرج، ويكون في هذا فتنة.
كل إنسان له قرين من الجن، فإذا جاء هذا الذي أصيب بهذه الإصابة فقرين الكاهن الذي يتعاطى هذه الأمور يسأل قرين المصروع ما الذي صار؟ فيخبره بالواقع، وأنه صار فيه كذا وكذا، وصار له كذا وكذا، فيذهب القرين ويخبر وليه الكاهن الذي يتعاطى الأمور الغيبية، فيخبر الكاهن أصحاب المريض أو يخبر المريض بأنه صار لك كذا، وصار لك كذا، ويكون هذا فتنة؛ لأنهم يصدقونه ويقولون: إن هذا من الكشوفات التي تدل على أنه ولي، أو إن عنده أموراً يعرف بها هذه الأشياء، وقد يشفى جراء ذلك ابتلاء وامتحاناً، وهذا قد جاء الوعيد فيه لمن يفعله، وأنه ليس من أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم على دينه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من تكهن أو تكهن له أو سَحَر أو سُحِر له) وهذا نوع منه.
وكذلك كل من يتعاطى أموراً من أمور الغيب سواءً بأسباب يذكرها وأمور يتعلل بها أو بمجرد حدس يحدسه ويظنه أو بمجرد أنه يزعم أنه يكشف له الأمر لأنه من الأولياء فهذا شرك؛ لأن أولياء الله ما يخالفون أمر الله ولا يخالفون كتابه، ولا يقول الولي للناس: اعلموا أني وليٌ، وأني أعلم كذا، وأعرف كذا، فإن هذا يريد من الناس أن يعتقدوا أنه وليّ حتى يتحسن له ما يكون في قلوبهم من المنزلة أو ما يتحصل له من أمور الدنيا، فهو دجال من الدجاجلة، فيجب أن يُحذر ويُعلم أنه ليس من أولياء الله، بل من أولياء الشيطان، فأولياء الله الذين تحدث لهم الكرامة ليس من شأنهم وليس من صنعهم أنهم يدعونها لأنفسهم، وإنما تحصل لهم إما بدعاء يدعونه الله جل وعلا لحاجة لهم أو لغيرهم فيحصل ذلك، أو بعمل يعملونه وليس لهم فيه دخل وإنما هو من توفيق الله، ثم هم لا يدعون الناس إلى أن يعتقدوا أنهم أولياء أو أنهم ينظرون إليهم، بل عندهم خوف من الله وازدراء لأنفسهم، ويود أحدهم أنه لا يكون له ذكر عند الناس أو شهرة، بل يود أن يكون مغموراً لا يُعرف؛ لأنهم يقصدون ما عند الله، ولا يقصدون ما عند الناس.
فإذا قصد الإنسان ما عند الناس فمعنى ذلك: أنه يريد الدنيا، وهذا شرك بالله، ولا يكون من أولياء الله.
ومن ذلك أيضاً: ما سبق في الدرس الماضي من الخطوط والضرب والحصى، وكذلك ما يلتحق به ويسمونه: قراءة الكأس وقراءة الفنجان أو النظر في الأبراج أو ما أشبه ذلك، هذه كلها من أمور الجاهلية التي تدخل تحت النهي، فقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال: (من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم).(77/3)
حكم إتيان العرافين
قال المصنف رحمه الله تعالى: [روى مسلم في صحيحه عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى عرافاً فسأله عن شيء فصدقه بما يقول لم تقبل له صلاة أربعين يوماً)].
قوله صلى الله عليه وسلم: (من أتى عرافاً فصدقه بما يقول لم تقبل له صلاة أربعين يوماً)، العراف يطلق على الكاهن، ويطلق على الساحر، ويطلق على المنجم، ويطلق على الرمال الذي يخط الخطوط بالرمل، وعلى الذي يضرب بالحصى ونحو ذلك.
ومعنى ذلك: أن العراف هو: الذي يتعاطى معرفة الأشياء المستقبلية أو الأمور التي غابت عن الناس من سرقة الشيء أو كون الإنسان الغائب يحصل له كذا وكذا أو ما أشبه ذلك، فكل من كان بهذه الصفة فهو من العرافين.
وهنا يقول: (من أتى عرافاً فصدقه بما يقول لم تقبل له صلاة أربعين يوماً) هذا الذي يأتي ويسأل لا تقبل صلاته أربعين يوماً، فكيف بالعراف نفسه؟! العراف نفسه أشد من هذا وأعظم؛ لأنه هو الذي يتعاطى هذه الأمور.
ومن المعلوم أن علم الغيب من خصائص الله، كما قال الله جل وعلا: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا * لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} [الجن:26 - 28].
فعلم الغيب خاص به جل وعلا، فهو عالم الغيب والشهادة الذي يعلم كل شيء.
يقول جل وعلا: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59] فهذا من خصائص الله، وعلم الغيب يجب ألا يكون لأحد من الناس، وإن اعتقد الإنسان أن أحداً من الناس يعلم شيئاً من الغيب فقد جعل له شيئاً مما هو من خصائص الله، وهذا من هذا القبيل.
وكون هذا الذي يأتي إلى الكاهن لا تقبل له صلاة أربعين يوماً يقول العلماء: لا يلزم أن يكون مصدقاً له، حتى ولو أتاه مجرد إتيان لينظر ويسمع فإنه يدخل في هذا الوعيد، أما التصديق فإنه يلحقه به؛ لأنه يجعله راضياً بفعله، وأنه يعتقد أنه صحيح، ومن اعتقد ذلك فهو مثله، فلا يجوز أن يأتي أحد إليه، وهذا لما في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل فقيل له: (إن أناساً يأتون الكهان، فقال: لا تأتوهم) فلا يجوز أن يأتي أحد إليهم.
ومعنى كونها لا تقبل له صلاة أي: أنه لا يثاب عليها ولا يلزم إذا لم تقبل أنه يعيدها، حتى وإن أعادها فظاهر الحديث أنها لا تقبل منه، وهذا وعيد شديد على من يأتي الكهان.
ولا يجوز للمسلم أن يتساهل بأمر دينه وأمر الله جل وعلا وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن الأمر ما هو مجرد دنيا تؤخذ منك ثم تعوض أو لا تعوض عنها، والدين ليس شبيهاً بأمر الدنيا، فإن الله جل وعلا إذا توعد الإنسان بمثل هذا الوعيد فهو الذي يفعل ما يشاء تعالى وتقدس، ويجوز أن يكون هذا مقدمة لما هو أعظم منه وأشد؛ لأن الذنوب يجر بعضها بعضاً، وهي كما يقول العلماء: المعاصي بريد الكفر، والله جل وعلا يقول: {بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] والمعنى أنه إذا اكتسب الإنسان الذنوب وازدادت غطت على قلبه ثم يصبح قلبه ميتاً، لا يعرف المعروف ولا يحبه ولا يريده، بل يكون بعكس ذلك، وهذا يكون سببه أنه كسب الذنوب وأرادها.(77/4)
استمتاع الجن والإنس بعضهم ببعض
قال الشارح رحمه الله: [قوله: باب ما جاء في الكهان ونحوهم.
الكاهن هو: الذي يأخذ عن مسترق السمع، وكانوا قبل المبعث كثيراً وأما بعد المبعث فإنهم قليل؛ لأن الله تعالى حرس السماء بالشهب.
وأكثر ما يقع في هذه الأمة: ما يخبر به الجن أولياءهم من الإنس عن الأشياء الغائبة مما يقع في الأرض من الأخبار، فيظنه الجاهل كشفاً وكرامة.
وقد اغتر بذلك كثير من الناس يظنون المخبر لهم بذلك عن الجن ولياً لله، وهو من أولياء الشيطان، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام:128].
] الاستمتاع الذي ذكره الله جل وعلا في هذه الآية: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنسِ} [الأنعام:128] استكثرتم يعني: أنكم أغويتم كثيراً منهم، يعني: اتبعكم جُلّهم.
ثم قال الله جل وعلا: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا} [يس:62] يعني: أضل خلقاً كثيراً.
قال جل وعلا: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سبأ:20] اتبعوه كلهم إلا فريق فقط.
ثم ذكر جل وعلا عن أوليائهم من الإنس فقال: {وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ} [الأنعام:128] يعني: الإنس والجن جميعاً يجمعون ويلقون في النار، والاستمتاع المقصود به: طاعة الإنسي للجني أي: أنه يستمتع بطاعته وعبادته له، وقد يسجد له وقد يذبح له ذبيحة أو يقدم له طعاماً أو يفعل معصيةً بأمره، بأن يكتب آيات الله جل وعلا بالنجاسة، أو يعمل أعمالاً يكون فيها استهزاء بالدين أو بالله أو بالرسول صلى الله عليه وسلم، فيطيعه الشيطان؛ لأنه أطاعه وفعل ما يريد.
وأما استمتاع الإنسي بالجني فإنه بالأخبار التي يأتيه بها، وما يخبره من أمور غائبة، والأمور الغائبة طريقتها مثل ما قلنا: إن بعض الجن يتصل ببعض قرناء الإنس؛ لأن كل إنسان معه قرينه من الجن، كما ثبت ذلك في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيسأل بعضهم بعضاً، ويأتون بالخبر الذي يكون غائباً عن الإنسان، فيتصور السامع أن هذا الذي يخبره بذلك يعرف المغيبات، ويصدقه بسبب ذلك.
وأما كون السماء حرست بعد المبعث فهذا كان في وقت نزول الوحي، أما الآن فيمكن للجني أن يأتي إلى وليه من الإنس بخبر يكون فيه صدق، ولكنه يكذب معه مائة كذبة، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال المصنف رحمه الله: [قوله: وروى مسلم في الصحيح عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوماً)].
هكذا في صحيح مسلم.
أما قوله: (فصدقه) فهذا خطأ من الناسخ أو من الطابع، وليس في صحيح مسلم: (فصدقه).
قوله: (من أتى عرافاً - يعني: لمجرد سؤال- لم تقبل له صلاة أربعين يوماً).
أما تصديقه فسيأتي أنه كفر: (من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم).
فترتب على إتيانه عدم قبول الصلاة، وهذا خطر عظيم جداً، وكثير من الناس يغتر بهذه الأشياء، وكل من تعاطى شيئاً مما ذكر فهو داخل في ذلك، وذلك أنه يجب أن يعتقد المؤمن أن الغيب لله جل وعلا وحده، وأنه لا أحد يطلع على الغيب، والغيب قسمان: غيب مطلق لا أحد يعرف منه شيئاً إلا الله جل وعلا.
وغيب نسبي، فكل ما غاب عن الإنسان فهو غيب بالنسبة إليه، ولكن قد يطلع عليه غيره فيكون بالنسبة للمطلع ليس غيباً، فإذا أخبر ذلك المطلع من غاب عنه ثم أخبر الذي يجهله ظن أنه يعرف المغيبات فيهلك بذلك.(77/5)
هل يكفر من أتى كاهناً أو عرافاً؟
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (وعن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم) هي حفصة، ذكره أبو مسعود الدمشقي؛ لأنه ذكر هذا الحديث في الأطراف في مسندها.
قوله: (من أتى عرافاً) سيأتي بيان العراف إن شاء الله تعالى.
وظاهر هذا الحديث أن الوعيد مرتب على مجيئه وسؤاله، سواء صدقه أو شك في خبره، فإن في بعض روايات الصحيح: (من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة).
وقوله: (لم تقبل له صلاة): إذا كانت هذه حال السائل فكيف بالمسئول؟ قال النووي وغيره: معناه: أنه لا ثواب له فيها، وإن كانت مجزئة بسقوط الفرض عنه، ولابد من هذا التأويل في هذا الحديث، فإن العلماء متفقون على أنه لا يلزم من أتى العراف إعادة صلاة أربعين ليلة، انتهى ملخصاً].
وكذلك لا يدل على أنه يكون كافراً بأنه قال: (لا تقبل منه صلاة)، ومعلوم أن الكافر لا يقبل منه أي عمل.
بقوله: (لا تقبل منه صلاة أربعين يوماً) أي: أنه ضيعها أربعين يوماً، مما يدل على أنه مسلم، ولكنه مرتب عليه هذا الوعيد.
أما العراف فله حكم آخر، وهو أنه يكون كافراً بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، والذي أنزل عليه هو الدين الإسلامي، ثم سيأتي أن الإتيان إليه وتصديقه بقوله أمر فوق هذا وأنه يلتحق به.
وأما كونه لابد من تأويله فهو معني بغاية: (لا تقبل له صلاة أربعين يوماً) فدل هذا على أنه مسلم باقٍ على إسلامه، إلا أنه عوقب بعدم قبول صلاته أربعين يوماً، فهذا عقاب لإتيانه إلى هذا العراف.
[وفي الحديث: النهي عن إتيان الكاهن ونحوه.
قال القرطبي: يجب على من قدر على ذلك من محتسب وغيره أن يقيم من يتعاطى شيئاً من ذلك من الأسواق، وينكر عليهم أشد النكير].
يعني: الذي نُصب للاحتساب والاحتكام وطلب الأجر من الله جل وعلا، وهذا يسمى (المحتسب)؛ لأنه يعمل الأعمال احتساباً لله جل وعلا، فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وهذه كانت عادة السلف أنهم يحتسبون في الأمر، فإذا رأوا المنكر الذي يخالف الحق أنكروه وغيروه إما بالقول وإما بالفعل، فهذا من المنكرات الظاهرة التي يجب إنكارها، فمن استطاع أن ينكر ذلك أنكره، وإذا كان لهم مجالس يقيمهم من مجالسهم إذا كان يستطيع، وإذا كان يأتيهم الناس يمنع الذين يأتون إليهم إذا كان يستطيع.
فمعنى ذلك: أن هذا من المنكرات الظاهرة التي يجب ألا تقر ولا تترك في بلاد المسلمين، ولا يترك من يكون جاهلاً يأتي إليهم، لهذا الوعيد الذي رتب على ذلك.
[من محتسب وغيره أن يقيم من يتعاطى شيئاً من ذلك من الأسواق، وينكر عليهم أشد النكير، وعلى من يجيء إليهم، ولا يغتر بصدقهم في بعض الأمور، ولا بكثرة من يجيء إليهم ممن ينتسب إلى العلم؛ فإنهم غير راسخين في العلم، بل من الجهال بما في إتيانهم من المحذور].(77/6)
شرح حديث: (من أتى كاهناً فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم) رواه أبو داود.
] هذا الإتيان قيد بالتصديق: (من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم).
عندنا مسألتان: المسألة الأولى: من أتى كاهناً لم تقبل له صلاة أربعين يوماً.
المسألة الثانية: من أتاه فسأله فصدقه فإن هذا كافر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.
فتصديقه سيجعله مشاركاً له في عمله، ويجعله معتقداً صحة قوله، والواجب أن يعتقد أنه باطل وأنه ضلال، ولو صدق مرة أو مرات فإما أن يكون موافقاً للقدر فقط أو يكون عن طريق إتيان الشيطان له بهذا الخبر الذي استرقه من الملائكة؛ لأن الله يأمر ملائكته بتدبير أمور خلقه، فيأتون ويتكلمون إما بإنزال المطر وأنه سينزل في يوم كذا على مكان كذا، أو -مثلاً- بموت رجل وأنه سيموت في كذا، أو بولادة رجل لفلان، أو بأمر من الأمور وأنه سيحدث كذا وكذا، فيأتي ويسترق هذا الشيطان ما سمعه من الملك ويأتي به فرحاً إلى وليه من الإنس؛ فينشره بين الناس ويغتر الجهلة في ذلك.
والمقصود بهذا: أن مجرد الإتيان إلى الكاهن من أصله محرم ولو لم يصدق، إلا إذا أتى إليه لينكر عليه ويبين بطلان ما هو فيه، ويبين للناس لئلا يغتروا به.
ومثل هذا يأتي للإنكار وليس للموافقة، أما إذا جاء ليتفرج وليسمع ولينظر فإنه داخل في الوعيد.
أما إذا جاء يسأله فقط سواءً صدق أو لم يصدق فإنه يكون كافراً بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن معنى سؤاله إقرار له، ومعنى ذلك: أن عنده شكاً، هل هو صادق أو غير صادق؟ والواجب ألا يكون عنده شك، بل يجب أن يجزم أنه باطل، وأنه ليس بشيء، وإنما هو من باب الدجل والتلبيس على الناس وإضلالهم.
قال المصنف رحمه الله: [وللأربعة والحاكم، وقال: صحيح على شرطهما عن أبي هريرة رضي الله عنه: (من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد) ولـ أبي يعلى بسند جيد عن ابن مسعود مثله موقوفاً].
الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم هو القرآن والوحي مطلقاً، كل ما أوحاه الله إليه من تكليف عباده من أمرهم ونهيهم كله أنزل عليه، ومعنى (كفر بما أنزل على محمد): أنه كافر بالدين الإسلامي -نسأل الله العافية- ثم هذا الكفر هل هو كفر صريح مخرج من الدين أو أنه كفر دون كفر؟ الأفضل أنه لا يتكلم فيه، يقول الإمام أحمد: (يجب ألا نتكلم فيه، ونتركه كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم) وأما كوننا نقول: إنه كفر دون كفر أو إنه كفر مخرج من الدين الإسلامي فهذا فيه شيء من الخطورة، وهو أننا عينا شيئاً ما ندري هل أراده الرسول صلى الله عليه وسلم أم أنه أراد غير ما عيناه! فيترك على ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، ونقول: إنه كفر ونسكت، وأمره إلى الله جل وعلا.
قال الشارح رحمه الله: [قوله: وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم) رواه أبو داود، وفي رواية أبي داود: (أو أتى امرأةً -قال مسدد: امرأته- في دبرها، فقد برئ مما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم).
فناقل هذا الحديث من السنن حذف منه هذه الجملة، واقتصر على ما يناسب الترجمة].
هذا الحديث قالوا: إنه ضعيف، بل قالوا: انه منكر.
والصواب: أنه ليس منكراً؛ لأن له شواهد كثيرة، وإنما المنكر لفظ: (من أتى حائضاً).
أما إتيان المرأة في دبرها فقد جاءت الآثار عن الرسول صلى الله عليه وسلم وكذلك عن الصحابة: أن من فعل ذلك فإنه متوعد بوعيد شديد.
وقد سئل ابن عباس عن إتيان المرأة في دبرها؟ فقال: أتسألني عن الكفر؟! وجعل هذا كفراً.
وكذلك جاء: (من أتى امرأةً في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم).
ومعلوم أن هذا من أعظم المحرمات، والله جل وعلا يقول: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة:223] ومعلوم أن محل الحرث هو الفرج وليس الحش محل النجس الخبيث، فهذا لا يجوز أن يؤتى.
وجاء في الحديث: (إن الله لا يستحي من الحق لا تأتوا النساء في أعجازهن أو في حشوشهن) فالنهي عن ذلك صحيح ثابت.
وكذلك الحائض؛ فإن الله جل وعلا يقول: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة:222]، فهذا قول ربنا جل وعلا، وأقل ما يقال: إنه محرم من المحرمات، ولا يجوز للإنسان أن يرتكب ما نهاه الله عنه.
وأما إتيان الكاهن ففيه أحاديث كثيرة، وكونه حكم على المتن أنه منكر ليس مسلماً، بل توجد أحاديث تعضده وتسنده، والمنكر هو: الذي يخالف الصحيح، ويخالف ما هو ثابت، وهذا لم يخالف، بل وافق ما هو ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الشارح رحمه الله: [قوله: وللأربعة والحاكم وقال: صحيح على شرطهما عن: (من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم) هكذا بيّض المصنف اسم الراوي، وقد رواه أحمد والبيهقي والحاكم عن أبي هريرة مرفوعاً.
قوله: من أتى كاهناً قال بعضهم: لا تعارض بين هذا وبين حديث: (من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة) هذا على قول من يقول: هو كفر دون كفر.
أما على قول من يقول بظاهر الحديث فيسأل عن وجه الجمع بين الحديثين!].
وجه الجمع بين الحديثين أن الأول مجرد إتيان، والثاني إتيان وسؤال، وقد ينضاف إلى السؤال تصديق، ففرق بين هذا وهذا، فإذا كان فيه سؤال وتصديق فهذا كفر، أما إذا كان مجرد إتيان فإنه لا تقبل له صلاة أربعين يوماً.
قال الشارح رحمه الله: [وظاهر الحديث أنه يكفر متى اعتقد صدقه بأي وجه كان، وكان غالب الكهان قبل النبوة إنما كانوا يأخذون عن الشياطين.
قوله: (فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم) قال القرطبي: المراد بالمنزل: الكتاب والسنة.
انتهى.
وهل الكفر في هذا الموضع كفر دون كفر فلا ينقل عن الملة أم يتوقف فيه فلا يقال: يخرج عن الملة ولا لا يخرج؟
الجواب
يتوقف، وهذا هو أشهر الروايتين عن أحمد رحمه الله تعالى].
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولـ أبي يعلى بسند جيد عن ابن مسعود مثله موقوفاً].
قال الشارح رحمه الله: [قوله ولـ أبي يعلى اسمه: أحمد بن علي بن المثنى الموصلي الإمام صاحب التصانيف كالمسند وغيره، روى عن يحيى بن معين وأبي خيثمة وأبي بكر بن أبي شيبة وخلق، وكان من الأئمة الحفاظ، مات سنة سبع وثلاثمائة، وهذا الأثر رواه البزار أيضاً ولفظه: (من أتى كاهناً أو ساحراً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم).
وفيه دليل على كفر الكاهن والساحر؛ لأنهما يدعيان علم الغيب، وذلك كفر، والمصدق لهما يعتقد ذلك ويرضى به، وذلك كفر أيضاً].(77/7)
شرح حديث: (ليس منا من تطير أو تطير له)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن عمران بن حصين مرفوعاً: (ليس منا من تطير أو تطير له، أو تكهن أو تكهن له، أو سَحر أو سُحِر له، ومن أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم) رواه البزار بإسناد جيد، ورواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن من حديث ابن عباس دون قوله: (ومن أتى) إلى آخره].
يقول العلماء: من الضوابط التي تضبط بها الكبيرة: أن يقال على فعل من الأفعال: من فعل هذا فليس منا، أو إنه ملعون، أو من فعل ذلك فأنا منه بريء، كما قال صلى الله عليه وسلم: (أنا بريء من مسلم بات بين ظهراني المشركين).
فهذا مما يقال: إنه من الكبائر.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا تطير أو تطير له).
التطير هو: التشاؤم بفعل الطيور، وقد يكون بفعل الحيوانات، وقد يكون بفعل الآدميين ورؤيتهم، فبعض الناس إذا خرج فقابله إنسان إما به عور بأحدى عينيه يتشاءم منه ويرجع، أو يرى أعرج أو مريضاً أو ما أشبه ذلك فيتشاءم بذلك ويرجع عن حاجته التي خرج من أجلها، أو يرى عكس ذلك فيذهب معتمداً على هذا، ويعتقد أنه سيصيب بغيته.
فالتطير من الشرك؛ لأن المخلوق ما يتصرف في النفع والضر والإيجاد والإعدام، وإنما الأمور بيد الله جل وعلا، والمسلم يجب أن يكون متوكلاً على الله ولا يثنيه عن مراده ما يسمع أو يرى، فعليه ألا يلتفت إلى ذلك.
كان رجل جالساً عند ابن عباس رضي الله عنه فجاء غراب ينعق فقال الرجل: خير خير، فأنكر عليه ابن عباس وقال: ويحك! وأي شيء عند هذا؟ أي: أنه لا خير عنده ولا شر.
فلا يجوز أن يتعلق الإنسان بشيء من هذه الأشياء، فإن هذا من أمر الجاهلية.
قوله: (ليس منا من تَطير) يعني: فعل ذلك بنفسه، (أو تُطير له) يعني: أمر من يفعل له ذلك واستمع إليه، وكذلك: (ليس منا من سحر أو سحر له) يعني: من فعل السحر أو أمر ساحراً أن يفعل له السحر، فإنه يكون مثله سواء.
كذلك غير ذلك من الأمور التي يشترك الفاعل والراضي بها فهما سواء، فإن الراضي بالفعل يكون شريكاً للفاعل، وهذا مطلق في كل منكر، بل وفي كل خير.
فالراضي يكون مشاركاً لمن فعله، وقد يكون مساوياً له في الإثم.
وأما كون الإنسان يتطير له، فقد يكون الإنسان لا يحسن التطير، فيأمر من يحسن ذلك أن يتطير له ويستمع له ويعمل به.
فأقل ما يقال فيه: إنه مرتكب جرماً يستحق عليه العذاب؛ لأنه قال: (ليس منا) وإلا فظاهره أنه كفر؛ لأن الذي ليس من المسلمين فهو من الكافرين، هذا هو ظاهر اللفظ، ولكن هو مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر) فنقول: نطلق هذا القول كما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، ونسكت، ويجوز أن يكون المراد به الخروج من الدين، ويجوز أن يكون المراد به أقل من ذلك، والله أعلم.
والواجب أن يترك كما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم لأمور: الأمر الأول: أن هذا أدعى للانزجار والابتعاد عن اقتراف هذه المعاصي، بخلاف ما إذا فسرناه تفسيراً يقلل من الإثم، فإنه قد يجترئ عليه، وهذا أمر مقصود للمتكلم، ولا يجوز تهوين الأمر على خلاف ما قاله المتكلم.
الأمر الثاني: الذي يتكلم بهذا ليس متيقناً بالمعنى، فعنده شك، ويكون في خطورة؛ لأنه قال على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل، ولا يجوز للإنسان أن يقول في مسائل العلم إلا عن علم واعتماد على دليل، وهذا الدليل محتمل كذا يحتمل كذا، فيتعين أن يترك على ظاهره.
فهذان الأمران يكفيان في كون الإنسان يتوقف في هذا، وهذا القول هو اختيار كثير من الأئمة.
وجمهور العلماء -كما قال النووي رحمه الله- يتأولون ذلك.
[قوله: (ليس منا) فيه: وعيد شديد يدل على أن هذه الأمور من الكبائر، وتقدم أن الكهانة والسحر كفر.
قوله: (من تطير) أي: فعل الطيرة، (أو تطير له) أي: قبل قول المتطير له وتابعه، وكذا معنى: (أو تكهن أو تكهن له) كالذي يأتي الكاهن ويصدقه ويتابعه، وكذلك من عمل الساحر له السحر.
فكل من تلقى هذه الأمور عمن تعاطها فقد بريء منه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لكونها إما شركاً كالطيرة، أو كفراً كالكهانة والسحر.
فمن رضي بذلك وتابع عليه فهو كالفاعل؛ لقبوله الباطل واتباعه.
قوله: (رواه البزار) هو أحمد بن عمرو بن عبد الخالق أبو بكر البزار البصري صاحب المسند الكبير.
وروى عن ابن بشار وابن المثنى وخلق، مات سنة اثنتين وتسعين ومائتين].(77/8)
تعريف العرَّاف
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال البغوي: العراف: الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك، وقيل: هو الكاهن، والكاهن هو: الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل، وقيل: الذي يخبر عما في الضمير.
وقال أبو العباس ابن تيمية: العراف: اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق].
يعني: الذي يتكلم بمعرفة الأمور الغائبة فهو من العرافين، وسمي عرافاً؛ لأنه يزعم أنه يعرف الشيء الغائب.
والطرق التي يأتي بها مختلفة، فبأي طريقة أتى بها سواءً باتصاله بالجن أو بضربه بالرمل أو بالحصى أو بالودع أو بالخطوط أو بالنظر في النجوم أو بالحدس والتخمين أو بغير ذلك فإن كل هذه المقدمات التي يفعلها ليس فيها دليل، وهي محرمة، وإذا تعاطى ذلك فإنه داخل في العرافة، ويشمله الوعيد الذي جاءت به النصوص.
قال الشارح رحمه الله: [قوله: قال البغوي إلى آخره: البغوي -بفتحتين- هو الحسين بن مسعود الفرَّاء الشافعي، صاحب التصانيف، وعالم أهل خراسان، كان ثقةً فقيهاً زاهداً، مات في شوال سنة ست عشرة وخمسمائة رحمه الله تعالى.
قوله: (العراف: الذي يدعي معرفة الأمور) ظاهره أن العراف هو الذي يخبر عن الوقائع كالسرقة وسارقها والضالة ومكانها].
ولا يدخل في هذا القافة الذين لهم أصل في معرفة الأثر فقط؛ لأنهم يعرفون الآثار بخاصية أعطاهم الله جل وعلا إياها، فإنه إذا رأى أثر الإنسان ثم رآه عرف أن هذه أثره، ويجزم بذلك، وكذلك إذا رأى قدميه يعرف أن هذه القدم شبيهة بالقدم الأخرى أو أنها منها.
فإنه ثبت في الصحيح: أن مجززاً دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده زيد بن حارثة وأسامة نائمين وملتحفين بقطيفة، وقد خرجت أقدامهما، فحضر إليهما وقال: هذه الأقدام بعضها من بعض، ففرح الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا، وذلك أن زيداً كان يخالف أسامة في اللون، وكان بعض الناس يقول: إنه ليس ابنه، ولما قال ذلك فرح به رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يفرح بباطل.
فهذا في شيء معين، وليس هو كما يدعيه العراف، فالقائف إما أن يرى الأثر فيعلم إذا رأى الإنسان أنه صاحب هذا الأثر، أو يرى قدماً أو يرى وجهاً أو ما أشبه ذلك فيجزم أن هذا قريب هذا بالشبه الذي أعطي خاصيةً في معرفته.(77/9)
مدعي الولاية ليس بولي
قال الشارح رحمه الله: [وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن العراف اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم كالحازر الذي يدعي علم الغيب أو يدعي الكشف.
وقال أيضاً: والمنجم يدخل في اسم العراف وعند بعضهم هو معناه.
وقال أيضاً: والمنجم يدخل في اسم الكاهن عند الخطابي وغيره من العلماء، وحكي ذلك عن العرب.
وعند آخرين: هو من جنس الكاهن، وأسوأ حالاً منه، فيلحق به من جهة المعنى.
وقال الإمام أحمد: العرافة: طرف من السحر، والساحر أخبث.
وقال أبو السعادات: العراف والمنجم والحازر: الذي يدعي علم الغيب، وقد استأثر الله تعالى به.
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: من اشتهر بإحسان الزجر عندهم سموه: عائفاً وعرافاً.
والمقصود من هذا: معرفة من يدعي معرفة علم شيء من المغيبات فهو إما داخل في اسم الكاهن وإما مشارك له في المعنى فيلحق به، وذلك أن إصابة المخبر ببعض الأمور الغائبة في بعض الأحيان يكون بالكشف، ومنه ما هو من الشياطين ويكون بالفأل والزجر والطيرة والضرب بالحصى والخط في الأرض والتنجيم والكهانة والسحر، ونحو هذا من علوم الجاهلية.
ونعني بالجاهلية: كل من ليس من أتباع الرسل عليهم السلام كالفلاسفة والكهان والمنجمين وجاهلية العرب الذين كانوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، فإن هذه علوم لقوم ليس لهم علم بما جاءت به الرسل صلوات الله عليهم.
وكل هذه الأمور يسمى صاحبها: كاهناً وعرافاً أو في معناهما، فمن أتاهم فصدقهم بما يقولون لحقه الوعيد، وقد ورث هذه العلوم عنهم أقوام فادعوا بها علم الغيب الذي استأثر الله بعلمه، وادعوا أنهم أولياء، وأن ذلك كرامة.
ولا ريب أن من ادعى الولاية واستدل بإخباره ببعض المغيبات فهو من أولياء الشيطان لا من أولياء الرحمن، إذ الكرامة أمر يجريها الله على يد عبده المؤمن التقي إما بدعاء أو أعمال صالحة لا صنع للولي فيها، ولا قدرة له عليها، بخلاف من يدعي أنه ولي ويقول للناس: اعلموا أني أعلم المغيبات، فإن هذه الأمور قد تحصل لما ذكرنا من الأسباب، وإن كانت أسباباً محرمةً كاذبةً في الغالب.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في وصف الكهان: (فيكذبون معها مائة كذبة) فبين أنهم يصدقون مرةً ويكذبون مائة.
وهكذا حال من سلك سبيل الكهان ممن يدعي الولاية والعلم بما في ضمائر الناس، مع أن نفس دعواه دليل على كذبه؛ لأن في دعواه الولاية تزكية النفس المنهي عنها بقوله تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ} [النجم:32]، وليس هذا من شأن الأولياء، فإن شأنهم الإزراء على نفوسهم وعيبهم لها، وخوفهم من ربهم، فكيف يأتون الناس ويقولون: اعرفوا أننا أولياء، وأنا نعلم الغيب؟! وفي ضمن ذلك طلب المنزلة في قلوب الخلق واقتناص الدنيا بهذه الأمور.
وحسبك بحال الصحابة والتابعين رضي الله عنهم وهم سادات الأولياء، أفكان عندهم من هذه الدعاوى والشطحات شيء؟ لا والله! بل كان أحدهم لا يملك نفسه من البكاء إذا قرأ القرآن كـ الصديق رضي الله عنه، وكان عمر رضي الله عنه يسمع نشيجه من وراء الصفوف يبكي في صلاته، وكان يمر بالآية في ورده من الليل فيمرض منها ليالي يعودونه، وكان تميم الداري يتقلب على فراشه ولا يستطيع النوم إلا قليلاً خوفاً من النار ثم يقوم إلى صلاته.
ويكفيك في صفات الأولياء ما ذكره الله تعالى في صفاتهم في سورة الرعد والمؤمنون والفرقان والذاريات والطور، فالمتصفون بتلك الصفات هم الأولياء، لا أهل الدعوى والكذب ومنازعة رب العالمين فيما اختص به من الكبرياء والعظمة وعلم الغيب، بل مجرد دعواه علم الغيب كفر].
قوله: (كان يمر بالآية في ورده فيمرض فيعاد) هذا غير صحيح، ولم يثبت عن الصحابة رضوان الله عليهم: أن أحدهم إذا سمع آيةً يصعق أو يغشى عليه أو يمرض، بل كان الإيمان في قلوبهم أمثال الجبال، وكانت خشية الله وخوفه عندهم متأصلة، ويتأثرون بذلك كما يتأثر من جاء بعدهم، فالصحيح أنه لم يثبت ذلك عنهم.
وأما كونهم يبكون فهذا ثابت عنهم، وقد ثبت أن عمر رضي الله عنه قرأ في صلاة الفجر سورة يوسف فلماء جاء إلى قوله جل وعلا: {إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:86] صار له نشيج يُسمع من خلف الصفوف يعني: أنه رأى أنها تنطبق عليه.
وكذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم في سجود وفي قراءته يُسمع في صدره أزيز.
أما البكاء بالصوت ورفعه كما يقع لبعض الناس بكاء وصراخ فهذا ما كان يحدث عندهم، وليس هذا من طريقة المؤمنين، بل كانت أعينهم تدمع، وقلوبهم تخشع، أما التصويت والنشيج والبكاء الذي يكون بأصوات فما كان يحدث لهم، فضلاً عما ذكر من أنه يمرض أحدهم، كل هذا لم يحدث لأحد منهم، وإنما هذا وقع في المتأخرين من التابعين وأتباعهم، وربما بعضهم إذا سمع آية يصعق ويموت.
وقد ذكر أن إنساناً قرأ عند أحد الخائفين آيةً من كتاب الله فصار له صراخ حتى فقد الحركة، فنظروا إليه فإذا هو قد مات، وهذا كثر في أتباع التابعين، أما في الصحابة فلا وجود له.
ولا شك أن الصحابة أكمل الناس إيماناً، وأتمهم علماً، وأزكاهم عقولاً، فهم أفضل الناس بعد الأنبياء، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (خير الناس من بعثت فيهم)، وقال: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)، وكان يحذر صلى الله عليه وسلم من الكلام في الصحابة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (الله الله في أصحابي! لا تتخذونهم غرضاً بعدي)، وكان يوصي بحفظ سابقتهم وحفظ ما لهم عند الله جل وعلا.
وكذلك ربنا جل وعلا وصف الذين يأتون من بعدهم أنهم يقولون: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10].
وأخبر جل وعلا أن الذي يغيظه شأن الصحابة ليس من المؤمنين كما قال جل وعلا: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} إلى أن قال: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29] يعني: أن أفعالهم تغيظ الكفار.
ولهذا يقول الإمام مالك رحمه الله: (من غاظه شأن الصحابة فليس له نصيب من الفيء؛ لأنه ليس من المؤمنين).
فالواجب أن يعرف حقهم؛ لكون الرسول صلى الله عليه وسلم رباهم، وكونهم أخذوا العلم عنه، وجاهدوا بين يديه، ونشروا الدين الإسلامي، وعن طريقهم جاءنا الدين، وما عرفنا الإسلام إلا عن طريقهم؛ لأنهم هم الذين نقلوا إلينا ما بلغهم إياه رسولنا صلى الله عليه وسلم.
قال المصنف رحمه الله: [فكيف يكون المدعي لذلك ولياً لله؟! ولقد عظم الضرر واشتد الخطب بهؤلاء المفترين الذي ورثوا هذه العلوم عن المشركين، ولبسوا بها على خفافيش القلوب، نسأل الله السلامة والعافية في الدنيا والآخرة].(77/10)
حكم الذين يكتبون أباجاد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال ابن عباس في قوم يكتبون أباجاد وينظرون في النجوم: ما أرى من فعل ذلك له عند الله من خلاق].
هذا الأثر عن ابن عباس رواه عبد الرزاق في المصنف، ومعنى ذلك: أن الذين يكتبون أباجاد وينظرون في النجوم يستدلون على الحروف بالأمور المستقبلة التي ستأتي، وهذا هو المسمى عند بعض الناس: علم الحروف، وعلوم الحروف يفعلونها دليلاً على المغيبات.
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (وقال ابن عباس إلى آخره)، هذا الأثر رواه الطبراني عن ابن عباس مرفوعاً وإسناده ضعيف، ولفظه: (رب معلم حروف أبي جاد، دارس في النجوم، ليس له عند الله خلاق يوم القيامة).
ورواه حميد بن زنجويه عنه بلفظ: (رب ناظر في النجوم، ومتعلم حروف أبي جاد، ليس له عند الله خلاق).
وقوله: (ما أرى) يجوز فتح الهمزة بمعنى: لا أعلم، ويجوز ضمها بمعنى: لا أظن.
وكتابة أبي جاد وتعلمها لمن يدعي بها علم الغيب هو الذي يسمى: علم الحرف، وهو الذي جاء به الوعيد، فأما تعلمها للتهجي وحساب الجمل فلا بأس به.
قوله: (وينظرون في النجوم) أي: ويعتقدون أن لها تأثيراً، كما سيأتي في باب التنجيم: وفيه من الفوائد عدم الاغترار بما يؤتاه أهل الباطل من معارفهم وعلومهم، كما قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [غافر:83].(77/11)
مسائل باب ما جاء في الكهان ونحوهم
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيه مسائل: الأولى: لا يجتمع تصديق الكاهن مع الإيمان بالقرآن].
يعني: قوله: (فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم) فدل على أنه لا يجتمع الإيمان بالكاهن وتصديقه مع الإيمان بالله جل وعلا، وهذا يدلنا على أن المؤلف رحمه الله يرى أنه على ظاهره.
[المسألة الثانية: التصريح بأنه كفر.
المسألة الثالثة: ذكر من تكهن له].
يعني: الذي يتكهن له مثل الكاهن.
[المسألة الرابعة: ذكر من تطير له.
المسألة الخامسة: ذكر من سحر له.
المسألة السادسة: ذكر من تعلم أبا جاد] أي: تعلمه لأجل النظر في علم الغيب، وليس لحساب الجمل، فإن هذا لا بأس به.
[المسألة السابعة: ذكر الفرق بين الكاهن والعراف].(77/12)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [78]
إن للنشرة والطيرة أحكاماً ومعاني بينها الله في كتابه والرسول صلى الله عليه وسلم في سنته، وقد اختلف السلف في حكم النشرة وفعلها: فمنهم من حرمها مطلقاً، ومنهم من أجازها فيما فيه ضرورة: كحل سحر المسحور بها.(78/1)
حكم النشرة
قال المصنف رحمه الله: [باب ما جاء في النشرة].
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (باب ما جاء في النشرة) بضم النون كما في القاموس.
قال أبو السعادات: النشرة: ضرب من العلاج والرقية، يعالج به من يُظن أن به مساً من الجن، وسميت: نشرةً؛ لأنه ينشر بها عنه ما خامره من الداء، أي: يكشف ويزال].
قوله رحمه الله: (باب ما جاء في النشرة) قصده بهذا حل السحر عن المسحور، والسحر سبق أنه من الموبقات التي توبق صاحبها في النار أو في الإثم الذي يئول إلى النار.
وسبق أنه يكون كفراً، وأن السحر لا يجتمع مع الإيمان؛ لأن السحر يكون بواسطة الشياطين، والساحر لابد أن يكون مشركاً بطاعته للشيطان واتباعه وعبادته؛ ولهذا ذكر الله جل وعلا عن السحرة أنهم يختارون الحياة الدنيا على الآخرة، وأنه ليس لهم في الآخرة من خلاق، كما قال جل وعلا: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102].
قوله: (فَلا تَكْفُرْ): يدل على أن فعل السحر كفر، ثم قال جل وعلا: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة:102] ومعنى (اشتراه) يعني: عمله، وقوله: (علموا) أي: علم أهل الكتاب اليهود أن الذي يعمل السحر ليس له في الآخرة من خلاق، والذي ليس له في الآخرة من خلاق يكون كافراً وخاسراً ومعذباً عذاباً لا ينقطع، وعلمهم هذا علموه من كتاب الله الذي أنزله الله جل وعلا على موسى عليه السلام.
وجاءت كذلك آيات آخر غير هذه، ونصوص أخرى تدل على أن الساحر يكون كافراً.
ولهذا جاء حكمه في الشرع أنه إذا كان مسلماً قبل ذلك فإنه يكون مرتداً، والمرتد لا يترك على ردته، بل يجب أن يقتل إلا أن يعود.
وإذا كان غير مسلم فإنه يقتل حتى يدفع شره وأذاه؛ لأنه مفسد من المفسدين في الأرض، يفسد الأبدان ويفسد الأموال، ويفسد الأخلاق، وفي حده الشرعي خير كثير وحكمة عظيمة.
لما ذكر المؤلف هذا أراد أن يبين حكم حل السحر عن المسحور: هل هو جائز أو ممنوع؟ إن كان بسحر مثله فإنه لا يجوز، أما إن كان بعلاجات طبيعية وأدوية ورقى فإنه لا بأس به.
فقد علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سحره يهودي، فدعا ربه فشفاه الله جل وعلا بعد ما بين له أين موضع السحر.
في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: (سُحِر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صار يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولم يفعله، ثم إنه دعا ودعا، فبينما هو نائم نزل عليه ملكان فجلس أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه، فقال أحدهما للآخر: ما به؟ قال: به طب -يعني: سحر- قال: ومن طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم في مشط ومشاطة في طلعه نخلة ذكر في بئر ذروان، فلما استيقظ صلوات وسلامه عليه ذهب إلى تلك البئر -تقول عائشة - فقال: إني رأيت ماءها كنقيع الحناء، ونخلها كرءوس الشياطين، فأمر بها فدفنت، فقلت: ألا استخرجتها؟ فقال: أما أنا فقد شفاني الله جل وعلا، وكرهت أن أفتح على الناس باب شر)، فأنزل الله جل وعلا عليه: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:1 - 5] النفاثات هن: السواحر، والعقد: الخيوط التي يعقدنها عندما يردن انعقاد أمر مما يقصدنه من أمور السحر سواءً طلب ذلك منهن أو فعلن ذلك ابتداءً.
وقوله سبحانه: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:2] يدخل فيه السحر والسواحر.
ونزل أيضاً قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [الناس:1 - 6] وذلك أن السحر من الشياطين فيستعاذ منهم، والشيطان إذا استعيذ منه خنس وبطل عمله إذا كان المستعيذ صادقاً موقناً مؤمناً بما قاله الله جل وعلا.
وكذلك الأدعية التي تكون بأسماء الله وصفاته فإنها أيضاً من أنجع ما يكون وأنفعه إذا كان الداعي عنده إيمان وصدق وإخلاص والتجاء إلى الله جل وعلا، فإن كل شيء بيده، فإذا التجأ إليه حله وأزاله، وكذلك العلاجات الطبيعية التي يعالج بها فإنه لا بأس بها.(78/2)
حكم حل السحر بالسحر
حل السحر بالسحر الذي هو مثله اختلف العلماء فيه، فجمهور العلماء يمنعونه ويقولون: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها) وهذا من المحرمات بالاتفاق، فلا يجوز تعاطي ذلك.
وكذلك الذهاب إلى الساحر والطلب منه يكون رضاً بما صنع أو إقراراً له على ما يصنع، وهذا لا يجوز بحال.
وذهب قليل من العلماء إلى جواز ذلك محتجين بأنهم يريدون إصلاح ما أفسد السحرة، وهذا من باب النفع، ولكن هذا لا يكفي، بل الصواب هو: المنع من ذلك.
والنشرة تطلق على الانتشار الذي هو الرقية من السحر، ومن غيره من سائر الأمراض، ومن الجان، وعين الإنسان، ومن ذوات السموم.(78/3)
شروط الرقية
في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا رقية إلا من عين أو حمه) يعني: لا رقية أنفع وأنجح منها في العين والحمه، وإلا فالرقية نافعة من جميع الأمراض بشروط، قال العلماء: إذا اجتمعت هذه الشروط الثلاثة فإن الرقية جائزة: الشرط الأول: أن تكون بأسماء الله وصفاته وآياته القولية من القرآن.
الشرط الثاني: أن تكون من إنسان عربي يعرف معنى الكلام الذي يتكلم به.
الشرط الثالث: أن يعتقد أن ما يحصل بها يكون بإذن الله، وأنها لا تنفع بذاتها ولا بفعل الراقي نفسه، وإنما ذلك يكون بإذن الله وإرادته وأمره.
فإذا كانت الرقية بكلام لا يُعرف أو بحروف مقطعة فإنها محرمة، بل قد تكون كفراً، وقد تكون شركاً، وقد تكون طلسمات كما هو الواقع في كثير من الناس.
فهذه الشروط إذا وجدت في الرقية فإنها جائزة من كل داء ومن كل مرض.
والحمه هي: ذوات الحموم، يعني: ذوات السموم، كالعقرب والحية والزنبور وما أشبه ذلك، فإن الرقية منها من أنفع ما يكون.
وأما العين فهي: عين الحاسد، أي: عين الإنسان إذا حسد غيره وأصابه بأذى بعينه، فإن الرقية تنفع من ذلك، بل هي أنفع من سائر العلاجات، وهي أحسن علاج في هذا، ولكن يجب أن يكون الراقي مؤمناً متقياً، ويكون مخلصاً صادقاً واثقاً بقول الله ووعده.
أما المرقي فلا يشترط فيه ذلك؛ لأنه ثبت في الصحيح عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثهم في سرية، فاستضافوا حياً من أحياء العرب فأبوا أن يضيفوهم، فلدغ سيدهم -سيد هذا الحي- فسألوا له بكل ممكن ولم يجدوا شيئاً، ثم قال بعضهم: لو ذهبتم إلى هؤلاء النفر -كانوا قلة ليسوا كثيراً- لعل عندهم شيئاً من العلاج أو يكون معهم راقٍ.
فجاءوا إليهم فقال أبو سعيد: (نعم أنا أرقي، ولكن أنتم لم تضيفونا، فلن أرقيه إلا بجعل تجعلونه لنا، فاتفقوا على قطيع من الغنم، فصار يقرأ عليه فاتحة الكتاب، فبرئ، وكانت رجله مربوطة بحبلٍ فحل الحبل، فأصبح كأن لم يكن به وجع، فقام في الحال، وكان كافراً، ثم ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم بعدما رجع، فسأله الرسول صلى الله عليه وسلم: (بأي شيء رقيته؟ فقال: بالفاتحة، قال: وما يدريك أنها رقية؟) فالفاتحة من أعظم ما يرقى بها المريض؛ لأنها هي السبع المثاني، وهي أم الكتاب وفاتحته، وهي التي لا تصح الصلاة إلا بها.
عن الحسن البصري رحمه الله أنه قال: أنزل الله جل وعلا مائة كتاب وأربعة كتب، ثم جمع هذه الكتب في أربعة كتب، ثم جمع الأربعة الكتب في المفصل، ثم جمع المفصل في فاتحة الكتاب، وجمع ذلك كله في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5].
أما سائر الأمراض الأخرى فكلها داخلة في قوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ} [الإسراء:82]، وهذا عام لشفاء القلوب وشفاء الجهل وشفاء الأبدان، هذا هو الصواب من أقوال العلماء.
ولكن ليس كل من استشفى بالقرآن فإنه يشفى؛ لأن الاستشفاء يستلزم الصدق والإخلاص واللجوء إلى الله والإيمان به؛ ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من نزل منزلاً فقال: أعوذ بكلمات التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرتحل من مكانه) وكثير من الناس يقول هذا الحديث ومع ذلك تؤذيه المؤذيات ويصاب بالمصائب؛ وذلك لعدم إيمانه وصدقه في قوله، وإلا فكلام الرسول صلى الله عليه وسلم حق، وإذا أخبر بشيء فإنه يقع كما أخبر به صلى الله عليه وسلم.
والنشرة ليست خاصة في السحر، بل عامة في كل مرض، والتنشير هو الرقية، والرقية: فعل الراقي الذي يقرأ وينفث على المريض.
ويجب أن تكون الرقية مشتملة على الشروط الثلاثة التي ذكرناها، فإذا توافرت فإنها جائزة بالاتفاق، ولكن لا يلزم أن تؤدي المطلوب لأسباب كثيرة قد تكون في الراقي أو في المرقي؛ لأن المحل قد لا يكون قابلاً، والراقي قد لا يكون أهلاً لذلك، فيتخلف المقصود، أما إذا كان الراقي أهلاً في هذا فإن الشفاء بإذن الله يحصل قطعاً ما دامت الأسباب موجودة، والموانع مفقودة.(78/4)
حكم من طلب الرقية من غيره
كون الإنسان يرقي نفسه أفضل وأحسن، وهذا لا خلاف فيه؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يرقي نفسه، ويرقي أهله.
أما طلبها من شخص آخر فإن فيه نقصاً، ومن فعل ذلك فإنه لا يكون من السابقين إلى الجنة الذين يدخلونها بغير حساب؛ لما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في حديث ابن عباس المشهور الذي في الصحيحين، وهو عن حصين بن عبد الرحمن قال: كنا جلوساً عند سعيد بن جبير فقال: (أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ فقلت: أنا، ثم قلت: إني لم أكن في صلاة ولكني لدغت، قال: فما صنعت؟ -هنا سعيد الذي هو شيخ حصين يقوله لـ حصين بن عبد الرحمن - قال: فقلت: ارتقيت، قال: ما حملك على ذلك؟) والسلف رضوان الله عليهم ما يفعل أحد منهم شيئاً إلا بدليل، ولا يتركون عملاً يعمل به إلا ويسألون عن مستنده؛ ولهذا قال: (ما حملك على هذا؟ -أي ما الذي حملك على أن ارتقيت؟ - فقال: حديث حدثناه الشعبي، قال: وما حدثكم؟ قال: حدثنا عن بريدة أنه قال: لا رقية إلا من عين أو حمة، عند ذلك قال سعيد رحمه الله: قد أحسن من انتهى إلى ما قد سمع) يعني: أن الذي يأخذ بالدليل هذا فهو عمل جيد وحسن ولكن -استدراكية يعني: أن هناك شيئاً غير هذا- حدثنا ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (عرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهط، ورأيت النبي ومعه الرجل والرجلان، ورأيت النبي وليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه، ولكن انظر إلى الأفق، فنظرت إليهم وقد سدوا الأفق، ثم قيل لي: انظر إلى الأفق الآخر، فنظرت فإذا سواد عظيم -يعني: من الناس- فقيل لي: هذه أمتك، ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب)، ثم نهض صلوات الله وسلامه عليه من مجلسه ودخل بيته، وقعد الصحابة يتساءلون عن السبعين الألف؟ لأن الصحابة رضوان الله عليهم من أحرص الناس على الخير، إذا سمعوا شيئاً من الفضائل بحثوا عنها حتى يعملوها، فهم أفضل الناس بعد الأنبياء، وخير الخلق رضوان الله عليهم، ولهذا اختارهم الله جل وعلا لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، وتربوا على يديه، وتلقوا الإيمان منه، وشاهدوا نزول الوحي وعرفوه، فلا يمكن أن يكون هناك أحد مثلهم في الخلق، والله جل وعلا زكاهم في كتابه وأثنى عليهم، فالذي يطعن فيهم أو يقدح فيهم مكذب لله جل وعلا، وهو ضال مضل، (فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ لأنهم عرفوا أن صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم ليسوا كغيرهم، اختارهم الله لذلك، فهم أفضل الأمة على الإطلاق، وهذا أمر متفق عليه بين أهل العلم الذين لهم معرفة بالوحي خلافاً لأهل الأهواء، فإنه لا عبرة بأقوالهم، وقال قوم: (لعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئاً، وذكروا أشياء، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه: من هم؟) يريدون بسؤالهم هذا حتى يعملوا مثل عملهم فيسبقون إلى الجنة، فقال عليه الصلاة والسلام: (هم الذين لا يتطيرون، ولا يسترقون، ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون)، فقوله: (لا يسترقون) يعني: لا يطلبون من أحد أن يرقيهم.
يقول العلماء: السبب في هذا أن الطلب والسؤال من الناس فيه افتقار القلب والتفاته إلى غير الله، وهذا نوع من الفقر للمخلوق، والمؤمن يجب أن يكون فقره كله إلى الله وحده، أما الخلق فيكون غنياً عنهم جميعاً، ويكون مثلهم مساوياً لهم لا يطلب منهم شيئاً؛ لأن طلب الشيء من الخلق يكون نقصاً في الدين، ويمنع ذلك من السبق إلى الجنة ولو كان طلب الرقية والراقي لا يضره ذلك؛ لأنه سؤال منه، ولهذا كان الرسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع أصحابه في آخر الأمر على ألا يسألوا الناس شيئاً، فكان أحدهم يسقط سوطه وهو راكب على راحلته والناس تحته عند راحلته ولا يقول لواحد منهم: ناولني السوط، بل ينزل عن راحلته ويأخذه بنفسه؛ وفاءً بالبيعة التي بايعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي: ألا يسأل الناس شيئاً.
فمسألة الناس فيها الافتقار، وفيها التفات القلب إلى غير الله، وقد يكون ذلك نوعاً من الشرك الذي يقدح في التوحيد؛ ولهذا السبب حرمت المسألة، كما في صحيح مسلم من حديث قبيصة بن المخارق لما جاء يسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل أصيب بفاقة حتى يقوم ثلاثة من قومه من ذوي الحجا -يعني: العقل- يشهدون أنه أصيب بفاقة -والفاقة: هي الحاجة الشديدة والفقر- فتحل له المسألة حتى يجد قواماً من عيش أو سداداً من عيش.
ورجل أصيب بجائحة اجتاحت ماله -إما حريق أو سيل احتمل ماله، أو ظالم استولى على ماله أو ما أشبه ذلك فأصبح ليس بيده شيء- فتحل له المسألة حتى يجد قواماً من عيش أو سداداً من عيش.
ورجل تحمل حمالة) أي: أنه تحمل ذلك في سبيل الإصلاح، كأن يكون بين شخصين أو جماعتين شجار وقتال فيتحمل مالاً يدفعه لهؤلاء وهؤلاء حتى يصلح بينهم، فمثل هذا يجوز له أن يسأل؛ لأن هذا المال يدفع لإصلاح ذات البين، فلو ترك هذا الأمر من ماله لأوشك أن يحجم الناس عن الإصلاح، فصار من محاسن الشرع أنه أباح للأغنياء المسألة لهذا الغرض فقط؛ لأنه ليس لأنفسهم بل لتسديد هذه الأموال التي تحملوها لأجل الإصلاح، قال: (وما عدا ذلك فالمسألة سحت) أو كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، والسحت: هو الحرام.
وجاء في الحديث: (سائل الناس يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم) عظام فقط، ولهذا جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (المسألة خدوش أو كدوش في وجه صاحبها) يعني: أنها تأكل لحمه وتذهب به ويأتي يوم القيامة وليس في وجهه لحم، هذا هو المعنى الذي منع المسترقي من السبق إلى الجنة من أجله.
قوله: (الذين لا يكتوون ولا يتطيرون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون).
فالإنسان ينبغي له أن يرقي نفسه، إلا إذا عرض عليه أخوه أن يرقيه فلا بأس بذلك، أما أن يطلب منه ويأتي إليه ويقول: ارقني فلا ينبغي ذلك؛ لئلا يكون من الممنوعين من السبق إلى الجنة كما في هذا الحديث.
أما إذا عرض عليه فلا بأس أن يقبل؛ لأن هذا ليس فيه طلب وليس فيه مسألة بل عرض عليه عرضاً.
وقد جاء (أن جبريل عليه السلام جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو مريض فقال: ألا أرقيك؟ فرقاه).
وكذلك ثبت أن السلف كانوا إذا عرضت عليهم الرقية قبلوا ذلك، ولا يدخل هذا في المنع من السبق إلى الجنة، هذا إذا كان الإنسان عنده همة عالية يريد أن يكون من السبعين الألف، أما إذا كان لا يهتم بمثل هذه الأشياء فهذا أمر آخر.(78/5)
حقيقة النشرة ومعناها
قال الشارح رحمه الله تعالى: [قال الحسن: النشرة من السحر، وقد نشرت عنه تنشيراً، ومنه الحديث: (فلعل طباً أصابه)، ثم نشره بـ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] أي: رقاه.
وقال ابن الجوزي: النشرة: حل السحر عن المسحور، ولا يكاد يقدر عليه إلا من يعرف السحر].
وحل السحر لا يعرفه إلا الساحر ولهذا منع منه.
وسبق أن الساحر يكون بسحره مطيعاً للشيطان؛ لأن السحر لا يكون إلا بواسطة الشياطين، يعني: يطيعهم ويعبدهم، فالشيطان لا يطيع الإنسان إلا إذا عبده، وهذا من الاستمتاع الذي ذكر الله جل وعلا أنهم يوم القيامة يقولون: {ربنا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لنا} [الأنعام:128] الاستمتاع: هو أن ينتفع أحدهم بالثاني، الإنسي ينتفع بالشيطان الجني بشيء ينفعه في الدنيا من أخذ مال أو إمراض عدو له أو ما أشبه ذلك، والجني يستمتع من الإنسي بطاعته وعبادته والسجود له وتقديم القرابين له وما أشبه ذلك، وهذا لابد أن يحصل من الساحر.
وهذا الاستمتاع الذي يحصل من بعضهم لبعض من الأمور المحرمة، فحل السحر الذي هو إبطاله عن المسحور يكون من ساحر مثله، ولابد أن يكون شيطان الساحر الذي يحله أقوى من شيطان الساحر الأول الذي وضع السحر فيستولي عليه ويبطل سحره.
أما إذا كان شيطانه ضعيفاً فإنه لا يستطيع أن يحل السحر؛ لأن ذلك الشيطان يغلبه، فالشياطين بعضها أغلب من بعض، هذا هو معنى حل السحر، وبهذا يعلم أنه من المحرمات؛ لأن السحر لا يجوز تعاطيه على أي حال من الأحوال، فهو من الموبقات كما بين الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قرين الشرك، وقرين قتل النفس فقال: (اجتنبوا السبع الموبقات، فلما سئل عنها؟ قال: الشرك بالله، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والسحر) إلى آخر الحديث.
النشرة من عمل الشيطان قال المصنف رحمه الله: [عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن النشرة؟ فقال: (هي من عمل الشيطان) رواه أحمد بسند جيد وأبو داود، وقال: سئل أحمد عنها؟ فقال: ابن مسعود يكره هذا كله].
(هي من عمل الشيطان)؛ لأنها من السحر، وإذا كان الشيء من عمل الشيطان فهو محرم ولا يجوز للمسلم أن يطيع الشيطان أو أن يعمل عملاً يرضيه.
وأما قول أحمد: إن ابن مسعود كان يكره ذلك كله، فهذا من ورع الإمام أحمد رحمه الله، فإنه كان كثيراً إذا سئل عن مسألة يتحاشى أن يقول: هذا حرام، وهذا حلال؛ خوفاً من أن يقع في شيء خلاف الواقع، وقد قال الله جل وعلا: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النحل:116].
فقول الحلال والحرام كان صعباً عند السلف، ولهذا كان يعبر بالعبارات التي تدل على ورعه.
والكراهة في لسان السلف المقصود بها التحريم، كقوله جل وعلا: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء:38] مكروهاً يعني: محرماً.
أما الكراهة التي أطلق عليها المتأخرون: كراهة تنزيهية فهذه لم تكن معروفة عند السلف، بل كانوا إذا قالوا: هذا مكروه، فمعناه عندهم: أنه محرم.
فقوله: ابن مسعود يكره هذا كله، يعني: أنه يرى أن هذا كله محرم، يعني: جميع النشرة التي يكون فيها تعاطي شيء من السحر، فكل هذا يكون محرماً، وابن مسعود من علماء الصحابة وفضلائهم وسابقيهم إلى الإسلام كما هو معلوم.
قال الشارح رحمه الله: [هذا الحديث رواه أحمد، ورواه عنه أبو داود في سننه، والفضل بن زياد في كتاب المسائل، عن عبد الرزاق عن عقيل بن معقل بن منبه، عن عمه وهب بن منبه، عن جابر فذكره.
قال ابن مفلح: إسناد جيد وحسن، وحسن الحافظ إسناده، قوله: (سئل عن النشرة)، الألف واللام في النشرة للعهد أي: النشرة المعهودة التي كان أهل الجاهلية يصنعونها، هي من عمل الشيطان.
قوله: وسئل أحمد عنها؟ فقال: ابن مسعود يكره هذا كله، أراد أحمد رحمه الله: أن ابن مسعود يكره النشرة التي هي من عمل الشيطان، كما يكره تعليق التمائم مطلقاً].(78/6)
قول ابن المسيب في النشرة
قال المصنف رحمه الله: [وفي البخاري عن قتادة: قلت لـ ابن المسيب: رجل به طب أو يؤخذ عن امرأته أيحل عنه أو ينشر؟ قال: لا بأس به إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع فلم ينه عنه].
سعيد بن المسيب رحمه الله من الذين يقولون بجواز حل النشرة، وعلته ما ذكر، وهو قوله: إذا كانوا يريدون به الإصلاح -يعني: إصلاح ما أفسده السحرة- فلا بأس به، أما إذا كان خلاف ذلك فهو محرم، ولكن هذا يفتقر إلى دليل، والأدلة على خلافه، ومنها ما ذكرنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها)، ومن المعلوم الذي لا يشك فيه من يعرف الشرع أو بعض أحكامه أن السحر من المحرمات، ومنها أن الذهاب إلى الساحر والرضا بفعله يعتبر تقريراً له، وتقرير الفاعل على الفعل يجعل المقرر له مشاركاً له في الفعل فيكون مثله، ولهذا أخبرنا ربنا جل وعلا أن الذين يجلسون مع من يستهزئ بآيات الله أنهم مثل المستهزئ، والمستهزئ كافر، وكان يجب عليه إذا جلس مع المستهزئ أن ينكر عليه، وكذلك الموالاة، كون المسلم يكون مع الكافر غير مظهر له العداوة والبغضاء، وإن كان يكره ذلك في نفسه فإنه يكون مثله؛ لهذا يقول جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] أي: فهو منهم.
ويقول جل وعلا: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22].
ويقول جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [الممتحنة:1].
وهناك آيات كثيرة تدل على أن الإنسان يجب عليه أن ينكر فعل المخالف ويبغضه، أما إذا جلس معه وأقره أو ذهب إليه وتركه على ما هو عليه فإنه يكون مثله كما قال جل وعلا: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء:140] يعني: إذا جلس الإنسان مع من يسعى إلى الكفر ويسعى إلى المعاصي ولم ينكر عليه -وإن كان يبغض ذلك ويكرهه في قلبه- فإنه يكون مثله؛ لأن الله ميز المؤمنين من الكافرين، فكيف يجوز أن يذهب إلى الساحر حتى يحل السحر عنه؟! هذا إقرار له، ودين الله لا يقبل التجزئة ولا المداهنة فيه، فالصواب المنع من هذا.
[قوله: عن قتادة هو ابن دعامة بكسر الدال السدوسي ثقة فقيه من أحفظ التابعين قالوا: إنه ولد أكمه، مات سنة بضع عشرة ومائة].
قوله: (ويؤخذ عن امرأته) يعني: أنه يعمل له سحر يمنع به أن يصل إليها، كما يفعله كثير من الناس، يعملون السحر لأجل ذلك، وهذا يعمله من لا خلاق له في الآخرة من الفسقة والظلمة الذين لا يخافون الله ولا يراقبونه، وإنما يريدون أن يوقعوا الضرر بمن يحسدونه على شيء من أمور الدنيا؛ لذلك يرتكب هذا الجرم الذي يذهب بحسناته، وقد يجعله من أهل النار نسأل الله العافية.
أما المؤمن المتقي فإنه يخاف الله ولا يفعل شيئاً من ذلك، إنما يفعله فسقة المسلمين؛ لأنه في الواقع جاهل لا يعرف العاقبة، ولا يعرف ما يئول إليه الأمر، فلو كشف عن سوء فعله لهانه ذلك أشد الهون.
فمن (يؤخذ عن زوجته) ويمنع من قربانها بواسطة السحر؛ فعلاجه يكون بالرقى الشرعية والأدوية المباحة، أما السحر فلا يجوز تعاطيه.
قال الشارح رحمه الله: [قوله: رجل به طِب، بكسر الطاء أي: سحر، يقال: طُب الرجل بالضم إذا سحر، ويقال: كنّوا عن السحر بالطب؛ تفاؤلاً كما يقال للديغ: سليم.
وقال ابن الأنباري: الطب من الأضداد، يقال: لعلاج الداء: طب، والسحر من الداء ويقال له: طب.
قوله: (يؤَخَّذ) بفتح الواو مهموزةً، وتشديد الخاء المعجمة وبعدها ذال معجمة، أي: يحبس عن امرأته ولا يصل إلى جماعها، والأُخذة -بضم الهمزة- الكلام الذي يقوله الساحر.
قوله: (أيُحل) بضم الياء وفتح الحاء مبني للمفعول.
قوله: (أو ينشَّر) بتشديد المعجمة.
قوله: (لا بأس به) يعني: أن النشرة لا بأس بها؛ لأنهم يريدون بها الإصلاح أي: إزالة السحر، ولم ينه عما يراد به الإصلاح، وهذا من ابن المسيب يحمل على نوع من النشرة لا يعلم أنه سحر].
يعني: أن كلام سعيد بن المسيب يحمل على نوع لا يكون من السحر، وهذا تأويل، ولكن الظاهر أنه يقصد به السحر؛ لأنه قال: (أما ما ينفع فلا) يعني: فلا يمنع منه (إنما يريدون به الإصلاح)، فهو ظاهر في أنه يريد السحر، ولكن قال هذا: (إنه يحمل على نوع ليس من السحر) حتى يتفق مع الأدلة ومع قول جمهور العلماء، هذا مقصوده، وعند العلماء قاعدة يسيرون عليها، إذا جاء عن أحد العلماء كلام يخالف الدليل فإنه يحمل على أحسن المحامل، ولا يظن بالعلماء أنهم يخالفون الدليل فهذا منه، فلهذا قال: إنه يحمل على نوع ليس من السحر.(78/7)
معنى قول الحسن: لا يحل السحر إلا ساحر
قال المصنف رحمه الله: [روي عن الحسن أنه قال: لا يحل السحر إلا ساحر].
هذا هو الواقع، لا يستطيع حل السحر إلا ساحر، والحل هو الذي يكون بالسحر، وليس معنى ذلك أن السحر ما يشفى، بل كثيراً ما يشفى بغير السحر؛ بالرقى كما شفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة بالله جل وعلا، وكذلك بالدعاء والالتجاء إلى الله، وكذلك بالعلاج الطبيعي، فإن العلماء ذكروا علاجاً للسحر، ومما ورد: أنه بأخذ سبع ورقات من السدر، فيدقه بين حجرين، ثم يضربه بالماء، ثم يحسو منه ثلاث حسوات يقرأ فيه آية الكرسي ثم يغتسل ببقيته، فإنه يشفى بإذن الله، وهذا شيء قد جرب خصوصاً في الرجل الذي يمنع من زوجته؛ فإنه يشفى بإذن الله سريعاً إذا فعل ذلك.
فهذا نوع من العلاج الطبيعي، والعلاج الطبيعي لا بأس به جائز؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل عن الدواء: (أنتداوى؟ قال: تداووا عباد الله، ولا تداووا بحرام، فإن الله لم ينزل داءً إلا وأنزل له دواء، علمه من علمه، وجهله من جهله إلا داء واحداً وهو الموت) فالناس كلهم يموتون، ولابد من الموت، ولكن الأمراض والأسقام لها علاجات جعلها الله جل وعلا فيما يأكله الإنسان وفي غير ما يأكله، وقد يكتشف ذلك من باب الصدفة كما هو واقع كثير.
قال الشارح رحمه الله: [قوله: وروي عن الحسن أنه قال: لا يحل السحر إلا ساحر هذا الأثر ذكره ابن الجوزي في جامع المسانيد.
والحسن هو ابن أبي الحسن واسمه: يسار بالتحتية والمهملة البصري الأنصاري مولاهم، ثقة فقيه، إمام من خيار التابعين، مات سنة عشر ومائة -رحمه الله- وقد قارب التسعين].(78/8)
أنواع حل السحر عن المسحور
قال المصنف رحمه الله: [قال ابن القيم: النشرة: حل السحر عن المسحور وهي نوعان: أحدهما: يحل بسحر مثله، وهو الذي من عمل الشيطان، وعليه يحمل قول الحسن، فيتقرب الناشر والمنتشر إلى الشيطان بما يحب، فيبطل عمله عن المسحور.
والثاني: النشرة بالرقية والتعوذات والأدوية والدعوات المباحة فهذا جائز].
قوله: (يتقرب الناشر والمنتشر إلى الشيطان بما يحب فيبطل عمله) يعني: أن الشيطان يبطل عمله.
والواقع أن السحر يكون من الإنسان بواسطة الشيطان، والسحر يخفيه الساحر كثيراً كما هو الواقع، والشيطان يطلب شيطاناً آخر، وإذا أراد أن يسحر يذكر اسمه ويمدحه ويثني عليه ويدعوه بأشياء فيها خضوع وذلة واستكانة له، فيدعو هذا الشيطان ثم هذا الشيطان يستخدم شيطاناً آخر أضعف منه ويجعله واسطة بينه وبين المسحور، فيعمل السحر بعدما يتقرب إليه الساحر بالأشياء التي يأمره بها، ولو أن يبقى في بيت مظلم في وقت من الأوقات، وإلا فالغالب أنه يأمره بذبح شاة أو دجاجة أو ما أشبه ذلك، أو قد يأمره بالسجود له، ولا يفعل شيئاً إلا إذا فعل ما يطلب منه، ثم إذا فعل ذلك أمره بعمل السحر، والسحر يكون بأشياء يجمعها من شعر وعظام ونشارة خشب وبرادة حديد وما أشبه ذلك، فينفث فيها، ثم يضعها في شيء من الأشياء ويربطها، وقد يحرص عليها جداً؛ لأنها إذا ظهرت وألقيت بطل سحره، ثم يرسل الشيطان شيطاناً آخر إلى من يراد سحره، فإن كان هذا الذي يراد سحره ممن يكثر من الأوراد والأدعية الشرعية وممن هو على اتصال دائم بالله جل وعلا، فإنه لا يستطيع أن يسحره إلا إذا غفل؛ ولذلك يراقبه حتى يغفل، فعند ذلك يبدأ بسحره، ثم يصير واسطة بينه وبين الساحر والشيطان ويخبره عن الأمور التي تحدث فيه، هذا هو عمل السحرة غالباً، والسحر أنواع كثيرة، فإذا جاء المسحور إلى الساحر أمره الساحر بعمل يرضي شيطانه الذي عمل له السحر كأن يقول له: اذبح ذبيحة وضع بها كذا وكذا، بحيث تكون هذه الذبيحة للشيطان، وهذا كفر بالله جل وعلا، والشيطان يكفيه هذا الفعل؛ لأن الذبح لغير الله ردة ومن الكفر -نسأل الله العافية- فإذا عمل ذلك رضي الشيطان وأبطل عمله، وهذا معنى قوله: (يتقرب الساحر والمسحور إلى الشيطان؛ فيبطل الشيطان عمله)؛ لأن المسحور جاء بشيء يرضي الشيطان، والشيطان يعمل السحر لأجل هذا، فهو يحرص على إضلال الإنسان بأي وسيلة كانت.(78/9)
صفة النشرة الجائزة
قال الشارح رحمه الله: [ومما جاء في صفة النشرة الجائزة ما رواه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ليث بن أبي سليم قال: بلغني أن هؤلاء الآيات شفاء من السحر بإذن الله، تقرأ في إناء فيه ماء، ثم يصب على رأس المسحور، الآية التي في سورة يونس: {فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [يونس:81 - 82]، وقوله: {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:118] إلى آخر الآيات الأربع، وقوله: {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:69].
وقال ابن بطال في (كتاب وهب بن منبه): أن يأخذ سبع ورقات من سدر أخضر، فيدقه بين حجرين، ثم يضربه بالماء ويقرأ فيه آية الكرسي والقواقل، ثم يحسو منه ثلاث حسوات، ثم يغتسل به، يذهب عنه كل ما به، وهو جيد للرجل إذا حبس عن أهله.
قلت: قول العلامة ابن القيم: (والثاني: النشرة بالرقية والتعوذات والدعوات والأدوية المباحة فهذا جائز) يشير رحمه الله إلى مثل هذا، وعليه يحمل كلام من أجاز النشرة من العلماء].
يعني مثل قول: سعيد بن المسيب يحمل على هذا، فهذا كما قلنا: إنه أوّل كلامه حتى يوافق الحق، وهو من باب إحسان الظن بالعلماء.
[والحاصل أن ما كان منه بالسحر فيحرم، وما كان بالقرآن والدعوات والأدوية المباحة فجائز، والله أعلم].(78/10)
مسائل باب ما جاء في النشرة
قال المصنف رحمه الله: [فيه مسائل: الأولى: النهي عن النشرة].
النهي عن النشرة يعني: مطلقاً إذا كانت بسحر، أما إذا كانت بأدعية مثلما قال ابن القيم وبأمور طبيعية فهي جائزة، وليست داخلة في النهي.
[الثانية: الفرق بين المنهي عنه والمرخص فيه مما يزيل الإشكال] يعني: النشرة المنهي عنها ما كان بواسطة الشياطين وبأعمال السحرة، فإن هذا لا يجوز أن يتعاطاه المؤمن، وإذا توكل المؤمن على ربه وترك الأمر المحرم، فإن الله جل وعلا يشفيه، ويعوضه عن ذلك.(78/11)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [79]
لما كانت الطيرة من الشرك المنافي لكمال التوحيد الواجب -لكونها من إلقاء الشيطان وتخويفه ووسوته- ذكرها المصنف في كتاب التوحيد.
وقد كان التطير من عمل أهل الجاهلية والمشركين، حتى أنهم تطيروا برسل الله، وتشاءموا بهم، كما أنهم كانوا يعتقدون في العدوى والهامة والصفر والغول والنوء، عقائد باطلة، تنافي التوكل على الله، وتصادم الإيمان بقضاء الله وقدره.(79/1)
حكم التطير ومعناه
قال المصنف رحمه الله: [باب ما جاء في التطير.
قوله: باب ما جاء في التطير، التطير: هو فعل الإنسان الذي يصدر منه، مستدلاً بما يقع له من فعل الطير، ويلحق به الحيوانات وكلام الناس، وما يشاهد من أفعالهم؛ فإنه إذا تشاءم بهم يكون متطيراً.
وسيأتي أن الطيرة شرك، والشرك من أكبر الذنوب وأعظمها، ولكن شرك الطيرة شرك أصغر، والشرك الأصغر لا يخرج الإنسان من الإسلام، غير أن كثيراً من العلماء يقولون: إنه لا يغفر، بل لابد من أن يعاقب صاحبه؛ لأن الله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فجعل المغفرة لما دون الشرك، وقوله: (أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) يدخل فيه جميع أنواع الشرك: أكبره وأصغره، هذا هو دليل الذين يقولون: إن الشرك -وإن كان صغيراً- لابد أن يعاقب عليه الإنسان، ولا يغفر لصاحبه إلا بالتوبة، فإذا تاب الإنسان -ولو كان شركه شركاً أكبر- فإنه يغفر له، ولكن إذا مات بدون توبة فإنه لا يغفر، وذلك أن الذنوب -ما عدا الشرك- إذا مات الإنسان عليها بدون توبة فإن أمره إلى الله إن شاء غفر الله له بدون عقاب، وإن شاء عاقبه عليها، أما الشرك المذكور في الآية ففي الآية دلالة على أنه لا يغفر لصاحبه، وإذا كان لا يغفر فإنه يعاقب عليه، فعلى هذا يكون الشرك عظيماً وإن كان صغيراً، فيجب أن يجتنب وأن يحذر منه.
وقد تكون الطيرة من الشرك الأكبر؛ وذلك إذا كان المتطير يعتقد أن الطير أو غيره هو الذي يجلب النفع ويدفع الضر.
أما إذا كان يعتقد أن هذا سبب، وأن الله ربط النفع والضر بهذه الأسباب، وأن ذلك لم يكن سوى دليل على وقوع المقبول أو وقوع المحذور، فإن هذا يكون من الشرك الأصغر.(79/2)
حكم التطير بالسوانح والبوارح
قال الشارح رحمه الله: [باب ما جاء في التطير، أي: من النهي عنه والوعيد فيه، مصدر تطير يتطير تطيراً، والطيرة -بكسر الطاء وفتح الياء وقد تسكن-: اسم مصدر من تطير طيرة.
وأصله التطير بالسوانح والبوارح، من الطير والظباء وغيرهما، وكان ذلك يصدهم عن مقاصدهم، فنفاه الشارع وأبطله، وأخبر أنه لا تأثير له في جلب نفع أو دفع ضر].
كثير من العلماء يقولون: إن السانح: هو الذي يأتي عن يمين الإنسان، والبارح: هو الذي يأتي عن شمال الإنسان، وبعضهم يعكس.
والمقصود أنهم إذا خرجوا لحاجتهم فرأوا طائراً على شجرة أو غيرها أطاروه، ونظروا أين يتجه، فإن جاء عن اليمين تفاءلوا ومضوا، وقالوا: هذا يدل على الخير، وإن جاء عن الشمال تشاءموا ورجعوا وقالوا: هذا يدل على الشر، وإن هذا السفر أو هذا المخرج الخروج فيه مصيبة! ومن المعلوم أن الطائر وغيره من الحيوانات ليس عنده شيء من علم الغيب، وليس عنده شيء من النفع والضر، وإنما هذا شيء يلقيه الشيطان في نفوسهم؛ ليهينهم ويذلهم، فلهذا جاء النهي عنه، ثم ألحق بفعل الطير كل ما كان مثل هذا المعنى من فعل الحيوانات، فإذا رأوا مثلاً ثعلباً يتفاءلون ويمضون، وإذا رأوا أرنباً يتشاءمون ويرجعون؛ لأن الأرنب ضعيفة فتكون عرضة لكل سهم ولكل صائد، وبالتالي يكون الخارج عرضةً للألم والعذاب والإصابة فيرجعون، بخلاف الثعلب فإنه ماكر، عنده القدرة على حفظ نفسه -حسب زعمهم- وبالتالي يفرحون به، وهكذا سائر الحيوانات، وقد يكون التشاءم بالإنسان، فترى أحدهم إذا خرج من بيته فلقيه إنسان به عيب: كالأعور أو الأعرج أو الأعمى أو ما أشبه ذلك تشاءم ورجع، وهذا من وسوسة الشيطان، والفعل يكون شركاً.
أما إذا لم يلتفت إلى ذلك -وإن وقع في نفسه شيء- فإنه لا يضره.
فعلى الإنسان إذا رأى شيئاً من هذه الأمور أن يقول: (اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك، ولا حول ولا قوة إلا بك) ويمضي، فإن ذلك لا يضره ولا يلتفت إليه، ولا يكون ممن دخل في الطيرة.
وكانت الطيرة في العرب كثيرة جداً، وهي وهم من الشيطان، وليس فيها شيء مما يعرف به المستقبل أصلاً.
ومن يهتم بالطيرة قد يبتلى من الله جل وعلا؛ لأنه صرف قلبه إلى غير الله جل وعلا، وكلما سمع كلمة صار يفسرها، مثل لو سمع كلمة سفرجل، وهو خارج خلف بائع السفرجل، أو رآه وهو خارج من منزله قال: هذا سفر وأجل أي: أنه سيموت، فيرجع إلى منزله، فتراه كلما سمع كلمة راح يفسرها في نفسه تفسيراً سيئاً، ويلقي الشيطان في قلبه أنه سيصاب بما فسره، بخلاف الذي يعتمد على ربه ويتوكل عليه، ولا يلتفت إلى هذه الأشياء ويمضي، فإنه لا يصيبه أذى.
ومن المعلوم أنه لا يقع شيء إلا بقدر الله وقضائه ومشيئته، فالمؤمن يؤمن بذلك، ويتوكل على الله، ولا يلتفت إلى شيء مما يصنعه الشيطان، ويلقيه في نفوس الكثير من الناس، وإذا علم الله جل وعلا ذلك منه، فإنه لا يضره شيء من هذه الأمور، لا في دينه ولا في بدنه.
قال الشارح رحمه الله: [قال المدائني: سألت رؤبة بن العجاج قلت: ما السانح؟ قال: ما ولاك ميامنه، قلت: فما البارح؟ قال: ما ولاك مياسره.
والذي يجيء من أمامك فهو الناطح والنطيح، والذي يجيء من خلفك فهو القاعد والقعيد.
ولما كانت الطيرة من الشرك المنافي لكمال التوحيد الواجب؛ لكونها من إلقاء الشيطان وتخويفه ووسوسته، ذكرها المصنف رحمه الله تعالى في كتاب التوحيد؛ تحذيراً مما ينافي كمال التوحيد الواجب.(79/3)
تطير الكفار بالرسل منذ القديم
قال المصنف رحمه الله: [وقول الله تعالى: {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:131]].
الآية في سياق قصة الرسل الذين أرسلهم الله جل وعلا ليدعونا إلى عبادته وتوحيده، فمنهم من قال للرسل: إنا تطيرنا بكم، فقالت لهم الرسل: طائركم عند الله، ومعنى: (تطيرنا بكم) يعني: أن الشيء الذي أصابنا من العذاب أو القحط أو المرض أو الفقر أو ما أشبه ذلك فإنه بسببكم وبعد مجيئكم، فقالت لهم رسلهم: (طائركم عند الله)، يعني: ما أصابكم فهو من الله جزاء أفعالكم، أو أن العذاب سيصيبكم إذا رجعتم؛ بسبب شؤمكم، وبسبب ذنوبكم وأفعالكم، هذا معنى الآية.
قال الشارح رحمه الله: (قوله: وقول الله تعالى: {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} [الأعراف:131] الآية)، ذكر تعالى هذه الآية في سياق قوله: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} [الأعراف:131] المعنى: أن آل فرعون كانوا إذا أصابتهم الحسنة أي: الخصب والسعة والعافية -كما فسره مجاهد وغيره- قَالُوا لَنَا هَذِهِ، أي: نحن الجديرون والحقيقون به، ونحن أهله.
وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ، أي: بلاء وقحط، تطيروا بموسى ومن معه، فيقولون: هذا بسبب موسى وأصحابه، أصابنا بشؤمهم.
فقال الله تعالى: {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} [الأعراف:131].
قال ابن عباس: (طَائِرُهُمْ): ما قضى عليهم وقدر لهم، وفي رواية: شؤمهم عند الله ومن قبله، أي: إنما جاءهم الشؤم من قبله، بكفرهم وتكذيبهم بآياته ورسله].
ذكر هذا في قصة موسى، وفي قصة الرسل أيضاً، فإن الكفار قالوا لهم: (تطيرنا بكم)، فهذا يدلنا على أن التطير من سنة كفار العرب وغيرهم فهو قديم، وقد ذكر الله جل وعلا عن الكفار الماضين أنهم يتطيرون برسلهم، وأخبر الله جل وعلا أن هذا من الأوهام التي لا حقيقة لها، وأن الشيء الذي يصيبهم إنما هو جزاء أعمالهم، وإن زعموا أنه بسبب شيء يشاهدونه أو يرونه أو يسمعونه، فهذا ليس بصحيح.
بهذا يتبين أن كل من يفعل شيئاً من ذلك فإن قدوته أولئك المتطيرون وهو من جنسهم.
قال الشارح رحمه الله: [قوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:131] أي: أن أكثرهم جهال لا يدرون، ولو فهموا وعقلوا لعلموا أنه ليس فيما جاء به موسى عليه الصلاة والسلام إلا الخير والبركة والسعادة والفلاح؛ لمن آمن به واتبعه.(79/4)
رد الرسل على من تطير بهم
قال المصنف رحمه الله: [وقوله: {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [يس:19].
المعني -والله أعلم- حظكم وما نابكم من شر معكم؛ بسبب أفعالكم وكفركم ومخالفتكم الناصحين، ليس هو من أجلنا ولا بسببنا، بل ببغيكم وعداوتكم.
فطائر الباغي الظالم معه، فما وقع به من الشرور فهو سببه الجالب له، وذلك بقضاء الله وقدره وحكمته وعدله، كما قال الله تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35 - 36].
ويحتمل أن يكون المعنى: طائركم معكم: أي: راجع عليكم.
فالتطير الذي حصل لكم إنما يعود عليكم، وهذا من باب القصاص في الكلام، ونظيره قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم) ذكره ابن القيم رحمه الله].
قوله: (وعليكم) ليس المقصود أنه رد، ولكن المقصود أن اليهود كانوا إذا سلموا قالوا: السام عليكم، والسام: هو الموت، فهم يدعون بالموت على المسلمين ويسترون كلامهم، لذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم) يعني: أن نقول لهم: وعليكم فتعود الدعوة عليهم، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم: (أنه يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم فينا).
أما إذا سلم اليهود، وقالوا: السلام وعليكم فإنه يرد عليهم، ورد السلام واجب، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا سلموا عليه رد عليهم بقوله: وعليكم.
قال الشارح رحمه الله: [وقوله تعالى: (أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ) أي: من أجل أنّا ذكرنّاكم وأمرناكم بتوحيد الله قابلتمونا بهذا الكلام (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ).
قال قتادة: أئن ذكّرناكم بالله تطيرتم بنا؟! ومناسبة الآيتين للترجمة: أن التطير من عمل أهل الجاهلية والمشركين، وقد ذمهم الله تعالى به ومقتهم.
وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التطير، وأخبر أنه شرك، كما سيأتي في أحاديث الباب].(79/5)
معنى حديث: (لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر ولا نوء ولا غول)
قال المصنف رحمه الله: [عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر) أخرجاه.
زاد مسلم: (ولا نوء ولا غول)].
قوله صلى الله عليه وسلم: (لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر) هذه الأمور الأربعة متفق عليها عند البخاري ومسلم، وزيادة مسلم: (ولا نوء ولا غول) فتكون ستة أمور ورد النهي عنها.(79/6)
معنى قوله: (لا عدوى)
وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا عدوى) له معنيان: أحدهما: أن (لا) نافية، ويقصد ما كان يعتقده أهل الجاهلية: من أن المرض يعدي بطبعه وبنفسه وبقوته، وليس ذلك بقدر الله وإرادته، فيكون المنفي هو ما يعتقده أهل الجاهلية في هذا، وليس المنفي أن مخالطة المريض تكون سبباً لمرض الصحيح، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بزيارة المرضى، ثم إنه ليس كل مرض يعدي هذا معنى نفي العدوى، وهو المعنى الأول.
المعنى الثاني: أن تكون (لا) هذه ناهية، (لا عدوى) يعني: لا يتسبب أحد بإعداء أحد، ويدل على هذا آخر الحديث، ويدل عليه أيضاً الحديث الذي في الصحيح: (لا يورد ممرض على مصح) وفيه أيضاً: (وفر من المجذوم فرارك من الأسد).
وذلك أن مخالطة الصحيح للمريض قد تكون سبباً، والعدوى قد اتفق على وقوعها بين الأطباء، وبين العلماء، وأنها قد تتعدى إلى الصحيح، وجاءت النصوص بهذا، فثبت أنه صلى الله عليه وسلم لما قدم إليه وفد من وفود العرب كان فيهم مجذوم فقال له: (ارجع فقد بايعناك)، والحديث الذي ذكرناه سابقاً: (لا يورد ممرض على مصح)، وكذلك قوله: (وفر من المجذوم فرارك من الأسد) ونحو ذلك من الأحاديث، وهذه كلها تدل على أن المعنى في قوله: (لا عدوى)، المقصود به النهي، يعني: لا يكن أحدكم متسبباً في عدوى غيره، وهذا واضح ظاهر.
أما الإجماع: فإنه ثبت أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه لما ذهب إلى الشام ومعه الصحابة، وفي أثناء الطريق جاءه خبر: أن الطاعون وقع في الشام، فاستشار الصحابة، فقالت طائفة: (خرجت لأمر فامض إليه، وتوكل على الله)، وقالت طائفة أخرى: (معك بقية أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام ووجهاء الناس فلا تقدم بهم على هذا الوباء)، فرجع، فعند ذلك قال له أبو عبيدة: (أفراراً من قدر الله؟ فقال: لو غيرك قالها، نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله، ثم قال له: أرأيت لو كان لك إبل ومررت بواد له جانبان، جانب فيه مرعى، والجانب الآخر مجدب، أيهما ترعى؟ فقال: الذي فيه مرعى، فقال: أفليس ذلك بقدر الله؟ قال: نعم، فقال: كذلك ما فعلنا)، فهذا كلام واضح وإجماع من الصحابة، وقد رجعوا بعد أن سألوا عن ذلك، ورأوا أنه ليس مخالفاً لما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد ثبت عند الأطباء -ثبوتاً لا مجال لإنكاره- أن كثيراً من الأمراض تكون بسبب الجراثيم الصغيرة، وأنها تنتقل من المريض إلى الصحيح، فيحدث المرض بسبب ذلك، والشرع لا يأتي بالشيء الذي يخالف الواقع، بل يكون موافقاً له ودالاً عليه؛ لأنه وحي من عند الله جل وعلا، ويكون هذا المعنى في قوله: (لا عدوى) أرجح من المعنى الأول.(79/7)
معنى قوله: (ولا طيرة)
أما قوله: (ولا طيرة)، ظاهره أنه نهي، وليس المقصود: نفي وجود الطيرة، فالطيرة موجودة في الناس، وكثير من الناس يتطير، وليس المعنى أن الرسول صلى الله عليه وسلم ينفي أن تكون الطيرة موجودة في الخلق، وإنما أراد صلوات الله وسلامه عليه أن ينهى عن التطير، وهذا مما يرجح المعنى الثاني الذي قلناه في قوله: (لا عدوى)، فيكون النسق واحداً، وكلاهما نهي، فيكون معنى (لا طيرة): أي: لا تفعلوا الطيرة فتقعوا في الشرك، فإن الطيرة من الشرك وحد الطيرة -كما سيأتي- ما جاء في الحديث: (الطيرة ما أمضاك أو ردك)، أما أن يقع في نفسك شيء من التطير ثم تمضي ولا تلتفت إليه فليس هذا طيرة، وإنما الطيرة أن تعمل بها، بأن تمضي إذا رأيت أنها تدل على خير، أو تحجم وترجع إذا رأيت أنها تدل على شر.(79/8)
معنى قوله: (ولا هامة)
وقوله: (ولا هامة)، الهامة جاء فيها تفسيران: أحدهما: أن المقصود بالهامة: البومة، الطائر المعروف الذي يكون في الخرابات ويأتي في الليل، وقد يقع على الحيطان أو على البيوت، فكانت العرب تتشاءم به أشد الشؤم، وإذا وقع على بيت أحدهم قالوا: نعى إلينا أنفسنا أو نعى إلينا أحدنا، وأنه سوف يموت واحد منهم؛ فأبطل الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك فقال: (لا هامة) يعني: ما كان يعتقده الكفار بالهامة، وما يعتقده أهل الجاهلية في ذلك لا حقيقة له، فأبطله عليه الصلاة والسلام، وقد يكون من باب النهي عن فعل ما يفعله أولئك؛ لأن شأن المؤمن غير شأن المشرك.
والتفسير الثاني: أن أهل الجاهلية كانوا يعتقدون أو بعضهم: أن الإنسان إذا قتل مظلوماً ووضع في قبره يخرج من هامته طائر، فلا يزال يصيح ويقول: اسقوني اسقوني على قبري، حتى يؤخذ بثأره ويقتل قاتله، أما إذا لم يقتل قاتله، فإنه لا يزال كذلك، هذا شيء كان يعتقده بعض العرب.
فبين الرسول صلى الله عليه وسلم أن هذا لا حقيقة له، والمعنيان كلاهما صحيح، وكلاهما منهي عن اعتقادهما أو فعلهما.(79/9)
معنى قوله: (ولا صفر)
وقوله صلى الله عليه وسلم: (ولا صفر) فيه ثلاثة تفاسير، وكلها صحيح، أحدها: أن كثيراً من أهل الجاهلية يتشاءمون بشهر صفر، ويرون أنه مشئوم، فيتركون الأسفار فيه والأعمال مثل التجول وغيره، ويقولون: هذا شهر مشئوم، من سافر فيه وصنع شيئاً فيه فإنه لا يوفق ولا يتم له، فأبطل الرسول صلى الله عليه وسلم هذه العقيدة.
التفسير الثاني: أن المقصود: النسيء الذي ذكره الله في القرآن عنهم، وهو أنهم كانوا يؤخرون شهر محرم إلى صفر، ويقدمون صفر ويجعلونه بدل محرم في السنة، وفي السنة الثانية يتركونه كما هو، يؤخرونه عاماً ويقدمونه عاماً، ويتركونه على ما هو عليه عاماً.
فبين صلى الله عليه وسلم أن هذا من فعل الجاهلية وأنه باطل، وذلك أن القتال في محرم محرم لا يجوز، وكانوا يعتقدون هذا ولا يقاتلون في شهر محرم، ولكن لما كانت الأشهر الحرم ثلاثة متوالية: ذو القعدة وذو الحجة ومحرم صاروا يقولون: طال علينا الأمد بترك القتال، مما جعلهم يقاتلون في محرم ويحرمون صفر، وهذا من التحريف والتغيير لدين الله جل وعلا.
فبين الرسول صلى الله عليه وسلم أن هذا لا يجوز، والله جل وعلا أخبر أن ذلك زيادة في الكفر، {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة:37] وهذا هو النسيء: ينسئون صفر إلى محرم، ومحرم يؤخرونه ويقدمون بدله صفر، ومرةً أخرى يتركونه على ما هو عليه، هذا هو النسيء.
التفسير الثالث: أن المقصود بصفر: دابة أو حية تكون في صفر، وأنها تعدي أشد من إعداء المجذوم، فهذه العقيدة باطلة لا حقيقة لها.
والصواب أن هذه التفاسير كلها باطلة أبطلها الرسول صلى الله عليه وسلم.(79/10)
معنى قوله: (ولا نوء)
أما قوله: (لا نوء) في زيادة مسلم: النوء واحد الأنواء، وكانوا يعتقدون أن المطر يكون بالأنواء، وأن بعضها محموداً وبعضها منحوساً، بعضها أنواء نحس لا يأتي فيها خير وبعضها محمودة، ولهذا كانوا يسمون بعضها: سعداً أو سعد السعود، أو سعودات، وبعضها يتشاءمون بها أشد التشاؤم كسعد الذابح، فيقولون: هذا نوء غير محمود، يعني: أنه لا يحصل فيه المطر ولا يحصل فيه الخير أو لا يحصل به الخير.
وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم لما كان في الحديبية وقع مطر في الليل، فلما صلى واستقبل المسلمين، قال لهم: (أتدرون ما قال ربكم الليلة؟ قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب)، فالأنواء: هي الكواكب التي هي منازل للقمر، بمعنى أنه كل ليلة يكون موازياً لواحد منها، وسميت: أنواء؛ لأنه كلما طلع واحد غرب واحد مقابله من الغرب، وعددها ثمان وعشرون نوءاً، منازل القمر كل ليلة في واحدة منها، ويرى منها أربعة عشر، كلما غرب واحد خرج مقابله واحد من الشرق، ويكون منها أربعة عشر فوق الأرض تنظر، وأربعة عشر تحتها مغطيةً لها، وهي مدبرة مأمورة تسير بأمر الله تعالى، وقد أخبر جل وعلا أنه قدر القمر منازل؛ وأن ذلك لمعرفة عدد السنين والحساب حكمةً من الله جل وعلا.
وسيأتي أن الكواكب خلقت لأمور ثلاثة -وأن من اعتقد غير ذلك فإنه ضال-: خلقت رجوماً للشياطين، وزينةً للسماء، وعلامات يهتدى بها في ظلمات البر والبحر في المسير.
كما أنها أيضاً علامات على عظمة الرب جل وعلا، وآيات دالة على أنه هو الخالق المتصرف، وأنه هو الذي يجب أن يعبد، ومن اعتقد غير ذلك فهو ضال، فليس عند النجوم تقدير وليس عندها سر من الأسرار، وإنما هي مدبرة مأمورة مطيعة لله جل وعلا، فهذا معنى قوله: (ولا نوء) يعني: أن ما يعتقده أهل الجاهلية من أن المطر ينزل بالأنواء لا حقيقة له وباطل، بل هو من الشرك.(79/11)
معنى قوله: (ولا غول)
أما قوله: (ولا غول) فالغول واحد الغيلان، والغيلان يقولون: هم سحرة الجن؛ لأن الجن فيهم سحرة، وهم يتغولون المسافر يعني: يتراءون للمسافر ليضلوه، وقد يأتونه بنار أو يأتونه بأمور تزعجه وتخيفه، هكذا كانوا يعتقدون، فأخبر صلى الله عليه وسلم أن هذا لا حقيقة له، ولكن جاءت آثار تدل على وجود الغيلان، منها حديث: (إذا تغولت الغيلان فنادوا بالأذان)؛ لأن الأذان يطرد الجن والشياطين؛ ولأنه ذكر لله.
وجاء عن بعض الصحابة أنه قال: كان أحد الصحابة عنده طعام، وكان قد وضعه في مكان، وكانت الغيلان تأخذ منه إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على وجود الغيلان.
أما ما كان يعتقده أهل الجاهلية من أن الغيلان تتسلط على الناس، وتضلهم في أسفارهم، فهذه عقيدةٌ باطلة، ولا حقيقة لها.
وليس المعنى نفي وجود الغيلان، ولكن المعنى أنهم لا يستطيعون أن يضلوا أحداً إلا من تولى الشيطان، فإن هذا قد تضله الجن والشياطين، وقد تلابسه، وقد تؤذيه، وقد تقتله.
أما المؤمن الذاكر فإنه يتحصن بذكر الله، فلا يصيبه شيء من أذاهم، فيكون المعنى المراد: أنه لا حقيقة لما يعتقده أهل الجاهلية من أن الغيلان تضل المسافرين وتتراءى لهم، وإنما ذلك يكون بالكفار جزاءً لأعمالهم وكفرهم.
أما المؤمن الذي يؤمن بالله فإنه لا يصيبه ذلك الغول؛ لأنه يتحرز بذكر الله وبالإيمان، والله لم يجعل للشيطان على المؤمنين سلطاناً.(79/12)
الجمع بين حديث: (لا عدوى) وحديث: (لا يورد ممرض على مصح)
قال الشارح رحمه الله: [قال أبو السعادات: العدوى: اسم من الإعداء.
كالرعوى.
يقال: أعداه الداء، يعديه إعداءً: إذا أصابه مثل ما بصاحب الداء، وقال غيره: لا عدوى، اسم من الإعداء وهو مجاوزة العلة من صاحبها إلى غيره، والمنفي نفس سراية العلة، أو إضافتها إلى العلة، والأول هو الظاهر].
الأول ليس هو الظاهر؛ لأن سراية العلة إلى الصحيح هذا أمر متفق عليه اليوم وقد ظهر، وكذلك معروف أن وجود الصحيح بين المرضى قد يكون سبباً لتعدي المرض إليه.
والرسول صلى الله عليه وسلم لا يقول شيئاً يخالف الواقع، فيكون المعنى الظاهر للحديث هو النهي، ودل على هذا المعنى النصوص الأخرى، كما دل عليه الواقع الذي اتفق عليه بين الأطباء، وبين من اطلع على ذلك.
قال الشارح رحمه الله: [وفي راوية لـ مسلم: أن أبا هريرة رضي الله عنه كان يحدث بحديث: (لا عدوى)، ويحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يورد ممرض على مصح) ثم إن أبا هريرة اقتصر على حديث: (لا يورد ممرض على مصح) وأمسك عن حديث: (لا عدوى) فراجعوه، وقالوا: سمعناك تحدث به، فأبى أن يعترف به.
قال أبو سلمة -الراوي عن أبي هريرة: - فلا أدري أنسي أبو هريرة أو نسخ أحد القولين الآخر؟] النسخ لا يكون بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن المعنى: أن أبا هريرة علم أن الأخير قد نسخ الأول فترك التحديث به، علم ذلك في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن ظاهر هذين الحديثين التعارض، وكلا الحديثين في الصحيح، حديث: (لا عدوى)، وحديث: (لا يورد ممرض على مصح) فكلاهما ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أنه إذا أمكن الجمع بين الحديثين فإنه لا يصار إلى النسخ، وقد بينا الجمع بينهما، وأنه لا معارضة بينهما، فإذا قيل: إن معنى قوله: (لا عدوى) النهي، يعني: لا يكون أحدكم سبباً لإعداء أخيه، سواءً بنفسه أو بفعله أو بغير ذلك، فإنه يكون على هذا متفق مع الحديث الآخر،: (لا يورد ممرض على مصح) وليس بينهما أية معارضة، بل كل واحد يصدق الآخر ويوافقه، وهذا أولى من أن يقال: إن هذا الأخير ناسخ للأول.
أما كون أبي هريرة رضي الله عنه أنكر أنه حدث بهذا، فهذا لأنه نسي، وهذا نادر جداً، بل لم يأت أن أبا هريرة نسي شيئاً إلا هذا، فإنه كان من الحفاظ، وبدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم له بالحفظ، وقد حفظ ما لم يحفظه غيره من الصحابة، وكثرت الأحاديث عنه، ومن أجل ذلك أغاظ كثيراً من أعداء الإسلام فصاروا يقدحون فيه، ومعلوم أن صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم عدول، عدلهم الله جل وعلا فقال: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [التوبة:100]، فأخبر الله جل وعلا أنه رضي عنهم، وأنهم راضون عنه، فدل هذا على أنهم خير الناس بعد الأنبياء؛ لأنه أخبر أنه أعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار، وإذا أخبر الله جل وعلا عن أحد من الخلق أنه قد رضي عنه فلا يمكن أنه يكفر أو يرتد؛ لأن الله علام الغيوب، يعلم ما سيكون، فهو يعلم أنهم سيستمرون على ذلك إلى أن يلقوا ربهم.
وهكذا في الآيات الأخرى قوله جل وعلا: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح:29] إلى آخر الآية، ولهذا اتفق أهل السنة على أنهم عدول بتعديل الله لهم، وتعديل رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد جاء تحذير الرسول صلى الله عليه وسلم عن الوقوع فيهم، فقال: (الله الله، لا تتخذوا أصحابي غرضاً، فإن من أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم)، وفي الحديث الصحيح أنه قال صلى الله عليه وسلم: (دعو لي أصحابي، فوالله لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه) يعني: لو أنفق مثل أحد ذهباً -لو أمكن هذا- لم يبلغ المد الذي أنفقه أحدهم في سبيل الله ولا نصف المد، وذلك أن الله اختارهم لرسوله صلى الله عليه وسلم، فسعدوا بصحبته، وبتلقي العلم والإيمان من الرسول صلى الله عليه وسلم، وبمجالسته وامتثال أمره، والقتال بين يديه، وغير ذلك مما فضلهم الله جل وعلا به.(79/13)
الجمع بين أحاديث نفي العدوى وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالفرار من المجذوم
يقول الشارح رحمه الله: [وقد روى حديث: (لا عدوى) جماعة من الصحابة: أنس بن مالك، وجابر بن عبد الله، والسائب بن يزيد، وابن عمر رضي الله عنهم وغيرهم، وفي بعض روايات هذا الحديث: (وفرّ من المجذوم كما تفر من الأسد)، وقد اختلف العلماء في ذلك، وأحسن ما قيل فيه: قول البيهقي وتبعه ابن الصلاح وابن القيم وابن رجب وابن مفلح وغيرهم، أن قوله: (لا عدوى) على الوجه الذي يعتقده أهل الجاهلية، من إضافة الفعل إلى غير الله تعالى، وأن هذه الأمور تعدي بطبعها، وإلا فقد يجعل الله بمشيئته مخالطة الصحيح من به شيء من الأمراض سبباً لحدوث ذلك، ولهذا قال: (وفر من المجذوم كما تفر من الأسد)].
هذا قبل أن يعلم أن كثيراً من الأمراض بسبب الجراثيم، وأن الجراثيم تنتقل من المريض إلى الصحيح، أما إذا علم ذلك فيتبين مراد الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه لا يخالف الواقع.
قال الشارح رحمه الله: [وقال (لا يورد ممرض على مصح)، وقال في الطاعون: (من سمع به في أرض فلا يقدم عليه)، وكل ذلك بتقدير الله تعالى.
ولـ أحمد والترمذي عن ابن مسعود مرفوعاً (لا يعدي شيء شيئاً -قالها ثلاثاً- فقال أعرابي: يا رسول الله! إن النقبة من الجرب تكون بمشفر البعير أو بذنبه في الإبل العظيمة فتجرب كلها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فمن أجرب الأول؟ لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر، خلق الله كل نفس وكتب حياتها ومصائبها ورزقها)].
وهذا معناه أيضاً لا يخالف ما سبق، فالإنسان قد يكون سبباً لمرض غيره، وإذا كان سبباً فليس معنى ذلك أنه هو الذي يفعل هذا، فالأسباب كتبها الله جل وعلا، وقد أمر الإنسان أن يفعل السبب الذي يتوقع فيه الخير، ويجتنب السبب الذي يتوقع منه الأذى والشر، وإن أصيب بشيء من ذلك فيؤمن بأن هذا بقدر الله وقضائه، وأنه لا مفر له من ذلك، وإلا لو كان على ظاهر ما يقال -وهو أن المراد به النفي- فإن فعل الصحابة من رجوعهم من بلاد الشام يكون مخالفاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم، بل هم أحرى الناس وأولى الناس في فهم ما قاله، وهم الذين يمتثلون قوله أكثر من غيرهما، ثم قول الرسول صلى الله عليه وسلم لا يخالف الواقع؛ لأنه وحي من الله.
قال الشارح رحمه الله: [فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن ذلك كله بقضاء الله وقدره، والعبد مأمور باتقاء أسباب الشر إذا كان في عافية، فكما أنه يؤمر أن لا يلقي نفسه في الماء وفي النار، مما جرت العادة أنه يهلك أو يضر، فكذلك اجتناب مقاربة المريض كالمجذوم، والقدوم على بلد الطاعون؛ فإن هذه كلها أسباب للمرض والتلف، فالله سبحانه هو خالق الأسباب ومسبباتها، لا خالق غيره ولا مقدر غيره.
وأما إذا قوي التوكل على الله، والإيمان بقضاء الله وقدره -فقويت النفس على مباشرة بعض هذه الأسباب اعتماداً على الله، ورجاءً منه أن لا يحصل به ضرر- ففي هذه الحال تجوز مباشرة ذلك، لاسيما إذا كانت مصلحة عامة أو خاصة].
وهذا الكلام أيضاً فيه نظر؛ لأنه وإن قويت نفس الإنسان وقوي توكله فإنه غير مأمور بأن يلقي نفسه في الضرر، ولا يجوز، إلا إذا كان هناك مصلحة للإسلام والمسلمين ظاهرة، مثل ما يروى أن خالد بن الوليد احتسى سماً، لما قيل له في حصن حاصره: لن ننزل إلا أن تأكل هذا السم، فأخذه بكفه وقال: باسم الله توكلاً على الله وثقة به، فأكله، فأصابه عرق ولم يضره، وهذا لأنه لمصلحة الإسلام، فبين لهم أن هذه آية من آيات الله جل وعلا، وكذلك حدث لـ سعد بن أبي وقاص ومن معه عندما مشى على البحر بالخيل، وأصبحت تمشي كأنها تمشي على الرمال، وذلك أنهم وثقوا بالله وتوكلوا عليه، وقالوا: نحن في سبيل الله، وعباد الله، ولن يضيعنا ربنا، فمثل هذا فيه مصلحة عامة ظاهرة، ويجعلها الله جل وعلا آية، أما أن يلقي الإنسان يلقي بنفسه في المهالك بدون معنى ولا جدوى فهذا لا يجوز.
قال الشارح رحمه الله: [وعلى هذا يحمل الحديث الذي رواه أبي داود والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم (أخذ بيد مجذوم فأدخلها معه في القصعة، ثم قال: كل باسم الله، ثقة بالله، وتوكلاً عليه)، وقد أخذ به الإمام أحمد، وروي ذلك عن عمر وابنه وسلمان رضي الله عنهم].
لا يلزم أن تكون مخالطة المريض على كل حال تعدي هذا شيء، ثم إن المقصود بالنفي: هو المبالغة في المخالطة، لا كما يعتقده، كثير من الناس من أنه لا ينبغي أن يقرب المريض، ولا أن ينظر إليه، حتى إن بعض العلماء أصيب بشيء من الوسوسة في هذا، وكان لا يعود المريض! فلما قيل له: إن هذا جاء في الشرع! فكيف لا تعود المريض؟! قال: ينبغي أن تكون عيادته من بعيد، وأن يكون الكلام والسلام بالإشارة، لا يكون قريباً منه، إن قربانه والإتيان إليه يكون سبباً للعدوى بالمرض، وهذا إسراف في الواقع، والمنهي المخالطة: كأن يأخذ ثيابه، أو يجلس في لحافه، أو ما أشبه ذلك من الأمور التي هي معروفة أنها تكون من الأسباب المعدية، فهذا هو الذي لا ينبغي، والوسط هو المطلوب، والرسول صلى الله عليه وسلم عندما قال هذا القول، هو الذي قال القول الآخر، فلا تكون متضاربة ومتخالفة.(79/14)
توكل الصحابة والتابعين وثقتهم بالله
قال الشارح رحمه الله: [ونظير ذلك ما روي عن خالد بن الوليد رضي الله عنه أنه أكل السم، ومنه مشي سعد بن أبي وقاص وأبي مسلم الخولاني رضي الله عنهم على متن البحر، قاله ابن رجب رحمه الله].
أما مشي سعد بن أبي وقاص فكان في نهر دجلة، وذلك لما كان في قتال القادسية، فإنه لما وصل إلى المدائن فر الفرس وعبروا النهر، ثم كسروا الجسور، ولم يبق جسر يعبر عليه المسلمون، فبقوا أياماً على ضفة النهر، وأولئك على الضفة الأخرى، فقال لهم سعد: إنه وقع في نفسي شيء سأقوله لكم، ولا أدري هل ستوافقونني عليه أم لا؟ قالوا: ما هو؟ قال: وقع في نفسي أننا نخوض هذا النهر، فقالوا: تقدم ونحن معك، نحن في سبيل الله، ونحن عباد الله، ولن يضيعنا ربنا، فركب فرسه وقال: اتبعوني، فركب فرسه، وقال: باسم الله، ودخل النهر في غرق، ثم تبعوه، فصارت الخيل تمشي من فوق الماء كأنها تمشي على الرمال، فلما رآهم الفرس صاروا يصيحون: مجانين! مجانين! ليسوا مجانين، وإنما هم وثقوا بالله جل وعلا، فأعطاهم ما رجوا.
وأما أبو مسلم الخولاني فليس صحابياً وإنما هو تابعي، وهو الذي قال له الأسود العنسي: أتشهد أني رسول الله؟ قال: لا أسمع، قال: أتشهد أن محمد رسول الله؟ قال: نعم.
فألقاه في النار فلم تضره، ثم جاء إلى المدينة فاستقبله عمر، وقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى رأيت في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من فعل به كما فعل بإبراهيم، وكانت النار عليه سلاماً وبرداً كما كانت على إبراهيم.
وسار مرة وهو في الجهاد مع فريق، واعترضهم البحر، فقال: اتبعوني، فتبعوه، فصاروا يمشون على متن البحر، حتى قطعوه على خيولهم، فلما وصل إلى البر وقف وقال: هل فيكم أحد فقد شيئاً، فأدعو الله أن يأتي به، فقال رجل: أنا فقدت قعباً لي كنت أتوضأ به -وكان العقب خلف راحلته- فالتفت وإذا هو قد تعلق بناقته، وهذه قصة مشهورة، وليس معنى ذلك أن الإنسان يلقي بنفسه ويقول: أثق بالله وأتوكل عليه! لا إذا كان الإنسان عنده ثقة بالله تامة، وفي نصرة الله، وخدمة دينه وإظهاره، فتكون هذه آية من آيات الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي من كرامات من وقعت على يده.(79/15)
الطيرة المنفية في الحديث
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (ولا طيرة)، قال ابن القيم: يحتمل أن يكون نفياً أو نهياً، أي: لا تطيروا، ولكن قوله في الحديث: (ولا عدوى، ولا صفر، ولا هامة) يدل على أن المراد النفي، وإبطال هذه الأمور التي كانت الجاهلية تعانيها، والنفي في هذا أبلغ من النهي؛ لأن النفي يدل على بطلان ذلك وعدم تأثيره، والنهي إنما يدل على المنع منه].
النفي، أي: نفي الشيء الذي يعتقده الكفار، وليس نفي وجود الطيرة أو ما ذكر معها، فإن هذا موجود ولا ينفى، وإنما ينتفي الشيء الذي يترتب عليها كما هي عقيدة أهل الجاهلية فيها، والنهي موجه لمن يمتثل أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن لا يفعل شيئاً من ذلك، وإذا جاء النهي فمعنى ذلك أنه باطل، وهو يشمل أيضاً النفي، وإن كان النفي في مثل هذا أبلغ.
قال الشارح رحمه الله: [وفي صحيح مسلم عن معاوية بن الحكم أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (ومنا أناس يتطيرون، قال: ذلك شيء يجده أحدكم في نفسه فلا يصدنكم)، فأخبر أن تأذيه وتشاؤمه بالطير إنما هو في نفسه وعقيدته، لا في المتطير به].
ولكن قد يبتلى الإنسان إذا استرسل مع ذلك، أو تحراه ونظر إليه، فيصاب بالشيء الذي يتخيله أو يتوقعه جزاءً له؛ لأنه مال إلى وهم الشيطان وتخييله وتزيينه، ولو كان توكل على ربه جل وعلا وعلم أنه لا يقع شيء إلا بإذنه تعالى، وأن الطيور والبهائم والدواب وأصوات الناس ومناظيرهم وأحوالهم لا تغير شيئاً، ولا توجد نفعاً ولا ضراً، إذا علم الإنسان ذلك وتوكل على ربه لن يضره شيء إلا بإذن ربه جل وعلا، فالواقع أنه لا حقيقة له، وإنما يزينه الشيطان ويخوف به من ينظر إلى ذلك، فالمقصود أنه قد يبتلى الإنسان، إما فتنة له؛ لينظر هل يميل إلى ذلك ويصدقه، أم أنه سيعرض عنه نهائياً، ويعلم أن هذا شيء وقع بقدر الله، فوافق ذلك الشيء موافقة فقط، وأن ذلك الشيء -أعني فعل الطير، أو الكلام الذي يسمعه، أو الشيء الذي ينظره- لا صلة له بتقدير الله جل وعلا، ولا ما يصيب الإنسان من خير أو شر.(79/16)
قطع النبي صلى الله عليه وسلم لعلائق الشرك والتشبه بأهل الجاهلية
قال الشارح رحمه الله: [فأخبر أن تأذيه وتشاؤمه بالطيرة إنما هو في نفسه وعقيدته لا في المتطير به، فوهمه وخوفه وإشراكه هو الذي يطيره ويصده، لاما رآه وسمعه.
فأوضح صلى الله عليه وسلم لأمته الأمر، وبين لهم فساد الطيرة؛ ليعلموا أن الله سبحانه لم يجعل لهم عليها علامة، ولا فيها دلالة، ولا نصبها سبباً لما يخافونه ويحذرونه، ولتطمئن قلوبهم، وتسكن نفوسهم إلى وحدانيته تعالى التي أرسل بها رسله، وأنزل بها كتبه، وخلق لأجلها السماوات والأرض، وعمر الدارين الجنة والنار بسبب التوحيد، فقطع صلى الله عليه وسلم علق الشرك من قلوبهم؛ لئلا يبقى فيها علقة منها، ولا يتلبسوا بعمل من أعمال أهل النار ألبتة].
والوحدانية هنا كالربوبية، والله جل وعلا هو رب كل شيء وخالقه، والمتصرف فيه، ولا أحد من الخلق يؤثر في شيء من الوجود إلا إذا جعله جل وعلا سبباً في ذلك، والله جل وعلا لم يجعل أفعال الطيور وأصواتها، وأفعال البهائم، أو أصوات الناس أو ما أشبه ذلك سبباً لجلب الخير أو جلب الشر، وقد أخبر أن الأمور كلها بيده جل وعلا، فيجب أن يوحد الإنسان ربه في هذا، ويعلم أنه هو المتوحد في التصرف والتدبير والخلق والتقدير والمشيئة، لا يقع شيء إلا بمشيئته وتدبيره، وبعد إذنه وعلمه.
ثم بعد ذلك يأتي توحيد العبادة، في أن يتجه إلى الله جل وعلا بالعبادة، ولهذا صار توحيد الربوبية دليلاً على وجوب توحيد الإلهية؛ لأنه هو المطلوب أولاً، ثم توحيد الإلهية ثانياً، وإن كان توحيد الإلهية يتضمن توحيد الربوبية، إلا أن توحيد الربوبية مستلزم توحيد الإلهية، فإذا عرفت أن الله ربك ورب كل شيء، وأنه هو الذي بيده الخير والشر، وجب عليك أن تعبده وحده، وهذا معنى التضمن، فلهذا أخبر الله جل وعلا كتابه أن الناس -بعد أن أقام عليهم الحجج- يقرون بتوحيد الربوبية في الجملة، ولكنهم يناقضون ذلك عندما يتطيرون مثلاً، أو يجعلون وساطة بينهم وبين الله في الدعوة والتوجه والتوسل وما أشبه ذلك، فيكون هذا منافياً لتوحيد الربوبية، كما قال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21]، وكلهم مقرون بأن الله هو خالقهم، وخالق من قبلهم، ومن بعدهم، ليس معه خالق آخر تعالى وتقدس.
ثم قال: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22]، يعني: يعلمون أن الله جل وعلا هو الذي مهد الأرض، وجعلها على هذا الوضع، وهم عليها مستقرون، ويستطيعون الانتفاع بها، والمشي على ظهرها والحرث، والسماء فوقهم ينظرون إليها ويرون عظمها، فما من مخلوق من بني آدم يعتقد أن أحداً شارك الله جل وعلا في وضع الأرض، أو في بناء السماء، كما أنه لا يوجد أحد يعتقد أن شيئاً من المخلوقات أنزل المطر من السماء، وأنبت النبات الذي يأكله الناس والأنعام، ولهذا قال: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22]، يعني: أنتم تعلمون أنه هو المتفرد فيما ذكر، فكيف إذاً تعبدون معه غيره؟ والعبادة التي تصدر منهم في مثل هذا هي أنهم يجعلون الأشجار والأحجار أو الملائكة أو الأولياء أو الجن وسائط يتوسلون بهم إلى الله، يقولون: ندعوهم، ثم هم يشفعون لنا عند الله، ويتوسطون لنا؛ فمنهم من ليس عليه ذنوب، ومنهم صالحون مقربون عند الله، هذا هو شركهم.
فما فيهم أحد يعتقد أن الشجر يدبر مع الله، أو يتصرف مع الله، بل ما فيهم أحد يعتقد أن الملائكة تدبر مع الله، وتتصرف مع الله تعالى الله وتقدس! فالإنسان يجب عليه أن يعرف الشيء الذي خاطب الله جل وعلا به عباده في كتابه، ويعرف الوضع الذي كان عليه المشركون، حتى يستفيد من ذلك، بأن يجتنب ما كانوا يفعلونه.(79/17)
ما يحمل عليه حديث: (الشؤم في ثلاثة)
قال الشارح رحمه الله: [فمن استمسك بعروة التوحيد الوثقى، واعتصم بحبله المتين، وتوكل على الله، قطع هاجس الطيرة من قبل استقرارها، وبادر خواطرها من قبل استمكانها، قال: عكرمة كنا جلوساً عند ابن عباس فمر طائر يصيح، فقال رجل من القوم: خير خير، فقال: ابن عباس رضي الله عنه: لا خير ولا شر، فبادره بالإنكار عليه؛ لئلا يعتقد تأثيره في الخير والشر، وخرج طاوس مع صاحب له في سفر، فصاح غراب، فقال الرجل: خير، فقال طاوس: وأي خير عند هذا؟ لا تصحبني انتهى ملخصاً.
وقد جاءت أحاديث ظن بعض الناس أنها تدل على جواز الطيرة، كقوله صلى الله عليه وسلم: (الشؤم في ثلاث: في المرأة، والدابة، والدار) ونحو هذا، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: إخباره صلى الله عليه وسلم في الشؤم في هذه الثلاثة ليس فيها إثبات الطيرة التي نفاها الله سبحانه، وإنما غايته أن الله سبحانه قد يخلق منها أعياناً مشئومة على من قاربها وساكنها، وأعياناً مباركة لا يلحق من قاربها منها شؤم ولا شر، وهذا كما يعطي سبحانه الوالدين ولداً مباركاً يريان الخير على وجهه، ويعطي غيرهما ولداً مشئوماً يريان الشر على وجهه، وكذلك ما يعطاه العبد من ولاية أو غيرها فكذلك الدار والمرأة والفرس].
قوله: (إن يكن الشؤم في شيء ففي ثلاث) (إن) هنا شرطية، يجوز وقوع الشرط ويجوز عدمه، والمقصود بالشؤم: الأخلاق التي تصدر ممن يتشاءم بأخلاقه وأفعاله، وليس أن هناك أموراً مقدرة في الغائب تقع على هذا في مصاحبته أو مقارنته له، وهذه الأمور الثلاثة غالباً ما تلازم الإنسان: فالمرأة قد تطول صحبتها مع الإنسان، وكذلك الدار، وكذلك الفرس؛ والفرس عند العرب كالولد، فإذا اشترى العربي فرساً فإنه يعتنى بها ويخدمها؛ لأنهم يرون أن بها عزهم ومنعتهم من الأعداء، فلهذا يقدمونها على الأولاد في الإكرام والطعام، ويعتنون بها كثيراً، بخلاف غيرها من الدواب، فإنها سرعان ما تستبدل أو تذهب عند أي مناسبة.
فلما كانت هذه الأشياء تكثر ملازمتها للإنسان، ويصعب مفارقته إياها، فالمرأة قد تكون حسنة الأخلاق مطيعة، وتنظر الشيء الذي يلائم زوجها فتفعله، فيكون فيها سعادة له وبركة، وقد تكون بالعكس، فإذا كانت بعكس ذلك صار ذلك شؤماً عليه من جراء أخلاقها، وليس من الأمور المستقبلة، والدار كذلك قد تكون مثلاً ضيقة، وقد يكون فيها أو حولها ما يتأذى به، وهو يصعب عليه استبدال تلك الدار بدار بأخرى، فيقع عليه الشؤم، ولكن إذا وقع شيء من ذلك للإنسان فينبغي أن يستبدل به غيره، فيفارق المرأة، ويفارق الفرس بفرس غيرها، ويفارق كذلك الدار إلى دار أخرى ترتاح فيها نفسه، هذا هو المعنى المقصود من قوله: (إن كان الشؤم في شيء).
قال الشارح رحمه الله: [والله سبحانه خالق الخير والشر، والسعود والنحوس، فيخلق بعض هذه الأعيان سعوداً مباركة، ويقضي بسعادة من قاربها، وحصول اليُمن والبركة له، ويخلق بعضها نحوساً يتنحس بها من قاربها.
وكل ذلك بقضائه وقدره، كما خلق سائر الأسباب وربطها بمسبباتها المتضادة والمختلفة، كما خلق المسك وغيره من الأرواح الطيبة، ولذذ بها من قاربها من الناس، وخلق ضدها وجعلها سبباً لألم من قاربها من الناس.
والفرق بين هذين النوعين مدرك بالحس، فكذلك في الديار والنساء والخيل، فهذا لون والطيرة الشركية لون.
انتهى].
إذا اعتقد أن عيناً من الأعيان تكون منحوسة أو مسعدة، فهذا هو الذي جاء النهي عنه، لأن المقصود في الحديث إنما هو ذلك الشيء الذي تعمله هذه العين: أخلاقها وأعمالها، فإنها قد تكون شراً، وكإنسان مطبوع على الشر، وعلى كراهية الخير، وأعماله سيئة، فمفارقة مثل هذا راحة ومقاربته شؤم، وقد يكون بخلاف ذلك، فيكون كل من قاربه أو صاحبه مرتاحاً معه، بل يكون معاوناً له على الخير، أما الدار فليس لها أخلاق، ولكن قد يصاب الإنسان فيها بمصائب، فيجد نفسه يكره هذا المكان فله أن يفارقه لأن النفس جبلت على أن تنفر من المكان الذي أصيبت فيه بمصيبة، أما المكان فليس له تأثيراً بداً، هذا هو المقصود، أما أن يعتقد أن هناك مخلوق منحوس ومخلوق سعود، فهذا ليس بصحيح، والصحيح أن أخلاقه وأعماله هي التي تكون نحساً أو سعداً.(79/18)
حقيقة التشاؤم بصفر ومعناه
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (ولا هامة) بتخفيف الميم على الصحيح، قال الفراء: الهامة: طير من طيور الليل، كأنه يعني البومة.
قال ابن الأعرابي: كانوا يتشاءمون بها إذا وقعت على بيت أحدهم، يقول: نعت إلي نفسي أو أحداً من أهل داري، فجاء الحديث بنفي ذلك وإبطاله.
قوله: (ولا صفر) بفتح الفاء، روى أبو عبيدة في غريب الحديث عن رؤبة أنه قال: هي حية تكون في البطن تصيب الماشية والناس، وهي أعدى من الجرب عند العرب، وعلى هذا: فالمراد بنفيه ما كانوا يعتقدونه من العدوى، وممن قال بهذا سفيان بن عيينة والإمام أحمد والبخاري وابن جرير.
وقال آخرون: المراد به شهر صفر، والنفي لما كان أهل الجاهلية يفعلونه في النسيء، وكانوا يحلون المحرم ويحرمون صفر مكانه، وهو قول مالك.
وروى أبو داود عن محمد بن راشد عن من سمعه يقول: إن أهل الجاهلية يتشاءمون بصفر، ويقولون: إنه شهر مشئوم، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك].
وهذا معنى ثالث من معاني قوله (ولا صفر)، أي: أنهم كانوا يتشاءمون فيه، فلا يسافرون فيه، ولا يتزوجون فيه، ولا يبنون فيه، فأبطل الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك.
ومعلوم أن التشاؤم بالشهور أو بالأيام من فعل الجاهلية، فالشهور والأيام خلقها الله جل وعلا مطيعة وتقع فيها الحوادث التي تكون من الخلق كالطاعات والمعاصي، وإلا فهي ليس لها تصرف في شيء ولا لها إسعاد أو إنحاس، وكثير من الناس ما زال على ما كانت عليه الجاهلية، فتجد بعضهم يتشاءم بيوم الأربعاء، وبعضهم يتشاءم ببعض الشهور، ويتزوج في ليلة معينة؛ لأنه يرى أنها خير من غيرها، وهذا كله من العقائد الفاسدة، فالإنسان ليس له إلا ما قدر له، ولا يجزى إلا بعمله الذي عمله، فإن عمل الخير فله الخير في وإلا أي وقت كان، وفي أي يوم كان، وفي أي شهر كان، فلا شهر يكون فيه خير من شهر إلا بالأعمال التي تقع فيها، ما وقع من تفضيل الله لبعض الشهور والأيام على بعض فيكون العمل في تلك الشهور أو الأيام أفضل من العمل في غيرها: كرمضان مثلاً وأيام الحج وليلة القدر قال تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:3] يعني: العمل فيها أفضل من عمل ألف شهر، فهذا إلى الله، أما أن يقول الإنسان: إن هذا الشهر إذا عملت فيه كذا وفقت، أو هذا اليوم إذا فعلت فيه كذا وفقت، واليوم الآخر لو عملت فيه عملاً فلن يأتي التوفيق، فهذا تخييل من الشيطان، وإيهام منه، وهو من فعل الجاهلية.
قال الشارح رحمه الله: [قال ابن رجب: ولعل هذا القول أشبه الأقوال، والتشاؤم بصفر هو من جنس الطيرة المنهي عنها، وكذلك التشاؤم بيوم من الأيام كيوم الأربعاء، وتشاؤم أهل الجاهلية بشوال في النكاح فيه خاصة.
قوله: (ولا نوء) النوء: واحد الأنواء، وسيأتي الكلام عليه في بابه إن شاء الله تعالى].(79/19)
معنى الغول والمراد بنفي النبي صلى الله عليه وسلم له في الحديث
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (ولا غول) هو بالضم اسمه، وجمعه أغوال وغيلان، وهو المراد هنا، قال أبو السعادات: الغول: واحد الغيلان، وهو جنس من الجن والشياطين، كانت العرب تزعم أن الغول في الفلاة تتراءى للناس، تتلون تلوناً في صور شتى، وتغولهم أي: تضلهم عن الطريق وتهلكهم، فنفاه النبي صلى الله عليه وسلم وأبطله].
ليس معنى نفي النبي صلى الله عليه وسلم للغول نفي وجود الجن والشياطين، فهؤلاء موجودون، وكثير منهم يريد أذى ببني آدم، ويتعرضون لهم، ويظهرون كثيراً بأنهم أعداؤهم، وقد أخرج أبوهم من الجنة؛ بسبب عداوته لآدم كما هو معلوم، فأقسم لربه جل وعلا أنه سوف يحتنك ذرية بني آدم، يعني: يستولي عليهم ويضلهم، إلا من استثناه الرحمن جل وعلا، فهم حريصون جداً على أذية بني آدم، ومن كان منهم على نهج أبيه فإنه يحرص كل الحرص على أذيتهم بأي شيء كان.
ولكن من رحمة الله جل وعلا أنه ما جعل لهم سلطاناً على المؤمنين، فإن المؤمن يتحصن بحصن حصين لا يستطيعون أن يأتوا إليه أو يقربوه إذا جاء به وهو ذكر الله، فإذا قال: طردهم وحمى منهم، وكذلك تلاوة القرآن، والأذان، وغير ذلك من الأذكار فليس على المؤمنين منهم ضرر.
أما تسلطهم على المشركين والغافلين، فهذا يجوز أن يقع كما هو معلوم للناس، لهذا لا يكون الإيذاء منهم إلا للغافل الذي لا يذكر الله جل وعلا، فلا يتعرضون للمسافر، ولا لغيره إذا كان ذاكراً لله جل وعلا، وإذا ظهر له شيء فذكر الله، فإنه يزول ذلك ويذهب عنه، لهذا جاءت الآثار: (أنه إذا تغولت الغيلان فبادروا بالأذان)، يعني: إذا رأيتم شيئاً من هؤلاء فاذكروا الله جل وعلا، فإنهم يهربون.
قال الشارح رحمه الله: [فإن قيل: ما معنى النفي وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا تغولت الغيلان فبادروا بالأذان)؟ أجيب عنه: بأن ذلك كان في الابتداء، ثم دفعها الله عن عباده].
هذا الجواب غير صحيح، وهي ما زالت موجودة، وقد تتعرض للرجل، فإذا ذكر الله زالت وذهبت واختفت، كما بشهد بذلك الواقع.
قال الشارح رحمه الله: [أو يقال: المنفي ليس وجود الغول، بل ما يزعمه العرب من تصرفه في نفسه، فيكون المعنى بقوله: (لا غول)، أنها لا تستطيع أن تضل أحداً مع ذكر الله والتوكل عليه].
هذا هو الصواب، فلا تستطيع أن تضل أحداً مع ذكره لله جل وعلا والإيمان به، فإنها تذهب وتزول وتنتهي، وإنما يكون تسلطهم على الكافرين المشركين، وعلى الغافلين الذين يغفلون عن ذكر الله جل وعلا، ويعرضون عنه، ويكثرون من المعاصي، ويقلّون من الطاعات.
قال الشارح رحمه الله: [ويشهد له الحديث الآخر: (لا غول ولكن السعالي: سحرت الجن)، أي: ولكن في الجن سحرة لهم تلبيس وتخييل، ومنه: الحديث (إذا تغولت الغيلان فبادروا بالأذان)، أي: ادفعوا شرها بذكر الله، وهذا يدل على أنه لم يرد بنفيها عدمها، ومنه: حديث أبي أيوب: (كان لي تمر في سهوة، وكانت الغول تجيء فتأخذ)].
الغول يعني: الجن الشياطين، والجن من تمرد منهم يكون شيطاناً، وحتى الإنس يكون منهم شياطين، كما قال الله جل وعلا: {شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام:112]، وفي حديث أبي ذر: (تعوذ بالله من شياطين الجن والإنس، فقلت: أو للإنس شياطين؟ قال: نعم) كذلك الحديث الذي في الصحيحين، في قصة زكاة الفطر التي جمعها الصحابة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووضعها في المسجد حتى يفرقها، وسأل أبا هريرة أن يحرسها في الليل، فجاءه رجل وصار يحثو من التمر فأمسكه، فجعل يترجاه ويقول: دعني؛ فإني فقير محتاج وعندي عيال، يقول: فرحمته فتركته، فلما غدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال صلى الله عليه وسلم: (ما صنع أسيرك يا أبا هريرة؟ فقلت: زعم أنه بحاجة وعليه عيال فرحمته وتركته -وذلك لأن هذا التمر سيوزع لذوي الحاجة والفقراء- فقال له صلى الله عليه وسلم: أما إنه سيعود، فرجع الليلة الثانية، فأمسكته، وقلت: مرة ثانية، مرة لا أتركك حتى أذهب بك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصار يترجاه كثيراً، ويلح ويقول: أنا محتاج، وأنا فقير، وعندي عيال فقراء، فتركه، فلما غدا على النبي صلى الله عليه وسلم قال له كما قال في الأولى، وقال: إنه سيعود، فجاءه في الليلة الثالثة، فقال: الآن لا أتركك، هذه ثالث مرة تزعم فيها أنك لن تعود فتعود -والكذب ظاهر- فقال: دعني أعلمك شيئاً ينفعك الله به -وكانوا حريصين على الخير- قال: نعم، فقال له: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي، فإنه لا يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فلما ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أخبره بهذا، قال: صدقك وهو كذوب، أتدري من تخاطب منذ ثلاث؟ قلت: لا، قال: ذاك الشيطان) أي: شيطان من الشياطين وقوله: (صدقك وهو كذوب)، يعني: أن هذا صحيح وصدق، ولكن هذا الشيطان ما استطاع أن يضر الصحابة في دينهم، فحاول أن يضرهم ولو بأخذ هذا التمر، وكيد الشيطان ضعيف دائماً.
فالمقصود أنه يعرض للإنسان، وقد يراه في صورة إنسان يخاطبه ويكلمه، ويظن أنه من بني آدم، ويتخاطب معه، وقد يأتي -مثل ما ذكر- في صورة غول، يعني: صورة منكرة مخيفة، حتى يخيف الإنسان، وهذا الغول مأخوذ من غول؛ لأنه يتصور بصورة منكرة مخيفة، فيرعب الإنسان ويخوفه، وقد يهرب الإنسان عنه حتى يضل ويهلك، وهذا لا يقع للمؤمن الذي يذكر الله جل وعلا، هذا هو المنفي عنه.(79/20)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [80]
ليس في الإعجاب بالفأل ومحبته شيء من الشرك، بل ذلك إبانة عن مقتضى الطبيعة، وموجب الفطرة الإنسانية؛ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه، ويحث عليه، أما الطيرة: فهي نوع من الشرك؛ لأنه تعلق بغير الله، وسوء ظن به، فمن وجد ذلك في قلبه، فعليه أن يصرفه، ويتوكل على الله، قائلاً: اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك(80/1)
الفأل معناه وعلاقته بالطيرة
قال المصنف رحمه الله: [ولهما عن أنس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل، قالوا: وما الفأل؟ قال: الكلمة الطيبة)].(80/2)
التعريف الشرعي للفأل
كان الفأل يعجب النبي صلى الله عليه وسلم، والشيء الذي يعجب النبي صلى الله عليه وسلم يكون محبوباً مطلوباً مرغوباً فيه، والسبب في هذا أن الإنسان إذا رجا الخير، وظن أنه يكون على خير، فإن الله جل وعلا عند ظن عبده به؛ وليس معنى ذلك أن الفأل يكون دليلاً على وقوع القدر، لا، ولكنه رجا الخير وظن حصوله فصار مطلوباً ومحبوباً.
والفأل فسر في الحديث أنه: الكلمة الطيبة، يسمعها الإنسان، ويتساءل في الطيب والخير، فالتساؤل مطلوب؛ لأنه رجا الخير وظنه، أي: أنه يظن أن يقع الخير ويرجوه، كأن يكون مثلاً مريضاً فيسمع قائلاً يقول: يا معافى! فيتفاءل أنه سيعافى ويبرأ، أو مثلاً يكون فاقداً شيئاً فيسمع إنساناً يقول: يا واجد! أو يا راشد! فيتفاءل أنه سيجده أو يرشد إلى ما يطلبه وهكذا، فهذا هو الفأل، وليس هذا من الطيرة؛ لأنه ليس معنى ذلك أن يجعل هذا الكلام الذي يقوله دليلاً على وقوع الشيء كما يفعله المتطير، ولكنه يرجو ويظن خيراً بالله جل وعلا، ومن ظن بربه خيراً فإن الله يكون عند ظنه به.(80/3)
الفرق بين الفأل والطيرة
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (ويعجبني الفأل) قال أبو السعادات: الفأل -مهموز- فيما يسر ويسوء، والطيرة لا تكون إلا فيما يسوء، وربما استعملت فيما يسر، يقال: تفاءلت بكذا وتفاولت، على التخفيف والقلب، وقد أولع الناس بترك الهمز تخفيفاً، وإنما أحب الفأل؛ لأن الناس إذا أملوا فائدة الله، ورجوا عائدته عند كل سبب ضعيف أو قوي فهم على خير، وإذا قطعوا آمالهم ورجاءهم من الله تعالى كان ذلك من الشر.
وأما الطيرة: فإن فيها سوء الظن بالله، وتوقع البلاء، والتفاؤل: أن يكون رجل مريض فيسمع آخر يقول: يا سالم! أو يكون طالب ضالة فيسمع آخر، يقول: يا واجد! فيقع في ظنه أنه يبرأ من مرضه ويجد ضالته].
ليست الطيرة ظن الشر فقط، وأنها ممنوعة من أجل ذلك، فهذا ممنوع ولا يجوز أن يظن الإنسان الشر، والله جل وعلا أخبر أنه لا يصيب الإنسان شيء إلا بما كسب: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]، ولكن الطيرة تمنع لهذا، ولأن الإنسان يعتقد أن هذا الطائر أو هذا الذي تطير به أنه سبب عليه وقوع الشر والحوادث، وأن هذا علامة على وقوعه، وهذا رجم بالغيب وكذب، فالله ما جعل هذا علامة، ويجب على الإنسان أن يتبع أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، ويعلم أن الله جل وعلا هو المتصرف في كل شيء، وأنه ليس نعيق الغراب -مثلاً- سبباً في غربة الإنسان أو موته، أو ظهور الثعلب أمامه سبب في ظفره وسعادته، هذا كذب على قدر الله وتصرفه، فإن هذه الأشياء ليس عندها الخير لا الغراب ولا الثعلب ولا غير ذلك، فالطيرة ممنوعة، ليس لأنها ظن الشر فقط، بل لأن الإنسان رتب على ذلك وقوع أشياء يقدرها الله، وهذا تكذيب لله جل وعلا، فهو لا يقع شيء إلا بإذنه وإرادته.
أما قول القائل: إن الله جعل التقدير مرتباً على وجود ذلك، فهذا كذب أيضاً، فمن أين له أن الله جعل ذلك مرتباً على هذا؟ فالرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن هذا باطل وشرك، فتعلق الإنسان بهذا الطائر -مثلاً- أو ذاك الحيوان، وظنه أن التصرفات والأمور تقع بسبب نعيقه أو حركته أو ظهوره، فهذا أشرك بالله في ذلك، حيث أضاف الحوادث إلى غير إرادة الله ومشيئته، فالله ما جعل ذلك دليلاً على أنه أراد شيئاً؛ لأن هذا تكذيب بخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، ولقول الله جل وعلا.
فالمقصود أن الطيرة ممنوعة؛ لأنها ظن الشر، ولأنه يزعم المتطير أن هذا الشيء -طائر أو غيره- تقع الحوادث بسببه، أو بظهوره، فهذا هو معنى كونها شركاً.
[قوله: (قالوا: وما الفأل؟ قال: الكلمة الطيبة)، بين صلى الله عليه وسلم أن الفأل يعجبه، فدل على أنه ليس من الطيرة المنهي عنها.
قال ابن القيم: ليس في الإعجاب بالفأل ومحبته شيء من الشرك، بل ذلك إبانة عن مقتضى الطبيعة، وموجب الفطرة الإنسانية، التي تميل إلى ما يوافقها ويلائمها، كما أخبرهم صلى الله عليه وسلم أنه حبب إليه من الدنيا النساء والطيب، وكان يحب الحلواء والعسل، ويحب حسن الصوت بالقرآن والأذان ويستمع إليه، ويحب معالي الأخلاق ومكارم الشيم].
يعني: أنه جبل في الطبيعة على حبها والميل إليها، ولكن الفأل ليس هو هذا، الفأل: ظن الخير ورجاؤه كما سبق، وقد يكون الفأل في إظهار الحق وقمع العدو، مثلما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم يوم ذهب إلى خيبر وأتاهم صباحاً، وهم لا يعلمون به، فرآهم قد استقبلوه بالعمال ومعهم المساحي والفئوس للعمل، قال صلى الله عليه وسلم: (الله أكبر! خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بقوم فساء صباح المنذرين)، يعني: لما رأى آلات الهدم كالمساحي والفئوس، تفاءل بأن خيبر خربت؛ لأنها عمرت على المعصية، وعلى محاربة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فتفاءل بذلك، فحقق الله جل وعلا ذلك له، وهذا لا يمنع العمل والاجتهاد والجد، ولكنه رجاء وظن، يرجو من الله ويظن به أن يحقق له هذا الرجاء، وهو مثلما سبق، إذا رجا الناس ربهم -ولو كان السبب ضعيفاً أو العلامة ضعيفة- فإنهم على خير؛ لأن رجاء الله عبادة، وظن الخير به عبادة، فيكونون على خير، بخلاف الطيرة، فإنها تطبيق للشيطان، واتباع لمخلوق ليس عنده أي تصرف، وتكون شركاً.(80/4)
الدعاء الوارد في إذهاب الطيرة والتشاؤم
[وبالجملة يحب كل كمال وخير، وما يفضي إليهما، والله سبحانه قد جعل في غرائز الناس الإعجاب بسماع الاسم الحسن، ومحبته، وميل نفوسهم إليه، وكذلك جعل فيها الارتياح والاستبشار والسرور باسم الفلاح، والسلام والنجاح والتهنئة، والبشرى والفوز والظفر ونحو ذلك، فإذا قرعت هذه الأسماء الأسماع استبشرت بها النفوس، وانشرح لها الصدر، وقوي بها القلب، وإذا سمعت أضدادها أوجب لها ضد هذه الحال، فأحزنها ذلك، وأثار لها خوفاً وطيرة وانكماشاً وانقباضاً عما قصدت له وعزمت عليه، فأورث لها ضرراً في الدنيا، ونقصاً في الإيمان، ومقارفة الشرك.
وقال الحليمي: وإنما كان صلى الله عليه وسلم يعجبه الفأل لأن التشاؤم سوء ظن بالله تعالى بغير سبب محقق، والتفاؤل حسن ظن بالله، والمؤمن مأمور بحسن الظن بالله تعالى على كل حال.
قال المصنف رحمه الله: ولـ أبي داود بسند صحيح عن عقبة بن عامر قال: ذكرت الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أحسنها الفأل، ولا ترد مسلماً، فإذا رأى أحدكم ما يكره، فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك).
] هذا معناه أنه أدخل الفأل في الطيرة فقال: (أحسنها الفأل) وأن الطيرة لا يلتفت إليها المسلم، ولا يعتمد عليها، والفأل أيضاً لا يعتمد عليه، ولا يبني عليه شيئاً، وإنما يبني عليه ظناً ورجاءً فقط، يظن الخير ويرجوه، وإلا فهي مقطوعة عن التصرف.
وكذلك فيه الإرشاد إلى اللجوء إلى الله، والهروب إليه، والتوسل إليه بدعائه أنه لا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يذهب بالسيئات إلا هو، والحسنات: كل خير، وكل ما فيه أنس ومسرة من أمور الدنيا والآخرة، والسيئات: كل مضر، وكل ما يسوءه ويضره في الدنيا والآخرة فهو سيئة، فصار هذا عاماً شاملاً في أن الأمور كلها بيد الله.
قوله: (لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يذهب بالسيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك)، يعني: أنني لا أستطيع أن أتحول من حال إلى أخرى إلا إذا قويتني وأعنتني على ذلك، فمعنى ذلك أنه لجوء إلى الله، وتبرؤ من قوة النفس وتصرفها، وأنه لا قوة له ولا تصرف له إن لم يجعل الله جل وعلا له قوة وتصرفاً، فهو توحيد لله جل وعلا بالأفعال، وبالخضوع له والالتجاء إليه، والتبري من القوة أو التحول من حال إلى أخرى إلا بالله جل وعلا.
هذا من أعظم ما ينبغي للإنسان أنه يسأله ويلجأ إليه، ألا يعتمد على فأل ولا طيرة.
أما قوله: (ولا ترد مسلماً) ففيه تنبيه على أن الذي ترده الطيرة قد يكون خارجاً عن الإسلام؛ لأن المسلم لا ترده الطيرة، يعني: لو رآها -مثلاً- وقعت له فإنه يعرض عنها، ويتوكل على ربه جل وعلا، ويقول هذا الدعاء، ولا يأتيه إلا خير بإذن الله تعالى.
قال الشارح رحمه الله: [قوله: وعن عقبة بن عامر هكذا وقع في نسخ التوحيد، وصوابه: عن عروة بن عامر كذا أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما].
فالمؤلف رحمه الله نقله من كتاب ابن السني، وابن السني هكذا وقع الخطأ في كتابه عقبة بن عامر، وليس الخطأ من الشيخ، وإنما وقع الخطأ في المصدر الذي هو كتاب عمل اليوم والليلة لـ ابن السني، فالمؤلف رحمه الله نقله منه، وهذا الخطأ الذي فيه إما من الناسخ أو من بعض الرواة.
والله أعلم.
قال الشارح رحمه الله: [وهو مكي اختلف في نسبه، فقال أحمد: عن عروة بن عامر القرشي وقال غيره: الجهني، واختلف في صحبته فقال البارودي: له صحبة، وذكره ابن حبان في ثقاة التابعين، وقال المزي: لا صحبة له تصح.
قوله: (فقال: أحسنها الفأل) قد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم كان يعجبه الفأل، وروى الترمذي وصححه عن أنس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج لحاجته يحب أن يسمع يا نجيح! يا راشد!!) وروى أبو داود عن بريدة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يتطير من شيء، وكان إذا بعث عاملاً سأله عن اسمه، فإذا أعجبه فرح به، وإن كره اسمه رئي كراهية ذلك في وجهه) وإسناده حسن.
وهذا فيه استعمال الفأل.
قال ابن القيم: أخبر صلى الله عليه وسلم أن الفأل من الطيرة، وهو خيرها، فأبطل الطيرة، وأخبر أن الفأل منها ولكنه خير منها، ففصل بين الفأل والطيرة لما بينهما من الامتياز والتضاد، ونفع أحدهما، ومضرة الآخر، ونظير هذا: منعه من الرقى بالشرك، وإذنه في الرقية إذا لم يكن فيها شرك؛ لما فيها من المنفعة الخالية من المفسدة.
قوله: (ولا ترد مسلماً)، قال الطيبي: تعريض بأن الكافر بخلافه.
قوله: (اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت)، أي: لا تأتي الطيرة بالحسنات، ولا تدفع المكروهات، بل أنت وحدك لا شريك لك الذي تأتي بالحسنات وتدفع السيئات، والحسنات هنا النعم، والسيئات المصائب، كقوله سبحانه: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا * مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:78 - 79]، ففيه نفي تعلق القلب بغير الله في جلب نفع أو دفع ضر وهذا هو التوحيد، وهو دعاء مناسب لمن وقع في قلبه شيء من الطيرة، وتصريح بأنها لا تجلب نفعاً ولا تدفع ضراً، ويعد من اعتقدها سفيهاً مشركاً.
قوله: (ولا حول ولا قوة إلا بك) استعانة بالله تعالى على فعل التوكل، وعدم الالتفات إلى الطيرة التي قد تكون سبباً لوقوع المكروه عقوبة لفاعلها، وذلك الدعاء إنما يصدر عن حقيقة التوكل، الذي هو أقوى الأسباب في جلب الخيرات ودفع المكروهات، والحول: التحول، وهو الانتقال من حال إلى حال، والقوة على ذلك بالله وحده لا شريك له، ففيه: التبري من الحول والقوة والمشيئة بدون حول الله وقوته ومشيئته، وهذا هو التوحيد في الربوبية، وهو الدليل على توحيد الإلهية الذي هو إفراد الله تعالى بجميع أنواع العبادة، وهو توحيد القصد والإرادة، وقد تقدم بيان ذلك بحمد الله].(80/5)
حديث: (الطيرة شرك)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن ابن مسعود مرفوعاً: (الطيرة شرك، وما منا إلا ولكن الله يذهبه بالتوكل)، رواه أبو داود والترمذي وصححه، وجعل آخره من قول ابن مسعود].
قوله صلى الله عليه وسلم: (الطيرة شرك! الطيرة شرك)، التكرار هنا للتأكيد والمبالغة في البلاغ، وذلك يدل على أن الطيرة كانت منتشرة في الناس في ذلك الوقت، فلهذا بالغ الرسول صلى الله عليه وسلم في النهي عنها، وأخبر أنها شرك، والشرك معلوم عند المخاطبين أنه أكبر الذنوب، وقوله: (شرك) مطلق، قد يكون شركاً أكبر، وقد يكون أصغر، وتبين فيما سبق التفصيل في هذا وهو أن الإنسان إذا كان يعتقد أن فعل الطيرة هو الذي يكون فيه الخير، أو مثلاً نعيقه، أو أن الخير معلق بظهور الحيوان، فهذا من الشرك الأكبر، أما إذا كان يعتقد أن الله جعله سبباً لذلك فهذا يكون من الشرك الأصغر.
وقوله: (ما منا إلا)، يعني: ما منا أحد إلا ويقع في نفسه شيء عندما يسمع شيئاً من ذلك (ولكن الله يذهبه بالتوكل)، يذهب هذا الشيء الذي يقع، وحذف المقدر لعلمه به، وليس هذا من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقع في نفسه شيء؛ لأنه صلوات الله وسلامه عليه أعظم الناس إيماناً وتوكلاً على الله، ولكن هذا من كلام ابن مسعود رضي الله عنه، ولهذا بين الترمذي رحمه الله أن هذا مدرج، وأنه من كلام ابن مسعود، (وما منا إلا) أي: يقع في نفسه شيء من ذلك، غير أنه لا يلتفت إليه ولا يعول عليه، وإنما يعرض عنه ويتوكل على ربه، فيذهب الله جل وعلا ذلك الذي يقع بالتوكل عليه، وعدم الالتفات إلى غيره، هذا هو معنى الكلام.
قال الشارح رحمه الله: [وروى ابن ماجة وابن حبان ولفظ أبي داود: (الطيرة شرك، الطيرة شرك، الطيرة شرك) ثلاثاً.
وهذا صريح في تحريم الطيرة، وأنها من الشرك؛ لما فيها من تعلق القلب على غير الله تعالى، قال ابن حمدان: تكره الطيرة، وكذا قال غيره من أصحاب أحمد].
قوله: (تكره الطيرة) يجب أن تحمل كلمة (تكره) على التحريم؛ لأن الشرك ليس فيه شيء مكروه كراهة تنزيه، بل كله محرم، والعلماء في القديم إذا قالوا: يكره كان مقصودهم أنه حرام، ولكن بعضهم يتورع عن كلمة حرام للخوف؛ لأن الله جل وعلا يقول: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النحل:116]، يخاف أن يقول: حرام، فلا يقول على الشيء أنه حرام إلا إذا تأكد تأكداً تاماً بأن الله قد حرمه، هذا هو السبب، وكان في اصطلاحهم أيضاً أن وضع الكراهة على المحرم أمر شائع، وإنما اصطلح المتأخرون على تقسيم الكراهة إلى قسمين: قسم يكون كراهة تحريم، وقسم يكون كراهة تنزيه, وهذا اصطلاح حادث ما كان يعرفه السلف قديماً، ولا يجوز أن يحمل كلام العلماء في القديم على هذا الاصطلاح الحادث.
قال الشارح رحمه الله: [قال ابن مفلح: والأولى القطع بتحريمها لأنها شرك، وكيف يكون الشرك مكروهاً الكراهية الاصطلاحية؟! قال في شرح السنن: وإنما جعل الطيرة من الشرك؛ لأنهم كانوا يعتقدون أن الطيرة تجلب لهم نفعاً أو تدفع عنهم ضراً إذا عملوا بموجبها، فكأنهم أشركوا مع الله تعالى.
قوله: (وما منا إلا)، قال أبو القاسم الأصبهاني والمنذري: في الحديث إضمار، والتقدير: وما منا إلا وقد وقع في قلبه شيء من ذلك.
انتهى، وقال الخلخالي: حذف المستثنى لما يتضمنه من الحالة المكروهة، وهذا من أدب الكلام.
قوله: (ولكن الله يذهبه بالتوكل)، أي: لكن لما توكلنا على الله في جلب النفع أو دفع الضر أذهبه الله عنا بتوكلنا عليه وحده.
قوله: (وجعل آخره من قول ابن مسعود)، قال ابن القيم: وهو الصواب، فإن الطيرة نوع من الشرك].(80/6)
كفارة من ردته الطيرة عن حاجته
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولـ أحمد من حديث ابن عمرو (من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك، قالوا: فما كفارة ذلك؟ قال: أن تقول: اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك)].
قال الشارح رحمه الله: [هذا الحديث رواه أحمد والطبراني عن عبد الله بن عمرو بن العاص وفي إسناده ابن لهيعة وبقية رجاله ثقات.
قوله: (من حديث ابن عمرو) هو عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل السهمي أبو محمد وقيل: أبو عبد الرحمن أحد السابقين المكثرين من الصحابة، وأحد العبادلة الفقهاء، مات في ذي الحجة ليالي الحرة -على الأصح- في الطائف.
قوله: (من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك) وذلك أن الطيرة هي التشاؤم بالشيء المرئي أو المسموع، فإذا رده شيء من ذلك عن حاجته التي عزم عليها -كإرادة السفر ونحوه- فمنعه عما أراده وسعى فيه ما رأى وسمع تشاؤماً فقد دخل في الشرك كما تقدم، فلم يخلص توكله على الله بالتفاته إلى ما سواه، فيكون للشيطان منه نصيب.
قوله: (فما كفارة ذلك) إلى آخره، فإذا قال ذلك، وأعرض عما وقع في قلبه، ولم يلتفت إليه، كفر الله عنه ما وقع في قلبه ابتداء؛ لزواله عن قلبه بهذا الدعاء المتضمن للاعتماد على الله وحده، والإعراض عما سواه.
وتضمن الحديث: أن الطيرة لا تضر من كرهها، ومضى في طريقه، وأما من لم يخلص توكله على الله، واسترسل مع الشيطان في ذلك فقد يعاقب بالوقوع فيما يكره؛ لأنه أعرض عن واجب الإيمان بالله، وأن الخير كله بيده، فهو الذي يجلبه لعبده بمشيئته وإرادته، وهو الذي يدفع عنه الضر وحده بقدرته ولطفه وإحسانه، فلا خير إلا منه، وهو الذي يدفع الشر عن عبده، فما أصابه من ذلك فبذنبه، كما قال تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79].
قال المصنف رحمه الله: [وله من حديث الفضل بن عباس رضي الله عنه: (إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك)] في هذا الحديث -وإن كان الحديث ضعيفاً، وفيه انقطاع، فمثل هذا لا يعتمد عليه- حد الطيرة، وهو: أن يكون الإنسان عاملاً بما يقع له، إما أن يمضي في مراده إذا سمع الشيء الذي يرى أنه خير، أو يمتنع إذا رأى أنه شر، فهذه هي الطيرة، أما أن يقع في نفسه شيء ثم لا يلتفت إليه، ويمضي في طريقه وعمله فهذا لا يضر، هذا لا يكون طيرة، وهذا معنى قوله: (إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك)، يعني: إذا وقع في نفسك شيء فعملت به ومضيت على أساس ذلك في النهج الذي تريده وتقصده، أو رجعت إذا كان بعكس ذلك وتركت العمل فهذه هي الطيرة، أما أن يقع في نفس الإنسان شيء ثم لا يلتفت إلى هذا الشيء، ويمضي معتمداً على ربه جل وعلا فهذا لا يضره، وليس هذا طيرة.
والحديث فيه انقطاع ونكارة، فهو منكر منقطع، ووجه النكارة أنه قال: (خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم فبرح لنا ظبي فمال إلى شقه فالتزمته، فقلت: تطيرت يا رسول الله؟! فقال: إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك)، الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعمل مثل هذا، ولا يقع منه مثل هذا، لهذا هذا الحديث لا يعتمد عليه.
قال الشارح رحمه الله تعالى: [هذا الحديث عند الإمام أحمد من حديث الفضل بن عباس رضي الله عنهما، قال: (خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، فبرح ظبي، فمال في شقه فاحتضنته، فقلت: يا رسول الله! تطيرت؟! فقال: إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك)، وفي إسناده انقطاع، أي: بين مسلمة راويه وبين الفضل وهو الفضل بن العباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن معين: قتل يوم اليرموك، وقال غيره: قتل يوم مرج الصفر سنة ثلاث عشرة، وهو ابن اثنتين وعشرين سنة.
وقال أبو داود: قتل بدمشق، كان عليه درع النبي صلى الله عليه وسلم].
وهذا فيه اضطراب كثير جداً، حتى إن بعض المؤرخين يرى أنه قتل في قرب الصين في بلاد بعيدة، وبعضهم يرى أنه قتل في سمرقند، وعلى كل حال فمثل هذا ليس مهماً، المهم ما في الحديث من قوله: (فمال عن شقه فاحتضنته)، فهذا لا يثبت، ولا يقع منه صلى الله عليه وسلم مثل هذا الشيء.
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك)، هذا حد الطيرة المنهي عنها، أنها ما يحمل الإنسان على المضي فيما أراده، ويمنعه من المضي فيه كذلك، وأما الفأل الذي كان يحبه النبي صلى الله عليه وسلم: فيه نوع بشارة، فيسر به العبد ولا يعتمد عليه، بخلاف ما يمضيه أو يرده، فإن للقلب عليه نوع اعتماد فافهم الفرق والله أعلم].
يعني: أن الفأل رجاء من الله وظن حسن، وإن كان السبب ضعيفاً وتافهاً فالإنسان يكون على خير، والله عند ظن عبده به، إذا ظن خيراً أعطاه خيراً، ومع ذلك لا يجوز أن يعتمد على الفأل، ويجعله دليلاً له، ويمضي من أجل ذلك، فإن هذا لا يجوز، وإنما يظن أنه يحصل له خير، ويعتمد على ربه ويتوكل عليه، ويعمل الأسباب التي أمر بها.
أما الطيرة: فهي شر بل هي شرك؛ لأنه يجعل المستقبل الذي يقع معتمداً على فعل طير أو فعل حيوان أو شيء يراه أو ما أشبه ذلك، ومعلوم أن هذه الأشياء لا تصرف لها في الوقائع والحوادث، وإنما الحوادث التي ستحدث بيد الحي القيوم، الذي بيده ملكوت كل شيء، فلا يشاركه فيها أحد، ثم علم الغيب يختص بالله جل وعلا، فهذه الحيوانات وغيرها لا تعلم من المغيبات شيئاً، ولا تستطيع أن تتصرف في أمور الدنيا بشيء، فهذا هو الصواب وهذا هو الفرق بين الفأل والطيرة، فالطيرة: لا يجوز أن يعمل بها مطلقاً وهي من الشرك، أما الفأل: فهو الظن الحسن والرجاء من الله جل وعلا، ومع ذلك لا يعتمد عليه؛ لأن الاعتماد على ما أمر به الشارع، فما أمر الله جل وعلا به من الأفعال التي يحبها الله ويرضاها يعتمد عليه، ويتوكل على ربه.(80/7)
مسائل باب: ما جاء في التطير(80/8)
التنبيه على قوله سبحانه وتعالى: (أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيه مسائل: الأولى: التنبيه على قوله سبحانه وتعالى: {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} [الأعراف:131] مع قوله: {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} [يس:19]].
يعني: أنه لا معارضة بين هذه وهذه، وقوله: (طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ) يعني: جزاؤهم وما يستحقونه، وقوله: (طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ) يعني: أعمالكم التي تعملونها هي سبب ما يقع عليكم من العقوبات، فالمعنى واحد.(80/9)
نفي العدوى
[الثانية: نفي العدوى: الثالثة: نفي الطيرة].
سبق أن نفي العدوى المقصود به: ما يعتقده المشركون قديماً، فإنهم يعتقدون أن المرض بطبعه وقوته هو الذي يعدي، ولا ينظرون إلى قدر الله، وأنه يجعل أسباباً يوجد بها هذا المرض، فالمنفي هو ما يعتقده المشركون، وليس المنفي أن مخالطة المريض قد تكون سبباً في مرض الصحيح، هذا لم ينف؛ لأن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقواله لا تتعارض، وقد نهى أن يورد الممرض على المصح، يعني: لا يختلط المريض بالصحيح لئلا يحدث بسبب ذلك مرض، وكذلك: (فر من المجذوم كفرارك من الأسد)، وسبق أن الراجح في هذا هو النهي، وإذا كان نهياً فلا إشكال فيه، والأمر واضح.(80/10)
نفي الهامة
[الرابعة: نفي الهامة.
] الهامة سبق تفسيرها، وأنها فسرت على تفسيرين، أحدهما: البومة المعروفة، الطائر الذي يكون في الليل، ويألف الخراب، وكان المشركون والجهلة يتشاءمون به أشد التشاؤم، ويتطيرون به، ويرون أنه إذا وقع على بيت أحدهم أنه سيموت، إما هو أو ولده أو والده أو قريب له، وهذا هو الذي نفي.
التفسير الثاني: وهو جهل آخر كان يعتقده المشركون، وهو أن الرجل إذا قتل مظلوماً ولم يؤخذ بثأره فإنه يخرج من هامته، -يعني: من دماغه- طائر يبقى صائماً على قبره: اسقوني! اسقوني! حتى يؤخذ بثأره، ولهذا يقول شاعرهم: أو غبت حتى تقول الهامة اسقوني فهذا أيضاً لا حقيقة له، وهو منفي وكلاهما مقصود.(80/11)
تفسير الصفر المنفي في الحديث
[الخامسة: نفي الصفر].
الصفر تقدم أيضاً أنه فسر بثلاثة تفسيرات، أحدها: أنه شهر صفر، وكانوا يتشاءمون به، وأنه لا يأتي إلا بشر، هكذا كان يقولون، فلا يسافرون فيه، ولا يتزوجون فيه، وهذا منكر وباطل، فالشهر لا دخل له في الوقائع ولا في المستقبلات.
الثاني: أنه هو النسيء الذي ذكره الله في القرآن، وهو أنهم كانوا يقدمون شهر صفر إلى المحرم، فيجعلونه محرماً سنة، ويؤخرون شهر محرم إلى صفر حتى يستحلوا القتال في محرم، والسنة الأخرى يتركونه على ما هو عليه، فقال الله جل وعلا: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا} [التوبة:37].
الثالث: أن المقصود بالصفر: حية تكون في بطن كنف الرجال، وتكون عندهم أعدى من الجرب، هكذا زعموا، وكل هذا باطل، وقد نفي هذا كله في حديث: (لا صفر)، وكل هذه الأمور الثلاثة باطلة بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.(80/12)
تفسير الفأل
[السادسة: أن الفأل ليس من ذلك، بل مستحب.
السابعة: تفسير الفأل].
أي: بأنه الكلمة الطيبة يسمعها الرجل أو تقال له، هكذا جاء تفسيره في الحديث: (قالوا: وما الفأل يا رسول الله؟! قال: الكلمة الطيبة يسمعها أو تقال له)، ووضح ذلك العلماء بأن الإنسان قد يكون مثلاً فاقداً شيئاً، فيسمع قائلاً يقول: يا واجد! أو يا راشد! فيتفاءل بأنه سيجد وسيرشد إلى طلبه، أو يكون مريضاً ويسمع قائل يقول: يا معافى! أو ما أشبه ذلك، فيتفاءل بأنه سيشفى، ومع ذلك لا يعتمد على هذا، وإنما يرجو ويظن الخير.(80/13)
التطير الواقع في القلوب لا يضر وبيان ماذا يقول من رأى شيئاً يتطير منه
[الثامنة: أن الواقع في القلوب من ذلك مع كراهته لا يضر بل يذهبه الله بالتوكل].
أي: لا يضر إذا لم يعتمد عليه الإنسان ولم يمض على سبيل ذلك، فإذا أعرض عنه وتركه وصد عنه وتناساه فإنه لا يضره.
[التاسعة: ذكر ما يقول من وجده].
يعني: أن يقول: (اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك، ولا إله غيرك، ولا حول ولا قوة إلا بك) يقول هذا ويمضي.
[العاشرة: التصريح بأن الطيرة شرك.
الحادية عشرة: تفسير الطيرة المذمومة].
وقد تقدم الكلام على ذلك.(80/14)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [81]
النجوم خلقها الله عز وجل لثلاثة أغراض: زينة للسماء، ورجوماً للشياطين، وعلامات يُهتدى بها، وليس لها أي تصرف أو تدبير، ومن نسب إليها شيئاً من ذلك فقد وقع في الشرك، وهكذا من تعلم التنجيم فقد تعلم السحر، والسحر كفر بالله عز وجل، ويستثنى من ذلك تعلم منازل النجوم والقمر الذي يسمى بعلم الفلك؛ فقد أجازه كثير من العلماء.(81/1)
حكم التنجيم وأقسامه
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في التنجيم] التنجيم: تفعيل نسبة إلى النجوم، يعني: الأفعال التي تعتقد في النجوم.
والتنجيم قسمه العلماء إلى قسمين: قسم شرك بالله جل وعلا، وهذا الذي جعل المصنف يدخل التنجيم في كتاب التوحيد.
وقسم آخر جائز لا بأس به، وإن كان بعض العلماء ينهى عن التوغل فيه، والإكثار منه.
أما القسم الأول: فهو الاستدلال بسير النجوم وطلوعها وأفولها على الأمور المستقبلة من الحوادث، كهبوب الرياح، ونزول الأمطار، وحدوث الأمراض، وقيام الحروب، وما أشبه ذلك مما يحدث في الأرض، ولهذا عرف ذلك بعض العلماء، فقال: هو الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية، والأحوال الفلكية يعني: السير والطلوع والأفول، واقتران بعض النجوم ببعض، وليس المقصود باقترانها أنها تلتصق، ولكنها تتقارب في رأي العين، فيظن الرائي أنها اقترنت، ويسمى ذلك التقارب اقتراناً، فكل ما يضاف إلى النجوم من أن لها تأثيراً في الحوادث، وفي النفوس، والسعود، والأرزاق، والإفقار، أو غير ذلك فهو من الشرك.
وهذا القسم له أقسام عدة، وكلها من الشرك، ومنه ما يكون عند المنجمين، كقولهم: إن الإنسان إذا ولد في النجم الفلاني أو في الفلك الفلاني يكون له كذا وكذا وكذا، وإذا سافر في النجم الفلاني يكون له كذا، ويحصل له كذا، وإذا تزوج بالنجم الفلاني يحصل له كذا، وإذا عقد صفقة من تجارة أو غيرها في النجم الفلاني يحصل له ربح أو يحصل له خسارة أو ما أشبه ذلك، وهذا لا يزال مستعملاً إلى اليوم؛ يستعمله كثير من الناس، فهذا من أقل هذه الأنواع، ومع ذلك فهو من الشرك -نسأل الله العافية-؛ لأن النجوم ليس عندها تصرف، وليس عندها تأثير، وإنما هي مدبَرة مسخرَة، تسير بأمر الواحد القهار جل وعلا، مطيعة خاضعة لربها جل وعلا.
وقسم آخر وهو: أن هذه الكواكب لها روحانيات، وهذه الروحانيات تتصرف عندما يُخضع لها، وتُنادى وتطاع، فتنفع وتضر، وهذا فعل المشركين القدامى كقوم إبراهيم عليه السلام وغيرهم؛ فإنهم كانوا يعبدون الكواكب يعتقدون فيها، ولهذا ناظرهم إبراهيم عليه السلام فأبطل عبادتهم، فإنه نظر إلى كوكب فقال -من باب المناظرة: {قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام:76]، والتقدير: أهذا ربي؟ {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأنعام:76]، والأفول هو: الغروب؛ والإله لا يغيب، وغيبوبته تدل على أنه يجهل، وأنه غير كامل، وكذلك قال في القمر وفي الشمس، ثم بعد ذلك قال لهم: {كَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام:81]، ثم بين الحكم فقال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} يعني: بشرك {أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82]، فهذا التنجيم من أعظم الشرك وأكبره، ومثل هذا لا يحصل إلا لمن كفر بالله جل وعلا وكفر بشرعه.
وقسم ثالث: وهو ربط الأحوال التي تكون في الأرض بهذه الكواكب ربطاً لا ينفك عنه، وهذا زعم باطل أيضاً، وقد يستعمله بعض من يدعي الإسلام، فيستدلون على الأحوال التي تكون في الأرض بطلوع الكواكب أو غروبها، أو كون الكوكب الفلاني في البرج الفلاني، أو كونه في وقت كذا، وهذا كثير أيضاً، وهو نوع من الشرك، وكل هذا داخل فيما ذكر.
أما القسم الذي هو جائز: فهو الاستدلال بالأجرام السماوية على الجهات، وعلى الأوقات، والأعداد، وكذلك الأبعاد، والتفكر في ذلك، فهذا جائز، وهذا هو الذي يسمى الآن بـ (علم الفلك)، وقد وضعت له الأرصاد والمناظر المكبرة والمقربة، فصار هذا العلم يختلف عن العلم السابق، وهذا العلم نهى العلماء عن الإيغال فيه؛ لأن أقل ما فيه أنه يشغل عن ما هو أفضل منه، ومع ذلك لا ينكر مثل هذا، وهو ليس مقصوداً في الباب.(81/2)
الأغراض التي خلقت لها النجوم
وقد ذكر الله جل وعلا أن النجوم خلقت لأغراض ثلاثة ذكرها لنا جل وعلا: الأول: أنها زينة للسماء، كما قال جل وعلا: {زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [الملك:5].
الثاني: أنها رجوم للشياطين، وفي الآية أيضاً: {وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} [الملك:5]، وذلك أن الشياطين -مردة الجن- يركب بعضهم بعضاً حتى يصلوا إلى عنان السماء -أي: قرب السحاب أو ما أشبه ذلك- ليستمعوا إلى كلام الملائكة، والملائكة يكونون بين السماء والأرض أو يكونون في السحاب أو حيث يشاء الله جل وعلا، فحينما يدبرهم ويأمرهم بتصريف الأمور، فإن الجن يريدون أن يستمعوا إلى ما يتكلم به الملائكة فيحاولون استراق السمع، فيلتقطون بعض الكلمات فيأتون بها إلى أوليائهم من السحرة والكهنة، فجعل الله جل وعلا النجوم شهباً يرجمون بها، كما كان الوحي الذي يوحيه الله إلى أوليائه مانعاً لهم من استقراق السمع إلا أن الوحي قد انقطع ولم يبق إلا الرجم الذي يرسل عليهم، فيقتل منهم ما شاء الله أن يقتل، ويسلم بعضهم.
الأمر الثالث: أنها علامات يهتدى بها، كما قال الله جل وعلا: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل:16]، يعني: يهتدون في طرقهم في البر والبحر، وهذا شيء مألوف ومعروف، وكذلك يهتدون بها على القبلة والجهات.
وسيأتي قول قتادة: أن من بحث في النجوم عن غير هذه الأمور الثلاثة فقد أضاع سبيله ونصيبه من الآخرة وضل، وترك ما أمره الله جل وعلا به، واتبع طريق الضلالة.
وأما معرفة النجوم بأحوالها وأبعادها وأجرامها فهذا من هذا النوع؛ لأن فيه دليلاً على الله وعظمته جل وعلا، كما أخبر الله جل وعلا عن ذلك في آيات عدة، فهي داخلة في القسم الثالث: قسم الاهتداء بما، فيُهتدى بها إلى الطرق، ويُهتدى بها إلى معرفة الله جل وعلا؛ لكونها من الآيات، مثل: السموات، والأرض، والجبال، والشجر، والنبات، والإنسان، وغير ذلك من المخلوقات التي تدل على وجود الرب جل وعلا.(81/3)
تعريف التنجيم
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (باب ما جاء في التنجيم): قال شيخ الإسلام رحمه الله: التنجيم هو: الاستدلال بالأحوال الفلكية، على الحوادث الأرضية.
وقال الخطابي: علم النجوم المنهي عنه: ما يدعيه أهل التنجيم، من علم الكوائن والحوادث التي ستقع في مستقبل الزمان، كأوقات هبوب الرياح ومجيء المطر، وتغير الأسعار، وما في معناها من الأمور التي يزعمون أنها تدرك معرفتها بمسير الكواكب في مجاريها، واجتماعها وافتراقها، يدعون أن لها تأثيراً في السفليات، وهذا منهم تحكم على الغيب، وتعاطٍ لعلم قد استأثر الله به، ولا يعلم الغيب سواه].
قد يقع شيء مما يخبر به المنجم -مثل ما يحصل مع الكاهن- وليس معنى ذلك أنه يعرف شيئاً، ولكن صادف القدر فصار فتنة لمن صدق به، وإلا هو ضرب من التخمين، وقد علم الناس كذب المنجمين، فكم من الحوادث التي وقعت حكموا بأنها ستأتي على هيئة كذا وكذا، وجاء الواقع بخلاف ذلك، وهناك وقائع وحوادث مشهورة جداً، دلت على ما نقول، ذكرها المؤرخون، وكان المنجمون يجمعون على شيء، فيصبح كذبهم ظاهراً وواضحاً، ومع ذلك المؤمن لا يحتاج إلى مثل هذا؛ لأنه يعرف كذبه من أول وهلة، وأن النجوم لا دخل لها في الحوادث المستقبلة.
وقوله هنا: الأزمان المستقبلة، والحوادث المستقبلة، يقصد به: الشيء الذي سيقع ولو في اليوم، بخلاف الذي وقع فإنه قد علم، أما الذي لم يقع فهو من أمور الغيب، لا يعلمه إلا الله، والنجم ليس له دخل في ذلك.(81/4)
حكم تعلم منازل القمر، وشرح أثر قتادة في ذلك
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال البخاري في صحيحه: قال قتادة: (خلق الله هذه النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجوماً للشياطين، وعلامات يهتدى بها، فمن تأول فيها غير ذلك أخطأ، وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به) ا.
هـ وكره قتادة تعلم منازل القمر، ولم يرخص ابن عيينة فيه.
ذكره حرب عنهما.
ورخص في تعلم المنازل أحمد وإسحاق].
الصواب: أن تعلم منازل القمر لا بأس به؛ لأن بذلك يعرف الحساب، ويعرف الوقت، فهو لا تأثير له في الحوادث وغيرها، إلا أن هذه المعرفة لا طائل تحتها، غير أنها أمر مباح، وشرح ذلك: أن القمر له منازل، كل ليلة يكون في واحدة، إلا ليلتين في الشهر أو ليلة، فإذا كان كاملاً فيكون في ليلتين ليس له منزلة، ويسمى الاستسرار، وإذا كان ناقصاً فليلة واحدة ليس له منزلة، والمنازل ثمان وعشرون منزلة فقط، وسميت منازل لأن القمر يكون بحذائها أو قريباً منها، وإلا فهي فوقه بكثير، ليست معه ولا قريباً منه، والكواكب كما هو معلوم تتفاوت في البعد، فبعضها بعيد بعداً شاسعاً جداً، وبعضها أقرب من ذلك، والصواب أنها كلها تحت السماء الدنيا، وليس منها شيء فوق السماء الدنيا، أو في السماء الثانية، أو الثالثة، أو الرابعة، أو السابعة، كما يقول المنجمون قديماً، فإنهم يزعمون -كما هو مشهور عندهم- أن القمر في السماء الدنيا، وأن الشمس في السماء الرابعة، وأن زحل في السماء السابعة، وهكذا كانوا يجعلون كل كوكب من الكواكب السيارة السبعة وغيرها في منزل، فهذا في سماء، وذاك في سماء أخرى.
فإذا قيل لهم: كيف ذلك؟ قالوا: إن السماوات شفافة، يعني: أن الكواكب ترى من خلفها، وهذا تحكم، وليس لهم عليه أيّ دليل، بل هو كذب، وعلم هذا عند الله جل وعلا، والله جل وعلا أخبرنا في كتابه أنها في السماء الدنيا، فقال سبحانه: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} [الصافات:6]، وجاء في عدد من آيات الله جل وعلا يخبر أنها في السماء الدنيا، ولكن بعضها تحت بعض؛ لأن كل واحد منها له فلك يسير فيه، وهي مختلفة المسير، فبعضها بطيئة السير، وبعضها سريعة، وبعضها يكون سيرها عكسياً، ولكنها متقنة إتقاناً عجيباً؛ حيث إنها تسير سيراً منتظماً، وبعضها كبير وبعضها موغل في الكبر، وبعضها أصغر من ذلك، وبعضها ثابت، وبعضها غير ثابت، بمعنى: أنه لا يقطع السماء إلا بعد ثلاثين سنة، أعني: يغيب عن الأرض ويخرج عليها مرة أخرى بعد ثلاثين سنة، وبعضها في أقل من ذلك بكثير، وبعضها في شهر، وبعضها في أسبوع، وبعضها في أقل من ذلك، فهي تختلف، وكل هذه الأمور من النظر إلى مسيرها، وإلى أوقاتها، وإلى أجرمها وأبعادها يدخل في تعلم منازل القمر، وقد ذكر عن قتادة أنه لم يرخص فيه، ورأى أنه من الأمور التي قد تكون -أقل ما تكون- مشكلة عند غيره.
وبعضهم رخص في ذلك، وقال: لا بأس به؛ لأن فاعل ذلك يعترف أنها مدبَرة ومسخرَة، وأنها آيات دالة على وجود الله جل وعلا، أما إذا كان يتعلق فيها بشيء آخر كمعرفة الحوادث ووقائع الأمور فهذا أمر آخر، وسبق أنه لا يجوز.
والمقصود: أن القمر ينزل كل ليلة في واحدة من هذه المنازل، وكل واحدة من هذه المنازل تسمى (منزلة القمر)، وليس معنى ذلك أن الكوكب يقترن بها، بل يكون محاذياً لها، وقد يكون عن يمينها، أو عن شمالها، أو أمامها، أو خلفها، وهي فوقه بكثير؛ لأن القمر هو أقرب الكواكب إلى الأرض؛ وكل الكواكب فوقه، فتسميتها منازلاً هذا معناه: أنه يكون قريباً منها، وكل منزلة بينها وبين الأخرى ثلاثة عشر يوماً في الطلوع والغروب، أعني: إذا طلعت هذه فبعد ثلاثة عشر يوماً تطلع التي بعدها، وكذلك إذا غربت تلك تطلع المقابلة لها من الشرق؛ لأن على سطح الأرض دائماً يُرى أربعة عشر منه، وتحت الأرض أربعة عشر، فهي دائمة المسير هكذا.
وهذه هي التي يسميها العرب (الأنواء)، ويضيفون إليها هطول المطر، وهبوب الرياح، وما إلى ذلك، وقد أنكر ذلك السلف، ولهذا لما قال رجل عند الحسن البصري: طلع سهيل وبرد الليل، قال الحسن: ليس عنده أي شيء لا من البرودة ولا من الحرارة، والله جعل الأوقات مختلفة، فلا يجوز إضافة شيء من ذلك إلى سهيل ولا إلى غيره، وإنما هو الفاعل الله جل وعلا، وهو الذي جعل الأوقات متغيرة: فمرة تكون برداً، ومرة تكون حراً، ووقتاً تكون معتدلة وهكذا، فهذا كله إلى الله، لا يجوز أن نضيفه إلى النجوم، ولا إلى مخلوق من مخلوقاته؛ لأنه صنع رب العالمين جل وعلا، وهو الذي يدبر الكون كله.
وكذلك منازل القمر ليس عندها شيء من هذا، وإن كان يستدل بها على هذه الأوقات؛ لأن السنة تتكون من بروج معروفة، وهي: اثنا عشر برجاً، كل برج له أربع من هذه المنازل.
وعلى كل حال هذه الأمور: أمور الحساب، ومعرفة القمر من الأشياء المباحة، ولكن غيرها أنفع منها.
قال الشارح رحمه الله: [هذا الأثر علقه البخاري في صحيحة، وأخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وغيرهم.
وأخرجه الخطيب في كتاب (النجوم) عن قتادة، ولفظه قال: (إنما جعل الله هذه النجوم لثلاث خصال: جعلها زينة للسماء، وجعلها يهتدى بها، وجعلها رجوماً للشياطين، فمن تعاطى فيها غير ذلك فقد قال برأيه، وأخطأ حظه، وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به، وإن ناساً جهلة بأمر الله، قد أحدثوا في هذه النجوم كهانة: من أعرس بنجم كذا وكذا كان كذا وكذا، ومن سافر بنجم كذا وكذا كان كذا وكذا، ولعمري ما نجم إلا ويولد به الأحمر والأسود، والطويل والقصير، والحسن والدميم، وما علم هذه النجوم وهذه الدابة وهذا الطائر بشيء من هذا الغيب، ولو أن أحداً علم الغيب لعلمه آدم الذي خلقه الله بيده، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء).
انتهى].
قوله: (وعلمه أسماء كل شيء)، أي: هو فُضّل بذلك على سائر الخلق، فلو كان هذا فيه منة وفيه خير لعلمه.
وقوله: (لعمري)، قد يشكل على بعض طلبة العلم؛ لأنهم يظنون أن هذا قسم، والقسم لا يجوز أن يكون بغير الله جل وعلا، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)، وقال: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك)، وقال: (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم)، فلا يجوز أن يحلف الإنسان بغير الله، وكلمة: (لعمري) ليست بحلف، إنما هي أسلوب من أساليب اللغة العربية للتأكيد فقط، ولهذا جاءت عن الصحابة وعن غيرهم من السلف كما في قول قتادة هنا.
وأما قوله جل وعلا: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر:72]، فهو قسم بعمر النبي صلى الله عليه وسلم، وليس فيه دليل على جواز الحلف بغير الله، بل هذا جارٍ على أسلوب اللغة العربية، والقرآن نزل بلغة العرب.(81/5)
بيان أن النجوم والكواكب ليست ملاصقة للسماء الدنيا، والرد على من يورد شبهاً في ذلك
قال الشارح رحمه الله: [فتأمل ما أنكره هذا الإمام مما حدث من المنكرات في عصر التابعين، وما زال الشر يزداد في كل عصر بعدهم حتى بلغ الغاية في هذه الأعصار، وعمت به البلوى في جميع الأمطار، فمقل ومستكثر، وعز في الناس من ينكره، وعظمت المصيبة به في الدين، فإنا لله وإنا إلي راجعون.
قوله: (خلق الله هذه النجوم لثلاث) قال الله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} [الملك:5]، قال تعالى: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل:16].
وفيه إشارة إلى أن النجوم في السماء الدنيا، كما روى ابن مردويه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما السماء الدنيا فإن الله خلقها من دخان، وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وزينها بمصابيح، وجعلها رجوماً للشياطين، وحفظاً من كل شيطان رجيم)].
ولا ينبغي أن يفهم أن النجوم والكواكب ملاصقة للسماء، ولا يلزم ذلك، فإن المعروف أن هناك تفاوتاً بين بعضها البعض، فبين القمر وغيره تفاوت هائل في البعد، والقرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن تكون مخالفة للواقع، وبعض الناس قد يقول قولاً يظنه حقاً ويصر عليه، ويزعم أن القرآن يدل على ذلك، ولما يتثبت بعد من صحة ما فهم، فيكون في هذا فتنة له ولغيره.
فمثلاً الذي يقول: إن القمر في السماء، وإنه ملاصق لها! وقد شاهد الناس أو المختصون بهذا بعد القمر عن السماء، وأنه إلى الأرض أقرب منها إلى السماء بكثير جداً، فإذا ما سمع خبراء الفلك وعلماء الكواكب التفسير السابق المدعم بالأدلة -كما يزعم صاحبه- ظنوا أن القرآن يخالف الواقع والحقائق العلمية، وماكان كذلك فلا يكون صحيحاً.
كما أنه وجد -مثلاً- من يقول: بأن الأرض مسطحة وليست كروية، مستدلاً على ذلك بقول الله جل وعلا: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية:17 - 20]، وقال في الآية الأخرى: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات:30] وما أشبه ذلك، فإذا سمع الإنسان الذي يعرف كروية الأرض وليس عنده في ذلك شك فإنه سينسب الخطأ إلى القرآن، وسيقول: هذا دليل على القرآن ليس صحيحاً، ولو كان صحيحاً ما كان مخالفاً للواقع، فيكون فتنة له، ولهذا لا يجوز للإنسان أن يتكلم بالشيء الذي لا يعرفه، بل يجب أن يكون كلامه عن علم ومعرفة، وألا يقول على الله جل وعلا شيئاً لا يعرف حقيقته.
فلهذا يقول العلماء: إن القول على الله بلا علم يكون أعظم من الشرك أو معادلاً له؛ لأن فيه مفاسد عظيمة: إما نسبة الباطل إلى دين الله وإلى حكمه وإلى قوله، أو نسبة الكذب إليه، نسأل الله العافية.
والمقصود: أنه ليس معنى قوله هنا: إن الكواكب في السماء الدنيا: أنها ملاصقة للسماء، فكل ما فوق الإنسان يصح أن يقال له: سماء، والشيء الذي فوقنا كله في السماء، السحاب في السماء، والهواء الذي يأتي من فوق في السماء، وكذلك النجوم وغيرها، ولكن في نظر العين إذا نظر الإنسان فوقه فإنه يرى أن الكواكب كأنها مصابيح معلقة في السماء، وهي زينة على كل حال عند النظر إليها.(81/6)
من فوائد النجوم الاهتداء بها
قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله: (وعلامات) أي: دلالات على الجهات (يهتدى بها) أي: يهتدي بها الناس في ذلك، كما قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام:97] أي: لتعرفوا بها جهة قصدكم، وليس المراد أنه يهتدى بها في علم الغيب كما يعتقده المنجمون، وقد تقدم وجه بطلانه، وأنه لا حقيقة له، كما قال قتادة، (فمن تأول فيها غير ذلك) -أي: زعم بها غير ما ذكره الله في كتابه من هذه الثلاث- فقد أخطأ، حيث زعم شيئاً ما أنزل الله به من سلطان، وأضاع نصيبه من كل خير؛ لأنه شغل نفسه فيما يضره ولا ينفعه].
والنجوم كذلك يستدل بها على جهة القبلة، وعلى الجهات الرئيسية المعروفة، وقد ذكر الفقهاء مسألة، فقالوا: هل يجب على الإنسان أن يتعلم الأمور التي يعرف بها جهة القبلة؟ فبعضهم يوجب هذا، ويقول: واجب عليه أن يعرف؛ لأن الإنسان لا ينفك عن السفر وعن الذهاب والإياب في الأرض، ويكون وحده أحياناً، وقد يكون مع جماعة لا يعرفون القبلة، واستقبال القبلة شرط في صحة الصلاة، فينبغي أن يكون عنده معرفة من ذلك ليجتهد، والنجوم تعرف بها جهة القبلة، فأما إذا كان في النهار فيكون ذلك إما بالشمس أو بالجبال أو بالرياح؛ لأن هناك جهات رئيسية غالباً تهب منها الرياح، والجبال كلها -إلا نادراً- تكون مستقبلة للغرب، ووجوهها إلى الغرب، هذا إذا كانت جبال كبيرة، وأما الجبال الصغيرة فلا عبرة فيها، فلهذا جعلت من الأقسام التي يستدل بها على القبلة.(81/7)
المنجم دجال كالكاهن
قال الشارح رحمه الله: [فإن قيل: المنجم قد يصدق، قيل: صدقه كصدق الكاهن يصدق في كلمة ويكذب في مائة، وصدقة ليس عن علم، بل قد يوافق قدراً فيكون فتنة في حق من صدقه، وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَعَلامَاتٍ} [النحل:15 - 16] فقوله: (وعلامات) معطوفاً على ما تقدم مما ذكره في الأرض، ثم استأنف فقال: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل:16]، ذكر ابن جرير عن ابن عباس بمعناه.
وقد جاءت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بإبطال علم التنجيم، كقوله: (من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر، زاد ما زاد).
وعن رجاء بن حيوة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن مما أخاف على أمتي التصديق بالنجوم، والتكذيب بالقدر، وحيف الأئمة) رواه عبد بن حميد.
وعن أبي محجن مرفوعاً: (أخاف على أمتي ثلاثاً: حيف الأئمة، وإيماناً بالنجوم، وتكذيباً بالقدر) رواه ابن عساكر وحسنه السيوطي.
وعن أنس رضي الله عنه مرفوعاً: (أخاف على أمتي بعدي خصلتين: تكذيباً بالقدر، وإيماناً بالنجوم)، رواه أبو يعلى وابن عدي والخطيب في كتاب (النجوم)، وحسنه السيوطي أيضاً.
والأحاديث في ذم التنجيم والتحريم منه كثيرة.
[قال الخطابي: أما علم النجوم الذي يدرك من طريق المشاهدة والخبر الذي يعرف به الزوال، وتعلم به جهة القبلة: فإنه غير داخل فيما نهي عنه، وذلك أن معرفة رصد الظل ليس شيئاً بأكثر من أن الظل مادام متناقصاً، فالشمس بعد صاعدة نحو وسط السماء من الأفق الشرقي، وإذا أخذ في الزيادة فالشمس هابطة من وسط السماء نحو الأفق الغربي، وهذا علم يصح إدراكه بالمشاهدة، إلا أن أهل هذه الصناعة قد دبروها بما اتخذوا له من الآلات التي يستغني الناظر فيها عن مراعاة مدته ومراصدته.
أما ما يستدل به من النجوم على جهة القبلة: فإنها كواكب رصدها أهل الخبرة بها من الأئمة الذين لا نشك في عنايتهم بأمر الدين ومعرفتهم بها، وصدقهم فيما أخبروا به عنها، مثل أن يشاهدها بحضرة الكعبة، ويشاهدها على حال الغيبة عنها، فكان إدراكهم الدلالة منها بالمعاينة، وإدراكنا ذلك بقبول خبرهم، إذ كانوا عندنا غير متهمين في دينهم، ولا مقصرين في معرفتهم.
ا.
هـ].
هذا ليس بقاصر عليهم، بل كل عاقل إذا نظر إلى ذلك أدركه وعرفه، فليس معنى ما سبق أنه متوقف عليهم، وإذا أخبروا وجب قبول خبرهم، بل يجب أن يُنظر ويُسبر الحال؛ لأن الأمر واضح وجلي، وكل من له عقل وفكر ونظر يدرك هذا.(81/8)
ذكر من رخص في تعلم منازل القمر
قال الشارح رحمه الله تعالى: [روى ابن المنذر عن مجاهد أنه كان لا يرى بأساً أن يتعلم الرجل منازل القمر.
وروى عن إبراهيم أنه كان لا يرى بأساً أن يتعلم الرجل من النجوم ما يهتدي به].
معنى تعلم منازل القمر: أن يعرفها بأعيانها، أن يعرف أن القمر ينزل في كذا، ويعرف أن منها أربعة عشر منزلاً يدور على القطب الجنوبي، وأربعة عشر أخرى تدور على القطب الشمالي، ولهذا تسمى بعضها يمانية، وبعضها شامية، وعلى كل حال أمرها سهل، وليس تحت تعلمها طائل، إلا أن يكون بها معرفة الحساب.
قال الشارح رحمه الله تعالى: [قال ابن رجب: والمأذون في تعلمه علم التسيير لا علم التأثير، فإنه باطل محرم، قليله وكثيره، وأما علم التسيير فيتعلم منه ما يحتاج إليه من الاهتداء، ومعرفة القبلة، والطرق، جائز عند الجمهور].
وكذلك إذا عرف أجرام الكواكب وأبعادها جائز؛ لأنها آيات دالة على الله جل وعلا، وقد أخبر جل وعلا أنها آيات.(81/9)
ترجمة حرب الكرماني وإسحاق بن راهويه
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (ذكره حرب عنهما) هو الإمام الحافظ حرب بن إسماعيل أبو محمد الكرماني الفقيه من جلة أصحاب الإمام أحمد، روى عن أحمد وإسحاق وابن المديني وابن معين وغيرهم، وله كتاب المسائل التي سئل عنها الإمام أحمد وغيره، مات سنة ثمانين ومائتين.
وأما إسحاق فهو ابن إبراهيم بن مخلد أبو أيوب الحنظلي النيسابوري الإمام المعروف بـ ابن راهويه، روى عن ابن المبارك وأبي أسامة وابن عيينة وطبقتهم.
قال أحمد: إسحاق عندنا إمام من أئمة المسلمين.
روى عنه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود وغيرهم، وروى هو أيضاً عن أحمد.
مات سنة تسع وثلاثين ومائتين].(81/10)
شرح حديث: (ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن الخمر)
قال المصنف رحمه الله: [وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن الخمر، وقاطع الرحم، ومصدق بالسحر) رواه أحمد وابن حبان في صحيحه].
سبق أن التنجيم نسبة إلى النجوم، وأنه منقسم إلى أقسام: منه ما هو جائز، ومنه ما هو كفر بالله جل وعلا، ومنه ما هو مختلف فيه كما سبق، فأما الذي هو جائز: فهو الاستدلال بها على الجهات في المسير، سواء في البحر أو في البر أو على القبلة وما أشبه ذلك.
وأما المختلف فيه: فهو تعلم منازل القمر، فإن فيه خلاف بين العلماء، منهم من أجازه وأباحه، ومنهم من كرهه.
وأما المحرم: فهو الاستدلال بطلوع الكواكب أو اقترانها أو مسيرها على أنه سيحدث في الأرض شيء من مرض، أو رياح، أو حروب، أو غلاء أسعار أو رخصها، أو سعادة أو شقاء، أو ما أشبه ذلك؛ فإن هذا كفر بالله جل وعلا؛ لأنه يضيف الحوادث إلى غير موجدها وإلى غير خالقها.
أما ما ذكره في هذا الحديث فإنه قسم آخر، فقوله: (ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن الخمر، وقاطع الرحم، ومصدق بالسحر) المدمن هو: المديم على الشيء، الذي يفعل الشيء ولا يقلع عنه، بل يستديم عليه، من أدمن الشيء إذا تردد فيه وألفه، وصار ديدنه ذلك، بخلاف الذي يفعله مرة ثم يتركه، فإن هذا لا يُعد مدمناً، وإنما يكون مدمناً الذي يألف الشيء ويستمر عليه، والخمر أم الخبائث، والواقع أنه ليس المقصود بالخمر الذي هو عصير العنب أو عصير الشعير أو عصير التمر، وما يصنع من هذه الأشياء، ليس هذا المقصود، فالخمر: اسم جامع لكل ما يخامر العقل ويغطيه من كل شيء كان، سواء كان من الأمور التي يزعم أن فيها نفعاً، أو من الأمور التي هي ضرر كلها ليس فيها نفع، قال الله جل وعلا: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:219]، فإن كل شيء يكون فيه النفع للإنسان مباحاً، فإذا كان ضرره أكثر من نفعه فهو محرم، وإن كان فيه نفع، ولكن هناك أشياء من المسكرات ضررها محض ليس فيها أي نفع، وهي أنواع شتى وكثيرة جداً، وبعضها أعظم من بعض، ولكن كلها تدخل في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: مدمن الخمر، وقد جاء صلوات الله وسلامه عليه بجوامع الكلم حيث إنه قال: (كل مسكر خمر)، وقال: (وما أسكر كثيره فقليله حرام).
والسكر هو: تغطية العقل، وقد يكون بالمفتر أو بالمخدر الذي يفتر البدن ويخدره، لأنه نوع من الإسكار، فإذا اعتاد الإنسان شيئاً من ذلك فقد لا يؤثر عليه، ومع ذلك يكون حكمه ما ذكر.
والشاهد هنا قوله: (ومصدق بالسحر)، وإذا كان هذا الوعيد بحق من صدق الساحر، فكيف بالساحر نفسه؟! لهو أشد جرماً وأعظم إثماً.
وكذلك التنجيم يدخل في هذا النوع، فقد جاء في حديث ابن عباس مرفوعاً: (من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر، زاد ما زاد)، والسحر هو: ما لطف وخفي سببه، أي: خفي على بعض الناس، وهو لا يكون إلا بواسطة الشياطين، ومثله الاقتباس من النجوم بأن تجعل الحوادث المستقبلة بطلوع النجوم أو بغروبها أو بأفولها أو ما أشبه ذلك، وهذا يعد رجماً بالغيب ليس لها صلة بالحوادث أصلاً، وإنما هو كذب وافتراء على الله جل وعلا، وقد يقع شيء من ذلك فيكون فتنة لمن يصدق بهذا.
أما قوله: (لا يدخلون الجنة) القول الصحيح فيه من أقوال العلماء: أنه لا يتعرض له لا بتأويل -يعني: تفسير- ولا برد، مع الثقة بأن مرتكب الكبيرة لا يكون كافراً، ولكن هذا إلى الله جل وعلا، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم وأخبر الله جل وعلا عن ذلك، فيبقى على ما أخبرا به، والخوف قائم على هذا الإنسان الذي فعل هذا الفعل، وهو على خطر عظيم، ولكنه بهذا الفعل لا يخرج من دين الإسلام، فقول الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10]، يبقى خطاب الله جل وعلا على ما قال، ويبقى آكل أموال اليتامى على خطر عظيم، ولكن أكلهم لأموال اليتامى لا يخرجهم من الدين الإسلامي، إلا أن هذا الوعيد فيهم، وأمرهم إلى الله، يجوز أن الله جل وعلا يمضي ذلك فيهم، وهذا هو الظاهر، ويجوز أن يعفو عنهم ولا يعاقبهم، فالأمر إليه، أما العباد فلا يجزمون بشيء، ولهذا يجب أن يُمتنع من الجزم بشيء؛ فإن الإنسان لا يخاطر بنفسه، وهكذا سائر الذنوب الكبار التي وردت فيها النصوص الشديدة، مثل: شرب الخمر، وتصديق السحر، وأكل الربا.
أما المتأول لها فإنه أيضاً على خطر ويخشى أن يكون من القول على الله بلا علم؛ لأنه عين معنىً، وليس له عليه دليل إلا عمومات الألفاظ، فالأولى أن يترك ما جاء على ما جاء، والشاهد في هذا قوله: (ومصدق بالسحر)، وعلم التأثير -تأثير النجوم بالأحوال- علم مبني على الكذب والحدس والظنون الكاذبة، وفيه أيضاً نسبة الحوادث إلى غير محدثها وموجدها، فيكون معتقد ذلك مستحقاً هذا الوعيد.
قال الشارح رحمه الله تعالى: [هذا الحديث رواه أيضاً الطبراني والحاكم وقال صحيح، وأقره الذهبي، وتمامه: (ومن مات وهو يدمن الخمر سقاه من نهر الغوطة، نهر يجري من فروج المومسات، يؤذي أهل النار ريح فروجهن)].
أحوال النار التي أخبر الله جل وعلا بها فوق ما تتصوره عقول الناس، فالنار التي نراها ونشاهدها تحرق كل شيء، تحرق الرطب واليابس، ولكن نار جهنم أخبرنا الله جل وعلا أن فيها شجر الزقوم، ومع أنها متناهية في الحرارة ففيها كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم نهر الغوطة: الذي يجري من فروج الزواني والزانيات في نار جهنم، وهو شيء قبيح جداً يؤذي أهل النار، فهذا الذي يشرب الخمر يُسقى من هذا القبيح المنتن.
وجاء أنه صلى الله عليه وسلم قال: (حق على الله جل وعلا أن يسقيه من طينة الخبال؟ فقيل: وما طينة الخبال؟ قال: عصارة فروج أهل النار)، وكل هذه الأشياء التي وردت أنها تحصل في النار يجب الإيمان بها، وإن كانت على خلاف ما يعهده الإنسان، ثم فيها أمور أخرى: فيها حيات، وفيها عقارب، وفيها كلاب، وفيها أنواع العذاب، ومع ذلك فيها ملائكة يدبرون أمورها، ويعذبون أهلها، ولكنهم خلقوا لهذا فلا تضرهم، والله أخبر أن: {عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، كل هذه الأمور التي يخبر الله جل وعلا بها لا يجوز أن نقيسها على الشيء الذي نفهمه ونعرفه، وهي أمور غيبية تبنى على خبر الله وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا غالب أمور الآخرة، بل كل ما بعد الموت فغالبه أنه لا يخضع للعقل، ومن أخضعه لعقله قد يصبح زنديقاً لعدم إيمانهبالله، واستيعاب علقه له؛ لأن عقل العبد قاصر، والواجب أن يؤمن العبد بكل ما أخبر الله جل وعلا به وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم.(81/11)
الرد على من يحملون نصوص الوعيد على التكفير
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (وعن أبي موسى) هو عبد الله بن قيس بن سليم بن حضّار بفتح المهملة وتشديد الضاد، أبو موسى الأشعري، صحابي جليل، مات سنة خمسين.
قوله: (ثلاثة لا يدخلون الجنة)، هذا من نصوص الوعيد التي كره السلف تأويلها، وقالوا: أمروها كما جاءت، ومن تأولها فهو على خطر من القول على الله بلا علم].
وهذا القول هو الصحيح، والناس فيها على مذهبين: أحدهما راجح، والآخر باطل قطعاً، والمذهب المختار هو الذي ذكره هنا، أما المذهب الباطل قطعاً فهو مذهب الخوارج، الذين يجعلون هذه النصوص دليلاً على كفر مرتكب الكبيرة، وهذا باطل بلاشك.
وهناك مذهب أهل التأويل الذين يقولون: هذا جزاؤه لو جازاه، ولكن الله يخلف الوعيد، وأما الوعد فإنه لا يُخلفه، ويقولون: هذا جزاؤه أيضاً لو استحله، وهذا ليس عليه دليل.
والواقع أن الإنسان في هذا القول على خطر عظيم؛ لأنه قد يكون قال على الله ما لم يقل، فالصواب أن يقول الإنسان أمام هذه الأشياء: الله أعلم بمراده، وعلينا أن نؤمن بها ونحذر، ونقول: الله أعلم بمراده.
أما مرتكب الكبيرة -على مذهب أهل السنة- إذا لم يستحل الفعل المحرم المجمع على حرمته فهو مسلم، أما إذا استحله فهو بالاتفاق كافر، ومثله من حرم حلالاً معروفاً من الشرع أنه حلال فإنه يكون كافراً، وهذا لا خلاف فيه.
أما كون قولنا: القول الصواب في هذه النصوص الوعيدية أن نقول: الله أعلم بمراده فهو لأمرين: الأمر الأول: أنه أسلم، فإن من تأوله على خطر.
والأمر الثاني: أنه أدعى للانزجار والانكفاف عن فعل هذه الأمور وهذه المعاصي، وهذا هو الذي أراده الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الأخبار؛ فإنه أراد أن يكون ذلك مانعاً من فعل واقتراف هذه المعاصي، بخلاف التأويل فإنه يقلل من خطرها.(81/12)
تحريم قطيعة الرحم
قال الشارح رحمه الله تعالى: [وأحسن ما يقال: إن كل عمل دون الشرك والكفر المخرج من ملة الإسلام فإنه يرجع إلى مشيئة الله، فإن عذبه به فقد استوجب العذاب، وإن غفر له فبفضله وعفوه ورحمته.
قوله: (مدمن الخمر)، أي: المداوم على شربها.
قوله: (وقاطع الرحم)، يعني: القرابة، كما قال الله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد:22] الآية].
تمام الآية: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:23]، فأخبر سبحانه أن قاطع الرحم ملعون، وقطيعة الرحم: هو عدم صلتها، وصلة الرحم تكون بالشيء الذي يعتاده الناس ويتعارفون عليه ولو بالكلام، ولو بالزيارة، ولا يلزم أن تكون الصلة بالمال، لكن القطيعة هي عدم المواصلة، لا بكلام، ولا بزيارة، ولا بالشيء الذي يتعارف عليه الناس.
والرحم هي: كل قرابة من جهة النسب، فكل قرابة من جهة النسب هي رحم، ومعلوم أنها تختلف: فمنها ما هو ألزم من بعض وأوجب من بعض، فتقدم قرابة الأبوة والبنوة، ثم الأخوة، ثم العمومة، وهكذا، فالقرابات تختلف، وحقوقها تختلف باختلاف قربها، وإن كانت بعيدة من جهة النسب فهي أيضاً قرابة ويجب أن توصل كما أمر الله جل وعلا بصلتها.
وليست الصلة أنه يذهب كل يوم يزور أرحامه، أو يكلمهم كل يوم، أو كل أسبوع، أوكل شهر، أو كل سنة، بل هذا يرجع إلى العرف، فإذا كان القريب إذا زرته في الشهر مرة أو في السنة يقتنع بهذا ويرضى فإن هذه تكون صلة، والمقصود ألا يكون بين القريب وقريبه نفرة وعداوة يكون مصدرها وسببها الجفاء، فإذا كانت المودة موجودة وإن تباعدت الديار، وإن تباعدت الزيارات، فلا يعد ذلك قطيعة، إنما القطيعة هي الجفاء، وعدم القيام بالشيء الذي يطلب منه، سواء كان زيارة وتكليماً أو ما أشبه ذلك.(81/13)
السيميا نوع من السحر
قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله: (ومصدق بالسحر)، أي: مطلقاً، ومنه التنجيم؛ لما تقدم من الحديث، وهذا وجه مطابقة الحديث للترجمة.
قال الذهبي في (الكبائر): ويدخل فيها تعلم السيميا وعملها، وعقْد المرء عن زوجته، ومحبة الزوج لامرأته، وبغضها وبغضه، وأشباه ذلك بكلمات مجهولة.
قال: وكثير من الكبائر -بل عامتها إلا الأقل- يجهل خلق من الأمة تحريمه، وما بلغهم الزجر فيه ولا الوعيد عليه.
ا.
هـ].
السيميا: نوع من السحر، كما أن عقد الرجل عن زوجته أو بالعكس عقدها عنه نوع من السحر أيضاً، وقد سبق ذكره، والسحر كله حرام، قليله وكثيره ولكن الذي يفعله ويتعاطاه أعظم ممن يُفعل ويُصنع له.(81/14)
مسائل باب ما جاء في التنجيم
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيه مسائل: الأولى: الحكمة في خلق النجوم.
الثانية: الرد على من زعم غير ذلك].
الحكمة في خلق النجوم سبق أنها ثلاثة أشياء، كما ذكرها الله جل وعلا في القرآن: زينة للسماء، وعلامات يهتدى بها، ورجوم للشياطين، هذه هي الحكمة.
[الثالثة: ذكر الخلاف في تعلم المنازل].
منازل القمر الصواب: أن تعلمها جائز، وهذه المنازل الثمان والعشرون سبق أنها في كل ثلاثة عشر ليلة تغرب منها واحدة وتطلع التي تقابلها، وفي نهاية السنة تنتهي، ثم تبدأ من جديد وهكذا، وهذا تدبير لله جل وعلا، يدل على تمام قدرته، وعلى إتقانه جل وعلا كل شيء، ومثل تعلمها تعلم البروج، وكذلك الكواكب السيارة السبعة وغيرها، فالكواكب مثلاً تختلف باختلاف مسيرها؛ كما تختلف في أبعادها وأجرامها وأفلاكها، فمن نظر فيها للاهتداء والاستدلال على قدرة الله وعظمته جل وعلا فلا بأس بهذا، بل قد يكون ذلك مستحباً، أما إذا نظر فيها ليستدل بها أو بمسيرها أو بطلوعها وأفولها على حدوث شيء أو سعادة شيء أو شقاوته فهذا هو المحظور الذي لا يجوز.
[الرابعة: الوعيد فيمن صدق بشيء من السحر، ولو عرف أنه باطل].(81/15)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [82]
جاء نبينا صلى الله عليه وسلم بإبطال كل أمر من أمور الجاهلية لا يكون موافقاً للحق، والاستسقاء بالأنواء من عادة أهل الجاهلية ومن دينهم، وقد جعله النبي صلى الله عليه وسلم كفراً؛ لأنهم أضافوا ما نزل بهم من رحمة ورزق من الله إلى طلوع كوكب ما أو غروبه، ومن أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم أنه أخبر أن هذا الفعل باق في هذه الأمة ومستمر فيها.(82/1)
تعريف الاستسقاء بالأنواء وحكمه
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: ما جاء في الاستسقاء بالأنواء].
الاستسقاء: طلب السقيا، استسقى إذا طلب أن يُسقى، والاستسقاء بالأنواء: أن يضاف نزول المطر إليها، والأنواء هي: منازل القمر، والعرب كانوا يعتنون بها ويعرفونها، وذلك أنه كان غالب مساكنهم الصحراء، وكانوا يعتمدون على المطر لمواشيهم، وهذا هو مصدر رزقهم، ليس عندهم زراعات ولا تجارات ولا صناعات، فلأجل ذلك كانوا يعتنون بالنظر في الأفق في السماء كثيراً؛ يتطلبون نزول المطر الذي فيه رزقهم، ويرون أنه مصدر رزقهم، وإذا تأخر عليهم المطر ساءت أحوالهم؛ فلهذا صاروا ينظرون إلى الكواكب كثيراً، وينظرون متى يطلع الكوكب الفلاني ومتى يغرب، ويسبرون مجيء السحاب ونزول الأمطار، فإذا وافق نزول المطر طلوع هذا الكوكب أو أفوله يضيفون المطر إليه، ويقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا، وقد يتكرر هذا أحياناً، وأحياناً يجعلون هذا الكوكب كوكب سعد، وأحياناً يجعلونه كوكب نحس؛ لأنهم ما رأوا فيه أمطاراً، ولهذا سموا بعضها سعد السعود، وبعضها سعد بلاء وسعد الأخبياء وهكذا، فكل واحد كانوا يسمونه حسب عقيدتهم وحسب نظرهم، وهي عقيدة قاصرة جداً؛ ومبنية على أمور ظاهرة، وليست مهتدية بهداية الله أو بوحيه.
والرسول صلى الله عليه وسلم جاء بإبطال كل أمر من أمور الجاهلية لا يكون موافقاً للحق، فالاستسقاء بالأنواء من عادة أهل الجاهلية الكفار، ومن دينهم وشأنهم؛ ولهذا جعله الرسول صلى الله عليه وسلم كفراً، وأخبر أنه يستمر في هذه الأمة ويدوم فيها، كما قال صلى الله عليه وسلم: (أربع من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الطعن في الأنساب، والفخر بالأحساب، والنياحة على الميت، والاستسقاء بالنجوم) فذكر أن الاستسقاء بالأنواء مستمر فيهم.
والمقصود: أن الاستسقاء بالأنواء معناه: أنهم أضافوا ما نزل من رحمة ومن رزق من الله لهم إلى طلوع الكوكب أو غروبه.
وأما أنهم كانوا يعتقدون أن الكوكب هو الذي ينزل المطر، وهو الذي يخلقه ويوجده، فهذا لا يوجد في اعتقادهم؛ كما ذكر الله جل وعلا ذلك عنهم فقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت:63]؛ فلا يقولون: الكواكب، وإنما يقولون: الله، فهم يقرون بهذا، ولكن يضيفون نزوله إلى الكوكب، ويقولون: هذا الكوكب محمود؛ لأنه في وقته تأتي الأمطار، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن هذا كفر.
كما سيأتي.(82/2)
تعريف الأنواء
قال الشارح رحمه الله تعالى: [أي: من الوعيد، والمراد: نسبة السقيا ومجيء المطر إلى الأنواء، والأنواء: جمع نوء، وهي منازل القمر].
وسمي النوء لأنه ينوء إذا طلع، يعني: يظهر ويبين، أو ينوء إذا غرب، يعني: يختفي ويذهب، والنوء من الأضداد، مثل: عسعس إذا اختفى، وعسعس إذا بان، وكذلك ناء إذا ظهر وبان، وناء إذا غرب واختفى، فيجوز أن يضاف النوء إلى الغروب، ويجوز أن يضاف إلى الطلوع، وكلها لغة عربية معروفة؛ لأن كلام العرب له أنواع شتى، منها: الأضداد، فنوء هنا تطلق على الضدين: على الطلوع، وعلى الأفول، فالنوء معناه: الفعل الذي يضيفونه إلى الكوكب، سواء كان غروباً أو طلوعاً، والكوكب لا يفعل بنفسه، وإنما هو مدبَّر مسيَّر بأمر الله جل وعلا، جعله الله آية من آياته.
قال الشارح رحمه الله: [قال أبو السعادات: وهي ثمان وعشرون منزلة، ينزل القمر كل ليلة منزلة منها، ومنه قول الله تعالى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} [يس:39]، يسقط في الغرب كل ثلاثة عشر ليلة منزلة مع طلوع الفجر، وتطلع أخرى مقابلتها ذلك الوقت من المشرق، فتنقضي جميعها مع انقضاء السنة، وكانت العرب تزعم أن مع سقوط المنزلة وطلوع رقيبها يكون المطر، وينسبونه إليها ويقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا، وإنما سمي نوءاً؛ لأنه إذا سقط الساقط منها ناء الطالع بالمشرق، أي: نهض وطلع].(82/3)
معنى قوله تعالى: (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقول الله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة:82]].
هذه الآية جاء تفسيرها مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن الرزق هو المطر، والمعنى: تجعلون شكركم تكذيبكم، يعني: والتكذيب أنكم تضيفون نزوله إلى غير منزله ومسقيه وموليه الذي هو الله، وتقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا، والواجب أن يقول العبد: مطرنا بفضل الله ورحمته؛ فالله هو الذي أمطر، أما الكوكب فإنه لا دخل له في ذلك، فتجعلون نزول الرزق -الذي هو المطر- تكذيباً، وكان الأحرى بكم أن تشكروه، وتكذيبهم هو: نسبتهم المطر إلى النوء هذا قول.
القول الثاني في الآية: أي: تجعلون نصيبكم وحظكم من الإيمان بهذا الكتاب أنكم تكذبون به وتردونه، وكلا المعنيين صحيح وحق، ويدخل في الآية الأول والثاني.
قال الشارح رحمه الله: [روى الإمام أحمد والترمذي -وحسنه- وابن جرير وابن أبي حاتم والضياء في (المختارة) عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ) يقول: شكركم، (أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) تقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا، بنجم كذا وكذا)، وهذا أولى ما فسرت به الآية.
وروي ذلك عن علي، وابن عباس، وقتادة، والضحاك، وعطاء الخرساني وغيرهم].
إذا كان كذلك فيكون هذا من الشرك الأصغر، وهو شرك الألفاظ؛ لأنهم ما كانوا يعتقدون أن الكواكب هي التي تنزل المطر؛ ولكن يضيفون نزوله إلى طلوع الكوكب، يعني: أنه وقت طلوعه حصل لنا المطر الذي أنزله الله، وهذا لا يجوز، ويكون من الشرك الأصغر: شرك الألفاظ، فيجب على العبد أن يجتنبه، وأن يقول: نزل المطر بفضل الله وبرحمته، لا بطلوع الكوكب ولا بغيره، ولهذا اختلف العلماء في مجرد اللفظ، وفي كون الإنسان يقول: إن هذا من السبب أو جزء من السبب أو ما أشبه ذلك، فهل يجوز أو لا يجوز؟ الصواب: أنه لا يجوز؛ لأن كله داخل في ذلك، أما لو قال مثلاً: مطرنا في نوء كذا، فهذا مثل أن يقول: مطرنا في الشهر الفلاني، أو في اليوم الفلاني، يعني: أنه حصل المطر في ذاك الوقت، فهذا ليس داخلاً في ذلك؛ لمجيء كلمة (في) الظرفية أما إذا جاء بالباء السببية، فلا يجوز؛ لأن فيه إضافة إلى غير المسبب الموجد.
أما ما سيذكره عن القرطبي رحمه الله: أن من العرب من يعتقد أن الكوكب هو الذي ينزل المطر، وهو الذي يخلقه ويوجده، فهذا غير صحيح، ولا يوجد أحد من خلق الله من يعتقد ذلك، وإنما يجعلون ذلك سبباً أو جزءاً من السبب فقط، ومع ذلك إذا جعله سبباً يكون كفراً أكبراً، بخلاف ما إذا أضافه إضافة لفظية فقط، وعلى ما جرى في الألسن والعادة، فهذا يكون من الشرك الأصغر، وشرك الألفاظ التي يجب أن تجتنب، والرسول صلى الله عليه وسلم حذر من كل لفظ يكون فيه انتهاك لحق الله أو لقدره وعظمته، وحمى الأمة من الوقوع في المحذور، وهذه الحماية هي التي يسميها العلماء حماية جناب التوحيد وسد الذرائع، فسد كل ذريعة توصل إلى الشرك حتى في الألفاظ، وهذا من تمام نصحه صلوات الله وسلامه عليه للأمة.
قال الشارح رحمه الله تعالى: [وهو قول جمهور المفسرين، وبه يظهر وجه استدلال المصنف رحمه الله بهذه الآية].
أي: القول الأول: وهو كونهم يجعلون رزقهم أنهم يكذبون بأنهم يضيفون نزول المطر إلى الكواكب، يقول الشارح: هذا هو قول جمهور المفسرين، ولكن القول الثاني صحيح تدل عليه الآية أيضاً، وكلام الله له معانٍ واسعة كثيرة، والرسول صلى الله عليه وسلم حينما يبين ذلك، إنما يكون بحسب حاجة المتكلم أو السامع، وهذا التفسير هو مثل ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم لما سئل عن قوله تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} [التوبة:108] أي مسجد هذا يا رسول الله؟! فقال: (هو مسجدي هذا)، مع أن المعروف أن الآية نزلت في مسجد قباء؛ حينما ساق الله قصة مسجد الضرار، ومسجد الضرار بناه المنافقون قرب مسجد قباء؛ يريدون أن يكون محلاً لاجتماعهم ومؤامراتهم على الإسلام والمسلمين، فجعلوه بصفة المسجد، وزعموا أنه يكون لليلة الشاتية، وللإنسان الضعيف، والشيخ الكبير، أو المريض الذي لا يستطيع أن يصل إلى مسجد قباء، هكذا زعموا، فلما سئل صلى الله عليه وسلم عن هذا المسجد نزلت الآية في شأنه وفي شأن أهله، وأمر الله جل وعلا رسوله صلى الله عليه وسلم ألا يقوم فيه أبداً، وقال: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108]، وقد جاء في الصحيح أنه قال لأهل قباء: (إن الله أحسن الثناء عليكم فما هذه الطهارة؟) فأخبروه أنهم إذا قضوا الحاجة غسلوا أدبارهم، أي: استجمروا أتبعوا ذلك بالماء، فقال: (هو ذاكم فعليكموه)، ومع ذلك جاء في صحيح مسلم أنه سئل فقيل له: (أي مسجد هذا الذي أسس على التقوى؟ فقال: هو مسجدي هذا)، أي: إذا كان مسجد قباء أسس على التقوى، فمسجد الرسول صلى الله عليه وسلم من باب أولى أن يكون مؤسساً على التقوى، والقصد من إيراد هذا المثل: أنه إذا ذكر معنى من المعاني للآية، فإنه لا يدل على أن المعنى الثاني باطل أو أنه مردود، والذي ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم في تفسير الآية السابقة واضح وأولى أن تفسر الآية به، إلا أنه لا ينفي أن يكون لها معنىً آخر، وهو أن الكفار جعلوا حظهم من القرآن تكذيبه، وجعلوا حظهم من الإيمان والانتفاع به أنهم ردوه وكذبوا به، وبئس الحظ هذا.
قال الشارح رحمه الله تعالى: [قال ابن القيم رحمه الله تعالى: أي: تجعلون حظكم من هذا الرزق الذي به حياتكم: التكذيب به، يعني: القرآن.
قال الحسن: تجعلون حظكم ونصيبكم من القرآن أنكم تكذبون، قال: وخسر عبد لا يكون حظه من القرآن إلا التكذيب].(82/4)
شرح حديث: (أربع في أمتي من أمر الجاهلية)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة).
وقال: (النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران، ودرع من جرب) رواه مسلم].
قوله: (أمر الجاهلية) ذكر الجاهلية هنا ليدلنا على أن هذه الأفعال معيبة، وأنه لا يجوز أن يتحلى الإنسان بشيء منها.
والجاهلية: نسبة إلى الجهل، وليست إلى أشخاص معينين أو زمن معين، فكل ما كان مخالفاً للحق مخالفاً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فهو جاهلية، سواء كان زمنه قديماً أو جديداً.
وقوله: (في أمتي) يعني: في مجموعها، وليس في كل واحد منها، بل يوجد في مجموع الأمة.(82/5)
الدلائل على أن القرآن كلام الله
قال الشارح رحمه الله: [قال ابن القيم رحمه الله: ونظيره {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [السجدة:13]، وقوله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل:102].
هو إثبات علو الله تعالى على خلقه، فإن النزول والتنزيل الذي تعقله العقول، وتعرفه الفطر هو: وصول الشيء من أعلى إلى أسفل، ولا يرد عليه قوله {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر:6]، لأنا نقول: إن الذي أنزلها فوق سماواته فأنزلها لنا بأمره].
والدليل على أن القرآن نازل من الله جل وعلا من وجهين: أحدهما: كلمة تنزيل، في قوله {تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الواقعة:80].
الثاني: قوله: {مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:61]، فكلمة (من) تدل على أنه منه جل وعلا، وقولاً قاله، وقد جاءت النصوص الكثيرة تدل على هذا، وهذا واضح وجلي، والمسلمون -والحمد لله- كلهم يؤمنون بهذا، ولا يردونه، ولا يكذبون به، وإنما يكذب به من انتكست فطرته، وتغيرت عقيدته بكلام اليونان وبغيره، وبالأمور المستوردة الغريبة عن الإسلام، الذين أنكروا صفات الله جل وعلا، وأنكروا أنه يتكلم ويقول، وهذا أمر واضح البطلان.
وقد أراح الله جل وعلا المسلمين -والحمد لله- من شر هؤلاء، ومن سيطرتهم على الإسلام، لأنهم كانوا في وقت من الأوقات مسيطرين على المسلمين، وكان بيدهم القضاء والحكم وغير ذلك، فأراح الله جل وعلا المسلمين منهم، وكاد هذا المذهب الباطل أن ينسى، لولا أن كثيراً ممن يعتنق مذهب الأشاعرة يتبنى هذا القول، ويقول: إن الكلام الذي يضاف إلى الله كلام نفسي، أما كلام ينطق به ويسمع منه فهذا ينكرونه، ومع ذلك فإن هذا القول الذي يقولونه لا تقبله العقول والفطر، بل هو من أبطل الباطل، والأمر في هذا واضح -والحمد لله- ليس فيه خفاء.
أما قوله: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر:6]، والمقصود بهذا: الامتنان على العباد، وأن الله منّ عليهم ما أعطاهم من هذه الأنعام التي ينتفعون بها: بركوبها، وبالحرث عليها، وبأكل لحومها، وبغير ذلك من المنافع الكثيرة التي منّ الله جل وعلا بها عليهم، فهو منزل لها عليهم كما ينزل المطر، وليس معنى ذلك أنها نزلت من السماء، بل يجوز أن نقول: إنه النزول من ظهور الفحول في أرحام الإناث، فتنتج وتتناسل وتتكاثر، فتكون نعمة.
كما أنه أنزل الحديد وإنزال الحديد قد يكون من الجبال، وقد يكون من أشياء مرتفعة من الأرض أو غير ذلك، وهو منّة من الله جل وعلا، منّ بها علينا، فلا يرد تنزيل القرآن بمثل هذه التي قد يكون فيها شيء من المتشابه، ومعلوم أن أهل الباطل والزيغ يتعلقون بالمتشابه، ويتركون الواضح الجلي البين، وهذه علامة اتباع الهوى.
قال الشارح رحمه الله: [قال ابن القيم رحمه الله: وذكر التنزيل مضافاً إلى ربوبيته للعالمين، المستلزمة لملكه لهم، وتصرفه فيهم، وحكمه عليهم، وإحسانه إليهم، وإنعامه عليهم، وأن من هذا شأنه مع الخلق، كيف يليق به مع ربوبيته التامة أن يتركهم سدى، ويدعهم هملاً، ويخلقهم عبثاً، لا يأمرهم ولا ينهاهم، ولا يثيبهم ولا يعاقبهم؟! فمن أقر بأنه رب العالمين، أقر بأن القرآن تنزيله على رسوله، واستدل بكونه رب العالمين على ثبوت رسالة رسوله وصحة ما جاء به، وهذا الاستدلال أقوى وأشرف من الاستدلال بالمعجزات والخوارق، وإن كانت دلالتها أقرب إلى أذهان عموم الناس، وتلك إنما تكون لخواص العقلاء].
يقصد رحمه الله: أن الاستدلال بأسمائه وصفاته أقوى وأظهر من الاستدلال بالمعجزات التي جاءت بها الرسل، وإن كان الاستدلال بالمعجزات أقرب إلى أذهان عامة الناس، ولكن هذه إلى قلوب الخاصة أظهر وأبين، لأنه أمر مرتبط بعضه ببعض.
وعلى كلٍّ: فالدلائل على كون الله جل وعلا هو رب العباد وخالقهم، وهو المنعم عليهم، وهو الذي يجب أن يعبدوه، وهو الذي يكون مآلهم إليه، فيجازيهم بأعمالهم: لا حصر لها، فهي كثيرة جداً: في الأنفس، وفي الآفاق، وفي الأمور الخارجة عن العادة، وفي كل شأن من شئون الحياة، إذا فكر الإنسان في ذلك، فالأمر ليس مقصوراً على نوع من الأنواع.
قال الشارح رحمه الله: [قوله: {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ} [الواقعة:81]، قال مجاهد: أتريدون أن تمالئوهم فيه وتركنوا إليهم؟].
المقصود بالحديث في هذه الآية: القرآن، أي: أفبهذا القرآن الذي نزل عليكم تداهنون الكفار؟! تمالئونهم وتجارونهم على ما يريدون، وتتركون معاداتهم ومبادأتهم بالعداوة، وإظهار البغضاء والكراهة لهم، فإن هذا هو الذي يجب.
قال الشارح رحمه الله: [قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ثم وبخهم على وضعهم الإدهان في غير موضعه، وأنهم يداهنون فيما حقه أن يصدع به ويفرق به، ويعض عليه بالنواجذ، وتثني عليه الخناصر، وتعقد عليه القلوب والأفئدة، ويحارب ويسالم لأجله، ولا يلتوى عنه يمنة ويسرة، ولا يكون للقلب التفات إلى غيره، ولا محاكمة إلا إليه، ولا مخاصمة إلا به، ولا اهتداء في طرق المطالب العالية إلا بنوره، ولا شفاء إلا به، فهو روح الوجود، وحياة العالم، ومدار السعادة، وقائد الفلاح، وطريق النجاة، وسبيل الرشاد، ونور البصائر، فكيف تطلب المداهنة بما هذا شأنه ولم ينزل للمداهنة، وإنما نزل بالحق وللحق؟! والمداهنة إنما تكون في باطل قوي لا يمكن إزالته، أو في حق ضعيف لا تمكن إقامته، فيحتاج المداهن إلى أن يترك بعض الحق ويلتزم بعض الباطل، فأما الحق الذي قام به كل حق فكيف يداهن به؟ وقوله: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة:82]، تقدم الكلام عليها أول الباب والله تعالى أعلم].(82/6)
مسائل باب: ما جاء في الاستسقاء بالأنواء
[فيه مسائل: الأولى: تفسير آية الواقعة.
الثانية: ذكر الأربع التي من أمر الجاهلية].
وهي: الطعن في الأنساب، والفخر في الأحساب، والنياحة على الميت، والاستسقاء بالأنواء، هذه الأربع من أمور الجاهلية، وإضافتها للجاهلية كان على سبيل الذم والتحذير منها، فينبغي للإنسان أن يحذر من الوقوع فيها، وإذا وقع فيها فإنه واقع في أمر من أمور الجاهلية التي يعاقب الإنسان على فعلها.(82/7)
كفر دون كفر
[المسألة الثالثة: ذكر الكفر في بعضها].
أي: هو كفر النعمة، وكفر دون كفر، وليس الكفر المخرج من الدين الإسلامي؛ لقوله: (ثلاث في أمتي هم بهن كفر: الطعن في الأنساب، والفخر في الأحساب، والنياحة على الميت).
وقوله: (هم بهن كفر) جاءت كلمة الكفر هنا نكرة فيكون المراد به حنيئذ الغير مخرج من الدين الإسلامي، وإنما هو خصلة من خصال الكفر.
[المسألة الرابعة: أن من الكفر ما لا يخرج من الملة، المسألة الخامسة: قوله: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بسبب نزول النعمة].
فيكون كافراً كفر النعمة، وليس كافراً الكفر الذي يخرجه من الدين الإسلامي.(82/8)
إضافة النعمة للمنعم الحقيقي إيمان، وإنكارها كفر
[المسألة السادسة: التفطن للإيمان في هذا الموضع].
يعني في قوله: (مؤمن) حيث جعل إضافة النعمة والإقرار بها إلى الله إيماناً.
[المسألة السابعة: التفطن للكفر في هذا الموضع].
يعني: كونه أضاف النعمة إلى غير المنعم بها، فصار ذلك كفراً.(82/9)
ماذا يعنون بقولهم: مطرنا بنوء كذا وكذا
[المسألة الثامنة: التفطن لقوله: لقد صدق نوء كذا وكذا].
يقصد: قولهم الذي يقولون: صدق نوء كذا وكذا، فإنهم لا يريدون في ذلك أن النوء يخلق المطر ويوجده من العدم، وينعم به على العباد، هذا لا يقوله أحد، وإنما أضافوا نزول المطر إلى طلوعه أو إلى غروبه، فصار هذا كفراً للنعمة التي يجب أن تضاف إلى المنعم، ويشكر عليها.
[المسألة التاسعة: إخراج العالم للمتعلم المسألة بالاستفهام عنها لقوله: أتدرون ماذا قال ربكم؟ المسألة العاشرة: وعيد النائحة].(82/10)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [83](83/1)
الخلاف في الذين سكتوا من بني إسرائيل عن الإنكار على أصحاب السبت هل هلكوا أو نجوا؟
السؤال
يقول السائل: فضيلة الشيخ! حفظكم الله، ما هو الراجح من أقوال المفسرين في الصنف الثالث، الذي سكت الله تعالى عنهم في سورة الأعراف؟ وهل هناك حديث صحيح يدل على أنهم يعاقبون؟
الجواب
كان ابن عباس رضي الله عنه يظن أنهم هلكوا، ويقول: إن الله جل وعلا ذكر صنفين، فقال في الهالكين: إنه مسخهم قردة، وقال في الذين نهوا عن السوء: إنه نجاهم، وأولئك لما سكت عنهم كانوا مع الهالكين، فقال له مولاه عكرمة: (ليس كذلك، بل الله جل وعلا عاقب الفاعلين، والذين نهوا أثابهم ونوه بأنه نجاهم، والذين سكتوا سكت عنهم، فليسوا هالكين، فكساه بردته لأجل ذلك، أي: أعجبه هذا القول فكساه بردته، وهذا مما يدل على أنه رضي بذلك، وهذا هو الراجح.
والله أعلم.
وإن كان بعض السلف يقول: إنهم مع الهالكين، ويستدل بذلك على وجوب الإنكار، وأن من لم ينكر فإنه يهلك، ولكن هذا غير صحيح؛ وذلك أن قولهم: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ} [الأعراف:164]، يدل على كراهتم هذا الفعل، ومن كان كذلك فهو ناجٍ.(83/2)
العذاب لا يعم الأمة جمعاء
السؤال
ذكرتم -بارك الله فيكم- أن الله عز وجل ينزل حجارة من السماء على هذه الأمة، فكيف نجمع بين هذا وبين قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} [الأنعام:65]، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بوجه الله) الحديث.
الجواب
هذا الحديث لا يخالف ما قلت؛ لأنه إذا وقع في طائفة فلا يلزم أن يكون واقعاً في جميع الأمة، بل طائفة من الأمة قد يصيبها ذلك، وقد كان المقصود: أن الشرك وقع في أولئك، وسيقع في هذه الأمة، وفيه الرد على القائلين: بأن هذه الأمة لا يقع فيها شرك.(83/3)
من شروط الإيمان الكفر بالطاغوت ولو كان حاكماً
السؤال
إذا كان الطاغوت يطلق على الحاكم بغير ما أنزل الله، فكيف تكون عبادته؟ وكيف يكون الكفر به؟
الجواب
إذا اتخذ قوانين تخالف شرع الله، وعمل بها، واعتاض بها عن شرع الله، فهذه هي عبادته، وليست العبادة فقط ركوعاً وسجوداً.
وأما الكفر به فيكون في تركه والابتعاد عنه مع بغضه، والله جل وعلا يقول: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} [البقرة:256]، فقدم الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله، مما يدل على أن هذا شرط في صحة الإيمان.(83/4)
الكلمات غير العربية في القرآن
السؤال
كلمة (الجبت) ذكرت في القرآن، فهل يعني: أنه يوجد في القرآن كلمات ليست عربية، مع أن الله يقول: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [يوسف:2]؟
الجواب
نحن قلنا: إن الصواب أن الكلمة إذا تكلم بها العرب، فإنها تكون عربية وإن كانت في الأصل ليست عربية، وقد أنكر بعض العلماء: أن يكون في القرآن شيء من غير لغة العرب، وبعضهم قال: إن فيه من جميع اللغات، حتى ألف السيوطي رحمه الله مؤلفاً في هذا، وذكر الكلمات التي في القرآن من غير لغة العرب، ولكن لا يوافق على هذا.
والصواب: أن العرب إذا تكلموا بكلمة، وعرف ذلك وانتشر، فإنها تكون عربية، وإذا قال لنا قائل: أن هذه الكلمة ليست من لغة العرب، يؤخذ على القبول، فغيره هو يقول: لا، إذاً هذه الكلمة من اللغة.(83/5)
القرآن كلام الله
السؤال
ما هي عقيدة أهل السنة والجماعة في القرآن، هل هو حادث، بمعنى: أن الله تكلم به بعد أن لم يكن متكلماً به، أم هو أزلي؟
الجواب
بل هو جديد، كما قال الله جل وعلا: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ} [الأنبياء:2] فسماه محدثاً، بمعنى: أنه جديد، وهذه هي عقيدة السلف، وذلك أن الله يتكلم إذا شاء أن يتكلم، ولا يجوز أن نقول: القرآن قديم، فإن أول من عرف أنه قال ذلك هو: عبد الله بن سعيد بن كلاب، ولم يكن معروفاً عند السلف ذلك، وليس هذا من عقيدتهم، فعقيدتهم أن الكلام يتعلق بمشيئة الله، وأن هذا الكتاب هو آخر ما أنزله الله جل وعلا، وأنه تكلم به حسب الوقائع التي وقعت.(83/6)
لا تجوز موالاة الكفار لا ظاهراً ولا باطناً
السؤال
فضيلة الشيخ! حفظكم الله، ما مقصود المصنف رحمة الله عليه بقوله: (وفيه معرفة الإيمان بالجبت والطاغوت في هذا الموضع، هل هو اعتقاد قلب، أو هو موافقة أصحابها مع بغضها ومعرفة بطلانها؟) وما حد هذه الموافقة؟ وهل يعذر الإنسان بجهله إذا كان لا يعلم أن هذه الموافقة داخلة في الإيمان بالجبت والطاغوت، خاصة إذا كان لا يعلم أن هذا الذي يظهر له الموافقة يعتبر بالشرع جبتاً أو طاغوتاً، مع علمه أنه من دعاة الضلال والبدع؟
الجواب
من الظاهر -والآية واضحة- أن المراد: موافقتهم ظاهراً، مع بغضهم واعتقاد القلب ببطلان ما هم عليه، هذا هو الواقع؛ وإلا فإن اليهود كانوا يبغضون أهل الشرك عبدة الأوثان، وكانوا يعرفون أن ما هم عليه باطل، ومع ذلك يوافقونهم ظاهراً، والقصد: أن الذي يوافق أهل الباطل في الظاهر وإن قال: إن باطنه على خلاف ذلك، لا يقبل منه ذلك، خصوصاً في هذه المسائل التي تعد من أصل الدين.
وقد عد العلماء من الردة عن الإسلام موالاة الكفار، مثل أن ينصرهم، وأن ينصح لهم، ويود ما هم عليه، وأن يكون معهم.(83/7)
النظر إلى اعتقاد القلب
السؤال
كيف لا يعتبر الاعتقاد، مع اعتباره في حديث حاطب بن أبي بلتعة لما قال له عليه الصلاة والسلام: (ما هذا يا حاطب؟! قال: لا تعجل علي يا رسول الله! إني كنت امرأً من قريش ولم أكن من أنفسهم)؟.
الجواب
هذه القصة ليس فيها مناسبة مع ما سبق، ولا موازنة معه، فإن حاطباً أخبر أن الرسول سيأتي الكفار بجيش لا قبل لهم به، فهل يدل هذا على الموالاة وعلى النصرة؟!
و
الجواب
لا.
قال رضي الله عنه: (لقد علمت) أي: تيقنت (أن الله سوف ينصر رسوله) سواء أخبرت أو لم أخبر، كما أنه فعل ذلك لغرض معين، فليس هناك نسبة بين هذا وهذا.(83/8)
حكم الصلاة في المسجد الذي فيه قبر
السؤال
فضيلة الشيخ! هناك مسجد أمامه قبر، وفي المسجد كوة تطل على القبر، والمسجد يسمى باسم صاحب القبر، ولكن باب القبر خارج المسجد، فيدخل زائر القبر ويخرج منه دون الدخول في المسجد، والقبر في اتجاه القبلة، فهل تجوز الصلاة في هذا المسجد أم لا؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
يقول العلماء: إذا كان القبر خارج المسجد وحائط المسجد دون القبر فالصلاة تصح، أما إذا كان القبر داخل المسجد ولو كان وراء حائط فإن الصلاة لا تصح، ولكن لا يجوز أن تكون القبور قرب المساجد؛ لأن بعض الجهلة يتعلقون بالموتى وإن كانت قبورهم خلف المسجد.(83/9)
حديث: (لولاك لما خلقت الأفلاك) حديث موضوع
السؤال
هذا بيت يقول فيه بعض شعراء الصوفية: ما مد لخير الخلق يداً أحد إلا وبه سَعُد والآخر يقول: لولاك لولاك يا حبيب! لما خلقت الأفلاك هل يجوز هذا أم هو من الشرك؟
الجواب
هذا يروون فيه حديثاً موضوعاً: (لولاك لولاك إلى آخره) وهو مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.(83/10)
الالتفات في قوله سبحانه: (وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ)
السؤال
كيف التف السياق في قوله تعالى: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفتح:9]، من الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الله عز وجل؟
الجواب
ينبغي للقارئ إذا وصل إلى قوله تعالى: (وتعزروه وتوقروه) أن يقف، ثم يقرأ: (وتسبحوه)؛ لأنه معطوف على ما سبق، وهذا يقصد به تسبيح الله جل وعلا.(83/11)
معنى حديث: (ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة)
السؤال
في الحديث قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة)، فهل طرق الصوفية مثل البرهانية وغيرها من هذه الفرق الضالة؟ وما حكم التصوف في هذا الدين؟
الجواب
لو عد الإنسان هذه الاشتقاقات التي تحدث في الفرق لربما تبلغ الآلاف، وليس سبعين، ولكن المقصود الفرق الكبيرة التي تتفرع منها فرق أخرى، وقد كتب العلماء في هذه الفرق كتباً، فعلى الإنسان أن يرجع إلى كتب الملل والفرق.
مثل (الفِصَل) لـ ابن حزم، ومثل كتاب الأشعري (اختلاف المصلين)، وكذلك (الملل والنحل) للشهرستاني، وكذلك (الفرق بين الفرق) وغيرها من الكتب الكثيرة.(83/12)
لا حجة في بناء المساجد على القبور بوجود قبر النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد
السؤال
ما هو الرد على من قال: إن الذين يرون بناء المساجد على القبور يستدلون ببناء المسجد على قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ما هو الرد عليهم؟
الجواب
هذا البناء لم يقع من الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما وقع من الملوك الذين لا ينظرون إلى الشرع، والذي أدخله في المسجد هو الوليد بن عبد الملك ولم يكن باستشارة العلماء، ولا باستدلالأ ولا بغير ذلك، وكان الأمين على المدينة عمر بن عبد العزيز، وقد تضايق منه من تضايق، ولم يكن هناك أحد من الصحابة، فإن هذه الحادثة وقعت بعد موت جابر بن عبد الله، وهو آخر من مات من الصحابة في المدينة، وإنما كان فيها من التابعين مثل سعيد بن المسيب وأمثاله، وقد أنكروا هذا، ولكن لم يلتفت إليهم.
والمقصود أن هذا ليس فيه قدوة، ثم إن قبر الرسول صلى الله عليه وسلم لما أدخل وأحيط بالحوائط قالوا: إن هذه الحوائط تمنع من الاتجاه إليه، ويكتفى بذلك، وليس هو كغيره، ومع ذلك إدخاله ليس شرعياً، ولا يجوز أن يكون فعل الوليد بن عبد الملك قدوة يقتدى به في ذلك، بل نقتدي بقول رسولنا صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو القدوة.(83/13)
حكم لبس الثياب الخاصة بالكفار
السؤال
فضيلة الشيخ! هل اللباس المعروض الآن: كالبنطلون من التشبه بالكفار، أم أنهم يشتركون فيه مع المسلمين؟
الجواب
إذا كان الشيء منتشراً وليس خاصاً لقوم فلا يكون في ذلك تشبه، وإنما يكون التشبه فيما إذا كان خاصاً بهم، وفعله الإنسان حباً لهم أو اقتداء بهم، فهذا هو التشبه.(83/14)
تتابع الصيام ليس شرطاً في القضاء
السؤال
فضيلة الشيخ! امرأة وضعت حملها في رمضان، فبقي عليها أيام لم تصمها في رمضان، وتريد الآن القضاء، هل يجب عليها تتابع هذا القضاء؟
الجواب
تتابع القضاء ليس واجباً، فلو قضته متفرقاً جاز، وليس في هذا خلاف؛ لأن الله جل وعلا يقول: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184].(83/15)
المخرج من الفتن
السؤال
ما موقف المسلم من الفتن تجاه نفسه وتجاه مجتمعه؟
الجواب
الفتن تختلف، فقد تكون الفتنة فتنة في النفس -نفس الإنسان-، كأن يحدث له فتنة في قلبه، بمعنى: أنه ينصرف عن حب الله وعبادته، ولا يجد لذة العبادة، وقد تكون الفتنة في حب الدنيا، وقد تكون في الأولاد والأهل، وقد تكون غير ذلك، فعلى الإنسان أن يعتصم بالله، ويسأله العافية من الفتن، ويحرص على التمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فقد جاء في الحديث: (أنه ستكون فتن)، فقيل للرسول: (ما العاصم؟ فقال: كتاب الله، فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم)، فالمخرج هو التمسك بكتاب الله وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.(83/16)
وجود الدجال ومكانه
السؤال
هل الدجال موجود الآن كما في حديث الجساسة في صحيح مسلم، أو أنه غير موجود؟
الجواب
الله أعلم، أما حديث الجساسة فالظاهر فيه أنه موجود ومربوط في البحر، هذا ظاهره؛ لأنهم رأوه موثقاً وثاقاً عظيماً، وصار يسألهم عن أشياء معينة، فسألهم عن رسول العرب، فقال: أخرج؟ وسألهم عن نخل بيسان، فقالوا له: موجود، فقال: يوشك ألا ينبت، وسألهم عن بحيرة طبرية، فقال: أموجودة؟ قالوا: نعم، قال: يوشك أنها تذهب، فإذا ذهبت أذن لي بالخروج، وكذلك إذا ذهب نخل بيسان، وبيسان أظنها في الأردن، فالمقصود: أن الكلام هذا يدل على أنه الدجال، وفي صحيح مسلم أنه يخرج من خلة بين الشام والعراق، يتبعه من يهود أصبهان سبعون ألفاً، وهذا ليس مستحيلاً، فالعلم عند الله جل وعلا.(83/17)
معنى حديث: (من أراد أن يبسط له في رزقه) الحديث
السؤال
كيف نفسر حديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (من أراد أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أجله فليصل رحمه)، وما صحة الحديث؟
الجواب
ليس هذا مخالفاً للقدر؛ لأن صلة الرحم من الأسباب التي كتبت في الأزل، ولابد أن الإنسان يفعل الشيء الذي كتب له، والإنسان عنده عقل، وعنده اختيار، ومقدرة على فعل الخير، فمن أراد الله جل وعلا به خيراً فسييسره، وسيصل رحمه، ولهذا لما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده في الجنة أو في النار، قالوا: ألا نتكل على الكتابة وندع العمل؟ قال: لا، اعملوا فكل ميسر لما خلق له)، يعني: أن الإنسان لا يدخل الجنة بالكتابة، كما أنه لا يدخل النار بها، بل لابد من العمل، والعمل مكتوب ومنه الصلة، وقد كتب أن هذا الإنسان سيصل، وسيكون عمره زائداً بسبب هذه الصلة.(83/18)
ليس بين الله وبين أحد من خلقه قرابة
السؤال
كيف نجمع بين ما جاء في الحديث: (أنه كان صلى الله عليه وسلم إذا غيمت السماء يقبل ويدبر، ويتغير لونه؛ مخافة نزول العذاب)، وحديث: إعطاء الله له ألا يعذب قومه بسنة عامة؟
الجواب
الرسول صلى الله عليه وسلم هو أعرف الناس بالله جل وعلا، وليس بين الناس وبين الله جل وعلا صلة تصلهم به يأمنون بها، إلا الطاعة والإيمان ومتابعة أمره، فإذا عصوا أهلكهم الله جل وعلا ولا يبالي بهم.
والأمر بيده: يفعل ما يشاء ويحكم بما يريد، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر يدعو ويجتهد ويبالغ في الدعاء، ويقول: (يا رب! إن شئت لا تُعبد بعد اليوم، اللهم إن تهلك هذه العصابة فلا تعبد بعد هذا اليوم)، حتى إن أبا بكر قال: يكفيك مناشدتك ربك، والله! لينصرنك الله جل وعلا، قال هذا ثقة بالله جل وعلا، فالمقصود: أنه لا يوجد أمان تام بأنه لا يحصل العذاب؛ لأن العذاب يحصل بسبب الذنوب، وإذا حصل العذاب فقد يكون مثلما قال الله جل وعلا: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25]، يعني: أنها تعم الظالم وغير الظالم.
وفي حديث عائشة: (أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر فيكم الخبث)، وفي الحديث الآخر الذي في صحيح البخاري في ذكر الجيش الذين يخسف بهم، قالت: (كيف يخسف بهم وفيهم من ليس منهم؟! قال: يخسف بهم ثم يبعثون على نياتهم).(83/19)
أسباب تسلط الأعداء على الأمة الإسلامية
السؤال
إن الله تعالى -كما في الحديث- لا يسلط على الأمة عدواً من غيرهم فيستبيح بيضتهم، إلا بشروط -كما ذكرتم- فما هي هذه الشروط؟
الجواب
هذه الشروط مذكورة في الحديث، ومنها: حتى يكون بعضهم يسبي بعضاً، وبعضهم يقتل بعضاً، فإذا وقع فيهم مثل هذا يجوز أن يسلط عليهم عدواً من غيرهم، كما جاء التتار، وجاء غيرهم من الكفرة والصليبيون واستباحوا المسلمين، وقتلوهم قتلاً، وأخذوا كثيراً من أموالهم وبلادهم.(83/20)
من لم يؤمن بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين فهو كافر
السؤال
فرقة القاديانية هل يحتاج في تكفير أفرادها إلى إقامة الحجة عليهم، أم قد كفروا لإنكارهم شيئاً معلوماً من الدين بالضرورة؟
الجواب
مثل هؤلاء لا يحتاج أنه يقام عليهم الحجة، فمن لم يصدق بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين فهو كافر بلا تردد.(83/21)
هدية الكافر
السؤال
هل تُقبل أموال من نصارى؛ يتبرعون بها لصالح جمعية خيرية، تقوم بالإنفاق على فقراء المسلمين؟
الجواب
الهدية من الكافر يجوز قبولها، وقد قبل الرسول صلى الله عليه وسلم هدايا بعض الكفار.(83/22)
من علامات الساعة الكبرى خروج المهدي
السؤال
ذكرت الدجال وعيسى عليه السلام، فماذا عن المهدي المنتظر؟
الجواب
المهدي كذلك صحت فيه الأحاديث، ولكن المهدي اختلف الناس فيه، فكل فرقة من فرق الناس لهم مهدي، ولكن المهدي الذي صحت الأحاديث بأنه يخرج في آخر الزمان: اسمه كاسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من أبناء الحسن بن علي، وإذا خرج يكون معه المؤمنون، وحينها يخرج الدجال، ولهذا قال بعض العلماء: إن أول علامات الساعة الكبرى خروج المهدي، وجاء فيه أحاديث عدة، وكلها ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(83/23)
الجمع بين حديث: (لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق) وحديث: (لا يضرهم من خالفهم إلى قيام الساعة)
السؤال
كيف نجمع بين قوله عليه الصلاة والسلام: (لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق)، وقوله: (لا يضرهم من خالفهم إلى قيام الساعة)؟
الجواب
قوله: إلى قيام الساعة، أي: ساعتهم، وهي الريح التي تأتي لقبض كل من في قلبه مثقال ذرة من إيمان، فلا يكون هناك مخالفة بين الحديثين.(83/24)
معنى حديث: (لعن الله من آوى محدثاً)
السؤال
ما معنى قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (لعن الله من آوى محدثاً)؟
الجواب
( محدثاً) روي بكسر الدال وروي بفتحها: (لعن الله من آوى محدِثاً)، و (لعن الله من آوى محدَثاً)، وكلاهما صحيح، ومعنى الإيواء: إما الرضا بذلك والعمل به، وإما أنه يحول بينه وبين من يمنعه من الحدث، أو يقيم عليه الحد الذي يلزم في الشرع، فإما أن يحميه، وإما أن ينضم إليه ويكون مثله، فكل هذا إيواء.(83/25)
معنى قوله: وإن لم يقم لهم دينهم يقم سبعين سنة
السؤال
ما المقصود بقوله صلى الله عليه وسلم: (وإن لم يقم لهم دينهم يقم سبعين سنة)، فمتى بدأت هذه السبعون عاماً، ومتى انتهت؟
الجواب
بدأت في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، وانتهت في زمن عثمان على ما يظهر، ولهذا لما سئل: (أفيما مضى أو فيما بقي؟ قال: فيما مضى).(83/26)
كل الأعمال والأقوال مكتوبة في اللوح المحفوظ
السؤال
قلتم: إن الأعمال والأقوال كلها مكتوبة من قبل أن يخلق الله السماوات والأرض، فما هو توجيه فضيلتكم لما كان يدعو به بعض السلف: (اللهم إن كنت كتبتني شقياً فامحني واكتبني سعيداً)، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
لا يمكن أن يعارض هذا بما جاءت به النصوص، فإن كان هذا الدعاء لبعض العلماء فإن الراجح خلافه.(83/27)
مجيء الموت يوم القيامة بصورة كبش
السؤال
هل ورد أو صح عن النبي عليه الصلاة والسلام أن الموت يمثل يوم القيامة، وأن الله يذبحه بين الجنة والنار ويقول: (يا أهل الجنة! خلود ولا موت، ويا أهل النار! خلود ولا موت)؟
الجواب
نعم، لقد جاء في ذلك حديث، ولكن ليس فيه أن الله يذبحه، وإنما فيه أنه يؤتى به على صورة كبش، فيقال لأهل الجنة: (هل تعرفون هذا؟)، وفي رواية: (أنه ينادى: يا أهل الجنة! فينظرون، وينادى: يا أهل النار! فيشرئبون وينظرون، ويقولون: لعل الفرج يأتي، فيقال لهم: أتعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت؛ لأنهم يعرّفون به، فيذبح) وليس فيه أن الله يذبحه، فيقال: (خلود ولا موت)، فيزداد أهل الجنة فرحاً وسروراً، ويزداد أهل النار عذاباً وحزناً وأسفاً.(83/28)
حكم قول: (تبارك من كذا، أو تبارك في كذا)
السؤال
إذا أتى شخص على طعام فإنا نقول له: تعال تبارك من الأكل، وقصدنا: خذ من بركة الطعام، فهل في ذلك شيء؟
الجواب
لا يجوز أن يقال: تبارك في كذا، وما يدريه أن هذا طعام فيه البركة، فالواجب أن تجتنب الألفاظ التي تختص بالله جل وعلا، فلا يجوز أن يقال: تعال تبارك بساعة، أو تبارك بفلان، أو تبارك بهذا المكان، وكل هذا يقع من بعض الناس، ولكن هذا لا يجوز؛ لأن هذه اللفظة خاصة بالله جل وعلا، ولا يجوز إطلاقها على مخلوق.(83/29)
سبب تقديم البخاري كتاب (بدء الوحي) على كتاب (الإيمان)
السؤال
هل بين الإيمان والتوحيد عموم وخصوص، علماً بأن الإمام البخاري رحمة الله عليه في صحيحه جعل كتاب الإيمان بعد كتاب بدء الوحي، وفي آخر صحيحه أتى بكتاب التوحيد؟ والمقصود: أن تشرحوا لنا -بارك الله فيكم- الارتباط بين الإيمان والتوحيد؟
الجواب
أولاً: البخاري رحمه الله من أفقه الناس، وهذا الترتيب الذي رتب به صحيحه هو الترتيب الذي ينبغي أن يكون؛ لأن الإيمان والتوحيد لا يكون إلا بالوحي، فهو بدأ بالوحي أولاً ثم بالعلم؛ لأن العلم لابد منه، وأتى بالإيمان بعد ذلك؛ لأن الإيمان يكون بالوحي.
وأما كونه أخر كتاب التوحيد إلى آخر الصحيح فهو أراد شيئاً آخر، وهو: أن الرسول صلى الله عليه وسلم بين كل ما يلزم الناس في دينهم، وفي ذلك يرد على أهل البدع المخالفين، من مرجئة ومعتزلة وجهمية وغيرهم، فهو قصد هذا، ولهذا ختم كتابه بحديث: (كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان)، وإذا تأمل الإنسان ذلك علم وعرف فقه هذا الرجل رحمه الله، ورسوخه فيه.
وهناك ارتباط بين الإيمان والتوحيد، فلا يوجد توحيد بلا إيمان، ويجب أن يكون مقيداً بالكتاب والسنة، فالتوحيد أخذاً من أن العبادة تكون واحدة لواحد، كما قال ابن القيم: كن واحداً لواحد في واحد أعني: طريق الحق والإيمان (كن واحداً) يعني: أنت واحد، (لواحد) يعني: اجعل عبادتك وأفعالك لله، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162]، (في واحد) يعني: في طريق واحد الذي هو طريق الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال: (أعني: طريق الحق والإيمان) فسواء قلت: إيمان أو توحيد فكله سواء، إلا أن التوحيد أخص منه في المعنى.(83/30)
معنى أن الله زوى لنبيه المشارف والمغارب
السؤال
زوى الله لنبيه صلى الله عليه وسلم المشارق والمغارب بخلاف الجنوب والشمال، فهل معنى ذلك: أن الإسلام لا يصل إلى الشمال والجنوب؟
الجواب
لا، ومعنى ذلك أن ملك أمته لا يتسع حتى يشمل الشمال والجنوب، وليس معناه: أن الإسلام لا يتعدى الشمال والجنوب، فهذا لا يفهم منه.(83/31)
سبب خذلان العبد
السؤال
هل لحصول خذلان الإنسان بعد كونه على الهدى سبب من الإنسان نفسه، أو أنه محض الإرادة الكونية والإلهية؟
الجواب
بلا شك أنه بسبب الإنسان، فالإنسان قد يصدر منه كبر وقد يصدر منه عجب، وقد يصدر منه أمراض أخرى، تكون سبب شقائه، مع العلم أن الله جل وعلا هو الذي خلق الأسباب والمسببات وقدرها، ولابد من وقوعها، إلا أن للإنسان في كل ما يفعله إرادة يحاسب عليها، وما يصيبه بعد ذلك فهو من جراء فعله.
فكل مصيبة تصيبه أو عذاب ينزل به فهو يستحقه؛ لأنه مذنب ومستحق لذلك، كما قال الله جل وعلا: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]، ثم ليعلم الإنسان أن التوحيد فضل من الله، والإنسان لا يستحقه، فإذا تفضل الله جل وعلا على عبده بأن وفقه وحبب إليه الإيمان وزينه في قلبه، وكره إليه الكفر والفسوق والعصيان فإن هذا فضل الله، ولا يستحقه الإنسان لمجرد كونه إنساناً، ولكن الله منَّ عليه وتفضل به ابتداء، فعليه أن يحمد الله ويشكره على ذلك، وكلما تفضل الله عليه بشيء يزداد حباً لله، وشكراً له، وتقرباً إليه.
أما إذا منع ذلك الخير فهو لم يظلمه؛ لأنه فضله يؤتيه من يشاء ويمنعه عمن يشاء، ولهذا جاء في القصة التي وقعت بين أبي إسحاق الإسفرائيني والقاضي عبد الجبار المعتزلي في مجلس كبير فيه العلماء والأدباء والأمراء، وكان القاضي عبد الجبار المعتزلي يتزعم مذهب القدرية الذين يرون أن الإنسان يخلق أفعاله، وأن الله لا يخلق أفعال الناس، وأنه لا يخلق المعاصي، فدخل أبو إسحاق الإسفرائيني، فقام عبد الجبار أمام هؤلاء الكبراء وقال: سبحان من تنزه عن الفحشاء! وأبو إسحاق فهم مقصوده، فقال مجيباً له على الفور: سبحان من لا يكون في ملكه إلا ما يشاء، أراد المعتزلي: أنكم تقولون: إن الله موصوف بالفحشاء؛ لأنه يخلق الشر، ويخلق الفسق والكفر الذي يتصف به الإنسان، هذه فحشاء عنده، فقال أبو إسحاق: سبحان من لا يكون في ملكه إلا ما يشاء، أي: أنكم تقولون: إن الناس يخلقون مع الله، فهل يكون في ملكه شيء لا يشاؤه؟! فقال له المعتزلي: أيريد ربنا أن يعصى؟ فقال له أبو إسحاق: أيعصى ربنا قهراً؟ أيعصى وهو لا يريد؟ فقال له المعتزلي: أرأيت إن حكم عليّ بالردى أحسن إليّ أم أساء؟ قال: إن كان منعك حقك فقد أساء، وإن كان منعك فضله فهو يؤتي فضله من يشاء، فقال الحاضرون: والله! ليس عن هذا جواب، فكأنما ألقم هذا المبتدع حجراً.
المقصود: أن المنن والإحسان والإيمان والطاعات كل هذه فضل من الله، يتفضل بها على من يشاء من الناس، أما إذا منعه ذلك، ووكله إلى نفسه، فيعاقب على فعله.(83/32)
كل مخلوق ميسر لما خلق له
السؤال
ما معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها)، هل سبق في علم أنه غير صادق في إيمانه وعمله أم لا؟
الجواب
الله جل وعلا علم أن هذا المخلوق سيوجد في وقت كذا، وأنه سيعمل كذا وكذا، وأنه سيموت على كذا وكذا، فكتب الله جل وعلا ذلك، وقد شاءه قبل ذلك، ولكن مثلما قال صلى الله عليه وسلم: (فيسبق عليه الكتاب فيعمل)، فلابد من العمل، ولا يؤاخذ أحد بمجرد الكتابة ومجرد العلم السابق لله، لقوله: (فيعمل).
ثم إنه قال عليه الصلاة والسلام: (كل مخلوق ميسر لما خلق له)، فأهل السعادة ييسرون لعمل أهل السعادة، وأهل الشقاء ييسرون لعمل أهل الشقاء، والأمور مخبوءة ومغيبة لا يدري الإنسان عن شيء من ذلك، وقد أمر بفعل الخير، والاجتهاد والحرص عليه، وأمر بفعل الأسباب، فعليه أن يجتهد في فعل السبب، ويحرص على ما ينفعه، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (احرص على ما ينفعك ولا تعجزن، فإن أصابك شيء -يعني: على خلاف ما تريد- فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا، فإن لو تفتح عمل الشيطان، ولكن قل: قدر الله، وما شاء فعل)، فيجب على العبد أن يؤمن بأن الله علم الأشياء وقدرها وكتبها، وأن كل شيء يقع بمشيئته، وأنه هو الخالق وحده جل وعلا وما سواه مخلوق.(83/33)
سب الله أو دينه أو رسوله كفر مخرج من الملة
السؤال
هل سب الدين يخرج من الملة الإسلامية؟
الجواب
نعم، سب الدين أو سب الله أو سب الرسول كفر بالله جل وعلا، وكذلك الاستهزاء بالله أو بكتابه أو برسوله أو بالمؤمنين.(83/34)
الأولى لمن أكره على فاحشة ألا يفعلها
السؤال
رجل دعته امرأة إلى نفسها فاستعصم، فهددته إن لم يفعل فسوف تخبر زوجها أو وليها بأن فلاناً راودها عن نفسها فإن فعلت وأخبرت زوجها: قتله زوجها أو وليها، وإن وقع عليها فقد عصى رب العرش، فماذا يصنع؟
الجواب
عليه أن يتقي الله ولا يفعل، وسوف يجعل الله جل وعلا له مخرجاً، وأما قول المرأة فينبغي أن يعرف صدقها فيه، فليس بمجرد أن تقول المرأة: إنه صنع كذا، أنه يحكم بقولها، بل يجب أن يثبت الأمر أولاً، والمقصود: أن الإنسان إذا اتقى الله جل وعلا جعل له مخرجاً، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق:2] في أي شيء كان، فإذا كنت مع الله كان الله معك.(83/35)
قد يعفو ولي المسلمين عن القاتل لمصلحة يراها
السؤال
لماذا لم يقتل النبي صلى الله عليه وسلم المرأة التي قتلت الصحابي، أعني: بسحرها؟
الجواب
نقول: إن هذا لشيء يتعلق بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وله أن يعفو عن ذلك، فهو صلوات الله وسلامه عليه ولي المؤمنين.
السؤال
هذه المرأة التي في القصة، إن تابت وأسلمت هل يقبل إسلامها وتوبتها أم لا؟
الجواب
الصحابة توقفوا في أمرها، أفتريدنا أن نفتيها؟!(83/36)
معنى قوله تعالى: (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى)
السؤال
يا فضيلة الشيخ! ما هو ردكم على من استدل بقوله تعالى: {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:69]، على أنه ليس للسحر حقيقة بل هو خيال؟
الجواب
ليس معنى قوله تعالى: {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:69] أنه ليس للسحر حقيقة، بل معناه: أنه لا يحصل له الفلاح -والفلاح هو: الظفر- لأنه في حزب الشيطان حزب الباطل، والشيطان كيده باطل وضعيف، والباطل زاهق إذا جاءه الحق.(83/37)
تأثير السحر والساحر في المسحور
السؤال
كيف التوفيق بين قوله تعالى: {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:69]، وبين ما جاء في الحديث: أن الساحر قد أثر في النبي صلى الله عليه وسلم بسحره؟
الجواب
السحر غير الساحر، أما الساحر فلا يفلح، وأما السحر -الذي هو فعل الساحر- فيؤثر في الأبدان، وقد يقتل، وكما قال الله جل وعلا: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة:102]، فهو لا يصنع شيئاً، إلا شيئاً أراده الله وقضاه، وعمله ذلك معصية بل كفر بالله جل وعلا، والمقصود: أن الساحر نفسه لا يقع في فلاح؛ لأنه أطاع الشيطان واتبع أمره، ومن كان من حزب الشيطان فهو خاسر في الدنيا والآخرة.(83/38)
معنى حديث: (لا يدخل الجنة مصدق بالسحر)
السؤال
جاء في الحديث: (لا يدخل الجنة مصدق بالسحر)، بين لنا معنى: مصدق بالسحر؟
الجواب
ينبغي -أولاً- البحث في صحة هذا الحديث، فإذا ثبتت صحته فالمصدق بالسحر معناه: الذي يؤمن به ويفعله، فإذا آمن به وفعله فهو شريك للساحر.(83/39)
حكم الذهاب إلى الكهان للسؤال عن المفقود
السؤال
ما حكم من يذهب إلى السحرة ويطلب منهم أن يدلوه على شيء مفقود؟
الجواب
هذا هو الذي جاء فيه الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من جاء كاهناً فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم)، فلا يجوز الذهاب إلى الكاهن، والكاهن أقل ضرراً من الساحر.(83/40)
إقامة الحدود من خصوصيات ولي الأمر
السؤال
من الذي يقتل الساحر؟ هل هو الأمير، أم هذا موكل إلى أي أحد كان؟
الجواب
لا يجوز أن يترك لأي أحد كان، بل الذي يقتله هو ولي الأمر، أما لو وكلت الأمور إلى أي أحد، لصارت فوضى، ولكان كل واحد يذهب ويقتل من شاء، ويدعي أنه ساحر، أو قاتل ونحو ذلك، وإنما القصاص والأحكام ينفذها ولي الأمر.(83/41)
الجمع بين قوله تعالى: (لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ) وبين قوله سبحانه: (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ)
السؤال
كيف نوفق بين قوله تعالى في الملائكة: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ} [التحريم:6]، وبين أن الملكين {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة:102] والكفر؟
الجواب
قصة الملكين أنكرها بعض العلماء، وقال: هذه القصة تحتاج إلى أن تكون ثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ويمكن أن تكون مأخوذة عن علماء أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وعلماء الكتاب يذكرون الشيء الذي قد يكون واقعاً والشيء الذي لا يكون واقعاً، فلا نصدقهم ولا نكذبهم، إلا فيما كذبهم كتابنا أو رسولنا أو صدقهم، فالذي صدقهم فيه نصدقهم فيه، والذي كذبهم فيه نكذبهم فيه، والشيء المسكوت عنه نسكت عنه، ونقول: الله أعلم، يجوز أن يكون صحيحاً ويجوز ألا يكون صحيحاً، ونقول: آمنا بما أنزل الله من كتاب.(83/42)
لا يلزم في الرقية وضع اليد على المرقي
السؤال
عند الرقية هل يلزم أن يضع الراقي يده على الرأس أو الجسم؟
الجواب
ليس بلازم، فإنه لم يثبت في قصة لديغ الحي أن أبا سعيد وضع يده على الذي لدغته الحية، وإنما أقبل يقرأ عليه الفاتحة فقط، فقرأها عليه، فبرأ كأنما نشط من عقال، يعني: كأن رجله كانت محزومة بحبل، ففك الحبل، فأصبح يمشي ليس فيه أي داء.(83/43)
القذف يكون بالزنا ويكون باللواط
السؤال
قال الشارح في شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) المراد: الحرائر العفيفات، والمراد: رميهن بزنا أو لواط، هل النساء فيهن لواط، أم أنه يشير بهذا إلى قذف الرجال، مع أنه لم يرد في الحديث؟
الجواب
المقصود بالقذف: القذف بالزنا أو باللواط -والزنا يكون في الفرج ويكون في الدبر- ثم يكون هذا في النساء وفي الرجال، فالقذف ليس المقصود به فقط المرأة، بل حتى الرجال، فإذا قذف رجل رجلاً بأنه زانٍ -سواء كان قصده أنه فعل في امرأة أو في صبي أو في غير ذلك- فهو قاذف، وداخل في هذا الوعيد.(83/44)
المزح في الحرمات محرم
السؤال
هل يدخل في القذف ما لو كان الإنسان مازحاً؟
الجواب
هذه الأمور لا يجوز فيها المزح، بل المزح يجب أن يكون في الشيء الذي يكون مباحاً، أما الحرمات فليس فيها مزح.(83/45)
توبة القاتل
السؤال
هل يغفر للقاتل إذا أخذ جزاءه في الدنيا؟
الجواب
قاتل النفس يلزمه ثلاثة حقوق: حق للمقتول، وحق لله، وحق لأولياء المقتول، فحق أولياء المقتول يسقط بالقصاص أو بدفع الدية، وحق الله يسقط بالتوبة، ويبقى حق المقتول لابد أن يؤدى إليه ولا يضيع حقه.
ومن هنا قيل: إنه لا توبة للقاتل، والسبب: هو في كيف يرضي المقتول؟ ولكن إذا علم الله جل وعلا صدق توبة عبده، فإن الله يرضي المقتول عنه، ويرضيه عنه بما يشاء.(83/46)
السحر له حقيقة وتأثير
السؤال
يقول بعض الناس: إن السحر خداع للحواس، وليس له أي حقيقة ولا تأثير، وعندما ذكر له أن النبي صلى الله عليه وسلم سُحِر، قال: هذا الحديث ضعيف، ولو صح هذا الحديث تكون حواس النبي قد خدعت! فما ردّكم؟
الجواب
هذا جهل؛ بل الخداع هو نوع من أنواع السحر وليس كل السحر، والسحر أنواع ثمانية، أحدها: الخداع، وهذا الذي ذكر في قوله تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66]، وقد سبق الكلام على ذلك، وأما تكذيب الحديث فهذا لا يجوز، فالحديث ثابت في الصحيحين، والرسول صلى الله عليه وسلم أثر عليه السحر، وصار -كما قالت عائشة - يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولم يفعله، وهذا أشد أنواع السحر.(83/47)
السحر لا ينفك عن الشرك
السؤال
ما وجه الدلالة في أن السحر كفر من حديث أبي هريرة: (اجتنبوا السبع الموبقات؟)؟
الجواب
وجه الدلالة: أن السحر لا ينفك عن الشرك، فحديث أبي هريرة فيه أنه موبق، والموبق مغدق، وكذلك -من أوجه الدلالة- قرنه بالشرك.(83/48)
دخول الجنة هو بسبب العمل وليس عوضاً للعمل
السؤال
كيف يجمع بين قول الله تعالى: {تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:43]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل أحد الجنة بعمله، قيل: ولا أنت يا رسول الله؟) إلى آخر الحديث؟
الجواب
ليس هناك -في الواقع- معارضة؛ لأن الجنة لا تكون عوضاً للعمل، ولكن العمل سبب لدخول الجنة، فقوله: (بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) الباء هنا: سببية وليست عوضية، ليست مثلما تقول: الكتاب بعشرة دراهم، أما دخول الجنة فهو برحمة الله وفضله وإحسانه، وهذا معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله)، يعني: لا يكون العمل عوضاً عن الجنة، وإنما هو من باب السبب فقط.(83/49)
من صمم على فعل المعصية في الحرم فهو داخل في قوله تعالى: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ)
السؤال
هل مجرد التفكير بالمعصية في الحرم معصية؟
الجواب
أما قول الله جل وعلا: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25]، فإنه يشمل من أراد معصية ولو لم يفعلها، ولكن الإرادة هي: العزم المصمم، فإذا عزم على الشيء وصمم على فعله فقد دخل في قوله: ((ومن يرد))، أما مجرد الفكرة التي تزول وتنتهي بدفعها فهذه ينبغي ألا تكون داخلة في ذلك، ولا تضر، فهناك فرق بين الفكرة والعزيمة.(83/50)
الحسد ذنب من الذنوب ولو لم يظهره صاحبه
السؤال
يجد الإنسان الحقد والحسد في قلبه لمن يحسده عدة مرات، فهل في ذلك حرج؟ وما هو العلاج لذلك الأمر؟
الجواب
بلا شك أن فيه حرج، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، فإذا وجد في قلبه خلاف ما في هذا الحديث فهو حرج وإثم، وأما العلاج: فبمحاولة إزالته ودفعه، ويود لأخيه ما يود لنفسه، ويريد له الخير دائماً، ويسعى فيه.(83/51)
الكبائر تتفاوت
السؤال
عطف النبي صلى الله عليه وسلم القتل والربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات على الشرك والسحر، فهل هذه المذكورات تعتبر من الشرك، أم هي بمنزلته في الإثم، أم هي في مرتبته في عدم الغفران؟
الجواب
لا هذا ولا هذا، وإنما جميعها موبقة، لكن مع التفاوت، ولهذا يقول العلماء: الذنوب تتفاوت، فمنها أمور كبار وأكبر، والشرك هو أكبر الجميع وأعظمها، ولهذا بدأ به صلى الله عليه وسلم.(83/52)
حكم أخذ الفوائد الربوية
السؤال
أنا أعمل في شركة، وهذه الشركة تحجز المرتب إلى يوم عشرين من الشهر القادم في البنك؛ وذلك للفائدة، وبعد ذلك تسقط المرتبات لفوائدها الربوية، فما حكم ما أتقضاه منها؟
الجواب
الربا حرام، ولا يجوز للشركة أن تعمل هذه الطريقة، وتؤكِّل عمالها رباً، وإذا علم العامل أن ذلك رباً فلا يجوز أن يأخذه، وإذا لم يعلم فالإثم على الشركة.(83/53)
كيفية الاستفادة من المسائل الملحقة بآخر الأبواب في كتاب التوحيد
السؤال
لا شك في وجود فائدة من ذكر صاحب المتن لمسائل في آخر الباب، فما طريقة الاستفادة منها؟
الجواب
الاستفادة منها: أن تفهم مراد المؤلف رحمه الله؛ لأن هذا هو فقه الباب، اختصره بالمسائل، وإذا ذكر في المسائل شيئاً لم تفهمه فعد إلى ما ذكره في الأصل، حتى يتبين لك، فالماتن أراد أن يسهل الباب على الطالب بهذه المسائل ويقربه إلى الفهم.(83/54)
يترك الساحر إذا تاب قبل أن يرفع إلى الحاكم
السؤال
ما الحكم لو تاب الساحر قبل أن يصل إلى يد الحاكم؟
الجواب
إذا تاب قبل ذلك وظهر صدق توبته فيترك.(83/55)
فعل الساحر للسحر بينة على سحره
السؤال
كيف تقام البينة على أن هذا ساحر أو لا؟
الجواب
بفعله السحر، فإذا ثبت فعله السحر فيكفي، وهذه هي البينة.(83/56)
من سب الرسول صلى الله عليه وسلم فهو كافر
السؤال
هل كل من سب النبي صلى الله عليه وسلم يعد كافراً عيناً سواء كان عن غضب أو غير ذلك؟
الجواب
كل من سب النبي صلى الله عليه وسلم يجب أن يقتل -سواء قال: أنا غضبان، أو أنا ما قصدت، أو لم يقل شيئاً من ذلك، وتوبته لا تقبل، هذا في الظاهر، أما في الباطن فأمره إلى الله يحكم به يوم القيامة.(83/57)
من قام بالحق فهو أمة ولو كان وحده
السؤال
ما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يضرب ضربة واحدة فيكون أمة واحدة)؟
الجواب
يقول العلماء معناه: أن الذي يقوم بإنكار المنكر وإقامة الحد فإنه يبعث أمة واحدة؛ لأنه قام بأمر لم يقم به غيره في ذلك الموقف.
فالإنسان الذي يأتي بالحق ويتخلف الناس عنه يعتبر وحده أمة، كما أخبر جل وعلا عن إبراهيم أنه كان أمة؛ لأنه كان في ذلك الوقت وحده على الحق.(83/58)
حقوق الناس لابد من المؤاخذة بها
السؤال
هل الزاني وآكل الربا وآكل مال اليتيم تترتب عليهم حقوق في الآخرة ولو تابوا مثل القاتل؟
الجواب
نعم، تترتب عليهم حقوق الناس، ولكن الزاني يكون عليه حق للزوج، وحق للمرأة إذا كانت كارهة، وحق لأهلها، وقد جاء أن الذي يزني بامرأة الغازي في سبيل الله، يوقف له الغازي يوم القيامة، ويقال: خذ ما شئت من حسناته، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما رأيكم هل يترك له شيء؟!)، يعني: أنه لا يترك له ولا حسنة واحدة، بل يأخذ كل حسناته؛ لأنه انتهك حرمة أهله، وخانه في ذلك، وهناك حقوق تتعلق بالغير كثيرة.(83/59)
قتل الساحر لا يكون إلا إلى ولي الأمر
السؤال
يقول أهل العلم رحمهم الله: إن قتل الساحر لا يكون إلا لولي الأمر وإلا لحصل الهرج بين الأمة، فكيف نوجه قتل حفصة للمرأة، وقتل جندب للساحر؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
هذا ليس في الساحر فقط، بل هذا في جميع الحدود، فالحدود لا يقيمها إلا ولي الأمر، ولا يجوز للناس أن يقيموها، وأما جندب فإن الأمير الذي في وقته كان قد عطل الحد، فخاف جندب أن يترك إقامة الحد فقام به، ولهذا جاء أنه يبعث وحده من أجل ذلك، أما حفصة: فالساحرة كانت مملوكة لها، والمملوك يقيم عليه الحد وليه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد، ثم إن زنت فليجلدها الحد، ثم إن زنت فليبعها ولو بحبل من شعر)، فالمملوك سيده هو الذي يقيم عليه الحد.(83/60)
سبب فتوى ابن عباس في عدم توبة القاتل
السؤال
هل سبب فتوى ابن عباس رضي الله عنهما بأن القاتل المتعمد ليس له توبة: هو من أجل أنه رأى رجلاً يريد أن يقتل رجلاً آخر؟
الجواب
ليس معنى ذلك: أن ابن عباس رجع إلى قول الجمهور، ولكن السبب هو الرد على قول من قال: إن له لا توبة، وقد سبق أن شرحنا هذا.(83/61)
معنى الطاغوت
السؤال
هل كلمة طاغية أو طاغوت لا تطلق إلا على الكافر؟
الجواب
لا، بل تطلق على كل ما طغى وزاد عن حده، كما قال تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة:11]، فكل شيء يزيد عن حده يسمي طاغوتاً، ولهذا عرفه ابن القيم رحمه الله بقوله: (الطاغوت هو: كلما تجاوز به العبد حده: من متبوع أو معبود أو مطاع) فقوله: (كل ما تجاوز به العبد) يعني: حد ذلك الشيء المتجاوز به، ورفعه عن الحد الذي حده له الشرع، فالعبد حده أن يكون عبداً ولا يكون معبوداً، فإذا رفعه إنسان إلى أن يكون معبوداً فقد صار طاغوتاً عند الذي فعل هذا الشيء، فإذا كان المعبود راضياً بذلك فهو في نفسه أيضاً طاغوت، بل ومن رؤساء الطواغيت، والمقصود أن هذا التعريف مأخوذ من اللغة.(83/62)
توجيه ابن عباس لآية النساء
السؤال
قال ابن عباس: إنه لا توبة لمن قتل مؤمناً متعمداً، فما توجيهه رضي الله عنه لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]؟
الجواب
توجيهه: أن الآية التي في قتل النفس هي آخر ما نزل، ولم ينزل شيء بعدها ينسخها -بمعنى: يخصصها، فقصده بالنسخ هنا التخصيص- هذا هو توجيهه.(83/63)
ليس كل دجل سحراً
السؤال
الذي يضع على جسمه بعض الدهون أو قشوراً معينة، ثم يدخل النار فلا يصيبه شيء: هل من يفعل هذه الأشياء يعتبر ساحراً؟
الجواب
هذا دجل وحيل وشعوذة، وليس هذا من السحر، وكل من يفعله يعد من الدجالين، وهو محرم من المحرمات.(83/64)
أنواع السحر
السؤال
يقول بعض أهل العلم: إن السحر نوعان فقط، أحدهما: سحر حقيقي، وهو ما سحر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، والثاني: تخييلي، وهو كسحر سحرة فرعون.
فما تقول في ذلك؟
الجواب
السحر أنواع شتى وليس نوعين، بل أكثر من نوعين، وقد أوصلها الرازي رحمه الله إلى ثمانية أنواع، ولكن بعضها -مثلما قال-: ليست سحراً حقيقياً؛ بل هي بحيل وأمور قد تدرك، وأما ثلاثة أنواع منها أو أربعة فهي بواسطة الشيطان، أي: سحر فيه عبادة للشيطان.(83/65)
الجبت رنة الشيطان
السؤال
قال بعض أهل العلم: إن تفسير الحسن للجبت بأنه: رنة الشيطان، مصحف لما في مسند الإمام أحمد رحمه الله أنه قال: قال الحسن: إنه الشيطان؟
الجواب
( إنه الشيطان) هذا هو المصحف، وقد سبق أن قول عمر رضي الله عنه: إن الجبت: السحر؛ لأن التصحيف لا يكون إلا من شيء ثابت إلى شيء مصحف.(83/66)
الاستدلال بالنجوم على الحوادث الأرضية
السؤال
ذكرتم أن الاستدلال بالنجوم من الشرك، في حين أنه يستدل بها على حوادث الأرض، فما رأيكم؟
الجواب
الاستدلال بالنجوم من السحر، ويكون شركاً إذا اعتقد الإنسان به، كأن يعتقد أن اقتران هذا النجم أو طلوعه يدل بذاته على حادث يحدث في الأرض، أو يدل على المطر، أو يدل على الريح، أو يدل على أن هذا الإنسان يحصل له كذا، أو أنه يحدث أمراضاً، أو يحدث حوادث في الأرض: من تغير حكومة وإتيان حكومة أخرى، وما أشبه ذلك، مما يقوله المنجمون.(83/67)
علم الفلك لا يدخل في التنجيم
السؤال
هل علم الفلك الذي يدرس الآن بذكر الأحوال الجوية التي تقع في الغد يدخل في التنجيم؟
الجواب
هذا من العلم الذي يقرأ ويدرس، وقد فصلنا وذكرنا أنه لا يدخل في ذلك.(83/68)
حكم الذهاب إلى السحرة والدجالين والموقف ممن يذهب إليهم
السؤال
أرجو أن تعرفونا حكم الله في الزوجة التي تذهب إلى السحرة والدجالين، وتكذب على الزوج وتأتي بالغيبة والنميمة بين الناس؟
الجواب
الذي يذهب إلى السحرة واقع في الإثم بلا شك، سواء كانت الزوجة أو غيرها، فإن تعدى ذهابه إلى أن يطلب من الساحر أن يعمل سحراً فإنه يزداد إثماً، وإذا كان الإنسان له سلطة على من يفعل ذلك فعليه أن يمنعه من هذا الشيء، ويخبره أن هذا من المحرم -لأن الإنسان قد يفعل أفعالاً لا يدري هل هي محرمة أو غير محرمة، وقد يقول: إنها جائزة- فإن أبى من الامتناع بعدما أخبره بحرمتها فإنه يمنعه -إذا كان يستطيع ذلك- بالقوة، وإن أدى ذلك إلى تأديبه فاليؤدبه.(83/69)
الكلام على الغائب بدون ذكر اسمه
السؤال
إذا ذكرت، الغائب بما يكره بدون ذكر اسمه فهل يعتبر ذلك من الغيبة أم لا؟
الجواب
الغيبة هي: ذكرك أخاك بما يكره، أما قول: بعض الناس يقول كذا، وبعض الناس يفعل كذا، فهذا إذا كان القائل صادقاً ويريد الإصلاح فله نيته، أما إذا كان كاذباً فهو يدخل في إثم المغتاب.(83/70)
القول في جنس إبليس
السؤال
قال الشارح رحمه الله: لما لعن الله تعالى إبليس تغيرت صورته عن صورة الملائكة، فهل هذا يدل على أن الشارح رحمه الله يرى أن إبليس كان من جنس الملائكة؟
الجواب
إبليس كان من جنس الملائكة؛ لأنه كان معهم، فالله جل وعلا لما قال للملائكة: {اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا} [البقرة:34] استثنى منهم إبليس، فقال: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى} [البقرة:34]، وفي آية أخرى قال عنه: (إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف:50]، فهذه الآية تدل على أنه من نوع آخر، ولكنه كان معهم يعبد الله جل وعلا.(83/71)
قراءة قسم الأبراج في المجلات والصحف
السؤال
هل من قرأ قسم الأبراج في المجلات والصحف لا تقبل له صلاة أربعين يوماً؟ ومن صدق بها فقد كفر بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
من قرأها فقد دخل في التنجيم المنهي عنه الذي هو شرك، والذي يقرؤها ويصدق بها فهو من الذين يصدقون بقول المنجمين، ومن صدق بقول منجم فهو مثله.(83/72)
كذب بعض المشعوذين في ادعائهم معالجة الكسور بالقراءة
السؤال
يُذكر أن رجلاً يجبر الكسور بمجرد القراءة من وقته، وبعض الناس يتحدثون عنه أنه من أولياء الله، فهل هذا صحيح؟
الجواب
هذا نوع من الدجل، والكسر لا يجبر بالقراءة، بل لابد أن يجبر تجبيراً حقيقياً؛ لأن هذا أمر له سبب ظاهر، والذي يقول: إن الذي يقرأ على الكسر فيجبر ولي فهو كذاب، وذاك ليس ولياً لله، بل هو ولي للشيطان، وولي الله لا يقول: أنا ولي الله، فلا يظهر شخص نفسه ويشهر أنه ولي إلا من يريد الدنيا، ويريد أن يستولي على أموال الناس.(83/73)
حكم بناء المساجد والقباب على القبور
السؤال
ما حكم بناء القباب والأضرحة على من يراه الناس من الصالحين؟ وما حكم العمل والمساعدة في بنائها؟
الجواب
سبق هذا وتكلمنا فيه، وذكرنا الأحاديث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم في بيان أن من وسائل الشرك -التي وقع فيها كثير من الناس- بناء المساجد على القبور، وأكبر منه إذا تطور إلى بناء قباب عليها.(83/74)
الذهاب إلى المدينة ليس من أعمال الحج
السؤال
مما ينتشر بين الناس البقاء في المدينة لأداء أربعين صلاة بها، فهل يجوز للحاج أن يغادر المدينة قبل إكمال هذه الأربعين؟
الجواب
يجوز للحاج ألا يأتي إلى المدينة أصلاً، فلو ذهب إلى مكة ولم يأتِ إلى المدينة فلا أحد يقول: إنه آثم، أو إن حجه ناقص، فإتيان المدينة والصلاة فيها ليس من أعمال الحج، وإنما الحج في مكة فقط، أما كونه يأتي ويصلي في المسجد النبوي فهذا فضل، والصلاة فيه بألف صلاة، ولكن الصلاة في مكة بمائة ألف صلاة، وعلى هذا تكون الصلاة بمكة أفضل من الصلاة في المدينة، والمقصود: أن الحج والمناسك تكون في مكة وليس في المدينة، وزيارة المدينة أمر خارجي عن الحج، وليس له دخل في الحج.(83/75)
السكتة بعد تكبيرة الإحرام
السؤال
السكتة بعد قراءة الفاتحة، هل هي سنة أم لا؟ وهل يقرأ المأموم فيها شيئاً؟
الجواب
السكتة بعد قراءة الفاتحة هي سكتة لطيفة بقدر ما يرتد إليه نفسه فقط، أما السكتة الطويلة فهي بدعة، وسكوت الإمام حتى يقرأ المأموم الفاتحة يعد من البدع، كما نص عليه العلماء، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يفعل ذلك، وإنما كانت له سكتة لطيفة بعد تكبيرة الإحرام، وهي التي سأله عنها أبو هريرة رضي الله عنه: ما تقول فيها؟ فأخبره أنه يقول فيها دعاء الاستفتاح، أما بعد قراءة الفاتحة فسكوت لطيف ليرجع إليه نفسه ثم يقرأ.(83/76)
الحج عن الغير
السؤال
هل يجوز الحج عن أحد الأقارب المتوفى؟
الجواب
إذا كان الإنسان قد حج عن نفسه أولاً فيجوز أن يحج عن أقاربه وعن غير أقاربه، وليس بلازم أن يكون من أقاربه، فلو كان هناك إنسان أجنبي فيجوز أن يحج عنه.(83/77)
حكم الصلاة خلف من يعتقد بالقبور
السؤال
فضيلة الشيخ! ذكرتم: أنه لا تجوز الصلاة وراء من يعتقد بالأضرحة، فقال بعض الإخوان: إنه لم تقم عليه الحجة، فهل عندما يصلي بالناس أصلي معهم وأعيد صلاتي لوحدي، أم أخرج من المسجد وأنتظر؟ وإن خرجت من المسجد وانتظرت قد تحدث فتنة بالمسجد بهذا العمل.
الجواب
إذا كان الذي يؤم الناس ممن يعتقد في القبور، ويطوف حولها، ويسأل أصحابها، ويجعلها واسطة بينه وبين الله، فهذا ليس بمسلم، ولا تجوز الصلاة خلفه، فالمسلم يقتدي بمسلم، ولا يقتدي بمشرك، فلا تصح الصلاة خلفه سواء كان هناك خوف من الناس أو خوف من الفتنة، ولو قدر أن أحداً صلى معه فيجب عليه أن يعيد الصلاة، وكان عليه أن ينظر إلى إمام مسلم لا يعبد غير الله، ولا يعبد القبور، فيصلي معه.(83/78)
صلاة الكاهن
السؤال
بعض الكهنة يعمل بعض الأعمال ويقوم بأداء الصلاة، فهل تقبل صلاته؟ وما حكم من يصلي وراءه؟
الجواب
مثل هذا لا يجوز أن يكون إماماً بحال من الأحوال، فهو نفسه صلاته غير مقبولة، بل قد يكون كافراً بالدين الإسلامي، فكيف يكون إماماً يقتدى به، أو ينظر أنها تقبل صلاته أو لا تقبل؟! فالرسول صلى الله عليه وسلم قد أجاب على هذا، وليس بعد جواب رسول الله جواب.(83/79)
العراف هو الذي يدعي الغيب سواءً كان غيباً مطلقاً أو نسبياً
السؤال
هل يشترط في العراف الذي يتعاطى أمور الغيب أن يكون هذا الغيب مطلقاً أم حتى النسبي يدخل في ذلك؟
الجواب
نعم، النسبي يدخل في هذا، فكل ما غاب عن الإنسان فهو غيب، فإذا تكلم الإنسان في الشيء الذي يغيب عنه فقد تكلم في الغيب، فالغيب النسبي: هو بالنسبة للبعض، فالذي لا يغيب عنه ليس غيباً، أما الذي يغيب عنه فهو غيب، فمن تكلم بالغيب فهو داخل في ذلك.(83/80)
حكم إعانة من يذهب إلى الكهان
السؤال
هل يجوز للإنسان أن يعين أخاه المبتلى بالذهاب إلى الكاهن، وبقائه عنده، عند اشتداد ما أصابه من المرض؟
الجواب
لا يجوز أن يذهب إلى الكاهن مريض ولا غيره، فالكاهن ليس عنده شفاء، وإنما عنده مرض القلوب ومرض الدين، ولا يأتي بشيء، إلا إنه قد يبتلى الإنسان بالشيطان حتى يذهب به إلى الكاهن فيكون فتنة له، فعلى الإنسان أن يعتصم بالله جل وعلا، ويتعالج بالعلاجات والأدوية الطبيعية، أو بالقراءة على نفسه، أو بالرقية ممن يثق به، ويعرف دينه، وصحة مقصده.(83/81)
الكفر أعم من الشرك
السؤال
ما هو الفرق بين الشرك والكفر؟ ولماذا كانت الطيرة شركاً والكهانة والسحر كفراً؟
الجواب
الكفر أعم من الشرك؛ لأنه قد يوجد الكفر ولا يوجد الشرك، فالشرك أخص، والمشرك شركاً أكبر كافر، أما إذا كان أصغر فلا، وكذلك الكفر يكون أكبر وأصغر، ولكن إذا كان الشرك أكبر والكفر أكبر فالشرك أخص؛ لأن الشرك معناه: عبادة غير الله، أما الكفر فقد يوجد والإنسان لا يعبد شيئاً، وقد يوجد فيمن يعبد الله وحده، كأن لا يصدق بالرسول صلى الله عليه وسلم ولا يؤمن به، فيكون كافراً كمثل حالة اليهود.(83/82)
الانتقام من الكاهن
السؤال
كاهن آذى شخصاً، فهل يجوز لذلك الشخص أن ينتقم من هذا الكاهن؟ وما هي الحكمة من ذكر أربعين صلاة؟
الجواب
إذا آذى الإنسان فله ذلك: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل:126]، فإذا استطاع أن يصنع به الشيء الذي يكون مكافئاً: فله أن يفعل ذلك.
وأما كون الصلاة قيدت بأربعين فالله أعلم، وهذه ما لا نعرف الحكمة فيه.(83/83)
زيارة الكهان إذا كانوا أقارب
السؤال
هل يجوز زيارة الكهان خاصة إذا كانوا من الأقرباء، على أن الزيارة تكون على أساس صلة الرحم؟
الجواب
لا يجوز ويجب أن تقطع الصلة التي بينك وبينه، فإذا كان كاهناً فليس بينك وبينه صلة، والصلة الحقيقية هي الصلة الدينية، أما إذا كان أخوك أو أبوك مخالفاً لدينك فليس بينكما صلة، والله جل وعلا يقول: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22]، من أقرب من الأب والابن؟! فإذا خالف دينك فليس لك بأخ وليس لك بولي، بل هو معادٍ لك.(83/84)
العمرة والحج للنبي صلى الله عليه وسلم
السؤال
ما الحكم في رجل يريد أن يؤدي عمرة أو حجاً ويكون الأجر للرسول صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
هذا لا يجوز؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم غني عن ذلك، ولم يشرع صلوات الله وسلامه عليه هذا، وأي عمل يعمله الإنسان فللرسول صلى الله عليه وسلم مثل أجره، سواء عمرة أو حج أو صلاة أو أي شيء؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: (من دعا إلى هدى فله من الأجر مثل أجور من اهتدى، من غير أن ينقص من أجورهم شيء)، فحينئذٍ لا حاجة إلى هذا العمل.(83/85)
تأخير سجود التلاوة إلى نهاية القراءة
السؤال
هل يجوز أن يؤخر الإنسان سجود التلاوة إلى أن ينتهي من الجزء أو السورة؟
الجواب
لا، بل سجود التلاوة يكون عند السجدة، فإذا وصلت إلى السجدة فاسجد، والسجود سنة، فإن سجدت تحصلت على الأجر، وإن لم تسجد فليس عليك شيء.(83/86)
تعدد الفدية عن ترك واجب من واجبات الحج
السؤال
إذا ترك الحاج بعض واجبات الحج، فهل عليه عند ترك كل واجب دم، أم دم واحد يكفي عن ذلك؟
الجواب
هذا يختلف: فإذا كان الواجب من جنس واحد فعليه دم واحد، مثل: ترك رمي الجمرات: الأولى والثانية، فلو ترك واحدة فعليه دم واحد، ولو ترك الثلاث فعليه دم واحد، أما إذا كان الواجب مختلفاً فإن كل واجب عليه دم.(83/87)
كتابة الآيات وشرب مائها للشفاء
السؤال
هل كتابة الآيات بماء الزعفران وشربها للشفاء جائزة؟
الجواب
نعم، هذا جائز، وهذا داخل في قوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ} [الإسراء:82]، وتكتب في الشيء الذي لا ضرر فيه، مثل: الزعفران، أما الحبر فإن فيه مادة سمية، فلا يجوز أن تكتب به؛ لأنه مضر، وإذا كتب بغير الزعفران كالشيء الخالي من الضرر جاز، والسلف كانوا يفعلون هذا، والإمام أحمد روي عنه ذلك.(83/88)
أخذ الأجرة على الرقية
السؤال
هل يجوز أخذ مال على الرقية؟
الجواب
إذا شفي المرقي جاز للراقي أن يأخذ على رقيته مالاً، أما إذا لم يشف المرقي فلا يجوز للراقي أن يأخذ شيئاً، ولا يجوز للراقي أن يشترط شيئاً مقابل الرقية إلا أن يتبرع له المريض أو غيره بشيء، بمعنى: أن ما يعطيه ليس جزاءً للرقية.(83/89)
احتراف الرقية
السؤال
هل يجوز أن يحترف الإنسان المسلم الرقية؟
الجواب
لا يجوز، لا يجوز للإنسان أن يحترف الرقية ليجمع فيها الفلوس، وهذه الرقية غالباً لا تفيد ولا تجدي شيئاً، بل عليه يفعل ذلك من باب المعاونة والرحمة والشفقة على أخيه، أما أن يكون ذلك مكسبة فهذا من اشتراء آيات الله بثمن قليل، وأما إذا كانت الرقية بغير الآيات، بأمور مباحة كعلاجات وما أشبه ذلك، فهذا نوع من الطب لا بأس به.(83/90)
تحضير الجن
السؤال
هل إحضار الجني من السحر؟
الجواب
لا يلزم أن يكون من السحر، فالجني قد يحضر إذا خدم وعبد، يحضر لنفع وإضلال الإنسان، والجن موجودون مع الناس ولكنهم لا يظهرون، وإذا طلب من الجني أن يظهر ويعمل العمل الذي طلب منه فقد يظهر إذا رضي، وهذا ما يسميه من أراد أن يجعل الشرك متمدناً بـ (تحضير الأرواح) أو بـ (التنويم المغناطيسي) أو ما أشبه ذلك من الأمور التي هي من عمل الجاهلية، بل من عمل المشركين، فهذا لا يجوز، والمؤمن يجب أن يكون متعلقاً بربه جل وعلا، لا أن يتعلق بجني أو بإنسي، ويجب عليه أن يحترز من الجن بذكر الله جل وعلا، والاستعاذة بالله منهم.(83/91)
حكم أخذ طالب العلم من الصدقة
السؤال
هل لطالب العلم أن يأخذ المال من الناس؛ ليستعين به على مواصلة طلب العلم، بشراء الكتب مثلاً؟
الجواب
طالب العلم إذا كان فقيراً ومحتاجاً لشراء الكتب؛ لمواصلة دراسته، وليس عنده ما يكفيه، فيجوز له أن يأخذ من الصدقات مما يتبرع به ذوو الطول والإحسان، فإن هذا من الجهاد في سبيل الله، وطلب العلم من أفضل الأعمال، والذي لا يستطيع ذلك فإعانته لطالب العلم من أفضل الأعمال.(83/92)
الأخذ من اللحية
السؤال
هل يجوز للمسلم أن يأخذ من لحيته؟
الجواب
اللحية قد جاءنا الأمر بتوفيرها وبإكرامها وبإعفائها، فلا يجوز أن يؤخذ منها شيء.(83/93)
زيارة المريض لا تتسبب في العدوى
السؤال
إذا كان الحديث نهى أن يتسبب الإنسان في عدوى أخيه، فكيف نوفق بين ذلك وبين حث النبي صلى الله عليه وسلم على زيارة المرضى؟
الجواب
ليس معنى ألا يتسبب الإنسان في عدوى أخيه أنه يمتنع من قربان المريض أصلاً، ولكن المقصود ألا يخالطه مخالطة مثل: أن يلبس ثيابه، أو يجلس في فراشه، وما أشبه ذلك من الأمور التي تكون سبباً في انتقال المرض إليه، أما زيارته والكلام معه فلا يدخل في هذا.(83/94)
حكم السفر بغير رضا الوالد
السؤال
عندما يريد شخص السفر يلاحظ أمارات الحزن على وجه والده، وكأن يشير له بعدم السفر، فيقع ذلك في نفسه، فهل يسافر أم لا؟
الجواب
الواجب طاعة الوالد إذا كان أمراً مباحاً، فإذا أمره ألّا يسافر فلا يسافر، أما إذا كان سفره -مثلاً- لأمر واجب يتعين عليه فإنه لا يلتفت إلى نهي الوالد عن السفر؛ لأن طاعة الله أولى.(83/95)
لا تعارض بين قوله: (لا عدوى)، وبين قوله: (لا يورد مصح على ممرض)
السؤال
ألا يدل قوله صلى الله عليه وسلم لصاحب الإبل: (فمن أعدى الأول) على رجحان القول الأول: وهو أنه لا عدوى؟
الجواب
لا يدل؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا يورد مصح على ممرض)، ولا تكون الأحاديث متعارضة، وقوله: (لا يورد ممرض على مصح) واضح.(83/96)
من أسباب العدوى بالمرض
السؤال
قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (فر من المجذوم فرارك من الأسد)، ولدينا قريب مريض بالجذام ونحن نعوده منذ عشرة أشهر فهل هناك تعارض؟
الجواب
لا تعارض، وقد سبق أن ذكرنا أن من أسباب العدوى ملامسة فضلات المريض أو سائله أو غطائه، أو ما أشبه ذلك، وهذا ينبغي للإنسان أن يجتنبه؛ لأنه قد يكون سبباً للمرض.(83/97)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [84]
الحب هو أصل الدين، ويجب على العبد أن يخلصه لله جل وعلا وحده، وأن يحرص على كل الأسباب التي تزيده محبة لله عز وجل.(84/1)
قول الله تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165]].
لما كان الحب هو أصل الدين الإسلامي، ويجب على العبد أن يخلصه لله جل وعلا، نبه المصنف رحمه الله بهذه الترجمة على وجوب إخلاص الحب لله وحده، وأن الحب لله جل وعلا يكمل بتوابعه التي تتبعه، كمحبة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومحبة أهل الطاعة الذين يطيعون الله جل وعلا، ويكون حبهم لله فقط؛ لأن الذي يحب لذاته هو الله وحده جلا وعلا، أما غيره من سائر الخلق فهم يحبون بما يقع على أيديهم من الطاعات والإحسان أو غير ذلك.
ثم المحبة قد تختلط على كثير من الناس، فلا يميز بين الواجب الذي يتعين أن يكون لله وحده وبين ما يكون للعباد أو يكون للرسول صلى الله عليه وسلم، وقد يجعل كثير من الناس المحبة الواجبة لله مشتركة بين الله وبين خلقه فيقع في الشرك.
والاشتراك في المحبة يكون من الشرك الأكبر الذي يكون مخرجاً من الدين الإسلامي، وذلك أن الباعث على العمل هو الحب، بل الباعث على كل شيء والمحرك للبدن وللجوارح هو الحب والإرادة، ولهذا أخبر الله جل وعلا أنه يجب أن يحب وحده، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول للناس: (أحبوا الله من كل قلوبكم) يعني: تكون المحبة خالصة لله جل وعلا.(84/2)
أقسام المحبة
يجب أن يعلم أن المحبة تنقسم إلى قسمين: محبة مشتركة بين الخلق كلهم، وهذه ليس فيها ضير على الإنسان، وليس فيها شرك، وهذه المحبة أقسام ثلاثة: القسم الأول: محبة الشفقة والحنو والرحمة، كمحبة الولد الصغير، ومحبة الضعفاء وما أشبه ذلك، فهذه ليس فيها ضير على المحب، بل يثاب على ذلك.
القسم الثاني: محبة تقدير وإجلال، كمحبة الوالد، ومحبة من يقدره.
القسم الثالث: محبة الاشتراك، كمحبة الزمالة أو المصاحبة في عمل، أو في سفر، أو في مسكن، أو ما أشبه ذلك، وهذه تقع حتى للحيوانات بعضها مع بعض، وهذه الأمور الثلاثة لا تستلزم الذل والخضوع والتعظيم، يعني: أنها ليست محبة عبودية، بل هي محبة لهذه الأمور المذكورة، هذا القسم من أقسام المحبة وهذه التي تكون في الخلق.
أما محبة العبودية -وتسمى المحبة الخاصة- فهذه يجب أن تكون لله جل وعلا، وهي التي تتضمن الذل والخضوع والتعظيم، فلا يجوز أن يقع لمخلوق من المخلوقات محبة من هذا النوع، هذه المحبة تتضمن الذل والخضوع والتعظيم، فإنها إذا وقعت لمخلوق فتكون محبة عبادة، ويكون من وقعت منه مشركاً بالله جل وعلا.
وهذا الذي أنكره الله جل وعلا على المشركين في الآية التي ذكرها المؤلف، وهي قوله جل وعلا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165] إلى آخر الآية، وكذلك الآيات التي بعدها.(84/3)
معنى محبة المؤمنين ومحبة المشركين في الآية
قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله: باب قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165]، لما كانت محبته سبحانه هي أصل دين الإسلام الذي يدور عليه قطب رحاه، فبكمالها يكمل، وبنقصها ينقص توحيد الإنسان -نبه المصنف على ذلك بهذه الترجمة.
قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا} [البقرة:165] الآية]، قال في شرح المنازل: أخبر تعالى أن من أحب من دون الله شيئاً كما يحب الله تعالى فهو ممن اتخذ من دون الله أنداداً، فهذا ند في المحبة لا في الخلق والربوبية، فإن أحداً من أهل الأرض لا يثبت هذا الند بخلاف ند المحبة، فإن أكثر أهل الأرض قد اتخذوا من دون الله أنداداً في الحب والتعظيم، ثم قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165]، وفي تقدير الآية قولان: أحدهما: والذين آمنوا أشد حباً لله من أصحاب الأنداد لأندادهم وآلهتهم التي يحبونها ويعظمونها من دون الله.
وروى ابن جرير عن مجاهد في قوله تعالى: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165] مباهاة ومضاهاة للحق بالأنداد {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165] من الكفار لأوثانهم].
هذا قول مرجوح، الراجح القول الثاني، وهو أن الذين آمنوا أشد حباً لله من المشركين لله، هذا هو القول الصحيح وهذا مبني على قولين في أول الآية، لأن قوله جل وعلا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165]، (يحبونهم كحب الله) يعني: أن المشركين يحبون الأنداد كمحبتهم لله، فصارت المحبة مقسمة قسمين: قسم منها لله، وقسم منها للأنداد، وهذا هو الشرك الأكبر، فهم يحبون أندادهم مثل محبتهم لله جل وعلا، وهذه المحبة محبة عبادة، وهذا الذي جعلهم خالدين في النار، وهذه المحبة هي التي يلوم المشركون عليها أنفسهم، ويلوم بعضهم بعضاً إذا كانوا في النار، ويقولون كما أخبر الله عنهم: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:97 - 98]، يخاطبون أندادهم وآلهتهم بهذا الخطاب يقولون: (تالله إن كنا في ضلال مبين، إذ نسويكم برب العالمين) يعني: سووهم في المحبة، (برب العالمين) يعني: نحبكم كما نحب رب العالمين، فالآية تدل على أنهم يحبون الله، ولكنهم شركوا في محبة الله الأنداد؛ فصاروا بذلك مشركين، وليس معنى ذلك أن المشركين يحبون الأنداد كمحبة المؤمنين لله، هذا قول باطل، وقد قيل هذا في الآية، ولكنه في الواقع قول ضعيف.
ثم ركب على هذا ما في آخر الآية: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165]، يعني: الذين أمنوا حبهم أشد من حب أصحاب الأنداد لله، وليس من حب أصحاب الأنداد لأندادهم، وهذا قول ذكر في تفسير الآية، ولكنه قول ضعيف.
والقول بأن محبة المؤمنين لله أشد من محبة الكافرين لله يدل على أن المشركين يحبون الله حباً كثيراً، ولكنه حب صار فيه شركة، وهو الشرك الذي جعلهم كفاراً، وجعلهم في النار.
فدلت الآية على وجوب إخلاص المحبة لله، وأنه يجب أن تكون المحبة لله وحده، ولا يكون معه مشارك فيها مهما كان، وسيأتي أنه فرض على المسلم أن يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من محبته لولده ووالده وماله، ومن نفسه أيضاً، ومن الناس أجمعين.(84/4)
الفرق بين محبة الله ومحبة رسوله
ما الفرق بين محبة الرسول صلى الله عليه وسلم ومحبة الله؟ نقول: إن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم فرع عن محبة الله، يعني: يحبه لله ومن أجل الله، يحبه لأن الله يحبه، يحب في الله ولا يحب مع الله، وإنما يحبه لأن الله أمر بحبه؛ ولأنه قام بما يجب عليه لله جل وعلا، فمن لازم محبة الحبيب أن تحب ما يحبه.
وكذلك محبة عباد الله المؤمنين وأوليائه وأتقيائه، يحبون لله وفي الله، ومن أجل الله جل وعلا، وليست محبة مع الله، أما المحبة مع الله فتكون محبة فيها التعظيم والذل والخضوع والعبودية، وهذه لا تجوز أن تكون إلا لله وحده كما سبق.
قال الشارح رحمه الله: [ثم روى عن ابن زيد قال: هؤلاء المشركون أندادهم آلهتهم التي عبدوا مع الله، يحبونهم كما يحب الذين آمنوا الله، والذين آمنوا أشد حباً لله من حبهم آلهتهم.
انتهى].
قلنا: هذا قول ضعيف.
قال الشارح: [والثاني: والذين آمنوا أشد حباً لله من المشركين بالأنداد لله].
قلنا: هذا هو القول الصحيح، وهو الصواب، أما الأول فضعيف.
قال الشارح: [فإن محبة المؤمنين خالصة، ومحبة أصحاب الأنداد قد ذهبت أندادهم بقسط منها، والمحبة الخالصة أشد من المشتركة، والقولان مرتبان على القولين في قوله تعالى: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165]، فإن فيها قولين أيضاً.
أحدهما: يحبونهم كما يحبون الله، فيكون قد أثبت لهم محبة الله، ولكنها محبة أشركوا فيها مع الله تعالى أندادهم.
والثاني: أن المعنى يحبون أندادهم كما يحب المؤمنون الله].
القول الثاني باطل؛ لأنه ليست محبة المشركين لأندادهم كمحبة المؤمنين لله، هذا شيء معروف، وإن كانت محبتهم فيها ذل وخضوع وتعظيم، ولذلك صارت عبادة، ولكنها ليست كمحبة المؤمنين لربهم تعالى وتقدس.
قال الشارح: [ثم بين تعالى أن محبة المؤمنين لله أشد من محبة أصحاب الأنداد لأندادهم].
هذا فيه تناقض، كيف تقول مثلاً: إنهم يحبون أندادهم كمحبة المؤمنين لله، ثم تقول: إن محبة المؤمنين أشد وأعظم؟! يصير الكلام متناقضاً أوله مع آخره، وهذا يدل على ضعفه.(84/5)
كلام ابن تيمية في تفسير الآية
قال الشارح رحمه الله: [وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يرجح القول الأول ويقول: إنما ذموا بأن شركوا بين الله وبين أندادهم في المحبة، ولم يخلصوها لله كمحبة المؤمنين له، وهذه التسوية المذكورة في قوله تعالى حكاية عنهم وهم في النار أنهم يقولون لآلهتهم وأندادهم وهي محضرة معهم في العذاب: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:97 - 98]، ومعلوم أنهم ما سووهم برب العالمين في الخلق والربوبية، وإنما سووهم به في المحبة والتعظيم، وهذا أيضاً هو العدل المذكور في قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1] أي: يعدلون به غيره في العبادة التي هي المحبة والتعظيم.
وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]، وهذه تسمى آية المحنة، قال بعض السلف: ادعى قوم محبة الله فأنزل الله تعالى آية المحنة: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]].
يعني: أنهم امتحنهم الله بهذه الآية، وجازوا الامتحان حين امتحنهم بذلك، فدليل المحبة الاتباع، فمن كان يحب الرسول صلى الله عليه وسلم فعلامة ذلك أنه يتبع سنته، ويقتفي أثره، ويحرص على ذلك أشد الحرص.
أما إذا كان يدعي أنه يحبه وهو مخالف لسنته، فهذه دعوى، وكذلك من يزعم أنه يحب الله فعلامة ذلك أنه يطيع أمره ويجتنب نهيه، فهذه علامته.
فليست الدعوى مقبولة إلا بدليل، ودليل محبة الله الطاعة والاتباع، وكذلك محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلا فالدعاوى لا تفيد، فاليهود يزعمون أنهم أبناء الله وأحباؤه، هكذا يقولون: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18]، ولكنها دعوى غير مقبولة، لأن الواقع ينافيها، لأنهم عصاة كفرة.
وكذلك الذين يزعمون من هذه الأمة أنهم يحبون الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من غيرهم، يقول: لابد أن يبرهن المحب للرسول صلى الله عليه وسلم محبته، وبرهان ذلك اتباع سنته صلى الله عليه وسلم، وطاعة أمره، والابتعاد عما نهى عنه، هذا هو الدليل على المحبة، أما إذا كانت المحبة مجرد تقليد أو مجرد دعوى أو على شيء من أمور الهوى أو من الأمور التي تشتهيها الأنفس؛ فهذا ما يجدي شيئاً ولا ينفع.
وهذه الآية التي في سورة آل عمران: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31] تسمى آية المحنة؛ لأن سبب نزولها أن قوماً قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إننا نحب ربنا حباً شديداً، فأنزل الله جل وعلا هذه الآية لتكون علامة للمحب: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31] يعني: إن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم هو العلامة التي تصحح دعوى المحبة.
قال الشارح: [فأنزل الله تعالى آية المحنة: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]، إشارة إلى دليل المحبة وثمرتها وفائدتها، فدليلها وعلامتها: اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وفائدتها وثمرتها محبة المرسل لكم].
ومحبة المرسل تكون تابعة لها.(84/6)
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه)
قال الشارح رحمه الله: [فما لم تحصل منكم المتابعة فمحبتكم له غير حاصلة، ومحبته لكم منتفية، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54]، ذكر لهم أربع علامات: إحداها: أنهم أذلة على المؤمنين، قيل: معناه: أرقاء رحماء مشفقين عاطفين عليهم، فلما ضمن أذلة هذا المعنى عداه بأداة (على)، قال عطاء رحمه الله: للمؤمنين كالولد لوالده، وكالعبد لسيده، وعلى الكافرين كالأسد على فريسته: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29]].
قوله: (أشداء على الكافرين) ما ذكرها الشارح لظهورها ووضوحها، وتكلم على كونهم (أذلة على المؤمنين) يعني: يرحمونهم ويوالونهم ويحبونهم، (وأعزة على الكافرين) يعني: أنهم أشداء عليهم، وغلظاء عليهم، يبغضونهم ويكرهونهم لأنهم كفروا بالله جل وعلا، ويعادونهم أشد المعاداة ولو كانوا من أقربائهم في النسب، كما قال الله جل وعلا: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22].
قالوا: إن هذه الآية نزلت في بعض الصحابة مثل أبي عبيدة بن الجراح وغيره الذين قتلوا بعض أقربائهم يوم بدر، ومنهم من تبع أباه ليقتله لأنه كان مع الكافرين، فنزلت هذه الآية؛ ولهذا قال: {أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ} [المجادلة:22] يعني: أن الذي دعاهم إلى مقاتلة أقربائهم أنهم آمنوا بالله جل وعلا، وعادوا الكفار في الله جل وعلا.
قال الشارح: [العلامة الثالثة: الجهاد في سبيل الله بالنفس واليد والمال واللسان؛ وذلك تحقيق دعوى المحبة].
العلامة الرابعة: أنهم لا تأخذهم في الله لومة لائم، وهذه علامة صحة المحبة، فكل محب أخذه اللوم على محبوبه فليس بمحب على الحقيقة.
وقال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء:57]، فذكر المقامات الثلاثة: الحب وهو ابتغاء القرب إليه، والتوسل إليه بالأعمال الصالحة، والرجاء والخوف يدل على أن ابتغاء الوسيلة أمر زائد على رجاء الرحمة وخوف العذاب].
يعني: عمل عملاً زائداً وهو طلب المرضاة باتباع الأمر واجتناب النهي.(84/7)
أنواع المحبة وما يجوز إثباته لله منها
قال الشارح رحمه الله: [ومن المعلوم قطعاً أنه لا يتنافس إلا في قرب من يحب قربه، وحب قربه تبع لمحبة ذاته، بل محبة ذاته أوجبت محبة القرب منه، وعند الجهمية والمعطلة ما من ذلك كله شيء، فإنه عندهم لا تقرب ذاته من شيء، ولا يقرب من ذاته شيء، ولا يحب، فأنكروا حياة القلوب، ونعيم الأرواح، وبهجة النفوس، وقرة العيون، وأعلى نعيم الدنيا والآخرة؛ ولذلك ضربت قلوبهم بالقسوة، وضرب دونهم ودون الله حجاب على معرفته ومحبته، فلا يعرفونه ولا يحبونه ولا يذكرونه إلا عند تعطيل أسمائه وصفاته، فذكرهم أعظم آثامهم وأوزارهم، بل يعاقبون من يذكره بأسمائه وصفاته ونعوت جلاله، ويرمونهم بالأدواء التي هم أحق بها وأهلها، وحسب ذي البصيرة وحياة القلب ما يرى على كلامهم من القسوة والمقت، والتنفير عن محبة الله تعالى ومعرفته وتوحيده، والله المستعان.
وقال رحمه الله تعالى أيضاً: لا تحد المحبة بحد أوضح منها، فالحدود لا تزيدها إلا خفاء، فحدها وجودها، ولا توصف المحبة بوصف أظهر من المحبة، وإن تكلم الناس في أسبابها وموجباتها وعلاماتها وشواهدها وثمراتها وأحكامها].
المحبة قسمت أقساماً كما هو معروف في لغة العرب، فلها أول، ولها وسط، ولها آخر، فأولها: الإرادة، وهي الميل إلى المحبوب بإرادته، وهي دون العلاقة التي تغني أن يتعلق قلبه به، ثم الصبابة وهي: أن ينصب القلب إلى المحبوب مثل انصباب الماء في منحدره، ثم المودة وهي: خالص الحب، ثم الشغف وهي: أن تصل المحبة إلى شغاف القلب وتتغلغل فيه، ثم بعد الشغف العشق وهو: الحب الذي فيه خطر على الإنسان، ولكن مثل هذا ما يوصف الله جل وعلا به، ولا يجوز أن يقول العبد: أنا عاشق لله؛ لأن العشق محبة فيها شهوة، وهذه لا يجوز أن يوصف بها الله جل وعلا أو تكون للعبد في الله تعالى.
ثم بعد ذلك التتيم وهو التعبد، ثم الخلة، وهي نهاية المحبة، ومعناها أن الحب تخلل جميع أجزاء القلب فلم يبق فيه مكان؛ ولهذا الله جل وعلا ما اتخذ خليلاً إلا إبراهيم ومحمداً صلوات الله وسلامه عليهما؛ لأنهما اللذان كملا المحبة لله جل وعلا، وغيرهما لا يقدر على ذلك.
ولا يجوز أن يوصف الله جل وعلا بأقسام هذه المحبة كلها، وإنما يوصف بما ورد به النص، فالذي ورد به النص يوصف به جل وعلا وتقدس؛ لأن صفاته تتوقف على النص، فما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم أثبت ووصف به وسمي به وإلا لا يجوز.
قال الشارح رحمه الله: [وأجمع ما قيل في ذلك: ما ذكره أبو بكر الكتاني عن الجنيد، قال أبو بكر: جرت مسألة في المحبة بمكة ـأعزها الله بأيام الموسم ـ فتكلم الشيوخ فيها، وكان الجنيد أصغرهم سناً فقالوا: هات ما عندك يا عراقي! فأطرق رأسه، ودمعت عيناه ثم قال: عبد ذاهب عن نفسه، متصل بذكر ربه، قائم بأداء حقوقه، ناظر إليه بقلبه، أحرق قلبه أنوار هيبته، وصفا شرابه من كأس مودته، وانكشف له الحياء من أستار غيبه، فإن تكلم فبالله، وإن نطق فعن الله، وإن تحرك فبأمر الله، وإن سكن فمع الله].(84/8)
الأسباب الجالبة للمحبة
قال الشارح: [وذكر رحمه الله تعالى: أن الأسباب الجالبة للمحبة عشرة: أحدهما: قراءة القرآن بالتدبر والتفهم لمعانيه وما أريد به.
الثاني: التقرب إلى الله تعالى بالنوافل بعد الفرائض.
الثالث: دوام ذكره على كل حال باللسان والقلب والعمل والحال، فنصيبه من المحبة على قدر هذا.
الرابع: إيثار محابه على محابك عند غلبات الهوى.
الخامس: مطالعة القلب لأسمائه وصفاته، ومشاهدته وتقلبه في رياض هذه المعرفة وميادينها].
هذه التي ذكر من أسباب تنمية المحبة لله وإيجادها في القلب، وهي:(84/9)
قراءة القرآن بتدبر
الأول: أن يقرأ القرآن بتدبر، وتفهم لمعانيه؛ لأن التدبر والتفهم مقصوده العمل، فيتصور القارئ أنه يقرأ خطاب الله جل وعلا، وأن الله يخاطبه بهذا الكلام، فيتفهمه حتى يمتثل ما أمره به، ويجتنب ما نهاه عنه، فيكون هذا مقصده ومراده من القراءة، وكذلك تلذذه بتلاوة كلام ربه جل وعلا، فإن هذه نعمة عظيمة جداً على المؤمن، فتخلو بنفسك تقرأ كلامه وتردده، فإذا استشعرت النعمة، وتدبرت كلامه؛ يزيدك الله جل وعلا بهذا علماً ومحبة للطاعة التي هي ثمرة محبة الله جل وعلا.(84/10)
إيثار محاب الله على محاب النفس
الثاني: أن تؤثر محبة الله على محبة نفسك ومحبة من تحبه، ومعنى ذلك أنه إذا صار أمامك أمران: أحدهما تعلم أنه محبوب لله جل وعلا، ولكنه قد يكون ثقيلاً على النفس، والآخر بعكس ذلك، فإنك تقدم ما هو محبوب لله جل وعلا، وتجتهد في ذلك، وتتحمل إذا كان فيه مشقة وصعوبة على النفس، وهذا ينمي محبة الله جل وعلا.(84/11)
المبادرة إلى طاعة الله
الثالث: إذا حضر أمر الله فبادر إليه ولا تتوان، فإن التواني عن المبادرة بأمر الله قد يورث معصية ومقتاً، كما أخبر الله جل وعلا عن الذين قعدوا عن الجهاد وتأخروا، فقال الله جل وعلا لهم: {اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة:46]؛ لأنهم في أول الأمر ما سارعوا إلى ذلك، وكذلك يقول جل وعلا: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام:110]؛ بسبب أنهم تذكروا أول الأمر ولم يسارعوا إلى امتثال أمر الله جل وعلا.
ثم إن المحبة هي أصل الدين الإسلامي؛ لأن محبة الله هي: أن يألّه ربه، ولا يكون في قلبه آلهة يألهها غير الله جل وعلا، والتألّه قد يتفاوت، ولكن محبة الله التي تتضمن الذل يجب أن تكون خالصة، لأن العبادة هي امتثال الأمر مع غاية الذل وغاية التعظيم، هذه هي العبادة، فمحبة الله عبادة، ولابد أن يكون الإنسان عارفاً لذلك وممتثلاً له، وهذا هو معنى لا إله إلا الله، فإذا كان في القلب محبوب يزاحم محبة الله جل وعلا أو يقدم عليها فمعنى ذلك أن الإنسان لم يخلص.
وأهل المحبة الخالصة هم الذين لا تمسهم النار ولا يعرضون عليها، بخلاف الذي فيهم شائبة فلابد من تطهيرهم أو أن يبقوا في النار؛ لأن الذين أشركوا بهذه المحبة هم المشركون كما سبق في الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165] يعني: أنهم يحبون أندادهم مثل محبتهم لله جل وعلا.
والند: هو كل ما كان مقصوداً بشيء من التعظيم أو الذل أو الحب الذي يكون فيه الخضوع، ولا يلزم أن يكون الند صنماً أو يكون رجلاً، فالند قد يكون مالاً يقدمه على محبة الله، وقد يكون شهوات، وقد يكون رئاسة، وقد يكون معنى معلوماً.
فالمقصود: أن يكون العبد خالصاً لله جل وعلا، ولا تكن عبوديته موزعة، أما إذا كانت موزعة بين الله جل وعلا وبين المظاهر أو الأغراض الأخرى فإنه لا يكون مخلصاً، وأهل الإخلاص هم أهل النجاة الذين ينجيهم الله جل وعلا من عذابه.(84/12)
طاعة الله واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم
وأعظم الأسباب التي تجلب محبة الله في الجمل، ويعرفها الإنسان ولا تشكل عليه؛ هي طاعة الله، واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، إذا حرص الإنسان على طاعة الله جل وعلا واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما يعرفه ويعلمه، وصار حرصه عليه أشد من حرصه على جمع المال، فإنه يزداد خيراً ومحبةً، والله جل وعلا كذلك يحبه، ويزيد في حبه له؛ لأنه كما جاء في الحديث: (لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه)، النوافل هي الزائدة على الفرائض، ولكن أداء الفرائض هو الأصل في هذا، فإذا أدى الإنسان الفرائض التي افترضها الله عليه، ثم بعد أداء الفرائض كان عنده رغبة في طاعة الله، فلابد أن يفعل شيئاً من النوافل، وقد يزيد.(84/13)
مشاهدة بره وإحسانه سبحانه وتعالى
[السادس: مشاهدة بره وإحسانه ونعمه الظاهرة والباطنة].
يجب مشاهدة النعم، وهي تزيد في الطاعة، ومعنى مشاهدتها: إشعار القلب بها، والنعم لا حصر لها، فالبصر الذي يبصر به نعمة كبيرة من الله، والسمع الذي يسمع به نعمة عظيمة يجب أن يشكر الله جل وعلا على ذلك، ويعبده بذلك، فيستعمل السمع والبصر في عبادة الله جل وعلا، والعقل نعمة عظيمة على الإنسان؛ ولهذا يقول جل وعلا: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36] يعني: هذه نعم يسأل عنها الإنسان، هل استعملها في طاعة الله جل وعلا، أم أنه استعملها في المعاصي واتباع الشيطان؟ ومن النعم العظيمة: صحة البدن، فكون الله جل وعلا وهبك صحة في بدنك هذه نعمة يجب أن تعبد الله جل وعلا بهذه الصحة، وتنتهز الفرصة قبل أن يأتي المرض.
ومن النعم عدم الشغل، كونك ما عندك شيء يشغلك ويمنعك من التعبد والذكر والتلاوة وغير ذلك، وهذا شيء قد يغفل عنه الإنسان، ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ)؛ لأن الإنسان ما يدوم صحيحاً، لابد أن يمرض، ولا يبقى أيضاً فارغاً، لابد أن يشغله شيء، وفي النهاية يموت وينتهي.
كذلك من النعم العظيمة التي أنعم الله جل وعلا بها على عباده كونه سخر لهم ما في السماء وما في الأرض، كل شيء مسخر للإنسان، السحاب والمطر والأرض والنبات وغيرها، قال الله: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34]، فهي كثيرة جداً، فيجب على الإنسان أن يستشعر نعم الله جل وعلا عليه في كل صغيرة وكبيرة، ويستعين بالنعمة على عبادته، وهذا إذا فعله الإنسان كان سبباً لمحبة الله له، فيحبه الله جل وعلا ويزيده طاعة؛ لأن شكر النعمة وعد الله جل وعلا عليه بالزيادة.
وأعظم النعم على الإطلاق أن الله جل وعلا هداك للإسلام، وجعلك مسلماً، وإذا نظر الإنسان إلى الناس الذين في الأرض اليوم يرى أن أكثرهم كفاراً، فما الذي خصك من بين هؤلاء الخلق؟ ما هو إلا فضل من الله، ونعمة تفضل بها عليك، فعليك أن تعترف بهذا، وتشكر الله جل وعلا؛ لأن ثمرة الإنسان هي حياته هذه، إذا اكتسب فيها العمل الصالح وكان مؤمناً بالله، فبعد الموت تكون الحياة الحقيقة الأبدية الدائمة، أما إذا كان بالعكس فقد اكتسب بهذه الحياة الشقاء السرمدي الذي لا نهاية له، والمقصود أن نعم الله كثيرة جداً، ولكن أعظمها وأكبرها أن يكون الإنسان مسلماً، ويموت على الإسلام.(84/14)
انكسار القلب بين يدي الله
[السابع -وهو أعجبها-: انكسار القلب بين يديه].
انكسار القلب يعني: خشوعه، وخضوعه، وذله لله جل وعلا، والقلب ما ينكسر حتى يعرف ربه، ويستشعر نعمه وعذابه، وعظمته جل وعلا، والإنسان ضعيف في الحقيقة، ولكن الله جل وعلا لا ينسى شيئاً ولا يفوته شيء من خلقه، ولهذا لما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لـ أبي بن كعب: (إن الله أمرني أن أقرأ عليك: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [البينة:1] قال أبي: وسماني الله لك، قال: نعم)، فصار يبكي فرحاً لأن الله سماه، ولأن الله ذكره.
ما حقيقة الإنسان؟ حقيقته أنه إذا نظر في عظمة الله ومخلوقاته تبين له أنه مخلوق حقير صغير من مخلوقات الله، فإذا أنعم الله جل وعلا عليه، وجعله عبداً له، وأعطاه من العقل والسمع والبصر ما ازداد به هدى إلى الله جل وعلا؛ فهذه ليست من قوة الإنسان، وليست من عقليته، وإنما هي نعم، كل الناس لهم عقول، وعندهم أسماع وأبصار، ولكن ما استطاعوا أن يهتدوا بعقولهم وأسماعهم إلى الحياة الحقيقية.
فإذا لم يكن للإنسان هادٍ من الله فلا هادي له، كما قال الله: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف:17] مهما كان عند الإنسان من العقل والنظر والفكر والقوة والمادة لا يستطيع أن يهتدي، والله جل وعلا يخاطب أفضل الخلق رسوله صلى الله عليه وسلم ويأمره أن يقول: {وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} [سبأ:50] يعني: هدايته بالوحي الذي أوحاه الله إليه، وأكثر الناس معرضون عن هذه الهداية، لا يهتم بها، ولا يلتفت إليها، وبعضهم يحاربها أشد المحاربة، ويبذل قوته وجهده وماله في المحاربة! فإذا نظر الإنسان في الناس، وجد منهم الذي يحارب الإسلام، ومنهم الذي يعبد غير الله، واختلفت معبوداتهم حتى أن منهم من يعبد الحيوانات، ومنهم من يعبد الفئران والبقر والقرود والحيات وغيرها، وكلهم عندهم عقول وأسماع وأبصار، فإذا نظر الإنسان إلى هؤلاء حمد الله حيث هداه، وحيث منّ عليه بأن جعله مسلماً متبعاً للرسول صلى الله عليه وسلم، وحياة الإنسان قصيرة جداً، وهذه الحياة القصيرة ينبغي أن يكتسب بها القرب إلى الله والسعادة الأبدية في الجنان، وليست الجنة مثل ملك ملك من الملوك؛ لأن نعيم الجنة وملكها ما يتصوره الإنسان، لأنه لا يشاهده ولا يعرف جنسه، وقد ذكر الله جل وعلا منها صفات كثيرة.
وملائكة الرحمن يدخلون عليهم من كل باب، يقولون لهم: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:24]، الملائكة الكرام الذين لا يعصون الله ما أمرهم مذ خلقوا يكونون شبه الخدم لهم، ولهم كل ما تشتهي نفوسهم من المشتهيات والمناظر التي تلذ أبصارهم، ولا يذوقون فيها الموت، ولا يخافون الخروج، ولا يعتريهم مرض، ولاذل أو خوف، يحيون في أمن ونعيم، وفيما تشتهيه أنفسهم، خالدين فيها أبداً، وفوق هذا كله أن الله يرضى عنهم، فرضوان الله أكبر من الجنة.
وقد يكتسب الإنسان في هذه الحياة القصيرة سخط الله وعذابه السرمدي، وليس عذاب الآخرة مثل العذاب الذي يعهده الإنسان في هذه الدنيا، بل من شدته أن الله قال: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56]، الجلود تنضج ولكن تبدل، نفس الجلد الذي نضج يعاد مرة أخرى، وليس معناه أنه يذهب ويأتي غيره، لا، جلد الإنسان هو جلده، هذا الجلد الذي عصى، وهذه الأعضاء التي عصت، هي التي تتبدل، كلما احترقت عادت دائماً، ويأتيه أسباب الموت من كل مكان، و {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} [إبراهيم:17]، ما يموت، {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فاطر:36].
فالإنسان إما أن يكون في هذه أو يكون في هذه، إما أن يكون في الشقاء الذي يتمنى أن يكون عدماً ولكن هيهات لا يفيد التمني، أو يكون في كرامة الله جل وعلا التي ما خطرت على قلب بشر، ولا رآها أحد من الناس.
فلهذا يقال: إن الخطر على الإنسان عظيم جداً، والرسول صلى الله عليه وسلم كثيراً ما نبه على هذه الأمور، قال صلى الله عليه وسلم: (لا تنسوا العظيمتين: الجنة والنار) يعني: اذكروهما دائماً، وليكن بين أعينكم الجنة والنار؛ لأن المآل إليهما، والإنسان لابد أن يستقر في واحدة منهما: في الجنة أو النار.(84/15)
الخلوة وقت النزول الإلهي وتلاوة كتابه
[الثامن: الخلوة وقت النزول الإلهي وتلاوة كتابه ثم ختم ذلك بالاستغفار والتوبة].
يعني: في آخر الليل يتعرض الإنسان لفضل الله جل وعلا في ذلك الوقت، والوقت قصير، وكل عمر الإنسان قصير، وإذا كان له همة يعلو بها فسوف يقوم، فإذا كان آخر الليل ينزل الرب جل وعلا إلى السماء الدنيا ويقول: (من يدعوني فأستجيب له؟ من يستغفرني فأغفر له؟ من يسألني فأعطيه؟)، هكذا يخاطب خلقه، وأكثرهم إما نائم، أو غافل، أو لا يهمه ذلك، قليل جداً من عباد الله الذين يهتمون بهذا الأمر، فيقومون ليتعرضوا لنفحات الكريم المنان، فيسألونه ويدعونه، ويتلون كتابه، ثم بعد ذلك إذا فرغوا قبيل طلوع الفجر يستغفرون ربهم، قال الله تعالى: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران:17].
فمن كان بهذه الحالة يزيده الله جل وعلا قرباً ويحبه، ويزيده حباً، ويكون ذلك من أسباب محبته، وإذا أحب الله جل وعلا عبداً فإنه ينادي جبريل فيقول له: (إني أحب فلاناً فأحبه)، ثم ينادي جبريل في السماء ويقول: (إن الله يحب فلاناً فأحبوه، ثم يوضع له القبول في الأرض) والمحبة عند الناس تكون ولو لم يقدم لهم شيئاً من المنافع، فإذا أحب الله جل وعلا عبداً فإنه يكون محبوباً، بحيث إنه إذا رآه الإنسان ذكر الله، وتذكر الطاعة والعبادة، وقيام الليل، وغير ذلك من الأسباب التي تجلب للإنسان محبة الله جل وعلا.(84/16)
مجالسة المحبين الصادقين
[التاسع: مجالسة المحبين الصادقين، والتقاط أطايب ثمرات كلامهم، ولا تتكلم إلا إذا ترجحت مصلحة الكلام، وعلمت أن فيه مزيداً لحالك، ومنفعة لغيرك].
المقصود من هذا زيادة الخير، فهو في مجالسة الخير يزداد خيراً؛ لأن أهل الخير يعينونه ويحضونه على الخير، ويجعلونه نشيطاً بما يتكلمون به، ويحرصون عليه، ويقولون: إن الحياة قليلة شهر ويوم وساعة وإذا الأمر قد انتهى وقيل: مات فلان! فاصبر وصابر حتى تلقى ما تحب، هذا هو المقصود بالمجالسة، وليست المجالسة للمصافحة أو للتفرج أو للكلام في فلان وفلان، فإن هذا مرض، إذا كان من تجالسه كلامه وحديثه في فلان وفلان، فهذا هو المرض الذي يعمي القلب ويميته، فيجب أن يبتعد الإنسان عمن هذه صفته، ويجب على الإنسان أن يعرف مصلحته، فيجالس من يزداد في مجالسته خيراً، وقديماً قيل: عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي لابد أن يؤثر الجليس بجليسه، فليتق الله الإنسانُ في نفسه، فلا يكون مجالساً لمن يغريه بالشر، أو يزيده فساداً، أو يزين له الفساد، فيكون الإنسان لا يتجنب الشر، ويعمى عن الخير، ومثل هذا يحتاج إلى معالجة حتى يعرف الفرق بين الخير والشر.(84/17)
مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجلّ
[العاشرة: مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجل].
خلاصة هذا كله: الحرص على طاعة الله جل وعلا، ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال رحمه الله: [فمن هذه الأسباب العشرة وصل المحبون إلى منازل المحبة ودخلوا على الحبيب].
قوله: (ودخلوا على الحبيب) معناه أنهم كما قال صلى الله عليه وسلم: (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، يعني: يصبح الإنسان يأتي بكل ما يستطيع من إحسان العمل، لأن قلبه يشاهد ربه، وإن كان ربه جل وعلا على العرش مستوياً، فهو يعلم أن الله ينظر إليه، ويعلم ما في قلبه، ويعلم ما تنطوي عليه نيته، وما يقصد من ذلك، فيزيد في حسن العمل ما استطاع، هذا معنى أنه يدخل على ربه.(84/18)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [85]
محبة الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان، والناس يتفاوتون في الإيمان بحسب حبهم لله ورسوله، واتباعهم لكتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، وللإيمان حلاوة، ولا يذوق العبد طعمه حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما.(85/1)
آية التهديد والوعيد لمن قدم محبة الدنيا على محبة الله ورسوله
[قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة:24]].
هذه الآيات من آخر ما نزل من القرآن، وهي خطاب للصحابة في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم أمر الله جل وعلا رسوله أن يقول لهم: إن كانت هذه الثمانية الأشياء المذكورة في الآية، أحب إليكم من الله ورسوله، وجهاد في سبيل الله (فتربصوا): انتظروا حتى يحل بكم العذاب، فهو تهديد ووعيد لمن كانت الدنيا بما فيها من الأقرباء والآباء والأبناء والأزواج والأموال والمساكن والتجارات، أحب إليه من الله ورسوله، ومن الجهاد في سبيله، وهذا فاسق لقوله: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24]، لأنه من كان بهذه الصفة فهو من الفاسقين، والفاسق هو الذي خرج عن طاعة الله جل وعلا إلى المعصية.
فهذا يدلنا على وجوب تقديم محبة الله جل وعلا ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم ومحبة الجهاد في سبيله على الآباء، والأبناء، والأزواج، والأموال، والمساكن الحسنة الجميلة، والمراكب، والتجارات وغيرها من أمور الدنيا، يجب على العبد أن تكون هذه أمام محبة الله، ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومحبة الجهاد في سبيله؛ مبذولة في هذا السبيل، لا تحول بين الإنسان وبين ذلك، فإن كان يختارها فهو من الفاسقين.
وجاء في الحديث بمعنى هذه الآية، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا تبايعتم بالعينة، واتبعتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد في سبيل الله؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه منكم حتى تراجعوا دينكم)، لأن اتباع الدنيا ومحبتها وتقديمها لا يجتمع مع محبة الله ومحبة رسوله، والجهاد في سبيله، والمقصود بالدنيا أن ينتفع بها الإنسان، وأن تكون الدنيا في طاعة الله جل وعلا، يكتسب الإنسان بها مرضاة الله، أما إذا كان الأمر بالعكس فهي وبال وشقاء وعذاب، يزداد بها الإنسان عذاباً، وعن قريب يتركها لمن يأكلها، ولا يحمده، بل قد يكون حسرة عليه؛ لأنه يتقوى بها على المعاصي، ويكون عليه كفل من الذنوب والعذاب، لأنه هو السبب في جمعها.
وقوله جل وعلا: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُم} [التوبة:24]، إلى آخر الآية وعيد من الله جل وعلا لمن كانت هذه صفته، ثم الله يتهدده ويتوعده بعذاب يأتيه في الدنيا قبل الآخرة، ولهذا قال في آخرها (فتربصوا) يعني انتظروا ماذا يحل بكم من العذاب؟ ثم قال جل وعلا: (إن الله لا يهدي القوم الفاسقين) يعني: من كانت هذه صفته فهو فاسق، فتبين بهذا البيان الواضح وجوب تقديم محبة الله ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومحبة طاعته -ومنها الجهاد في سبيله- على الآباء والأبناء والزوجات والمساكن الحسنة الجميلة، والتجارات التي يخشى الإنسان كسادها، يعني: أنها تكون تجارة متهيئة مطلوبة، فيها الربح الكثير.
فإذا كانت هذه الأمور كلها أحب إلى الإنسان من الله، ومن رسوله، ومن الجهاد في سبيله؛ فهو من العصاة الذين يستحقون الوعيد.
فهذا أمر واضح وجلي، فهو كلام الله جل وعلا، وقلنا: إن هذا من آخر ما نزل ليتبين أن الصحابة رضوان الله عليهم لما كان عندهم شيء من ذلك نبههم الله جل وعلا على هذا الأمر حتى لا تكون الدنيا مائلة لهم عن محبة الله أو محبة رسوله أو مشغلة لقلوبهم عن ذلك وعن الجهاد في سبيله.
ولهذا فإنهم رضوان الله عليهم خشوا من ذلك، وصاروا يجاهدون في سبيل الله، وما جلس في المدينة منهم إلا قلة قليلة، وجلهم مات في الجهاد في سبيل الله في بلاد بعيدة في سائر البلاد، في الشرق والغرب، وفي الشمال، وفي كل مكان؛ خوفاً أن يقعوا فيما حذرهم الله جل وعلا منه.(85/2)
وجوب تقديم محبة الله على غيره
قال الشارح رحمه الله تعالى: [أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتوعد من أحب أهله وماله وعشيرته وتجارته ومسكنه فآثرها أو بعضها على فعل ما أوجبه الله عليه من الأعمال التي يحبها الله تعالى ويرضاها، كالهجرة والجهاد ونحو ذلك.
قال العماد ابن كثير رحمه الله تعالى: أي: إن كانت هذه الأشياء {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا} [التوبة:24] أي: انتظروا ماذا يحل بكم من عقابه، روى الإمام أحمد وأبو داود -واللفظ له- من حديث أبي عبد الرحمن السلمي عن عطاء الخراساني عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى تراجعوا دينكم)].
العينة هي أن يبيع الإنسان سلعة بقيمة مؤجلة، ثم يشتريها من المشتري بثمن أقل مما باعها به، فهو عين الشيء الذي بيع، اشتري بثمن أقل من الثمن الذي باعه به، وهذا من أنواع الربا في أي شيء كان، سواء كان بيتاً أو سيارة أو طعاماً أو غير ذلك، فكل من فعل ذلك فقد وقع في العينة، وهو نوع من الربا الذي يقول الله جل وعلا فيه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [البقرة:278]، ذروه يعني: اتركوه وابتعدوا عنه، وأخبر جل وعلا أن الذي يأتيه أمر الله ثم لا يجتنب الربا فإنه محارب لله ولرسوله.
أما اتباع أذناب البقر فمعناه أن الناس يشتغلون بالزرع، وبأذناب البقر؛ لأن البقر كان يحرث عليها الأرض، فمعنى ذلك أن الاشتغال بالزرع هو ترك الجهاد في سبيل الله، ولهذا قال: (ورضيتم بالزرع)، وفي الصحيح عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنه لما كان في قتال الروم في زمن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وكان عليهم يزيد بن معاوية وكانوا محاصرين للقسطنطينية قريباً منها، وكان الروم أمامهم، والمسلمون مقابلون لهم، فخرج رجل من المسلمين يعدو حتى انغمس في صفوف الروم، فقال الناس: سبحان الله! ألقى بنفسه إلى التهلكة، فقال أبو أيوب: ليس كما تقولون، إن هذه الآية: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195] نزلت فينا معشر الأنصار، وذلك أننا لما نصر الله جل وعلا رسوله، وفتح عليه، قال بعضنا لبعض: هلم لنصلح زراعتنا وفلاحتنا، فقد نصر الله جل وعلا رسوله، فأنزل الله جل وعلا: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195]، فالتهلكة: هي الخلود إلى الدنيا، وإصلاح أمور الدنيا، فبين الله أن التهلكة هي الحرث والزراعة وترك الجهاد في سبيل الله جل وعلا، وهذا أيضاً هو معنى قوله: (ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد في سبيل الله)، وقوله: (سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه منكم حتى تراجعوا دينكم)، لأن المسلمين حينئذ يخافون أعداءهم خوفاً شديداً، ويذلون لهم، ويبذلون لهم الطاعة، وقد يبذلون لهم الأموال، وقد يسلط الله عليهم الأعداء ويأخذون ما بأيديهم، والرسول صلى الله عليه وسلم نصره الله بالرعب مسيرة شهر، فمن الخصائص التي خصه الله بها من بين الأنبياء: أنه أعطاه الرعب في قلوب العدو مسيرة شهر، يخافه العدو وإن كان بينه وبينهم مسيرة شهر، وهذا يكون أيضاً للمؤمنين الذين يتبعون الرسول صلى الله عليه وسلم إذا صدقوا، أما إذا تخلوا عن طاعة الله، واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يكون لهم ذلك، بل تنعكس القضية فيصبحوا أذلاء خائفين، يخافون أن يأخذ العدو ما بأيديهم، ويتسلط عليهم، هذا الواقع الذي إذا نظر الإنسان إليه وجده كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم تماماً، صلوات الله وسلامه عليه.
قال رحمه الله: [فلابد من إيثار ما أحبه الله من عبده وأراده على ما يحبه العبد ويريده، فيحب ما يحبه الله، ويبغض ما يبغضه، ويوالي فيه، ويعادي فيه، ويتابع رسوله صلى الله عليه وسلم كما تقدم في آية المحنة ونظائرها.
قال المصنف رحمه الله تعالى: وعن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين) أخرجاه أي: البخاري ومسلم].
(لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده ووالده والناس أجمعين)، هذه محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، قوله: (لا يؤمن أحدكم)، يعني: الإيمان الذي تكون به النجاة من عذاب الله، لا يحصل للإنسان الإيمان الذي ينجو به من عذاب الله حتى يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إليه من ولده ووالده وجميع الناس.(85/3)
حكم من قدّم محبة الدنيا على محابِّ الله ورسوله
قال الشارح رحمه الله تعالى: [قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: وعامة الناس إذا أسلموا بعد كفر أو ولدوا على الإسلام، والتزموا شرائعه، وكانوا من أهل الطاعة لله ورسوله، فهم مسلمون، ومعهم إيمان مجمل، لكن دخول حقيقة الإيمان إلى قلوبهم يحصل شيئاً فشيئاً، إن أعطاهم الله ذلك، وإلا فكثير من الناس لا يصلون إلى اليقين، ولا إلى الجهاد، ولو شككوا لشكوا، ولو أمروا بالجهاد لما جاهدوا، إذ ليس عندهم من علم اليقين ما يدرأ الريب، ولا عندهم من قوة الحب لله ورسوله ما يقدمونه على الأهل والمال، فهؤلاء إن عوفوا من المحنة، وماتوا، دخلوا الجنة، وإن ابتلوا بمن يدخل عليهم شبهات توجب ريبهم، فإن لم ينعم الله عليهم بما يزيل الريب وإلا صاروا مرتابين، وانتقلوا إلى نوع من النفاق.
انتهى].
في الحديث قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من أهله وماله وولده والناس أجمعين)، قوله: (لا يؤمن) نفي، فما هو هذا الإيمان الذي لا يحصل لمن لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إليه من أهله وولده ووالده وماله ونفسه والناس أجمعين؟ هل الإيمان المنفي شيء مستحب بحيث لو تركه الإنسان يكون غير تارك للواجب أو أنه شيء واجب إذا لم يكن الإنسان بهذه المثابة فهو من أهل الكبائر؟ الصواب أن من لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إليه من ولده ووالده وأهله ونفسه والناس أجمعين فإنه من أهل الكبائر، ولكنه غير خارج من الدين الإسلامي، عنده إسلام، وكل مسلم يجب أن يكون عنده إيمان لابد؛ لأن الإيمان محله القلب، فيعلم أن الله جل وعلا هو إلهه وربه، ويعلم أنه أرسل رسولاً، وأنه يجب أن يطاع، ويعلم أن وعد الله حق وأنه سيبعثه بعد موته ويجازيه، لابد أن يكون عنده هذا الإيمان.
أما الإسلام فهو الطاعة والانقياد، أن يطيع وينقاد ويستسلم، ولا يكون عنده معارضة، يعني: ما يعارض أوامر الله وأوامر رسوله، إذا أمره الله جل وعلا بالصلاة صلى، وإذا أمره بالصيام صام، وإذا أمره بالحج حج، وإذا أمره بالصدقة تصدق.
أما إذا امتنع من الأوامر فهو ليس بمسلم، وإن زعم أنه مسلم في نفسه؛ لأن الإسلام معناه فعل الأوامر والاستسلام والانقياد بالطاعة، أما إذا لم يطع فهو لم يسلم، فالإسلام هو الانقياد وعدم المعارضة، أن ينقاد للأمر ولا يعارض، أما إذا حصلت المعارضة وعدم الانقياد فليس بمسلم.
ولهذا فسره الرسول صلى الله عليه وسلم بشهادة أن لا إله إلا الله؛ لأن هذا الإيمان لابد منه، يعني: المسلم لابد أن يشهد أن لا إله إلا الله، فهذا الإيمان، ولابد أن يكون عنده إيمان أولاً، ثم إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، والحج، فإذا لم يفعل الإنسان هذه الأمور لا يكون مسلماً أصلاً، وإذا مات فهو من أهل النار.
وإذا فعل هذه الأمور، فلابد أن يتقدم فعل هذه الأمور إيمان، وهو المعبر عنه بشهادة أن لا إله إلا الله، فإذا لم يحصل على ما أوجبه الله عليه من محبته جل وعلا ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإنه يصبح مسلماً، ولكنه متعرض لوعيد الله جل وعلا، ويكون من أهل الكبائر.
يكون أمره إلى الله: إن شاء عذبه على تركه هذا الواجب، وإن شاء عفا عنه، يعني: أنه إذا مات على هذه الحالة يموت وقد ترك ما أوجبه الله عليه من كونه يجب عليه أن يقدم محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم على محبة أولاده ووالديه وماله ونفسه، وإذا ما كان بهذه المثابة ومات وكان يؤدي الواجبات فقط، عنده إيمان ولكنه ما يقدم محبة الرسول على هذه الأشياء، فإنه يكون من أهل الكبائر الذين يستحقون العقاب والعذاب، فإن عفا الله عنه وتجاوز فهو فضله، وإن عاقبه فهو يستحق هذا العقاب، ولكن بعد العقاب والعذاب الذي يستحقه يكون مئاله إلى الجنة، وأكثر الناس على هذا الوصف، وهذه الحالة، حيث إنه يكون ولده أحب إليه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمال أحب إليه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومتى يعرف من هذه صفته؟ هذا أمر واضح يعرف بالنظر إلى أفعاله، فإن كان يحرص على طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباع سنته، ولو كان في هذا الطريق شيء من تعب بدنه أو ذهاب شيء من مصالحه؛ فهذا هو الذي يقدم محبة الرسول صلى الله عليه وسلم على محبة الدنيا ومن فيها.
هذا بالنسبة إلى محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، فكيف بمحبة الله؟ محبة الله محبة عبودية لابد أن تتضمن مع الحب الذل والخضوع والتعظيم.(85/4)
محبة النبي صلى الله عليه وسلم
محبة الرسول صلى الله عليه وسلم تكون تبعاً لمحبة الله، يحبه لأن الله يحبه، ولأن الله أمر بحبه، ولأنه جل وعلا أكرمه بالرسالة، الله جل وعلا أنقذك على يديه من النار، فمحبته مقدمة على محبة الوالد والأولاد والمال والنفس.
فمحبته تكون لهذه الأمور: أولاً: لأن الله أوجب ذلك، فأنت يجب عليك أن تمتثل ما أوجبه الله عليك لأنك عبد لله، والعبد يمتثل أمر سيده، ولا يجوز أن يسأل سيده ويناقشه: لماذا أمرت بكذا؟ ولماذا أوجبت علي كذا؟ بل يقول: سمعاً وطاعة.
ثانياً: أن المحب يحب حبيب حبيبه ولابد، ويبغض من يبغض حبيبه، وإلا لم تكن محبته صحيحة، يعني: كون الإنسان يكون له محب يحبه، ويعلم أن هناك عدواً له، ثم يذهب يصاحب العدو فيصافيه ويوده، هذا دليل على أنها محبة زائفة وغير صحيحة، فلابد للمحب أن يكون محباً لمن يحبه، ويبغض من يبغضه حبيبه، وإلا لا تكون محبة صادقة، بل تكون كاذبة بالادعاء، والادعاء ما يفيد.
إذاً: محبة الرسول صلى الله عليه وسلم فرض عين على كل مسلم ومسلمة، أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إليه من جميع من في الدنيا، بما فيها نفسه، فكيف بالمال؟! والمحبة هذه ليست كما يقول بعض المتكلمين: إنها محبة عقلية، يقول: إن العقل ينظر للعواقب، فإذا عرف أن عاقبة محبة الرسول صلى الله عليه وسلم تئول إلى المصالح آثرها بعقله وليس بقلبه، هذا كلام باطل لأن الحب محله القلب.
والمتكلمون ينكرون أن يكون الله جل وعلا يحَب أو يحب؛ فقالوا هذا القول على قواعدهم الباطلة، وكل يعرف المحبة، ويجد المحبة في نفسه، فهي تكون في القلب ومن عمل القلب، ثم يظهر ذلك على الأعمال والجوارح، فهذه هي المحبة التي يتحدث عنها، والتي جاء فيها الحديث: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)، وكذلك من نفسه.
المحبة القلبية هي التي يكون فيها الإيثار والتقديم، فإذا صار مثلاً أمام المؤمن شيئان: أحدهما: محبوب للرسول صلى الله عليه وسلم، يعني: أنه أمر به وجاء به.
والآخر: ليس فيه مصلحة ظاهرة عاجلة له، فإن قدم ما فيه طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم على ما فيه حظ نفسه العاجل، فهذا علامة على أنه يحب الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من محبته المال، وأكثر من محبته لولده وأهله والناس، وهنا ظاهر، والدليل على هذا قوله جل وعلا: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]، وسبق أن هذه الآية تسمى آية المحنة؛ لأن الله امتحن بها الذين قالوا: إننا نحب ربنا حباً شديداً، فامتحنهم الله جل وعلا بذلك، وأن هذا الحب يصدق بهذه العلامة، وهي علامة ظاهرة وواضحة.
أما أن يصل الإنسان إلى الكمال فهذا ليس بلازم، ما يلزم أنه يصل إلى الكمال، يعني: آحاد الناس لا يمكن أن يكون الحب عنده والإيمان والعمل مثلما كان عند أبي بكر الصديق رضي الله عنه، أو مثلما كان عند عمر أو عثمان أو علي وأشباههم، فهذا فضل الله يؤتيه من يشاء.
ولهذا كان الإيمان درجات لأجل تفاوت ما في القلوب من هذه المحبة، فالتوقير توقير الله جل وعلا، وتقديره وتعظيمه، ولكن المهم أن الإنسان لا يرتكب الكبائر، ويحافظ على الشيء الذي أوجبه الله عليه، أما الشيء الذي أمر به أمر استحباب فهذا يتفاوت الناس فيه تفاوتاً عظيماً، وليس واجباً على الإنسان أن يفعله، وإن كان فيه فضل.
وقد ذكر الله جل وعلا طبقات الناس الذين يرثون الجنة، فقال: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:32].
فالظالم لنفسه: هو الذي ترك بعض الواجبات.
والمقتصد: هو الذي اقتصر على الواجب وترك المستحبات.
أما السابق بالخيرات فهذا الذي فعل الواجب أولاً، ثم فعل المستحبات ثانياً، وهؤلاء هم أعلى المؤمنين في الدنيا عند الله وفي درجات الآخرة، وليس المعنى أن الإنسان إذا ترك بعض الواجبات أنه يكون خارجاً من الدين الإسلامي لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم)، فإن هذا فيه إشكال عند كثير من الناس، وكثير من شراح الحديث يقول: لا يؤمن الإيمان الكامل، ويحتمل أن المراد به الكامل يعني: الإيمان الذي وجب عليه، وهو كامل وواجب، ويحتمل أنه الكمال المستحب، فإن قال: المستحب فهذا لا يجوز، لماذا؟ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا ينفي الإيمان عمن ترك مستحباً لا يعاقب عليه، لا يمكن أن يكون هذا.
فمثلاً الذي حج حجة الفريضة ثم لم يحج بعد ذلك، هل يجوز أن يقال: إنه ليس مؤمناً الإيمان الكامل؟ لا يجوز أن يقال هذ، مع أن الحجة الثانية مستحبة، والمستحبات كثيرة جداً، والناس يتفاوتون فيها تفاوتاً عظيماً.
ولا يمكن أن يأتي بالعبادات مثلما أتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم من الكمال، ولا يمكن لأحد من الناس أن يأتي بالأعمال مثلما أتى بها.
فإذاً: الكمال المستحب يتفاوت تفاوتاً عظيماً، ولا يجوز أن ينفى الإيمان عمن لم يفعل الكمال المستحب، وإنما ينفى الإيمان عمن ترك واجباً هو فرض عليه، وهذا كثير في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينفي الإيمان إما لفعل محرم أو لترك واجب، فمثال ترك الواجب هذا الحديث، ومثال فعل المحرم قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن).
فنفى الإيمان عنه في هذه الحالة، والمنفي ليس هو أصل الإيمان، وإنما هو الواجب الذي يجب على الإنسان أن يتحلى به، ثم يمنعه من فعل المحرمات؛ لأن من كان عنده إيمان وتحلى به لا يجوز أن يقتحم ما حرمه الله عليه، فإذا فعل ذلك فمعناه أنه زال عنه الإيمان الذي يحبس صاحبه عن الوقوع في المحرمات، وبقي عنده أصل الإيمان، ولكن هذا الأصل لا يقوى على منعه من العذاب ومن دخول النار، ولو فعل هذه الحالة فإن حكمه في الظاهر أنه يدخل النار إذا شاء الله، ثم بعد ذلك ينجيه الله جل وعلا بعدما يتطهر.
ويكثر في الأحاديث وفي النصوص أن أهل الكبائر في النار، كما قال جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10]، ومعروف أن هذه كبيرة، أكل مال اليتيم ما يخرج الإنسان به من الدين الإسلامي، ولا يجعله كافراً، ولكنه يكون مرتكباً لكبيرة، ومتوعداً بالنار، وكذلك آكل الربا والقاتل وغير ذلك مما جاءت به النصوص.
كل نص فيه نفي الإيمان، أو فيه التوعد على فعل محرم بأنه من أهل النار، أو من أهل الفسق، أو إنه ليس من المسلمين أو ما أشبه ذلك، فهذا لأنه ترك واجباً عليه، أو فعل محرماً لا يجوز فعله، فتوعد على ذلك، إيمانه يكون ناقصاً، ولكنه لا يكون زائلاً وخارجاً بالكلية، بل عنده شيء من الإيمان، وبهذا الإيمان الذي عنده يكون له عاقبة السعادة، وإن ناله ما ناله.
ولهذا يكثر العذاب في المسلمين في القبر، وفي الموقف، وفي النار، فإن النصوص جاءت بذكر أناس كثير يعذبون في القبر، وبعضهم لا يكفي عذابه في القبر، بل يستمر عذابه في القبر إلى أن يبعث الله جل وعلا الناس، ثم يزاد عذاباً في الموقف، وبعضهم لا يكفيه ذلك بل يستمر عذابه ويدخل النار، وقد كثرت النصوص في ذكر الشفاعة لإخراج من يدخل النار، وهي لا تكون إلا للمسلمين المؤمنين، ما يمكن أن تكون الشفاعة لكافر؛ لأن الله أخبرنا أن الكفار لا تنالهم الشفاعة، وأنهم لا تنفعهم شفاعة الشافعين، ولا تفيدهم، وإنما تنفع المؤمنين.
فهؤلاء أصحاب الكبائر الذين تركوا واجبات أو ارتكبوا محرمات، وهذا كله يدلنا على تفاوت الإيمان عند الناس، منهم من إيمانه يمنعه من العذاب, ومنهم من يكون إيمانه ضعيفاً لا يمنعه من العذاب فيعذب، ومنهم من يكون إيمانه زائداً على الواجب حتى وصل إلى المستحب، فهذا هو الذي يسبق إلى الجنة؛ لأن حسناته صارت راجحة, بل وزائدة على السيئات زيادة واضحة، فمثل هذا لا يعذب ولا يناله العذاب.(85/5)
الفرق بين محبة الله ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم
قال الشارح رحمه الله: [وفي هذا الحديث: أن الأعمال من الإيمان؛ لأن المحبة عمل القلب.
وفيه: أن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم واجبة تابعة لمحبة الله لازمة لها، فإنها محبة لله ولأجله, تزيد بزيادة محبة الله في قلب المؤمن ,وتنقص بنقصها، وكل من كان محباً لله فإنما يحب في الله ولأجله كما يحب الإيمان والعمل الصالح، وهذه المحبة ليس فيها شيء من شوائب الشرك كالاعتماد عليه, ورجائه في حصول مرغوب منه أو دفع مرهوب منه، وما كان فيها ذلك فمحبته مع الله لما فيها من التعلق على غيره والرغبة إليه من دون الله].
يعني: الفرق بين محبة الله جل وعلا ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم أن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم مكملة لمحبة الله؛ لأنها تابعة لها، فهي محبة لله وفي الله، وليست محبة مع الله.
أما المحبة مع الله فهي شركية، تكون محبة شرك, وذلك أنه يجعل له من المحبة مثل ما يكون من جنس المحبة التي تكون لله، والمحبة التي تكون لله عرفنا أنها ما كان فيها عبودية وذل وخضوع وتعظيم ورجاء وخوف.
والرسول صلى الله عليه وسلم ما يملك مع الله شيئاً، لو أن إنساناً دعاه واستغاث به وقال: أرجوك أن تنجيني من النار، أرجوك أن تغفر ذنوبي، أرجوك أن تصلح قلبي، أرجوك أن تهب لي مالاً، وما أشبه ذلك؛ فمعنى ذلك أنه جعله في منزلة الله، وصار يعبده عبادة؛ لأن الدعاء والرجاء والخوف يجب أن يكون لله وحده، وكذلك الخوف العيني الذي يخاف منه الإنسان, والمخوف غائب عنه، أو أن يدعى له ما هو من خصائص الله من معرفة الغيب والاطلاع على ما في القلوب، ومعرفة المستقبلات والماضيات, والاطلاع على اللوح المحفوظ وما فيه ,أو كونه يستطيع أن يغير الكون أو يبدله أو أن يجعل هذا الشقي سعيداً أو هذا السعيد شقياً وما أشبه ذلك؛ هذا لا يجوز أن يكون إلا لله.
فمن جعل شيئاً من ذلك لأحدٍ من خلق الله سواء كان رسولاً أو ولياً أو ملكاً فقد أشرك، ووقع في الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله جل وعلا إلا بالتوبة منه، ومن مات على ذلك فهو في النار خالداً فيها، من مات معتقداً وفاعلاً لهذه الأمور فهو مشرك الشرك الأكبر، ولا ينفعه دعواه أن هذه محبة؛ لأن المحبة يجب أن تكون على وفق أمر الله ,ووفق ما كلفك الله جل وعلا به، وليست بهوى النفس ولا بالتقليد ولا بالأوضاع التي يتواضع عليها الناس، بل يجب أن تكون بالشرع الذي جاء به رسول الهدى صلوات الله وسلامه عليه.
والرسول صلى الله عليه وسلم بين هذا ووضحه وحذر منه كثيراً، وسيأتي شيء من ذلك في هذا الكتاب، حتى إنه لما قال له رجل: (ما شاء الله وشئت، قال: أجعلتني لله نداً؟! بل ما شاء الله وحده) مع أنه يخاطبه وله مشيئة، ولكن أراد صلوات الله وسلامه عليه أن يسد الباب الذي يمكن أن يدخل الشيطان منه ,ويفسد على أمته دينها.
ولما جاءه القوم وقالوا له: (أنت سيدنا وابن سيدنا, وأنت خيرنا وابن خيرنا, كره ذلك وقال: أيها الناس! قولوا بقولكم أو ببعض قولكم، لا أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله جل وعلا إياها، أنا عبد الله ورسوله، فقولوا: عبد الله ورسوله).
والعبودية هي أكمل مقاماته صلوات الله وسلامه عليه، يعني: عبوديته لله لأنه كملها، ولهذا أثنى الله جل وعلا عليه بالعبودية، وإلا فهو بشر صلوات الله وسلامه عليه، كما قال الله جل وعلا له: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف:110] هو بشر مثلنا، ولكن ميز وخصص بأنه يوحى إليه: {يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الكهف:110] فهذه هي الميزة والخصيصة التي خصه الله بها، أما الأصل فهو مثل الناس.
وقول كثير من الغلاة: إنه أصل الوجود، ويقولون: إنه جاء في الحديث: (لولاك لولاك ما خلقت الأفلاك)، فهذا كذب! ما قال الرسول صلى الله عليه وسلم هذا، وهذا خلاف كتاب الله، وكذلك الذين يقولون: أول مخلوق هو نوره، ويقولون: نوره من نور الله ,وأن الله خلقه من نوره، كله غلو مخالف لكتاب الله, وهو من سنن النصارى في غلوهم في عيسى عليه السلام، وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عنهم بأن هذه الأمة ستفعل كما فعلت الأمم قبلها، والخبر من باب التحذير.
والمقصود: أن يميز الإنسان بين ما يجب لله جل وعلا وما يجب لعبده، فالواجب لله العبودية, والعبودية هي الحب الذي يتضمن الذل مع التعظيم والخضوع والرجاء والخوف، ثم يتبع ذلك الدعاء والخشية وغيرها، أما محبة رسوله صلى الله عليه وسلم فهي محبة له, تحبه لأن الله يحبه ولأن الله أمر بحبه ,ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق طاعة لله جل وعلا.
إذاً: تكون محبته تبعاً لمحبة الله, وليست محبة مع الله، أما المحبة مع الله فهي التي تشترك مع محبة العبودية, وهذه شرك ولا يجوز أن تكون لأحد من الخلق.
فبهذا يحصل التمييز بين المحبة في الله ولأجله التي هي من كمال التوحيد وبين المحبة مع الله التي هي محبة الأنداد من دون الله.(85/6)
أقوال أهل البدع في منزلة العمل من الإيمان
من فوائد الحديث السابق أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، وهذا من الأمور التي خالف فيها بعض أهل البدع أهل السنة, حيث زعموا أن الإيمان هو مجرد تصديق القلب فقط , أما الأعمال فهي خارجة عن ذلك.
وهؤلاء الذين قالوا هذا القول قسمان: قسم يجعل الواجب الذي به النجاة هو ما كان في القلب فقط، ولو أن الإنسان أتى بأي ذنب كان، وإيمانه في قلبه كامل، أو ترك الأعمال؛ فإنه في الجنة وإن ترك الصلاة والصوم والحج والزكاة.
فهذا قول مجانب للحق, هو من أبطل الباطل, وهؤلاء يسمون المرجئة المحضة، وهم الجهمية؛ لأنهم زعموا أن الإيمان المعرفة فقط.
ولهذا يقول لهم أهل السنة: يلزم من هذا أن يكون إبليس مؤمناً لأنه يعرف ربه, وأنتم قلتم: الإيمان هو المعرفة، ويلزم أن تكونوا أنتم كفاراً؛ لأنكم ما عرفتم ربكم، فهم أجهل الناس بالله جل وعلا, وهذا القول لا وجود له الآن، زال مع أهله الذين زالوا والحمد لله، ونرجو ألا يكون له وجود.
القسم الثاني: ما يسمى بمرجئة أهل السنة، يسمون هكذا، وبعضهم يقول: مرجئة الفقهاء، وكثير من المحققين يقول: إن الخلاف معهم خلاف لفظي وليس معنوياً، لأنهم يقولون: من ترك العمل فهو معرض للعذاب والعقاب.
ويقولون: الأعمال من مقتضى الإيمان, ولكنها لا تدخل في مسماه، الإيمان في القلب, أما الأعمال فهي التي يقتضيها الإيمان، إذا وجد الإيمان فلابد من وجود العمل، فإذا كان هذا قولهم فيكون الخلاف لفظياً.
والصواب: أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، يعني: أن العمل يكون إيماناً, وهذا دلت عليه النصوص كما قال الله جل وعلا: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143]، يعني: عملكم كما جاء في سبب النزول، فإن سبب نزول الآية: تحويل القبلة, كانوا يصلون أولاً إلى جهة الشام, فأمروا بالاتجاه إلى الكعبة، فسأل المؤمنون: كيف بصلاتنا التي صليناها نحو الشام؟ فنزلت الآية: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] يعني: صلاتكم التي صليتموها إلى تلك الجهة محفوظة عند الله, وسوف يجزيكم عليها, فسماها إيماناً.
وكذلك قوله جل وعلا: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11]، قال مجاهد: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله, فيرضى ويسلم.
فسمى الرضا والتسليم إيماناً, ومعلوم أن الرضا عمل, والتسليم عمل، وهذا شيء كثير جداً.
ولكن القول الأول الذي قالوه ممتنع عقلاً وواقعاً, لا يمكن أن يوجد في قلب إنسان إيمان ولا يوجد عمل! هذا ممتنع, ومستحيل مثل هذا، إذا وجد الإيمان في قلب الإنسان فلابد أن يبعثه على العمل، ولا يمكن أن يكون هناك إيمان بلا عمل، فالقول الذي قاله أولئك المبتدعة هو قول مقدر ذهني فقط،، يعني: فرض ذهني, أما أن يكون واقعاً فلا وجود له, ولا يمكن أن يوجد؛ لأنه لابد أن يكون صاحب الإيمان عاملاً, فإذا ترك العمل فهو دليل على أنه ليس عنده إيمان.(85/7)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [86]
حلاوة الإيمان هي ثمرة العلم النافع والعمل الصالح، ومعناها: استلذاذ الطاعات، وتحمل المشاق، وإيثار ذلك على شهوات الدنيا، وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بثلاث خصال، من وجدت فيه وجد حلاوة الإيمان، فينبغي معرفتها والحرص على العمل بها.(86/1)
حديث: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولهما عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار)، وفي رواية: (لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى)، إلى آخره].
قوله: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان)، والرواية الأخرى: (لا يجد)، الرواية الأخرى فيها النفي، فالإنسان لا يجد حلاوة الإيمان حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وحتى يحب المرء لا يحبه إلا لله، وحتى يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار.
إذا وجدت هذه في قلب الإنسان، وتحلى بها؛ فإنه يجد بها حلاوة الإيمان، ففي هذا دليل على أن الإنسان قد يجد الحلاوة وقد لا يجدها، وأن الإيمان له حلاوة توجد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (يجد)، أو (يجد بهن)، ويقول: (لا يجد عبد حلاوة الإيمان حتى يكون)، فوجود الحلاوة يكون بهذه الخصال الثلاث.
وقوله: (لا يجدها حتى) دليل على أنها أمر محسوس، وأن الإيمان له حلاوة، وهذه الحلاوة ليست حلاوة عقلية كما يقوله من يقوله أو حلاوة معنوية، بل هي حلاوة محسوسة يحس بها الإنسان، وحلاوته أحلى من الطعام المشتهى، وأحلى من الشراب الحلو المشتهى؛ لأنها تشمل البدن كله، وتعم الجوارح وتبقى معه، بل يزول بها الآلام التي قد يجدها، ويتحمل في سبيلها ما لا تتحمله الجبال إذا وجد هذه الحلاوة.
فمثلاً: كان الرسول صلى الله عليه وسلم في غزاة، وأراد أن يبيت صلوات الله وسلامه عليه مع المسلمين، فأمر رجلين من أصحابه أن يذهبا إلى شعب معين ويحرسا في الليل، فلما ذهبا قال أحدهما للآخر: إما أن تنام أنت أول الليل أو أنام أنا، فقال: بل أنا أنام وأقوم آخر الليل، فنام صاحبه وهو قام يصلي، فجاء رجل من الكفار قد أخذت زوجته، وأقسم أن يذهب خلف المسلمين حتى يريق فيهم دماً، فجاء فرأى شخص الرجل الذي يصلي، فعرف أنه رجل من المسلمين، فصوب إليه نبله فضربه وأثبته فيه، فنزعه من بدنه، واستمر في قراءته، ثم صوب إليه السهم الثاني وضربه، فنزعه واستمر في قراءته، ثم صوب إليه الثالث وضربه، فعند ذلك أيقظ صاحبه، ولما استيقظ صاحبه رأى الدماء تسيل منه قال: سبحان الله! لماذا ما أيقظتني في أول الأمر؟ فقال: والله لولا أني خفت على المسلمين، ما أيقظتك فإني كنت في آيات فكرهت أن أقطعها قبل أن أوقظك.
ما الذي حمله على احتمال الألم؟ حلاوة الإيمان وتلاوة القرآن، تحمل في سبيل الله هذا الأمر حتى كاد يصل إلى القتل، والأمثلة على هذا كثيرة جداً، هذه الحلاوة هي فوق حلاوة الطعام، وذلك إذا تحلى قلبه وجوارحه بأن الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، من كل شيء حتى من نفسه؛ صارت الطاعة مقدمة على هذه الأمور، كما حدث لهذا الرجل، قدمها حتى على نفسه، وإنما حمله على أن يقطع قراءته ومناجاته خوفه على المسلمين، وامتثاله أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما نفسه فلم تكن هي المؤثرة في ذلك.
هذا أمر يجعل الإنسان يتحمل في سبيله المشاق والأمور العظيمة، والإنسان قد يجد في نفسه هذا الشيء، أنه إذا عمل طاعة لله يجد لذة وطمأنينة، بخلاف ما إذا عمل بالمعصية، فإنه يجد وحشة وخوفاً وقلقاً يقلقه، ولكن هذا الشيء لا يشعر به من كانت معاصيه كثيرة.
وكذلك من كانت الطاعة ليست من شأنه وليس بمتحلٍ بها، وإنما تأتي منه مرة وتذهب أخرى لا يجد ذلك؛ لأن الذنوب تضاد هذه الأمور أو تضعفها فلا تظهر، فيكون الإنسان شبه ميت، والميت إذا جرح لا يحس بالجرح؛ لهذا يقول الله جل وعلا: {بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] الران هو آثار الذنوب، غطاها فأصبح لا يحس الإنسان بأثر الذنب، خلافاً لصاحب الطاعة فإنه إذا وقع في معصية ندم وخاف، وأصابه الوجل حتى يقلع عن ذلك، ويكتسب طاعات تكفر عنه هذا الأمر.
قال الشارح رحمه الله تعالى [قوله: (ولهما عنه) أي: البخاري ومسلم عن أنس قوله: (ثلاث) أي: ثلاث خصال، قوله: (من كن فيه) أي: وجدت فيه تامة، قوله: (وجد بهن حلاوة الإيمان) الحلاوة: هنا هي التي يعبر عنها بالذوق، لما يحصل به من لذة القلب ونعيمه وسروره وغذائه، وهي شيء محسوس يجده أهل الإيمان في قلوبهم].
حلاوة الإيمان في الواقع هي ثمرة الطاعات، فعندما يستشعر الإنسان أنه أدى عبادة لله جل وعلا على الوجه الذي أمره به، ويشعر أن الله جل وعلا تفضل عليه وأنعم عليه حيث قربه في ذلك، فمن أعظم نعم الله على العبد: أن يعمل بطاعة الله جل وعلا على نور من الله، يرجو ثوابه، ويخاف عقابه.
وهذا في الواقع هو النعيم الذي يكون في الدنيا قبل الآخرة، وليس النعيم والحلاوة لذة البدن الحيوانية التي يشترك فيها العاقل وغير العاقل من البهائم وغيرها، وإنما اللذة والحلاوة والنعيم أن يتصل القلب بربه جل وعلا اتصالاً وثيقاً، يؤمن به إيماناً يقينياً، ثم يكون ذلك على نور، يعني: اتباع للرسول صلى الله عليه وسلم وهديه، وأن يكون على يقين لأنه يستيقن أنه على الطاعة والهدى، وهذا الذي أخبر الله جل وعلا أنه يجعل له نوراً يمشي به في الناس، هذا هو النور والهدى والحياة: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} [الأنعام:122].
الموت الحقيقي يكون بالجهل وبالإعراض عن الله جل وعلا، وليس الموت كونه يفارق البدن، هذا شيء قضى الله جل وعلا به على جميع خلقه، ولكن قد تكون حياته بعد المفارقة أحسن من قبل بكثير، حياة حقيقية وليست حياة وهمية تصورية، ولهذا يقول الله جل وعلا: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} [البقرة:154]، لا تشعرون بحياتهم وبما أعد الله لهم.
وفي الآية الأخرى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169].
فالحياة الحقيقية هي أن يتحلى الإنسان بطاعة الله جل وعلا، وتكون هذه الطاعة تصل إلى قلبه، ويتنعم بها ويجد اللذة، ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة.
وليست هذه الجنة بساتين ورياحين، وإنما هي اللذة بطاعة الله جل وعلا والتنعم، حتى وإن أوذي، حتى وإن كان فقيراً مدقعاً يجد النعيم في ذلك.(86/2)
حلاوة الإيمان وعلاقتها بحفظ الجوارح
ووجود حلاوة الإيمان يكون بالقلب والبدن، فإن البدن يتبع القلب، ولهذا جاء في تفسير قوله جل وعلا: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه:123] يقول ابن عباس: لا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الدنيا قبل الآخرة، وليس معنى الشقاء: كونه يتعب في بدنه في العبادة أو يقوم الليل أو يصوم النهار، هذا ليس شقاءً ولا تعباً، هذا يكون نعيماً، وأهل الطاعة تكون أبدانهم أقوى من أبدان أهل المعصية، وإن كانوا يتنعمون بالملذات.
أحد السلف مضى عليه تسعون سنة، فكان يثب كوثوب الشباب فقال له رجل من الحاضرين: ارفق بنفسك فإنك كبير السن، فقال له: هذه جوارح حفظناها في الصغر عن معاصي الله؛ فحفظها الله جل وعلا لنا في الكبر.
والله جل وعلا يحفظ عبده الذي يحفظ جوارحه عن المعاصي والمخالفات، كما في حديث ابن عباس في وصية النبي صلى الله عليه وسلم: (احفظ الله يحفظك)، الحفظ يكون على نوعين: حفظ في الدين والعقيدة، وهذا أهم شيء يحفظه الله جل وعلا في دينه وعقيدته فلا يتزعزع، ولا يدخل في الشكوك والانحرافات.
وحفظ يكون في بدنه وجوارحه كالسمع والبصر وغيرها؛ لأنه لا يصيب الإنسان مصيبة بمرض أو غيره إلا من جراء ذنوبه، قال جل وعلا: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30].
الحسن البصري رحمه الله أوصى أصحابه في الجهاد فقال: إنهم وإن هملجت بهم البغال، وطقطقت بهم البراذين؛ فإن ذل المعصية لفي قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه، فالمعصية فيها ذل وخزي، وفيها هدم للعمر والروح؛ لأنها محاربة لله جل وعلا، وفيها نزع البركة من البدن والجوارح والأعمال، وفيها أيضاً ظلمة في القلب، ووحشة فيما بينه وبين كل من يدور حوله في حياته، يجد قلبه يخفق دائماً، حتى لو حركت الريح الباب وجدته يفزع ويخاف ما الذي حدث؟ ما الذي صار؟ أما أهل الطاعة فعندهم الطمأنينة والسكون؛ لأنهم يعرفون أن ما يصيبهم فبإذن ربهم، فيرضون ويسلمون وينقادون.
حلاوة الإيمان هي التي يجدها الإنسان في عبادته لربه جل وعلا من شيء يكون في القلب، ويكون في الجوارح، ثم الشيء الذي يؤمله ويرجوه في المستقبل فإنه يثق بربه جل وعلا وثوقاً لا يكون فيه إذلال، ولا يكون فيه غرور، ولا يمنعه من الاجتهاد؛ لأنه يعرف قدره هو, ولكنه يعرف فضل ربه جل وعلا.
لما حضرت الوفاة بلالاً رضي الله عنه كانت زوجته قريبة منه وهي تقول: وا كرباه! فقال: وا قرباه! غداً ألقى الأحبة، محمداً وحزبه.
فهو يفرح ويستبشر، هكذا يكون العبد في أحلك المواقف وأشدها فرحاً مطمئناً؛ لأن حلاوة الإيمان عنده، والطاعة التي يجدها أنه يفعلها على بصيرة، وليس كمن يفعل شيئاً ويقول: ما أدري هل هذا صواب أولا؟ ما أدري هل أنا على حق أم أنا على باطل؟ المقصود: أن حلاوة الإيمان ليست شيئاً خالياً في قلبه أو شيئاً يتصوره في العقل فقط، ولا يجده في قلبه ولا في بدنه، كلا، بل هو كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم: يجد حلاوة الإيمان في قلبه، وهذه الخصال الثلاث إذا اجتمعت فيه تامة فإنه يجد حلاوتها، أما إذا وجد بعضها دون بعض فلا يلزم أن يجد حلاوتها, قد لا يجد وقد يجد, وقد يجد شيئاً ضعيفاً, وإنما يجد الحلاوة من اجتمعت فيه هذه الثلاثة الأمور.(86/3)
معنى حلاوة الإيمان عند العلماء
قال الشارح رحمه الله: [قال السيوطي رحمه الله في التوشيح: (وجد حلاوة الإيمان) فيه استعارة تخييلية، شبه رغبة المؤمن في الإيمان بشيء حلو، وأثبت له لازم ذلك الشيء, وأضافه إليه.
وقال النووي: معنى حلاوة الإيمان: استلذاذ الطاعات, وتحمل المشاق, وإيثار ذلك على أغراض الدنيا، ومحبة العبد لله بفعل طاعته, وترك مخالفته, وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم].
في الواقع أن هذه ثمرة وجود الإيمان، استلذاذ الطاعات هي ثمرة ذلك ونتائجه.
[قال يحيى بن معاذ: حقيقة الحب في الله: أن لا يزيد بالبر، ولا ينقص بالجفاء].
معنى قوله: (لا يزيد بالبر، ولا ينقص بالجفاء) البر: هو أن يحسن إليك الذي أحببته, ويصلك بأمور الدنيا, أو بنفع البدن بالخدمة وغير ذلك، فلو فعل ذلك ما زاد حبه؛ لأن الحب ليس لهذا، الحب لله (ولا ينقص بالجفاء)، لو مثلاً جفاك، وأصبح لا يزورك ولا يكلمك ولا يصلك, وانقطعت الصلة بينك وبينه, وليس ذلك عن عداوة، بل مجرد أنه لا يأتي أو أنه مشغول أو غير ذلك، فلا تنقص المحبة من أجل ذلك, لأنها ليست لأمر نفع دنيوي, وإنما هي لشيء قام به وهو طاعة الله، فهو يحب لله، وليس لذاته ولا لشيء يقدمه, وإنما يحب لأنه يحب الله, فأنت تحبه لأنه يحب حبيبك، إذا كانت أمور الدنيا بهذه المثابة لا تزيد ولا تنقص سواء جاءت أو ذهبت، فالمحبة لله أعظم، أما المحبة للدنيا وللناس فهذه ما تجدي شيئاً, فهذه تنقطع بسرعة، لما حصلت مبادلة النفع زادت، فإذا نقصت أو زالت ذهب ذلك وزال لأنه ليس لله، وكل ما لم يكن لله فهو زائل وذاهب لأنه باطل، وإنما يثبت الحق الذي لله جل وعلا.(86/4)
قوله: (أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما)
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما) يعني: بسواهما, ما يحبه الإنسان بطبعه كمحبة الولد والمال والأزواج ونحوها، فتكون (أحب) هنا على بابها].
قد يأتي الإشكال الذي جاء في صحيح مسلم في حديث الرجل الذي كان يخطب عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى) فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (بئس خطيب القوم أنت، قل: ومن يعص الله ورسوله)، فلابد أن يفرق بين الله وبين الرسول في المعصية، وهنا يقول: (أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما)، قال: (سواهما): فجمعهما في ضمير الجمع، فهنا يحتاج إلى جواب, وقد أجيب عن هذا بأجوبة منها: أن المعصية كل واحدة منهما مستقلة, معصية الله ومعصية رسوله، إذا عصى الرسول فقد عصى الله, وإذا عصى الله فقد عصى رسوله صلى الله عليه وسلم, والمحبة المعتبر فيها المجموع، يعني: أن يحب الله جل وعلا ويحب رسوله جميعاً, المحبة لابد من اجتماعهما وهذا يقول عنه الشارح: إنه جواب بليغ, فإذا كان بليغاً وحسناً فيكتفى به.
الجواب الثاني: أن هذا على سبيل الأدب يعني: أنه من الأدب المستحب أن يفرق بين الضميرين, ولا يجمع بينهما, وهذا يدل على الجواز، فيكون النهي ليس للتحريم في قوله: (بئس خطيب القوم أنت)، وإنما ينبغي أن يسلك هذا المسلك من باب الاستحباب.
الجواب الثالث: أن الخطبة محل البيان والإطناب والإيضاح, خلاف الكلام الذي يراد منه الحفظ والفهم, ففرق بين الخطبة وبين الكلام الذي يراد منه التعليم، فإنه غالباً يكون موجزاً جامعاً حتى يحفظ, كما كانت عادة الرسول صلى الله عليه وسلم.
الجواب الرابع: أن هذا جاء على الأصل السابق, والحديث الذي في صحيح مسلم -حديث نهي الخطيب- نقل عن الأصل, فيجب أن يصار إليه، يعني: يكون شبه ناسخ له، هذا معناه، يعمل بما جاء في حديث الخطيب فلا يجمع بين الضميرين ويكون حديث أنس قبل ورود النهي.
هذه أجوبة العلماء على هذا، والله أعلم.(86/5)
كلام الخطابي في شرح الحديث والرد عليه
قال الشارح رحمه الله: [وقال الخطابي: المراد بالمحبة هنا حب الاختيار لا حب الطبع كذا قال].
(حب الاختيار لا حب الطبع) يعني: إذا قدم على محبة الله محبة رسوله يكون ذلك باختياره، أما إذا كان بطبعه لا يستطيع أن يترك طبعه, فهذا لا يلام عليه، ولكن هذا غير صحيح؛ لأن نص الحديث: (حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين) ومعروف أن محبة الولد والوالد تكون محبة طبيعية، لا يستطيع الإنسان أن يمتنع منها، فهذا غير صحيح.
والصواب: أنها على ظاهرها مطلقة, أن تكون محبة الرسول صلى الله عليه وسلم مقدمة على كل محبة، وأن يتطبع الإنسان بهذا الطبع, بأن يترك الطبع الذي يكون طبعاً بهيمياً, ويتطبع بطبع الإيمان الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، هذا هو الواجب.(86/6)
ما يتفرع عن محبة الله من مسائل
قال الشارح رحمه الله: [وأما المحبة الشركية التي قد تقدم بيانها فقليلها وكثيرها ينافي محبة الله ورسوله، وفي بعض الأحاديث: (أحبوا الله بكل قلوبكم)، فمن علامات محبة الله ورسوله: أن يحب ما يحبه الله, ويكره ما يكرهه الله، ويؤثر مرضاته على ما سواه، ويسعى في مرضاته ما استطاع، ويبعد عما حرمه ويكرهه أشد الكراهة، ويتابع رسوله صلى الله عليه وسلم, ويمتثل أمره, ويترك نهيه كما قال الله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80]، فمن آثر أمر غيره على أمره, وخالف ما نهي عنه، فذلك علم على عدم محبته لله ورسوله، فإن محبة الرسول من لوازم محبة الله، فمن أحب الله وأطاعه أحب الرسول وأطاعه, ومن لا فلا، كما في آية المحنة ونظائرها، والله المستعان.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان؛ لأن وجود الحلاوة للشيء يتبع المحبة له، فمن أحب شيئاً واشتهاه, إذا حصل له مراده فإنه يجد الحلاوة واللذة والسرور بذلك، واللذة أمر يحصل عقيب إدراك الملائم الذي هو المحبوب أو المشتهى.
قال: فحلاوة الإيمان المتضمنة للذة والفرح تتبع كمال محبة العبد لله وذلك بثلاثة أمور: تكميل هذه المحبة، وتفريعها، ودفع ضدها، فتكميلها: أن يكون الله ورسوله أحب إلى العبد مما سواهما، فإن محبة الله ورسوله لا يكتفى فيها بأصل الحب، بل لا بد أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما.
قلت: ومحبة الله تعالى تستلزم محبة طاعته، فإنه يحب من عبده أن يطيعه، والمحب يحب ما يحبه محبوبه ولابد.
ومن لوازم محبة الله أيضاً: محبة أهل طاعته كمحبة أنبيائه ورسله والصالحين من عباده].
تفريعها المقصود به: تفريعها بأن يفرع عليها محبة الرسول صلى الله عليه وسلم, ومحبة أولياء الله من أهل الطاعات، هذا فرع عليها، وهذا من مكملاتها.(86/7)
خلاف العلماء في توجيه جمع الضمير في قوله: (مما سواهما)
قال الشارح رحمه الله: [فمحبة ما يحبه الله ومن يحبه الله من كمال الإيمان، كما في حديث ابن عباس الآتي.
قال: وتفريعها: أن يحب المرء لا يحبه إلا لله.
قال: ودفع ضدها: أن يكره ضد الإيمان كما يكره أن يقذف في النار.
قوله: (أحب إليه مما سواهما) فيه جمع ضمير الله تعالى وضمير رسوله صلى الله عليه وسلم، وفيه قولان: أحدهما: أنه ثنى الضمير هنا إيماءً إلى أن المعتبر هو المجموع المركب من المحبتين, لا كل واحدة، فإنها وحدها لاغية، وأمر بالإفراد في حديث الخطيب؛ إشعاراً بأن كل واحد من العصيانين مستقل باستلزام الغواية، إذ العطف في تقدير التكرير، والأصل استقلال كل من المعطوفين في الحكم.
الثاني: حمل حديث الخطيب على الأدب والأولى، وهذا على الجواز.
وجواب ثالث: وهو أن هذا ورد على الأصل، وحديث الخطيب ناقل, فيكون أرجح.
قوله: (كما يكره أن يقذف في النار) أي: يستوي عنده الأمران.(86/8)
عصمة الأنبياء
قال الشارح رحمه الله: [وفيه رد على الغلاة الذين يتوهمون أن صدور الذنب من العبد نقص في حقه مطلقاً وإن تاب منه.
والصواب: أنه إن لم يتب كان نقصاً, وإن تاب فلا، ولهذا كان المهاجرون والأنصار رضي الله عنهم أفضل هذه الأمة, مع كونهم في الأصل كفاراً, فهداهم الله إلى الإسلام, والإسلام يمحو ما قبله, وكذلك الهجرة, كما صح الحديث بذلك].
يعني: أن الإنسان ما ينفك عن الذنب, ولكن كونه يقع في الذنب هذا ليس نقصاً, وإنما النقص أن يصر على الذنب ويكرره، أما إذا وقع فيه وتاب فهذا ليس نقصاً, ولا ينقصه بل ربما زاده؛ لأنه قد يكون بعد الذنب حالته أحسن منها قبله, كما قيل في أنبياء الله عندما ذكروا مسألة العصمة, وقد اختلف الناس في ذلك فقال طوائف: هم: معصومون مطلقاً من الذنوب الكبائر والصغائر, ومن أن يخطئوا في التبليغ أو غير ذلك.
وطوائف من أهل السنة يقولون: العصمة فيما يبلغونه عن الله جل وعلا فقط، أما الذنوب فليسوا معصومين منها، ولكنهم ما يقرون على ذنب، إذا وقع أحدهم في ذنب نبهه الله؛ فرجع وصارت حالته بعد الذنب أحسن منها قبله، واستدل القائل بهذا بأن الله جل وعلا يحب التوابين، ولا يحرم أولياءه من هذه المحبة.
فإذا تاب الإنسان من ذنبه فقد يكون الذنب الذي وقع فيه سبباً لانكسار قلبه وحيائه من ربه, ولا يزال يطالع في قلبه ذلك الذنب, ويحدث توبة وانكساراً وذلاً واستغفاراً حتى يكسب بسبب هذا الذنب أشياء ما يكتسبها لو لم يقع فيه.
وهذا واقع لكثير من الناس, ولهذا جاء في الحديث: (إن الرجل يذنب الذنب يدخل به الجنة)، قيل: كيف؟ قال: إنه لا يزال مستحياً من ربه, منكسر القلب, يستغفره حتى يدخل بسبب ذلك الجنة، وهذا هو الصواب.
ولهذا ذكر الله جل وعلا عن آدم وهو نبي كريم مكلم كلمه الله سبحانه, أنه أكل من الشجرة التي نهي عنها وعصى ربه فغوى: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه:122].
وذكر عن كليمه موسى عليه السلام أنه قتل نفساً بغير نفس, وأن الله جل وعلا تاب عليه، وهكذا حتى أشرف الأنبياء محمد صلوات الله وسلامه عليه، خاطبه الله جل وعلا بقوله: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} [عبس:1 - 10].
هب أن أحداً من الناس يخاطب بمثل هذا الخطاب، يقال له: إنك عبست وتوليت لما جاءك فلان وهو تقي, ربما يغضب ويقول: أنت ما تقدرني، أنت ما تعرف تخاطبني، هذا رب العالمين جل وعلا يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم هذا الخطاب.
وكذلك يقول له: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب:1]، يخاطبه بهذا الخطاب، وكثير من الناس لو يواجه ويقال له: اتق الله يا فلان! اتق الله، لقال مستنكراً: ماذا صنعت أنا؟ هل أنا فعلت ذنباً؟ المقصود أن الله جل وعلا يؤدب رسوله صلى الله عليه وسلم بالقرآن تأديباً فيه شيء من التنبيه.
كذلك يقول جل وعلا في خطابه له: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة:43]، وهذا إنكار.
كذلك قوله جل وعلا: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:68] الكتاب السابق أنكم لا ينزل عليكم العذاب، وهذا بسبب أخذهم الفداء من أسرى أهل بدر الكفار، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لو نزل علينا عذاب لم يفلت منا إلا عمر)؛ لأن عمر اعترض وقال: (أرى أن تمكن كل واحد منا من قريبه فيضرب عنقه).
والرسول صلى الله عليه وسلم رأى ما في أصحابه من الحاجة والتعب؛ فرحمهم وأخذ الفداء من أجل أن يكون ذلك نفعاً لهم، فنزل عليه العتاب صلوات الله وسلامه عليه.
وقال الله جل وعلا: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:1 - 2]، ويقول بعض المفسرين: ليغفر الله لأمتك ذنوبها المتقدمة والمتأخرة، أما هو فليس عليه ذنوب، وهذا تحريف, بل هذه مغالطة.
وكذلك قوله جل وعلا: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:1 - 3].
قال بعضهم: واستغفره لذنوب أمتك, أما أنت فليس عليك ذنوب، وهؤلاء بعضهم يجعل الرسول صلى الله عليه وسلم قريباً من منزلة الله جل وعلا، حتى إن بعضهم يقول في مثل هذا: إن هذا ليس خطاباً له، وإنما هو خطاب لأمته، ولكن لما كان الوحي ينزل عليه وجه إليه، يقول: الخطاب لأمته.
هذا شيء عجيب! يعني: كأنها مغالطة ورد لقول الله جل وعلا.
الرسول صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح يقول: (استغفروا الله وتوبوا إليه, فإني أتوب إليه في اليوم أكثر من مائة مرة)، ويقول الصحابة: (كنا نحسب له في المجلس الواحد أكثر من سبعين مرة، يقول: أستغفر الله وأتوب إليه, أستغفر الله وأتوب إليه) وليس هناك أحد غني عن ربه جل وعلا، كما أنه ليس بين الله جل وعلا وبين خلقه صلة إلا بالطاعة، من كان لله أطوع فهو أكرم عند الله, وأقرب إلى الله, بغض النظر عن كونه فلاناً أو من فلان أو غيره.(86/9)
لا يخلو أحد من الناس من المعاصي
كل الخلق لا ينفكون عن المعاصي, ولكن يختلفون اختلافاً عظيماً جداً، ولهذا يقولون: إن مما يعد حسنة لبعض الناس يعد سيئة للبعض، كيف يعد سيئة للبعض؟ مثل أهل القرب والولاية, لا يقنعون بالشيء الذي يرى عامة الناس أنه قربات، بل يستغفرون من عباداتهم؛ لأنهم ما جاءوا بها على الوجه الأكمل، يعني: ما جاءوا بها في مقام الإحسان؛ فيستغفرون ربهم من العبادات، أيقولون: ويدل على هذا أنه شرع لنا بعد نهاية الصلاة أن يستغفر الإنسان ربه ثلاثاً كما هي السنة (أستغفر الله, أستغفر الله, أستغفر الله) والصلاة من أفضل القربات, وبعدها مباشرة تستغفر ربك.
ففيه إشارة إلى أن الإنسان لا يستطيع أن يأتي بالطاعة على الوجه الأكمل, وهذا شيء معروف يجده الإنسان من نفسه, ولا يستطيع أحد من الأمة أن يأتي بالصلاة كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي بها؛ لأن معرفة ربه جل وعلا والقيام بأمره على الوجه الأكمل خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم، لهذا يقول: (أنا أعلمكم بالله, وأتقاكم له, وأخشاكم له) صلوات الله وسلامه عليه، بل ما يستطيع الإنسان أن يأتي بالطاعة في الصلاة كما أتى بها أبو بكر أو عمر أو غيرهما من الصحابة.
ولهذا يقول ابن القيم رحمه الله: يقوم الرجلان في الصف الواحد، كل بجوار الآخر في الصلاة، وبين هذا وهذا مثلما بين السماء والأرض, يكون هذا كأنه يشاهد ربه, ويكون قلبه ساجداً بين يديه, خاضعاً له, ويستشعر عظمته وخطابه, ويود أنه ما ينتهي من الصلاة.
والثاني يكون أقل من هذا, أو ربما يكون يفكر في أمور الدنيا, وفيما يزاوله, فيخرج من صلاته وهو يخطط لأموره التي سيفعلها في الدنيا، وربما لا يدري ماذا قرأ الإمام؟ وماذا قال هو؟ ومثل هذا صلاته لا روح فيها في الواقع, يعني: مثل البدن الذي لا روح فيه.
المقصود أنه لا يوجد أحد من الناس يخلو من الذنب أبداً، حتى الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ينبههم الله جل وعلا على بعض المخالفات، فنوح عليه السلام لما قال: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} [هود:45]، قال الله جل وعلا: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود:46].
هذا خطاب الله جل وعلا لرسول كريم من أولي العزم من الرسل، ثم يقول: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود:47].
وإذا نظر الإنسان إلى خطاب الرب جل وعلا لأوليائه من الأنبياء والرسل؛ يجد أنه ينبههم على أشياء يرجعون عنها، ويستغفرون ربهم منها, ويرون أنها ذنوب؛ ولهذا ففي يوم القيامة يعتذرون من ذلك للناس ويذكرون ذنوبهم كآدم وإبراهيم وموسى، فيعتذرون للناس مما كان منهم في الدنيا.
فآدم يقول: من الذي أخرجكم من الجنة؟ إنما خرجتم من الجنة بسببي فلست كما تظنون.
اذهبوا إلى غيري، إن ربي نهاني أن آكل من الشجرة فأكلت منها وعصيته، مع أنه يعلم أن الله قد غفر له، والذنب إذا غفر كأنه لا وجود له، ولكنه مقام الاستحياء من الله جل وعلا.
وكذلك نوح عليه السلام يقول: إني سألت ربي ما ليس لي به علم.
اذهبوا إلى غيري، مع أنه يعلم أن الله قد غفر له ذلك.
وكذلك إبراهيم عليه السلام يعتذر عن أمور كان يجادل بها عن دين الله، وتعد من قبيل حسناته، ولكنه استحيا من ربه؛ لأنها ليست على ظاهرها، وكان فيها شيء من التعمية والتورية، وخشي أن تكون كذباً، وأن تكون ذنباً فاعتذر.
وكذلك موسى عليه السلام يعتذر بالقتل مع أن الله خاطبه وأعلمه بأنه قد غفر له، لما قال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي} [الأعراف:151]، فغفر الله له، إلا أنه مستح من الله تعالى أيضاً.
فالمقام مقام عظيم جداً، فيستحيون من ربهم أنهم وقعوا في شيء من الذنوب وإن كان قد تاب عليهم، فهم أعظم الأولياء، وأقربهم إلى الله جل وعلا، وهؤلاء خلاصة الخلق الذين أخلصهم الله من بني آدم، فكيف بآحاد الناس ممن هم سوى الأنبياء؟! إن آحاد الناس قد يقع منه الذنب في اليوم عدة مرات، والذنوب قد تكون من قبل ذنوب القلوب التي هي أعظم من ذنوب الجوارح، فالحق أن ذنب القلب أعظم من ذنب الجارحة، مثل الحسد والغل والحقد على المسلمين أو بغضهم على باطل، أو حب على باطل، أو ما أشبه ذلك.
كبائر القلوب تهلك، وهي كثيرة جداً، وكثير من الناس لا يبالي بها، وكثير منهم يجعل الغيبة نصيحة.
والمقصود: أن الإنسان لا يقنط بسبب الذنب، في الصحيح: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم)، وهذا مقتضى أسماء الله، مثل الغفور والتواب والعفو.
وليس عيباً أن الإنسان يذنب، ولكن العيب كونه يصر على ذنبه، وإلا فالله جل وعلا يحب التوابين، والتواب هو الرجاع كثير التوبة، وكثرة التوبة تدل على كثرة الذنوب، فكلما أذنب ذنباً تاب، وكون الإنسان يتصور أن فلاناً ليس له ذنوب هذا خطأ، لا يوجد أحد ليس له ذنوب, ولكن إذا كان الإنسان رجاعاً أواباً ينوب إلى ربه ويرجع إليه فهذا هو الكمال.
[قوله: وفي رواية: (لا يجد أحد) هذه الرواية أخرجها البخاري في الأدب من صحيحه ولفظها: (لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى يحب المرء لا يحبه إلا لله، وحتى أن يقذف في النار أحب إليه من أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، وحتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما).
وقد تقدم أن المحبة هنا: عبارة عما يجده المؤمن من اللذة والبهجة والسرور والإجلال والهيبة ولوازم ذلك، قال الشاعر: أهابك إجلالاً وما بك قدرة علي ولكن ملء عين حبيبها].
هذا يخاطب امرأة يحبها، ولا يجوز أن يكون لمخلوق محبة مثل هذه، يقول: أهابك إجلالاً وما بك قدرة علي ولكن ملء عين حبيبها فقال: ملء عين، والقلب يمتلئ، ولكن مثل هذا يجب أن يكون لله جل وعلا أن يهاب ويجل ويحب، أما إذا كان لمخلوق فهو عابد لذلك المخلوق، وبعض الناس يعبد شهوته فيكون حظه من العبادة لمخلوق مثله، ثم هذه المحبة تكون عداوة ولعنة فيما بعد, فكل واحد يلعن الآخر ويتبرأ منه يوم القيامة.(86/10)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [87]
إن من أعظم معالم الدين الإسلامي: المحبة في الله، وهي التي يرجى بها الأجر والثواب من الله عز وجل، لأنها لم تكن لأمر دنيوي، أو غرض شخصي.
ومن المعالم أيضاً: الولاء لأولياء الله تعالى، والبراء من كل أعدائه عز وجل، وبهذا تنال ولاية الله، ولن يجد عبد طعم الإيمان -وإن كثرت صلاته وصومه- حتى يعقد الولاء لأولياء الله، والبراء من أعدائه.(87/1)
أثر ابن عباس: (من أحب في الله، وأبغض في الله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (من أحب في الله, وأبغض في الله, ووالى في الله, وعادى في الله، فإنما تنال ولاية الله بذلك، ولن يجد عبد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك، وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا, وذلك لا يجدي على أهله شيئاً) رواه ابن جرير].
قال ابن عباس هذا وهو في آخر حياته رضي الله عنه، وقوله هذا بالنسبة لمن في وقته إلى ما كان عليه الصحابة زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم كانوا على جانب عظيم من محبة الله جل وعلا, ومن المؤاخاة في الله جل وعلا، قال عبد الله بن عمر: (ما كان أحدنا يرى أنه أحق بدرهمه من أخيه)، والله جل وعلا يقول في كتابه في وصفهم: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9] أي: أنهم يقدمون غيرهم على ما يحتاجونه، ويعطونهم إياه وهم بحاجة إليه، ولكنهم يطلبون رضوان الله جل وعلا، وقوله: (وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) يعني: ولو كان بهم الحاجة والفاقة إلى هذا الشيء, ومع ذلك يبذلونه حباً لطاعة الله جل وعلا وامتثال أمره، فقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يتحابون في الله أعظم المحبة, وكانت موالاتهم في الله وليس لشيء آخر.
وكذلك إذا أبغضوا أحداً فبغضهم لله، فيبغضون من كان عنده كفر أو فسق، فيبغضه الواحد منهم من أجل ذلك ولو كان قريبه، وهذا أمر لابد منه، وهو من واجب الإيمان؛ لأن الله جل وعلا يقول: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22]، ومن أقرب من الابن والأب من الناس؟! فإذا كان عدواً لله فيجب أن تعاديه، ولا يكون بينك وبينه مودة، فالمودة إنما تكون لله جل وعلا، قال ابن عباس: ولا تنال ولاية الله إلا بذلك، ولو كثرت صلاة الإنسان وصومه فلن يجد طعم الإيمان- حتى يحب لله، ويبغض لله، ويعادي لله، ويوالي لله.
فالأصل ليس كثرة الصلاة والصوم، الأصل هو الحب الذي هو العبودية لله، فلابد للعبد أن يحب من يحبه الله ويبغض من يبغضه الله، هذا شيء لابد منه؛ لأن هذه فروع محبة الله، ولا يمكن أن يقول الإنسان: أنا أحب ربي، وهو يوالي عدو الله! مستحيل أن يدعي الإنسان المحبة ويكون حليفاً لعدوه، هذا لا يمكن؛ ولهذا حذرنا الله جل وعلا كثيراً من موالاة الكفار فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة:51]، وقد ذكر جل وعلا ما وقع من بعض الصحابة وهي واقعة قد يتصور الإنسان أنها سهلة وليست بشيء، ولكنها عظيمة جداً أنزل الله فيها قرآناً يتلى، وهي قصة حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه, فلما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يغزو قريشاً لما نقضوا العهد الذي بينهم وبينه، فدعى ربه: (اللهم عم عليهم أخبارنا حتى نبغتهم)، وصار يسأل عن الطرق التي في شمال المدينة، فكتب حاطب بن أبي بلتعة كتاباً أرسله إلى قريش فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش, أما بعد: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءكم بجيش لا قبل لكم به.
وهذا فيه إنذار بالواقع لهم، ومع ذلك جاءه الخبر من السماء بأن كتاباً أرسل مع امرأة, وهي في مكان كذا وكذا؛ فأمر صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب والزبير وقال: (ستجدان ظعينة في روضة خاخ معها كتاب فائتياني به).
فذهبا فوجدا المرأة معها غنم, فسألاها الكتاب، قالت: ليس معي كتاب، قالا لها: والله ما كَذبنا ولا كُذبنا، والله لتخرجن الكتاب أو لننزعن الثياب -يعني: نجردك من ثيابك ونبحث, فالكتاب معك ولابد- فلما رأت الجد أخرجت الكتاب من عقيصتها -يعني: وضعت الكتاب في رأسها، وظفرت عليه شعرها- فأخرجته ودفعته إليهما.
فدعاه الرسول صلى الله عليه وسلم, وقال: ما هذا؟ قال: يا رسول الله لا تعجل علي، والله ليس بي شك، وإني أعلم أن الله سينصرك، وأن هذا الكتاب لا ينفع قريشاً، ولكني رجل غريب في قريش, وكل من معك لهم أقارب في مكة، فأردت أن أتخذ عندهم يداً مع علمي أنه لا يضرك ولا يضر المسلمين، فقال عمر: دعني أضرب عنقه، فقال له صلى الله عليه وسلم: (وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، عند ذلك ذرفت عينا عمر، وقال: الله ورسوله أعلم.
والمقصود بهذه القضية: نزول قول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ} [الممتحنة:1] إلى آخر الآيات، ثم ختمت السورة بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} [الممتحنة:13].
فبدئت السورة بالنهي عن موالاة الكفار، وختمت بالنهي عن ذلك، وفيها: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4]؛فلابد أن يكون لكم أسوة في هؤلاء الأكارم الأطايب، وأن تقولوا مثلما قالوا، وهذه من آخر ما نزل من السور.(87/2)
الولاء والبراء في الإسلام
قال الشارح رحمه الله تعالى: [وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم الجملة الأولى منه فقط.
قوله: (من أحب في الله) أي: أحب أهل الإيمان بالله وطاعته من أجل ذلك.
قوله: (وأبغض في الله) أي: أبغض من كفر بالله وأشرك به، وفسق عن طاعته؛ لأجل ما فعلوه مما يسخط الله وإن كانوا أقرب الناس إليه، كما قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة:22].
قوله: (ووالى في الله).
هذا والذي قبله من لوازم محبة العبد لله تعالى، فمن أحب فيه, والى أولياءه, وعادى أهل معصيته وأبغضهم, وجاهد أعداءه, ونصر أنصاره.
وكلما قويت محبة العبد لله في قلبه قويت هذه الأعمال المترتبة عليها، وبكمالها يكمل توحيد العبد، ويكون ضعفها على قدر ضعف محبة العبد لربه؛ فمقل ومستكثر ومحروم.
قوله: (فإنما تنال ولاية الله بذلك) أي: توليه لعبده، و (ولاية) بفتح الواو لا غير, أي: الأخوة والمحبة والنصرة, وبالكسر الإمارة، والمراد هنا الأول، ولـ أحمد والطبراني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يجد العبد صريح الإيمان حتى يحب لله, ويبغض لله؛ فإذا أحب لله وأبغض لله فقد استحق الولاية لله)، وفي حديث آخر: (أوثق عرى الإيمان: الحب في الله، والبغض في الله عز وجل) رواه الطبراني.
قوله: (ولن يجد عبد طعم الإيمان) إلى آخره.
أي: لا يحصل له ذوق الإيمان ولذته وسروره وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك، أي: حتى يحب في الله, ويبغض في الله, ويعادي في الله, ويوالي فيه.
وفي حديث أبي أمامة مرفوعاً: (من أحب لله, وأبغض لله, وأعطى لله, ومنع لله؛ فقد استكمل الإيمان) رواه أبو داود.
قوله: (وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا, وذلك لا يجدي على أهله شيئاً) أي: لا ينفعهم بل يضرهم، كما قال تعالى: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67]، فإذا كانت البلوى قد عمت بهذا في زمن ابن عباس خير القرون، فما زاد الأمر بعد ذلك إلا شدة؛ حتى وقعت الموالاة على الشرك والبدع والفسوق والعصيان، وقد وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم بقوله: (بدأ الإسلام غريباً, وسيعود غريباً كما بدأ)، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم من المهاجرين والأنصار في عهد نبيهم صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما يؤثر بعضهم بعضاً على نفسه؛ محبة في الله وتقرباً إليه، كما قال تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9]، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (لقد رأيتنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وما منا أحد يرى أنه أحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم) رواه ابن ماجة].
المؤمن يجب أن يكون ولياً لله جل وعلا، فقد والى الله جل وعلا بين عباده؛ حيث جعل بعضهم أولياء للرحمن وعباداً له، وبعضهم أولياء للشيطان وعباداً له، والفريقان بينهما معاداة ولابد, ولا يمكن أن تكون مصالحة بين أولياء الله وأعدائه من أولياء الشيطان، وقد بين ذلك جل وعلا في آيات كثيرة, وحذر من أن يركن المسلم المؤمن إلى الذين كفروا، فإنه إذا ركن إليهم مسته النار.
والولاية هي المناصرة والمودة والإخاء، والمؤمن لا يكون مؤاخياً لعدو الله ولا مناصراً له ولا مساعداً، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: (اللهم إني أعوذ بك أن يكون لفاجر علي منة فيوده قلبي)، فهو يسأل ربه ألا يكون هناك سبب من الأسباب التي قد تجلب المودة للفجار، الذين هم أعداء الله جل وعلا.
وقد علم بالطبع والواقع أنه إذا كان الإنسان له صديق حميم, وهذا الصديق الحميم له عدو، فكونه يذهب يصادق عدوه فهذا منافٍِِ للمحبة، ولا يمكن وجود المحبة في مثل ذلك، بل تكون المقاطعة.
وليس بين العباد وبين الله جل وعلا صلة أو نسب إلا بطاعته واتباع أمره واجتناب نهيه، وطاعته أن يكون المؤمن متولياً لله جل وعلا والمؤمنين، يتولى الله ورسوله والمؤمنين، {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة:55]، هذه هي الموالاة، والموالاة أن يكون الرجل موالياً للآخر ومحباً له ومساعداً له ومناصراً له، وليس للبغضاء والعداوة مدخل فيهم إلا إذا مالوا إلى الدنيا، وتركوا هذا المبدأ، عندها يأتي الشيطان.
وسبق أن الحب لله والبغض لله تابع لمحبة الله جل وعلا، يكمل بكمال محبة العبد لله، ويضعف بضعف محبة العبد لربه جل وعلا، فكلما كانت محبة العبد لله جل وعلا أكمل فإنه يحب أهل طاعته أكثر، ويبغض أهل معاصيه ومخالفاته أكثر، وينفر منهم.
فإذا وجدت من إنسان عدم المحبة للمؤمنين وأولياء الله, فمعنى ذلك: أن محبة الله لا وجود لها, أو أنها ضعيفة لا أثر لها، وكذلك بالعكس: إذا وجدت محبة أعدائه وموالاتهم، فإما أن تكون محبة الله معدومة عند الإنسان أو تكون ضعيفة ليس لها أثر، وإذا كانت ضعيفة قد تنفع وقد لا تنفع، وإذا رجع إلى ربه جل وعلا وتاب وأقلع عما هو فيه؛ فالله كريم، يقبل توبة عبده إذا تاب، أما إذا بقي على ذلك فهذه ظاهرة مخالفة لله جل وعلا، وكم جاء في القرآن التحذير من هذا، آثات كثيرة جداً، وتقدم أن من علامة ولاية الله أن يبغض العبد كل من كان عدواً لله ولو كان أباه أو ابنه أو زوجه أو أخاه.
هذا لو كان أقرب الناس إليه فكيف بالأبعدين؟! فهذا أمر لازم، وليس هذا من باب الاستحباب بل الوجوب الذي هو من الإيمان بالله جل وعلا، ولهذا قال الله جل وعلا الإيمان وقال: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة:22].(87/3)
علاقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالولاء والبراء
كل من خالف وارتكب معاصي الله جل وعلا عمداً فإنه ممن حاد الله، والإنسان حده أن يكون عبداً لله، فإذا خرج عن عبودية الله فقد خرج عن حده.
فالطاعة لها حد، والمعصية لها حد، والشرع له حدود، فكلما كان الإنسان ممتثلاً لأمر الله جل وعلا فإنه واقف عند حدود الله، أي: أنه عبد لله تعالى ما فعل الواجب وترك المحرم، أما إذا فعل المحرمات وترك الواجبات فإنه قد ارتكب حدود الله، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه)، الحدود هي التي حرمها الله، وجعلها علامات ظاهرة.
وإذا كان الإنسان يصادق على المحرمات، ويوالي عليها؛ فمعنى ذلك أنه صار شبيهاً بالشيطان تماماً؛ لأن الشيطان خرج عن طاعة الله جل وعلا لمعصيته، وصار يدعو إلى المعصية، وينهى عن الطاعة.
ومعلوم أن أمر الله جل وعلا الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ليس صعباً على النفوس إذا اهتدت وانقادت، وإنما يصعب عليها إذا كانت مطيعة للشيطان، ومتبعة لهواها، والواقع أنه سهل، ولكن هناك أمور يزينها الشيطان، كونه يقول: لم تعادي الناس، وتكثر عليك الأعداء؟ الأفضل أنك تكثر من الأصدقاء، أما كونك تعاديهم بأن تأمرهم بشيء يكرهونه أو تنهاهم عن شيء يحبونه، فهذا مما يجلب عداوتهم، قد يخوف الشيطان العبد بهذا، ويدعي أنك إذا أمرتهم أو نهيتهم أو أخبرتهم أنك تكرههم على هذا الشيء؛ أنهم يجلبون لك الأذى، وينتقمون منك.
والناس في هذه الحياة لابد لهم من الأذى، سواء كانوا مؤمنين أو كافرين؛ لأن هذه الحياة خلقت على الأكدار، ولهذا أخبر الله جل وعلا أن الناس إذا قالوا: آمنا، فإنهم يبتلون ويفتنون حتى يظهر صدق قولهم، ويكون صدقهم ظاهراً بارزاً، أو أنهم ينتكسون ويعرف أنهم غير صادقين، ولكن العاقبة في الدنيا والآخرة للمؤمنين، لكن لا بد أن يحصل الابتلاء أولاً، فقد يبتلى الإنسان بأهله وبأولاده، وقد يبتلى بوالده وبأخيه وقريبه، وقد يبتلى بالبعيدين، فيكون ذلك تمحيصاً وزيادة لحسناته، أو انتكاساً وفتنة، ولابد للإنسان أن يصبر على هذا، ويعلم أن الوقت ليس طويلاً، وأنه خارج من هذه الدنيا، ثم إذا كان الإنسان صابراً على أمر فإن الله يحمد عقباه، وإذا كان بخلاف ذلك يندم ندامة لا تفيد ولا تجدي.(87/4)
صفات المتحابين في الله تعالى
يجب على الإنسان أن يكون عبداً لله جل وعلا، وعباد الله لهم صفات، منها: أنهم يتولون الله جل وعلا، ويفعلون أوامره، ويحبون أهل طاعته ويوالونهم، ويعادون أعداءه ويكرهونهم ويبغضونهم، ولا يكفي كون هذا في القلب، بل لابد أن يظهر على اللسان، وكذلك بالكلام، وكذلك بالفعل إذا أمكن.
لذا جاء أن من أعظم ما يتقرب إليه الإنسان أن يعادي أعداء الله، وفي الأثر: (أن الله جل وعلا أمر بإهلاك قرية، فقال ملك لله جل وعلا: إن فيها عبدك فلاناً، قال: به فابدأ؛ فإنه لم يتمعر وجهه فيّ يوماً قط) يعني: لم يغضب لله جل وعلا من المعاصي التي تقع في تلك القرية.
وأخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن بني إسرائيل لعنوا على لسان أنبيائهم؛ لأنهم كانوا إذا رأى أحدهم من يرتكب منكراً نهاه وقال: يا فلان! اتق الله، ثم لا يمنعه كونه رآه على منكر أن يكون جليسه وأكيله وصاحبه، فلما رأى الله جل وعلا فعلهم ذلك ضرب قلوب بعضهم ببعض ثم لعنهم، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (كلا والذي نفسي بيده! لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليفعلن الله بكم كما فعل بهم).
والأمر بالمعروف معناه: موالاة الله جل وعلا، ومعاداة أعدائه، وليس انتصاراً للنفس أو انتقاماً من الغير، هذا لا يجوز أن يكون، وإنما هذا اتباع لأمر الله، يفعل الإنسان ذلك لأن الله أمره بهذا، وهو يرجو هدايتهم ويفرح بذلك، فمعاداته على طريق صحيح، ليس لأجل هوى النفس أو انتقام أو لأنه من آل فلان أو من غيرهم، بل كل ما يكون من الحب والبغض هو لأجل امتثال أمر الله، ولأنه يحب الله ويحب طاعته، فمن اتصف بهذا أحبه ووالاه وصار عطوفاً عليه، وإن كان من أبعد الناس عنه نسباً، وإن كان بعكس بذلك كرهه وأبغضه، ويجب أن يظهر ذلك بفعله من قول وغيره، وليس معنى ذلك أنه يصبح مقاطعاً له مقاطعة كاملة بحيث لا يكون هناك بينهما أي معاملات، فالبيع والشراء والإيجار وما أشبه ذلك شيء آخر، يصح أن يكون بين الكافر والمؤمن وبين التقي والشقي؛ لأن هذه مبادلة بالمال، وليس لأحد فيها منة، وإنما الممنوع المؤاخاة والمصادقة والمودة التي تجلب الألفة، وليست لأجل مبادلة المال، فالمحبة لأجل الله جل وعلا لا يجوز أن تكون إلا بين المؤمنين فقط.
وقد أخبر الله جل وعلا بالعاقبة إن لم يحصل هذا، وذلك لما أخبر أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض، ثم أخبر أن الكافرين بعضهم أولياء بعض، قال بعدها جل وعلا: {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:73]، لما حصل ذلك من المؤمنين وجدت الفتنة والفساد الكبير، والفتنة فتنة في الدين، وانحراف عن الصراط المستقيم، وعند ذلك حري أن تقع عليهم العقوبة، وأن يصابوا بعذاب يغدقهم، والفتنة إذا جاءت لا تخص بل تعم؛ لأن الفساد العام العريض الكبير -مثل هذا- يعم، وإن كان في النتائج والنهايات كل محاسب على قدر نيته وعمله.
ففي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن جيشاً يغزو مكة، فإذا كانوا في بيداء من الأرض خسف بهم، ولا يبقى فيهم إلا من يخبر عنهم، فقالت عائشة: أيخسف بهم وفيهم أسواقهم؟ قال: (نعم يخسف بهم ثم يبعثون على نياتهم) يعني: يأخذهم العذاب عموماً، ثم بعد ذلك يحاسبون على نياتهم وأعمالهم، فمن هو عاجز وكاره لا يكون مثل الطائع القادر.
والمقصود: أنه يجب على المؤمن أن يتميز بطاعة الله وبموالاة الله وموالاة المؤمنين ومودتهم، وبكراهة الكافرين وبغضهم ومعاداتهم، وهذه هي ملة إبراهيم التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله جل وعلا: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4] يعني: لا مصالحة ولا مودة بل بغض ومعاداة إلى أن يؤمن الكفار.
أما قول الله جل وعلا: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} [الممتحنة:8]، فهذا من الإحسان الدنيوي؛ إذا كان هناك من الكافرين من له صلة بك فلا مانع من أن تحسن إليه بالمال وغيره، وأما المودة فلا؛ ولهذا قال جل وعلا عن المودة: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً} [الممتحنة:7]، فالمودة قد تكون منهم بأن يؤمنوا، أما المؤمن فلا يحصل منه مودة للكافرين أبداً إلا أن يزول منه الإيمان والعياذ بالله، قال الله: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [المجادلة:22] أي: أن هذا غير موجود، فمن وادّ الكفار فإيمانه إما ضعيف جداً أو منتفٍ، وإذا كان الإيمان ضعيفاً فلا أثر له، وحينها لا يمنع الإنسان من ارتكاب المعاصي، ولا يحمله على فعل الطاعات، فيكون أثره ضعيفاً، وإنما الإيمان النافع الذي يمنع من ارتكاب المعاصي، ويحمل على فعل الطاعات، وهو الإيمان القوي.(87/5)
قوله تعالى: (وتقطعت بهم الأسباب)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال ابن عباس في قول الله تعالى: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} [البقرة:166]، قال: المودة] الأسباب التي تتقطع بهم يوم القيامة هي المودة، ومعلوم أن الناس ليس معهم حينئذ إلا أسباب العمل فقط، أما الأموال والمناصرات في الأمور التي تكون في الدنيا فهي منتهية، وكل الخلق يأتون الله فرادى كأنهم خرجوا من بطون أمهاتهم، لا كسوة ولا نعال ولا طعام ولا أي شيء، يخرجون هكذا من بطون القبور عراة حفاة غرلاً، ولهذا يقول الله: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:94]، فأين شركاؤكم؟ وأين نصراؤكم؟ وأين أولياؤكم؟ كل واحد ليس معه إلا عمله: إن كان من الفجار والكفار فعمله كما قال الله جل وعلا: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور:39]، وقوله: {كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [إبراهيم:18]، الرماد إذا ذري في اليوم العاصف هل يمسك منه شيء؟! هذا دليل على أن المودة والإخاء إذا كان على غير طاعة الله فهي الأسباب التي تتقطع بهم، كما قال الله جل وعلا عن خليله إبراهيم عليه السلام: ((إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا))، الأوثان التي يتولونها ويعبدونها {مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [العنكبوت:25] هذه هي الحقيقة التي تكون يوم القيامة، وكما قال الله جل وعلا: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ} [القصص:62]، ماذا يقولون؟ يقولون: (ضلوا عنا) يعني ذهبوا فما ندري أين هم، ولا يوجد شركاء ينصرونهم، والشركاء هم الأولياء الذين يزعمون أنهم يتولونهم في الدنيا، ويقول جل وعلا: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأحقاف:5] يعني: الأموات، فهم الذين لا يستجيبون لأحد إلى يوم القيامة، وكذا الغائبين.
{وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:6] يعني: يكفرون بهم ويقولون: كفرنا بقولكم وبدعوتكم وبعبادتكم، وتبرأنا إلى الله منكم، فماذا تكون حالتهم عندئذٍ؟ الذين كانوا يظنون أنهم سينفعونهم وسيشفعون لهم هم أسوء حالاً منهم، وهذه هي المودة والأسباب التي تتقطع، يقول ابن عباس في الأسباب: هي المودة، يعني: المودة التي على غير طاعة الله، كل مودة على معصية أو على غير طاعة الله فإنها تنقطع وتنتهي بل تكون عذاباً ووبالاً على أصحابها، أما الإخاء في الله والموالاة في الله فهذا الذي ينفع، كما قال جل وعلا: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67]، كل خليل عدو لخليله إذا كان في غير طاعة الله إلا المتقي الذي يحب لله ويوالي في الله؛ فإن هذا هو الذي يظله الله جل وعلا في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، كما جاء في الحديث الصحيح: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ومنهم: اثنان تحابا في الله اجتمعا عليه، وتفرقا عليه).
هذا هو الذي يفيد وينفع أما ما عدا ذلك من المعاداة والموالاة فإنها تكون عداوة وبغضاء وحسرة وندامة، حتى إن الله أخبرنا بالحقائق التي تكون؛ فالداعي لهؤلاء يصبح خطيباً فيهم إذا اجتمعوا في جهنم، يقوم الشيطان يخطب فيهم بعد أن استقر أهل الجنة بالجنة، وأهل النار بالنار، يقوم الشيطان خطيباً في أصحابه وأتباعه وأوليائه فيقول في خطبته التي أخبرنا الله بها: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} [إبراهيم:22] أي: ليس عندي حجة ولا برهان لما دعوتكم، إنما هي مجرد دعوى {إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم:22]، يعني: مجرد دعوى خالية من الدليل، {فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} [إبراهيم:22]، أرجعوا اللوم لأنفسكم؛ لأني ليس لي عليكم سلطان أقهركم به، ولكن أنتم لما سمعتم الدعوة استجبتم لها، وانقدتم إليها طواعية.
ثم يقول: {مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ} [إبراهيم:22] يعني: ما أنا بمغيثكم ولا مغني عنكم شيئاً {وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} [إبراهيم:22] ولا أنتم تنفعوني، فكل واحد لا ينفع الثاني، ثم يقول: {إني كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم:22]، يكفر بطاعتهم وعباداتهم، ولهذا يقول الله في مثل الضال الكافر: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ} [الحشر:16]، وهذا هو الواقع، ويوم القيامة يتبرأ الأول من الثاني ويلعن كل واحد الآخر، ومع ذلك يقرن كل واحد مع شيطانه: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات:22] يعني: كل واحد يزوج مع نظيره ويقرن معه حتى يتم العذاب لهما، وينظر إلى عدوه وبغيضه لأنه يصبح أعدى الأعداء وأبغض الأشياء إليه، فيقرن معه حتى يتم العذاب لهما بالحسرة؛ لأن الشر والخبث كله يجمع في جهنم.
قال الشارح رحمه الله تعالى: [قال ابن عباس في قوله تعالى: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} [البقرة:166]، قال: المودة، هذا الأثر رواه عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه.
قوله: (قال: المودة) أي: التي كانت بينهم في الدنيا خانتهم أحوج ما كانوا إليها].
يعني: المودة على معاصي الله هي التي تتقطع بهم وتخونهم أحوج ما كانوا إليها، وتصبح عليهم وبالاً.(87/6)
تبرؤ الكفرة من بعضهم يوم القيامة
قال الشارح رحمه الله: [وتبرأ بعضهم من بعض، كما قال تعالى: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [العنكبوت:25].
قال العلامة ابن القيم في قوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ} [البقرة:166]: فهؤلاء المتبوعون كانوا على الهدى، وأتباعهم ادعوا أنهم على طريقهم ومناهجهم، وهم مخالفون لهم سالكين غير طريقهم، ويزعمون أن محبتهم لهم تنفعهم مع مخالفتهم؛ فيتبرءون منهم يوم القيامة؛ فإنهم اتخذوهم أولياء من دون الله.
وهذا حال كل من اتخذ من دون الله وليجة وأولياء؛ يوالي لهم، ويعادي لهم، ويرضى لهم ويغضب لهم، فإن أعماله كلها باطلة، يراها يوم القيامة حسرات عليه مع كثرتها وشدة تعبه فيها ونصبه.
إذ لم يجرد موالاته ومعاداته وحبه وبغضه وانتصاره وإيثاره لله ورسوله، فأبطل الله عز وجل ذلك العمل كله، وقطع تلك الأسباب، فينقطع يوم القيامة كل سبب وصلة ووسيلة ومودة كانت لغير الله، ولا يبقى إلا السبب الواصل بين العبد وربه، وهو حظه من الهجرة إليه وإلى رسوله، وتجريده عبادته لله وحده ولوازمها من الحب والبغض والعطاء والمنع والموالاة والمعاداة والتقريب والإبعاد، وتجريد متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم تجريداً محضاً بريئاً من شوائب الالتفات إلى غيره، فضلاً عن الشرك بينه وبين غيره، فضلاً عن تقديم قول غيره عليه.
فهذا السبب هو الذي لا ينقطع بصاحبه، وهذه هي النسبة التي بين العبد وربه، وهي نسبة العبودية المحضة، وهي آخيته التي يجول ما يجول وإليها مرجعه، ولا تتحقق إلا بتجريده متابعة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم.
إذ هذه العبودية إنما جاءت على ألسنتهم وما عرفت إلا بهم، ولا سبيل إليها إلا بمتابعتهم، وقد قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]، فهذه هي الأعمال التي كانت في الدنيا على غير سنة رسله وطريقتهم ولغير وجهه يجعلها الله هباءً منثوراً، لا ينتفع منها أصحابها بشيء أصلاً، وهذا من أعظم الحسرات على العبد يوم القيامة: أن يرى سعيه ضائعاً، وقد سعد أهل السعي النافع بسعيهم.
انتهى ملخصاً].
معنى الآية: (إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا) يقول: هؤلاء المتبوعون كانوا على الهدى، والتابعون كانوا على الضلالة، والآية أعم من هذا: فإذا كان المتبع على الهدى فإنه لا يرضى أن يكون تابعه يتبعه وهو على ضلالة، وفي الحقيقة أنه ليس تابعاً له وإنما هو تابع لهواه ونفسه، وإنما الآية ظاهرها: أن الكفار وعوامهم يتبرءون من سادتهم وقادتهم؛ لأنهم أتباعهم، ويتمنون أن يكون لهم رجعة فيتبرءون منهم، وكل واحد من الفريقين يتبرأ من الآخر، ويكفر به، فالآية نظير الآية التي في سورة العنكبوت وغيرها، يعني: أن كل رئيس في معصية الله، وكل من هو مرءوس؛ يصبح هذا عدواً للآخر متبرئاً منه، كما هو صريح قوله جل وعلا: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [العنكبوت:25]، كل واحد يكفر بالثاني، وكل واحد يلعن الثاني، وليس بعضهم مؤمناً وبعضهم كافراً، بل كلهم على طريقة واحدة.
أما إذا كان المتبع قد اتبع من هو مهتدٍ ولكنه اتبعه على غير ما كان عليه من الهدى، فهذا أمر آخر، وقد يقع مثل هذا، وهو يشير إلى أنه وجد من المقلدين الذين يقلدون بعض العلماء، ويوالون على التقليد ويعادون عليه، وإذا قيل لهم: إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول كذا، والله جل وعلا يقول كذا، قالوا: الإمام أعلم منكم، والإمام أدرى، لو كان هذا صحيحاً ما خالفه الإمام، فهو يشير إلى مثل هؤلاء، وهؤلاء قلة بالنسبة لما ذكره الله جل وعلا في الآية؛ لأن الآية عامة في الخلق كلهم، وكل الناس معروف أن بعضهم يتبع بعضاً، وهذه سنة متبعة، ولهذا يقول الكفار للرسل: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23] يعني: وجدناهم على ملة ودين ولن نترك ملتهم ولا دينهم، هؤلاء هم الذين يتبرأ بعضهم من بعض، وكذلك لما جاء موسى عليه السلام إلى فرعون، قال فرعون لما حاجه في تجاهل العالم يقول: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:23] لا أنه لا يعرف رب العالمين، بل يعرفه ولكن هذا جحود منه، فقال له: {رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الشعراء:24] إلى أن قال فرعون: (فما بال القرون الأولى) يعني: الذين مضوا لماذا كانوا على الشرك والكفر؟ يعني: لنا فيهم قدوة وأسوة، فهذه حجة تدل على كثرة العالم الذين يكونون على هذه الطريقة، فهم الذين يتبرأ بعضهم من بعض يوم القيامة، ويلعن بعضهم بعضاً، ويكفر بعضهم ببعض.(87/7)
مسائل باب قول الله تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله)(87/8)
تفسير قوله: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيه مسائل الأولى: تفسيره آية البقرة].
آية البقرة هي قوله جل وعلا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165]، مضى أن معناها: أن من الناس من يحب حب الخوف والذل والخضوع كحب المخلوق، وهذا الحب والتعظيم والذل والعبودية لا يجوز أن يكون لمخلوق، فهم يحبونهم هذه المحبة التي تقتضي ذلهم وخضوعهم وتعظيمهم، وهذا الحب يجب أن يكون لله، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا} [البقرة:165]، والند هو المثل والنظير ولو في صفة من الصفات، فيكون الند مماثلاً لنده من كل وجه، وجعلهم أنداداً لله لأنهم صاروا يحبونهم حباً كحب الله، ولهذا لما قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: (ما شاء الله وشئت، قال: أجعلتني لله نداً؟!) يعني: في الجمع بين مشيئة الله ومشيئته بالواو، والجمع بالواو يقتضي المساواة.
فمن الشرك أن يلحق مخلوقاً من المخلوقات في شيء من حقوق الله التي يجب أن تكون له خالصة أو في صفة من صفاته، فإذا فعل الإنسان ذلك فقد اتخذه نداً، وما زال الكلام على الآية.(87/9)
تفسير قوله: (قل إن كان آباؤكم)
[المسألة الثانية: تفسير آية براءة].
آية براءة وهي: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24]، هذه الآية فيها: أن من رضي بالدنيا بما فيها مما ذكر من هذه الأصناف الثمانية: الآباء والأبناء والأزواج والأموال والتجارات والمساكن الطيبة الواسعة الفسيحة وغيرها، إذا كانت هذه الأمور أحب إلى الإنسان من الله ورسوله فلينتظر عذاب الله، فهذا وعيد معجل؛ لأنه قال: (فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين) أي: من كان أولئك عنده أفضل وأحب من الله فهو من الفاسقين الخارجين عن طاعة الله جل وعلا، وهو مهدد بعذاب الله عاجلاً قبل الآجل.(87/10)
وجوب تقديم محبة النبي على كل محبة
[المسألة الثالثة: وجوب محبته صلى الله عليه وسلم على النفس والأهل والمال].
يعني: أن تكون محبته مقدمة على محبة النفس والأهل والمال، وهذه المحبة محبة إيمانية، وهي تابعة لمحبة الله جل وعلا، وإذا كان الإنسان حبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم أقل من محبته لنفسه ولولده ووالده وللناس أجمعين؛ فهو لم يؤمن الإيمان الواجب الذي ينجيه من عذاب الله.
فإن كان ليس على هذه الصفة فلا يلزم أن يكون الإيمان منتهياً نهائياً، بل يجوز أن يكون عنده إيمان ناقص، ونقصه هذا يستلزم أن يعذب عليه إن لم يتب منه، وهذا يعني أن الذي لا يحب الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من محبته لنفسه وماله وأكثر من محبته لولده ولزوجه ووالده وإخوته والناس أجمعين؛ أنه من أصحاب الكبائر، ويكون من الفسقة أصحاب المعاصي الذين يستوجبون عقاب الله، وهذا معناه: أنه ترك ما يجب عليه.(87/11)
نفي الإيمان لا يدل على الخروج من الإسلام
[المسألة الرابعة: نفي الإيمان لا يدل على الخروج من الإسلام].
نعم، لا يدل على الخروج من الإسلام، ولكنه يدل على نقص الإيمان الواجب، وذلك يقتضي أن يعذب على نقصه، وهذا مما يدل على أن الإنسان يكون كافراً، ولايلزم ذلك أن يكون مؤمناً، ولكن إيمانه ضعيف ناقص.
فما ارتكب المحرمات وترك الواجبات أو بعضها، إلا لضعف إيمانه، وإذا عفا الله جل وعلا عنه فهو فضله وإحسانه، وربما أخذه الله جل وعلا وعاقبه إن لم يتب من ذلك، ويرجع إلى ما أمره الله به، وتكون محبة الله جل وعلا هي أعظم شيء لديه؛ ثم تكون محبة الرسول صلى الله عليه وسلم على هذه الصفة لأنها تابعة لمحبة الله، وتقدم أن علامة محبة الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون الإنسان مقتفياً سنته، مبتعداً عما نهاه عنه.(87/12)
للإيمان حلاوة حقيقية
[المسألة الخامسة: أن للإيمان حلاوة قد يجدها الإنسان وقد لا يجدها].
حقيقية وليست عقلية كما يقول بعض الناس، فالحلاوة حقيقية يجدها المؤمن، ويلتذ بها أعظم من الالتذاذ بالأكل والشرب الحسي؛ لأن التذاذ الروح والقلب أعظم من ذلك بكثير.(87/13)
الأعمال التي تنال بها ولاية الله
[المسألة السادسة: أعمال القلب الأربعة التي لا تنال ولاية الله إلا بها، ولا يجد أحد طعم الإيمان إلا بها].
وهي: الحب في الله، والبغض في الله، والموالاة فيه، والمعاداة فيه، وهي كلها تابعة لمحبة الله؛ لأنها لوازم ومكملات لمحبة الله، فهذه هي التي يتحصل بها العبد على ولاية الله وأما بغيرها فلا.(87/14)
عاقبة المؤاخاة على أمر الدنيا
[المسألة السابعة: فهم الصحابي للواقع: أن عامة المؤاخاة على أمر الدنيا].
يقصد قول ابن عباس: (وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئاً)، ويقصد بقوله: (على أمر الدنيا) الأموال والمشاركة فيها وما أشبه ذلك، ولكن المشكل إذا كانت المؤاخاة على المعاصي والبدع والكفر فهذه أعظم مما ذكره ابن عباس، ويوجد بكثرة أناس يتآخون ويتصاحبون على المعاصي، ويساعد بعضهم بعضاً عليها، ويؤز بعضهم بعضاً عليها، فهم من أشباه الشياطين، قال الله جل وعلا: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [مريم:83] يعني: تؤزهم على المعاصي والكفر بقوة وبسرعة وبلهف.(87/15)
نفع محبة الله وضرر محبة المشركين يوم القيامة
[المسألة الثامنة: تفسير {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} [البقرة:166].
المسألة التاسعة: أن من المشركين من يحب الله حباً شديداً].
هذا على القول الصحيح، فإنهم يحبون أندادهم كحب الله، يعني: أن الحب عندهم صار مقسماً بين الأنداد وبين الله، وهذا هو الشرك الذي حرم الله جل وعلا على صاحبه الجنة إذا مات عليه؛ لأن الحب يجب أن يكون لله، وليس هذا هو الحب الطبيعي.
وسبق أن قسمنا الحب إلى أقسام: منه ما هو حب خاص، وهو الذي يقتضي الذل والتعظيم والخضوع؛ فهذا يجب أن يكون لله وحده ولا يجوز أن يكون لغيره، وهذا هو الذي أشرك فيه المشركون؛ لأنهم يخافون من معبوداتهم، ويودونها، وينتصرون بها، ويطلبون نصرها، كما قال أبو سفيان لما كان مشركاً يوم أحد، لما انتهت الوقعة وصار يصوت بأعلى صوته: أفيكم فلان؟ أفيكم فلان؟ إلى أن قال: أعل هبل، أعل هبل، أعوذ بالله! فقال لهم الرسول: (أجيبوه، قالوا: ماذا نجيب؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجل)، ثم قال: العزى لنا ولا عزى لكم.
هكذا يعتزون بأوثانهم وأصنامهم، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أجيبوه، قالوا: ماذا نقول؟ قال: قولوا: الله مولانا، ولا مولى لكم)، والعزى لا تفيد أحداً، فالمقصود أنهم كانوا يودونها ويعظمونها ويجعلون لها من الحب ما هو لله جل وعلا، ويحبون الله ولكن حبهم لله لا يفيدهم، وتوزيع حب الله بين الله وبين غيره من المخلوقات من الشرك الأكبر، وهذا الحب يجب أن يكون خالصاً لله ليس لأحد فيه شيء، والذي أوجبه جل وعلا هو حبه وحده محبة الذل والتعظيم والخضوع، وهو معنى قول: لا إله إلا الله، وهذه الكلمة هي التي يدخل بها الإنسان الإسلام، ومن كانت آخر كلامه من الدنيا دخل الجنة، هذا إذا كان يعرف معناها وقالها بصدق.
[المسألة العاشرة: الوعيد على من كان الثمانية أحب إليه من دينه].
لأنه قال جل وعلا: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24]، فمن كانت هذه الثمانية أحب إليه من الله ورسوله وجهاد في سبيله فإنه متوعد بالعذاب العاجل، وهو الذي دل عليه قوله: (فتربصوا) يعني: انتظروا، (حتى يأتي الله بأمره) يعني: بعذابه الذي يصيبكم به، وكذلك هو من الفاسقين؛ لأنه قال جل وعلا: (والله لا يهدي القوم الفاسقين).
[المسألة الحادية عشرة: أن من اتخذ نداً تساوي محبته محبة الله فهو الشرك الأكبر].(87/16)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [88]
الخوف من أفضل مقامات الدين وأجلها، وأجمع أنواع العبادة التي يجب إخلاصها لله تعالى، والمشركون -قديماً وحديثاً- لم يخصلوا خوفهم لله تعالى، بل خافوا غيره كخوفهم إياه أو أشد، وذلك حينما عظم الشيطان في قلوبهم معبوداتهم، وخوفهم بها.
وما كان لمؤمن أن يخاف غير الله تعالى، أو أن يرتجف فؤاده من سواه، لأن الخوف عبودية القلب، فلا يصلح إلا لله.
أما عمارة المساجد فتكون حساً ومعنى: بإقامة بنيانها، وإقامة الطاعة فيها، ولا تقبل كلتا الإقامتين إلا فمن آمن بالله واليوم الآخر.(88/1)
بيان عظم الخوف من الله تعالى وأقسامه
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب قول الله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]].
لما ذكر المؤلف رحمه الله وجوب محبة لله جل وعلا، وأن حب العبادة يجب أن يكون خالصاً لله؛ ذكر أن من لوازم حب الله جل وعلا -حب العبادة والخضوع- أن يحب الإنسان ما يحبه الله، وأعظم ذلك حب الرسول صلى الله عليه وسلم، وذكر أن من لوازمه أيضاً: أن يبغض ما يبغضه الله من الأعيان والأفعال، كالأشخاص والمعاصي، ولما ذكر أن هذا واجب أراد أن يبين أن الخوف يجب أن يكون لله ومن الله وحده؛ لأن الخوف من أعظم المقامات -مقامات الإيمان- التي أوجبها الله جل وعلا؛ فيجب إخلاصه لله، ومن أشرك فيه مع الله غيره فإنه لا يكون مخلصاً في التوحيد، بل يكون توحيده ناقصاً - لذهاب كماله الواجب- أو معدوماً، ولهذا ذكر الآية: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175] (إن) هنا: شرطية، والمعنى: إن كان عندكم إيمان يلزم أن تكون هذه صفتكم وهذا شأنكم.
كما قلنا: لما كان الخوف من أعظم مقامات الإيمان, وهو خصلة عظيمة وواجبة على الإنسان أراد المؤلف أن يبين وجوب إخلاصها لله، ولا يجوز أن يشرك معه فيه أحد من الخلق.
هذا مقصود الباب؛ لأن المؤلف رحمه الله سبق أن ذكر أن التوحيد: هو معنى لا إله إلا الله، وبين معناها، وقال بعد ذلك: (وشرح هذا في الأبواب التي بعده)، أي: الأبواب التي جاءت في الكتاب هي شرح لتلك الترجمة؛ فمرة يذكر ما يجب من حقوق هذه الكلمة، ومرة يذكر ما هو خادش لمعناها، أو منافٍ لشيء من شروطها أو أركانها أو واجباتها.
والخوف من أركان لا إله إلا الله، ولهذا يقول العلماء: يجب على المسلم المؤمن أن يكون دائماً خائفاً من ربه، راجياً لرحمته، فالخوف عند المخالفة والتقصير، والله جل وعلا قد أثنى على عباده الذين يخافونه في آيات كثيرة.
قوله: (إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه)، والمعنى: يخوفكم أولياءه، يعني: يعظمهم في صدوركم ويكبرهم، ويقول: إنهم ذوو بأس ولهم شدة، وعندهم قوة، ولهم كثرة وأنصار تخافونهم، هكذا يقول الشيطان، والله يقول: (فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين)، و (إن) هنا كما سبق شرطية، يعني: إن كان الإيمان مستقراً في نفوسكم فلتمتثلوا هذا الأمر، ومعنى ذلك: أن من لم يكن خائفاً من الله جل وعلا، لا يكون عنده الإيمان الذي أوجبه الله جل وعلا، هذا معنى قوله: (إن كنتم مؤمنين).
ثم جاء في آيات كثيرة الثناء على الخائفين {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41]، وقوله: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46]، وكذلك يقول جل وعلا: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، ويقول: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} [الأحزاب:39] , والخشية هي: الخوف، وكذلك أخبر جل وعلا أن من كان يخاف ربه؛ فإن الله يجعل له من جميع ما يكيده مخرجاً، ويرزقه من حيث لا يحتسب.(88/2)
أقسام الخوف ودرجاته
ذكر العلماء أن الخوف على أقسام ثلاثة، وبعضهم يجعلها أربعة:(88/3)
القسم الأول: الخوف مما يعبد من دون الله
هذا الخوف الذي يسمى: خوف غيبي، يخافه أي: يخاف شيئاً وهو غائباً عنه، لا يشاهده وليس حاضراً عنده، ولكن يخاف أن يصيبه بمصيبة مستقبلة، أو بألم في بدنه، أو بمصائب في ماله أو أهله، أو ما يستقبله من حياته.
وهذا يسمى خوف السر، ومعنى خوف السر: أنه يخافه لسر فيه، وأنه يأتي عقابه سراً، لا يأتي بجيوش ولا بدبابات ولا مدافع، يأتيه ويصيبه ولو كان في عقر بيته.
وهذا الخوف لا يجوز أن يكون إلا من الله وحده، وهو الذي ذكر الله جل وعلا أنه يقع من المشركين، ويقع من المشركين سابقاً ولاحقاً، فسواء زعموا أنها كرامة يعطيها الله جل وعلا بعض أوليائه، فيؤثر في قلب من يبغضه أو يخالفه، أو في بدنه أو ماله أو أهله، أو يصيبه بخبل أو ما أشبه ذلك، أو أن ذلك من باب الشفاعة: أن الوليّ يطلبه من ربه ويشفع فيه، ثم يصيبه به جل وعلا؛ لأنه خالف هذا الولي.
فهذا من الشرك الأكبر الذي إذا مات عليه الإنسان يكون خالداً في النار، وهذا الذي أراد المؤلف أن يبين أنه لا يجوز أن يكون إلا لله جل وعلا.
وقد ذكر الله جل وعلا في كتابه عن أوليائه المرسلين أن المشركين خوفوهم بآلهتهم، كما قال جل وعلا في قصة إبراهيم: {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الأنعام:80]، وهذا يدل على أنهم خوفوه بشركائهم، ثم قال: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام:81]، ثم قال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82]، أي: الذين آمنوا وأخلصوا إيمانهم وخوفهم لله جل وعلا، فلم يداخل إيمانهم وخوفهم ظلم - يعني: شرك - هم الحقيقون بالأمن والاهتداء.
وكذلك قال جل وعلا في قصة هود عليه السلام عندما قالوا له: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود:54]، يقولون له: إن ما أصابك هو بسبب بعض آلهتنا، فأصبحت تقول ما تقول، وتنهانا عما تنهانا عنه، فقال جواباً لهم: {قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:54 - 56]، فتحداهم، وقال: اجتمعوا أنتم ومعبوداتكم، ثم كيدوني بما تستطيعون، ولا تتأخروا وعجلوا ذلك، فلن تستطيعوا؛ لأن وليي الله، وهكذا قالوا لنوح عليه السلام بل وسائر الأنبياء، وقالوا لخاتم الرسل صلى الله عليه وسلم ذلك أيضاً، فقال جل وعلا: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [الزمر:36]، يعني: بما يشركون من أصنامهم، وهكذا المشركون اليوم، إذا نهيت الذين يعبدون الأولياء والأضرحة، قالوا لك: أما تخاف من الولي؟ فإذا نهيت عن الشرك أو أمرت بالتوحيد وبإخلاص الدعوة لله، والتوجه إليه، يخوفونك به وقالوا لك: يمكن أن يصيبك الولي بالعذاب؛ لأنك خالفته، وأنت تبغضه ولا تحبه، فطريقة المشركين طريقة واحدة، سواء في أول الزمان أم في آخره، فبعضهم يتابع بعض، فالله جل وعلا ذكر أن كل أمة كانت تخوف نبيها بمن يعبدونهم مع الله جل وعلا، ولهذا وجب أن يكون الخوف لله وحده، هذا قسم.(88/4)
القسم الثاني: أن يترك الإنسان ما يجب عليه خوفاً من بعض الناس
قال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عمران:173] وسبب نزول هذه الآية، كما قال ابن إسحاق وغيره من العلماء: أنه لما صارت واقعة أحد يوم السبت في منتصف شوال، ثم كان يوم الأحد في السادس عشر من شوال نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذهاب خلف قريش، وأنه لا يذهب خلفهم إلا من حضر الواقعة بالأمس؛ لأن الذين تخلفوا منافقون لا يحضرون مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا خير فيهم ولا في حضورهم؛ فانتدب لها المسلمون فقط، وكان فيهم الجراحات والآلام؛ حتى إنه جاء أن أخوين من بني عبد الأشيم كان فيهم جراحاً كبيرة، فيقول أحدهم: فخرجت أنا وأخي وقلت: لا تفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان إذا عجز حملته عقبة - يحمله على ظهره إذا عجز عن المسير - فساروا إلى أن بلغوا حمراء الأسد، فلما جاءوها ألقى الله جل وعلا الرعب في قلب أبي سفيان ومن معه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وجنده، فخافوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم يلحقهم، فلقيهم ركب يريدون المدينة ليشتروا منها طعاماً، فقال أبو سفيان لهم: بلغوا عني محمداً وأبدلكم رحائل جديدة يوم عكاظ، قالوا: نعم، قال: قولوا له: إن أبا سفيان يجمع لك الجموع، وأنه أسف على ترك المدينة، فإنه يقول: لا محمد قتلنا ولا الكواعب أردفنا، فقالوا: نعم، فمروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأخبروهم بهذا الخبر، فقالوا الصحابة: حسبنا الله ونعم الوكيل، أي: هو كافينا ولن نخاف هؤلاء، فنزلت الآية: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ} [آل عمران:173 - 175]، والمعنى: أن الشيطان يخوفكم بالكفار، فالخوف الذي يلقى في قلب المؤمن من الكفار من جراء تخويف الشيطان، والواجب أن يكون الخوف من الله وحده.
وهذا الخوف محرم؛ لأنه ترك ما يجب عليه خوفاً من بعض الناس، وهو أيضاً نقص في الإيمان؛ لأنه نفث من الشيطان، ولهذا جاء في مسند الإمام أحمد وغيره أن الله جل وعلا يقول للعبد يوم القيامة: (ألم تر منكراً فلم تغيره ولم تنه عنه، فيقول: يا رب! خفت الناس، فيقول: إياي أحق أن تخاف)، وهذا السؤال سؤال عن واجب تركه، وقد يعاقب عليه.
وهذا النوع أقل من الذي قبله، أما الذي قبله فهو شرك أكبر، أما هذا فقد يصل بالإنسان إلى الشرك وقد لا يصل به إلى الشرك، ويكون قد ترك واجباً، إذا حمله خوف الناس على ترك الواجب، وهو نقص في توحيده وإيمانه، ويخشى أن يعاقب على تركه هذا الواجب.(88/5)
القسم الثالث: الخوف الطبيعي
الخوف الطبيعي: هو الذي يكون مطبوعاً عليه الإنسان في نفسه، كخوفه من السبع، والحية، وجدار أن يسقط عليه، أو ماء يغرق فيه، أو ما أشبه ذلك؛ فهذا لا بأس به؛ لأن هذا أمر مطبوع عليه الإنسان، وليس هو مثل خوف السر الذي يجتمع فيه شيئان: الخوف والإجلال، وخوفه منه كان لسر فيه.
والواجب أن يخاف الإنسان من ربه، وأما الأسباب الظاهرة المؤدية للهلاك أو التلف فإنه لا يجوز له أن يلقي نفسه فيها ولا يجوز له أن يلقي نفسه في الأشياء الخطرة التي لا له عنها محيص ولا منجى، مثل: كونه يجلس تحت جدار مائل أو ما أشبه ذلك، أو كونه يلاقي السباع أو الحيات أو ما أشبه ذلك، ويقول: أنا لا أخاف، كما يحدث من بعض قاصري النظر أو الفكر.
كما ذكر ابن الجوزي رحمه الله: أن رجلاً من الصوفية -الذين يقولون: إنهم يتوكلون على الله ولا يخافون غيره- ذهب حاجاً ماشياً على سبيل التوكل، وليس معه زاد وراحله، يقول: فصادفته سباع في الطريق، فكأن نفسه خافت -الخوف الطبيعي الذي في النفوس- فعاد على نفسه باللوم، وقال: كيف تخافين، لابد أن أقصد هذه السباع في وسط الطريق، فحمل نفسه على ذلك، فما تحملت النفس ذلك، فعندما وصل إلى السباع ذهب عقله وسقط مغشياً عليه، فبقي كذلك إلى أن أيقظه حر الشمس، وقد تفرقت عنه السباع! ومثل هذا العمل لا يجوز.
والله جل وعلا أخبر عن موسى عليه السلام أنه خرج من المدينة خائفاً يترقب من عدوه أن يدركه ويقتله، وهذا خوف طبيعي، وليس الخوف الذي يمكن أن يكون فيه نقص في توحيد الله جل وعلا، والمقصود: أن هذا النوع من الخوف لا ضير على الإنسان فيه إذا حصل.(88/6)
القسم الرابع: الخوف من عذاب الله
أما القسم الرابع الذي قسمه بعض العلماء من القسم الأول؛ حيث جعلوا قسماً منه أعلى مما ذكرنا، وهو الخوف من عذاب الله، فهذا أعلى المقامات والنسبة إليه -نسبة الذي ذكرنا إلى هذا- كنسبة الإيمان إلى الإحسان، والإحسان أعلى من الإيمان، ولهذا أثنى الله جل وعلا على الخائفين.
ففي هذه الآية يقول جل وعلا: {فَلا تَخَافُوهُمْ}، يعني: لا تخافوا الكفار، ولا يؤثر فيكم تخويف الشيطان وتعظيمه إياهم في نفوسكم ووسوسته لكم، واجعلوا خوفكم من الله وحده، فإنه يكفيكم ويحميكم إذا كنتم مؤمنين بخبر الله جل وعلا، وبما أرسل به رسوله صلى الله عليه وسلم، فيجب أن تتحلوا بذلك {وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.
وبهذا يتبين أن ترك أمر من أمور الدين، مما أوجبه الله أو التقصير فيه خوفاً من الخلق أنه من تخويف الشيطان، وأنه يجب على المؤمن أن يمتثل أمر ربه جل وعلا ويجتنب نهيه، وإن اعترض عليه من يعترض من الناس فإنه لا يخافه، بل يجب أن يكون الخوف من الله وحده، فإن ترك واجباً مما أوجبه الله، أو فعل محرماً مما حرمه الله خوفاً من الناس؛ فإن هذا يكون نقصاً في الإيمان والتوحيد وقدحاً فيهما، وربما كان دليلاً في النهاية على زوال الإيمان، كما تدل عليه الآية: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]، وقد يكون دليلاً على ضعفه.(88/7)
خوف السر الواقع من عباد القبور
قال الشارح رحمه الله تعالى: [الخوف من أفضل مقامات الدين وأجلها، وأجمع أنواع العبادة التي يجب إخلاصها لله تعالى، قال تعالى: {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:28]، وقال تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:50]، وقال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46]، وقال تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة:40]، وقال تعالى: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة:44]، وأمثال هذه الآيات في القرآن كثير.
والخوف من حيث هو على ثلاثة أقسام: أحدها: خوف السر: وهو أن يخاف من غير الله، من وثن أو طاغوت أن يصيبه بما يكره، كما قال تعالى عن قوم هود عليه السلام أنهم قالوا له: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} [هود:54 - 55]].
معروف عند عباد الأولياء والقبور ما يسمى بخوف السر، أي: أن صاحب القبر فيه سر، فمن قدم له طاعة ونذوراً نفعه سره وجاءه النفع منه، ومن لم يفعل ذلك فإن سره يضره، وقد يميته أو يمرضه أو يفقره، أو يميت أولاده وما أشبه ذلك، هكذا يتصورونه.
والمعنى: أنه خوف غيبي؛ فهو يخافه وهو غائب عنه، وهذا المخوف إما غائب مجهول، وإما في بلد آخر، وإما أنه مما لا يسمع الكلام كشجرة العزى أو حجر كاللات ومناة، أو غير ذلك من المعبودات التي تعبد، ولولا أنهم يرجون نفعها ويخافون ضرها ما عبدوها وما قدموا لها.
وذكر عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم أنه قال لما كان في الشرك: أرسلني أهلي بلبن وزبد للصنم، وكنت محتاجاً له، ولكن منعني خوف الآلهة أن آكل منها شيئاً، فجئت ووضعتها عنده، فجاء الثعلب فأكلها وشربها، ثم بال عليه.
سبحان الله! كيف ينطلي على عقل الإنسان أن يخاف حجراً أو شجرة، ويقدم لها ما يقدم؟ وهكذا فعل بعض شباب الأنصار في أحد ساداتهم لما تأخر إسلامه، وهو عمرو بن الجموح حين كان له صنم، فكانوا يجتمعون في الليل، فيأتون الصنم وينكسونه على رأسه، ثم إذا جاء الصباح أخذه ومسح عنه الغبار، وقال: لو أعلم من صنع بك هذا لفعلت به كذا وكذا، وفي الليلة الأخرى جاءوا وألقوه في مزبلة منكساً، فجاء وغسله، وقال: لو أعلم من صنع بك هذا لفعلت به كذا وكذا، وفي الليلة التي تليها جاءوا ونكسوه وربطوا فيه كلباً ميتاً، ثم جاء ونظر إلى حالته وفكر في نفسه، قال: والله إنه لهين! ما قيمة هذا الإله الذي يربط به كلب، ويلقى في المزبلة في النجاسات والقاذورات؟! هل هذا يجوز أن يعبد؟! فانتبه وهداه الله جل وعلا.
عقول سخيفة لعب عليها الشيطان، فصارت تخاف إما من ميت مقبور تحت الثرى، لا يستطيع أن يمتنع من الديدان التي تمزق بدنه، ولا يستطيع أن يضع من صحيفة سيئاته سيئة واحدة، ولا أن يضيف إلى صحيفة حسناته حسنة واحدة.
فالحي أقدر منه على الاستغفار والعمل وغير ذلك، وأما ذاك فهو مرتهن بعمله، فكيف يرجى؟ وكيف يخاف؟ وكيف يتجه إليه؟ لولا أن الشيطان يلعب على الإنسان ويفسد عقله، ويأتيه بالأمور التي تكون عنده معظمة، مثل أن فلاناً وفلاناً يعمل هذا، وأن فلاناً عمل هذا وصار له كذا وصار له كذا، وهكذا الذين يعبدون الأولياء عمدتهم كلها خرافات، إما منامات يأتي بها الشيطان، أو حكايات مكذوبة لا أصل لها، أو توهمات يوهمهم إياها الشيطان.
ولهذا يذكر الله جل وعلا أنه ليس لهم على ذلك من دليل ولا برهان بل الأدلة والبراهين على خلاف ذلك، والمقصود: أن خوف السر يعني به الخوف الغيبي، فهو يخاف منه وهو غائب عنه ليس حاضراً، إما أن يكون مدفوناً، أو لا يسمع، أو بعيداً في بلد آخر، أو أنه في بيته معلقاً عليه بابه ويخاف أنه يصيبه شيء إذا خالف معبوده، كما هو الواقع من المشركين قديماً وحديثاً، والشرك وإن اختلفت أساليبه وأسبابه فهو شيء واحد.(88/8)
الخوف من أولياء الشيطان
قال الشارح رحمه الله: [وقال تعالى: {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [الزمر:36]، وهذا هو الواقع من عباد القبور ونحوها من الأوثان، يخافونها ويخوفون بها أهل التوحيد إذا أنكروا عبادتها، وأمروا بإخلاص العبادة لله، وهذا ينافي التوحيد.
الثاني: أن يترك الإنسان ما يجب عليه خوفاً من بعض الناس، فهذا محرم، وهو نوع من الشرك بالله المنافي لكمال التوحيد].
أي: المنافي لكمال التوحيد الواجب؛ لأن كمال الإيمان نوعان: كمال واجب، وكمال مستحب.
فالكمال المستحب قد لا يصل إليه أكثر الناس، ولكن الواجب يتعين على كل فرد أن يفعله، وهذا من الكمال الواجب، وإذا فقد الكمال الواجب صار الإنسان من أهل الكبائر، من أصحاب الكبائر المعرضين للعذاب.
قال الشارح: [وهذا هو سبب نزول هذه الآية، كما قال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:173 - 175]، وفي الحديث: (إن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: ما منعك إذ رأيت المنكر ألا تغيره؟ فيقول: رب خشيت الناس، فيقول: إياي كنت أحق أن تخشى).
الثالث: الخوف الطبيعي: وهو الخوف من عدو أو سبع أو غير ذلك، فهذا لا يذم، كما قال تعالى في قصة موسى عليه السلام: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} [القصص:21].
ومعنى قوله: (إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه)، أي: يخوفكم أولياءه، (فلا تخافوهم وخافون)، وهذا نهى من الله تعالى للمؤمنين أن يخافوا غيره، وأمر لهم أن يقصروا خوفهم على الله، فلا يخافون إلا إياه، وهذا هو الإخلاص الذي أمر به عباده ورضيه منهم].
يعني: يخوفكم بأوليائه، وأولياؤه هم الكفار والفجار والعصاة، ومعنى ذلك: أنه يجعل لأوليائه في صدوركم مقاماً، ويعظمهم ويجلهم في نفوسكم، هكذا يوسوس الشيطان في الصدور والواقع خلاف ذلك.
والواجب على الإنسان ألا يخاف إلا من ربه جل وعلا، وإذا خاف الله ولم يخف الناس كفاه الله جل وعلا الناس كلهم، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (واعلم أن الخلق لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يضروك بشيء، ولو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لك لم ينفعوك بشيء).(88/9)
معنى قوله: (وقالوا حسبنا الله)
قوله جل وعلا: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]، الحسب: هو الكافي، يعني: أننا نكتفي بالله ونعتصم به، ونعم الكافي ونعم من يتوكل عليه؛ فإن من استكفى به وتوكل عليه لن يصل إليه عدو، ولن يضره شيء.
أما الأقدار التي يقدرها الله جل وعلا على الإنسان فلابد من نفاذها وحصولها، ولكن لا يكون ذلك بسبب فعل الواجب الذي أوجبه الله أو اجتناب المحرم الذي حرمه الله، لكنه شيء أراده الله جل وعلا إما تمحيصاً للذنوب أو زيادة في الحسنات للمؤمن؛ فإذا أصيب المؤمن بأذى من عدوه؛ فلا يخلو: إما أن يكون ذلك رفعاً لدرجاته وزيادة في حسناته، أو تكفيراً لسيئاته وتمحيصاً لما صنع وفعل.
وهو في كلا الحالتين على خير، ولا يكون المؤمن إلا على هذه الطريقة، فإن أصابته النعمة فهي من الله، وإن أصابه شيء من النقم فهو بسبب ذنوبه أو أيضاً نعمة: ترفع بها درجاته يوم القيامة ويزاد في حسناته.
وقد جاء أن العبد يكون له الدرجة عند الله لا يصلها بعمله، فيبتليه الله جل وعلا بالمصائب؛ حتى يصل إليها بسبب ذلك.
وجاء عن ابن عباس أنه قال: (قوله: (حسبنا الله ونعم الوكيل)؛ قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قال له الناس: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عمران:173].
ومعنى ذلك: أن هذا قول أفضل الرسل، وكلاهما خليل لله جل وعلا: إبراهيم ومحمد صلوات الله وسلامه عليهما، والخلة هي غاية المحبة ونهايتها، وليس كما يقول بعض قاصري المعرفة: إن إبراهيم خليل الرحمن ومحمد حبيبه، وأن المحبة أبلغ.
كلا هذا ليس بصحيح، بل الخلة أعلى وأجل، ولهذا كان يقول صلى الله عليه وسلم: (لو اتخذت منكم خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الله) يعني: نفسه صلوات الله وسلامه عليه، ومن كان خليله الرحمن جل وعلا لا يتخذ من الخلق خليلاً.
قال الشارح: [فإذا أخلصوا له الخوف وجميع العبادة أعطاهم ما يرجون، وأمنهم من مخاوف الدنيا والآخرة، قال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [الزمر:36].
قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: ومن كيد عدو الله: أنه يخوف المؤمنين من جنده وأوليائه لئلا يجاهدوهم، ولا يأمروهم بمعروف ولا ينهوهم عن منكر، وأخبر تعالى أن هذا من كيد الشيطان وتخويفه، ونهانا أن نخافهم.
قال: والمعنى عند جميع المفسرين: يخوفكم بأوليائه.
قال قتادة: يعظمهم في صدوركم، فكلما قوي إيمان العبد زال خوف أولياء الشيطان من قلبه، وكلما ضعف إيمانه قوي خوفه منهم، فدلت هذه الآية: على أن إخلاص الخوف من شروط الإيمان].(88/10)
إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر
قال المصنف رحمه الله تعالى: وقول الله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة:18].
أخبر تعالى: أن مساجد الله لا يعمرها إلا أهل الإيمان بالله واليوم الآخر، الذين آمنوا بقلوبهم].
معلوم أن سورة التوبة من آخر ما نزل من القرآن، فإنها نزلت في غزوة تبوك في السنة التاسعة، وفيها ما هو متقدم نزوله، فبعض آياتها نزل متقدماً، وبعضها نزلت متأخرة، ثم يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بوضعها في المكان المناسب، فالمشركون افتخروا بأنهم أهل البيت وأنهم عُمَّاره، أي: يقومون على صيانته ونظافته وإكرام من يثب إليهم، فيقولون: هذا أفضل من كونكم اتبعتم الرسول.
فأخبر الله جل وعلا أن عمارة المسجد لا تحصل من المشرك، وإنما تحصل ممن آمن بالله واليوم الآخر، أما المشرك الكافر فعمله (كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً فإذا جاءه لم يجده شيئاً)، أو: {كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [إبراهيم:18] لا يقدر عليه، وإذا عمل شيء فإن الله يجعله هباءً منثوراً؛ لأن من شرط قبول العمل أن يكون العامل مؤمناً: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [طه:112]، أما إذا كان كافراً فأي عمل يعمله فإنه لا ينفع ولا يجدي؛ لأن الأساس فاسد.
وكذلك يجب أن يكون العمل على وفق أمر الله، لا على هوى النفس، أو كونه وجد آباءه يعظمون هذا الشيء ويعملونه، فصار يعمله ويفتخر به، هذا لا يجدي شيئاً ولا ينفع.
وأخبر جل وعلا أن الذي يعمر المساجد هو المؤمن، وعمارتها بالطاعة والتقوى، وبعبادة الله فيها بالتوحيد وإخلاص العمل له.
هذه عمارتها.
ولهذا كان مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم -في وقته- أعمدته جذوع النخل، وسقفه جريد النخل، وإذا جاء المطر يغرق المسجد، ثم يسجد الرسول صلى الله عليه وسلم على الماء والطين، ويصبح أثره في وجهه، وهو معمور أعظم العمارة؛ لأنه يعبد فيه الله جل وعلا، ويطاع ويمتثل أمره، وينتهى عن نهيه.
إذاً: المقصود بعمارة المساجد: أن يطاع الله فيها، وتقام شعائر الدين، وينطلق منها الجهاد، أما المشركون فليسوا أهلاً لذلك، ولو قدر أنهم يبنونها، أو يقدمون نفعاً لمن يقصدها أو ما أشبه ذلك كما كانت قريش تفعل، فقد كانوا يسقون الحجيج، ويقدمون لهم الكسوة ويعملون في خدمتهم، ولذلك قالوا: إنهم أفضل من أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالآية نزلت لما افتخروا بذلك، وأخبر الله جل وعلا أن هذا لا يحصل منهم، وأنه ليس كما يقولون، وإنما عمارة المساجد تكون لمن آمن بالله واليوم الآخر، واتبع الرسول صلى الله عليه وسلم، وسواء كانت العمارة عمارة بالبناء وصيانة المساجد أو بالطاعة، فكلها مما يحبه الله ويأمر به، ولهذا جاء أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة)، يعني وإن كان صغيراً يبني الله جل وعلا له بيتاً في الجنة، ومعلوم أنه من شرط العمل أن يكون خالصاً لله، وأن يكون على وفق سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم كل عمل لابد له من هذين الشرطين حتى ينفع، أما إذا دخل في العمل إرادة الدنيا أو وجوه الناس أو غير ذلك فهو لا ينفع ولا يفيد عند الله.
فإذاً: العمارة تشمل عمارة المسجد بطاعة الله جل وعلا، وتشمل عمارته الفعلية بالبناء والصيانة، وهذه كلها من عمارة المساجد، وجاء في الحديث: (إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان)، أي: يتردد عليها لأداء العبادة لله جل وعلا فيها.
قال الشارح رحمه الله تعالى: [أخبر تعالى أن مساجد الله لا يعمرها إلا أهل الإيمان بالله واليوم الآخر، الذين آمنوا بقلوبهم، وعملوا بجوارحهم، وأخلصوا له الخشية دون من سواه، ثبت لهم عمارة المساجد بعد أن نفاها عن المشركين؛ لأن عمارة المساجد بالطاعة والعمل الصالح، والمشرك وإن عمل فعمله: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور:39]، أو {كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [إبراهيم:18]، وما كان كذلك فالعدم خير منه، فلا تكون المساجد عامرة إلا بالإيمان الذي معظمه التوحيد مع العمل الصالح الخالص من شوائب الشرك والبدع، وذلك كله داخل في مسمى الإيمان المطلق عند أهل السنة والجماعة].
إذا قيل: الإيمان المطلق فمعناه: الكامل، وإذا قيل مطلق الإيمان، فهو: الإيمان الناقص.
فالكمال المطلق للإيمان المطلق، بمعني أنه يشمل جميع فعل الواجبات والمستحبات، وترك جميع المحرمات مع المكروهات، وهذا هو الصواب عند أهل السنة: بأنه لابد من القول باللسان، ولابد من عقيدة القلب -أعني: علم القلب ومعرفته- ولابد من عمل الجوارح.
كل هذا من الإيمان، فالإيمان إذاً يكون مركباً من أمور ثلاثة: عمل اللسان الذي هو قول: (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، ولا يكون الإنسان مؤمناً إلا بهذا، هذا مبدأ الإيمان.
ثم لابد أن يعرف معنى هذه الكلمة، فيعتقد قلبه ما دلت عليه، ثم لابد أن ينبعث من القلب ما يدعوه إلى فعل الواجبات، من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والصوم وغير ذلك.
أما أن يأتي بقول: (لا إله إلا الله)، ثم لا يصلي، ولا يزكي، ولا يصوم ولا يفعل شيئاً من الواجبات؛ فهذا لا يكون مؤمناً؛ أو أنه قال بلسانه، وقلبه يعتقد خلاف ذلك؛ فهذا يكون منافقاً، والمنافق يكون في الدرك الأسفل من النار.
فمقصود الشرع في ذلك: أن يبين أن قول أهل البدع مثل قول المرجئة: إن الإيمان هو مجرد المعرفة، أو أنه قول اللسان فقط، باطل، أما الأول: فيلزم منه أن يكون الشيطان مؤمناً، لأن الشيطان يعلم ويعرف ربه، ولكنه كفر بعد المعرفة، فليست معرفة القلب كافية ولا نافعة إلا إذا وافق معرفة القلب العمل والقول، وأما الثاني: فيلزم منه إيمان المنافقين.
فإذاً: الأعمال من الإيمان، والأعمال يدخل فيها قول اللسان من الشهادة ومن الذكر والتلاوة والتسبيح والتكبير، وأعمال الجوارح وجميع الأعمال، وكلها إيمان، ولهذا يقول جل وعلا: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143]، والإيمان هنا المقصود به الصلاة التي صليت إلى الشام، لا يضيعها الله عليكم بل يجزيكم بها.
قال الشارح: [قوله: (ولم يخش إلا الله)، قال ابن عطية: يريد خشية التعظيم والعبادة والطاعة، ولا محالة أن الإنسان يخشى المحاذير الدنيوية، وينبغي أن يخشى في ذلك كله قضاء الله وتصريفه.
وقال ابن القيم رحمه الله: الخوف عبودية القلب؛ فلا يصلح إلا لله، كالذل والإنابة والمحبة والتوكل والرجاء وغيرها من عبودية القلب.
قوله: {فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة:18]، قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: (يقول: إن أولئك هم المهتدون، وكل (عسى) في القرآن فهي واجبة)].
السبب في هذا: أن (عسى) من أدوات الترجي، فعسى أن يكون كذا، يعني: يرجى أن يكون كذا، وهذا يكون لمن لا يعرف العواقب، أما رب العالمين جل وعلا فإنه لا يخفى عليه شيء، فإذا جاءت عسى في كلامه فمعناها أنها واقعة، ولهذا قالوا: عسى من الله واجبة، وعسى من الله حق، يعني إذا قال: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79]، فسوف يبعثه المقام المحمود، فهو خبر، وليست على بابها من الترجي؛ لأن الله جل وعلا يعلم ذلك ويخبر عما سيقع، إلا أن الكلام جاء على أسلوب العرب؛ لأنه بلغتهم، فخاطبهم بلغتهم التي يعرفونها، وقد علم المقصود.
فالله جل وعلا يعلم ما يكون، وأنه سوف يكون على كذا وكذا، ولا يمكن أن يتجاوز علمه شيء، ولهذا يخبرنا جل وعلا عن الشيء الذي لا يكون لو كان كيف يكون، كما قال جل وعلا عن الكفار الذين في النار، حينما يتمنون، أنهم يقولون: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا} [الأنعام:27]، يقولون هذا وهم في النار، ليتنا نرد إلى الدنيا فنؤمن بآيات ربنا وبرسله، ونتقي ونعمل العمل الصالح، فماذا قال الله جل وعلا؟ قال: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام:28]، وهذا لن يحصل، ولكن لو قدر أنه يحصل فسوف يكونون على كفرهم السابق، فالله جل وعلا لا يخفى عليه شيء، ولهذا السبب قالوا: إن (عسى) من الله واجبة.
قال الشارح: [وفي الحديث: (إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد، فاشهدوا له بالإيمان، قال الله تعالى: ((إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ)) [التوبة:18])، رواه أحمد والترمذي والحاكم عن أبي سعيد الخدري].(88/11)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [89]
هناك أناس ادعوا الإيمان بألسنتهم، ولم يثبت في قلوبهم، إذا جاءتهم محنة وفتنة في الدنيا، كأن يؤذوا في الله، جعلوا ما جاءهم من أذى وفتنة كعذاب الله، فانتكسوا وارتدوا على أعقابهم.
وهؤلاء هم الذين يرضون الناس بسخط الله، ويحمدون الناس على رزق الله، ويذمونهم على ما لم يؤتهم الله.
والذي دعاهم إلى ذلك عدم خوفهم من الله وإخلاصهم له في ذلك.(89/1)
فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله
قال المصنف رحمه الله تعالى: وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:10]].
هذه الآية يخبر الله جل وعلا فيها: أن الناس إذا جاءهم رسول انقسموا إلى قسمين: قسم يقول: آمنا، وقسم يقول: كفرنا، والذي يقول: كفرنا ليس بمعجز لله جل وعلا، بل سوف يأخذه ويعذبه، وهو هين عند الله لا يساوي شيئاً، والذين قالوا: آمنا، لابد من ابتلائهم واختبارهم، كما قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2]، والفتنة المقصود بها هنا: الاختبار والامتحان، والاختبار يكون بالأوامر والنواهي، ويكون كذلك بمعاداة أكثر الناس وله؛ القريب منهم والبعيد، ومثل هذا يكون صعباً على النفوس.
وهذا هو الامتحان والابتلاء، فمن الناس من يصبر ويتحمل الأذى في هذا السبيل ولا يبالي، يؤذونه ويعيرونه ويتخذون معه كل طرق الصد، فيزداد بذلك قوة وإيماناً وعزة ويقيناً، ومنهم من ينتكس ويجعل أذية الناس وعذابهم كعذاب الله، ويستعجل العافية ويقول: ما لي ولمعاداة الناس، وتحمل عذابهم، ومقابلتهم بالقتال وبالأمر والنهي، آمرهم وأنهاهم وهم يتسلطون علي بالأذى وبالمحاربة وبغير ذلك، فينتكس، فيكون مستعجلاً للعذاب العاجل ومستأجلاً للعذاب الآجل.
قال الشارح رحمه الله تعالى: [قال ابن كثير رحمه الله تعالى: يقول تعالى مخبراً عن صفات قوم من المكذبين الذين يدعون الإيمان بألسنتهم ولم يثبت في قلوبهم: إنهم إذا جاءتهم محنة وفتنة في الدنيا اعتقدوا أنها من نقمة الله بهم؛ فارتدوا عن الإسلام، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (يعني: فتنته أن يرتد عن دينه إذا أوذي في الله).
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: الناس إذا أرسل إليهم الرسل بين أمرين: إما أن يقول أحدهم: آمنا، وإما أن لا يقول ذلك بل يستمر على السيئات والكفر، فمن قال: آمنا امتحنه ربه وابتلاه وفتنه، والفتنة: الابتلاء والاختبار ليتبين الصادق من الكاذب، ومن لم يقل: آمنا؛ فلا يحسب أنه يعجز الله ويفوته ويسبقه.
فمن آمن بالرسل وأطاعهم عاداه أعداؤهم وآذوه، وابتلي بما يؤلمه، ومن لم يؤمن بهم ولم يطعهم عوقب في الدنيا والآخرة وحصل له ما يؤلمه، وكان هذا الألم أعظم وأدوم من ألم أتباعهم، فلابد من حصول الألم لكل نفس آمنت، أو رغبت عن الإيمان، لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا ابتداء، ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة، والمعرض عن الإيمان تحصل له اللذة ابتداء، ثم يصير في الألم الدائم، والإنسان لابد أن يعيش مع الناس، والناس لهم إرادات وتصورات؛ فيطلبون منه أن يوافقهم عليها، وإن لم يوافقهم آذوه وعذبوه، وإن وافقهم حصل له العذاب تارة منهم وتارة من غيرهم، كمن عنده دين وتقىً حلَّ بين قوم فجار ظلمة لا يتمكنون من فجورهم وظلمهم إلا بموافقته لهم أو سكوته عنهم، فإن وافقهم أو سكت عنهم سلم من شرهم في الابتداء، ثم يتسلطون عليه بالإهانة والأذى أضعاف ما كان يخافه ابتداء لو أنكر عليهم وخالفهم، وإن سلم منهم فلابد أن يهان ويعاقب على يد غيرهم.
فالحزم كل الحزم بما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لـ معاوية رضي الله عنه: (من أرضى الله بسخط الناس كفاه الله مئونة الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئاً)؛ فمن هداه الله وألهمه رشده، ووقاه شر نفسه، امتنع من الموافقة على فعل المحرم وصبر على عداوتهم، ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة كما كانت للرسل وأتباعهم.
ثم أخبر تعالى عن حال الداخل في الإيمان بلا بصيرة: أنه إذا أوذي في الله جعل فتنة الناس له، وهي أذاهم ونيلهم إياه بالمكروه، وهو الألم الذي لابد أن ينال الرسل وأتباعهم ممن خالفهم جعل ذلك -في فراره منه وتركه السبب الذي يناله به- كعذاب الله الذي فر منه المؤمنون بالإيمان.
فالمؤمنون لكمال بصيرتهم فروا من ألم عذاب الله إلى الإيمان، وتحملوا ما فيه من الألم الزائل المفارق عن قرب، وهذا لضعف بصيرته، فر من ألم أعداء الرسل إلى موافقتهم ومتابعتهم، ففر من ألم عذابهم إلى ألم عذاب الله، فجعل ألم فتنة الناس في الفرار منه بمنزلة عذاب الله، وغبن كل الغبن إذ استجار من الرمضاء بالنار، وفر من ألم ساعة إلى ألم الأبد، وإذا نصر الله جنده وأولياءه قال: إني كنت معكم والله أعلم بما انطوى عليه صدره من النفاق.
انتهى].(89/2)
اختبار الله لعباده بالابتلاءات الدنيوية
من المعلوم أن هذه الدنيا دار ابتلاء واختبار، وعمل، وليست دار نعيم وبقاء، وجعلها الله جل وعلا مزرعة للآخرة، فمن قدم فيها خيراً وصبر وصابر، وتعلق بربه جل وعلا، ودافع بذلك كل ما يرد عليه من موارد الشيطان وأعوانه، فإن الله جل وعلا يجعل له عوناً من نفسه ومن غير نفسه على ذلك، ثم ما هي إلا فترة بسيطة وينتهي وينسى كل ما مر عليه.
ولا يتصور الإنسان أن هذه الدنيا سالمة من كل أذى لابد أن يحصل الأذى لكل أحد في هذه الدار، سواء كان من المؤمنين أو من الكافرين الفاجرين، ثم في النهاية يموت، ولكن الله جل وعلا وضع في الإنسان عقلاً وفكراً، وجعل له إرادة وقوة، ثم بين له جل وعلا الأمر الذي يلزمه، والأمر الذي يجب أن يمتنع عنه، وجعل لذلك أسبابه وعلاماته، فللصبر أسباب وللجزع أسباب، وللإيمان أسباب وللكفر أسباب، وكلها يقدم عليها الإنسان وهو راضٍ بها وعارف، فيصبح اللوم عليه؛ لأنه يفعل ذلك بإرادته وقوته.
ومعلوم أن الله جل وعلا خلق الخلق ليعبدوه، وعبادته هي امتثال أمره ونهيه، وكثيراً ما يكون أمر الله جل وعلا ثقيلاً وشاقاً على كثير من نفوس الناس، فإذا جاءه أمر الله استثقله.
ثم هناك مثبطات من شياطين الجن والإنس، أما شياطين الجن: فيتعرضون لك بكل ما يستطيعون حتى لا يفعل أمر الله، وذلك إما بالوسوسة أو بالوعد والوعيد أو بالتمني أو بالتزيين أو بغير ذلك.
أما إن كان من شياطين الإنس: فهو أنكى وأشد وذلك يقع إما بالفعل، وإما بالقول والتهديد، وإما بالسخرية والاستهزاء، أو بغير ذلك كما هو واقع الناس اليوم، فإن كان نظره قصيراً وبصيرته عمياء؛ فإنه لا يستطيع أن يمضي في أمر الله جل وعلا، ولاسيما إذا كان إيمانه ضعيفاً، فلابد من أن يتعثر، فإما أن ينتكس نهائياً ويصبح مع عدوه، أو يصبح موافقاً له في الظاهر، ونفسه تطالبه أن يفعل أمر الله جل وعلا ويجتنب نهيه.
وهذا قد ينجو وقد يعاقب قد ينجو في النهاية إذا من الله عليه بالتوبة والرجوع إليه، وقد يهلك مع الهالكين إذا لم تتداركه عناية الله؛ فإن المؤمن لابد أن يتميز بطاعة الله جل وعلا وطاعة رسوله.
فهذه من الأمور التي لا ينفك عنها الناس، بل قد يبتلى حتى من أهله وأولاده وأقاربه فضلاً عن البعيدين، بل قد يصاب في نفسه: إما بمرض أو بفقر، أو بمصائب تكون في ماله أو أهله أو ولده أو غير ذلك، لابد من البلوى فينظر الله هل يصبر، أو ينتكس ولا يصبر؟ وكثيراً ما نسمع من بعض الذين أصيبوا بمرض أو بغير ذلك تضجرهم وتوجعهم، ولو أمكنهم لصرحوا بالشكوى من الله أنه ظلمهم، ولهذا تجد أحدهم يقول: أنا لا أدري ماذا صنعت؟ أنا أصلي، وهذه المصيبة لا أدري من أين جاءتني؟ فكأنه يقول: إني أصبت بشيء لا أستحقه.
وهذه من البلوى التي يصاب بها كثير من الناس، لينظر الله هل يصبر؟ هل يعلم أن كل ما أصابه فبذنب اقترفه؟! وأن الله لطيف رحيم بر جواد؟ وأنه إذا صبر عبده على ما أصابه به -سواء كان في نفسه أو من الناس- أنه يعينه على ذلك ويثيبه؟ فإنه جل وعلا يوفي الصابرين أجرهم بغير حساب.(89/3)
عاقبة الصابرين
لم يذكر الله جل وعلا في الصبر أن الحسنة فيه بعشر أمثالها أو بسبعمائة ضعف، لا، بل أخبر أنه يوفي الصابر أجره بغير حساب، بدون تضعيف في الأجر أو أن أجره ينتهي إلى عدد معين، وذلك لما يواجهه الصابر من البلاء والامتحان والفتن، ولا يطيق ذلك إلا من تمحص إيمانه وأيقن بربه جل وعلا، وأصبحت لا تؤثر عليه المصائب التي دون دينه، فكل مصيبة دون الدين يرى أنها ليست بشيء، وأنها سوف تنتهي وتضمحل.
ولا شك أن الأمر سريع جداً، فإذا قدر أن إنساناً اتبع أمر الله واجتنب نهيه على مضض ومرارة وآلام ومقاساة، وإنسان آخر ارتكب مناهي الله ولم يمتثل أمره، وصار يمرح ويفعل ما يريد وما يشاء، فإن أمر هذا وأمر هذا سوف ينتهي سريعاً كأن لم يكن شيء من ذلك، ثم العاقبة بعد ذلك أن هذا يكون في نعيم لا نهاية له، وهذا في عذاب لا انقطاع له، ويصبح الشيء الذي مر نسياً كأن لم يكن، فيكون هذا الذي ارتكب المناهي هو المغبون الذي باع نفسه، وخسر كل الخسران.
والآخر صبر ساعة وانتهت كأن لم تكن، فحمد عقبى صبره، ولقي رضى ربه، وفاز بثوابه الذي لا انقطاع له، وعن هذا المعنى يعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله صلى الله عليه وسلم: (يؤتى يوم القيامة بأشد الناس نعيماً في الدنيا من أهل الكفر؛ فيغمس في النار غمسة، ثم يقال له: يا ابن آدم! هل مر بك نعيم قط؟ هل رأيت خيراً قط؟ فيقول: لا والله ما مر بي نعيم قط ولا رأيت خيراً قط، ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الإيمان، ويغمس في الجنة غمسة، ثم يقال له: يا ابن آدم! هل مر بك شدة قط؟ هل رأيت بؤساً قط؟ فيقول: لا والله ما رأيت شدة قط، ولا مر بي بؤس قط).
وهل الحلف هنا من هذين الرجلين على أنه ما مر بهم شيء كذب؟ لا، لأن الأمر بالنسبة لهم نسي نهائياً، وأصبح في طي النسيان، فهم يحلفون على شيء اعتقدوا أنه صحيح وواقع؛ لأنه كحلم المنام فقط، وقد يمر عليك حلم في منامك فتنساه، فهذا مثله، نسوه نهائياً، وأصبح وكأنه ليس له وجود.
لهذا المعنى أيضاً يقول صلى الله عليه وسلم: (ما الدنيا في الآخرة إلا مثل أن يدخل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر ماذا يرجع عليه؟)، إذا أدخلت أصبعك في البحر ثم رفعته، ماذا ينقص من البحر؟ أو بماذا يأتي أصبعك؟ بلا شيء، يأتي ببلل ينتهي سريعاً، والدنيا هكذا بالنسبة للآخرة.(89/4)
الصبر على مكدرات الدنيا وأذية أهلها
هذه الدنيا طبعت على المكدرات والآلام، وخلقت للابتلاء بتلك المكدرات والآلام، فإن كان المبتلى مؤمناً وصبر؛ فإنه سوف يلقى الجزاء على ذلك، ويصبح صبره حلواً، والآلام التي مرت به يستلذها؛ لأنها وقعت في طاعة الله ومرضاته.
أما الآخر فبالعكس: الآلام التي تستقبله بالنسبة لما مضى لا يمكن أن تنسب، لا نقول: حر مثل حر الشمس بالنسبة إلى حر جهنم، فجهنم أشد وأعظم؛ لأن الأولى عبارة عن ساعات نسيت، بعكس الأخيرة.
فإذاً الحزم أن يعزم الإنسان على طاعة ربه في هذه الدنيا، ولا يلتفت إلى المؤذيات والمنكدات، سواء من الناس أو من الأقدار التي يقدرها الله عليه أو غير ذلك، وليعلم أن كل ما يصيبه فإنه بسبب معاصيه، والله جل وعلا جعل بحكمته العداء بين أهل الحق وأهل الباطل منذ أبى الشيطان أن يسجد لأبينا آدم، فمن ذلك الوقت والحرب قائمة بين الحق والباطل، ولكل منهما جنود وأنصار، والله يبلو بعضهم ببعض، فأحياناً تظهر بارزة وأحياناً تكون في النفس، من الأمور التي يقدرها حتى يظهر ما لدى الإنسان، ومعلوم أن الله جل وعلا علام الغيوب لا يخفى عليه شيء، يعلم الشيء الذي سوف يكون أنه يكون كذا وكذا، كما جاء في الحديث الصحيح: أنه يقال للكافر وهو في النار: (أرأيت لو كانت لك الدنيا بما فيها أكنت مفتدياً هذا العذاب؟ فيقول: نعم وأكثر من ذلك، فيقول الله جل وعلا: أردت منك ما هو أقل من هذا، أردت منك ألا تشرك بي وأنت في صلب أبيك آدم، فأبيت إلا الكفر والشرك)، ومعنى هذا: أن الله علم ما سيفعله هذا المخلوق قبل وجوده، وأنه سيأبى الإيمان، وأنه سيكفر إذا وجد، فكتب الله جل وعلا ذلك قبل أن يوجد الناس وهم في أصلاب آبائهم، كتب ذلك وعلمه، والله جل وعلا لا يؤاخذ على كتابته وعلمه، فلابد أن يظهر العمل بارزاً مشاهداً فيعذر من الخلق، ولهذا أرسل الرسل، وأنزل الكتب حتى تقوم الحجة على الناس.
والمقصود: أن الحرب قائمة بين الحق والباطل، ولكل واحد منهما أنصار وجنود، فعلى العبد أن يجتهد كل الاجتهاد أن يكون من أنصار الحق وأعوانه، وألا يتأثر بالباطل ودعاياته، وقد يصيبه أذى من أهله، فإن تأثر من ذلك فإنه سوف يكون على حساب نفسه، إما أن ينتكس معهم ويصبح من أهل العذاب، أو يكون ضعيف الإيمان وقد نال منه العدو ما نال؛ فينقص من درجته يوم القيامة ومن ثوابه على أقل تقدير، وقد يناله عذاب في الدنيا وعذاب في القبر وعذاب يوم القيامة حتى يطهر لكونه لم يجاهد في الله، والجهاد أنواع: منها جهاد الشيطان، وجهاد العدو الخارجي، وجهاد النفس، وهذه هي التي يجب أن يصبر الإنسان فيها ويصابر ويثابر، ولا يتعجل الأمر فهو قريب، وهو أمر عام لكل أحد.
أما ما ذكر في الآية فهو أخص من هذا؛ فالله جل وعلا ذكر أنه إذا أرسل رسولاً إلى الناس فمنهم من يقول: آمنا بألسنتهم، ثم إذا وقع لهم أذى من حروب أو خوف، أو أصيبوا بمصائب في أنفسهم إذا هم ينتكسون ويرجعون، ويقولون: هذه كلها بأسباب هذا الدين، ما لنا وله، ثم يتركونه، وهذا معنى كونهم جعلوا فتنة الناس كعذاب الله، يعني: أنهم توقوا ما يصيبهم من أذى الناس بترك الإيمان، ووافقوهم على مطلوبهم وما يريدون؛ حتى يسلموا من أذيتهم، تصوروا أن هذا فيه السلامة، فتجد أحدهم يلاقي المؤمنين مخبراً لهم بأنه معهم بلسانه، وهو كاذب في قرارة نفسه، فإذا خلا بالمنافقين أصحابه أو بالكافرين صار يضحك معهم ويسخر، ويقول: أنا أستهزئ بأولئك وأوافقهم لآتيكم بأخبارهم، وإلا فأنا معكم قلباً وقالباً، فهذا وأمثاله الذين ذكرهم الله في الآية، ولهذا قال مجاهد وابن عباس: إنه يترك دينه، والمعنى: أنه يترك دينه لأجل الخوف مما يصيبه من أذى الناس، ويتركه موافقة لهم؛ لأنهم لابد أن يحاربوه.
ثم بعد ذلك ماذا يكون؟ تنتهي الأمور، وتكون العاقبة -ولابد- للمتقين للصابرين الذين صبروا على الأذى، وتحملوا ذلك في طاعة الله جل وعلا، كما أخبر الله جل وعلا في كتابه أن هذه عاقبة المؤمنين دائماً، وأن العاقبة للتقوى، وأن عباد الله هم الذين تكون لهم عقبى الدار، لكن المنافق إذا جاءت النتائج صار يتأسف على مامضى، أو صار يأتي إلى المؤمنين ويقول: أنا كنت معكم -يعني في الظاهر- هذا إذا حصل لهم من المغنم ومن أمور الدنيا جاء إليهم، يقول ذلك حتى يصيب ما يصيب من أمور الدنيا، وإلا فهو في الحقيقة ليس معهم.
والمقصود: أنه تعجل دفع أذية الخلق، ولم يبال بعذاب الله جل وعلا؛ إما لأنه كان مستبعداً له ويقول: هذا بعيد، والحياة طويلة، ولا يمكن أن تتغير الأحوال، أو أنه يكذب به نهائياً ولا يؤمن به، فإذا كان لا يؤمن به، فهذا معناه أنه لا يرجى له خير أبداً.
أما إذا كان يستبعده، فهناك أمل ضعيف أنه يتوب ويستدرك، والغالب أنه لا يتوب؛ لأن الذنوب بعضها يجر بعضاً، وتتراكم على القلب، ثم يأتي الران الذي يغطي القلوب، ثم ينتكس القلب، ويشرب حب المعاصي وكراهية الطاعة، فيصبح هالكاً مستحكماً هلاكه، والغالب أنه يكون بهذه المثابة، ولا يسلم وسوف ينتهي، وربما انقلبت عليه الأمور التي يقدرها وينظر إليها، فيصيبه العذاب من حيث لا يحتسب.
والمقصود: أن الإنسان في هذه الحياة لابد أن يختبر ويمتحن، وعند الاختبار والامتحان يكرم المرء أو يهان إما أن تظهر كرامته أو يظهر هوانه؛ لأن هذا نتيجة عمله فهو يجزى بالعمل، وهذا شيء لابد منه للخلق كلهم في هذه الحياة، والابتلاء والامتحان يكون -كما مر- بأمر الله جل وعلا ونهيه، فمن أطاع أمر الله واتبعه وحرص على ذلك -وإن خالفه القريب والبعيد- فإنه سوف يكون في طمأنينة في نفسه، وإن أوذي واشتد أذاه، ففي مستقبله سوف يكون في غاية السعادة.
أما إن كان على العكس من ذلك فإنه لا يعجز الله، وسوف يأخذه في الدنيا، ثم مصيره إلى عذاب الله، هذه هي حقيقة الأمر للناس كلهم، وقد يعافى الإنسان -ولكن هذا قليل- من الابتلاء في الدين، أو من أذية الناس، وتبقى مصائب الدنيا ومحن القدر التي ليس منها مفر، ولا يسلم منها أحد، فينظر الله هل يصبر على هذه الأقدار والمصائب أم يعترض ويتضجر؟ وبهذا الامتحان يتخلص المؤمنون وتيطهروا من كل أدناس الذنوب والعيوب، إلا أن مصائب الدين أعظم وأشد وأنكى من مصائب النفس والمال والولد.(89/5)
الرد على المرجئة والكلابية في حقيقة الإيمان
قال الشارح رحمه الله: [وفي الآية رد على المرجئة والكرامية، ووجهه: أنه لم ينفع هؤلاء قولهم: آمنا بالله.
مع عدم صبرهم على أذى من عاداهم في الله، فلا ينفع القول والتصديق بدون العمل، فلا يصدق الإيمان الشرعي على الإنسان إلا باجتماع الثلاثة: التصديق بالقلب وعمله، والقول باللسان، والعمل بالأركان.
وهذا قول أهل السنة والجماعة سلفاً وخلفاً، والله سبحانه وتعالى أعلم].
الكرامية والكلابية من الطوائف القديمة، أما الكرامية فنسبة لـ ابن كرام، والكلابية نسبة لـ أبي سعيد عبد الله بن محمد بن سعيد بن كلاب، وكلاهما من الذين قاموا على أهل البدع من المعتزلة وغيرهم، ولكن المشكلة أنهم ردوا عليهم ببدع مثل بدعهم فأخطئوا، وإن كانوا أقرب إلى أهل السنة من أولئك.
إلا أن مذهب الكلابية لا يزال موجوداً وهو مذهب الأشاعرة اليوم؛ فمذهب الكلابية أصل مذهب الأشاعرة، والمقصود بالرد: أن الإيمان عند أهل السنة مركب من أمور ثلاثة: من عمل محله القلب، ومن قول يكون باللسان، ومن عمل يكون بالجوارح، وإذا تخلف شيء من ذلك فالإيمان متخلف غير موجود.
فالقول المقصود به قول: (لا إله إلا الله)، وهذا مما لابد منه، فإن الإنسان لو اعتقد في قرارة نفسه، جازماً بصحة الإسلام، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنه لم ينطق بالشهادتين؛ فإنه يكون كافراً بإجماع العلماء، لابد من النطق بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: (لا إله إلا الله)).
ثم مجرد القول لا يكفي، فلابد أن يعرف معنى هذا القول ويعتقد صحته، لأنه لو كان مجرد القول كاف لما كان الكفار والمشركون الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم متوقفين عن هذا القول أن يقولوه، ويبقوا على دينهم، ولكنهم علموا أن المقصود بالقول المعنى، وأن هذا القول يبطل كل شرك كائن.
ولأنهم يعرفون حقيقة الألفاظ، قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص:5] لما قال لهم قولوا: لا إله إلا الله، فهم عرفوا أنه جعل التعلق كله لله، والآلهة كلها باطلة فأبوا أن يقولوا هذا القول، أما لو كان مجرد قول باللسان فقط مع بقائهم على دينهم لسارعوا إلى ذلك ولم يترددوا، وقد عرضوا على الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يعبد آلهتهم يوماً وهم يعبدون الله يوماً، فأمره الله جل وعلا أن يتبرأ من ذلك، وقال: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون:1 - 3] إلى آخرها.
الأمر الثالث: العمل، فإذا قال واعتقد صحة القول لكنه لا يصلي ولا يزكي ولا يصوم ولا يحج، ولا يعمل الأعمال التي أمر بها، فهذا لا ينفعه قوله وعقيدته، فلابد من اجتماع هذه الأمور الثلاثة، هذا قول أهل السنة.
أما هؤلاء الذين ذكرهم فعندهم أن القول والتصديق بالقلب كاف، وهذا رد لكتاب الله جل وعلا ولما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وكثيراً ما كان الله يقرن العمل بالإيمان في كتابه، كقوله تعالى: (الذين آمنوا وعملوا الصالحات)، مما يدل على أن مجرد الإيمان بلا عمل لا يمكن، وإنما هذا تقدير يقدرونه في أذهانهم، أما إن وجد الإيمان الحقيقي في القلب فلابد أن يبعث على العمل.
ومن هنا علم أن الإيمان مركب من أمور ثلاثة: من القول الاعتقاد، ومن الأعمال، وهي الفروض التي فرضها الله جل وعلا، وهذا هو الحق، الذي تدل عليه الآيات الكثيرة، وجاء كلام الشارح هذا عرضاً واستطراداً.
قال الشارح: [وفيه الخوف من مداهنة الخلق في الحق، والمعصوم من عصمه الله تعالى].
المداهنة معناها: أن يوافقهم على باطلهم وهو يعتقد بطلان ذلك، ولا ينكر عليهم ولا يتبرأ من فعلهم، وهو كاره لذلك مبغض له في حقيقة الأمر، ولكنه وافقهم في الظاهر، فهذه مداهنة، والمداهنة لا تكون إلا لخائف أو لضعيف، فإذا كان ضعيفاً أو خائفاً داهن، والحق لا يجوز أن يكون فيه مداهنة؛ لأن أمر الله جل وعلا أولى بالطاعة والامتثال، وخوف الناس لا يجوز أن يسيطر على الإنسان، لا يجوز للإنسان أن يجعل خوف الناس أكثر من خوف الله جل وعلا، فإنه إذا كان بهذه المثابة فهو ضعيف الإيمان وقد يقع في الشرك؛ لأن تقديم خوف الناس على خوف الله من أنواع الشرك.(89/6)
شرح حديث: (إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله)
[قال المصنف رحمه الله تعالى: وعن أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعاً: (إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله، وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله؛ إن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره)].
هذا الحديث ضعيف؛ لأنه من رواية محمد بن مروان السدي الصغير، وكذلك من رواية عطية العوفي، وكلاهما متروك، ومثل هذا -إذا كان بمثل هذا السند- متفق على ضعفه، ولكن هذا الحديث معناه صحيح وثابت في نصوص أخرى، ولهذا ذكره، أما لو كان المقصود به الاعتماد عليه، فإنه لا ينبغي له أن يذكره؛ لأن مثل هذا لا ينبغي أنه يذكر، وإنما ذكره لأجل المعنى الصحيح فقط.
ومعنى هذا الحديث واضح وجلي: وهو أن رزق الله لا يجلبه حرص حريص ولا يرده كراهة كاره، فإذا قدر الله لك شيء، فعملك الذي تعمله وتحرص عليه لم يؤد إلى زيادة شيء لم يكتبه الله لك.
وكذلك كراهة الناس بأن يمنعوك مما كتب الله لك هذا لا يمكن، وهذا المعنى هو الذي جاء به حديث ابن عباس: (واعلم أن الخلق لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يستطيعوا ذلك، وأن الخلق لو اجتمعوا كلهم على أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لك لم يستطيعوا ذلك، جفت الأقلام وطويت الصحف بما هو كائن إلى يوم القيامة)، رواه الترمذي وغيره، وهذا معنى هذا الحديث، فمن ضعف اليقين أن يرضي الإنسان الناس بسخط الله، واليقين المقصود به غاية الإيمان؛ لأن اليقين أعم من مجرد التصديق.
فإذا أصبح يطلب رضى الناس بسخط الله، فمعنى ذلك أن إيمانه إما أن يكون ناقصاً أو معدوماً، وعلى العكس: إذا كان الإنسان يرضي الله بسخط الناس فإن هذا دليل على قوة إيمانه وأن عنده يقين؛ لأنه خاف الله ولم يخف الناس، وطلب رضى الله ولم يبال بسخط الناس، فالعكس بالعكس تماماً.
ثم أخبر أن الرزق لا تجلبه الأسباب الظاهرة إذا لم يرده الله؛ لأن الله هو مسبب الأسباب، وهو الذي رتب المسببات على السبب، ولو شاء لعطل ذلك ومنعه، وليس معنى هذا أن الإنسان يترك السبب، كلا، فالسبب يفعل؛ لأن ترك السبب قدح في الشرع.
والله أمر بفعل الأسباب، ولكن لا يجوز الاعتماد عليها، فإن الاعتماد عليها شرك بالله جل وعلا، وتعطيلها قدح في العقل والشرع، وكل شيء جعله الله سبباً ينبغي أن يفعله العبد، معتمداً على الله جل وعلا في حصول المراد، فإن حصل له المراد حمد الله وأثنى عليه، وعبده بهذه النعمة التي حصلت له، وازداد إيماناً على إيمانه، وإن لم يحصل له المطلوب فلا يعود على ذم الناس، وكأنه لا يعلم أن هذا بتدبير الله، وأنه لو أراد جل وعلا لصار، فلا ينبغي أن ينظر إلى السبب على أنه هو المؤثر الجالب أو المانع، بل المؤثر هو الله جل وعلا، الذي قدر الأقدار وجعل لها أسباباً وموانع.
وعليه؛ إذا حصل له على يد أحد من الناس رزقاً فلا يشكر هذا الإنسان كالذي يعبده، بل يشكر الله جل وعلا، ويعلم أن ذلك من الله، وليس معنى ذلك أنه أيضاً ينسى الفضل الذي يرتبه الله جل وعلا على بعض أيدي عباده، فقد جاء في الحديث: (من لا يشكر الناس لا يشكر الله)، وجاء فيه أيضاً: (ومن صنع إليكم معروفاً فكافئوه)، ومن المعلوم أن الإنسان لا يصنع المعروف بقوته وخلقه وإيجاده وإنما يكون سبباً، والمكافئة إما بإعطائه، وإما بالدعاء له، أما أن يجعل قلبه متعلقاً به فيعطيه ما يعطي الله، فهذا حرام، وهو من الشرك الذي لا يجوز.
هذا هو معنى هذا الحديث، وكما سبق أن ألمحنا أن هذا الحديث في ذاته لا يعتمد عليه في إثبات حكم أو نفيه، وإنما جاء به المصنف لأن معناه وافق نصوصاً أخرى.
قال الشارح رحمه الله تعالى: [هذا الحديث رواه أبو نعيم في الحلية، والبيهقي وأعله بـ محمد بن مروان السدي، وقال: ضعيف، وفي إسناده أيضاً عطية العوفي ذكره الذهبي في الضعفاء والمتروكين، وموسى بن بلال، قال الأزدي: ساقط، ومعنى الحديث صحيح، وتمامه: (وإن الله بحكمته جعل الروح والفرح في الرضى واليقين، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط)].
هذه الجملة الأخيرة يظهر أنها حديث آخر، ولهذا ذكره البخاري معلقاً في بعض تراجم صحيحه، وذكر الحافظ أن هذه الجملة الأخيرة رواها الطبراني في المعجم، وأن سندها حسن، فيظهر أن هذا أيضاً حديث آخر، وإن كان ذاك من تمامه، فهذا من معنى قوله: إن معناه صحيح، يعني: أنه وافق نصوصاً أخرى في المعنى.
قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله: (إن من ضعف اليقين)، الضعف: يضم ويحرك ضد القوة، ضعف ككرم ونصر، ضعفاً، وضعفة، وضعافية، فهو ضعيف وضعوف وضعفان، والجمع: ضعاف وضعفاء وضعفة وضَعْفى وضعَفى أو الضعف -بالفتح- في الرأي، وبالضم في البدن فهي ضعيفة وضعوف.
و (اليقين) المراد به كمال الإيمان، كما قال ابن مسعود: (اليقين الإيمان كله، والصبر نصف الإيمان)، رواه الطبراني بسند صحيح وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في الزهد من حديثه مرفوعاً].
يعني أن اليقين: الإيمان الكامل، هذا معناه، وإذا كان كذلك فإنه إذا وقع لإنسان ما يضعف يقينه فليس هذا دليل على أنه ليس عنده إيمان، ولكن دليل على أن إيمانه ضعيف.
قال الشارح: قال: ويدخل في ذلك تحقيق الإيمان بالقدر السابق، كما في حديث ابن عباس مرفوعاً: (فإن استطعت أن تعمل بالرضى في اليقين فافعل، فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً)، وفي رواية: (قلت: يا رسول الله! كيف أصنع باليقين؟ قال: أن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك).(89/7)
معنى قوله: أن تحمدهم على رزق الله وأن تذمهم على ما لم يؤتك
قوله: (أن ترضي الناس بسخط الله) أي: تؤثر رضاهم على رضى الله؛ وذلك إذا لم يقم بقلبه من إعظام الله وإجلاله وهيبته، ما يمنعه من استجلاب رضى المخلوق بما يجلب له سخط خالقه وربه ومليكه، الذي يتصرف في القلوب، ويفرج الكروب، ويغفر الذنوب، وبهذا الاعتبار يدخل في نوع من الشرك؛ لأنه آثر رضى المخلوق على رضى الله، وتقرب إليه بما يسخط الله، ولا يسلم من هذا إلا من سلمه الله، ووفقه لمعرفته، ومعرفة ما يجوز على الله من إثبات صفاته على ما يليق بجلاله، وتنزيهه تعالى عن كل ما ينافي كماله، ومعرفة توحيده في ربوبيته وإلهيته، وبالله التوفيق.
قوله: (وأن تحمدهم على رزق الله) أي: على ما وصل إليك من أيديهم، بأن تضيفه إليهم وتحمدهم عليه، فإن المتفضل في الحقيقة هو الله وحده، الذي قدره لك وأوصله إليك، وإذا أراد أمراً قيض له أسباباً، ولا ينافي هذا حديث: (من لا يشكر الناس لا يشكر الله)؛ لأن شكرهم إنما هو بالدعاء لهم، لكون الله ساقه على أيديهم، فتدعو لهم أو تكافئهم، وفي الحديث: (من صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه) فإضافة الصنيعة إليهم؛ لكونهم صاروا سبباً في إيصال المعروف إليك، والذي قدره وساقه هو الله وحده.
قوله: (وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله)؛ لأنه لم يقدر لك ما طلبته على أيديهم، فلو قدره لك لساقته المقادير إليك، فمن علم أن المتفرد بالعطاء والمنع هو الله وحده، وأنه هو الذي يرزق العبد بسبب وبلا سبب ومن حيث لا يحتسب، لم يمدح مخلوقاً على رزق، ولم يذمه على منع، ويفوض أمره إلى الله، ويعتمد عليه في أمور دينه ودنياه، وقد قرر النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى بقوله في الحديث: (إن رزق الله لا يجره حرص حريص ولا يرده كراهية كاره)، كما قال تعالى: {مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [فاطر:2].
قال شيخ الإسلام رحمه الله: اليقين يتضمن اليقين في القيام بأمر الله وما وعد الله أهل طاعته، ويتضمن اليقين بقدر الله وخلقه وتدبيره، فإذا أرضيتهم بسخط الله لم تكن موقناً لا بوعده ولا برزقه، فإنه إنما يحمل الإنسان على ذلك: إما ميل إلى ما في أيدي الناس، فيترك القيام فيهم بأمر الله لما يرجوه منهم، وإما ضعف تصديقه بما وعد الله أهل طاعته، من النصر والتأييد والثواب في الدنيا والآخرة، فإنك إذا أرضيت الله نصرك ورزقك وكفاك مئونتهم، وإرضاؤهم بما يسخطه إنما يكون خوفاً منهم ورجاءً لهم، وذلك من ضعف اليقين، وإذا لم يقدر لك ما تظن أنهم يفعلونه معك فالأمر في ذلك إلى الله لا لهم، فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فإذا ذممتهم على ما لم يقدر كان ذلك من ضعف يقينك، فلا تخفهم ولا ترجهم ولا تذمهم من جهة نفسك وهواك، ولكن من حمده الله ورسوله منهم فهو المحمود، ومن ذمه الله ورسوله منهم فهو المذموم، ولما قال بعض وفد بني تميم: (أي محمد! أعطني، فإن حمدي زين وذمي شين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ذاك الله).
ودل الحديث على أن الإيمان يزيد وينقص، وأن الأعمال من مسمى الإيمان].(89/8)
حقيقة العبودية أن ترضي الله دون النظر إلى الناس
قال المصنف رحمه الله تعالى: وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من التمس رضى الله بسخط الناس، رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضى الناس بسخط الله، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس)، رواه ابن حبان في صحيحه].
روي هذا الخبر عن عائشة مرفوعاً، وروي موقوفاً، ومعناه واضح وهو: أن العبد يجب أن يكون عبداً لله جل وعلا، فإذا كان عبداً لله حقيقة فلا يبالي بسخط الناس، وإنما يكون همه رضى الله، فإن وافق رضى الله مراد الناس وتصورهم فإنه يمضي به، وإن خالفه فلا يبالي بذلك، بل يتقرب إلى الله جل وعلا بأن يسخطهم لمرضاته، ويكون هذا من باب الجهاد في سبيل الله جل وعلا، فإنه لابد أن يجاهد نفسه ويجاهد المكروه الذي يكرهه، وسيكون بعد ذلك منصوراً، والذي أسخطه في رضى الله قد يعود عليه حامداً ومحباً، ولا يلزم أن يكون هذا النصر وعود من أسخطه محباً له لكل أحد، ولكن الغالب وجوده، إلا أن يكون هذا في الكفار والمنافقين فإن ذلك لا يقع منهم، وأما إذا كان ذلك مع المؤمنين الضعفاء أصحاب المعاصي، فتقرب صاحب الحق إلى الله جل وعلا بإسخاطهم، فإن الغالب أن الله يرضيهم عنه، وكذلك يكونون محبين له؛ جزاءً لصبره ومجاهدته.
أما إن أتى العكس: فأرضى الناس بسخط الله، فإنه يعود عليه هذا الذي أرضاه بسخط الله: بالأذى وبالمقت وبالذم، وإن وافق أن أثنوا عليه أو نفعوه بشيء، فإنه لابد -إذا تقرب إلى الناس بسخط الله- أن ينقلب عليه ذلك ضداً، ويؤذى فيه.
قال الشارح رحمه الله: [هذا الحديث رواه ابن حبان بهذا اللفظ، ورواه الترمذي عن رجل من أهل المدينة قال: (كتب معاوية رضي الله عنه إلى عائشة رضي الله عنها: أن اكتبي لي كتاباً توصيني فيه، ولا تكثري عليَّ، فكتبت عائشة رضي الله عنها إلى معاوية: سلام عليك، أما بعد: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من التمس رضى الله بسخط الناس كفاه الله مئونة الناس، ومن التمس رضى الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس، والسلام عليك)، ورواه أبو نعيم في الحلية.
قوله: من التمس: أي: طلب.
قال شيخ الإسلام: وكتبت عائشة إلى معاوية، وروي أنها رفعته: (من أرضى الله بسخط الناس كفاه الله مئونة الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئاً)، هذا لفظ المرفوع، ولفظ الموقوف: (من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله عاد حامده من الناس له ذاماً)، وهذا من أعظم الفقه في الدين، فإن من أرضى الله بسخطهم كان قد اتقاه، وكان عبده الصالح، والله يتولى الصالحين، والله كافٍ عبده: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3]، والله يكفيه مئونة الناس بلا ريب.
وأما كون الناس كلهم يرضون عنه فقد لا يحصل ذلك، لكن يرضون عنه إذا سلموا من الأغراض، وإذا تبين لهم العاقبة، (ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئاً)، كالظالم الذي يعض على يديه، وأما كون حامده ينقلب ذاماً، فهذا يقع كثيراً، ويحصل في العاقبة، فإن العاقبة للتقوى لا تحصل لهم ابتداءً عند أهوائهم.
اهـ.
وقد أحسن من قال: إذا صح منك الود يا غاية المنى فكل الذي فوق التراب تراب قال ابن رجب رحمه الله: فمن تحقق أن كل مخلوق فوق التراب، فهو تراب فكيف يقدم طاعة من هو تراب على طاعة رب الأرباب؟! أم كيف يرضي التراب بسخط الملك الوهاب؟! إن هذا لشيء عجاب! وفي الحديث: عقوبة من خاف الناس وآثر رضاهم على الله، وأن العقوبة قد تكون في الدين، عياذاً بالله من ذلك، كما قال تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة:77].(89/9)
مسائل متفرقة في الباب(89/10)
تفسير آية آل عمران وآية براءة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيه مسائل: الأولى: تفسير آية آل عمران].
المقصود بآية آل عمران قوله جل وعلا: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]، وسبق سبب نزولها، وأنها متصلة في النزول بما بعدها: {إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ} [آل عمران:175]، وسبق أن المعنى: يخوفكم بأوليائه: بأن يعظمهم في صدروكم، ويبرز قوتهم، وأن عندهم قوة وجبروتاً وعندهم وعندهم، وكل هذا من تخويف الشيطان، والذي يجب أن يخاف منه هو الله وحده جل وعلا، فإذا خاف الإنسان ربه فإن كل المخلوقين لا يساوون شيئاً، فمادام أن الإنسان عبد لله، يخاف الله ويخشاه، فلا يرهب جانب المخلوق، ولكنه يتق الله ربه في المخلوق، فلا يحقره ولا يظلمه، بل يفعل ما أمره الله جل وعلا به؛ لأنه عبد لله.
[المسألة الثانية: تفسير آية براءة].
آية براءة أيضاً: مر تفسيرها، وكذلك عرفنا معناها، والمقصود بها، وأنها تتفق مع آية آل عمران.
[المسألة الثالثة: تفسير آية العنكبوت].
وكذلك آية العنكبوت تقدمت قريباً، وهي قوله جل وعلا: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:10]، يعني: أنه يفر مما يناله من أذى الناس -في طاعة الله وفي إيمانه- فيوافقهم على المعصية؛ خوفاً من أذاهم، مستهيناً بعذاب الله جل وعلا، ومثل هذا كمن يفر من الرمضاء إلى النار، إلى نار جهنم، والناس لابد أن ينالهم الأذى في هذه الحياة؛ لأن هذه الحياة طبعت على الأكدار، ولا تصفو لأحد، إلا للمؤمن فقط، وصفوها: أنه يكون مطمئناً بربه، راضياً بما يقدر له، سائراً في طريقه إلى الحياة الأبدية، متصلاً بربه، إن مسه ضر دعاه، وإن نالته نعمة شكره وعبده وأناب إليه، فيكون في ذلك مرتاحاً مطمئناً سعيداً، أما من يظن أن لن يناله أذى في هذه الدنيا أبداً، فهذا مستحيل، وطن خاطئ.(89/11)
اليقين يضعف ويقوي ولكل علامة
[المسألة الرابعة: أن اليقين يضعف ويقوى].
اليقين: سبق أنه الإيمان كله، وأنه كمال الإيمان، وقد يطلق اليقين على الإيمان، ومعلوم أن قوة اليقين: أن يكون الإنسان آخذاً بجميع أوامر الله جل وعلا، مجتنباً نواهيه حسب طاقته، فقد يضعف يقين الإنسان، مع وجود أصل الإيمان عنده، فيرضي الناس بسخط الله، فهذا من ضعف اليقين: أن يرضي الناس بسخط الله، ويرتكب مساخط الله لأجل موافقة الناس ورضاهم، فهذا سببه ضعف اليقين وضعف الإيمان.
[المسألة الخامسة: علامة ضعفه ومن ذلك هذه الثلاث].
والثلاث التي يقصدها: كونه يوافق الناس على المعاصي؛ خوفاً من أذاهم، وكونه إذا حصل له على أيديهم نفع أرجعه إليهم، وكونه إذا لم يحصل له على أيديهم شيء عاد عليهم بالسب والشتم واللعن، فهذه كلها من علامات ضعف الإيمان، ونقص اليقين، وسبق أنه تدخل في هذا أشياء كثيرة، من كون الإنسان لا يرضى بأقدار الله، وتسخطه لها، وهذا الفعل قد يخرج الإنسان من الإيمان، نسأل الله العافية.(89/12)
إخلاص الخوف لله من الفرائض
[المسألة السادسة: أن إخلاص الخوف لله من الفرائض].
الخوف يجب أن يكون من الله جل وعلا، وهو فريضة، وهو عبادة من أعظم العبادات: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]، و (إن) هنا شرط، يعني: إن كنتم تحليتم بالإيمان فيجب عليكم أن تجعلوا الخوف من الله فقط، وليس من عدو من أعدائكم، فدل هذا على أن الخوف فريضة، فإذا كان فريضة فيجب إخلاصه لله، وإذا أشرك فيه الإنسان مع ربه أحداً من الخلق، فإنه يكون واقعاً في الشرك.
قوله: [المسألة السابعة: ذكر ثواب من فعله].
يعني: من خاف من الله جل وعلا وكان خوفه لله، فإن الله جل وعلا يجزيه الجزاء الذي وعد به تعالى وتقدس.
قوله: [المسألة الثامنة: ذكر عقاب من تركه].(89/13)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [90]
إن التوكل على الله من أعظم العبادات، وأجمع الطاعات، لما ينشأ عنه من الأعمال الصالحة، فإن العبد إذا اعتمد على الله في جميع أموره الدينية والدنيوية -دون كل من سواه- صح إخلاصه ومعاملته مع الله تعالى، ومع هذا فلابد للعبد مع التوكل من الإتيان بالأسباب؛ لأن تعطيل الأسباب قدح في العقل، وإعراض عن الشرع.(90/1)
باب التوكل
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب قوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23]].
{وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ}: هذه الآية في سياق قصة موسى عليه السلام، لما أمر قومه أن يدخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله جل وعلا لهم، قال في خاتمة ذلك: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ}: يعني: هم جبابرة، ولهذا قالوا: {إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ} [المائدة:22]، {إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا} [المائدة:24]، ومعلوم أن عندهم من الإباء والتعنت والاستكبار والامتناع من طاعة رسولهم الشيء الذي ذكره الله جل وعلا عنهم، فلهذا قالوا في هذه الآية: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24]، وفي هذا تحدٍ وعناد وتكبر على الله وعلى رسوله موسى كليم الرحمن صلى الله عليه وسلم، ولهذا فقد لقي موسى منهم الأذى الكثير، ولكنه صبر، ولما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: وهو يقسم مالاً -حسبما أمره الله جل وعلا- بين كبار القبائل رؤساء القبائل يتألفهم به حتى يؤمنوا فتؤمن قبائلهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إني قاسم ولست بمعط المعطي هو الله)، يعني: أنه يفعل ما أمره الله، فكان يقسم ذهباً جاءه من اليمن فقسمه بين أربعة أنفار من رؤساء القبائل يتألفهم لعلهم يسلمون فتسلم قبائلهم، فجاء رجل وقال له: إن هذه القسمة لم يرد بها وجه الله! هل يقال للرسول صلى الله عليه وسلم مثل هذا الكلام؟! ولهذا تغير لون وجهه صلى الله عليه وسلم ثم رجع وقال: (رحم الله موسى لقد أوذي أكثر مما أوذيت فصبر)، فصبر صلوات الله وسلامه عليه تأسياً بموسى، فموسى عليه السلام يأمر قومه لما نجاهم الله جل وعلا من فرعون وأراهم الآيات الباهرة: من فلق البحر لهم حتى صاروا يمشون فيه في طرق يابسة لا يخافون فيها غرقاً ولا زلقاً، والبحر واقف عن يمينهم وعن شمالهم كهيئة الجبال، وهم يسيرون في وسط البحر في طريق يابس، ثم لما تكاملوا خارجين من البحر، ودخل فرعون وقومه وتكاملوا في الدخول أمر الله جل وعلا عبده ورسوله موسى أن يضرب البحر مرة أخرى بعصاه، فالتأم البحر عليهم وأهلكم وبنو إسرائيل ينظرون، وكونه يهلك عدوهم هلاكاً جماعياً بحيث لم يبق منهم أحداً، فهذه نعمة كبيرة يجب عليهم أن يشكروها، ويقابلوها بالعبادة الخالصة لله جل وعلا، وقد قالوا قبل ذلك لما صار البحر أمامهم وفرعون خلفهم: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61]، أين المفر؟ البحر من الأمام وفرعون من الخلف! يخاطبون موسى: (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ): يعني: فرعون أدركنا، فقال موسى عليه السلام: {كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62]، الذي أمره بهذا المسير وبهذا الطريق الله، وإذا كان أمره الله فلن يدرك، فلهذا أمره الله جل وعلا أن يضرب البحر بعصاه، فضربه فصار طريقاً يابساً، فلما عبروا منه أطبقه الله على فرعون وجنوده وأغرقهم أجمعين.
وبعد ذلك وعدهم الله جل وعلا الأرض المقدسة وكان فيها جبابرة يقال: إنهم من العرب، فأمرهم موسى أن يقاتلوهم ويأخذوا بلدهم، فخافوهم وقالوا: إنهم جبارين، كبار الأجسام والقوى لا نستطيع أن نقاتلهم، قال لهم: {ادْخُلُوا عَلَيْهِمْ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ} [المائدة:23]، فأبوا.
والمقصود: أنه ذكر في آخر القصة قوله: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23]، ومعلوم أن هذا الخطاب نزل على خاتم الرسل محمد صلوات الله وسلامه عليه، وإن كان المذكور قصة بني إسرائيل مع نبيهم فنحن المقصودون، أما أولئك فقد أبوا أن يؤمنوا وأبوا أن يقبلوا خطاب الله -أعني: بقاياهم- وأما الذين كان فيهم موسى وكانت فيهم هذه القصة فقد هلكوا وذهبوا، فالمؤمن أكرمه الله جل وعلا، والكافر أهانه الله جل وعلا، ومعلوم أن بني إسرائيل فيهم المؤمنون وفيهم الأتقياء، وفيهم من هداه الله، وقد قال جل وعلا: {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الجاثية:16]، ولكن المقصود بالعالمين: عالم وقتهم وليس هذا عاماً لمن يأتي بعدهم، فإن هذه الأمة أفضل منهم، والأسوة في اتباع الأنبياء؛ لأن دينهم واحد وكلهم جاءوا بالأمر بطاعة الله جل وعلا، ولهذا قال الله: جل وعلا عند قصة كل نبي أن ذلك النبي قال لهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59] فالدعوة واحدة والدين واحد.
والتوكل: هو اعتماد القلب على من بيده أزمة الأمور مع فعل الأسباب، وليس التوكل: تعطيل الأسباب فإن هذا عجز ولا يكون توكلاً.
فقوله: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا} [المائدة:23]، يعني: قاتلوا واعتمدوا على ربكم في نصركم، {إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23]، إن: هذه شرطية، يعني: إن كان الإيمان عندكم فافعلوا التوكل، أما إذا لم يحصل التوكل، فهو دليل على انتفاء الإيمان؛ لأن انتفاء شرط مركب على شيء مشروط إذا لم يوجد فمعنى ذلك: أنه لم يوجد، وبهذا يستدل على أن التوكل فريضة على كل عبد.
والتوكل قد ذكره الله جل وعلا في كتابه في آيات كثيرة، وقرنه مع العبادات بأنواعها، فقرنه بالعبادة وقرنه بالتقوى، وقرنه بالإيمان، وجميع صفات المؤمنين قرنت به، وجعل شرطاً في حصول الإيمان فدل هذا على أنه لازم، وأنه لا يجوز أن يكون لغير الله، ويجب أن يكون خالصاً لله جل وعلا، فمن صرفه لغير الله وتوكل على غير الله فإنه يكون مشركاً.(90/2)
أنواع التوكل على غير الله
والتوكل على غير الله نوعان: أحدهما: أن يتوكل على ميت أو غائب من ولي أو نبي، فيتوكل عليه؛ ليحصل على مطلوبه سواء كان مطلوبه في الدنيا أو في الآخرة، سواء كان مرغوباً أو مرهوباً منه، يعني: حصول نفع في بدنه: من صحة، أو في أهله أو في ماله أو نصر على عدو والنكاية فيه أو كان شيئاً يطلب يوم القيامة: من شفاعة أو غيرها، فمن توكل على ميت بهذا المعنى فهو مشرك شركاً أكبر، وهذا يوجد بكثرة في بعض من يدعون الإسلام فتراهم يتوكلون على الأموات ويطلبون منهم الطلبات التي لا يجوز أن تطلب إلا من رب الأرباب جل وعلا.
النوع الثاني من التوكل على المخلوق: أن يتكل الإنسان على سلطان أو أمير، أو ما أشبه ذلك في حصول مطلوب له، ويكون باستطاعة ذلك الشخص تنفيذه، ولكنه يعتمد عليه، أو يعتمد عليه في دفع الأذى أو ما أشبه ذلك، وهذا نوع من الشرك، والواجب أن يكون التوكل على الله وحده مع فعل السبب.
أما التوكيل وهو: كون الإنسان يوكل إنساناً في فعل أمر من أمور دنياه فهذا جائز؛ لأنه أنابه في شيء يستطيع القيام به، ولكن لا يعتمد على هذا الوكيل في أنه يحصل له كذا وكذا، ولكنه يفوض إليه الأمر ويقول: افعل كذا وكذا ويعتمد على ربه جل وعلا في حصول النتائج.(90/3)
وجوب التوكل على الله مع الأخذ بالأسباب
إن اعتماد القلب لا يجوز أن يكون على المخلوق، ويجب أن يكون على الله وحده، سواء كان الذي يرجى حصوله أمراً عادياً أو كان أمراً عظيماً، فيجب أن يكون اعتماد القلب على الله وحده.
فإذا اعتمد قلب العبد على ربه جل وعلا فقد توكل عليه، وعليه أن يفعل السبب كما في هذه الآية، فإن الله أمرهم بالدخول على الجبابرة، والدخول معناه: الاستعداد بأخذ القوة والعدة والتأهب، وهذا هو فعل السبب، ثم يتوكلون في هزيمتهم وحصول النصر لهم على الله، لا على أسبابهم وقوتهم، وهكذا فجميع ما يفعله العبد يجب أن يكون بهذه الصفة، وإذا كان على هذه الصفة يكون موحداً لله جل وعلا، ويكون فاعلاً ما أمره الله جل وعلا به، وهذا من واجبات التوحيد وهو تفسير عملي لـ (لا إله إلا الله).
أما كون الإنسان يعطل السبب فهذا ليس من الدين، بل هذا قدح في عقل الإنسان، وإعراض عن الشرع، فبعض الناس يقول: أجلس في بيتي وأتوكل على الله، وإذا قدر لي شيء فسيأتي! وهذا من العجز، وكذلك الذي يقول: أنا أريد أن أكون عالماً، وإذا كان ذلك مقدراً فسيأتي فأتوكل على الله وسيأتي، وهذا يعد غير عاقل؛ لأنه إذا كان يريد أن يكون عالماً فعليه أن يتعلم ويأخذ بالأسباب، وهذا مثل الذي يقول: أنا لا أتزوج، إن كان الله جل وعلا قد قدر لي ولداً فسيأتي! لا يأتي شيء إلا بسبب، فالله جل وعلا جعل لكل شيء سبباً، ولكن يجب عليك أن تفعل السبب المشروع وتتقي ربك في ذلك، ثم تعتمد على الله في حصول النتائج لا على السبب، وإن جئت به على أتم وجه؛ لأنه قد يتخلف المسبب ولا يحدث، وذلك إذا أراد الله جل وعلا؛ لأنه لا يقع شيء إلا بإرادة الله وبمشيئته جل وعلا، ولهذا وجب التوكل عليه جل وعلا في حصول النتائج؛ لأنه لو شاء عطل السبب وصار غير مفيد، وغير مجد، ومن توكل على الله فهو كافيه.
قال الشارح رحمه الله تعالى: [قال أبو السعادات يقال: توكل بالأمر: إذا ضمن القيام به، ووكلت أمري إلى فلان: إذا اعتمدت عليه، ووكل فلان فلاناً: إذا استكفاه أمره ثقةً بكفايته أو عجزاً عن القيام بأمر نفسه.
انتهى].
أبو السعادات هو ابن الأثير صاحب جامع الأصول، والنهاية في غريب الحديث، وغيرهما من كتبه المعروفة.
والتوكيل الذي ذكره الشارح عن أبي السعادات هو التوكيل من حديث اللغة.
أما تعريف التوكل: فهو اعتماد القلب على الله جل وعلا في حصول المطلوب.(90/4)
تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر
قال الشارح رحمه الله: [وأراد المصنف رحمه الله بهذه الترجمة بالآية: بيان أن التوكل فريضة يجب إخلاصه لله تعالى فإن تقديم المعمول يفيد الحصر، أي: وعلى الله فتوكلوا لا على غيره، فهو من أجمع أنواع العبادة وأعظمها].
قوله: (تقديم المعمول يفيد الحصر)، أي: المعمول الذي عمل به عامل، والمعمول: هو الفضلة الذي يكون معمولاً لفعل، يعني: مفعول، فتقديم المفعول على الفاعل يفيد الحصر؛ لأن حق المفعول أن يتأخر وأن يكون الفاعل متقدماً على وضع اللغة، وإذا قدم ما حقه التأخير فلابد أن يكون لأمر مقصود، والأمر المقصود هو الحصر، فيكون التوكل على الله هذا معناه فقط، وهو مثل قوله جل وعلا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5]، لو كان في غير القرآن لجاز أن تقول: نعبدك يا الله! على وضع اللغة، فإذا قدم ما حقه التأخير أفاد الحصر يعني: حصر العبادة على الله فقط ولا يجوز أن تكون لغيره، وهكذا في هذه الآية: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا} [المائدة:23]، العامل هو توكلوا، والوضع اللغوي الطبيعي هو: توكلوا على الله، فلما قدم الجار والمجرور الذي هو معمول للفعل دل على الحصر وأنه يجب أن يحصر التوكل على الله وحده.
ومعنى ذلك: أنه لا يجوز أن يتوكل على مخلوق مهما كان، سواء كان نبياً أو كان ولياً أو ملكاً أو غير ذلك، ويجب أن يكون التوكل على الله وحده فقط، وهذا من الأدلة على وجوبه، وأنه عبادة خاصة بالله جل وعلا لا يجوز جعل شيء منه لمخلوق، فإن جعل شيئاً من التوكل لمخلوق فإن ذلك من الشرك الأكبر الذي إذا مات عليه الإنسان -نسأل الله العافية- يكون من أهل النار خالداً فيها.(90/5)
التوكل من أعظم منازل إياك نعبد وإياك نستعين
قال الشارح رحمه الله: [فهو من أجمع أنواع العبادة وأعظمها؛ لما ينشأ عنه من الأعمال الصالحة، فإنه إذا اعتمد على الله في جميع أموره الدينية والدنيوية دون كل من سواه صح إخلاصه ومعاملته مع الله تعالى، فهو من أعظم منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]].
منازل (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] المقصود بها: العبادات المفروضة التي دل عليها قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]؛ لأن العبادة أنواع متعددة، وكل نوع يكون أصلاً في هذا فهو منزلة من المنازل، وهذا اصطلاح.
والتوكل من أعظم المنازل، يعني: أنه عبادة عظيمة يجب أن تخلص لله جل وعلا، ويدل على هذا: الحديث الذي تقدم في أول الكتاب حديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب فإنه جعل وصفهم الجامع: (وعلى الله يتوكلون) ولما سئل عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (هم الذين لا يتطيرون ولا يكتوون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون)، فقوله: (وعلى ربهم يتوكلون)، هو وصف جامع للخصال المتقدمة، وهو سبب دخولهم الجنة، يعني: أنهم جاءوا بالتوكل كاملاً وتاماً فبسبب ذلك سبقوا إلى الجنة.(90/6)
حصول كمال التوحيد مرتبط بكمال التوكل
قال الشارح رحمه الله: [فلا يحصل كمال التوحيد بأنواعه الثلاثة إلا بكمال التوكل على الله كما في هذه الآية، وكما قال تعالى: {وقال موسى يا قوم إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس:84]].
أنواع التوحيد الثلاثة مترابطة، وكل واحد منها لا يجزء عن الآخر، ولو جاء الإنسان باثنين ولم يأت بالثالث لا يكون مسلماً إلا بعد أن يأتي بها كلها، وهي: الأول: أن يعبد الله جل وعلا وحده- بحقه الذي أوجبه على العباد، وهذا يسمى: توحيد العبادة أو توحيد الإلهية.
الثاني: أن يعتقد أنه واحد في خلقه وتصرفاته وأفعاله ولم يشاركه في ذلك أحد، وهذا يتعلق بأفعال الرب جل وعلا، ويسمى بتوحيد الربوبية.
الثالث: أن يوحده في أوصافه وأساميه، والاسم الذي وصف به نفسه يجعله خاصاً له، فلا يصف مخلوقاً بشيء من هذه الصفات ولا يسم مخلوقاً بشيء من هذه الأسماء، بل هذه خاصة لله فيكون موحداً، وهذا الأمر دلت عليه كل آية في التوحيد.(90/7)
سبب تقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام
وأما التقسيم بهذه الصورة فليس فيه آية أو حديث، ولم يكن العرب إذ ذاك يحتاجون له، وإنما احتجنا إلى هذا التقسيم في زماننا لما كنا نجهل كلام العرب وفسدت ألسنتنا واختلط كلامنا بكلام العجم، وصرنا نحتاج إلى أن نتعلم اللغة كما نتعلم الشيء الغريب، مع أننا عرب في الأصل، ولكن عربيتنا فسدت؛ لأن الألسن تداخلت وضاعت القواعد التي كان عليها العرب، وإلا فإن العرب لم يكونوا يحتاجون تعلم اللغة، بل لو حاول واحد منهم أن ينطق باللحن ما استطاع.
وقد ذكر: أن معلماً للصبيان في القرون الأولى -الصبيان كانوا عرباً والمعلم غير عربي- كان يلقنهم القرآن! فصار يلقن واحداً منهم ويقول له: قل: تبت يدا، فيقول الصبي: تبت يدان، فيضربه ويقول: قل تبت يدا، فما يستطيع أن يقول: تبت يدا، بل يأتي بالمثنى: تبت يدان، فرآه رجل عربي وقال: هذا عربي، انطق بالمضاف إليه حتى يستطيع أن يتكلم به، أما بهذا الشكل فما يستطيع، فقال له: قل تبت يدا أبي لهب وتب، فنطق بها كما قال؛ لأن هذه سليقته.
وسمع عربي مؤذناً يقول: أشهد أن محمداً رسولَ الله فصار يقول: ما له؟ لأنه ما جاء بالخبر؛ حيث نصب الخبر فصار اسم أن: (محمداً رسولَ)، فيكون (رسولَ) منصوباً على أنه بدل من (محمداً) والخبر لم يذكر، ولذلك لابد أن يقول: أشهد أن محمداً رسولُ الله برفع (رسول) حتى تتم الجملة ويصير الكلام عربياً، أما إذا نصبه كما هي عادة كثير من المؤذنين فإن هذا لا يكون مفيداً ولا يكون كلاماً عربياً.
المقصود: أن هذا التقسيم احتيج إليه لما جهل الناس كثيراً من معاني كلام الله ومعاني كلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو تقسيم سبري، يعني: سُبر القرآن وتُتبع فأُخذ ذلك التقسيم من آيات متعددة.
قال الشارح رحمه الله: [وقوله:: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} [المزمل:9]، والآيات في الأمر به كثيرة جداً.
قال الإمام أحمد رحمه الله: التوكل عمل القلب.
وقال ابن القيم رحمه الله في معنى الآية المترجم بها: فجعل التوكل على الله شرطاً في الإيمان فدل على انتفاء الإيمان عند انتفائه، وفي الآية الأخرى: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس:84]، فجعل دليل صحة الإسلام التوكل.
ولا فرق بين هذه الآية والتي قبلها (إن كنتم مسلمين) و (إن كنتم مؤمنين)؛ لأن الإسلام إذا ذكر وحده مفرداً دخل فيه الإيمان، وإذا ذكر الإيمان وحده مفرداً دخل فيه الإسلام، أما إذا جاء الإسلام والإيمان معاً فالإسلام يفسر بالأعمال الظاهرة والإيمان يفسر بالأعمال الباطنة، والتي هي أعمال القلب.(90/8)
التوكل أصل جميع مقامات الإيمان والإحسان وأعمال الإسلام
قال رحمه الله تعالى: [فجعل دليل صحة الإسلام التوكل، وكلما قوي إيمان العبد كان توكله أقوى، وإذا ضعف الإيمان ضعف التوكل، وإذا كان التوكل ضعيفاً كان دليلاً على ضعف الإيمان ولابد، والله تعالى يجمع بين التوكل والعبادة، وبين التوكل والإيمان، وبين التوكل والتقوى، وبين التوكل والإسلام، وبين التوكل والهداية.
فظهر أن التوكل أصل لجميع مقامات الإيمان والإحسان، ولجميع أعمال الإسلام وأن منزلته منها كمنزلة الرأس من الجسد، فكما لا يقوم الرأس إلا على البدن فكذلك لا يقوم الإيمان ومقاماته وأعماله إلا على ساق التوكل].
يعني: أن التوكل هو البدن والرأس هو الإيمان، فمعلوم أن الرأس يعتمد على البدن فكذلك الإيمان يعتمد على التوكل، فإذا بطل التوكل بطل الإيمان؛ لأنه لا يوجد رأس بلا بدن.
[قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [وما رجا أحد مخلوقاً ولا توكل عليه إلا خاب ظنه فيه؛ فإنه مشرك: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31]].
قال الشارح رحمه الله تعالى: [قلت: لكن التوكل على غير الله قسمان: أحدهما: التوكل في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله.
كالذين يتوكلون على الأموات والطواغيت في رجاء مطالبهم: من نصر أو حفظ أو رزق أو شفاعة، فهذا شرك أكبر.
الثاني: التوكل في الأسباب الظاهرة، كمن يتوكل على أمير أو سلطان فيما أقدره الله تعالى عليه من رزق أو دفع أذىً ونحو ذلك، فهذا نوع من الشرك الأصغر.
والوكالة الجائزة: هي توكيل الإنسان في فعل ما يقدر عليه نيابةً عنه، لكن ليس له أن يعتمد عليه في حصول ما وكل فيه، بل يتوكل على الله في تيسير أمره الذي يطلبه بنفسه أو نائبه وذلك من جملة الأسباب التي يجوز فعلها ولا يعتمد عليها، بل يعتمد على المسبب الذي أوجد السبب والمسبَّب].(90/9)
التوكل على الله من صفات المؤمنين
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2]].
ذكر الله جل وعلا في هذه الآية: خمس صفات للمؤمنين وحصرهم بـ (إنما) التي تفيد الحصر.
ومعنى ذلك: أنهم إذا خرجوا عن هذه الصفات فليسوا بمؤمنين، لقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} وإنما: تفيد الحصر في المذكور وتنفيه عما عدا ذلك.
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} والوجل: هو خوف القلب، فيخاف ويتحرك إذا ذكر بالله عند أمر من الأمور إن كان منهياً عنه وخاف من الله وتوقف، وإن كان مأموراً به فعله.
الصفة الثانية: أنهم إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً، وزيادة الإيمان تكون بزيادة العمل، يعني: إذا جاءتهم الآيات تذكرهم بالعمل وتأمرهم به اجتهدوا فيه وعملوا فيزدادون بذلك إيماناً؛ لأن المؤمنين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً.
الصفة الثالثة: على ربهم يتوكلون، كما في قوله: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}، وسبق في الآية أنه قدم المعلول فيها لإفادة الحصر، يعني: أن يكون توكلهم على الله وحده فقط.
الصفة الرابعة: إقامة الصلاة، كما في قوله: {يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} [الأنفال:3]، وإقامتها بأن يأتي بها الإنسان على الوجه المشروع، وليس إقامتها بمجرد الإتيان بالركوع والسجود؛ لأن الإنسان قد يركع ويسجد ويقوم ويقرأ وقلبه غافل ساهٍ فلا يكون مقيماً لها، ولكنه يعد مصلياً ويسقط عنه الفرض، ولكن قد تكتب له نصف صلاة أو ربعها أو عشرها أو أقل أو أكثر حسب عقله، فيكون الذي كتب له هو الشيء الذي أقامه، أما الباقي فهو عليه لا له، ولكنه لا يؤمر بأن يعيد الفرض، وإن كان لا يدري ماذا قال في الصلاة ولا يدري ماذا قال الإمام ولا يدري هل هو بين يدي الله أو أنه مع الناس، فإقامة الصلاة: أن يأتي بها مجتهداً بأن يكون خاشعاً مؤدياً لشروطها وأركانها وواجباتها حسب استطاعته، ومجاهداً لنفسه والشيطان.
الصفة الخامسة: أداء الزكاة كما في قوله: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [الأنفال:3]، وهذا يكون بأداء الزكاة الواجبة التي تجب على الإنسان في ماله، فيجب أن يؤديها راضياً بذلك مغتبطاً به، راجياً ثواب الله وخائفاً من عقابه فيما لو أخل بها.
هذه الصفات الخمس التي ذكرت في هذه الآيات، وحصر المؤمنين فيمن تحلى بهذه الصفات الخمس يدل على أن من ترك شيئاً من هذه الصفات الخمس أنه خارج عن ذلك، ومن أعظمها التوكل: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2]، وهذا هو الشاهد من الآيات.
قال الشارح رحمه الله: [قال ابن عباس في الآية: (المنافقون لا يدخل في قلبوهم شيء من ذكر الله عند أداء فرائضه ولا يؤمنون بشيء من آيات الله ولا يتوكلون على الله ولا يصلون إذا غابوا، ولا يؤدون زكاة أموالهم، فأخبر الله أنهم ليسوا بمؤمنين ثم وصف المؤمنين فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2]، فأدوا فرائضه) رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
ووجل القلب من الله يستلزم القيام بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه.
قال السدي: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}: (هو الرجل يريد أن يظلم أو قال: يهم بمعصية، فيقال له: اتق الله، فيجل قلبه) رواه ابن أبي شيبة وابن جرير].(90/10)
إجماع أهل السنة على أن الإيمان يزيد وينقص
قال الشارح رحمه الله: [قوله: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً} [الأنفال:2]: استدل الصحابة والتابعون ومن تبعهم من أهل السنة بهذه الآية ونظائرها على زيادة الإيمان ونقصانه.
قال عمير بن حبيب الصحابي: إن الإيمان يزيد وينقص، فقيل له: وما زيادته ونقصانه؟ قال: إذا ذكرنا الله وخشيناه فذلك زيادته، وإذا غفلنا ونسينا وضيعنا فذلك نقصانه.
رواه ابن سعد].
يعني: أن الإيمان يزيد بالعمل، ولهذا قال أهل السنة في تعريف الإيمان: هو قول واعتقاد وعمل، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فجعلوا الزيادة والنقص من تمام التعريف؛ لأن أهل البدع، -مثل المعتزلة والخوارج- وإن وافقوا أهل السنة أول التعريف، إلا أنهم خالفوهم فيما يتعلق بالزيادة والنقصان، فالإيمان عند الخوارج والمعتزلة هو فعل الطاعات وعقيدة القلب -يعني: تصديقه- وكذلك عمل الأركان: القول والعمل، فلو كان يأتي بجميع الواجبات مصدقاً عاملاً بها ثم ترك واجباً فإنه يكون خارجاً من الإيمان عند الخوارج وعند المعتزلة، إلا أنه عند الخوارج يصير كافراً وعند المعتزلة يبقى في منزلة بين الكفر والإيمان، فلا يكون كافراً ولا مؤمناً، وإنما يكون قد خرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر! وهذه من بدعهم التي انفردوا بها، ولم يقل بها أحد غيرهم.
ثم إنهم وافقوا الخوارج في حكم الآخرة وقالوا: إذا مات على ذلك صار في النار، أما أهل السنة فزادوا في تعريفهم للإيمان: قول واعتقاد وعمل، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فقولهم: يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، من تمام التعريف وهو لمخالفة المبتدعة، أما غيرهم من أهل البدع فيجعلونه: قولاً، وبعضهم يجعله تصديقاً، وجعله قولاً هذا من أغرب ما يكون؛ لأنه يلزم منه أن الإنسان إذا قال بلسانه فهو مؤمن وإن كان كافراً بقلبه.
وعلى كل حال فكل من خالف ما جاء في كتاب الله وما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلابد أن يقع في الأخطاء الفضيعة الواضحة.
قال الشارح رحمه الله: [وقال مجاهد: الإيمان يزيد وينقص وهو قول وعمل.
رواه ابن أبي حاتم].
يدخل في القول: قول اللسان وقول القلب مثل الخوف والخشية والوجل والإنابة والمحبة والرضا هذا كله من قول القلب؛ لأن القول ينقسم إلى قسمين عند أهل السنة: قول يكون باللسان، وقول يكون بالقلب وهو: عقيدته وعمله.
قال الشارح رحمه الله: [وحكى الإجماع على ذلك الشافعي وأحمد وأبو عبيد وغيرهم رحمهم الله تعالى.
وقوله: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2]، أي: يعتمدون عليه بقلوبهم، مفوضين إليه أمورهم فلا يرجون سواه، ولا يقصدون إلا إياه ولا يرغبون إلا إليه، ويعلمون أن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه المتصرف في الملك وحده والمعبود وحده لا شريك له.
وفي الآية وصف المؤمنين حقاً بثلاثة مقامات من مقامات الإحسان وهي: الخوف، وزيادة الإيمان، والتوكل على الله وحده].
بل خمس مقامات؛ لأن تمام الآية: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [الأنفال:3]، فهي خمس مقامات واضحة.
قال الشارح رحمه الله: وهذه المقامات تقتضي كمال الإيمان وحصول أعماله الباطنة والظاهرة، مثال ذلك: الصلاة، فمن أقام الصلاة وحافظ عليها وأدى الزكاة كما أمره الله استلزم ذلك العمل بما يقدر عليه من الواجبات، وترك جميع المحرمات كما قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45]].(90/11)
معنى قوله تعالى: (يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين)
قال المصنف رحمه الله: [وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64]].
قال الشارح رحمه الله: [قال ابن القيم رحمه الله: أي: الله وحده كافيك وكافي أتباعك فلا تحتاجون معه إلى أحد وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وقيل المعنى: حسبك الله وحسبك المؤمنون.
قال ابن القيم رحمه الله: وهذا خطأ محض لا يجوز حمل الآية عليه.
فإن الحسب والكفاية لله وحده كالتوكل والتقوى والعبادة، قال الله تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:62]، ففرق بين الحسب والتأييد، فجعل الحسب له وحده، وجعل التأييد له بنصره وبعباده، وأثنى على أهل التوحيد من عباده حيث أفردوه بالحسب، فقال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]، ولم يقولوا: حسبنا الله ورسوله، ونظير هذا قوله سبحانه: {وقالوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة:59]، فتأمل كيف جعل الإيتاء لله والرسول وجعل الحسب له وحده، فلم يقل: وقالوا حسبنا الله ورسوله، بل جعله خالص حقه، كما قال: {إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ}، فجعل الرغبة إليه وحده، كما قال: {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:8]، فالرغبة والتوكل والإنابة والحسب لله وحده، كما أن العبادة والتقوى والسجود والنذر والحلف لا يكون إلا له سبحانه وتعالى.
انتهى.
وبهذا يتبين مطابقة الآية للترجمة، فإذا كان هو الكافي لعبده وجب ألا يتوكل إلا عليه، ومتى التفت إلى سواه وكله الله إلى من التفت إليه كما في الحديث: (من تعلق شيئاً وكل إليه).
قال المصنف رحمه الله: [وقوله: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3]].
قال الشارح رحمه الله: [قال ابن القيم: أي: كافيه.
ومن كان الله كافيه وواقيه فلا مطمع فيه لعدو، ولا يضره إلا أذىً لابد منه كالحر والبرد والجوع والعطش، وأما أن يضره بما يبلغ به مراده فلا يكون أبداً.
وفرق بين الأذى الذي هو في الظاهر إيذاء، وفي الحقيقة إحسان وإضرار بنفسه وبين الضرر الذي يتشفى به منه.
قال بعض السلف: جعل الله لكل عمل جزاء من نفسه، وجعل جزاء التوكل عليه نفس كفايته، فقال: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3]، ولم يقل: فله كذا وكذا من الأجر، كما قال في الأعمال، بل جعل نفسه سبحانه كافي عبده المتوكل عليه وحسبه وواقيه، فلو توكل العبد على الله حق توكله وكادته السماوات والأرض ومن فيهن، لجعل الله له مخرجاً وكفاه رزقه ونصره.
انتهى.
وفي أثر رواه أحمد في الزهد عن وهب بن منبه قال: قال الله عز وجل في بعض كتبه: (بعزتي إنه من اعتصم بي فكادته السماوات بمن فيهن والأرضون بمن فيهن فإني أجعل له من ذلك مخرجاً، ومن لم يعتصم بي فإني أقطع يديه من أسباب السماء، وأخسف من تحت قدميه الأرض فأجعله في الهواء، ثم أكله إلى نفسه، كفى بي بعبدي مآلاً، إذا كان عبدي في طاعتي أعطيه قبل أن يسألني، وأستجيب له قبل أن يدعوني، فأنا أعلم بحاجته التي ترفق به منه)].(90/12)
ما جاء في الآية من بيان فضل التوكل والتنبيه على الأخذ بالأسباب
قال الشارح رحمه الله: [وفي الآية: دليل على فضل التوكل، وأنه أعظم الأسباب في جلب المنافع ودفع المضار؛ لأن الله تعالى علق الجملة الأخيرة على الأولى تعليق الجزاء على الشرط فيمتنع أن يكون وجود الشرط كعدمه؛ لأن الله تعالى رتب الحكم على الوصف المناسب له، فعلم أن توكله هو سبب كون الله حسباً له.
وفيها: تنبيه على القيام بالأسباب مع التوكل؛ لأنه تعالى ذكر التقوى ثم ذكر التوكل كما قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ} [المائدة:11]، فجعل التوكل مع التقوى الذي هو قيام بالأسباب المأمور بها، فالتوكل بدون القيام بالأسباب المأمور بها عجز محض، وإن كان مشوباً بنوع من التوكل، فلا ينبغي للعبد أن يجعل توكله عجزاً ولا عجزه توكلاً، بل يجعل توكله من جملة الأسباب التي لا يتم المقصود إلا بها كلها.
ذكره ابن القيم بمعناه].(90/13)
نموذج من توكل الخليلين عليهما السلام
قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا له: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173].
رواه البخاري].
قال الشارح رحمه الله: [قوله: حسبنا الله: أي كافينا، فلا نتوكل إلا عليه، قال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر:36].
قوله: ونعم الوكيل: أي نعم الموكول إليه، كما قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج:78]، ومخصوص (نِعمَ) محذوف تقديره (هو).
قال ابن القيم رحمه الله: هو حسب من توكل عليه وكافي من لجأ إليه، وهو الذي يؤمِّن خوف الخائف ويجير المستجير، فمن تولاه واستنصر به وتوكل عليه وانقطع بكليته إليه؛ تولاه وحفظه وحرسه وصانه، ومن خافه واتقاه؛ أمَّنه مما يخاف ويحذر، ويجلب إليه ما يحتاج إليه من المنافع.
قوله: قالها إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين ألقي في النار قال تعالى: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمْ الأَخْسَرِينَ} [الأنبياء:68 - 70].
قوله: وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا له: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]، وذلك بعد منصرف قريش والأحزاب من أحد، بلغه أن أبا سفيان ومن معه قد أجمعوا الكرة عليهم فخرج النبي صلى الله عليه وسلم في سبعين راكباً حتى انتهى إلى حمراء الأسد فألقى الله الرعب في قلب أبي سفيان فرجع إلى مكة بمن معه، ومر به ركب من عبد القيس فقال: أين تريدون؟ قالوا: نريد المدينة، قال: فهل أنتم مبلغون محمداً عني رسالة؟ قالوا: نعم، قال: فإذا وافيتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم، فمر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد فأخبروه بالذي قال أبو سفيان فقال: (حسبنا الله ونعم الوكيل).
ففي هاتين القصتين فضل هذه الكلمة العظيمة، وأنها قول الخليلين عليهما في الشدائد.
وجاء في الحديث: (إذا وقعتم في الأمر العظيم، فقولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل)].(90/14)
مسائل في باب قوله تعالى: (وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين)
قال المصنف رحمه الله: [فيه مسائل: الأولى: أن التوكل من الفرائض.
الثانية: أنه من شروط الإيمان.
الثالثة: تفسير آية الأنفال.
الرابعة: تفسير الآية في آخرها.
الخامسة: تفسير آية الطلاق.
السادسة: عظم شأن هذه الكلمة وأنها قول إبراهيم عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم في الشدائد].(90/15)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [91]
الأمن من مكر الله من كبائر الذنوب، لأنه يجعل الإنسان يتمادى في غيه وضلاله ومعاصيه، وكذلك اليأس من روح الله من كبائر الذنوب أيضاً؛ لأنه يجعل الإنسان يترك التوبة والرجوع إلى الله تعالى، والواجب على الإنسان أن يكون بين الخوف والرجاء، فيخاف من ذنوبه ويتوب إلى الله تعالى منها، ويرجو ثواب الله تعالى ولا يقنط من رحمته سبحانه، فيجعل الخوف والرجاء عنده كالجناحين للطائر، حتى يبلغه ذلك رضوان الله تعالى وجنته.(91/1)
باب قول الله تعالى: (أفأمنوا مكر الله فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون
قال المصنف رحمه الله: [باب قول الله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99].
قصد المصنف رحمه الله بهذه الآية التنبيه على أن الأمن من مكر الله من أعظم الذنوب، وأنه ينافي كمال التوحيد، كما أن القنوط من رحمة الله كذلك؛ وذلك يرشد إلى أن المؤمن يسير إلى الله بين الخوف والرجاء كما دل على ذلك الكتاب والسنة وأرشد إليه السلف والأئمة.
ومعنى الآية: أن الله تبارك وتعالى لما ذكر حال أهل القرى المكذبين للرسل، بين أن الذي حملهم على ذلك هو الأمن من مكر الله وعدم الخوف منه، كما قال تعالى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:97 - 99]، أي: الهالكون؛ وذلك أنهم أمنوا مكر الله لما استدرجهم بالسراء والنعم، فاستبعدوا أن يكون ذلك مكراً.
قال الحسن رحمه الله: (من وسع الله عليه فلم ير أنه يمكر به فلا رأي له).
وقال قتادة: (بغت القوم أمر الله، وما أخذ الله قوماً قط إلا عند سلوتهم ونعمتهم وغرتهم، فلا تغتروا بالله).
وفي الحديث: (إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج)، رواه أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم.
وقال إسماعيل بن رافع: من الأمن من مكر الله: إقامة العبد على الذنب يتمنى على الله المغفرة.
رواه ابن أبي حاتم، وهذا هو تفسير المكر في قول بعض السلف: (يستدرجهم الله بالنعم إذا عصوه ويملي لهم ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، وهذا هو معنى المكر والخديعة ونحو ذلك.
ذكره ابن جرير بمعناه].(91/2)
الأمن من مكر الله من كبائر الذنوب
من المعلوم أنه لا يراقب الله جل وعلا ولا يخاف منه إلا المؤمن، الذي يؤمن بأن كل شيء بيد الله، وأنه خلق العباد لعبادته، وأنه هو الذي يأمر وينهى، وهو الذي يجب أن يطاع أمره ويجتنب نهيه، وهو الذي خلق العباد للجزاء أو العقاب، وإذا لم يكن عند الإنسان تصور لما تقدم، وليس عنده تصور لوقوفه بين يدي الله فيجازى بعمله الذي عمله؛ يصبح كالبهيمة لا يبالي بشيء، بل يسعى للشيء الذي يروق له ويناسب شهواته، فمثل هؤلاء أمنوا مكر الله؛ لأنهم في الواقع لم يلتفتوا إلى ما خلقوا له، ولم يبالوا بأمر الله الذي خلقوا من أجله وهو طاعته، وإنما رأوا أنهم خلقوا للأكل والشرب والتمتع بالملذات حسب المستطاع الذي يستطيعونه، فهؤلاء لا عبرة فيهم وفي لهوهم ولعبهم وانشغالهم بالدنيا، وإنما الذي يوجه إليه مثل قوله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99] هم الذين يستشعرون بأن الله جل وعلا خلقهم وأنه سيحاسبهم، هؤلاء هم الذين يستفيدون من الخطاب أو قد يستفيدون منه.
ثم من المعلوم أن خطاب الله جل وعلا في القرآن الكريم وإن كان عاماً شاملاً للخلق كلهم فإنما يستفيد منه المؤمنون فقط، فالمؤمنون هم الذي يستفيدون منه ويمتثلون ذلك، ولهذا وجه إليهم النداء بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)، في كثير من الآيات؛ لأنهم هم الذين ينتفعون بهذا، وإلا فالجميع سيلاقون ربهم ويسألهم جل وعلا وهم عبيده.
ثم إن من حكمة الله جل وعلا أن جعل الجزاءات والعقوبات غير معجلة، ولذلك ترى الإنسان يتمادى في غيه وفي معاصيه والله تعالى يغدق عليه من الأرزاق والصحة والعافية، فيبتعد كل البعد عما خلق له من الطاعة ومن العمل، فهذا من المكر؛ لأنه كلما عمل سيئة تحسن في نظره وفي فكره فيعمل سيئة أخرى وهكذا حتى يصل إلى اقتراف السيئات الكبيرة والكثيرة، وهذا الإملاء هو الذي حذر منه السلف في هذه الآثار: (إذا رأيت الرجل يعطى النعم وهو مقيم على المعاصي فإنه مكر).
ولكن يوجد من الناس من يؤمن بالله، وأنه سيلاقي ربه فيجازيه، وأنه عبد لله، وأنه خلق لطاعته وتوحيده واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك تراه يعصيه وهو يعلم، وقد يقع كثير من الناس في المعاصي وهم لا يدرون أنها معصية؛ وذلك لقصورهم في العلم وجهلهم؛ فتراهم لا يهتمون بالعلم الذي يوصلهم إلى الله، وإنما أكثر الناس يهتم بالدنيا أكثر من اللازم، أما أمور الدين فلا يعطيها من الاهتمام إلا شيئاً يسيراً، والناس يختلفون في هذا اختلافاً كبيراً، فمنهم من ينسى آخرته، ويكون كل اهتمامه وغايته الحصول على الدنيا، وهذا كثير، وهؤلاء هم أبناء الدنيا، كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره: (إن للدنيا أبناء وللآخرة أبناء)، والمقصود بالأبناء: الذين يجعلون عملهم وكدهم وكدحهم وتحصيلهم لهذه أو لهذه، وقد جاء: أن الدنيا والآخرة ضرتان لا تقبل على واحدة إلا أضررت بالأخرى.
فلابد للإنسان أن يجعل نصب عينيه دائماً الجنة والنار؛ لأن هذه هي الغاية، فالناس يتسابقون إما إلى الجنة أو إلى النار ولابد، فإن هذه نهايتهم ومنتهاهم، وهذه الحياة منتهية بلا شك وستمضي، سواء كانت في الأمور التي يحبها الإنسان أو في الأمور التي يكرهها ويبغضها، وتنسى لقلتها وحقارتها وقصر أمدها، وإنما الشأن في كون الإنسان يستشعر الذي خلق له، ويعلم أن مصيره إلى ربه جل وعلا، وأنه سوف يجازيه بعمله، فيحاسب نفسه ويسير على هذا المنوال، ثم يجب أن يكون خائفاً من ذنوبه وراجياً لرحمة ربه، فيكون بين هذين الأمرين: في خوف يمنعه من اقتراف المعاصي، ورجاء يدفعه إلى التعلق بربه جل وعلا.
وكذلك يكون عاملاً بالأوامر مجتنباً للنواهي، ولهذا يقول الله جل وعلا: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9]، فأخبر أن الذي يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه هو العامل الذي يقوم آناء الليل ساجداً وقائماً بين السجود والقيام، وكذلك يقول جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ} [البقرة:218]، فالرجاء يكون مع العمل، والراجي لرحمة الله هو المحسن، كما قال الله جل وعلا: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56]، أما إذا كان الإنسان يسيء العمل ويأتي بما يخالف ما أمر به وما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يتمنى على الله الأماني ويقول: أنا أرجو الله ورحمة الله واسعة، فلا شك أن رحمة الله واسعة، ولكن أنت مأمور بأوامر فلا تهملها، ولا يكن أمر الله عندك من أقل الأوامر، فإنه إذا كان أمر الله قليل الشأن لدى الإنسان فإنه لا يبالي به، فرحمة الله واسعة، ولكنها للعاملين الذين يعملون، أما الذي يترك أوامر الله وراء ظهره ولا يبالي بها، وربما تمادى في المعاصي باستهتار، فيستهتر بكل ما أمره الله جل وعلا به؛ فهذا يخشى عليه أن يطبع على قلبه ثم ينتكس، فيصبح يحب المعاصي ويألفها حتى يدعوه ذلك إلى الخروج من الدين الإسلامي نهائياً، ويكره الحق ويبغضه، فإذا كان بهذه المثابة فهو من الخاسرين الذين أمنوا مكر الله.(91/3)
القنوط من رحمة الله من كبائر الذنوب
ومن ناحية أخرى لا يجوز للإنسان أن يستولي عليه الخوف حتى يستبعد أن يغفر الله له ويرحمه، فينتقل من محذور إلى آخر؛ لأن القنوط من رحمة الله واليأس من روحه من الكبائر العظام التي تنقص التوحيد وتذهب بكماله، فلابد أن يكون الإنسان خائفاً من ذنوبه راجياً لرحمة الله، وفضل الله واسع، وكرمه لا نهاية له، ولكنه لا يكون للمفرط العاصي الذي لا يبالي بأمر الله، وإنما يكون لمن فرط ووقع في المعاصي من غير أن يكون مستخفاً بأمر الله جل وعلا ولا مستهتراً به، أما إذا جاء الاستخفاف والاستهتار وعدم المبالاة فهذا يخشى أن ينزع منه الإيمان نهائياً، ويصبح محباً للمعاصي وأهل المعاصي، ثم تتراكم عليه المعاصي حتى يصبح ممن قال الله جل وعلا فيهم: {بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14].
ومعلوم أن من كانت ذنوبه غالبة عليه فهو ممن قال الله جل وعلا فيهم: {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [القارعة:8 - 9]، فمن ثقلت موازينه ولو بالشيء القليل فهو من المفلحين، ومن خفت موازينه فهو من الخاسرين، فمن ثقلت موازينه فهو في عشية راضية، وأما من خفت موازينه فأمه هاوية، والهاوية: هي جهنم، نسأل الله العافية، فالأعمال توزن، ولكن من فضل الله وكرمه أنه لو فضل للإنسان مثقال ذرة من الحسنات فإن الله يضاعفها له ويدخله بها الجنة، يضاعف هذا المثقال ويدخله به الجنة، ولكن المشكل أن يأتي الإنسان بحسنات كثيرة ويأتي بسيئات أكثر! ومن المعلوم أن اكتساب الحسنات ليس في الصلاة والصوم والزكاة وتلاوة القرآن والذكر فقط، بل هناك أعمال القلوب التي تكتسب بها الحسنات والسيئات، فأعمال القلوب فيها كبائر وصغائر كما أن أعمال الجوارح فيها كبائر وصغائر، فمن أعمال القلوب: الحسد والغل وبغض الحق وكراهيته، فهذه من عظائم الذنوب وإن لم ينطق بها الإنسان، وكذلك النيات الطيبة -كمحبة الخير ونحو ذلك- يتفاوت فيها الناس تفاوتاً كبيراً، وعلى إثر ذلك يؤجرون.
والمقصود: أن الله جل وعلا يذكر لنا في كتابه أنه شديد العقاب، كما يذكر لنا أنه غفور رحيم، ويذكر لنا الجنة وما فيها وما أعد لأهلها، ويذكر لنا النار وما فيها وما أعد لأهلها فيها، كما أنه يذكر أعمال الأمم السابقة التي بسببها أخذوا وأهلكوا، ويذكر أعمال الصالحين التي بسببها نصروا وأكرموا؛ لتكون عبرة لنا فنستمع القول فنتبع أحسنه، وننظر إلى الأعمال ونفعل الأعمال الحسنة ونجتنب الأعمال السيئة، فنرجو الجنة ونخاف من النار.(91/4)
كيفية تحصيل النعم ودفع الألم
هناك أمر -كل إنسان يدركه- وهو أن كل حي يسعى إلى تحصيل الملذات والنعم، ويسعى إلى إبعاد كل مؤلم عنه، هذا في الأمور المحسوسة المشاهدة، ولا يمكن أن يخالف في هذا إلا من ليس عنده عقل، ولكن إذا كان في أمور موعود بها وهي غائبة فقد يستبعد الإنسان هذا الشيء، وتسول له نفسه حتى يستولي عليه الشيطان، إلا إذا كان عنده الإيمان الكامل الذي يمنعه من اقتراف المعاصي، فخاف أن يقترف هذه الملذات الزائلة فتفوته الملذات الدائمة، ولكن كثيراً من الناس إيمانهم غير كامل.
ثم إن تحصيل النعم واجتناب الألم له أسباب، فلابد من تحصيل سبب هذا وتوقي سبب ذاك، فهذه أمور أربعة: طلب الخير والنعيم، ودفع الشر والألم، وسبب هذا وسبب هذا، وهذه كلها بيد الله جل وعلا، والإنسان لا يملكها، فإذا آمن بالله واتبع أمره واجتنب نهيه فإن الله يوصله إلى مراده، ويسهل عليه الطريق، فيتحصل على النعيم، أولاً: نعيم الأنس بالله وبطاعته، ثم بعد ذلك إذا فارق هذه الدنيا يكون ذلك هو خير أيامه التي مرت عليه، ويكون خير يوم يمر عليه يوم يلاقي الله جل وعلا، ثم إن أعظم الشدائد التي يلاقيها وأصعبها هو الموت فقط، أما بعد ذلك فهو ينتقل من خير، إلى ما هو أخير إلى أن يستقر في دار القرار في جنة رب العالمين التي أعدها لعباده، أما إن كان بالعكس فالأمور بالعكس: فأسهل الشدائد التي تمر عليه الموت وما بعد الموت أشد منه، ثم ينتقل من شدة إلى ما هو أشد، إلى أن تجتمع الشدائد كلها والآلام كلها في جهنم.
هذا هو المصير الذي ينتهي إليه الناس جميعاً، إما هذا وإما هذا، ومن المعلوم أن الناس فيهم المجتهد في هذا والمجتهد في هذا، فيهم من يجتهد في تحصيل الملذات والنعيم من الطريق الصحيح، ويجتهد في إبعاد المؤلم والمؤذي بفعل الأسباب، ومنهم من يكون أقل، ومنهم من يكون بالعكس، ولهذا تفاوتت جزاءاتهم وعقاباتهم تفاوتاً عظيماً، حتى إن من المؤمنين من يدخل النار، وذلك إذا لم تكن المصائب والشدائد كافية في تطهيره، فإن الموت والمرض والمصائب والمؤلمات التي تمر بالمؤمن قد تكون كفارات له من الذنوب، ولا يلزم أن يكون هذا لكل أحد، ثم بعد الموت يكون عذاب في القبر، وعذاب القبر بلا شك أنه أطول بكثير مما يلاقيه الإنسان في حياته من نعيم أو ألم؛ لأن بقاءه في القبر أكثر من بقائه على ظهر هذه الأرض، ثم قد لا يكفي كل هذا، فيلاقي الصعوبات والشدائد في الموقف في يوم القيامة، حتى إن من الناس في الموقف من يتمنى أن يذهب به إلى النار حتى يرتاح من الموقف، وهذه طبيعة الإنسان: أنه كلما وقع في شيء مؤلم يتمنى أن ينتقل منه إلى غيره ولو كان ذلك أشد؛ لأنه لا يتصور أن الذي بعده أشد، ثم قد ينتقل من ذلك إلى جهنم -وإن كان عنده إيمان- ثم بعد ذلك إذا لقي جزاءه يرحمه الله جل وعلا برحمته إذا كان عنده أصل الإيمان فيخرجه منها، ولكن هل يخاف الإنسان من كونه يلاقي هذه الشدائد وهذا العذاب؟! فالعاقل هو الذي يبحث عن النعيم الذي يتنعم به دائماً، ويبحث عن وقاية من المؤلم دائمةً.(91/5)
الأمور التي تدفع الإنسان إلى فعل الخير لينال النعيم
إذا استشعر الإنسان هذا بحقيقته وعرفه فإنه يحدوه إلى العمل؛ وذلك لأنه أولاً يؤمن بأن الله يعذب العصاة، فإذا وقع في المعصية يجب عليه أن يخاف فيحترز من ذلك، ويحدث توبة وأعمالاً يرجو أن يقبلها الله منه ويعفو عما سلف.
فأولاً: يكون مؤمناً بأن الله لما توعد ووعد أنه لابد من وقوع ذلك، فيجتنب الأعمال التي يترتب عليها الوعيد، ويفعل الأعمال التي يترتب عليها الوعد.
ثانياً: من الأمور التي تدفع الإنسان إلى أنه يجتهد: أنه لا يدري هل قبلت أعماله أو ردت؛ لأن الأعمال لها آفات كثيرة، والله لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً لوجهه وكان على سنة المصطفى صلوات الله وسلامه عليه: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110]، قوله: {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً}: يعني على السنة، أما إذا كان على غير السنة فهو ليس بصالح: {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} أي: يجب أن يكون العمل خالصاً لله جل وعلا لا يقصد به غير الله.
الأمر الثالث: أنه لا يدري على ماذا يموت، فيجوز أن يموت على غير ما عاش عليه، والأمور كلها بيد الله يتصرف فبها كيف يشاء، فمن شاء أن يهديه هداه ومن شاء أن يضله أضله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27]، فيخاف من سوء الخاتمة فقد يؤخذ الإنسان بغتة على أسوأ أعماله، وهذا مشاهد، فقد يكون الإنسان في أسوأ حالة ثم يموت على ذلك، نسأل الله العافية.
فهذه الأمور تجعل الإنسان يجتهد، وإذا اجتهد فيجب أن يكون اجتهاده على وفق أمر الله، فيكون بين هذا وهذا خائفاً راجياً، فذكر الجنة والنار سيكون حادياً للعمال الذين يعملون للجنة ومانعاً لهم عن العمل الذي يقرب إلى النار، أما رب العالمين جل وعلا فإنه غني بذاته عن عمل عباده كلهم، فلا تنفعه طاعة المطيع ولا تضره معصية العاصي، ولو أن عباده كلهم صاروا على أكفر قلب رجل واحد منهم ما ضره ذلك بشيء، وإنما يضرون أنفسهم فقط، ولهذا جاء في الحديث القدسي أن الله جل وعلا يقول: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحدٍ منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، ثم قال: إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله؛ -لأن ذلك بتوفيقه وبنعمته وفضله- ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه) , النفس هي الملومة؛ لأنها هي التي اكتسبت ذلك، ولا يدخل أحد النار إلا بعمله، كما أنه لا يدخل أحد الجنة إلا بالأسباب التي جعلها الله سبباً لذلك، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر منادياً بالمجامع أن ينادي: (إنه لن يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة)؛ ليكون ذلك معلوماً، ويكون ذلك بلاغاً بلغ به الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه جل وعلا، فعلى الإنسان أن يسعى لخلاص نفسه على وفق إرشاد الله لنا وتوجيهه لنا، فنخاف ذنوبنا ونرجو رحمة ربنا دائماً، مع فعل الأوامر واجتناب النواهي.(91/6)
القنوط من رحمة الله ضلال وهلكة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقول الله تعالى: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ} [الحجر:56]].
القنوط: هو اليأس وفقد الأمل، كأن يعمل عملاً يستعظمه فيقول: هلكت ولن تنفعني توبة ولا عمل صالح، فكونه يستبعد المغفرة ويغلق الباب أمامه هذا من أعظم الكبائر، وهذا أيضاً من الأمور التي تذهب بكمال التوحيد، ولهذا ذكره، فقد ذكر الآية الأولى التي فيها التحذير من الأمن من مكر الله، وهو أن يعمل الإنسان المعاصي ولا يخاف من عقاب الله، فهذا هو الأمن من مكر الله، ثم ذكر هذه الآية وفيها التحذير من القنوط، وهو: أن الإنسان إذا عمل معصية يقنط ويقول: لست أهلاً للمغفرة، ولن يغفر لي، ويستبعد أن يغفر الله له ويتوب عليه، فيكون بهذا القنوط قد انتقل من ذنب إلى ما هو أكبر منه، وهذا هو الذي يريده الشيطان.
فيجب على الإنسان مهما كان ذنبه أن يعلم أنه إذا تاب صادقاً فإن الله يتوب عليه، وأن رحمته وسعت كل شيء، فيخاف من ذنبه ويتعلق برحمة ربه، وهذا يدلنا على أن الإنسان يجب أن يكون دائماً بين الخوف والرجاء، كما أرشد إلى ذلك كتاب الله جل وعلا في كثير من الآيات قال الله جل وعلا: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} [الحجر:49 - 50]، فبدأ أولاً بالمغفرة وأنه غفور رحيم، ثم ذكر أن عذابه عذابٌ أليم، وقال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً} [التحريم:8]، والتوبة النصوح: هي التي تتضمن الصدق، فيصدق فيها ويندم على وقوعه في الذنب، ويعزم عزماً صادقاً على أن لا يعاود الذنب، ثم لو قدر أنه عاد إلى ذنب فعليه أن يتوب وهكذا، ولو تكرر ذلك في اليوم فلا يجوز أن يقنط من رحمة الله ويقول: كثرت ذنوبي وأصبحت لا أستحق أن يغفر الله لي، فإن الشيطان حريص على أن يوصل الإنسان إلى هذه المرحلة حتى يجعله هالكاً.(91/7)
سعة رحمة الله وحبه الخير لعبده وفرحه بتوبته
جاء في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لله أشد فرحاً بتوبة عبده التائب من أحدكم يفقد راحلته عليها طعامه وشرابه في أرض مهلكة، فيطلبها فييأس من وجودها، ثم يضع رأسه تحت شجرة ينتظر الموت قد أيس من الحياة، فبينما هو كذلك في انتظار الموت إذا راحلته قائمة على رأسه، فيأخذ بخطامها فيقول: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح) , ففرح الله وجوده وكرمه عظيم، وهذا غاية ما يتصور من الفرح، فهذا إنسان فقد الحياة وأيس منها، ثم تعود إليه في لحظة ينتظر فيها الموت! فإنه يفرح فرحاً عظيماً وهو غاية ما يصل إليه الفرح: (لله أشد فرحاً بتوبة عبده)، هل لأن الله جل وعلا يحتاج إلى عبده؟ كلا! ولكن لكرمه وجوده وفضله وحبه للخير تعالى وتقدس، فيحب أن يكون عبده ممن يفعل الخير ويريده ويتعرض له، ويكره أن يكون عبده معذباً، ولكن يأبى العبد إلا أن يقع في الأذى كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (كلكم يدخل الجنة إلا من أبى، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى)، فالأمر يتعلق بالإنسان نفسه وبطاعته ومعصيته.
وفي الصحيح أيضاً أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر رجلاً مسرفاً على نفسه، قتالاً سفاكاً للدماء، قد قتل تسعاً وتسعين نفساً بغير حق، ثم بعد ذلك ألقى الله جل وعلا في قلبه الندم وطلب التوبة، وصار يبحث ويسأل ويقول: دلوني على عالم أسأله، فدل على رجل عابد فسأله فقال: إنه لا توبة لك؛ لأن الذي يقتل النفس الواحدة كأنما قتل الناس جميعاً، فكيف وقد قتلت تسعاً وتسعين نفساً؟ فعند ذلك قتله وكمل به المائة! ومع ذلك عاد على نفسه باللوم وقال: كيف هذا التمادي؟! فأصبح يسأل، فدل على رجل عالم فسأله هل لي من توبة؟ قال: نعم، ومن يحول بينك وبين التوبة؟ ولكن أنت في أهل بلد فساد وإسراف، وتوجد هناك بلد خير وأهله أهل خير وطاعة فهاجر إليها وتب صادقاً، فامتثل ذلك وهاجر صادقاً تائباً مقبلاً على ربه جل وعلا، وفي أثناء الطريق أدركه الموت، فجاءته ملائكة العذاب تريد أن تقبض روحه إلى جهنم، وجاءت ملائكة الرحمة تريد أن تقبض روحه إلى رحمة الله؛ لأنه جاء تائباً، فأصبحوا يتخاصمون عنده كل فريق يقول: نحن أولى به، فهؤلاء يقولون: هذا مسرف قتال ما عمل خيراً قط، وهؤلاء يقولون: جاء تائباً منيباً صادقاً، والتوبة هي نهايته وآخر عمله فنحن أولى به، فاختصموا، وعند ذلك أرسل الله جل وعلا إليهم ملكاً ليكون حكماً بينهم، فقال: قيسوا ما بينه وبين البلدين، فأيهما كان إليها أقرب فهو من أهلها، فوجدوه إلى بلد الخير أقرب بشبر أو ذراع فقبضته ملائكة الرحمة.
وفي رواية -وهي تدل على صدقه- (أنه كان ينوء بصدره -وهو يكابد الموت- يعجز أن يسير فينوء بصدره ليقرب من البلد الصالح).
وفي رواية: (أن الله أوحى إلى البلد الخير أن تقاربي، وإلى البلد الشر أن تباعدي).
والمقصود: أن هذا يدل على عظم رحمة الله جل وعلا، وأنه لا يهلك إلا الهالكون، غير أنه يجب أن يعلم أن هناك أموراً تقتضي رحمة الله: أولاً: أن يكون الإنسان على الإيمان.
الثاني: أن يكون على السنة، فلا يكون على بدعة وضلال، فيعمل أعمالاً على خلاف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وإن كانت كثيرة، فإنه إن كان بهذه المثابة فهو ممن قال الله جل وعلا فيهم: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف:104] , وقال جل وعلا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * {تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} [الغاشية:2 - 5]، فذكر أنهم يخشعون ويعملون وينصبون، والنتيجة: أنهم يصلون النار الحامية؛ لأنهم على ضلال وبدع، فإذا كان الإنسان على السنة، وإن كان عمله قليلاً وإن كان عنده إسراف، فيجب أن لا يقنط من رحمة الله ولا ييأس من روح الله، مع أنه يجب أن يخاف حتى يكون الخوف حاملاً له على العمل وداعياً له إلى اجتناب المعاصي، ويكون الرجاء مرغباً له في فعل الطاعة.(91/8)
الخوف والرجاء
قال الشارح رحمه الله تعالى: [القنوط استبعاد الفرج واليأس منه، وهو يقابل الأمن من مكر الله وكلاهما ذنب عظيم وتقدم ما فيه لمنافاته لكمال التوحيد.
وذكر المصنف رحمه الله تعالى هذه الآية مع التي قبلها تنبيهاً على أنه لا يجوز لمن خاف الله أن يقنط من رحمته؛ بل يكون خائفاً راجياً، يخاف ذنوبه ويعمل بطاعته ويرجو رحمته، كما قال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9]، وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:218]].
يقول بعض العلماء: ينبغي للإنسان ما دام في صحته وقوته أن يكون الخوف أغلب عليه حتى يكون العمل أمامه، أي: يعمل لأجل ذلك، أما إذا كان في المرض والضعف فإنه ينبغي أن يعكس القضية ويكون الرجاء أغلب عنده من الخوف؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن ظنه بربه) , وفي الحديث الآخر أن الله جل وعلا يقول: (أنا عند ظن عبدي بي، فإذا ظن خيراً وجده وإن ظن شراً وجده) , فيقدم الرجاء، وينبغي إذا كان في المرض أن يذكر بأعماله الطيبة الصالحة حتى يكون ذلك داعياً لرجائه فيغلب الرجاء، وذلك لأنه في هذه الحالة أصبح لا يستطيع أن يعمل، وبقي معه عمل القلب فقط، فيأتي بعمل القلب وهو الرجاء حتى يغلب الخوف فيكون ممن ظن ظناً حسناً؛ ليكون الله عند ظنه هذا الذي ذكره بعض العلماء، وبعضهم يقول: بل يكون بين الخوف والرجاء دائماً، فإنه إذا غلب أحدهما الآخر فسد القلب، فالذي يغلبه الخوف يقع في طريقة الخوارج والحرورية وأهل الوعيد مثل المعتزلة، والذي يغلبه الرجاء قد يدعوه ذلك إلى أن يقع في طريقة المرجئة الذين تركوا الأعمال وأصبحوا يرون أن الإيمان يكفي فيه عمل القلب الذي يقولونه، وإلا فليس هو عمل قلب في الواقع، وإنما هي أمور وتصورات خاطئة، ويجب أن يكون الإنسان بين هذا وهذا بين الخوف والرجاء دائماً.
قوله: [الرجاء مع المعصية وترك الطاعة غرور من الشيطان؛ ليوقع العبد في المخاوف مع ترك الأسباب المنجية من المهالك، بخلاف حال أهل الإيمان الذين أخذوا بأسباب النجاة خوفاً من الله تعالى وهرباً من عقابه وطمعاً في المغفرة ورجاءً لثوابه.
والمعنى: أن الله تعالى حكى قول خليله إبراهيم عليه السلام لما بشرته الملائكة بابنه إسحاق: {قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِي الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} [الحجر:54]؛ لأن العادة أن الرجل إذا كبر سنه وسن زوجته استبعد أن يولد له منها، والله على كل شيء قدير، فقالت الملائكة: (بشرناك بالحق) الذي لا ريب فيه، فإن الله إذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون، (فلا تكن من القانطين) أي: من الآيسين، فقال عليه الصلاة والسلام: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ} [الحجر:56]، فإنه يعلم من قدرة الله ورحمته ما هو أبلغ من ذلك وأعظم، لكنه -والله أعلم- قال ذلك على وجه التعجب!].
هو على وجه التعجب؛ لأن العادة التي أجرى الله جل وعلا عليها خلقه أن المرأة إذا كبرت وتعدت الخمسين لا يولد لها، فهذا شيء اعتاد عليه الخلق، فإذا خرج عن ذلك شيء فهو من آيات الله، وإلا فإن إبراهيم عليه السلام يعلم أن الله على كل شيء قدير، فهو الذي خلق آدم من التراب، وخلق عيسى من امرأة من دون ذكر، وخلق حواء من ذكر بلا امرأة، فهو قادر على أن يخلق ما يشاء، فخلق بني آدم وجعلهم جل وعلا على أصناف أربعة؛ ليبين قدرته: فآدم خلق من تراب، فهو إنسان حي سميع بصير يعلم ويتكلم ومع ذلك خلق من تراب ميت يابس! فهذا من تراب بقدرة الله جل وعلا.
هذا قسم.
القسم الثاني: المرأة التي خلقت من آدم -حواء- فإنها خلقت من ضلعه فهي بضعة منه.
والقسم الثالث: عكس القسم الثاني: رجل خلق من امرأة فقط بدون أن يتصل بها ذكر وهو عيسى عليه السلام فقط.
والقسم الرابع: العادة التي أجراها الله أن المولود يكون من بين ذكر وأنثى، ولهذا لا يستغرب الناس ذلك مع أنه غريب في الواقع، ولهذا يأمر الله جل وعلا بالتفكر فيه، كيف يخلق هذا الحي العجيب من نطفة؟! ولهذا كثيراً ما يذكر الله جل وعلا هذا لنتعجب ولنتفكر فيقول جل وعلا: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21]، يعني فيها آيات ولكنكم معرضون عنها: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ} [الطور:35]، {فَلْيَنظُرْ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ} [الطارق:5]، ينظر ويتعجب من أين خلق؟! {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} [عبس:17 - 22].
إلى غير ذلك من الآيات الدالة على وجوب التفكر في هذا الخلق.
فإبراهيم عليه السلام نظراً للعادة التي عليها الخلق، لما بشروه بإسحاق وقد بلغ من السن عتياً هو وزوجته ولماذا إسحاق وليس إسماعيل؟ لأن ولده الكبير إسماعيل ليس من زوجته بل من أمته هاجر، وهي أمة وهبتها له زوجته سارة، فلما ولدت غارت منها، فهاجر بها إبراهيم إلى مكة ووضعها هي وابنها هناك، وتركهما وليس معهما أحد، كما هو معروف في القصة، وهذه البشارة جاءت بعد ذلك حينما جاءت الملائكة لإهلاك قوم لوط، كما ذكر الله جل وعلا ذلك في سورة الذاريات: {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ} [الذاريات:31 - 33] , يعني: قوم لوط، {قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا} [العنكبوت:32].
فالمقصود: أن هذه البشارة كانت متأخرة عن مولد إسماعيل، ولهذا فإن إسحاق هو أبو الأنبياء، فإن الذين جاءوا من بعده كلهم من ولد إسحاق إلا محمداً صلى الله عليه وسلم فقط فهو من ولد إسماعيل، أما البقية فمن ولد إسحاق، والله جل وعلا ما أرسل نبياً بعد إبراهيم إلا من ذريته، فكل الأنبياء الذين أرسلوا بعد إبراهيم من ذرية إبراهيم.
المقصود: أنه قال هذا لما قَالُوا: بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ, أي: بالشيء الواقع الثابت الذي لا يتغير ولا يتبدل: {فَلا تَكُنْ مِنْ الْقَانِطِينَ * قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ} [الحجر:55 - 56]، أي: لست من القانطين، ولكن هذا أمر خرج عن العادة، فقوله: (فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) كأنه ظنهم من آحاد الناس فقال: كيف تبشرونني بهذا وأنا في هذا السن وزوجتي عجوز -كما قالت هي: عجوز عقيم- يعني: كيف تلد وهي بهذه الصفة؟ فأخبروه أنهم رسل الله وأنها بشارة من الله جل وعلا، فلما كان كذلك لم يكن هناك مجال للقنوط.
وقوله: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ} [الحجر:56]، الضال: هو الذي ترك الحق وارتكب غيره -أضاع طريقه- فصار طريقه ليس الطريق السليم المنجي بل هو المهلك، ولهذا فسره بعض العلماء بالهالكين، فالذي ضل يهلك، والذي يقنط من رحمة ربه يكون هالكاً.
قال رحمه الله: [قوله: (إِلاَّ الضَّالُّونَ)، قال بعضهم: إلا المخطئون طريق الصواب أو إلا الكافرون، كقوله تعالى: {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87]].(91/9)
الفرق بين اليأس والقنوط
اختلف في الفرق بين اليأس والقنوط، فمن العلماء من يقول: القنوط شدة اليأس، فيكون الفرق بينهما مثل الفرق بين الدعاء والاستغاثة، فالاستغاثة دعاء خاص في حالة خاصة وهي داخلة في الدعاء، فيكون القنوط يأساً ولكنه أعظم اليأس وأشده، وقد أخبر جل وعلا في قصة يوسف ويعقوب حفيد إبراهيم أن يعقوب قال لبنيه: {يَا بَنِي اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87]، فالذي ييأس يكون كافراً.(91/10)
اليأس من روح الله والأمن من مكر الله
قال المصنف رحمه الله رحمة واسعة: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الكبائر؟ فقال: (الشرك بالله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله)].
قال الشارح رحمه الله تعالى: [هذا الحديث رواه البزار وابن أبي حاتم من طريق شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما، ورجاله ثقات إلا شبيب بن بشر فقال: ابن معين رحمه الله: ثقة، ولينه أبو حاتم.
وقال: ابن كثير: في إسناده نظر، والأشبه أن يكون موقوفاً.
قوله: (الشرك بالله) هو أكبر الكبائر، قال: ابن القيم رحمه الله تعالى: الشرك بالله هضم للربوبية وتنقص للإلهية وسوء ظن برب العالمين.
انتهى.
ولقد صدق ونصح، قال تعالى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1]، وقال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، ولهذا لا يغفره الله إلا بالتوبة منه.
قوله: (واليأس من روح الله) أي: قطع الرجاء والأمل من الله فيما يخافه ويرجوه؛ وذلك إساءة ظن بالله وجهل به وبسعة رحمته وجوده ومغفرته.
قوله: (والأمن من مكر الله) أي: من استدراجه للعبد وسلبه ما أعطاه من الإيمان، نعوذ بالله من ذلك! وذلك جهل بالله وبقدرته وثقة بالنفس وعجب بها.(91/11)
الكلام على الكبائر والصغائر
قال الشارح رحمه الله: واعلم أن هذا الحديث لم يرد به حصر الكبائر في الثلاث، بل الكبائر كثيرة، وهذه الثلاث من أكبر الكبائر المذكورة في الكتاب والسنة، وضابطها: ما قاله المحققون من العلماء: كل ذنب ختمه الله بنار أو لعنة أو غضب أو عذاب، زاد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أو نفي الإيمان.
قلت: ومن برئ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قال: (ليس منا من فعل كذا وكذا)، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (هي إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع، غير أنه لا كبيرة من الاستغفار ولا صغيرة من الإصرار)].
من الكبائر: الإشراك بالله والأمن من مكر الله واليأس من روح الله.
ومعلوم أن الذنوب تنقسم إلى قسمين: قسم كبير وقسم صغير، لقول الله جل وعلا: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31]، فاشترط جل وعلا لتكفير السيئات اجتناب الكبائر، فدل هذا على أن الذنوب منها ما هو كبير ومنها ما هو صغير، وبعض العلماء ينكر هذا ويقول: الذنوب كلها كبيرة، وهذا بالنظر إلى من عُصي؛ لأن الرب جل وعلا شأنه عظيم، ومجرد المعصية كبيرة وإن كان الذنب صغيراً في نظر العاصي إلا أنه كبير، ولكن ما دلت عليه الأدلة أولى، والأدلة دلت على أن الذنوب منها الكبير ومنها الصغير، وفي أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الكبائر ويقول: الكبائر كذا، وجاء أنه صلوات الله وسلامه عليه ذكر أن: (الصلاة إلى الصلاة والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا لم تغش الكبائر)، ومن هنا قال العلماء: إن الكبائر لابد فيها من التوبة، أما الصغائر فتكفر بمجرد اجتناب الكبائر، ثم اختلفوا في الفرق بين الصغيرة والكبيرة بعد الاتفاق على أن هناك ذنوباً منصوصاً عليها بأنها من الكبائر.
ومعلوم أن الشرك هو أعظمها؛ لقول الله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فجعل ما دون الشرك داخلاً تحت مشيئته جل وعلا، إذا شاء أن يغفره غفره وإن شاء أن يؤاخذ به آخذ به، أما إذا مات الإنسان على الشرك فهو غير مغفور له، والشرك ليس متساوياً بل بعضه أكبر من بعض، ففيه ما هو صغير وما هو كبير، وإن كان الذي يلحق بالصغائر ليس داخلاً فيه؛ لأنه لا يخرج من الدين الإسلامي يسير الرياء؛ كالحلف بغير الله الذي يجري على اللسان بدون قصد تعظيم المحلوف به، وما أشبه ذلك، فمثل هذا وإن كان من الكبائر فإنه لا يدخل في الشرك الأكبر الذي يخرج من الملة؛ لأنه لا يخرج من الدين الإسلامي، أما الشرك الأكبر فإنه يخرج من الدين الإسلامي، وهو أعظم الذنوب؛ وذلك لأن المشرك تنقص الله جل وعلا وصرف حقه لمخلوق مثله لا يستطيع أن ينفع نفسه ويجلب لها النفع ولا أن يدفع عنها الضرر فكيف بغيره! وهذا عام في المخلوقين كلهم، وهو أن يجعل شيئاً من العبادة لمخلوق أو يشركه فيها، كأن يتوجه إليه بالدعاء فيدعوه ويقول: يا فلان أغثني أصلح قلبي ارزقني اشفع لي عند الله، وما أشبه ذلك، أو ينذر له نذراً سواء كان ذبيحة أو طعاماً أو غير ذلك، ويعتقد أن الميت يقبل هذا النذر ويثيبه عليه! أو يتبرك به أو بقبره ويطوف عليه أو يجلس عنده؛ لأن الجلوس والعكوف عبادة، ولهذا أثنى الله جل وعلا وأمر أن يطهر بيته للعاكفين وللقائمين والساجدين، فالعكوف عبادة، وكذلك سائر العبادات، مثل الخوف كأن يخافه الخوف الغيبي، أو الرجاء كأن يرجوه أن ينفعه نفعاً غير قائم على سبب، وأنواعه كثيرة جداً، وضابطها: أن تكون عبادة لله جل وعلا يثيب عليها أو يعاقب عليها ثم يجعلها للمخلوق أو يجعل بعضها للمخلوق، فيشرك بينه وبين الرب جل وعلا، فهذا من الشرك الأكبر وهو أعظم الكبائر.
أما بقية الكبائر فمن العلماء من حاول عدها وذكرها بأعيانها، فمنهم من ألف فيها مؤلفات في سردها، كالحافظ ابن القيم رحمه الله فله مؤلف في الكبائر (كتاب الكبائر)، وكذلك الذهبي له كتابان في هذا: كتاب كبير وكتاب صغير، وكذلك ابن حجر الهيثمي له كتاب: (الزواجر في اقتراف الكبائر)، وهو أوسع الكتب التي ألفت في هذا الباب، وقد ذكر فيه كبائر كثيرة وقسمها إلى: كبائر تفعل بالجوارح الظاهرة وكبائر تفعل بالقلب كالحسد والغل وما أشبه ذلك.
ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لم يرد حصر الكبائر بهذا الحديث؛ لأنه سبق أن مر معنا: (اجتنبوا السبع الموبقات) فجعلها سبعاً وهنا ثلاثاً، وفي بعض الأحاديث أكثر وبعضها أقل، ولهذا اختلفوا في ضابطها ما الذي يفرق بينها وبين غيرها؟ ومنهم من ضبطها بأنها: كل ما ترتب عليه حد في الدنيا أو وعيد في الآخرة بالنار أو بالغضب أو بالعذاب فإنه يكون من الكبائر، بل بعضهم قال: إذا توعد فاعلها، أو قيل في حقه: إنه ليس منا أو ليس على ملتنا، أو تبرأ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أنا بريء ممن فعل كذا وكذا) مثل ما جاء في الاستنجاء بالعظم والروث، فيكون هذا منها؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم تبرأ ممن فعل ذلك.
وهذا التفريق حتى تتميز الذنوب الكبيرة من الذنوب الصغيرة، ويعرف الإنسان الشيء الذي وقع فيه وأنه يجب عليه أن يبادر للتوبة ويتوب؛ لأنه إذا مات بدون توبة فإنه يكون مؤاخذاً بذلك إلا أن يشاء الله فيعفو عنه، مع أن التوبة تجب حتى من الصغائر؛ لأن الصغائر إذا اجتمعت تكون كبيرة، وقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً لذلك بقوله: (وإياكم ومحقرات الذنوب)، سميت محقرات: لكون الإنسان يحقرها ويستصغرها، ثم لا يبالي بها فتكثر، فضرب لذلك مثلاً فقال: (فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا منزلاً فصاروا يجمعون حطباً هذا يأتي بعود وهذا يأتي بعود، حتى جمعوا ما أنضجوا به خبزهم) فهذا مثلها، فإذا اجتمعت أحرقت الإنسان وأهلكته، وقول ابن عباس: إنها إلى السبعمائة أقرب منها إلى السبع أو قال إلى السبعين، يعني: أنها كثيرة غير محصورة.(91/12)
التوبة النصوح وشروطها
ولكن يقول: (لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصرار) يعني: أن الإنسان إذا وقع في الكبائر وتاب فإنها تمحى ويُعفى عنها؛ لأن المقصود بالاستغفار التوبة، والتوبة: هي التوبة النصوح، ولها شروط ثلاثة أو أربعة: أولاً: أن يقلع عن الذنب، ولا يصر عليه.
الثاني: أن يندم على وقوعه فيه.
الثالث: أن يعزم عزماً جازماً أنه لا يعاوده، فإذا فعل ذلك فتكون التوبة مقبولة بإذن الله، ولو عاد فعليه أن يتوب مرة أخرى، بشرط أن لا تكون عنده نية بأنه سيعود، فإن كانت عنده نية فهو مصر.
فإن كان الذنب يتعلق بحق آدمي فإنه يضاف إلى ما تقدم هذا الشرط: أن يستسمح ممن أذنب في حقه ويرد له مظلمته.
يقول العلماء: هذه هي التوبة النصوح المقبولة عند الله، وهي التي أمر الله بها بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً} [التحريم:8]، يعني: أن تكون صادقةً توفرت فيها الشروط السابقة يرجو بها ثواب الله، وأعظم الذنوب الشرك بالله جل وعلا، وسواء كان شركاً في الربوبية، وأمره واضح وظاهر، ولكن قد يقع فيه بعض الناس، أو كان شركاً في العبادة، أي: العبادةِ التي تصدر من الإنسان؛ لأن الإنسان عبدٌ لله جل وعلا، وقد كلف بأوامر وكلف بأن ينكف عن نواهي نهي عنها، فيجب أن يكون دائماً بين أمر الله فاعلاً له وتاركاً لما نهاه عنه مراقباً لهذا النهي لا يقربه، وبذلك تستقيم عبوديته لله جل وعلا.
فهذه العبادة يجب أن تكون لله خالصة، وضدها الشرك وهو: أن يقصد بعمله مخلوقاً من خلق الله جل وعلا، أو يقصد بعبادته أمراً دنيوياً ومصلحة عاجلة يتحصل عليها، سواء كانت رفعة أو ثناء يثني عليه الناس ويمدحونه فإن هذا نوع من عبادة النفس؛ لأنه يريد أن يكون هو الذي ينظر إليه ويشار إليه، ولكن يجب أن يعرف قدره عند الله بالنظر إلى عمله، فيعرض عمله على كتاب الله فربما يكون ممقوتاً عند الله، فلو كان كذلك فماذا يفيده لو أشار الناس إليه أو أثنوا عليه؟ لا يفيده ذلك شيئاً.
كذلك من الأمور التي قد تكون كبيرة والإنسان لا يشعر بها: العجب، فكونه يعجبه عمله ويرى أنه أفضل من غيره، أو أن يكون عنده من الحسد والحقد والبغضاء والكراهية للحق، فإن هذا أمره عظيم وقد يدخل في الشرك؛ لأن الذي يحمله على ذلك إما حب النفس أو حب أمر من أمور الدنيا، سواء كان من الأشخاص أو من المعاني.
ثم الأمن من مكر الله ومعناه: أن يتهاون بأمر الله ويستصغره ولا يهتم به، ولا يخاف من عقاب الله جل وعلا لو فعل ما نهى عنه، ولهذا يقال: إذا رأيت الإنسان مقيماً على المعصية وهو معافى فهذا هو الأمن من مكر الله، فيجب أن يكون الإنسان خائفاً مراقباً لربه جل وعلا، وإذا أمن مكره وقع في الكبيرة، وعكس هذا القنوط من رحمة الله وهو من الكبائر، وهو أنه يخاف خوفاً كبيراً ويقول: لا يغفر لي؛ لأني فعلت ذنوباً عظيمةً، فييأس ويقنط من رحمة الله، وهذا من إساءة الظن بالله جل وعلا، والله قد أخبر بأنه يغفر الذنوب جميعاً، وأنه إذا أراد أن يفعل شيئاً فلا يمنعه أحد، ولا يتعاظم الإنسان ذنباً من الذنوب فيبقى الباب أمامه موصداً، وهذا من تزيين الشيطان له ليهلكه، فيجب أن يرجع إلى ربه جل وعلا دائماً، ويعلم أن رحمة الله واسعة وسعت كل شيء، فيكون خائفاً من ذنوبه مراقباً لنفسه ألا تستمر على معصية وتتمادى عليها، ويكون عارفاً بفضل الله العظيم ورحمته وسعة مغفرته، فيكون بين هذا وهذا، ولا يصر على الصغيرة؛ لأن الاستمرار على الصغيرة يصيرها من الكبائر؛ لأن الله جل وعلا نهاه عن الذنوب مطلقاً، واستمراره على الذنب -وإن كان صغيراً- هو استسهالٌ للأمر واحتقار له فلذلك يصير كبيراً عند الله، أو أن الذنوب تتكاثر فإذا كثرت صارت كبيرة كما مثل الرسول صلى الله عليه وسلم لذلك.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (أكبر الكبائر الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله)، رواه عبد الرزاق].
قوله: (أكبر الكبائر الإشراك بالله) أي: في ربوبيته أو عبادته وهذا بالإجماع.
قوله: (والقنوط من رحمة الله) قال أبو السعادات: هو أشد اليأس.
وفيه التنبيه عن الرجاء والخوف فإذا خاف فلا يقنط ولا ييأس بل يرجو رحمة الله، وكان السلف يستحبون أن يقوي في الصحة الخوف، وفي المرض الرجاء، وهذه طريقة أبي سليمان الداراني وغيره، قال: وينبغي للقلب أن يكون الغالب عليه الخوف، فإذا غلب الرجاء الخوف فسد القلب, قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الملك:12]، وقال سبحانه وتعالى: {يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:37]، وقال: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون:60 - 61] , وقال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9]، وقدم الحذر على الرجاء في هذه الآية].
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيه مسائل: الأولى: تفسير آية الأعراف.
الثانية: تفسير آية الحجر.
الثالثة: شدة الوعيد فيمن أمن مكر الله.
الرابعة: شدة الوعيد في القنوط].(91/13)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [92]
الإنسان معرض للبلايا والمصائب، وأقدار الله تعالى نازلة على كل أحد، فيجب على المسلم تجاهها أن يتسلح بسلاح الصبر، وأن يعلم أنه عبد لله تعالى، يتصرف فيه كيف يشاء، وأن الدنيا فانية، فمن صبر ورضي فله الرضا والأجر والمثوبة من الله تعالى، ومن سخط فله السخط، والصبر أمر واجب، فمن تركه كان ناقص التوحيد، وهو معرض لعذاب الله تعالى.(92/1)
باب: من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله].
وجه مطابقة هذا الباب للكتاب: أن الصبر على القدر مأمور به وواجب، فمن تركه يكون ناقص التوحيد، فيبقى معرضاً لعذاب الله جل وعلا؛ لأن الذي ينقص كمال توحيده الواجب يكون قد ارتكب كبيرة.
فمن لم يصبر على قدر الله فإنه قد ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب، وقد يتمادى في هذا حتى يخرجه ذلك من التوحيد مطلقاً، كما يحصل لبعض الناس إذا أصيب بمصيبة: بفقر أو مرض أو موت قريب أو ذهاب مال أو ما أشبه ذلك، فيحمله ذلك على السخط على الله، وربما دعاه إلى السب والشتم، كما يقع من بعض ضعاف الإيمان الذين يستولي عليهم الشيطان فيخرجهم بذلك إلى الكفر، نسأل الله العافية.(92/2)
توطين النفس على الصبر
الإنسان في هذه الحياة معرض للبلايا والمصائب، ولابد لكل حي أن يصاب بمصائب, وكل حي سيموت ومن حوله، فيجب أن يوطن نفسه على أنه أولاً: عبدٌ لله جل وعلا يتصرف به كيف يشاء، وليس له من نفسه في نفسه تصرف فالتصرف لله.
الثاني: أن يعلم أن هذه الدنيا لا قرار لها وأنها ستنتهي، وأن الشيء الذي يرضى به ويفرح به إما أن يذهب عنه ويزول، أو هو يتركه لغيره ولابد من ذلك، فهذا أمر عام, فيوطن نفسه على الصبر والاحتساب، وأن الشيء الذي كتبه الله لا بد أن يقع رضي أم سخط، فإن رضي أجر، والقدر سائر وماض، وإن سخط فله السخط وقدر الله جل وعلا لا بد من نفاذه.(92/3)
أنواع الصبر ومعناه
الصبر أقسام ثلاثة: قسم يكون على الطاعة، فيصبر الإنسان على الطاعة؛ لأن النفس قد تكون غير منقادة للطاعة، وقد تشق عليها بعض الطاعات فيحملها على هذا بالصبر.
القسم الثاني: صبر عن المعصية؛ لأن المعاصي كثير منها تهواه النفوس وتريدها، فيحمل نفسه على الصبر فيصبر ويحبسها عن هذا الشيء، ويرجو بذلك الأجر من الله، فيصبر خوفاً من الله ورجاءً في ثوابه.
القسم الثالث: الصبر على أقدار الله.
إذاً: فالأقسام ثلاثة: صبرٌ على مأمور، وصبر عن محظور، وصبر على مقدور، ولا بد أن يقع الإنسان في هذه الأمور، فإن صبر فله الأجر والثواب، وإن لم يصبر فقدر الله ماض وعليه الوزر والعقاب.
ثم الصبر مأخوذ من الحبس والمنع، ومنه الذي يقتل وهو محبوس -يحبس ثم يقتل- أو يمسك ثم يقتل، فيقال: قتل صبراً، أي: محبوس ليس له تصرف في نفسه.
فالصبر معناه: الحبس على الشيء ومنع النفس منه، فيمنع نفسه من التفلت من الطاعة ويحملها عليها ويصبر على ذلك، أو يصبر نفسه عن المعصية ويمنعها.
ويكون الصبر للقلب واللسان والجوارح، فالقلب لا يبغض ولا يكره بل يرضى ويسلم بقدر الله، واللسان لا يشتكي ولا يتكلم بالشيء الذي يسخط الله جل وعلا، والجوارح لا تلطم ولا تشق ولا تحثو التراب ولا تفعل فعلاً ينافي الصبر, فكل هذا يحملها على التسليم والطاعة والانقياد والرضا لله جل وعلا.
والإنسان إما أن يفعل طاعة مأموراً بها، أو ينهى عن معصية، أو أن عنده نعمة ثم قد يفقد شيئاً منها، فيجب أن يصبر على الطاعة، ويصبر عن المعصية، ويصبر على ما قدر عليه.(92/4)
جزاء الصبر
بالصبر ينال الأجر العظيم فإن الله جل وعلا يوفي الصابر أجره بغير حساب: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]؛ لأنه ليس كالحسنات الأخرى، فإنه قد ذكر الله جل وعلا أن من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وهذا عام، وفي بعض المواطن يكون له بالحسنة الواحدة سبعمائة حسنة، كما قال جل وعلا: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} [البقرة:261]، فهذه حبة واحدة أصبحت سبعمائة حبة، حسنة واحدة تصبح سبعمائة حسنة، وهذا في الإنفاق في سبيل الله، وكذلك سائر الحسنات تكون الحسنة فيه بسبعمائة، ولكن الصبر ليس فيه عدد، وإنما يعطى الصابر أجره بلا حساب، مما يدل على عظمه: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]، لا سبعمائة ولا ألف ولا ألفين وليس هناك عدد محصور.
فإذا كان الله جل وعلا يقول: بغير حساب، فهو أمر عظيم جداً، فدل هذا على عظم الصبر وأنه جل وعلا يوفي الصابر جزاءه عظيماً بلا تقدير وعد, وهذا يجعل الإنسان يعرف أن أمر الصبر ليس سهلاً بل عظيم جداً، والسبب في هذا: أن الصبر يشق على النفوس مشقة لا يتحملها إلا من استشعر أمر الله وعرف قدر الله وقدر ثوابه وقدر عقابه، فرضي بأن يكون عبداً لله صادقاً، فيصبر ويعلم أنه بصبره ذلك في عبادة عظيمة، ولو لم يصبر لخسر ولا يؤثر عدم صبره في شيء, ثم إن الله جل وعلا أثنى على الصابرين في مواطن كثيرة من كتابه, جاء عن الإمام أحمد أن الله جل وعلا ذكر الصبر في تسعين موضعاً من كتابه، وجاء عن علي رضي الله عنه أنه قال: (الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد) فإذا ذهب الرأس فما الفائدة من الجسم؟! وقال عمر رضي الله عنه: (وجدنا أطيب عيشنا بالصبر) والواقع أن الصابر يكون معه ربه جل وعلا, ويدرك مراده بالصبر.
وقد أخبر الله جل وعلا أن الإمامة تنال بالصبر: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} [السجدة:24]، صاروا أئمة يقتدى بهم بالصبر، وكثيراً ما يقرن الصابر بأن الله معه: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153]، ومن كان الله معه فلا يضره شيء, ولكن الصبر يجب أن يكون لله جل وعلا وبالله ولن يحصل صبر إلا بالله جل وعلا: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ} [النحل:127].(92/5)
أمر الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر
الرسول صلى الله عليه وسلم يؤمر بالصبر من أول الأمر، فإن أول ما أنزل عليه في تكليف الرسالة قوله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر:1 - 7]، فأمره بالصبر في أول الأمر؛ لأن الإنسان معرض لكل شيء ولاسيما الذي يحتاج إليه الناس، فإنه لابد أن يناله شيء ولاسيما الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فلابد أن يؤذى ولابد أن يتكلم فيه ولابد أن يعادى، فأمر بالصبر والتحمل لله جل وعلا, وليس لأجل الناس، ولهذا قال له: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر: 6]، وكثير من الآيات التي نزلت في مكة تأمره بالصبر، قال جل وعلا: {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} [المعارج:5]، والصبر الجميل: هو الصبر بلا شكاية، يصبر ولا يشكو مما وقع فيه، أما إذا حصلت الشكوى والتوجع فليس صبراً جميلاً وإن كان صبراً ولكنه ليس بجميل، فيجب على العبد أن يقتدي بنبيه صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنه امتثل أمر ربه جل وعلا.(92/6)
لا إيمان لمن لا صبر له
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: باب: من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله.
قال الإمام أحمد رحمه الله: ذكر الله الصبر في تسعين موضعاً من كتابه، وفي الحديث الصحيح: (الصبر ضياء) , رواه أحمد ومسلم.
وللبخاري ومسلم مرفوعاً: (ما أعطي أحد عطاءً خيراً وأوسع من الصبر).
قال: عمر رضي الله عنه: (وجدنا خير عيشنا بالصبر) رواه البخاري.
قال علي رضي الله عنه: (إن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ثم رفع صوته فقال: ألا إنه لا إيمان لمن لا صبر له].
قوله: (ألا إنه لا إيمان لمن لا صبر له) هذا واضح، وذلك أن الطاعة تحتاج إلى صبر، والمعصية تحتاج إلى صبر، والمصائب تحتاج إلى صبر، فإذا كان الإنسان ليس عنده صبر خرج من الدين لأول وهلة، فلا بد أن يصبر ويكون صبره لله، أي: يحتسب صبره أنه طاعة لله جل وعلا يثيبه عليه، ولا يكون صبره كصبر البهائم لا يقصد من ورائه شيئاً، بل يصبر طاعة لله جل وعلا ورجاءً لثوابه، لا لأجل الدنيا ولا لنيل مراد معجل بل لله جل وعلا، فيصبر على طاعة ويصبر عن معصية ويصبر على أمر مقدر أصيب به، ومع صبره على المقدر عليه أن يعلم أنه من عند الله جل وعلا أن الله قدر ذلك عليه وأنه لا بد أن يمضي, ثم يسلم ويحتسب ولا يتضجر ولا يشكو ربه لمخلوق؛ فإنه إذا شكا لمخلوق وقال: لقد أصبت بكذا وكذا فمعنى ذلك أنه يشكو من يرحمه إلى من لا يرحمه، يشكو من بيده أزمة الأمور كلها إلى ضعيف مسكين ليس عنده شيء، وهذا دليل على عدم الصبر ودليل على عدم الرضا، وإن كان عنده صبر فإنه ناقص وليس صبراً كاملاً, أما إذا خرج من ذلك إلى التسخط ووجدته يقول: أنا ما عملت عملاً أستحق به هذا الواقع الذي أنا فيه! فإن معنى ذلك أنه يرى أن ربه ظلمه وأن حكمه جائر، فيكون بذلك خارجاً من الدين الإسلامي نهائياً، نسأل الله العافية.
فيضحك عليه الشيطان ويخرجه من الدين الإسلامي بكلمات يسيرة، أو يزين له في قلبه سخط القضاء والتضجر منه وبغضه وكراهته، وإن كان يتكلم به بينه وبين نفسه ولم يكلم الناس بذلك.(92/7)
أقسام الناس عند المصائب
ولهذا فإن الناس ينقسمون عند المصائب إلى قسمين: قسم تزيده قوة وإيماناً وخيراً وحسنات، وهو الذي يعلم أنها بقدر الله ثم يصبر ويرضى بذلك ويسلم، هذا يزداد بها خيراً وتكون المصيبة خيراً له من عدمها.
الثاني: من يخرج بالمصيبة إلى كفر أو إلى معصية عظيمة، بأن يسخطها ولا يصبر ويتضجر، أو أن يسخط ذلك ويعترض على ربه جل وعلا، ومعلوم أن أفعال الله جل وعلا كلها خير، ولا يجوز أن ينسب إلى الله شر بحال من الأحوال، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (والشر ليس إليك) , فكل مصيبة يصاب بها الإنسان فهي من جراء فعله: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]، وأما قول الله جل وعلا عن الكفار: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} [النساء:78] , ثم قال جل وعلا: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء:78]، ثم قال: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79]، المقصود هنا بالسيئة: الشيء الذي يسوء الإنسان: من فقده لولدٍ أو فقده مالاً أو انتصار عدو عليه أو ما أشبه ذلك, والمقصود بالحسنة هنا: الشيء الذي ينفعه عاجلاً، كرزق عاجل أو صحة في بدنه أو يرزق ولداً أو نصراً وتأييداً، أو ما أشبه ذلك من الأمور الظاهرة، هذا هو المقصود بالحسنة والسيئة في الآية.
وقوله: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء:78]، لا يعارض قوله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79]؛ لأن قوله: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء:78]، أي: كله مقدر من الله جل وعلا تقديراً وجزاءً، وأما سببها فهو إما طاعة وإما معصية، إن كانت حسنة فسببها الطاعة، والله جل وعلا هو الذي تفضل على العبد وزين في قلبه الإيمان وكره إليه المعصية فعمل الطاعة فكان فضلاً، ثم جاء جزاؤها فصار فضلاً آخر، وهذا كله من الله، وأما إذا كانت سيئة (مصيبة) فإن سببها المعصية وهي من الله جزاءً، وجزاء السيئة عدل، فكون المسيء يجزى على سيئته هذا عدل وحكم حق.
وأما إذا كانت مصائب لا دخل للإنسان في ظاهر نظره فيها، فإنها لابد أن يكون لها أسباب، فإن لم يكن لها أسباب ظاهرة فلها أسباب الله يعلمها، والإنسان قد يخفى عليه، فإن قدر أن الإنسان مطيع فأصيب بمصائب، فإنه لا يخلو إما أن تكون له درجة عند الله رفيعة لا يصلها بعمله، فيصاب بهذه المصيبة حتى ترفع درجته بذلك إذا رضي وسلم واحتسب، أو يكون هو من الجاهلين الذين لا يعرفون ما للمعاصي وما حق الله جل وعلا.
ومعلوم أن الإنسان لا يستطيع أن يؤدي حق الله على الوجه الأتم المطلوب، مهما أوتي من المقدرة والعبادة والقوة، ولكن الله جل وعلا يقبل اليسير إذا صدق العبد، ويعفو عن الذنب الكبير، فإذا استشعر الإنسان هذه الأمور يهون عليه الأمر ويتسلى بالصبر، فالله جل وعلا جعل الصبر مسلاة لعباده المؤمنين، يصبرون حتى يجعل الله جل وعلا لهم الفرج مما هم فيه، وقد أخبر جل وعلا أن الصبر فيه خير كثير، وأنه ما صبر وصابر إنسان إلا حمد عاقبة صبره، وأن مع العسر يسرين؛ لأنه قال جل وعلا: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} [الشرح:5 - 6]، فجاء بالعسر معرفاً بـ (أل)، واليسر منكراً مرتين، فالمعرف هو واحد، أما اليسر فإنه يسران، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يغلب عسر يسرين) وهذا في كل الأمور.
قال رحمه الله: [واشتقاقه من صبر: إذا حبس ومنع، والصبر: حبس النفس عن الجزع، وحبس اللسان عن التشكي والتسخط، والجوارح عن لطم الخدود وشق الجيوب ونحوهما، ذكره ابن القيم رحمه الله.
واعلم أن الصبر ثلاثة أقسام: صبر على ما أمر الله به، وصبر عما نهى عنه، وصبر على ما قدره من المصائب].(92/8)
أقدار الله جل وعلا تقع بمشيئته وحكمته
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقول الله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التغابن:11]].
قوله: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11]، قبلها أول الآية: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} [التغابن:11] يعني: بأمره ومشيئته، كل مصيبة تقع فقد شاءها الله جل وعلا وقدرها وكتبها، فمن آمن بأنها من عند الله وبقدره ثم صبر وسلم، ولم يعترض على المقدور، بل رضي بفعل ربه وقال: أنا عبد لله جل وعلا وإنا لله وإنا إليه راجعون، فإنه يهدي قبله، يعوضه هداية القلب، وهداية القلب بأن يجعل قلبه يحب الخير ويطلبه ويكره الشر ويبغضه ويبتعد عنه، فيزداد إيماناً مع إيمانه وعملاً صالحاً يكتسب به رضا ربه جل وعلا.
ومعنى ذلك: أن الإيمان هنا ذكر بفضل العمل: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} [التغابن:11]، و (من مصيبة) هنا نكرة تعم أي مصيبة: (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ)، يؤمن أن هذه المصيبة من عند الله تقديراً ومشيئةً وإرادةً، وأنه لابد منها، (يهدِ قلبه) فسر ذلك بالرضا والصبر، والرضا والصبر عمل، فدخل العمل في الإيمان، وهذا أمر واضح، ولهذا فإن هذه الآية من أظهر ما استدل به العلماء على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، كما هو مذهب أهل السنة، والآيات والأحاديث في هذا كثيرة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأول الآية: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} [التغابن:11] قال ابن عباس بأمر الله.
يعني: عن قدره ومشيئته، أي: بمشيئته وإرادته وحكمته، كما قال في الآية الأخرى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22]].
هذه الآية: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22] أي: أن هذا شيء مكتوب ومفروغ منه، والضمير هنا في (نبرأها) يعود على النفس المصابة، أي: قبل أن تخلق وتوجد كتب عليها ذلك، ولابد من وقوعه، فإذا علم الإنسان ذلك يتسلى به ويصبر ويحتسب.
ومعلوم أن الله جل وعلا علام الغيوب، وفي الحديث الصحيح: (أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة)، وهذا قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، كما في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كتب الله مقادير الأشياء قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء)، فكل شيء يقع صغيراً أو كبيراً حتى سقوط القلم من يد الإنسان، بل حركة أصابعه، بل حركة عروقه ونبضها مكتوب ومقدر، فكل شيء مكتوب قبل وجوده، وكل شيء فإنه مكتوب ومفروغ منه، والإيمان بهذا من أركان الإيمان التي لا يصح إيمان الإنسان إلا بها، ولابد منه.
ثم يضاف إلى هذا أن الإنسان يجب أن يؤمن بأن الله هو الخالق وحده، وليس معه متصرف لا العبد ولا غيره، فهو الذي يصرف العبد، ويقدر عليه ما يشاء، وهو الذي كل كائنة تقع في الكون فبإذنه وأمره، ويضاف إلى هذا أيضاً أنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، لابد أن يعلم هذا، ويضاف إلى هذا أيضاً: أن العبد عبدٌ لله، يجب أن يكون ممتثلاً، وأنه تجب عليه أحكامه وأقداره، وليس خارجاً عن ذلك، إما أن يكون عبداً طوعاً أو يكون عبداً قهراً، حتى وإن تمرد وأبى فلا يخرجه ذلك عن كونه عبداً، كما قال جل وعلا: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} [مريم:93]، يعني: ذليلاً خاضعاً مقهوراً ليس له من نفسه تصرف، فإذا عرف هذا واستسلم وانقاد طائعاً صار عبداً حقيقة؛ لأن العبد ينقسم إلى قسمين: عبد بمعنى عابد أي: صدرت منه العبودية، وهذا هو الذي ينفع ويفيد، وعبد بمعنى معبّد مقهور مذلل مسخر، وهذا على الخلق كلهم الكافر والمؤمن والبر والفاجر، فيختار الإنسان أحدهما: إما أن يكون ممن تجري عليه الأقدار وهو مأزور ومقهور، أو ممن تجري عليه الأقدار وهو مأجور ويكون مطيعاً عبداً لله جل وعلا.(92/9)
الرضا والتسليم بأقدار الله تعالى
قال المصنف رحمه الله: [وقال: {وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155 - 157].
قوله: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11]، أي: من أصابته مصيبة فعلم أنها بقضاء الله وقدره فصبر واحتسب جازاه الله بهدايته قلبه التي هي أصل كل سعادة وخير في الدنيا والآخرة، وقد يخلف الله عليه في الدنيا ما كان أخذه، أو خيراً منه.
قوله: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التغابن:11]، تنبيه على أن ذلك إنما يصدر عن علمه المتضمن لحكمته؛ وذلك يوجب الصبر والرضا.
قال المصنف رحمه الله تعالى: قال علقمة: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم.
هذا الأثر رواه ابن جرير وابن أبي حاتم، وعلقمة هو ابن قيس بن عبد الله النخعي الكوفي، ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وسمع من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسعد وابن مسعود وعائشة وغيرهم، وهو من كبار التابعين وأجلائهم وعلمائهم وثقاتهم، مات بعد الستين.
قوله: (هو الرجل تصيبه المصيبة إلخ)، هذا الأثر رواه الأعمش عن أبي ظبيان قال: كنا عند علقمة، فقرئ عليه هذه الآية: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11]، قال: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم.
هذا سياق ابن جرير وفي هذا دليل على أن الأعمال من مسمى الإيمان.
قال سعيد بن جبير: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11]، يعني: يسترجع يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون.
وفي الآية بيان أن الصبر سبب لهداية القلوب، وأنها من ثواب الصابر].
في قول الله جل وعلا: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11]، قوله: (ما أصاب من مصيبة) عموم، أي: ما يخرج عنه من شيء صغيراً أو كبيراً، كل مصيبة تقع للإنسان فهي بإذن الله، أي: بمشيئته وإرادته وتقديره، بمعنى: من الإيمان أن يؤمن أنه شيء مقدر، وأنه لا محيد للإنسان عنه، وأن الله جل وعلا قد كتبه قبل وجود هذا المخلوق الذي أصيب بالمصيبة.
وقوله: (فيرضى ويسلم) يعني: يرضى بالمقدر له، والرضا عند كثير من العلماء ليس واجباً، وإنما الواجب التسليم والصبر، أن يسلم ويصبر، دون الرضا، فهذا صعب، كأن يكون الإنسان في مرض أو أصيب بمصائب فيرضى بتلك المصائب، فكونه يلزم بالرضا هذا لا يصل إليه إلا أفذاذ من الناس، ولهذا الذي جاء في النصوص الثواب على الرضي وليس على العمل، بخلاف الصبر فإن الصبر جاء الأمر به، مما يدل على أنه واجب لابد منه، أما كون الإنسان يرضى بالمصيبة فهذه درجة فوق الصبر، وهي درجة لا يصل إليها إلا الكمل من عباد الله جل وعلا.
أما التسليم فكونه لا يعترض ولا يتسخط، بل يعلم أنه ملك لله، وأنه ما أصيب بشيء إلا بذنب اقترفه من جراء ذنوبه، وأن المصيبة رحمةٌ من الله جل وعلا يشكره عليها، حيث إنه يكفر عنه بها من خطاياه، كما سيأتي: (إن الله إذا أراد بعبده خيراً عجل له العقوبة حتى يخفف عنه، وإذا أراد به شراً أخر عنه العقوبة حتى يوافي يوم القيامة بجميع ذنوبه، فيكون جزاؤه في ذلك اليوم).
معلوم أن كل قضية تقع وتنتهي الصبر فيها سهل، ليس كأمر الآخرة، والله جل وعلا لن يرضى أن تكون الدنيا محلاً لعقاب أعدائه، فإنه يؤخرهم، ولن يرضى أن تكون الدنيا محلاً لجزاء أوليائه، بل تصيب منهم ويبتلون، وأشد منهم بلوى الأنبياء، ثم الأمثل، ثم الأمثل، كما جاء نص ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه إذا كان الإنسان في دينه صلابة زيد من بلائه، فلهذا إذا تأمل الإنسان ماذا حدث للرسل ولأولياء الله يتبين له أن المصائب لا يصبر الإنسان عليها فحسب، بل ينبغي أنه إذا أصيب بشيء أن يفرح به؛ لأنه إما عقوبة لذنب معجلة وتنتهي، ويكون كفارة له، أو يجزى عليه الثواب وثواب الله يصل إليه.
وقد اختلف العلماء هل يوجد جزاء في المصائب؟ أم أنها مجرد كفارات لما يقع منه؟ ويكفي أن تكون كفارة.
فكونه يرضى ويسلم أمر قد لا يتحصل عليه، وقد لا يصل إليه أكثر الناس لصعوبته؛ إذ كيف يرضى بالمصيبة؟ لأن الرضا قد يكون مرتبطاً بالشيء الذي هو فيه إما مرض وإما مصيبة أو غير ذلك، ولكن الصبر لابد منه، والتسليم كذلك، وهو أن لا يعترض على القضاء والقدر.(92/10)
الحزن عند المصائب لا ينافي الرضا والتسليم
وليس الرضا كونه إذا مات له ميت أو أصيب بمصيبة يفرح بهذا ويضحك لذلك، فبكاء العين وحزن القلب هذا أفضل من كونه لا يبكي ولا يحزن، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لما توفي ابنه إبراهيم بكى ودمعت عيناه، فالبكاء يكون في العين لا من الصوت فقيل له: ما هذا؟ فقال: (هذه رحمة جعلها الله جل وعلا في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء).
وكذلك ما ثبت في الحديث الذي في الصحيحين: لما ذهب إلى إحدى بناته وعندها ابن في سكرات الموت، وقد شخصت عيناه ونفسه تقعقع -كأنها شن يقلبه الهواء من شدة جلبه لنفسه- ففاضت عيناه صلى الله عليه وسلم، فقال له سعد: ما هذا يا رسول الله؟ فمعنى (فاضت) صارت تذرف دمعاً، وقد سمع أنه ينهى عن البكاء، قال: ما هذا؟ يعني: أنك كنت تنهانا عن البكاء، فقال: (هذه رحمة جعلها الله جل وعلا في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء)، وجاء في الحديث الآخر: (إنما نهيت عن صوتين فاجرين أحمقين: صوت عند مصيبة، وصوت عند نعمة)، فصوت اللسان ندب أو دعوى الويل، وكذلك ضرب شيء من البدن إما الوجه أو الفخذ أو الصدر، وكذلك شق الثياب ونحوه، فهذا هو المنهي عنه الذي هو من عمل الشيطان، أما كون الإنسان يحزن قلبه، وتذرف عيناه، فهذا لا ينافي الصبر، ولا ينافي التسليم، وإنما يفعل ذلك لأن هذا المسكين الذي وقع في شدة حالة الموت، ثم يستقبله القبر بظلمته ووحشته وسؤاله وفتنته، فيرحم الإنسان من أجل ذلك، ويبكي عليه من أجل هذا، وتذرف العين من أجل ذلك، وليس لحظ فاته منه، فإن كان يبكيه لأجل حظ نفسه فإن هذا منهي عنه، وإنما يبكى عليه رحمةً له.
وكذلك كونه يحزن عليه القلب، والحزن هذا شيء فات وانتهى، أما الخوف فهو في أمور مستقبلة، ولهذا فإن الملائكة إذا حضروا عند المؤمن لوفاته يقولون: لا تخف ولا تحزن، فالشيء الذي أمامك لا تخف منه فإنك آمن، يطمئنونه في ذلك؛ لأن الحزن يكون على الشيء الذي فات وهو في أمور الدنيا، فيقولون: الشيء الذي تركته وخلفته من مال وأولاد ومشاكل وغيره لا تحزن عليه، فإن أمامك ما هو خير.
والمقصود: أن الصبر أمر واجب، وحق لابد منه، فرض على الإنسان أن يصبر عند المصائب، فإن لم يصبر فإنه آثم، وسوف تمضي المصيبة وإن كان جازعاً، ولا يفيد جزعه شيئاً، وإنما يكتسب بجزعه العقاب ويفوته الثواب، وإن صبر وسلم واحتسب اكتسب الأجر، واكتسب رضا ربه جل وعلا، وانقاد لأمره، وربما يخلف الله جل وعلا عليه أفضل مما ذهب.
لما مات أبو سلمة كانت زوجته أم سلمة قد سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من أصيب بمصيبة فاسترجع وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أؤجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها) سمعته يقول هذا فقالت هذا القول، ثم قالت في نفسها: ومن يكون خيراً من أبي سلمة؟ فجاءها رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي هو خير من أبي سلمة ومن غيره، فهكذا الإنسان إذا سلم وانقاد وصبر، وامتثل أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، ربما يخلف عليه ما هو خير، وسلم من الشيء الذي أصيب به.(92/11)
الأمر بالصبر والرضا يدل على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان
قوله: (إن هذا يدل على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان) وذلك لأن الصبر والتسليم عمل، فيحبس لسانه عن التشكي وجوارحه عن اللطم أو الشق أو ما أشبه ذلك، فهذه من أعمال الجوارح لا من عمل القلب، فهذا دليل واضح على أن الأعمال داخلة في الإيمان؛ لأنه قال: (فمن يؤمن) يعني: يؤمن بالصبر ويسلم، وكذلك إذا أمكن أن يرضى فهو صبر عظيم، وعلى كل: الرضا ليس واجباً على القول الصحيح.
وكذلك قول سعيد بن جبير أنه قول: إنا لله وإنا إليه راجعون، هذا أيضاً دليل على أن العمل يدخل في مسمى الإيمان؛ لأنه قال جل وعلا: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ} [التغابن:11]، فهو يقول: الإيمان بأنه قول: إنا لله وإنا إليه راجعون، ويفسره بأنه الرضا والصبر والتسليم، وسواء قلنا هذا أو هذا.
والصواب أن كله داخل في هذا، فيكون دليلاً واضحاً على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، بمعنى: أن الإيمان يكون تصديقاً وعلماً وقولاً وعملاً، ومجموع هذه هو الإيمان.
وبعبارة أخرى نقول: يكون الإيمان مركباً من أمور ثلاثة: من التصديق والعلم، ومن القول الذي هو قول اللسان، ومن العمل الذي هو عمل الجوارح، فالمجموع كله هو الإيمان، فيكون الإيمان مركباً من أجزاء ثلاثة، وكل واحد من هذه الأجزاء ركن من هذه الأركان، وليس هذا -مثلاً- من لوازم الإيمان كما يقوله بعض العلماء؛ لأن اللازم غير الركن.
هذا هو قول أهل السنة وهو الصواب، خلافاً لقول أهل البدع: أن الإيمان إما عقيدة قلب -تصديقه- أو أنه العلم، أو أنه مجرد التصديق.
وعلى كل: لا يجوز أن يكون هذا هو تعريف الإيمان؛ لأن الإيمان دخل فيه كل الأعمال التي أمر بها، كالصلاة والصوم والزكاة والحج وغيرها، فهذه من الإيمان، فقد دخل فيه كل عمل يعمله الإنسان يرجو به ثواب الله جل وعلا، وكل ترك يتركه الإنسان خوفاً من الله ومن عواقبه، فالدين كله هو الإيمان.
ومعلوم أن الدين فيه أعمال القلوب التي منها: الخوف والخشية والإنابة والرجاء وما أشبه ذلك، وهذا كثير، وعمل اللسان مثل: الذكر والتلاوة والتكبير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنه عمل الأركان، مثل كونه يصلي أو يبذل المال، أو يعين أخاه المسلم على عمل من الأعمال، أو يزيح شيئاً يؤذي المسلمين من الطرق أو غيرها، ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)، ومعلوم أن قول لا إله إلا الله هو عمل اللسان، وإماطة الأذى عن الطريق فعل الجوارح، ومعلوم أن الخشية والإنابة والرجاء والخوف داخل في ذلك الإيمان، والتصديق بما جاء عن الله ورسوله، وهذا هو الذي يتبعه أهل السنة دون أهل البدع، وهو الذي دلت عليه النصوص من القرآن ومن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وسيرته ودعوته، والأمر واضح وجلي والحمد لله، وليس فيه خفاء.(92/12)
شرح حديث: (اثنتان في الناس هما بهم كفر)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت)].(92/13)
معنى الكفر الوارد في الحديث
معنى الحديث: أن هاتين الخصلتين قائمتان في الناس، وأنهم لا يتركونهما، وهما من خصال الكفر، وقوله: (هما بهم كفر)، يعني: أن هذا الشيء من خصال الكفر، ومن قامت به خصلة منها ففيه خصلة من خصال الكفر، ومن قامت به الثنتان ففيه خصلتان من خصال الكفر، ولا يلزم أن يكون كافراً؛ لأن الذي يكون عنده خصلة من خصال الكفر أو فصلتان لا يلزم أن يكون كافراً خارجاً عن الدين الإسلامي، وإذا قيل: (كفر) بالتنكير فهذا يدل على أن هذا الفعل نفسه يسمى كفراً وليس الذي قام به يسمى كافراً، بل فعل هذا الشيء كفر، أي: أنه من خصال الكفر، بخلاف ما إذا قال الكفر، فإن هذا يدل على أنه كافر خارج عن الدين الإسلامي، كقوله صلى الله عليه وسلم: (بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة)، فإذا ترك الصلاة يكون كافراً، هذا الكفر الذي يخرج من الدين الإسلامي، فإذا ورد بـ (أل) فمعنى ذلك أنه كفر حقيقي مخرج من الدين الإسلامي، أما إذا جاء لفظ الكفر منكراً، فمعنى ذلك أنه قام به شيء من أمور الكفر فقط وليس كافراً.
ويجب أن يترك هذا الشيء، ولا يقتضي ذلك أنه يكون معذباً على ذلك، بل يجوز أن يثاب عليه، وأن تكون له حسنات تمحو هذا الكفر، ويجوز أن الله يعفو عنه بدون توبة؛ لأنه من الأمور التي تعترض الناس، ولكنه كبيرة.(92/14)
الطعن في النسب
أما الطعن في النسب فمثل أن يقول: فلان ليس أبوه فلاناً، أو أن يقول مثلاً: فلان وضيع النسب، وفيه كذا، فطعن في نسبه؛ لأن هذا من أمور الجاهلية، والإسلام جاء بالتعاليم التي ترضي الجميع، قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] بغض النظر عن الشعوب والقبائل والأصحاب، فلان من قبيلة كذا وفلان من قبيلة كذا فمن كان أتقى لله فهو الكريم عند الله، بغض النظر عن النسب واللون، وعن الانتماء إلى طائفة معينة أو غيرها.
وكذلك الطعن في الأشخاص أنفسهم هو من أمر الجاهلية الذي هو كفر، كونه يطعن فيه بأنه قصير أو دقيق أو بأن فيه آفة أو ما أشبه ذلك، هذا لا يجوز، وهو داخل في النهي الوارد في الحديث.
وكذلك في أي شيء لا دخل للإنسان فيه، فإنه في الواقع يعيب ربه ولا يعيب الإنسان؛ لأن الإنسان لا دخل له في ذلك، فمثلاً إذا قال: هذا وجهه طويل، وهذا وجهه دقيق، وهذا وجهه عريض، أو خشمه طويل أو أعور أو فيه كذا فإن هذا عيب لمن أوقع ذلك به تعالى وتقدس، فلا يجوز، بخلاف ما إذا كان هذا من باب التعريف فقط، كأن لا يعرف إلا بذلك، كقولهم: الأعمش أو الأعرج للذي يعرف بهذا الشيء، ويؤتى ذلك للتعريف لا للعيب، أما إذا ذكر للعيب فهو ذنب، وقد يكون كبيراً حتى وإن كان إنساناً مثلاً مستقيماً، وفيه ميول إلى المعاصي، فإنه لا يطلق التهم والعيب على البناء، وإنما يوجه العيب على من بناه.
كذلك ابن آدم هو من مخلوقات الله جل وعلا، فهو الذي خلقه وأوجد فيه هذه الأمور، ولا يجوز الطعن على الناس في هذه الأمور، وإنما يطعن عليهم في أعمالهم التي يفعلونها باختيارهم وبإرادتهم ومقدراتهم، فلابد أن يحاسب الإنسان على عمله وفعله، فيطعن عليه بذلك أو يثنى، إما أن يمدح ويثنى عليه، أو يعاب عليه بعمله الذي يصدر منه، أما خلْقه فلا دخل له فيه، فهذا من الله جل وعلا.
وكذلك النسب: الأصل أن كل الناس أبناء رجل واحد، وهذا الرجل خلق من تراب كما أخبر الله جل وعلا، ومعلوم أنهم يتفاوتون بالأعمال، فمن كان عمله أحسن وأتقى لله فهذا هو الكريم عند الله جل وعلا، وإلا ففيهم المؤمن والكافر والشيطان وفيهم النبي، والإنس فيهم شياطين كثيرون، ففيهم دعاة جهنم الذين جندهم الشيطان للدعوة إلى أن يكونوا معه في جهنم، وفيهم ضيوف الرحمن الدعاة إلى الخير والإيمان، وإلى عبادة الله، وإلى الجنة إلى جواره جل وعلا، فالتفاوت بالأعمال فقط وليس بالخلْق؛ لأن الخلق إلى الله.(92/15)
النياحة على الميبت
أما النياحة فهي النياحة على الميت، كرفع الصوت، وتعداد محاسن الميت؛ تأسفاً على الشيء الذي فاته منه، وهذا الأمر معروف في الجاهلية وعند العرب، وقد يكون عن غيرهم أيضاً معلوماً، وهو مضاف إلى أنه من الكفر؛ لأنه في الواقع تسخط لقضاء الله، ولأنه رد لحكمه؛ لأنه رد الشيء الذي حكم الله به وقضاه، فيكون هذا جوراً وظلماً.
وأحياناً يضيف الناس هذا الجور إلى الزمن والدهر، وإلى الأيام والليالي؛ وذلك لأنهم لا يستطيعون أن يضيفوه إلى رب العالمين؛ لأنه كفر ظاهر جلي، فذهبوا يضيفونه إلى الزمن، والنتيجة واحدة، ولهذا ثبت في الصحيحين أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله جل وعلا: يؤذيني ابن آدم يسب الدهر، وأنا الدهر أقلب ليله ونهاره)، يسب الدهر كأن يقول: إن الدهر أصابنا بكذا وكذا فالحقيقة أن الدهر ظرف لما يقع فيه فقط، فهو مدبر مخلوق مصرف، وإذا سُبَّ المخلوق المأمور فإن السب يرجع إلى خالقه وآمره، ولهذا سماه أذية فقال: (يؤذيني ابن آدم)، فلا يجوز للعبد أن يؤذي ربه تعالى وتقدس، والله جل وعلا يتأذى من أفعال الناس؛ لأن الأذى هو الشيء الخفيف الذي لا يضر، مثل أن يسمع كلاماً سيئاً فهذا يؤذي ولكن لا يضر، ولهذا أخبر الله جل وعلا أن الكفار إذا سبوا المؤمنين وشتموهم أنه لا يضرهم ذلك، وإنما هو أذى يسمعونهم أذية فقط، والأذى هو ما خف أثره وضعف، أي: يكون أثره ضعيفاً وخفيفاً بخلاف الضر؛ لأنه لا أحد يضر الله جل وعلا مهما عمل من الأعمال، ومهما عمل من الكفر والمعاصي.
فالنياحة صارت كفراً من أجل أنها تسخط لقضاء الله، ورد لحكمه؛ ولأجل أنه تضاف النعم التي يسديها الله جل وعلا إلى ضعيف لا يتصرف ولا يستطيع أن يفعل شيئاً، فهم يقولون: وا جذلاه! وا عضداه! وا ناصراه! وا كذا وا كذا يقولونه للميت، وليس هو كذلك فيكون هذا هو النياحة.
كذلك كونه يفعل شيئاً مع رفع الصوت، وكله من عمل الشيطان، ولهذا سماه كفراً، وهو كما سبق إذا كان هذا فيه فلا يدل على أنه كافر، فإن الكافر قد يوجد فيه خصلة من خصال المؤمنين ولا يكون مؤمناً، أو يوجد فيه أكثر من خصلة كخصلتين أو ثلاث أو أكثر من خصال الإيمان مثل الصدق والإحسان إلى الغير، وكذلك المؤمن إذا وجد فيه شيء من خصال الكفر فلا يلزم أن يكون كافراً.
فهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (هما بهم كفر)، يعني: كفر قائم بهم، ولا يخرجهم هذا الكفر عن دينهم، ولكن يضرهم ذلك؛ لأنهم يعاقبون عليه.
قال المصنف رحمه الله: [أي: هما بالناس كفر، حيث كانتا من أعمال الجاهلية، وهما قائمتان بالناس، ولا يسلم منها إلا من سلمه الله تعالى، ورزقه علماً وإيماناً يستضيء به، ولكن ليس من قام به شعبة من شعب الكفر يصير كافراً الكفر المطلق، كما أنه ليس من قام به شعبة من شعب الإيمان يصير مؤمناً الإيمان المطلق].
إذا قال العلماء: الإيمان المطلق، فيقصدون جميع الإيمان الكامل، بخلاف ما إذا قالوا: مطلق الإيمان، فمطلق الإيمان يعني: مسماه فقط، ولا يلزم أن يكون كاملاً، بل قد يكون ناقصاً، فالإيمان المطلق هو الذي من قام به منعه من فعل المعاصي ومنعه من ترك الواجبات، فلا يقترف كبائر ولا يترك واجبات إذا كان إيمانه الإيمان المطلق أي: الكامل؛ لأن إيمانه يمنعه من ذلك، وهذا هو الفرق بين مطلق الإيمان والإيمان المطلق، فيقصد بالإيمان المطلق: الكامل، أما إذا قال: مطلق الإيمان، فهذا لا يلزم أن يكون كاملاً، بل إيمانه ناقص يصاحبه ذنوب، ويصاحبه ترك واجبات.
قال: [وفرق بين الكفر المعرف باللام كما في قوله: (ليس بين العبد وبين الكفر أو الشرك إلا ترك الصلاة)، وبين كفر منكر في الإثبات.
قوله: (الطعن في النسب) أي: عيبه، ويدخل فيه أن يقال: هذا ليس ابن فلان مع ثبوت نسبه.
قوله: (والنياحة على الميت) أي: رفع الصوت بالندب، وتعداد فضائل الميت؛ لما فيه من التسخط على القدر المنافي للصبر، كقول النائحة: وا عضداه! وا ناصراه! ونحو ذلك.
وفيه دليل على أن الصبر واجب، وأن من الكفر ما لا ينقل عن الملة].(92/16)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [93]
الصبر على المصائب والأقدار أمر واجب، ومن لم يصبر فقد ترك واجباً من الواجبات، وهناك أعمال تنافي الصبر، ومن فعلها فهو غير صابر، منها: ضرب الخدود، وشق الجيوب، والدعاء بدعوى الجاهلية عند حلول المصائب، أما البكاء والحزن الذي لا يصاحبه شيء من ذلك فلا بأس به، ومن فعله فهو غير آثم.(93/1)
قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من ضرب الخدود)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولهما عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً: (ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية)].
هذا من الصيغ التي تدل على أن هذا الفعل كبيرة من كبائر الذنوب، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا)، والمقصود: منا نحن المسلمين، ثم لا يدل هذا على أن من فعل هذا الفعل يكون خارجاً من المسلمين، ويكون كافراً؛ لأن هذا من باب الوعيد، ونصوص الوعيد يجب أن تبقى على ما هي عليه دون تأويل؛ لأن التأويل يضعف من شأنها، ويقلل مما وضعت له، كما يفعله أكثر الشراح، فيؤولونها ويقولون: لابد من تأويلها، ولكن معلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما أراد بمثل هذا أنه يكون كافراً، إنما أراد الوعيد على ذلك، فهذا يدل على أن من فعل ذلك مرتكب كبيرة من كبائر الذنوب يجب أن يتوب منها.(93/2)
ضرب الخدود عند المصيبة
قوله: (ليس منا من ضرب الخدود)، هذا عند المصيبة، والعادة أن أهل الجاهلية إذا أصيب أحدهم بمصيبة أنه يلطم وجهه، وقد يكون الخد، وقد يكون الرأس، وقد يكون الصدر، وقد يكون غير ذلك، وهذا كله داخل في هذا، إذا أصبح يضرب وجهه أو رقبته أو ظهره أو بطنه أو رأسه عند المصيبة فإن هذا يدل على الجزع والتسخط، وهذا من الكبائر، فإن الإنسان مأمور بالصبر في مثل هذا، فيمنع يده عن الضرب، ويمنع لسانه عن الكلام الذي لا يرضي الله، وكذلك يمنع قلبه أن يتسخط على ربه جل وعلا، بل يصبر ويعلم أنه ملك لله، وأن الذي أخذه الله منه هو الذي أعطاه، ولهذا كان السلف الصالح يعملون هذه الأعمال؛ لأنه جاء عن أبي طلحة رضي الله عنه أنه كان له ابن مريض، فكان يشتد به المرض، وكان له زوجة صالحة، فخرج وهو مريض، وعند خروجه مات، فجاء إلى بيته فسأل زوجته: ما فعل ولدي؟ قالت: هو أهدأ مما كان، وهيأت له الطعام، وتعرضت له حتى أصاب منها، فلما رأته قد اطمأن قلبه قالت: أرأيت لو كان عندك وديعة لإنسان أودعك إياها، ثم طلبها منك هل تمنعه؟ قال: لا، لا يجوز ذلك، فقالت: إذاً احتسب ولدك، فقال: فعلت كذا وفعلت كذا ولما رأيتيني تلطخت بك أخبرتني! فلما علم الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك قال: (بارك الله لكما في ليلتكما)، إلى آخر القصة.
المقصود: أن الرضا بالمصائب والتسليم بذلك شأن المؤمن، وليس شأن المؤمن أن يلطم وجهه أو يقول قولاً لا يرضي الله، أو يتسخط قلبه، وليس الحزن والبكاء داخلاً في هذا، فإن البكاء قد لا يملكه، وحزن القلب قد لا يملكه الإنسان فهو غير ملوم عليه، بل قد يثاب على دموع عينه، وكذلك حزن قلبه يثاب عليه، ولكن الذي يعاقب عليه هو الصوت والندب والتسخط، والأفعال التي تدل على الاعتراض والتسخط والتوجع من هذا الشيء.(93/3)
شق الجيوب عند المصيبة
وكذلك شق الجيوب، والجيب: هو الفتحة التي يدخل منها الرأس كما هو معروف، والعادة عن الجاهلية أن أحدهم إذا أصيب بمصيبة شق جيبه حتى ينشق ثوبه، وسواء فتحه فتحة كاملة أو بعضه فكله داخل في هذا، داخل في أنه ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب.
وكذلك لو شق غير الجيب جزعاً من ثوب أو غيره مما كان يلبسه، أو رمى به في الأرض جزعاً من هذا، فإنه يكون داخلاً في ذلك.
والمقصود: أنه لا يجوز أن يفعل فعلاً يدل على التسخط، سواء فعله في بدنه، أو فعله في ثيابه أو في غير ذلك، فإنه إذا فعل فعلاً يدل على سخطه، وعلى أنه يرى أن هذا الشيء وقع عليه وهو لا يستحقه، فإنه داخل في قوله: (ليس منا) وهو معترض على الله جل وعلا، ومتسخط في قضائه وقدره، ومرتكب لكبيرة من كبائر الذنوب التي يجب أن يتوب منها.(93/4)
دعوى الجاهلية
وأما دعوى الجاهلية فهي الدعوة بالويل والثبور، كقول: وا ويلاه! وا ثبوراه! أو كونه يضيق ويذكر الشيء الذي افتقده، أو يزعم أنه كان ناصره ورازقه، وكأنه يعبده، وكأنه هو المعطي وما أشبه ذلك، فإن هذا من دعوى الجاهلية.
ويدخل أيضاً في دعوى الجاهلية كون الإنسان يعمل أي عمل من أعمال الجاهلية التي أضيفت إليهم، وذمهم عليها الرسول صلى الله عليه وسلم، وكتاب الله الذي جاء به، مثل التعصب، كونه يتعصب له ويرد الحق الذي يأتي من غيره، أو يناصره على باطل ونحو ذلك مما يفعله بعض الناس من كونه يتعصب لشيخ معين، ويرى أن غيره ضال، بدون دليل، وبدون مبرر، فإن هذا من عمل الجاهلية، فيفرق بين المسلمين، ويوغر صدور بعضهم على بعض، فهو من أمر الجاهلية الذي يجب أن يفارق ويترك، وهو معصية؛ لأن الله جل وعلا يقول: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103]، فالاعتصام بحبل الله هو دينه أو كتابه أو رسوله، كل ذلك سواء، والاعتصام به أن يعمل بما جاء به، وأن يجتمعوا على ذلك ولا يتفرقوا، فإن حصل التفرق فأسباب التفرق محرمة، والذي يدعو إليها ويفعلها مرتكب كبيرة، وقد تكون كبيرة أعظم مما لو كانت كبيرة تقتصر عليه هو؛ لأن العمل إذا تعدى إلى الغير يكون عظيماً وليس سهلاً، ولهذا جاء أن كل نفس تقتل فعلى ابن آدم الأول كفل منها؛ لأنه أول من سن القتل، وقد قال الله جل وعلا فيمن يقتل النفس: {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} [المائدة:32]، وأعظم من القتل كونه يضل عن الهدى وعن الطريق، وترك كتاب الله ومعصية أمره من الضلال.
والمقصود: أن أمر الجاهلية كثير، وليس مقتصراًَ على كونهم يدعون بالويل والثبور عند المصيبة فقط، أو كونهم يندبون المصاب، أو يندبون الميت، وقد يقع ذلك من الإنسان على غير اعتياد منه، فإن كان يسيراً فهو معفو عنه، كما وقع لـ أبي بكر رضي الله عنه عندما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وقد توفي، فقبله ثم قال: وا نبياه! وا خليلاه! وكذلك ما وقع لـ فاطمة أنها قالت شيئاً من ذلك، فمثل هذا الشيء القليل يعفى عنه إذا كان بصدق، أما إذا كان غير صحيح ما يقولون فيه فإنه يؤاخذ به، ويكون مرتكباً أمراً عظيماً، ومع ذلك يكون الميت يعذب بهذا الشيء الذي يقال له، يعذب به إذا نيح عليه؛ لما جاءت به الأحاديث الصحيحة: (أن الميت يعذب بالبكاء عليه)، والمقصود بالبكاء النياحة والندب، وهذا لا ينافي قوله جل وعلا: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]؛ لأن الإنسان يجب أن ينهى أهله إذا كان يخاف من هذا، أن يقول لهم: أنا بريء مما برئ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد جاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم برىء: (من الصالقة والحالقة والشاقة).
الصالقة: التي ترفع صوتها عند المصيبة، والحالقة: التي تحلق شعرها عند المصيبة.
فيجب أن يتقدم إليهم بذلك، فإن لم ينصحهم ويتقدم إليهم بالنصيحة صار مؤاخذاً بما يقال عليه ويعذب به.(93/5)
إمرار نصوص الوعيد على ظاهرها وعدم تأويلها
قال الشارح رحمه الله: [هذا من نصوص الوعيد، وقد جاء عن سفيان الثوري وأحمد: كراهة تأويلها، ليكون أوقع في النفوس وأبلغ في الزجر، وهو يدل على أن ذلك ينافي كمال الإيمان الواجب].
التأويل الذي يقصده الإمام أحمد وغيره من أئمة العلم والحديث: ما يفعله أكثر الشراح إذا جاء عند قوله: (ليس منا)، فيشرحه ويقول: أي: ليس على طريقتنا المثلى ليس على طريقتنا الكاملة ليس على سنتنا الكاملة الحسنة، فيهون الأمر في هذا، ويكون الأمر هيناً، وهذا خلاف ما أراده الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أراد بهذا الزجر والابتعاد عن هذه الأعمال، فيجب أن يبقى كلامه على ما هو عليه، ولكن يجب أن يعتقد أنه لا يخرج به الإنسان إلى الكفر؛ لأن المسلم لا يخرج من الإيمان إلا بما ينافي الإيمان.
وكذلك بقية النصوص مثل: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} [النساء:93] هذا شيء صعب جداً، ومع ذلك كثير من المفسرين أولوه، فقالوا: هذا جزاؤه إذا استحله، لماذا قالوا ذلك؟ قالوا: لأنه يوجد دليل على أن المسلم لا يخرج من الدين الإسلامي إلا بالكفر، وليس هذا من الكفر، ولأن الله جل وعلا أخبر عن القاتل أنه أخ للمقتول وأخ لوليه فقال: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:178]، فجعله أخاً له، وهذه الأخوة قطعاً هي أخوة الإيمان، وليست أخوة النسب، فدل على أنه لا يخرج من الدين الإسلامي، ولكن مع هذا كله لا يجوز أن نقول هذا، ولا يجوز أن نتأوله لأمرين: الأمر الأول: ما ذكر من أن هذا يكون تركه على ظاهره، أي: يمر على ظاهره بدون تأويل، مع اعتقاد أن الفاعل لا يكفر؛ لأنه أدعى للانزجار والابتعاد، وأبلغ في ذلك.
الأمر الثاني: أن المتأول على خطر؛ لأنه لا يدري هل هذا مراد الرسول صلى الله عليه وسلم أو غيره؟ فيجوز أن يتقول على الرسول صلى الله عليه وسلم قولاً لم يرده، فإذا تركه بدون تأويل يكون أسلم.
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (من ضرب الخدود) قال الحافظ: خص الخد لكونه الغالب، وإلا فضرب بقية الوجه مثله].
بقية البدن ليس الوجه، البدن كله، فلو ضرب فخذه أو ضرب صدره، أو أي موضع منه عند المصيبة، فإنه يكون داخلاً في ذلك، ولكن العادة جرت أنه يضرب الوجه والخد.(93/6)
خلاف العلماء في حكم البكاء على الميت
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (وشق الجيوب) هو الذي يدخل فيه الرأس من الثوب، وذلك من عادة أهل الجاهلية حزناً على الميت.
قوله: (ودعا بدعوى الجاهلية) قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: هو ندب الميت.
وقال غيره: هو الدعاء بالويل والثبور.
وقال ابن القيم رحمه الله: الدعاء بدعوى الجاهلية كالدعاء إلى القبائل والعصبية، ومثله التعصب إلى المذاهب والطوائف والمشايخ وتفضيل بعضهم على بعض، يدعو إلى ذلك، ويوالي عليه ويعادي، فكل هذا من دعوى الجاهلية.
وعند ابن ماجة وصححه ابن حبان عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لعن الخامشة وجهها والشاقة جيبها، والداعية بالويل والثبور)، وهذا يدل على أن هذه الأمور من الكبائر، وقد يعفى عن الشيء اليسير من ذلك إذا كان صدقاً وليس على وجه النوح والتسخط نص عليه أحمد رحمه الله؛ لما وقع لـ أبي بكر الصديق رضي الله عنه وفاطمة رضي الله عنهما لما توفي رسول صلى الله عليه وسلم.
وليس في هذه الأحاديث ما يدل على النهي عن البكاء؛ لما في الصحيح أن رسول صلى الله عليه وسلم لما مات ابنه إبراهيم قال: (تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون)، وفي الصحيحين عن أسامة بن زيد رضي الله عنه: (أن رسول صلى الله عليه وسلم: انطلق إلى إحدى بناته ولها صبي في الموت، فرفع إليه ونفسه تقعقع كأنها شن؛ ففاضت عيناه، فقال سعد: ما هذا يا رسول الله؟! قال: هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء)].
اختلف العلماء في حكم البكاء على الميت، فمنهم من قال: يجوز البكاء على الميت قبل أن يموت الميت، أما إذا مات فلا يجوز، فيكون البكاء الذي ورد منسوخاً؛ لأنه جاء في غزوة أحد: (أنه لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم سمع نساءً من بني عبد الأشهل يبكين على قتلاهن، فقال صلى الله عليه وسلم: (ولكن حمزة لا بواكي له، فجاء نساء من الأنصار فصرن يبكين على حمزة، فلما خرج قال: لا يبكين بعد اليوم على ميت)، فقالوا: هذا ناسخ، والصواب: أنه ليس هناك نسخ؛ لأن هناك أحاديث كثيرة جاءت بعد هذا النهي، منها قصة وقعت في مؤتة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان ينهاهم وعيناه تذرفان بالدمع صلوات الله وسلامه عليه، وكذلك قصة موت عثمان بن مظعون، وكذلك قصته لما زار قبر أمه صلى الله عليه وسلم، وهذا في السنة الثامنة من الهجرة، فإنه بكى وأبكى من عنده، وقال صلى الله عليه وسلم: (استأذنت ربي أن أستغفر لها فلم يأذن لي، واستأذنته بزيارة قبرها فأذن لي أن أزور قبرها)، والأحاديث كثيرة، وهي تدل صراحة على أن البكاء -يعني: دمع العين- جائز، بل جاء أنه رحمة، كما في هذا الحديث.(93/7)
قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة)].
هذا الحديث المقصود بالخير والشر فيه: الجزاء، وإلا فأفعال الله جل وعلا كلها خير، ولكن الشر يكون إضافياً، أي: يكون بالنسبة إلى المجزي به شراً عقاباً له، وهو جزاء أعماله، ولكن بالنسبة لله جل وعلا فهو خير وأمن؛ لأن الله لا يفعل إلا خيراً.(93/8)
معنى إرادة الخير للعبد في تعجيل العقوبة له
فقوله: (إذا أراد الله بعبده الخير)، إرادة الخير هنا رحمته والإحسان إليه حتى يكون يوم القيامة ناجياً من النار، فيعجل له جزاء أعماله التي عصى الله بها، ويكون ذلك عقاباً له وكفارة يكفر عنه بالعقوبة التي تصيبه، سواء كانت العقوبة في بدنه من مرض أو ما أشبه ذلك، أو في ماله أو في أهله، فكل ما يتصل به من المصائب يكون عقوبة لما فعل، وهذا مطلق، فكل إنسان لا يصاب بشيء إلا بما عمل من جراء عمله، كما قال الله جل وعلا: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]، {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر:45]، يعني: لو أن الناس يؤاخذون بجراء أعمالهم لأهلكوا عاجلاً.
وقد جاء في الأثر: (أن رجلاً من الأنصار أثر عليه المرض حتى صار كالفرخ، فعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله: هل كنت تدعو بشيء؟ قال: نعم، كنت أقول: اللهم ما أردت أن تعاقبني به في الآخرة فعجله لي في الدنيا، قال: سبحان الله! أنت لا تستطيع ذلك، ولكن اسأل ربك العافية)، وهذا يدلنا على أن الإنسان لا ينفك من المعاصي، ولا ينفك من التقصير دائماً، وعفو الله أعم وأشمل، ولكن هناك ذنوب كثيرة، وبعضها يكون عن جرأة وعمد لابد أن يعاقب عليها، وإذا أريد بالعبد خيراً عجل عقابه، سواء كان العقاب إقامة حد من الحدود التي يرتكبها -لأن إقامة الحد كفارة- أو كان مصيبة تصيبه في بدنه أو في ماله أو غير ذلك.(93/9)
معنى إرادة الله بعبده الشر في تأخير العقوبة عنه
وإذا أراد الله أن يوقع بعبده الشر عافاه في الدنيا حتى يوافي بذنوبه كاملة يوم القيامة، فيكون عقابه أشد وأنكى وأبقى، فالعقاب الحقيقي هو العقاب في الآخرة، أما في الدنيا فكل من كان فيها سواء مر بأزمات وشدائد أو بنعم فإنها تنتهي، وهذا لقصرها وحقارتها، والله جل وعلا لن يرضى أن تكون الدنيا محلاً لعقاب أعدائه، فكيف تكون جزاءً لأوليائه؟ إنها لا تساوي عند الله شيئاً، وهي زائلة: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه، أو عالماً أو متعلماً)، فالشيء الذي يراد به الدنيا مبعد، أما الذي يراد به الله جل وعلا فيها فهو الذي ينفع.
ومعنى (أراد به الشر) أي: جازاه بالشر الذي هو عمله، فيؤخر جزاءه إلى أن يلقاه يوم القيامة، فيجازيه بهذا العذاب الباقي الشديد، نسأل الله العافية.(93/10)
أحوال الناس تجاه المصائب وأقدار الله
قال الشارح رحمه الله تعالى: [هذا الحديث رواه الترمذي والحاكم، وحسنه الترمذي، وأخرجه الطبراني، والحاكم عن عبد الله بن مغفل، وأخرجه ابن عدي عن أبي هريرة والطبراني عن عمار بن ياسر.
قوله: (إذا أراد الله بعده الخير عجل له العقوبة في الدنيا) أي: يصب عليه البلاء والمصائب؛ لما فرط من الذنوب منه فيخرج منها وليس عليه ذنب يوافي به يوم القيامة.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: المصائب نعمة؛ لأنها مكفرات للذنوب، وتدعو إلى الصبر، فيثاب عليها، وتقتضي الإنابة إلى الله والذل له والإعراض عن الخلق، إلى غير ذلك من المصالح العظيمة.
فنفس البلاء يكفر الله به الخطايا، وهذا من أعظم النعم، فالمصائب رحمة ونعمة في حق عموم الخلق، إلا أن يدخل صاحبها بسببها في معاصي أعظم مما كان قبل ذلك، فتكون شراً عليه من جهة ما أصابه في دينه، فإن من الناس من إذا ابتلي بفقر أو مرض أو وجع حصل له من النفاق والجزع ومرض القلب أو الكفر الظاهر، أو ترك بعض الواجبات وفعل بعض المحرمات ما يوجب له ضرراً في دينه، فهذا كانت العافية خيراً له من جهة ما أورثته المصيبة لا من جهة نفس المصيبة، كما أن من أوجبت له المصيبة صبراً وطاعة كانت في حقه نعمة دينية، فهي بعينها فعل الرب عز وجل ورحمة للخلق، والله تعالى محمود عليها].
ظاهر قول الشيخ رحمه الله أنه يرى أن المصائب تكفر الذنوب، وهذا هو الظاهر، أما حصول الثواب والأجر فهو بأسباب أخرى، كأن يكون بالصبر عليها، وكونه تحدث للإنسان إنابة إلى الله، وذل وتعلق به، ودعاء إليه، فهذا أمر آخر، أما المصيبة نفسها فهي كفارة فقط، تكفر ما وقع منه، وليس فيها أنه يكتب له فيها الثواب، وإنما يكفر عنه بها ما وقع من المعاصي، وترك الطاعات الواجبة عليه إذا اتصل بها شيء سواء كان مما يدعو إلى الإنابة والتوبة والاستغفار والدعاء فهذا أمر آخر يثاب عليه، أما إذا كانت سبباً للإعراض والتضجر والاعتراض على الله جل وعلا والسخط مما قضاه عليه، فإنها تكون مصيبة أخرى ليس له فيها كفارة، وربما وقعت منه مصيبة أكبر من المصيبة التي أصيب بها، فهذا يقع كثير من الناس.
وبعض الناس يكون المرض الذي يقع فيه غير منبه له، بل يبقى على حالته التي هو عليها حتى تجده يترك الصلاة؛ لأن كونه مريضاً لا يستطيع أن يتوضأ ولا يستطيع أن يصلي، وهذا يوجد في كثير من المرضى، وهذا خطر عظيم ومعصية كبيرة، بل قد تكون كفراً، نسأل الله العافية.
فالصلاة لا تسقط عن الإنسان بحال من الأحوال، وإذا مرض الإنسان فينبغي له أن يحرص على أداء الصلاة على حسب حاله {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة:286]، ولكن لا يترك الصلاة، وإن استطاع أن يتوضأ توضأ، وإن استطاع أن يصلي قائماً صلى قائماً، وإن لم يستطيع الوضوء تيمم، فالتيمم ليس صعباً، فإذا لم يكن عنده من يوضئه ويعينه على وضوئه تيمم، فإن كان عنده من يفعل ذلك فإنه يجب عليه ذلك، أما إذا كان لا يستطيع أن يخرج فيوضع له قليل من التراب في إناء ويتيمم فيمسح وجه ويديه، وإذا لم يستطع هو ذلك فالذي عنده يفعل به ذلك وييممه، فيأخذ بيديه ويضعها على التراب، ثم يسمح بها وجهه وكفيه، ثم يقول له: صل، فيصلي على حسب حاله ولو بالإشارة يشير برأسه، فإذا لم يستطع يومئ بعينيه، فمادام العقل عنده صاحياً فلا تسقط عنه الصلاة بحال، ولا يجوز أن يترك الصلاة، فقد يموت قبل أن يشفى فيكون موته وهو تارك للصلاة، نسأل الله العافية، فهذا خطر عظيم يجب أن ينبه عليه الناس، فمثل هذا يكون المرض -وهو مصيبة- قد سبب مصيبة أخرى أكبر منها، نسأل الله العافية.
فالمسألة: الناس يختلفون في البلاء الذي يصيبهم، فمنهم من يرجع إلى الله بسببه وينيب، ومنهم من يبتعد عن الله جل وعلا ويكون سبباً في تضجره وتسخطه على الله، ويقول: أنا لا أستحق هذا الشيء -يعني: أن الله ظلمه عياذاً بالله- وأنا ما عملت شيئاً، أنا أصلي وأنا أفعل كذا، وأنا وأنا ولكن ما أدري من أين جاءت هذه المصيبة؟! هكذا نسمع بعضهم يقول! والذي لا يقول هذا بلسانه يمكن أن يقول في قلبه شيئاً من ذلك، وإذا كان في قلب الإنسان شيء من ذلك فإنه يكفي في هلاكه؛ لأن الله جل وعلا يحكم بالعدل، ولا يصاب من مصاب إلا بسبب أمر تركه أو ذنب ارتكبه، كما أخبر الله جل وعلا.
ويجب أن يتعظ الإنسان بالمصائب، فتكون المصيبة موعظة له، فيتعظ ويحاسب نفسه، ويبتعد عن المعائب التي يعاب عليها ديناً، فيبتعد عنها ويستغفر ربه منها، فمثل هذا تكون المصيبة قد طهرته من الذنب، وكفرت عنه ذنبه، ولهذا يوجد من الناس من إذا وقع في مصيبة يخرج منها كأنه ليس عليه شيء، كأن لم يعمل ذنباً، كيوم ولدته أمه، وهذا من فضل الله ورحمته بالعبد، فلهذا العبد لا يسوؤه أنه يصاب بشيء، لا ينبغي أن تكون هذه السيئة تسوؤه، فليعلم أن هذا فضل من الله وعدل، ثم لينزجر ويتعظ، ويكثر الرجوع إلى الله، وليجعل ذلك سبباً لرجوعه وتعلقه بالله جل وعلا؛ لأن الإنسان ضعيف، فلو جوزي مثلاً بما يعمل أو جمع كل ما يعمله حتى يوافى به يوم القيامة فقد يهلك، يمكن أن ترجح سيئاته على حسناته فيكون من الخاسرين.
فيجب على الإنسان أن يحمد ربه، وهذه صفة المؤمن، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (عجباً للمؤمن إن أمره كله له خير، إن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن)، أما المنافق والكافر فهو مثل البعير الذي يعقل ثم يطلق عقاله ولا يدري لماذا عقل، ولا يدري لماذا أطلق عقاله؟! فالمؤمن ينبغي أن يكون بهذه الصفة: إذا أصيب بشيء يكره صبر واحتسب، وصار هذا سبباً في خضوعه وذله ورجوعه إلى الله واستغفاره، وإن أصيب بنعم حمد الله وشكره وأوجب ذلك له زيادة طاعة لله جل وعلا، حيث أحدث له نعماً فيحدث لله طاعة.
قال الشارح رحمه الله: [فمن ابتلي فرزق الصبر، كان الصبر عليه نعمة في دينه، وحصل له بعدما كفر من خطاياه رحمة، وحصل له بثنائه على ربه صلاة ربه عليه، قال تعالى: {أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة:157]، وحصل له غفران السيئات ورفع الدرجات، فمن قام بالصبر الواجب حصل له ذلك.
انتهى ملخصاً].
أي: أنه يمتثل الآية، كما في قوله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:156]، ومعنى: (إنا لله) أي: نحن ملك له وعبيد له يتصرف فينا كيف يشاء، لا نملك لأنفسنا شيئاً، فإذا أصابنا بشيء فهو إليه جل وعلا، ولا يجوز لنا أن نعترض على شيء من ذلك، إنا لله ملكاً وعبيداً، يفعل بنا ما يشاء، (وإنا إليه راجعون)، أي: مرجعنا إليه فيجازينا على أعمالنا، فإن كان الإنسان شاكراً جازاه خيراً، وإن كان كافراً لا يلقى إلا جزاء عمله فقط، ولا يظلم شيئاً، والشاكرون هم الذين يقول جل وعلا: {أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة:157]، وصلاة الله على عبده أن يثني عليه عند الملائكة، ومن أثنى الله عليه عند ملائكته أحبته الملائكة وصارت تدعو له بسبب بذلك، ملائكة الله جل وعلا الذين في السماء يستغفرون له ويدعون الله له، فيكتسب عملاً ما كان يعمله هو استغفار الملائكة، وهذه الصلوات صلوات الله، وأما الرحمة فأمر آخر: {أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة:157]، ثم {وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:157]، هذا الذي ينبغي أن يكون عليه العبد إذا أصيب بشيء أن يقول هذا، لعله يتحصل على هذا الفضل العظيم، وهو صلاة الله ورحمته جل وعلا، ولو لم يكن في المصيبة إلا هذا لكفى أن يرتبط الإنسان به، وكون الإنسان يكون معافىً دائماً ينبغي أن لا يفرح، فقد يكون دليلاً على أن الله لا ينظر إليه، وأنه معرض عنه، نسأل الله العافية! قال الشارح رحمه الله: [قوله: (وإذا أراد بعبده شراً أمسك عنه بذنبه) أي: أخر عنه العقوبة بذنبه.
(حتى يوافي به يوم القيامة) وهو بضم الياء وكسر الفاء منصوباً بـ (حتى) مبنياً للفاعل، قال العزيزي: أي: لا يجازيه بذنبه في الدنيا حتى يجيء في الآخرة مستوفر الذنوب وافيها، فيستوفي ما يستحقه من العقاب، وهذه الجملة هي آخر الحديث.
فأما قوله: (وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن عظم الجزاء مع عظم البلاء) إلى آخره، فهو أول حديث آخر، لكن لما رواهما الترمذي بإسناد واحد وصحابي واحد جعلهما المصنف كالحديث الواحد.
وفيه التنبيه على حسن الرجاء وحسن الظن بالله فيما يقضيه لك، كما قال تعالى: {وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216].
](93/11)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [94]
الابتلاء سنة ماضية، يبتلى الناس على قدر دينهم، فمن ثخن دينه اشتد بلاؤه، ومن قل دينه قل بلاؤه، وأشد الناس ابتلاء هم الأنبياء عليهم السلام، والواجب عند نزول البلاء هو الصبر والرضا وعدم التسخط، فمن صبر ورضي أجر على مصيبته، وكفر بها من سيئاته، ومن سخط وقعت عليه مصيبته، ولم يؤجر عليها، وليعلم أن عظم الجزاء مع عظم البلاء.(94/1)
عظم الجزاء مع عظم البلاء
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط) حسنه الترمذي].
هذا الحديث ظاهره هو أصل المسألة التي ذكرنا: أن البلاء والمصائب عليها جزاء؛ لقوله: (إن عظم الجزاء مع عظم البلاء) يعني: إذا كان الإنسان ابتلاؤه أعظم فجزاؤه أعظم وأكبر، فيدل على أن المصيبة يجزى بها الإنسان.
وقد جاء صريحاً في حديث ابن مسعود: لما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو مريض، قال له: (إنك لتوعك وعكاً شديداً، قال: نعم، أو قال: أجل، كما يوعك اثنان منكم، وقال: ألأن لك أجرين؟ قال: نعم) يعني: إذا كان هذا مرضه أشد فيكون أجره أكثر، وهذا الحديث صريح في ذلك، وهذا هو الصواب أن الإنسان إذا أصيب بمصيبة إن كان له ذنوب كفرت بها، مقابل ذلك، ولا يخلو أحد من الذنوب أبداً.
(كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)، وفي الحديث الصحيح: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون الله فيغفر لهم)؛ لأن الله جل وعلا من أسمائه الغفار والعفو والرحيم والتواب، فلابد أن تظهر آثار أسمائه جل وعلا على خلقه، فهذا مقتضى خلقه وأسمائه وصفاته تعالى وتقدس، فكل بني آدم والجن -وهم المكلفون- يقعون في أخطاء كثيرة، وخيرهم الذي إذا أخطأ تاب، ثم الملائكة خلقوا للعبادة، أي أنه: خلص خلقهم للعبادة وكلفوا بذلك، ولهذا لا يوجد عندهم ما عند بني آدم من العصيان: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، دائماً وأبداً فهم جنس آخر من غير جنس بني آدم.
فإذا كان الإنسان خطؤه عظيماً فتكون المصيبة مقابل الخطأ، فإن كانت أكبر وأشد من خطئه صار منها ما هو مكفر ومنها ما هو في رفعة درجاته عند الله، وفي الأثر: أن الإنسان تكون له درجة عند الله لا يبلغها بعمله، فيبتليه الله جل وعلا بالمصائب حتى يبلغ تلك الدرجة.
وهذا القول هو الصواب من أقوال العلماء: أنه يختلف الناس فيها، إذا اشتد البلاء والإنسان ليس له من الذنوب ما يقابل ذلك فإن هذا رفعة لدرجاته، وزيادة في حسناته، ولهذا فإن الأنبياء صلى الله عليهم وسلم يبتلونَ بتكذيب قومهم وبأذيتهم وربما بقتلهم.
ومعلوم أنهم خير الخلق، فخير بني آدم هم الأنبياء والرسل: (أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الإنسان على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقة خفف في بلائه) فتكون بلواه على حسب ما عنده من الدين، وهذا من رحمة الله جل وعلا، لأنه لو زيد في بلاء الإنسان الذي دينه ضعيف لقدم دينه دون عرضه حتى يسلم، فالله جل وعلا لطيف بعباده، وهو حسب مصالحهم، فإنه إذا أراد الخير بعبده هيأ له أسباب ذلك بفعله هو، وإن لم يكن من فعله ما يصل به إلى الدرجة العالية وقد أراد الله له تلك الدرجة ابتلاه بالمصائب، سواء كانت مصائب قدرية أو مصائب بسبب الناس، وإن كانت كلها بالقدر، فما يقع شيء إلا بقدر الله جل وعلا، ولكن الأسباب قد تكون أثراً من آثار الناس الذين يفعلون ذلك وهم مسئولون عن أفعالهم، وإن كان أمرهم مقدراً؛ لأن العاقل والمكلف لابد أن يطالب بأعماله، وليس لأحد حجة بالقدر، فيقول: هذا مقدر علي أنا فعلت الشيء المقدر علي لأن الإنسان مكلف بأعمال محددة من الطاعات، ومنهي عن أعمال محددة من المعاصي يستطيع أن يتركها، والطاعات يستطيع أن يفعلها، وقد علم بذلك وقيل له: هذا طريق الخير فاسلكه، وهذا طريق الشر فاجتنبه.
فإذا ارتكب شيئاً من المناهي بعد ذلك فاللوم عليه، وليس له أن يقول: إن الله قدر علي ذلك، فهو الذي فعله، وما يدريك أنه قدر عليك قبل أن تفعل ذلك، فعليك أن تجتهد، فإذا وقعت في ذنب فلا تقل: هذا مقدر، ولكن قل: أستغفر الله وأتوب إليه، فاستغفر واسترجع، وعد على نفسك باللوم، أما إذا قال الإنسان: أنا وقعت في القدر، فمعنى ذلك: أن أجعل اللوم على القدر لا على نفسي، يبرئ نفسه من ذلك، ويجعل اللوم على ربه، فهذا يكون مقتدياً بإبليس عندما قال لربه: {بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر:39] الله أغواه أك هو الذي أغوى نفسه؟ هو الذي اختار الغواية، ولما قيل له: اسجد، أبى وقال: أنا خير منه وهناك سجدت الملائكة، ولكنه أبى هو باختياره، فهو الذي غوى بفعله.
فلا يحتج بأن الله قدر ذلك، الله جل وعلا قدر كل شيء؛ لأنه هو المالك لكل شيء، ولكن أعطاك المقدرة على الفعل الذي كلفك به، وأعطاك المقدرة على ترك الأفعال التي حرمها عليك، فإذا امتثلت الأمر كنت موافقاً للقدر وموافقاً للشرع، وإذا لم تمتثل الأمر كنت عاصياً، وإن كنت لا تخرج عن مقدور الله جل وعلا، فلا أحد يخرج عن مقدور الله، ولكن العقلاء كلفوا بعدما أعطوا العقل بالشيء الذي يستطيعونه.(94/2)
إذا أحب الله قوماً ابتلاهم
قال الشارح رحمه الله: [قال الترمذي: حدثنا قتيبة، حدثنا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن سعد بن سنان، عن أنس، وذكر الحديث السابق، ثم قال: وبهذا الإسناد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن عظم الجزاء) الحديث، ثم وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، ورواه ابن ماجة.
ورواه الإمام أحمد عن محمود بن لبيد رفعه: (إذا أحب الله قوماً ابتلاهم، فمن صبر فله الصبر، ومن جزع فله الجزع)، قال المنذري: رواته ثقات.
قوله: (إن عظم الجزاء) بكسر العين وفتح الظاء فيها، ويجوز ضمها مع سكون الظاء، أي: من كان ابتلاؤه أعظم كمية وكيفية.
وقد يحتج بهذا الحديث من يقول: إن المصائب يثاب عليها مع تكفير الخطايا، ورجح ابن القيم أن ثوابها تكفير الخطايا فقط، إلا إذا كانت سبباً لعمل صالح كالصبر والرضا والتوبة والاستغفار، فإنه حينئذ يثاب على ما تولد منها، وعلى هذا يقال في معنى الحديث: إن عظم الجزاء مع عظم البلاء إذا صبر واحتسب].
على كلٍ الحديث مطلق، والأحاديث التي ذكرنا مطلقة، فكوننا نقيد الأحاديث بشيء لم يقيدها به رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا ليس وارداً، والمفهوم شيء والمنطوق شيء آخر.
ومعلوم أن النصوص يجب أن يؤخذ بظاهرها إلا إذا جاءت نصوص أخرى تخالفها؛ لأن النصوص من كتاب الله جل وعلا ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا تتعارض، بل يصدق بعضها بعضاً.(94/3)
ابتلاء الأنبياء والأولياء دليل على أنهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا دفعاً
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم)، ولهذا ورد في حديث سعد: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: (أي الناس أشد بلاءً؟ قال: الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي في الأرض وما عليه خطيئة)، رواه الدارمي وابن ماجة والترمذي وصححه.
وهذا الحديث ونحوه من أدلة التوحيد، فإذا عرف العبد أن الأنبياء والأولياء يصيبهم البلاء في أنفسهم الذي هو في الحقيقة رحمة، ولا يدفعه عنهم إلا الله؛ عرف أنهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا دفعاً، فلأن لا يملكوه لغيرهم أولى وأحرى، فيحرم قصدهم والرغبة إليهم لقضاء حاجة أو تفريج كربة، وفي وقوع الابتلاء بالأنبياء والصالحين من الأسرار والحكم والمصالح وحسن العاقبة ما لا يحصى].
هذا واضح وجلي، فقد ابتلي بعض الناس -نسأل الله العافية- بالتعلق بدعاء المخلوق والشرك به ويوجد كثير من الناس يعبد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعبد الأولياء، ويتلمس لذلك الأدلة، مع أن كتاب الله جل وعلا ودعوة الرسل كلها جاءت بوجوب إخلاص العبادة لله وحده، وأن الإلهية له وحده، ولكن الشيطان لا يزال بالإنسان حتى يحرف الأمور الواضحة الجلية، فيجعل العبادة غير العبادة، ويجعل التعلق في قالب آخر، فإذا جاء الشر صريحاً صار يؤوله.
والمعروف أن كثيراً من الناس يتعلقون بمن يسمونهم أولياء، مع أن الولاية أمرها خفي، فقد يظهر للإنسان أن فلاناً صالح أمام الناس، وهو في نفسه فاسد ليس صالحاً، وليست المسألة مسألة ما يظهر للناس، وإنما هو الشيء الذي يكون عند الله للإنسان، فقد يري الناس مثلاً أنه مطيع ومن الفضلاء، فإذا توارى عن الناس تجرأ على الله جل وعلا في المعاصي، وهذا يوجد بكثرة، وقد يكون هذا المرض واضحاً عند كثير من الناس.
فكون هذا ولياً أمر لا يعلمه إلا الله، إلا أن يخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم عن إنسان بعينه، وكونهم مثلاً يتعلقون به أمر محرم.
هذا أمر.
الأمر الثاني: أن الدين الإسلامي جاء بوجوب الإخلاص لله وحده، ووجوب متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم في مثل هذين الأمرين، فكون العبادة كلها لله خالصة ليس فيها شيء لغيره، وكون العبادة جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تكون بالاختيار أو بالنظر أو بالاستحسان، أو بما يتعارف عليه الناس ويصطلحون عليه كالموالد وما أشبه ذلك من الأمور التي يفعلونها ثم يبحثون عن الأدلة من بعيد، ويتعلقون بأشياء عجيبة، فيقولون: إنها مشروعة، كيف كانت مشروعة وهي أول ما أحدثت في القرن السادس؟! هل احتفل الرسول صلى الله عليه وسلم بمولده؟ وهل احتفل به أحد من صحابته؟ هذا لا يثبته إلا كذاب مكابر، فكيف يكون بعد ذلك عبادة وفيها هوى النفوس واستيلاء الجهل عليها؟! وأشياء كثيرة من هذا القبيل، وهذا مثال فقط.
ثم كون العمل مقصود به وجه الله وحده فقط، ثم إذا دخله شيء من الإرادات والمقاصد فإنه إما أن يفسد فيصبح حابطاً، وإما أن يكون ناقصاً على الأقل كما سيأتي.
وإن ذهب بعضه وبقي بعضه إذا كان شيئاً واحداً فالله لا يقبل إلا ما كان خالصاً له، وبعد هذا كله كيف يكون مخلوق مكلف خلقه الله ليتعبده كيف يكون شريكاً لله في الإلهية أو في العبادة؟ والأمور في هذا واضحة، ولكن الذين يحبون الشرك ويدعون إليه يغالطون.
الله جل وعلا لما أخبر عن الملائكة أنهم عباد مكرمون، وأنهم يفعلون ما يؤمرون ولا يعصون الله ما أمرهم قال: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ} [الأنبياء:29]، ماذا يكون؟ {فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:29]، يصلى جهنم.
فالقرآن كله ودعوات الرسل كلها تصب في هذا الأصل العظيم الذي ضل عنه كثير من الناس، وصار يغالط ولا يعتمد إلا على رؤيا كقولهم: رأيت كذا وفلان رأى كذا أو على حكايات وقصص خرافية، كقولهم: إن فلاناً دعا الولي الفلاني أو تعلق به فحصل له كذا وحصل له كذا أو على أحاديث مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو على تحريفات كتحريفات اليهود الذين حرفوا النصوص تحريفات واضحة، ثم يستاء بعد ذلك أن يقال: إن بلوى الرسل وما يصابون به دليل على أنهم عباد، وأنهم ليس لهم من الربوبية مع الله شيء، وليس لهم من الإلهية مع الله شيء! احتج على القول لشدة الجهل والعناد، وشدة ترك ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من بعض الناس.
ومعلوم ما وقع فيه سيد الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم من أعدائه، لقد أخرج من مكة ثم لم يستطع الدخول إلا بجوار رجل مشرك، وذهب إلى الطائف فرموه بالحجارة حتى أدموا عقبيه صلوات الله وسلامه عليه، وردوا عليه رداً من أسوأ ما يكون لو كنت نبي أحد الناس ما قبلك ثم قال جاهل من ثلاثة من كبارهم وساداتهم كانوا مجتمعين فعرض عليهم أمر الله ودعاهم فقال أحدهم: ما وجد الله أحداً غيرك حتى أرسلك؟! بهذه السخرية والتهكم، والآخر قال: إنه يسرق كسوة الكعبة إن كنت رسولاً، وهذا استهزاء صريح، والآخر قال: لا أكلمك كلمة، لئن كنت صادقاً فلأنت أعظم من أن أرد عليك، ولئن كنت كاذباً فلأنت أحقر من أن أكلمك أهذا جواب الذي جاء بالبينات والهدى الواضحات؟! ثم بعد ذلك يغرى به السفهاء والصبيان، فيرمونه بالحجارة ويضربون عقبيه حتى يخرج منه الدم صلوات الله وسلامه عليه، ثم يخرج ولا يدري إلى أين يتجه صلوات الله وسلامه عليه، قد ذهب فكره، فلم يفق إلا وهو بقرن الثعالب الذي يسمى: السيل العالي من الطائف، وهناك رجع إلى فكره ودعا بالدعوة المعروفة المشهورة وقال فيها: (إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي)، فيقول: إلا مصيبة تصيبني بها لا أبالي ما دام أنه بأمرك ولطاعتك، فيحمد الله على ذلك.
ثم كذلك يوم بدر قالت له عائشة رضي الله عنها: (يا رسول الله! هل مر بك يوم أشد من يوم أحد؟ قال: يا عائشة! لقد لقيت من قومك) وذكر يوم الطائف.
ويوم أحد شج في وجهه صلوات الله وسلامه عليه، وجعل الدم يسيل على وجهه وهو يقول: (كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى الله؟!)، ثم بعد ذلك أنزل الله جل وعلا عليه: {لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128]، فالأمر كله لله، فامتثل أمر سيدك، وامض حيث أمرت وكلفت، ثم بعد هذا يأتي قائل ويقول: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي فضلاً فقل يا زلة القدم ولم يضيق رسول الله جاهك بي إذا الكريم تجلى باسم منتقم يقول: إذا غضب الله يوم القيامة فأنا أستجير بك من الله! -نسأل الله العافية- ثم يقول: فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم إذا كان من جملة جود النبي صلى الله عليه وسلم الدنيا والآخرة، ومن جملة علومه علم اللوح الذي كتب فيه كل شيء، والقلم الذي كتب كل شيء، فماذا بقي لله؟ ما أبقى لله شيئاً، نسأل الله العافية! ثم يصبح هذا الكلام نصاً، ويصبح يحفظ كما تحفظ الفاتحة؛ بل بعض الناس يقرؤه مساءً وصباحاً ويجعله ورداً كآية الكرسي والمعوذتين وما أشبه ذلك.
وليس هذا إلا انحرافاً واضحاً، وتعلقاً بالمخلوق وتركاً للخالق جل وعلا الذي بيده أزمة الأمور وكل شيء، ومن الذي يزين هذه الأمور؟ يزينها شياطين الجن والإنس، ويحسنونها ويجعلونها بقالب تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم ومعرفة حقوقه.
يؤخذ خالص حق الله جل وعلا ويوضع في المخلوق، فإنه لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مواجهاً لهم لقاتلهم أشد من قتاله لكفار قريش؛ لأنهم خالفوه صراحة، وجاءوا بما لم يأت به مشرك من المشركين، نسأل الله العافية.(94/4)
الرضا صفة من صفات الله تعالى
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (فمن رضي فله الرضا)، أي: من الله تعالى، والرضا قد وصف الله تعالى به نفسه في مواضع من كتابه، كقول الله تعالى: {جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [البينة:8]، ومذهب السلف وأتباعهم من أهل السنة إثبات الصفات التي وصف الله بها نفسه، ووصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم، على ما يليق بجلاله وعظمته، إثباتاً بلا تمثيل، وتنزيهاً بلا تعطيل، فإذا رضي الله تعالى عنه حصل له كل خير، وسلم من كل شر].
أي: أنه لا يجوز أن تفسر صفة الله جل وعلا بلازمها ولا بأثرها، لا بأثر الصفة ولا بلازم الصفة.
بل يجب أن يوصف الله جل وعلا بها، فإذا أخبر أنه يسخط فيثبت هذا له، فإنه يسخط على من يشاء من أهل المعاصي والكفر، وليس سخطه هذا ظلماً، وكذلك ليس سخطه المصائب التي يصاب بها الإنسان، وكذلك الرضا فإنه جل وعلا يرضى عمن يشاء من عباده، ورضاه صفة له، ولا يجوز أن يفسر الرضا بأثره أو بلازمه من محبة الطاعة أو الإثابة، فإن كونه يثيب هذا من لازم صفة الرضا، وكذلك الطاعة سبب من أسباب رضا الله جل وعلا.
فيجب أن تثبت الصفات لله جل وعلا كما جاءت من غير تحريف ولا تعطيل، والتحريف: يقصد به التأويل الباطل الذي يفعله أهل الكلام كالأشاعرة ونحوهم، أنهم يحرفون تحريفاً يذهب بالمراد نهائياً، الله جل وعلا يخبر أنه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، فلا يجوز للإنسان إذا قيل له: إن الله يسخط، وإن الله يرضى ويغضب ويضحك ويفرح ويعجب -أن يجعل هذا من جنس الشيء الذي يعرفه من نفسه، لا يجوز ذلك؛ لأن الله جل وعلا يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، في ذاته تعالى، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، ولا في حقوقه، الحق الذي له لا يجوز أن يكون مثله للمخلوق، وقوله وفعله لا يجوز أن يكون مثل قول المخلوق وفعله ووصفه، كما أن نفسه تعالى وتقدس ليست كالمخلوقين: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11].
فيجب أن تكون هذه قاعدة نسير عليها، وهذا الذي كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم، وكان عليه أتباعهم إلى اليوم على هذا الشيء، ومن خالف في هذا فهو ضال قد ضل في دينه.(94/5)
رضا العبد بأقدار الله تعالى وعدم تسخطه
قال الشارح رحمه الله: [قال: والرضا: هو أن يسلم العبد أمره إلى الله].
يعني: رضا المخلوق، كونه يرضى بالقضاء وبالقدر أن يسلم أمره لله، ولا يعترض ولا يتضجر، بل يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، ما أصابنا شيء إلا بإذن ربنا، وله الحمد على ذلك، فيكون عبداً صحيحاً، فيسلم وينقاد، لا يعترض ولا يتضجر، ولا يتوجع، ولا ينافي هذا كونه يتعالج إذا كان مريضاً، أو كونه يصف المرض ويقول: أنا عندي كذا وكذا وأجد كذا وكذا لمن يكون عنده شيء من العلاج، فهذا لا ينافي كونه يسلم وينقاد لعدم الاعتراض، كما أنه لا ينافي التسليم كونه يئنّ في مرضه، وبعض العلماء يقول: الأنين شكاية، كما روي عن طاوس رحمه الله، ولهذا لما بلغ ذلك الإمام أحمد وهو في مرضه صار لا يئنّ حتى مات رحمه الله، ولكن كون المريض يجد في أنينه شيئاً من الراحة فلا بأس، وليس معناه أنه يشتكي أو يتوجع.
فالمقصود: التسليم والرضا، وهو أن يسلم وينقاد، وألا يكون قلبه متسخطاً أو متوجعاً من ربه، فإذا تعالج أو وصف مرضه فإنه لا يكون منافياً لذلك؛ لأن العلاج سبب من الأسباب التي وضعها رب العالمين، والأسباب أمر الله جل وعلا أن نبذلها كما جاء في الحديث: لما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: (هل نتداوى؟ قال: نعم.
تداووا عباد الله، فإن الله ما وضع داءً إلا ووضع له شفاء، علمه من علمه، وجهله من جهله، إلا داءً واحداً وهو الهرم، وفي رواية: الموت)؛ لأن هذه الحياة لابد أن تنتهي.
قال الشارح رحمه الله: [ويحسن الظن به، ويرغب في ثوابه، وقد يجد لذلك راحة وانبساطاً، محبةً لله وثقة به، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: (إن الله بقسطه وعدله جعل الروح والفرح باليقين والرضا، وجعل الهم والحزن بالشك والسخط).
قوله: (ومن سخط): هو بكسر الخاء، قال أبو السعادات: السخط الكراهية للشيء وعدم الرضا به.
أي: من سخط على الله فيما دبره فله السخط من الله، وكفى بذلك عقوبة، وقد يستدل به على وجوب الرضا، وهو اختيار ابن عقيل، واختار القاضي عدم الوجوب، ورجحه شيخ الإسلام وابن القيم].
الإلزام بهذه المنزلة صعب، أي: كون الإنسان يرضى بالشيء الذي وقع له من المصائب؛ لأن الرضا معناه أن يغتبط بهذا الشيء ويفرح به، فهذا لا يستطيعه إلا الأفذاذ، ولكن الواجب هو الصبر وعدم الاعتراض، أما الرضا فإذا وصل إليه الإنسان فهو فضل عظيم، وإن لم يصل إليه فلا يكلف به.
قال الشارح رحمه الله: [قال شيخ الإسلام: ولم يجئ الأمر به كما جاء الأمر بالصبر، وإنما جاء ثناؤه على أصحابه.
قال: وأما ما يروى: (من لم يصبر على بلائي ولم يرض بقضائي فليتخذ رباً سواي)، فهذا خبر إسرائيلي لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال شيخ الإسلام: وأعلى من ذلك -أي: من الرضا- أن يشكر الله على المصيبة؛ لما يرى من إنعام الله عليه بها.
انتهى، والله أعلم.(94/6)
مسائل باب: من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله
قال المصنف رحمه الله: [فيه مسائل: الأولى: تفسير آية التغابن.
الثانية: أن هذا من الإيمان بالله.
الثالثة: في الطعن في النسب.
الرابعة: شدة الوعيد فيمن ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية.
الخامسة: علامة إرادة الله بعبده الخير.
السادسة: إرادة الله به الشر].
هذه خلاصة الباب الذي سبق، وهي: تفسير الآية التي في سورة التغابن، وهي قوله جل وعلا: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التغابن:11]، يعني: أن الإنسان يعرف معناها، يعرف ما أراد الله جل وعلا بها، وهنا (ما أصاب من مصيبة) عامة، لا يخرج عنه شيء، أي شيء يسمى مصيبة، (إلا بإذن الله): بقدره وكتابته وأمره القدري، وأنه خالق لذلك، فلابد أن يعلم، ثم يسلم له وينقاد، فمن فعل ذلك جازاه الله جل وعلا بهداية القلب؛ بأن الله يهدي قلبه، وهداية القلب: أن يكون متبعاً للحق، معرضاً عن الباطل، محباً للخير، مبغضاً للشر، ويستمر على ذلك، فمن فعل ذلك جوزي بحسنات يعملها، ويكتسب بها الأعمال التي توصله إلى رضا الله، وهو أمر عظيم، وقد سبق أن هذا يدل على أن العمل من الإيمان.
أما الطعن في النسب فهو من شأن الجاهلية، وهو أيضاً يقدح في دين الإنسان، إذا فعله فإنه معصية يقدح في دينه؛ لأن الواجب على العبد المؤمن أن يزن الإنسان بعمله، وإنما يوزن الناس بأعمالهم وليس بأنسابهم.
والإنسان ليس له دخل في والده ولا أمه من ناحية الجزاء والعقاب، فلا تزر وازرة وزر أخرى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} [النجم:39]، ولا يؤخذ الإنسان بجريرة غيره في حكم الإسلام، فكونه يطعن في نسبه هذا قادح في دينه، وهو معصية يقدح في توحيده.
وكذلك النياحة على الميت، وقد سبق أنها: رفع الصوت وتعداد المحاسن، أي: أنه يأسف أنه فاته حظه من هذا الميت، فإنه يبكي حظه ولا يبكي الميت رحمه الله.(94/7)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [95]
الرياء آفة خطيرة يفسد العمل ويحبط الأجر، وهو أخوف ما يخاف على الصالحين؛ لأنه أخفى من دبيب النمل؛ ولذا كثر التحذير منه في كتاب الله وسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، فيجب على المسلم أن يراقب قلبه، وأن يكثر الاستعاذة بالله منه.(95/1)
ما جاء في ذم الرياء والتحذير منه
قال المصنف رحمه الله: [باب ما جاء في الرياء.
وقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110]].
الرياء: مأخوذ من الرؤية، والأصل في هذا أن الإنسان يعمل لنفسه، وكأنه يعبد نفسه، فيعمل العمل الذي يمدح به ويثنى عليه به بين الناس، يريد أن يرى مكانه ويتبوأ في قلوب الناس مكاناً عظيماً، فالأصل فيه أن عمله لنفسه، فكأنه عبد نفسه، وهذا من الشرك، فإذا كان قصده من العمل الذي فعله ليمدح ويثنى عليه ويقال: إنه عابد، أو إنه جواد، أو إنه عالم أو إنه متكلم، أو ما أشبه ذلك؛ فهو مشرك لا يشك فيه، وهو ممقوت عند الله، وصاحبه مستحق لعقابه جل وعلا، فضلاً عن أن يقال: إن عمله يمكن أن يقبل أو إنه لا يعاقب عليه.
فإن كان العمل من الأشياء التي تسمع كالذكر والقراءة وما أشبه ذلك، فهذا يسمى سمعة، فالسمعة أن الإنسان يتحدث عند الناس بأنه عمل كذا وعمل كذا في عمل قد خفي على الناس؛ فيظهره لهم لأجل أن يمدحوه ويثنوا عليه، أو يتبوأ عندهم مقاماً مرموقاً، فهذا رياء إلا أن مصدره سماع القول، سواء صدر منه أو أذاعه ونشره ليذكر به.
وهذا يختلف الناس فيه: فمنهم من يكون رياؤه شركاً أكبر! ومنهم من يكون رياؤه محبطاً للعمل الذي يقارنه، ومستحقاً عقاب الله عليه، وهو من الشرك، ولكنه لا يكون من الشرك الأكبر، ومنهم من يطرأ عليه ذلك في أثناء العمل، ثم يدفعه ويصلح نيته، ويجعلها خالصة لله جل وعلا، ويطرد ما يقع في نفسه من ذلك، ويعرض عنه، ويستحضر عظمة الله، وأن الناس لا ينفعونه، فمثل هذا لا يضره ذلك، وإن كان هذا ليس كالعمل الذي يكون خالصاً لله جل وعلا من أصله.
والناس يتفاوتون عند الله جل وعلا في الإخلاص، ومن هذا الباب أن يعمل الإنسان لأجل الدنيا، وسيأتي في الباب الذي بعد هذا أنه يجب أن يكون عمله الصالح الذي عمله لأجل تحصيل الجنة، أو لأن الله أمر به؛ أما إن عمله من أجل الدنيا فهذا نوع من الشرك كما سيأتي في الباب الذي بعد هذا، ولكن في هذا الباب ذكر مجرد المراءاة، والسبب في هذا أن الإنسان يحب أن يكون فوق غيره، ولا يريد أن يكون أحد من الناس متقدماً عليه في الفضل، ويريد أن يتقدم هو من عدة نواح.
فهذا من حظوظ النفس العاجلة، وهذا يدخل في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23] يعني: أنه يهوى هذه الأشياء ويحبها، ويريد أن يحظى بها في الدنيا، وفي الواقع أن هذا يحصل من الإنسان الذي نظره قصير، وعقله ضعيف، وإيمانه قليل، ومراقبته لربه جل وعلا ليست تامة، بل غائبة عنه.
والعلاج أن يعلم أنه عبد لله جل وعلا يجب أن يخلص عمله لربه، وأنه إذا لم يكن عمله خالصاً فإن الله غني عنه، وهو يتركه كما سيأتي.
ومع ذلك الترك فإنه يعاقبه ويعذبه، وعذاب الله جل وعلا لا يشبه عذاب الناس، ولا يقابله منفعة يتمتع بها في الدنيا، المنافع هذه بعضها خيال قد يصل إليه شيء، وقد لا يصل إليه شيء، وسنة الله جل وعلا في خلقه أن المرائي تنعكس عليه أموره، ويتبين للناس من خلال سيرته وعمله أنه مراء، ثم يمقت على هذا، وتصبح مراداته معكوسة، أراد أن يحب ويمدح ويثنى عليه لكنه يبغض ويكره ويمقت، وإن لم يصرح للناس بذلك؛ لأن الأمور لا تخفى على الذي له عقل ومعرفة بأحوال الناس، يعرف ذلك من خلال أعمالهم وأقوالهم مع أن المرائي يكون ليناً في مقالته مع الناس؛ ليصرف وجوههم إليه، ويكون ألين ممن يريد وجه الله ولا يبالي بمدح أو ذم، بل كونه لا يمدح أحب إليه من أن يمدح ويثنى عليه؛ لأنه لا يقصد بهذا العمل إلا وجه الله.
والإخلاص لابد منه في صحة العمل، فكل عمل يعمله الإنسان إن لم يكن خالصاً فهو مردود عليه.
ومعروف أن الإنسان كلف بأمر الله جل وعلا امتثالاً، وبنهي الله جل وعلا اجتناباً، والأمر لا يكون إلا عن طريق الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك النهي لابد أن يأتي عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو الذي جاء به؛ لأنه أمر الله، وأمر الله يأتي بالوحي، والوحي لا ينزل إلا على رسول، فالله يرسل الرسول خاصة للأمم، وآخر الرسل صار عاماً للناس كلهم، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، فلابد أن يبين ذلك ويوضحه.
ثم العمل الذي يعمله الإنسان، والاجتناب الذي يجتنبه، يجب أن يكون من أجل الله جل وعلا فقط، خوفاً منه، ورجاءً لثوابه فقط، ولا يكون لأمر آخر من أمور الناس والدنيا، فإن دخله شيء من المنافع سواء كانت معنوية كالمدح والمحبة والثناء وما أشبه ذلك أو حسية كأن يتوصل بهذا العمل إذا أظهره إلى نفع من منافع الدنيا -وظيفة أو غير ذلك- فإن عمله يكون حابطاً، ويكون عابداً لنفسه في الحقيقة مع ربه، أو عابداً للدنيا مع ربه، وهذا أمر خطير جداً؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم خافه على صحابته وقال: إنه يخافه عليهم أكثر من خوفه عليهم من المسيح الدجال كما سيأتي.
والسبب في هذا أن الدافع والداعي له أمر موجود في النفوس، وهو كامن في النفس، وكل نفس موجود فيها هذا الشيء، فإذا لم تهذب النفس بخوف الله ومراقبته فلابد من وقوعها في ذلك.
إذاً: الرياء يخاف منه على الصالحين فكيف بمن ليس منهم؟ فالخوف عليهم أشد.
والشأن في الإخلاص عظيم، وإن كان العمل الخالص قليلاً فهو في الواقع كثير، أما إذا كان العمل كثيراً وهو غير خالص فهو في الواقع قليل، وقد يحبط ويكون وبالاً على صاحبه كما سيأتي تفسير ذلك في النصوص.
واسم هذا الكتاب الذي وضعه المؤلف: (كتاب التوحيد)، والتوحيد هو: أن يكون العمل لله وحده فقط، لا يكون لغيره، فإن دخله شيء من مقاصد الناس لم يكن توحيداً، وصار موزعاً بين الرب جل وعلا وبين المقاصد الأخرى، وهذا هو الشرك؛ لأنه لا يوجد في بني آدم من يعبد الصنم فقط، وإنما يعبد الصنم ويعبد الله، كل الذين يعبدون غير الله يشركون، أما أن يوجد قوم لا يعبدون إلا الصنم فهذا لا وجود له؛ لظهور الأدلة الواضحة في وجوب عبادة الله جل وعلا، ولو من جهة الربوبية، وهذا أمر الإنسان مضطر إليه، فإذا خلص الإنسان من هذه البلية فهو من المخلصين الذين خلصهم الله جل وعلا من بين الخلق.
والأمور تختلف في هذا، فهناك أعمال يكون الإخلاص فيها سهلاً كالصوم مثلاً، وهناك أعمال الإخلاص فيها عزيزٌ جداً، ولا يوجد إلا عند من كان إيمانه قوياً كالصدقة الظاهرة، وغيرها من الأعمال الظاهرة التي تكون أمام مرأى الناس ومسمعهم، فإن هذه تحتاج إلى مجاهدة، وتحتاج إلى أن تتجدد النية، وكلما عرض له شيء يجدد نيته من جديد، فيجعلها خالصة لله، وإلا قد لا يسلم له شيء؛ لأن العمل الذي يخالطه الرياء يكون حابطاً.(95/2)
قوله تعالى: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي)
واستدل المؤلف هنا في أول الباب بقول الله جل وعلا: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110].
معلوم أن الآية الواحدة (من كتاب الله جل وعلا تشتمل على معان كثيرة جداً، فالله يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس هذا الكلام فقال: (قل)، فهذا أمرٌ من الله: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ}: يعني لست برب ولا إله، أنا بشر مخلوق، ولكن الله جل وعلا خصه بالرسالة، وكلفه بأعبائها وتبليغها، هذا الذي خص به من دون الناس، أما في خلقه وخصائصه من الأكل والشرب والنوم وما أشبه ذلك، وكونه خلق من ذكر وأنثى؛ فهو مثل الناس تماماً، ليس كما يزعم أهل البدع والانحرافات أنه خلق من النور، وأنه أصل المخلوقات، وأنه لولاه ما خلق شيء، وغير ذلك من أنواع الغلو التي تئول بصاحبها إلى الشرك بالله جل وعلا في الربوبية.
يقول: {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ}، والذي أتميز به عنكم {يُوحَى إِلَيَّ}، تميز بالوحي فقط، أن الله يوحي إليه أمره ونهيه الذي كلفه أن يبلغه إلى الناس، كلفه به ليقوم بأعبائه، ثم جعل الوحي في شيء واحد؛ لأن هذا هو الأصل: {يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}؛ لأن هذا الذي يدور عليه جميع العمل الذي كلف به بنو آدم.
والإله: هو المألوه الذي تألهه القلوب حباً وخوفاً، ورجاءً وإنابة، وتوكلاً وخشية، فيجب أن يكون هو المألوه في أداء الأعمال، وتؤدى له فقط: {أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}، وهو الله جل وعلا.
ثم قال: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ}، الرجاء: يقصد به الاعتقاد والإيمان، واللقاء: يتضمن الرؤية والمعاينة.
والمقصود الحساب، فمن كان عنده إيمان بأن الله سيميته، ثم يبعثه، ثم يوقفه بين يديه ويحاسبه: {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً}، من كان يرجو ذلك فليكن عمله صالحاً، أما الصلاح فيقصد به أن يكون موافقاً لأمر الله جل وعلا ونهيه، وإذا لم يكن موافقاً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فهو فاسد غير صالح.
(فليعمل عملاً صالحاً) فليعمل بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فقط، لا بهوى نفسه، ولا بما وجد عليه الناس، ولا بمقتضى عقله، ولا بغير ذلك من الأمور التي تكون مصدراً للعمل، وإنما يتعرف على أمر الله الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ويجتهد في معرفته ثم يعمل به: {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً}، ولا: هنا ناهية.
والشرك هنا يقصد به صغيره وكبيره، ولهذا قال: (أَحَداً) نكرة في سياق النهي، وهذا من العمومات التي لا يخرج عنها شيء، فدخل فيه الشرك الأكبر والشرك الأصغر، ومن ذلك الرياء، ولا يلزم أن يكون شركاً صغيراً فقد يكون كبيراً؛ لأن الرياء إذا كان في أصل العمل فهذا من شأن الكفار والمنافقين، فالله جل وعلا أخبر عنهم أنهم: {خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ} [الأنفال:47]، مراءاة للناس، أما المنافقون فيقول جل وعلا أنهم {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:142]، والرياء في الأعمال بالباطنة لا يصدر من مسلم، أما في الأعمال الظاهرة التي ترى فقد يصدر منه الرياء ويقع فيه، مثل الحج، والصلاة وما أشبه ذلك، يريد أن يذكر، وربما يشهر نفسه، حتى إن بعض الناس إذا حج سمى نفسه: الحاجُّ فلان، لماذا الحاج فلان؟ حتى يعرفوه أنه قد حج! فيجب أن يكون العمل لله وحده، ولا يذكره للناس حتى يثنوا عليه به أو يسموه به، فهذا من أقل ما يقال، وإلا فالأمور التي تقدح في العمل كثيرة جداً، ولكن هذا واضح يجب على العبد أن يجتنبه حتى يكون عمله صالحاً خالصاً لله، ويكون ممن امتثل أمر الله في هذه الآية: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110]، يعمل عملاً صالحاً إن كان يرجو لقاء ربه.
ولقاء الله جاء كثيراً في القرآن يقصد به المواجهة والمحاسبة، وفي ضمن ذلك رؤية الله جل وعلا، قال السلف: كل لقاء في القرآن يتضمن الرؤية؛ لأن لقاء الرؤية يكون بعد الكدح والعمل كما قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6]، فاللقاء يكون بعد كدح العمل.
ومعلوم أن كل إنسان عامل، وعمله إما له أو عليه، فإذا كان عليه فاللقاء بمعنى الجزاء للكفار ونحوهم؛ لأنهم لا يرون ربهم، وإن كان مؤمناً فإن لقاءه يتضمن معاينة ربه وكلامه، ومحاسبته، وقد يكون فيه تهديد، وقد يكون فيه تقرير له على أعماله السيئة، ثم يعفو عنه جل وعلا كما في حديث عبد الله بن عمر الذي في الصحيح لما قيل له: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى؟ يعني: مناجاة الرب جل وعلا لعبده، وهذا مما يجب أن نؤمن به، فإن الله يكلم عباده جهاراً، ويكلم عبده بينه وبينه، والنجوى لغة: أن يكلم شخص آخر ولا يسمعه من بجواره، فلما سئل: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى؟ قال: سمعته يقول: (يدني الله عبده المؤمن فيضع عليه كنفه)، والكنف: هو الستر، يستره لئلا يراه أهل الموقف فيفتضح أمامهم، فيقرره بذنوبه يقول: عملت كذا في وقت كذا في يوم كذا في مكان كذا، وما يستطيع أن ينكر، ويقول: بلى، وكلما قال له: عملت كذا وكذا عملت كذا وكذا يتغير لونه، ويظن أنه هلك، وأن الله سوف يأخذه ويعذبه بذلك، وهذا سبب كونه يضع عليه الستر، قال: (فإذا قرره بذنوبه قال الله جل وعلا له: أنا سترتها عليك في الدنيا وأغفرها لك اليوم، ثم يعطى كتابه بيمينه)، عند ذلك يفرح الفرح الكبير، ويتصور أن أهل الموقف كلهم يهمهم أمره، فيرفع كتابه بيده ويقول: هاؤم اقرءوا كتابيه، يعني: يا هؤلاء! اقرءوا كتابيه، انظروا أعطيت الكتاب باليمين، وهذا هو عنوان السعادة، فمن شدة الفرح واستيلاء السرور عليه يقول هذا الكلام.
أما الكافر أو الفاجر فإنه يقال للملائكة: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:30 - 32]، هكذا يكون جزاؤه.
يجب أن يحسب الإنسان اللقاء حساباً، فإن كان عنده له حساب فليكن عمله صالحاً موافقاً للسنة، وليكن خالصاً لله جل وعلا، وليس للناس فيه شيء، لا ينظر إليهم، ولا يهمونه، ويعلم أن الخلق كلهم لو اجتمعوا على أن ينفعوه بشيء ما استطاعوا إلا بشيء قدره الله له، ولو اجتمعوا على أن يضروه بشيء ما استطاعوا إلا بشيء قدره الله عليه، ولا يكون ذلك إلا من جراء ذنوبه.(95/3)
نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن مدح الشخص أمام وجهه
قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله (باب ما جاء في الرياء).
أي: من النهي عنه والتحذير، قال الحافظ: هو مشتق من الرؤية، والمراد به إظهار العبادة لقصد رؤية الناس لها؛ فيحمدون صاحبها، والفرق بينه وبين السمعة: أن الرياء لما يرى من العمل كالصلاة، والسمعة لما يسمع كالقراءة والوعظ والذكر، ويدخل في ذلك التحدث بما عمله].
قوله: (يحمدونه) أي: يثنون عليه ويمدحونه ويحبونه، ويثقون به، وربما يريد أن يقبلوا يداه ورأسه أو ما أشبه ذلك، حتى يكون له مقام عند الناس، وهذا من عبادة النفس التي يجب أن يكون الإنسان كارهاً لها، مبغضاً لها، دافعاً لها لا يريدها، ولكون النفس تحب هذا الشيء نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن مدح الشخص أمامه، لا يجوز أن تأتي إلى أخيك وتمدحه وتقول: أنت فيك وفيك وأنت كذا وكذا؛ لأن نفسه ضعيفة قد تغلبه؛ وذلك أنه إذا سمع بالمدح -وإن كان هو أعلم بنفسه من المادح- فقد تغالطه نفسه ويقول: لعلي كذلك، وإن كانت هذه مغالطة في الواقع، لكن قد يكون الدافع لهذا قوياً، وهو حب الإنسان أن يكون مقدماً عند الناس، ومحبوباً لهم، ومثنىً عليه، وهذا شيء قوي تريده النفوس، وكل إنسان يريد أن يكون فوق أبناء جنسه، ولا يريد أن يكون دونهم؛ لهذا تجد كل إنسان معجباً بنفسه وعمله، وربما يزدري الآخرين من باب الإعجاب، فلهذا نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ولما سمع إنساناً يمدح آخر قال: (ويلك قطعت عنقه)، كيف قطع عنقه؟ يعني: أنه يسلط عليه نفسه.
فيترك ما أمر به من الإخلاص، وازدراء النفس، وقد لا يعرف قدره إذا مدح، فإذا لم يعرف قدره فإنه يهلك، وإذا أراد أن يعرف قدره فليعرض عمله على كتاب الله إن كان من الذين يقول الله جل وعلا فيهم: {كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات:17 - 19]، {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [المؤمنون:2 - 4] إلى آخر ما ذكر الله جل وعلا من صفات الذين يثني عليهم، فإذا كان من هؤلاء فهو عند الله جل وعلا محبوب وله الجزاء، وإن لم يكن وصفه هكذا فليراجع عمله ونفسه، ويجتهد لعله يصل إلى شيء من ذلك، وإلا أصبح مثلما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لينتهين أقوامٌ عن فخرهم بأناس هم فحمٌ من فحم جهنم أو ليكونن أهون عند الله من الجعلال الذي يدهده النتن بأنفه)، فهو أهون عند الله من هذه الدابة التي تختار النتن القذر وتدهدهه بأنفها؛ لأن الإنسان ما له قيمة إلا بعمله، وإذا كان يعمل لأجل نفسه فهو ممقوت عند الله مكروه، ومن مقته الله جل وعلا فإنه يفضحه ويخزيه ويعذبه، نسأل الله العافية.(95/4)
وجوب توحيد الله بالعبادة
قال الشارح رحمه الله: [قوله: وقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} أي: ليس لي من الربوبية ولا من الإلهية شيء، بل ذلك كله له وحده لا شريك له، أوحاه إلي: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ} أي: يخافه: {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110].
قوله (أحداً): نكرة في سياق النهي تعمه، وهذا العموم يتناول الأنبياء والملائكة والصالحين والأولياء وغيرهم.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: أما اللقاء فقد فسره طائفة من السلف والخلف بما يتضمن المعاينة وقالوا: لقاء الله يتضمن رؤيته سبحانه وتعالى يوم القيامة، وذكر الأدلة على ذلك.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في الآية: أي: كما أن الله واحد لا إله سواه، فكذلك ينبغي أن تكون العبادة له وحده لا شريك له، فكما تفرد بالإلهية يجب أن يفرد بالعبودية، فالعمل الصالح هو: الخالص من الرياء، المقيد بالسنة].
والدليل على هذا أن الله جل وعلا تفرد بالخلق والإيجاد والتصرف، فهذا الدليل لا ينكره أحد، ويقر به كل أحد، لا أحد يقول: إن فلاناً هو الذي خلق السموات مع الله، أو ما أشبه ذلك، كل الناس يقرون بأن الله هو الخالق وحده، وهو الذي يملك الكون كله وحده.
فهذا دليل على وجوب عبادته وحده، فإذا كان هو المتفرد بالخلق والإيجاد والتصرف فإنه يجب أن يفرد بالتأله والقصد والإرادة، وأن يكون العمل له وحده خالصاً، وهذا هو الذي استدل الله جل وعلا به على الكفار في آيات كثيرة، كقوله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21] يعني: أنتم تقرون وتعترفون أنه هو الذي خلقكم، وخلق من قبلكم، ويخلق من بعدكم، ولا يشاركه في ذلك أحد، فكيف تجعلون له أنداداً وأنتم تقرون بهذا؟ {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22] فهم يعلمون أن الله هو الخالق لهم وحده، ولمن قبلهم وبعدهم، ويقرون بأنه هو الذي جعل الأرض على هذه الصفة التي يمكن للإنسان الانتفاع منها، كالفراش الذي يتمكن من الجلوس عليه والانتفاع به.
والسماء جعلها بناءً مرفوعة يشاهدونها، وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الأرض ما يأكلونه وتأكله بهائمهم التي ينتفعون بها، فقد كانوا يقولون: إن الله هو المتفرد بهذا، وليس معه أحد، وهذا معنى قوله: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.
إذاً: الأنداد التي يجعلونها ليست في الخلق، وإنما هي في التوجه والقصد والعبادة، فصار توحيد الربوبية دليلاً على توحيد الإلهية والعبادة، وهذا فرق بين توحيد الربوبية وتوحيد الإلهية؛ لأن الكفار أقروا بالأول، وجعله الله دليلاً عليهم موجباً لهم أن يعبدوا هذا الذي أقروا بأنه تفرد بالإيجاد والخلق والرزق: {أَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ} هذا لله وحده، هل يوجد أحد يقول: إن عبد القادر الجيلاني هو الذي ينزل المطر وينبت النبات أو أحمد البدوي أو غيرهما؟ لا يوجد، ولكن الشيطان يأتيهم بقالب آخر يقول: هؤلاء أولياء، ومحبوبون عند الله، فإذا توجهنا إليهم وطلبنا منهم، فهم بدورهم يطلبون من الله لنا؛ فيكون هذا أقرب إلى الإجابة، وتكون وساطة قياساً على أمور الدنيا، فإن الإنسان إذا كان له حاجة عند رئيس أو معظم يذهب أولاً إلى من يعرفه أو إلى من يكون قريباً منه، فيطلب منه التوسط حتى تنجح مسألته، فقاسوا الخالق جل وعلا بالمخلوق تعالى الله وتقدس، مع أن الواجب أن يكون الفعل الذي يفعله الإنسان متقرباً به إلى الله على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فقط، وهذا الشرك ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم بل نهى عنه، وهو الذي كان المشركون يفعلونه فيقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، يعني: يشفعوا لنا.(95/5)
سبب الشرك الذي وقع فيه المشركون
الشرك الذي وقع فيه جميع المشركين هو من باب الشفاعة فقط، ادعوا أنهم يشفعون لهم، فقال الله جل وعلا: {أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ} [الزمر:43] (أم) إذا جاءت في القرآن فالمفسرون يقولون: معناها: بلِ اتخذوا: {أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ} [الزمر:43]، كثيرٌ منهم لا يعقل؛ لأنه إما ميت وإما جماد كشجر أو حجر أو غير ذلك، فهو لا يعقل كلامك وما تقصده منه، لأنه لا يسمع، وقد تكون قريباً منه ولكنه لا يعقل؛ لأنه جماد.
ثم قال جل وعلا: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} [الزمر:44] الشفاعة لله فاطلبها منه فقل: اللهم! شفع فيَّ نبيك، اللهم! إني أسألك أن تشفع فيَّ نبيك، فهذا هو الطريق لها، أما إذا ذهبت تطلبها من المخلوق فهذا سبب في منعك إياها؛ لأن الله جل وعلا يقول: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، ومعلوم أن الشفعاء الذين ذكرهم الله جل وعلا لا يشفعون إلا لمن يرضى الله جل وعلا عنه، والله لا يرضى إلا بالتوحيد والإخلاص له، أما إذا كان مشركاً فالشرك سبب منع الشفاعة، فيأتيه المنع والحرمان من حيث ظن أنه يحصل له النفع والشفاعة، فانعكست عليه القضية تماماً، وهكذا المخالفون لأمر الله جل وعلا تنعكس عليهم يوم القيامة، وإذا مات الإنسان انتهت القضية، وختم على عمله، وأصبح لا ينفعه شيء ولو ندم أو تحسر.
قال الشارح رحمه الله: [قال: وفي الآية دليل على أن أصل الدين الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم والمرسلين قبله هو إفراده تعالى بأنواع العبادة، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25].
والمخالف لهذا الأصل من هذه الأمة أقسام: إما طاغوت ينازع الله في ربوبيته وإلهيته، ويدعو الناس إلى عبادته، أو طاغوت يدعو الناس إلى عبادة الأوثان، أو مشرك يدعو غير الله ويتقرب إليه بأنواع العبادة أو بعضها، أو شاك في التوحيد، أو جاهل يعتقد أن الشرك دين يقرب إلى الله، وهذا هو الغالب على أكثر العوام؛ لجهلهم وتقليدهم من قبلهم، لما اشتدت غربة الدين ونسي العلم بدين المرسلين.(95/6)
ترك الله لعمل ابن آدم إذا أشرك فيه معه غيره
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً (قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه)، رواه مسلم].
أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم تنقسم إلى قسمين: قسم يقوله صلى الله عليه وسلم آمراً به وناهياً، حسب تكليف الله له جل وعلا، ويقول ذلك عن وحي أيضاً.
وقسم يضيفه إلى ربه جل وعلا يقول: قال الله تعالى يقول الله تعالى وهذا القسم يسمى قدسياً، فالقدسي نسبه إلى الطهارة والنزاهة والرفعة يعني: أنه قول الله.
والحديث القدسي لفظه ومعناه من الله، والرسول صلى الله عليه وسلم يبلغه، ولكنه ليس كالقرآن من ناحية التحدي به، والتعبد بتلاوته، وصحة الصلاة به، وما أشبه ذلك من الأمور التي يتميز بها القرآن عن الحديث القدسي.
أما القسم الأول: فالعبارة من الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن المعنى من الله جل وعلا؛ لأن الله جل وعلا يقول: {وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4] يعني: كل ما يتكلم به الرسول صلى الله عليه وسلم من الأوامر والنواهي وحي من الله.
فعلى هذا؛ يكون هذا الحديث من القسم الثاني، يقول الله جل وعلا: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه)، وغناه جل وعلا أمر ظاهر، وكذلك كرمه وجوده يقتضي أنه لا يقبل العمل إذا كان فيه شرك؛ لأنه يتركه لغناه وكرمه، ولكونه جل وعلا لا يقبل إلا الطيب الطاهر الخالص.
قوله: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك)، يعني: لا يمكن أن يكون الشريك مقارباً لله جل وعلا في الغنى، ومعروف من الأمور البديهية في أمر الدين الإسلامي أن الله غني بذاته عن كل ما سواه، وليس عمل الإنسان وإخلاصه ينفع الله جل وعلا وتعالى وتقدس، بل عمله لنفسه فقط: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ} [فصلت:46] فالله غني عن عمله، ولكنه كلف عبده أن يعمل أعمالاً صالحة خالصة، كلفه بهذا حتى يتميز من يكون عبداً لله جل وعلا ومن يكون عبداً لغير الله، وكل من لم يعبد ربه لابد أن يعبد الشيطان بمظاهره المختلفة، فإن الشيطان يظهر بمظاهر كثيرة، فقد يكون في مظهر حب النفس، ومظهر الشهوة، وقد يكون في مظهر أمور يحبها الإنسان وتغلب عليه كلعبة معينة يترك بسببها أمر الله ونهيه ولا يبالي بذلك، فكل من لم يعبد الله لابد أن يعبد غيره، حتى الملاحدة الذين يقولون: الحياة مادة، ولا يوجد جنة ولا نار ولا بعث، ولا يوجد إلا هذه الحياة فقط، فهم في الواقع يعبدون شهواتهم، ويعبدون رؤساءهم وساداتهم وكبراءهم.
فهم لما لم يعبدوا الله جعلهم الله جل وعلا يعبدون نظراءهم، أو من هو أخس منهم وأحقر؛ جزاءً وفاقاً، فكل إنسان لابد أن يعبد ربه، فإن لم يعبد ربه فإنه سيعبد شيئاً آخر من مظاهر الكون والمخلوقات، وفي النهاية تكون العبادة للشيطان؛ لأنه هو الذي يأمر بعبادة غير الله، ويزين الشرك والكفر والإلحاد والفسوق والعصيان في أعين الناس.
يقول جل وعلا: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك)، ولا شك أن غناه تام وكامل، فهو غني بذاته عن كل ما سواه، فصار من مقتضى غناه أنه إذا وقع عمل وصار هذا العمل مشتركاً بين الله وبين غيره؛ أن يترك هذا العمل لهذا الشريك، لهذا قال: (من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه) قوله: (تركته) الضمير يعود على العمل، أي: تركت العمل فيكون حابطاً باطلاً، ويجوز أن يعود على صاحبه، أي: تركت صاحبه وشركه، يعني: أن الشريك هو الذي يتولى جزاءه ويتولى ثوابه، فإذا كان يوم القيامة يقول الله جل وعلا: انظر إلى من أشركته في عملك فاطلب جزاءك عنده، والنتيجة خسارة وعذاب في جهنم.(95/7)
معنى حديث: (من عمل عملاً أشرك فيه غيري)
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (من عمل عملاً أشرك فيه غيري) أي: من قصد بعمله غيري من المخلوقين، (تركته وشركه)، ولـ ابن ماجة: (فأنا منه بريء، وهو للذي أشرك)، قال الطيبي: الضمير المنصوب في قوله: (تركته) يجوز أن يرجع إلى العمل.
قال ابن رجب رحمه الله تعالى: واعلم أن العمل لغير الله أقسام: فتارة يكون رياءً محضاً كحال المنافقين كما قال تعالى: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء:142]، وهذا الرياء المحض لا يكاد يصدر عن مؤمن في فرض الصلاة والصيام، وقد يصدر في الصدقة أو الحج الواجب أو غيرهما من الأعمال الظاهرة أو التي يتعدى نفعها، فإن الإخلاص فيها عزيز، وهذا العمل لا يشك مسلم أنه حابط، وأن صاحبه يستحق المقت من الله والعقوبة، وتارة يكون العمل لله ويشاركه الرياء، فإن شاركه من أصله فالنصوص الصحيحة تدل على بطلانه].
إذا شاركه في الأصل، أي: كان الباعث عليه من أصل المبدأ أنه يريد المراءاة، فهذا حابط بلا شك.
قال الشارح رحمه الله: [وذكر أحاديث تدل على ذلك، منها هذا الحديث، وحديث شداد بن أوس مرفوعاً: (من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك، وإن الله عز وجل يقول: أنا خير قسيم لمن أشرك بي، فمن أشرك بي شيئاً فإن جدة عمله وقليله وكثيره لشريكه الذي أشرك به، وأنا عنه غني) رواه أحمد.
وذكر أحاديث بالمعنى ثم قال: فإن خالط نية الجهاد مثلاً نية غير الرياء، مثل أخذ أجرة للخدمة، أو أخذ شيء من الغنيمة أو التجارة، نقص بذلك أجر جهاده ولم يبطل بالكلية].
إذا كان عنده طمع بأن يحصل على غنيمة أو على نفع دنيوي خاص به، فهذا يكون نقصاً في جهاده، أما إذا كان الباعث له على الجهاد أن يحصل على الأموال فقط فهذا من الشرك الذي سيأتي ذكره في الباب الذي بعد هذا، فيقول الله فيه: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16].
ومعنى الآية: أن الذي يعمل الأعمال الصالحة ويقصد بها الدنيا فجزاؤه بهذه الصفة، ولكن إذا كان الباعث له على العمل طاعة الله وطاعة رسوله، والطمع في ثوابه والنجاة من عقابه، ودخل في هذا أنه يحصل على نفع دنيوي كالغنيمة؛ فهذا لا يحبط عمله، ولكن ينقص أجره، فلا يكون مثل الذي صار عمله كله للآخرة.(95/8)
الأجر على قدر النية
قال الشارح رحمه الله: [قال ابن رجب رحمه الله: وقال الإمام أحمد رحمه الله: التاجر والمستأجر والمكري أجرهم على قدر ما يخلص من نياتهم في غزواتهم].
المكري هو الأجير الذي يُستأجَر مع دابته ليوصل الحجاج مثلاً؛ لأن الحاج قد لا يكون عنده سيارة مثلاً فيستأجر صاحب السيارة، فيقول: اذهب بنا إلى مكة، فهذا يذهب إلى مكة من أجل أنه مستأجر ثم يحج فلا يكون حجه تاماً، ولكن إذا كانت نيته خالصة فيكون حجه تاماً، وإذا قصد النفع وأخذ الأجرة؛ فله ما قصد.
[ولا يكونون مثل من جاهد بنفسه وماله لا يخلط به غيره.
وقال أيضاً فيمن يأخذ جعلاً على الجهاد: إذا لم يخرج لأجل الدراهم فلا بأس؛ كأن خرج لدينه، فإن أعطي شيئاً أخذه.
وروي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: إذا أجمع أحدكم على الغزو فعوضه الله رزقاً فلا بأس بذلك، وأما إن كان أحدكم إن أعطي دراهم غزا، وإن لم يعط لم يغز؛ فلا خير في ذلك.
وروي عن مجاهد رحمه الله أنه قال في حج الجمَّال وحج الأجير وحج التاجر: هو تام لا ينقص من أجره شيء أي: لأن قصدهم الأصلي كان هو الحج دون التكسب.
قال: وأما إن كان أصل العمل لله، ثم طرأ عليه نية الرياء: فإن كان خاطراً ثم دفعه فلا يضره بغير خلاف، وإن استرسل معه فهل يحبط عمله أم لا، فيجازى على أصل نيته؟ في ذلك اختلاف بين العلماء من السلف قد حكاه الإمام أحمد وابن جرير، ورجحا أن عمله لا يبطل بذلك، وأنه يجازى بنيته الأولى، وهو مروي عن الحسن وغيره.
وفي هذا المعنى جاء حديث أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه سئل عن الرجل يعمل العمل من الخير يحمده الناس عليه فقال: تلك عاجل بشرى المؤمن) رواه مسلم انتهى ملخصاً.
قلت: وتمام هذا المقام يتبين في شرح حديث أبي سعيد، إن شاء الله تعالى].(95/9)
تعريف الحديث القدسي
هذا الحديث، هو قول الرسول صلى الله عليه وسلم عن الله تبارك وتعالى وهو حديث قدسي كما سبق، والحديث القدسي: هو ما أضيف إلى الله جل وعلا قولاً ومعنى، فالرسول صلى الله عليه وسلم يرويه عن ربه تبارك وتعالى، بخلاف الحديث الذي يضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه صلوات الله وسلامه عليه يعبر عن المعنى الذي أوحي إليه بالعبارة التي تناسب من قوله صلوات الله وسلامه عليه.
أما المعنى في الحديث فهو كله من الله؛ لأن الله جل وعلا يقول: {وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4] يعني: أن كل ما تكلم به الرسول صلى الله عليه وسلم في أمر الدين أو من الإخبار عما سيكون في المستقبل أو عن الماضي، وكل ما يتعلق بأمر الله وخبره؛ فهو وحي من الله جل وعلا.
قوله جل وعلا: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)، معلوم عند الخلق كلهم أن الله جل وعلا غني بذاته عن كل ما سواه، فالخلق كلهم لا ينفعونه بطاعتهم، ولا يضرونه بمعصيتهم: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} [فصلت:46]، بل العباد هم الفقراء: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} [فاطر:15]، فكل مخلوق فقير إلى الله جل وعلا فقراً لا ينفك عنه، فقير في منشئه ومبدئه، فقير في حاله وما هو عليه، فقير في مآله ومنتهاه، فهو فقير إلى الله دائماً، ويتضح فقر العبد بما يلي: أولاً: خلقه الله جلا وعلا ولم يكن شيئاً.
ثانياً: هو فقير في حياته، فإن تخلى الله جل وعلا عنه تخطفته الشياطين، وتحكمت به الأهواء، وهلك من حيث لا يشعر.
ثالثاً: هو فقير في مآله ومنتهاه إلى الله جل وعلا، فإن لم يتغمده الله جل وعلا برحمته فهو هالك، وكل الخلق إلى الله فقراء، وقد أوجب الله على عباده أن يعبدوه وحده، وأن تكون العبادة له وحده، فإن دخل العبادة شيء من القصد لغير الله فمقتضى غنى الله جل وعلا وكرمه أن يترك هذا العمل للذي قصد، وهذا عام مطلق في كل عمل، فإذا دخل العمل الرياء فإنه يكون داخلاً في هذا النص سواء كان في مبدأ ذلك ومنشئه، أي: نشأ معه في العمل أو طرأ عليه في أثنائه، فإنه يكون قد أشرك فيه غير الله، فيكون الجزاء أن الله يتركه وشركه، والضمير في قوله: (تركته وشركه)، إما أن يعود إلى العمل أو إلى صاحبه.
أما ما ذكر من أنه إذا كان منشأ العمل وأصله ومبعثه لله جل وعلا خالصاً، ولكن طرأ عليه الرياء، ثم ذكر الخلاف فيه، فالحديث نفسه يفصل في هذا، فلا وجه للخلاف في ذلك، فإن الشرك إذا طرأ على عمل أفسده، ولكن إذا كان خاطراً يخطر في نفسه، ثم دفع ذلك الخاطر وأعرض عنه وأصلح نيته وأخلصها، فإن هذا لا يضره؛ لأنه مجرد شيء عرض ولم يتحقق.
أما إذا استدعاه بنفسه بأن عرض له في نفسه ثم طلبه واستدعاه واسترسل معه، فهذا يكون محبطاً للعمل، والعمل الذي يحبط بذلك هو العمل الذي قارنه الشرك فقط، أما شيء قبله أو شيء بعده فهذا له حكمه: إن كان مخلصاً فيه فهو لله جل وعلا، وإن كان فيه شيء من الرياء وإرادة النفس وإرادة الدنيا فهو داخل في ذلك، فيتركهُ الله وشركه.
ومعنى ترك الله جل وعلا له: عدم الاعتداد به، والثواب عليه، بل يترك لصاحبه ويقال له: (اذهب إلى الذي كنت ترائي، فاطلب ثوابك منه)، وقد يأتي الإنسان يوم القيامة بأعمال ظاهرها أنها خالصة لله على ما يرى، ثم تصبح باطلة ومحبطة، ويصبح جزاء صاحبها عذاب الله جل وعلا، فإذا كانت قد خفيت على الملائكة الذين يكتبون ذلك، فإنها لا تخفى على علام الغيوب الذي يعلم نية العبد ومقصده، ويقول الله جل وعلا: إنها عملت لأجل فلان ثم يردها جل وعلا، ولكن الغالب أن المرائي لا يخفى أمره.(95/10)
عاجل بشرى المؤمن
ذكر الشارح حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن العبد يثنى عليه بالعمل فقال: ذاك عاجل بشرى المؤمن)، هذا في عملٍ عُمِل خالصاً لله جل وعلا، ولم يتعرض العامل فيه لطلب الثناء أو وجوه الناس، ولكنه ظهر وهو لا يريد إظهاره؛ فأثني عليه بذلك.
والمؤمن لا يجوز أن يفرح بالثناء ويطلب المدح، بل يجب أن يخاف أن يكون هذا من حظ النفس، وأن يكون هذا مبطلاً لعمله، ولكن إذا جاء شيء لم يطلبه وهو واقع على عمل معمول لله جل وعلا، فهذا هو الذي جاء فيه الحديث أن ذلك عاجل بشرى المؤمن، والمعنى: أن هذا دليل على أن عمله مقبول وأن الله جل وعلا أثابه عليه وقبله.(95/11)
خوف النبي عليه الصلاة والسلام على أمته من الرياء
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعاً: (ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: الشرك الخفي يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل) رواه أحمد].
هذا الحديث خطاب للصحابة رضوان الله عليهم، والصحابة هم خير هذه الأمة؛ فهم أبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأخلصها عملاً، وأعلمها بالله، وأتبعها لرسوله صلى الله عليه وسلم، ولا أحد يصل إلى ما وصلوا إليه، ومع ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من الدجال؟ ومعلوم ما هو الخوف من الدجال فإن الرسول صلى الله عليه وسلم حذر أمته منه، وقال: (إذا أحد به الإنسان فلينأ عنه -أي: يبتعد- فإن الرجل يأتيه وهو واثق بدينه فلا يزال به حتى يفتن ويصدقه)، ولهذا أمرنا صلوات الله وسلامه عليه أن نستعيذ بالله من شره ومن فتنته في كل صلاة ومع ذلك يقول: (إن هذا الأمر أخوف عليكم عندي من الدجال، فهذا يدل على أن هذا الأمر يجلب الخوف خصوصاً على الصالحين الذين عندهم كمال، فكيف بضعفاء الإيمان الذين ينظرون إلى الدنيا كثيراً وتستميلهم؟ فلا شك أن هؤلاء يجب أن يكونوا أكثر خوفاً من أولئك.
إذاً: من الشرك كون الرجل يصلي ثم يزين صلاته لما يرى من نظر الناس إليه، وهذا يعني أن الصلاة ليست للرجل بل هي لله جل وعلا، ولكنه يحسنها بإطالتها وآدابها وركوعها وسجودها وقيامها؛ لنظر من يراه معظماً عنده، حتى يكون له وقع في قلبه من أجل ذلك، وهذا من عبادة النفس، فمن عادة النفس حب الثناء عند الناس، ومن المعلوم أن المؤمنين يحبون المؤمن، وكلما كان الإنسان أطوع لله تكون محبته عندهم أكثر، فهو يريد أن يقدم في المجالس أو في الخطابات أو في ما شاء الله من أمور الدنيا التي ينظر إليها، فكل من زين عمله لأجل ذلك فلا خير في عمله، وهذا هو الذي دل عليه هذا الحديث: (من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه).
ثم هذا لا يدعو الإنسان لأن يترك تحسين الصلاة وفعل السنن من أجل نظر الناس، فهذا لا يجوز؛ لأن العمل من أجل الناس شرك، وترك العمل من أجلهم لا يجوز.
فالإنسان يجب أن يكون عمله لله جل وعلا، وأن يكون عبداً لله خالصاً مخلصاً، يخلص نفسه وأعماله من الشوائب التي تتوارد عليها بحظوظ النفس أو إرادات الدنيا وما أشبه ذلك.
والأعمال آفاتها كثيرة، وهذا من أعظم آفاتها، وهذا يدلنا على شدة نصح الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته، فانظر كيف حذرنا من الآفات التي تكون في النفوس وتدخل القلوب ولا يعلمها إلا علام الغيوب، ولكنه بعث للدعوة إلى الله، وإخلاص الدين له، فكل أمر يخالف الدين وينافي الإخلاص فإنه بينه ووضحه، ويجب أن يكون العمل لله جل وعلا وحده، وذلك هو العمل النافع، فليس الاعتبار بكثرة الأعمال، ولكن بسلامة العمل وخلوصه من الشوائب، فإذا كان العمل خالصاً لله فهو النافع المجدي وإن كان قليلاً، فإن الله جل علا إذا قبل حسنة واحدة بارك فيها حتى ينجو بها الإنسان من النار إن لم يكن له سيئات تأتي عليها.
قال جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:40]، فإذا كان عند الإنسان حسنة ولو صغيرة مقبولة خالصة لله؛ فإن الله جل وعلا يبارك فيها ويعظمها حتى ينجو بها الإنسان، ولكن يجب أن تكون خالصة لله.(95/12)
هل يدخل الرياء في الصيام؟
العلماء يذكرون أن الصيام لا يدخله الرياء، إلا أنه قد يدخله في حالة من يأتي إلى الناس ويبين لهم أنه صائم ويظهر ذلك، ومعنى كلام العلماء أن أصل الصيام في نفسه سر بين العبد وبين ربه، فيمكن أن يخلو الإنسان في بيته فيأكل ويشرب ولا يطلع عليه أحد، فإذا امتنع من ذلك دل على أنه يريد وجه الله جل وعلا، ولكن ذلك لا يمنع أن يدخله الرياء كما ذكرنا، مثل أن يقول: إنه يصوم اليوم الفلاني واليوم الفلاني؛ لأجل أن يثنى عليه ويمدح، أما فلا تسلم من الرياء إذا كانت أمام الناس، والسلامة فيها صعبة.
والإنسان إذا أتى بحسنات كثيرة من هذا القبيل فيها رياء فهي خسارة عليه؛ لأن كل عمل ليس خالصاً لله غير مقبول، فإن الله طيب لا يقبل من الأعمال إلا ما كان طيباً، والذي يدخله شيء من إرادة النفس وإرادات الدنيا ليس طيباً، بل هو خبيث لا يقبله الله، بل يرده على صاحبه، وهذا أمر مهم جداً يجب أن يُعتنى به كثيراً.
وعلى الإنسان أن يعتني بنفسه، وينظر إلى الناس على أنهم بشر مثله لا ينفعونه ولا يضرونه، ولا يجوز له أن يحتقرهم ويزدريهم، بل يجب أن يعرف لهم حقهم، وعليه أن يعرف قدر نفسه، وأنه ضعيف إن لم يتداركه ربه جلا وعلا برحمته هلك؛ لأن الأعداء تحتوشه من كل جانب، حتى نفسه الأمارة بالسوء عدوة له، وكذلك الشيطان الذي قال صلى الله عليه وسلم عنه: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)، فيعرف ماذا يميل إليه فيزينه له.
فالعبرة بإخلاص العمل، وكذلك المتابعة، وهذان شرطان في كل عمل، فيشترط أن يكون العمل ليس فيه شيء من البدع، وأن يكون خالصاً لوجه الله جل وعلا، وكل عمل لم يشتمل على هذين الأمرين فهو مردود على صاحبه مهما كانت كثرته، ومهما كان وقعه في الناس، فهو لا يفيد إلا إذا كان خالصاً لله جل وعلا، وكان على سنة المصطفى صلوات الله وسلامه عليه.(95/13)
شرك السرائر
قال الشارح رحمه الله تعالى: [وروى ابن خزيمة في صحيحه عن محمود بن لبيد قال: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أيها الناس! إياكم وشرك السرائر، قالوا: يا رسول الله! وما شرك السرائر؟ قال: يقوم الرجل فيصلي، فيزين صلاته لما يرى من نظر الرجل إليه، فذلك شرك السرائر)].
سمي شرك السرائر؛ لأنه سر لا يعلمه إلا الله، فهو كامن في نية الإنسان، والنية هي التي تبعث على الأعمال، ومحلها القلب الذي هو منشأ الأعمال؛ لأنه ملك الأعضاء، والعمل يكون مترتباً على النية، فهي سرٌ لا يعلمها إلا من يعلم خفي الأمور جل وعلا، وإن كان الغالب أن الذي يرائي لا يخفى على الناس؛ ولهذا يعرفه كثير من الناس حتى يقال: هذا مراء، ولو لم يقل ذلك أو ينشره، فإن الله جل وعلا يظهره من آثار أعماله وأقواله، ويعرف في لحن القول وفي سيما العمل، وقد لا يظهر إلا قليل منه، والكثير يكون خافياً، ولكن الواجب على الإنسان أن يراقب ربه، ولا يكون للناس في عمله قدر ولا نصيب، ولهذا كان أمير المؤمنين عمر يدعو ربه ويقول: (اللهم! اجعل عملي لك خالصاً، ولا تجعل لأحد من خلقك منه شيئاً).
الإنسان لا يستطيع أن يكون سالكاً الطريق المرضي إلا بتوفيق الله.(95/14)
الرياء قد يكون شركاً أكبر
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (الشرك الخفي) سماه خفياً؛ لأن صاحبه يظهر أن عمله لله، وقد قصد به غيره، أو شركه فيه بتزيين صلاته لأجله.
وعن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: (كنا نعد الرياء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الشرك الأصغر)، رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الإخلاص، وابن جرير في التهذيب، والطبراني والحاكم وصححه].
في الواقع أن شرك الرياء قد يكون أصغر وقد يكون أكبر، إذا كان الرياء مخالطاً لأصل العمل فهذا لا يكون أصغر بل أكبر، ولهذا وصف الله جل وعلا به الكفار، فقال جل وعلا في قريش لما جاءوا يقاتلون الرسول صلى الله عليه وسلم: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ} [الأنفال:47]، أي: خرجوا يراءون الناس، وكذلك وصف به المنافقين فقال جل وعلا: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ} [النساء:142]، وقال جل وعلا: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} [الماعون:4 - 6].
أي: يراءون الناس في أعمالهم، فهم يصلون ويعملون أعمالاً ويراءون فيها غير الصلاة، لهذا يقال له: ويل، ولا يقال ويل في الشرك الأصغر لكنه يقال في الشرك الأكبر، فإذا استرسل الإنسان مع الرياء ولم يدافعه فإنه يكون شركاً أكبر لا أصغر، ولكن إذا طرأ على الإنسان أو عرض له الرياء، ثم جاهد نفسه في ذلك وصده، فهذا من الشرك الأصغر، ومعنى ذلك: أنه إذا وجد في العمل أحبطه وأبطله.(95/15)
ذكر أفراد للشرك الأصغر
قال الشارح رحمه الله: [قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وأما الشرك الأصغر فكيسير الرياء والتصنع للمخلوق والحلف بغير الله].
يسير الرياء شرك؛ لأنه يتزين للناس بالأعمال ليظهرها لهم، وكذلك في الأقوال، فيجب أن يكون عمل الإنسان كله لله جل وعلا، لا يقصد به غيره.
وإذا كان العمل له نفع يتعدى فهذا يحتاج إلى جهاد النفس كثيراً، ويجب أن يكون الجهاد مستمراً، ولا يكون في وقت دون وقت؛ لأن النية تتقلب كتقلب القلب، والإنسان بحاجة إلى أن يستمر في جهاده لنفسه، فإذا كان العمل يتعدى نفعه كالقراءة، أو الدعوة، أو النصح، أو التعلم، فإن الناس قد يثنون على الإنسان به، وقد يستدعي أن يجتهد في ذلك حتى يثنوا عليه، وذلك من حظوظ النفس التي يبطل بها عمل الإنسان نسأل الله العافية! وكذلك إذا عمل عملاً يتعدى نفعه إلى الغير، فإنه يحتاج إلى أن يكون مجاهداً لنفسه في جميع وقته، ومخلصاً لله جل وعلا، ولا يبالي بالذم، بل إذا قوبل بالذم فإنه يرتاح له أكثر من المدح؛ لأنه لا يريد ما عند الناس، بل يريد ما عند الله جل وعلا، والواجب على المؤمن أن يكون بهذه المنزلة؛ ولهذا كانت الأعمال في الخفاء أفضل منها في العلانية كالصدقة مثلاً، فإن فضيلة إخفائها عن الناس ليس من أجل أمر من الأمور، ولكن من أجل أن تكون خالصة لله فقط؛ ولهذا جاءت الأحاديث الكثيرة في فضل صدقه السر، لحديث: (صدقه السر تطفئ غضب الرب)، وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها)، ومن ذلك فضل صلاة التطوع في البيت على الصلاة في المسجد، فإن الإنسان في بيته يكون بعيداً عن رؤية الناس، فلا يكون لهم شيء من عمله، وكلما كان العمل خالصاً لله كان هو المطلوب شرعاً، والإنسان إذا كان في المسجد أو مع الجماعة كان ذلك أنشط له من ناحية أنه لا يود أن يكون غيره سابقاً له، وليس من ناحية أنه يريد أن يريهم أنه نشيط في العمل؛ فإنه إذا كان كذلك دخل في الرياء نسأل الله العافية، ومع ذلك تكون صلاته وحده أفضل، وكذلك غيرها من الأعمال إذا كانت خالصة، والأسباب التي يحصل بها الإخلاص مطلوبة.
[وقول الرجل للرجل: ما شاء الله وشئت، وهذا من الله ومنك، وأنا بالله وبك، ومالي إلا الله وأنت، وأنا متوكل على الله وعليك، ولولا الله وأنت لم يكن كذا وكذا.
وقد يكون هذا شركاً أكبر بحسب حال قائله ومقصده انتهى].(95/16)
لا يوجد ضابط للشرك الأصغر
الشرك يكون في الأعمال ويكون في الألفاظ، ويكون في النيات والمقاصد، وكلها قد تكون شركاً أكبر، وقد تكون شركاً أصغر، حسب ما يقوم في القلب من مقاصد هذه الأعمال، والألفاظ تبع لما في القلب وكذلك الأعمال؛ ولهذا يصعب تعريف الشرك الأصغر، فلا يوجد هناك ضابط يضبطه، ولهذا قال ابن القيم رحمه الله: (كيسير الرياء وكالتصنع للخلق، وقول الرجل لولا الله وأنت، وأنا بالله وبك، ومالي إلا الله وأنت، وأنا متوكل على الله وعليك، ولولا أنت لم يكن كذا وكذا).
فهذا من الشرك الأصغر، وقد يكون أكبر حسب ما يكون في قلب الإنسان.
إذاً: ليس هناك ضابط معين يحدد الشرك الأصغر، ويكون جامعاً مانعاً، وإنما يمثل ويحدد بالأمثلة، لكون الأعمال لا تنضبط في ذلك، أما ضبطه بأنه: كل وسيلة تكون مقربةً أو داعيةً أو موصلة إلى الشرك الأكبر؛ فهذا غير صحيح؛ لأن من الأعمال ما هو وسائل إلى الشرك الأكبر وليست من الشرك الأصغر كالصلاة عند القبر، فكون الإنسان يصلي لله عند القبر مخلصاً، هذه وسيلة إلى الشرك الأكبر، وهي ليست من الأصغر، وغير ذلك من الأعمال المعروفة.(95/17)
الإخلاص شرط لصحة العمل وقبوله
قال الشارح رحمه الله: [ولا خلاف أن الإخلاص شرط لصحة العمل وقبوله، وكذلك المتابعة، كما قال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى في قول الله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [هود:7] قال: أخلصه وأصوبه، قيل: يا أبا علي! ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، حتى يكون خالصاً صواباً، فالخالص ما كان لله، والصواب ما كان على السنة.
وفي الحديث من الفوائد: شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته ونصحه لهم، وأن الرياء أخوف على الصالحين من فتنة الدجال، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يخافه على سادات الأولياء مع قوة إيمانهم وعلمهم، فغيرهم ممن هو دونهم بأضعاف أولى بالخوف من الشرك أصغره وأكبره].
قوله: (سادات الأولياء) يعني بهم الصحابة، فهم سادات وأولياء هذه الأمة على الإطلاق، لا يكون مثلهم في الأمة أحد، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: (خير الناس قرني الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)، وكلمة (ثم) للترتيب: (ثم يأتي قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته) يعني: أنه يكثر فيهم الكذب، ويكثر فيهم التصنع، قال: (ويظهر فيهم السمن)؛ لأن الدنيا تكون همهم التي يركنون إليها ويميلون إليها.
ولما حصلت مشاجرة بين بعض الصحابة الذين تأخر إسلامهم وبين بعض السابقين قال صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي، فوالله! لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً؛ ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)، فهذا الخطاب قيل للصحابة الذين أسلموا بعد الفتح أو قريباً منه، وقد أخبر الله جل وعلا أن الذين أسلموا قبل الفتح وأنفقوا وجاهدوا ليسوا كالذين أسلموا بعد الفتح وأنفقوا وجاهدوا، وأخبر أن كلاً وعد الله الحسنى، ولكن بعضهم أرفع من بعض.
والمقصود أن صحابة رسول صلى الله عليه وسلم هم أفضل الأمة بإجماع العلماء الذين هم أهل العلم، أما أهل البدع وأهل الجهل فإنه لا عبرة بخلافهم ولا ينظر إليهم، وقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من الوقوع فيهم، وأخبر أن من أحبهم فإنه أحبهم لحبه، ومن أبغضهم فإن الذي دعاه إلى ذلك بغضه للرسول صلى الله عليه وسلم، والذي يقع فيهم كأنه واقع في رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وذلك أنهم هم الذين جاهدوا معه، وقاموا بامتثال أوامره، والدعوة إلى الله، والتنفيذ لما أمرهم به، ثم قاموا نقل أقواله وما أنزل عليه إلى الناس، فهم خير الناس وهم الأمناء، وهم الذين عدّلهم الله جل وعلا في كتابه، وأثنى عليهم.
فالذي يطعن فيهم فإنما يطعن في الإسلام نفسه، وفي الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس في أعراضهم فحسب؛ لأنهم هم الواسطة بين الأمة وبين رسولها صلوات الله وسلامه عليه في نقل الدين، فإذا قدح فيهم فقيل: إنهم مرتدون أو إنهم منافقون؛ أصبحت الأمة تعتمد في دينها على من لا يجوز الاعتماد عليه؛ فيكون دينها غير صحيح، بل يكون مبنياً على كذب وعلى زور وعلى عدم ثقة.
فتجب محبة صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، والدعاء لهم والاستغفار؛ ولهذا يقول جل وعلا: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10]، وهؤلاء هم الذين يشهد لهم بالإيمان، أما من كان في قلوبهم غل للذين سبقوهم بالإيمان فليسوا من هذا الصنف، ويقول الله جل وعلا: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ} [التوبة:100]، فإذا كان الله جل وعلا يخبر بأنه رضي عنهم فهل يجوز أن يأتي دجال ويقول: هؤلاء مغضوب عليهم، هؤلاء منافقون، هؤلاء كفروا؟ وكيف كفروا بعد أن قال الله جل وعلا فيهم: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ}؟ فالله علام الغيوب، إذا أخبر عن أحد من خلقه أنه مرضي عنه، فلا يمكن أنه يطرأ عليه كفر؛ لأنه يعلم كيف يكون تعالى الله وتقدس.(95/18)
مسائل باب ما جاء في الرياء
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيه مسائل: الأولى: تفسير آية الكهف].
آية الكهف هي قوله جل وعلا: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110]، وهي آخر آية في سورة الكهف، وقد سبق تفسيرها، وفيها الرد على طوائف المبتدعة وطوائف الغلاة والطوائف المشركة، وفيها رد على الصوفية الغلاة الذين يزعمون أن الرسول صلى الله عليه وسلم نور، وأنه ليس من جنس بني آدم.
يقول الله جل وعلا: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ}، أي: مثلكم في البشرية يجوز عليه ما يجوز عليهم صلوات الله وسلامه عليه، وإنما فضل بقوله: {يُوحَى إِلَيَّ}، ففضله جل وعلا بالوحي الذي أوحاه إليه، ثم كأن غرض الوحي محصور في قوله: {أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}؛ لأن المقصد الأعظم من الوحي هو أن يكون التأله لله والعبادة له وحده جل وعلا.
[المسألة الثانية: الأمر العظيم في رد العمل الصالح إذا دخله شيء لغير الله].
هذا عظيم؛ لأنه في الواقع كثير ويخفى على كثير من الناس، فصار عظيماً لذلك، وإلا فليس عظيماً بالنسبة لله جل وعلا، فإنه طيب لا يقبل من العمل إلا ما كان طيباً خالصاً له، فإذا داخله شيء من الخبث -كأن: قصد به غيره- فإنه يرده ويبطله.
[الثالثة: ذكر السبب الموجب لذلك وهو كمال الغنى].
أي: كمال الرب جل وعلا، فهو أغنى الشركاء عن الشرك.
[الرابعة: أن من الأسباب أنه تعالى خير الشركاء].
الله خير الشركاء؛ لأنه غني تعالى وتقدس، وغناه يأبى الشركه، ومع أن الشرك أعظم الذنوب فهو أعظم الظلم؛ لأنه وضع للعمل في غير موضعه؛ لأن موضعه أن يكون لله، فإذا قصد به الإنسان مخلوقاً ضعيفاً لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً؛ فهذا أعظم الظلم، فرتب على ذلك أن يُترَكَ.
[الخامسة: خوف النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه من الرياء.
السادسة: أنه فسر ذلك بأن يصلي المرء لله، لكن يزينها لما يرى من نظر رجل إليه].
أي: أن يزيد في صفة العمل والأصل أنه لله، فيأتي في العمل وصفٌ طرأ عليه، ولكن هذا الوصف الطارئ يجعل العمل باطلاً؛ لأن الباعث لهذا الوصف هو المخلوق، وهذا واضح في أن الرياء إذا داخل العمل فإن العمل يصير مردوداً.(95/19)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [96]
لا يقبل الله من العمل إلا ما كان خالصاً لوجهه، فإذا عمل المرء عملاً يريد به الدنيا غير ملتفت إلى الله، فهو عمل باطل، وصاحبه آثم، وقد يجزيه الله عليه في الدنيا، ويكون في الآخرة من الخاسرين.(96/1)
باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا].
فإن قيل: ما الفرق بين هذه الترجمة وبين ترجمة الباب قبله؟ ف
الجواب
بينهما عموم وخصوص، فإرادة الدنيا أعم من الرياء، فقد يعمل الإنسان أعمالاً خالصة لله ولكنه يريد بها حماية نفسه بالصحة وحماية ماله بالتنمية، فيعمل لأجل هذا ويقطع نظره عن كونه يطلب بهذا العمل الجنة والهرب من النار، وكذلك يدخل فيه ما إذا عمل أعمالاً من القرب مثل الأذان وتعلم القرآن وتعلم العلم لأجل الوظيفة وحتى تكون مصدر رزق له، فإذا عمل العمل من أجل ذلك فقد أراد الدنيا بعمله، وهو داخل في الوعيد الذي يأتي ذكره في الآية.
وقد يعمل أعمالاً ظاهرها الإخلاص وفيها شيء من إرادة الدنيا وإرادة وجوه الناس، مثل الحج، فيحج لأجل أن يحصل على مال يدفع له من أجل الحج، كأن يعطيه أحد الناس مالاً ويقول: لتحج عن فلان، فهو يحج لأجل هذا المال فقط ولو لم يأته المال ما حج، فهذا عمله من أجل الدنيا ولا خير فيه.
ولهذا يقول العلماء في مثل هذا: إذا كان الإنسان يحج ليأخذ المال فهذا لا خير في عمله، أما إذا كان يأخذ المال ليحج، أي أنه يتقوى به على الحج؛ لأنه لا يستطيع أن يحج بلا مال، فهذا هو الذي يجوز فعله، أما إذا كان يحج لأجل أن يتاجر بالحج فيأخذ المال من أجل ذلك، فهذا عمل للدنيا وهو داخل في الوعيد، وغير ذلك من الأمور التي سيذكرها الشارح في هذا الباب.
قال المصنف: [باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا.
وقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16].
وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبد آخذٍ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع)].
قوله رحمه الله: (باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا): المقصود بالعمل العمل الذي يكون للآخرة، فمن عمل عملاً للآخرة مثل الصلاة والصوم والحج والصدقة والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما أشبه ذلك من القربات التي رتب الله عليها الجزاء وهو يريد به الدنيا، فإنه داخل في وعيد هذه الآية.(96/2)
إرادة الدنيا أنواع
وإرادة الدنيا أنواع: فقد يريد بها أن يجزيه الله مقابل عمله جزاءً عاجلاً في هذه الدنيا فقط، ويقطع النظر عن الآخرة، فلا تهمه الآخرة وإنما يريد الدنيا فقط، فمثل هذا يجزى بعمله الذي عمله إذا كان صالحاً في هذه الدنيا، ولكن الجزاء في الآخرة حابط والعمل باطل فهو من الخاسرين.
وقد يعمل عملاً من الأعمال التي وضعت قربات يتقرب بها إلى الله، ولكنه يريد وجوه الناس مراءاة حتى يُحبُّوه أو يثنوا عليه أو يمدحوه وما أشبه ذلك، فهذا أيضاً أراد الدنيا، ولكن الذي قبله أعقل منه؛ لأن الذي قبله أراد نفعاً خاصاً به، أما هذا فيريد خيالاً ليس له حقيقة، وقد يعمل الذي يريد الدنيا أعمالاً يتقرب بها، ولكنه على عمل يكفره، أو على بدعة تخرجه من الدين الإسلامي كاليهود والنصارى الذين لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، فإنهم قد يتصدقون ويحسنون إلى الناس حباً للإحسان وطلباً للجزاء.
ومعلوم أن اليهود النصارى يؤمنون بالله جل وعلا ويؤمنون بالبعث؛ ولكنهم يعتقدون أنهم على دين صحيح وهو الدين الذي جاء به موسى وجاء به عيسى صلى الله عليهما وسلم؛ فهؤلاء إذا عملوا أعمالاً صالحة من صدقة وإحسان وما أشبه ذلك، يجزون بأعمالهم في الدنيا فقط، أما الآخرة فحابط عملهم وباطل.
وقد يعمل العامل للدنيا عملاً صالحاً مثل طلب العلم وحفظ القرآن وإتقانه، ولكنه يريد بذلك وظيفة من الوظائف التي يتعيش بها، فقصده من التعلم والحفظ والتلاوة هو هذه الوظيفة، فهذا أيضاً داخل في الآية.
وقد يحج الإنسان عن غيره فيكون بالنسبة له تطوعاً، ولكن يكون في مقابل ذلك مال فيكون حجه لأجل أخذه المال وليس لأجل أنه يذهب إلى المشاعر المعظمة ويطوف ويدعو الله، ويعمل ما يعمله الحجاج الذين يتعرضون لنفحات الله وكرمه وجوده؛ وإنما يفعل ذلك لأجل المال فقط، ولو لم يحصل له مال ما حج ولا طلب الحج، فمثل هذا ليس له من عمله ومن حجه إلا هذا المال الذي أخذه، وأعماله حابطة نسأل الله العافية.
هؤلاء كلهم يدخلون في هذه الآية، وقد ذكر السلف من المفسرين رحمهم الله هذه الأنواع، وذكروا غيرها عند هذه الآية.(96/3)
تفسير آية هود: (من كان يريد الحياة الدنيا)
ثم إن معنى قوله جل وعلا: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} أي: ينويها ويقصدها بعمله {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} أي: نجزيهم جزاء أعمالهم في هذه الدنيا إما بصحة أبدان أو وفرة مال وكثرته أو ما أشبه ذلك من مقاصدهم التي يريدها الله؛ لأنه ليس كل من صنع هذا يلقى جزاءه تماماً، قد يكون خسران فلا تتحصل له الدنيا ولا الآخرة؛ وتكون هذه الآية مقيدة بقوله جل وعلا: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء:18]، فقيد المعجل بالشيء الذي يشاؤه جل وعلا ولمن يريده من هؤلاء وليس كل واحد ولا هو كل شيء، ولهذا يقول المفسرون: إن هذه الآية مقيدة بآية سورة الإسراء فيكون التعجيل لما يشاء الرب جل وعلا من الجزاء، ويكون لمن يريده ممن يعمل هذه الأعمال فليس كل واحد وليس كل عمل يكون مجزياً به في الدنيا.
وبعض المفسرين يقول: إنها منسوخة بآية الإسراء ومقصوده بالنسخ التقييد؛ لأن النسخ في لسان السلف لم يكن معناه أن يزال الحكم بحكم متأخر عنه كما هو اصطلاح المتأخرين، بل يطلقون النسخ على التقييد وعلى البيان كما قالوا في قول الله جل وعلا: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} [البقرة:187]، نزلت هكذا ثم نسخت بقوله: {مِنْ الْفَجْرِ} [البقرة:187]، وهذا إيضاح وليس نسخاً، ولكنهم يجعلونه نوعاً من النسخ، أي: أن تقييد المطلق وتفسير المبهم وما أشبه ذلك يدخل في النسخ عند السلف.
ثم بعد ذلك يتوعدهم جل وعلا في الآخرة: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ) أي: جزاء أعمالهم (فيها)، أي: في الدنيا: (وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ)، أي: لا يظلمون شيئاً من عملهم فالله يجزيهم إياه في هذه الحياة، إما بصحة أبدانهم أو بإعطائهم مالاً أو بإعطائهم أولاداً أو بإعطائهم مناصب أو ما أشبه ذلك، فيكون هذا جزاء أعمالهم، وقد يعطيهم فوق أعمالهم ثم يعاقبهم الله جل وعلا يوم القيامة، مع أن كل نعمة في الإنسان من الإيجاد والحياة والسمع والبصر والأيدي والأرجل والأكل والشرب وغير ذلك، كلها من الله جل وعلا، فالإنسان لا يستطيع شيئاً بدون تسخير الله جل وعلا وإقباله عليه، ولهذا يحاسب الإنسان على ذلك يوم القيامة كما قال جل وعلا: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} [الإسراء:36].
فيسأل الإنسان عن سمعه وعن بصره وعن نياته وأعماله ومراداته وعزائمه وفؤاده وهو القلب، وفي الحديث الذي عند الترمذي وصححه وكذلك صححه الحاكم في المستدرك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه هل عمل به).
فالساعات التي يعيشها قد يضيعها وقد يحفظها، فيسأل عنها: هل استعملها في طاعة الله جل وعلا، أو استعملها في المعاصي، أو أنها ضاعت عليه سدى، وإضاعة الوقت معصية يسأل عنها الإنسان.
وكذلك قوته التي أعطاها الله جل وعلا إياه في شبابه يجب أن تستغل فيما ينفع، ولا يجوز أن تضيع، لهذا فإنه يسأل عنها يوم القيامة.
وكذلك المال يسأل عنه: من أين اكتسبه؟ وفيما أنفقه؟ وكذلك هل عمل بما علم؟ هذه المسائل الأربع كل واحدة يسأل عنها يوم القيامة، والسؤالات تختلف يوم القيامة ففي موقف يسأل عن هذه، وفي موقف يسأل فيقال: ماذا أجبتم المرسلين؟ وماذا كنتم تعبدون من دون الله؟ ولابد للسؤال من جواب، فإذا كان الإنسان حافظاً نعم الله عليه، وإلا فسوف يعاقب يوم القيامة؛ لأن الله جل وعلا أمره أن يستعملها في الطاعة.(96/4)
الأعمال سبب للثواب وليست موجبة للجنة بذاتها
جاء في مستدرك الحاكم وصححه هو وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم، (أنه ذكر له جبريل عليه السلام: رجلاً ممن كان في الأمم قبلنا كان في جزيرة عمرها خمسمائة سنة وهو يعبد الله منعزلاً لا يشتغل بالناس ولا يشتغل بالدنيا ولا بغيرها، فأخرج الله جل وعلا له من البحر عيناً عذبة، وشجرةً تخرج له كل يوم عذقاً يأكله ويشرب من الماء ويعبد ربه، فسأل ربه أن يقبضه ساجداً فقبضه الله جل وعلا وهو ساجد، وإذا كان يوم القيامة، يؤتى به بين يدي الله فيقول الله جل وعلا لملائكته: اذهبوا بعبدي وأدخلوه الجنة برحمتي، فيقول: لا يا رب! بل أدخل الجنة بعملي! فيقول الله جل وعلا: ردوه، فيحاسبه الله جل وعلا؛ يقول له: من الذي أوجدك ولم تكن شيئاً؟ من الذي أعطاك السمع؟ ومن الذي أعطاك البصر؟ ومن الذي أعطاك الأيدي والأرجل؟ ومن الذي أخرج لك عيناً عذبة من الماء المالح؟ ومن الذي أخرج لك من الشجرة كل يوم عذقاً وهي لا تثمر في السنة إلا مرة؟ ومن الذي قواك على عبادة خمسمائة سنه؟ وهو يقول: أنت يا رب.
عند ذلك يقول جل وعلا: حاسبوه على النعم مقابل عبادتي، فتوزن نعمة البصر أو قال نعمة السمع خمسمائة سنه، ثم يقول الله جل وعلا: اذهبوا به إلى جهنم، فيصيح: يا رب أدخلني الجنة برحمتك يا رب أدخلني الجنة برحمتك، فيقول الله جل وعلا: ردوه وأدخلوه الجنة برحمتي).
ولا أحد يدخل الجنة إلا برحمة الله جل وعلا، فيجب على الإنسان أن يعرف نعم الله عليه: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34]، فكل ما يعمله الإنسان في هذه الدنيا فإنه لا يقابل شيئاً من نعم الله! ثم إنه يجزى بذلك، ولو لم يكن الأمر ظاهراً للناس جلياً، فهو في الواقع مجزي به، وهكذا كل عامل لا يريد بعمله الآخرة، يعجل له جزاء عمله في الدنيا، ثم يوافي يوم القيامة ربه مفلساً، ليس له حسنة يقابل بها ربه فيجزيه عليها، فلهذا يقول جل وعلا: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:16].
ثم قد سبق أن الفرق بين هذا الباب وباب الرياء الذي قبله أن هذا أعم، فذاك خاص بالرياء والسمعة فقط، أما هذا فهو عام يدخل فيه الرياء ويدخل فيه الأعمال التي يراد بها جزاء عاجل وهي من القربات التي لا يجوز أن يطلب بها شيء من أمور الدنيا، وإنما يطلب بها الثواب من الله جل وعلا والنجاة من عذابه يوم القيامة والفوز بثوابه.
قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله: باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا.
فإن قيل: ما الفرق بين هذه الترجمة وبين ترجمة الباب قبله؟ قلت: بينهما عموم وخصوص مطلق يجتمعان في مادة، وهو ما إذا أراد الإنسان بعمله التزين عند الناس، والتصنع لهم والثناء، فهذا رياء كما تقدم بيانه، كحال المنافقين، وهو أيضاً إرادة للدنيا بالتصنع عند الناس وطلب المدحة عندهم والإكرام، ويفارق الرياء بكونه عمل عملاً صالحاًُ أراد به عرضاً من الدنيا كمن يجاهد ليأخذ مالاً، كما في حديث: (تعس عبد الدينار)] أي: أنه لا يرائي، ولكنه يأخذ شيئاً عاجلاً ولا يريد التظاهر بالعمل، ولكن يريد الدنيا، فبهذا خالط الرياء، فصار هذا أعم من الرياء، كذلك الأمثلة التي ذكرنا تفارق الرياء ولكنها شرك بالله؛ لأنه قصد الدنيا وما قصد وجه الله حتى يثيبه الله جل وعلا، بخلاف المؤمن المخلص فإنه يقصد بالعمل الصالح وجه الله، وإن حصل له شيء من الدنيا فإنما هو تبع لا يريده قصداً، وليس معنى ذلك أن الإنسان إذا جاهد أو عمل أعمالاً ترتب عليها منافع دنيوية، أن هذا داخل في الرياء أو داخل في قوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [هود:15]؛ لأن العمل الذي عمله المؤمن عمله لله جل وعلا، وإذا جاءه شيء من الدنيا فهي تبع، وليس مقصود العمل من أجلها وإنما تأتي تبعاً لذلك العمل، وإذا جاءت تبعاً فلا بأس بها، فقد يتفضل الله جل وعلا على عبده المؤمن بنعمة في الدنيا، من مال وصحة وغير ذلك، ولكن أجره محفوظ له في الآخرة.
المقصود هنا من يقطع رجاءه في الآخرة فلا يريد ثواب الآخرة إنما يريد بعمله الدنيا، فهذا يكون مشركاً، ومعلوم أن مثل هذا هو المتوعد بجهنم، وأن عمله يكون حابطاً، ولا يكون هذا شركاً أصغر غير مخرج من الدين الإسلامي.(96/5)
طلب الدنيا بالقربات شرك موجب لجهنم
قال الشارح: [أو يجاهد للمغنم، أو لغير ذلك من الأمور التي ذكرها شيخنا عن ابن عباس رضي الله عنهما، وغيره من المفسرين في معنى قول الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} [هود:15]].
المقصود بقوله: (شيخنا) جده محمد بن عبد الوهاب؛ لأن صاحب الكتاب عبد الرحمن بن حسن، تلميذ الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فهو حفيد الشيخ ابن ابنه، وهو يقول (شيخنا) لأنه أدرك شيئاً من أيامه، ولو قال: والدنا وإمامنا لكان أفضل، ولكن هكذا عادة العلماء، ثم إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله سئل عن معنى هذه الآية: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [هود:15]؟ فأجاب جواباً خاصاً وذكر تحته أربعة أقسام، مما ذكر الصحابة والمفسرون أنه يدخل في هذه الآية وقد أطال الجواب، وسيذكره الشارح ملخصاً عن جواب الشيخ.
قال الشارح: [وأراد المصنف رحمه الله بهذه الترجمة وما بعدها، أن العمل لأجل الدنيا شرك ينافي كمال التوحيد الواجب، ويحبط الأعمال، وهو أعظم من الرياء؛ لأن مريد الدنيا قد تغلب إرادته تلك على كثير من عمله، وأما الرياء فقد يعرض له في عمل دون عمل، ولا يسترسل معه، والمؤمن يكون حذراً من هذا وهذا.
قال المصنف: (وقول الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16]).
ذكر في معنى هذه الآية حديث أبي هريرة المشهور وهو حديث صحيح، عن شفي بن ماتع قال: (قدمت المدينة فإذا الناس مجتمعون على رجل، وسألت من هذا؟ فقيل لي: هذا أبو هريرة، فدنوت منه حتى قعدت بين يديه، حتى إذا ذهب الناس وانصرفوا، أقسمت عليه بحقي -يعني: حق المسلم على المسلم- أن يحدثني حديثاً سمعه عن رسول صلى الله عليه وسلم، فقال: نعم سوف أحدثك حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا البيت، ليس فيه غيري وغيره، ثم نشج نشجة ثم مال وكاد يغمى عليه، ثم قال: لأحدثك حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا البيت ليس فيه غير وغيره، ثم نشج نشجة ثم مال وغشي عليه طويلاً، ثم لما أفاق قال: سأحدثك، ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يؤتى يوم القيامة بثلاثة، مجاهد ومتعلم ومتصدق، فيقال للمتصدق: ماذا عملت؟ بعد ما يقرر بنعم الله عليه فيقر بها فيقول: بذلت المال في كل وجه تحبه، فيقول الله: كذبت.
وتقول الملائكة: كذبت، ولكنك بذلته ليقال هو جواد وقد قيل، ثم يأمر به إلى النار.
ثم يؤتى بالمتعلم أو قال: بالقارئ فيقرر بنعم الله جل وعلا فيقر بها، فيقول الله جل وعلا: ماذا عملت؟ فيقول: تعلمت فيك العلم وعلمته، فيقول الله جل وعلا: كذبت.
وتقول الملائكة: كذبت، ولكنك تعلمت ليقال هو عالم وقد قيل، يعني أنك قد لقيت جزاءك من قول الناس هذا الذي قصدت، ثم يؤمر به إلى النار.
ثم يؤتى بالمجاهد الذي قتل في سبيل الله في الظاهر، فيقرر بنعم الله فيقر بها فيقول الله: ماذا عملت؟ فيقول: يا رب! بذلت نفسي حتى قتلت في سبيلك، فيقول الله: كذبت.
وتقول الملائكة: كذبت، ولكنك قاتلت ليقال هو شجاع، هو جريء، وقد قيل، ثم يؤمر به إلى النار.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أبي هريرة: هؤلاء الثلاثة هم أول من تسعر بهم النار، فيقول شفي: قدمت الشام، فدخلت على معاوية وحدثته بهذا الحديث فبكى بكاءً شديد حتى أشفقوا عليه وقال من عنده: لقد جاءنا هذا الرجل بشر، ثم بعد ذلك مسح دموعه وقال صدق الله وصدق رسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله جل وعلا: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} [هود:15]، وأكمل الآيتين).
يعني الشارح أن هذا الحديث مطابق للآيتين؛ لأن هؤلاء الثلاثة ليسوا ثلاثة نفر فقط، ولكن المقصود ثلاثة أصناف من الناس، فكل من كان هذا صنيعه وهذا عمله فهذا مصيره وتلك نهايته، وهي مصيبة كبرى، فهو في الظاهر يعمل أعمالاً صالحة من أفضل الأعمال، لأنها إما صدقة وإما علم وتعليم، وإما جهاد في سبيل الله، ثم كانت النتيجة أنهم أول من توقد بهم النار، نسأل الله السلامة! في الظاهر أنه يعمل أعمالاً صالحة من أفضل الأعمال: فإنها إما صدقة، أو علم تعلمه وعلمه، وإما جهاد في سبيل الله, ثم بعد تلك النتيجة أنه تسعر به النار قبل عباد الأوثان والمشركين, نسأل الله العافية, لماذا؟ لأن هؤلاء مشركون في الواقع, وهم يريدون أعراضاً لا طائل تحتها, يريدون مدح الناس وثناءهم، ففي الواقع هم يعبدون أهواءهم وشهواتهم.
فهذه يخشى منها كثيراً, وهي أن يعمل الإنسان العمل وهو يريد النفع الخاص, بأن يكون مقدماً في الناس، محبوباً لديهم، مثنىً عليه، وهذه مكانة تكون هي جزاء عمله، سواء يثني عليه بأنه شجاع ومقدام أو أنه يفعل ويفعل أو أثني عليه بأنه جواد متصدق، يحب الخير ويرغب فيه, أو أثني عليه بأنه عالم، وأنه يستطيع أن يرد على فلان ويعمل ويعمل وما أشبه ذلك، فهذا الشيء الذي ناله وتحصل عليه هو جزاؤه، وأعماله في الآخرة حابطة وفاسدة, ويكون من أهل جهنم نسأل الله العافية! وفي الحديث الآخر الصحيح: (أنه يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في جهنم فتندلق أقتابه -أي: تخرج أمعاؤه- فيدور حولها في جهنم كما يدور الحمار بالرحى، ويصيح حتى يتأذى به أهل النار, فيجتمعون عليه ويقولون: يا فلان مالك؟! ألست كنت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟! فيقول: بلى، كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه) يعني: هذا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أمام الناس، ولكنه إذا غاب واختفى فعل المنكر وترك المعروف، وإنما: يرائي الناس فقط والعياذ بالله.
والأحاديث واضحة في أن الله جل وعلا خلق عباده ليعبدوه وحده، وتكون أعمالهم مقصوداً بها وجه الله والخلاص من اليوم العسير الذي ينتظرنا، بل هو أمامنا ونحن سائرون إليه، بلا شك أن كل يوم يقربنا إلى هذا اليوم، وإن كان الإنسان قد لا يهتم بهذا كثيراً بسبب الغفلة وطول الأمل وحب الدنيا، ولكنه في الواقع إذا رجع إلى نفسه وعقله علم أنه لابد من ذلك اليوم، فيجب أن يكون مقصود الإنسان أنه عبد لله جل وعلا، يعمل الأعمال حسب أمر الله ومرضاته، وأنه سائر إلى ربه يرجو أن يثيبه ربه جل وعلا، ويعفو ويتجاوز عن الخطأ، وما فعله مخالفاً لأمر الله، فيثيبه بالعمل القليل الجزاء الكثير، هذا شأن المؤمن أنه يكون بهذه الصفة، أما إذا قصر همته ومقصده على الدنيا، فالدنيا ستنتهي ثم تكون العاقبة الوخيمة السيئة، نسأل الله العافية.(96/6)
عاقبة من أحب الدنيا وقدمها على مرضاة الله
قال الشارح رحمه الله: [قال ابن عباس رضي الله عنهما: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} أي: ثوابها {وَزِينَتَهَا} أي: مالها: {نُوَفِّ} نوفر إليهم ثواب أعمالهم بالصحة والسرور في المال والأهل والولد {وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ} [هود:15] أي: لا ينقصون، ثم نسختها: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء:18] الآيتين رواه النحاس في ناسخه].
معنى نسختها: قيدتها، والمقصود بالنسخ هنا التقييد؛ لأن هذه التي في سورة هود مطلقة عامة، والآية التي في سورة الإسراء قيدها جل وعلا بإرادته، وبمن يريد أن يعجل له، فصارت أخص منها، والخاص يقيد العام.
[قوله: ثم نسختها أي: قيدتها، فلم تبق الآية على إطلاقها.
وقال قتادة: من كانت الدنيا همه وطلبته ونيته، جازاه الله بحسناته في الدنيا، ثم يفضي إلى الآخرة وليس له حسنة يعطى بها جزاءً، وأمَّا المؤمن فيجازى بحسناته في الدنيا، ويثاب عليها في الآخرة.
ذكره ابن جرير بسنده].
إذا جوزي في الدنيا نقص جزاؤه في الآخرة, كما نصت على ذلك الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الغزاة إذا غنموا تعجلوا الشيء من جزائهم, وإذا لم يغنموا شيئاً وفر لهم جزاء غزوتهم كاملاً يوم القيامة) , ليس معنى ذلك: أنهم يدخلون فيمن يريدون الدنيا، ولكن الله يجزيهم، فقد يكون الجزاء معجلاً أو بعضه معجلاً وبعضه مؤجلاً.(96/7)
حديث أبي هريرة في أول من تسعر بهم النار
قال الشارح: [ثم ساق حديث أبي هريرة عن ابن المبارك عن حيوة بن شريح.
قال: حدثني الوليد بن أبي الوليد أبو عثمان، أن عقبة ابن مسلم حدثه, أن شفي بن ماتع الأصبحي حدثه: أنه دخل المدينة فإذا هو برجل قد اجتمع عليه الناس, فقال: من هذا؟ فقالوا: أبو هريرة، فدنوت منه حتى قعدت بين يديه وهو يحدث الناس, فلما سكت وخلا, قلت: أنشدك بحقي وبحق الله لما حدثتني حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم عقلته وعلمته، قال: فقال أبو هريرة: أفعل، لأحدثنك حديثاً حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا البيت، ما فيه أحد غيري وغيره, ثم نشغ أبو هريرة رضي الله عنه نشغة, ثم أفاق فقال: لأحدثنك حديثاً حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا البيت ما فيه أحد غيري وغيره, ثم نشغ أبو هريرة رضي الله عنه نشغةً أخرى، ثم مال خاراً على وجهه, واشتد به طويلا، ثم أفاق فقال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة نزل إلى أهل القيامة ليقضي بينهم، وكل أمة جاثية, فأول من يدعو به رجل جمع القرآن، ورجل قتل في سبيل الله، ورجل كثير المال, فيقول الله للقارئ: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ قال: بلى يا رب! قال: فماذا عملت فيما علمت؟ قال: كنت أقوم آناء الليل وآناء النهار, فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله له: بل أردت أن يقال: فلان قارئ، فقد قيل ذاك! ويؤتى بصاحب المال فيقول الله له: ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال: بلى يا رب! قال: فما عملت فيما آتيتك؟ قال: كنت أصل الرحم، وأتصدق, فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت, ويقول الله له: بل أردت أن يقال: فلان جواد، وقد قيل ذلك! ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله, فيقال له: في ماذا قتلت؟ فيقول: أمرت بالجهاد في سبيلك، فقاتلت حتى قتلت, فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت, ويقول الله له: بل أردت أن يقال: فلان جريء، فقد قيل ذلك, ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتي فقال: يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة).
].
نشغ أبو هريرة، وغشي عليه رضي الله عنه خوفاً من أن يدخل في عمله شيء كهؤلاء؛ لأنه أبو هريرة رضي الله عنه وصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فخاف على نفسه حتى صار يغشى عليه من شدة الخوف, وذلك لأن آفات الأعمال والعوارض التي تعرض للعبد كثيرة, فيجب أن يحرص الإنسان على تطهير عمله من إرادة وجوه الناس وإرادة الدنيا، وأن يكون خالصاً لله جل وعلا, وكل إنسان مهما كانت حالته يريد من الآخر نفع نفسه فقط, بصرف النظر عن نفعك.
كل الناس يريدونك لهم ولكن الله جل وعلا يريدك لك, إذا عملت عملاً وفاك إياه وزادك, فإن الله لا تنفعه الطاعة كما أنه لا تضره المعصية جل وعلا, فإذا أمر عبده بشيء فهو لمصلحة العبد فقط، وليس لمصلحة الله, الله جل وعلا لا مصلحة له من طاعة الناس، ولا من أمرهم ولا من معصيتهم، فإذا تعدوا حرمات الله فلن يعجزوه جل وعلا, وسوف يأخذهم في الوقت المناسب الذي يريده جل وعلا، ويلقيهم في جهنم ولا يبالي؛ لأنهم عبيده وملكه، يتصرف فيهم كيف يشاء، ولأنهم عصوه, فما أهون أهل النار على الله جل وعلا؟! لأنهم يتضاغون فيها، ويصيحون حتى تنقطع بهم نفوسهم, ولكن لا يفيد الصياح شيئاً.
جاء في التفسير عند قوله جل وعلا: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77]: أن الجواب يأتي بعد آلاف السنين, ويقول لهم: {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77]، وكذلك الآية الأخرى: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} [المؤمنون:106]، إلى قوله: {أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:107]، أخرجنا منها فإن عدنا يعني: أخرجنا إلى الدنيا مرةً أخرى لنعمل الأعمال الصالحة ونطيع, وبعد فتره طويلة جداً يأتيهم الجواب، يقول لهم: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108]، عند ذلك انقطع الرجاء نهائياً, وتصبح ليس فيها إلا زفير وشهيق دائماً, فأي هوان أهون من هؤلاء على الله جل وعلا؟ قد هانوا غاية الهوان, ومقتهم الله جل وعلا وعذبهم.
أما يخشى الإنسان من هؤلاء؟ لهذا كان بعض السلف يبكي بكاءً شديداً؛ ثم إذا لامه أهله, قال: كيف تلوموني وقد توعدني ربي جل وعلا إن عصيته أن يلقيني في جهنم؟ والله لو توعدني أن يسجنني في حمام لحق لي أن أبكي ولا تبقى لي دمعة! ولكن الناس يغفلونَ عن ذلك, ولهذا إذا حضر الإنسان الموت يتغير حاله تغيراً عظيماً جداً, وقد يجزع جزعاً هائلاً، ولكن الناس لا يعرفون عنه شيئاً، والإنسان ما دام صحيحاً فإن أمامه المجال والفسحة, وعليه أن يستعتب ربه ويطلب العتبى من ربه -يعني: يتوب عليه- ويعتذر إلى ربه ويعمل؛ لأنه لا يدري متى يبغته الموت، فإنه يأتيه الموت في أي وقت, فالإنسان ما عنده ضمان في أنه يعيش عشر سنوات أو عشرين سنة أو سنة أو يوماً، {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:34]، هل غداً يكون مريضاً أو يكون صحيحاً؟ أو يكون في عداد الأموات؟ فإذا قيل: فلان مات, انتهى وانقطع العمل والأمل، وأهل الدنيا ينسونه, يعني: آخر خبر به يوم صلي عليه ودفن، يذكرونه أياماً ثم ينسى، وانتهت القضية, من الذي يصلي له؟ من الذي يصوم له؟ قد طبع على عمله وانتهى, إن كان عمل صالحاً فيرتبط بالعمل ويفرح, وإن كانت أعماله فاسدة فما أكثر الحسرات؟! فالإنسان إذا شاهد هذه القبور يراها ساكنة وفيها البلاء, وفيها أمور هائلة جداً, والإنسان سيصير عما قريب إلى ما صار إليه أولئك الذين تقدموه, وهذا في كل وقت، وإلى الآن يصلى على عدد من الجنائز, فالناس الذين تراهم الآن معك لن يبقى بعد مائة سنة منهم على وجه الأرض عين تطرف, كلهم يكونون تحت الأرض، ويأتي آخرون مكانهم وهكذا إلى أن ينتهوا.
فالأمور سائرة بسرعة، ولكن شأن الإنسان وأمره قصير؛ لأن كل الوقت الذي يكون مزرعة له هو عمرهُ فقط، والعمر -كما هو معلوم- أكثره ضائع, بعضه في المجالس قيل وقال, وبعضه في الأكل، وبعضه في النوم، وبعضه في المشي وإضاعة الوقت والتفرج, والذي يعمل فيه لله جل وعلا هو القليل، فلو تبصر الإنسان حق التبصر لطرأ له حالة أخرى غير هذه الحالة، والله المستعان.(96/8)
أنواع الأعمال التي يفعلها الناس من العبادات
قال الشارح: [وقد سئل شيخنا المصنف رحمه الله عن هذه الآية فأجاب بما حاصله: ذكر عن السلف فيها أنواع مما يفعله الناس اليوم، ولا يعرفون معناه, فمن ذلك العمل الصالح الذي يفعله كثير من الناس ابتغاء وجه الله, من صدقة، وصلاة، وصلة، وإحسان إلى الناس، وترك ظلم ونحو ذلك مما يفعله الإنسان أو يتركه خالصاً لله, لكنه لا يريد ثوابه في الآخرة، إنما يريد أن يجازيه الله بحفظ ماله وتنميته، أو حفظ أهله وعياله, أو إدامة النعم عليهم, ولا همة له في طلب الجنة والهرب من النار, فهذا يعطى ثواب عمله في الدنيا وليس له في الآخرة من نصيب, وهذا النوع ذكره ابن عباس.
النوع الثاني: وهو أكبر من الأول وأخوف, وهو الذي ذكره مجاهد في الآية: أنها نزلت فيه، وهو أنه يعمل أعمالاً صالحةً ونيته رياء الناس لا طلب ثواب الآخرة].
صالحة يعني فيما يظهر للناس، وإلا فهي في الباطن فاسدة؛ لأن النية فاسدة.
[النوع الثالث: أن يعمل أعمالاً صالحةً يقصد بها مالاً, مثل أن يحج لمال يأخذه لا لله، أو يهاجر لدنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها, أو يجاهد لأجل المغنم, فقد ذكر أيضاً هذا النوع في تفسير هذه الآية].
هذا إشارة إلى سبب الحديث الذي قاله الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه)، يقول العلماء: سبب هذا القول أن رجلاً خطب امرأة في مكة يقال لها: أم قيس , فأبت وقالت: ما أثيبك إلا أن تهاجر، فإن هاجرت فلا بأس، فهاجر من أجل ذلك, فسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: (إنما الإعمال بالنيات إلى آخره)، يقولون: هذا سببه, وإن كان هذا السبب فيه ضعف، كما قاله ابن رجب أنه ضعيف, ولكن يكفي قوله: (من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله, ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها -أو قال: يتزوجها- فهجرته إلى ما هاجر إليه)، يعني: ليس له من الهجرة إلا ذلك, ومعروف أن الهجرة من أفضل الأعمال, ولهذا حق للمهاجرين أن يقدموا على غيرهم بالفضل لهجرتهم؛ لأن الهجرة هي هجر البلد الذي عاش فيه, وفيه ماله وأهله؛ إلى بلد آخر يكون فيه الإسلام ظاهراً وعزيزاً، ومحارباً للكفر والفساد.
[وكما يتعلم الرجل لأجل مدرسة أهله أو مكسبهم أو رياستهم، أو يتعلم القرآن ويواظب على الصلاة لأجل وظيفة المسجد كما هو واقع كثيراً.
النوع الرابع: أن يعمل بطاعة الله، مخلصاً في ذلك لله وحده لا شريك له, لكنه على عمل يكفره كفراً يخرجه عن الإسلام, مثل اليهود والنصارى إذا عبدوا الله أو تصدقوا أو صاموا ابتغاء وجه الله والدار الآخرة].
مثل الذي يكون من المسلمين في العمل ولكنه على بدعة تكفره, كأن يعبد أصحاب القبور ويدعوهم، ويطوف عليها، ويتقرب إليهم, وهو يقول: لا إله إلا الله، ويصلي ويصوم, فمثل هذا أعماله فاسدة باطلة؛ لأنه لم يخلص في العبادة ولم يعبد الله وحده، بل عبد معه صاحب القبر، فإن هذا عمله يجزى به في الدنيا فقط.
[ومثل كثير من هذه الأمة الذين فيهم كفر أو شرك أكبر يخرجهم من الإسلام بالكلية، إذا أطاعوا الله طاعة خالصة يريدون بها ثواب الله في الدار الآخرة, لكنهم على أعمال تخرجهم من الإسلام، وتمنع قبول أعمالهم, فهذا النوع أيضاً قد ذكر في هذه الآية عن أنس بن مالك وغيره, وكان السلف يخافون منه.
قال: بعضهم: لو أعلم أن الله تقبل مني سجدة واحدة لتمنيت الموت؛ لأن الله تعالى يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27].
ثم قال: بقي أن يقال: إذا عمل الرجل الصلوات الخمس، والزكاة، والصوم، والحج ابتغاء وجه الله, طالباً ثواب الآخرة, ثم بعد ذلك عمل أعمالاً قاصداً بها الدنيا, مثل: أن يحج فرضه لله، ثم يحج بعده لأجل الدنيا, كما هو واقع فهو لما غلب عليه منهما, وقد قال بعضهم: القرآن كثيراً ما يذكر أهل الجنة الخلص، وأهل النار الخلص، ويسكت عن صاحب الشائبتين: وهو هذا وأمثاله].
يعني: إذا كان الغالب عليه الإخلاص والتقى, فيكون ناجياً بإخلاصه وتقاه, وإذا كان الغالب عليه المراءاة وإرادة الدنيا, فيكون هالكاً، فهو خاضع لما غلب عليه بالعمل، وهو ما يختم له به؛ لأنه قد يختم للإنسان بعمل صالح يكفر عنه ما سبق, كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالخواتيم)، وقد ينعكس الأمر فيختم للإنسان بأعمال سيئة يموت عليها، وتكون خاتمته أنه مات على أسوأ أعماله, نسأل الله العافية!(96/9)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [97]
قد تطغى شهوات الدنيا على قلب عبد، فيعمل لها حتى يصير عبداً لشهواته، تسيره كما تشاء، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، ووصف فاعل ذلك بأنه عبد لغير الله، ودعا عليه بالتعاسة والشقاء.(97/1)
حديث أبي هريرة: (تعس عبد الدينار)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار, تعس عبد الدرهم, تعس عبد الخميصة, تعس عبد الخميلة, إن أُعطي رضي, وإن لم يعط سخط, تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش.
طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله, أشعث رأسه، مغبرة قدماه, إن كان في الحراسة كان في الحراسة, وإن كان في الساقة كان في الساقة, إن استأذن لم يؤذن له, وإن شفع لم يشفع)].
قوله: (في الصحيح) يعني: في صحيح البخاري، وذكره في موضعين في الجهاد وفي الرقاق.(97/2)
معنى قوله: (تعس عبد الدينار)
قوله: (تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم, تعس عبد الخميلة, تعس عبد الخميصة).
الدينار: هو قطعه من الذهب كما هو معروف, سواء كان مضروباً أم لم يكن, والدرهم: قطعة من الفضة, أما الخملية فهي كساء له خمل، أي: له أهداب، وأما الخميصة فهي كساء مربع.
وسماه عبداً لهذه الأشياء؛ لأنه يعمل لها, ويجتهد ويكد لأجلها, وكأن عمله للدينار والدرهم والأقمشة والأكسية وغيرها مما يقتنى.
المقصود: أن عمله إنما هو للدنيا، ومعنى قوله: (تعس) سقط وهلك، وقيل: معناه انتكس عليه أمره، يعني أنه لم يفلح, وهذا قد يكون دعاء وقد يكون خبراً, إذا كان دعاءً فالرسول صلى الله عليه وسلم دعاؤه مستجاب, فهو يدعو عليه بالتعاسة, والتعاسة هي الشقاء كما قال جل وعلا: {فَتَعْساً لَهُمْ} [محمد:8]، أي: يعني شقاءً لهم, وقد يكون خبراً يخبر عنه أن هذه حالته؛ لأنه لا يخرج عن هذه الحالة, إذا كان الإنسان يعمل للدنيا فإنه يكون تعساً, ولا يلزم أن يكون في نظر العامل أنه تعس, وأشد التعاسة وأعظمها أن يكون في عمله بعيداً عن ربه جل وعلا وعما يسعده, فكلما تمادى في ذلك -وإن كان يظن أنه في سعادة- فهو يتمادى في التعاسة.
وقوله: (وانتكس) الانتكاس مثل أن يشفى المريض ثم يعود إلى مرضه, انتكس في مرضه يعني: عاد إلى أسوأ ما كان, وهنا كأنه دعاء يقرر عليه, يكون تعساً ثم ينتكس في أمره أشد مما كان عليه.
وقوله: (وإذا شيك فلا انتقش)، أي: إذا أصابته الشوكة فلا انتقش, والانتقاش: هو إخراج الشوكة بالمنقاش، والمعنى: أنه إذا وقع في شدة فإنه لا يخرج منها؛ لأن الذي إذا شيك ولا ينتقش لا يجد من ينقشه ومعناه: أنه قد هلك فلا يستطيع الخلاص مما وقع فيه.
والمعنى: أن الرسول صلى الله عليه وسلم يخبر أن من كانت هذه حالته, فقد وصل إلى الغاية في الهلاك, وهو عدم الخروج مما وقع فيه من المآزق وهي عبادة الدنيا؛ لأن هذا يتمادى حتى يغطي على قلبه، فيصبح عنده الباطل كأنه حق, ويكره الحق ويبغضه، ويحب الباطل, وهذه غاية التعاسة والشقاء, فخروجه من هذا صعب إن لم تداركه رحمة من ربه جل وعلا، وإلا فإنه لا يخرج من ذلك ولا يجد من يخرجه.(97/3)
معنى كونه عبداً للدينار والدرهم
ثم كونه سماه عبداً للدينار وعبداً للدرهم وعبداً للكساء الملبوس، أو الموضوع المفروش, ليس معنى ذلك أنه يسجد لهذه الأشياء ويدعوها ويصلي لها, ولكن المعنى أنه يعمل لأجلها ولا يعمل لآخرته, ولهذا وضح ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: (إن أعطي رضي, وإن منع سخط) يعني: أنه إذا حصل له ما يعمل له استمر في عمله ومضى فيه, أما إذا لم يحصل له الشيء الذي يعمل له وهو الدينار والدرهم والأقمشة والأكسية وغيرها مما يكون مراداً له, فإنه يتوقف ويسخط العمل ويتركه.
(إن أعطي رضي وإن منع سخط): فهذا واضح في أنه يعمل لأجل الدنيا، لأنه لو عمل لله جل وعلا ما نظر إلى هذه الحالة, كونه إذا منع ترك العمل، وإذا أعطي استمر فيه, فهذا تفسير لقوله: (عبد الدينار وعبد الدرهم).(97/4)
العبد المخلص المقابل لعبد الدنيا
ثم ذكر العبد الذي يكون مقابلاً لهذا, وهو الذي يكون عبداً لله جل وعلا, هذا عبد الدنيا والذي يقابله هو عبد الله, فقال: (طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله)، وطوبى: كلمة يراد بها الفعل الطيب أو الخير الذي يصل إليه, يعني: أنه يحصل على الجزاء الطيب المتناهي في الطيب، وقيل: إن (طوبى) هي الجنة، وقيل: إن (طوبى) شجرة في الجنة, وهذه أقوال متلازمة.
والمعنى واضح في أنه صلى الله عليه وسلم يدعو لهذا العبد الذي هذه صفته أن يكون من أهل الجنة أو أنه يخبر عنه بأنه من أهل الجنة.
والعنان معروف، وهو الحبل الذي يكون في رأس الفرس، يقوده به، وهو الزمام الذي يمسكه، ومعنى ذلك: أنه مجتهد في سبيل الله.
وقال: (أشعث رأسه، مغبرة قدماه)، والمقصود بذلك: أنه لا يعتني بنفسه، قد شغل عن ترجيل رأسه وتسريحه وتنظيفه, شغله الجهاد في سبيل الله عن ذلك.
وكذلك الغبرة التي تلحقه، فهي تعني أنه لا يعتني ببدنه بالتنظيف والغسل؛ لأنه مشغول عن ذلك، ويعمل عملاً يرى أنه لا يجوز التساهل فيه أو الغفلة عنه، فهو في أمر مهم؛ لأنه يطلب رضا الله جل وعلا، والوصول إلى أعلى الدرجات.
ثم قال: (إن كان في الحراسة كان في الحراسة) هذا الشرط اتحد مع الجواب، يعني: أنه إن كان في الحراسة قام بما يلزم ولم يكن مقصراًَ فيها, فهو في الاجتهاد والعمل غير مقصر، (وإن كان في الساقة كان في الساقة)، والحراسة والساقة كلاهما من أشد المواقف.
فذكر هذين الموقفين ليدل على أنه قائم بما يلزمه طاعةً لله جل وعلا، وطلباً لمرضاته, وأنه مجتهد غاية الاجتهاد لا يفتر ولا يقصر في ذلك.
ثم قال: (إن استأذن لم يؤذن له, وإن شفع لم يشفع)، يعني: أنه يعمل عملاً لله، ولا يقصد به وجوه الناس ولا يقصد به الدنيا, فلهذا يكون غير معروف عند ذوي المناصب والمسئولين, لأنه لا يظهر نفسه حتى يعرفوه, بل يعمل لربه جل وعلا, فلهذا إذا طلب شيئاً لا يعطاه، وإذا شفع لأحد لم تقبل شفاعته.
إن استأذن على الكبراء لم يؤذن له لأن عمله ليس للدنيا, فهو يحرص على أن يكون عمله خافياً, وألا يكون مطلوباً به وجوه الناس ورضاهم.
وإن شفع لأحد لم تقبل شفاعته؛ لأنه لا قيمة له عندهم, فهذا معناه أنه مغمور عند الناس, وليس له ذكر ولا نباهة عندهم ولا وجه, ولكنه عند ربه رفيع القدر وعظيم الجزاء؛ لأن قصده وجه الله جل وعلا؛ ولأنه عبد لله، فهذا يقابل الأول, فالأول عبد الدنيا وهذا عبد ربه جل وعلا.
وهذا مثلما يأتي في القرآن, فإن الله جل وعلا يذكر المتقابلين، يذكر مرة الصالحين ثم يتبعهم الفاسدين الكافرين، أو يذكر الجنة ثم يتبع ذلك ذكر النار.
فهنا في هذا الحديث ذكر عابد الدنيا، ثم ذكر عابد ربه الذي يقصد بعمله وجه الله جل وعلا، ويتقرب به إلى الله, والشاهد في هذا واضح, أنه سمى الذي يعمل للدنيا عبداً للدينار، وعبداً للدرهم، وعبداً للخميلة، وعبداً للخميصة.
فدل على أن من عمل عملاً يقصد به الدنيا, فإنه عند الله من الخاسرين, فالحديث مطابق للآية التي ترجم بها المؤلف الباب، وهي قوله جل وعلا: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16]، فمعلوم أن الأول باطل عمله في الآخرة، وأنه ممن يستحق النار، ويكون خالداً فيها؛ لأنه عبدٌ للدنيا ويعمل لأجلها, ولهذا يرضى لها ويسخط من أجلها.
أما الثاني: فهو يقابل هذا تماماً, فالدنيا ما أهمته، ولا يلتفت إليها، ولا يعيرها أي اهتمام, ولهذا كان عمله عظيماً, إذا وقف في المواقف وقف موقف الرجال, ولم يؤت من قبله, ولكنه لا يظهر ذلك بل يخفيه؛ لأنه يريد وجه الله جل وعلا, ولهذا لا يتحصل له جاه عند الناس, بل يكون مطموراً مغموراً، لا يؤتى به ولا يلتفت إليه؛ لأن عمله لله جل وعلا، وهذا هو المقصود.(97/5)
شرح ألفاظ الحديث
قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله (في الصحيح): أي: صحيح البخاري.
قوله: (تعس) وهو بكسر العين، ويجوز الفتح, أي: سقط, والمراد هنا هلك، قاله: الحافظ.
وقال في موضع آخر: وهو ضد سعد أي: شقي, وقال أبو السعادات: يقال: تعس يتعس إذا عثر وانكب لوجهه, وهو دعاء عليه بالهلاك.
قوله: (عبد الدينار) هو المعروف من الذهب، كالمثقال في الوزن.
قوله: (تعس عبد الدرهم) وهو من الفضة، قدره الفقهاء بالشعير وزناً, وعندنا منه درهم من ضرب بني أمية, وهو زنة خمسين حبة شعير, وخمسا حبة، سماه عبداً له، لكونه هو المقصود بعمله].
يعني: في القرن الثالث عشر يقولون: عندنا درهم من ضرب بني أمية يعني: بقي إلى ذلك الوقت، ولا يزال عند بعض الناس, واشترى أحد التلاميذ درهماً من أول الإسلام وهو محتفظ به, وهذا يترتب عليه أحكام من أحكام الشرع, كمعرفة المكاييل والموازين، وهو أمر مهم؛ لأن فيها الزكاة وفيها الكفارات وفيها الأحكام التي تتعلق بها كثيراً, فمعرفتها مهمة، فإذا وجد مثل ذلك دينار أو درهم فشيء جيد؛ لأن هذا هو الذي كان في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه يعينه كثيراً على معرفة المقادير والموازين.
قال الشارح: [فكل من توجه بقصده لغير الله, فقد جعله شريكاً في عبوديته, كما هو حال الأكثر.
قوله: (تعس عبد الخميصة) قال أبو السعادات: هو ثوب خز أو صوف معلم, وقيل: لا تسمى خميصة إلا أن تكون سوداء معلمة, وتجمع على خمائص, والخميلة بفتح الخاء المعجمة, وقال أبو السعادات: ذات الخُمل: ثياب لها خُمل من أي شيء كان.
قوله: (تعس وانتكس): قال الحافظ: هو بالمهملة أي: عاوده المرض.
وقال أبو السعادات: أي: انقلب على رأسه؟ وهو دعاء عليه بالخيبة، قال الطيبي: فيه الترقي بالدعاء عليه؛ لأنه إذا تعس انكب على وجهه، فإذا انتكس انقلب على رأسه بعد أن سقط.
قوله: (وإذا شيك): أي: أصابته شوكة.
(فلا انتقش) أي: فلا يقدر على إخراجها بالمنقاش، قاله أبو السعادات.
والمراد: أن من كانت هذه حاله فإنه يستحق أن يدعى عليه بما يسوءه في العواقب، ومن كانت هذه حاله فلابد أن يجد أثر هذه الدعوات في الواقع فيما يضره في عاجل دنياه وآجل أخراه].(97/6)
كلام ابن تيمية على منزلة المال عند المسلم
قال الشارح رحمه الله: [قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الدينار والدرهم، وعبد القطيفة، وعبد الخميصة، وذكر فيه ما هو دعاء عليه بلفظ الخبر، وهو قوله: (تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش)، وهذه حال من إذا أصابه شر لم يخرج منه، ولم يفلح؛ لكونه تعس وانتكس، فلا نال المطلوب، ولا خلص من المكروه.
وهذا حال من عبد المال، وقد وصف ذلك بأنه: (إن أعطي رضي، وإن منع سخط)، كما قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة:58]، فرضاهم لغير الله، وسخطهم لغير الله.
وهكذا حال من كان متعلقاً منها برئاسة أو بصورة، ونحو ذلك من أهواء نفسه، إن حصل له رضي، وإن لم يحصل له سخط، فهذا عبد ما يهواه من ذلك، وهو رقيق له، إذ الرق والعبودية في الحقيقة: هو رق القلب وعبوديته، فما استرق القلب واستعبده فهو عبده - إلى أن قال: وهكذا أيضاً طالب المال، فإن ذلك يستعبده ويسترقه، وهذه الأمور نوعان: فمنها ما يحتاج إليه العبد، كما يحتاج إلى طعامه وشرابه، ومنكحه ومسكنه، ونحو ذلك، فهذا يطلبه من الله، ويرغب إليه فيه، فيكون المال عنده يستعمله في حاجته بمنزلة حماره الذي يركبه، وبساطه الذي يجلس عليه، من غير أن يستعبده فيكون هلوعاً.
ومنها ما لا يحتاج إليه العبد، فهذا ينبغي أن لا يعلق قلبه بها، فإذا تعلق قلبه بها صار مستعبداً لها، وربما صار مستعبداً ومعتمداً على غير الله فيها، فلا يبقى معه حقيقة العبودية لله، ولا حقيقة التوكل عليه، بل فيه شعبة من العبادة لغير الله، وشعبة من التوكل على غير الله.
وهذا من أحق الناس بقوله صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة)، وهذا هو عبد لهذه الأمور، ولو طلبها من الله فإن الله إذا أعطاه إياها رضي، وإن منعه إياها سخط، وإنما عبد الله: من يرضيه ما يرضي الله، ويسخطه ما يسخط الله، ويحب ما أحبه الله ورسوله، ويبغض ما أبغض الله ورسوله، ويوالي أولياء الله، ويعادي أعداء الله، فهذا الذي استكمل الإيمان انتهى ملخصاً].
هذا الكلام ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في العبودية، وكلامه في منزلة المال عند الإنسان، يقول: المال يكون عند الإنسان على قسمين: أحدهما: الشيء الذي لابد له منه مثل المسكن والطعام -المأكل والمشرب- والملبس ونفقة الزوجة وما أشبه ذلك.
فهذه يجب أن تكون مطلوبة من الله جل وعلا، ولا يتعلق قلبه بها، وإنما تكون لأجل الحاجة؛ لأنه محتاج إلى ذلك، ولكن لا تشغله ولا تصده عن عبادة ربه، وكون قلبه خالصاً لربه لا تأخذ شيئاً منه، فتكون هذه بمنزلة الحمار الذي يركبه، ولو قلنا السيارة فإنه يمكن أن يتعلق قلبه بها، وتجده إذا كانت مثلاً جميلة ينظفها، بل ينبغي أن يكون المال بمنزلة الحمار الذي يركبه.
ثم يقول بعد هذا: بل يجب أن يكون المال عند المؤمن بمنزلة المحل الذي يقضي فيه حاجته ولا يتعلق به قلبه نهائياً؛ لأنه إذا تعلق به القلب لابد أن يعمل من أجله، ثم يأخذ شعبة من قلبه فيصبح عنده شيء من العبودية لغير الله جل وعلا، فالعبودية الخالصة أن تكون لله وحده، وهذا هو الذي يكون كامل الإيمان، وهو الذي إذا بعث يوم القيامة يدخل الجنة بلا حساب ولا عذاب، أما إذا كان قلبه قد تشعب شعبة للمال، وشعبة للعمل، وشعبة للرئاسة، وما أشبه ذلك من الأمور التي يتعلق بها، فإنه ينطبق عليه قوله صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم)، إلى آخره.
يعني: عنده عبادة لغير الله جل وعلا، وهذه تختلف: إما أن تكون عبادة كاملة فيصبح ممن تشمله الآية ويدخل فيها أو تكون عنده خصلة من خصال العبادة، فقد تكون كبيرة، وقد تكون صغيرة، فالناس يتفاوتون في هذا، فهذا الشيء الذي يحتاجه ينبغي أن يكون بهذه المنزلة، والأمور الضرورية ينبغي أن تكون للمؤمن بهذه المنزلة، أما الأمور التي لا يحتاجها وهي فضلة زائدة، فهذه يقول: إنها عذاب يعذب بها الإنسان، وكونه يعمل ويجمع لها فإنه يصير خادماً لها -يعني: عبداً لها- ويصبح أقل ما يقال فيه إنه صد عن عبادة الله وأعرض عنها إلى عبادة ما يضره ولا ينفعه، وسوف يخدمه ويتعب نفسه وبدنه في جمعه وحراسته ثم يأكله غيره وينتفع به غيره.
وقد يسعد به غيره فتكون عليه الحسرات، إذا وجد من سعد بالشيء الذي شقي هو فيه تصبح عليه الحسرة فقط، وقد يشقى فيه غيره أكثر من شقائه، وذلك بأن يعصي الله جل وعلا فيه، فيكون عليه شيء من التبعات، فهو لا ينفك عن المسئولية، لماذا؟ لأنه في الواقع خرج عن الشيء الذي طلب منه، وليس معنى ذلك أن الإنسان لا يجوز أن يعمل على وجود المال، وإنما لا يجوز أن يطلبه من الأمور المحرمة، وألا يمنعه المال من أداء الواجبات، ويجب ألا يدعوه المال إلى ارتكاب المحرمات، فإذا لم يكن يدخل في ذلك -يعني: ما منعه جمع المال من ترك واجب، ولا حمله على فعل محرم- فإنه يكون سالماً وليس مذموماً، ولكن الغالب في صاحب المال أنه لا يسلم من أحد شيئين: إما ترك واجب، وإما فعل محرم من أجل المال.
وهذا أمر مشاهد، حتى إن كثيراً من الناس يثقل عليه كثيراً إخراج الزكاة التي هي ركن من أركان الإسلام لمحبة المال، وبعضهم قد لا يخرجها؛ لأنه قد يستكثرها مثلاً مع أنها ليست كثيرة، فيمنعه حب المال من إخراج الزكاة، وهذا في الواقع قد أخذ المال شعبة كبيرة من قلبه، فأصبح القلب متعبداً له، وكذلك قد يبخل في أداء الواجب من المال ويعجز، وإن لم يكن مثل الذي منع الزكاة، ولكنه يكون عليه من إثم ذلك بحسب ما منعه من الواجب، سواء كان الواجب يتعلق بمن يجب عليه نفقته أو يتعلق بغيره، فإذا كان الإنسان عبداً لله جل وعلا خالصاً فيكون المال عنده بمنزلة الشيء الذي لا يؤبه له، ولا يتعلق قلبه به؛ لأنه يعمل في هذه الدنيا للدار التي سيسكنها سكنىً لا تنقطع، فهو يعمل على عمارة تلك الدار بكل وسيلة، بالبدن وبالمال الذي يكون بعض الناس خادماً له وعبداً له، فهو إذا كان عبداً لله يستخدم المال ويوظفه لأعماله التي تكون مرضية لربه جل وعلا.
فالإنسان لا ينفك إما أن يكون بهذه الصفة أو يكون بالصفة الأخرى، وكل إنسان يجد من نفسه شيئاً من ذلك، ولابد من المجاهدة والعمل والكدح، فإن الله جل وعلا يقول: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6]، والكدح: إما أن يكون في الخير أو يكون في الشر، ولابد من ملاقاة الله جل وعلا، ثم محاسبته وجزاؤه على الكدح الذي كدحه الإنسان.(97/7)
معنى كلمة (طوبى)
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (طوبى لعبد)، قال أبو السعادات: طوبى: اسم الجنة.
وقيل: هي شجرة فيها، ويؤيد هذا ما رواه ابن وهب بسنده عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: (قال رجل: يا رسول الله! وما طوبى؟ قال شجرة في الجنة مسيرة مائة سنة، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها).
وروى الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى، سمعت ابن لهيعة قال حدثنا دراج أبو السمح، أن أبا الهيثم حدثه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً قال: يا رسول الله! طوبى لمن رآك وآمن بك، قال: طوبى لمن رآني وآمن بي، ثم طوبى ثم طوبى ثم طوبى لمن آمن بي ولم يرني، قال له رجل: وما طوبى؟ قال شجرة في الجنة مسيرة مائة عام، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها) وله شواهد في الصحيحين وغيرهما].
ذكر البخاري في صحيحه أن طوبى هذه كلمة تقال لكل عمل طيب، ولكل جزاء طيب، وهي على وزن فعلى، وكلامه هذا يدل على أن الحديث لم يصح عنده، ولو كان الحديث صحيحاً لبين ذلك في الترجمة كعادته، وإن كان الحديث ليس على شرطه، فإنه إذا لم يكن على شرطه -يذكر ذلك في ترجمة ولا يرويه- يذكر معناه، وذكره هذا يدل على أن هذا الحديث غير صحيح عنده.(97/8)
أثر وهب بن منبه في وصف بعض نعيم الجنة
قال الشارح رحمه الله: [وقد روى ابن جرير، عن وهب بن منبه هاهنا أثراً غريباً عجيباً.
قال وهب رحمه الله: إن في الجنة شجرةً يقال لها طوبى، يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها: زهرها رياط، وورقها برود، وقضبانها عنبر، وبطحاؤها ياقوت، وترابها كافور، ووحلها مسك، يخرج من أصلها أنهار الخمر واللبن والعسل، وهي مجلس لأهل الجنة، فبينما هم في مجلسهم إذ أتتهم الملائكة من ربهم يقودون نجباً مزمومة بسلاسل من ذهب، وجوهها كالمصابيح من حسنها، ووبرها كخز المزعري من لينه، عليها رحال ألواحها من ياقوت ورفوفها من ذهب، وثيابها من سندس وإستبرق، فينيخونها ويقولون: إن ربنا أرسلنا إليكم لتزوروه وتسلموا عليه، قال: فيركبونها، قال: فهي أسرع من الطائر، وأوطأ من الفراش، نجباً من غير مهنة، يسير الراكب إلى جنب أخيه وهو يكلمه ويناجيه، لا تصيب أذن راحلة منها أذن صاحبتها، ولا ترك راحلة ترك صاحبتها، حتى إن الشجرة لتنتحي عن طريقهم؛ لئلا تفرق بين الرجل وأخيه.
قال: فيأتون إلى الرحمن الرحيم، فيسفر لهم عن وجهه الكريم حتى ينظروا إليه، فإذا رأوه قالوا: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، وحق لك الجلال والإكرام، قال: فيقول تبارك وتعالى عند ذلك: أنا السلام، ومني السلام، وعليكم حقت رحمتي ومحبتي، مرحباً بعبادي الذين خشوني بالغيب، وأطاعوا أمري، قال: فيقولون: ربنا إنا لم نعبدك حق عبادتك، ولم نقدرك حق قدرك، فأذن لنا بالسجود قدامك، قال: فيقول الله: إنها ليست بدار نصب ولا عبادة، ولكنها دار ملك ونعيم، وإني قد رفعت عنكم نصب العبادة، فسلوني ما شئتم، فإن لكل رجل منكم أمنيته، فيسألونه حتى إن أقصرهم أمنية ليقول: ربي تنافس أهل الدنيا في ديناهم فتضايقوا، رب فآتني من كل شيء كانوا فيه من يوم خلقتها إلى أن انتهت الدنيا، فيقول الله تعالى: لقد قصرت بك اليوم أمنيتك، ولقد سألت دون منزلتك، هذا لك مني وسأتحفك بمنزلتي؛ لأنه ليس في عطائي نكد ولا قصر يد.
قال: ثم يقول: اعرضوا على عبادي ما لم تبلغ أمانيهم، ولم يخطر لهم على بال، قال: فيعرضون عليهم حتى تقصر بهم أمانيهم التي في أنفسهم، فيكون فيما يعرض عليهم: براذين مقرنة على أربعة منها سرير من ياقوتة واحدة، على كل سرير منها قبة من ذهب مفرغة، في كل قبة منها فرش من فرش الجنة مظاهرة، في كل قبة منها جاريتان من الحور العين، على كل جارية منهن ثوبان من ثياب الجنة، وليس في الجنة لون إلا وهو فيهما، ولا ريح طيب إلا قد عبق بهما، ينفذ ضوء وجوههما غلظ القبة، حتى يظن من يراهما أنهما دون القبة، يرى مخهما من فوق سوقهما كالسلك الأبيض في ياقوتة حمراء، يريان له من الفضل على صحابته كفضل الشمس على الحجارة أو أفضل، ويرى لهما مثل ذلك، ثم يدخل إليهما فيحييانه ويقبلانه ويعانقانه، ويقولان له: والله ما ظننا أن الله يخلق مثلك، ثم يأمر الله تعالى الملائكة فيسيرون بهم صفاً في الجنة، حتى ينتهي كل رجل منهم إلى منزلته التي أعدت له.
وقد روى هذا الأثر ابن أبي حاتم بسنده عن وهب بن منبه وزاد: فانظروا إلى مواهب ربكم الذي وهب لكم، فإذا بقباب في الرفيق الأعلى، وغرف مبنية من الدر والمرجان، وأبوابها من ذهب، وسررها من ياقوت، وفرشها من سندس وإستبرق، ومنابرها من نور، يفور من أبوابها وعراصها نور مثل شعاع الشمس، عنده مثل الكوكب الدري في النهار المضيء.
وإذا بقصور شامخة في أعلى عليين من الياقوت يزهوها نورها، فلولا أنه مسخر إذاً لالتمع الأبصار، فما كان من تلك القصور من الياقوت الأبيض فهو مفروش بالحرير الأبيض، وما كان منها من الياقوت الأخضر فهو مفروش بالسندس الأخضر، وما كان منها من الياقوت الأصفر فهو مفروش بالأرجوان الأصفر، مزودة بالزمرد الأخضر، والذهب الأحمر، والفضة البيضاء، قوائمها وأركانها من الجوهر، وشرفها قباب من لؤلؤ، وبروجها غرف من المرجان.
فلما انصرفوا إلى ما أعطاهم ربهم قربت لهم براذين من ياقوت أبيض، منفوخ فيها الروح، تحتها الولدان المخلدون، بيد كل وليد منهم حكمة برذون من تلك البراذين، ولجمها وأعنتها من فضة بيضاء منظومة بالدر والياقوت، سروجها موضونة مفروشة بالسندس والإستبرق.
فانطلقت بهم تلك البراذين تزف بهم، ينظرون رياض الجنة، فلما انتهوا إلى منازلهم وجدوا الملائكة قعوداً على منابر من نور، ينتظرونهم ليزوروهم ويصافحوهم، ويهنئوهم كرامة ربهم، فلما دخلوا قصورهم وجدوا فيها جميع ما تطاول به عليهم، وما سألوا وتمنوا، وإذا على كل باب قصر من تلك القصور أربعة جنان: جنتان ذواتا أفنان، وجنتان مدهامتان، وفيهما عينان نضاختان، وفيهما من كل فاكهة زوجان، وحور مقصورات في الخيام.
لما تبوءوا منازلهم، واستقروا قرارهم، قال لهم ربهم: فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً؟ قالوا: نعم وربنا، قال: هل رضيتم ثواب ربكم؟ قالوا: ربنا رضينا فارض عنا، قال: فبرضاي عنكم أحللتكم داري، ونظرتم إلى وجهي، فعند ذلك قالوا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [فاطر:34 - 35]، وهذا سياق غريب، وأثر عجيب، ولبعضه شواهد في الصحيحين].
هذا الأثر من كلام وهب بن منبه، وقصارى الأمر أن يكون منقولاً عن بني إسرائيل، فلا يجوز إثباته واعتقاد ما فيه، وفيه أشياء منكرة، وهو كما وصفه بأنه أثر عجيب غريب، فالعجيب والغريب ينبغي أن لا يثبت، ولكن أورده لما فيه من الترغيب في الجنة، وفيه أشياء تحرك القلوب للعمل، ولكن خير من ذلك وأفضل ما في كتاب الله جل وعلا.
ولا شك أن الجنة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، وأعظم مما ذكر هنا بكثير، والله جل وعلا يقول: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة:17]، (فلا تعلم نفس) هذه نكرة تشمل الملائكة وغيرهم، فهي لا تعلم الشيء الذي أخفي لهم.
ثم إن هناك شيئاً فيه نكارة، والحديث الذي في الصحيحين يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا سألتم الله جل وعلا الجنة فاسألوه الفردوس؛ فإنه أعلى الجنة، ووسط الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة، وسقفه عرش الرحمن)، فعرش الرحمن فوق ما يذهبون إليه أي: أنهم يسيرون، وتتفرق الشجر عنهم، فيزورون الله جل وعلا، الله أكبر من كل شيء وأعظم، فإذا أراد جل وعلا النظر إليهم أزاح الحجاب فنظر إليهم في أماكنهم، وكلموه وكلمهم تعالى وتقدس، ولا يحتاج أنهم يركبون ويذهبون يمشون بين الشجر كما يذكر هنا؛ لأنه يقول: (وسقفه عرش الرحمن) ولكن في الجنة الفردوس وهو أعلى ما في السماء، وليس فوقه إلا عرش الرحمن تعالى وتقدس.
كذلك ما يذكر من وجود براذين من كذا وكذا هذا ليس بعجيب على قدرة الله جل وعلا، ولكن يحتاج إلى أن يثبت ذلك عن المعصوم صلوات الله وسلامه عليه، أو عن قول الله جل وعلا، أما إذا كان منقولاً عن كتب بني إسرائيل فبيننا وبينهم مفاوز تنقطع دونها أعناق الإبل، فلا يجوز أن نثبت ذلك إلا بشيء ثبت من كتاب الله أو من أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن كان ذلك في الفضائل والترغيب متسامحاً فيه، لكن نكتفي بما صح وثبت في كتاب الله جل وعلا، وفي هذا غنية وخير كثير.
وكم من النقص دخل على المسلمين بسبب ما يذكره كعب الأحبار ووهب بن منبه وغيرهما من أحبار اليهود الذين أسلموا وصاروا يذكرون هذه الأشياء في أمور كثيرة، بعضها قد يخالف ما في كتاب الله، ولهذا في صحيح البخاري عن أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه أنه قال: (لا تسألوا أهل الكتاب، فإن كتابكم هو أحدث كتاب نزل، فو الله ما رأينا واحداً منهم أتى يسأل، وإن من أصدق هؤلاء كعب الأحبار، وإننا لنبلو عليه الكذب).
هكذا يقول: يعني: أنه قد يظهر من بعض ما يخبر شيء فيه مخالفة لما في كتاب الله ولما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والمقصود: أن هذا لا يعتمد عليه في مثل هذا الأثر الطويل الذي فيه هذه الأمور التي ذكر؛ لأنه ليس له مستند ثابت صحيح، لا من كتاب الله، ولا من قول رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما قاله وهب رحمه الله وعفا الله عنا وعنه، نقلاً عن الكتب السابقة، والله أعلم به، ومعلوم أن الذي ينقل عن بني إسرائيل على أقسام ثلاثة: قسم يكون موافقاً لما جاء به رسولنا صلى الله عليه وسلم، فهذا حق يجب تصديقه والإيمان به.
وقسم بعكس ذلك، يكون مخالفاً له، فهذا يجب تكذيبه.
وقسم ثالث ليس عندنا شيء يدل على أنه صحيح ولا أنه باطل، فمثل هذا لا يصدق ولا يكذب، بل يوقف فيه ويقال: الله أعلم، ونقول: آمنا بما أنزل الله في كتابه.(97/9)
هل الجنة فيها صبيان
قال الشارح رحمه الله: [وقال خالد بن معدان: إن في الجنة شجرة يقال لها طوبى ضروع كلها، ترضع صبيان أهل الجنة].
الجنة فيها صبيان، هذا يحتاج إلى دليل، قد اختلف العلماء: هل أهل الجنة يولد لهم صبيان أو لا يولد؟ وأكثر قول العلماء أنه لا يولد لهم، إنما هم في نعيم فقط، ولا يحتاجون إلى الولدان، ثم إن في الحديث الصحيح: أن كل من يدخل الجنة على شكل واحد، وعلى صورة أبيهم آدم، طوله ستون ذراعاً في السماء، كلهم على هذه الصفة، وكذلك يكونون مرداً، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم ما فيهم كهل واحد، فإذا كان لهم صبيان يرضعون فإنه يحتاج إلى دليل يثبت.
[وإن سقط المرأة يكون في نهر من أنهار الجنة يتقلب فيه حتى تقوم القيامة، فيبعث ابن أربعين سنة.
رواه ابن أبي حاتم].
السقط يكون في الدنيا وليس في الجنة، يعني: إذا أسقطت في الدنيا من المؤمن، أما الجنة فليس فيها سقط، ولا فيها حمل، ولا فيها أولاد على القول الصحيح وإذا أثبت شيء من ذلك يجب أن يكون على دليل جلي.(97/10)
فضل الجهاد في سبيل الله
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (آخذ بعنان فرسه في سبيل الله): أي: في جهاد المشركين.
قوله: (أشعث) مجرور بالفتحة؛ لأنه اسم لا ينصرف للوصفية ووزن الفعل، و (رأسه) مرفوع على الفاعلية، وهو طائر الشعر، أشغله الجهاد في سبيل الله عن التنعم بالادهان وتسريح الشعر.
قوله: (مغبرة قدماه) هو بالجر، صفة ثانية لعبد].
يجب أن يكون (عبدٌ) مرفوعاً، ويكون (مغبرة قدماه) صفة للعبد، أقول: هذا هو الأقرب.
[قوله: (إن كان في الحراسة) هو بكسر الحاء أي: حماية الجيش عن أن يهجم العدو عليهم.
قوله: (كان في الحراسة) أي: غير مقصر فيها، ولا غافل، وهذا اللفظ يستعمل في حق من قام بالأمر على وجه الكمال.
قوله: (وإن كان في الساقة كان في الساقة): أي: في مؤخرة الجيش، أي: يقلب نفسه في مصالح الجهاد، فكل مقام يقوم فيه إن كان ليلاً أو نهاراً؛ رغبة في ثواب الله وطلباً لمرضاته، ومحبة لطاعته.
قال ابن الجوزي: وهو خامل الذكر لا يقصد السمو.
وقال الخلخالي: المعنى: ائتماره لما أمر، وإقامته حيث أقيم، لا يفقد من مقامه، وإنما ذكر الحراسة والساقة لأنهما أشد مشقة.
انتهى.
وفيه: فضل الحراسة في سبيل الله].
قد ورد في فضل الحراسة في سبيل الله أحاديث، ولكنها ليست على شرط الصحيحين منها: أن من حرس ليلة في سبيل الله فهي خير من ألف ليلة يقوم ليلها ويصوم نهارها، ويقول الحافظ: إن هذا الحديث رجاله ثقات إلا فلاناً وذكره.
وكذلك ورد: أن من حرس في سبيل الله لا تمسه النار، كذلك جاء نحو هذا في الرباط في سبيل الله، والمرابطة: هي لزوم الثغور في الأماكن المخوفة التي يتوقع أن يأتي منها العدو، ومعلوم أن الجهاد في سبيل الله مثلما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ذروة سنام الإسلام)، يعني: هو أرفع شيء في الأعمال، وإذا ترك الجهاد في سبيل الله عطل أموراً كثيرة، وأصبح دليلاً على ضعف المسلمين، بل وضعف الإسلام أيضاً كما هو الواقع اليوم، فإن المسلمين صاروا أكلة لأعدائهم، يريدون أن يأخذوا منهم ما أرادوا بدون خوف، ولا يردهم شيء عن ذلك، والسبب في هذا تقاعس المسلمين عما أمرهم الله جل وعلا به، وما حضهم عليه رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد سبق في الدرس الماضي الحديث الذي ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم: أنهم إذا تركوا الجهاد سلط الله عليهم ذلاً لا يرفع عنهم حتى يراجعوا دينهم وبهذا يتبين أن عز المسلمين في الجهاد، وفي التمسك بدينهم، وأنهم إذا أعرضوا عن دينهم ذلوا، ولابد أن يذلوا، والواقع شاهد بهذا، الواقع الذي ينظر إليه الإنسان من أول الإسلام إلى اليوم يشهد بهذا الأمر.
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (إن استأذن لم يؤذن له)، أي: إذا استأذن على الأمراء ونحوهم لم يأذنوا له؛ لأنه لا جاه له عندهم ولا منزلة؛ لأنه ليس من طلابها، وإنما يطلب ما عند الله، لا يقصد بعمله سواه.
قوله: (وإن شفع) بفتح أوله وثانيه، (لم يشفع) بفتح الفاء مشددة يعني: لو ألجأته الحال إلى أن يشفع في أمر يحبه الله ورسوله لم تقبل شفاعته عند الأمراء ونحوهم.
وروى الإمام أحمد ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: (رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره)].
ليس معنى ذلك أنه يفعل ما يشاء، وأنه يقسم على الله ثم يطيعه الله، ولكن هذا عبد مطيع لله جل وعلا ممتثل لأمره، فإذا طلب من الله أعطاه، وطلبه لا يكون من باب الإدلال على الله، ولكنه من باب أنه عبده حقاً، فيطلبه من باب العبودية والذل والتعلق به وحده، فيعطيه مع ذله وخضوعه لربه جل وعلا واستكانته له، وليس الإقسام معناه: أنه الذي يأمر أمراً ملزماً فيعطيه ذلك، كما هو الواقع بين الخلق، هذا ليس المراد، بل المراد أنه مطيع لله، وإذا طلب من ربه شيئاً من باب الجزم والعزم فإنه يطلبه من باب الذل والخضوع والاستكانة لربه جل وعلا، فمعلوم أن الله جل وعلا إذا ذل له عبده وخضع له أعطاه ما يريد ولكن حسب مشيئته، فما أحد يلزم الله جل بشيء، لهذا يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا دعا أحدكم فليعزم المسألة ولا يقل: اللهم اغفر لي إن شئت، فإن الله لا مكره له)، أي: لا أحد يكرهه على شيء، والأمر كله بيده جل وعلا، يتصرف بخلقه كيف يشاء.
قال الشارح رحمه الله: [قال الحافظ: فيه ترك حب الرئاسة والشهرة، وفضل الخمول والتواضع.
انتهى].
هذا العبد الذي ذكر أنه أشعث رأسه إلى آخره، هذا من باب الثناء والمدح، فصار دليلاً على أن هذا أمر مطلوب، ينبغي للإنسان أن يطلب هذه الصفات حتى يتصف بها، فيكون عبداً لله جل وعلا.(97/11)
فضل الحراسة في سبيل الله
قال الشارح رحمه الله: [وروى الإمام أحمد أيضاً عن مصعب بن ثابت أن عبد الله بن الزبير قال: عثمان رضي الله عنه -وهو يخطب على منبره-: إني محدثكم حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يكن يمنعني أن أحدثكم به إلا الضن بكم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (حرس ليلة في سبيل الله أفضل من ألف ليلة يقام ليلها ويصام نهارها)].
هذا الحديث الذي قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: إن رواته ثقات وهذا شيء عجيب! لأن هذا أتى في ليلة القدر، كما قال الله جل وعلا: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:1 - 3]، ألف شهر أي: قرابة ثلاثة وثمانين سنة، أي أن الإنسان يعمل هذه الليلة عملاً صالحاً خير وأكثر من عمر إنسان فيه صلاة وصيام.
قال الشارح رحمه الله: [وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن المبارك قال: قال عبد الله بن محمد، قاضي نصيبين، حدثني محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة أنه أملى عليه عبد الله بن المبارك هذه الأبيات بطرسوس، ووعده الخروج، وأنفذها معه إلى الفضيل بن عياض في سنة سبع وسبعين ومائة قال: يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعب من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب أو كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب ولقد أتانا من مقال نبينا قول صحيح صادق لا يكذب لا يستوي وغبار خيل الله في أنف امرئ ودخان نار تلهب هذا كتاب الله ينطق بيننا ليس الشهيد بميت لا يكذب قال: فلقيت الفضيل بكتابه في المسجد الحرام، فلما قرأ ذرفت عيناه فقال: صدق أبو عبد الرحمن ونصحني، ثم قال: أنت ممن يكتب الحديث؟ قلت: نعم، قال لي: اكتب هذا الحديث: وأملى علي الفضيل بن عياض: حدثنا منصور بن المعتمر عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال: (يا رسول الله! علمني عملاً أنال به ثواب المجاهدين في سبيل الله فقال: هل تستطيع أن تصلي فلا تفتر وتصوم فلا تفطر؟ فقال: يا رسول الله! أنا أضعف من أن أستطيع ذلك، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: فو الذي نفسي بيده لو طوقت ذلك ما بلغت فضل المجاهد في سبيل الله، أما علمت أن فرس المجاهدين ليستن في طوله فيكتب له بذلك حسنات؟).
معروف أن عبد الله بن المبارك رحمه الله من العلماء العاملين المجاهدين الذين كانوا يلازمون الثغور وهذه الأبيات أرسلها إلى الفضيل بن عياض وسماه عابد الحرمين؛ لأن الفضيل كان في مكة، وفيها إشارة إلى أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم منها أنه جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يجتمع غبار في سبيل الله في منخر عبد ودخان جهنم)، يعني: أن الذي يقاتل في سبيل الله ويدخل في أنفه غبار لا يرى النار أبداً، وكذلك هذا الغبار في سبيل الله أطيب من ريح العبير، والعبير هو طيب الطيب، وهذا أيضاً جاء فيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وفيه أيضاً أنه يقول: جاء مع نبينا أن الشهيد حي، يقول الله جل وعلا: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} [البقرة:154] أي: وإن كانت قد فارقت روحه بدنه في القتل، فهو حي حياة الله أعلم ما هي، ولكنها حياة أكمل من حياة الدنيا.(97/12)
المجاهدون أحياء عند ربهم يرزقون
وفي آية أخرى يقول جل وعلا: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169] ومعنى يرزقون: أنهم يتنعمون بالأكل والشرب وغيره، وهذا شأن الحي.
وليست الحياة بالروح كما يتصور بعض الناس: أن حياة الشهيد حياة بالروح؛ لأن الروح لا تموت، فحياة الروح يستوي فيها المؤمن والكافر والبر والفاجر، وروح كل إنسان لا تموت وإنما تفارق البدن، ولابد أن تكون الحياة التي ذكرها الله جل وعلا للشهداء غير حياة الروح، ولهذا يبقى بدن الشهيد طرياً ولا تأكله الأرض ولا يكون كغيره، وهذا قد شوهد كثيراً، ومن المعروف أن أرض المدينة ليست كالأراضي الأخرى؛ لأنها سبخة وتأكل ما وضع فيها بسرعة، ومع ذلك فإن شهداء أحد وجدوا بعد أربعين سنة أو بعد ستين سنة في مناسبات معروفة، ومرة أخرج السيل بعضهم، ومرة حُفر ليزالوا عن طريق عين أجريت من هناك فوجدوا كما هم ودماؤهم طرية كما هي، وهذا من معاني كونهم أحياء، وليست الحياة على البدن فقط، وأنه لا تأكله الأرض، بل هي أعم من هذا، فهم كما قال جل وعلا: {عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169].
وقد ذكر العلماء أشياء عجيبة غريبة من هذا القبيل.
والشيخ العالم المجاهد ابن النحاس رحمه الله في كتابه مصارع العشاق في ذكره للجهاد في سبيل الله، ذكر قصصاً من هذا القبيل فيها مشاهدة لعلماء كبار مما يدل على أن حياة الشهيد محسوسة وليست معنوية.(97/13)
تمني الشهداء العودة إلى الدنيا
ثم إنه قد علم أن الجهاد في سبيل الله هو ذروة سنام الإسلام كما في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره من حديث معاذ بن جبل لما قال: (ألا أدلك على رأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله)، وذروة سنام الشيء: أعلاه.
وليس هناك ميت من المؤمنين المتقين يموت ويفارق الدنيا ويرى ما أعد الله جل وعلا له من الفضل والسعادة والخير، فيتمنى العودة إلى الدنيا إلا الشهيد، لما يرى من فضل ما أعد الله له، فإنه يتمنى أن يعود إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى! وقد جاء في الصحيح في قصة عبد الله بن حرام والد جابر بن عبد الله: (لما قتل في أحد، يقول جابر: جيء به -يعني: والده- وهو ميت، يقول: فصرت أبكي، فينهاني الناس ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينهاني، ثم بعد ذلك قال له: إن الله جل وعلا قد كلم أباك كفاحاً، فقال له: يا عبدي تمن، فقال: أتمنى أن تعيدني إلى الحياة مرة أخرى فأقتل في سبيلك، قال الله جل وعلا: إني كتبت: ألا يعودوا إليها مرة أخرى).
وهكذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لوددت أني أقتل في سبيل الله، ثم أحيا ثم أقتل في سبيل الله، ثم أحيا ثم أقتل في سبيل الله)، وهذا الذي يوده الرسول صلى الله عليه وسلم هو أعلى ما يمكن أن يطلب في مرضاة الله جل وعلا، والآثار والأحاديث في هذا واضحة وجلية وظاهرة.
وكذلك نوه الله جل وعلا به في كتابه، فإنه أخبر أنه: {اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ} [التوبة:111] ثم يقول بعد هذا: {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ} [التوبة:111]، هل يوجد أحد أوفى من الله جل وعلا؟! ثم يقول: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ} [التوبة:111]، فهذا عقد مبايعة؛ لأن الإنسان المؤمن يبذل نفسه وماله في سبيل الله، وهذه المبايعة وجدت في أفضل كتب الله التي أنزلها: التوراة والإنجيل والقرآن، وعقد المبايعة وقع على يدي رسل الله جل وعلا جبريل ومحمد وموسى وعيسى، فأكد هذا وبينه كأنه حاصل وموجود؛ لأنه موثوق به تمام الثقة.
وجاء أيضاً في الحديث الصحيح: (أن الصحابة تذاكروا فيما بينهم: أي الأعمال أفضل؟ فانتهى الأمر إلى أن سألوا النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله جل وعلا في ذلك قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} [الصف:10 - 11]) إلى آخر الآيات، فهذا فصل للنزاع،
و
الجواب
أن هذا هو أفضل الأعمال.
ولهذا أملى الفضيل بن عياض على الذي جاءه بكتاب أخيه عبد الله بن المبارك بعدما قال إنه نصح جزاه الله خيراً؛ لأنه في هذه الأبيات يحضه على العمل الفاضل، وهو الجهاد في سبيل الله، ويقول: إن هذا لا يستوي مع عبادتك، وإن كنت تبكي وتسيل الدموع على خديك من خشية الله جل وعلا، فغبار في سبيل الله أفضل من هذا، فلهذا قال: نصحني جزاه الله خيراً، ثم أملى عليه الحديث الذي رواه، وفيه: أن المجاهد في سبيل الله لا يعدل فضله عمل من الأعمال، وأنه سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن عمل يعدل الجهاد في سبيل؟ فقال: لا أجده، والشيء الذي لا يجده الرسول صلى الله عليه وسلم لا وجود له، ثم قال له: هل تستطيع أن تصوم النهار ولا تفطر -يعني: جميع حياتك- وتقوم الليل ولا تنام -يعني: صلاة التهجد طوال حياتك- قال: لا يستطيع ذلك أحد، قال: إن المجاهد في سبيل الله كالصائم الذي لا يفطر والقائم الذي لا يفتر.
ثم ذكر أنه تكتب له الأعمال التي لا يعملها هو، إذا ربط فرسه بحبل طوله، الطول: هو الحبل الذي يوضع في يد الفرس، ويطول له حتى إنه يمتد فيرعى من حول مربطه الذي يوضع فيه الحبل، هذا يسمى طول الفرس، وإذا مشى فيه فإنه يكتب له حسنات، وإذا أكل يكتب له حسنات، وإذا بال يكتب له حسنات، وإذا راث يكتب له حسنات، يكتب ذلك للمجاهد الذي أمسك هذا الفرس في سبيل الله، وكذلك لو رجع ووضعه في بيته فإنه تكتب له الأجور دائماً ما دام أعده للجهاد في سبيل الله، فتكتب له خطواته وما يأكله وما يخلفه.
كذلك الشيء الذي يعده مثل العدة التي يعدها، فقد جاء: أن السهم يدخل فيه الجنة ثلاثة: صانعه ومعده محتسباً ذلك في سبيل الله ولجهاد أعداء الله، والذي يناوله من يرمي به، والرامي به، ثلاثة يدخلون الجنة بسهم، فكيف الذي يراق دمه ويكون مقبلاً غير مدبر؟! ومن الخصائص التي يختص بها الشهيد في سبيل الله أنه لا يجد ألماً للموت إلا مثل عضة القراد الذي يكون في الدابة، وأنه يأمن من فتنة القبر، وأنه يزوج سبعين من الحور العين، وغير ذلك مما ذكر في الأحاديث، ويكفي في هذا ما قاله الله جل وعلا: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169].(97/14)
مسائل باب: من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيه مسائل: الأولى: إرادة الإنسان الدنيا بعمل الآخرة].
عمل الإنسان الذي يطلب به الدرجات عند الله إذا أراد به الدنيا فإنه لا خلاص له، ويكون داخلاً في قوله جل وعلا: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:16].
والإرادة هنا: المقصود بها الإرادة التي هي عن عمل القلب، ومعلوم أن عمل القلب وإرادته يتبعها عمل الجوارح، ولا يمكن أن يوجد عمل للجارحة إلا وقد سبقته إرادة القلب فهو الباعث إلى الأعمال، ويعبر بالإرادة عن العمل كله، يعني: أن العمل صدر مراداً ومنوياً به هذا الشيء، فإذا صدر العمل من إنسان -مما يتقرب به إلى الله كطلب العلم والحج والصدقة والجهاد في سبيل الله وما أشبه ذلك- لا يريد به إلا تحصيل الدنيا ولا يرغب في الآخرة، وإنما رغبته في الدنيا فهو المقصود بهذه الآية.
[الثانية: تفسير آية هود.
الثالثة: تسمية الإنسان المسلم عبد الدينار والدرهم والخميصة].
لابد أن يفهم كونه يسمى عبداً للدينار والدرهم والخميصة والخميلة، وعرفنا أن الخميصة كساء، يقول الحافظ ابن حجر: الخميلة كساء معلم فيه أعلام، والأعلام هي النقوش والأهداب التي تكون في الثوب للزينة، أما الخميصة: فهي الكساء المربع، ويشبه الشيء الذي يلتف به كالرداء وما أشبه ذلك، فكيف يكون العاقل عبداً لهذا؟! أما الدينار والدرهم فمعروفان، ولكن ليس المقصود أنه يعمل العمل ويطلب الشيء من الخميلة والخميصة أو الدرهم أو الدينار، ولكن المقصود أنه يريد بعمله الدنيا، ولهذا سمي عبداً لها؛ لأنه جعل عمله من أجلها، فهو يخدم المال يخدم الدينار والدرهم يعمل على تحصيله ويتعب نفسه في ذلك، وهمه جمعه وحياطته وحيازته، وإذا حصل له اجتهد في العمل ورضي، وإن لم يحصل له ذلك ترك العمل وسخط؛ لأنه ليس له مقصد إلا هذا فيكون عبداً له، ويكون مثلما ذكر في الآية: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [هود:15].
أما كون المسلم يحب المال ويجمع المال فلا ينافي أنه مسلم ومؤمن؛ لأن هذا شيء لابد منه ولكن لا يجوز أن يكون عمله من أجل ذلك، بل يكون همه وكدحه هو الحصول على رضا ربه، وإذا ذهبت الدنيا فلا يأسف عليها ولا تهمه كثيراً، فيقدم الدين على الدنيا، أما إذا قدم دنياه على دينه فيكون عابداً للدنيا.
ومعروف أن العبادة يجب أن تكون لله ولا يجوز أن تكون لأحد غير الله جل وعلا، والعبادة قد يقصد بها شيء محسوس مشاهد كما هو معروف عند الكفار والمشركين: منهم من يعبد الأصنام، ومنهم من يعبد الشجر والحجر، ومنهم من يعبد القبور كما هو معلوم، وقد تكون العبادة متجهة لشيء معنوي من رئاسة ومنصب ووظيفة أو مال، وكثير من الخلق اليوم يعبدون بطونهم وفروجهم نسأل الله العافية؛ لأنهم يعملون على تحصيل شهواتهم فقط، فهذه أهم ما لديهم، وكذلك كثير من الناس يعبد حبه وإراداته وشهواته كما قال الله جل وعلا: {أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23]، يقول العلماء: من اتخذ إلهه هواه معناه: الذي إذا اشتهى شيئاً فعله بدون مراقبة لله جل وعلا أو خوف منه، أو يرجو ثوابه، بل يقدم هوى نفسه.
فالمسلم ليس هذا شأنه وإن حصل على الدنيا وطلبها، ولكن طلبه إياها على وفق أمر الله جل وعلا، فلا يطلبها بفعل محرم، ولا يطلبها من الطريق الذي حرمه الله جل وعلا، ولكنه يطلبها بالطرق التي أباحها الله جل وعلا وأمر بها.
ثم هو بالمال يعبد ربه، فيؤدي زكاته، وكذلك يستعين به على عبادة الله، وكذلك يبذله فيما وجب عليه، وكذلك يتقرب به أو بما يسر الله منه في طاعة الله جل وعلا، وترك المال والعزوف عنه ليس من شأن المسلمين وليس من أمر الدين الإسلامي، بل الإسلام يحث على تحصيل المال، ولكن من الطرق الصحيحة المشروعة.
ولهذا إذا نظر الإنسان في كتاب الله يجد أن الله جلا وعلا يقدم الجهاد في سبيل الله بالمال على النفس، لا تجد آية في كتاب الله من الآيات التي فيها الأمر بالجهاد في سبيل الله إلا ويذكر الجهاد بالمال قبل الجهاد بالنفس، مما يدل على أنه لابد من المال، ولكن يجب أن يكون طيباً حتى يكون مقبولاً ونافعاً، أما إذا كان من الطرق التي حرمها الله، فإنه إن أنفق منه لم يقبل، وإن أكل منه أفسد عليه قلبه، وإن خلفه فتركه خلفه صار عذاباً وحساباً عليه، فلابد أن يكون المسلم متقيداً بأمر الله جل وعلا في طلب المال وفي غيره، فإنه في عبادة إذا كان متقيداً بالشرع، أما الزهد في المال والإعراض عنه نهائياً فإن هذا ليس مطلوباً؛ لأن الإنسان لابد له من شيء يقتات به، ولابد له من شيء يتمتع به، وكونه يستغني بعمله وبما يكسبه لنفسه أمر مطلوب شرعاً، حتى يستغني عما في أيدي الناس، وإذا فعل ذلك قصداً لكف نفسه وإغنائها عن الخلق والقيام على من أوجب الله عليه القيام عليهم، كان في عبادة فكيف إذا بذله في الجهاد في سبيل الله؟! ولهذا السبب ذهب فقراء المهاجرين إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا:: (يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويجاهدون كما نجاهد، ولكنهم ينفقون وليس عندنا شيء ننفقه، فقال صلى الله عليه وسلم: ألا أدلكم على شيء تسبقون به من لم يعمل به وتلحقون من سبقكم به، تكبرون الله وتسبحونه وتحمدونه دبر كل صلاة: ثلاثاً وثلاثين)، يعني: ثلاثاً وثلاثين تكبيرة، وثلاثاً وثلاثين تسبيحة، وثلاثاً وثلاثين تحميدة، فذهبوا بهذا المكسب، (فسمع إخوانهم من أهل الدثور فقالوا مثلما يقولون، فرجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله! إخواننا سمعوا ذلك فقالوا مثلنا)، يعني: فهم يحصلون على الأجر مثلما نحصل عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء)، يعني: أن الصدقة وبذل المال تفضل الله به على الأغنياء وبذلك فضلوا الفقراء، وعلى هذا يكون أهل الدثور وأهل الأموال أفضل من الفقراء في تحصيل الأعمال إذا قصدوا بها وجه الله واتبعوا فيها الكتاب والسنة.
قال المصنف رحمه الله: [الرابعة: تفسير ذلك بأنه إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط.
الخامسة: قوله: (تعس وانتكس).
السادسة: قوله: (وإذا شيك فلا انتقش).
قوله: (تعس وانتكس)، يجوز أن يكون خبراً، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم يخبر عن حالته أنه له التعاسة والشقاء، وأنه إذا وقع في شدة لا يستطيع أن يتخلص منها، فهو يهلك عند أول أمر يقع فيه من الشدائد، ويجوز أن يكون دعاء من الرسول صلى الله عليه وسلم عليه بالتعاسة والشقاوة وعدم الخروج من الورطات التي يقع فيها؛ لأنه عمل أعمالاً لم يقصد بها وجه الله، بل خالف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فاستحق الدعاء عليه.
[السابعة: الثناء على المجاهد الموصوف بتلك الصفات].
يشير إلى تلك الصفات: أشعث رأسه، مغبرة قدماه، آخذ عنان فرسه في سبيل الله، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، يعني: أنه قائم أتم القيام في أمر الله وفي محاربة أعداء الله وإعلاء كلمة الله يطلب بذلك مرضاة الله جل وعلا، ولا يهمه كونه إذا شفع لم يشفع وإذا طلب شيئاً لا يناله ولا يعطاه من المسئولين؛ لأن هذا ليس مقصوده، إنما مقصوده مرضاة الله ولهذا قال: (إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع)، يعني: أن عمله ليس للناس وليس للدنيا، ومعروف أن غالب الناس ينظرون إلى الذي يكون بيده شيء من أمور الدنيا ومن المناصب وغيرها أكثر من غيره، أما هذا فعدل عن ذلك نهائياً، فآثر الخمول وعدم الظهور على كونه يظهر ويبرز ويشار إليه؛ لأنه لا يريد ما في أيدي الناس، وإنما يريد ما عند الله جل وعلا فآثر ذلك، فهذا هو الذي يستحق الثناء؛ لما قال له صلى الله عليه وسلم: (طوبى له)، وطوبى: تعني السعادة الطيبة والحياة الطيبة أو الجنة بما فيها.(97/15)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [98]
إن الطاعة المطلقة لا تكون إلا لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو معنى الإسلام، فلا يجوز أن تصرف هذه الطاعة المطلقة لأحد غير الله ورسوله؛ لأن الطاعة المطلقة هي العبادة، وعليه؛ فإن طاعة العلماء والأمراء لا تجوز إلا تبعاً لطاعة الله ورسوله، وإن أطيع العلماء والأمراء طاعة مطلقة في تحريم الحلال وتحليل الحرام فقد اتخذوا أرباباً من دون الله جل وعلا.(98/1)
طاعة العلماء في تحليل الحرام وتحريم الحلال شرك أكبر
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله فقد اتخذهم أرباباً من دون الله].
من أطاع العلماء والأمراء في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله، فقد اتخذهم أرباباً من دون الله؛ لأن الله جل وعلا يقول: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} [التوبة:31]، وهذه الآية يقصد بها اليهود والنصارى.
والأحبار هم العلماء، والرهبان هم العباد، وأما المسيح عليه السلام فهو رسول الله الذي جاء بالإنجيل وجاء بالرسالة التي فيها التخفيف على بني إسرائيل، ووضع كثيراً من الآصار التي كانت عليهم، وهو من أولي العزم، فاتخذوه إلهاً مع الله؛ لأنه -كما هو معلوم- آية ظاهرة من آيات الله جل وعلا، حيث وجد من أنثى لم يتصل بها ذكر، وإنما خلقه الله جل وعلا من مريم بواسطة نفخة الملك الذي أرسل إليها وهو جبريل عليه السلام، كما ذكر تفصيل ذلك ربنا جل وعلا في سورة مريم وفي غيرها، فلما كان بهذه المثابة زين الشيطان للناس أنه الله أو ابن الله أو أنه ثالث ثلاثة، يعني: أن الآلهة ثلاثة: الله ومريم وعيسى، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً.
فالمقصود هنا كونه قرن اتباع الأحبار والرهبان مع العلم بمخالفتهم لأمر الله؛ بعبادة النصارى لعيسى فإنهم عبدوه عبادة واضحة ظاهرة.
فكونه قرن الرهبان والأحبار مع عيسى يدلنا على أنه لا فرق بين أن يطيع الإنسان مخلوقاً في تحليل الحرام أو تحريم الحلال، وبين أن يعبده عبادة صريحة واضحة، وقد جاء حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أوضح هذا المعنى تمام الإيضاح؛ فإنه صلى الله عليه وسلم: (لما قدم عدي بن حاتم وهو نصراني من نصارى العرب كما هو معروف وهو ابن حاتم الجواد المعروف المشهور في أشعار العرب وكلامهم، ولكنه لما جاءت سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بلاد طيء وقد أعد نجائب ليهرب عليها إلى الشام، فأخذت خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخته إلى آخر القصة)، ولكنه جاء بسبب كتابة أخته له: فإنها لما جاءت المدينة في الأسرى، كان إذا مر عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم تقول له: من علي من الله عليك، فإني كبيرة لا أستطيع الخدمة ولا وافد لي ولا فادي لي، فقد ذهب الوافد وقل الرافد، فقال لها: ومن الوافد؟ قالت: عدي بن حاتم -أخوها- فقال: ذاك الذي هرب من الله ومن رسوله.
ثم أعادت عليه الكلام مرة أخرى فقال لها صلى الله عليه وسلم: إذا جاء وفد قومك فأعلمين، فجاء وفد قومها، فمن عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لها علي بن أبي طالب رضي الله عنه: اسأليه الحملان، فسألته فأعطاها ما سألته.
فلما ذهبت كتبت إلى أخيها تؤنبه تقول: كيف تركت عوراتك وهربت؟! ليس هذا فعل أبيك ولا فعل من يهمه أمر أهله؟ ثم قالت: ائت إليه فهو والله خير من أبيك، وهو يعطي العطاء الذي لا يستطيع أبوك أن يعطيه، ائت إليه وضع يدك في يده فلن تجد إلا خيراً وحسناً، فجاء ممتثلاً لأمرها، ودخل على النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد وهو لا يعرفه، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يعرفه، وكان صلى الله عليه وسلم إذا جلس مع أصحابه لا يتميز عنهم، فليس له مجلس مرتفع لا كرسي ولا غيره، وإنما يجلس معهم في مجلسهم فإذا جاء الغريب لا يعرفه.
فوقف فقال: أيكم محمد صلى الله عليه وسلم؟! فقال من عنده للرسول صلى الله عليه وسلم: هذا عدي بن حاتم، وكان صلى الله عليه وسلم يكرم رؤساء الناس وكبارهم، فقام معه صلى الله عليه وسلم وذهب به إلى بيته، يقول عدي: (فصار يتلو هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة:31]، فقلت: يا رسول الله: إننا لم نعبدهم، قال: بلى، ألم يحللوا لكم الحرام فتتبعوهم؟ ويحرموا عليكم الحلال فتتبعوهم؟ فقلت: بلى، قال: تلك عبادتهم)، هذا أمر واضح جلي؛ لأن طاعة المخلوق في معصية الله جل وعلا عبادة له.(98/2)
الطاعة المطلقة لا يجوز أن تكون إلا لله
ولما كان هذا الكتاب في باب التوحيد الذي يجب على العبد أن يكون عارفاً به وعاملاً به، ولا يجوز أن يجهل مسائل التوحيد أو يترك العمل بها؛ لأنه من أهم الأمور؛ نبه المصنف رحمه الله في هذا الباب على أن الطاعة المطلقة يجب أن تكون لله؛ لأنها هي العبادة، وقد فسر العلماء العبادة بأنها: الطاعة بإتباع الأمر واجتناب النهي.
فبين في هذا أن الطاعة لا يجوز أن تكون للمخلوق إلا إذا كانت تبعاً لطاعة الله جل وعلا، أما قول الله جل وعلا: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59]، فقد فسر العلماء (أولي الأمر): بأنهم العلماء، وبعضهم يقول: الأمراء، وبين ابن القيم رحمه الله أن الأمراء والعلماء كليهما مقصود في الآية، فالعلماء يبينون أمر الله ويوضحونه والأمراء ينفذون أمر الله، فالله أمر بطاعتهم: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59]، فأولو الأمر هم العلماء والأمراء.
وإنما يطاعون إذا كانت طاعتهم تبعاً لطاعة الله، وقد وردت أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها الحث على طاعة الأمراء وولاة الأمر منها قوله صلى الله عليه وسلم: (أطيعوا ذوي أمركم وإن تأمر عليكم عبد حبشي مقطع الأطراف يقودكم بكتاب الله فأطيعوه)، وإن جاء أن الأمراء من قريش، إلا أن هذا إذا لم يحصل ذلك.
وقال صلى الله عليه وسلم: (من أطاع الأمير فقد أطاعني ومن عصى الأمير فقد عصاني ومن عصاني فقد عصى الله).(98/3)
إنما الطاعة بالمعروف
وبين أن الطاعة بالمعروف فقال: (لا طاعة إلا بالمعروف)، والمعروف: هو الدين الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم على سرية من السرايا أميراً وحث على طاعته، فقال: (من أطاعه فقد أطاعني ومن عصاه فقد عصاني) ثم إنه في أثناء السفر غضب الأمير على من معه، فقال لهم: اجمعوا لي حطباً فجمعوا الحطب، فقال: أججوا فيه ناراً، فأججوا النار فقال: ألم يأمركم الرسول صلى الله عليه وسلم بطاعتي؟ قالوا: بلى، قال: ادخلوا في النار، قالوا: لا ندخل في النار، من النار فررنا! فبقوا هكذا حتى طفئت النار وذهب غضبه، ثم لما رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالوا له ذلك، فقال: لو دخلتموها ما خرجتم منها أبداً، إنما الطاعة بالمعروف، لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق}.
إذاً: فهذه الآية غير مخالفة للآية التي ترجم بها المؤلف رحمه الله، يعني: أن الطاعة التي أمر بها لذوي الأمر إنما هي في طاعة الله جل وعلا، أما إذا كانت في معصية الله فلا يطاع.
إذاً: فكل مخلوق سواء كان والدك أو من هو دونه إذا أطعته في معصية الله فأنت عاصٍ وقد اتخذته إلهاً من دون الله، وإن لم تسجد له وتدعوه؛ لأن من خصائص الله جل وعلا التي لا يجوز أن ينازع فيها: الأمر والنهي والتحليل والتحريم، ولذلك صار من فعل ذلك واتبع عليه صار رباً، وهذا هو سر التعبير بالأرباب في الآية: اتخذوهم أرباباً؛ لأن الرب هو الذي يأمر وينهى وهو الذي يحلل ويحرم، ولا يجوز لمخلوق أن يحلل شيئاً أو يحرم شيئاً فإذا وقع ذلك من مخلوق ثم اتبع عليه فقد اتخذ رباً من دون الله جل وعلا.
ومعلوم أن هذا الأمر مناف للتوحيد ولذلك أراد المؤلف رحمه الله أن يبين هذا الأمر حتى يكون الإنسان على بينه ولا يقع في الخطأ أو في مناقضة التوحيد.(98/4)
لا يقدم قول أحد على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون: قال أبو بكر وعمر!)] قال ابن عباس رضي الله عنهما هذا الكلام بمناسبة أنه كان يأمر بالمتعة -متعة الحج- ويقول إنها أفضل؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بها آخر الأمر وكرر ذلك وأكده وسئل عن ذلك فقيل له: (أهذا لنا خاصة؟ فقال: بل للناس عامة) وكان أبو بكر رضي الله عنه وعمر رضي الله عنه يودان أن الإنسان يأتي بالحج مفرداً وبالعمرة مفردة ويقولان: حتى لا يخلو البيت من طائف وزائر؛ لأنه إذا اجتمعت العمرة والحج في سفرة واحدة قل رواد البيت القاصدين له، مع أنه جاء في قول الله جل وعلا: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196]: أن إتمام الحج وإتمام العمرة أن يأتي بهما في سفرة واحدة من الميقات، هكذا فسروا الآية.
فهذه وجهة نظر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في النهي عن المتعة، وليس نهياً من باب المنع والتحريم، بل يقولان: هذا أفضل، حتى لا يبقى البيت خالياً من القاصدين والزائرين والطائفين، فكان ابن عباس يخالف ذلك وينهى عن هذا ويقول: بل يؤتى بالحج متمتعاً يعني: بالحج والعمرة معاً، فقالوا له: إنك تأمر بشيء ينهى عنه أبو بكر وعمر فقال: يوشك -يعني: يقرب ويسرع- أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول لكم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون قال أبو بكر وعمر؟! فهذا من فقهه رحمه الله ورضي الله عنه وتعظيم السنة.
ومعلوم أنه لا أحد يوازى بـ أبي بكر وعمر من الأمة مع أن قصدهما معروف، ولم ينهيا عن التمتع نهي تحريم، وإنما للفضل والاختيار، ومع ذلك يقول: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء؛ لأنكم فعلتم فعلاً أو قلتم قولاً تستحقون به نزول الحجارة وهو: أني أقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فتعارضون قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول أبي بكر وعمر! فدل هذا على أنه لا يجوز أن يعارض قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قول الله جل وعلا بقول أحد من الناس مهما كان، وهذا هو الحق، وقد دل كتاب الله وسيرة رسوله صلى الله عليه وسلم وسنته على أنه لا يجوز أن يعارض شيء من أمر الله أو أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بقول أحد من الناس.(98/5)
باب: في طاعة العلماء والأمراء ومتى تكون شركاً
قال الشارح رحمه الله تعالى: [باب: من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله فقد اتخذهم أرباباً من دون الله، لقول الله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31]، وتقدم تفسير هذا في أصل المصنف رحمه الله عند ذكر حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه].
لما كانت الطاعة الخاصة هي العبادة، والمقصود بالطاعة الخاصة: الطاعة في التحليل والتحريم؛ لأن هذه من خصائص الله جل وعلا، وهي في الواقع أن يأمر بالشيء فيطاع، وينهى عن الشيء فيمتنع منه، فكان الذي يشاركه في هذا ويتبع عليه بمنزلة الرب، ولذلك ذكر الرب هنا؛ لأن الرب جل وعلا هو المالك المتصرف الذي يملك كل شيء ويتصرف فيه، ومن تصرفه الأمر والنهي، فيشرع لعباده شرعاً ويأمرهم أن يفعلوه، ويمنعهم من موانع ويعينها لئلا يقربوها.
ولا يجوز أن يشارك الرب جل وعلا في هذا أحد من الخلق فإن شاركه أحد من خلقه فقد نازعه في ربوبيته وملكه، ثم الذي يتبع هذا المخلوق في التحليل والتحريم والتشريع يكون متخذاً لهذا المخلوق رباً من دون الله, ومعلوم أن الحكمة من خلق الخلق هي طاعة الله جل وعلا، كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله جل وعلا: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، قال: (إلا لآمرهم وأنهاهم)، فيكون الأمر والنهي في التشريع من خصائص الله جل وعلا، ولهذا نص المؤلف على هذا الأمر لأن تركه مضاد للتوحيد، أي أن من أطاع غير الله في التحليل والتحريم فقد وقع في الشرك الأكبر، وقد ذكر الله جل وعلا في آيات كثيرة حال هذا النوع يوم القيامة فقال: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنْ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً} [الأحزاب:67 - 68]، ولكن هذا لا يفيد في شيء؛ لأن التابع والمتبوع يجتمعان في جهنم في عذاب النار، ويا ليت وما أشبه ذلك لا تفيد شيئاً في ذلك اليوم.
والمقصود: أن المقلد في هذا لا ينفعه تقليده ولو اعتذر بالجهل أو اعتذر بالغرور، ولذلك فالواجب على العبد أن يخلص نفسه.
وقلنا: في الطاعة الخاصة؛ لأن طاعة المخلوق إذا لم تكن في معصية الخالق فإنها غير ممنوعة.
والمعصية إما أن تكون في تحليل الحرام أو تحريم الحلال وليس شرطاً أن ينص على هذا بقوله: هذا حلال وهذا حرام، ولكن إذا كان أمره مخالفاً لأمر الله ومصادماً له فهذا هو المحذور والذي لا يجوز أن يقع من الإنسان، وهو الذي يكون فيه الشرك أكبر، ولهذا أمر الله جل وعلا بطاعة أولي الأمر تبعاً لطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولذلك فإن الولاة والعلماء يطاعون إذا أمروا بطاعة الله، أما إذا أمروا بمعصية فلا طاعة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إنما الطاعة في المعروف)، وقال: (لا طاعة لمخلوق في معصية الله)، وهذا عام يشمل الوالد ويشمل من هو أبعد منه، فكل مخلوق لا يطاع في معصية الله جل وعلا فإن أطاعه وهو يعلم فقد اتخذه رباً، أما إذا كان جاهلاً ولا يعرف بل يتصور أن طاعته ليست مخالفة لأمر الله فإذا كان هذا الأمر من الأمور الواضحة الجلية فهو داخل فيمن يطيع وهو يعلم، أما إذا كان فيه خفاء فأمره إلى الله وله حكم أهل الجرائم، ولكنه لا يكون كافراً.
ثم استدل على هذه المسألة بأدلة كعادته التي سار عليها في هذا الكتاب، أنه يعتمد على آيات من كتاب الله ثم يأتي بأحاديث تكون موضحة لهذه الآيات، وربما تكون بعض هذه الأحاديث التي يأتي بها فيها شيء من الضعف؛ لأنه ليس العمدة عليها، وإنما العمدة على الآيات التي يذكرها، وهذه تأتي من باب البيان والتفسير، وهذه طريقة العلماء.(98/6)
وجوب تقديم الأدلة على الآراء والاجتهادات
فبدأ أولاً بقول ابن عباس، وهذا ثابت عن ابن عباس في الصحيحين وغيرهما، أنه قال: (يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء)، ومعنى (يوشك) يقرب ويسرع، يعني: أنكم تستحقون أن ترموا بحجارة من السماء، وهذا يقوله عن محض الإيمان الذي في قلبه وتعظيماً لله جل وعلا وتقديراً له، حيث أمر الناس باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يجوز أن يعتل بقول فلان وفلان ويترك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والسبب في هذا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر الناس بالتمتع في الحج، يعني: أن الذي أحرم بالحج مفرداً أو أحرم بالعمرة والحج معاً لما وصل إلى مكة قال لهم: (طوفوا بالبيت واسعوا بين الصفا والمروة ثم حلوا)، وكان هذا الأمر مستعظماً في الجاهلية، ويرون أن الإتيان بالعمرة في أيام الحج من أفجر الفجور! فأراد صلى الله عليه وسلم أن يبطل هذا الاعتقاد وهذه العادة السيئة بأمره الذي أمرهم به، وأكد ذلك عليهم تأكيداً مكرراً ومبالغاً فيه، حتى إنهم راجعوه وقالوا له: ما بقي بيننا وبين يوم عرفة إلا أربعة أيام أو ثلاثة أيام، فقال: (أقول لكم فافعلوا ما أقول لكم)، فامتثلوا ذلك.
وقد فهم كبار الصحابة من هذا أن مقصوده صلى الله عليه وسلم الرفق بأمته وأن يأتوا بالنسكين في سفرة واحدة وفي عام واحد، ورأوا أن الفضل أن يكرر الإنسان الإتيان للبيت، وقد صرح بذلك أبو بكر وعمر رضي الله عنهما حيث قالا: نكره أن يخلو البيت من طائف فيه وقاصد له، فكانا يأمران أو يفعلان الإفراد في الحج، فحدث في ذلك إشكال على بعض الناس، فلما سئل ابن عباس أخبرهم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له السائل: أبو بكر وعمر ينهيان عن المتعة، فقال هذا القول: (يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول لكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون لي: قال أبو بكر وعمر!) يعني: أنكم تعارضون قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول أبي بكر وعمر، فبذلك تستحقون الرجم من السماء، مع أن قول أبي بكر وعمر خرج عن اجتهاد ودين وقصدا به عبادة الله، وليس فيه مصلحة لهما، فكيف بالذي إذا قيل له: قال الله وقال رسوله، قال: ولكن فلاناً يقول: كذا وكذا! ولكن مذهب فلان كذا وكذا ولكن رأي فلان كذا وكذا يخشى على هذا أن يكون قد نزع منه الإيمان نهائياً يخشى أن يكون خرج من الدين الإسلامي؛ لأنه جعل فلاناً بمنزلة الرسول صلى الله عليه وسلم أو حاكماً على قول الرسول صلى الله عليه وسلم.
وبهذا يتبين أن التقليد في الأمر الواضح لا يجوز، أما الإنسان الجاهل فعليه أن يقلد العلماء الموثوق بعلمهم وتقواهم، فإن هذا هو الذي يستطيعه، والله جل وعلا يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، فهذه وظيفتهم، فإذا لم يعلم سأل أهل الذكر وأخذ بقولهم، هذا هو الواجب عليه بنص كلام الله جل وعلا، ولكن يجب أن يكون المسئول من أهل الذكر وأهل الذكر: هم الذين يعلمون ويعملون بعلمهم ويتقون الله جل وعلا، وليس أهل الذكر الذين يجانبون الحق وإن كان عندهم علم.(98/7)
التفسير النبوي لقوله تعالى: (اتخذوا أحبارهم)
ثم ذكر قول الله جل وعلا الذي هو الأصل في هذا ثم فسرها بالتفسير الواضح (وهو التفسير النبوي) كما جاء في حديث عدي بن حاتم: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ} [التوبة:31] إلى آخره.
وكان عدي بن حاتم نصرانياً من نصارى العرب، وعدي هذا هو ابن حاتم الطائي الجواد المشهور الذي يضرب بجوده المثل، ولكن حاتماً مات في الجاهلية كافراً فلا ينفعه جوده ولا ينفعه كرمه؛ لأنه لم يكن مسلماً، وكان عدي كريماً مثل أبيه ورث منه ذلك، ولكنه كان متنصراً وكان في طيء، أي: في حائل، وكان له مال وغلمان، وكان يحذر من دعوة الرسول، فكان يقول لغلمانه إذا رأيتم خيل محمد فأخبروني، وقد أعد له نجائب فأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم سرية بقيادة علي بن أبي طالب إلى طي فوصلوا إليه فجاء أحد غلمانه وقال: ما كنت صانعاً إذا جاءتك خيل محمد؟ فركب مطاياه وذهب إلى الشام إلى النصارى إلى أهل دينه، وترك أهله وماله فاراً بدينه كما زعم، ولكنه يفر إلى الشيطان، إلا أن الله يمن على من يشاء، فأخذت الخيل أخته مع السبايا التي سبيت، وأخته كانت كبيرة في السن.
فلما وصلت إلى المدينة وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر السبايا قالت له: (مُنَّ عليَّ من الله عليك فقد ذهب الوافد وقل الرافد)، يعني: ليس لها شيء تفدى به وليس لها من يطالب بها، فقال لها: (ومن الوافد؟ قالت: عدي بن حاتم قال: ذاك الذي فر من الله ورسوله)، ثم ذهب وتركها، فلما جاء مرة أخرى أعادت عليه الكلام فقال لها: إذا جاء ركب من قومك فأعلميني، فقال لها علي بن أبي طالب: اسأليه الركوب والمركوب يعني: اسأليه شيئاً تتبلغي به، فصارت تسأل، فلما جاء الركب أخبرته وسألته أن يعطيها ما تتبلغ به فأعطاها ما سألت صلى الله عليه وسلم ومن عليها وذهبت إلى بلادها، فلما وصلت إلى بلادها كتبت إلى أخيها تؤنبه تقول: والله إنه أكرم من أبيك فأت إليه.
فجاء إلى المدينة والرسول صلى الله عليه وسلم ما كان يعرفه، فدخل عليه وهو جالس في المسجد مع أصحابه صلى الله عليه وسلم، وكان الرجل الغريب إذا جاء إليه لا يميزه من أصحابه؛ لأن مجلسه بينهم وليس له مجلس مرتفع عليهم، بل يجلس معهم كأحدهم ولا يدع أحداً يقف، بل إذا جاء وهم جلوس لا يدع أحداً يقوم وينهى عن ذلك أشد النهي، ويقول: (من أحب أن يتمثل له الناس قياماً فليتبوأ مقعده من النار)، كان الرجل إذا جاء يقول: أين محمد بن عبد الله؟ أو أين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيشيرون إليه.
فلما جاء كان في أصحابه من يعرف عدي فقال له: يا سول الله! هذا عدي بن حاتم، وكان صلوات الله وسلامه عليه يكرم كرماء الناس، فلما قالوا له قام معه إلى بيته، وقال: هلم، وكان في رقبة عدي صليب من ذهب، فقال له صلى الله عليه وسلم: ألق هذا الوثن عنك، ثم قال له: أتفر أن يقال: لا إله إلا الله! وهل تعلم إلهاً يستحق العبادة غير الله؟! ثم قال: أتفر أن يقال: الله أكبر! وهل تعلم شيئاً أكبر من الله؟! يدعوه إلى الدخول في الإسلام، يقول عدي: فلقيته امرأة في الطريق قبل أن يصل إلى بيته، فقالت: إن لي إليك حاجة، فترك عدياً وأقبل عليها حتى قضى حاجتها، تستفتيه أو تسأله شيئاً يقول: فعلمت أنه ليس ملكاً، لأن الملك لا يقف مع المرأة الضعيفة في مثل هذا الموقف، يقول: فدخل إلى بيته فألقيت له وسادة فوضعها لي، فقلت: لك! فجعلها بيني وبينه، ثم تلا الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً} [التوبة:31]، عند ذلك قال له عدي: (يا رسول الله! إننا لم نعبدهم، فقال له: بلى، ألم يحلوا لكم الحرام فتتبعوهم، ويحرموا عليكم الحلال فتتبعوهم؟ فقلت: بلى قال: تلك عبادتهم)، يعني: أن اتباعهم في تحليل الحرام وتحريم الحلال هي العبادة التي قصدت في الآية، عند ذلك قال عدي: إني حنيف مسلم يقول: فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل مسروراً فرحاً بإسلامه حيث أسلم.
والمقصود هنا: أن قول الله جل وعلا: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ}، الأحبار: العلماء، أما الرهبان فهم العباد، والأحبار غالباً من اليهود، واليهود يغلب عليهم العلم ولكن تغلب عليهم القساوة والجفاء والعناد والكبر والإباء وعدم العمل بالعلم، ولهذا صاروا أهل غضب الله عليهم ولعنته.
أما النصارى فيغلب عليهم الجهل ويكثر فيهم التعبد والترهبن، فالرهبان منهم، والرهبانية هي ترك الدنيا والتخلي للعبادة والتقشف والانعزال عن الخلق، يكون الواحد منهم في صومعة يترهبن وهذا يوجد في النصارى بكثرة، ولكنهم على ضلال وعلى جهل، فالجهل يغلب عليهم، ولكن الناس -غالباً- جبلوا على طاعة العلماء وتعظيمهم وكذلك العباد الذين يتعبدون ويتزهدون، فلهذا قال جل وعلا: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31].
وعدي بن حاتم بين أنهم ما كانوا يسجدون لهم وما كانوا يدعونهم في كشف الخطوب وإزالة الكروب وإيهاب المرغوب، وإنما كانوا يطيعونهم إذا أمروهم بأوامر ويعرفون أن هذه الأوامر ليست في التوراة التي نزلت على موسى، ولا في الإنجيل الذي أنزل على عيسى عليهما الصلاة والسلام، فأحسنوا الظن بهم فاتبعوهم في ذلك وقالوا: هم الذين يعرفون المعاني ويفسرون كلام الله جل وعلا ونحن نتبعهم ونكتفي بأقوالهم، فصاروا بذلك متبعين لهم عابدين لهم.(98/8)
لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق
ومقصود المؤلف من ذلك أن يطبق هذه الآية على هذه الأمة؛ لأن كل ما ذكر في أهل الكتاب يقصد به تحذير المسلمين منه.
فالمقصود بالخطاب من يمتثل الخطاب ويؤمن به ويقبله، ولهذا ذكر في المسائل: أن طاعة الفقهاء في كونهم يقولون الحكم كذا وكذا وهو مخالف لقول الله وقول رسوله أنه مثل اتخاذ الأحبار أرباباً، وأن طاعة العباد والزهاد في تشريع ما يقترحونه ويقولونه ويأتون به أنه من عبادتهم.
ثم يقول: (ثم تغيرت الأحوال إلى أن عبد من دون الله من ليس من الصالحين) أي: بالمعنى الأول، وهم أناس متعلمون وليسوا علماء، فاتبعوا على ذلك فصار ذلك الاتباع عبادة لهم، وعبد بالمعنى الثاني من ليس من العباد بل هو من الشياطين، يعني: الذين يعلمون أنهم يتعبدون بالبدع ويدعون أنهم أولياء فيضلون الناس، ومقصوده أن يطبق ذلك على الواقع الذي كان في زمنه ولا يزال هذا في بلاد المسلمين، والأمر أعم من هذا وأشمل، فكل من أطاع مخلوقاً في معصية الله جل وعلا وهو يعلم فإنه داخل في هذه الآية وفي هذا الحكم، وإن كان والده أو والدته فضلاً عن غيرهما فلا طاعة لمخلوق في معصية الله جل وعلا.
وقد ثبت في صحيح مسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث سرية وأمر عليها رجلاً من الأنصار وحضهم على طاعته فقال: (من أطاع الأمير فقد أطاعني ومن عصى الأمير فقد عصاني) فغضب عليهم أميرهم فقال لهم: ألم يقل لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أطاع الأمير فقد أطاعني ومن عصاه فقد عصاني؟ قالوا: بلى، قال: اجمعوا لي حطباً، فجمعوا له حطباً كثيراً فلما جمعوه قال: أججوا فيه ناراً فأججوا فيه النار عند ذلك قال: اقتحموا في النار فوقفوا وقالوا: لا نقتحم في النار نحن من النار فررنا، ولما سكن غضبه وطفئت النار وعاد الأمر على ما هو عليه، يعني: ساروا في طريقهم وفي مقصدهم ثم لما رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ذكروا له القصة، فقال صلى الله عليه وسلم: (لو دخلتموها ما خرجتم منها، لا طاعة لمخلوق في معصية الله إنما الطاعة بالمعروف)، والمعروف هو الشرع الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ومن خالف الشرع فقد أتى بمنكر لا بمعروف.
إذاً: تكون طاعة المخلوق تبعاً لطاعة الله جل وعلا ولاسيما أولي الأمر فإنهم ينفذون أمر الله والعلماء يبينون أمر الله ويطاعون تبعاً لطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.(98/9)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [99]
إن من الأصول التي يجب على المسلم تحقيقها: متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقديم قوله على قول من سواه، والتحاكم إليه عند التنازع، وهذا مقتضى شهادة أن محمداً رسول الله.
وإن في مخالفته صلى الله عليه وسلم، وتقديم قول غيره على قوله من الخطورة بمكان، حتى إنه يخشى على صاحبها زيغ قلبه، وذهاب إيمانه والعياذ بالله.(99/1)
الربوبية والألوهية متلازمتان
قال الشارح رحمه الله تعالى: [باب: من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله فقد اتخذهم أرباباً من دون الله.
لقول الله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31]، وتقدم تفسير هذا في أصل المصنف رحمه الله عند ذكر حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه].
في هذه الآية: أن الربوبية والإلهية متلازمتان، فيلزم من كون الإنسان يتأله ويعبد الله أن يكون هذا المعبود هو المالك المتصرف الذي يملك الأمر والنهي، وإذا لم يكن كذلك فلا يصلح أن تكون الإلهية والتأله له، وكذلك فإن الآمر والناهي هو الذي يجب أن يعبد وأن تكون العبادة له.
وكثير من الناس لا يعرف الفرق بين الإلهية والربوبية حتى أنكر بعض الجهلة الذين يتصدرون الناس ويزعمون أنهم علماء تقسيم التوحيد وقال: التوحيد هو توحيد الربوبية، وهذا أجهل من أبي جهل في الواقع؛ لأن أبا جهل يعلم أن الله هو الخالق الرازق المتصرف، ولكنه يقول: أعبد هبل واللات والعزى؛ لأنها تشفع لي وأتخذها واسطة! وهذا جهل، أما هذا المتكلم فاجتمع له الجهل باللغة والجهل بالشرع والجهل بالواقع، فصار جهلاً على جهل على جهل، فهو جهلٌ مركب، وهذه نهاية الجهل وليس وراء ذلك شيء من الجهل.
وهذا من علامات الساعة، أعني كون الجاهل جهلاً مركباً يتصدر الناس ويكتب الكتب فتطبع وتنشر في العالم الإسلامي، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن يرفع العلم ويفشو الجهل)، مع أنه جاء في الحديث: (إن من أشراط الساعة فشو العلم وفشو القلم وفشو الكتابة)، يعني: ظهورها، والكتابة -كما هو معروف- لم تصل في وقت من الأوقات إلى ما وصلت إليه الآن.
والمقصود: أن الآية فيها بيان أن الربوبية والإلهية متلازمان، وأن الربوبية غير الإلهية، وهذا كثير جداً في القرآن، وجهله من أعظم الجهل.
قال المصنف: [وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون: قال أبو بكر وعمر).
قال الشارح: قوله: (يوشك) بضم أوله وكسر الشين المعجمة أي: يقرب ويسرع.
وهذا القول من ابن عباس رضي الله عنهما جواب لمن قال له: إن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما لا يريان التمتع بالعمرة إلى الحج ويريان أن إفراد الحج أفضل، أو ما هو معنى هذا، وكان ابن عباس رضي الله عنهما يرى أن التمتع بالعمرة إلى الحج واجب ويقول: (إذا طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط فقد حل من عمرته شاء أم أبى، لحديث سراقة بن مالك رضي الله عنه حين أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعلوها عمرة، ويحلوا إذا طافوا بالبيت وسعوا بين الصفا والمروة، فقال سراقة: (يا رسول الله! ألعامنا هذا أم للأبد؟ قال: بل للأبد)، والحديث في الصحيحين.
].
يعني: أنه يرى أنه يتحتم على الحاج إذا لم يسق الهدي من الحل إلى الحرم أن يكون متمتعاً ولو لم ينو ذلك، فإذا طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة وجب عليه أن يقصر من رأسه ويلبس ثيابه ويحل الحل كله، ويقول: لا يسعه إلا ذلك؛ لأن هذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا مذهب طائفة من العلماء منهم أهل الظاهر وبعض المحدثين وغيرهم.(99/2)
جواز الإتيان بأحد أنساك الحج الثلاثة اتفاقاً
ولكن الصواب: أنه يجوز أن يأتي الإنسان بنسك من الأنساك الثلاثة وهذا باتفاق العلماء الذين عليهم مدار الفتوى، فاتفقوا أنه يجوز أن يكون الحاج متمتعاً ويجوز أن يكون قارناً ويجوز أن يكون مفرداً، وأنه ليس حتماً، وإنما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم اليسر والسهولة بالناس، غير أن الأفضل في الأنساك أن يكون الإنسان متمتعاً لاسيما إذا جاء من بعيد أو كان هذا أول حج يحجه ولم يسق هدياً فالأفضل في حقه أن يكون متمتعاً.
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: اتفق العلماء على أن الإنسان إذا كان يرتاد مكة في السنة -يعني: قد جاء بالعمرة في هذه السنة التي يحج بها- أن الأفضل في حقه أن يأتي بالحج مفرداً، هذا بالاتفاق، ثم ذكر قول أبي بكر وعمر وأنهم أرادوا أن يأتي الإنسان في السنة نفسها بعمرة، ثم يأتي بالحج مفرداً وذلك حتى يكثر رواد البيت وطوافه، والآن في هذه الأوقات والحمد لله لكثرة الخير والأمن والسعة للناس صار كما هو معلوم.
بل إن الإنسان يخشى على نفسه من كثرة الزحام عند البيت في الطواف وغيره، فإذا أتى الإنسان بالحج والعمرة مفرداً فبها، وإن أتى بالحج متمتعاً فهذا أولى وأفضل له، أما إذا كان يعتمر في رمضان أو في غير رمضان من السنة فالأفضل في حقه أن يأتي بالحج مفرداً، وقد قال كثير من المفسرين من الصحابة وغيرهم في قول الله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196]، قالوا: إتمام الحج والعمرة: أن تأتي بكل واحد منهما بسفرة تامة، فهذا إتمامها.(99/3)
وجوب اتباع أدلة الكتاب والسنة
قال الشارح: وحينئذ فلا عذر لمن استفتي أن ينظر في مذاهب العلماء وما استدل به كل إمام ويأخذ من أقوالهم ما دل عليه الدليل إذا كان له ملكة يقتدر بها على ذلك، كما قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59]].
قوله: (لا عذر لمن استفتي) يعني: أن الإنسان إذا سئل عن مسألة وكان يعرف النص فيها فهذا لا إشكال فيه، ولكن إذا كان لا يعرف النص وإنما يستنبط استنباطاً، ومعلوم أن الحوادث من أفعال الناس لا حصر لها ولا تنتهي، وليس بلازم أن يكون منصوصاً على كل فعل يفعله الناس، وإنما الشرع كليات وجوامع وقواعد يدخل تحتها ما لا حصر له من الأمور، بل يكفي لعمل الناس إلى يوم القيامة، ولكن يحتاج إلى فقه وإلى علم، فإذا سئل الإنسان عن حادثة ما: فإذا كانت لا نص عليها من كتاب الله وسنة رسوله فيجب أن يجتهد في النظر في أقوال العلماء فيها ويبحث عن أقرب قول إلى الدليل وأصوبه، ثم يفتي بذلك مجتهداً، هذا إذا كان أهلاً للاجتهاد، أما إذا كان ليس عنده ملكة، ولا يميز بين الأقوال الصحيحة من غير الصحيحة، فهذا يجب أن يقول: لا أدري، ويسأل غيره.(99/4)
خطورة القول على الله بلا علم
وليس بلازم أن يفتي إذا سئل، لا سيما إذا كان جاهلاً؛ لأن الذي يفتي كأنه يقول: حكم الله كذا وكذا، وقد يقول الله جل وعلا له: كذبت! ليس هذا حكمي، فما هو موقفه أمام الله جل وعلا إذا كان يقول على الله ما لا يعلم، وهذا أعظم من الشرك بالله نعوذ بالله من ذلك؛ لأن الله جل وعلا يقول: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33].
فبدأ بالأسهل، ثم بما هو أعظم، ثم بما هو أكبر، وختم الأمر بالقول عليه بلا علم وجعله بعد الشرك، فدل على أن القول عليه بلا علم أعظم من الشرك نسأل الله العافية، فإن كان الشرك عظيماً فهذا أعظم؛ لأنه يتضمن الشرك وزيادة، نسأل الله العافية.
قال الشارح: [وللبخاري ومسلم وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت، ولولا أن معي الهدي لأحللت) هذا لفظ البخاري في حديث عائشة رضي الله عنها، ولفظه في حديث جابر: (افعلوا ما أمرتكم به، ولولا أني سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم)، في عدة أحاديث تؤيد قول ابن عباس].
قال هذا صلى الله عليه وسلم تطييباً لنفوسهم، ولئلا يحتج بالاقتداء به ويقال: إنك ما حللت إنك بقيت على حجك! فأخبر أن المانع له هو سوق الهدي، وأنه لو لم يسق الهدي لحل معهم، فدل هذا على أن الذي يسوق الهدي أي: يأتي به من الحل، أنه يلزمه أن يكون قارناً وأن يبقى محرماً حتى ينتهي من حجه، أما الذي ليس معه هدي فإنه يتعين عليه إذا طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة أن يحل من إحرامه ويتمتع بالحل، والتمتع: هو الحل من الإحرام، وسمي تمتعاً؛ لأنه يترك الإحرام ويصبح حلالاً يتمتع بما أحله الله جل وعلا.(99/5)
كلام الأئمة في اتباع الأدلة وترك أقوالهم المخالفة للأدلة
قال الشارح: [وبالجملة فلهذا قال ابن عباس لما عارضوا الحديث برأي أبي بكر وعمر رضي الله عنهما: (يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء) الحديث.
وقال الإمام الشافعي رحمه الله: أجمع العلماء على أنه من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد.
وقال الإمام مالك رحمه الله تعالى: (ما منا إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم)، وكلام الأئمة في هذا المعنى كثير.
وما زال العلماء رحمهم الله يجتهدون في الوقائع، فمن أصاب منهم فله أجران ومن أخطأ فله أجر كما في الحديث، لكن إذا استبان لهم الدليل أخذوا به وتركوا اجتهادهم، وأما إذا لم يبلغهم الحديث أو لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم عندهم فيه حديث أو ثبت وله معارض أو مخصص ونحو ذلك فحينئذ يسوغ للإمام أن يجتهد، وفي عصر الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى إنما كان طلب الأحاديث ممن هي عنده باللُقي والسماع، ويسافر الرجل في طلب الحديث إلى الأمصار عدة سنين.
ثم اعتنى الأئمة بالتصانيف ودونوا الأحاديث ورووها بأسانيد وبينوا صحيحها من حسنها من ضعيفها، والفقهاء صنفوا في كل مذهب، وذكروا حجج المجتهدين، فسهل الأمر على طالب العلم، وكل إمام يذكر الأمر بدليله عنده.
وفي كلام ابن عباس رضي الله عنها ما يدل على أن من بلغه الدليل فلم يأخذ به تقليداً لإمامه فإنه يجب الإنكار عليه بالتغليظ؛ لمخالفته الدليل.
وقال الإمام أحمد حدثنا أحمد بن عمر البزار قال حدثنا زياد بن أيوب قال حدثنا أبو عبيدة الحداد عن مالك بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس رضي اله عنهما قال: (ليس منا أحد إلا ويؤخذ من قوله ويدع، غير النبي صلى الله عليه وسلم).
وعلى هذا فيجب الإنكار على من ترك الدليل لقول أحد من العلماء كائناً من كان، ونصوص الأئمة على هذا، وأنه لا يسوغ التقليد إلا في مسائل الاجتهاد التي لا دليل فيها يرجع إليه من كتاب ولا سنة فهذا هو الذي عناه بعض العلماء بقوله: لا إنكار في مسائل الاجتهاد، وأما من خالف الكتاب والسنة فيجب الرد عليه كما قال ابن عباس والشافعي ومالك وأحمد وذلك مجمع عليه كما تقدم في كلام الشافعي رحمه الله تعالى].
معلوم أن مسائل الاجتهاد هي المسائل التي تستنبط من النصوص، وليس فيها نصوص بعينها، أما إذا جاء الدليل فلا اجتهاد فيه، فإذا دل الدليل على مسألة بعينها فلا يجوز الاجتهاد في ذلك، وإنما يجب أن يؤخذ بالدليل، فإن خالف الإنسان ذلك عامداً فهو في الواقع عاص، وإن لم يبلغه الدليل فله عذره حتى يبلغه الدليل.(99/6)
إنكار الإمام أحمد لاتباع الرأي مع وجود الحديث
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال الإمام أحمد: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته ويذهبون إلى رأي سفيان والله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]، أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك.
لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك].
قول الإمام أحمد رحمه الله يشبه قول ابن عباس.
يعني: أن الإنسان إذا بلغه الحديث وعرف صحته بالسند فإنه لا يسوغ له تركه لقول أحد من الناس.
وسفيان المقصود به: سفيان الثوري الإمام المشهور، فهو من كبار الأئمة وكان له أتباع إلا أنه لم تحفظ أقواله ولم يعتن بها أصحابه فانقرضت أقواله إلا أنها موجودة في الكتب التي تذكر أقوال العلماء، وهو نظير الإمام مالك ونظير الإمام أحمد والشافعي وأبي حنيفة رحمهم الله.
والمقصود أنه قيل له: إن قوماً يعتنون بقوله ويدعون الحديث، فقال: عجبت لهم؛ لأنهم يخالفون مخالفة ظاهرة، والله جل وعلا يقول: {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور:63]، أي: عن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم: {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]، يقول الإمام أحمد: أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: هي الشرك.
لعله إذا رد بعض قوله -يعني: قول الرسول صلى الله عليه وسلم- أن يزيغ قلبه فيهلك.
يعني: أن يرد قوله إما بهواه وإما لقول شخص من الناس يعظمه فيكون في ذلك زيغه وهلاكه؛ لأنه اتخذ هذا الشخص أو الهوى رباً كما في الآية التي استدل بها المصنف، وهذا هلاك ليس بعده هلاك، وأما قوله: {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]، فالمقصود به: أن يعاجله بعذاب في الدنيا؛ لشدة المخالفة، وهذا يوافق قول ابن عباس: (يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء).
فالآية تنص على هذا، وهذا يدلنا على فقه ابن عباس رضي الله عنه، وهذا شيء معروف ومعلوم فقد دعا له الرسول صلى الله عليه وسلم ولهذا سمي حبر الأمة وترجمان القرآن؛ لأنه دعا له الرسول صلى الله عليه وسلم بالفقه في الدين ومعرفة التأويل -أي: التفسير- فالآية تدل على أن من خالف أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يخاف عليه أن يقع في الشرك، وزيادة على ذلك أن يصاب بعذاب عاجل في الدنيا.
قال الشارح رحمه الله تعالى: [هذا الكلام من الإمام أحمد رحمه الله رواه عنه الفضل بن زياد وأبو طالب قال الفضل عن أحمد: نظرت في المصحف فوجدت طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في ثلاث وثلاثين موضعاً، ثم جعل يتلو: {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} [النور:63]، الآية، فذكر من قوله: الفتنة الشرك -إلى قوله- فيهلك، ثم جعل يتلو هذه الآية: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65].
وقال أبو طالب عن أحمد: وقيل له: إن قوماً يدعون الحديث ويذهبون إلى رأي سفيان وغيره، فقال: أعجب لقوم سمعوا الحديث وعرفوا الإسناد وصحته يدعونه ويذهبون إلى رأي سفيان وغيره! قال الله تعالى: {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]، أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الكفر، قال الله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ} [البقرة:217]، فيدعون الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتغلبهم أهواؤهم إلى الرأي، ذكر ذلك عنه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى.
قوله: (عرفوا الإسناد) أي: اسناد الحديث وصحته، فإذا صح إسناد الحديث فهو صحيح عند أهل الحديث وغيرهم من العلماء.
وسفيان هو الثوري الإمام الزاهد العابد الثقة الفقيه، وكان له أصحاب يأخذون عنه، ومذهبه مشهور يذكره العلماء رحمهم الله في الكتب التي يذكر فيها مذاهب الأئمة كالتمهيد لـ ابن عبد البر والاستذكار له وكتاب الإشراف على مذاهب الأشراف لـ ابن المنذر والمحلى لـ ابن حزم والمغني لـ أبي محمد عبد الله بن قدامة الحنبلي وغير هؤلاء.
فقول الإمام أحمد رحمه الله: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته إلى آخره إنكار منه لذلك، وأنه يئول إلى زيغ القلوب الذي يكون به المرء كافراً].(99/7)
من المنكر ترك الكتاب والسنة والتمسك بآراء الفقهاء
قال الشارح: [وقد عمت البلوى بهذا المنكر، خصوصاً لمن ينتسب إلى العلم، نصبوا الحبائل في الصد عن الأخذ بالكتاب والسنة، وصدوا عن متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وتعظيم أمره ونهيه، فمن ذلك قولهم: لا يستدل بالكتاب والسنة إلا المجتهد، والاجتهاد قد انقطع.
ويقول: هذا الذي قلدته أعلم منك بالحديث وبناسخه ومنسوخه، ونحو ذلك من الأقوال التي غايتها ترك متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، والاعتماد على قول من يجوز عليه الخطأ، وغيره من الأئمة يخالفه ويمنع قوله بالدليل، فما من إمام إلا والذي معه بعض العلم لا كله.
فواجب على كل مكلف إذا بلغه الدليل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفهم معنى ذلك: أن ينتهي إليه ويعمل به وإن خالفه من خالفه، كما قال الله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف:3]، وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت:51]، وقد تقدم حكاية الإجماع على ذلك، وبيان أن المقلد ليس من أهل العلم، وقد حكى أيضاً أبو عمر بن عبد البر وغيره الإجماع على ذلك].
يقصد بقوله: (نصبوا الحبائل في الصد عن الأخذ بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم) الذين يضعون الكتب في المذاهب ويبنون المسائل على الآراء والأقيسة التي تلقوها عن بعضهم، ومعلوم أن الرأي إذا كان غير مستند إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فلا يجوز أن ننسبه إلى الشرع؛ لأنه محل للخطأ، وقد يصيب في بعض المسائل، ولكن يوجد فيه خطأ بلا شك؛ لأن الله جل وعلا يقول: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82]، فدل هذا على أن كل كلام ليس من الرسول صلى الله عليه وسلم ولا من الوحي الذي أوحي إليه أنه لابد أن يكون فيه اختلاف، فالآراء لا يجوز أن تؤخذ مجردة عن الدليل.
فيقصد بهذا كتب الفقه التي توضع في المذاهب، فيقال: إن حكم المسألة كذا وكذا وليست معتمدة على الدليل، فإذا جيء بالأدلة وقيل إن الدليل يدل على خلاف هذا، قالوا: أنت خارج عن مذهب المسلمين، وقد يقولون له: أنت جئت بمذهب خامس ويخطئونه ويقولون: لا يجوز للإنسان أن يأخذ فقهه من كتاب الله؛ لأن هذا يحتاج إلى اجتهاد والاجتهاد يزعمون أنه منقطع من زمن الأئمة، وهذه من دسائس الشيطان؛ لأن الاجتهاد لا ينقطع كما قال الإمام أحمد مستدلاً على أن الاجتهاد يبقى إلى يوم القيامة بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)، فهؤلاء فيهم أهل الاجتهاد؛ لأن النصرة وكونهم على الحق دليل على أنهم مجتهدون.
ومعلوم أن كتاب الله ميسر للذكر: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17]، يقول العلماء: هل من طالب علم فيعان عليه، يعني: لأنه ميسر.
فكل من عرف اللغة العربية وتلقى هذا الكتاب لابد أن يدرك ما يدرك وإن اختلف الناس، فهذا أمر معلوم.
ولهذا إذا تأمل الإنسان في القرآن -وإن كان عامياً- فإنه يجد فيه من المعاني ويفهم فيه من الخطاب ولو في العموم، ولكن إذا جاء الإنسان دليل من قول الله وقول رسوله فيجب أن يترك قوله أو قول الآخرين لهذا الدليل، هذا هو المقصود وهذا مراده، يقول: لا يجوز أن نعارض كلام الله أو كلام رسوله برأي الإمام أحمد أو برأي الإمام مالك أو برأي الإمام أبي حنيفة أو الشافعي فضلاً عن غيرهم، بل لا يجوز أن نعارض قول الله وقول رسوله بأقوال الصحابة الذين هم أفضل من هؤلاء، وقد مر معنا قول ابن عباس: (يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون قال أبو بكر وعمر).
فالذين ينصبون الحبائل ويصدون عن كتاب الله، يعني أنهم يعتلون بأن الناس اليوم كلهم أهل تقليد وأنه يجب أن يقلد الإنسان الإمام فلاناً أو الإمام فلاناً، وهذا صد عن تدبر كتاب الله وفهمه والتعلم منه وسد للباب في هذا، وهذا إنما جاء به الشيطان، وأحياناً يذكرون أشياء عجيبة كما هو مذكور الآن في بعض الكتب يقولون: لا يجوز أن يعتمد الإنسان في استنباطه على الكتاب أو السنة إلا بشروط: منها أن يكون عالماً باللغة، عالماً بأسباب النزول، عالماً بالناسخ والمنسوخ، عالماً بالخاص والعام، عالماً بالمقدم والمؤخر، إلى ما يقرب من أربعين شرطاً وسيأتي أن المصنف رحمه الله يقول: هذه الشروط لعلها لا تجتمع في أبي بكر يعني: لا توجد مجتمعة في أحد من الناس.(99/8)
أقسام الذين منعوا الأخذ من الكتاب والسنة
إذاً: المعنى أنه يمتنع الأخذ من كتاب الله أو من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم على هذا! وعلى هذا يكون الناس قسمين: قسم: يقولون ذلك في مسائل الفقه الاجتهادية، فإذا جاء إنسان يستدل على مسأله اجتهادية بالدليل عابوا عليه وقالوا: أنت خالفت الأئمة خالفت قول الفقهاء خالفت الإمام فلاناً ونحن نأخذ بأقواله، مع أن الأقوال التي توجد الآن في كتب الفقه المتأخرة ليست أقوال الأئمة وإنما هي تفريعات عن أقوالهم وتخريجات لأصحابهم وقد يكونون متأخرين.
القسم الثاني: ما هو أشد من هذا وأعظم، وهم أصحاب الكلام الذين وضعوا كتباً صدوا بها الناس عن معرفة الله جل وعلا ووصفه بما وصف به نفسه وقالوا: لابد للإنسان أن يأخذ التوحيد من هذه الكتب ويسمونها علم الكلام أو علم التوحيد، وهي مبنية على آراء وقواعد قعدها أناس حسب آرائهم وعقولهم أو حسب المنطق اليوناني الذي أخذوه من كتب اليونان وغيرها، معرضين بذلك عما جاء في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ويقولون: إن الذي جاء في الكتاب والسنة نصوص ظاهره لا تدل على يقين وإنما تدل على ظنون، والظن لا يجوز أن يعمل به في مسائل الاعتقاد، بخلاف هذه القواعد التي نقعدها والكتب التي نؤلفها فإنها مبنية على العقليات والقطعيات! ويجعلون العقليات أموراً قطعية وهي في الواقع مبنية على قياس وشبه، ولا تزيد من تعمق فيها إلا شكوكاً وضلالة وبعداً عن الحق.
وبهذا صد الشيطان الناس عن الاهتداء بهدى الله جل وعلا الذي أنزله ليهتدي به الناس، وأخبر أنه هدى وشفاء لأمراض الشبهات والشكوك، وهدى لمن عمل به ليصل إلى الحق، أما هذه فهي بضد ذلك، وهذا أعظم مما ذكره المؤلف ولكنه يذكر الشيء الذي انتشر في وقته، فإن الشيخ رحمه الله لما دعا الناس إلى الأخذ بكتاب الله وسنة رسوله إذا بأناس يقولون: أنت خارج عن الإجماع وأنت جئت بمذهب خامس وأنت مخالف للأئمة، فإن هذه كتب الأئمة بيننا فليس فيها شيء مما تقوله، وهو يقول: قال الله وقال رسوله ولم يقل: هذا رأيي أو هذا رأي فلان وفلان.
وأما علم الكلام الذي يعتمده أصحابه ويصدون به عن كتاب الله فهذه عافى الله جل وعلا منه من قام بالدعوة فيهم، ولم تصل إليهم شبهات أولئك وإلا فأمرها شديد، ومع ذلك فقد بين أن هذا مما ينافي الإيمان بالله وبرسوله، وسيأتي في الباب الذي بعد هذا: أنه لابد من تحكيم رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل ما يطرأ للإنسان من خلاف أو من رأي أو غير ذلك، ولابد أن يرجع إلى حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلا لم يكن مؤمناً.
وهذه المسألة ليست من مسائل الخلاف أو من المسائل الفرعية التي يكون فيها سعة، ولكنها مسألة إيمان وكفر نسأل الله العافية، فإنه لابد من تحيكم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في كل شيء، هذا بالنسبة لأهل العلم الذين يدركون الدليل ويستطيعون أن يفهموا الأدلة.
أما بالنسبة لعامة المسلمين فليس هذا بلازم؛ لأنه لو كلف مثلاً غير طالب العلم أن يستنبط الأحكام من كتاب الله وسنة رسوله ما استطاع؛ لأن هذا ليس من شأنه، وإنما عليه أن يتابع العلماء وإذا أشكل عليه شيء يسألهم، والدليل على هذا قول الله جل وعلا: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، فجعل الواجب على الذين لا يعلمون سؤال أهل الذكر، وأهل الذكر: هم العلماء.
والكلام الذي ذكره الإمام أحمد يشير إلى هذا؛ لأنه قال: عجبت لقوم عرفوا الاسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان ويدعون الحديث، فمعنى ذلك: أن الذي ما عرف الإسناد ولا عرف صحة الإسناد يجوز له أن يذهب إلى قول فلان وفلان من العلماء ولكن العارف الذي عرف الإسناد لا يجوز له.(99/9)
مخالفة المقلدة لأئمتهم
قال الشارح: [قلت: ولا يخالف في ذلك إلا جهال المقلدة؛ لجهلهم بالكتاب والسنة ورغبتهم عنهما، وهؤلاء وإن ظنوا أنهم قد اتبعوا الأئمة فإنهم في الحقيقة قد خالفوهم واتبعوا غير سبيلهم كما قدمنا من قول مالك والشافعي وأحمد، ولكن في قول الإمام أحمد رحمه الله إشارة إلى أن التقليد قبل بلوغ الحجة لا يذم، وإنما ينكر على من بلغته الحجة وخالفها لقول إمام من الأئمة.
وذلك إنما نشأ عن الإعراض عن تدبر كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والإقبال على كتب من تأخر والاستغناء بها عن الوحيين، وهذا يشبه ما وقع من أهل الكتاب الذين قال الله فيهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31]، كما سيأتي بيان ذلك في حديث عدي بن حاتم].
وقوله: إنه في الواقع مخالف للأئمة؛ لأن الأئمة حذروا من تقليدهم وترك الدليل، وقد صح عن الأئمة التحذير من ذلك، فـ الشافعي رحمه الله يقول: (إذا صح الحديث فهو مذهبي، وإذا وجدتم الحديث يخالف قولي فدعوا قولي وخذوا بالحديث)، وكذلك الإمام مالك قال: (كلنا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم) يعني: أن الحق الكامل مع الرسول صلى الله عليه وسلم فقط، أما من عداه فيجوز أن يقع عليه الخطأ وأن يُرد ويَرد، وكذلك قول أبي حنيفة رحمه الله: (إذا جاء الحديث فعلى الرأس والعين، وإذا جاءت أقوال الصحابة فعلى الرأس والعين، وإذا جاءت أقوال التابعين فنحن رجال وهم رجال) يعني: لا يلزمنا قول التابعين، ولكن قول الرسول صلى الله عليه وسلم لا يجوز أن يعارض برأي، وكذلك قول الإمام أحمد كما سمعنا.
فالذي يقلد الأئمة ويترك الحديث مخالف لهم؛ لأن هذه أقوالهم تخالف هذا المذهب، فهو غير متبع لهم في الواقع.
قال الشارح: [فيجب على من نصح نفسه إذا قرأ كتب العلماء ونظر فيها وعرف أقوالهم، أن يعرضها على ما في الكتاب والسنة، فإن كل مجتهد من العلماء ومن تبعه وانتسب إلى مذهبه لابد أن يذكر دليله، والحق في المسألة واحد، والأئمة مثابون على اجتهادهم، فالمنصف يجعل النظر في كلامهم وتأمله طريقاً إلى معرفة المسائل واستحضارها ذهناً وتمييزاً للصواب من الخطأ بالأدلة التي يذكرها المستدلون، ويعرف بذلك من هو أسعد بالدليل من العلماء فيتبعه].(99/10)
ليس كل مجتهد مصيباً
قوله: (إن الحق في المسألة واحد) هذا هو مذهب أهل السنة؛ لأن المصيب واحد من المجتهدين وليس كل مجتهد مصيباً، فالحق لا يتعدد؛ لأن الحكم في المسألة واحد فقط، ولا يمكن أن يفتي في المسألة الواحدة عدد من الناس فتاوى مختلفة ثم يكون كل واحد مصيباً، بل لابد أن يكون المصيب واحداً فقط والبقية مخطئون، ولكن إذا كان للإنسان أهلية اجتهاد واجتهد حسب استطاعته فقال: المسألة كذا وكذا وأخطأ فإنه يغفر له خطؤه ويثاب على اجتهاده، هذا إذا كان أهلاً للاجتهاد، أما إذا كان ليس أهلاً للاجتهاد فهو مخطئ على كل حال وآثم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا أخطأ فله أجر).
الأول والأجران هما: أجر الاجتهاد فيثاب على اجتهاده، وأجر الإصابة، فيثاب لكونه أصاب الحق، أما إذا أخطأ فإنه ليس له إلا أجر الاجتهاد والخطأ معفو عنه.
أما إذا كان ليس أهلاً للاجتهاد فإنه وإن أصاب فهو مخطئ، مثل الذي يقول في القرآن برأيه فهو مخطئ وإن أصاب، جاء في الحديث: (من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار).
فالمقصود: أن الصواب واحد وليس كل مجتهد مصيباً، بل المصيب من المجتهدين واحد والحق لا يتعدد، ولهذا ذكر الله جل وعلا أن صراطه واحد: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153]، فجعل غير صراطه سبلاً متعددة كثيرة، وصراطه واحداً في جميع المسائل، وهذا هو قول أهل السنة، أما الذين يقولون كل مجتهد مصيب فهم أهل البدع، وهو خطأ، والأدلة على خلاف ذلك.(99/11)
تقديم أدلة الكتاب والسنة على أدلة النظر والاجتهاد
قال الشارح: [والأدلة على هذا الأصل في كتاب الله أكثر من أن تحصر، وفي السنة كذلك كما أخرج أبو داود بسنده عن أناس من أصحاب معاذ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يبعث معاذاً إلى اليمن قال: (كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله تعالى، قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في كتاب الله؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو، قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره، وقال الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله)].
الحديث ضعيف ولا يجوز الاعتماد عليه، بل حكم بعض العلماء بأنه موضوع، ولكن العلماء الذين تكلموا في الأصول قالوا: شهرته تغني عن سنده، فقد علم أن معناه صحيح وقبله العلماء وقالوا به، يعني: بمعناه، فلا التفات إلى سنده وإنما الالتفات إلى المعنى، والمعنى دلت عليه النصوص الأخرى وقد جاء في سنن ابن ماجة أيضاً عكس هذا تماماً، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا عرض لك قضاءٌ فلا تقض برأيك حتى تعرف الدليل أو ترفع ذلك إلي)، وهذا عكس هذا، ولكن هذا أيضاً ضعيف؛ لأن في سنده محمد بن سعيد المصلوب قيل: إنه أحد الكذابين الذين عرفوا بوضع الحديث، وإن قال ابن القيم رحمه الله: هذا أحسن سنداً من الأول، أي: هذا الذي رواه ابن ماجه أحسن سنداً من الأول وأجود سنداً من الأول، ولكن الأول دلت عليه قواعد ونصوص فأغنت كما يقول علماء الأصول؛ لأن هذا يذكر في كتب الأصول، وقبول العلماء له وأخذهم به واتفقاهم على الأخذ به يغني عن البحث في سنده، والاستناد على قواعد الشرع يغني عن إسناده وإن كان إسناده واهياً، فلا اعتماد على السند وإنما الاعتماد على المعنى وعلى القواعد.
قال الشارح: [وساق بسنده عن الحارث بن عمر عن أناس من أصحاب معاذ بن جبل رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن) بمعناه.
والأئمة رحمهم الله لم يقصروا في البيان، بل نهوا عن تقليدهم إذا استبانت السنة، لعلمهم أن من العلم شيئاً لم يعلموه وقد يبلغ غيرهم، وذلك كثير كما لا يخفى على من نظر في أقوال العلماء.
قال أبو حنيفة رحمه الله: (إذا جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين، وإذا جاء عن الصحابة رضي الله عنهم فعلى الرأس والعين، وإذا جاء عن التابعين فنحن رجال وهم رجال)].
معنى ذلك: أنه إذا صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يجوز أن يعارض ولا يجوز أن يخالف ويجب أن يؤخذ به ويعمل به، وكذلك إذا جاءت أقوال الصحابة نأخذ بها ولا نعارضها بآرائنا وأفكارنا، بل نقبلها ونسلم لها؛ لأنهم اهتدوا بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وشاهدوا نزول الوحي، وهم أهل اللسان الذين تعلموا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلقوا عنه، أما إذا جاء عن التابعين الذين بعد الصحابة فيقول: (هم رجال ونحن رجال) يعني: هذا اجتهاد ونحن نجتهد مثلهم.
فمعنى ذلك: أنه لا يأخذ أقوال التابعين ونحوهم إذا عارضها دليل من كتاب الله وسنة رسوله، هذا معناه.
قال الشارح: [وقال: (إذا قلت قولاً وكتاب الله يخالفه فاتركوا قولي لكتاب الله، قيل: إذا كان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم يخالفه؟ قال: اتركوا قولي لخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، قيل: إذا كان قول الصحابة يخالفه؟ قال اتركوا قولي لقول الصحابة).
وقال الربيع: سمعت الشافعي رحمه الله يقول: (إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوا ما قلت).
وقال: (إذا صح الحديث بما يخالف قولي فاضربوا بقولي الحائط).
وقال مالك: (كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وتقدم له مثل ذلك، فلا عذر لمقلد بعد هذا، ولو استقصينا كلام العلماء في هذا لخرج عما قصدناه من الاختصار، وفيما ذكرناه كفاية لطالب الهدى].(99/12)
رد قول الرسول صلى الله عليه وسلم سبب لزيغ القلب
قال الشارح: [قوله: (لعله إذا رد بعض قوله) أي: قول الرسول صلى الله عليه وسلم (أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك) نبه رحمه الله أن رد قول الرسول صلى الله عليه وسلم سبب لزيغ القلب، وذلك هو الهلاك في الدنيا والآخرة كما قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف:5]].
معنى زاغوا: عدلوا عن الدليل وعدلوا عن القول الذي قيل لهم ومالوا، فالزيغ: هو الميل والعدول، زاغ عنه: إذا مال عنه وعدل عنه وتركه قصداً، {أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5]، يعني: جعلها كارهة للحق قابلة للباطل جزاءً وفاقاً؛ لأن الجزاء من جنس العمل، قال جل وعلا: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:110]، أي: جزاء أنهم لم يقبلوه أول مرة، وهذا واضح في أن من ترك الحق من أول وهلة يكون عقابه إزاغة القلب وعدم القبول، ويكون الإنسان ضالاً بذلك نسأل الله العافية وهذا أمر خطير جداً.
وعلامة المسلم أن يكون مستسلماً لقول الله جل وعلا ومنقاداً له ومتبرئاً من الشرك وأهله؛ لأن هذا هو الإسلام، فالإسلام: هو الاستسلام والطاعة والانقياد والخلوص من الشرك وتوابعه وأهله، ولا يكون الإنسان ناجياً، حتى يقبل الحق ممن قاله وإن كان عدواً له، فإذا جاء الحق وجب قبوله.(99/13)
ليُّ أعناق النصوص لتوافق المذهب مذمومة
ولهذا قال: الحق ضالة المسلم إذا وجدها أخذها بغض النظر عن الذي قال ذلك، سواء كان صديقاً أو عدواً فإنه يجب عليه أن يقبل؛ لأن الهدف طاعة الله وطاعة رسوله فقط، فيقبل القول ممن قاله إذا كان موافقاً لأمر الله وأمر رسوله مهما كان القائل، فلا يجوز أن نعتبر القول بقائله، بل يجب أن تتعبر الأقوال وتعرض على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا وافقت قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم وجب قبولها، وإذا خالفت قول الله وقول رسوله ردت، وإن كان القائل لها صديقاً أو عالماً؛ لأن الإنسان مهما كان يجوز عليه الخطأ وليس أحد معصوماً إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولياء الله يجوز عليهم الذنب ويجوز أن يقعوا في الخطأ، ولكنهم إذا نبهوا على الخطأ رجعوا، بخلاف الذين يتبعون أهواءهم أو تكون لهم أغراض فإنهم يتعصبون لأقوالهم ويتركون الأدلة ويحاولون أن تأتي موافقة لأقوالهم، فهم يسخرون الأدلة لتتفق مع ما يقولون، مع أن الواجب أن تكون الأقوال تابعة للأدلة، وأما تحريف الأدلة لتوافق الأقوال فهو الذي عابه الله جل وعلا على اليهود الذين يلبسون الحق بالباطل يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ولكنهم يصدون عنه يعرفون الحق كما يعرفون أبناءهم ويعرفون الرسول صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم ومع ذلك يلبسون الحق بالباطل! أي: يلبسون على الناس حتى ينطلي عليهم قولهم، ولهذا يقول العلماء: كل من ضل من علماء هذه الأمة ففيه شبه من اليهود، وكل من ضل من عبادته وزهده ففيه شبه من النصارى.
قال الشارح: [قال شيخ الإسلام رحمه الله في معنى قول الله تعالى: {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور:63]: فإذا كان المخالف لأمره قد حُذر من الكفر والشرك، أو من العذاب الأليم دل على أنه قد يكون مفضياً إلى الكفر والعذاب الأليم.
ومعلوم أن إفضاءه إلى العذاب الأليم هو مجرد فعل المعصية، فإفضاؤه إلى الكفر إنما هو لما يقترن به من الاستخفاف في حق الآمر، كما فعل إبليس لعنه الله تعالى ا.
هـ].
فإبليس لما أمره الله جل وعلا بالسجود استخف بالأمر وقال: أنا خير منه، وكان الأولى أن تأمره أن يسجد لي! لأنه خلق من النار وأما آدم فخلق من الطين، والنار أفضل من الطين على حد زعمه، فهذا استخفاف بأمر الله جل وعلا، وكذلك إذا رد الإنسان قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم لقول أحد من الناس صار هذا الإنسان الذي قبل قوله أعظم عنده من الله ومن رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا معنى إفضائه إلى الكفر، فيكون بذلك كافراً نسأل الله العافية.
وهذا فيه: أن هذا العمل ليس مجرد معصية؛ لأن الإنسان إذا عصى وهو يعلم أنه عاصٍ فإن هذا لا يكون كفراً، بل مجرد معصية، وإن خالف أمراً صريحاً وارتكب النهي الصريح وهو مقر على نفسه بأنه عاصٍ فمثل هذا يكون مذنباً فقط وليس بكافر، أما إذا كان مستخفاً بأمر الله وليس لأمر الله عنده قيمة فيقول: وإن أمرني الله فلا أبالي! فمثل هذا يخشى عليه أن يكون خارجاً من الدين الإسلامي نسأل الله العافية.(99/14)
التحذير من مخالفة أمره صلى الله عليه وسلم
قال الشارح: [وقال أبو جعفر بن جرير رحمه الله تعالى عن الضحاك: {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} [النور:63]، قال: يطبع على قلبه فلا يؤمن أن يظهر الكفر بلسانه فتضرب عنقه].
أي: يقول الكفر بلسانه فتضرب عنقه وهذا عقابه في الدنيا، وعقاب الدنيا سهل، ولكن المصيبة عقاب الآخرة، وكونه أظهر الكفر يدل على أن الكفر في قلبه فيموت كافراً فيكون خالداً في النار، وهذا أعظم من القتل، وهو المصيبة الكبرى.
قال الشارح: [قال أبو جعفر: أدخلت (عن) لأن معنى الكلام: فليحذر الذين يلوذون عن أمره ويدبرون عنه معرضين].
ذكر العلماء أن سبب نزول هذه الآية أن بعض الناس الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الخندق اعتذروا بأعذار واهية يريدون أن لا يشاركوه في أمره فنزلت هذه الآية، ولهذا جاء فيها: أنه إذا استأذن المؤمنون لبعض شأنهم أمره بأن يأذن لهم ويستغفر لهم.
فحذرهم الله جل وعلا من ذلك أن يصيبهم العقاب العاجل قبل عذابه الأليم الذي يكون في الآخرة.
وإن كان سببها معيناً فالمقصود عموم اللفظ إلى يوم القيامة، فكل من صد عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن سنته أو حاول ذلك، فإنه يكون داخلاً في هذا الأمر ويخشى عليه أن يقع في هذا العقاب.
أي: يخشى أن الله يكره إليه الحق ويزين له الباطل فيصبح من أنصار الباطل ويصبح مضاداً للحق وكارهاً له، ومن كان كذلك فهو منافق النفاق الخالص الذي يكون صاحبه في الدرك الأسفل من النار تحت الكفار نسأل الله العافية.
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (أو يصيبهم) في عاجل الدنيا عذاب من الله موجع على خلافهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم].
قال الصنف رحمه الله تعالى: [عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31] (فقلت له: إنا لسنا نعبدهم، قال: أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ فقلت بلى، قال: فتلك عبادتهم)، رواه أحمد والترمذي وحسنه].
قال الشارح: [هذا الحديث قد روي من طرق فرواه ابن سعد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي.
قوله: (عن عدي بن حاتم) أي: الطائي المشهور، وحاتم هو: ابن عبد الله بن سعد بن الحشرج -بفتح الحاء- المشهور بالسخاء والكرم].
قدم عدي على النبي صلى الله عليه وسلم في شعبان سنة تسع من الهجرة فأسلم، وعاش مائة وعشرين سنة.
إذا أراد الإنسان أن يتكلم عن الحديث فيجب أن يجمع الطرق ويطلع عليها ولا يجوز له أن يحكم على حديث ولم يستقص طرقه، كما يصنعه كثير من طلبة العلم اليوم أو كثير من المتسرعين فإنهم يقعون في الخطأ الفظيع، وهم بذلك على خطر شديد جداً؛ لأنهم يأخذون طريقاً أو طريقين -فقط- فيحكمون عليها ويقولون: هذا الحديث ضعيف أو موضوع! ويوجد هذا بكثرة، قد تجرأ أحدهم وكتب كتاباً سماه: (ضعيف كتاب التوحيد) ذكر فيه أحاديث موضوعة اعتماداً على طريق من الطرق، وهذا من الجهل، بل هذا من الخطر الشديد؛ لأن الواجب على الإنسان إذا أراد أن يحكم على حديث بعينه أن يحيط بالطرق التي روي بها، ولهذا تجد بعض الأئمة يذكرون أحاديث صحيحة عن بعض الرواة الذين ضعفوا، والسبب في ذلك أن هذه الأحاديث صحت عندهم من طرق أخرى، وإن كان هذا الراوي ضعيفاً لو انفرد به فإن ذلك لا يضر لوجود طريق أخرى صحيحة، فأثبتوا الحديث، والشيء الذي أنكر على البخاري وعلى مسلم هو من هذا النوع، ولهذا فالحفاظ الكبار حكموا بأن الحق مع البخاري ومع مسلم رحمهم الله تعالى.
وهذا أمر لا يمكن الاجتهاد به الآن، وإنما يذكر كلام العلماء في ذلك، وقد يبلغه شيء وتغيب عنه أشياء كثيرة، فإذا كان لابد أن يحكم فليقل: هكذا تبين لي في هذا، والله أعلم.(99/15)
طاعة العلماء والعباد في المعصية عبادة لهم
قال الشارح: [وفي الحديث دليل على أن طاعة الأحبار والرهبان في معصية الله عبادة لهم من دون الله ومن الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله لقوله تعالى في آخر الآية: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31]].
ليس هذا خاصاً بالرهبان والأحبار، وسبق أن الأحبار هم العلماء، والرهبان هم العباد، ولكن هذا عام مطلق، إلا أنه في التحليل والتحريم، فإذا أطيع المخلوق في كونه أحل حراماً أو حرم حلالاً واتبع في هذا فهذه عبادة له، سواء كان عالماً أو غير عالم، فهو مطلق قيده بالعلم؛ لأن هذا هو الغالب؛ ولأن الناس لا يعتمدون على جاهل في التحليل والتحريم، إنما العلماء هم الذين يعتمد على أقوالهم ويستفتون، ولهذا ذكروا في ذلك وإلا فالمسألة عامة شاملة، ولهذا جاء في الحديث أنه: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)، (إنما الطاعة بالمعروف).
قال الشارح: [ويظهر ذلك قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121]].
أي: أطعتموتهم في المجادلة التي يجادلون فيها، وجاء في سبب ذلك أن المشركين قالوا للمؤمنين: كيف تأكلون مما تذبحون أنتم ولا تأكلون مما يذبحه الله؟! أي: الميتة.
فأخبر الله جل وعلا أن هذا من وحي الشيطان وأنه يوحيه إلى أوليائه المشركين ليجادلوا المؤمنين الذين آمنوا بالله، ثم قال: (وإن أطعتموهم) أي: في ذلك (إنكم لمشركون) لأن الواجب اتباع ما حكم الله جل وعلا به وما قاله.
قوله: [وهذا قد وقع فيه كثير من الناس مع من قلدوهم لعدم اعتبارهم الدليل إذا خالف المقلَّد، وهو من هذا الشرك، ومنهم من يغلو في ذلك ويعتقد أن الأخذ بالدليل -والحالة هذه- يكره أو يحرم فعظمت الفتنة، ويقول: هم أعلم منا بالأدلة ولا يأخذ بالدليل إلا المجتهد، وربما تفوهوا بذم من يعمل بالدليل! ولا ريب أن هذا من غربة الإسلام كما قال شيخنا رحمه الله في المسائل.
فتغيرت الأحوال وآلت إلى هذه الغاية، فصار عند الأكثر عبادة الرهبان هي أفضل الأعمال ويسمونها ولاية، وعبادة الأحبار هي العلم والفقة، ثم تغيرت الحال إلى أن عبد من ليس من الصالحين وعبد بالمعنى الثاني من هو من الجاهلين.
وأما طاعة الأمراء ومتابعتهم فيما يخالف ما شرع الله ورسوله فقد عمت بها البلوى قديماً وحديثاً في أكثر الولاة بعد الخلفاء الراشدين وهلم جرا.
وقد قال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص:50].
وعن زياد بن حدير قال: قال لي عمر رضي الله عنه: (هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قلت: لا، قال: يهدمه زلة العالم وجدال المنافق بالقرآن وحكم الأئمة المضلين) رواه الدارمي جعلنا الله وإياكم من الذين يهدون بالحق وبه يعدلون].(99/16)
مسائل باب: طاعة العلماء والأمراء في مخالفة أمر الله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيه مسائل: الأولى: تفسير آية النور].
وهي قوله جل وعلا: {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]، معنى الآية: أنه تحذير من الله جل وعلا للذين يخالفون أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، وأما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فالتحذير لمن خالف سنته، فيجب على المسلم أن يحذر وأن لا يقع في هذه المخالفة، فإن وقع فإنه على خطر عظيم، ويخشى أن يزيغ قلبه وقد يكون مشركاً بسبب ذلك، وقد يصاب بالعذاب العاجل؛ لأن الله جل وعلا يقول: {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]، فالعذاب الأليم في الدنيا كما ذكر ذلك المفسرون، وكذلك أشار إليه ابن عباس بقوله: (يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء).
[الثانية: تفسير آية براءة].
وهي قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً} [التوبة:31]، وتفسيرها كما مر: أن الرسول صلى الله عليه وسلم فسرها وبين معناها في حديث عدي؛ بطاعتهم في معصية الله وطاعتهم في تحليل الحرام وتحريم الحلال، فهذه عبادتهم.
[الثالثة: التنبيه على معنى العبادة التي أنكرها عدي].
العبادة التي أنكرها عدي هي ظنه أن العبادة هي السجود لهم ودعوتهم والتعلق بهم وسؤالهم فقال: ما نعبدهم، فبين له الرسول صلى الله عليه وسلم أن العبادة أعم من ذلك وأنها ليست مقصورة على هذا، بل لو أطعتهم في معصية الله فتلك عبادة لهم.
[الرابعة: تمثيل ابن عباس بـ أبي بكر وعمر وتمثيل أحمد بـ سفيان].
يعني بتمثيل ابن عباس قوله: (إنه يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول لكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون قال أبو بكر وعمر) ومقصوده فكيف بالذي يقول: قال الشيخ الفلاني أو قال فلان؟! هل بين هذا الشيخ وبين أبي بكر مقارنة؟! لا مقارنة بينهما، إذاً: فاتباع من دون أبي بكر والتعصب لقوله أعظم وأخطر من قول القائل: نترك متعة الحج؛ لأن أبا بكر يأمر بخلافها، هذا مقصوده.
وكذلك قول سفيان الثوري وسفيان من كبار الأئمة المعروفين بالتقى والورع والعلم ومع ذلك يقع في الخطأ، وإن كنا نعلم أنه لا يتعمد الخطأ ولا يتعمد خلاف الحق لكنه يقع في الخطأ، ولذلك لا يجوز أن يأخذ الإنسان بقوله تاركاً قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن فعل ذلك فهو كما قال الإمام أحمد: يوشك أن يقع في الشرك ويصاب بالعذاب الأليم.
[الخامسة: تغير الأحوال إلى هذه الغاية، حتى صار عند الأكثر عبادة الرهبان هي أفضل الأعمال وتسمى الولاية، وعبادة الأحبار هي العلم والفقه، ثم تغيرت الحال إلى أن عبد من دون الله من ليس من الصالحين، وعبد بالمعنى الثاني من هو من الجاهلين].
قصده بالولاية هنا طاعة العباد، وبعضهم قد يزعم أنه عابد وأنه فقيه، وهو في الواقع ليس كذلك وإنما يدعي الولاية وهو ليس بولي، ومع ذلك يطيعونه في المعاصي، وقد يرونه يرتكب معصية فيقولون: ليس عليه إثم في ذلك؛ لأنه ولي والإثم مرفوع عنه، وهذا في الواقع خطر شديد، وهذا شبيه بفعل اليهود الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله.
أما المعنى الثاني فهو عبادة العلماء، بمعنى: أنه تركت الأدلة لأقوالهم وأخذ بأقوالهم ولم يؤخذ بقول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا واضح في الآية التي ذكرها من سورة براءة، وكذلك الحديث الذي فسرها: حديث عدي وفيه: أن هذا عبادة.
قوله: (ثم تغيرت الأحوال) أي: فعبد بالمعنى الأول من ليس من الأولياء، بل هو من الأشقياء، ويشير بهذا إلى ما وقع في زمنه من أناس معينين معروفين مشعوذين يتلبسون بالنجاسات ولا يصلون، ويفعلون الفواحش الظاهرة ومع ذلك يزعمون أنهم أولياء فيخشى الناس مخالفتهم ويخافونهم، فعبدوهم بهذا.
وأما المعنى الثاني: وهو عبادة الجهلة، فإن كثيراً من المتأخيرن ليسوا كالمتقدمين علماً ولا عملاً، ويقصد بهذا الفقهاء المتأخرين الذين اعتمدوا على الرأي وعلى تحقيق المسائل من غير رجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا جاءت الأدلة من الكتاب والسنة قالوا: لا يلتفت إليها؛ لأننا لا نفهمها ولسنا أهلاً لفهم هذه الأدلة والأخذ بها، ولا يجوز لنا ولا لكم أن تأخذوا ذلك؛ لأن باب الاجتهاد قد انسد وانقطع، فالذي يقول مثل هذا القول ليس من العلماء، بل من الجهلة، ومع ذلك يعتمد على أقوالهم أكثر الناس مع أنها تعرض عليهم الأدلة! هذا مقصوده.(99/17)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [100]
الكفر بالطاغوت من أركان التوحيد، ولأهميته قدمه الله على الإيمان به في آية البقرة، فيجب على كل مسلم أن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله، ويدخل في ذلك: وجوب التحاكم إلى حكم الله ورسوله، والكفر بما خالفهما، ويجب مع التحاكم إلى الله ورسوله التسليم لحكمه والرضا به، وألا يجد المسلم في صدره حرجاً من حكم الله ورسوله.(100/1)
بيان شهادة أن محمداً رسول الله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً * فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً} [النساء:60 - 62].
إن التوحيد الذي هو دين الإسلام بل دين الله جل وعلا الذي أرسل به الرسل كلهم هو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وهذا يتكون من شيئين: الأول: شهادة ألا إله إلا الله.
الثاني: شهادة أن محمد رسول الله، وهما ركن واحد من أركان الإسلام، والإسلام مبني على خمسة أركان: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، والحج لمن يستطيع إليه.
ولما كان أصل الإسلام شهادة ألا إله إلا الله، فكل إنسان يشهد ألا إله إلا الله ولا يعمل بذلك، لا يفيده هذا ولا يجعله مسلماً، فلابد أن يعمل بهذه الشهادة وينضم إليها شهادة أن محمداً رسول الله، وهذا الكتاب من أوله إلى آخره بني على هذه الشهادة، ومن أول الكتاب إلى هذا الباب كله في بيان شهادة أن لا إله إلا الله.
والمؤلف رحمه الله بدأ بقوله: [كتاب التوحيد] وبين معنى التوحيد وأنه العبادة، وبين أن العبادة لا يمكن أن تكون عبادة إلا إذا كانت حسب الأمر وخالصة لله جل وعلا، ثم ذكر بعض الأبواب وقال: [باب تفسير التوحيد وشهادة ألا إله إلا الله]، وذكر النصوص التي توضح هذا وتبينه، ثم قال: [وتفسير هذا الباب ما بعده من الأبواب إلى آخر الكتاب]، وكل ما ذكره بعد هذا الباب من الأبواب فهو تفسير للتوحيد وشهادة ألا إله إلا الله، ولما كان الأمر معلوماً لدى جميع المسلمين الذين يعرفون حقيقة الاسلام أن شهادة ألا إله إلا الله بدون شهادة أن محمداً رسول الله لا تجدي ولا تنفع ولو شهد الإنسان بذلك فإنه لا يكون مسلماً أراد بهذا الباب أن يبين معنى شهادة أن محمداً رسول الله، ومراده بهذا الباب بيان الركن الثاني من الشهادة؛ لأنها ركنان: شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.(100/2)
خطورة التحاكم إلى الطاغوت
وذكر الترجمة بالآية كعادته في كثير من أبواب الكتاب فقال: [باب قول الله جل وعلا: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} [النساء:60]] إلى آخر الآيات، ومن المعروف في اللغة العربية أن كلمة: (زعم) و (يزعم) تأتي للأمر المشكوك الذي ليس متيقناً، فقوله: (يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا) معنى ذلك أنهم يقولون قولاً لم يتحقق بفعلهم ولا بقلوبهم، وإنما هو مجرد قول، ويمكن أن يكون كذباً؛ لأن القول إذا لم يكن صادراً عن القلب ولم يكن معمولاً به فإنه يكون كذباً، ولهذا جاء: (بئس مطية المرء زعموا)؛ لأن الزعم غالباً يطلق على الكذب، وهذا يشعر بأنهم لم يتحققوا الإيمان ولم يدخل الإيمان في قلوبهم.
فقوله تعالى: (يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ) يبين أن ادعاءهم الإيمان مجرد زعم والواقع أنهم لم يؤمنوا.
والسبب في كونه كذباً ظاهراً هو أنهم (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ)، وقد جاء الأمر في جميع الشرائع بالكفر به، وكونهم يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت -والإرادة: هي القصد الجازم- يدل على أنهم ليسوا بمؤمنين.(100/3)
تعريف الطاغوت
قال الإمام مالك: الطاغوت: كل ما عبد من دون الله، وعرفه ابن القيم تعريفاً جامعاً فقال: الطاغوت: كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو مطاع أو متبوع.
وقوله: (كل ما تجاوز به العبد حده) سبق أن شرحناه وبينا معناه، وحد المخلوق: أن يكون عبداً لله، فإذا تجاوز حد العبودية لله جل وعلا والخضوع له والذل بأن جعل له نصيباً منها، أو تجاوز حد الطاعة التي هي طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وأراد أن يطاع في معصية الله أو في تحليل الحرام أو تحريم الحلال أو ما أشبه ذلك فإنه يكون طاغوتاً أو يكون متبوعاً على الهوى وبدون حق، ولهذا لما ذكر ابن القيم هذا التعريف قال: وهذه طواغيت العالم إذا نظرت إليها وجدت الأرض مملوءة من هذه الطواغيت، ولا يخلو الإنسان الذي يترك شرع الله وعبادة الله واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم من أن يكون عابداً لهذا الطاغوت.
والمقصود هنا بيان معنى شهادة أن محمداً رسول الله على ما أراده المؤلف، وأورد هذه الآية من أجل ذلك، وذلك أن العباد كلفوا بعبادة الله وبطاعته واتباع أمره بواسطة الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز أن يعبدوا الله أو يفعلوا فعلاً يتعبدون به أو يتركون شيئاً يتعبدون به إلا إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد جاء به وبينه لهم، ومن ذلك التحاكم وفض النزاع والخصومات، وكذلك الخلاف الذي يقع بين الناس يجب أن يرجع فيه إلى ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وإن لم يفعل الإنسان ذلك فمعنى هذا أنه ما جاء بشهادة أن محمداً رسول الله على الوجه الأكمل والمطلوب الذي ينجو به؛ لأن العبادة وكذلك الطاعة وكذلك الحلال والحرام لا يجوز أن يؤخذ من قول فلان ولا من فعل فلان، وإنما يجب أن يؤخذ مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومعنى هذا أن الإنسان لا اختيار له فيما يفعله تعبداً، وإنما الأمر إلى الله، وأمر الله الذي كلف به الإنسان ما يتبين للإنسان إلا بمجيء الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا يقول جل وعلا: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} [الأحزاب:36] يعني: ما لهم الاختيار ولا يجوز أن يكون لهم اختيار في ذلك، بل يجب عليهم أن ينفذوا ويمتثلوا وإلا لم يكونوا مؤمنين.
فعلى هذا يكون معنى (شهادة أن محمداً رسول الله) أنه رسول جاء بالرسالة من الله وفيها العبادة وفيها الأمر والنهي وفيها التكليف، وأنه لا يقدم الإنسان على عبادة أو أمر يصبح فيه ثقل بينه وبين من خالفه أو يكون فيه حكم بينه وبين من خالفه إلا إذا اتبع الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك وصار الحاكم هو قوله أو قول ربه الذي جاء به، فهذا هو معناها الحقيقي، وهو الذي أراده المؤلف عند استدلاله بهذه الآية.
ومعنى ذلك أنه يجب التحاكم إلى ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، والتحاكم أمر عام، سواءً أكان في فض النزاعات التي فيها حقوق، أم إنهاء الخلاف في مسائل العلم أم غيرها مما يحدث فيه خلاف بين الناس -ولابد من الخلاف-، فلابد أن يكون مردوداً إلى ماجاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم يكون هو الحاكم، فيرضى المحكوم عليه بهذا ويسلم وينقاد، وإلا فلا يكون مسلماً إن لم يفعل هذا، ولهذا ختم هذه الآيات بقوله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65]، فبين في هذه الآيات أن الذي لا ينقاد إلى ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم إما أنه عابد للطاغوت أو يكون منافقاً يظهر الموافقة ويبطن الكفر ويريد أن يوفق بين الحق وبين الباطل على حد زعمه، وهذا مستحيل لا يمكن، ولكن هكذا يزعمون أنهم يوفقون بين هذا وهذا برأيهم وبعقولهم، وهو ظن بعيد جداً عن الصواب، بل مصدره من الشيطان الذي دعاهم إلى ذلك، ولهذا أخبر جل وعلا أن الشيطان يريد أن يضلنا ضلالاً بعيداً، وهو حريص على اضلالهم وقد أطاعوه في هذا.(100/4)
معنى شهادة أن محمداً رسول الله
فالخلاصة أن معنى شهادة أن محمداً رسول الله -بعد العلم اليقيني بأنه بشر أوحي إليه شرع-: طاعته في أمره، وتحيكمه فيه، والانتهاء عما نهى عنه، وأنه جاء بشرع من عند الله، وليس هو رباً يتصرف في الكون، ولا معبوداً يعبد مع الله، وإنما يعبد الله جل وعلا بما جاء به من عند الله جل وعلا، ويكون الذي جاء به مهيمناً على حياة الإنسان كلها في الطاعة والحكم وفض النزاع وغير ذلك، وإلا فلا يكون الإنسان جاء بالشهادة كما ينبغي.
قال الشارح رحمه الله تعالى: [قال العماد ابن كثير رحمه الله: والآية ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة، وتحاكم إلى ما سواهما من الباطل، وهو المراد بالطاغوت هاهنا.
وتقدم ما ذكره العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في حده للطاغوت، وأنه: كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع، فكل من حاكم إلى غير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فقد حاكم إلى الطاغوت الذي أمر الله تعالى عباده المؤمنين أن يكفروا به؛ فإن التحاكم ليس إلا إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومن كان يحكم بها].
هذا الحد قد يحتاج إلى تبيين.
وقد سبق أن بيناه في موضعه، ولكن قوله: (الطاغوت: كل ما تجاوز به العبد حده) العبد هنا فاعل التجاوز، فهو كل ما تجاوز به العبد حده، والضمير في قوله: (حده) مفعول عائد على الطاغوت الذي حدث به التجاوز.
ومعنى ذلك أن الذي اتُبِع أو عُبِد لا يخلو إما أن يكون إنساناً عاقلاً، فإن كان إنساناً عاقلاً فهو مكلف بأن يكون عبداً لله جل وعلا، ولا يجوز أن يخرج عن حد العبودية، فإن خرج عن حد العبودية بأن دعا إلى عبادة نفسه، أو رضي أن يكون مشاركاً لله جل وعلا في شيء من العبادة صار طاغوتاً.
والطاغوت: مأخوذ من الطغيان الذي هو التجاوز، فهو طغى على حد العبودية، وخرج منها إلى الربوبية أو الإلهية، أما إذا كان غير عاقل مثل الشجر أو الحجر فالشجر والحجر خلق للانتفاع والعبرة، وليس له تصرف.
أي: أن العاقل ينتفع به، ويعتبر في خلقه فقط، وليس عنده نفع ولا ضر يمكن أن يوجده، فإن قصد منه شيء مما هو خارج عما خلق له فإنه قد جعل طاغوتاً، أي: خُرِجَ به عن حده وتجاوز به الذي أخرجه حده الذي حد له، وهو أن يكون مخلوقاً ينتفع به في بناء أو في سدود، أو ما أشبه ذلك إذا كان حجراً، وأما إذا كان شجراً فيكون متاعاً للبهائم، أو وقوداً للنار، وما أشبه ذلك من الانتفاع الذي ينتفع به الإنسان.
فإن طلب منه بركة، أو نفعاً غيبياً، أو مستقبلياً، أو جعل له شيئاً من التصرف فقد تجاوز به الحد وجعله طاغوتاً كطواغيت الكفار من الأحجار والأشجار.
وإذا كان قبراً فالقبر وضعه مثل وضع الحجارة والأشجار؛ لأن المقبور أصبح رفاتاً وتراباً لا يستطيع أن ينفع نفسه، فإذا اتجه إليه بالدعاء وطلب منه النصر، أو ما أشبه ذلك فقد جعله طاغوتاً.
وكذلك إذا جعل مخلوقاً غير رسول الله صلى الله عليه وسلم حكماً يتحاكم إليه في فض النزاعات ويرجع فيما اختلف فيه إليه فقد تجاوز به حده؛ لأن حده أن يكون متبعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهكذا، فهذا معنى قوله: (كل ما تجاوز به العبد حده).
ثم فصّل فقال: سواء أكان هذا الذي تجوز به الحد معبوداً، أم كان متبوعاً، أم كان مطاعاً؛ لأن المطاع يجب أن تكون طاعته بأمر الله وأمر رسوله، فيطاع لأنه أمر بأمر الله وأمر رسوله، أما إذا تجاوز إلى غير ذلك فإنه يكون خارجاً عن حد العبودية، وإذا اتبع على ذلك صار المتبع له يتبع طاغوتاً.
وسواء أكان معنى أم كان شيئاً قائماً بنفسه مجسداً يلمس وينظر إليه، فلا فرق بين هذا وهذا.
قال الشارح رحمه الله: [فمن حاكم إلى غيرهما فقد تجاوز به حده، وخرج عن ما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأنزله منزلة لا يستحقها، وكذلك من عبد شيئاً دون الله فإنما عبد الطاغوت.
فإن كان المعبود صالحاً صارت عبادة العابد له راجعة إلى الشيطان الذي أمره بها، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ * فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ * هُنَالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [يونس:28 - 30].
وكقوله: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ:40 - 41]].
يعني أن المعبود الذي يعبد من دون الله قد يكون رجلاً مطيعاً صالحاً، فكيف يسمى طاغوتاً؟! فهل يطلق عليه أنه طاغوت؟ لا وإذا كان كذلك فالطاغوت هو من أمر بعبادته وهو الشيطان، وأما الرجل الصالح فلا يمكن أن يرضى بأن يعبد من دون الله أو يأمر بذلك، وقد عيد كثير من الناس الملائكة، والأنبياء والصالحين.
فإذا كان يوم القيامة جمعهم الله جل وعلا وسأل المعبودين من الملائكة ومن الأنبياء وغيرهم ويقول لهم أمام العابدين: {أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} [سبأ:40]؟ فيتبرءون منهم.
فمنهم من يقول: كنا غافلين عن ذلك ما لنا علم؛ لأنهم أموات لا يعرفون ماذا يقع، والملائكة يقولون: {سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} [سبأ:41]، والمقصود بالجن الشياطين، فهي التي أمرتهم بعبادة غير الله.
ولهذا تكون العبادة للشيطان، وكذلك إذا كان المعبود غير عاقل فإن العبادة للشيطان؛ لأن الله جل وعلا جعل في عقل الإنسان تمييزاً بين من يتصرف ومن لا يتصرف، ولكن الشيطان هو الذي يزين بأن هذا ينفع وأن هذا يشفع وأن هذا ينفع وأن هذا يضر.
ولهذا فإن الذين يعبدون الشمس يعبدون الشيطان؛ لأنه هو الذي أمر بعبادتها، فإذا سجدوا لها ذهب ووقع مقارناً للشمس فيقع السجود له، كما في صحيح مسلم من حديث عمرو بن عبسة أنه لما سأله عن الصلاة قال: (صل صلاة الصبح ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس وترتفع، فإنها تطلع بين قرني الشيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار).
وكذلك إذا غربت تغرب بين قرني الشيطان، فإن الشيطان يقارنها حتى يقع السجود والعبادة له.
ولهذا لما لما نزل قول الله جل وعلا: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:98] جاء أحد الكفار ليخاصم الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك، فسأله: أليس عيسى يعبد، وأمه تعبد، والعزير يعبد، والملائكة تعبد؟ فإذاً يكون هؤلاء حصب جهنم! فأنزل الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} [الأنبياء:101 - 102].
والعبادة التي وقعت ممن عبدهم تكون للشيطان.
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري في حديث الشفاعة الطويل أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا شفع الشفاعة الكبرى إلى الله جل وعلا بأن يفصل بين خلقه أن الله يشفعه في ذلك، ثم يأتي الرب جل وعلا فيخاطبهم جميعاً، ويقول لهم: إني أنصت لكم منذ خلقتكم فأسمع كلامكم وأحصي أعمالكم فأنصتوا لي الآن، فلابد من الحساب خضوعاً وذلاً، ويقول جل وعلا: أليس عدلاً مني أن أولي كل واحد منكم ما كان يتولاه في الدنيا؟ ما الجواب؟
الجواب
بلى فهو العدل، فيؤتى بكل معبود كان يعبد في الدنيا وينصب أمامهم، سواء أكان المعبود من الأصنام أم من غيرها.
أما إذا كان المعبود ملكاً أو نبياً أو رجلاً صالحاً فإنه يؤتى بالشيطان على مثاله، ويقال لعابده: هذا معبودك فاتبعه، فتذهب المعبودات إلى جهنم فيتبعها العابدون، فيكبكبون فيها جميعاً، ويبقى في الموقف المؤمنون فقط، ومعهم المنافقون الذين كانوا يحكم عليهم ظاهراً بأحكام الإسلام، ولكنهم في الباطن كفرة، فيقول الله جل وعلا لهم ما الذي أبقاكم وقد ذهب الناس -أي: ذهبوا إلى جهنم-؟ فيقولون: إنما فارقناهم أشد ما كنا إليهم حاجة.
أي: في الدنيا فارقناهم وتركناهم وكنا نحتاج إليهم، واليوم لا نحتاج إليهم، فليس لنا بهم حاجة؛ لأنهم لا يغنون عنا شيئاً.
والمقصود أنه يؤتى بالإنسان المعبود إذا كان المعبود رجلاً طائعاً لله جل وعلا من نبي أو ملك، أو رجل صالح، ثم يؤتى بالشيطان على مثاله وصورته التي كان يتخيلها العابد؛ لأن العابد لابد أن يتخيل شيئاً عند عبادته، فيتخيل أن هذا النبي كان كذا وكذا، وهذا النبي كذا وكذا، فيؤتى به على ذلك القوام الذي كان يتخيله، ويقال له: هذا معبودك فاتبعه.
والواقع أنه ما عبد إلا الشيطان؛ لأن الشيطان هو الذي أمره بذلك فهو يطيعه، ولهذا إذا استقروا في النار جميعاً وتكاملوا فيها يقوم الشيطان خطيباً فيهم في النار، يقول بعض المفسرين: إنه ينصب له منبر في وسط جهنم والمهم أنه يقوم فيهم خطيباً؛ لأنه رئيسهم وقائدهم وإمامهم، فيقول لهم: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم:22] يعني: ما كان لي حجة ولا برهان في دعوتي إياكم، إنما هي مجرد دعوة: {إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم:22]، فيكفر باتباعهم له ويتبرأ منهم، ويقول: أنتم اليوم لا تغنون عني شيئاً.(100/5)
التوحيد هو الكفر بكل طاغوت عبد من دون الله
قال الشارح رحمه الله: [وإن كان ممن يدعو إلى عبادة نفسه، أو كان شجراً أو حجراً أو قبراً أو غير ذلك مما يتخذه المشركون أصناماً على صور الصالحين والملائكة وغير ذلك فهي من الطاغوت الذي أمر الله تعالى عباده أن يكفروا بعبادته ويتبرءوا منه ومن عبادة كل معبود سوى الله كائناً من كان، وهذا كله من عمل الشيطان وتسويله، فهو الذي دعا إلى كل باطل وزينه لمن فعله، وهذا ينافي التوحيد الذي هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله.
فالتوحيد هو الكفر بكل طاغوت عبده العابدون من دون الله، كما قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4]، وكل من عبد غير الله فقد جاوز به حده وأعطاه من العبادة ما لا يستحقه.
قال الإمام مالك رحمه الله: الطاغوت: ما عبد من دون الله].
أي: ما عبد من دون الله مطلقاً، إلا أن يكون نبياً أو ولياً أو ملكاً، فهو يحتاج إلى قيد: (ما عبد من دون الله وهو راضٍ بهذه العبادة) إذا كان عاقلاً مكلفاً، فلابد أن يقيد بأن يكون راضياً، أما إذا كان غير راض أو غير عالم بذلك فأن العبادة تقع على الشيطان؛ لأن الشيطان هو الذي أمر بذلك.
ومع ذلك إذا كان المتوجه إليه بعد موته في قبره فإن هذا القبر يكون وثناً، ويكون طاغوتاً، ولكن المقبور إذا لم يكن راضياً بهذا ولا آمراً به فليس كذلك، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، فيدعو أن لا يكون قبره وثناً يعبد، فدل على أنه لو عبد لكان وثناً، ولكن الله جل وعلا حماه من ذلك.(100/6)
تحكيم الله ورسوله من مقتضى الإيمان
قال الشارح رحمه الله: [وكذلك من دعا إلى تحكيم غير الله ورسوله فقد ترك ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ورغب عنه، وجعل لله شريكاً في الطاعة، وخالف ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أمره الله تعالى به في قوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة:49].
وقوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65].
ومن خالف ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم بأن حكم بين الناس بغير ما أنزل الله، أو طلب ذلك اتباعاً لما يهواه ويريده فقد خلع ربقة الإسلام والإيمان من عنقه وإن زعم أنه مؤمن؛ فإن الله تعالى أنكر على من أراد ذلك، وأكذبهم في زعمهم الإيمان لما في ضمن قوله: (يزعمون) من نفي إيمانهم؛ فإن (يزعمون) إنما يقال غالباً لمن ادعى دعوى هو فيها كاذب لمخالفته لموجبها وعمله بما ينافيها، يحقق هذا قوله: {وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} [النساء:60]؛ لأن الكفر بالطاغوت ركن التوحيد كما في آية البقرة، فإذا لم يحصل هذا الركن لم يكن موحداً].
آية البقرة هي قوله جل وعلا: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:256]، فبدأ أولاً بالكفر بالطاغوت، مما يدل على أنه لابد من الكفر به، والكفر به معناه أن يتبرأ الإنسان منه ويبتعد عنه، ويبتعد عن أهله والذين يحكمون به أو يعملون به ولابد من ذلك، أما كونه يتركه فقط فلا يكفي، بل لابد من تركه وكراهته والتبرؤ منه؛ لأن الله جل وعلا يقول: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ} [المجادلة:22].
ويقول جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ} [المائدة:51]، ويقول: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51]، فلما ذكر أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض سواء أكانوا من المهاجرين المقاتلين أم من الذين لم يهاجروا وإنما اشتركوا بالإيمان والطاعة والإتباع ذكر أن بعضهم أولياء بعض، ثم ذكر أن الكافرين بعضهم أولياء بعض، ثم قال بعد ذلك: {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:73].
يعني: إن لم تحصل موالاة المؤمنين بعضهم لبعض، وكونهم معتزين بأنفسهم معادين للكفار منابذين لهم حصلت الفتنة والفساد الكبير، فهذا هو التوحيد الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وكلف كل مكلف به، وليس هذا من الأمور التي فعلها مستحب ومن تركها لا لوم عليه، بل هذا أمر فرض على كل إنسان ولابد أن يعتقده ويعمل به.(100/7)
الكفر بالطاغوت من أركان التوحيد
قال الشارح رحمه الله: [فإذا لم يحصل هذا الركن لم يكن موحداً، والتوحيد هو أساس الإيمان الذي تصلح به جميع الأعمال وتفسد بعدمه، كما أن ذلك بين في قوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:256]، وذلك أن التحاكم إلى الطاغوت إيمان به.
وقوله: {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:60] يبين تعالى في هذه الآية أن التحاكم إلى الطاغوت مما يأمر به الشيطان ويزينه لمن أطاعه، ويبين أن ذلك مما أضل به الشيطان من أضله، وأكده بالمصدر، ووصفه بالبعد، فدل على أن ذلك من أعظم الضلال وأبعده عن الهدى.
ففي الآية أربعة أمور: الأول: أنه من إرادة الشيطان.
والثاني: أنه ضلال.
والثالث: تأكيده بالمصدر.
الرابع: وصفه بالبعد عن سبيل الحق والهدى.
فسبحان الله! ما أعظم هذا القرآن وما أبلغه! وما أدله على أنه كلام رب العالمين أوحاه إلى رسوله الكريم، وبلغه عبده الصادق الأمين صلوات الله وسلامه عليهما.(100/8)
التحاكم إلى الطاغوت من صفات المنافقين
قال الشارح رحمه الله: [قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء:61] بين تعالى أن هذه صفة المنافقين، وأن من فعل ذلك أو طلبه وإن زعم أنه مؤمن فإنه في غاية البعد من الإيمان.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: هذا دليل على أن من دعي إلى تحكيم الكتاب والسنة فأبى أنه من المنافقين.
قوله: (ويصدون) لازم، وهو بمعنى (يعرضون)؛ لأن مصدره صدوداً].
أي: أنه لازم، ولو كان متعدياً لكان مصدره (صداً)، فإذا كان مصدره (صدوداً) دل على أنه لازم، يعني أن الصدود لازم لهم، أي أنهم هم الذين يصدون ولم يصدهم غيرهم، فهذا هو معنى كونه لازماً؛ لأن الصد وقع من أنفسهم ولم يقع عليهم من غيرهم؛ إذ لو كان واقعاً من غيرهم لكان متعدياً، وكان مصدره (صداً).
قال الشارح رحمه الله: [فما أكثر من اتصف بهذا الوصف، خصوصاً ممن يدعي العلم، فإنهم صدوا عما توجبه الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إلى أقوال من يخطئ كثيراً ممن ينتسب إلى الأئمة الأربعة في تقليدهم من لا يجوز تقليده، واعتمادهم على قول من لا يجوز الاعتماد على قوله، ويجعلون قوله المخالف لنص الكتاب والسنة وقواعد الشريعة، هو المعتمد عندهم الذي لا تصح الفتوى إلا به، فصار المتبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم بين أولئك غريباً، كما تقدم التنبيه على هذا في الباب الذي قبل هذا.
فتدبر هذه الآيات وما بعدها يتبين لك ما وقع فيه غالب الناس من الإعراض عن الحق وترك العمل به في أكثر الوقائع، والله المستعان].(100/9)
معصية الله ورسوله فساد في الأرض
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة:11]].
هذه الآية يقصد بها أن معصية الرسول صلى الله عليه وسلم فساد، وأن صلاح الأرض في طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة:11] يعني: بزعمهم، وهم في الواقع يفسدون في الأرض؛ لأنهم لا يطيعون الله ولا يطيعون رسوله، فكل معصية يعصى الله جل وعلا بها ويخالف الرسول صلى الله عليه وسلم فيها أمراً ونهياً، تكون من الفساد في الأرض، ومن ذلك أنهم يتحاكمون إلى غير الرسول صلى الله عليه وسلم، أو يريدون التحاكم إلى غيره، فإنه من الإفساد في الأرض، هذا هو وجه الاستدلال بالآية، فكل معصية وقعت من الناس فهي فساد في الأرض، وكل طاعة تكون من الصلاح، لأن الله أصلح الأرض بالرسالة، والذي يخالف ما جاء به الرسول يكون مفسداً، سواء أكان عالماً بأنه مفسد أم غير عالم فالفساد واقع.
ولهذا فإن إخوة يوسف لما سمعوا المؤذن يقول: {أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ * قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ * قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف:70 - 72] قالوا بعد ذلك: {تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ} [يوسف:73]؛ لأن السرقة إفساد في الأرض، فكل معصية تقع من الناس فهي إفساد في الأرض، وكل طاعة -ولا تكون الطاعة إلا باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم- تكون إصلاحاً للأرض، فالله أصلح الأرض برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وكذلك رسالة الرسل قبله فإنها للإصلاح، ومخالفتها تكون إفساداً، ومن ذلك كون الإنسان يريد أن يفض النزاع وينهي الخلاف بشيء غير الوحي الذي جاء به الرسول بشخص أو غيره، فإنه يكون من الإفساد في الأرض.
قال الشارح رحمه الله: [وقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة:11] قال أبو العالية في الآية: يعني: لا تعصوا في الأرض؛ لأن من عصى الله في الأرض أو أمر بمعصية الله فقد أفسد في الأرض؛ لأن صلاح الأرض والسماء إنما هو بطاعة الله ورسوله.
وقد أخبر تعالى عن إخوة يوسف عليه السلام في قوله تعالى: {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ * قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ * قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ * قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ} [يوسف:70 - 73] فدلت الآية على أن كل معصية فساد في الأرض].
وكذلك قصة شعيب عليه السلام بمحاجته قومه، فقد أمرهم بأن يوفوا الكيل والميزان ولا يطففوا، وقال لهم بعد ذلك: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} [الأعراف:56] وهذا يدل على أن تطفيف الميزان وعدم الوفاء به إفساد في الأرض، فدل ذلك على أن كل معصية تكون فساداً في الأرض.
قال الشارح رحمه الله: [ومناسبة الآية للترجمة أن التحاكم إلى غير الله ورسوله من أعمال المنافقين، وهو من الفساد في الأرض.
وفي الآية التنبيه على عدم الاغترار بأقوال أهل الأهواء وإن زخرفوها بالدعوى، وفيها التحذير من الاغترار بالرأي ما لم يقم على صحته دليل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم].(100/10)
الباطل لا ينفق إلا بتحسين الهيئة والمنطق وقلب الحقائق
وجه الاستنباط من الآية قولهم: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة:11] في قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة:11] فجعلوا الإفساد إصلاحاً، ولابد أن يحسنوا أعمالهم ويزينوها أمام الناس، وكذلك أقوالهم حتى يغتر بها من لا يعرف الواقع ويعرف الحقيقة.
وهذا يفيدنا أنه ينبغي للإنسان أن يتفطن لأقوال الناس وأعمالهم ويعرف ويميز بين ما هو موافق للكتاب والسنة، وبين ما هو مخالف، فيقبل ما وافق الكتاب ويرد المخالف للكتاب والسنة، ولا يغتر بتزيين الكلام فإنه قد يراد به باطلاً، فقد يكون الإنسان ذو مقدرة على تحسين الكلام، وتزيينه، وإلباسه لباساً يستدعي الاستماع إليه، وقبوله، وهو في الواقع باطل.
ولهذا يقول الله جل وعلا في سورة المنافقين: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون:4] يعني: أنهم لهم المرأى الحسن والمنظر الجميل والطلعة البهية واللباس الفاخر، فإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم -أي: مناظرهم- {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون:4] يعني أن عندهم بلاغة وفصاحة وبياناً يستطع أحدهم أن يلفت النظر إليه بهيئته، ويلفت الأسماع بقوله، وهؤلاء من أضر الخلق على الخلق، ولهذا حذر منهم جل وعلا، فقال: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} [المنافقون:4]، فأخبر أنهم هم العدو، وليس معنى ذلك أن العدو محصور فيهم، ولكن لشدة ضررهم وعداوتهم على المسلمين والإسلام حصر العداوة فيهم، وإلا فهناك أعداء غيرهم.
قال الشارح رحمه الله: [فما أكثر من يصدق بالكذب ويكذب بالصدق إذا جاءه، وهذا من الفساد في الأرض، ويترتب عليه من الفساد أمور كثيرة تخرج صاحبها عن الحق وتدخله في الباطل، نسأل الله العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.
فتدبر تجد ذلك في حال الأكثر إلا من عصمه الله ومَنَّ عليه بقوة داعي الإيمان وأعطاه عقلاً كاملاً عند ورود الشهوات، وبصراً نافذاً عنده ورود الشبهات، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم].
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56]].
سبق أن المعاصي هي التي يقع بها الإفساد في الأرض، فكل معصية تكون فساداً، وإن كانت محصورة على المفسد نفسه؛ لأنه أفسد في نفسه، والأرض خلقها الله جل وعلا لتكون متاعاً لعابديه، ثم قال جل وعلا: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة:29].
والخطاب للمؤمنين الذين يؤمنون به، أما الذين يفسقون -والفسوق: الخروج عن الطاعة- فإنهم لا يستحقون أن يكونوا في أرض الله وفي ملك الله؛ لأنهم خرجوا عن طاعته، والله جل وعلا لا يفوته شيء، وإنما يمهلهم حتى يوافوه فيجازيهم بما يستحقون، فكل معصية وقعت في الأرض فهي من الفساد، ومعروف أن الفساد يتفاوت.
وقوله: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} [الأعراف:56] المقصود بالإصلاح إصلاحها بالدعوة التي جاءت بها الرسل، وفي هذه الآية جعل الإفساد مطلقاً، فتبين بهذا أن كل خروج عن طاعة الله جل وعلا يكون فساداً في الأرض.
والشاهد من الآية أن الخروج عن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وعدم تحكيمه في النزاع وغيره من الفساد في الأرض، بل هو من أعظم الفساد في الأرض، بل ربما يكون أصل الفساد في الأرض عدم الانقياد للأوامر التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم.(100/11)
طاعة الله ورسوله إصلاح في الأرض ومعصيتهما فساد
قال الشارح رحمه الله تعالى: [قال أبو بكر بن عياش في الآية: إن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم إلى أهل الأرض وهم في فساد، فأصلحهم الله بمحمد صلى الله عليه وسلم، فمن دعا إلى خلاف ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فهو من المفسدين في الأرض.
وقال ابن القيم رحمه الله: قال أكثر المفسرين: لا تفسدوا فيها بالمعاصي والدعاء إلى غير طاعة الله بعد إصلاح الله لها ببعث الرسل وبيان الشريعة والدعاء إلى طاعة الله.
فإن عبادة غير الله، والدعوة إلى غيره، والشرك به هو أعظم فساد في الأرض، بل فساد الأرض في الحقيقة إنما هو بالشرك به ومخالفة أمره، فالشرك والدعوة إلى غير الله وإقامة معبود غيره ومطاع متبع غير رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أعظم فساد في الأرض، ولا صلاح لها ولا لأهلها إلا بأن يكون الله وحده هو المعبود المطاع، والدعوة له لا لغيره، والطاعة والإتباع لرسوله ليس إلا، وغيره إنما تجب طاعته إذا أمر بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا أمر بمعصيته وخلاف شريعته فلا سمع له ولا طاعة.
ومن تدبر أحوال العالم وجد أن كل صلاح في الأرض سببه توحيد الله وعبادته وطاعة رسوله، وكل شر في العالم وفتنة وبلاء وقحط وتسليط عدو وغير ذلك فسببه مخالفة رسوله والدعوة إلى غير الله ورسوله.
اهـ.
ووجه مطابقة هذه الآية للترجمة أن التحاكم إلى غير الله ورسوله من أعظم ما يفسد الأرض من المعاصي، فلا صلاح لها إلا بتحكيم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو سبيل المؤمنين، كما قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115]].
معنى قوله: (نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى) يعني: نوكله إلى العمل الذي يعمله والشيء الذي يستند إليه، فإذا كانت المعصية فإنه يتمادى فيها حتى الموت؛ لأنه من جزاء المعصية: المعصية وبعدها، ومن جزاء الحسنة الحسنة وبعدها، وهذا في الغالب، وقد يتوب الله جل وعلا على من يشاء، فتوليته ما تولى إذا كان تولى هواه أو تولى شهواته، أو تولى مخلوقاً يطيعه في معصية الله فإنه يوكل إليه ويتخلى الله جل وعلا عنه.
ومن وكل إلى مخلوق أو إلى نفسه فإنه يكون ضائعاً وهالكاً، وقوله: (ونصليه جهنم) هذا في الآخرة، فيولى ما تولى في الدنيا في حياته، ثم بعد موته يصلى جهنم، وهذا من أعظم الوعيد، نسأل الله العافية.(100/12)
التحاكم إلى غير الله ورسوله تحاكم إلى الجاهلية
قال المنصف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50]].
(أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) يعني أن كل من طلب أن يتحاكم إلى غير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه يطلب حكم الجاهلية ويريده.
والله جل علا قد أنزل كتابه حاكماً بين خلقه، وهو خير الحاكمين، وحكمه أحكم الأحكام وأعدلها وأقومها، فمن ابتغى غيره فإنه منتكس في عقله وفي دينه، واعتاض بالجاهلية عن العلم والإيمان والحق وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ويكون ضلال ذلك واضحاً لمن هداه الله جل وعلا وبصره.
قال الشارح رحمه الله تعالى: [قال ابن كثير رحمه الله: ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله تعالى المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء، والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الجهالات والضلالات، كما يحكم به التتار من السياسات المأخوذة عن جنكيز خان الذي وضعه لهم (الياسق)، وهو عبارة عن كتاب أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية، وفيها كثير من الأحكام أخذها عن مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعاً يقدمونها على الحكم بالكتاب والسنة، ومن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكم بسواه في قليل ولا كثير].
هذا يقوله الحافظ ابن كثير رحمه الله في وقته، في القرن الثامن الهجري، ولم يكن هناك في ذلك الوقت من الأحكام الوضعية والقوانين الوضعية التي وضعت واعتيض بها عن شرع لله جل وعلا في كثير من البلاد الإسلامية، وإنما هذا وقع من التتار، والذي وقع بعده أعظم مما فعله جنكيز خان وأتباعه بكثير؛ لأنهم جعلوا هذه القوانين حاكمة في البلاد بدل شرع الله مع علمهم أن لله شرعاً، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء به، وأن الله أوجب أن يحكم به.
وهذا مبدأ ظهور ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من أن القرآن يرفع في آخر الزمان، فإنه إذا ترك العمل به واعتاض الناس عنه بغيره بآرائهم وأفكارهم وأوضاعهم وما يرونه يناسبهم مع قصور آرائهم -ولا شك أنها قاصرة- إذا اعتاضوا عنه بذلك فانه يرفع فيسرى عليه في ليلة واحدة فيرفع من المصاحف ثم من صدور الرجال فلا يبقى منه حرف واحد، ثم بعد ذلك على هؤلاء الذين رفع منهم القرآن تقوم الساعة، وهم شر خلق الله، كما جاء في صحيح مسلم: (شر الخلق الذين يتخذون القبور مساجد، ومن تقوم عليهم الساعة).
وفيه أيضاً أنها تقوم الساعة إذا أصبح لا يقال في الأرض الله الله، وإنما يتهارجون تهارج الحمر، والمقصود أن هذا مبدأ الإعراض ومبدأ رفع القرآن؛ لأن القرآن نزل للعمل ولم ينزل ليتبرك به أو يداوى به المرضى، أو ليجعل في المساجد فقط، وإنما نزل ليكون حاكماً في شئون الناس كلها ويكون حاكماً في حياتهم، وإذا لم يكن كذلك فلا يكون الإنسان مسلماً الإسلام الذين ينجيه، وإنما يكون عاصياً يستحق عقاباً من الله جل وعلا، فلابد أن يحكم كتاب الله جل وعلا في جميع شئونه في الشيء الذي يخصه وفي الشيء الذي بينه وبين الخلق، سواء أكانوا قريبين أم بعيدين.
فالواجب المتعين على كل فرد أن يكون الحاكم في نفسه وفيما شجر بينه وبين غيره هو كتاب الله جل وعلا، وهذا أمر لا يخفى وأمر واضح وجلي، ولكن الأمور الضرورية التي تعرف من الدين بالضرورة قد تخفى إذا كثر الباطل، وكثرة المجانبة لها فقد تخفى على بعض الناس.(100/13)
حكم الله أحسن الأحكام
قال الشارح رحمه الله: [قوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] استفهام إنكار، أي: لا حكم أحسن من حكمه تعالى، وهذا من باب استعمال (أفعل) التفضيل فيما ليس له في الطرف الآخر مشارك، أي: ومن أعدل من الله حكماً لمن عقل عن الله شرعه وآمن وأيقن أنه تعالى أحكم الحاكمين، وأرحم بعباده من الوالدة بولدها، العليم بمصالح عباده، القادر على كل شيء، الحكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره؟ وفي الآية التحذير من حكم الجاهلية واختياره على حكم الله ورسوله، فمن فعل ذلك فقد عرض عن الأحسن -وهو الحق- إلى ضده من الباطل].
قوله: [من باب استعمال أفعل التفضيل فيما ليس له في الطرف الآخر مشارك].
يعني أن أفعل التفضيل إذا جاء في اللغة العربية فلابد أن يكون له مشارك يقابله، تقول: فلان أفضل من فلان ولابد أن يكون بينهما شيء من الاتصاف والعمل الذي يتصفون به ويعملون به، ولا يصح أن تقول: الإنسان أفضل من هذا الحجر.
فلابد أن يكون الذي فضل عليه مشاركاً له في الأوصاف، وفي الأعمال، ومعلوم أن الإنسان لا يشارك الرب جل وعلا في حكمه، وفي علمه، وفي أحكامه، وفي عدله، وفي غير ذلك من صفاته وأفعاله، فقال: إنه استعمل فيما لا مقابل له؛ لأن هذا حكم الله.
وهذا كثيراً ما يأتي، كقول الله جل وعلا: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل:59]، وليس هنا أحد ممن يعقل يقول: إن الأوثان نظير الله أو مماثلة لله جل وعلا، فضلاً عن أن يقول: إنها خير منه تعالى الله وتقدس.
وكذلك قوله: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان:24]، فهل بين الجنة، وبين النار شيء من الاشتراك حتى يقال: إنها أفضل؟ وإنما هذا يستعمل في الشيء الذي لا يكون له مقابل يشاركه فيه، وهذا مثله.
والمقصود أن هذا أسلوب جاء به القرآن، وهو أسلوب عربي، ويفهم من هذا الخطاب أن المقابل لا يشارك من فضل عليه بشيء.
أما الجاهلية فهي كل ما خالف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، سواء أكان قبل مجيء الإسلام، أم بعده، ولا يلزم أن تكون سابقة، بل قد تكون الجاهلية اللاحقة أسوأ من الجاهلية السابقة.(100/14)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [101]
إن مذهب أهل السنة والجماعة في الإيمان أنه يتفاوت بين الناس، فمنهم من يكون إيمانه كاملاً، ومنهم من يكون إيمانه ناقصاً، والإيمان المطلق هو الإيمان الكامل الذي لا يطلق إلا على من أتى بالواجبات وترك المنهيات، مع ما قام في قلبه من معرفة الله جل وعلا وتعظيمه وخوفه والذل له.
ومن كان هواه خلاف ما جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم فلن يكون من أهل الإيمان الكامل، وإنما يكون في درجة أهل الإساءة والمعاصي من أهل الإسلام.(101/1)
الكلام على حديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: أن سول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) قال النووي: حديث صحيح، رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح].
هكذا قال النووي رحمه الله: إنه حديث صحيح، وقوله (رويناه في كتاب الحجة) الحجة هو: كتاب (الحجة على تارك المحجة) لـ أبي نصر الشافعي رحمه الله، وهو كتاب متداول معروف، وموضوعه في بيان العقائد على طريقة المحدثين.
ومعنى قوله: (رويناه) أنه روى الكتاب عن مشايخه بسنده إلى المؤلف، وكل ما فيه يكون مروياً بهذه الطريقة، وهكذا الكتب التي يرويها العلماء بهذا المعنى، وهذا الحديث جعله النووي رحمه الله في كتابه (الأربعون النووية) الذي اشترط أنه لا يدخل فيه إلا حديثاً صحيحاً.
فجمع أربعين حديثاً يدور عليها دين الإسلام، ولكن الحافظ ابن رجب رحمه الله في شرحه لهذا الحديث قال: تصحيحه بعيد جداً يعني: كون الحديث صحيحاً بعيد جداً من وجوه، ثم ذكر الوجوه التي فيها ضعفه وأن الحديث ضعيف فضعفه، ومعلوم أن العلماء تختلف أنظارهم في مثل هذا، فقد يصحح عالم من علماء الحديث، ويأتي غيره ويضعفه، وقد يكون العكس، وهذا حسب الاجتهاد.
ولكن الحديث معناه صحيح؛ لأن القرآن دل على ذلك، كما قال الله جل وعلا: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] يعني: أنه لابد أن يكون المؤمن متبعاً أمر الله جل وعلا، ولابد أن يكون الاتباع ليس عن طريق المجاملة، أو طريق الموافقة بل لابد أن يكون عن طريق الاتباع والحب والإرادة وطلب الثواب والهرب من العذاب لابد أن يكون بهذا المعنى، وإلا فلا يفيد، ويقول الله جل وعلا: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] فأخبر الرب جل وعلا أنه لا يحصل لأحدهم الإيمان حتى يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في الشجار الذي يحصل بينه وبين غيره.
ومن ذلك الشجار مع نفسه، كونه يكون عنده تردد أو شك أو ريب، فلابد أن يحكم كتاب الله الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم مجرد التحكيم لا يكفي في الإيمان بل لابد أن يسلم، والتسليم معناه: ألا تكون هناك منازعة، وألا يكون هناك طلب لحكم غير الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثم أيضاً لابد من الرضا بهذا، ولهذا قال: {حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا} [النساء:65] يعني: ما يكون في نفسه ضيق من هذا، فيتمنى أن يكون الحكم على خلاف ما هو عليه، بل لابد أن يرضى به، وهذا معنى أن يكون هواه تبعاً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فالرضا بأحكام الرسول صلى الله عليه وسلم متعين، وهذا الحديث يتفق مع مثل هذه الآية والآيات في هذا كثيرة.
قال الشارح رحمه الله تعالى: [هذا الحديث رواه الشيخ أبو الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي الشافعي في كتاب (الحجة على تارك المحجة) بإسناد صحيح، كما قاله المصنف رحمه الله عن النووي.
ورواه الطبراني وأبو بكر بن عاصم والحافظ أبو نعيم في (الأربعين) التي شرط لها أن تكون من صحيح الأخبار، وشاهده في القرآن قوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65].
وقوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]، وقوله: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص:50] ونحو هذه الآيات].
وكذلك قوله جل وعلا: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:9] فكراهة ما أنزل الله جل وعلا محبطة للعمل، ومعنى ذلك أنه لابد من الرضا به، ويرتبط به ويصبح ارتباطه به أكثر من ارتباطه بكل شيء، ولابد من هذا، والآيات في هذا كثيرة.
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (لا يؤمن أحدكم) أي: لا يكون من أهل كمال الإيمان الواجب الذي وعد الله أهله عليه بدخول الجنة والنجاة من النار، وقد يكون في درجة أهل الإساءة والمعاصي من أهل الإسلام].
يعني أن الإيمان الذي يجب أن يكون كاملاً هو الإيمان الواجب على كل أحد، وهو الإيمان الذي يدعو الإنسان للانقياد لأمر الله، والانتهاء عن نهيه، ويكون راغباً في ذلك وراهباً، فهذا إذا كان بهذه المنزلة كان إيمانه كاملاً، فيصبح ليس عليه خوف فيما يستقبله، ولا يخاف أن يقع في العذاب.
أما إذا انتقص مما وجب عليه من الإيمان الذي يقتضي فعل المأمور، وترك المحظور المنهي عنه المحرم انتقص من ذلك شيئاً فقد انتقص من الإيمان، أو انتقص من مقتضاه، ومقتضاه أنه يفعل ما أمر به وينتهي عما نهي عنه فقد يرتكب منهياً عنه وقد يترك واجباً عليه، فيكون عاصياً بذلك، ويكون إيمانه ناقصاً؛ لأنه ترك الإيمان الواجب الكامل الذي ينجو به، ويأمن به من العذاب، ويبقى معه مطلق الإيمان الذي يجعله مسلماً ولا يخرج من دائرة الإسلام، ولكنه يكون من أهل الوعيد، أي: ممن يعرض للعذاب، سواء في الدنيا أو في الآخرة، وقد يكون عذاب الدنيا غير كاف، فيعذب في الآخرة.(101/2)
الذنوب سبب للمصائب
معلوم أن كل ما يصيب الإنسان من ألم وعذاب في حياته، وبعد موته هو من جراء فعله، وبسبب ذنوبه، وإلا فلو أطاع الله وأطاع رسوله صلى الله عليه وسلم لم يصبه إلا ألم الموت ومرض الموت الذي لابد منه، والذي كتب عليه؛ لأن الله جل وعلا يقول: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30].
ويقول جل وعلا في آية أخرى: {لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ} [الكهف:58].
وفي آية أخرى: {مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر:45] يعني: إذا أخذهم بذنوبهم ما بقي على الأرض حي إلا أهلكه، ولكن سعة حلمه وعدم تعجيله بالعقاب يبقيهم وإن كانوا يعصونه، بل ويعافيهم ويرزقهم.
ولهذا ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله؛ يجعلون له ولداً ويعافيهم ويرزقهم).
يعني الكفار الذين ينسبون الولد لله جل وعلا، وهذا غاية المسبة وغاية التنقص لله جل وعلا، حيث جعلوه نظيرهم، تعالى الله وتقدس عن قول الظالمين والمشركين.
والمقصود أن الإنسان لو أطاع الله الطاعة الواجبة عليه لسلم من المؤاخذات ومن تسليط العدو، ومن المصائب التي تصيبه، إلا أن مقتضى حكمة الله جل وعلا أن جعلهم يذنبون، ثم منهم من يتمادى في ذنوبه ويأتي العصيان كاملاً، ومنهم من يكون عنده شيء من الإيمان لا يخرج به عن كونه من جملة المؤمنين، ولكنه يكون معذباً بحسب ما ترك من الواجب وما فعل من المحرمات.
وهذا هو مذهب أهل السنة، أن الإيمان يتفاوت بين الناس، فمنهم من يكون إيمانه كاملاً، ومنهم من يكون إيمانه ناقصاً، والإيمان المطلق هو الإيمان الكامل، ولا يطلق الإيمان الكامل فيقال: (المؤمن فلان)، إلا لمن كمل في فعل الواجبات واجتنب فعل المنكرات مع ما قام بنفسه وفي قلبه من معرفة الله جل وعلا، وتعظيمه، وخوفه والذل له.
وإذا انتقص من ذلك شيئاً فإنه ينقص من الإيمان الواجب الذي عليه فيكون إيمانه ناقصاً، ولا يجوز أن يطلق عليه الإيمان المطلق، بل يقال: مؤمن عاص، فلابد أن يقيد فيقال: مؤمن عاص، أو يقال: مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته ولهذا ثبت في الصحيحين أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزني الزاني حين يزني، وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن).
ومعلوم أن الزاني والسارق لا يخرجان من دائرة الإيمان، ولكن الإيمان الذي نفي عنهما هو الإيمان الكامل أي: الواجب الذي يتعين عليه أن يفعله حتى يمتنع من ارتكاب المحرمات، فترك ذلك فترتب على ذلك أنه من أهل الوعيد، أي: ممن يستحق العذاب إلا أن يعفو الله جل وعلا عنه، ولكنه لا يخرج بفعله هذا عن مطلق الإيمان، ولا يخرج من دائرة الإيمان، بل يبقى معه إيمان يبقيه مسلماً، والإيمان يتجزأ فيكون الإنسان عنده جزء منه، وآخر عنده أكبر منه، والآخر يكون عنده إيمان كامل، وهكذا.(101/3)
ضلال أهل البدع في باب الإيمان
أما أهل البدع فأنهم ما استطاعوا أن يستوعبوا هذا وقالوا: الشيء الذي يتجزأ إذا ذهب جزؤه ذهب كله، فإذاً إذا وقع شيء من مقتضيات الكفر يكون كافراً، مثل فعل الزنا والسرقة وشرب الخمر وغيرها، فجعلوه كافراً بارتكاب الكبيرة، وهؤلاء هم الخوارج الذين خرجوا عن الحق إلى الباطل، فأخرجوا المسلمين العصاة من الدين الإسلامي وجعلوهم كفرة، وحكموا عليهم بأنهم يجب أن يقتلوا وتسلب أموالهم، وإذا ماتوا كانوا في النار خالدين فيها، هذا هو مذهبهم الذي يعملون به.
فصاروا يقتلون المسلمين ويدعون الكافرين، ولا يوجد أحد من الخوارج قاتل الكافرين، وإنما قاتلوا المسلمين، أما إخوانهم من أهل البدع كالمعتزلة فإنهم خالفوهم في التسمية.
قالوا: لا نسميه كافراً، كما أننا لا نسميه مؤمناً أي: أن الإنسان إذا شرب الخمر فقد خرج من الإيمان ولكنه لم يدخل في الكفر، فصار بين الإيمان والكفر، وهذا شيء استحدثوه ولم يسبقوا إليه، وجعلوا هذا أصلاً من أصول دين الإسلام عندهم، فقالوا: الدين الإسلامي مبني على خمسة أركان هذا أحدها، وهو المنزلة بين المنزلتين، وهذه الأركان مخالفة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
أما بعد الموت فإنهم وافقوا إخوانهم الخوارج فقالوا: إذا مات فهو في النار خالداً فيها لا تنفعه شفاعة الشافعين.
إذاً فما الفائدة من هذه التفرقة في الاسم وقد وافقوا الخوارج في الحكم في الآخرة، وخالفوهم في التسمية فقط، وكذلك الحكم عليه بأنه كافر في الدنيا، وهذا كله مخالف لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو خروج عن الكتاب والسنة، وهذه الأقوال من الفساد بل من أعظم الفساد في الأرض.
ولهذا ترتب على ذلك القتال والخلاف والمنابذة والمعاداة، بل وقعت حروب كلامية بين أهل السنة وبين هؤلاء من المعتزلة ومن نحا نحوهم، فأضعفت المسلمين، وذهبت بريحهم، وسلطت عليهم الأعداء، ولا يزالون في آثار ذلك من جراء هذا، فهذا من أعظم الفساد في الأرض، نسأل الله العافية.(101/4)
المعاصي تذهب كمال الإيمان الواجب
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) الهوى -بالقصر- أي: ما يهواه وتحبه نفسه وتميل إليه.
فإن كان الذي تحبه وتميل إليه نفسه ويعمل به تابعاً لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخرج عنه إلى ما يخالفه فهذه صفة أهل الإيمان المطلق، وإن كان بخلاف ذلك.
أو في بعض أحواله أو أكثرها انتفى عنه من الإيمان كماله الواجب، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن).
يعني أنه بالمعصية ينتفي كمال الإيمان الواجب، وينزل عنه إلى درجة الإسلام، وينقص إيمانه فلا يطلق عليه الإيمان إلا بقيد المعصية، أو الفسوق، فيقال: مؤمن عاصٍ، أو يقال: مؤمن بإيمانه فاسق بمعصيته، فيكون معه مطلق الإيمان الذي لا يصح إسلامه إلا به، كما قال تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92].
والأدلة على ما عليه سلف الأمة وأئمتها أن الإيمان قول وعمل ونية يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أكثر من أن تحصر.
ومن ذلك قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] أي: صلاتكم إلى بيت المقدس قبل تحويل القبلة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس: (آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ شهادة أن لا إله إلا الله) الحديث وهو وفي الصحيحين والسنن].
بيان هذا: أن الإيمان مركب من أمور ثلاثة، وليس الإيمان جزءاً كما تزعمه المرجئة ومن نحا نحوهم من أهل البدع، وأنه مجرد التصديق أو القول وما أشبه ذلك، أو أنه إذا ذهب بعضه ذهب كله، فلا زيادة ولا نقصان، فهذا باطل، بنص كلام الله جل وعلا؛ فإنه أخبر جل وعلا أن المؤمنين {إِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال:2] {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا} [الفتح:4]، {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر:31] في آيات كثيرة متعددة.
وهذا شأن أهل البدع يتركون النصوص الجلية الواضحة التي لا إشكال فيها، ويتعلقون بما يوافق أهواءهم من المتشابه، ويتركون الواضح، وقد حذرنا الله جل وعلا ورسوله منهم، فأخبر أنه أنزل الكتاب، وأن الكتاب يشتمل على آيات محكمات وأخر متشابهات، فقال: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ} [آل عمران:7]، يعني: يتبعون المتشابه طالبين الفتنة التي وقعوا فيها وهي الانحراف، ثم يؤولونه ويحرفونه بالتأويل الذي يتفق مع مرادهم، ومن فعل ذلك لا يكون راضياً بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، بل يكون غير راض به، ويكون متبعاً لمراده وهواه.
وهذا قد يكون خارجاً عن دين الإسلام -نسأل الله العافية-؛ لأنه لم يرض بحكم الله، ولم يتابع الرسول صلى الله عليه وسلم، فالإيمان يكون في القلب، ويكون في اللسان يكون بالعمل بالأعمال.
أما القلب فلابد أن يعلم الإنسان يقيناً أن الله ربه وإلهه، وأنه لا يستحق العبادة غيره، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول الحق جاء من عند الله بالهدى، وأن ما جاء به هو الذي ينجي من اتبعه، ومن لم يتبعه فهو ضال وهالك.(101/5)
التلازم بين إيمان القلب ونطق اللسان وعمل الجوارح والأركان
وكذلك لابد أن يقول: (لا إله إلا الله، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم) فلابد أن يشهد بهذا، وهذا قول اللسان، وقد اتفق العلماء على أن الإنسان لو علم في قلبه، وأيقن في قلبه أن الله الإله الحق، وأنه هو القهار المتفرد في كل شيء، وأنه هو الذي يجب أن يعبد ولا يجوز أن يعبد غيره، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حق جاء بالرسالة من عند اللهـ لو علم الإنسان هذا يقيناً في قلبه، ولم ينطق بالشهادتين -شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله- ومات على ذلك فهو خالد في النار وكافر بالله جل وعلا وبرسوله، فلابد من النطق بالشهادتين، وهذا اتفق عليه العلماء وقد نقل إجماعهم النووي رحمه الله وغيره.
وكذلك اتفقوا على أن الإنسان لو قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان هذا العلم يقيناً، ثم أحجم عن العمل فلم يصل، ولم يؤد الزكاة الواجبة عليه، ولم يصم، ولم يفعل الأفعال فإنه يكون كافراً وليس بمسلم، فإذاً لابد من اجتماع الأمور الثلاثة: أن يعلم في قلبه، ويوقن، وأن ينطق بلسانه بالشهادتين، وأن يعمل بجوارحه فيقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويصوم رمضان، وهذا هو معنى قولهم: إن الإيمان مركب من أمور ثلاثة: من عقيدة القلب، ومن قول اللسان ونطقه، ومن عمل الأركان وعمل الجوارح من الصلاة والصوم والزكاة والحج وغيرها مما أوجبه الله جل وعلا.
وكل هذه الوجوه إيمان، فدل هذا على أن الأعمال داخلة في الإيمان، وأنها تسمى إيماناً، ثم ذكر الدليل، والأدلة كثيرة جداً كما قال، ومنها قوله جل وعلا: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] يعني: صلاتكم والآية في نقل التوجه بالصلاة إلى الشام نحو بيت المقدس إلى مكة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لما كان في مكة كان يتجه إلى الشام، ويجعل الكعبة أمامه ويصلي، ولكن لما جاء إلى المدينة لا يمكنه أن يفعل ذلك، فكان يستدبر الكعبة ويستقبل الشام، فبقي على هذا ما يقرب من ستة عشرة شهراً، أو ثمانية عشر شهراً، وهو يرجو من ربه أن يصرفه إلى قبلة إبراهيم، ولكنه لم يفعل إلا ما أمره الله جل وعلا به، فنزلت آيات كثيرة، وفيها توطئة بأن لله المشرق والمغرب، وأن المتوجه أينما توجه فإنه ثم وجه لله، فأينما يمم بالصلاة فثم وجه الله.
يعني أن الله جل وعلا محيط بكل شيء، ثم نزل التصريح: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة:144]، وأخبر أن اليهود يعرفون أن هذا هو الحق، وأنه جاء من عند الله؛ لأن عندهم في كتابهم أن قبلة هذا النبي هي قبلة إبراهيم الكعبة، ولما نزلت هذه الآية والآيات التي بعدها قال الصحابة للرسول صلى الله عليه وسلم: كيف بصلاتنا التي صليناها إلى بيت المقدس؟ أي: هل بطلت؟ فأنزل الله جل وعلا: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143].
يعني: صلاتكم التي صليتموها إلى بيت المقدس فهذا واضح في أن الصلاة تسمى إيماناً، وكذلك الحديث الذي ذكر من حديث وفد عبد القيس، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (آمركم بالإيمان، أتدرون ما الإيمان؟ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وأن تؤتوا الخمس من المغنم) فذكر هذا الشيء، وهذا واضح جلي بأن القول والعمل داخل في الإيمان، والأدلة على هذا كثيرة جداً، والمخالف في هذا ليس عنده دليل إلا مجرد الأوهام، فالذي يذهب إليه أهل السنة أن الإيمان مركب من أمور ثلاثة: من العقيدة والعلم، ومن القول والنطق، والعمل، وأنه يزيد وينقص، فإذا عمل الإنسان وكثر عمله زاد إيمانه، والزيادة ليست في العمل فقط، فقد تكون الزيادة في اليقين، فقد يكون الإنسان في وقت أكثر يقيناً منه في وقت آخر، وكذلك القول قد يكون القول مطابقاً لما في القلب ومطابقاً لما في الواقع، وقد يكون مجرد قول قاله ولم يعرف معناه، ومعلوم أن مثل هذا يتفاوت، وكذلك الأعمال تتفاوت، فالزيادة والنقص في الجميع، في العلم وفي القول وفي العمل.(101/6)
زيادة الإيمان ونقصانه
وزيادة الإيمان جاءت في كتاب الله في مواضع كثيرة صريحة، وأن كل ما أنزل الله جل وعلا شيئاً ازداد الذين آمنوا إيماناً، ولكن النقص هل جاء صريحاً؟ الواقع أنه جاء شبه الصريح، ومن ذلك قوله جل وعلا: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3].
ومعلوم أن الذي كمل كان قبل الكمال ناقصاً، ولهذا استدل البخاري رحمه الله في صحيحه بهذه الآية على نقصان الإيمان وأنه ينقص، ولا يلزم من هذا أن الصحابة الذين كانوا قبل نزول هذه الآية كانوا ناقصي الإيمان؛ لأنهم آمنوا بما وجب عليهم.
ولأن نفس الدين الذي هو الإيمان ما كمل، ومعلوم أن الذي يأخذه كله ليس كالذي يأخذ بعضه، وكذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم الذي في الصحيح وهو يخاطب النساء: (ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن) خاطبهن بأنهن ناقصات عقل ودين، وكذلك في الحديث الآخر لما خطب النساء صلوات الله وسلامه عليه وأمرهن بالصدقة قال: (إني رأيتكن أكثر أهل النار، فقامت امرأة وقالت: لماذا نحن أكثر أهل النار؟ فقال: لأنكن ناقصات عقل ودين، أما نقصان العقل فشهادة امرأتين بشهادة رجل، وأما نقصان الدين فإن إحداكن تبقى شطر الدهر لا تصلي) يعني: زمن العادة.
وإن كان هذا بغير اختيارها، ولكن هذا دليل على أن الذي يعمل أكثر يكون إيمانه أكمل، فهو دليل على نقصان الدين، وإلا فليس واجباً عليها أن تصلي في وقت العادة.
فالمقصود أن هذا نقص من الإيمان؛ لأن كل ما قبل الزيادة فهو يقبل النقص، فكل شيء يقبل الزيادة بمقتضى العقل فإنه يقبل النقص.
فالأدلة التي تدل على زيادة الإيمان هي دليل على نقصانه، فيكون الذي لم يزدد إيماناً يكون ناقصاً.(101/7)
ذكر بعض الأدلة على زيادة الإيمان
قال الشارح رحمه الله: [والدليل على أن الإيمان يزيد قوله تعالى: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر:31]، وقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [التوبة:124] خلافاً لمن قال: إن الإيمان هو القول -وهم المرجئة-، ولمن قال: إن الإيمان هو التصديق، كالأشاعرة.
ومن المعلوم عقلاً وشرعاً أن نية الحق تصديق، والعمل به تصديق، وقول العقل تصديق، وليس مع أهل البدع ما ينافي قول أهل السنة والجماعة، ولله الحمد والمنة.
قال الله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا} [البقرة:177] أي: فيما عملوا به في هذه الآية من الأعمال الظاهرة والباطنة، وشاهده في كلام العرب قولهم: حملة صادقة].
يعني أن هذه الأمور المذكورة في الآية كلها إيمان، والبر والتقوى والإحسان والإيمان كلها مترادفة، فبعضها يدل على بعض، وقوله: (لَيْسَ الْبِرَّ) يعني: الإيمان، (أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) إلى آخر الآيات، فجعل المجموع هو البر.
وكذلك قال جل وعلا: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ} [البقرة:285] إلى آخر الآية.
والآيات في هذا كثيرة، وكلها تجعل الأعمال إيماناً، ولم يأتِ في كتاب الله -في الغالب الكثير- ذكر الإيمان أو ذكر (الذين آمنوا) إلا ويقرن بالعمل الصالح لقوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة:25]، فلابد من التصديق، وإذا قيل: إن التصديق هو الإيمان فلابد من العمل معه، فمجرد التصديق لا يكفي ولا يفي، ولا يجعل مجرد التصديق الإنسان مؤمناً.
والأشاعرة ونحوهم الذين قالوا: إن الإيمان هو التصديق استدلوا بقوله تعالى في قصة يوسف: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف:17] يعني: بمصدق قولنا.
فقالوا: دلت الآية على أن الإيمان هو التصديق، ولكن لو قدر أن هذا صحيح وسلم لهم أن التصديق يسمى إيماناً فيقال: إن كان هذا الإيمان في اللغة فليس هذا هو الإيمان الشرعي الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه جاء بوجوب القول ووجوب العمل، وهو كله إيمان، والأمر في هذا لا إشكال فيه، ولكن إذا كان الإنسان له هوى أو كان مقيداً بمذهب معين لا يريد الخروج عنه فإن هذا هو الذي يمنعه من اتباع الحق، فيجعل ذلك عقبات أمامه.(101/8)
وجوب محبة الله جل وعلا ومحبة شرعه، وبغض ما نهى عنه
قال الشارح رحمه الله تعالى: [وقد سمى الله تعالى الهوى المخالف لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم إلهاً فقال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان:43] قال بعض المفسرين: لا يهوى شيئاً إلا ركبه.
قال ابن رجب رحمه الله: أما معنى الحديث، فهو أن الإنسان لا يكون مؤمناً كامل الإيمان الواجب حتى تكون محبته تابعةً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الأوامر والنواهي وغيرها، فيحب ما أُمر به، ويكره ما نُهي عنه، وقد ورد القرآن بمثل هذا المعنى في غير موضع، وذم سبحانه من كره ما أحبه الله أو أحب ما كره الله، كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:28].
فالواجب على كل مؤمنٍ أن يحب ما أحبه الله محبة توجب له الإتيان بما أوجب عليه منه، فإن زادت المحبة حتى أتى بما نُدب إليه منه كان ذلك فضلاً، وأن يكره ما يكره الله كراهة توجب له الكف عما حرم عليه منه، فإن زادت الكرهة حتى أوجبت الكف عما كرهه تنزيهاً كان ذلك فضلاً.
فمن أحب الله ورسوله محبة صادقة من قلبه أوجب ذلك له أن يحب بقلبه ما يحب الله ورسوله، ويكره ما يكره الله ورسوله، فيرضى بما يرضى به الله ورسوله ويسخط ما يسخط الله ورسوله، ويعمل بجوارحه بمقتضى هذا الحب والبغض، فإن عمل بجوارحه شيئاً يخالف ذلك بأن ارتكب بعض ما يكرهه الله ورسوله وترك ما يحب الله ورسوله، مع وجوبه والقدرة عليه دل ذلك على نقص محبته الواجبة، فعليه أن يتوب من ذلك، ويرجع إلى تكميل المحبة الواجبة التي هي ركن العبادة إذا كملت، فجميع المعاصي تنشأ عن تقديم هوى النفس على محبة الله ورسوله].
محبة الله جل وعلا هي عبادته، ومحبته هي محبة ذل وخضوع واستكانة وتعظيم، وهذا لا يجوز أن يكون لمخلوق؛ لأن هذا هو التأله الذي بنيت عليه العبادة، وأنه هو إله الخلق، وهنا إذا كملت المحبة هذه وتمت صار يحب أمره، ويحب أن يبتعد عن نهيه، وكل ما أحبه الله جل وعلا من العباد الذين يعبدون الله ويحبونه يحبهم من أجل الله، ويحبهم في الله.
وكذلك من خالف ذلك فهو يبغضه لله، وبهذا تكمل العبادة، وليس هذا من الأمور التي تكون مستحبه إذا فعلها الإنسان أثيب على فعلها وإن لم يفعلها لم يعاقب، بل هذا أمر لازم لابد منه، فلابد أن يحب الله جل وعلا ويحب رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن محبته من محبة الله جل وعلا، فيحبه لأن الله أحبه، وأمر بمحبته، ولأنه هو الذي جاء ببيان وجوب محبة الله جل وعلا ودل عليه.
وكذلك عباد الله الذين يحبهم الله من الملائكة والرسل وبني آدم، وفي مقابل ذلك يبغض من يبغضهم الله ورسوله، لهذا يقول الله جل وعلا: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:98] فمن عادى أولياء الله فإنه يعادي الله جل وعلا، ولهذا جاء في الحديث الصحيح: (من عادى لي ولياءً فقد آذنته بالحرب) أي: بالمحاربة ومن الذي يقوم لمحاربة الله جل وعلا.
والمقصود: أن الذي يُحب للذل والخضوع ويُحب لذاته هو الله جل وعلا وحده، أما المخلوقات فتحب للصفات التي فيها، فالمخلوق يُحب لما يتصف به من محبة الله وطاعته فقط، ولا يحب لأنه لحم ودم ولأنه على هذا الشكل، وإنما يُحب لما يتصف به، وإنما الذي يُحب لذاته هو الله وحده، ولا يشاركه في ذلك شيء، فيجب أن يُحب الحب الذي يكون خاصاً به، ولا يُشارك في حبه نبي ولا ولي؛ فإن حبه حب عبادة، أما حب العباد فهو حب لأنهم يحبون الله ويقومون بأمره، ويجتنبون نهيه، فهو حب لله وفي الله، فكل مخلوق إذا كان يُحب الله ويقوم بأمره فهو يُحب لله وفي الله، ولا يحب لذاته، وإنما الذي يحب لذاته هو الله وحده فقط.
وفي هذا الحديث يقول: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) يعني: لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به، هنا نفى الإيمان، والإيمان المنفي هنا ليس هو الإيمان من أصله؛ لأن هذا يوجد في أهل المعاصي الذين يرتكبون المعاصي ويحبون المعصية، ولولا أنهم يحبون المعصية ما ارتكبوها، وكذلك منهم من يكره نوعاً من الكراهة فعل الطاعة وتثقل عليه، ومع ذلك لا يكون بهذا خارجاً من الدين الإسلامي، بل عنده شيء من الإيمان يصح به إسلامه؛ لأنه يؤمن بالله أنه هو الذي خلقه، وهو الذي إليه مصيره، وهو الذي كلفه بالعبادة، ولكنه يتساهل، فمثل هذا ناقص الإيمان، وقد ترك من الإيمان ما هو واجب عليه، فيعاقب على تركه إن لم يتب من ذلك ويرجع إلى ربه عوقب على هذا الترك، وإنما يستكمل الإنسان الإيمان إذا كان يحب الطاعات، وتكون هذه موافقة لما في نفسه، فلا يكون عنده تضجر ولا إباء، ولا عنده أيضاً تردد في ذلك أو كرهيه له، بل يرى أن الطاعة فيها سعادته، بل هي أحب إليه من الأكل والشرب، ويكون فيها قرة عينه، فإذا كان كذلك فقد استكمل الإيمان، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (وجعلت قرة عيني في الصلاة)، فقرة عينه صلوات الله وسلامه عليه كانت في الصلاة، والذي يكون له نصيب من اتباعه لابد أن يرث شيئاً من ذلك، والإنسان قد يكون مستقلاً وقد يكون مستكثراً.
وكذلك يكون كارهاً ومبغضاً لما نهى الله عنه من المعاصي، وتزداد الكراهة كلما عظمت المعصية، حتى إذا وصل الأمر إلى الكفر يود أنه تُمزق أشلاؤه ويُحرق في النار ولا يدخل في الكفر، فإذا كان كذلك فإن هذا من تمام الإيمان ومن كماله الواجب الذي يجب أن يفعله الإنسان، وإذا رأيت الإنسان يرتكب المعاصي ويتهاون بالطاعات والأوامر فهو ناقص الإيمان، وليس عنده الإيمان الذي يجب أن يحمله على الفعل أو الترك، ولهذا جاء في الحديث: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم وهو مؤمن).
فقوله: (وهو مؤمن) هنا الواو حالية، يعني: حالة كونه يفعل هذه الأفعال يكون ليس مؤمناً.
وليس معنى هذا أنه يكون كافراً، لا، ولكن ليس عنده الإيمان الكامل الذي يمنعه من ارتكاب هذه الجرائم؛ لأن الإيمان الكامل يمنع الإنسان أن يفعل هذه الأفعال، فإذا نقص إيمانه صح أن ينفى عنه الإيمان، فإذا ذهب ركن أو جزء من الإيمان الواجب صح أن ينفى عنه، كما يقال: لا صلاة لمن لم يتوضأ، فيصح هنا نفي الصلاة، وكذلك: لا صلاة لمن لم يقم صلبه في الصلاة؛ لأن إقامة الصلب ركن من إقامة الصلاة، فهذا هو المذهب الذي عليه أهل السنة، خلافاً للخوارج الذين يأخذون بظاهر مثل هذه النصوص، ويطبقونها على المسلمين، ويجعلونهم كفاراً خارجين من الدين الإسلامي، وهذا ضلال ظاهر؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لما زنت المرأة رجمها وصلى عليها.
وكذلك لما شتم إنسان أو سب شارب الخمر نهاه عن ذلك وقال: (إنه يحب الله ورسوله)، والله جل وعلا يقول في القاتل الذي يقتل مسلماً: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:178]، فسماه أخاً، يعني أن القاتل أخ للمقتول، وهذه الأخوة ليست أخوة النسب، وإنما هي أخوة في الإيمان.
والنصوص في هذا كثيرة، ومعلوم أن أقوال الله جل وعلا وأخبار الرسول صلى الله عليه وسلم وأقواله لا تتضارب، ولا يناقض بعضها بعضاً، بل يجب أن يجمع بينها، وأن يصدق بعضها بعضاً، كما فعله أهل السنة، خلافاً للخوارج والمعتزلة وغيرهم من أهل البدع.(101/9)
وجوب بغض المشركين وتحريم موالاتهم
قال الشارح رحمه الله: [وقد وصف الله المشركين باتباع الهوى في مواضع في كتابه، فقال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص:50].
وكذلك البدع إنما تنشأ من تقديم الهوى على الشرع، ولهذا سمي أهلها أهل الأهواء، وكذلك المعاصي إنما تنشأ من تقديم الهوى على محبة الله ومحبة ما يحبه، وكذلك حب الأشخاص الواجب فيه أن يكون تبعاً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ويجب على المؤمن محبة من يحبه الله من الملائكة والرسل والأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين عموماً، ولهذا كان من علامات وجود حلاوة الإيمان أن يحب المرء لا يحب إلا لله، فتحرم موالاة أعداء الله ومن يكرههم الله عموماً، وبهذا يكون الدين كله لله، ومن أحب لله وأبغض لله، وأعطى لله ومنع لله، فقد استكمل الإيمان، ومن كان حبه وبغضه وعطاؤه ومنعه لهوى نفسه، كان ذلك نقصاً في إيمانه الواجب، فتجب التوبة من ذلك.
انتهى ملخصاً].
بغض أعداء الله من واجبات الإيمان، وليس بغضهم فقط هو بغض في النفس، بل بغضهم ومعاداتهم وإظهار ذلك لهم لابد منه، كما قال الله جل وعلا: {لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51].
ويقول جل وعلا: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22].
ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:1].
وفي آيات كثيرة جداً ينهى الله عز وجل عن موالاتهم، وعن مودتهم وعن توليهم، بل نهى عن الركون إليهم، وأن من ركن إليهم تمسه النار ولو قليلاً، بل نهى رسوله صلى الله عليه وسلم عن الركون إلى ذلك وتوعد عليه، وهذا أمر من لوازم الدين الإسلامي.
وكذلك المبادأة لهم بالعداوة، كما قال الله جل وعلا: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَه} [الممتحنة:4].
وهل المراد هنا أنهم صارحوا قومهم وواجهوهم بالقول وأظهروه لهم، أو أنهم قالوا: (نبغضكم) في نفوسهم ويكفي، وقالوا: لسنا مكلفين بأن نواجههم؟
الجواب
الإنسان المسلم مكلف بأن يظهر أنه عدو للكافر، وأنه عدو لعدو الله جل وعلا، ويبغضه في الله جل وعلا، ولا يتم الدين الإسلامي إلا بهذا، فإن الله جل وعلا جعل الإسلام مبنياً على تأله الله، وفعل الطاعة، وموالاة المؤمنين، وأخبر أنه إن لم يكن هذا حصل الفساد العريض والكبير في الأرض، ولما ختم سورة الأنفال بأن المؤمنين بعضهم أولياء بعض ذكر أن الكافرين بعضهم أولياء بعض، ثم قال: {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:73].
فكذلك يحرم كون الإنسان يكون مكثراً لسوادهم أو يبيت معهم، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أنا بريء من مسلم بات بين ظهراني المشركين)، ثم قال: (لا تتراءى ناراهما) يعني: نار المسلم ونار المشرك في القتال إلا في سبيل الله، أي: إذا كان يواجهه بالقتال.(101/10)
الفرق بين أهل الإيمان وأهل النفاق
قال الشارح رحمه الله: [ومناسبة الحديث للترجمة بيان الفرق بين أهل الإيمان وأهل النفاق والمعاصي في أقولهم وأفعالهم وإراداتهم].
يعني: أن الترجمة هي: باب قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:60].
يعني أن طاعة الله ومحبته علامة المؤمنين، وطاعة الطاغوت واتباعه علامة النفاق والكفر، ومن الطاغوت الهوى، فإنه من المعبودات من دون الله، كما قال جل وعلا: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان:43]، فجعل الهوى إلهاً، يقول المفسرون: معناها: أنه إذا هوي شيئاً أو اشتهى شيئاً فعله بغير مبالاة أنه معصية.(101/11)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [102]
الواجب على كل مؤمن أن يحب ما يحبه الله عز وجل ورسوله، وأن يبغض ما يبغضه الله ورسوله، وأن يوالي من والاه الله ورسوله، ويعادي من عاداه الله ورسوله: كالمنافقين واليهود والنصارى، فإن خبثهم ودسائسهم على الإسلام والمسلمين معروفة على مر التاريخ.(102/1)
بيان خبث المنافقين واليهود ونقضهم للعهود
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال الشعبي: كان بين رجل من المنافقين ورجل من اليهود خصومه، فقال اليهودي: نتحاكم إلى محمد لأنه عرف أنه لا يأخذ الرشوة، وقال المنافق: نتحاكم إلى اليهود لعلمه أنهم يأخذون الرشوة، فاتفقا أن يأتيا كاهناً من جهينة، فيتحاكما إليه، فنزلت: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ} [النساء:60] الآية.
وقيل: نزلت في رجلين اختصما، فقال أحدهما: نترافع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الآخر: إلى كعب بن الأشرف ثم ترافعا إلى عمر رضي الله عنه، فذكر له أحدهما القصة فقال للذي لم يرض برسول الله صلى الله عليه وسلم: أكذلك؟ قال: نعم، فضربه بالسيف فقتله].
هذا الأثر مشهور ذكره المفسرون في تفسيرهم في بيان سبب النزول، ومن المعلوم المتقرر عند العلماء أنه لا يُعتبر بسبب النزول، وإنما العبرة بعموم اللفظ، أي: أن اللفظ يكون عاماً للأمة كلها من أولها إلى آخرها، وإن كانت الآية نزلت في رجل أو رجلين أو جماعة، فإن هذا لا يُقصر عليهم، وإنما كل من فعل فعلاً يدخل تحت هذا العموم فهو داخل في ذلك، وكون اليهود يعرفون أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقضي بالحق ويقوله هذا أمر يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، ولهذا كانوا يتحاكمون إليه؛ لأنهم يعلمون أنه يقول الحق ويحكم به، ولكن المنافق هو الذي يأبى هذا، والمنافقون هم الذين يأبون ذلك لأنهم نفعيون يريدون أن تحصلوا على ما ينفع نفوسهم وعلى الأمور العاجلة، ويبذلون في سبيل ذلك الرشاوي وغيرها حتى يحصل لهم مرادهم، أما أهل الحق فلا يُقبل ذلك عندهم.
وكذلك إذا كان التحاكم إلى الطاغوت وإلى الكهنة فهو داخل في هذا، فلما أرادا التحاكم إلى كاهن في جهينة كان أيضاً داخلاً فيه، ومن ذلك أيضاً التحاكم إلى كعب بن الأشرف اليهودي؛ لأنه من الطواغيت، وقد عرف بمعاداته لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، وانتقض عهده في ذلك، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتله، فإنه لما جاء البشير من وقعة بدر بأن النصر وقع للرسول صلى الله عليه وسلم وللصحابة، وأن صناديد قريش قد قتلوا، وأنه أُسر منهم من أُسر طار عقله وصار يقول: أحق هذا؟ لئن كان هذا حقاً لبطن الأرض خير من ظهرها، ثم لما تأكد ذلك اغتم غماً شديداً، وذهب إلى قريش وصار يؤلبهم، وكان شاعراً، فجعل يقول الشعر يحضهم على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويرثي قتلاهم، ويخبرهم بأنهم خير من محمد صلى الله عليه وسلم، وأن دينهم أفضل، وببعض هذا ينتقض عهده.
ثم العجيب أنه لما نزل على امرأة من قريش جعل رحله عندها وصار يتكلم بمثل هذا الكلام، فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم حسان بن ثابت وقال له: إنه نزل عند فلانة.
فقال حسان فيها شعراً، فلما بلغها ذلك أخذت رحله ورمته، وقالت: هذا يهودي يهجونا حسان بسببه.
ثم كلما نزل عند قوم أرسل إليهم حسان أشعاراً يهجوهم بها، حتى تبرءوا منه وطردوه، فجاء إلى المدينة، فصار يقول الأشعار، ويشبب بنساء المسلمين، ويهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: من لي بـ كعب بن الأشرف فقد آذى الله وآذى رسوله؟ فقال له محمد بن مسلمة: أنا له، أتحب أن أقتله؟ قال: نعم، فقال: ائذن لي أن أقول، فقال: قل، فذهب إليه هو وجماعة من إخوانه، فأروه بأنهم كرهوا ما عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، فقالوا له: أمرنا هذا الرجل بالصدقة، واحتجنا وجئنا إليك لتسلفنا أو تبيعنا إلى أجل، وقد عنانا فلما سمع مثل هذه الكلمة فرح وقال: أجل، والله! لتملنه، فقالوا: إنا نكره أن نتركه حتى نرى ماذا يصير إليه، ولكن نريد أن تعطينا ونرهنك رهينة، قال: ماذا ترهنوني؟ ارهنوني أبناءكم، فقالوا: تعيرهم العرب، فيقال لأحدهم: رهن بكذا من الطعام، فقال: ارهنوني نساءكم، فقالوا: هذا عار علينا، وأنت أجمل العرب، ولا يمكن أن نرهنك نساءنا فيفتن بك، ولكن نرهنك السلاح، فقال: نعم، فوعدوه أن يأتوا إليه، ويأتوا أيضاً بغيرهم.
فجاءوه ليلاً، وكان مع زوجته في حصنه، فدعاه محمد بن مسلمة وهو عند زوجته، فقام فأمسكت ثوبه فقالت: والله إني لأسمع صوتاً كأن الدم يقطر منه، فقال: دعيني؛ فإن الكريم لو دعي إلى طعنة لأجاب، هذا محمد بن مسلمة ورضيعه أبو نائلة، فكان محمد بن مسلمة قد اتفق معهم فقال: إذا نزل سوف أمسك رأسه ثم عليكم به، فلما نزل قال له محمد بن مسلمة: ما رأيت كالليلة طيباً أحسن منك، فقال: أجل! فعندي أعطر نساء العرب، فقال: أتأذن لي أن أشم؟ فقال: نعم، فأخذ رأسه فشمه ثم أرسله ليأمن، ثم قال: أتأذن لي أن أعود قال: نعم، فأمسك رأسه وقال: دونكم الخبيث، فضربوه حتى قتلوه.
فأتوا إلى رسول صلى الله عليه وسلم وأخبروه بذلك.
فالمقصود أنه انتقض عهده لكونه صار يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك يهجوه ويهجو المسلمين، ولهذا أخذ العلماء من هذه القصة أن كل من سب الرسول صلى الله عليه وسلم يجب أن يقتل سواء أكان له عهد أم ليس له عهد.
قال رجل عند علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لم يكن قتل كعب بن الأشرف إلا خديعة -أو قال: خيانة- فأمر به فقتل؛ لأنه قتل بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس ذلك خديعة ولا خيانة، وإنما لأنه خبيث صار يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويهجو المسلمين، وكذلك يشبب بنسائهم، والمعاهدة التي وقعت بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين اليهود على المناصرة على كل من قصد المدينة، فإذا فعلوا شيئاً مما يخلف ذلك ينتقض عهدهم.
وهذه الواقعة كانت في السنة الثالثة من الهجرة، وقتله كان في ربيع الثاني في ليلة أربع عشرة منه كما ذكره المؤرخون وأهل السير، وقد فرح الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، والصحابة كانوا يتسابقون على قتل من يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما هو معروف، وكما ذكر قصصهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه (الصارم المسلول على من سب الرسول صلى الله عليه وسلم).(102/2)
ترجمة الشعبي
قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله: وقال الشعبي: هو عامر بن شراحيل الكوفي عالم أهل زمانه، وكان حافظاً علامة ذا فنون، كان يقول: ما كتبت سوداء في بيضاء، وأدرك خلقاً كثيراً من الصحابة، وعاش بضعاً وثمانين سنة.
قاله الذهبي].
وكان رحمه الله تعالى من نوادر الحفاظ، ما يسمع شيئاً إلا حفظه، حتى إنه كان إذا دخل السوق يضع في أذنيه كرسفاً -أي: قطناً- ويقول: حتى لا أسمع أقوال الناس فأحفظها؛ لأنه كان كلما سمع شيئاً حفظه، ولهذا لم يكن يكتب، ولا يحتاج إلى الكتابة؛ لأنه كان يستمع الشيء فيحفظه، وهذا من النوادر التي يقل وجودها في الناس، أي: الحافظة الخارقة، وله نظراء من الحفاظ المعروفين.(102/3)
بيان صفات المنافقين، وأنهم أخبث من اليهود والنصارى
قال الشارح رحمه الله: [وفي ما قاله الشعبي ما يبين أن المنافق يكون أشد كراهة لحكم الله ورسوله من اليهود والنصارى، ويكون أشد عداوة منهم لأهل الإيمان، كما هو الواقع في هذه الأزمان وقبلها من إعانة المنافقين العدو على المسلمين، وحرصهم على إطفاء نور الإسلام والإيمان].
المنافقون في هذه الأزمنة والأزمنة الآتية والموجودة والماضية هم العدو، كما سماهم الله جل وعلا العدو فقال: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون:4].
والنفاق: هو إبطان الكفر وإظهار الوفاق؛ أي: أنه مع المسلمين، ثم هو يعمل على اجتثاث الإسلام وإبطاله وإذلال أهله، ويكون مع الكفار في كل مناسبة وفرصة، وهم كثيرون وأنواع، والله جل وعلا جلى صفاتهم في سورة (براءة) فكثيراً ما يقول: (ومنهم) فيصفهم بأن منهم كذا، ومنهم كذا حتى افتضحوا، وكذلك في سورة (المنافقون)، كما يقول جل وعلا فيها: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ) يعني: لهم مناظر جميلة وحسنة وثياب نظيفة وأبهات {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون:4] يعني: أنهم عندهم فصاحة وبلاغة يلفتون النظر والأسماع إلى ما يقولون، يقول جل وعلا: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون:4].
ومن علامة ذلك أنهم لا يبالون بالشيء الذي يفعلونه، وأنهم يرون المعاصي -كما يقولون-: حرية، وأن الإنسان حر يفعل ما يشاء، وأنها مباحة لا بأس بفعلها، بل يتنقصون الإنسان إذا نهاهم عن ذلك، ويقولون: أنت لم تطلع على ما عليه المدنية وما عليه الناس، ولا تزال متحجراً.
وأوصافهم كثيرة جداً، وينبغي للإنسان أن يعرفهم؛ لأنهم لا يخلو منهم مكان، نسأل الله السلامة والمعافاة من ذلك، ومع ذلك الإنسان قد يكون عنده صفة من هذه الصفات، وقد يخفى عليه ذلك؛ لأن صفات النفاق مثلما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)، فهذه أمور ظاهرة، فمن اتصف بشيء منها فعنده شيء من النفاق العملي الظاهر، وهناك شيء باطن لا يظهر يكون في القلب، ولكن العمل يكون دليلاً عليه، وهو بغض الحق وبغض أهله، وهذا من أعظم الصفات، إذا كان الإنسان مبغضاً للحق ومبغضاً لأهل الحق، ومحباً للباطل ومحباً لأهل الباطل، فهذا من أعظم صفات النفاق الاعتقادي الذي يكون صاحبه خالداً في جهنم، بل يكون في الدرك الأسفل من النار تحت الكفار، نسأل الله العافية.(102/4)
قتل المنافق المغموس في النفاق
قال الشارح رحمه الله: [ومن تدبر ما في التاريخ وما وقع منهم من الوقائع عرف أن هذا حال المنافقين قديماً وحديثاً، وقد حذر الله نبيه صلى الله عليه وسلم من طاعتهم والقرب منهم، وحضهم على جهاد في مواضع من كتابه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:73]، وفي قصة عمر رضي الله عنه وقتله المنافق الذي طلب التحاكم إلى كعب بن الأشرف اليهودي دليل على قتل من أظهر الكفر والنفاق.
وكان كعب بن الأشرف هذا شديد العداوة للنبي صلى الله عليه وسلم والأذى له والإظهار لعداوته، فانتقض به عهده وحل به قتله، وروى مسلم في صحيحه عن عمرو قال سمعت جابراً يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لـ كعب بن الأشرف؟ فإنه قد آذى الله ورسوله، قال محمد بن مسلمة: يا رسول الله! أتحب أن أقتله؟ قال: نعم، قال: ائذن لي فلأقل، قال: قل)، فأتاه وقال له وذكر ما بينهم، وقال: إن هذا الرجل قد أراد صدقة وقد عنانا، فلما سمعه قال: وأيضاً والله لتملنه، قال: إنا قد اتبعناه الآن، ونكره أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير أمره، قال: وقد أردت أن تسلفني سلفاً، قال: فما ترهنني؟ قال: ما تريد، قال: ترهنني نساءكم، قال: أنت أجمل العرب أنرهنك نساءنا؟! قال: ترهنوني أولادكم، قال: يسب ابن أحدنا فيقال: رهن في وسقين من تمر، ولكن نرهنك اللأمة -يعني: السلاح- قال: فنعم، وواعده أن يأتيه بـ الحارث وأبي عبس بن جبر وعباد بن بشر، قال: فجاءوا ليلاً فدعوه فنزل إليهم، قال سفيان: قال غير عمرو: قالت له امرأته: إني اسمع صوتاً كأنه صوت دم، قال: إنما هذا محمد بن مسلمة ورضيعه أبو نائلة، إن الكريم إذا دعي إلى طعنة ليلاً لأجاب، قال محمد: إني إذا جاء فسوف أمد يدي إلى رأسه، فإذا استمكنت منه فدونكم، قال: فلما نزل وهو متوشح قالوا: نجد منك ريح الطيب، قال: نعم تحتي فلانة أعطر نساء العرب، قال: فتأذن لي أن أشم منه؟ قال: نعم، فشم، فتناول فشم، ثم قال: أتأذن لي أن أعود؟ قال: فاستمكن من رأسه ثم قال: دونكم، قال: فقتلوه).
وفي قصة عمر رضي الله عنه بيان أن المنافق المغموس بالنفاق إذا أظهر نفاقه قتل، كما في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما ترك من أظهر نفاقه منهم تأليفاً للناس؛ فإنه قال: (لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه) فصلوات الله وسلامه عليه].
معنى قوله: [المغموس بالنفاق]: المتهم الذي يظن أنه منافق، وليس معنى المغموس الذي غاص فيه وعلم؛ فإن هذا أمره ظاهر، ولكن المتهم في النفاق إذا أظهر نفاقه وظهر وبان فإنه يقتل.(102/5)
فوائد ومسائل الباب(102/6)
فهم قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا) يعين على فهم معنى الطاغوت
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيه مسائل: الأولى: تفسير آية النساء، وما فيها من الإعانة على فهم الطاغوت].
قوله: [ما فيها من الإعانة على فهم الطاغوت] يعني: أنه جل وعلا قال فيها: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} [النساء:60] يعني: أن هؤلاء ذهبوا إلى إما إلى كعب أو إلى الكاهن، وهذا هو الطاغوت، فإذاً: يكون التحاكم إلى غير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم طاغوتاً أياً كان المتحاكم إليه، والآية يجب أن تفهم على ما أرادها ربنا جل وعلا، يقول: وهذا مما يعين على فهمها.
يعني: هذه القصة وسبب النزول، ومعلوم أن سبب النزول يعين على فهم الكلام، ولهذا يقول العلماء: المفسر يجب عليه أن يعرف ويعتني بأسباب النزول.(102/7)
معنى قوله تعالى: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض)
قال المصنف رحمه الله: [الثانية: تفسير آية البقرة: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ} [البقرة:11] الآية].
هذه الآية أيضاً في المنافقين؛ لأن سورة البقرة قسمت الناس في أولها إلى ثلاثة أقسام: المؤمنون الذين: {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة:3 - 4] ثم ثلاث آيات ذكرت في المؤمنين، ثم بعد ذلك ذكر الله الكافرين، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:6 - 7]، فهذه في الكافرين.
ثم ذكر المنافقين فقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [البقرة:8 - 10] يعني: مرض النفاق {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة:10 - 11].
يعني: إذا قيل لهم: لا تفعلوا هذه الأفعال التي تفعلونها فإنها فساد في الأرض وطاعة الكفار، وكذلك هي من موالاة الكفار، ومن محبتهم وبغض المؤمنين وبغض الحق وأهله، قالوا: إنما نحن مصلحون، يعني: يقصدون أنهم يصلحون الأوضاع والسياسات، فيقولون: نحن نجاري هؤلاء وهؤلاء، وبذلك تصلح أحوالنا وتصلح أوضاعنا، وتكون هذه في زعمهم سياسة وعقلانية، فجعلوا ذلك صلاحاً.
فأخبر الله جل وعلا أنه فساد في الأرض؛ لأن كون الإنسان يكون مع المؤمنين في الظاهر ومع الكافرين في الباطن هذا من أعظم الإفساد.
ثم كل معصية يُعصى الله جل وعلا بها فهي فساد، والمعاصي لا تكون إلا على الأرض، أما السماء فالذي في السماء خلقهم الله جل وعلا لطاعته، فهم لا يعصون ما أمرهم الله جل وعلا به، ولكن الفساد إنما يكون في الأرض في برها وبحرها، ويكون الفساد فيها بالمعاصي.
فإذاً قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ} [البقرة:11] بمعنى: لا تعصوا ولا تخالفوا أمر الله، ولا تخالفوا أمر رسوله صلى الله عليه وسلم.(102/8)
معنى قوله تعالى: (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها)
قال المصنف رحمه الله: [الثالثة: تفسير آية الأعراف: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} [الأعراف:56]].
يعني أنها مثل آية البقرة، إلا أن آية الأعراف أعم؛ لأن آية البقرة في المنافقين، وأما تلك فهي عامة، بل جاءت في خطاب المؤمنين، فإن الله جل وعلا يقول فيها: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:54 - 56].
فهي عامة، والخطاب فيها للمؤمنين، فتبين بذلك أن كل معصية يُعصى الله بها جل وعلا بها فهي فساد في الأرض، والصلاح في الأرض يكون بالأنبياء؛ لأن الأنبياء هم الذين يأتون بصلاح الأرض، وهم الذين يأمرون بالطاعة ويدلون عليها ويزينونها ويذكرون وعد الله عليها، ويكونون أدلاء على الله، والذين يعبدون الله جل وعلا إنما هم بسببهم، وكل خلاف يقع لهم فهو فساد في الأرض.(102/9)
معنى قوله تعالى: (أفحكم الجاهلية يبغون)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [الرابعة: تفسير: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [المائدة:50]].
معروف أن الجاهلية -كما سبق- هي كل ما خالف الإسلام، فكل ما خالف الإسلام فهو جاهلية، سواء أكان قديماً أم حديثاً، فمن طلب حكم الجاهلية فمعناه أنه ترك حكم الله ورغب عنه، فالذي يرغب عن حكم الله ويتركه فإنه يطلب حكم الجاهلية، وحكم الله هو الأحسن، وهو العدل الصواب، ولكن لمن كان يوقن ويؤمن بالله ويخافه، أما الذي يكون في قلبه مرض فإنه يرى أنه ليس حسناً.(102/10)
معنى الإيمان الصادق
قال المصنف رحمه الله تعالى: [الخامسة: ما قال الشعبي في سبب نزول الآية الأولى.
السادسة: تفسير الإيمان الصادق والكاذب].
الإيمان الصادق هو في الذي يكون صاحبه مطيعاً لله جل وعلا، ويكون في قوله صادقاً، وليس الذي يكون عاصياً ويكون في قوله كاذباً، فإذا أخفى في قلبه شيئاً خلاف العمل الذي يعمله فإنه يكون كاذباً؛ لأن الصدق هو مطابقة الشيء في الواقع، والكذب أن يختلف عن الواقع.(102/11)
من كان هواه تبعاً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فقد حقق الإيمان الكامل
قال المصنف رحمه الله تعالى: [السابعة: قصة عمر مع المنافق.
الثامنة: كون الإيمان لا يحصل لأحد حتى يكون تبعاً لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم].
المقصود بالإيمان هنا الإيمان الواجب، وليس المقصود أصل الإيمان؛ فإن أصل الإيمان يوجد عند من تكون هذه صفته، ولا يكون بذلك خارجاً من الدين الإسلامي، ولكن يكون من أهل الوعيد، من الذين يجوز أن يعذبوا إن لم يعف الله جل وعلا عنهم.(102/12)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [103]
أساس الإيمان بالله جل وعلا هو معرفة أسمائه وصفاته، فمن عرف أسماء الله وصفاته فقد عرف الله ربه، ومن جحدها وقع في الكفر والعياذ بالله، وهذا ما وقع فيه كثير من المشركين، فالواجب أن نعرف الله عز وجل بأسمائه وصفاته، ونؤمن بها من غير جحود أو تأويل.(103/1)
حكم من جحد شيئاً من الأسماء والصفات
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: من جحد شيئاً من الأسماء والصفات.
وقول الله تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد:30]].
قوله: [باب من جحد شيئاً من الأسماء والصفات] يعني: ما حكمه؟ وهل يكون مسلماً أو كافراً؟ والأسماء المقصود بها أسماء الله جل وعلا وصفاته التي أثبتها لنفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، أي: بعد ثبوتها وورودها في النص، فالذي يجحدها يكون قد وقع في الكفر؛ لأن الله جل وعلا يقول: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد:30]، وسبب النزول كما ذكر المفسرون أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما صالح كفار قريش يوم الحديبية أمر علي بن أبي طالب رضي الله عنه بكتابة الصلح، فكتب: (بسم الله الرحمن الرحيم)، فقال مفوضهم سهيل بن عمرو: لا تكتب بسم الله الرحمن الرحيم، ما نعرف الرحمان إلا رحمان اليمامة -يقصد بذلك مسيلمة الكذاب لعنه الله، فإنه كان يسمي نفسه رحماناً-، ولكن اكتب كما كنا نكتب: (باسمك اللهم)؛ لأن أهل الجاهلية هكذا كانوا يكتبون، فقال له أصحابه رضي الله عنهم: نقاتلهم؟ فقال: لا.
أكتب (باسمك اللهم)، ثم لما كتب (باسمك اللهم) قال: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله قريشاً.
فقال: لا.
لئن كنت رسولاً لله وصددناك عن البيت فقد ظلمناك، -أو لقد ظلمنا-، ولكن أكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله قريشاً، فقال الصحابة: نقاتلهم؟ قال: لا، الله يعلم أني رسول الله، وأنا محمد بن عبد الله فكتب كما أرادوا، فأنزل الله جل وعلا هذه الآية: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد:30] وقوله: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد:30] يعني: ينكرون هذا الاسم، وقيل أيضاً في سبب النزول غير هذا، وقد ذكر المفسرون أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصلي عند الكعبة ويدعو فيقول: يا الله يا رحمن! فسمعه أبو جهل أو غيره فقال: يدعونا إلى أن نعبد إلهاً واحد وهو يدعو إلهين يقول: يا الله يا رحمن! فنزلت هذه الآية: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي} [الرعد:30] ونزل قوله جل وعلا: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110].
وجاء قول الله جل وعلا: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} [الفرقان:60] هنا الاستفهام استفهام إنكار ((وما الرحمن)) والإنكار هذا إنكار جحود، وهو كفر، وهذا الإنكار هو في طائفة منهم فقط، وإلا فقد وردت أشعار من أشعار الجاهلية فيها ذكر الرحمن والإقرار به وتسميته سبحانه به.
فإذاً يكون هذا إما من باب العناد؛ لأنهم ما كانوا يكتبونه، أو يكون أنكره طائفة منهم فقط، وغيرهم لا ينكره بل يقر به.
ومن المعلوم أن كفرهم أنواع، ولكن أعظمه في العبادة، أي: في كونهم يجعلون وسائط بينهم وبين الله جل وعلا يدعونها ويزعمون أنها تقربهم إلى الله زلفى، ومعنى (أنها تقربهم إلى الله زلفى) كما قال الله عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] يعني: ليشفعوا لهم، فإنهم يقولون: إنا ندعوهم ونتقرب إليهم ونطوف عليهم ونجلس عندهم لأجل أن يشفعوا لنا، كما يقول ذلك عباد القبور اليوم، فإنهم يذهبون ويستنجدون بالموتى ويطلبون منهم تفريج الكربات وإزالة الملمات وإغاثة اللهفات، بل يطلبون أعظم مما كان يطلبه كفار قريش وغيرهم من العرب، يطلبون منهم رفع الدرجات في الجنات، وهم أموات رميم قد أكل الدود لحومهم، بل وأصبحت عظامهم نخرة، وأصبحت تراباً، لا يستطيعون أن يجيبوهم، بل هم غافلون عن دعوتهم، وهم يزعمون أنهم يسمعون ويعقلون ويجيبون.
ولهذا يأتون إليهم بالقربات، ويجعلون لهم من أموالهم وأولادهم نصيباً، كما كان الكفار يفعلون وينذرون لهم النذور، ويغويهم الطواغيت الذين يجلسون عند صناديق النذور، ويحضونهم على تقديم الأموال فيها حتى يأخذوها ويأكلوها.(103/2)
شرك الأولين وقع فيه المتأخرون وزادوا عليه
والعجيب أن هذه الأمور تقع في بلاد المسلمين، وربما كان معهم ممن معه أعلى الشهادات التي يأخذها من الجامعات الكبيرة، مثل جامعة الأزهر وغيرها، فيكون معهم، ويقرهم على هذا الشرك الأكبر الذي يكون صاحبه قد تجاوز الشرك بدرجاته بجهله، ثم مع ذلك يزعمون أنهم مسلمون.
فهذا من الأمور العجيبة، وقد سمعت كلمات عند قبر أحمد البدوي الطاغوت الكبير من بعضهم يسأل رفيقه فقال: أيهما خير: الله أو السيد أحمد البدوي؟ فقال مجيباً له: السيد أحمد البدوي خير من الله؛ سيدي يجيب ويعطي، والله لا يعطي ولا يجيب! فمثل هذا الطغيان وهذا العمى في القلب وفي العمل وفي العقل يقع في بلاد المسلمين -وللأسف- على مسمع ومرأى من كثير من العلماء، وهذا يوجد في جميع البلاد، نسأل الله العافية، ففي أكثر البلاد توجد عبادة القبور والاستنجاد بهم ودعاؤهم صراحة، بل إن أحدهم يستقبل القبر ويدعوه: يا فلان! أريد كذا وكذا يا فلان! أنا وقعت في كذا وكذا ويقول: يا سيدي! أعطني كذا وكذا! وربما يأتي ثم يكشف رأسه ويطأطئه ويقبل العتبات، وربما وضع خده على القبر وصار يتمرغ عليه ويذل له، يسأله سؤالاً لا يسأل بمثله الفرد الصمد رب السماوات والأرض، وكل هذا من الجهل الفظيع، ولكن لا يجوز أن يقع هذا الجهل، فالإنسان إذا وقع في مثل هذا فليس معذوراً، ولا يقال: إنه جاهل؛ لأن هذا لا يجوز أن يقع ممن عنده شيء من العقل؛ لأن المقبور الذي وضع تحت التراب كيف يجيب الدعاء؟! وكيف يسمع؟! ولو قدر أنه يسمع كيف يغيث؟! وكيف يجير؟! وهو إما معذب في قبره يكون عليه ناراً، وإما منعم إذا كان ولياً، ومع ذلك كله هو غافل عمن يدعوه، كما قال الله جل وعلا: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف:5]، وقوله: (إلى يوم القيامة) يعني أنه لا يستجيب له أبداً.
ثم ذكر ماذا يكون يوم القيامة فقال: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:6] يعني: هؤلاء الذين يدعون وهم في الدنيا غافلون لأنهم في قبورهم إذا حشروا وجمعوا مع من عبدهم كفروا بهم وعادوهم ولعنوهم وتبرءوا منهم إلى الله وقالوا: أنت ولينا من دونهم.
فهذا هو الواقع كما ذكره الله جل وعلا، وهذا العمل هو شرك المشركين الذين كانوا في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، بل المشركون الأوائل جعلوهم وسائط وشفعاء، ولم يصلوا إلى هذا الحد، فقد كانوا إذا أرادوا أن يسألوا المطر سألوه من الله، وإذا أرادوا أن يسألوا الرزق أو الولد سألوه من الله، ويقولون: اللات والعزى لا تفيد، وإنما تكون شافعة فقط وإذا وقعوا في كرب وفي شدة أخلصوا دعاءهم لله جل وعلا، كما قال الله جل وعلا: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت:65] أي: يدعون الله فقط، ويتركون شركهم، ولكن إذا نجوا وجاء الرخاء عادوا إلى الشرك: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت:65] بخلاف هؤلاء؛ لأن أولئك أصح عقولاً وأتم أفكاراً، وكذلك نظرهم أحسن من نظر هؤلاء، فهؤلاء لا عقول ولا أفكار ولا أنظار، وإنما وقعوا في التقليد الأعمى، وجدوا آباؤهم يفعلون ذلك ففعلوا، حتى صار هذا الشيء متوارثاً، ولا أحد يجرأ على أن ينكر ذلك، وأمور عجيبة، يذكر أحد العلماء الذين كتبوا عن شيء من ذلك قصة وقعت له، فيقول: إنه كان عند شيخ في طنطا يدرس عليه في مسجد أحمد البدوي الذي يسمونه السيد، والحقيقة أنه كان جاسوساً لدولة الرافضة، هذا الذي عرف عنه، وما عُرف أنه سيد، وذكر أحد المؤرخين أنه زاره بعض من يعظمه يوم جمعة في بيته، فلما قربت الصلاة والخطبة قال: الصلاة، فذهب معه، فجلس في المسجد ولم يصل، وإنما بال فيه وخرج، والعجيب أن هذه جعلت منقبة له، كونه بال في المسجد وخرج، يقول: فما أحد جرؤ أن ينكر عليه؛ لأنه ولي من الأولياء.
والمقصود أن هذا الذي يذكر عن شيخه أنه كان يدرسه، يقول: فجاء وقت المولد واجتمع الناس الفلاحون وغيرهم، وكأن الناس في عرفات من كثرتهم، وهم مع أطفالهم ونسائهم، ولهم ضجيج وصخب، يقول: فأصبح الماء الذي يُتوضأ به مختلطاً مع القاذورات من كثرة الأوساخ والأشياء التي ترمى فيه، يقول: فلما أراد هذا الشيخ أن يصلي أتى وتوضأ بهذا الماء، فقلت له: كيف تتوضأ بهذا؟! قال: اسكت، ثم أراد أن يكون إماماً لي في الصلاة، فقلت: لا.
ولن أصلي معك، فقال: يا بني! والله لو كنت استسيغه لشربته، هؤلاء جاءوا إلى السيد أحمد البدوي وهو يرفع كل السيئات عنهم، يقول: وإني أخشى عليك أن يصيبك، كل هذا لأنه أنكر عليه أن يتوضأ بهذا الماء القذر الخبيث النجس نجاسة ظاهرة، وهذا في حوض السيد أحمد البدوي.
يقول: وبعد أيام مرض مرضاً شديداً، فأتيت إليه وقلت له: ها أنا في صحة وعافية وأنت في مرض تقاسي الحمى تكاد تموت، فأين نفع السيد أحمد البدوي؟! ولكنهم لا يعقلون، نسأل الله العافية! وإلا فهذا شيء لا يحتاج إلى مثل هذه الأمور؛ لأنه أمر ظاهر.
والإنسان يجب أن يكون متميزاً بعقله عن الحيوانات وعن غيرها، ويعرف من الذي خلق، ويعرف من الذي تجب العبادة له، فكيف يعبد إنساناً مثله؟! بل ليس مثله؛ لأن الميت ليس مثل الحي، الحي ينفع ويتصرف، والميت لا ينفع ولا يتصرف، بل هو مرتهن بعمله، ولكن إذا جاءت الفتنة وجاء البلاء وجاء التقليد الأعمى زال العقل وذهب، ويصبح الإنسان كأنه لا عقل له.(103/3)
شرك المشركين ليس خاصاً في نفس الأسماء والصفات
شرك المشركين ليس في نفي الصفات والأسماء، بل كانوا يقرون بأن الله هو الخالق الرازق المدبر المالك لكل شيء الذي يحيي ويميت، وكانوا يؤمنون بهذا، وهذا من الأسماء والصفات، وإن كان يُسمى توحيد الربوبية؛ لأنه مرتبط به تماماً، وإنما أنكروا هذا الاسم إما عناداً وتكبراً، وإما لأنهم ما كانوا يعرفونه، ولكن غيرهم من العرب كانوا يعرفونه كما جاء في أشعارهم وفي خطاباتهم وكلامهم، مما يدل على أنهم يقرون بهذا الاسم.
وأما المنكرين له وكفرهم به بقولهم: لا نعرف الرحمن، فسمى الله جل وعلا هذا كفراً فقال: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد:30] فعلى هذا إذا أنكر إنسان المعنى الذي أخذ منه الاسم وهو الصفة يدخل في هذا.
فمثلاً: أنكر أن تكون لله رحمة يتصف بها، أو أنكر أن تكون لله عزة أو أن تكون لله حكمة أو ما أشبه ذلك، فإنه يكون داخلاً في هذا.
ثم إذا ورد في القرآن شيء من ذلك أو في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم صار يؤوله تأويلاً غريباً على اللغة وغريباً على الوحي الذي نزل ليعمل به، فيقول -مثلاً-: الرحمة رقة تكون في القلب تعتري الراحم يحدث منها الميل إلى المرحوم، وهذه الرقة فيها ضعف، ولا يجوز أن نصف الله بذلك، هكذا يعلل، أما الحكمة فهي العمل لغرض من الأغراض، والله لا يجوز أن يعمل لغرض؛ لأنه تعالى غني عن ذلك، وهذه من صفات الأجسام، فمن وصفه بالرحمة أو الحكمة أو ما أشبه ذلك فإنه يكون مشبهاً.
فيكون هذا الإنكار بُني على أصل فاسد خبيث، وهو أنه لا يعرف أن من هذه الأسماء أو من هذه الصفات إلا ما يعرف من المخلوق، فصار أساس ذلك التشبيه؛ لأنهم شبهوا أولاً ثم كفروا ثانياً بالتعطيل والنفي، ثم شبهوا ثالثاً في كونهم ألحقوه بالناقصات، تعالى الله وتقدس.
وهذا بلاء أصاب الأمة على أيدي أناس مدسوسين فيها مشبوهين لا يعرف أصلهم، بل يجوز أنهم من اليهود أو من المجوس أو من النصارى أو من الماسونية الخبيثة التي تريد أن تفسد الأديان أو من غيرهم، وهذا هو الواقع، فيكونون يجتهدون ويدرسون هذه الأفكار ثم ينظرون إنساناً جريئاً ويأمرونه بإخراجها، ثم تنسب هذه الأفكار إلى هذا الرجل، والواقع أن خلفه مؤسسات وجمعيات، وليس هذا من ابتكار هذا الرجل، فإذا قيل -مثلاً-: (جهمية) فالجهمية ينكرون الأسماء والصفات، ويُنسبون إلى جهم بن صفوان رجل من أهل ترمذ، وهل هذه أفكاره فقط أو أنه ظهر بها من جمعيات ومؤسسات تريد بذلك إفساد الإسلام؟! وكذلك أيضاً الذين تبنوا غير ذلك من الأفكار مثل الرافضة ومثل الخوارج ومثل المعتزلة والقدرية وغيرهم، ولا ينكر أن يكون هناك رجل له دور كبير في هذا الشيء المعروف، والذي يتتبع الحوادث وكتب التاريخ يجد من ذلك شيئاً واضحاً، فمثلاً: إنكار القدر، المشهور في الكتب أن أول من تكلم في القدر رجل يقال له: معبد الجهني من جهينة من العرب، ولكن تقرأ -مثلاً- في تاريخ ابن جرير فنجده يقول: أول من تكلم بإنكار القدر رجل يقال له: سيسويه رجل مجوسي من الأسوار ونقرأ في كتاب آخر ونجد أنه يقول: أول من تكلم بالقدر رجل يقال له كذا نصراني من النصارى.
وقد عُرف أن أول من قال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم له وصي، وإنه ما مات نبي إلا وله وصي هو عبد الله بن سبأ، وهذا رجل يهودي جاء من صنعاء، يقال له: عبد الله بن وهب بن سبأ فجاء وألب الجهال والطغام حتى قاموا على أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه فقتلوه -كما هو معروف-، وكل هذا بإغرائه وإغوائه، وقد صار إلى جهات متعددة، من أجل ذلك ذهب إلى العراق، وذهب إلى الشام، وذهب إلى مصر، ولم يعدم أنصاراً من هذه البلدان، فكون له أنصاراً، ثم كان مثل الشيطان يوقعهم في البلاء، ثم كان يفر ويذهب ولا يعرف إلى أين كان يذهب، وإذا ذهب إلى مكان أفسد فيه.
والغريب أنه لما قام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه للخلافة قام أيضاً بتأليب الطغام والجهلة اتباع كل ناعق، وصار يقول لهم: إن علياً هو الإله، أو أن الله حل فيه، أو إن فيه جزءاً من الإلهية، فهو إلهنا، فكون جماعة من هؤلاء، فبعضهم ذهب وقابل علي بن أبي طالب، فلما خرج من بيته قاصداً المسجد قالوا له: أنت هو، قال: ومن أنا؟ قالوا: أنت إلهنا، قال: ويلكم! هذا الكفر، إن لم ترجعوا عن ذلك قتلتكم.
وفي اليوم الثاني قابلوه كذلك وقالوا له ذلك، وفي اليوم الثالث كذلك، ثم لما أوقعهم في هذه الواقعة فر وذهب إلى بلاد أخرى، وأمير المؤمنين رضي الله عنه غضب لله جل وعلا حماية للتوحيد ولعبادة الله، فأمسكهم وحفر حفراً وأوقد فيها النيران ثم قذفهم فيها غضباً لله جل وعلا، ومع ذلك ما رجعوا، بل تحملوا أن تأكلهم النار وهم أحياء ليبقوا على هذا الكفر، وهذا بإغراء هذا الرجل الخبيث وغيره، ويجوز أن يكون معه آخرون ممن هم من المفسدين.
وابن حزم رحمه الله يقول في (الفصل) لما جاء إلى ذكر هذه الطائفة قال: هذا أمر معروف سببه، وهو أن العرب كانت عند الفرس وعند الروم -خصوصاً الفرس- من أحقر الأمم وأضعف الأمم، فكانوا يحقرونهم مع ما عندهم من تعظيم أنفسهم، فكانوا يرون أن الناس عبيد كلهم وهم الأحرار السادة.
وذكر على هذا شواهد من التاريخ، يقول: فلما ابتلوا على أيدي هذه الأمة الضعيفة التي كانوا يعتقدون ضعفها وحقارتها ابتلوا بإزالة ملكهم على أيديهم، وكثير منهم ما استساغ أنه يقبل هذا الدين، بل حنق حنقاً عظيماً، وأصبح يجتهد طاقته في مواجهة هذا الدين، ولكنهم عجزوا عن المواجهة بالقوة، ولم تبق إلا الحيل، فأسسوا المؤسسات التي يريدون بها إفساد العقائد.
كل هذا هو السبب في إنكار أسماء الله وصفاته؛ لأنهم عرفوا أن المسلمين ما داموا متمسكين بالوحي وبما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فلن يقوم أمامهم قوة؛ لأن الله جل وعلا معهم، عرفوا هذا وتيقنوه وقالوا: ليس أمامنا إلا إفساد العقيدة، والطريقة أن يدخل جماعات من هؤلاء الإسلام في الظاهر وهم في الباطن ليسوا مسلمين بل أعداء للمسلمين حتى يتمكنوا من إفساد العقائد، ومعروف أن الداعية إذا جاء يدعو إلى مبدأ لا يُعدم من مجيب، ثم قد تكون الدعوة بأمور تظهر على حسب ما عند الداعية من قوة البيان والقدرة على الإغواء والضلال ولبس الحق بالباطل، كما هو معلوم، وهي سنة الله جل وعلا.
ثم هذه الأمور لابد من وجودها؛ لأن العداوة لابد منها، فالله جل وعلا لما أمر آدم عليه السلام بأن يهبط هو وزوجته من الجنة لما أكلا من الشجرة قال في إهباطهم: {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [البقرة:36] أي: الذرية التي تخرج من آدم وزوجه يكون بعضها لبعض عدواً، وهذا إلى يوم القيامة؛ لأن الحق ما كلٌ يقبله، والذي يقبل الحق لابد أن يعادي صاحب الباطل، وكثير من الناس لا يعجبه أن يعبد الله، ولا أن يقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ولذا فهو يسعى ويبذل جهده وأمواله في إفساد ذلك.
فبدأ الإفساد بأصل عقيدة المسلمين في الله، فصاروا يبدءون بإخفاء أشياء قد تخفي على بعض العوام ولا تخفى على العلماء، ولهذا لما قيل لأحد العلماء: إن قوماً ينكرون أن الله يتكلم فقال: من اليهود؟ قيل: لا.
قال: من النصارى؟ قيل: لا، قال: من المجوس؟ قيل: لا، بل من المسلمين قال: كلا، المسلمون لا ينكرون أن الله يتكلم؛ لأن الله يرسل الرسل، وينزل الكتب، ويأمر وينهى، وهذا المسلمون لا ينكرونه، ولكن هؤلاء مدسوسون في المسلمين، فكان العلماء يعرفون هذا ولا يخفى عليهم.
فالمؤلف هنا عندما أردا أن يبين أن الأيمان بالأسماء والصفات أمر لازم للمسلم حتى يكون مؤمناً، وأن إنكار شيء من ذلك كفر بالله جل وعلا ذكر هذه الآية بعد ما ذكر الترجمة وإن كانت مجملة.
وقوله: [باب: من جحد شيئاً من الأسماء والصفات] يعني أن فعله يكون كفراً، وإن لم يحكم على إنسان بعينه بأنه كافر إذا فعل ذلك، ولكن هذا الفعل كفر، أما إذا وقع إنسان في شيء من ذلك فأنكر -مثلاً- أن يكون الله موصوفاً بالرحمة أو موصوفاً بالعلو أو موصوفاً بأنه ينزل إلى السماء الدنيا أو ما أشبه ذلك فقد يكون عنده شبه، فيجب أن تزال الشبه عنه، فإذا أزيلت الشبه عنه وأصر على الإنكار فله حكم آخر، غير أننا نقول: إن فعلك أو قولك هذا كفر، فإذا تبين له الحق وأقر به يكون كافراً، نسأل الله العافية.
فمراده هو هذا، أنه يجب أن يجمع المؤمن بين أقسام التوحيد: توحيد العبادة، وتوحيد الأسماء والصفات، وتوحيد الربوبية؛ لأن ربنا جل وعلا تعرف إلينا بأسمائه وصفاته، وأسماؤه وصفاته تبع لذاته، ولا يدل على أنه إذا أخبرنا أنه رحمان وأنه رحيم وأنه عزيز وأنه حكيم وأنه عليم وغير ذلك أن يكون المخلوق الذي يشارك في هذه والصفات وهذه الأسماء مشابهاً له، تعالى الله وتقدس.
بل أسماء الله وصفاته تليق به، وتابعة لذاته، وأسماء المخلوق وصفات المخلوق تليق به، فإذا أضيف الاسم إلى الله أصبح المخلوق لا يشارك الله فيه، وكذالك إذا أضيفت الصفة إلى الرب جل وعلا مثل الرحمة وغيرها فالمخلوق لا يشارك الرب جل وعلا في صفته، وكذالك إذا أضيفت إلى المخلوق فقيل: فلان ذو رحمة، وفلان يرحم، وفلان رحيم، فإن هذا خاص بهذا المخلوق، والله لا يشاركه في هذه الرحمة؛ لأن المخلوق رحمته تناسبه وتليق به، وتناسب ضعفه وتليق بضعفه، ولا يمكن أن يكون الرب جل وعلا مشاركاً له، فيجب أن يُفرق بين هذا وهذا، ولا يكون مثلما يقول هؤلاء: إذا وصفنا الله جل وعلا بأنه له رحمة أو له يد، أو أن له حكمة أو ما أشبه ذلك يلزمنا أن نكون مشبهين؛ لأن المخلوق له رحمة وله يد، ويقولون: إذا قلنا: إنه سبحانه يكون فوق ويكون المخلوق تحته فإن المخلوق يوصف بهذا، فلا يجوز أن نصف الرب جل وعلا بأنه فوق عرشه، أو أنه ينزل إلى السماء الدنيا؛ لأن من كان فوق شيء يكون محتاجاً إلى ذلك الشيء، مثل الذي يكون راكباً على الطائرة أو على السطح أو على السفينة، فإنها إذا سقطت سقط، ولو سقط المركوب لسقط الراكب، وعلى هذا يكون محتاجا(103/4)
سبب نزول قوله تعالى: (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن) الآية، والرد على من ينكر تقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام
قال الشارح رحمه الله تعالى: [سبب نزول هذه الآية معلوم مذكور في كتب التفسير وغيرها، وهو أن مشركي قريش جحدوا اسم الرحمن عناداً، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110]].
والآن في الوقت الحاضر وجد من ينكر أن يكون التوحيد ينقسم إلى ثلاثة أقسام، وأصبح يكتب الكتب وينشرها، وهذا الرجل له تلاميذ، وله مؤيدون في كثير من البلاد، وكتبه انتشرت، ويقول: إن أول من قال: إن التوحيد ينقسم إلى ثلاثة أقسام ابن تيمية وهو ضال مضل، ثم تبعه على ذلك ابن عبد الوهاب وهو كذلك ضال مضل هكذا يقول، ثم يلبس بأشياء ما تنطوي إلا على الجهال، ويقول: أين الدليل من كتاب الله أو من أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم على أن الله قال: التوحيد ثلاثة أقسام، أو أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: التوحيد ثلاثة أقسام، أو أن الصحابة قالوا: التوحيد ثلاثة أقسام؟ ائتونا بشيء من ذلك، فيلبس على الناس بهذا الكلام.
فيقال لمثل هذا الجاهل: إن الصحابة رضوان الله عليهم ومن تبعهم ما كانوا بحاجة إلى أن يقولوا: التوحيد ثلاثة أقسام؛ لأنهم يعرفون ويعلمون ما خوطبوا به تمام المعرفة، ولو سأل سائل عن ذلك لعدوه جاهلاً لا يعرف شيئاً، بل العجائز لا يحتجن إلى هذا التقسيم، ولكن لما كثرت العجمة في الناس وفسدت ألسنتهم واختلطت اللغة العربية بغيرها أصبحوا لا يفهمون كلام الله إلا بقراءة كتب التفسير وقراءة كتب اللغة، لذلك وضعوا هذه التقسيمات، وإلا فالأمر واضح موجود في القرآن، فمثلاً الله جل وعلا يقول: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106] فيقال لهذا الجاهل: أخبرنا عن إيمانهم ما هو الإيمان الذي أخبرنا الله جل وعلا أنهم ما يؤمنون إلا وهم مشركون؟ أخبرنا عن إيمانهم وشركهم ما هو؟ يؤمنون بماذا؟ ولأنه جاهل لن يعرف، ولكن يجب أن يرجع إلى كلام السلف، فالسلف بينوا أن إيمانهم هو قولهم: إن الله ربنا، وإن الله خالقنا ورازقنا فإنك إذا سألتهم من خلق السموات والأرض قالوا: الله، وإذا سألتهم من أنزل من السماء ماءً فأحيا بها الأرض بعد موتها قالوا: الله، هذا إيمانهم، وشركهم أنهم يدعون مع الله غيره.
فإذاً دعوتهم مع الله غيره هذا توحيد الدعوة وتوحيد العبادة الذي كفروا به، وإيمانهم هو توحيد الربوبية؛ لأنهم أقروا بأن الرب هو الذي يربي الخلق ويعطيهم ما يحتاجون إليه، ويملكهم ويتصرف فيهم، ليس فيهم أحد ينكر هذا المعنى.
وكذلك يقول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21] يعني: هل أنكروا أن الله خلقهم أو خلق من قبلهم؟
الجواب
كلا، ولهذا صار حجة عليهم: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22].
فيقال لهذا الجاهل: فهل إقرارهم بأن الله خلقهم وخلق من قبلهم، وأن الله خلق الأرض وجعلها على هذه الصفة، وأن الله أنزل من السماء ماءً فأنبت به النبات الذين يأكلون منه وتأكل منه أنعامهم هل هذا هو التوحيد المطلوب؟ وهل هذا هو المطلوب منهم؟ إن كان المطلوب منهم فقد جاءوا به فما معنى كونهم مشركين؟ وما معنى كونهم يجعلون لله أنداداً؟ وما هي الأنداد؟ وهم جعلوا لله أنداداً في الدعوة وفي الدعاء؛ لأنهم قالوا -مثلاً-: اللات إذا دعوناها تشفع لنا، وكذلك العزى وغيرها.
فالدعاء والعبادة والفعل الذي يصدر منهم يرجون به نفعاً غيبياً، ويرجون من الذي يدعونه نفعاً أو دفعاً، وهذه هي العبادة التي يجب أن تخلص لله، أما الإقرار بأفعال الله التي يفعلها فهذا هو الذي يسمى توحيد الربوبية.
والحقيقة أن هذا الذي يقول هذا القول ما عرف الإسلام، هذه هي الحقيقة الواقعة، فيجب أن يتوب إلى الله وأن يسلم من جديد، ويعرف الإسلام، وإلا فأمامه مصير -أعوذ بالله من ذلك- الكفار، نسأل الله العافية، والآيات في هذا لا حصر لها، بل كل كتاب الله على هذا الطريق، فالله جل وعلا جعل توحيد الربوبية حجة على وجوب توحيد الإلهية في آيات كثيرة ألزم الكفار بذلك، ويقول الله جل وعلا في آخر سورة في المصحف: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ} [الناس:1 - 3] فهل رب الناس وملك الناس وإله الناس معنا واحد؟ ما أحد قال هذا إلا هذا الجاهل المركب.
فالمقصود أن الأمر كما قال عثمان بن سعيد الدارمي رحمه الله لما رد على أشباه هذا الرجل، بل هم أكثر منه علماً، يقول: ما كنا نتصور أننا نحتاج إلى ذكر مثل هذه الأشياء؛ لأن الصبيان الذين يلعبون في الشارع والعجائز يعرفون ذلك تمام المعرفة، فكيف يخفى ذلك على العلماء أو على طلبة العلم؟! ولكن الفتن والدعوات المضللة هكذا تصنع بالناس، نسأل الله العافية.(103/5)
حكم من أنكر الأسماء والصفات
قال الشارح رحمه الله: [والرحمن هو اسمه وصفته، دل هذا الاسم على أن الرحمة صفته سبحانه، وهي من صفات الكمال، وإذا كان المشركون جحدوا اسماً من أسمائه تعالى وهو من الأسماء التي دلت على كماله سبحانه وبحمده فجحود معنى هذا الاسم ونحوه من الأسماء يكون كذلك، فإن جهم بن صفوان ومن تبعه يزعمون أنها لا تدل على صفة قائمة بالله تعالى، وتبعهم على ذلك طوائف من المعتزلة والأشاعرة وغيرهم، ولهذا كفرهم كثيرون من أهل السنة، قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: ولقد تقلد كفرهم خمسون في عشر من العلماء في البلدان واللالكائي حكاه الإمام حكاه عنـ ـهم بل حكاه قبله الطبراني].
فقوله: خمسون في عشر يعني: خمسمائة عالم، يقول: إنهم حكموا بأنهم كفار، ويقول: إن هذا حكاه ونقله الطبراني في كتاب (السنة)، وكتاب (السنة) للطبراني مفقود الآن لا وجود له؛ لأن هذا من الكتب التي أغاضت هؤلاء، فصاروا يتتبعون الكتب التي تؤلف في الرد عليهم ويحرقونها، بل يشترونها بغالي الإثمان ويحرقونها حتى لا توجد في الناس؛ لأنها تفضحهم.
وكذلك حكى هذا القول ونقله اللالكائي في كتابه (شرح أصول أهل السنة)، وهذا الكتاب موجود ومطبوع والحمد لله، فهو ذكر هذا القول، وذكر أن خمسمائة من كبار العلماء حكموا بأن الجهمية كفار؛ لإنكارهم الأسماء والصفات.(103/6)
الرد على أهل التعطيل والتشبيه
قال الشارح رحمه الله تعالى: [فإن هؤلاء الجهمية ومن وافقهم على التعطيل جحدوا ما وصف الله به نفسه ووصفه رسوله من صفات كماله ونعوت جلاله، وبنو هذا التعطيل على أصل باطل أصلوه من عند أنفسهم، فقالوا: هذه الصفات هي صفات الأجسام، فيلزم من إثباتها أن يكون الله جسماً هذا منشأ ضلال عقولهم لم يفهموا من صفات الله إلا ما فهموا من خصائص صفات المخلوقين، فشبهوا الله في ابتداء أرائهم الفاسدة بخلقه، ثم عطلوه عن صفات كماله، وشبهوه بالناقصات والجمادات والمعدومات، فشبهوه أولاً وعطلوه ثانياً، وشبهوه ثالثاً بكل ناقص ومعدود.
فتركوا ما دل عليه الكتاب والسنة من إثبات ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله على ما يليق بجلاله وعظمته، وهذا هو الذي عليه سلف الأمة وأئمتها، فإنهم أثبتوا لله ما أثبته لنفسه، وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم إثباتاً بلا تمثيل، وتنزيهاً بلا تعطيل، فإن الكلام في الصفات فرع عن الكلام عن الذات يحتذي حذوه، فكما أن هؤلاء المعطلة يثبتون لله ذاتاً لا تشبه الذوات فأهل السنة يقولون ذلك، ويثبتون ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات كماله ونعوت جلاله، لا تشبه صفاته صفات خلقه، فإنهم آمنوا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يتناقضوا، وأولئك المعطلة كفروا بما في الكتاب والسنة من ذلك، وتناقضوا، فبطل قول المعطلين بالعقل والنقل -ولله الحمد والمنة- وإجماع أهل السنة من الصحابة والتابعين وتابعيهم وأئمة المسلمين.
وقد صنف العلماء رحمهم الله تعالى في الرد على الجهمية والمعطلة والمعتزلة والأشاعرة وغيرهم في إبطال هذه البدع وما فيها من التناقض والتهافت، كالإمام أحمد في رده المشهور، وكتاب (السنة) لابنه عبد الله، وصاحب (الحيدة) عبد العزيز الكناني في رده على بشر المريسي، وكتاب (السنة) لـ أبي عبد الله المروزي، و (رد عثمان بن سعيد على الكافر العنيد) وهو بشر المريسي، وكتاب (التوحيد) لإمام الأئمة محمد بن خزيمة الشافعي، وكتاب (السنة) لـ أبي بكر الخلال، وأبي عثمان الصابوني الشافعي، وشيخ الإسلام الأنصاري، وأبي عمر بن عبد البر النمري، وخلق كثير من أصحاب الأئمة الأربعة وأتباعهم وأهل الحديث، ومن متأخريهم أبو محمد عبد الله بن أحمد بن قدامه، وشيخ الإسلام ابن تيمية وأصحابه، وغيرهم رحمهم الله تعالى، فلله الحمد والمنة على بقاء السنة وأهلها مع تفرق الأهواء وتشعب الآراء.
والله أعلم].
من المعلوم أن كتاب الله جل وعلا هو وحيه وقوله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ لأنه تنزيل من حكيم حميد جل وعلا، يعلم ما يكون ويعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون، ويعلم الكائنات السابقة، وعلمه سابق لكل شيء، ولا يفوته شيء، هو محيط بكل شيء جل وعلا، كما قال سبحانه: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:3]، وهو الله جل وعلا: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، فهو كامل بذاته وبصفاته وبأفعاله لا يتطرق إليه نقص بوجه من الوجوه، تعالى الله وتقدس.
ولكن من حكمة الله جل وعلا أنه جعل لعباده أموراً يختبرهم ويبتليهم بها، وهي أمور غيبية يخبرهم بها حتى يتبين من يصدق في إيمانه واتباعه ممن يتبع هواه أو يتبع من يعظمه من المخلوقين، وبذلك يتميز الصادق من الكاذب، ويتميز الذي يستحق الثواب ممن يستحق العقاب، وإن كان الله عالماً بكل شيء يعلم من الذي سيصدق قبل وجوده، ويعلم من الذي ينحرف ويلحد قبل وجوده، وقد كتب ذلك جل وعلا في كتاب لا يضل ولا ينسى، كتاب لا يغادر شيئاً، ولا يقع إلا ما في هذا الكتاب، وذلك من كمال علمه.
ولما كان جل وعلا رحيماً بعباده صار كل شيء يحتاج إليه العباد وجوده أكثر وأعم وأشهر، ولهذا صار الناس بحاجة ضرورية ماسة جداً إلى الماء، وصار وجوده كثيراً جداً، وكذلك الهواء، وكذلك الملح وغير ذلك، ومن ذلك معرفته جل وعلا، فطرق معرفته جل وعلا كثيرة جداً لا حصر لها، تعرف إلى خلقه بأمور كثيرة، حتى قال القائل: وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد تعالى الله وتقدس.
فالدلائل عليه من أفعاله ومن خلقه ومن آياته الكونية والمنزلة التي نزلها على رسوله صلى الله عليه وسلم كثيرة جداً.
أما الخلقية فهي كثيرة جداً، وهي قريبة جداً، حتى قال جل وعلا: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] أي: وفي أنفسكم آيات تدلكم على الله جل وعلا، فذكر صفات الله جل وعلا وأسمائه في كتاب الله جل وعلا كثير جداً، حتى قل آية إلا وتجد فيها اسماً من أسماء الله أو صفة من صفاته، وهذا له حكمة، ذلك أن الله جل وعلا بعلمه الأزلي علم أن الناس يحتاجون إلى هذا، وعلم بوجود الذين يحاولون إضلالهم وإخراجهم من دينهم.
وهذا حدث بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلا ففي وقته لم يكن أحد ينكر أسماء الله جل وعلا إلا نوادر وشواذ، كما ذكر في هذا الباب في سبب نزول قوله جل وعلا: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد:30] ذكر أن طائفة من قريش وليسوا كلهم -عناداً وتكبراً- أنكروا أن يكتب الرسول صلى الله عليه وسلم (بسم الله الرحمن الرحيم)، وقالوا: الرحمان ما نعرفه، وإنما نكتب كما كان آباؤنا يكتبون، وهذا مثل قولهم: لا نعبد إلهاً واحد وإنما نعبد ما كان آباؤنا يعبدون، وليس معنى ذلك أنهم ينكرون ويلحدون في صفات الله جل وعلا مطلقاً، وإنما ذلك للعناد والتكبر، ومع ذلك بيّن ربنا جل وعلا أن هذا كفر، فإذا كانوا قالوا: ما نعرف أن الرحمن من أسماء الله، وإنما نكتب (باسمك اللهم) كما كان آباؤنا يكتبون فإن هذا عده الله جل وعلا كفراً فقال: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد:30] فكيف بالذي ينكر معاني الأسماء؟! لأن الأسماء أخذت من المعاني، فالرحمان أخذ من الرحمة، والعزيز من العزة، والحكيم من الحكمة، والعليم من العلم، وهكذا كل اسم اشتق من الصفة، والصفات هي المعاني التي دلت الأسماء عليها؛ لأنها أخذت منها، فالذي ينكر الصفات أعظم جرماً وإثماً وكفراً من الذين أنكروا مجرد الأسماء، فالصفات أهل البدع لا يؤمنون بها بل ينكرونها، حتى سرى هذا الوباء وهذا المرض إلى أكثر المسلمين وللأسف، وأقصد بالمسلمين طلبة العلم، أما العوام فالله جل وعلا فطرهم على الحق فهم لا ينكرون ذلك بل يقرون به، وإذا جاءهم الخبر من الله صار مطابقاً لما في فطرهم فأقروا وآمنوا به، ولكن المقصود الذين تغيرت فطرهم بالتعليم، الذين تلقوا عن شيوخهم الكفر بالصفات وجحدها.
وهذا الكفر بالصفات أنواع، فمنه جحود وإنكار مطلقاً، ومنه طرق ملتوية، كالذين لا يجحدون النصوص ولكن يؤولونها تأويلاً يؤول بهم إلى إنكارها، وهؤلاء هم الأشاعرة، وأما الذين أنكروها رأساً فهم المعتزلة ومن سلك طريقهم من الطوائف، وربما يقول قائل: هؤلاء -والحمد لله- لا وجود لهم، فلماذا يُذكرون؟ ولماذا تنبش القبور وتذكر بشيء كان فبان ولا داعي إلى ذلك، وإنما الواجب أن يذكر الشيء الذين ينفع المسلمين ويفيد السامعين مما هم فيه وما يُحذر ويخشى عليهم منه؟ فنقول: إن لكل قوم وارثاً ولاشك، وأولئك لم يذهبوا، فقد ورثهم من ورثهم، وإن اختلفت الأسماء واختلفت الأنظار والطرق حسب اختلاف الزمن، وإلا فالمسألة واحدة فيما تؤول إليه.
والواقع أن أصل الملاحدة الذين ينكرون الآخرة، وينكرون وجود الله، وينكرون أن يكون بعد هذه الحياة حياة تكون حياة جزاء أصلهم مأخوذ من أولئك؛ لأن الإنسان العاقل إذا سمع أولئك يقولون -مثلاً-: إن الله ليس فوق وليس تحت، وليس يميناً وليس شمالاً، وليس داخل العالم ولا خارج العالم، وليس في مكان ولا يجري عليه زمان، إذا سمع الإنسان مثل هذا القول ماذا يتصور في ذهنه؟ يقول: لا وجود له، وهذا هو العدم تماماً، وهذه هي العقيدة الفاسدة الخبيثة التي سلكها أولئك، فينكر وجود الله جل وعلا ثم بناءً على ذلك ينكر الجزاء، وينكر الإعادة، وينكر الجنة النار، ويقول: إنما هي حياة مادة فقط، وليس بعد ذلك شيء، وإنما تبقى هذه الأيام وهذه العوالم على ما هي عليه دائماً قوم يموتون ثم يرثهم آخرون وهكذا، فيقال لهم: هؤلاء الذين يموتون من أين أتوا؟ ومن الذي جاء بهم؟ وما أصلهم؟ والعجيب أنهم يقولون: إن أصل هؤلاء حيوانات أو نبات من الأرض، ثم تطورت شيئاً فشيء إلى أن صارت بهذا الشكل، فإذا كان يتطور فلماذا هذا التطور؟! ولماذا لا يستمر هذا التطور؟! وما الذي يمنعه إذا كان كذلك؟ وكل ما يمكن أن يقولوه فهو باطل بالعقل، ولا يمكن أن يقتنع به عاقل أبداً، ولابد أن ينتهي وجود خلق إلى خالق، فالإنسان لا يمكن أن يستوعب في عقله أنه توجد سيارة بغير صانع أبداً، فسيارة بدون صانع وجدت بهذه الدقة وبهذا النظام وبهذا الشكل هذا لا يمكن، ولا يمكن أن يوجد كتاب مرتب على معانٍ وبكلمات وحروف بغير كاتب أبداً، هذا مستحيل، فالمخلوقات هذه لابد لها من موجد، ولابد لها من خالق، ثم هذه المخلوقات لا يمكن أن يوجدها مخلوق مثلها؛ لأن المخلوق نفسه عاجز عن إيجاد نفسه، فكيف يوجد غيره؟! فلابد أن ينتهي الأمر إلى موجدٍ قادرٍ عليمٍ كامل بنفسه غني بذاته عن كل ما سواه، وهو الله جل وعلا.
ولهذا جاء أن جبير بن مطعم لما سمع قول الله جل وعلا: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35] يقول: أحسست بقلبي كأنه أنخلع، وكأنه شيء مجذوب ثم لم يتمالك أن ذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأسلم، بسبب تأثره بقوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} [الطور:35] يعني: هل وجدوا بلا موجود؟ هذا لا يقبله العقل، فإذا كان هذا باطل جاء التقدير الثاني: هل هم خلقوا أنفسهم؟ وهذا أيضاً(103/7)
الهدى والخير في امتثال أمر الله ورسوله، ومن خالفها وقع في الحيرة والشك والانحراف
وقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول: {وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} [سبأ:50] أي: أن هدي الرسول صلى الله عليه وسلم بالوحي، فإذا كان هداه بالوحي فكيف يهتدي غيره بغير الوحي؟! هذا مستحيل لا يمكن.
فإذاً أصل القول بأن الواجب أن ينظر في مثل هذه الأمور إلى العقول قول باطل، ويسمون نظرهم وعقيدتهم وقواعدهم الكلامية يسمونها براهين قطعية، مع أنها في الواقع شكوك وسراب بقيعة إذا رآه الإنسان يحسبه شيئاً فإذا وجده لم تحصل على شيء، هذا هو الواقع.
ولهذا عند النهاية إذا كان الإنسان ذكياً من هؤلاء يحار، ويصبح يتمنى أن يكون مثل أمه، ومثل العجائز، ويقول: يا ليتني على دين العجائز مثل ما حصل لكثير من هؤلاء، حتى إن أحدهم يقول: إني إذا أمسيت أضع الملحفة على وجهي وأتفكر في دليل فلان ودليل فلان فيأتي الصباح وأنا لم أهتد إلى شيء، فالنوم يذهب عنه، والأكل يذهب عنه؛ لأنه في حيرة، وعند الموت يتمنى أنه على دين العجائز، كما قال الجويني عفا الله عنا وعنه لما حضره الموت قال يوصي أصحابه: لا تشتغلوا بالكلام، والله لو كنت أعرف أنه يصل بي إلى ما وصل ما اشتغلت به، وقد تركت أهل الإسلام وعلومهم وخضت البحر الخضم، والآن إن لم يتداركني ربي فالويل لي.
هكذا كان يقول، ثم يقول: وهأنذا لم أعرف شيئاً، بل أموت على عقيدة عجائز نيسابور.
وهل هذا صحيح؟ الشيء الذي في القلب لا يمكن يزول.
وكان يقرر عقيدته الفاسدة ويقول: كان الله ولا مكان، وهو الآن على ما كان عليه قبل خلق المكان، فأين كان؟ وأين هو الآن؟ هكذا يقول.
فقام رجل من المسلمين أمامه وكان على كرسي فقال له: دعنا من هذا الكلام، ولكن أخبرنا عن شيء نجده في أنفسنا وأنت تجده في نفسك ضرورة، ما قال قائل: يا الله إلا وجد دافعاً من نفسه يدفعه إلى أن يطلب ربه من فوق، وما يطلبه من أسفل، ولا يمين ولا شمال، ولا تحت، فأخبرنا كيف نزيل هذه الضرورة؟ كيف نصدها من نفوسنا؟ فسكت، وصار يفكر في نفسه، ثم وضع يده على رأسه ونزل وصار يبكي، ويقول: حيرني الرجل حيرني! حيره لأنه لم تكن عقيدته على أساس فحار.
ودخل رجل آخر على عالم من هؤلاء من كبرائهم وعظمائهم، دخل عليه في بيته فوجده مستغرقاً في الفكر، فسلم عليه فلم يرد عليه السلام، ثم أعاد عليه السلام ولم يرد عليه السلام، ثم أعاد السلام فلم يرد عليه؛ لأنه مشغول في فكره، عند ذلك قال الرجل المسلِّم: لابد أن هذا الرجل زال عقله فلماذا أجلس؟ أراد أن ينصرف، عند ذلك تنبه له فرفع رأسه وقال: يا فلان! ماذا تعتقد؟ فضحك به ساخراً، وقال: أعتقد ما يعتقده المسلمون، والحمد لله، فأطرق رأسه وجعل يبكي ويقول: ولكني -والله- ما أدري ماذا أعتقد فهذا رجل له من العمر ستون سنة، وهو يدرس ويناظر ويكتب ويتكلم، وبعد ذلك يقول: ولكني -والله- ما أدري ماذا اعتقد فكيف ذهب العمر وذهب التعب؟! وما السبب؟ السبب هو الإعراض عن كتاب الله، هذا هو السبب، أعرض عن كتاب الله وعن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم فصار هذا جزاءه.
إذاً لا هدي ولا طمأنينة وإيمان إلا بكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن اعترض على ذلك فلابد أن يضل، ولابد أن يحار، وإذا كان ذكياً وأصبحت الأدلة تتكافأ أمامه، ويجد دليل فلان يقابله دليل فلان، وكلما جاء بدليل أبطله الآخر فالنتيجة أنه سيحار ويصبح حائراً، أما كتاب الله فلا يمكن أن يبطل؛ لأنه حق، ولأنه من لدن حكيم عليم جل وعلا، وهو يخبر عن الواقع، فإذا اكتفى الإنسان وتحصن به فهو في طمأنينة وفي سكون وفي إيمان وفي عافية من هذا البلاء.
وقد سبق أن قلت: إن مبدأ هذا الشيء جاء من اليهود ومن النصارى ومن المجوس لأجل إفساد عقائد المسلمين، وليس عن أمور مقنعة، فأدخلوا هذه الأمور على المسلمين حتى يحصل الخلاف بينهم وتذهب ريحهم وتضعف قوتهم، هذا هو المقصود فقط؛ لأنهم ما استطاعوا أن يقابلوا المسلمين بالقوة ففي كل موطن يقابلونهم بالقوة يهزمهم الله جل وعلا ويجعل أموالهم غنيمة للمسلمين وأكتافهم ممنوحة لهم، فعند ذلك قالوا: لابد من الحيلة، ولابد من أن يقاتلوا في عقائدهم؛ لأن هذه العقيدة التي جاءوا بها لا يمكن أن تقاوم بالقوة المادية، حتى إذا فسدت أمكن ضعفهم، وهذا هو الواقع، ولا يزال هذا الأثر إلى الآن، وسيستمر إلى أن يشاء الله جل وعلا.
وسنة الله جل وعلا أنه جعل بين الحق وبين الباطل صراعاً يتصارع الحق مع الباطل دائماً، ولا يمكن أن يكون الباطل مصاحباً الحق، فهذه سنة الله جل وعلا في خلقه، ومن وقف مع كتاب الله جل وعلا ومع سنة رسوله صلى الله عليه وسلم فسوف يكون له النصر في نفسه، وقد يكون النصر متعدياً في نفسه ظاهراً حسب إرادة الله جل وعلا.(103/8)
أساس الإيمان معرفة الله جل وعلا بأسمائه وصفاته
أساس الأيمان هو معرفة الله جل وعلا بأسمائه وصفاته، وهذا هو السبب الذي ذكر المؤلف هذا الباب من أجله، فيبيّن أنه لابد للمسلم من أن يؤمن بأسماء الله وصفاته على ما جاء في كتاب الله من غير التحريف الذي يقول أصحابه: إنه تأويل، أي: أنه تفسير، وهو في الحقيقة تأويل، فيجعلون ظاهر الكلام غير مراد، ويقولون: والمراد شيء آخر، دلنا على هذا المراد العقل والقرائن.
ونقول: كيف يكون العقل دالاً على خلاف كلام الله جل وعلا وعلى خلاف ظاهره؟! هذا لا يمكن.
وكما ذكرت فهم يقولون -مثلاً-: الرحمة رقة تكون في قلب الراحم يحدث منها ميله إلى المرحوم، فيحدث العطف عليه والإحسان إليه، والله يجب أن ينزه عن مثل هذا؛ لأن هذا فيه نقص.
ونقول: هذه يقال فيها: هذه رحمة النساء، ورحمة الضعفاء، ورحمة المخلوق الضعيف التي تليق به، أما رحمة الله فهي رحمة لا تشبه رحمة المخلوق، وكما أنه جل وعلا لا يشبه المخلوق، فكذلك صفاته، هكذا يجب أن يكون الجواب عليهم، وكلما قالوا شيئاً يجابون بهذا.
ولهذا لما جاء رجل إلى الأمام مالك وقال له: الرحمن على العرش استوى كيف استوى؟ فقال له الأمام مالك: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان بالاستواء واجب، والسؤال عن الكيفية بدعة، ولا أراك إلا رجل سوء)، ثم أمر به أن يطرد من المجلس لأنه أساء.
فالكيفية هي الحالة التي يكون عليها الموصوف، وهذه الحالة تحتاج إلى المشاهدة، ولا أحد يشاهد الله جل وعلا، وأما معنى الاستواء فهو معلوم، ففي اللغة معناه واضح، وهو العلو على الشيء والارتفاع والصعود عليه، هذا معنى الاستواء.
وهكذا يقال في السمع، والبصر، والعلم، والقدرة، والإرادة، والنزول، وغير ذلك من صفات الله كلها يقال فيها: المعنى الذي خوطبنا به معلوم نعرفه، وكيفية اتصاف الرب جل وعلا في ذلك أمر مجهول لا يمكن أن يُوصل إليه؛ لأن هذا لابد له من أحد شيئين: إما المشاهدة، وإما أن يكون الموصوف له نظير مثله يشاهد فنقيسه عليه، وكلا الأمرين مستحيل في هذه الدنيا.
والله لا مثل له، ولا أحد يشاهده جل وعلا.
ثم ذكر المؤلف أن منشأ التعطيل هو التشبيه؛ لأنهم شبهوا فقالوا: إننا لا نعرف من هذه الصفات إلا ما نعرفه من نفوسنا فصاروا ينفونها لئلا يقعوا في التشبيه إذا أثبتوها، ثم إنهم عطلوه، وألحقوه بالمعدومات أو بالجمادات، فصاروا مشبهين له بالناقصات، فصار التشبيه الأخير أشر من التشبيه الأول؛ لأن المعطل يلزمه أن يكون مشبهاً ولا ينفك عن التشبيه؛ إذ كل معطل مشبه؛ لأنه يشبه بالناقصات أو المعدومات، تعالى الله وتقدس.(103/9)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [104]
الواجب على المسلم التسليم للشرع في كل ما جاء به، والإيمان بمحكم النصوص ومتشابهها، وقد اختلفت آراء السلف في تعيين المتشابه، إلا أن جميع ما قالوه لا يدخل فيه أسماء الله وصفاته.(104/1)
شرح أثر علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (حدثوا الناس بما يعقلون)
قال المصنف رحمه الله رحمة واسعة: [وفي صحيح البخاري قال علي رضي الله عنه: (حدثوا الناس بما يعرفون؛ أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟)].
ذكر المصنف هنا أثر علي: (حدثوا الناس بما يعرفون؛ أتريدون أن يكذب الله ورسوله).
وذكر العلماء أن سبب هذا القول من علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن في وقته كثر القصاص، والذين يذكرون الحكايات التي يكون فيها غرابة، بل قد يكون فيها أمور غير معروفة، وقد تكون هذه الأمور الغريبة مأخوذة إما من التوراة أو من الإنجيل أو من الكتب الأخرى التي جاءت من عند الله ويكون أصلها حقا، ولكن عقول السامعين لا تحتملها، فنهاهم أن يحدثوهم إلا بالشيء الذي ينفعهم، والشيء الذي يعرفونه، وليس معنى هذا أنه يقول: لا تحدثوا الناس بصفات الله حتى لا يقعوا بالإنكار في الكفر، فإن هذا لا يقوله عالم يعرف الحق فضلاً عن أن يقوله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكتاب الله مملوء من صفات الله جل وعلا، وكذلك أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، فقد كان يحدث في المجامع بأحاديث الصفات، ولم يُحك أنه أنكر ذلك.
أما ما يروى عن الإمام مالك أنه كره أن تذكر الصفات عند عامة الناس فهذا لا يصح عنه كما قال العلماء؛ لأن الكتاب والسنة على خلاف هذا، وإنما المقصود في هذا الأمور الغريبة، مثل الذي يحدث في صفات الملائكة التي قد لا تستوعبها عقول كثير من الناس العوام، فلا ينبغي أن يُحَّدث في مثل هذه الأمور التي يستنكرونها؛ لأنهم إذا استنكروها وقعوا في محظور إنكار الحق إذا كان حقاً، ويكون ذلك نقصاً عليهم، وإذا تركوا على ما هم عليه وحدِّثوا بالشيء الذي يلزمهم من معرفة الله جل وعلا ومعرفة دينه فهذا هو الواجب، وهذا هو المقصود في الحديث، وليس معنى ذلك أن صفات الله جل وعلا تنكرها العقول، بل العقول تقر بها، وهي موافقة لما في الفطر، إلا أنه جل وعلا أعظم من كل شيء، وكلما يقدر الإنسان في نفسه من شيء فالله أعظم منه، قال جل وعلا: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67].
وكلما حدث للإنسان شيء من الأمور التي يستعظمها يجب أن يذكر هذا الآية، فإذا كانت المخلوقات كلها الأرض، والسموات، ومن فيهما يقبضها الله جل وعلا بيده وتكون صغيره بالنسبة إليه فكيف يمكن أن يوصف بشيء من أوصاف المخلوق؟! تعالى الله وتقدس: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67].(104/2)
النهي عن أحاديث القصاص التي لا فائدة منها، وبيان بعض المبالغات التي فيها
قال الشارح رحمه الله: [علي هو أمير المؤمنين أبو الحسن علي بن أبي طالب، وأحد الخلفاء الراشدين، وسبب هذا القول -والله أعلم- ما حدث في خلافته من كثرة إقبال الناس على الحديث، وكثرة القصاص وأهل الوعظ، فيأتون في قصصهم بأحاديث لا تعرف من هذا القبيل، فربما أستنكرها بعض الناس وردها، وقد يكون لبعضها أصل أو معنىً صحيح، فيقع بعض المفاسد لذلك، فأرشدهم أمير المؤمنين رضي الله عنه إلى أنهم لا يحدثون عامة الناس إلا بما هو معروف ينفع الناس في أصل دينهم وأحكامه؛ من بيان الحلال من الحرام الذي كلفوا به علماً وعملاً، دون ما يشغل عن ذلك مما قد يؤدي إلى رد الحق وعدم قبوله فيفضي بهم إلى التكذيب، ولاسيما مع اختلاف الناس في وقته وكثرة خوضهم وجدلهم.
وقد كان شيخنا المصنف رحمه الله لا يحب أن يقرأ على الناس إلا ما ينفعهم في أصل دينهم وعباداتهم ومعاملتهم الذي لا غنى لهم عن معرفته، وينهاهم عن القراءة في مثل كتب ابن الجوزي كـ (المنعش) و (المرعش) و (التبصرة) لما في ذلك من الإعراض عما هو أوجب وأنفع، وفيها ما الله به أعلم مما لا ينبغي اعتقاده، والمعصوم من عصمه الله].
(المنعش) و (المرعش) و (التبصرة) من كتب ابن الجوزي، وهي مطبوعة ومعروفة، ولكن فيها حكايات وفيها كلام يحتاج إلى نظر في الواقع، والعادة التي جرى عليها الناس أن هذه الكتب تُقرأ على العوام، وهذه تقرأ على العوام وفيها شيء قد لا يكون له أصل، مثلما ذكر أن آدم عليه السلام لما أهبط نزل في وادي (صرمديد) فبكى حتى جرى ذلك الوادي من دموعه، ونبت على دموعه الدرافين والفلفل، وصار من طير ذلك الوادي الطاووس، ومثل هذا لا يجوز أن يعتقد ولا أساس له، وكما يذكر أيضاً أن فلاناً بكى حتى نبت من دموعه العشب على الأرض، وهكذا، فمثل هذه الأشياء تكون باطلة ولا تعقل.
فلا ينبغي أن يحدث بها الناس الذين إذا سمعوها صدقوا بها وآمنوا بها وجعلوا يتناقلونها وربما اعتقدوها، وهذه وأمثالها كثيرة توجد في مثل هذه الكتب، فلهذا كره شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله أن تُقرأ على العوام، أما كون الإنسان إذا كان طالب العلم يقرأ فيها ويميز بين الحق والباطل ويستفيد منها فلا بأس، أما أن تقرأ على عوام المسلمين الذين لا يميزون بين الحق والباطل فهذا لا ينبغي، فهذا الذي كرهه من هذه الناحية.
فلا ينبغي في مثل هذا أن يعتقد أن آدم نزل يبكي، بل آدم صلى الله عليه وسلم نزل ليعمر الأرض بالطاعة والعبادة، وليس بمجرد البكاء، فهو مثل ما قال الله جل وعلا: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30]، فالخليفة هو الذي يخلف من سبقه، وليس معنى ذلك أنه خليفة لله كما يقوله كثير من الناس، فالله ليس له خليفة تعالى الله وتقدس، وإنما هو خليفة لمن سبقه في الأرض، وقد قال المفسرون: إن آدم سبقه الجن إلى الأرض وأفسدوا فيها فقاتلتهم الملائكة، ولهذا قالت الملائكة لما قال جل وعلا: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة:30] أي: كما حدث ممن كان قبله، قالوا ذلك لأنه حدث مثل هذا ممن كان قبله.
فالمقصود: أن آدم عليه السلام ونوح وداود وأنبياء الله حياتهم كانت ليست لأجل البكاء فقط، فهم يبكون من خشية الله ومن خوفه، لكن لم يجلسوا يبكون حتى سالت الأودية من دموعهم، بل لا يعقل أن آدمياً يسيل من دموعه الوادي ثم تنبت عليه الأشجار ويكون من طيوره الطاووس وما أشبه ذلك، فهذه كلها حكايات وكلام لا يجوز أن يُصدق، وليس عليها دليل، حتى ذكر في هذه الكتب وغيرها ما هو من وصف نبينا محمد الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهي كلها غير صحيحة.
ومثل أمورٍ يذكرونها عن عمر رضي الله عنه أنه كان يقرأ الآية ثم يمرض ويبقى أياماً يعوده الناس من جراء قراءته للآية، وهذا كله غير صحيح، بل كان رضي الله عنه يقرأ الآية ويبكي، ثم بعد أن ينتهي من صلاته يدبر أمر الجيش الذي يرسله، وقد يفكر فيه في نفسه ويدبره، فيجمع في قلبه بين خشية الله وتدبر القرآن والبكاء وبين الأعمال الصالحة من الجهاد في سبيل الله وتدبير الأمور، وهكذا كل الكتب الذي ذكرها الشيخ وغيره فيها من هذا النوع شيء كثير، وأكثرها باطل لا يجوز اعتقاده.(104/3)
نهي السلف للقُصاص عن القص، وسبب ذلك
قال الشارح رحمه الله: [وقد كان أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ينهى القصاص عن القصص؛ لما في قصصهم من الغرائب والتساهل في النقل وغير ذلك، ويقول: (لا يقص إلا أمير أو مأمور)، وكل هذا محافظة على لزوم الثبات على الصراط المستقيم علماً وعملاً ونية وقصداً، وترك كل ما كان وسيلة إلى الخروج عنه من البدع ووسائلها، والله الموفق للصواب ولا حول ولا قوة إلا بالله].
قال المصنف رحمه الله رحمةً واسعة: [وروى عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه رأى رجلاً انتفض لما سمع حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصفات استنكاراً لذلك، فقال: ما فَرَق هؤلاء؟ يجدون رقة عند محكمه ويهلكون عند متشابهه! انتهى].
المقصود بالقصص الذي ذكر بأنه يُنهى عنه وأنه لا يقصه إلا أمير أو مأمور مثل الخطب والمحاورات التي تُلقى على العامة؛ لأن هذه يكون فيها تساهل في ذكر الأشياء والنقل، وقد يُقصد بها الأمور التي تعجز الناس ويكون ليس لها أصل، وهذا غالب على الوعاظ؛ فإنهم يذكرون الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة، ويذكرون القصص عن الأولين وما فيها من الغرائب، مثل المنامات والحكايات التي تكون فيها مخالفة لما ثبت في كتاب الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم يترتب على ذلك اعتقاد ما في هذه القصص؛ لأن السامع لا يفرق بين ما هو ثابت وما ليس بثابت، ولهذا ينهى عن مثل هذه الأشياء حفاظاً على عقائد المسلمين أن تتغير بهذه الأمور، وإذا كان الذي يقص غير مأمور فمعنى ذلك أنه مختار، وأنه يستطيع أن يميز بين الضار والنافع، فإذا كان هذا الذي يقص من قبل نفسه غير أهل لهذا الأمر فإنه ينهى عنه.
أما إذا كان مأموراً من قبل المسئول ولي الأمر فإن في الغالب أن يكون أهلاً لذلك، فيعرف كيف يقص، ويعرف الذي يكون ثابتاً من الذي يكون غير ثابت، وكذلك إذا كان أميراً فهو كذلك من هذا القبيل يكون عارفاً بالأمور التي يقصها والتي تنفع من التي لا تنفع، هذه هي صفة الوضع في الزمن المتقدم، ومثل ذلك الكتب التي تؤلف في المواعظ والقصص والحكايات، فإن فيها كثيراً مما لا يجوز اعتقاده؛ لهذا لا ينبغي أن يقرأها الذي لا يميز بين الصحيح من غيره، ولا يجوز أن يقرأها، وإذا قرأها فيجب أن يكون عنده من يميز ذلك لئلا يعتقد باطلاً.
أما الحديث الذي ذكره عن عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس أنه ذكر حديثاً فانتفض رجل عنده فقال: (ما فَرَقُ هؤلاء؟ يجدون رقة عند محكمه ويهلكون عند متشابهه!) فقوله: (ما فَرَقُ) هكذا جاء من باب الاستفهام، و (الفَرَقُ) هنا معناه: الخوف والجزع، وجاء في رواية: (ما فرّق هؤلاء) فتكون (ما) نافية، ويجوز في الراء أن تكون مشددة ويجوز أن تكون مخففة: (ما فرَق هؤلاء؟) و (ما فرَّق هؤلاء)، وعلى الرواية الأولى تكون (ما) استفهامية، وعلى الثانية تكون (ما) نافية، والمعنى على الأولى أنه استفهام من باب النهي، وأن هؤلاء إذا جاءهم من النصوص ما هو محكم وواضح يجدون رقه في قلوبهم ويجدون خشوعاً، أما إذا جاء منها شيء متشابه عليهم فإنهم يهلكون، ومعنى (يهلكون) أنهم يكذبون بها أو يردونها؛ لأن هذا الذي انتفض انتفض إنكاراً لما سمع وهو حق؛ لأنه استعظم إما لأنه لم يألفه أو أن قلبه لم يستوعبه ويدرك معناه، فصار كبيراً عنده، ففرق منه، أي: خاف وحصل له ما حصل.
وبذلك يكون رد حقاً فيهلك في هذا، والمعنى على الرواية الثانية: أنهم ما فرقوا بين الحق والباطل، وبين الذي يجب أن يُقبل وبين الذي يجب أن يُرد، والذي يكون عنده فرقان هو الذي يعلم ويتعلم ويعرف ويسلك الطريق الحق، وليس معنى هذا أن هناك في النصوص شيء متشابه لا يفهم ولا يعرف؛ لأنه لم يرد في كتاب الله جل وعلا إلا ما هو معلوم للمخاطب، حيث خاطبنا ربنا جل وعلا بقرآن عربي مبين وواضح، وليس فيه شيء لا يُفهم.(104/4)
تعريف المحكم والمتشابه
وقد اختلف العلماء: ما هو المتشابه؟ وما هو المحكم؟ فمنهم من قال: المتشابه: هو ما ورد ثم نسخ، والمحكم هو: الناسخ الذي نسخ ما سبقه.
ومنهم من قال: المتشابه مثل فواتح السور التي بدأت بالحروف المقطعة (ألم، حم، طس، طه) وما أشبه ذلك، فهذه متشابهة؛ لأن هذه الحروف لا يعرف معناها، والمحكم ما عدا ذلك.
ومنهم من قال: المتشابه: هو ما احتمل معناه حقاً موافقاً للمحكم.
ومنهم من قال: المحكم: هو الأوامر والنواهي الواضحة الجلية من الأحكام كالأمر بالتوحيد والعبادة، وأما المتشابه فهو: الإخبارات بالأمور المغيبة التي لا يدرك كنهها ولا حقيقتها إلا بالمشاهدة، والوقوف عليها، فإذا جاء تأويله يوم القيامة عرفت.
وفي كل هذه الأقوال ليس فيها أن آيات الصفات وأحاديث الصفات من المتشابه، كما يقوله من يقوله من المتأخرين من علماء الأشعرية وغيرهم، فإنهم جعلوا آيات الصفات متشابهه، مثل قوله جل وعلا: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، وقوله: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] وقوله: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] وما أشبه ذلك من الآيات الكثيرة، وهذا باطل قطعاً لم يقل أحد من السلف: إنه من المتشابه، وإنما قال به هؤلاء الذين سلكوا غير طريق السلف فضلوا في ذلك.
فالصفات محكمة وظاهرة وواضحة، كما قال الإمام مالك: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول) أي أن كيفية الصفة مجهولة؛ لأن الكيفية هي الحالة التي يكون الموصوف عليها، هذه هي الكيفية، وهذه تتطلب المشاهدة، ولا أحد يشاهد الرب جل وعلا، فصارت مجهولة، ولكن المعنى الذي خوطبنا به واضح وجلي وليس فيه أي تشابه.
والصواب أن التشابه في كتاب الله جل وعلا نسبي، ومعنى أنه نسبي أنه قد يكون عند شخص متشابهاً وعند غيره واضحاً جلياً محكماً ظاهراً ليس فيه تشابه، ولهذا اختلف العلماء في الوقف على قوله جل وعلا: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} [آل عمران:7]، فمنهم من يقف هنا ويقول: هنا وقف لازم (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ)، ومنهم من لا يقف، ويقرأها: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران:7] ويقف هنا، يعني أن الراسخين في العلم يعرفون تأويله، وهذا قول ابن عباس رضي الله عنه وغيره من علماء الصحابة وغيرهم أنه ليس في كتاب الله شيء لا يعلم -كما يعتقده من يعتقده- لأنه واضح، وإن كان بعض الناس قد يشتبه عليه، ولكن عند الرجوع إلى المحكمات أو إلى العلماء يزول هذا التشابه، ويصبح ليس فيه متشابه، ويصبح واضحاً محكماً جلياً، وهذا هو القول الصحيح من أقوال العلماء.
وكل ذلك لا يدل على أن الصفات متشابهة، بل هي محكمة ظاهرة جلية وواضحة، ونحن خوطبنا بشيء نفهمه ونعرفه، أما الكيفيات والحقائق فهذه لم تطلب منا، وإنما طلب منا أن نكلها إلى عالمها.
والآية تدل على هذا، وقوله جل وعلا: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [آل عمران:7] يعني: هن أصل الكتاب، فإذا رددت الذي فيه تشابه إليها تبين ووضح وزال التشابه، {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران:7] تُردُّ إلى هذا الذي هو أم الكتاب فيزول التشابه.
وقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [آل عمران:7] يدل على أن الزيغ الذي في قلوب هؤلاء يدعوهم إلى أن يتركوا المحكم الجلي ويتبعوا الشيء الذي فيه تعلق لهم طلباً للفتنة، يطلبون الفتنة التي هي زيغ القلوب والضلال، أما إذا كان الإنسان خالياً من هذه الصفة ليس في قلبه زيغ ولا يطلب الفتنة فإنه لا يحدث له ذلك، ولا يحدث عنده تشابه، فإذاً التشابه عند قوم معينين يطلبون الفتنة، والزيغ موجود في قلوبهم، وهو الذي يدعوهم إلى ذلك، والفتنة هي أن يوافق الأمر الذي يريدونه ما في قلوبهم مخالفاً للحق الذي أريد، فيكون هذا أيضاً زيادة فتنة لهم، نسأل الله العافية، والواقع شاهد بهذا، فكل مبتلى يمكن أن يتعلق بشيء من القرآن ولو من بعيد، حتى إن الدجالين الكذابين الذي كذبهم ظاهر جلي مثل البهائية والبابية والأحمدية وغيرهم ممن كذبهم لا يخفى على العقلاء فضلاً عن الذين عندهم علم، حاولوا أن يتعلقوا بشيء من القرآن ويزعموا أنه يدل على باطلهم، مع أن القرآن فيه قول الله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40]، وهم زعموا أنهم أنبياء، فكيف القرآن يدل على زعمهم؟ هذا من أمحل المحال، ولكن المقصود أن كل ضال يمكنه أن يتعلق بشيء ولو من بعيد، ويلبس على الجهال، ويزعم أن القرآن يدل على مقصوده وقوله.
ومن العجائب التي تكون مضحكة في الواقع أن الرسول صلى الله عليه وسلم نص نصوصاً بلغت حد التواتر أنه خاتم النبيين وأنه لا نبي بعده، فقال: (لا نبي بعدي)، وعلى أمته تقوم الساعة، ثم يأتي كذاب دجال أشر ويقول: أنا اسمي (لا) حتى يلبس على الناس ويقول: أنا الذي قال في الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا نبي بعدي) يحرف الكلام الذي يكون نصاً على إبطال دعواه ليدل على دعواه، ولهذا النصارى منهم من زعم أن القرآن يدل على التثليث، وهذا أيضاً من هذا الجنس من العجائب، فقالوا: إنا نجد في القرآن (إنا) و (نحن) ضمائر الجمع، وهذا يدل على أن المعبودين جماعة.
وهذه أدلة للمبطلين الذين باطلهم ظاهر لكل أحد، يتعلقون بشيء من النصوص بالتدليس والكذب والتغطية-تغطية الباطل الواضح-حتى يمكن أن ينطلي على الجهال، فكيف بالذي أعطي منطقاً وأوتي علماً وأعطي كذلك فصاحة وبياناً؟ إنه يستطيع أن يدلس، ويستطيع أن يلبس فيضل، ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أخوف ما أخاف على أمتي منافق عليم اللسان يجادل في كتاب الله)، فإن هذا يكون فتنة لكل مفتون، نسأل الله العافية، يفتن الناس بهذا السبب.
والخلاصة أن العبد عليه إذا ورد شيء من النصوص في كتاب الله أو في حديث رسوله صلى الله عليه وسلم وصح ذلك أنه يقبله ويقول: آمنت بما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت بما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو لم يفهم، ثم معرفة معناه إذا أمكن، وإذا لم يمكن يكفيه ذلك، وأن يعرف أنه حق وإن لم يدرك معناه ويكتفى بهذا، ويكفيه ذلك في النجاة، فإذا عرف معناه وأرجعه إلى الواضح الجلي فهذا هو المطلوب، وهذا الذي يكون به زوال الشك إذا قُدِّر أنه يرد على القلب.
أما إذا لم يستطع ذلك فليسلم ولينقد وليؤمن بالله وبما جاء عن الله تعالى، ويؤمن برسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال الإمام الشافعي رحمه الله: آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله جل وعلا، وآمنت برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يعني أنه يسلم وينقاد، وهذا هو الواجب.
قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله: وروى عبد الرزاق.
هو ابن همام الصنعاني المحدث، محدث اليمن، صاحب التصانيف، أكثر الرواية عن معمر بن راشد صاحب الزهري، وهو شيخ عبد الرزاق يروي عنه كثيراً، ومعمر -بفتح الميمين وسكون العين- أبو عروة بن أبي عمرو راشد الأزدي الحراني ثم اليماني، أحد الأعلام من أصحاب محمد بن شهاب الزهري يروي عنه كثيراً].
معمر بن راشد ليس من اليمن، وإنما هو من أهل البصرة، وتعلم في البصرة وأخذ العلم عن البصرة، وكان عالماً كبيراً وحافظاً مشكوراً، فذهب إلى اليمن على عادة العلماء في الرحلة، ولكنه لما أتى إلى اليمن أعجب أهل اليمن بكثرة روايته وغزارة علمه، ولم يكن ذا أهل باليمن ولا بغيرها، فأراد أن يرجع من اليمن، فاجتمعوا وتشاوروا كيف يصنعون، فقال أحدهم: قيدوه.
قالوا: كيف نقيده؟ قال: زوجوه فزوجوه وقيدوه بالزوجة، فصار من أعظم من نشر العلم هناك، وهو شيخ عبد الرزاق، وعبد الرزاق شيخ الإمام أحمد وغيره من الأئمة الكبار الذين أخذوا عنه.
قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله: عن ابن طاوس هو عبد الله بن طاوس اليماني، قال معمر: كان من أعلم الناس بالعربية، وقال ابن عيينة: مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة.
قوله: عن أبيه هو طاوس بن كيسان الجندي -بفتح الجيم والنون- الإمام العلم، قيل: اسمه ذكوان.
قاله ابن الجوزي.
قلت: وهو من أئمة التفسير ومن أوعية العلم، قال في تهذيب الكمال: عن الوليد الموقري عن الزهري قال: قدمت على عبد الملك بن مروان فقال: من أين قدمت يا زهري؟ قال: قلت: من مكة.
قال: ومن خلفت يسودها وأهلها؟ قلت: عطاء بن أبي رباح.
قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي.
قال: فبم سادهم؟ قال: قلت: بالديانة والرواية.
قال: إن أهل الديانة والرواية لينبغي أن يسودوا.
قال: فمن يسود أهل اليمن؟ قلت: طاوس بن كيسان.
قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال: قلت: من الموالي.
قال: فبم سادهم؟ قلت: بما ساد به عطاء.
قال: إنه لينبغي ذلك.
قال: فمن ي(104/5)
دلالات نصوص الصفات
قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله: عن ابن عباس قد تقدم، وهو حبر الأمة وترجمان القرآن، ودعا له النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)، وروى عنه أصحابه أئمة التفسير، كـ مجاهد وسعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح وطاوس وغيرهم.
قوله: ما فَرَقُ هؤلاء؟ يستفهم من أصحابه يشير إلى أناس ممن يحضر مجلسه من عامة الناس، فإذا سمعوا شيئاً من محكم القرآن ومعناه حصل لهم فرق -أي: خوف-، فإذا سمعوا شيئا من أحاديث الصفات انتفضوا كالمنكرين له، فلم يحصل منهم الإيمان الواجب الذي أوجبه الله تعالى على عباده المؤمنين].
يقول هذا لأنه ورد في رواية أنه ذكر الحديث: (إذا جلس الله على عرشه يوم القيامة) فانتفض رجل، ولهذا قال هذا القول، فقال: إنه إذا ورد شيء من هذه الصفات -بناء على هذه الرواية- انتفضوا كالمنكرين.
قال الشارح رحمه الله تعالى: [قال الذهبي: حدث وكيع عن إسرائيل بحديث: (إذا جلس الرب على الكرسي) فاقشعر رجل عند وكيع، فغضب وكيع وقال: أدركنا الأعمش وسفيان يحدثون بهذه الأحاديث ولا ينكرونها.
أخرجه عبد الله بن أحمد في كتاب الرد على الجهمية].
كلمة (جلس) هذه لم يرد فيها حديث صحيح، أعني (جلس على الكرسي) أو (على العرش)، وإنما الذي ورد الاستواء، وهو أن الله استوى على عرشه، ويجب أن يقف الإنسان في الصفات على الوارد فقط ولا يتعداه، وإن كان اللفظ الثاني بالمعنى، إلا أن يكون ذلك تفسيراً له، فيفسره بلفظ مرادف له فهذا لا بأس به، فيكون هذا من باب التفسير إذا سأل إنسان: ما معنى الاستواء؟ لأن بعض الناس يجهل معنى الاستواء، فيقال له: معنى الاستواء: الارتفاع عن الشيء، أو العلو عليه، أو الاستقرار عليه، أو الصعود فوقه وكل هذه بمعنى واحد، فليس معنى هذا أنها نصوص يجب أن تقال، ولكن نقول: هذا تفسير للاستواء، فهذا معناه المفهوم في اللغة.
وهكذا إذا قال إنسان: ما معنى السمع؟ تقول: السمع هو إدراك المسموعات وإن دقت.
يدركها جل وعلا ولا تفوته، كما أن البصر إدارك المبصرات، وهكذا، فالسؤال عن معنى الصفة ليس ممنوعاً إذا كان الإنسان لا يعرفها، ولكن الممنوع السؤال عن الكيفية، فالكيفية مجهولة، أما المعنى فهو معروف في اللغة التي خوطبنا بها، ومن جهل المعنى يوضح له ويبين.
ثم إنه لا يجوز أن يثبت شيء لله جل وعلا لم يثبت بالنص، لهذا عند العلماء أن الصفات مأخوذة من القواعد التي قعدوها أخذاً من الكتاب والسنة، وما قعدوا شيئاً من عند أنفسهم، بل قالوا: إنها توقيفية.
أي: إننا نقف معها على النص فقط، فلا نقيس، ولا نبني على العقل ولا على النظر، وإنما نقف على النص فقط.
فهذا هو الطريق، فإذا جاء في كتاب الله جل وعلا أو صح عن النبي صلى الله عليه وسلم وجب أن نقول به ونصف الله به ونضيفه إلى الله جل وعلا صفة أو اسما، أما إذا لم يصح الحديث فلا يجوز أن نصفه بما في الحديث الضعيف، ولا يجوز أن نثبت به صفة من صفات الله جل وعلا، وكما أنه لا يثبت به حكم من الأحكام التي تتعلق بأفعال المكلفين فكيف يثبت به صفة من صفات الله جل وعلا؟!(104/6)
أسباب لانحراف أهل البدع
قال الشارح رحمه الله تعالى: [وربما حصل معهم من عدم تلقيه بالقبول ترك ما وجب من الإيمان به، فتشبه حالهم حال من قال الله فيهم: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:85]، فلا يسلم من الكفر إلا من عمل بما وجب عليه في ذلك من الإيمان بكتاب الله كله واليقين، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [آل عمران:7]، فهؤلاء الذين ذكرهم ابن عباس تركوا ما وجب عليهم من الإيمان بما لم يعرفوا معناه من القرآن وهو حق لا يرتاب فيه مؤمن، وبعضهم يفهم منه غير المراد من المعنى الذي أراد الله فيحمله على غير معناه، كما جرى لأهل البدع كالخوارج والرافضة والقدرية ونحوهم ممن يتأول بعض آيات القرآن على بدعته، وقد وقع منهم الابتداع والخروج عن الصراط المستقيم، فإن الواقع من أهل البدع وتحريفهم لمعنى الآيات يبين معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما، وسبب هذه البدع جهل أهلها وقصورهم في الفهم، وعدم أخذ العلوم الشرعية على وجهها وتلقيها من أهلها العارفين لمعناها الذين وفقهم الله تعالى لمعرفة المراد، والتوفيق بين النصوص والقطع بأن بعضها لا يخالف بعضا ورد المتشابه إلى المحكم، وهذه طريقة أهل السنة والجماعة في كل زمان ومكان، فلله الحمد لا نحصي ثناء عليه].
وقد يكون هناك سبب غير هذا، وهو الظاهر، فهناك أسباب متعددة، وليس ما ذكره هو السبب الوحيد لانحراف أهل البدع، بل من أعظم الأسباب اتباع الهوى، فهذا من أعظم أسباب انحرافهم؛ لأنهم يتبعون أهواءهم، ولهذا يسميهم أهل السنة (أهل الأهواء)؛ لأنهم يتبعون ما يهوونه وما يشتهونه، وقد يكون أيضاً هناك سبب آخر، وهو أن يكون يريد إفساد الدين، فهو زنديق منافق يدخل مع المسلمين في الظاهر وهو في الباطن يريد حربهم وإفساد دينهم، وهذا وجد وصار له تأثير.
فالمقصود أن البدع صار لها أسباب متعددة ليست مقصورة على الجهل فقط.(104/7)
تفسير المتشابه عند السلف
قال الشارح رحمه الله تعالى: [ذكر ما ورد عن علماء السلف في المتشابه.
قال في الدر المنثور: أخرج الحاكم -وصححه- عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حرف واحد، فنزل القرآن من سبعة أحرف: زجر، وأمر، وحلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال، فأحلوا حلاله وحرموا حرامه، وافعلوا ما أمرتم به، وانتهوا عما نهيتم عنه، واعتبروا بأمثاله، واعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه، وقولوا: آمنا به كل من عند ربنا)].
التشابه على هذا القول هو الذي يشتبه معناه على السامع، فيصبح معناه مشتبهاً، فما يدري أمعناه كذا أو معناه كذا.
ومثل هذا يجب عليه أن يقول: آمنت به فهو من عند الله.
وليست هذه صفة القرآن في الواقع، فالقرآن بين واضح، وقد أخبر الله جل وعلا أنه كله محكم، قال تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} [هود:1]، فكل آياته محكمة ومفصلة من لدن حكيم خبير جل وعلا.
أما ما جاء في وصفه بأنه كله متشابه كما قال الله جل وعلا: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} [الزمر:23] فكونه متشابه هنا يعني أن معناه يشبه بعضه بعضا، لا أنه متشابه على السامع يختلف عليه، بل معناه أنه يصدق بعضه بعضا، ويشبه بعضه بعضاً لكونه من الله جل وعلا وحده، كما قال جل وعلا: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82]، فوصف مرة بأنه كله محكم، ووصف أخرى بأنه كله متشابه، والإحكام واضح بأنه محكم مفصل، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا يأتيه نقص، ولا يأتيه تناقض، وليس فيه تفاوت، بل هو محكم مفصل -أي: مبين-، ومحكم ليس فيه شيء يناقض شيئاً، ولا يمكن أن يدخله تعارض.
وأما كونه كله متشابهاً فهو أنه يشبه بعضه بعضاً في الإحكام والتفصيل والإعجاز والبيان والإيضاح وكونه أعظم كتاب لا أحد يستطيع أن يأتي بشيء مثله.
وليس في هذا يشتبه على السامعين فلا يعرفون معانيه، ليس هذا المقصود، بل التشابه يكون في بعض الآيات نسبياً، ومعنى أنه بالنسبة لبعض الناس يكون متشابهاً، أما العلماء فليس عندهم بمتشابه، بل هو واضح وجلي، ولهذا جاء عن ابن عباس وصفه لكتاب الله أنه على أقسام: قسم تعرفه العرب من كلامها، وقسم يعرفه العلماء، وقسم لا يجهله أحد، بل العامة تعرفه، فإذا قال الله: (أقيموا الصلاة)، و (اعبدوا الله) فما هناك أحد يعرف اللغة العربية إلا وهو يعرف هذا المعنى، ولم يجعل فيه شيء لا يعرفه إلا الله.
نعم.
بعض العلماء قال: إن هناك أشياء لا يعلمها إلا الله، وهي حقائق الأمور المخبر عنها، مثل حقائق ما أخبر عنه جل وعلا في الموقف، أو في الجنة أو في النار، فهذا شيء معلوم في الجملة أنه له نظير، ولكن ليس مثله ولا قريباً منه، فالله أخبرنا أن في الجنة عنباً ونخلاً وفواكه، وأنَّ فيها زوجات، وأن فيها أنهاراً، ولو قيل لإنسان: هناك نهر من لبن فلن يصدق، فالمقصود أن اللبن والخمر والعسل نعرفه عندنا، ولكن هل هو الذي في الجنة؟ لا ولا بقريب منه، وإنما يتفق معه في الاسم فقط، أما في اللون وفي الرائحة وفي الطعم وفي الحقيقة فهو لا يعرفه إلا من كان فيه وأكله أو شربه أو نظر إليه.
والله جل وعلا يقول في المؤمنين: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة:17] و (نفس) نكرة، يعني: لا يعلم ذلك ملك، ولا رسول، ولا بشر، ولا أحد يعرف ذلك وابن عباس يقول: ليس عندكم مما في الجنة إلا الأسماء، أما حقائق الأشياء فليست معروفة.
وكذلك النار -نسأل الله السلامة والعافية-، فعذابها وأغلالها وعقاربها وحياتها ومقارعها وزقومها وكل ما فيها ما يعرفه على الحقيقة إلا من كان فيه، وإن كان في الجملة له نظير نفهم بواسطة ما خوطبنا به، ولهذا استدل العلماء بهذه الأمور على أن الواجب على الإنسان إذا سمع صفات الله جل وعلا أن يؤمن بها على ظاهرها مع مخالفة الحقائق لما يعرفه، فحقائقها مختلفة، فإذا كانت الحقائق للمخلوقات لا تتفق فكيف بين الخالق والمخلوق جل وعلا.
ولهذا كان رجل ممن عنده انحراف أو من المتسرعين يتكلم في آيات الصفات، فبلغ شيخه أنه يتكلم، فاستدعاه لينصحه، فقال له: يا بني! أخبرني عن مخلوق من مخلوقات الله صغير له ستمائة جناح، جناحان في جنبيه، فالبقية أين تكون؟ فقال: كيف أصفه لك؟ لا أعرف.
قال: كيف لا تعرف مخلوقاً من مخلوقات الله، ولا تعرف وصفه وتذهب تتكلم في الله جل وعلا الذي هو أعظم من كل شيء وأكبر من كل شيء؟! فصارت هذه موعظة له وانتهى عما كان فيه.
فالمقصود أن التشابه ليس كما يدعي بعض الناس ويقول: إن صفات الله متشابهة ويجب ألا نخوض فيها.
فهذا معناه أنه يجب ألا نعتقد ظاهرها، ولهذا إذا ذكر الاستواء وما أشبه ذلك قالوا: هذا من المتشابه الذي لا يجوز أن نعتقد ظاهره.
ثم يذهب القائل يؤول، فكيف يكون متشابهاً ثم يذهب يأوله ويقول: معناه كذا ومعناه كذا؟ تناقض دعاه إليه ما في قلبه من الزيغ، نسأل الله العافية.
قال الشارح رحمه الله تعالى: [قال: وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [آل عمران:7] الآية قال: طلب القوم التأويل فأخطأوا التأويل وأصابوا الفتنة، وطلبوا ما تشابه منه فهلكوا بين ذلك.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} [آل عمران:7] قال: منهن قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام:151] إلى ثلاث آيات، ومنهن: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} [الإسراء:23] إلى آخر الآيات].
يعني الآيات التي فيها الأوامر الواضحة الجلية من المحكمات، وهي كثيرة جداً.
قال الشارح رحمه الله تعالى: [وأخرج ابن جرير من طريق أبي مالك عن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وناس من الصحابة رضي الله عنهم: المحكمات الناسخات التي يعمل بهن، والمتشابهات المنسوخات].
هذا قول ثالث ولا يخالف ما سبق.
قال الشارح رحمه الله تعالى: [وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن إسحاق بن سويد أن يحيى بن يعمر وأبا فاختة تراجعا هذه الآية: {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [آل عمران:7]، فقال أبو فاختة: هن فواتح السور منها يستخرج القرآن.
{الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة:1 - 2] منها استخرجت البقرة، و {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} [آل عمران:1 - 2] منها استخرجت آل عمران.
وقال يحيى: هن اللاتي فيهن الفرائض والأمر والنهي والحلال والحرام والحدود وعماد الدين.
وأخرج ابن جرير عن محمد بن جعفر بن الزبير قال: المحكمات فيهن حجة الرب وعصمة العباد ودفع الخصوم والباطل، ليس فيها تصريف ولا تحريف عما وضعت عليه، وأخر متشابهات في الصدق لهن تصريف وتحريف وتأويل ابتلى الله بهن العباد كما ابتلاهم بالحلال والحرام، لا يصرفن إلى الباطل ولا يحرفن عن الحق].
وفي هذا قول رابع، وهو أن المحكم هو الذي لا يحتمل إلا معنى واحداً، والمتشابه هو الذي يحتمل عدة معانٍ، أما المحكم فهو يكون واضحاً معناه لا يحتمل إلا معنى، كقوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [النساء:36]، وكذلك (أقيموا الصلاة) وما أشبه ذلك، وهذا يعود إلى القول الثالث.
قال الشارح رحمه الله تعالى: [وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان أنه قال: (هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ) لأنه ليس من أهل دين لا يرضي بهن، (وأخر متشابهات) يعني -فيما بلغنا- (الم) و (المص) و (المر).
].
من أشهر ما ذكر أن من المتشابه فواتح السور التي فتحت بالحروف المقطعة، ولهذا كثير من المفسرين إذا جاء إليها قال: الله أعلم بمراده.
فيقفون ولا يتكلمون فيها، ويرون أنها من المتشابه، ويقولون: الله أعلم بمراده؛ لأنها حروف مقطعة، ولكن بعض العلماء تكلم فيها وبين معانيها وقال: إنها تدل على التحدي.
فالله جل وعلا يقول: هذا الكتاب الذي يتلى عليكم هو من الحروف التي تنطقون بها التسعة والعشرين حرفاً، فإذا كنتم تزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرسل أو أنه ساحر أو أنه كاهن فأتوا بشيء نظير ما جاء به وهو من كلامكم الذي تنطقون به وتتحدثون به.
ولهذا يقول: ما جاء حرف من هذه الحروف إلا وذكر بعده القرآن، كما قال الله جل وعلا: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة:1 - 2]، فهو إشارة إلى التحدي وإعجازهم بذلك.
أما ما ورد من أنها عبارة عن عمر الدنيا وبقاء هذه الأمة فليس صحيحاً، وليس عليه من دليل؛ لأنهم جعلوها من حروف (الأبجد) التي يتكلمون فيها في الأعداد، فالَألِفُ واحد، والباء اثنان، والجيم ثلاثة، وإذا رجعت مرة أخرى تضاعفت الأعداد إلى آخره، فهذا غير صحيح، فعمر الأمة أو عمر الدنيا لا يعلمه إلا الله، وليس هذا إشارة إليها.(104/8)
إنكار قريش لاسم الرحمن وأسبابه
قال الشارح رحمه الله تعالى: [قلت: وليس في هذه الآثار ونحوها ما يشعر بأن أسماء الله تعالى وصفاته من المتشابه، وما قال النفاة من أنها من المتشابه دعوى بلا برهان].
قال المصنف رحمه الله رحمة واسعة: [ولما سمعت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الرحمن أنكروا ذلك، فأنزل الله فيهم: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد:30]].
قال الشارح رحمه الله: [روى ابن جرير عن قتادة: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد:30]: ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية حين صالح قريشا كتب: (هذا ما صالح عليه محمد رسول الله.
فقال مشركوا قريش: لئن كنت رسول الله ثم قاتلناك لقد ظلمناك، ولكن اكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله.
فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! دعنا نقاتلهم.
فقال: لا اكتبوا كما يريدون؛ إني محمد بن عبد الله، فلما كتب الكاتب (بسم الله الرحمن الرحيم) قالت قريش: أما الرحمن فلا نعرفه.
وكان أهل الجاهلية يكتبون (باسمك اللهم)، فقال أصحابه: دعنا نقاتلهم.
قال: لا ولكن اكتبوا كما يريدون).
وروي أيضا عن مجاهد قال: قوله: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمْ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد:30] قال: هذا ما كاتب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً في الحديبية، كتب (بسم الله الرحمن الرحيم) قالوا: لا تكتب الرحمن؛ لا ندري ما الرحمن؟ لا نكتب إلا (باسمك اللهم) قال تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد:30] الآية.
وروي أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ساجداً: يا رحمن يا رحيم.
فقال المشركون: هذا يزعم أنه يدعو واحدا وهو يدعو مثنى مثنى! فأنزل الله: {قُلْ ادْعُوا اللَّهَ أَوْ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110] الآية)].
في هذه الآية تعدد الأسباب والمعنى واحد، ولكن سبق أن هذا ليس من قريش كلها، وإنما من طائفة منهم، كما أنه عرف في أشعارهم ذكر (الرحمن) وأنهم يؤمنون به جاء في أشعارهم أشعار الجاهلية، وهذا من باب العناد والتكبر وإباء الحق، فأبوا، ومع ذلك وصفوا بأنهم كفرة: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد:30] أي: ينكرونه لأن أصل الكفر هو الإنكار والجحود والتغطية، غطوه بجحودهم فعرف بأنه كفر، وعلى ذلك فالذي ينكر اسماً من أسماء الله جل وعلا يجوز أن يقال: إنه كافر كفر بهذا الاسم وجحده.
أما تعدد الأسباب في آية واحدة فهذا يقع، فيكون أكثر من سبب والمعنى واحد، ويكون المقصود المعنى، وكل سبب يكون داخلاً في هذا المعنى، وقد قال جل وعلا: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} [الفرقان:60]، فهذا كفر به وإنكار، وهذا يكون لبعضهم، ويجوز أن يكون ذلك أيضاً سبباً، فأنزل الله جل وعلا قوله تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد:30].(104/9)
مسائل وفوائد الباب(104/10)
جحد اسم أو صفة خروج عن الإيمان
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيه مسائل: الأولى: عدم الإيمان بجحد شيء من الأسماء والصفات].
يعني أن الإنسان إذا جحد اسماً من أسماء الله وصفة من صفاته يجوز أن نصفه بأنه غير مؤمن، ويكون المعنى أنه غير مؤمن بهذا الاسم وبهذه الصفة، ويجوز أن يكون كافراً كفراً مخرجاً من الدين، ويجوز أن يكون كافراً كفراً دون كفر.
قال المصنف رحمه الله: [المسألةالثانية: تفسير آية الرعد].
هي قوله تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد:30].(104/11)
لا يحدث بما لا يفهم السامع، وليس ذلك في صفات الله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [المسألة الثالثة: ترك التحديث بما لا يفهم السامع].
يعني أن الشيء الذي يشكل على السامع ويكون فتنة له لا ينبغي أن يحدث به، وليس معنى ذلك أن صفات الله جل وعلا لا يحدث بها الناس، بل كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحدث بها ويذكرها على المنبر، ويخطب بها في المجامع، لهذا جاء في السنن أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله ينظر إليكم أزلين قنطين فيظل يضحك يعلم أن فرجكم قريب، فقام رجل من الحاضرين أعرابي وقال: يا رسول الله! أو يضحك ربنا؟ قال: نعم، فقال: إذاً لا نعدم خيراً من ربنا إذا ضحك).
فالمقصود: أنه صلى الله عليه وسلم كان يخطب بصفاته جل وعلا ويبينها، وإذا سئل عنها بينها ووضحها وأقرها.(104/12)
وجوب القبول لما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم
قال المصنف رحمه الله: [المسألة الرابعة: ذكر العلة أنه يفضي إلى تكذيب الله ورسوله، ولو لم يتعمد المنكر] يعني: أنه إذا رد الشيء من الحق يكون ذلك تكذيباً له، وهذا يدلنا على أنه يجب على كل من عرف شيئاً مما قاله الله أو قاله الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقبله ويسلم له وينقاد له ولو لم يعرف معناه؛ لئلا يقع في التكذيب.
قال المصنف رحمه الله: [المسألة الخامسة: كلام ابن عباس لمن استنكر شيئا من ذلك، وأنه أهلكه].(104/13)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [105]
قد يسدي البعض نعماً على بعض عباد الله، فينسى المنعم الحقيقي الذي هو الله، ومن ثم تصرف عبادة الشكر لغيره، وهذا قدح في التوحيد.(105/1)
باب قول الله: (يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها)
قال المصنف رحمه الله رحمة واسعة: [باب قول الله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمْ الْكَافِرُونَ} [النحل:83]].
المقصود بهذا الباب بيان أن ما يحصل للإنسان من نعم يجب إضافتها إلى الله جل وعلا، ولا يجوز إضافتها إلى السبب؛ فإن الأسباب خلقها الله جل وعلا، وهو الذي رتب عليها المسببات، وجعلها جزءاً مما يترتب عليه وجود النعم، فإضافتها إلى غير مسديها وموليها يكون من باب الكفر الذي هو كفر النعمة، ويكون أيضاً شركاً، من الشرك الخفي الذي يكون ذاهباً بكمال التوحيد؛ لأن كمال التوحيد أن يكون الإنسان عبداً لله في جميع تصرفاته أفعاله وأقواله، وأن يضيف جميع ما يحدث إلى الله جل وعلا، ولكن هذا في الشيء الذي يكون فيه ثناء على الله جل وعلا فهو نعمة.(105/2)
معنى الكفر بنعمة الله تعالى بعد معرفتها
ومن باب التأدب مع الرب جل وعلا ألا يضيف الإنسان ما أنعم به على عبده إلى غيره، ولو كان ذلك سبباً لوجود تلك النعمة، فإنه لا يجوز إضافتها إلى ذلك السبب؛ لأن السبب مخلوق، والمخلوق ليس له في نفسه تصرف فضلاً عن أن يوجد له على غيره نعمة ولهذا عاب الله جل وعلا على الكفار أنهم يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها، وسواءٌ أكانت المعرفة جزئية أم كانت عامة، كما سيأتي في أقوال المفسرين في الآية، والصواب أنها عامة في جميع ما يكون فيه خير ونفع للإنسان، فيجب أن يكون مردها إلى الله، ثم يشكر الله جل وعلا عليها، وبذلك يكون الإنسان قد جاء بالمطلوب منه في مثل هذه الجزئية، ولا يكون داخلاً عليه النقص في إضافة النعم إلى غير الله جل وعلا فيكون كافراً بنعم الله ويدخل عليه الشرك الأصغر، وقد جاء في الحديث: (الشرك أخفى في هذه الأمة من دبيب النملة على الصخرة السوداء في ليلة ظلماء).
قال رحمه الله تعالى: [قال مجاهد ما معناه: هو قول الرجل: هذا مالي ورثته عن آبائي.
وقال عون بن عبد الله: يقولون: لولا فلان ما كان كذا.
وقال ابن قتيبة: يقولون: هذا بشفاعة آلهتنا].
هذه الأقوال متقاربة ومعناها واحد، وهو أن الإنسان إذا كان عنده مال قال: هذا مالي ورثته عن آبائي.
أو يقول: حصلت عليه بكسبي، أو بقوتي، أو بمعرفتي، أو بكوني أستطيع أن أتصرف أو ما أشبه ذلك.
أي: أن يضيف المال أو النعمة إلى غير الله فإنه يكون كافراً بنعمة الله بعد معرفته بأن الله هو الذي خلقه، وبأنه هو الذي يتصرف في الكون كله، فهذا معنى المعرفة، فمعناها أنه يعترف بأن الله هو المتصرف في كل شيء، والكفر معناه أن يضيف النعمة إلى السبب، بأن يقول: هذا بسبب كسبي أو بسبب معرفتي.
أو ورثته عن آبائي.
ويضيف المال إليه فيقول: مالي ورثته.
سواءٌ أقال: ورثته عن آبائي أم قال: حصلته بكسبي أو بمعرفتي.
وكذلك قولهم: إنها بشفاعة آلهتنا، كما قال ابن قتيبة.
يعني أن النعم حصلت بشفاعة الآلهة.
والآلهة صماء عمياء ليس لها تصرف، ولا تملك مع الله شيئاً، بل هو كفر بنعمة الله جل وعلا، بل هذا يكون من الكفر الأكبر؛ لأنهم أضافوا شفاعة الآلهة إلى الله جل وعلا مع أنه أبطلها، ومع أنه أخبر أنه لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه تعالى وتقدس، والآلهة هذه لا تشفع، فشفاعتها باطلة.
والمقصود بالآلهة كل ما عبد من دون الله، وكل ما أله من دون الله، سواءٌ أكانت أصناماً، أم كانت قبور أولياء أم غير ذلك.
وكذلك قوله: لولا فلان لكان كذا.
ولولا فلان لحصل كذا وكذا، فإن هذا أيضاً من الشرك الخفي، وهو أيضاً من إضافة الشيء إلى غير الله جل وعلا.
كذلك كونه يجعل حصول الشيء بالسبب الذي عمله هو، فيقول مثلاً: ركبت سيارة جديدة وجئت بسرعة لأجل ذلك.
فيضيف النعمة التي أنعم الله عليه بها من السلامة والوصول بسرعة إلى السيارة وإتقانها، فهذا أيضاً من هذا النوع.
فيجب أن يضاف كل شيء يحصل له فيه نعمة إلى الله، وإن كان هناك سبب فالله جل وعلا هو الذي أوجده، ولو شاء لأبطل ذلك السبب وإن كان متقناً.(105/3)