أثر حذيفة أنه رأى رجلاً في يده خيط من الحمى فقطعه
قال المصنف رحمه الله: [ولـ ابن أبي حاتم عن حذيفة رضي الله عنه أنه رأى رجلاً في يده خيط من الحمى فقطعه وتلا قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106]].(36/7)
قطع حذيفة للخيط واعتباره له من الشرك
حذيفة بن اليمان رضي الله عنه دخل على رجل مريض يزوره، فمس عضده كعادة الزائر يضع يده على يد المريض أو على رجله أو على رأسه حتى يكون في ذلك مواساة له، ولينظر في بدنه هل فيه حمى؟ حتى يدعو له، فسقطت يده على خيط مربوط في عضده فقال: ما هذا؟ فقال: من الحمى، فقطعه، وتلا هذه الآية، وفي رواية أنه قال: لو مت وهو عليك ما صليت عليك، لأنه ارتكب شركاً، فتلا قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ}.
معلوم أن هذه الآية نزلت في الشرك الأكبر، يعني: في عبادة اللات والعزى ومناة وغيرها من الأصنام والأوثان، وسبق أن عرفنا أن عبادة المشركين لهذه الأصنام هي طلبهم الشفاعة منها، وما كانوا يعتقدون أنها شريكة مع الله، وأنها تتصرف وتنزل المطر أو تحيي الموتى، أو أنها تأخذ بيد عابدها وتضعه في الجنة وتمنعه من النار، ما كان أحدهم يعتقد شيئاً من ذلك أبداً.
وإنما كانوا يعتقدون أنها تشفع لهم عند الله فقط -هذا هو شركهم وعبادتهم- وأنهم ينالون البركة بالجلوس عندها، والطواف عليها؛ فلهذا أخبر الله جل وعلا أنهم إذا سئلوا: من خلقهم؟ قالوا: الله، وإذا سئلوا: من خلق السماوات والأرض؟ قالوا: الله، وإذا سئلوا: من الذي ينزل المطر وينبت النبات؟ يقولون: الله، ولهذا قال العلماء: إيمانهم هو قولهم: إن الله هو الذي خلقهم، وخلق كل شيء، وشركهم كونهم يطلبون الشفاعة من غير الله جل وعلا، ويدعون هذه الأصنام لتقربهم إلى الله زلفى.
حذيفة رضي الله عنه استدل بهذه الآية على أن تعليق الخيط من أجل الحمى شرك، وقوله: من الحمى، أي: حتى يخفف هذا الخيط ألم الحمى، أو يمنعها، أو يرفعها.
فأخبره أن هذا شرك بالله جل وعلا واستدل بهذه الآية، وفي هذا دليل على أن الصحابة رضوان الله عليهم يدخلون الشرك الأصغر في الأكبر، ويستدلون على منعه وحرمته بما نزل في الشرك الأكبر، وهو دليل على معرفة الصحابة بالشرك دقيقه وجليله، ولم يزل العلماء يستدلون بهذا الشيء.
وما ذكر من الحكم يدل على أن هذا من أعظم المحرمات، المقصود أن كل شيء يفعله الإنسان من هذا النوع يكون له هذا الحكم بخلاف الأدوية الطبيعية التي تكون مركبة سواء كيماوية أو غير كيماوية؛ لأنها ليست من هذا الباب، وإنما هي تقاوم المرض بشيء ظاهر معروف وليست من باب الاعتقاد، أما هذه فهي لا تنفع، بل تضر.(36/8)
سند الأثر وترجمة حذيفة
قال الشارح: [قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن الحسين بن إبراهيم بن أشكاب قال: حدثنا يونس بن محمد قال: حدثنا حماد بن سلمة عن عاصم الأحول عن عروة قال: دخل حذيفة على مريض فرأى في عضده سيراً فقطعه أو انتزعه ثم قال: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106] وابن أبي حاتم هو الإمام أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم محمد بن إدريس الرازي التميمي الحنظلي الحافظ صاحب الجرح والتعديل والتفسير وغيرهما].
وفي هذا دليل على أن الإنسان إذا رأى مثل هذا الشيء يقطعه ويزيله، ولو لم يرض صاحبه؛ لأن هذا من المنكرات التي تجب إزالتها، ولهذا قطعه حذيفة بدون أن يأخذ رأيه أو يستشيره، بل نزعه بقوة ورماه؛ لأنه في الواقع يخلص هذا المسكين مما وقع فيه من الشرك، فهو ناصح له في ذلك، وهكذا الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يريد في ذلك خلاص من وقع في هذا المنكر، وإذا كان من هذا القبيل فهو شرك، والشرك من أعظم المنكرات.(36/9)
سبب تسمية حذيفة بصاحب السر
قال الشارح: [مات سنة سبع وعشرين وثلاثمائة، وحذيفة هو ابن اليمان، واسم اليمان: حسيل بمهملتين مصغراً، ويقال: حسل -بكسر ثم سكون- العبسي بالموحدة حليف الأنصار، صحابي جليل من السابقين، ويقال له: صاحب السر، وأبوه أيضاً صحابي، مات حذيفة في أول خلافة علي رضي الله عنه سنة ست وثلاثين].
سبب تسميته بصاحب السر: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة تبوك كان معه منافقون في تلك الغزوة، وكانوا يتربصون برسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان سائراً في الليل وأمامه عقبة، يعني: طريقاً في جبل سيسلكه، فقال للناس: إني ذاهب! فلا يذهب أحد في هذه العقبة، وذهب معه حذيفة وعمار بن ياسر، حذيفة يقود ناقته، وعمار يسوقها، فلما علم المنافقون أنه سيسلك هذا الطريق ذهبوا وكمنوا له في عرض جبل يريدون أن ينفروا ناقته به لعله يسقط في هذا الجبل فيموت، فلما سار وصار في أثناء العقبة نفذوا مؤامرتهم، فصار حذيفة يضرب وجوه رحائلهم، وخافوا أن يعرفهم فهربوا في الليل، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (هل عرفت القوم؟) قال: لا، القوم متلثمون، ولكن عرفت رحل فلان وفلان، فأخبره الرسول صلى الله عليه وسلم بأسمائهم، وقال: (هؤلاء منافقون، فلان وفلان وفلان وفلان) وصار يسرد عليه أسماءهم، ثم قال له: (لا تخبر أحداً).
فهذا سبب تسميته صاحب السر، فكان عمر رضي الله عنه وبعض الصحابة إذا مات الإنسان ينظرون إلى حذيفة: هل يصلي عليه؟ فإن صلى عليه صلوا عليه، وإن لم يصل عليه امتنعوا؛ لئلا يكون من الذين أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأنهم منافقون، والله جل وعلا يقول: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة:84] أي: المنافقون.
وأما ما يقوله الصوفية من أنه أعطي السر اللدني، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطاه من الأسرار كما أعطي الخضر الشيء الذي لا يعرفه موسى، فهذا من الخرافات التي لا أصل لها، وإنما سمي صاحب السر لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبره بأسماء هؤلاء.
وجاء في بعض الأحاديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم أسر إليه أموراً ستقع من الفتن، مثل كون المسلمين يقتلون خليفتهم، وما أشبه ذلك، وذكر أناساً سيتولون، ويكون في توليتهم شر على الإسلام والمسلمين، من تأخير الصلاة وغير ذلك.
جاء في بعض الآثار أن الرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً أخبره بهذا، ولكن هذا ليس خاصاً به، فقد أخبر به غير حذيفة، وأحاديث الفتن كثيرة منتشرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جرابين: أما أحدهما فبثثته فيكم، وأما الآخر فلو أعلمتكم به لقطعتم هذا البلعوم، ويشير إلى حلقه) قيل: إنه يقصد بذلك أنه لو أخبرهم أنهم يقتلون خليفتهم لم يصدقوه وربما آذوه، فهذا منه.
والمقصود: أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان يخص هذه الأمور برجل بعينه، وإنما أسر إلى حذيفة أسماء المنافقين.(36/10)
إنكار المنكر بالقول والفعل
قال الشارح: [قوله: أنه رأى رجلاً في يده خيط من الحمى أي: عن الحمى، وكان الجهال يعلقون التمائم والخيوط ونحوها لدفع الحمى.
وروى وكيع عن حذيفة: أنه دخل على مريض يعوده فلمس عضده فإذا فيه خيط فقال: ما هذا؟ قال: شيء رقي لي فيه، فقطعه وقال: لو مت وهو عليك ما صليت عليك.
وفيه إنكار مثل هذا، وإن كان يعتقد أنه سبب، فالأسباب لا يجوز منها إلا ما أباحه الله تعالى ورسوله مع عدم الاعتماد عليها.
وأما التمائم والخيوط والحروز والطلاسم ونحو ذلك مما يعلقه الجهال فهو شرك يجب إنكاره وإزالته بالقول والفعل، وإن لم يأذن فيه صاحبه.
قوله: وتلا قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106] استدل حذيفة رضي الله عنه بالآية على أن هذا شرك، ففيه صحة الاستدلال على الشرك الأصغر بما أنزل الله في الشرك الأكبر لشمول الآية له، ودخوله في مسمى الشرك، وتقدم معنى هذه الآية عن ابن عباس وغيره في كلام شيخ الإسلام وغيره، والله أعلم.
وفي هذه الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم ما يبين كمال علمهم بالتوحيد، وما ينافيه أو ينافي كماله].(36/11)
مسائل باب: من الشرك لبس الحلقة والخيط لرفع البلاء أو دفعه
قال المصنف رحمه الله: [فيه مسائل: المسألة الأولى: التغليظ في لبس الحلقة والخيط ونحوهما لمثل ذلك].
يعني: مثل ذلك في النفع أو الدفع، فإذا كان الإنسان يلبس شيئاً من ذلك فهو مشرك، وسواء كان شركاً أكبر أو أصغر حسب ما يقوم بقلبه.
[المسألة الثانية: أن الصحابي لو مات وهى عليه ما أفلح.
فيه شاهد لكلام الصحابة: أن الشرك الأصغر أكبر من الكبائر.
المسألة الثالثة: أنه لم يعذر بالجهالة.
المسألة الرابعة: أنها لا تنفع في العاجلة بل تضر، لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تزيدك إلا وهنا)].
قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تزيدك إلا وهناً) يعني: أن هذه الحلقة تضر، وإن زعم أنها تنفع فهي لا تزيده إلا وهناً، والوهن هو الضعف، أي: يزداد مرضاً إلى مرضه، هذا في العاجل، أما في الآجل فهي شرك يعاقبه الله عليه.
[المسألة الخامسة: الإنكار بالتغليظ على من فعل مثل ذلك.
المسألة السادسة: التصريح بأن من تعلق شيئاً وكل إليه.
المسألة السابعة: التصريح بأن من تعلق تميمة فقد أشرك.
المسألة الثامنة: أن تعليق الخيط من الحمى من ذلك.
المسألة التاسعة: تلاوة حذيفة الآية دليل على أن الصحابة رضي الله عنهم يستدلون بالآيات التي في الشرك الأكبر على الأصغر كما ذكر ابن عباس في آية البقرة].
وسبق أن التعلق يكون في القلب، ويكون بالفعل، ولكن إذا حصل بالفعل لا بد أن يكون صدر من القلب، إلا أن يكون الإنسان غبياً، أو لا يعقل، أما إذا كان عاقلاً فالعاقل إنما يبعثه على عمله ما في القلب من نية، وهذا هو تعلق القلب، فمن علق شيئاً من ذلك فقد وقع في الشرك، والشرك وإن كان أصغر فأمره عظيم ليس سهلاً، فلا يجوز التساهل في مثل هذه الأمور، والإنسان إذا اعتمد على الله جل وعلا وتوكل عليه فإنه يكفيه.
وإذا وقع في مرض أو في أمر من الأمور التي يخشاها فعليه أن يلجأ إلى الله، وعليه أن يدعو ربه، ويتجه إليه، ويتوكل عليه، وينزل به حاجته، هذا هو الذي ينفعه في الواقع، مع أنه لا مانع من فعل الأسباب المباحة من الأدوية وغيرها، فإنه يجوز أن يتداوى إن لم يكن ذلك مستحباً كما مضى، فإذا لم يكن الدعاء ممنوعاً محرماً فإنه يكون من الأسباب المباحة، أو الأسباب المسنونة المستحبة.(36/12)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [37]
لا تجوز الرقى والتمائم إلا ما استثناه أهل العلم بشروطه، أما التولة فلا تجوز مطلقاً؛ لأنها نوع من السحر، والرقية بالقرآن والأذكار جائزة، بل مستحبة، وقد جاء الوعيد الشديد لمن علق وتراً أو غيره معتقداً أن ذلك يدفع العين، وحرمت تلك الأشياء لأنها تنافي التوحيد.(37/1)
ما جاء في الرقى والتمائم
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في الرقى والتمائم].
يقول رحمه الله: باب ما جاء في الرقى والتمائم، الرقى: جمع رقية، والتمائم: جمع تميمة، والرقى منه ما هو ممنوع وشرك، ومنها ما هو مشروع ومستحب.
وكذلك التمائم منها ما هو منصوص عليه بأنه من الشرك، ومنها ما هو مختلف فيه، ولهذا جعل الترجمة مبهمة فقال: ما جاء في الرقى والتمائم، يعني: من النهي ومن الجواز، وهذا الباب من الأبواب التي يفسر بها التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله؛ لأنه يذكر في هذا الباب ما يضاد التوحيد، أو ما ينقصه ويذهب بكماله، ويكون هذا من باب التفسير.
والرقى المحرم منها: هو ما كان بغير أسماء الله جل وعلا مثل: أسماء الشياطين وأسماء الجن وغير ذلك مما هو ممنوع، أو مثل: الاستعاذة بغير الله، والاستعانة بغير الله، وكذلك ما كان من كلام لا يعرف معناه.
والتمائم كذلك، فإذا كانت التميمة التي تعلق يكتب بها كتابات لا يعرف معناها، أو كتابات بأسماء الجن وأسماء الشياطين، أو أسماء الذين يستعان بهم، أو بحروف مقطعة وكلمات لا تؤدي إلى معنى مفهومٍ واضح أو بكلامٍ غير عربي، وما أشبه ذلك؛ فهذا ممنوع، وهو من المحرمات التي لا يجوز أن يستعملها المسلم.
وأما إن كانت التميمة بآيات من القرآن، وبأدعية، وبأسماء الله وأوصافه: فإن هذا فيه خلاف بين العلماء، منهم من أباح ذلك وأجازه، ومنهم من منعه، وسيأتي ذلك.
وسبق أن قلنا: إن التميمة سميت تميمة من باب التفاؤل، حتى يتم لصاحب المقصد مقصده، وهذا من عادة العرب في التسمية، والرسول صلى الله عليه وسلم -كما سبق- دعا على الذي يعلق تميمة بأن الله لا يتم له مراده، سواء كان ما قاله النبي دعاء أو خبراً -كما سبق.
وسيأتي: أن الرقية جائزة في أمور نص عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثل: العين والحمى، وتجوز في غيرهما أيضاً، ولكن بشروط ثلاثة: الشرط الأول: أن تكون بأسماء الله وصفاته.
الشرط الثاني: أن تكون بكلام مفهوم معروف.
الشرط الثالث: ألا يعتقد أنها تؤثر بنفسها، وإنما المؤثر هو الله جل وعلا، فيكون ذلك من الأسباب المشروعة.
وأما التميمة: فقد تكون مكتوبة أو غير مكتوبة كأن تكون من خرز وودع ومما يعتقد بأن فيه نفعاً كأن يكون من نحاس، أو من فضة، أو من صفر، وقد تكون من حبال، والناس يختلفون في هذا كثيراً، حتى إن بعضهم يعلق نعلاً! ويزعم أن هذا النعل إذا علقه في السيارة أو في البيت أو في الدكان، أو المصنع أو غير ذلك؛ فإنه يمنع من عين الحاسد، وبعض الناس يعتقد أنه يمنع وصول الجن، وهي عقائد جاهلية موروثة عن الجاهلية.
وبعضهم يجعل ذلك لأمور معينة يعني: أمراضاً معينة، حتى لا يصيبه هذا المرض المعين، وهذه أيضاً وراثة عن الجاهلية، وقد سبق أنه كان في الجاهلية ناس يعلقون حبالاً بأعضادهم وأيديهم، ويقولون: إنها تمنع من الواهنة، وبعضهم يجعل ذلك حلقاً من الصفر ويقول: إنها تمنع من الواهنة، والواهنة شيء يشبه الروماتيزم، قد يصيب الإنسان في كتفه، وبعضهم يقول: هي ما يسمى بعرق النسا، ولكن ليس ذلك، والإنسان قد يتوهم أمراضاً وهمية، ويكون الوهم أشد مرضاً من المرض العادي الحقيقي، ثم إذا تعلق بشيء من ذلك، ووجد الشفاء توهم أنه بسبب ذلك، فيتعلق بهذا الأمر، وقد يأتي الشيطان ويفتن كثيراً من الناس كما سيأتي، فإنه قد يمسك عضواً من أعضاء الإنسان أو يؤلمه بشيء مما يستطيعه، فإذا تعلق بشيء أو علق شيئاً زال عنه ما يجده، ومن ثم استمر في هذا الشيء المعلق، فيصبح قد تعلق بغير الله، فيقع في الشرك؛ لأن الشيطان حريص جداً على إغواء الإنسان.
والله جل وعلا يخبرنا أنه من يتوكل على الله فإنه يكفيه جل وعلا، ومن يتوكل على الله فهو حسبه وكافيه، ولا يضره شيء، ولكن الذي يتعلق قلبه بغير الله، يوكل إلى ذلك الشيء الذي تعلق عليه ويضره، ويتسلط عليه الشيطان، وتتسلط عليه العوارض الأخرى؛ جزاءً لكونه أعرض عن الله جل وعلا.
فأراد المؤلف رحمه الله أن يبين شيئاً من هذه الأمور في هذا الباب؛ لأن هذا قد يقع فيه كثير من العوام ومن الجهلة، ولا سيما النساء، فإنهن يعلقن على الأطفال هذه الأمور، وقد يغترون بمن يدعي شيئاً من المعرفة، فيذهبون إليهم، ويكتبون لهم طلاسم فيها أسماء شياطين، وفيها استعانة بجن، وقد يأمرونهم بأمور شركية، فأراد أن يبين -رحمه الله- أن هذا من الأمور التي قد تنافي التوحيد، وقد تقدح فيه وتنقصه، فيكون ذلك من تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله.(37/2)
حكم تعليق القلادة إذا كان من أجل الدفع أو النفع
قال المصنف: [في الصحيح عن أبي بشير الأنصاري رضي الله عنه (أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بعض أسفاره، فأرسل رسولاً: ألا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر، أو قلادة إلا قطعت)].
كان أبو بشير رضي الله عنه -راوي هذه القصة- في مسير من مسيرات رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل رسولاً كلفه بأن يعلم الناس ويبلغهم بألا يبقى في رقبة بعير قلادة -أو قال: قلادة من وتر- إلا قطعت وأزيلت، يعني: أن الراوي شك: هل قال الرسول صلى الله عليه وسلم: قلادة مطلقاً بدون قيد، أو أنها قيدت بأنها قلادة من وتر؟ وهذا سئل عنه الإمام مالك فقال: لا أعرف كراهتها إلا أن تكون من وتر؛ وذلك أن القلائد قد تتخذ للزينة، فقد توضع على البعير لأجل الزينة، وتكون من حبل أو من غير ذلك، وقد يوضع حبل في الرقبة حتى يمسك البعير به أو غير ذلك، فإذا كان لأجل ذلك فهذا لا مانع منه، ولهذا قال: إلا إذا كانت من وتر، فإنها تتخذ للاعتقاد.
والضابط في هذا: أن القلادة إذا وضعت في البعير، أو في غير البعير من آدمي وغيره، إن كان يرجى من وضعها نفع، أو دفع لما يتوقع من الضر، فلا يجوز وضعها مطلقاً من أي نوع كان؛ لأن هذا تعلق بغير الله جل وعلا.
أما إذا كانت للزينة أو لغرض بأن تقاد هذه الدابة به، أو أن يعلق على رقبتها حبلاً، حتى إذا احتيج إلى ربطها به، أو عقلها به صنع ذلك، فهذا لا بأس به.
فيكون المعنى أنها مقيدة بالوتر وبما أشبه ذلك مما يقصد به النفع أو الدفع، فإذا كان كذلك فهي ممنوعة، ويكون من نوع الشرك، وهو تعلق بغير الله؛ لأن هذا لا يمنع ولا يدفع، قلادة تعلق بالرقبة أو بغير ذلك أي فائدة فيها من دفع الضر أو منع وقوع الضر؟! ومن اعتقد أن الضر يرفع بعد وقوعه أو يدفع قبل وقوعه، فقد وقع في الشرك، فهو محرم من أي نوع كان من القلائد، هذا بالنسبة للقلادة وهي نوع من أنواع التمائم.
قال الشارح رحمه الله: [قوله: باب ما جاء في الرقى والتمائم أي: من النهي وما ورد عن السلف في ذلك.
قوله: وفي الصحيح عن أبي بشير الأنصاري (أنه كان مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بعض أسفاره، فأرسل رسولاً: ألا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر -أو قلادة- إلا قطعت) هذا الحديث في الصحيحين.
قوله: (عن أبي بشير) بفتح أوله وكسر المعجمة، قيل: اسمه قيس بن عبيد قاله ابن سعد، وقال ابن عبد البر: لا يوقف له على اسم صحيح، وهو صحابي شهد الخندق، ومات بعد الستين، ويقال: إنه جاوز المائة.
قوله: (في بعض أسفاره) قال الحافظ: لم أقف على تعيينه.
قوله: (فأرسل رسولاً) هو زيد بن حارثة روى ذلك الحارث بن أبي أسامة في مسنده قاله الحافظ.
قوله: (ألا يبقين) بالمثناة التحتية والقاف المفتوحتين، وقلادة مرفوع على أنه فاعل، والوتر -بفتحتين- واحد أوتار القوس، وكان أهل الجاهلية إذا اخلولق الوتر أبدلوه بغيره، وقلدوا به الدواب؛ اعتقاداً منهم أنه يدفع عن الدابة العين.
قوله: (أو قلادة إلا قطعت) معناه: أن الراوي شك هل قال شيخه: قلادة من وتر أو قال: قلادة وأطلق ولم يقيده؟ ويؤيد الأول ما روي عن مالك أنه سئل عن القلادة؟ فقال: ما سمعت بكراهتها إلا في الوتر، ولـ أبى داود (ولا قلادة) بغير شك.
قال البغوي في شرح السنة: تأول مالك أمره عليه الصلاة والسلام بقطع القلائد على أنه من أجل العين، وذلك أنهم كانوا يشدون تلك الأوتار والتمائم والقلائد، ويعلقون عليها العوذ، ويظنون أنها تعصمهم من الآفات، فنهاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنها، وأعلمهم أنها لا ترد من أمر الله شيئاً.
قال أبو عبيد: كانوا يقلدون الإبل الأوتار؛ لئلا تصيبها العين فأمرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإزالتها؛ إعلاماً لهم بأن الأوتار لا ترد شيئاً، وكذا قال ابن الجوزي وغيره.
قال الحافظ: ويؤيده حديث عقبة بن عامر رفعه: (من تعلق تميمة فلا أتم الله له) رواه أبو داود، وهى ما علق من القلائد خشية العين ونحو ذلك انتهى].(37/3)
حديث: (إن الرقى والتمائم والتولة شرك)
قال المصنف رحمه الله: [وعن ابن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الرقى والتمائم والتولة شرك) رواه أحمد وأبو داود].
ابن مسعود رضي الله عنه دخل على زوجته ومد يده إليها ووجدها ربطت بيدها خيط فقطعه، وقال: ما أغنى آل عبد الله عن الشرك، فقالت: تقول هذا وعيني لا تزال تقذف، فأختلف إلى اليهودي الفلاني فيرقى لي فيها فيذهب، يعني: القذف، قال: ذاك الشيطان يضع أصبعه في عينك، فإذا ذهبتِ إليه ورقى لك أزاله، يكفيك أن تقولي: أذهب البأس رب الناس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، ثم ذكر الحديث وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الرقى والتمائم والتولة شرك).
المقصود بالرقى التي فيها الاستعانة بغير الله -كما سبق- أو فيها ذكر الشياطين والجن، أو فيها مثلاً طلسمات لا تعرف، مثل الخطوط التي يخطها بعض الناس، أو فيها التصريح بالاستعانة بأسماء معينة من أسماء الشياطين، كما يفعله كثير ممن يأكل أموال الناس بالباطل، ويستعمل الشرك في ذلك.
أما التمائم فهنا أطلق، قال: التمائم مطلقاً، والتمائم كل ما علق ويقصد به الشفاء من مرض وقع، أو يقصد به منع ما يتوقع من عين أو ألم أو غير ذلك، كل ذلك تميمة.
أما التولة فهي: نوع من أنواع السحر، يسميه النساء محبب، ويزعمن أنه إذا اتخذ حبب الزوج إليها، أو يحببها إلى الزوج، والسحر لا ينفك عن الشرك، ويكون بواسطة الشياطين، فأخبر أن هذه الأمور الثلاثة شرك، فيكون هذا إما منافياً للتوحيد أو يكون قادحاً فيه ومنقصاً له، بحسب ما يقوم في قلب الإنسان وفعله.
وسيأتي التفصيل في الرقى، وأن السلف اختلفوا فيه، وقد سبق في الباب الثاني أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الذين يدخلون الجنة بغير حساب وهم من السبعين ألفاً، أخبر أنهم: هم الذين لا يسترقون، ولا يتطيرون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون، فجعل الاسترقاء -الذي هو طلب الرقية من الغير- من موانع السبق إلى الجنة بغير حساب، ولكن هذا لا يدل على أنه إذا قام بالإنسان ذلك، وسعى له أنه يكون مشركاً، أو يكون ممنوعاً من دخول الجنة، وإنما يدل على أنه لا يدخل الجنة بغير حساب، وقد قيل: إن السبب في ذلك تعلق قلبه بغير الله في كونه طلب من غير الله جل وعلا -من المخلوقين- أن يرقيه، بخلاف ما إذا رقى نفسه أو رقي له بغير أن يطلب، فإنه ليس ممنوعاً بالشروط السابقة للرقية.
وقد تكون الرقية مستحبة، ويؤجر عليها الإنسان، إذا رقى نفسه موقناً ومستعيناً بالله، بأسمائه وبصفاته وبآياته، ومستعيذاً بذلك، وسيأتي أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالاستعاذة بكلمات الله التامات، وقال: (من نزل منزلاً وقال: أعوذ بكلمات الله التامة لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك) وكلمات الله يقصد بها: الكلمات الشرعية التي يأمر بها وينهى، وهي كلامه الذي في القرآن، ويقصد بها: كلماته الكونية التي تكون بها الأشياء، وهي التامة التي لا يجاوزها بر ولا فاجر، بخلاف الشرعية، فإن أكثر الخلق يجاوزونها يعني: يعصون ما أمرت به، ويخالفون مقتضاها، أما الكونية فلا أحد يجاوزها.
ويدل هذا على جواز الاستعاذة بكلام الله، فهو من صفات الله جل وعلا.(37/4)
الخلاف في تعليق القرآن حرزاً
جاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه إذا كان الحرز من القرآن ومن آيات الله جل وعلا وأسمائه وصفاته فلا بأس به، وكان يكتب تعويذات من الآيات التي فيها المعاني العظيمة، مثل آية الكرسي، ومثل المعوذتين، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] ويعلقها.
وجاء كذلك عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ما يدل على جواز هذا، وفي رواية عن الإمام أحمد قال: إن هذا يجوز، وابن القيم رحمه الله في كلامه -في زاد المعاد- ما يدل على أنه يجوز ذلك عنده، وهو قول طائفة من السلف.
القول الثاني: أنه ممنوع مطلقاً، وهذا قول ابن مسعود وأصحابه الذي تعلموا عليه، وكذلك يدل عليه ما جاء عن حذيفة وعبد الله بن عكيم وغيرهم من الصحابة، وهذا القول هو الراجح، وهو رواية عن الإمام أحمد أيضاً، وهو الصواب لأمور ثلاثة: الأمر الأول: أن النصوص التي جاءت في المنع من التميمة مطلقة، ليس فيها تقييد أنه إذا كان من كذا وكذا فهو جائز، ويجب أن تؤخذ النصوص على إطلاقها، وعلى الذي يقيدها أن يأتي بالدليل، ولا دليل على ذلك، وهذا إذا أخذناه وحده يكفي في المنع.
الأمر الثاني: أن تعليق شيء من آيات الله وأسمائه وأوصافه لا يخلو المعلق له من امتهانه، فقد ينام ويضعه تحت رأسه، وقد يدخل به إلى مكان قضاء الحاجة، ولا سيما إذا كان على صبي، أو من لا يعقل، أو من لا يقدر الله حق قدره، فيكون فيه امتهان، حتى آل الأمر بكثير من الناس أنهم يكتبون مصاحف صغيرة جداً، فيضعونها على رقابهم أو في جنوبهم على أنها تمائم، وهذا موجود ويباع في المكاتب، ويتخذ لهذا الغرض، فهذا من امتهان كلام الله جل وعلا وكتابه -نسأل الله العافية.
الأمر الثالث: أن هذا قد يكون وسيلة إلى تعليق ما لا يجوز.
لهذه الأمور الثلاثة نقول: إن الراجح والصواب المنع مطلقاً من تعليق التمائم، وهذا أسلم للإنسان، وأبعد له من الوقوع في المحرمات، وهي أيضاً داعية لغيره لأن يفعل شيئاً من ذلك فيقع المحذور؛ لهذا جاءت النصوص كلها تدل على أن التميمة ممنوعة مطلقاً، والعلم عند الله جل وعلا.(37/5)
الرقية: حكمها وأقسامها
قال الشارح: [وعن ابن مسعود رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الرقى والتمائم والتولة شرك) رواه أحمد وأبو داود، وفيه قصة، ولفظ أبي داود: عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت: إن عبد الله رأى في عنقي خيطاً فقال: ما هذا؟ قلت: خيط رقي لي فيه، قالت: فأخذه ثم قطعه، ثم قال: أنتم آل عبد الله لأغنياء عن الشرك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الرقى والتمائم والتولة شرك) فقلت: لقد كانت عيني تقذف، وكنت أختلف إلى فلانٍ اليهودي، فإذا رقى سكنت، فقال عبد الله: إنما ذاك عمل الشيطان كان ينخسها بيده، فإذا رقي كف عنها، إنما كان يكفيك أن تقولي كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أذهب البأس رب الناس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً) ورواه ابن ماجة وابن حبان والحاكم وقال: صحيح، وأقره الذهبى].
وهذا يدل على أمرين: الأمر الأول: جواز الرقية، فهي جائزة كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (أذهب البأس، رب الناس، واشف أنت الشافي) وهذه رقية، وسبق أنه صلوات الله وسلامه عليه جاء عنه في الحديث أنه قال: (لا رقية إلا من عين أو حمة) وسبق أن معنى هذا الحديث أن الرقية من هذين الأمرين -من العين والحمة- تنفع أكثر من غيرهما، وأن هذا مثل قول الإنسان: لا فتى إلا فلان، ولا كريم إلا فلان، وليس المعنى أنه ينفي الكرم عن جميع الناس أو الفتوة عن جميع الفتيان، وإنما يريد أن يخبر أن هذا هو الكامل في فتوته، وهو الكامل في الكرم، ولا ينفي أن يكون غيره كريماً أو فتى، فهذا مثله، والمعنى أن الرقية الناجحة الشافية الكاملة من شيئين: الأول: العين وهي إصابة العائن للآخر بعينه، وأن الرقية من ذلك تنفع وتجدي، وهذا أمر مجرب ومعلوم.
والثاني: الحمة، والحمة: هي ذوات السموم كالعقرب والحية وما أشبه ذلك، فإن الرقية منها من أنجح ما يكون، ولا سيما إذا صدرت من مؤمن مخلص موقن بما يقول، وقد جاء في الصحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه ذهب مع طائفة من الصحابة في سرية، أرسلهم الرسول صلى الله عليه وسلم لغرض من الأغراض في سبيل الله، وأنهم استضافوا حياً من العرب، فأبوا أن يضيفوهم، فلدغ سيد ذلك الحي، فسعوا له بكل ممكن، فلم يجدوا له شفاءً، ثم قال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط -يقصدون أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم- لعل أن يكون عندهم رقية، فجاءوا إليهم يطلبون ذلك، فقال لهم أبو سعيد: نعم أنا أرقي، ولكن أنتم لم تضيفونا، فلن أرقيه إلا بجعل تجعلونه لنا، قالوا: نعم، واتفقوا على أن يجعلوا له قطيعاً من الضأن، فأقبل يقرأ الفاتحة ويتفل عليه، فقام كأنما كانت يده مربوطة بحبل فانحل الحبل، وصار يمشي لا بأس به، شفي تماماً! ثم لما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبروه، فأخبره أنه رقاه بفاتحة الكتاب، فقال: (وما يدريك أنها رقية؟) يعني: الفاتحة رقية ناجحة، فهذا يدل على أن ما قاله صلوات الله وسلامه عليه يشفى به الإنسان عاجلاً، وهذا أمر مجرب.
ولكن ليس كل راق يحصل منه هذا الأمر، وإنما يحصل من المؤمن الموقن الصادق، فإذا رقى من كانت هذه صفته، لا يمكن أن يتخلف الشفاء المرغوب فيه، وإن كان المرقى عليه كافراً، ولا يلزم أن يكون مؤمناً كما في هذه القصة.(37/6)
أقسام الرقية
الأمر الثاني الذي يدل عليه حديث ابن مسعود: أن التمائم والرقى التي فيها تعلق بغير الله جل وعلا نوع من الشرك، فتحمل الرقية على الشيء الشركي الذي فيه الاستعانة بغير الله، ويستنتج من ذلك أن الرقية تنقسم إلى أقسامٍ ثلاثة: القسم الأول: رقية جائزة بل مستحبة، وهي الرقية بأسماء الله وصفاته وآياته، فإذا رقى الإنسان بذلك على نفسه أو على غيره فلا بأس، وأما إذا طلب الرقية فإنها تكون جائزة أيضاً، ولكن ذلك يمنع من دخول الجنة بلا حساب.
القسم الثاني: الرقية الشركية، وهي ما كانت بأسماء الشياطين، أو بأسماء الجن، أو ما أشبه ذلك من الاستعانة بغير الله.
القسم الثالث: الرقية التي يتوقف فيها حتى يتبين أمرها، وهي ما كانت مجهولة المعنى، فهذا يكون ممنوعاً في الجملة، ولا تجوز أن تكون الرقية إلا بالشيء المفهوم الذي يعرف ما هو.
وأما التمائم فليس فيها تفصيل على القول الصحيح.
وأما التولة فهي نوع آخر خارج عن ذلك، ولا أحد يجيز شيئاً من السحر إلا ما سيأتي من قول ابن المسيب رحمه الله في النشرة، والنشرة هي: حل السحر عن المسحور، فقد قال: إن ذلك لا بأس به إذا أريد به النفع، يعني: إذا أرادوا به الإصلاح وإزالة الأذى، هذا نقل عن ابن المسيب، وسيأتي الكلام على ذلك في بابه إن شاء الله.
قال الشارح: [قوله: (إن الرقى) قال المصنف: هي التي تسمى العزائم، وخص منها الدليل ما خلا من الشرك، فقد رخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من العين والحمة.
يشير إلى أن الرقى الموصوفة بكونها شركاً هي التي يستعان فيها بغير الله، وأما إذا لم يذكر فيها إلا أسماء الله وصفاته وآياته والمأثور عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهذا حسن جائز أو مستحب.
قوله: فقد رخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من العين والحمة كما تقدم ذلك في باب من حقق التوحيد].
وجاء الترخيص أيضاً في غير العين والحمة، ولا يفهم من الترخيص أنه مجرد رخصة، بل جاء ما يدل على أنها مستحبة يثاب الإنسان عليها، وجاء الترخيص أيضاً من الدم، والمقصود بالدم الرعاف، وجاء أيضاً من النملة، وهي بثرة تخرج في جسد الإنسان، والأحاديث التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الترخيص في الرقية ليست خاصة بالعين والحمة، بل جاءت أيضاً في غيرهما.
قال الشارح: [قوله: فقد رخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من العين والحمة كما تقدم ذلك في باب من حقق التوحيد، وكذا رخص في الرقى من غيرها كما في صحيح مسلم عن عوف بن مالك قال: (كنا نرقي في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله! كيف ترى في ذلك؟ فقال: اعرضوا عليَّ رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم تكن شركاً) وفي الباب أحاديث كثيرة.
قال الخطابي: وكان عليه السلام قد رقى ورقي، وأمر بها وأجازها، فإذا كانت بالقرآن وبأسماء الله فهي مباحة أو مأمور بها، وإنما جاءت الكراهة والمنع فيما كان منها بغير لسان العرب، فإنه ربما كان كفراً أو قولاً يدخله شرك].
قوله: (إنه رقى) فكان يرقي بعض أهله صلوات الله وسلامه عليه، وأما كونه رقي فإن جبريل عليه السلام رقى النبي عليه الصلاة والسلام، جاء إليه وقال: باسم الله أرقيك، الله يشفيك.
.
إلى آخره.
فالرقية حصلت له بدون طلب منه، فهذا يدل على الجواز مطلقاً إن لم يكن مستحباً، والإنسان عليه أن يتحصن بأسماء الله وصفاته، وينبغي أن يكون له ورد من ذلك في أول النهار وآخره، يذكر من آيات الله، ومن أسماء الله ما يكون له حصناً، وقد جاءت أحاديث كثيرة جداً في أن من قال حين يمسي كذا وكذا لم يضره شيء، ومن قال حين يصبح كذا وكذا لم يضره شيء، وقد أفرد هذه الأمور العلماء بكتب مؤلفة، ومن أفضل ما كتب في ذلك وأحسنه ما كتبه الإمام النووي رحمه الله في كتابه الأذكار، فإن هذا الكتاب مما لا يستغني عنه المسلم، وينبغي له أن يراجعه دائماً، ويقرأ فيه، ويحفظ ما ينبغي حفظه منه.
فالمقصود: أن هذا من الباب الذي يتزود به المؤمن ويتحصن به، كونه يلجأ إلى الله بأسمائه وصفاته جل وعلا، ويتعوذ بها ويتحصن به، فهو أمر مرغوب فيه، وفيه فضل عظيم؛ لأنه عبادة لله جل وعلا.
قال الشارح: [قلت: من ذلك ما كان على مذاهب الجاهلية التي يتعاطونها، وأنها تدفع عنهم الآفات، ويعتقدون أن ذلك من قبل الجن ومعونتهم، وبنحو هذا ذكر الخطابي.
وقال شيخ الإسلام: كل اسم مجهول فليس لأحد أن يرقي به فضلاً عن أن يدعو به، ولو عرف معناه؛ لأنه يكره الدعاء بغير العربية، وإنما يرخص لمن لا يحسن العربية، فأما جعل الألفاظ الأعجمية شعاراً فليس من دين الإسلام].
يكره الدعاء بغير العربية أو -مثلاً- طلب مسائل العلم؛ لأن الإنسان لا يفهم خطاب الله جل وعلا، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم إلا بالعربية؛ ولهذا صار تعلم اللغة العربية واجب من واجبات الدين؛ لأنه لا يمكن للإنسان أن يفهم كلام الله، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم إلا بذلك، وإذا كان الإنسان لا يعرف اللغة العربية، والأمر ضروري يضطر إليه، فيجب عليه أن يتعلم.(37/7)
شروط جواز الرقية
قال الشارح: [وقال السيوطي: وقد أجمع العلماء على جواز الرقى عند اجتماع ثلاثة شروط: أن تكون بكلام الله أو بأسمائه وصفاته، وباللسان العربي وما يعرف معناه، وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها بل بتقدير الله تعالى.
قال المصنف رحمه الله: التمائم: شيء يعلق على الأولاد يتقون به العين، لكن إذا كان المعلق من القرآن فقد رخص فيه بعض السلف، وبعضهم لم يرخص فيه، ويجعله من المنهي عنه، منهم ابن مسعود رضي الله عنه، والرقى: هي التي تسمى العزائم، وخص منها الدليل ما خلا من الشرك، فقد رخص فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من العين والحمة، والتولة: شيء يصنعونه يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها، والرجل إلى امرأته].
التولة من أنواع السحر الذي يصنعه من لا خلاق له، والسحر لا يكون إلا بواسطة الشيطان، بأن يطيعه الإنسان، وقد يسجد له، وقد يقرب له قرباناً، فينتفع بذلك، وهو من استمتاع بعض الجن ببعض الإنس، كما أخبر الله جل وعلا أنهم يقولون يوم القيامة: {رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} [الأنعام:128] يعني: بعضهم ينتفع ببعض، هذا يقدم منفعة، وهذا يقدم منفعة، وهذا نوع منه، وقد ذكر العلماء أن السحر لا يمكن أن يحصل من دون شرك؛ لأن السحر كله بواسطة الشيطان.
قال الشارح: [قوله: (التمائم) قال المصنف: شيء يعلق على الأولاد من العين، وقال الخلخالي: التمائم: جمع تميمة، وهى ما يعلق بأعناق الصبيان من خرزات وعظام لدفع العين، وهذا منهي عنه؛ لأنه لا دافع إلا الله، ولا يطلب دفع المؤذيات إلا بالله وبأسمائه وصفاته].
التمائم تكون من الخرزات أو من العظام، وكل ما علق من أي نوع كان ويقصد به النفع فهو تميمة؛ لأن العبرة بالمقاصد، وليس بذوات الأشياء، مقاصد القلوب والنيات هي العبرة، فيعتبر مقصد الإنسان ونيته، فإذا علق شيئاً يقصد به دفع المؤذي من مرض أو ما أشبه ذلك، أو رفعه بعد نزوله فهو تميمة، وهو نوع من الشرك.(37/8)
ترجيح المنع من تعليق التمائم ولو كانت من القرآن
قال الشارح رحمه الله: [اعلم أن العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم اختلفوا في جواز تعليق التمائم التي من القرآن وأسماء الله وصفاته، فقالت طائفة: يجوز ذلك، وهو قول عبد الله بن عمرو بن العاص، وهو ظاهر ما روي عن عائشة، وبه قال أبو جعفر الباقر وأحمد في رواية، وحملوا الحديث على التمائم التي فيها شرك.
وقالت طائفة: لا يجوز ذلك، وبه قال ابن مسعود وابن عباس، وهو ظاهر قول حذيفة وعقبة بن عامر وابن عكيم، وبه قال جماعة من التابعين منهم أصحاب ابن مسعود، وأحمد في رواية اختارها كثير من أصحابه، وجزم بها المتأخرون، واحتجوا بهذا الحديث وما في معناه.
قلت: هذا هو الصحيح لوجوه ثلاثة تظهر للمتأمل: الأول: عموم النهي ولا مخصص للعموم.
الثاني: سد الذريعة؛ فإنه يفضي إلى تعليق ما ليس كذلك.
الثالث: أنه إذا علق فلابد أن يمتهنه المعلق؛ لحمله معه في حال قضاء الحاجة، والاستنجاء ونحو ذلك.
وتأمل هذه الأحاديث وما كان عليه السلف رضي الله تعالى عنهم يتبين لك بذلك غربة الإسلام، خصوصاً إن عرفت عظيم ما وقع فيه الكثير بعد القرون المفضلة من تعظيم القبور، واتخاذ المساجد عليها، والإقبال إليها بالقلب والوجه، وصرف جل الدعوات والرغبات والرهبات وأنواع العبادات التي هي حق الله تعالى إليها من دونه كما قال تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ * وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس:106 - 107] ونظائرها في القرآن أكثر من أن تحصر].
مقصده بهذا القول، أنه إذا كانت التمائم منعت لكونها تعلقاً بغير الله جل وعلا، وجعلت من الشرك؛ فكيف بمن يذهب إلى القبور، ويدعو أصحابها، أو يعكف عندها طلباً للبركة من تربتها، أو ممن سكنها، وهم رفات رميم مرتهنون بأعمالهم، أو يذهب يطوف بها تعبداً وتقرباً، أو يظن أن العبادة عندها أفضل من عبادة الله عند غيرها؟! فإن كل هذا إما شرك أو وسيلة للشرك الأكبر الذي يكون منافياً للتوحيد، فالتوحيد يكون بأن الإنسان لا يتعلق بغير الله جل وعلا، ويخلص اتجاهه وعمله لله وحده، في فعله وفي نيته ومقصده، والذي يكون بهذه المثابة هو الذي يكون مخلصاً، ويكون سالماً من التعلقات بالمظاهر الأخرى سواء كانت تمائم أو غير تمائم.
ويقول: إن هذا الموحد يكون غريباً؛ لأن هذه الأمور من التعلق بالقبور وقعت حتى من بعض العلماء الذين هم قدوة، فإذا كان هذا يقع منهم فكيف بالعامة؟! وهذا مما يجعل الدين الإسلامي غريباً، وقد جاء في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ)، ومعلوم أنه بدأ برسول الله صلى الله عليه وسلم فقط، ثم كان الناس يدخلون في الإسلام واحداً بعد آخر.
وفي هذا الحديث جاء ذكر ثلاثة أشياء: الرقى والتمائم والتولة، وقد فسرت في الحديث من كلام عبد الله بن مسعود راوي الحديث، وأخبر أن الرقى والتمائم معروفة، وهي كل رقية بقراءات وتعويذات سواء كانت بأسماء الله أو آياته أو بغير ذلك، فهذا يطلق عليه أنه رقية، ولكن الشرك هو ما كان فيه تعوذ بغير الله جل وعلا، أو فيه طلب شفاء لمرض نزل أو لشيء يتوقع من غير الله جل وعلا.
وأما التمائم: فهي الحروز التي يكتب فيها أو بدون كتابة، سواء كانت توضع على موضع معين كاليد والرجل أو الرقبة، أو يؤتى بالحرز ويوضع في الجيب أو غير ذلك، وسواء كانت فيه كتابة أو ادعي أنه بطبعه وخاصيته يدفع وينفع.
والتولة نوع من السحر، وهي التي تسمى بالعاطف، يعني: يعطف الإنسان على غيره بأن يحببه إليه، ولا سيما بين الزوجين، فإن هذا معروف إلى اليوم، تصنعه المرأة وتزعم أنه يعطف زوجها عليها، ويجعلها محبوبة له، وهو نوع من السحر.
والسحر لا يكون إلا بواسطة الشياطين، وله تأثير في الأبدان وفي الأفكار والعقول، قد يفسد العقل وقد يفسد البدن وقد يقتل، ولكنه كما قال الله جل وعلا: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة:102]، فالشياطين هم الذين يعلمون الناس السحر، وهو صنعة يمكن تعلمه، ولكن بواسطة الشيطان وهو أنواع كثيرة، وكل نوع منه محرم، وسيأتي وصفه والكلام فيه في باب مستقل، وكذلك العلاج منه والذي يسمى بـ (النشرة) سيأتي له باب مستقل.
فهذه الأمور الثلاثة أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أنها شرك، والشرك هو أعظم الذنوب على الإطلاق، كما أخبر الله جل وعلا أن كل ذنبٍ تحت مشيئته قد يغفره إذا شاء إلا الشرك، فإن الله لا يغفره لمن يموت عليه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء:48]، فالمشرك الذي يموت على الشرك هو في النار قطعاً بدون استثناء.
والشرك أنواع: منه الشرك الأكبر، ومنه الشرك الأصغر، والشرك الأصغر كيسير الرياء، وكالحلف بغير الله جل وعلا، ومثل هذا إذا مات الإنسان عليه لا يكون من أهل النار، ولكنه يأثم، ويستحق أن يعاقب؛ لأن هذا أعظم من الكبائر، أعظم من الزنا، ومن السرقة كما قال العلماء، ومع ذلك لا يخرج الإنسان من دين الإسلام.
والتمائم سبق أنها سميت تمائم أخذاً من أنه سيتم مراد الواضع لها، فهي سميت بذلك من باب التفاؤل، يعني: تفاءلوا عندما وضعوا هذا الشيء بأنه سيتم مقصود الواضع لدفع الأذى أو لجلب النفع، فمن هذا المعنى سميت تميمة، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (من تعلق تميمة فلا أتم الله له)، وسبق أن هذا إما أن يكون دعاء وإما أن يكون خبراً، وكلاهما يدل على نقيض مراد الواضع لذلك؛ وذلك أن من وضع التميمة فإن قلبه قد تعلق بغير الله، والتفت إلى غيره، وهذا نوع من الشرك، ونوع من رجاء النفع من المخلوق، والتعلق به، والنفع والدفع لا يكون إلا من الله جل وعلا، فهذا هو وجه كون التميمة شركاً.
أما الرقية: فإنها إذا كانت بتعوذ بالشياطين أو بالملائكة أو بالأولياء والصالحين الغائبين أو الميتين الذين لا يقدرون على أن يوصلوا إليه ما طلب منهم، أو يعيذوه مما استعاذ منه؛ فإن هذا من الشرك.
وإذا كانت الرقية بآيات الله وأوصافه جل وعلا فهي مستحبة كما سبق، وقوله: خص الدليل منها ما كان بآيات الله وأوصافه فإنه جائز، بل هو مستحب، وأما التميمة التي فيها القرآن أو صفات الله جل وعلا فقد اختلف فيها العلماء على قولين: أحدهما: أنه جائز بالشروط التي ذكرها السيوطي وقال: إنها بالإجماع، وهي ثلاثة: الأول: أن تكون بآيات الله وأسمائه.
الثاني: أن تكون بكلام عربي معروف المعنى.
الثالث: أن يكون الذي وضعها يعتقد أنها لا تؤثر بنفسها، وإنما المؤثر هو الله جل وعلا.
فذكر أن عبد الله بن عمرو بن العاص يريد هذا النوع، وقال: إنه ظاهر ما روي عن عائشة، وجمهور السلف والتابعين على أنه لا يجوز، ورجح هذا بأمور ثلاثة: أحدها: أن الأدلة مطلقة لم تخص شيئاً من ذلك، فمن ادعى الخصوصية فعليه الدليل، ولا دليل على هذا.
الأمر الثاني: إذا قيل بالجواز فإنه يجر إلى ما لا يجوز، فيكون وسيلة إلى المحرم، والوسائل لها أحكام المقاصد، إذا كان المقصد محرماً فالوسيلة محرمة، وإذا صارت النتيجة تئول إلى شيء محرم، فالسبب أن الذي يجر إليها يكون حراماً، وهذه قاعدة معروفة قررها العلماء، وقد دل كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على هذه القاعدة كقوله جل وعلا: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108] يعني: لا تسبوا أصنامهم وتذموها وتعيبوها؛ فإنهم إذا سمعوا ذلك سبوا إلهكم الذي هو الله، فنهوا عن هذا من أجل ما يئول إليه.
وفي الحديث الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال ل عائشة: (لولا أن قومك حديثي عهد بالشرك لنقضت الكعبة، وجعلتها على أساس إبراهيم، وجعلت لها باباً لاصقاً في الأرض من الشرق، وآخر من الغرب؛ لأن قومك لما أرادوا بناء البيت قصرت بهم النفقة، ورفعوا الباب حتى لا يدخلها إلا من يريدون) فذكر أن ذلك كان فيه مصلحة، وأمر محبوب، ولكن منعه من ذلك كون المشركين حديثي العهد بالشرك، فخاف أنه إذا نقضها صار ذلك فتنة لهم، فترك ذلك، إلى غير ذلك من الأدلة الدالة على هذه القاعدة.
الأمر الثالث: أن المعلق لا يخلو من الامتهان، كأن يستنجي الإنسان وهو عليه، أو يدخل به الحمام ليقضي حاجته، وما أشبه ذلك، ولا سيما إذا كان على طفل أو إنسان لا يفقه، فإنه لا يخلو من هذا.
فهذه الأمور الثلاثة رجح بها المنع، يقول: وهو مذهب جمهور العلماء، وهذا أحوط للإنسان، وأسلم لدينه، فالإنسان إذا توكل على الله واعتمد عليه فإن الله جل وعلا يكفيه ويشفيه من كل ما يقع فيه {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق:2].
قال الشارح: [قوله: التولة، فسرها ابن مسعود راوي الحديث كما في صحيح ابن حبان والحاكم قالوا: يا أبا عبد الرحمن! هذه الرقى والتمائم قد عرفناها فما التولة؟ قال: شيء تصنعه النساء، يتحببن به إلى أزواجهن.
قال الحافظ: التولة: بكسر المثناة وفتح الواو واللام مخففاً، شيء كانت المرأة تجلب به محبة زوجها، وهي ضرب من السحر، والله أ(37/9)
حديث: (من تعلق شيئاً وكل إليه)
قال الشارح: [وعن عبد الله بن عكيم مرفوعاً: (من تعلق شيئاً وكل إليه) رواه أحمد والترمذي].
سبق أن لفظة تعلق تكون بفعل القلب، وتكون بفعل الجوارح، وغالباً تطلق على فعل القلب، ولا سيما في مثل هذا الذي يرجى منه النفع الغيبي ومن الأمر الذي لا يشاهد، فإن هذا يراد به تعلق القلب.
(من تعلق تميمة) يعني: تعلق قلبه بها، بأن رجا أنها تدفع عنه الضر أو تجلب له النفع، ومن فعل هذا فقد رجا غير الله، والتفت إلى غيره، وهذا كما سبق نوع من الشرك.
قال الشارح: [وعبد الله بن عكيم هو بضم المهملة مصغرة، ويكنى أبا معبد الجهني الكوفي، قال البخاري: أدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعرف له سماع صحيح، وكذا قال أبو حاتم، قال الخطيب: سكن الكوفة وقدم المدائن في حياة حذيفة، وكان ثقة، وذكر ابن سعد عن غيره أنه مات في ولاية الحجاج.
قوله: (من تعلق شيئاً وكل إليه) التعلق يكون بالقلب، ويكون بالفعل، ويكون بهما (وكل إليه) أي: وكله الله إلى ذلك الشيء الذي تعلقه].
قوله: (شيئاً) هذا عام، (من تعلق شيئاً وكل إليه)، والمقصود أن الذي يتعلق بغير الله فإن الله يكله إلى ذلك الغير، وإذا وكل الإنسان إلى غير الله فإنه يوكل إلى عوره وإلى ضيعة، فلا يحصل له مقصوده، بخلاف الذي يتعلق بالله جل وعلا، فإنه يكون ناجحاً يحصل له مراده، ويكون مطيعاً في ذلك لله جل وعلا، ويأتيه الخير من حيث لا يحتسب.
ففرق بين من تعلق بالله ومن تعلق بالمخلوقات التي لا تنفع نفسها فضلاً عن غيرها من الأمور التي يتوقع نفعها، أو الأمور التي يتوقع ضررها بأن تدفع، فإن هذا لا يكون إلا بيد الله جل وعلا كما في حديث عبد الله بن عباس: (واعلم أن الخلق لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لك لم يقدروا على ذلك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا على ذلك) فالأمور كلها بيد الله.
ولكن إذا كان الإنسان يقينه ضعيفاً، وإيمانه ضعيفاً، فإن تعلقه بالله يصبح ضعيفاً، وتجده يتشبث بأدنى سبب يتوهمه، فإذا كان هكذا فإن الله لا يبالي في أي وادٍ هلك.
بخلاف الذي يكون إيمانه قوياً، وثقته بالله قوية، فإنه لا يضره أي توهم يمر به من الشيطان أو من غيره، فإنه يعتمد على الله بعد فعل السبب، فالأسباب مطلوب فعلها، ولكن لا يعتمد عليها، وإنما الاعتماد على الله جل وعلا، فهو إذا شاء جعل السبب مؤثراً، وإذا شاء أبطل السبب وإن كان قوياً، ويصبح لا تأثير له.
فالمقصود أن الأمور كلها بيد الله، فما حصل لك من خير فهو من الله، وإن كان هناك أسباب فالأسباب سببها الرب جل وعلا.
فيجب على العبد أن يكون تعلقه بالله وحده، وألا يلتفت إلى المخلوقات، ولا يعلق قلبه بها، فلا يرجو نفعها أو أن تدفع عنه ضراً، وهذا لا ينافي كونك تستعيذ بمن يقدر على إعانتك ممن هو حاضر عندك، ويستطيع أن يساعدك على عمل ما، فإن هذا غير ممنوع (من استطاع أن ينفع أخاه فلينفعه)، والمسلمون كالجسد الواحد يشد بعضه بعضاً، فلا بد من التعاون، ولكن المقصود بالمنع الأمور الغيبية التي يتوقع نفعها كالشفاء من المرض، وكدفع الآفات، وما أشبه ذلك، فهذه يجب أن يكون التعلق فيها بالله وحده.
قال الشارح: [فمن تعلق بالله، وأنزل حوائجه به، والتجأ إليه، وفوض أمره إليه؛ كفاه، وقرب إليه كل بعيد، ويسر له كل عسير؛ ومن تعلق بغيره، أو سكن إلى رأيه وعقله ودوائه وتمائمه ونحو ذلك؛ وكله الله إلى ذلك، وخذله، وهذا معروف بالنصوص والتجارب قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3]].
معنى حسبه: يعني: كافيه، من يتوكل على الله فإن الله يكفيه كل ما خافه، ويعطيه ما أمله ورجاه.
قال الشارح: [وقال الإمام أحمد: حدثنا هشام بن القاسم قال: حدثنا أبو سعيد المؤدب قال: حدثنا من سمع عطاء الخراساني قال: لقيت وهب بن منبه وهو يطوف بالبيت فقلت: حدثني حديثاً أحفظه عنك في مقامي هذا وأوجز، قال: (نعم، أوحى الله تبارك وتعالى إلى داود: يا داود! أما وعزتي وعظمتي! لا يعتصم بي عبد من عبادي دون خلقي أعرف ذلك من نيته فتكيده السماوات السبع ومن فيهن، والأرضون السبع ومن فيهن، إلا جعلت له من بينهن مخرجاً، أما وعزتي وعظمتي! لا يعتصم عبد من عبادي بمخلوق دوني أعرف ذلك من نيته، إلا قطعت أسباب السماء من يده، وأسخت الأرض من تحت قدميه، ثم لا أبالى بأيّ أوديتها هلك)].(37/10)
حديث: البراءة ممن عقد لحيته أو تقلد وتراً أو استنجى برجيع دابة أو عظم
قال الشارح: [وروى أحمد عن رويفع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رويفع! لعل الحياة ستطول بك، فأخبر الناس أن من عقد لحيته أو تقلد وتراً أو استنجى برجيع دابة أو عظم فإن محمداً بريء منه)].
هذا من أحاديث الوعيد التي يتوعد من فعل ما ذكر فيها بأن الرسول صلى الله عليه وسلم برئ منه، أو بأن الله يفعل به كذا وكذا، إما أن يلقيه في النار، أو يغضب عليه، أو يلعنه، أو أن من فعل كذا وكذا فليس منا، وما أشبه ذلك، وللعلماء في هذا مذهبان سنذكرهما إن شاء الله.
قوله: (لعل الحياة ستطول بك) قد وقع ما ترجاه الرسول صلى الله عليه وسلم، ومثل هذا الأسلوب قد يأتي لأمر مجزوم به متيقن، ومع ذلك يقول: لعله كذا وكذا، وهو عارف أنه سيقع؛ لأن هذا أسلوب عربي استعمله القرآن، وكذلك استعمله الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (أخبر الناس) هذا ليس خاصاً بـ رويفع، وإنما هو عام لكل من كان عنده علم من شرع الله جل وعلا مما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه يجب أن يخبر الناس بذلك، إذا كانوا محتاجين إليه، ومثل هذا إذا كان واحداً فإنه يتعين عليه، أما إذا كانوا جماعات عندهم هذا العلم، فإن الأمر يكون بالنسبة إليهم من فروض الكفاية، يعني: إذا قام به من يكفي للبيان والإيصال فيسقط الإثم عن البقية، ولا يلزم كل واحد بعينه أن يبين ويوصل ذلك إلى الناس.
وهذا عام في كل ما احتاج إليه الناس من أمر دينهم، والخطاب وإن كان لشخص بعينه فقد علم من قواعد الشرع أنه يقصد به كل من حمل شيئاً عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فيجب عليه أن يبينه للناس إذا كانوا محتاجين إليه.(37/11)
حرمة تقلد الوتر
وقوله: (أخبر الناس أن من تقلد وتراً، أو عقد لحيته أو استنجى برجيع دابة فإن محمداً برئ منه)، أما الوتر: فقد تقدم أنه أحد أوتار القوس، وهو السلاح المعروف قديماً، فإذا اخلولق الوتر الذي يرمون به علقوه على دوابهم، وربما علق على الصبيان، ويزعمون أنه يدفع عنهم عين الإنسان، وكذاك أذى الجان، وهذا هو النفع الغيبي الذي قلنا: إنه إذا علق لأجل النفع الغيبي، أو الدفع الغيبي فإنه يكون من الشرك؛ فلهذا أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه برئ ممن فعل هذا، ومن تبرأ منه الرسول صلى الله عليه وسلم فأقل ما يقال فيه: إنه فعل جريمة من الجرائم التي يستحق عليها عقاب من الله جل وعلا.(37/12)
حرمة عقد اللحية
الأمر الثاني: عقد اللحية، وعقد اللحية فسره العلماء بشيئين: أحدهما: ما كان من فعل بعض المتكبرين والمتجبرين من الأعاجم ومن العرب، فكانوا في القتال يعقدون لحاهم ويفتلونها ويعقدونها على هيئة معينة؛ ليكون ذلك شوهة بحيث من رآهم خاف، ويكون منظرهم مخيفاً، وهم يفعلون هذا تكبراً وتجبراً.
المعنى الثاني: أن المقصود معالجة الشعر حتى يتعقد ويتجعد، ويكون له عقد من نفسه؛ ليكون هذا من باب التجمل والتزين بتعقيد الشعر، وقد جاء في حديث آخر النهي عن عقد اللحية في الصلاة؛ لما فيه إما من الكبر والتجبر على عباد الله، أو لما فيه من التأنث والتأنق والتشبه بالنساء التي تتجمل وتتزين وليس هذا من شأن الرجال.(37/13)
حرمة الاستنجاء برجيع دابة أو عظم
المقصود برجيع الدابة: روث الدواب من الإبل والبقر وغيرها، فلا يجوز للإنسان إذا قضى حاجته أن يتمسح بروث الدواب؛ فإن هذا من المحرمات، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه بريء ممن فعل هذا، وقد جاءت علة النهي في أحاديث معروفة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وفيها أنه أخبر أن الرجيع علف دواب الجن من المسلمين، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أنه التقى بالجن، ودعاهم إلى الله، وأنهم أسلموا، وسألوه الطعام لهم ولدوابهم، فقال صلى الله عليه وسلم لهم: (لكم كل عظم ذكر عليه اسم الله جل وعلا، تجدون عليه لحماً أوفر ما كان) هذا لهم، فلهذا حرم الاستنجاء بالعظام من أجل ذلك؛ لأن هذا يفسدها على الجن.
وأما دوابهم فأرواث دواب الإنس يكون علفاً وطعاماً لدوابهم، وهذا خاص بالمؤمنين من الجن، أما الكافرون منهم فإنهم لا يجدون من ذلك شيئاً، وإنما يطعمون ما يطعمهم الله جل وعلا حلالاً أو حراماً.
أما ما يجيء من الوعيد في الحديث كأن يقول: فإن محمداً صلى الله عليه وسلم برئ منه أو يقول: فإنه ليس منا، أو يقول: من فعل كذا وكذا فقد كفر، كما في السنن: (من أتى كاهناً فصدقه بما يقول: فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم)، وكذلك قوله: (من أتى امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم)، وكذلك: قول الله جل وعلا: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93]، وكذلك قوله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10] وما أشبه ذلك كثير؛ فإن للعلماء في هذا مذهبين مشهورين: المذهب الأول: أنه لا بد من تأويل ذلك؛ لأن الفاعل لهذه الأمور لا يكون كافراً، فقالوا في مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (إن محمداً بريء منه) يعني: بريء من فعله، أو أنه برئ منه في هذه الحال، فإذا راجع ربه، وتاب، وأقلع عن ذلك الذنب، فإنه لا يكون بريئاً منه، وفي مثل قوله: (من أتى امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم) يعني: أنه كفر دون كفر، لا يكون كفراً مخرجاً من الملة والدين رأساً، وقالوا: في قوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} يعني: لو جازاه، ولكن الله يعفو، وهكذا: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} وما أشبه ذلك، وهذا مشهور في كتب التفسير، وفي شروح الأحاديث إذا نظرت فيها، فإنهم يشرحونها بمثل هذه الألفاظ.
المذهب الثاني: مذهب كثير من المحققين يقولون: هذا التأويل خطأ، وإنما الواجب أن تبقى هذه النصوص كما جاءت مع اعتقاد أن الفاعل لها لا يكون كافراً، ولا يكون خارجاً من الملة، ولكن لا يجوز لنا أن نتأولها؛ لأن تأويلها يكون فيه محذوران: الأول: الخطر في ذلك، لأننا لا ندري مراد الله ومراد الرسول صلى الله عليه وسلم من هذا، فإذا عينا شيئاً فإننا نكون على خطر، فقد يكون هذا الشيء الذي عيناه ليس هو مراد الله ولا مراد رسوله عليه الصلاة والسلام.
الثاني: أن هذه النصوص إذا تركت كما جاءت فإن هذا يكون أدعى للانزجار والابتعاد عن اقتراف مثل هذه الذنوب، وهذا هو الراجح، فإذا جاءت مثل هذه الأخبار فإنها تترك كما جاءت، مع الاعتقاد بأن الفاعل لهذه الأمور ليس كافراً وليس خارجاً من الدين، والله أعلم.
قال الشارح: [الحديث رواه الإمام أحمد عن يحيى بن إسحاق والحسن بن موسى الأشيب كلاهما عن ابن لهيعة، وفيه قصة اختصرها المصنف، وهذا لفظ الحسن: قال: حدثنا ابن لهيعة قال: حدثنا عياش بن عباس عن شييم بن بيتان قال: حدثنا رويفع بن ثابت قال: كان أحدنا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ جمل أخيه على أن يعطيه النصف مما يغنم، وله النصف، حتى إن أحدنا ليصير له النصل والريش وللآخر القدح، ثم قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث.
ثم رواه أحمد عن يحيى بن غيلان قال: حدثني المفضل قال: حدثنا عياش بن عباس أن شييم بن بيتان أخبره أنه سمع شيبان القتباني الحديث.
ابن لهيعة فيه مقال، وفي الإسناد الثاني شيبان القتباني قيل فيه: مجهول، وبقية رجالهما ثقات.
قوله: (لعل الحياة ستطول بك) فيه علم من أعلام النبوة، فإن رويفعاً طالت حياته إلى سنة ست وخمسين، فمات ببرقة من أعمال مصر أميراً عليها وهو من الأنصار، وقيل: مات سنة ثلاث وخمسين.
قوله: (فأخبر الناس) دليل على وجوب إخبار الناس، وليس هذا مختصاً بـ رويفع، بل كل من كان عنده علم ليس عند غيره مما يحتاج إليه الناس وجب إعلامهم به، فإن اشترك هو وغيره في علم ذلك فالتبليغ فرض كفاية قاله أبو زرعة في شرح سنن أبي داود.
قوله: (أن من عقد لحيته) بكسر اللام لا غير، والجمع لحى بالكسر والضم قاله الجوهري.
قال الخطابي: أما نهيه عن عقد اللحية فيفسر على وجهين: أحدهما: ما كانوا يفعلونه في الحرب، كانوا يعقدون لحاهم، وذلك من زي بعض الأعاجم يفتلونها ويعقدونها قال أبو السعادات: تكبراً وعجباً.
ثانيهما: أن معناه معالجة الشعر ليتعقد ويتجعد، وذلك من فعل أهل التأنيث، وقال أبو زرعة العراقي: والأولى حمله على عقد اللحية في الصلاة كما دلت عليه رواية محمد بن الربيع وفيه: أن من عقد لحيته في الصلاة.
قوله: (أو تقلد وتراً) أي: جعله قلادة في عنقه أو عنق دابته، وفي رواية محمد بن الربيع (أو تقلد وتراً) يريد تميمة.
فإذا كان هذا فيمن تقلد وتراً فكيف بمن تعلق بالأموات، وسألهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات الذي جاء النهي عنه وتغليظه في الآيات المحكمات؟! قوله: (أو استنجى برجيع دابة أو عظم فإن محمداً بريء منه) قال النووي: أي: بريء من فعله، وهذا خلاف الظاهر، والنووي كثيراً ما يتأول الأحاديث بصرفها عن ظاهرها فيغفر الله تعالى له.
وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً: (لا تستنجوا بالروث ولا العظام فإنه زاد إخوانكم من الجن)، وعليه لا يجزئ الاستنجاء بهما كما هو ظاهر مذهب أحمد؛ لما روى ابن خزيمة والدارقطني عن أبي هريرة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يستنجى بعظم أو روث وقال: إنهما لا يطهران)] يعني: لو أن الإنسان استنجى بالعظم أو بالروث فإن طهارته غير مجزئة، هذا إذا اقتصر على الاستجمار، أما إذا استنجى بالماء، فإن هذا لا أثر له، وإن كان فعله محرماً؛ لأن نهي الرسول صلى الله عليه وسلم يدل على الفساد، فكل ما نهى عنه من هذا القبيل، ثم ارتكب ذلك النهي، فإنه لا يجزئه إذا رتب عليه عبادة.
والاستجمار يكفي الإنسان إذا استجمر بثلاثة أحجار أو بغير الأحجار مما يزيل وينقي، ولا يجب الاستنجاء بالماء، بل يتوضأ ويبدأ بوجهه بعد الاستجمار، ويغسل يديه، ويمسح رأسه، ويغسل رجليه، وبهذا يكون قد كمل وضوءه.
وهذا أمر كان مشهوراً عند الصحابة، بل كثير منهم ما كان يعرف إلا هذا، وما كانوا يعرفون الاستنجاء بالماء، حتى أن الله جل وعلا لما أنزل قوله لأهل قباء: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108] قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد أحسن عليكم الثناء، فما هذه الطهارة؟ قالوا: ما هو إلا أننا رأينا اليهود يغسلون أدبارهم بعد قضاء الحاجة، ففعلنا ذلك، فقال: هو ذاكم فعليكموه)، والمقصود أن الإنسان يجزئه في الوضوء الاستجمار إذا استعمل الشيء الطاهر المأذون فيه، أما إذا استجمر بعظم أو بروث وإن كان منقياً مزيلاً للخارج، ثم تطهر بعد هذا ولم يستنج، فإن طهارته باطلة؛ لنهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك.(37/14)
أثر ابن جبير: (من قطع تميمة من إنسان كان كعدل رقبة)
قال الشارح: [وعن سعيد بن جبير قال: (من قطع تميمة من إنسان كان كعدل رقبة) رواه وكيع، وهذا عند أهل العلم له حكم الرفع؛ لأن مثل هذا لا يقال بالرأي، فيكون هذا مرسلاً؛ لأن سعيداً تابعي، وفيه فضل قطع التمائم؛ لأنها شرك.
ووكيع هو ابن الجراح بن وكيع الكوفي ثقة إمام صاحب تصانيف منها الجامع وغيره، روى عنه الإمام أحمد وطبقته، مات سنة سبع وتسعين ومائة].
وفي هذا الحديث الحث على إزالة المنكر، والإنسان إذا أزاله فإنه يؤجر على ذلك، ولا سيما إذا كان من نوع الشرك، ولهذا قال: (من قطع تميمة من إنسان كانت كعدل رقبة) يعني: مثل الذي يعتق الرقبة، وليس المقصود قطع التميمة فقط، بل المقصود بقطع التميمة أيضاً تنبيه الذي علقها، وتعليمه أن هذا قد يؤدي به إلى الخلود في النار إذا أشرك بالله ومات على هذا، فهو ينقذه من هذا الفعل الذي قد يكون سبباً لخلوده في النار، فيكون بذلك كمن أعتق رقبة، وعتق الرقبة فضله عظيم، حث الله جل وعلا عليه، وأخبر أن من أعتق إنساناً فإن الله يعتقه من النار.
فإذا كان الأمر هكذا فكيف بمن ينقذ خلقاً كثيراً من هذه الورطات؟ فإنه يكون له أجر عظيم، له أجر بعددهم، كأنه أعتق هؤلاء الذي أرشدهم وأخبرهم بأن هذا الأمر الذي وقعوا فيه شرك، وأنهم لو استمروا على ذلك وماتوا عليه لكانوا هالكين، ففي هذا الترغيب لدعوة من يقع في المحذورات، ولكن الدعوة يجب أن تكون برفق وبحكمة وبعلم، ومعرفة بالأحكام التي تترتب على هذا؛ لأن الإنسان إذا لم يدع بحكمة وبرفق فإنه قد يفسد أكثر مما يصلح، وإذا كان يدعوهم بقوة وعنف فإنهم يأبون قبول كلامه، ويكون ذلك داع لهم بالتمسك بما هم عليه؛ ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم في أول الأمر يأتي إلى أحد الكفار، ويعرض عليه الدعوة عرضاً فيقول: يا أبا فلان! ألا تسمع مني؟ فإن قال: بلى، كلمه، وإن قال: لا، تركه، فهكذا ينبغي للإنسان أن يتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أمره الله جل وعلا بأن يصبر صبراً جميلاً، وأن يصفح عمن أذاه، سواء كانت الأذية بالكلام أو بالفعل، حتى يكون عنده قوة يستطيع أن يمنع المعاند بها بعد أن تبين له الحق، فإن مثل هذا لا يفيد معه الكلام، وإنما يفيد معه الحديد الذي قرنه الله جل وعلا بالكتاب، فإن الله أنزل الكتاب وأنزل الحديد، فالحديد للمعاند المتكبر الذي تبين له الحق فأبى قبوله وحاربه، أما الإنسان الذي يكون جاهلاً، وربما يكون قصده الحق ولكن أخطأه؛ فمثل هذا يجب أن يستعمل معه اللين والرفق والبيان بأسلوب يجعله يقبل ما معه، ولا سيما إذا كان بينه وبينه، ليس على رءوس الأشهاد، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى من أحد أمراً فيه مخالفة لا يخصه بعينه، بل يقول: (ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا) فيأتي بالكلام مجملاً عاماً حتى لا يكون على من وجه إليه ذلك حرج، فمن نصح أمام الناس فإنه يتضايق من ذلك، فالمسلم يجب عليه أن يقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجب عليه أن ينظر في المصلحة التي قصد منها الأمر بالمعروف، والمقصود من الأمر بالمعروف ثلاثة أمور: أحدها: أن تبرأ ذمتك؛ لأنك إذا رأيت منكراً ولم تغيره، فإن الله سوف يسألك عنه يوم القيامة، فإذا قال الإنسان: خفت الناس، يقول الله جل وعلا: أنا أحق أن تخافني، ففي هذا خلاص نفسه.
الأمر الثاني: امتثال أمر الله جل وعلا، وأداء للدعوة تأسياً بالرسول صلى الله عليه وسلم، فإن الله جل وعلا يقول له: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] فأتباع الرسول لا بد أن يكون لهم نصيب من دعوته صلى الله عليه وسلم.
الأمر الثالث: رحمة بهذا الإنسان الذي وقع في هذه المخالفة، فترحمه وتخشى عليه أن يقع في العذاب، فأنت تحاول أن تنقذه، هذا هو مقصود الأمر بالمعروف، وليس المقصود به فضيحة الناس وتشهيرهم بأمور لا يريدونها، فإن هذا لا يجوز.
لهذا كان من أعظم ما يفيد ويجدي في الأمر بالمعروف أن تأتي إلى الإنسان وتنصحه بينك وبينه، وتقول له بنصح وحسن نية سراً بينك وبينه: اتق الله، هذا لا يجوز، وتأتيه أيضاً بأسلوب ليس خشناً حتى يقبل منك، فالله جل وعلا يقول لموسى لما أمره أن يذهب إلى فرعون هو وأخوه هارون: {فقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44]؛ لأن فرعون كان يقول: أنا ربكم الأعلى، ومع هذا يأمر الله جل وعلا موسى أن يقول له قولاً ليناً؛ ولهذا امتثل موسى ذلك، وعرض عليه عرضاً فيه اللين والهدوء، أما القسوة وخشونة الكلام فهذا لا يجدي شيئاً.(37/15)
أثر إبراهيم: كانوا يكرهون التمائم كلها من القرآن وغير القرآن
قال الشارح: [وله عن إبراهيم قال: كانوا يكرهون التمائم كلها من القرآن وغير القرآن].
إذا جاء مثل هذا عن السلف: كانوا يكرهون كذا وكذا، فإن المقصود بذلك التحريم؛ لأن عندهم الكراهة للشيء تعني التحريم، وليس الكراهة التي اصطلح عليها المتأخرون وهي كراهة التنزيه، فهذه لم تكن معروفة عند السلف، وإنما هذا اصطلاح حادث فيما بعد، فإن الفقهاء المتأخرين قسموا الكراهة إلى قسمين: كراهة تحريم، وكراهة تنزيه، أما بلسان السلف فهي قسم واحد، وهي للتحريم فقط.
[وإبراهيم هو الإمام إبراهيم بن يزيد النخعي الكوفي يكنى أبا عمران ثقة من كبار الفقهاء، قال المزي: دخل على عائشة، ولم يثبت له سماع منها، مات سنة ست وتسعين وله خمسون سنة أو نحوها.
قوله: كانوا يكرهون التمائم إلى آخره، مراده بذلك أصحاب عبد الله بن مسعود كـ علقمة والأسود وأبي وائل والحارث بن سويد وعبيدة السلماني ومسروق والربيع بن خثيم وسويد بن غفلة وغيرهم، وهو من سادات التابعين وهذه الصيغة يستعملها إبراهيم من حكاية أقوالهم كما بين ذلك الحافظ العراقي وغيره].(37/16)
مسائل باب ما جاء في الرقى والتمائم
قال المصنف رحمه الله: [فيه مسائل: المسألة الأولى: تفسير الرقى والتمائم.
المسألة الثانية: تفسير التولة.
المسألة الثالثة: أن هذه الثلاث كلها من الشرك من غير استثناء.
المسألة الرابعة: أن الرقية بالكلام الحق من العين والحمة ليس من ذلك.
المسألة الخامسة: أن التميمة إذا كانت من القرآن فقد اختلف العلماء هل هي جائزة أم لا؟ المسألة السادسة: أن تعليق الأوتار على الدواب من العين لا يجوز أيضاً.
المسألة السابعة: الوعيد الشديد على من تعلق وتراً.
المسألة الثامنة: فضل ثواب من قطع تميمة من إنسان.
المسألة التاسعة: أن كلام إبراهيم لا يخالف ما تقدم من الاختلاف؛ لأن مراده أصحاب عبد الله].(37/17)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [38]
قد يستحسن الإنسان فعلاً يظن أنه يقربه إلى الله، وهو في الحقيقة يبعده من رحمته ويقربه من سخطه، ولا يعرف هذا على الحقيقة إلا من عرف ما وقع في هذه الأزمان من كثير من العلماء والعباد مع أرباب القبور، من الغلو فيها وصرف العبادة لها، ويحسبون أنهم على شيء، وهو الذنب الذي لا يغفره الله تعالى.(38/1)
حديث: (اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط)
قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله: (قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138]) شبه مقالتهم هذه بقول بني إسرائيل؛ بجامع أن كلاً طلب أن يجعل له ما يألهه ويعبده من دون الله، وإن اختلف اللفظان فالمعنى واحد، فتغيير الاسم لا يغير الحقيقة.
ففيه الخوف من الشرك، وأن الإنسان قد يستحسن شيئاً يظن أنه يقربه إلى الله، وهو أبعد ما يبعده من رحمته ويقربه من سخطه، ولا يعرف هذا على الحقيقة إلا من عرف ما وقع في هذه الأزمان من كثير من العلماء والعباد مع أرباب القبور، من الغلو فيها وصرف جل العبادة لها، ويحسبون أنهم على شيء، وهو الذنب الذي لا يغفره الله].
في هذه الجملة في قوله صلوات الله وسلامه عليه: (قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138]) الرسول صلى الله عليه وسلم يخبر أن هذه المقالة هي كمقالة الذين طلبوا الشرك صراحة؛ لأنهم قالوا: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}، أما هؤلاء فقالوا: (اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط) وسبق أن بينا أن معنى ذات أنواط: شجرة تعلق بها الأسلحة لتحصل منها البركة، وكانوا يجلسون عندها تعظيماًَ لها، وهذا يعد من العبادة، ففي هذا دليل واضح على أن طلب التبرك بالشجر ومثله الأبنية أو الأضرحة أو الحجارة أو البقاع أو الأماكن يكون شركاً، ويكون من الشرك الأكبر، وهذا واضح جداً من هذا النص الجلي.(38/2)
السبب في عذر الصحابة وعدم تكفيرهم بقولهم: (اجعل لنا ذات أنواط)
وقد يأتي سؤال هنا ويقال: ما دام أن الطلب الذي قاله هؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم -وهو طلبهم من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم شجرة يعلقون بها أسلحتهم- كقول بني إسرائيل لموسى: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} فلماذا لم يترتب -على ذلك- الحكم عليهم بالشرك؟
الجواب
لم يترتب عليهم الحكم بالشرك لسببين: الأول: ما أشار إليه من أنهم يجهلون هذا؛ لأنه قال: (ونحن حدثاء عهد بشرك) وهذا دليل أن غيرهم لا يجهله وأنه واضح، والجاهل إذا جهل الشيء وفعله على سبيل الاجتهاد يعذر بجهله ولو كان من الأمور الكبيرة العظيمة التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم نصاً وبياناً وإيضاحاً، فعبادة الله جل وعلا وكون الدين لا يكون إلا بما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم كان متقرراً عندهم؛ ولهذا قالوا له: ((اجْعَل لَنَا)) وهذا أمر واضح لا يخفى، فإذا كان خافياً مثل هذا فإنهم يعذرون بذلك.
الأمر الثاني: أنهم لم يفعلوا ذلك، ولو فعلوه لكانوا -بلا إشكال- قد وقعوا في الشرك، ولكنهم استأذنوا وطلبوا أن يجعل لهم شيئاً يفعلونه، فبين لهم أن هذا الطلب لا يجوز، فامتنعوا، ولا يمكن أن يقال: إنهم طلبوا شيئاً يريدونه استحساناً؛ لأنهم أعظم من أن يخالفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يخالفوا الله جل وعلا، ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم في قسمه قال: (قلتم والذي نفسي بيده) ومعنى قوله: (والذي نفسي بيده) قسم بالله؛ لأن النفوس بيد الله جل وعلا، يتصرف فيها كيف يشاء، إن شاء أن يقبضها قبضها وإن شاء أن يرسلها أرسلها، كما قال الله جل وعلا: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر:42] أي: إلى أجل مسمىً فقط، وإلا فسوف يقبضها، فالنفوس بيد الله، ولهذا قد يكون الإنسان صحيحاً معافاً ثم يسقط في لحظة ويموت، فالأمر بيد الله، هذا شيء.
الشيء الثاني: أنه جل وعلا هو الذي يصرف القلوب كيف يشاء، فالأمر إليه جل وعلا من شاء أن يهديه هداه، ومن شاء أن يضله أضله، ولكن الله جل وعلا -وله المنة والفضل- جعل للإنسان عقلاً واختياراً، وجعل له قدرة، ثم كلفه على حسب مقدرته بالأوامر والنواهي، ووكل الأمر إليه، وقال له: إن فعلت ما أمرت به، جوزيت الجنة والسعادة العاجلة والآجلة، أما إن خالفت ما أمرت به وعاندت، وفعلت خلاف الأمر، فإنك لن تفوت الله، وسوف يجزيك العذاب، والعاقل يعرف الذي ينفعه من الذي يضره.
وهذا هو مقتضى الجزاء، وإلا لو أن الإنسان ليس له اختيار فلا يكون حينئذٍ فائدة للجزاء والعقاب! ومع ذلك الله يعلم قبل وجود الخلق أن هذا المخلوق سوف يوجد ويعمل هذه الأعمال التي يعملها باختياره ومقدرته، وهذا شيء يجده الإنسان من نفسه، وكل واحد يشعر من نفسه أنه يأتي ويذهب إلى أيّ مكان باختياره، وقد كتب هذا وقدر وعلمه الله سابقاً.
كذلك يجد من نفسه أنه يذهب إلى أغراضه التي يطلبها لنفسه مختاراً، مع أنها مكتوبة ومقدرة، ولا يمكن أن يقع حدث إلا وقد كتب وسجل.
فالمقصود إذاً: أن الله يعلم أن هذا المخلوق سيوجد ويفعل كذا وكذا باختياره ومقدرته، والله هو الذي خلق له الاختيار والمقدرة، فيكون فعله مخلوقاً لله جل وعلا كما أنه هو مخلوق، فليس في هذا متعلق لأهل البدع الذين يزعمون أن العباد شركاء مع الله؛ لأنهم يخلقون أفعالهم، كما تقوله القدرية.
وكذلك ليس فيه متعلق للجبرية الذين زعموا أن العبد بمنزلة الآلة التي تدار ليس له أيّ تصرف.(38/3)
هل الإنسان مسير أم مخير؟
وكثيراً ما يسأل الناس ويقولون: هل العبد مسير أم مخير؟ فالجواب عن هذا: أن هذا كلام مجمل، وبجملته باطل، فلا يجوز أن نقول: لا مسير ولا مخير، فإذا قلت: مسير فهو خطأ، وإن قلت: مخير على الإطلاق فهو خطأ، بل العبد عبد لله جل وعلا، جعل الله جل وعلا له قدرة وله اختيار، وكلفه بما يستطيعه، فقال سبحانه: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، ومع هذا ليس العبد حراً يفعل ما يشاء، وليس الأمر باختياره، بل يقول الله جل وعلا: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30] يعني: لا يقع فعل من العبد إلا بإرادة الله ومشيئته، وإن كان بقدرته واختياره، وهذا من تمام قدرة الله جل وعلا أنه جعل هذا العبد يفعل ما كتبه الله جل وعلا عليه باختياره، وبهذا يتبين لدى العاقل أنه يجب عليه أن يفتقر إلى ربه، ويخضع له، ويذل له، ويسأله الهداية دائماً، ويظهر فقره إلى الله وذله وخضوعه؛ لأنه يعلم أنه لا غنى له عن ربه جل وعلا، وأنه إذا لم يهده ربه جل وعلا فليس له من غيره هادياً، ولهذا من فضله وكرمه وجوده فرض علينا أن نعبده بهذا السؤال في كل ركعة من ركعات الصلاة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]، وإذا لم يهدنا ربنا فلا هداية لنا من أنفسنا، {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7]، وكذلك أوجب علينا أن نقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] يعني: أنه إذا لم تحصل لنا الإعانة منه جل وعلا على عبادته فإنها لا تقع، وهذه لابد منها، فأنت تعبد ربك وتستعين على عبادته به جل وعلا.
والخلاصة: أن الملك كله لله، والخلق كلهم لله يتصرف فيهم كيف يشاء، فيجب على العبد أن يعلم هذه الأمور ويعترف لله جل وعلا بها، ويعبده على ضوئها ذالاً خاضعاً مفتقرًا يُظهِر فقره، ويعلم أنه إذا لم يهده الله جل وعلا فإنه ضال، كما قال تعالى في الحديث القدسي: (يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي! كلكم فقير إلا من أغنيته فاسألوني أعطكم، يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته) إلى آخره.(38/4)
من هو إسرائيل؟ ومن هم بنوه؟
قوله صلى الله عليه وسلم: (قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل) بنو إسرائيل: يقصد بهم هنا أتباع موسى، وإلا فإسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، ومعنى إسرائيل: عبد الله، وهكذا كل اسم آخره جاء في (يل) فإنه معبد لله مثل: جبريل وميكائيل وإسرافيل، فكلهم معبدون لله، وإسرائيل هذا هو أبو الأسباط الذين جعلهم الله جل وعلا أنبياء، ثم إن ذريته هم الذين صاروا أتباعاً لموسى، وموسى أرسل إليهم والى القبط أيضاً، وكان القبط أتباع فرعون وقومه، وكانوا مستعبدين بني إسرائيل بمصر، والذي أدخلهم إلى مصر في ذلك الوقت هو يوسف، كما ذكر الله جل وعلا لنا في القرآن أن إخوة يوسف هددوه على كون أبيه يحبه حباً كثيراً أكثر منهم، فتآمروا على أنهم يبعدونه عنه، فحصل ما ذكره الله جل وعلا، ثم ذهب إلى مصر، فلما منَّ الله جل وعلا عليه بالملك طلب من إخوته أن يأتوا بأهلهم، كما ذكره الله جل وعلا في قصة يوسف، فسكنوا في مصر وتكاثروا.(38/5)
قصة موسى مع فرعون
ثم جاء فرعون بعد ذلك واستعبد بني إسرائيل، وصار يقتل أبناءهم ويبقي نساءهم للخدمة.
ثم إن قومه سخروا بني إسرائيل في الأعمال العظيمة التي ألهبوا ظهورهم بالسياط من أجلها، كبناء الأهرامات وغيرها بالقهر والقوة والظلم والجبروت، وأرادوا أن يبقوا تحت أيديهم مقهورين مذللين، فقالوا: إذا قتلنا كل مولود فلن يبقى عندنا عمال نسخرهم، فاتفقوا على أنهم يقتلون الأولاد سنة ويبقونهم سنة، حتى يبقى عندهم من يعمل ومن يستخدمونه، والسبب في هذا: أنه قيل لفرعون - قبحه الله وأخزاه وقد فعل: إن ملكك سيكون زواله على يد رجل من بني إسرائيل، فهذا هو السبب في كونه كان يفعل هذه الأفاعيل.
ومن حكمة الله جل وعلا وتمام مقدرته أن هذا الرجل -من بني إسرائيل- يتربى في بيته، يأكل من طعامه، ويشرب من شرابه إلى آخر القصة التي ذكرها الله جل وعلا في كتابه، وهذا فيه معتبر، ولكن العجيب الذي ينبغي أن يؤخذ منه عبرة هو: الآيات الباهرة التي جاء بها موسى، حتى لا يكاد يشك من رآه بأنه نبي مرسل من عند الله جل وعلا، وقد تيقن فرعون وقومه بهذا كما أخبرنا الله جل وعلا، وكذلك بنو إسرائيل تيقنوا يقيناً أنه رسول؛ لأنهم شاهدوا الآيات العظيمة.
ومن العبرة التي ينبغي أن نتفطن لها في هذه القصة: أن الله جل وعلا لما أمر موسى عليه السلام بأن يسري بقومه ليلاً من مصر، هارباً من فرعون وقومه، علم فرعون بخروجهم، فحشد جنوده وقال لهم: هؤلاء شرذمة قليلون، فلحقهم إلى أمام البحر، فصار البحر أمامهم وفرعون وجنوده خلفهم، عند ذلك قالوا لموسى: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61] يعني: أدركنا فرعون، كيف الطريق؟ ولكن موسى عليه السلام واثق بأمر الله ووعده، ولهذا قال: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62]، فأمره الله جل وعلا أن يضرب البحر، فضربه بعصاه فانفلق، فكان سبعة طرق، كل طريق مثل السوق العظيم الكبير، والماء واقف، وأرضه يابسة ليس فيها مدحضة ولا مزلة كأنه لم يجر عليها ماء.
ثم من تمام المنة والحكمة كما يقول المفسرون: أن جعل البحر الذي بين كل طريق وآخر لا يستر من يسلكه، حتى يروا أصحابهم، فكل واحد في طريقه يرى أصحابه الذين في الطريق الآخر فيطمئن، ثم مع هذه الآية الباهرة العظيمة في كونهم يسلكون البحر تبعهم فرعون وسلك هذه الطرق -والبحر هو: البحر الأحمر- ثم لما خرج بنو إسرائيل وتكامل خروجهم وقد تكامل جند فرعون في البحر أمر الله جل وعلا البحر فالتحم عليهم وأغرقهم.
وذكر المفسرون أن بعض بني إسرائيل شكوا في موت فرعون، وقالوا: لم يمت، فألقى الله جل وعلا ببدنه، فلما رأوه وشاهدوه عرفوا أنه قد مات، قال الله جل وعلا: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس:92].
ومع هذا كله مروا -بعد خروجهم بقليل- على قوم يعكفون على أصنام لهم -وهذا هو المقصود الذي نعتبر به- فسألوا موسى عليه السلام أن يجعل لهم آلهة يعكفون عليها، كما عكف أولئك المشركون عليها، وهذا شرك ظاهر جلي لا خفاء فيه، بل قد يظهر للإنسان الذي يتأمل أن هذا فيه نوع من العناد والمكابرة، وكثيراً ما حصل العناد منهم لنبيهم، حتى قالوا له: {اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] لما أمرهم الله جل وعلا على لسان رسوله أن يدخلوا على الجبارين، ووعدهم النصر، قالوا هذه المقالة، وهذا تحدٍ ومكابرة وعناد وعدم ثقة بوعد الله وأمره.
ثم مع هذا كله يقول رسولنا صلوات الله وسلامه عليه لهؤلاء الذين قالوا له هذه المقالة: (قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138]) والرسول صلى الله عليه وسلم إذا حلف وأقسم إنما يقسم على ما فيه مصلحة، وذلك حتى نتأكد ونعلم مطابقة الأمر، وإن كان فيه تفاوت، فالنتيجة واحدة، وهي أن طلب البركة وكذلك العكوف على شيء مخلوق كالشجرة ونحوها -تعبداً وتألهاً- لغير الله شرك، وإن كان الشرك يتفاوت، فبعضه أعظم من بعض، ولكن هذا يدلنا على أن ذلك من الشرك الأكبر وليس من الشرك الأصغر.
فعلى هذا إذا تقدم إنسان إلى صاحب قبر -سواء قال: إنه نبي أو ولي- يطلب منه العون والمساعدة والمدد، أو جلس عند قبره يتبرك به، أو أخذ من ترابه يتبرك به، أو ما أشبه ذلك فإن هذا من الشرك الأكبر، وإن مات على هذا فهو من المشركين.
أما إذا تاب فباب التوبة مفتوح، والتوبة تكون من كل ذنب، ولكن هذا هو الذي نريد أن نعتبر به، ونأخذ الدرس منه من هذه الناحية، وهذا هو وجه الشبه الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم.(38/6)
من هو إسرائيل؟ ومن هم بنوه؟
قوله صلى الله عليه وسلم: (قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل) بنو إسرائيل: يقصد بهم هنا أتباع موسى، وإلا فإسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، ومعنى إسرائيل: عبد الله، وهكذا كل اسم آخره جاء في (يل) فإنه معبد لله مثل: جبريل وميكائيل وإسرافيل، فكلهم معبدون لله، وإسرائيل هذا هو أبو الأسباط الذين جعلهم الله جل وعلا أنبياء، ثم إن ذريته هم الذين صاروا أتباعاً لموسى، وموسى أرسل إليهم والى القبط أيضاً، وكان القبط أتباع فرعون وقومه، وكانوا مستعبدين بني إسرائيل بمصر، والذي أدخلهم إلى مصر في ذلك الوقت هو يوسف، كما ذكر الله جل وعلا لنا في القرآن أن إخوة يوسف هددوه على كون أبيه يحبه حباً كثيراً أكثر منهم، فتآمروا على أنهم يبعدونه عنه، فحصل ما ذكره الله جل وعلا، ثم ذهب إلى مصر، فلما منَّ الله جل وعلا عليه بالملك طلب من إخوته أن يأتوا بأهلهم، كما ذكره الله جل وعلا في قصة يوسف، فسكنوا في مصر وتكاثروا.(38/7)
قصة موسى مع فرعون
ثم جاء فرعون بعد ذلك واستعبد بني إسرائيل، وصار يقتل أبناءهم ويبقي نساءهم للخدمة.
ثم إن قومه سخروا بني إسرائيل في الأعمال العظيمة التي ألهبوا ظهورهم بالسياط من أجلها، كبناء الأهرامات وغيرها بالقهر والقوة والظلم والجبروت، وأرادوا أن يبقوا تحت أيديهم مقهورين مذللين، فقالوا: إذا قتلنا كل مولود فلن يبقى عندنا عمال نسخرهم، فاتفقوا على أنهم يقتلون الأولاد سنة ويبقونهم سنة، حتى يبقى عندهم من يعمل ومن يستخدمونه، والسبب في هذا: أنه قيل لفرعون - قبحه الله وأخزاه وقد فعل: إن ملكك سيكون زواله على يد رجل من بني إسرائيل، فهذا هو السبب في كونه كان يفعل هذه الأفاعيل.
ومن حكمة الله جل وعلا وتمام مقدرته أن هذا الرجل -من بني إسرائيل- يتربى في بيته، يأكل من طعامه، ويشرب من شرابه إلى آخر القصة التي ذكرها الله جل وعلا في كتابه، وهذا فيه معتبر، ولكن العجيب الذي ينبغي أن يؤخذ منه عبرة هو: الآيات الباهرة التي جاء بها موسى، حتى لا يكاد يشك من رآه بأنه نبي مرسل من عند الله جل وعلا، وقد تيقن فرعون وقومه بهذا كما أخبرنا الله جل وعلا، وكذلك بنو إسرائيل تيقنوا يقيناً أنه رسول؛ لأنهم شاهدوا الآيات العظيمة.
ومن العبرة التي ينبغي أن نتفطن لها في هذه القصة: أن الله جل وعلا لما أمر موسى عليه السلام بأن يسري بقومه ليلاً من مصر، هارباً من فرعون وقومه، علم فرعون بخروجهم، فحشد جنوده وقال لهم: هؤلاء شرذمة قليلون، فلحقهم إلى أمام البحر، فصار البحر أمامهم وفرعون وجنوده خلفهم، عند ذلك قالوا لموسى: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61] يعني: أدركنا فرعون، كيف الطريق؟ ولكن موسى عليه السلام واثق بأمر الله ووعده، ولهذا قال: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62]، فأمره الله جل وعلا أن يضرب البحر، فضربه بعصاه فانفلق، فكان سبعة طرق، كل طريق مثل السوق العظيم الكبير، والماء واقف، وأرضه يابسة ليس فيها مدحضة ولا مزلة كأنه لم يجر عليها ماء.
ثم من تمام المنة والحكمة كما يقول المفسرون: أن جعل البحر الذي بين كل طريق وآخر لا يستر من يسلكه، حتى يروا أصحابهم، فكل واحد في طريقه يرى أصحابه الذين في الطريق الآخر فيطمئن، ثم مع هذه الآية الباهرة العظيمة في كونهم يسلكون البحر تبعهم فرعون وسلك هذه الطرق -والبحر هو: البحر الأحمر- ثم لما خرج بنو إسرائيل وتكامل خروجهم وقد تكامل جند فرعون في البحر أمر الله جل وعلا البحر فالتحم عليهم وأغرقهم.
وذكر المفسرون أن بعض بني إسرائيل شكوا في موت فرعون، وقالوا: لم يمت، فألقى الله جل وعلا ببدنه، فلما رأوه وشاهدوه عرفوا أنه قد مات، قال الله جل وعلا: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس:92].
ومع هذا كله مروا -بعد خروجهم بقليل- على قوم يعكفون على أصنام لهم -وهذا هو المقصود الذي نعتبر به- فسألوا موسى عليه السلام أن يجعل لهم آلهة يعكفون عليها، كما عكف أولئك المشركون عليها، وهذا شرك ظاهر جلي لا خفاء فيه، بل قد يظهر للإنسان الذي يتأمل أن هذا فيه نوع من العناد والمكابرة، وكثيراً ما حصل العناد منهم لنبيهم، حتى قالوا له: {اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] لما أمرهم الله جل وعلا على لسان رسوله أن يدخلوا على الجبارين، ووعدهم النصر، قالوا هذه المقالة، وهذا تحدٍ ومكابرة وعناد وعدم ثقة بوعد الله وأمره.
ثم مع هذا كله يقول رسولنا صلوات الله وسلامه عليه لهؤلاء الذين قالوا له هذه المقالة: (قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138]) والرسول صلى الله عليه وسلم إذا حلف وأقسم إنما يقسم على ما فيه مصلحة، وذلك حتى نتأكد ونعلم مطابقة الأمر، وإن كان فيه تفاوت، فالنتيجة واحدة، وهي أن طلب البركة وكذلك العكوف على شيء مخلوق كالشجرة ونحوها -تعبداً وتألهاً- لغير الله شرك، وإن كان الشرك يتفاوت، فبعضه أعظم من بعض، ولكن هذا يدلنا على أن ذلك من الشرك الأكبر وليس من الشرك الأصغر.
فعلى هذا إذا تقدم إنسان إلى صاحب قبر -سواء قال: إنه نبي أو ولي- يطلب منه العون والمساعدة والمدد، أو جلس عند قبره يتبرك به، أو أخذ من ترابه يتبرك به، أو ما أشبه ذلك فإن هذا من الشرك الأكبر، وإن مات على هذا فهو من المشركين.
أما إذا تاب فباب التوبة مفتوح، والتوبة تكون من كل ذنب، ولكن هذا هو الذي نريد أن نعتبر به، ونأخذ الدرس منه من هذه الناحية، وهذا هو وجه الشبه الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم.(38/8)
تخليق الحيطان والعمد
قال الشارح رحمه الله: [قال الحافظ أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل الشافعي المعروف بـ أبي شامة في كتاب البدع والحوادث: ومن هذا القسم أيضاً ما قد عم الابتلاء به من تزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد].
قصده بتخليق الحيطان والعمد: وضع الخيوط عليها، فالخيوط والخرق كانت توضع -مثلاً- على الشجر أو غيرها لأجل البركة، وكانوا يميزونها فيقولون: هذا الخيط الفلاني وهذا الخيط لفلان، وكذلك كانوا يضعون عليها خرق وما أشبه ذلك، خرقة فلان وخرقة فلان، فتبقى في هذه الشجرة وقتاً، ثم يأتي صاحبها ويأخذها، فتكون قد اكتسبت البركة في زعمهم.
وهذا في الواقع وثنية جاهلية، وللأسف أنه يوجد في بلاد المسلمين وممن يصلي ويصوم ويتصدق ويزعم أنه موحد يوجد ذلك منه، وهذا مخالف للتوحيد، وما زال العلماء ينكرون هذه الأمور ويبينون أنها مثل ذات أنواط تماماً، وأن الإنسان يجب أن يطهر قلبه وعمله من كونه يلتف في ذلك إلى غير الله، بل يجب أن يكون عبداً خالصاً لله، وما زال العلماء يعلمون هذا، وينكرون من خالفه بأشد ما يملكون من الإنكار، إن استطاعوا باليد -كقطع الشجر وهدم البناء- فعلوا، وإن لم يستطيعوا بينوا بالقول والكتابة.(38/9)
دعاء القبور شرك، والإسراج عليها وسيلة إليه
[وإسراج مواضع مخصوصة في كل بلد، يحكي لهم حاكٍ أنه رأى في منامه بها أحداً ممن شهر بالصلاح والولاية، فيفعلون ذلك، ويحافظون عليه، مع تضييعهم لفرائض الله تعالى وسننه، ويظنون أنهم متقربون بذلك، ثم يتجاوزون هذا إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم؛ فيعظمونها ويرجون الشفاء لمرضاهم وقضاء حوائجهم بالنذر لها، وهي من عيون وشجر وحائط وحجر، وفي مدينة دمشق من ذلك مواضع متعددة كعوينة الحمى].
أبو شامة كان في القرن السابع أو السادس ومع هذا يقول: كانت هذه الأشياء موجودة، وحتى قبل ذلك الوقت وجد هذا الشيء، وقصده بالعيون: المياه التي تنبع، وتسمى الآن (مياه طبيعية)، ولا يزال الناس يستشفون بها، وقد يتعلق بها بعض الجهال، ويقصدها من أماكن متعددة، ويرى أن فيها الشفاء، والواقع أنه لا شفاء فيها، وإنما الشيطان يزين ذلك حتى يتعلق الإنسان بغير الله جل وعلا.
وقد يشفى الإنسان من باب القدر وليس من باب أن هذا يؤثر، وإنما هو من باب تقدير الله جل وعلا، كما أنه قد ينال مطلبه عندما يتوجه إلى صاحب قبر يدعوه ويستغيث به من باب القدر، أي: أن الله قدر هذا، فيكون في هذا ابتلاء له، فيتسلط عليه الشيطان، ثم يرسخ هذا الشيء في قلبه ويصبح ثابتاً ومتعلقًا به أكثر، وكثير من الناس إذا حصل له ضر أو مرض أو اعتداء من أحد أو مصيبة أو ما أشبه ذلك ذهب يستنجد بهذا المقبور الميت، فإن حصل له مقصوده نسب ذلك إلى الميت السيد الفلاني، وإن لم يحصل له مقصوده يعود على نفسه باللوم، ويقول: أنا اعتقادي بالسيد ليس جيداً، ولو كان اعتقادي بالسيد جيداً وتاماً لوجد مقصودي، فوصل بهم هذا الأمر إلى هذا الحد، وقد حدثني بعض طلبة العلم في بعض البلاد التي زارها: أنه لقي بعض الناس من هذا النوع، فصار يجادلهم ويقول لهم: القبور لا تفيد أحداً، ولا يصلح للإنسان أن يستغيث إلا بالله جل وعلا الذي يملك كل شيء، يقول: في النهاية قالوا لي: لا تجادلنا؛ فعندنا الاقتناع التام بما نحن فيه، ونحن لا نصدقك ولا نقبل كلامك؛ لأننا جربنا هذه الأمور فرأيناها واقعة، فقلت لأحدهم: كيف؟ قال: إنه كان في وقت ما وذهبنا إلى بلد ما فلم نجد من يستقبلنا ولا من يأوينا، وكان الوقت بارداً، فاستغثنا بالشيخ عبد القادر الجيلاني وطلبنا منه الغوث، فجاء إلينا بنفسه يحمل معه بطانيات، فوزع علينا لكل واحد بطانية، يقول: فقلت لهم: ليس هذا عبد القادر الجيلاني، هذا شيطان ذهب وسرق من بعض الحوانيت هذه البطانيات وجاءكم بها ليفتنكم، وهذا هو الواقع، وإلا فـ عبد القادر ميت، لا يخرج من قبره، ولا يستطيع أن يغيث أحداً، وكل ميت هذه صفته، وكل ميت مرتهن في قبره وروحه كذلك لا تأتي ولا تتجدد، ولكن الشيطان هو الذي أضلكم، وتصور لكم بهذه الصورة؛ حتى يثبت الشرك بقلوبكم، وهذا هو الواقع.
فالمقصود: أن الإنسان يفتن في هذه الأشياء، وإذا لم يكن عنده يقين بالله وإيمان به وصدق مع الله فقد يضل، وينبغي للإنسان أن يسأل ربه السلامة والهداية دائماً، وإذا كان الإنسان في بيئة من هذا القبيل تربى فيها وعاش فيها فقد يقتنع بهذا، ويصبح غير قابل لما يقال له.(38/10)
من المشاهد الشركية في مدينة دمشق
[وفي مدينة دمشق من ذلك مواضع متعددة كعوينة الحمى خارج باب توما، والعمود المخلق داخل باب الصغير، والشجرة الملعونة خارج باب النصر في نفس قارعة الطريق].
يقول: الشجرة الملعونة؛ لأنها تعبد من دون الله، وهو يقول: إنها ملعونة، وإلا فالناس لا يسمونها ملعونة، بل يسمونها شجرة مباركة، ومع ذلك هي شجرة يابسة هامدة، وهذه مواضع قد زالت، ولكن يعقبها غيرها كثير من هذا النوع، وأكثر القبور التي تعبد من هذا القبيل، فيأتي إنسان ويقول: أتاني آتٍ في النوم فأخبرني أن في هذا المكان ولي من الأولياء، وقد يعين له كـ الحسين رضي الله عنه، أو فلان وفلان، فيبنى عليها البناء، ويعظم، ويتوارث، إلى أن يصبح كأنه أمر واقعي، والآن نعرف أن الحسين رضي الله عنه له أماكن متعددة في العراق وفي سوريا وفي مصر، والإنسان لا يكون له قبور متعددة! والغريب أن هذا أيضاً يقال في غيره.
على كل حال هذه طرق الشيطان يضل الناس بها، والعجيب أن هذا يقع ممن عندهم كتاب الله وعندهم سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعلمون أنهم عبيد الله، وأنه يجب أن تكون عبادتهم لله، ومع ذلك يتعلقون بهذه الخرافات وهذه الترهات، ويتركون الأمر الواضح الجلي، مما يدل على ميل النفوس إلى الباطل وحبها التعلق بغير الله جل وعلا، فإذا لم تترب على دين الله وعلى الوحي فإنها قد تضل، وهذا كثير في بعض البلاد.(38/11)
تسارع أهل الشرك إلى اتخاذ الأوثان
قال الشارح رحمه الله: [وذكر ابن القيم رحمه الله نحو ما ذكره أبو شامة، ثم قال: فما أسرع أهل الشرك إلى اتخاذ الأوثان من دون الله].
أبو شامة في القرن السادس وابن القيم في القرن الذي بعده وتوفي في القرن الثامن، وما زال العلماء قبلهم وبعدهم يذكرون من هذه الأشياء أشياء كثيرة، والإنسان إذا نظر الآن في بلاد المسلمين -وللأسف- يجد أشياء كثيرة موجودة من هذا النوع، إما قبراً أو ما أشبه ذلك، والقبر يتعلق به وقد يطاف به ويسأل صاحبه، وقد يسمون هذا توسلاً أو يسمونه تشفعاً أو يسمونه تبركاً، أو يسمونه حباً للصالحين وتعلقاً بهم، أو يسمونه بأسماء مختلفة، أما أن يسمى شركاً فهم لا يقبلونه، ويقولون: هذا ليس بشرك؛ لأنهم يقولون: الشرك هو أن تدعو من تعتقد أنه يحيي ويميت، أو أنه يتصرف مع الله، وأما نحن فنقر بأن هؤلاء عبيد لله، ولكن الله جل وعلا أكرمهم بأن أعطاهم الشفاعة، فنحن ندعوهم لأجل ذلك.
و
الجواب
أن هذا هو قول المشركين بحروفه ومعناه، فهم كانوا يقولون: الشجر والحجارة مملوكة لله، ولا تتصرف مع الله، ولكن نحن قوم لنا ذنوب فندعو الله بواسطة هذه؛ لأنها لا ذنوب لها حتى تشفع لنا، وتقربنا إلى الله زلفاً، فهذا هو الشرك بعينه، وما وجدت الدنيا من بني آدم من يقول: إن حجرًا أو شجراً أو ميتاً يحيي ويميت، وينزل المطر من السماء، ويتصرف مع الله جل وعلا، فهذا لا وجود له، ولا يقوله عاقل، فالشرك هو الشرك، سواء سمي شركاً أو سمي تشفعاً أو سمي توسلاً أو تعلقاً بالصالحين أو حباً لهم أو غير ذلك.(38/12)
النذر عبادة لا تكون إلا لله، والنذر للقبور شرك
قال الشارح رحمه الله: [ويقولون: إن هذا الحجر وهذه الشجرة وهذه العين تقبل النذر، أي: تقبل العبادة من دون الله، فإن النذر عبادة وقربة يتقرب بها الناذر إلى المنذور له].
معنى قولهم: تقبل النذر، يعني: إذا نذر لها حصل بالمنذور الذي طلبه الناذر، هذا معنى قولهم: تقبل النذر، يعني: أننا إذا سألناها وقدمنا إليها بما يقدم لها من ذبح أو مال أنه يحصل لنا مطلوبنا، فمعنى ذلك: أنها تستجيب، وأنها تسعدنا بمطلبنا، وهذا هو الشرك الأكبر بعينه، فالعبادة يجب أن تكون لله جل وعلا، ولا يجوز أن تكون لغيره مهما كانت كبيرة أو صغيرة، بل يجب أن تكون لله وحده، وإلا وقع الإنسان في الشرك والمخالفات.
قال الشارح رحمه الله: [وسيأتي ما يتعلق بهذا الباب عند قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد)].
المقصود بهذا أنه صلوات الله وسلامه عليه سأل ربه أن لا يكون قبره وثناً يعبد، فمفهوم هذا أنه لو قدر -ولا يكون إن شاء الله- يعبد قبره فسيكون وثناً.
فإذاً: قبور غيره بنبغي من باب أولى أن تسمى أوثاناً، والواقع أن العبادة ما تقع عليه، وإنما تقع على من زين هذا وأمر به، وإلا فالعابد والمعبود إذا كان قد رضي بهذا فكلاهما سواء، ولهذا يقول الإمام مالك رحمه الله: (الطاغوت كل من عبد من دون الله) وإن كان بعض الناس استدرك عليه، وقال: ينبغي أن يقيد هذا، وأن يقال: كل من عبد من دون الله وهو راضٍ؛ لأن كثيراً من الرسل كعيسى عليه السلام وعزير، وكذلك كثير من الأولياء يُعَبدون من دون الله وليسوا طواغيت، ولكن مقصود القائل بهذا أن من تقع عليه العبادة بالصورة أنه طاغوت؛ لأنه معبود، ولهذا ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة وحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما في ذكر الشفاعة الكبرى؛ عندما يقف الناس الوقوف الطويل العظيم ثم يلهمهم الله جل وعلا -إذا أراد أن يرحمهم- بأن يطلبوا الشفاعة، فيطلبون الشفاعة من الرسل، وكل واحد يدفعها إلى من بعده من أولي العزم حتى تصل إلى سيد الخلق محمد صلوات الله وسلامه عليه، فيشفع، وذكر صفة الشفاعة أنه يذهب إلى مكان معين تحت العرش فيخر ساجداً، ويفتح الله عليه من المحامد والثناء الشيء الذي يرضى الله جل وعلا به.
ثم بعد ذلك يقول له: اشفع، وقبل أن يقول له: اشفع لا يشفع؛ لأن الله جل وعلا يقول: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، فيسأل ربه أن يأتي ليفصل بين خلقه ويحاسبهم، هذه هي الشفاعة الكبرى، وهي شاملة لجميع الأمم ليست خاصة بالأمة هذه، ولهذا سمي هذا المقام بالمقام المحمود التي يحمده عليه الأولون والآخرون، وهذا مثل ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في حقيقة الشفاعة: إن في الشفاعة إرادة رحمة الله بالمشفوع وإظهار كرامة الشافع، هذه حقيقتها، وإلا فهي لله كما قال جل وعلا: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر:43 - 44].
والمقصود: أنه إذا جاء ربنا جل وعلا ليحاسب عباده فهو الذي يتولى المحاسبة جل وعلا، كما ثبت في الصحيحين من حديث عدي بن حاتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (واعلموا أن كل واحد منكم سيلقى ربه فيكلمه ليس بينه وبينه ترجمان، فيقول: يا عبدي! ألم تفعل كذا وكذا في وقت كذا وكذا) إلى آخره.
ولكن هذا للمؤمنين الذين يحاسبون هذه المحاسبة، ويسألون هذه المساءلة، أما الخلق وعموم الكفار والمشركين فإنه إذا جاء جل وعلا ليفصل بينهم، يكلمهم جميعاً، ويقول تعالى وتقدس: (أليس عدلاً مني أن أولي كل واحد منكم ما كان يتولاه في الدنيا؟) فكلهم يقولون: بلى يا رب! هذا عدلك، عند ذلك قال صلوات الله وسلامه عليه: (فيؤتى بكل معبود في الدنيا إلى عابده، ومن كان يعبد المسيح وعزير والملائكة، يؤتى بشياطين على صور تلك المعبودات، ثم يقال لهم: اتبعوهم إلى جهنم، فيتبعونهم) وهذا كما قال الله جل وعلا في كتابه: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:98] أي: العابد والمعبود، أما إذا كان المعبود نبياً أو صالحاً فإن الله جل وعلا يقول: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء:101]، لأنهم في الواقع ما عبدوهم، وإنما عبدوا شيطاناً زين لهم هذا الشيء، ولهذا يؤتى بذلك الشيطان على صورة ما يتخيله العابد، فيقال له: هذا معبودك فاتبعه.(38/13)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [39]
الدلائل على معرفة الله جل وعلا كثيرة ومبثوثة في الإنسان وفي الكون، وكذلك الدلائل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم كثيرة ومتوافرة، ومنها: القرآن الكريم الذي تحدى به عمالقة البيان، وأرباب الفصاحة، ومنها إخباره بأمور غيبية، تحققت في حياته، وجاءت كما أخبر، وغير ذلك من الآيات الدالة على صدقه ونبوته عليه الصلاة والسلام.(39/1)
التبرك بالأشجار والقبور والأحجار شرك
قال الشارح رحمه الله: [وفي هذه الجملة من الفوائد: أن ما يفعله من يعتقد في الأشجار والقبور والأحجار من التبرك بها، والعكوف عندها، والذبح لها هو الشرك، ولا يُغتر بالعوام والطغام، ولا يستبعد كون الشرك بالله تعالى يقع في هذه الأمة، فإذا كان بعض الصحابة ظنوا ذلك حسناً وطلبوه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حتى بين لهم أن ذلك كقول بني إسرائيل: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138]، فكيف لا يخفى على من دونهم في العلم والفضل بأضعاف مضاعفة، مع غلبة الجهل وبعد العهد بآثار النبوة؟! بل خفي عليهم عظائم الشرك في الإلهية والربوبية، فأكثروا فعله واتخذوه قربة].
هناك كثيرون ممن اشتغلوا بالكلام وبالعلم والكتابة، بل وبتفسير القرآن، وبشرح الحديث أخطئوا في هذا المعنى، وضلوا فيه؛ بسبب بعد عهدهم بالنبوة، وبسبب كثرة الواقعين في ذلك، فتوارثوا هذا الشيء وصار كأنه أمر مسلم لا خطأ فيه، ولا ينكره أحد، فقبلوه، وهذا مثل ما يقول كثير من المتكلمين: معنى الإله: هو القادر على الاختراع، وهذا من أكبر الخطأ؛ لهذا يقول بعض العلماء: من اعتقد هذا فهو مشرك، والإله ليس معناه: القادر على الاختراع، بل الإله معناه الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم: ألا يعبد إلا هو جل وعلا، أما القادر على الاختراع فهو معنى الرب، وكذلك بعض المفسرين -الذين تفاسيرهم مشهورة- أكثروا من ذكر هذا المعنى في تفاسيرهم، حتى إن أحدهم لما جاء إلى قصة بني إسرائيل مع موسى حرف الكلام، وقال: هذا لا يعقل أن يقع، فجاء بأمور عجيبة! والسبب أنه اعتقد أن قول بني إسرائيل: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138] أن معناه: اجعل لنا رباً مثل الله، وهذا هو الذي دعاه إلى التحريف والتأويل، وهذا خطأ من الأصل: خطأ في الفهم، وخطأ في الشيء الذي بنى عليه، فإذا كان مثل هذا يقع من علماء كبار، فيخشى أن يقع ممن لم يصل إلى ما وصلوا إليه في العلم.
فالمقصود: أن الإنسان يجب أن يعتني بهذا الأمر كثيراً، وألاّ يفرط في ذلك بعدم السؤال وعدم البحث؛ لأن هذا أمر مهم جداً، الإنسان ليس له إلا عمر واحد وحياة واحدة، فإذا ذهبت حياته وهو على غير الهدى فمن أين له أن يستدرك ذلك؟! فينبغي أن يهتم بنفسه قبل فوت الأوان.(39/2)
العبرة بالمعاني والأحكام لا بالأسماء
قال الشارح رحمه الله: [وفيها: أن الاعتبار في الأحكام بالمعاني لا بالأسماء؛ ولهذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم طلبتهم كطلبة بني إسرائيل، ولم يلتفت إلى كونهم سموها ذات أنواط، فالمشرك مشرك وإن سمى شركه ما سماه، كمن يسمى دعاء الأموات والذبح والنذر لهم ونحو ذلك تعظيماً ومحبة، فإن ذلك هو الشرك، وإن سماه ما سماه، وقس على ذلك.
قوله: (لتركبن سنن من كان قبلكم) بضم الموحدة وضم السين أي: طرقهم ومناهجهم، وقد يجوز فتح السين على الإفراد أي: طريقهم، وهذا خبر صحيح، والواقع من كثير من هذه الأمة يشهد له، وفيه علم من أعلام النبوة من حيث إنه وقع كما أخبر به صلى الله عليه وسلم.
وفي الحديث: النهى عن التشبه بأهل الجاهلية وأهل الكتاب فيما كانوا يفعلونه، إلا ما دل الدليل على أنه من شريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم].
يعني: أن ما يفعله اليهود والنصارى -سواءً كان من الأمور الدينية أو من الأمور الاعتيادية- لا يجوز لمسلم أن يتشبه بهم ويقتدي بهم في ذلك، إلا إذا جاء الدليل من الكتاب والسنة على أن هذا مشروع لنا، فلا ننظر إلى فعلهم، يعني: وافقونا أو لم يوافقونا، بل نتبع كتابنا وسنة رسولنا صلى الله عليه وسلم، أما إذا لم يأت دليل على مشروعيته؛ فإنه لا يجوز لنا أن نفعل ذلك؛ لأنه يكون تشبه بهم.(39/3)
المسائل التي يسأل عنها الإنسان في قبره
قال الشارح رحمه الله: [وفيه التنبيه على مسائل القبر أما: من ربك؟ فواضح، وأما: من نبيك؟ فمن إخباره بأنباء الغيب، وأما: ما دينك؟ فمن قولهم: (اجعل لنا إلهاً) إلخ].
قوله: فيه التنبيه على مسائل القبر، أما: من ربك؟ فواضح، وأما: من نبيك؟ فمن إخباره بأنباء الغيب، وأما ما دينك؟ فمن قولهم: اجعل لنا إلهاً، المقصود بهذا: أن يقول: إن الأصول الثلاثة كانت معروفة وواضحة، والأصول الثلاثة هي التي يسأل عنها الإنسان في قبره، وهي معرفة الإنسان لربه، ومعرفته لنبيه صلى الله عليه وسلم، ومعرفته لدينه، ويقول: إن هذا شيء متقرر عندهم وواضح، وإن كان التنبيه على ذلك جاء من الوحي، ولكن فيه ما هو واضح وجلي، فاتفق الوحي والفطرة والعقل عليه، وهذا معنى قوله: أما من ربك؟ فواضح، يعني: أن الدلائل على معرفة الله جل وعلا متواترة ومتكاثرة، وموجودة في النفوس بالفطر، وموجودة في الآيات، وموجودة في المخلوقات، وكذلك دعت إلى ذلك الشرائع التي جاءت بها الرسل، هذا معنى قوله: أما: من ربك؟ فواضح، يعني: وضوح من ناحية الدلائل الظاهرة البينة، ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ({كل مولود يولد على الفطرة).(39/4)
بعض الدلائل على معرفة الله عز وجل
والمقصود بالفطرة التي ذكرها في هذا الحديث -على القول الصواب الصحيح: أنها ما خُلق عليه الإنسان من حبه للدين وإيثاره وقبوله له، وكما أنه فطر على التقام ثدي أمه إذا خرج من بطنها فكذلك فطر على دين الله، فهي خلقة خلقه الله جل وعلا عليها، وخلقها فيه، وإنما يغير هذه الفطرة المربي الذي يربيه، فإذا تركت فإنه عارف قابل، وليس معنى ذلك أنه يخرج من بطن أمه عالماً بالإسلام عارفاً به، ولكنه مؤثراً له وقابلاً له ومستعداً لقبوله، بل يكون استكنانه به في قلبه ومحبته له مثل استكنان قبوله لثدي أمه، فهو مفطور على هذه الفطرة.
ولهذا إذا وقع الإنسان في كرب وفي شدة يهرع إلى ربه جل وعلا ويسأله، ويرفع يديه إليه متضرعاً داعياً مستغيثاً، فهذا من ناحية الفطرة وناحية النفس.
أما من ناحية الآيات المشاهدة في المخلوقات فهي كثيرة جداً: في الأرض، وفي السماء، وفي النبات، وفي الأنفس، وفي غير ذلك، وقد نبه الله جل وعلا على شيء من ذلك فقال: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53]، والأمر في هذا واضح، وقال سبحانه: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] يعني: هناك آيات في الأنفس، ولهذا أكثر الله جل وعلا من تنبيه الناس إلى النظر إلى خلقهم، فقال: {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ} [الطارق:5]؛ لأن هذه من أكبر العبر، وأكبر الأدلة على الله جل وعلا، فكون أصله ماء مهين، قطرة ماء ثم يخلق منها عظام وأعصاب ولحم، ويفتح له جوف فيه قلبه، وفيه الأشياء التي لا يمكن أن يكون للأب أو من الخلق في ذلك تصرف، ثم يكون بعد ذلك ذكراً أو أنثى، ويجعل فيه السمع والبصر والعقل وأشياء كثيرة، كل هذا ليعتبر الإنسان في خلقه، فإن فيه هذه الآيات الباهرة التي تدل على وجود الله، ولهذا نبه عليها جل وعلا.
وكذلك المخلوقات: في السماء، وفي الأرض، وفي اختلاف الليل والنهار، وفي النجوم، وفي الشمس، والقمر، والجبال، والسحاب، والمطر وغيرها، إذا نظر الإنسان إليها بعقله فإنه يتبين له ذلك، وجاءت الرسل بالوحي مؤيدة في هذا، ولهذا لما أعرض بعض الكفار عن رسلهم، وكذبوا ما قالوا لهم، قال لهم رسلهم: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ} [إبراهيم:10]، يعني: هذا أمر مسلم، فهذا معنى قوله: (أما: من ربك؟ فواضح) أي: جلي لكل عاقل يبصر ذلك أو يضطر إليه، ولكن الإعراض والتكبر والعادات قد يغفل الإنسان بسببها عن هذا.(39/5)
بعض المعجزات والدلائل على صدق نبوة النبي صلى الله عليه وسلم
وقوله: (وأما من نبيك؟ فمن إخباره بأنباء الغيب) يعني: معرفة النبي جاءت بالآيات التي جاء بها، وبالمعجزات التي دلت على صدقه صلوات الله وسلامه عليه، وهي كثيرة؛ لهذا قال: (فمن إخباره بأنباء الغيب) يعني: هذا شيء منها، وإلا فهي كثيرة جداً، منها: ما هو متصف به صلوات الله وسلامه عليه بنفسه من الصدق والأمانة ومراقبة الله جل وعلا، ومنها التحدي، فكونه يأتي إلى قوم كفار فيخالفهم في دينهم، ويخبرهم بأنه منابذ لهم ومعادٍ لهم على هذا الدين، وأنه يلزمهم ترك دينهم ومتابعته، فإن لم يفعلوا فإنه سوف يكون عذابهم في الدنيا والآخرة، ويتوعدهم على هذا وهو وحده، وليس معه سلطان ولا جيش ولا قوة، وحده يقوم أمام أمة تخالفه وتعاديه وتنابذه فيتحداهم بهذا الشيء، ويقول لهم: إنكم لن تصلوا إليَّ بسوء، إذا لم يرده الله جل وعلا بي.
وهكذا كانت الرسل، كما قال هود عليه السلام لقومه لما قالوا له: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:54 - 56]، وهكذا الرسل كلهم قالوا هذه المقالة، وآخرهم وخاتمهم محمد صلوات الله وسلامه عليه، فهذا دليل من أعظم الأدلة على صدقه حيث تبين ثقته وصدقه: ثقته بالله جل وعلا بتحدي هؤلاء الذين يعاديهم ويعادونه، ثم يخبرهم أنهم لن يصلوا إليه، وإذا قام أحدهم يريد به كيداً أو أذىً وتوعده وقال له: سوف أقتلك؟ يقول صلى الله عليه وسلم له: بل أنا الذي أقتلك، ثم يصبح خائفاً من هذا القول؛ لأنهم عرفوا صدقه، وعرفوا أنه لا يقول قولاً إلا ويرون صدقه.
ولهذا لما أنزل الله جل وعلا عليه: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] خشي صلوات الله وسلامه عليه أن يكون قصر في الإنذار والدعوة، فقام مسرعاً، وصعد على الصفا، وصار يهتف: (واصباحاه) وكانت عادة العرب إذا دهم الإنسان أمر قريب يقول كذا، فاجتمعوا إليه، والذي لم يأت إليه بنفسه أرسل من ينوب عنه من ولد أو أخ أو غير ذلك، فلما اجتمعوا قال لهم: (أرأيتم لو أخبرتكم أن خلف هذا الجبل جيشاً يريد أخذكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك كذبة واحدة) فهم كانوا يعرفون صدقه وأمانته.
ثم كذلك الآيات الأخرى، مثل: انشقاق القمر، فلما طلبوا منه آية انشق القمر، وصار فلقتين: فلقة من جهة الشمال، وفلقة من جهة الجنوب في السماء، فصار يريهم ويقول: (اللهم اشهد) ومع ذلك قالوا: هذا سحر، يا للعجب، السحر يصل إلى القمر؟!! لكنه التكبر والعناد والإباء.
وكذلك إجابة دعوته، فقد كان يدعو بالدعاء فيُستجاب.
وكذلك القرآن الذي نزل عليه، تحداهم -وهم أمراء البيان في البلاغة والفصاحة- أن يأتوا بأقصر سورة من سوره فلم يستطيعوا وعجزوا، والعاقل من الناس من لم تسول له نفسه أن يفعل شيئاً من ذلك؛ لأنه أمر لا يطاق، كما قال الله جل وعلا: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء:88]، وهذا يدخل فيه بعضه ليس كله.
أما سخفاء العقول الذين تزين لهم شياطينهم، ويزين لهم توهمهم وطغيانهم في السيطرة والرئاسة إذا جاءوا بشيء من هذا صاروا أضحوكة للعقلاء، مثل ما فعل مسيلمة فقد ذكر ابن كثير رحمه الله وغيره من المؤرخين: أن عمرو بن العاص قبل أن يسلم كان صديقاً لـ مسيلمة، وأنه اجتمع به فسأله: ماذا أنزل على صاحبكم؟ فقال: لقد أنزل عليه سورة بليغة وجيزة، قال: ما هي؟ قال: بسم الله الرحمن الرحيم: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر} [العصر:1 - 3] ففكر في نفسه قليلاً ثم قال: وأنا أنزل عليّ مثلها، قال: ما هي؟ قال: يا وبر يا وبر! إنما أنت رأس وصدر، وباقيك حقر نقر، ماذا تقول يا عمرو؟! قال: والله! إنك لتعلم أني أعلم أنك كاذب! فلم يكتف أن يخبر عن علمه هو، بل قال: أنت تعرف في نفسك أني أعلم أنك كاذب، يعني: أنك تكذب كذباً واضحاً جلياً، وهكذا كل من تحاول له نفسه أن يأتي بشيء من ذلك يصبح أضحوكة للناس، فهذا من أعظم الآيات التي أوتيها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولكن لا يعرف هذا على الوجه المطلوب إلا الذي يعرف لغة العرب، ويعرف الفصاحة والبلاغة.
ومنها: الأمور التي تقع على خلاف العادة التي أجراها الله جل وعلا في خلقه على يد رسوله صلى الله عليه وسلم، مثل: كون الماء القليل يكفي الجيش بأكمله، وخروج الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم، وينبع منها كأنها عيون، فيشربون ويتوضئون من هذا الإناء، وكذلك الطعام القليل الذي يكون مصنوعاً لثلاثة فقط يكفي الجيش بأكمله، ثم يبقى كما هو كأنه لم يؤكل منه شيء إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي وقعت له صلوات الله وسلامه عليه.
ومن المعلوم -عند كل إنسان له عقل يفكر- أن الذي يأتي إلى الناس ويقول: أنا نبي، أنه أحد رجلين: إما أن يكون أتقى الناس وأبر الناس وأصدق الناس وأقرب الناس إلى الله، أو يكون أكذب الناس وأفجر الناس وأبعدهم من الله جل وعلا، ولا يمكن أن يلتبس هذا بهذا، بل مستحيل أن يلتبس هذا بهذا؛ لأنه إما أن يكون صادقاً براً رسولاً حقاً، أو يكون كاذباً على الله، {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ} [الزمر:32] أي: قد تناهى في الظلم، وهذا معنى قوله: (وأما من نبيك؟ فمن إخباره بأنباء الغيب).
وقوله: (وأما ما دينك؟ فمن قولهم: ((اجعل لنا إلهاً)) يعني: أنه متقرر عندهم أن الدين مبني على وروده من الرسول صلى الله عليه وسلم، على الأمر والنهي، وليس بالاستحسان ولا بالعقل ولا بالأوضاع التي وجد عليها الناس، وهذا هو الذي يسأل عنه الإنسان في قبره، ويقال له: ما دينك؟ فإذا أجاب الإنسان، قيل له: وما يدريك أن هذا هو دينك؟ فإما أن يقول: وجدت الناس على شيء ففعلت مثل فعلهم، أو يقول: قرأت كتاب الله وآمنت به، فإن كان الأول: فهو الضال المرتاب الذي يعذب، وإن كان الثاني: فهو المؤمن، هذا هو معنى ما ذكره في هذا التنبيه.
قال الشارح رحمه الله: [وفيه: أن الشرك لابد أن يقع في هذه الأمة خلافاً لمن ادعى خلاف ذلك].
هذا مأخوذ من قوله: (لتتبعن سنن من كان قبلكم) والذين قبلنا وقعوا في الشرك، ووقعوا في أشياء كثيرة، والرسول صلى الله عليه وسلم إذا أخبر بخبر فلابد من وقوعه؛ لأنه صلوات الله وسلامه عليه لا ينطق عن الهوى.(39/6)
غضب النبي صلى الله عليه وسلم إذا انتهكت محارم الله
قال الشارح رحمه الله: [وفيه: الغضب عند التعليم، وأن ما ذم الله به اليهود والنصارى فإنه قاله لنا لنحذره، قاله المصنف رحمه الله].
أما الغضب عند التعليم فهذا إذا اقتضى الأمر ذلك، وهذا يؤخذ من قوله: سبحان الله، أو قوله: الله أكبر على حسب ما جاء في الرواية، ففي رواية أنه قال: (الله أكبر! الله أكبر!)، وفي رواية أنه قال: (سبحان الله! سبحان الله!) وهذا يدل على أنه غضب؛ لأن هذا تنزيه لله جل وعلا وتكبير له، أن يجعل لهم سدرة يعكفون عندها ويعلقون فيها أسلحتهم ويتبركون بها، وقد وقع له صلوات الله وسلامه عليه نظير هذا في بعض المسائل، كما سيأتي في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد في القصة التي سيذكرها المؤلف وهي: (أن أعرابياً أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال يا رسول الله! استسق لنا، فقد جاع العيال، ومات الحلال، وانقطعت السبل، فإنا نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك، فأكبر صلوات الله وسلامه عليه ذلك القول، وقال: ويحك أتدري ما الله؟!.)
إلى آخره، فهذا مثله أيضاً، وهكذا صلوات الله وسلامه عليه إذا انتهك شيء من حقوق الله فإنه يغضب، ولا أحد يقوم لغضبه صلوات الله وسلامه عليه.
أما عند التعليم دون أن يكون هناك انتهاك لمحارم الله فهو أكمل الناس خلقاً، وأتمهم حلماً، ويسع الجاهل ما لا يسعه غيره، ولهذا لما دخل الأعرابي إلى المسجد فأناخ بعيره في المسجد، ثم جلس يبول في المسجد انتهره الناس، فقال لهم صلوات الله وسلامه عليه: (دعوه، لا تزرموه، فتركه حتى انتهى ثم دعاه، فقال: إن المساجد لا تصلح لهذ، اوأمر بأن يصب على البول ذنوباً من ماء)، وفي الحديث الصحيح من حديث أنس أن أعرابياً لقيه صلوات الله وسلامه عليه، وعليه درع غليظ الحاشية، فأمسك بالنبي صلى الله عليه وسلم وجبذه جبذة شديدة، يقول أنس: حتى رأيت أثرها في رقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: يكاد الدم يخرج، يقول: فلم يعنف عليه، وأمر أن يحسن إليه، إلى غير ذلك.
فصلوات الله وسلامه عليه كان يعلم الجاهل برفق ولين، وأما إذا انتهكت المحارم فإنه يغضب لله جل وعلا، ولما جاءه الذي يشفع في المرأة المخزومية التي سرقت غضب، والمرأة المخزومية هي من قريش، فثقل ذلك على بعض رجالات قريش، وقالوا: كيف تقطع يدها وهي شريفة وهي كذا وكذا؟! ثم قالوا: من يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: ما أحد يجرأ على كلامه إلا ابن حبه أسامة بن زيد، فكلموه، فذهب وكلمه فغضب صلوات الله وسلامه عليه وقال: (تشفع في حد من حدود الله؟ وأيم الله! لو أن فاطمة بنت محمد -صلى الله عليه وسلم- سرقت لقطعت يدها، إنما جاء النقص على بني إسرائيل أنهم كانوا إذا سرق الشريف فيهم تركوه، وإذا سرق الوضيع فيهم أقاموا عليه الحد) والمقصود: أن غضبه ليس دائماً، وإنما هو عند انتهاك المحارم.
وأما قوله: وأن ما ذم الله به اليهود والنصارى فإنه قاله لنا لنحذره فهذا واضح؛ لأن اليهود في قصتهم مع نبيهم شيء قد مضى أمره وانتهى، وهم أيضاً لم يؤمنوا برسولنا صلوات الله وسلامه عليه، وإنما الذي آمن به منهم-في وقته- قلة لا يتجاوزون عدد أصابع اليد الواحدة، فهذا في وقته، وكونه جل وعلا يذكر ذلك الأمر إنما أراد به أن يبين ما فعلوه وذموا عليه لئلا نقع في ذلك، وهذا في جميع القرآن وليس خاصاً ببني إسرائيل، بل كل القصص التي جاءت عن الأمم وعن الأنبياء نحن المقصودون بها؛ لأن هذه سنة الله لا تتغير ولا تتبدل، من خالف الرسل وكذبهم وعصاهم فإن مصيره إلى ما صار إليه أولئك المخالفون لرسلهم، ومن أطاع الرسل واتبعهم ونصر الله ودينه، فالعاقبة تكون له في الدنيا والسعادة في الآخرة، هذا هو مضمون القصص الذي قصه الله جل وعلا علينا في القرآن، سواء عن بني إسرائيل أو عن غيرهم.(39/7)
الأدلة على عدم جواز التبرك بآثار الصالحين
قال الشارح رحمه الله: [وأما ما ادعاه بعض المتأخرين من أنه يجوز التبرك بآثار الصالحين فممنوع من وجوه: منها: أن السابقين الأولين من الصحابة ومن بعدهم لم يكونوا يفعلون ذلك مع غير النبي صلى الله عليه وسلم، لا في حياته ولا بعد موته، ولو كان خيراً لسبقونا إليه، وأفضل الصحابة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، وقد شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن شهد له بالجنة، وما فعله أحد من الصحابة والتابعين مع أحد من هؤلاء السادة، ولا فعله التابعون مع ساداتهم في العلم والدين وأهل الأسوة، فلا يجوز أن يقاس على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد من الأمة، وللنبي صلى الله عليه وسلم في حال الحياة خصائص كثيرة لا يصلح أن يشاركه فيها غيره.
ومنها: أن في المنع عن ذلك سداً لذريعة الشرك كما لا يخفى].
يقول بعض المتأخرين مثل الإمام النووي رحمه الله وغيره: قد جاءت بعض الأحاديث التي فيها أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يوزع شعره على صحابته للتبرك به، وكذلك كان إذا توضأ سارعوا إلى فضلة وضوئه يتبركون بها، وإذا تفل أو تنخم صلوات الله وسلامه عليه أحب كل واحد منهم أن تكون بيده حتى يدلك بها وجهه؛ تبركاً به صلوات الله وسلامه عليه، وكذلك إذا أمكن أحدهم أن يأخذ شيئاً من ثيابه التي تلي جسده أخذها، وبعض الصحابيات التي لها صلة بالرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا عرق تأخذ عرقه وتضعه في الطيب؛ لأن عرقه صلوات الله وسلامه عليه أحسن من الطيب، والمقصود أن هذا شيء مشهور ومعروف، فكانوا إذا جاءوا إلى مثل هذه القضايا قالوا: هذا فيه جواز التبرك بالصالحين وبآثارهم، والمؤلف هنا يقول: هذا خطأ من وجوه: الوجه الأول: أن هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، بدليل أن الصحابة رضوان الله عليهم لم يفعلوا هذا مع أحد منهم، فما فعلوه مع أبي بكر ولا مع عمر ولا مع عثمان ولا مع علي، ولا مع غيرهم من سادات الصحابة، وهم أعلم برسول صلى الله عليه وسلم وبما أنزل عليه، ولو كان خيراً لسبقونا إليه.
الوجه الثاني: أنه لا يجوز أن يقاس غير الرسول صلى الله عليه وسلم عليه، وهذا لا يقول به من يعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز أن يقاس آحاد الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا، بل ولا يجوز أن يدان به، وهذا قياس مع الفارق البعيد جداً، فإذا جاء القياس مع الفارق فهو قياس باطل غير معتبر شرعاً.
الوجه الثالث: أن هذا فيه سد للذرائع كما قال المؤلف، وهي قاعدة معروفة في الشرع، والمعنى: أننا لو أجزنا ذلك لجر هذا إلى ما لا يجوز، ولصار طريقاً إلى الشرك وإلى سؤاله والتوسل به، وما أشبه ذلك، وكل ما كان وسيلة إلى ما هو محرم فممنوع.
وهناك أيضاً وجه رابع لم يذكره المؤلف وهو: أن الصلاح أمر لا يعرف إلا من قبل الوحي؛ لأنه في القلب وليس للإنسان إلا الظاهر، فيجوز أن يكون في الباطن غير ما هو في الظاهر، ويجوز أن يتبدل في آخر حياته ويتغير، بخلاف الذين أخبر الله جل وعلا -كالصحابة- أنه رضي عنهم؛ فإن الله لا يخبر جل وعلا عن شيء يتبدل ويتغير.
فإذا قال قائل: هذا من التبرك بالصالحين قلنا: هذا أمر مظنون غير متيقن، وإنما هو من باب الظن، وباب الظن لا يجوز أن تبنى عليه الأحكام في مثل هذا، إلى غير ذلك من الأوجه التي تمنع ذلك، وكل وجه من هذه الأوجه يكفي في منع ذلك.
والخلاصة: أن التبرك بالآثار ومماسة الجسد وما أشبه ذلك خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو من خصائصه لا يجوز أن يقاس عليه أحد من الناس.
وأما والذين استدلوا بفعل ابن عمر، ففعل ابن عمر كان اتباع آثار الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس من هذا الباب، وإنما هو اتباع آثاره، يعني: كان يتتبع الأثر الذي صلى فيه الرسول فيصلي فيه، والمكان الذي جلس فيه فيجلس فيه، وما أشبه ذلك؛ لأنه كان يرى أن هذا سنة، وأنه اتباع للرسول صلى الله عليه وسلم، فليس من باب التبرك، وإنما الكلام في التبرك بما لامس جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو انفصل عنه، وهذا شيء معروف عند الصحابة رضوان الله عليهم حتى أنه جاءت الأحاديث فيه إلى حد التواتر.(39/8)
مسائل باب: (من تبرك بشجرة أو حجر ونحوها)
قال المصنف رحمه الله: [وفيه مسائل: المسألة الأولى: تفسير آية النجم].
المقصود بآية النجم قوله جل وعلا: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى} [النجم:19 - 21]، فهذه الآيات إلى آخرها قد مر معناها.
[المسألة الثانية: معرفة صورة الأمر الذي طلبوا].
يعني: معرفة صورة الأمر الذي طلبوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أنهم ظنوا أن هذا أمر مقرب إلى الله، وأنه محبوب لله جل وعلا ولرسوله، أما لو كانوا يعرفون أنه منكر، وأنه داخل في أقسام الشرك، ويناقض معنى لا إله إلا الله فلا يمكن أن يقدموا عليه ويطلبوه، ومعنى ذلك: أن الإنسان لا يعذر بالجهل في مثل هذه الأبواب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أنكر عليهم وأغلظ لهم في ذلك.
[المسألة الثالثة: كونهم لم يفعلوا].
يعني: أنهم طلبوا ولم يفعلوا حتى لا يقال: إن هذا فيه العذر للجاهل، وإنه معذور في هذا الباب؛ وسبق أنه يضاف إلى هذا أنهم حدثاء عهد بشرك، يعني: عهدهم بالشرك قريب، ولم يعرفوا ما يعرفه غيرهم ممن سبقهم إلى الدين، وأن غيرهم يعرف أنه لا يجوز.
[المسألة الرابعة: كونهم قصدوا التقرب إلى الله بذلك لظنهم أنه يحبه].
هذا يدلنا على أن التقرب إلى الله جل وعلا لا يجوز إلا بالشرع الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، يعني: إذا كان الإنسان قصده حسناً، ولكن فعل ما هو مخالف للشرع، فإن هذا لا يبرر الفعل المخالف، بل يجب إنكاره، ويعاقب عليه ولا يثاب؛ لأن الله جل وعلا قد أنزل الكتاب، والرسول صلى الله عليه وسلم قد بلغ، فليس للناس عذر في جهلهم دينهم الذي جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم، والعلماء أخذوا من هذا قاعدة وهي: أن العبادات ممنوعة -أصلها ممنوع- حتى يأتي الأمر بها، فالأصل في العبادة المنع والتحريم حتى يأتي الشرع بالإذن بها، بخلاف الأمور المباحة: مثل المعاملات والمأكولات والمطعومات وغيرها، فإن الأصل فيها الحل حتى يأتي الشرع بتحريمها، يعني: عكس العبادات.
قال الماتن رحمه الله: [المسألة الخامسة: أنهم إذا جهلوا هذا فغيرهم أولى بالجهل].
يقصد الناس الذين جاءوا بعدهم وليسوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن صحبة الرسول صلى الله عليه وسلم بركة، ولا يمكن أن يكون من يأتي بعدهم مثلهم، ولهذا أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن خير الخلق بعد الأنبياء هم الذين صحبوه فقال: (خير الناس القرن الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم).
[المسألة السادسة: أن لهم من الحسنات والوعد بالمغفرة ما ليس لغيرهم].
قصده بهذا: أنه لو قدر أن هذا من الإثم ومن الشرك فإنهم ليسوا كغيرهم، فلهم من السوابق والحسنات ما لا يصل إليه غيرهم، ولكن الإنسان إذا جاء بشرك لا ينظر إلى حسناته؛ لأن الله جل وعلا يقول لنبيه ولمن سبقه من الأنبياء: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65]، والله ليس بينه وبين أحد من الخلق نسب ولا صلة إلا بالطاعة والعبادة، ولما ذكر أفضل الخلق وهم الأنبياء قال بعد قصصهم والثناء عليهم: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:88]، فالشرك يحبط الأعمال كلها، وهو أعظم الذنوب التي يعصى بها الله جل وعلا، نسأل الله العافية، ولهذا أخبر جل وعلا أن الذي يموت عليه يكون خالداً في النار، لكن الإنسان -مثلاً- قد يقع في مخالفة ثم يكون معذوراً لأسباب: إما لأنه لم يبلغه الأمر، أو أنه جهل وظن أن هذا مشروعاً ووقع فيه، أما إذا كان لا يجهل ذلك فهذا لا يعذر.
[المسألة السابعة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعذرهم في الأمر، بل رد عليهم بقوله: (الله أكبر! إنها السنن، لتتبعن سنن من كان قبلكم) فغلظ الأمر بهذه الثلاث].
يعني: تغليظه لهم في قولهم ذلك، فإنه ذكر الآية بعد قوله: (لتتبعن سنن من كان قبلكم) وهذا من باب التغليظ لهم للأمر، وهو الواقع الظاهر، ويكفي في هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى).(39/9)
ترك الشرك من معاني (لا إله إلا الله)
[المسألة الثامنة: الأمر الكبير وهو المقصود: أنه أخبر أن طلبهم كطلب بنى إسرائيل لما قالوا لموسى {اجْعَل لَنَا إِلَهًا} [الأعراف:138].
المسألة التاسعة: أن نفى هذا من معنى (لا إله إلا الله)، مع دقته وخفائه على أولئك].
يعني: أن ردّ هذا الطلب وبيان أنه من الشرك من معاني (لا إله إلا الله)؛ لأن معنى (لا إله إلا الله) أن لا يؤله ويعبد إلا الله، وطلب البركة والعكوف من العبادة، والعبادة كلها يجب أن تكون لله، وكلها داخلة في قوله: لا إله إلا الله، فلهذا قال الصحابة: إن الدين كله من الأوامر والنواهي والأحكام من حق لا إله إلا الله.(39/10)
جواز الحلف على الفتيا
[المسألة العاشرة: أنه حلف على الفتيا، وهو لا يحلف إلا لمصلحة] هذا ليبين المطابقة، ويبين أن هذا القول يماثل ما قال أولئك لموسى، وأنه لا فارق في المعنى بين هذا وهذا، وإن اختلف اللفظ.
وكذلك ليبين أن هذا من الشرك، وأن نفيه من التوحيد، وأن هذا واجب على الإنسان؛ لأنه أكد هذا بالحلف.(39/11)
الشرك قسمان: أكبر وأصغر
[المسألة الحادية عشرة: أن الشرك فيه أكبر وأصغر؛ لأنهم لم يرتدوا بهذا].
كأنه يشير إلى أن هذا من الشرك الأصغر، وليس كذلك، بل هذا من الشرك الأكبر، فطلب الإنسان أن يكون له شجرة يتبرك بها أو يعكف عندها أو يعلق بها ثوبه أو ما أشبه ذلك حتى تحصل له البركة هذا يعد من الشرك الأكبر، وليس من الأصغر، وهذا أمر واضح.
وأما ما وجه كونهم لم يرتدوا بذلك؟ فلم يرتدوا بذلك للأمرين اللذين سبق ذكرهما: لأنهم لم يفعلوا، ولأنهم كانوا جاهلين هذا؛ لقرب عهدهم بالشرك، ولأنهم لم يعرفوا التوحيد كما ينبغي، كما عرفه الذين سبقوهم، هذا هو وجه كونهم لم يرتدوا.(39/12)
التكبر عند التعجب
[المسألة الثانية عشرة: قولهم: (ونحن حدثاء عهد بكفر) فيه أن غيرهم لا يجهل ذلك.
المسألة الثالثة عشرة: التكبير عند التعجب خلافاً لمن كرهه].
بعض العلماء كره ذلك، ولكن لا دليل له على هذه الكراهة، فالسنة واضحة في هذا، وهي جاءت في أكثر من حديث.(39/13)
التشبه بالكفار من الذرائع التي يجب سدها
[المسألة الرابعة عشرة: سد الذرائع.
المسألة الخامسة عشرة: النهي عن التشبه بأهل الجاهلية].
هذا مأخوذ من قوله: (لتتبعن سنن من كان قبلكم) فإنه يفهم منه أن هذا القول فيه التحذير من اتباعهم، وقد جاء هذا صريحاً في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تشبه بقوم فهو منهم)، وكذلك التشبه بأهل الكتاب.(39/14)
اتباع المتأخرين للمتقدمين سنة كونية
[المسألة السادسة عشرة: الغضب عند التعليم.
المسألة السابعة عشرة: القاعدة الكلية لقوله صلى الله عليه وسلم: (إنها السنن)].
قصده بالقاعدة الكلية أن الناس يتبع بعضهم بعضاً، وأن هذه سنة، ولهذا ذكر الله جل وعلا عن الأولين والآخرين أن الأنبياء إذا جاءوهم يدعونهم إلى عبادة الله جل وعلا وترك الشرك قالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23]، وكذلك كل رسول يأتي قومه يردون عليه بهذا القول، وهذا لا يزال في الناس ولن يزال، فأنت -مثلاً- إذا وجدت إنساناً ودعوته إلى أمر لا يعرفه يقول: الناس على خلاف ما تقول، فقول هذا مثل قول أولئك، يعني: أنهم وجدوا الناس قبلهم يعملون هذه الأعمال فاتبعوهم، وحجتهم هي كما قال فرعون لموسى: {مَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} [طه:51] يعني: لماذا لم يعملوا بما تقول، واتبعوا خلاف ما تقول؟! فهذه هي الحجة المطّردة عند الكفار كلهم.
وإبراهيم عليه السلام لما كسر الأصنام وجعلها جذاذاً، ثم علق الفأس في رقبة الكبير ولم يكسره؛ حتى يكون ذلك حجة عليهم، فلما قالوا: أنت فعلت هذا بآلهتنا؟ قال: كلا، بل الذي فعله كبيرهم هذا، فسألوهم إن كانوا ينطقون؟ فعند ذلك جاء دور العقل، فنظروا ورجعوا إلى أنفسهم فقالوا: الواقع أننا ظلمة! كيف نعبد هذه وهي لا تستطيع أن تدفع عن نفسها، ولا تنطق، ولا ترد كلاماً، ولا تخبر بمن فعل بها هذا الشيء؟! ثم نكسوا، وقالوا: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ} [الأنبياء:65]، فقال لهم: {أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنبياء:67] يعني: طلب منهم الحجة، كيف تعبدون هؤلاء؟ فجاء أتباع الآباء والتقليد فقالوا: {بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء:74]، فهذه هي الحجة التي يملكون: (وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) وهل هذه حجة؟! هذه ليست حجة، وإن كانت حجة فهي حجة باطلة.
ولهذا يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وغيره من الصحابة: (لا يكن أحدكم إمعة) يعني: إمعة مع الناس، فإن اهتدى الناس اهتدى، وإن ضل الناس ضل، بل عليه أن يستعمل عقله، ويستعمل الدليل، وينظر ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فيتبعه.
هذا معنى قوله: إنها قضية عامة في الناس، يعني: أنهم يتبعون بعضهم بعضاً، وينظرون إلى الكثرة وإلى الإرث الذي توارثوه، والعادة التي اعتادوها فيتبعونها.(39/15)
تقليد المسلمين لأهل الكتاب علم من أعلام النبوة
[المسألة الثامنة عشرة: أن هذا علم من أعلام النبوة، لكونه وقع كما أخبر].
يعني: أن قوله: (لتتبعن سنن من كان قبلكم) علم من أعلام النبوة، وهذا لا يزال يقع على حسب التتبع، والناس اليوم يتبعون اليهود والنصارى شبراً بشبر، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فالشيء الذي أخبر به لابد أن يقع، وليس معنى ذلك أن في هذا الخبر إقراراً له، بل هو من باب التحذير، وأن نحذر هذا ونبتعد عنه، ومع ذلك لابد من وقوعه؛ لأن الجهل يغلب والمعاصي تكثر في الأمة، فالناس يتبعون أهل الكتاب ويكثر اتباعهم لهم، وتقليدهم لهم، وهذا الآن يزداد، فإذا نظر الإنسان في وضع الناس يجد أن أكثرهم يقلد الغرب تماماً في كل شيء، حتى أصبح الأمر أنهم يقلدونهم في الأمور السخيفة والسافلة، مثل جعل الكلاب في البيوت أو في السيارات، ومثل الأكل باليد الشمال والشرب بها، حتى صار التقليد في اللباس والمساكن وفي كل شيء، فهذه ظاهرة وقعت كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم.(39/16)
تحريم اتباع اليهود والنصارى مأخوذ من ذم الله لهم
[المسألة التاسعة عشرة: أن ما ذم الله به اليهود والنصارى في القرآن أنه لنا.
المسألة العشرون: أنه متقرر عندهم أن العبادات مبناها على الأمر، فصار فيه التنبيه على مسائل القبر: أما من ربك؟ فواضح، وأما من نبيك؟ فمن إخباره بأنباء الغيب، وأما ما دينك؟ فمن قولهم: (اجْعَل لَنَا) إلى آخره.
المسألة الحادية والعشرون: أن سنة أهل الكتاب مذمومة كسنة المشركين].
ولهذا نهينا عن اتباعهم، وهذا في الأمور التي لم يأت شرعنا بها، أما ما جاء شرعنا به فلا ننظر إلى موافقتهم لنا أو مخالفتهم، بل نتبع الشرع.
[المسألة الثانية والعشرون: أن المنتقل من الباطل الذي اعتاده قلبه لا يؤمن أن يكون في قلبه بقية من تلك العادة، لقولهم رضي الله عنهم: (ونحن حدثاء عهد كفر)].
وهذا معناه واضح.(39/17)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [40]
الذبح عبادة من العبادات التي يتقرب بها العبد إلى الله سبحانه وتعالى، ولعظم هذه العبادة وأهميتها قرنها الله عز وجل بالصلاة في مواضع من كتابه الكريم، ولهذا كان صرفها لغير الله شرك، فإذا ذبح العبد لغير الله تقرباً إليه -كما يفعل عباد القبور في ذبحهم لقبورهم- فقد وقع في الشرك، والعياذ بالله.(40/1)
حكم الذبح لغير الله عز وجل
قال المصنف رحمه الله: [باب: ما جاء في الذبح لغير الله وقوله الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163].
وقول الله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2]].
قوله: باب: ما جاء في الذبح لغير الله يعني: ما جاء من المنع، وأنه من الشرك؛ لأن الذبح عبادة لله جل وعلا، بل من أجل العبادات، ولهذا استدل بقول الله جل وعلا: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163]، وقوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2].(40/2)
وجه اقتران النسك بالصلاة
قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} وجه الدلالة من ذلك أن الله جل وعلا قرن النسك بالصلاة، والنسك هو: الذبيحة التي تذبح تقرباً إلى الله.
فإذا ذبحت الذبيحة تقرباً إلى الله فهي عبادة من أفضل العبادات، وقد قرنت بأشرف العبادات وأعظمها التي هي الصلاة، فيكون جعلها لغير الله جل وعلا من الشرك الأكبر، ووجه الدلالة من ذلك واضح، وقد تكلم العلماء على هذه الآية وما أشبهها وكون الذبائح تقرن بالصلاة، وقالوا: إن الصلاة من أعظم الأفعال والأعمال التي يتقرب بها إلى الله؛ لأنها تشتمل على الدعاء بأنواعه، وتشتمل على القيام والركوع والسجود والقراءة والتكبير والتحميد وغير ذلك، وهي في الواقع صلة بين العبد وبين ربه، وهي أيضاً ما وصل الله جل وعلا به رسوله صلوات الله وسلامه عليه لما قربه إليه وعرج به إلى السماء، ففرض عليه الصلاة، وهذا مما يدل على عظمها وأن شأنها كبير وعظيم جداً، فهي الصلة الكبرى التي وصل الله جل وعلا بها حبيبه صلوات الله وسلامه عليه يوم قربه ورفعه إلى فوق السماوات، ففرضها عليه وأمره بها.
ثم جاءت النصوص الكثيرة التي تحث عليها، وتبين أنها الصلة بين العبد وبين ربه، وأنه إذا قام فيها فإنه يناجي ربه، وإذا رفع يديه وكبر فكأنه يستأذن في الدخول على الله، فهو يقف بين يديه، وعليه أن يعلم أنه يناجي ربه، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن أحدكم إذا قام في الصلاة فإنما يناجي ربه فلا يبصقن أمامه).
فالصلاة من أعظم القربات إلى الله، ولهذا يبدأ بها جل وعلا في ذكر الأعمال، ويختم الأعمال بها كما في أول سورة المؤمنين وكذلك في سورة المعارج وغيرهما، وذكر أن الذين هم في صلاتهم خاشعون هم الذين يرثون الفردوس، إلى غير ذلك.
كذلك كونه قرن النسك بها يدل على عظم هذه العبادة، يقول العلماء: يجتمع للإنسان في هاتين العبادتين ما لا يجتمع له في غيرهما؛ لأن في الذبح تقرب إلى الله جل وعلا بإزهاق الأرواح، مع كونه يحب ذلك ويؤثر المال، ومع ذلك يحب أن يتقرب ويكثر من ذلك، والذبح يجعل قلب الإنسان فرحاً بهذا الأمر، ويجعله موقناً بالله، ويجعله مستغنياً بالله، ويحصل له من الحياة ما لا يحصل للذين لا يفعلون ذلك.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير الذبح لله، وكثيراً ما يقرب القرابين لله جل وعلا، ففي حجته نحر مائة من الإبل، وكذلك في عمرة الحديبية، وأحياناً كان يرسل الهدي وهو في المدينة ليذبح في مكة، ويوكل من يذبحه، وكذلك كان يضحي في الأضحى، ويتقرب إلى الله جل وعلا بهذا النسك، فكل هذا يدل على أنها عبادة من أشرف العبادات، فكونها تُجعل لغير الله جل وعلا يكون هذا من الشرك الأكبر، لهذا قرنها بالصلاة في قوله جل وعلا: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي) ومعنى الصلاة والنسك ظاهر، وأما قوله: (وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي) فمعنى ذلك: ما أحيا عليه من الأعمال وآتيه كله أتقرب به إلى الله (وَمَمَاتِي) يعني: ما أموت عليه من الإيمان، والرجاء والخوف، كله لله جل وعلا نيته وفعله وباطنه وظاهره.
وأما قوله جل وعلا: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) فهو مثلها تماماً، أمر الله جل وعلا رسوله صلى الله عليه وسلم أن يصلي وينسك له وحده، وقد قال بعض العلماء: إن هذه الصلاة المقصود بها: صلاة العيد، ولكن الظاهر أنها عامة في كل صلاة، فإن الصلاة يجب أن تكون لله جل وعلا، وكذلك النسك يجب أن يكون لله، فإذا كان هكذا فصرفه لغير الله من الشرك الأكبر، وهذه الآية هي كآية سورة الأنعام.
وقوله: (فَصَلِّ) جاءت الفاء مقرونة بالأمر بالصلاة، والسبب: أن الله أنعم عليه وتفضل عليه بقوله: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1] يعني: الخير الكثير في الدنيا والآخر، فشكر الله جل وعلا هو بالصلاة والنحر له سبحانه.
وأما ما رواه الحاكم عن علي بن أبي طالب أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لجبريل لما نزلت هذه الآية: (ما هذه النحيرة التي أمرت بها؟ فقال له: ليست هذه نحيرة) إلى آخره، فالحديث هذا موضوع.(40/3)
الذابح لغير الله داخل في وعيد المشركين
قال الشارح رحمه الله: [قوله: باب ما جاء في الذبح لغير الله، أي: من الوعيد وأنه شرك بالله.
وقوله الله تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ) الآية.
قال ابن كثير: يأمره تعالى أن يخبر المشركين الذي يعبدون غير الله ويذبحون له: بأنه أخلص لله صلاته وذبيحته؛ لأن المشركين يعبدون الأصنام، ويذبحون لها، فأمره الله تعالى بمخالفتهم والانحراف عما هم فيه، والإقبال بالقصد والنية والعزم على الإخلاص لله تعالى، قال مجاهد: النسك الذبح في الحج والعمرة، وقال الثوري عن السدي عن سعيد بن جبير: (ونسكي) أي: ذبحي وكذا قال الضحاك: وقال غيره (وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي) أي: وما آتيه بحياتي وما أموت عليه من الإيمان والعمل الصالح (لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) خالصاً لوجهه (لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ) الإخلاص (أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) أي: من هذه الأمة لأن إسلام كل نبي متقدم.
قال ابن كثير: وهو كما قال فإن جميع الأنبياء قبله كانت دعوتهم إلى الإسلام، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] وذكر آيات في هذا المعنى.
ووجه مطابقة الآية للترجمة: أن الله تعالى تعبد عباده بأن يتقربوا إليه بالنسك، كما تعبدهم بالصلاة وغيرها من أنواع العبادات، فإن الله تعالى أمرهم أن يخلصوا جميع أنواع العبادة له دون كل ما سواه، فإذا تقربوا إلى غير الله بالذبح أو غيره من أنواع العبادة فقد جعلوا لله شريكاً في عبادته، وهو ظاهر في قوله: (لا شَرِيكَ لَهُ) نفى أن يكون لله تعالى شريك في هذه العبادات، وهو بحمد الله واضح.
وقوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: أمره الله أن يجمع بين هاتين العبادتين وهما: الصلاة والنسك الدالتان على القرب والتواضع والافتقار وحسن الظن وقوة اليقين وطمأنينة القلب إلى الله وإلى عدته، عكس حال أهل الكبر والنفرة وأهل الغنى عن الله الذين لا حاجة لهم في صلاتهم إلى ربهم، والذين لا ينحرون له خوفاً من الفقر، ولهذا جمع بينهما في قوله: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي) الآية.
والنسك: الذبيحة لله تعالى ابتغاء وجهه.
فإنهما أجل ما يتقرب به إلى الله، فإنه أتى فيهما بالفاء الدالة على السبب؛ لأن فعل ذلك سبب للقيام بشكر ما أعطاه الله تعالى من الكوثر.
وأجل العبادات البدنية: الصلاة، وأجل العبادات المالية: النحر.
وما يجتمع للعبد في الصلاة لا يجتمع له في غيرها كما عرفه أرباب القلوب الحية، وما يجتمع له في النحر إذا قارنه الإيمان والإخلاص من قوة اليقين وحسن الظن: أمر عجيب، وكان النبي صلى الله عليه وسلم كثير الصلاة كثير النحر.
انتهى.
قلت: وقد تضمنت الصلاة من أنواع العبادات كثيراً، فمن ذلك: الدعاء والتكبير، والتسبيح والقراءة، والتسميع والثناء، والقيام والركوع، والسجود والاعتدال، وإقامة الوجه لله تعالى والإقبال عليه بالقلب، وغير ذلك مما هو مشروع في الصلاة، وكل هذه الأمور من أنواع العبادة التي لا يجوز أن يصرف منها شيء لغير الله، وكذلك النسك يتضمن أموراً من العبادة كما تقدم في كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى عليه].(40/4)
الذابح لغير الله ملعون
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن علي بن أبي طالب قال: (حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات: لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن والديه، لعن الله من آوى محدثاً، لعن الله من غيَّر منار الأرض) رواه مسلم].
يقول رحمه الله تعالى: (باب ما جاء في الذبح لغير الله)، يعني: ما جاء فيه من الآيات من كتاب الله، والأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تبين أنه من الشرك الأكبر الذي إذا مات عليه الإنسان مصراً على ذلك بغير توبة يكون من أهل النار، بل يكون خالداً فيها، ويكون من الذين قال الله جل وعلا فيهم: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:167]؛لأنهم أشركوا بالله جل وعلا، والذين يقول الله جل وعلا فيهم: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] فأخبر أن المشرك مقطوع يأسه من رحمة الله جل وعلا، وأنه إذا مات على الشرك فإنه يكون هذا جزاءه.
ووجه الدليل من الآيتين على أن الذبح لغير الله جل وعلا شرك واضح جلي؛ وذلك أن الله جل وعلا قرن بين الصلاة وبين النسك.
وقوله جل وعلا آمراً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) * (لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ) يعني: كونه يجعل العبادة كلها لله جل وعلا، ومنها: النسك الذي قرن بالصلاة، والنسك المقصود به: كل ما يذبح ويتقرب به، سواء تقرب بها إلى الله، أو إلى غيره فهي نسك.
وكون النسك قُرن بالصلاة يدل على عظمه عند الله جل وعلا؛ لأن الصلاة هي عماد الدين، وهي من أعظم ما يتقرب به عباد الله إليه، وقد جُعلت الصلاة قرة عين رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لما فيها من العبادات المتنوعة، وأعظمها الإقبال على الله والخشوع له، وتوجيه الوجه إليه مقبلاً خاشعاً، ثم فيها الدعاء بنوعيه؛ لأن الدعاء يأتي على نوعين: دعاء مسألة، ودعاء عبادة، وكلاهما موجود في الصلاة، وكلاهما من أعظم العبادات التي أمر الله جل وعلا بها، كما قال جل وعلا: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]، وقال جل وعلا: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي} [البقرة:186] فالله جل وعلا يأمر رسوله أن يقول هذا، وأمته تبع له، فكل من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم يجب أن يكون هذا دينه، والصلاة المقصود بها: كل صلاة يتعبد بها سواء كانت فريضة أو نفلاً، وفي أي وقت كانت، فالصلاة من أعظم العبادة، ولا يجوز أن تكون لغير الله جل وعلا، وكذلك الذبح قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} [الأنعام:162] يعني: ذبيحتي الذي أذبحها لله جل وعلا.(40/5)
الذبح عبادة، وصرفها لغير الله شرك
النسك مأخوذ من النسك وهو: التعبد، فإذا تعبد الإنسان قيل: إنه ناسك ومتنسك، والتعبد يكون بأنواع شتى، وجامع العبادة: أن تكون مأموراً بها، سواء أمر إيجاب أو أمر استحباب، أو يكون يثنى على صاحبها ويكون ممدوحاً، مما يدل على أن الله يحبه، وكل فعل أثنى الله جل وعلا على فاعله فهو داخل في العبادة؛ لأنه يحبه ويرضاه، فالذبيحة لا يجوز أن تكون مأكولة وحلالاً حتى تشتمل على التعبد لله جل وعلا بأي نوع كان، سواء كانت مما يذبح في مناسك الحج أو مما يذبح في أي مكان كان، فلابد أن يكون فيها عبادة لله جل وعلا، بأن يسمي الله جل وعلا عند ذبحها، وأن يكون الذابح أهلاً للذبح، ويكون مسلماً أو يكون ممن يؤمن بالله واليوم الآخر وله دين ثابت مثل اليهود والنصارى إذا لم يكونوا ملاحدة مشركين، وإلَّا لا تحل الذبيحة بحال من الأحوال، فإذا ذبحها مرتد لا يصلي أو ذبحها مشرك أو ملحد -وإن قال: باسم الله- فإن ذبيحته تكون حراماً؛ لأنه ليس من أهل الذبح.
إذاً: الذبيحة فيها تعبد لله، وكل عمل يعمله المسلم يجب أن يكون متعبداً فيه، وكل عمل يجب أن يكون لله وإن كان من أمور الدنيا، حتى الأكل إذا أكل الإنسان فينبغي أن يسمي الله، وأن يشكر الله على نعمته؛ لأنه هو الذي وهبه، وهو الذي أسداه لك، وهو الذي أساغه، وهو الذي يبقي فيك منفعته ويذهب عنك مضرته، فوجب أن تشكره على ذلك.
وأما الذبيحة إذا أريد بها التقرب فهي عبادة محضة، وإذا جعلت لغير الله فهي من الشرك الأكبر، فمراد المؤلف أن يبين أن هذا منافٍ لقول: لا إله إلا الله، فإذا ذبح الذابح عند قبر يرجو نفعه أو لولي أو لجنيٍ أو ما أشبه ذلك -وإن قال: باسم الله- فالذبيحة مهل بها لغير الله جل وعلا فهي شرك، وهذا الذابح يكون مشركاً، وهذه الذبيحة حرام أكلها؛ لأنها أولاً: مما أهل به لغير الله، وثانياً: أنها أصبحت ذبيحة مرتد أرتد عن الإسلام بهذا الذبح، وإن كان قبل ذلك مسلماً.
وهذا بين واضح في كتاب الله وفي أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد كان المشركون يذبحون عند أصنامهم متقربين إليها، وهل تقربهم لهم بأن يذبحوا هذه الذبيحة ولا يأكلونها؟
الجواب
لا، بل يريقون الدماء تقرباً إلى هذا المعبود، ثم يأكلون الذبيحة ولا يدعونها لهذا الصنم أو لغيره، ومع ذلك تكون عبادة تُوجه لغير الله جل وعلا، ويكون الذابح بذلك مشركاً.
ثم إن هذه العبادة من أعظم العبادات، ولهذا شرع للمسلمين أن يتقربوا إلى الله جل وعلا بالذبح في الأضاحي وفي الهدايا التي تهدى إلى البيت، والواقع أنها تهدى لله، ولكنها تذبح هناك في المشاعر التي شرعها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لنذبح فيها.
وكذلك العقيقة، والنذر، وغير ذلك مما يفعله الإنسان متقرباً به إلى الله، فهذا من أجل العبادات وأعظمها؛ وذلك لأنه إذا بذل ماله وأقدم على ذبح الحيوان متقرباً به إلى الله مع رحمته له ومع محبته للحيوان فإن حب الله وعبادة الله له تدعوه إلى أن يقدم على ذلك مختاراً مغتبطاً، ويكون بذلك عابداً لله جل وعلا بهذه الذبيحة.
ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير الذبح لله جل وعلا كما كان كثيراً ما يصلي لله جل وعلا، وهذا هو سر قرن الذبيحة بالصلاة، وقوله تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي) يعني: ذبائحي التي أذبحها لله، فأنا أتبرأ مما يفعله المشركون وأراغمهم حيث إنهم يذبحونه لأصنامهم، وأنا أذبح لربي متقرباً بذلك إليه، ومخالفاً لهم، ومعادياً لهم على فعلهم ذلك.
وقوله: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ) يعني: كل أعمالي التي أفعلها في حياتي أفعلها تعبداً لله جل وعلا، وكذلك: (وَمَمَاتِي) أي: ما أموت عليه وما أقدمه بعد حياتي هو خالص لله، لا شريك له في كل أعماله وتصرفاته الظاهرة والباطنة.
وقوله: (وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ) يعني: أن هذا أمر من الله، وأنه يتعين، وليس للعبد في ذلك اختيار، فإذا لم يفعل ذلك فقد عصى الله جل وعلا، وسوف يعاقبه.
وقوله: (وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ) أي: أمر من الله حتم يجب أن يطاع ويتبع، وإلا فسيكون الإنسان ضالاً وخاسراً، وسوف يلاقي الله جل وعلا، ثم يعاقبه على ذلك.
وقوله: (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) الإسلام معناه: هو الاستسلام والانقياد لله، وأن يسلم وجهه وقواه وجوارحه لله منقاداً مطيعاً غير معترض على الله، وغير متمرد عن أمره، بل يفعل أمره مذعناً خاضعاً ذالاً معظماً لله جل وعلا، هذا هو معنى الإسلام: (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) أي: الذين يفعلون ذلك على هذه الصفة؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أول من أطاع الله من هذه الأمة، وإلَّا فالرسل الذين قبله كلهم على الإسلام كما أخبر الله جل وعلا عن ذلك في كتابه، وأن كل رسول يقول لأمته: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59] وهذا هو الإسلام.
وقوله في الآية الأخرى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2] هذه مثل التي قبلها، حيث قرن النحر بالصلاة، وهو النسك المذكور في الآية السابقة؛ ولهذا قال بعض المفسرين: إن المقصود بالصلاة هنا: صلاة العيد خاصة؛ لأنها هي التي يعقبها النحر، والصواب: أن هذا عام في كل صلاة، وكذلك النحر عام في كل نحيرة، يجب أن يكون لله جل وعلا، وأن يكون خالصاًً له.
وأما ما روي في الحديث الذي رواه الحاكم في مستدركه أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل جبريل لما نزلت هذه الآية فقال: (ما هذه النحيرة التي أمرت بها؟ فقال جبريل: إنها ليست نحيرة وإنما هي وضعك يديك في الصلاة على نحرك) فهذا حديث موضوع مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله الواضعون الكذابون الذين يكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما هي نحيرة يعرفها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي: كل ذبيحة يذبحها متقرباً بها إلى الله جل وعلا، وكذلك إذا ذبحها للأكل فإنها تكون لله؛ لأنه يذبحها لله، ولكن الذبيحة التي تقدم إما نذراً أو أضحية أو نسيكة في الحج تكون أكمل وأعظم من الذبيحة التي تذبح لأجل أن يؤكل لحمها؛ لأنها عبادة محضة قدمت لله جل وعلا.
فهذا واضح جلي في كون الذبائح إذا ذبحت لغير الله فهذا الذبح شرك، وهذا مثل الصلاة إذا صليت لغير الله، فلا فرق بين هذه وهذه حيث قرنت الذبيحة بالصلاة، وأمر الله أن تكون له وحده جل وعلا.
فعلى هذا إذا ذبح الإنسان عند القبر أو ذبح للجني كأن يقول له دجال من الدجاجلة الذين يأكلون أموال الناس بالباطل: إن هذا المريض فيه جني لا يخرج حتى تذبحوا له ذبيحة، وقولوا: باسم الله، وفرقوها على كذا وكذا، وعلى الفقراء أو غيرهم، فهذا شرك أكبر؛ لأنها قصد بها الجني، وذبحت له، فيجب أن تكون الذبيحة لله وحده، مراداً بها وجه الله، وسواء كانت الذبيحة بعيراً أو بقرة أو شاة أو دجاجة أو غير ذلك من أي نوع كان مما يذبح؛ إذا ذبح وقصد به غير الله جل وعلا فإنه يكون شركاً.
وكذلك الذين يذبحون عند القبور، ويقصدون التقرب إلى الأموات والنفع الذي يرجونه منهم، وإن كانوا يذبحونها ويأكلونها أو يفرقونها؛ فإنها تكون مما أهل به لغير الله، ومما تقرب به لغير الله، وإن كان يذكر عليها اسم الله عند الذبح؛ لأن المراد النية، والألفاظ والأسماء لا تغير من المعنى شيئاً، فإذا ذبح الإنسان ذبيحة وقال: باسم الله، ولكن نيته أنها لغير الله فإنها تكون مما أهل به لغير الله، كما أن النصراني -مثلاً-: إذا ذبح للمسيح وقال: باسم الله فإن ذبيحته حرام، وهي مما أهل لغير الله جل وعلا، وهذا باتفاق العلماء لا أحد يخالف في ذلك، وهو واضح وظاهر من النصوص ومنها هاتين الآيتين.(40/6)
شرح حديث: (لعن الله من ذبح لغير الله)
في صحيح مسلم أنه قيل لـ علي رضي الله عنه: (هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء لم يقله للناس؟ فقال: لا، ما خصنا بشيء لم يقله للناس، ولكني سمعته يقول: لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من سب والديه، ولعن الله من آوى محدثاً، ولعن الله من غير منار الأرض) واللعن من الله جل وعلا ومن رسوله صلى الله عليه وسلم هو: الطرد والإبعاد من رحمة الله، والملعون هو: من لعنه الله أو لعنه رسوله صلى الله عليه وسلم، أو من حق عليه ذلك وطرد ولو لم يواجه بهذا، أو يقال فيه: ملعون، والله جل وعلا يلعن من يشاء، كما أنه يرحم من يشاء، فبعض عباده يلعنهم الله جل وعلا، وإذا لعن الله إنساناً لعنته الملائكة وعباد الله، ويلعنه اللاعنون في السماءً وفي الأرض، فيكون طريداً بعيداً.
وهنا لعن أربعة أجناس من الناس وهم: الجنس الأول: الذابح لغير الله، وهذا يدلنا على أن الذبح لغير الله من أعظم المحرمات، وأن فاعله يستحق الطرد من رحمة الله، أو أنه قد صار مطروداً من رحمة الله ومبعداً إذا لم يتداركه الله جل وعلا برحمته بأن يتوب ويندم ويرجع إلى الله جل وعلا، وإلا فقد حق عليه ذلك، وهذا مطلق فيمن ذبح لغير الله أي ذبيحة ذبحها ولأي شيء ذبح، سواء للجن أو للأصنام أو للملائكة أو للأولياء أو لغيرهم من الأغراض التي يذبح لها الإنسان، والناس لهم أغراض شتى في هذا.
ومنهم من لا يظهر أنه يقصد غير الله، وإنما يظهر بذلك أنه يفرح، كالذي يبني بيتاً، وإذا أراد أن ينزل فيه يأتي بالذبائح ويذبحها، ومقصوده بهذا: أن يتخلص من أذى الجن حتى لا يؤذوه ويأتوا إليه في هذا البيت، فإن هذا من ذبائح الجن التي تكون لغير الله جل وعلا؛ لأن المقصود النية والقصد، وإن قال في الذبح: إني ما أقصد هذا، أو أنه سمى الله وذبح، ودعا الناس ليأكلوه أو أظهر أنه للفرح أو غير ذلك؛ لأن الأمر كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) فالنية معتبرة في الأعمال، فكل عمل قصد به غير الله يكون شركاً.
ومن أعظم ذلك الذبائح، ومن فعل ذلك فهو داخل في لعنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (لعن الله من ذبح لغير الله).(40/7)
لعن الوالدين كبيرة من الكبائر
الجنس الثاني: الذي يلعن والديه، سواءً الأب والأم أو الجد والجدة وإن علوا، وسواء باشر ذلك بنفسه أو كان سبباً للعنهما، كما جاء ذلك مفسراً في صحيح البخاري وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قال ذلك قيل له: كيف يلعن الرجل والديه؟ يعني: يستبعد الصحابة رضوان الله عليهم أن يقع هذا من مسلم، بل من عاقل، فكيف يلعن الرجل والديه؟ فقال: (يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه) يعني: أنه يكون سبباً للعن والديه، فيكون ملعوناً؛ لأنه تسبب في ذلك، أما إذا فعل ذلك مباشرة فهو أعظم جرماً.
ولعن الوالدين ضد البر والإحسان الذي أمر الله جل وعلا به، فهو محادة لله جل وعلا، كما أن الذبح لغير الله ضد الإخلاص والتوحيد الذي أوجبه الله جل وعلا وأمر به، فإذا وجد ذلك فإنه يكون محادة لله جل وعلا ولرسوله.
وقد قرن الله جل وعلا حق الوالدين بحقه في آيات كثيرة في القرآن، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة عاق)، فالذي يعق والديه لا يدخل الجنة، وقال: (رضا الله في رضا الوالدين)، وأخبر: أن الأم حقها أعظم وآكد لشدة ما تقاسيه، وكثرة ما تزاوله من التعب والنكد بسبب هذا الولد؛ من حمله وإرضاعه وتربيته صغيراً وإزالة الأذى عنه والقيام عليه والسهر وغير ذلك، فإذا كبر واستغنى يصبح كما قال القائل: أعلمه الرماية كل يوم فلما اشتد ساعده رماني فإذا استغنى وكبر يقابل الوالد بالقسوة والعنف والمعصية والعقوق والأذى، بل ربما باللعن والشتم، فهذا هو الملعون الذي لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا لعن الله إنساناً فإنه طريد بعيد من رحمة الله جل وعلا، وسوف يلاقي جزاءه يوم القيامة، وهو عذاب الله نسأل الله العافية.(40/8)
المُحْدِث ملعون
قوله: (ولعن الله من آوى محدثاً) الإيواء هو: الحماية، آواه إذا حماه ودافع دونه أو رضي بفعله وانضم إليه وصار معه على هذا الفعل، ويقال: أويته وآويته، إذا حماه وساعده ودفع عنه ما يقصد به من إقامة حد أو إنكار منكر أو ما أشبه ذلك.
وقوله: (محدثاً) بفتح الدال وبكسرها محدَثاً ومحدِثاً، فإذا كان محدِثاً فهو اسم فاعل، يعني: الجاني العاصي هو الذي يُؤوى، وإذا كان محدَثاً فهو الحدث نفسه، فيكون معنى إيوائه: الرضا به والمدافعة عنه.
وإذا كان بالكسر فمعنى ذلك: أنه يحمي ذلك الرجل المحدث من أن يقام عليه الحد، أو أن يُنكر عليه فعله أو يزال ما يفعله، وهذا معناه أنه محادّ لله جل وعلا ولرسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه صار في حد، والله ورسوله في حد، يعني: صار في جانب، والله ورسوله في جانب، ويصبح محارباً لله جل وعلا ولرسوله.
إذاً: معنى المحاداة: المحاربة والمبارزة بالمعاصي، وإذا كان محدَثاً فمعنى ذلك: كل بدعة تبتدع في الدين، فمن رضي بها أو حماها فهو ملعون.
أما إذا كان بالكسر فمعناه: أن كل فاعل لبعض هذه الأفعال فمن حماه وآواه وساعده يكون ملعوناً، والواقع أن الحديث يعم الاثنين، يعم الحدث والمحدِث، فالذي يرضى بالحدث -الذي هو البدعة التي تبتدع في دين الله- يكون داخلاً في هذا الوعيد، وكذلك الذي يدافع عن المبتدع نفسه ويحميه ويساعده على بدعته من أجل بدعته يكون داخلاً في هذا الوعيد.(40/9)
المغير لمنار الأرض ملعون
وقوله: (ولعن الله من غير منار الأرض) المنار هو: العلامات التي يستنار بها يعني: يستدل ويهتدى بها، فهي المراسيم التي توضع لتميز حق هذا من حق هذا، فمن غيرها لأجل أن ينفع واحداً ويضر الآخر أو يزيد في حق هذا من حق هذا فهو ملعون.
وكذلك تطلق على العلامات التي توضع على الطرق ليهتدي بها المسافر والسائر في الطريق، فالذي يغيرها بأن يزيلها داخل في هذا الوعيد؛ لأن هذا من منار الأرض وعلاماتها التي يهتدى بها، فإذا كان من صنع ذلك يكون ملعوناً وهو لا يتعلق بحقوق الناس فكيف بما يتعلق بدين الله؟! ومن هذا ما يفعله بعض الفسقة الذين يتولون -مثلاً- سجلات أو يكون بأيديهم دفاتر يكتبون فيها ضبط حقوق الناس بعضهم من بعض، فإذا غيروا فيها لأجل نفع إنسان ومضرة آخر فإن هذا داخل في هذا الوعيد، وكذلك الذي يغير الوثائق التي توثق للإنسان بأن هذا حقه فيغيرها ويبدلها إما بالمسح أو يخفيها أو يمزقها أو ما أشبه ذلك فإنه داخل في هذا الوعيد؛ لأن هذا من تغيير منار الأرض؛ لأن الوثائق والصكوك من علامات الأرض التي تميز هذا عن هذا، فإذا غيرت وبدلت فإن هذا الفاعل يكون مغيراً لمنار الأرض ويكون داخلاً في اللعنة.
وقد جاء أن أظلم الناس من ظلم الناس بالناس، يعني: من ظلم هذا لأجل أن ينفع الآخر، لا لأجل نفسه، فهذا هو أظلم الناس، وقد قال بعض العلماء: إن منار الأرض يقصد بها الهداة والدعاة الذين يدعون إلى دين الله وإلى هدايته؛ لأنهم هم الذي يستنار بهم، وهم الذين يهتدى بأقوالهم وبما يدلون عليه، فإذا -مثلاً- قتلهم الجاني أو منعهم من ذلك فهو تغيير لمنار الأرض؛ لأنهم هم نجومها التي يهتدى بها؛ ولهذا جاء في الحديث: (العلماء كالنجوم التي يهتدى بها)، فإذا ذهبت نجوم السماء جاء أمر الله، وإذا ذهب العلماء من الأرض جاءها أمر الله الذي وعده الله، فإذا مُنعوا أو قُتلوا فإن المانع والقاتل داخل في هذا الوعيد، ومعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُعطي جوامع الكلم فكلامه يكون جامعاً عاماً.(40/10)
حكم لعن المعين
في هذا الحديث دليل على جواز لعن العصاة والفسقة، وقد اختلف العلماء في جواز لعن المعين منهم، أي: المعين الفاسق هل يجوز أن يلعن بعينه؟ الصواب: أنه لا يجوز، وإنما يلعنون بالعموم كما في هذا الحديث، وكما في قوله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله آكل الربا، ومؤكله، وكاتبه، وشاهديه) وكذلك لعن في الخمر عشرة: عاصرها، ومعتصرها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها، وساقيها، ومستقيها، وحاملها، والمحمولة إليه، وآكل ثمنها، ومؤكله، فكلهم ملعونون، وهؤلاء أنواع من الفسقة وليس رجلاً بعينه.
وبعض العلماء أجاز لعن الفاسق بعينه، وبعضهم منع ذلك، وذلك مثل الحجاج بن يوسف ويزيد بن معاوية ونحوهما من الظلمة الذين هم مسلمون، واختلف العلماء هل يلعنون أولا؟ فبعضهم قال: يجوز، وأكثر العلماء على أن هذا ممنوع لا يجوز، وإنما يلعنون بالعموم فيقال: ألا لعنة الله على الظالمين، وكما في هذا الحديث: (لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من لعن والديه، ولعن الله من آوى محدثاً، ولعن الله من غير منار الأرض) وهؤلاء أجناس، وليس رجلاً بعينه، ما عدا العمل الذي يدل على الكفر والخروج من الإسلام؛ لأن الخلاف في الفاسق المسلم، وليس الخلاف في الكافر المعين، أما الكافر المعين فيجوز لعنه بعينه، وإنما الخلاف في الفاسق المسلم؛ لأن المسلم لا يخرج من الدين الإسلامي بفعل المعاصي ما عدا الشرك، فالشرك هو الذي يخرجه من الدين الإسلامي، أما المعاصي فإنها لا تخرجه، ولكنها تجعله فاسقاً.(40/11)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [41]
إن الله عز وجل كما أنه يصلي على عباده الصالحين -أي: يثني عليهم- فإنه يلعن المستحقين للعن من العصاة، وقد جاء في الشرع لعن من يستحق اللعن، كمن لعن والديه أو آوى محدثاً، أو غير منار الأرض، فعلى المسلم اجتناب ما يعرضه للعن من الله تعالى وهو الطرد من رحمته سبحانه.(41/1)
حديث علي: (لعن الله من ذبح لغير الله)
قال الشارح رحمه الله: [قوله: وعن علي رضي الله عنه قال: (حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات: لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من لعن والديه، ولعن الله من آوى محدثاً، ولعن الله من غير منار الأرض) رواه مسلم من طرق، وفيه قصة.
ورواه الإمام أحمد كذلك عن أبي الطفيل قال: قلنا لـ علي: أخبرنا بشيء أسرَّه إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ما أسرَّ إليّ شيئاً كتمه الناس، ولكن سمعته يقول: لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من آوى محدثاً، ولعن الله من لعن والديه، ولعن الله من غير تخوم الأرض) يعنى المنار].
الرسول صلى الله عليه وسلم بعث إلى الناس كافة، بل بعث إلى الثقلين: الجن والإنس، فهو رسول لجميع من على وجه الأرض، والذين على وجه الأرض هم الجن والإنس، فلا يمكن أن يخص إنساناً بعينه بشيء جاء به من عند الله؛ لأنه مبلغ عن الله جل وعلا، فهو يبلغ عموم الناس، ولهذا كان إذا حدث بالحديث أعاده ثلاثا، ً ثم يقول: (بلغوا عني)، ويقول: (نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها، ثم أداها كما وعاها، فرب مبلغ أفقه من سامع) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
فالذي يعتقد أن الرسول صلى الله عليه وسلم خص قوماً دون آخرين بما يبلغه فهو ضال، ولم يشهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالبلاغ، والله جل وعلا يقول له: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:67] ولا يعترض على هذا بأنه صلى الله عليه وسلم أسرَّ إلى حذيفة، وسمي صاحب السر؛ لأن إسراره إلى حذيفة كان بأسماء أناس معينين من المنافقين، قال له: فلان منافق، وفلان منافق، وفلان منافق، وهؤلاء كانوا يخضعون لأحكام الإسلام، وكانوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم في الجهاد وفي الصلاة وفي غير ذلك، إلا أنهم أبطنوا كفراً ونفاقاً، فأخبره بذلك وقال له: لا تخبر أحداً، ولهذا كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه إذا مات الرجل ينظر إلى حذيفة هل يصلي عليه أو لا يصلي عليه؟ فإن صلى عليه حذيفة صلى عليه، وإذا لم يصل عليه امتنع من الصلاة عليه.
والسبب في هذا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما عاد من غزوة تبوك كان يسير ذات ليلة في الليل، وكان أمامه جبل وفيه عقبة فقال للمسلمين: (إني سالك في هذه العقبة فلا يسلكها أحد حتى انتهي أو أذهب) فانتهز بعض المنافقين فرصة، وقالوا: هذه فرصة لنذهب ونكمن له في عرض الجبل فإذا توسط به نفرنا به ناقته فيسقط من عليها ويموت، هكذا خططوا ودبروا فسار الرسول صلى الله عليه وسلم ومعه حذيفة يقود ناقته، ومعه كذلك عمار بن ياسر يسوقها، فلما صار في أثناء الجبل في الطريق وهو يصعد نفذوا مخططهم، وساروا في وجه ناقة الرسول صلى الله عليه وسلم، فصار حذيفة يضرب وجوه ركائبهم وكانوا متلثمين فهربوا خوفاً من أن يعرفوا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل عرفت القوم؟ قال: لا، ولكني عرفت بعض الرواحل، فأخبره بأسمائهم وقال: هم فلان وفلان وفلان وفلان، ثم قال له: لا تخبر أحداً) لأن الله جل وعلا أمره أن يأخذ علانيتهم وأن يكل سرائرهم إلى الله، فإذا قال الإنسان: آمنت وامتثل الواجبات والفروض كالصلاة والصوم والزكاة فيحكم بأنه مسلم، وإن كان مكناً في نفسه التكذيب والكفر، فالذي في القلب إلى الله.
والمقصود: أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان يسر شيئاً من الدين لأحد، ولهذا تقول عائشة رضي الله عنها: لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً لكتم قوله: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب:37] لأن هذا معاتبة له، ومع ذلك أظهره وبينه، ولم يخف شيئاً من ذلك، ولا يمكن أن يكون؛ لأنه صلوات الله وسلامه عليه أمين الله على وحيه، وهو الذي يبلغه إلى خلقه، وهو الواسطة بيننا وبين ربنا في إبلاغنا الدين، ولا يكون هذا المبلغ والواسطة إلا أميناً صادقاً حتى لا يكتم شيئاً، وهذا هو معنى شهادة أن محمداً رسول الله، فلا يمكن أن يتحلى الإنسان بأنه يشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا إذا تيقن يقيناً أنه جاء بالدين كله من عند الله، وبلغه البلاغ المبين، ولم يكتم شيئاً، ولم يسر لأحد شيئاً من هذا الدين.(41/2)
العشرة المبشرون بالجنة
قال الشارح رحمه الله: [وعلي بن أبي طالب: هو الإمام أمير المؤمنين أبو الحسن الهاشمي ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وزوج ابنته فاطمة الزهراء، كان من أسبق السابقين الأولين، ومن أهل بدر وبيعة الرضوان، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، ورابع الخلفاء الراشدين، ومناقبه مشهورة رضي الله عنه، قتله ابن ملجم الخارجي في رمضان سنة أربعين].
العشرة المشهود لهم بالجنة هم: أبو بكر رضي الله عنه وعمر وعثمان وعلي والزبير وطلحة وأبو عبيدة وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، هؤلاء هم العشرة الذين قال فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم: (أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، والزبير في الجنة، وطلحة في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وسعد بن أبي وقاص في الجنة، وأبو عبيدة في الجنة، وسعيد بن زيد في الجنة) شهد لهم في هذا الحديث وجمعهم هكذا، ولهذا سموا العشرة المشهود لهم بالجنة، أي: الذين شهد لهم الرسول صلى الله عليه وسلم أنهم في الجنة.
وهناك غيرهم من الصحابة ممن أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنهم في الجنة، مثل: ثابت بن قيس بن شماس، فإنه لما نزل قول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2] وكان رضي الله عنه جهوري الصوت، وكان خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم أي: أنه كان إذا جاءت الوفود أمره أن يخطب عنه صلى الله عليه وسلم، فلما نزلت هذه الآية اعتزل وصار يبكي وقال: إذاً: قد حبط عملي؛ لأني أرفع صوتي فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم، فجلس في بيته، ففقده الرسول صلى الله عليه وسلم، فسأل عنه، فقيل: إنه يبكي منذ نزلت هذه الآية، وقال: إنه هو المقصود بها، فقال: (بل هو من أهل الجنة)، ثم أرسل إليه ودعاه.
وكذلك الحسن والحسين، أخبر: أنهما من أهل الجنة، وكذلك عبد الله بن عمر، وكذلك عبد الله بن سلام، وغيرهم، وهكذا أهل بيعة الرضوان أخبر الله جل وعلا أنه رضي عنهم ورضوا عنه، وكانوا ألفاً وخمسمائة، وأهل بدر كذلك، وغيرهم، بل يقول الإمام ابن حزم: الذي نعتقده ونجزم به أن جميع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة، وهم خير الناس الذين بعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم بنص أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يقول: (بعثت في خير القرون) ويقول: (خير الناس قرني الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يأتي الخلوف الذين يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، ويشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون) فجعل القرون المفضلة ثلاثة، وخيرهم قرنه ثم رتب الذين بعدهم بثم؛ لأنهم دونهم في الفضل، ثم الذين بعدهم كذلك رتبهم بثم؛ لأنهم دونهم في الفضل، والله جل وعلا أخبر عن الصحابة عموماً أنه يحبهم ويحبونه، وأنه أعد لهم جنات، كما قال الله جل وعلا: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ.
.
} [الفتح:29] إلى آخر الآية وذكر في آخرها: أنه جعلهم بهذه الصفة ليغيضوا الكفار؛ ولهذا قال الإمام مالك رضي الله عنه: كل من غاضه شأن الصحابة فليس بمؤمن، لقول الله تعالى: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29] كما أنه قال في الآية الأخرى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10] أي: من كان في قلبه غل لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس له حق في الفيء وفي المغانم.
وعلى كل حال المقصود: أن هؤلاء العشرة هم المقصودون بقوله: العشرة المشهود لهم بالجنة.(41/3)
معنى الصلاة واللعن
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (لعن الله): اللعن: البعد عن مظان الرحمة ومواطنها قيل: واللعين والملعون من حقت عليه اللعنة، أو دعي عليه بها، قال أبو السعادات: أصل اللعن: الطرد والإبعاد من الله، ومن الخلق: السب والدعاء.
قال شيخ الإسلام رحمه الله ما معناه: إن الله تعالى يلعن من استحق اللعنة بالقول، كما يصلي سبحانه على من استحق الصلاة من عباده قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا * تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} [الأحزاب:43 - 44] وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا} [الأحزاب:64] وقال تعالى: {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} [الأحزاب:61].
والقرآن كلامه تعالى، أوحاه إلى جبريل عليه السلام، وبلغه رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم، وجبريل سمعه منه، كما سيأتي في الصلاة إن شاء الله تعالى، فالصلاة ثناء الله تعالى كما تقدم، فالله تعالى هو المصلي وهو المثيب كما دل على ذلك الكتاب والسنة، وعليه سلف الأمة، قال الإمام أحمد رحمه الله: (لم يزل الله متكلماً إذا شاء)].
يقول: إن الله يصلي كما أنه يلعن، ومعنى يصلي: أي: يثني، وصلاته جل وعلا هي: ثناؤه على عبده في الملأ الأعلى، كما قال أبو العالية فيما ذكره البخاري في صحيحه، فالصلاة ضد اللعنة، فبعض عباد الله يكون قريباً إلى الله جل وعلا، متبعاً أوامره، مجتنباً نواهيه، مسارعاً في مرضاته، يحب ما يحبه، ويبغض ما يبغضه، ويحارب أعداءه، ويجاهد في سبيله.
فهؤلاء هم الذين يصلي عليهم الله جل وعلا، والله جل وعلا إذا صلى على عبده فمعنى ذلك: أنه رضي عنه، ويلزم من ذلك الرضا بفعله، وإلا فصلاته غير رضاه.
أما الصلاة من الخلق فهي الدعاء، وأصل الصلاة التي جاء بها الشرع هي الصلاة المعروفة التي تفتح بالتكبير، وتختتم بالتسليم، وتشتمل على القيام والقراءة والركوع وغير ذلك، وأصلها مأخوذ من الدعاء.
قال الله جل وعلا آمراً نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103] يعني: ادع لهم فهذا بالنسبة للخلق، ومعلوم أن الفعل يختلف بإضافته وصدوره من الخلق عما إذا صدر من الله جل وعلا، فالله جل وعلا له أفعال تخصه كما أن له صفات يختص بها، وعباده كذلك، وليس بين الله جل وعلا وبين خلقه مشابهة أو مماثلة، ولكن يجب أن يثبت لله ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز التحريف أو التأويل الذي يخرج الكلام عن مراد المتكلم.
وهذا هو طريق أهل السنة، وهو الذي يجب اتباعه؛ لأنه هو الذي دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومنهج صحابته رضوان الله عليهم، وهذا الطريق من خالفه فقد خالف سبيل المؤمنين، ومن خالف سبيل المؤمنين، وسلك غير طريقهم فالله جل وعلا يوليه ما تولى، ويصليه جهنم.(41/4)
ما أهل به لغير الله شرك وإن سمى الذابح اسم الله عند ذبحه
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (من ذبح لغير الله) قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في قول الله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} [البقرة:173]: ظاهره أنه ما ذبح لغير الله مثل أن يقول: هذه ذبيحة لكذا، وإذا كان هذا هو المقصود فسواء لفظ به أو لم يلفظ، وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه النصراني للحم وقال فيه: باسم المسيح أو نحوه، كما أن ما ذبحناه متقربين به إلى الله كان أزكى وأعظم مما ذبحناه للحم وقلنا عليه: باسم الله، فإذا حرم ما قيل فيه: باسم المسيح أو الزهرة فلأن يحرم ما قيل فيه: لأجل المسيح أو الزهرة أو قصد به ذلك أولى، فإن العبادة لغير الله أعظم كفراً من الاستعانة بغير الله.
وعلى هذا فلو ذبح لغير الله متقرباً إليه يحرم، وإن قال فيه: باسم الله، كما قد يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة الذين يتقربون إلى الكواكب بالذبح والبخور ونحو ذلك، وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبيحتهم بحال، لكن يجتمع في الذبيحة مانعان: الأول: أنه مما أهل به لغير الله.
والثاني: أنها ذبيحة مرتد.
ومن هذا الباب: ما يفعله الجاهلون بمكة من الذبح للجن، ولهذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه نهى عن ذبائح الجن)].
الإهلال لغير الله جل وعلا المقصود به: الإعلان للشيء، فيعلم أن هذا لفلان، وسواء كان ذلك قبل الذبح أو في حالة الذبح، فإنه إذا عين هذه الذبيحة وقال: هذه للشيخ الفلاني أو للقبر الفلاني أو للولي الفلاني فهذا مما أهل به لغير الله، ولو ذبحها وقال: باسم الله فإنها تكون محرمة؛ لأنها مما أهل به لغير الله جل وعلا؛ لأن الاعتبار هو بالنية والقصد وليس بالألفاظ، فالألفاظ ما تغير من المقاصد شيئاً، فإذا قصد ذلك بنيته وفعله الذي يسبق تسميته فإنه له حكم ذلك، ويكون بهذا قد ذبح لغير الله، وهذا ليس خاصاً بالذبائح، بل الأطعمة التي تعين وتوزع على أولئك العاكفين عند القبور أو على الأضرحة أو توضع في الصناديق التي تعد للنذور هي مما أهل به لغير لله، وهي من المحرمات، وفاعل ذلك يكون قد فعل شركاً أكبر، وإذا كان عالماً بهذا ومات عليه يكون خالداً في النار -نسأل الله العافية-، وإن كان جاهلاً يجب أن يتوب ويرجع إلى الله جل وعلا؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم حرم على الناس أن يفعلوا هذا، وقد كانوا يفعلونه في زمنه صلوات الله وسلامه عليه فنهاهم عنه.
فكل عمل من قول أو فعل يتعدى نفعه -مثل الصدقات والذبائح وغيرها- أو فعل يكون خاصاً به -من الدعاء والركوع والانحاء وما أشبه ذلك- يجعل لغير الله فهو شرك، ومثله الطواف ومثله الجلوس والعكوف في المكان الذي يرجى بركته، أو يجلس في مكان من الأمكنة التي يعبد فيها غير الله مثل الأضرحة وقبور الأولياء، فإذا جلس عندها طلباً للبركة فهو من العاكفين عند الأوثان؛ لأن العكوف في مساجد الله عبادة، ولا يجوز أن يكون العكوف لغير الله، يعني: طلب البركة والخير إذا قصد به التقرب فهو عبادة، كما أن الطواف في بيت الله عبادة من أعظم العبادات، وكذلك الدوران على القبور والأضرحة والأمكنة التي تعظم إذا قصد بذلك تعظيمها فهي عبادة لغير الله، وهو شرك أكبر يجعل الفاعل لهذا خارجاً من الدين الإسلامي.
والمقصود: أن هذا ليس خاصاً بالدماء التي تراق، بل هو عام لكل ما يُقرب من نذور لهذا الميت، ويرجى بها التقرب إليهم، وإن كان يسميها أصحابها تقرباً أو توسلاً أو محبة أو ما أشبه ذلك، فالأسماء لا عبرة بها، وإنما الاعتبار بالفعل الذي يفعل وإن سمي بأي اسم كان، فصاحبه له حكم المشركين الذين نزل القرآن وجاءت دعوة الرسل بالإخبار بأنهم مشركون، وأنهم إذا بقوا على هذا فإن الله برئ منهم ورسوله.
قال الشارح: [قال الزمخشري: كانوا إذا اشتروا داراً أو بنوها أو استخرجوا عيناً، ذبحوا ذبيحة خوفاً أن تصيبهم الجن، فأضيفت إليهم الذبائح لذلك.
وذكر إبراهيم المروزي: أن ما ذبح عند استقبال السلطان تقرباً إليه أفتى أهل بخارى بتحريمه؛ لأنه مما أُهلَّ به لغير الله].
وليس هذا خاصاً بالسلطان، فإذا استقبل شخص من الأشخاص بحيث يذبح له حينما يطلع تعظيماً له وتقرباً، فهذه الذبيحة مما أهل به لغير الله، وذابحها بذلك إن كان مسلماً فإنه يكون مرتداً بهذا الفعل، وذبيحته تكون حراماً؛ لأنها قد اجتمع فيها مانعان: الأول: أنها مما أُهلَّ به لغير الله، وقد نهانا ربنا جل وعلا أن نأكل مما أُهلّ به لغيره.
والثاني: أنها ذبيحة مرتد؛ لأنه ارتد بهذا الفعل.(41/5)
لعن من لعن والديه
قال الشارح: [وقوله: (لعن الله من لعن والديه) يعني: أباه وأمه، وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من الكبائر شتم الرجل والديه، قالوا: يا رسول الله! وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: نعم، يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه)].
هذا إذا كان تسبباً، وأما إذا كان بالفعل والمواجهة فهو أعظم مما إذا كان متسبباً في شتمهما، ومعلوم أن هذا يكون مضاداً لأمر الله جل وعلا ببر الوالدين، والإحسان إليهما، فإنه بهذا يضع بليغ الإساءة موضع الإحسان، فمثل هذا استحق اللعن من الله جل وعلا: (لعن الله من لعن والديه) وسواء كان الوالد أباً مباشراً أو جداً وإن علا، وإن كان جدَّ جدَّ الجد، وكذلك الأم وإن كانت أم أم أم أم فلا يجوز أن يكون الإنسان سبباً للعن والديه بفعله الذي يفعله، فإن فعل ذلك فإنه يكون ملعوناً على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.(41/6)
لعن من آوى محدثاً
قال الشارح: [قوله: (لعن الله من آوى محدثاً) أي: منعه من أن يؤخذ منه الحق الذي وجب عليه، وآوى بفتح الهمزة ممدودة أي: ضمه إليه وحماه.
قال أبو السعادات: أويت إلى المنزل وآويت غيري وآويته، وأنكر بعضهم المقصور المتعدي، وأما (مُحْدِثاً) فقال أبو السعادات: يروى بكسر الدال وفتحها على الفاعل والمفعول، فمعنى الكسر: من نصر جانياً وآواه وأجاره من خصمه وحال بينه وبين أن يقتص منه، وبالفتح: هو الأمر المُبْتَدَعُ نفسه، ويكون معنى الإيواء فيه: الرضا به والصبر عليه، فإنه إذا رضي بالبدعة وأقر فاعلها ولم ينكر عليه فقد آواه.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: هذه الكبيرة تختلف مراتبها باختلاف مراتب الحدث في نفسه، فكلما كان الحدث في نفسه أكبر كانت الكبيرة أعظم].
محدِث ومُحدَث متلازمان، فإذا أحدث الإنسان بمعنى أنه فعل المعصية التي نهي عنها، فيسمى محدثاً؛ سواء ارتكب حدّاً من الحدود التي حرمها الله، أو ارتكب جريمة في حق غيره بأن أخذ ماله أو استطال على عرضه، أو بهته بالكذب والزور وتكلم فيه بما ليس فيه، أو غير ذلك من الذنوب، سواء تعلق بحق الله، أو تعلق بحق الآخرين، وكله يصدق عليه أنه مُحْدِثٌ لأنه جاء بخلاف الشرع.
والمحدِث هو فاعل الحدث، والمحدَث هو المفعول، ولكن إذا وجد من الناس من يرضى بفعله، ويناصره عليه، ويحول بينه وبين الإنكار عليه، أو إقامة الحد أو أخذ الحق منه، فيكون هذا الذي فعل هذا مؤوياً له وناصراً له، وربما كان ذنبه وجرمه أعظم من الذي أحدث الحدث، فيكون أولى باللعن.
ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من حالت شفاعته دون حد من حدود الله، فقد ضَادَّ الله في أرضه) وإذا كان يُضَادُّه فهو يحاربه، والمحارب لله جل وعلا يكون من أبعد الناس عنه، قال تعالى وتقدس: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [المجادلة:5].
فالمقصود أن رواية الفتح ورواية الكسر متلازمتان.(41/7)
لعن من غير منار الأرض
قال الشارح: [قوله صلى الله عليه وسلم: (ولعن الله من غير منار الأرض) بفتح الميم: علامات حدودها، قال أبو السعادات في النهاية -في مادة تَخَمَ-: ملعون من غَيَّرَ تخوم الأرض، أي: معالمها وحدودها واحدها تُخْمٌ قيل: أراد حدود الحرم خاصة، وقيل: هو عام في جميع الأرض، وأراد المعالم التي يُهتدى بها في الطريق، وقيل: هو أن يدخل الرجل في ملك غيره فيقتطعه ظلماً قال: ويروى تخوم بفتح التاء على الإفراد، وجمعه تخم بضم التاء والخاء.
انتهى وتغييرها: أن يقدمها أو يؤخرها فيكون هذا من ظلم الأرض الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (من ظلم شبراً من الأرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين)، ففيه جواز لعن أهل الظلم من غير تعيين] تخوم الأرض: الشيء الذي يجعل علامة للاهتداء به، سواء كان موضوعاً علامة على الطريق الذي يسار فيه، أو علامة على أن ملك فلان ينتهي إلى هذا، أو أن هذا يفصل ملك هذا عن هذا، وكل هذا داخل في تغيير منار الأرض، وكله منار؛ لأن المنار هو الذي يستنار به ويهتدى به، سواء في السير أو في معرفة الملك.
ومن ذلك، بل أولى وأعظم منه معالم الشرع، ومن يقوم ببيانها وإيضاحها ودعوة الناس إليها، وتغيير ذلك هو الحيلولة بين من يفعل ذلك وبين أن يستفيد الناس منه، ويقوم بما يجب عليه؛ لأن هذا واجب على كل أحد، كل من علم علماً وجب عليه أن يبينه لعباد الله جل وعلا؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمرنا بالتبليغ، والله جل وعلا يقول له: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108]، فأتباعه صلوات الله وسلامه عليه لا بد أن يكون لهم نصيب من طريقته ودعوته للناس وإلى توحيد الله جل وعلا.
فالتغيير في دين الله أعظم من التغيير في الحقوق المعينة، وسبق أن قلنا: إن هذا أيضاً يدخل فيه ما يفعله بعض الفسقة الذين قد يتولون شيئاً من معالم الأرض، أو من وثائقها التي توثق بها كالصكوك والمواثيق التي يكون فيها التحديد والإشهاد والإثبات، فربما تسول لبعض الفسقة أنفسهم أن يغيروا في الكتابة تقليلاً أو تكثيراً أو إزالة أو إخفاء، فيخفون شيئاً من ذلك أو يمزقونه؛ لأجل أن ينفعوا غيرهم أو ينتفعوا؛ فهذا أيضاً من تغيير أماكن الأرض ومنارها، فهم داخلون في اللعنة.
وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاءت مثل هذا، فإنها تعم كل ما يدخل فيها من المنهيات التي تخالف الشرع؛ لأنه صلوات الله وسلامه عليه أعطي جوامع الكلم.(41/8)
حكم لعن الفاسق
قال الشارح: [وأما لعن الفاسق المعين ففيه قولان: أحدهما: أنه جائز اختاره ابن الجوزي وغيره.
والثاني: لا يجوز واختاره أبو بكر عبد العزيز وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمهما الله].
ذكر أنه اختار القول الأول في المسألة رجلاً، والثاني رجلين، ومن عادة العلماء أنهم يذكرون جزئيات فقط، وإلا فالمسألة معروفة ومشهورة، والذين تكلموا فيها كثيرون جداً، ولكن هكذا كانت عادة العلماء، فإنهم يشيرون إلى رءوس المسائل فقط، ثم على طالب العلم أن يبحث عن ذلك.(41/9)
حديث: (دخل الجنة رجل في ذباب)
قال المصنف رحمه الله: [وعن طارق بن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (دخل الجنة رجل في ذباب ودخل النار رجل في ذباب، قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟! قال: مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئاً، فقالوا لأحدهما: قرب! قال: ليس عندي شيء أقرب.
قالوا له: قرب ولو ذباباً، فقرب ذباباً فخلوا سبيله فدخل النار، وقالوا للآخر: قرب! فقال: ما كنت لأقرب لأحد شيئاً دون الله عز وجل، فضربوا عنقه فدخل الجنة) رواه الإمام أحمد].
هذا من الأمور العجيبة! فالذباب من أخس الحيوانات وأحقرها، ومع هذا يكون سبباً لدخول رجل النار، ويكون سبباً لدخول آخر الجنة، فهذا يستغرب إذا سمع، ولكن إذا ذكر الحديث كله تبين أن المراد بذلك أعمال القلوب، وليست أعمال الجوارح، فإنه يدل على أن العمل مبناه على ما يقر في القلب وما يقصده الإنسان.
وهذا الحديث رواه الإمام أحمد في كتاب الزهد، ورواه أبو نعيم في الحلية وغيرهما، وجاء مرفوعاً كما في كتاب الزهد عن طارق، وقد اختلف في صحبته، والصواب أنه صحابي، واختلف في سماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو داود وغيره: إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولكنه لم يسمع منه، فإذا كان قد رآه فهو صحابي، وإذا كان لم يسمع فيكون حديثه مرسل صحابي ومراسيل الصحابة لا خلاف في قبولها؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم كلهم عدول بتعديل الله إياهم وبتعديل رسوله صلى الله عليه وسلم لهم، فليسوا بحاجة إلى نظر الناس، فيجب قبول قول الله جل وعلا فيهم، ويجب أيضاً أن يعرف الإنسان الميزة التي امتازوا بها عن غيرهم، وهي كونهم صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشاهدوه، وتلقوا العلم والإيمان منه صلوات الله وسلامه عليه.
وكذلك كونهم جاهدوا معه، وامتثلوا ما أمرهم به، بل أصبحوا يتسابقون في طاعته، ويتفانون في ذلك.
ثم إن هذا فيما يظهر كان في بني إسرائيل، والرسول صلى الله عليه وسلم كان كثيراً ما يحدث عنهم، وبنو إسرائيل كان فيهم عجائب، وذكر هذا الحديث لبيان عِظَمِ التوحيد، وعظم حق الله جل وعلا، وعظم قدر الشرك، وأنه وإن كان العمل فيما يقدمه العامل غير مقصود وغير مراد وغير منتفع به، لكن النظر إلى عمل القلب الذي انطوى عليه، ونيته التي نواها؛ لأنه لا شيء ينتفع به أصحاب الصنم من تقريب الذباب، ولا صنمهم ينتفع، وإنما قصدوا بذلك النية التي تكون في القلب.
أما الذباب فهو تافه لا قيمة له، ولا أحد يريده، وهذا مما يدل على أن أعمال القلوب -حتى عند الكفرة الفجرة المشركين- هي المقصودة والمرادة، وإذا الجوارح وافقت ما في القلب فهذا أمر آخر؛ لأنه قد يكون ظاهر العمل مخالفاً لما في القلب.(41/10)
الفرق بين الصنم والوثن
في هذا الحديث أن هؤلاء القوم كان لهم صنم، والصنم هو ما كان منحوتاً أو مصوراً على صورة مجسدة كصورة إنسان أو صورة حيوان، وأما الوثن فهو ما كان على خلاف ذلك كالقبر والشجرة والبناء والحجر إذا قصدت بالعبادة، فقد جاء أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعْبد) فأخبر أنه لو عبد لصار وثناً.
فكذلك القبور التي تعبد، وليس معنى عبادة القبور أن يأتي الإنسان ويضع جبهته عليها ساجداً، ويزعم أن صاحب القبر له شركة في السماوات والأرض مع الله، أو أنه يحيي ويميت؛ فإن هذا لا يعتقده مشرك من المشركين السابقين، وإنما عبادتهم لأصحاب القبور أنهم يزعمون أنهم يشفعون لهم عند الله بدون إذنه، بل لو دعاهم وقال: اشفعوا لي بإذن الله فإن هذا يكون من الشرك الأكبر؛ لأن الشفاعة تُطْلَبُ من الله.
والمقصود أن الوثن يطلق على ما لا صورة له إذا كان معبوداً، والصنم يطلق على ما كان مصوراً على شكل إنسان أو حيوان أو ما أشبه ذلك، وقد يطلق كل واحد على الآخر، فيسمى الصنم وثناً، والوثن صنماً، فهي إطلاقات تتعاقب، وقد جاء في القرآن ما يدل على ذلك.
وعلى كل حال هذا الكلام في اللغة، وإذا جاء في القرآن ما يدل على أن الوثن يسمى صنماً، والصنم يسمى وثناً، فالقرآن جاء باللغة العربية، فيكون ذلك دليلاً على أن ذلك موجود في اللغة التي جاء بها كتاب الله جل وعلا.(41/11)
يقع الشرك بالقربان لغير الله ولو بذباب
في هذا الحديث أنه لم يكن لهذا الإنسان مُخْلَصٌ من العبور إلا بأن يقدم لصنمهم الذي يدعون إليه القربان، فظن أنه إذا قال: ليس عندي شيء أقربه أنه يتخلص بذلك، فقالوا: قرب ولو ذباباً، فأرادوا منه صورة الفعل، وإلا الذي يقصد منه عمل القلب، أي: العبادة القلبية، ورضوا بهذا، ففعل ذلك تخلصاً منهم، وظاهر الحديث يدل على أنه كان مسلماً؛ إذ لو لم يكن مسلماً ما حسن أن يقال: دخل النار في ذباب، ولقال: دخل بكفره، أي: السابق، فلما جعل دخوله النار بسبب هذا الفعل، دل هذا على عظم الشرك، وأنه وإن كان قليلاً -مرة واحدة- ثم مات عليه صاحبه أنه يكون من أهل النار، وقد مضى في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (من لقي الله يشرك به شيئاً دخل النار، ومن لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة)، فهذا مثله.(41/12)
الأخذ بالعزيمة والصبر على الموت في سبيل التوحيد
في الحديث أن أهل التوحيد يعرفون قدر الشرك وقدر التوحيد؛ فلهذا صبر هذا الرجل على إزهاق نفسه ولم يقرب ذباباً، وإن كان بإمكانه أن يقرب ظاهراً مع كون قلبه مطمئناً بالإيمان، وقد جاء أن مثل هذا يكون معذوراً، قال تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} [النحل:106] لكنه اختار أن يقتل ولا يكون فعله موافقاً للشرك، ولو في الصورة الظاهرة فقط؛ لأنه يعلم عظم الشرك عند الله جل وعلا، ويعلم عظم الإخلاص والتوحيد لله جل وعلا، ولهذا جازاه ربه جل وعلا بأن أدخله الجنة.
وقد يقال: أليس مأذوناً لمثل هذا أن يوافق في الظاهر؟ فنقول: نعم.
ولكن لا يلزمه أن يوافقهم في الظاهر وإن كان قلبه مطمئناً بالإيمان، بل إذا صبر فقد أخذ بالعزيمة وذلك أفضل، والظاهر في شرع من قبلنا أنه ليس من دينهم العفو على الإكراه، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروى عنه: (عفي عن أمتي: الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) فقوله: (أمتي) يدل على أنه لم يعف لغيرهم، وإنما هذا من خصائصهم.
وهذه الأمة لها خصائص لا توجد لمن كان قبلهم كما هو معروف عند أهل العلم، وهو ظاهر في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والمقصود بهذا أن يبين عِظَم الشرك، وكذلك عظم ثواب التوحيد، وكذلك عظم قدر الشرك في قلوب عباد الله المؤمنين الذين عرفوا قدر الله وعظموه، فيصبر أحدهم على القتل وإن كان بإمكانه أن يتخلص بدون أن يكون مشركاً، إلا أنه اختار أن يموت، ولا يوافقهم ولو في صورة الفعل الظاهرة.(41/13)
تعريف الصحابي
قال الشارح: [قال ابن القيم رحمه الله تعالى: قال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا أبو معاوية قال: حدثنا الأعمش عن سليمان بن ميسرة عن طارق بن شهاب يرفعه قال: (دخل رجل الجنة في ذباب) الحديث.
وطارق بن شهاب: هو البجلي الأحمسي أبو عبد الله رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو رجل.
قال البغوي: نزل الكوفة، وقال أبو داود: رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يسمع منه شيئاً، قال الحافظ: إذا ثبت أنه لقي النبي صلى الله عليه وسلم فهو صحابي، وإذا ثبت أنه لم يسمع منه فروايته عنه مرسل صحابي وهو مقبول على الراجح، وكانت وفاته ـ على ما جزم به ابن حبان ـ سنة ثلاث وثمانين].
تعريف الصحابي على القول المختار: هو من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على ذلك، وإن لم يرو عنه، فمن لم يلقه في حياته فإنه لا يكون صحابياً وإن آمن به، وهذا الذي يقال فيه: مخضرم، أي: أنه أدرك الجاهلية والإسلام ولكنه لم يلق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وخرج بقوله: (مؤمناً به) الذين التقوا به وهم غير مؤمنين به، فلا يكونون صحابة.
وخرج بقوله: (ومات على ذلك) من لقيه وآمن به ثم ارتد، ومثل هذا لم يقع في الصحابة إلا لاثنين أحدهما رجع، والآخر مات كافراً، وكذلك جاء في حديث ضعيف أنه وقع ذلك أيضاً لرجل ثالث.
إذاً: كل من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مؤمن به فهو من الصحابة، وقد رآه خلق كثير، ولا سيما في حجة الوداع فقد كانوا كثيرين جداً، قال أبو زرعة: إن الصحابة الذي توفي عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من ثلاثمائة ألف؛ مع أن الذين سجلوا وحاول العلماء معرفة أسمائهم ما زادوا عن اثني عشر ألفاً، فليس كل الصحابة لهم أحاديث رويت وعرفت أسماؤهم.(41/14)
دخول رجل الجنة في ذباب
قال الشارح: [قوله: (دخل الجنة رجل في ذباب) أي: من أجله.
وقوله: (قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله!) كأنهم تقالوا ذلك وتعجبوا منه، فبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم ما صير هذا الأمر الحقير عندهم عظيماً يستحق هذا عليه الجنة، ويستوجب الآخر عليه النار].
قوله: (دخل رجل النار في ذباب)، (في) هنا سببية، ومثلها ما جاء في الحديث الصحيح: (دخلت امرأة النار في هرة)، أي: بسبب هرة ربطتها حتى ماتت، لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (فرأيتها في النار والهرة تخمش وجهها بسبب ذلك).
قال الشارح: [قوله: (مر رجلان على قوم لهم صنم)؛ الصنم ما كان منحوتاً على صورة ويطلق عليه الوثن كما مر.
وقوله: (لا يجاوزه) أي: لا يمر به، ولا يتعداه أحد].
الوثن في الواقع كل ما صد عن عبادة الله، ويطلق عليه طاغوت، والوثن قد يكون مجسداً وقد يكون معنى من المعاني، فقد يكون مالاً، وقد يكون شخصاً، وقد يكون رئاسة، وقد يكون لعبة، أو أي شيء يتعلق به قلبه حتى يترك من أجله عبادة الله، ويصبح هذا الشيء مستولياً على قلبه، فيحبه ويعمل من أجله؛ وذلك لأن الإنسان خلق لعبادة الله، فكل ما صده عن هذه العبادة فهو وثن.
ولهذا فإن من تمام عدل الله وحكمته جل وعلا أنه إذا جمع الناس ليوم القيامة، وقاموا لرب العالمين، وقد اشتدت عليهم الأهوال، وتمنوا فصل القضاء ولو إلى النار، فيأتون إلى الأنبياء ويبدءون بسيدنا آدم عليه السلام، ويسألونه أن يشفع لهم عند الله تعالى لفصل القضاء، فيعتذر لذنبه، ويرسلهم إلى نوح، فيعتذر نوح ويردهم إلى إبراهيم، وهكذا حتى يأتوا محمداً صلى الله عليه وسلم، يقول صلوات الله وسلامه عليه: (فأذهب إلى مكان تحت العرش، فأخر ساجداً لربي، فيدعني ما شاء الله أن يدعني ساجداً، ويفتح علي من الدعاء والمحامد والثناء، ثم يقال: ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع)، وهذه هي الشفاعة الكبرى ليقضى بين العباد ويرتاحون من هذا الموقف، ثم يخاطبهم الله جل وعلا ويقول: (أليس عدلاً مني أن أولي كل واحد منكم ما كان يتولاه في الدنيا؟)، وهذا هو الشاهد؛ وعند ذلك كل من كان يعبد شيئاً فإنه يؤتى بذلك الشيء في الموقف على صورته وهيئته وحالته التي كان يعبده في الدنيا، فإن كان المعبود من عباد الله المؤمنين جيء بشيطان على صورته؛ لأن الشيطان هو الذي زين لهم ذلك ودعاهم إليه، ثم بعد ذلك يقال لهم: اتبعوا معبوداتكم فيتبعونهم إلى جهنم، فيكبكبون فيها هم والغاوون، وجنود إبليس أجمعون، فهؤلاء لا يحتاجون إلى محاسبة؛ لأنهم مشركون وكفرة، فلا يقام لهم يوم القيامة وزن.
ثم يبقى الذين يحاسبون، وهم الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، مقابل أولئك الذين يذهب بهم إلى جهنم بلا حساب، ويقابلهم طوائف من المؤمنين يذهب بهم إلى الجنة بلا حساب، وقد مر أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن من هذه الأمة سبعين ألفاً يدخلون الجنة بلا حساب.
فيبقى الذين يحاسبون، وهؤلاء هم الذين تنصب لهم الموازين كما جاء تفصيل ذلك مبيناً موضحاً في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.(41/15)
المسائل المستفادة من حديث القربان بالذباب
قال الشارح: [قوله: (قالوا له: قرب ولو ذباباً) إلى آخره، هذا بيان عظمة الشرك ولو في شيء قليل، وأنه يوجب النار كما قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة:72].
وفي هذا الحديث: التحذير من الوقوع في الشرك، وأن الإنسان قد يقع فيه وهو لا يدري أنه من الشرك الذي يوجب النار.
وفيه: أنه دخل النار بسببٍ لم يقصده ابتداء، وإنما فعله تخلصاً من شر أهل الصنم.
وفيه: أن ذلك الرجل كان مسلماً قبل ذلك، وإلا فلو لم يكن مسلماً لم يقل دخل النار في ذباب.
وفيه: أن عمل القلب هو المقصود الأعظم حتى عند عبدة الأوثان.
ذكره المصنف بمعناه.
وقوله: (وقالوا للآخر: قرب، قال: ما كنت لأقرب) إلى آخره فيه بيان فضيلة التوحيد والإخلاص].(41/16)
مسائل باب ما جاء في الذبح لغير الله
قال المصنف رحمه الله: [فيه مسائل: المسألة الأولى: تفسير قوله تعالى: {إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} [الأنعام:162] المسألة الثانية: تفسير قوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2] المسألة الثالثة: البداءة بلعنة من ذبح لغير الله.
المسألة الرابعة: لعن من لعن والديه، ومنه أن تلعن والدي الرجل فيلعن والديك].
بدأ لعن من ذبح لغير الله لأن الذابح لغير الله أعظم جرماً مما ذكر بعده، أي: أن الذبح لغير الله أعظم من لعن الوالدين، وأعظم من تغيير منار الأرض، وأعظم من إيواء المحدث، هذا المقصود بكونه بدأ به.
[المسألة الخامسة: لعن من آوى محدثاً، وهو الرجل يحدث شيئاً يجب فيه حق الله فيلتجئ إلى من يجيره من ذلك].
يعني: أن هذا فرد من أفراد الإيواء، وإلا فالإيواء أنواع كثيرة.(41/17)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [42]
حرم الله تعالى الذبح لغيره، وجعله شركاً به، وحرم أيضاً ما كان وسيلة إلى الشرك، أو كان فيه مشابهة للمشركين، حتى إنه حرّم أن يذبح المرء لله في مكان يذبح فيه لغير الله.(42/1)
قوله تعالى: (لا تقم فيه أبداً)
يقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب لا يذبح لله في مكان يذبح فيه لغير الله تعالى].
هذا من وسائل الشرك التي يجب أن تُمْنَعَ، وليس ذلك شركاً، ولكنه وسيلة قد توصل إلى الشرك، لأنه يكون فيه مشابهة المشركين، وفيه أيضاً بعث لمن كان يذبح في هذا المكان أن يذبح فيه.
والمؤلف رحمه الله تعالى أدرك أهل وقته الذين كانوا يذبحون للجن، ويجعلون مكاناً في البيت معيناً يذبح فيه للجن إذا أرادوا -مثلاً- أن يُخَلِّصُوْا من تلبس به الجني، والجن يتسلطون عليهم بذلك، وهذا من الشرك، فأراد أن ينبه على أنه لو قدر أن تاب الإنسان وأخلص دينه لله، وقد علم أن هذا المكان كان يذبح فيه لغير الله؛ فإنه لا يجوز الذبح فيه لأمرين: الأمر الأول: أنه وسيلة إلى الشرك.
الأمر الثاني: أنه مشابهة للمشركين.
واستدل على هذا بالنصوص التي سيذكرها من كتاب الله جل وعلا، وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال المصنف: [وقوله تعالى: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108]].
هذه الآية نزلت في شأن مسجد ضرار، ومسجد ضرار مسجد بناه المنافقون الذين يريدون الصد عن سبيل الله، ومقاومة دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان قرب مسجد قباء، وكان هذا في آخر حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان بأمر أبي عامر الفاسق الذي كان يسمى الراهب، فسماه الرسول صلى الله عليه وسلم: الفاسق.
فجاء المنافقون إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتجهز للخروج إلى غزوة تبوك، فقالوا موهمين للنبي صلى الله عليه وسلم والناس أنهم يريدون خيراً: قد بنينا مسجداً للمريض أو لليلة المطيرة أو الباردة لئلا يشق عليهم الذهاب إلى مسجد قباء، فنريد أن تأتي إلينا فتصلي فيه، فقال: (نحن على سفر، ولكن إذا رجعنا إن شاء الله).
فلما رجع من تبوك، وبقي بينه وبين المدينة يوم نزل القرآن في شأنه، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بعض المؤمنين ممن كانت دورهم قريباً من هذا المسجد أن يذهبوا إليه ويحرقوه على من فيه، فذهبوا سراعاً فصار بعضهم يجمع الحطب، وبعضهم يأتي بالنيران فحرقوه، والله جل وعلا يقول: ((لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا)).
ومن المعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لو قام فيه فإنما يقوم عابداً لله مخلصاً له جل وعلا، ومع ذلك نهاه أن يقوم فيه، فصار القياس أنه لو كان هناك مكان يذبح فيه لغير الله، فإنه لا يجوز للذي يذبح لله مخلصاً أن يذبح فيه لئلا يشابه أولئك، ولأنه صار مكان معصية، فالاستدلال بهذه الآية من باب القياس، وهو قياس واضح وجلي، حيث إن الله جل وعلا نهى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقوم في هذا المسجد الذي بني على الفساد، وعلى المضرة بالإسلام وأهله، فصار من معصية الله أن يقوم فيه وإن كان مصلياً لله.(42/2)
تعيين أول مسجد أسس على التقوى
قوله: ((لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ)) المقصود به مسجد قباء، فإنه هو المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم، فإن الذي خطه هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبناه المؤمنون متقين الله جل وعلا، مطيعين له، متبعين لرسوله صلى الله عليه وسلم.
وقوله: ((فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا))؛ جاء في المسند وفي صحيح ابن حبان وغيرهما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لأهل قباء: (إن الله قد أحسن الثناء عليكم في قصة مسجدكم، فما هذه الطهارة التي تتطهرون؟ قالوا: ما هو والله يا رسول الله إلا أنه كان لنا جيران من اليهود، فكانوا يغسلون أدبارهم بعد قضاء الحاجة، فرأيناهم ففعلنا مثل فعلهم، فقال: هو ذاك فعليكموه) يعني: الزموا هذا.
وأما ما جاء في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري: (أن رجلين تماريا في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم، فسألا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هو مسجدي هذا؟) فالمعنى أنه من باب الأولى، أي: فإذا كان مسجد قباء قد أسس على التقوى من أول يوم فمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى أن يكون كذلك وأحرى.
فلا ينافي ما ذكر من أن القصة في مسجد قباء؛ لأن المضارة بمسجد ضرار كانت بجواره، فالسياق وسبب النزول واضح في ذلك.
وقوله: ((وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ))، فيه دليل على إثبات محبة الله جل وعلا، وأنه يحب المتنزه من النجاسات الحسية، كما أنه يحب المتنزه من أرجاس الذنوب؛ لأن الذنوب نجاسات معنوية، والنجاسات المعنوية أعظم ضرراً من النجاسة الحسية.
يقول الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره عند هذه الآية: فيه دليل على استحباب الصلاة مع الصالحين وأهل الطهارة والنظافة؛ لأن الله جل وعلا أثنى على هؤلاء، ومن أثنى الله جل وعلا عليهم فإنه يكون محباً لهم جل وعلا.
والدليل الذي استدل به المؤلف على هذا كما قلنا: من باب القياس، وهو واضح.(42/3)
وجه الدلالة في آية مسجد الضرار على تحريم الذبح لله في مكان المعصية
قال الشارح: [قوله: باب: لا يذبح بمكان يذبح فيه لغير الله تعالى.
لا: نافية ويحتمل أنها للنهي وهو أظهر] إذا قيل: إنها نافية فهي تتضمن النهي، وقد يكون النفي الذي يتضمنه النهي أبلغ كما قال الله جل وعلا: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ} [البقرة:84] فلا في الآية لا تصلح أن تكون ناهية، وإنما هي نافية، ومع ذلك فهي أبلغ في النهي كما قال أهل البيان.
قال: [وقوله: وقول الله تعالى {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} [التوبة:108] الآية قال المفسرون: إن الله تعالى نهى رسوله عن الصلاة في مسجد الضرار، والأمة تبع له في ذلك، ثم إنه تعالى حثه على الصلاة في مسجد قباء الذي أسس من أول يوم بني على التقوى، وهي طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وجمعاً لكلمة المؤمنين، ومعقلاً ومنزلاً للإسلام وأهله].
امتثل الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الأمر، فكان يزور مسجد قباء كل سبت ماشياً وراكباً، وقد جاء في الترغيب في ذلك قوله: (من توضأ في بيته ثم خرج إلى مسجد قباء فصلى فيه ركعتين فكأنما أتى بعمرة)، وهذا أمر ينبغي أن ينتهز، فالعمرة هي الحج الأصغر، والحج بنوعيه الأصغر والأكبر، أمره عند الله جل وعلا وكبير.
وقد جاء أن من حج لله مخلصاً خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وهنا ينبغي الامتثال لأمر الله جل وعلا حيث قال: ((لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ)).(42/4)
الأماكن تكتسب الآثار السيئة بالسيئات
يستدل بهذه الآية وقصة مسجد الضرار على أن الأماكن تكتسب الآثار السيئة بالمعاصي فتكون مبغضة إلى الله، وتكون محل معصية، ويكون الجلوس والسكون فيها ممنوعاً؛ ولهذا السبب كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا مر بوادي محسر أسرع وأمر بالسرعة؛ لأن وادي محسر -الذي بين مزدلفة ومنى- هو المكان الذي أنزل الله جل وعلا فيه العذاب على أصحاب الفيل.
وكذلك لما ذهب إلى تبوك ومر بديار ثمود نهى أصحابه أن يستقوا من الماء، ومن سبقه وأخذ ماء وعجن به أمر أن يعطى العجين للبهائم وألا يؤكل، وأمرهم أن يأخذوا الماء من بئر الناقة فقط، ونهاهم أن يدخلوا تلك المساكن، وقال: (لا تدخلوا عليهم إلا أن تكونوا باكين، لا يصيبكم ما أصابهم) فهذا يدل على أن الأماكن التي نزل بها غضب تكتسب آثاراً من الغضب؛ ولهذا قال العلماء: لا يجوز سكنى تلك البلاد لهذا الحديث، فإنه يخشى على من سكنها أن يصيبه ما أصاب القوم سواءً من الأمر الظاهر الحسي، أو الأمر المعنوي من قسوة القلوب، والبعد عن الله جل وعلا، واكتساب المآثم والمعاصي حتى يكون مثل أولئك الذين كذبوا الرسل.
وهكذا مسجد الضرار يأخذ هذا الحكم، فيكون النهي مؤبداً؛ ولهذا قال: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا}؛ لأنه اكتسب الأثر السيئ من معصية أولئك.
وكذلك محل الطواغيت والأصنام ونحوها، ولا يعترض على هذا بما وقع في قصة اللات، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لما جاءه أهل الطائف مسلمين اشترطوا فيما اشترطوا عليه أن تبقى لهم اللات سنتين فأبى، ثم قالوا: سنة، فأبى، فقالوا: فتول أنت أمرها، فأرسل المغيرة بن شعبة رضي الله عنه فهدمها، ثم بنى مكانها مسجداً، وهو مسجد ابن عباس المعروف اليوم، فلا يقال: إن هذا يعارض ما سبق؛ لأن هذا لمصلحة اقتضت ذلك، لأنه لو ترك مكانها لأوشك أن تبعث مرة أخرى، فلما جعل مكانها مسجداً نسيت ونسي مكانها، وأصبح لا يعرفه إلا أهل العلم، ومحل اللات هو محل المنارة، وليس قلب المسجد.(42/5)
فضل مسجد قباء
قال الشارح: [ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة في مسجد قباء كعمرة)، وفي الصحيح: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يزور قباء راكباً وماشياً)، وقد صرح أن المسجد المذكور في الآية هو مسجد قباء جماعة من السلف منهم ابن عباس وعروة وعطية والشعبي والحسن وغيرهم.
قلت: ويؤيده قوله في الآية {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة:108].
وقيل: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لحديث أبي سعيد قال: (تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم فقال رجل: هو مسجد قباء وقال الآخر: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هو مسجدي هذا) رواه مسلم وهو قول عمر وابنه وزيد بن ثابت وغيرهم.
قال ابن كثير: وهذا صحيح، ولا منافاة بين الآية والحديث؛ لأنه إذا كان مسجد قباء قد أسس على التقوى من أول يوم، فمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق الأولى، وهذا بخلاف مسجد الضرار الذي أسس على معصية الله كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة:107] فلهذه الأمور نهى الله نبيه عن القيام فيه للصلاة].(42/6)
قصة مسجد الضرار والدلالة على تحريم الذبح في مكان المعصية
قوله: ((وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ)) الذي كان يرصد له هو أبو عامر الفاسق فإنه خرج مغاضباً ومتوعداً يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: والله لأملأنها عليك خيلاً، فذهب إلى هرقل وطلب منه أن يمده بالجيش ليقاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتله الله هناك، فمات بغيظه، والذين كانوا ينتظرونه في هذا المسجد أمرهم أن يبنوا هذا المسجد حتى يكون محلاً لهم، حتى إذا أرسل رسولاً يكون قاصداً لهذا المسجد، فيتلقون رسائله وأوامره من هذا المسجد، فهذا معنى قوله: {وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ}.
وأما كونهم يحلفون أنهم ما أرادوا به إلا الحسنى، فهذا شأن المنافقين يعتمدون على الحلف والكذب، ويسترون أعمالهم بالكذب، وقد أخبر الله جل وعلا أنهم إذا بعثوا يوم القيامة يصنعون هذا الصنيع لله جل وعلا: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [المجادلة:18] كأمرهم في الدنيا؛ وذلك أن الإنسان يبعث على الحالة التي مات عليها، من مات على حالة في هذه الدنيا بعث عليه حتى في الصفة، فالصفة التي يموت عليها يبعث عليها، وفي هيئته الباطنية التي تكون في عقيدته وإيمانه أو كفره، وكذلك هيئته الظاهرة حتى يعرفه من كان يعرفه في الدنيا، والمقصود أن الجزاء من جنس العمل، فالله جل وعلا يقابل هؤلاء بما يستحقونه.(42/7)
نهي الله لرسوله عن الصلاة في مسجد الضرار
قال الشارح: [فلهذه الأمور نهى الله نبيه عن القيام فيه للصلاة، وكان الذين بنوه جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل خروجه إلى غزوة تبوك فسألوه أن يصلي فيه، وأنهم إنما بنوه للضعفاء وأهل العلة في الليلة الشاتية فقال: (إنا على سفر، ولكن إذا رجعنا إن شاء الله) فلما قفل عليه السلام راجعاً إلى المدينة، ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعضه، نزل الوحي بخبر المسجد، فبعث إليه فهدمه قبل قدومه إلى المدينة.
ووجه مناسبة الآية للترجمة: أن المواضع المعدة للذبح لغير الله يجب اجتناب الذبح فيها لله، كما أن هذا المسجد لما أعد لمعصية الله صار محل غضب لأجل ذلك، فلا تجوز الصلاة فيه لله، وهذا قياس صحيح يؤيده حديث ثابت بن الضحاك الآتي].
قد يقال مثلاً: الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يصلون في كنائس النصارى، ومن المعلوم أن كنائس النصارى فيها من الصور والصلبان ما هو معبود من دون الله جل وعلا.
ونقول: نعم.
ولكن ما كانوا يصلون في الكنيسة التي فيها الصور أو فيها الصليب حتى يخرجوه أو يمزقوه، والكنائس تكون محلاً للعبادة، وكذلك البيع بنيت لعبادة الله جل وعلا إلا أن الشرك طرأ عليها، وإذا كان الشرك طارئاً فإنه يزال، وإن كان هؤلاء يتعبدون بضلال وشرك، فالأصل في دينهم أنه حق، ولكن غيروا وبدلوا بعد رسولهم الذي بعث إليهم وهو عيسى عليه السلام، فهذه الأماكن تفارق المكان الذي اتخذ للشرك محضاً، ولا تكون مماثلة له.(42/8)
الثناء على طهارة أهل قباء
قال الشارح: [قوله: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة:108] روى الإمام أحمد وابن خزيمة وغيرهما عن عويم بن ساعدة الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم في مسجد قباء فقال: (إن الله قد أحسن عليكم الثناء بالطهور في قصة مسجدك)].
هذا يدل على أن الصحابة ما كانوا يعرفون الاستنجاء بالماء، ولهذا قال كثير من الفقهاء إن الاستنجاء لم يأت به نص من كتاب الله، وإنما جاءت هذه الأشياء فيما بعد، لا سيما وهذه القصة في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كانوا يستجمرون بالحجارة، ولهذا جاء الأمر بالاستجمار كثيراً ولم يأت الاستنجاء، والاستنجاء هو إزالة النجو بالماء.
والماء لا شك أنه أبلغ إزالة، ولكن إذا اقتصر الإنسان على إزالة أثر الخارج بالحجارة، أو ما هو مماثل للحجارة، فهذا جائز باتفاق العلماء، ولا يلزمه أن يتبع أثر ذلك بالماء، وإنما يكون هذا فضل؛ لأن الله أثنى على هؤلاء، ويكون فيه مبالغة في الطهارة.
ومعلوم أن الحجر يترك أثراً لا يزيله إلا الماء، ولكن هذا الأثر معفو عنه؛ لأنه أزال الشيء الذي يستطيع إزالته، وبقي الشيء الذي لا يزيله إلا الماء، فلو صلى بالاستجمار وإن كان الماء عنده فصلاته صحيحة باتفاق العلماء.
فعلى هذا يستحب للإنسان أن يجمع بين الحجارة والماء إذا أمكن، وإذا اقتصر على أحدهما فهو جائز.
قال الشارح: [قال رسول الله (فما هذا الطهور الذي تطهرون به؟ فقالوا: والله يا رسول الله ما نعلم شيئاً إلا أنه كان لنا جيران من اليهود فكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط فغسلنا كما غسلوا) وفي رواية عن جابر وأنس: (هو ذاك فعليكموه) رواه ابن ماجه وابن أبي حاتم والدارقطني والحاكم.
قوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108] قال أبو العالية: إن الطهور بالماء لحسن، ولكنهم المتطهرون من الذنوب].
أي: فهذا من باب الأولى كما مضى في حديث أبي سعيد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (هو مسجدي هذا) فمسجد الرسول صلى الله عليه وسلم أولى أن يوصف بأنه أول مسجد أسس على التقوى من أول يوم؛ وهذا مثله، فإن الطهارة من الذنوب هي المقصودة، ولكن واضح أن الآية للتطهر الحسي من الخارج من البدن، والله يحب من تطهر لذلك وتنظف، ولكن كونه يتطهر من الذنوب أولى بأن يحب، فهذا كقوله جل وعلا: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197] تزودوا: أي: بالطعام والشراب الذي تحتاجونه في سفركم، أمرهم بالتزود ثم نبه أن زاد التقوى خير وأفضل، وهذا كثير في القرآن وفي أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وكلام السلف.(42/9)
إثبات صفة المحبة والرد على من أنكرها
قال الشارح: [وفيه إثبات صفة المحبة خلافاً للأشاعرة ونحوهم].
المحبة من صفات الله جل وعلا، وهي ثابتة من الجانبين، أما من جانب العبد فهو أمر لا بد منه، فالذي لا يحب الله لا يكون مسلماً أصلاً؛ لأن (لا إله إلا الله) مبنية على التأله؛ بأن يكون الله هو المألوه الذي يألهه القلب ويحبه ويخافه وينيب إليه ويخضع له ويذل له، فلا بد من محبة العبد لربه، وهذا أمر معلوم من الدين الإسلامي بالضرورة، والعجيب أن الأشاعرة ونحوهم من أهل البدع ينكرون المحبة من الجانبين: من جانب العبد ومن جانب الرب.
أما من جانب العبد فيقولون: إن المحبة لا تكون إلا للمجانسة، فلا يحب الإنسان إلا من هو مجانس له.
وأما من جانب الرب فهم يقولون: إنها تدل على الفقر؛ لأن الحب هو الميل إلى الملائم، والله جل وعلا لا يكون محباً لشيء يميل إليه فيلائمه؛ لأنه الغني، ولأنه ليس له نظير أو مثيل، فهذه شبهتهم التي نسوا بها ما دل عليه كتاب الله بل ما جاء به الإسلام ضرورة، وهي شبه لا أصل لها في الدين الإسلامي.
والجواب عنها أن يقال: العبد عبد، ومعنى عبد أنه معبد، والعبادة هي الذل والخوف والخضوع والذل، وذلك لا بد أن يكون متضمناً للحب، وهذا هو التأله، والذي لا يوجد عنده تأله لا يكون عابداً لله جل وعلا، أي: أن الذي لا يكون محباً لله لا يكون عبداً لله جل وعلا.
وأما أنها تكون للمجانسة فهذا لا يلزم، والعبد فقير لله جل وعلا لا ينفك فقره عنه، وإذا لم يعبد ربه ويحبه فإن في ذلك شقاءه وعذابه.
وأما كون محبة الرب جل وعلا هي الميل للشيء الذي يريده، فهذا وصف محبة العبد لا محبة الرب.
أما محبة الله جل وعلا فهي محبة تليق به كما أن محبة العبد تليق به، ولا يمكن أن تكون صفة الله جل وعلا مماثلة لصفة المخلوق؛ لأن الله جل وعلا ليس له مثيل ولا شبيه في ذاته فكذلك صفته، فإن الصفة تتبع الموصوف.
فالعبد صفته تليق به، وصفة الله جل وعلا تليق به، هذا لو قلنا بمقتضى القياس والعقل الذي يحتجون به، مع أنه يجب أن نقول بما قاله الله جل وعلا وقاله رسوله وإن خالف العقل، والذي يقوله الله جل وعلا ويقوله رسوله لا يخالف العقل، بل العقل متفق معه.
فالمحبة من الله جل وعلا ليست للافتقار ولا للحاجة، ولكنها تكرم وجود وفضل يتفضل به على عباده.
ومثل ذلك سائر الصفات، فالأشاعرة مع إثباتهم للأسماء والصفات يؤولونها، وتأويلها إنكار لها، لأنهم يثبتون لفظها ثم يتأولونه فيقولون: المحبة معناها محبة الطاعة، ومعنى أن الله جل وعلا يحب العبد: أنه يريد منه الطاعة، فيجعلون المحبة هي الثواب أو إرادة الثواب، فمرة يؤولونها بالإرادة، ومرة يؤولونها بشيء مخلوق وهو الجزاء الذي يعطاه العبد.
أما أن تكون صفة يتصف بها الله جل وعلا فهذا ينكرونه، ومعلوم أن هذا أمر حادث لم يقله به أحد من السلف، ولا يجد الإنسان على هذا أي دليل من كتاب الله، ولا من أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما بنوه على التواطؤ الذي تواطئوا عليه، والمذهب الذي تلقاه بعضهم من بعض، فبه نفوا معاني كلام الله، ومعاني كلام رسوله صلى الله عليه وسلم.(42/10)
التأويل مخالف لظاهر الخطاب الشرعي ولم يأت ما يوافقه من كتاب ولا سنة
من المعلوم أن الله خاطب الناس باللغة التي يعرفونها ويتخاطبون بها، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم بين لهم البيان الذي أمره الله جل وعلا به، ولم يأت لا في حديث صحيح ولا في حديث ضعيف أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ليس المراد بالمحبة أو بالفرح أو بالضحك أو بالنزول أو بالاستواء أو ما أشبه ذلك، ظاهره، وإنما المراد أمر آخر.
ولو كان الذي أراده الله جل وعلا غير الظاهر لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله جل وعلا يقول له: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} [المائدة:67] وقد بلغ صلوات الله وسلامه عليه.
ولهذا اتخذ السلف هذه الآية قاعدة يردون بها كل بدعة، فكل ما لم يبينه الرسول صلى الله عليه وسلم فهو بدعة مردود على قائله، وهذا أمر واضح وظاهر.(42/11)
كثرة النصوص المثبتة للصفات
وكما أنه جل وعلا له وجه وله عينان وله يد وله رجلان، وغير ذلك مما أثبته الله جل وعلا لنفسه، وليس كمثله شيء، فقد جاءت النصوص الكثيرة التي تثبت هذه الصفات، يقول الله جل وعلا: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67]، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله يأخذ السماوات بيمينه والأرض بشماله فيهزهما ويقول: أنا الجبار أين المتكبرون؟ أين الجبابرة؟).
وفي الصحيحين: أن يهودياً من أحبار اليهود جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: (يا محمد! إن الله يوم القيامة يضع السماوات على أصبع، والأراضين على أصبع، والجبال على أصبع، والشجر على أصبع، وسائر خلقه على أصبع، ثم يهزهن ويقول: أنا الملك أنا الملك أين ملوك الأرض؟ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، ثم قرأ قول الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67]).
أما ما يقوله أهل البدع فإنه مردود عليهم بكتاب الله جل وعلا وبما بلغه رسول الهدى صلوات الله وسلامه عليه عن ربه جل وعلا.
وقد كان صلوات الله وسلامه عليه يخطب على المنبر وفي المجامع بذكر صفات الله جل وعلا، كان يخطب يوماً فقال: (إن الله ينظر إليكم أزلين قنطين، فيظل يضحك يعلم أن فرجكم قريب، فقام إليه رجل أعرابي كان حاضراً فقال: يا رسول الله! أويضحك ربنا؟ قال: نعم، قال: إذاً: لن نعدم خيراً من رب يضحك) فلم ينكر عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، بل أقره على هذا، وهذا كثير جداً في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والرسول صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين يقول: (لله أشد فرحاً بتوبة عبده التائب من أحدكم تضل راحلته عليها متاعه وطعامه وشرابه في أرض دوية، فيطلبها فييئس من وجودها، ثم يأتي إلى شجرة يقول: أموت تحت هذه، فيضع رأسه ينتظر الموت، وبينما هو كذلك إذا راحلته واقفة على رأسه، فيأخذ بخطامها ويقول: اللهم أنت عبدي، وأنا ربك!! أخطأ من شدة الفرح!).
أما ما ذكره بعض الناس أن الإمام مالكاً رحمه الله كان يكره أن تذكر الصفات عند العوام فهذا باطل، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم هو معلم الخير وهو القدوة، وهو الذي كان يبلغ هذه الصفات ويجب أن يقتدى به، ومع ذلك يجب أن ينفى عن الرب جل وعلا توهم الجاهلين والكاذبين.(42/12)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [43]
لقد مدح الله سبحانه وتعالى الموفين بالنذر في كتابه الكريم فقال: (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا) ولا يمدح الله سبحانه وتعالى إلا ما هو عبادة شرعاً؛ ولهذا فلا يجوز صرف النذر لغير الله سبحانه، والنذر سواء كان مجازاة أو إبراراً تترتب عليه الأحكام الخمسة: الحرمة والكراهة والإباحة، والوجوب والاستحباب.(43/1)
بعض الأحكام المتعلقة بالنذر
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال: نذر رجل أن ينحر إبلاً ببوانة فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قالوا: لا، قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قالوا: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم) رواه أبو داود وإسناده على شرطهما].
هذا الحديث نص في المسألة التي بوب عليها، وهو أن هذا الرجل أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره أنه نذر أن ينحر إبلاً ببوانة، وبوانة: هضبة، يقول بعض أهل الغريب: إنها في أسفل مكة، ويقول أبو السعادات بن الأثير: إنها تقع شمال ينبع، وهي المعروفة إلى اليوم بهذا الاسم، تقع بين ينبع وبين أملج على ساحل البحر، ولا تزال تعرف بهذا الاسم بوانة، وهي المقصودة في هذا الحديث، وهذا عين هذا المكان؛ لأنه عين أن يذبح هذه الإبل في هذه الهضبة.(43/2)
متى يجب الوفاء بالنذر
جاء في رواية أنه نذر إن ولد له مولود ذكر أن يذبح على بوانة خمسين رأساً من الغنم، أو قال: من الإبل، وأنه أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستفتيه في حجة الوداع، يعني: في آخر حياته صلوات الله وسلامه عليه، فقال: (هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية؟) والوثن: عام في كل ما يعبد من دون الله سواء كان ميتاً أو كان حجراً أو غير ذلك، يعني: كان قبراً أو شجراً أو حجراً أو غير ذلك، وسبق بيان الفرق بين الوثن والصنم: فالصنم ما كان على صورة حيوان أو إنسان، وأما الوثن: فهو أعم سواء كان شجراً أو حجراً أو قبراً أو غير ذلك، وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) فقوله: (هل كان فيها وثن؟) عام في كل ما يعبد من دون الله، وهذا استفصال منه واستفسار، فقالوا: لا، لم يكن فيها شيء من ذلك، فقال: (هل كان فيها عيد من أعياد الجاهلية؟) العيد اسم لما يعود ويتكرر، سواء يعود بالفعل، أو يعود بالزمن، أو مكان يعاود إليه، وهذا كله جاءت النصوص به، وكلها تسمى عيداً، الأفعال مع الوقت كقول ابن عباس: (شهدت العيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) يقصد الصلاة مع الوقت.
وأما المكان فمثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا عليّ أينما كنتم) (لا تجعلوا قبري عيداً) يعني: لا تتردوا إليّ (وصلوا عليّ أينما كنتم) هذا يكون في المكان.
وأما في الزمن فمثل ما جاء أن يوم الأضحى ويوم الفطر عيد المسلمين، وكذلك يوم الجمعة يسمى عيداً، فهذا يقصد به الزمن، ولكن لا بد أن يتبعه فعل، فقوله: (هل كان فيها عيد من أعيادهم؟) يشمل هذا كله، سواء كان مكاناً يجتمعون فيه، أو كان مكاناً يعملون فيه أي: عمل من أعمال الجاهلية، سواء من الأعمال العادية أو التعبدية؛ يكون عيداً من أعيادهم، فلا يجوز أن يوافقوا على هذا، وفي هذا دليل على أنه يجب مخالفة الكفار في كل أفعالهم وأعيادهم التي يتخذونها سواء كانت عادات أو عبادات، فلابد أن يخالفوا في هذا؛ لأنه مطلوب شرعاً، ولأن النصوص دلت على هذا.
فلما ذكر له أنه لم يكن فيها وثن ولا عيد من أعيادهم، قال له: (أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم) يقول العلماء: إنه إذا جاء الحكم مذكوراً بالفاء، مرتباً على وصف سابق، فإنه يكون علة فيه، ويجب أن تتوافر تلك الصفات وإلا لا يكون الحكم ثابتاً، والحكم هنا: الوفاء بالنذر، والصفة التي ذكرت كونه لم يكن فيه وثن ولا عيد، فدل هذا على أنه لو كان فيه وثن أو عيد أنه يكون نذر معصية، ونذر المعصية الوفاء به حرام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله) (لا وفاء) هذا نفي، أي: لا يجوز الوفاء بالنذر في معصية الله.
فدل على أن الإنسان إذا خصص مكاناً لأداء النذر فيه، وكان خالياً من هذه الموانع حيث لم يكن محلاً للتعبد في الجاهلية ولو كان سابقاً ولو كان قديماً، ولو كان قد زال وذهب؛ فإن الوفاء بهذا النذر معصية، أو كان فيها عيد كالأسواق التي يترددون إليها للعب والاجتماع وما أشبه ذلك من أعيادهم التي يعتادونها، فإنه لا يجوز الوفاء بهذا.(43/3)
نذر الطاعة ونذر المعصية
النذر يكون طاعة ويكون معصية، فالنذر إذا كان طاعة وجب الوفاء به، وقد أثنى الله جل وعلا على الذين يوفون بالنذر كما قال الله جل وعلا: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان:7] اليوم الذي يخافونه هو يوم القيامة، فهو الذي يكون شره مستطيراً يعني: ظاهراً وجلياً، يخافون ذلك اليوم، وهو الوقوف بين يدي الله جل وعلا، فقرن خوفهم الذي يقتضي الإيمان باليوم الآخر بالوفاء بالنذر، فدل على أن الوفاء بالنذر عبادة، والله جل وعلا لا يثني ويمدح إلا على فعل يحبه ويرضاه، فيكون عبادة.
فالنذر إذا كان طاعة وقربة يجب الوفاء به، ولا يجوز أن يصرف النذر لغير الله جل وعلا؛ لأن النذر عبادة، وهذا معصية، وإذا كان معصية فلا يجوز الوفاء به، كأن ينذر الإنسان مثلاً أن يشرب خمراً، أو ينذر مثلاً ألا يكلم أخاه، أو ينذر مثلاً ألا يعطي فلاناً حقه أو ما أشبه ذلك، فإن هذا نذر بمعصية لا يجوز الوفاء به، بل يحرم الوفاء به.(43/4)
حكم من نذر نذر معصية
اختلف العلماء فيمن نذر نذر معصية هل يلزمه كفارة؟ الصواب أنه يلزمه كفارة يمين لحديث عائشة: (لا وفاء لنذر في معصية الله، وعليه كفارة يمين) والحديث رواه أهل السنن الأربع، وهو حديث صحيح.
القول الثاني: واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، أنه لا يلزمه شيء.
ولكن الصواب هو ما دل عليه حديث عائشة أنه يلزمه كفارة يمين إذا نذر نذْر معصية، ولا يجوز أن يفي بهذا النذر، وعليه أن يكفر كفارة يمين.
وقوله: (فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم) أيضاً إذا نذر الإنسان أن يتقرب بشيء لا يملكه فإنه لا وفاء له بذلك؛ لأنه أيضاً لا يملك ذلك، وهو في الواقع خرج عما هو مأمور به مثل أن يقول: إن شفي مريضي فعليّ أن أتصدق ببيت فلان، أو بمال فلان، أو أن أعتق عبد فلان أو ما أشبه ذلك، فهذا إذا عين المال أنه مملوك لغيره فإنه لا وفاء له بهذا النذر، وهل يلزمه كفارة مثل السابق؟ تلزمه كفارة يمين.
وإذا نذر مثلاً في شيء لا يملكه وأطلق، فقال: عليّ أن أتصدق بألف ريال إذا شفي مريضي أو قدم غائبي، أو مثلاً: إن حصل لي كذا وكذا عليّ أن أذبح ناقة، أو أن أتصدق مثلاً بألف ريال، وليس ذلك عنده، فإنه يلزمه ويكون في ذمته، إذا وجد ذلك لزمه أن يفي به، وإن لم يجده يكون ديناً عليه.
ولكن هذا لا تلزمه كفارة يمين، وإنما يكون هذا المنذور في ذمته.(43/5)
مسائل باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله
[فيه مسائل: الأولى: تفسير قوله: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} [التوبة:108].
الثانية: أن المعصية قد تؤثر في الأرض وكذلك الطاعة.
الثالثة: رد المسألة المشكلة إلى المسألة البينة ليزول الإشكال].
قوله رحمه الله: [فيه مسائل] يعني: في الباب الذي سبق مسائل في المعنى المراد من كون المكان الذي يذبح فيه لغير الله لا يجوز الذبح فيه لله جل وعلا، فذكر منها أولاً: تفسير قوله تعالى: (لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا)، والمقصود نهي الله جل وعلا لنبيه صلى الله عليه وسلم عن القيام والتعبد لله في المسجد الذي قصد به الإضرار بالمسلمين، وقصد به أن يكون محلاً لمأوى المحاربين لله جل وعلا ولرسوله، فصار ذلك المكان مكان معصية لا يقام فيه للتعبد لله جل وعلا.
وقوله: (أَبَدًا) يدل على أن هذا الحكم مستمر في هذه البقعة أبداً، وأخذ من هذا: أن المعصية تؤثر في الأماكن كما أن الطاعة تؤثر في الأماكن، ومن ذلك كون المساجد أحب بقاع الأرض إلى الله جل وعلا لتأثير الطاعة فيه.
ومنه كون البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة وآل عمران يفر منه الشيطان، ولا يدخله أبداً، وما أشبه ذلك كثير، هذا من تأثير الطاعة في المكان.
وأما كون المسألة المشكلة ترد إلى المسألة الواضحة، أو أن المسألة التي فيها إجمال ترد إلى المسألة التي يكون فيها التفصيل فهذا أخذ من قوله صلى الله عليه وسلم: (هل كان فيه وثن من أوثان الجاهلية؟ هل كان فيه عيد من أعيادهم؟) فلما أخبر أنه ليس فيه شيء من ذلك، أخبره بالحكم، وهو أنه يجب الوفاء بهذا النذر.
والمسألة المجملة هي قوله: (إني نذرت أن أنحر إبلاً ببوانة)، فهذا شيء مجمل، يحتمل أن تكون في بوانة وثن، ويحتمل أن يكون فيها عيد من أعياد الجاهلية فجاء التفصيل.
والمقصود بهذا أن المفتي يجب عليه أن يستفصل من المستفتي في كلامه؛ لأنه قد يكون هناك تفصيل، والحكم يختلف باختلاف الإجمال والتفصيل.
[الرابعة: استفصال المفتي إذا احتاج إلى ذلك.
الخامسة: أن تخصيص البقعة بالنذر لا بأس به إذا خلا من الموانع].
يعني: كون المكان يخصص بأن يذبح فيه لله جل وعلا كذا وكذا؛ جائز إذا لم يكن هناك مانع من الموانع التي فهمناها من هذا الحديث، وهكذا الصلاة، والاعتكاف، والصوم، وما أشبه ذلك له هذا الحكم إلا أنه لو نذر أن يعتكف في مسجد من المساجد غير المساجد الثلاثة فإنه لا يتعين، بل يعتكف في أي مسجد من المساجد؛ لأنه إذا كان هذا يتطلب سفراً فإن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم دل على المنع، وهو الحديث المتفق عليه: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) يعني: لا تشد الرحال لأداء العبادة (إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، ومسجد الحرام، ومسجد الأقصى) ولهذا لما سئل الإمام مالك رحمه الله عن رجل نذر أن يأتي مسجد قباء، فقال: يأتي مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ويكفي، فسئل عن رجل نذر أن يأتي المدينة، فقال: إن كان أراد الصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يلزمه ذلك وإلا لا يجوز لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد).
فالمقصود أن تخصيص البقعة بالنذر إذا كانت خالية من الموانع فلا بأس بها، وذلك جائز.
[المسألة السادسة: المنع منه إذا كان فيه وثن من أوثان الجاهلية ولو بعد زواله.
المسألة السابعة: المنع منه إذا كان فيه عيد من أعيادهم ولو بعد زواله].
العيد قد مر أنه اسم لزمن يعود ويتكرر، ويكون اسماً للمكان، ويكون اسماً للعمل، كالأعمال التي تفعل في وقت معين، والأعياد في هذه الأزمان -أعياد الجاهلية- كثيرة جداً، أصبح لكل مناسبة عيداً، وسواء سموه عيد الشجرة أو عيد المعلم، أو غير ذلك، كلها أعياد جاهلية؛ لأن الإسلام ليس فيه إلا عيدان: عيد الفطر وعيد الأضحى، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله أبدلكم بأعياد الجاهلية عيدين في الإسلام: الفطر والأضحى) فالمسلمون ليس لهم إلا هذين العيدين.
والذي يشارك في الأعياد الأخرى هو يشارك في أفعال الجاهلية مخالفاً أمر الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فيكون بذلك آثماً.
لا بأس بكون الناس يهتمون بأمر الزراعة أو يهتمون بأمر الصحة، أو يهتمون بأمور دينهم وديناهم، ولكن لا يجعل يوماً معيناً يسمى عيداً، وإنما هذا الشيء النافع يكون الاهتمام به مطلقاً؛ لأن الشيء الذي يهم المسلمين في أمر دينهم أو دنياهم أمر مطلوب منهم شرعاً، ولا يكون مخصصاً في وقت من الأوقات؛ لأن تخصيصه في وقت من الأوقات أو يوم من الأيام اتباع لأعداء الإسلام، فيكون فيه مشابهة، فيكون ممنوعاً من هذا الباب ومن هذه الناحية، فهو ممنوع من باب المشابهة، أي: مشابهة الكفار.
ومعلوم أن الإنسان إذا رأى من يوافقه في عمل من الأعمال أو في لباس وهيئة فإنه يحب الميل إليه، ويجد شيئاً من المودة له، وهذا شيء جبلت عليه النفوس، ومن هنا جاء الشرع بالنهي عن التشبه بالكفار، قال صلى الله عليه وسلم: (من تشبه بقوم فهو منهم).
[المسألة الثامنة: أنه لا يجوز الوفاء بما نذر في تلك البقعة؛ لأنه نذر معصية].
هذا إذا كان فيها وثن أو كان فيها عيد، فيصبح نذر معصية، ودل هذا على أن نذر المعصية لا يجوز الوفاء به، بل يحرم أن يفي الإنسان بنذر المعصية، إذا نذر مثلاً: أن يشرب الخمر، حرام عليه أن يفي بنذره أو نذر ألا يصلي حرام عليه أن يفي بنذره، لا وفاء بنذر في معصية الله جل وعلا.
[المسألة التاسعة: الحذر من مشابهة المشركين في أعيادهم ولو لم يقصده].
يعني: لو لم يقصد المشابهة ولو في الصورة فإنه ممنوع للمسلم أن يكون مشابهاً للكافر ولو في مجرد صورة العمل والفعل من غير أن يقصد موافقتهم في ذلك؛ لأن قوله: (من تشبه بقوم فهو منهم) عام؛ ولأن نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن التشبه بالكفار مطلق، حتى جاء النهي في العبادة، لما قيل له صلى الله عليه وسلم: (إن اليهود يصومون يوم عاشوراء، قال: لئن عشت إلى السنة القابلة لأصومن التاسع) يعني: مخالفة لهم، ومخالفتهم مطلوبة.
[المسألة العاشرة: لا نذر في معصية].
يعني: أن النذر في المعصية محرم لا يجوز، وكذلك الوفاء به.
[المسألة الحادية عشرة: لا نذر لابن آدم فيما لا يملك].
وذلك كونه ينذر شيئاً لا يملكه، كأن ينذر مثلاً أن يتصدق بمال فلان، أو بعبد فلان، أو بسيارة فلان أو ما أشبه ذلك، فهذا لا يجوز الوفاء به، وهل يلزمه بذلك كفارة؟ فيه خلاف بين العلماء، منهم من يقول: يلزمه كفارة يمين كنذر المعصية، وقد جاء الحديث في هذا، ومنهم من يقول: لا يلزمه شيء لقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (لا نذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم) ولم يذكر كفارة.
ولكن من المعلوم أنه إذا جاء حديث آخر يثبت حكماً زائداً على الحديث الذي قبله أو الحديث المروي أنه لا يكون هناك معارضة فيؤخذ بالحكم الزائد، ويبقى العمل بالجميع.(43/6)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [44]
النذر عبادة من العبادات التي لا يجوز صرفها إلا لله تعالى، ومن نذر لغير الله من ولي أو نبي أو قبر فقد أشرك بالله، وهو مخلد في النار إن لم يتب قبل موته.
والنذر أنواع منها ما هو مشروع، ومنها ما هو غير مشروع، وكفارة النذر كفارة يمين.(44/1)
النذر لغير الله وأحكامه
[باب: من الشرك النذر لغير الله] بعد أن ذكر في الباب الذي قبله أنه لا يجوز الوفاء بنذر لله جل وعلا إذا خصص له مكاناً كان يعبد فيه غير الله، أو كان فيه من طقوس الجاهلية وأوضاعهم التي كانوا يتعارفون عليها، أراد هنا أن يبين أن النذر يكون عبادة، وأن العبادة إذا صرفت لغير الله جل وعلا يكون ذلك من الشرك بالله.
وسبق أن الشرك بالله ينقسم إلى قسمين: شرك أكبر يخرج من الدين الإسلامي، وإذا مات عليه الإنسان يكون من أهل النار خالداً فيها، وإن كان يصوم ويصلي ويحج، لأن الله جل وعلا يقول: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة:72]، فأخبر جل وعلا أن الجنة حرام على المشرك بالله، وكذلك جاء في الآيات الأخرى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] فجعل مشيئة المغفرة لمن لم يشرك بالله، أما المشرك فقطع الأمر فيه قطعاً أن الله لا يغفر له.
وهذا هو أعظم الذنوب، وهو الذي جاءت الرسل تحذر منه وتخوف العباد بالنار لمن فعله، وكل رسول يأتي إلى قومه يبدأ دعوتهم بالنذارة من الشرك، ويقول: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59] فالأمر بعبادة الله نهي عن عبادة غيره، والعبادة سبق أنها تشمل كل ما أمر الله جل وعلا به ورضيه، وأحبه، أو أمر به رسوله صلى الله عليه وسلم، وكذلك ترك كل ما نهى عنه وأبغضه.
فأراد أن يبين أن النذور التي تقع من كثير من الناس في بلاد المسلمين أنها من الشرك، مثل النذور التي تقدم إلى أصحاب القبور والتي توضع عند الأضرحة، ويقال: إن هذه للولي الفلاني، وللأسف إلى الآن يستمرون على هذا الشرك في كثير من بلاد المسلمين حتى شابه الناس في بعض البلاد المشركين الأوائل الذين أخبر الله جل وعلا عنهم أنهم: {َجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ} [الأنعام:136] يعني: أنهم يجعلون من حروثهم، ومن أنعامهم نصيباً للشركاء، فما أطارت الريح من الزرع والسنابل أو غيرها إلى نصيب الأصنام والأوثان تركوه وقالوا: الله غني وهذه فقيرة.
وأما إذا كان العكس ردوه، فإذا أطارت الريح شيئاً من نصيب الأصنام إلى ما هو مجعول لله ردوه، قالوا: الأصنام فقيرة والله غني عنه.
وهؤلاء وللأسف الآن يجعلون من زروعهم نصيباً للبدوي أو غيره، بل يجعلون من أولادهم نصيباً له، فإذا تزوجت البنت مثلاً جاء بشيء من صداقها ووضعه في صندوق البدوي وقال: هذا نصيبك يا سيد بدوي! ونحو ذلك.
ويجعلون له في السنة ثلاثة موالد يجتمع فيها من الخلق ما الله به عليم، ويحصل من الفساد والاختلاط والشرك بالله جل وعلا ما هو مشاهد، ولا ينكره منكر، وكذلك غيره في بلاد كثيرة، حتى أصبح كثير من الناس لا يعرف إلا السادة، فإذا ضاقت به الضوائق، وحدثت به الحوادث اتجه إلى رفات مقبور تحت التراب، يدعوه ويتضرع إليه يقول: يا سيد فلان أنقذني! وينسى رب العالمين.
هذا ما كان شرك المشركين -شرك أبي جهل وأضرابه- يصل إليه، فشركهم أقل من هذا الشرك؛ لأنهم كانوا إذا حدثت لهم الضوائق والكربات اتجهوا إلى رب العالمين، ونسوا ما كانوا يشركون به، وإذا مسهم الضر دعوا الله مخلصين له الدين، ولكن إذا جاءت العافية، وذهبت الكربات عادوا إلى شركهم، فهذا أقل شركاً من شرك هؤلاء الذين يزعمون أنهم مسلمون.
ومن المؤسف أن العلماء يشاهدونهم ويرونهم في شركهم، وربما شارك بعضهم الناس في الشرك أو يسكت عنهم، والساكت عن الباطل كفاعله، وكل هذا من تقصير المسلمين بعضهم مع بعض.
فهم قصروا في طلب العلم، قصروا في معرفة الله، وقصروا فيما أوجب الله جل وعلا عليهم، مع أن هذا لا يعذر فيه إنسان مهما كان، لا يعذر إنسان في كونه يتجه إلى مقبور يسأله ويتضرع إليه، يقول: أنا جاهل أحتاج إلى تعليم، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان التوحيد أصل دعوته، والمسلم يجب أن يعرف ما الذي دعا إليه رسول الله، وإلا كيف يكون مسلماً وهو لا يعرف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.(44/2)
أصول الإسلام المتفق عليها
ولهذا اتفق العلماء على أن الإسلام مبني على أصول ثلاثة، وأن الذي لا يعرف هذه الأصول الثلاثة ليس مسلماً.(44/3)
معرفة العبد لربه سبحانه وتعالى
الأصل الأول: أن يعرف يقيناً أن الله هو المعبود وحده، لأن الدلائل على هذا واضحة وشاهدة في نفسه وفيما حوله من المخلوقات من السماء والأرض والنبات والجبال، والليل والنهار، والشمس والقمر، والنجوم وغير ذلك، كلها تشهد على أن الله هو الخالق، وإذا كان الله هو الخالق المدبر فيجب أن يكون هو المعبود وحده، وهذا لا يحتاج إلى أفكار وفلسفات، بل يدركه من صرف نظره إلى ذلك.(44/4)
معرفة العبد لدينه
الأصل الثاني: أن يعرف أن الدين الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هو عبادة الله وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، والحج، فيعرفه عن يقين ومعرفة في القلب ليس عن عادة وجد عليها الناس، فإنه لو وجدهم على خلاف ذلك لفعل الشيء الذي يجدهم عليه.(44/5)
معرفة العبد لنبيه
الأصل الثالث: معرفة من جاء بالدين، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس معنى معرفته أن يقول: هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم إلى آخر نسبه.
بل معرفته صلى الله عليه وسلم أن يعرف حقاً بأنه رسول فيعرفه بحالته وبآياته التي دلت على صدقه صلوات الله وسلامه عليه، بحيث لا يرتاب بأنه رسول من الرسل.
وهذه الأصول الثلاثة التي بني عليها الدين هي التي يسأل عنها الميت في قبره، كل ميت إذا وضع في قبره يأتيه ملكان فيسألانه عن هذه الأمور الثلاثة، فدل هذا على أن الإنسان لا يعذر بالجهل في ذلك، فليس هؤلاء الذين يعملون هذه الأعمال الشركية معذورين في أفعالهم كما يقوله من يقوله، لأن هذا أمر ظاهر وواضح، وقد قال الله جل وعلا: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف:172 - 173] فإن هذا الميثاق أخذه الله جل وعلا على بني آدم كلهم، وهم في صلب أبيهم، استخرجهم كأمثال الذر، ثم استشهدهم فشهدوا أن الله ربهم، أي: معبودهم الذي لا يجوز أن يعبد غيره، ثم فطرهم على هذا، وصار الإنسان منهم يولد على الفطرة، وهي: الميل إلى عبادة الله وحده، مثل كونه يميل ويطلب ثدي أمه بدون أن يعلمه معلم.
كذلك دين الله! وإنما تتغير هذه الفطرة بالتعليم والتربية، إذا علم وربي على خلاف ذلك، ظهر عليه.(44/6)
أسباب الشرك في النذر
ولهذا كان الشرك من الأمور الظاهرة الجلية التي لا تحتاج إلى إقامة براهين، ولا تحتاج إلى أدلة دقيقة يعرفها العلماء، بل هو أمر ظاهر جلي فلا يعذر إنسان فيه بجهل.
ومعلوم أن الإنسان إذا سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم وجب عليه أن يتعرف على ما جاء به، كما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: (والله لا يسمع بي أحمر أو أبيض ثم لا يؤمن بي إلا أقحمه الله النار) وجعل الأمر يتعلق بمجرد السماع، وفي القرآن: {لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:19] أي: من بلغه القرآن فقد تمت نذارته، وليس البلاغ هو الفهم، وإنما البلاغ أن يسمع بالكلام فقط، فإذا سمع به فقد بلغه؛ فعليه بعد ذلك أن يتفقه.(44/7)
نذر الأموال للمقبورين في تحصيل مرغوب أو دفع مرهوب
أراد المؤلف رحمه الله أن يبين أن هذه الأمور التي تقع لكثير من الناس أنها من الشرك الأكبر الذي ينافي التوحيد نهائياً، كونهم ينذرون أموالهم للمقبورين ليتقربوا بذلك إليهم إما في تحصيل مرغوب، أو في دفع مرهوب، إذا فعلوا ذلك فقد أشركوا؛ لأن في ظنهم أن هذا الميت يتصرف، وأنه يستطيع أن ينفع ويدفع، مع أن الأمر الضروري الذي عرفه من وقاه الله جل وعلا شر الانحراف وشر الشرك أن الميت لا ينفع ولا يتصرف، بل هو مرتهن بعمله، لا يستطيع أن يستزيد حسنة واحدة، ولا أن يحط من سيئاته سيئة واحدة، وهو كذلك لا يملك شيئاً؛ لأنه ميت، فالحي أقدر منه على التصرف، وأقدر منه على النفع والضر.(44/8)
جعلهم الأمور الغيبية الخاصة بالله لغيره
الأمر الثاني: أنهم جعلوا الأمور الغيبية التي هي محض حق الله لهذا المخلوق المسكين الذي لا يستطيع أن يدفع عن نفسه الدود الذي يأكل لحمه، فهذا من الشرك الذي يجعل الإنسان إذا مات عليه من المشركين.
فهو أراد أن يبين هذا الشيء بالنذر فأثبت أولاً أن النذر عبادة في ذكر الآيات كقوله جل وعلا: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان:7] الآية تدل على الثناء على هؤلاء؛ لأنه لما ذكر أن: {الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان:5 - 6] يعني: هذه التي تمزج للأبرار تخلط لهم خلطاً يشربها أولئك الأبرار خالصة ليس فيها كدر.
ثم ذكر الثناء عليهم، فقال: (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) يعني: كان هذا عملهم في الدنيا، {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} [الإنسان:7 - 8] إلى آخره.
والله جل وعلا لا يثني على أحد إلا على فعل الواجب أو المستحب، أو ترك المحرم والمكروه، ولا يثني على أحد بكثرة أكله أو كثرة نومه أو ما أشبه ذلك، فالشيء الذي ليس عبادة لا يثني الله جل وعلا على الإنسان به، وإنما يثني عليه بما هو عبادة.
وكذلك قوله في الآية الأخرى: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} [البقرة:270] ومعنى قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} في ضمنه الجزاء أي: أنه في علم الله مدخر لكم، وسوف يجازيكم عليه.
وكذلك قوله جل وعلا: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج:29] أمر بالوفاء بالنذر، والله لا يأمر بشيء مباح، وفي الحديث المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير القرون قرني الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يأتي قوم ينذرون ولا يوفون) فهذا من القدح فيهم، (ينذرون ولا يوفون، ويشهدون ولا يستشهدون، ويظهر فيهم السمن) يعني: أنهم يرغبون في الدنيا أكثر، فيظهر السمن فيهم؛ لكثرة المشتهيات وكثرة المأكولات، ونحو ذلك.
المقصود أنه بيّن أن من أوصافهم التي يذمون عليها أنهم لا يوفون بالنذر؛ فدل على أن النذر عبادة، وأن الوفاء به مطلوب، فإذا كان الوفاء به مطلوباً فهو عبادة، فإذا تبين أنه عبادة فصرفه لغير الله جل وعلا يكون شركاً بالاتفاق، فصرف العبادة التي أوجب الله جل وعلا فعلها وأثنى على فاعلها لغيره يكون شركاً، هذا أمر متفق عليه، وهذا هو وجه الاستدلال بالآيات.(44/9)
النذر الذي يكون محرماً وشركاً
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب: من الشرك النذر لغير الله تعالى].
قال الشارح: [أي: لكونه عبادة يجب الوفاء به إذا نذره لله، فيكون النذر لغير الله تعالى شركاً في العبادة.
وقول الله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان:7] الآية دلت على وجوب الوفاء بالنذر، ومدح من فعل ذلك طاعة لله، ووفاءً بما تقرب به إليه.
وقوله: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} [البقرة:270].
قال ابن كثير: يخبر تعالى أنه عالم بجميع ما يعمله العاملون من الخيرات، من النفقات والمنذورات، وتضمن ذلك مجازاته على ذلك أوفر الجزاء للعاملين به ابتغاء وجهه.
إذا علمت ذلك: فهذه النذور الواقعة من عباد القبور، تقرباً بها إليهم ليقضوا لهم حوائجهم، أو ليشفعوا لهم، كل ذلك شرك في العبادة بلا ريب، كما قال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الأنعام:136]].
معنى: {فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ}: أنهم إذا جمعوا هذا النصيب من الحرث -الزرع- أو من التمر أو من غير ذلك، ثم حصل أنه اختلط ما جعلوه لله مع ما هو لشركائهم فإنهم يتركونه لشركائهم، ويقولون: الله غني، وإن قدر أن ما لشركائهم ذهب منه شيء لما جعلوه لله فإنهم يردونه ويقولون: الشركاء يحتاجون والله جل وعلا غني عنه.
هذا كله في زعمهم الكاذب، وإلا فالله ليس له شركاء تعالى وتقدس، وكل شيء ملك لله جل وعلا، ولكنها أوضاع وجدوا عليها آباءهم، فقلدوا آباءهم فجعلوها ديناً وهو شرك بالله، حتى في الربوبية وفي الأمور الظاهرة أشركوا مع الله جل وعلا غيره، وهؤلاء شابهوا أولئك وزادوا عليهم ما أربى على شرك المشركين القدامى بكثير.
قال الشارح: [قال شيخ الإسلام: وأما ما نذر لغير الله كالنذر للأصنام والشمس والقمر والقبور ونحو ذلك، فهو بمنزلة أن يحلف بغير الله من المخلوقات، والحالف بالمخلوقات لا وفاء عليه ولا كفارة، وكذلك الناذر للمخلوقات، فإن كلاهما شرك، والشرك ليس له حرمة، بل عليه أن يستغفر الله من هذا، ويقول ما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله).
وقال فيمن نذر للقبور أو نحوها دهناً لتنور به -ويقول: إنها تقبل النذر كما يقوله بعض الضالين- وهذا النذر معصية باتفاق المسلمين لا يجوز الوفاء به] الدهن: المقصود به الإسراج عليها بالليل، وهذه أمور بدائية كما هو معروف، يسرجون على القبور بالدهن والزيت فينذرون شيئاً للإيقاد، فينور القبر مثلما تنور المساجد، وهذا محادة لله جل وعلا، أما الآن فأصبحت مصابيح الكهرباء بدلاً عن ذلك، كما هو مشاهد الآن.
[وكذلك إذا نذر مالاً للسدنة أو المجاورين العاكفين بتلك البقعة، فإن فيهم شبهاً من السدنة التي كانت عند اللات والعزى ومناة، يأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدون عن سبيل الله.
والمجاورون هناك فيهم شبه من الذين قال فيهم الخليل عليه السلام: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء:52]].
الواقع أن المجاورين لها شياطين يريدون أكل أموال الناس، ووجدوا ناساً شبه بهائم إذا رأوا أن سوقهم قد كسد أوجدوا من الموالد الشيء المعروف، ولهذا يجعلون في السنة ثلاثة موالد، إنسان ولد في السنة ثلاث مرات، ثلاث موالد يجعلونها في السنة حتى تكثر النذور والعطايا التي تأتي من هؤلاء، وهم الذين يسحبون ما في هذه الصناديق، فالميت الرفات ما له علم بذلك، ولا يدري ماذا يجري عنده، قاصر عن هذا كما قال الله جل وعلا: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:5 - 6] لا يدرون إلا حين يحشرون، وإذا حشروا وسئلوا قيل لهم: أنتم عبدكم الناس في كذا وكذا، فهناك يتبرءون ويكفرون بعبادتهم.
أما الآن فلا يشعرون بالشيء الذي يفعلونه، وإنما هؤلاء الشياطين السدنة هم الذين يوجدون هذه الأمور حتى تدر عليهم الأرزاق، فيأكلون منها ويكونون لهم تجارات ثم يوجدون الأمور والحكايات التي تكثر لهم الأموال في هذا السبيل، وربما ابتلي الإنسان بشياطين تتسلط عليه وتثبت هذا الشرك في قلبه كما هو معروف، وكثيراً ما تحدث الأحوال الشيطانية عند القبور، فإنها تكون حاضرة تدعو إلى هذا وتزينه.
وربما يدعو الإنسان بدعاء فيبتلى فيستجاب، فيظن أن الميت هو الذي أجابه إلى ذلك؛ لأن الله جعل له عهداً؛ أنه إذا سأل شيئاً أعطيه، هكذا يقولون.
ثم ينزلون بهم حاجاتهم وفقرهم، ويسألونهم الرزق والأولاد إذا لم يكن لهم أولاد، ويسألونهم كذلك الشفاعة في الآخرة، وكل هذا ضلال، الله ما جعل بينه وبين عباده وسائط، بل الله جل وعلا أينما دعوته في أي مكان وفي أي وقت، فهو قريب منك؛ قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي} [البقرة:186] هذا شيء.
الشيء الثاني: إن الله علام الغيوب، ومطلع على كل شيء، لا يخفى عليه شيء، ولا يفوته شيء من الكلام، فليس بحاجة إلى من يوكل إليه حاجات العباد، فهذا من التشبيه الذي يكون شركاً بالله جل وعلا، وكونهم يقولون: هذا وسيلة نسأله، ثم هو يسأل لنا الله، يكون ذلك أقرب إلى الإجابة، وهذا هو أصل شرك المشركين.
على كل حال: مثل هذه الشبه لا تنطلي على المسلم، فإنها شبه شركية قديمة، جاء القرآن بإبطالها، والرسل أبطلتها وبينت بطلانها، والعقل كذلك يدل على بطلانها.(44/10)
ابتلاء الله للعباد الناذرين لغيره
قال الشارح: [والمجاورون هناك فيهم شبه من الذين قال فيهم الخليل عليه السلام: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء:52] والذين اجتاز بهم موسى عليه السلام وقومه، قال تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} [الأعراف:138] فالنذر لأولئك السدنة والمجاورين في هذه البقاع نذر معصية، وفيه شبه من النذر لسدنة الصلبان والمجاورين عندها، أو لسدنة الأبداد التي في الهند والمجاورين عندها.
وقال الأذرعي في شرح المنهاج: وأما النذر للمشاهد التي على قبر ولي أو شيخ أو على اسم من حلها من الأولياء، أو تردد في تلك البقعة من الأولياء والصالحين، فإن قصد الناذر بذلك -وهو الغالب أو الواقع من قصود العامة- تعظيم البقعة والمشهد، أو الزاوية، أو تعظيم من دفن بها أو نسبت إليه، أو بنيت على اسمه، فهذا النذر باطل غير منعقد، فإن معتقدهم أن لهذه الأماكن خصوصيات، ويرون أنها مما يدفع بها البلاء، ويستجلب بها النعماء، ويستشفى بالنذر لها من الأدواء، حتى إنهم ينذرون لبعض الأحجار لما قيل لهم: إنه استند إليها عبد صالح، وينذرون لبعض القبور السرج والشموع والزيت، ويقولون: القبر الفلاني أو المكان الفلاني يقبل النذر].
يقبل النذر يعني: أنه يحصل لهم ما أرادوا إذا نذروا، إذا مرض الإنسان فنذروا له يشفى، وإذا غاب إنسان فنذروا أن يأتي هذا الغائب جاء وما أشبه ذلك، هذا معنى (يقبل النذر)، يعني: أنه يقبل العبادة ويتصرف فيغيثهم ويعطيهم ما طلبوا، ويمنعهم مما رهبوا وخافوا، يعني: أنه يتصرف مع الله، فهذا الحجر يفعل شيئاً من ذلك، وهذا كان كثيراً جداً في نجد قبل دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، فقد كانت هناك حجارة وأشجار ونيران وكثيراً ما ينذر لها، كان بين الدرعية والعيينة غار يسمونه غار بنت الأمير، يقصدونه من كل جانب وينذرون له، ويتقربون إليه، والسبب فيه أنهم يقولون: إن بنت أمير من الأمراء سارت في هذه الطريق، فأتاها فجار يريدون نفسها، فلجأت في هذا الغار فحماها الغار، وكلها ترهات وحكايات يحكيها شيطان من الشياطين.
وفي العيينة نفسها كان هناك نخلة من النخل، وكانت المرأة إذا تأخر الزواج عنها جاءت إليه وسمت وقالت: يا فحل الفحول! أريد زوجاً قبل الحول، وإذا تأخرت الولادة أو لم يأتها ولد جاءت إليه وقالت: يا فحل الفحول! أريد ولداً قبل الحول، وهكذا! شجر وحجارة وقبور ونيران، وأشخاص يمشون على وجه الأرض، يقولون إنهم سادة، ينذرون لهم ويعبدونهم، يعني: أن شرك الجاهلية القديمة عاد إليهم، بل أكثر من ذلك.
ولكن الله طهر ذلك كله بسبب دعوة هذا الرجل جزاه الله خيراً، فإنه جاء بنور النبوة، ولهذا يقول بعض العلماء: دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب هي أثر رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قال: (رأيت مهاجرة بلاد ذات نخل، فظننت أنها اليمامة، فإذا هي يثرب) وقال: قوله: (وظننت أنها اليمامة) من أثر قوله هذا ظهور هذا الرجل في هذه البلاد، وقيامه بالدعوة التي قام بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقريباً منها هو أثر هذه الرؤية.
وعلى كل حال: لا تزال هذه الدعوة -والحمد لله- آثارها باقية وقائمة، وقد تأثر بها كثير من المسلمين في الشرق والغرب والشمال وسائر البلاد.(44/11)
أنواع النذر وأحكامه
قال الشارح: [ويقولون: القبر الفلاني، أو المكان الفلاني يقبل النذر، يعنون بذلك: أنه يحصل به الغرض المأمول من شفاء مريض، أو قدوم غائب وسلامة مال، وغير ذلك من أنواع نذر المجازاة، فهذا النذر على هذا الوجه باطل لا شك فيه، بل نذر الزيت والشمع ونحوهما للقبور باطل مطلقاً].(44/12)
نذر المجازاة
النذر أنواع منه: نذر مجازاة، وهو أن يعلق النذر على شيء يحصل له، فإذا قال: إن جاء فلان الغائب فقد نذرت لله عليّ كذا، أو إن شفي مريضي فلله عليّ كذا، فهذا يسمى نذر مجازاة؛ لأنه علقه على حصول شيء، كأنه شرْط شرطه، فإذا وجد الشرط الذي فرض وجب عليه الوفاء به إذا كان نذر طاعة.
أما إذا كان نذر معصية فلا يجوز الوفاء به مطلقاً.(44/13)
نذر التبرر
وقد يكون نذر تبرر يعني: تقرب وطاعة، كأن يقول مثلاً: لله عليّ صوم، لله عليّ حج، لله عليّ اعتكاف، فهذا أيضاً يجب الوفاء به مطلقاً، وإذا لم يستطع ذلك بقي في ذمته.
والنذر الذي جاء النهي عنه هو نذر الجزاء، أما نذر الطاعة فالله جل وعلا أمر بالطاعة مطلقاً، إذا نذر الإنسان أن يفعل طاعة وجب أن يفعلها، وليس الأمر كما قال بعض العلماء: إن الطاعة إذا لم يكن لها أصل واجب في الشرع فإنه لا يجوز النذر فيها كقول الإمام أبي حنيفة رحمه الله، فإن الحديث يدل على خلاف هذا، ومعنى ذلك أنه يقول: إذا نذر الإنسان أن يعتكف فإن هذا ليس له في الشرع أصل ثابت يجب؛ لأن الاعتكاف ليس واجباً، وإنما هو مندوب إليه، وكذلك غيره من الطاعات التي ليست واجبة في أصل الشرع، بخلاف الصلاة والصوم والحج والصدقة، فإنها في أصل الشرع واجبة.
ولكن إذا كان طاعة فكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (من نذر أن يطيع الله فليطعه) هذا مطلق، ولم يأت التفصيل فيه بأنه لابد أن يكون أصله واجباً، أو ليس أصله واجباً، بل هو حديث مطلق دل على وجوب الوفاء بالنذر إذا كان طاعة مطلقاً، وهذا هو الصواب من أقوال العلماء.(44/14)
النذر المكروه والمباح
قد يكون النذر مكروهاً: كأن ينذر مثلاً أن يطلق زوجته، فمثل هذا ينبغي له أن يكفر كفارة يمين ولا يفعل، أو ينذر مثلاً أن يذهب إلى المكان الفلاني وليس له فيه غرض معين، وليس له فيه أيضاً معصية، فمثل هذا يكون مباحاً، وإذا ذهب إليه فهو مخير بين أن يذهب إلى المكان وبين أن يكفر.
والكفارة تكون كفارة يمين: إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، هذه الأمور الثلاثة الإنسان مخير فيها، فإن لم يجد ينتقل إلى الصيام، وكثير من الناس يبدأ بالصيام أولاً وهو يستطيع أن يطعم، فهذا لا يجزئه الصيام وهو يستطيع الإطعام؛ لأن الله جل وعلا رتب الصوم على عدم الاستطاعة في الإطعام أو الكسوة أو عتق الرقبة.(44/15)
النذر المحرم
كذلك من النذر ما هو محرم، مثل إذا نذر أن يضرب فلاناً بلا سبب، أو نذر أن لا يصلي أو نذر أن يشرب خمراً أو ما أشبه ذلك، فإن هذا نذر معصية لا يجوز الوفاء به.
واختلف العلماء هل تلزم الناذر الكفارة؟ فمن العلماء من يقول: لا يلزمه شيء، ولا يجوز أن يفي به، ومنهم من قال: يلزمه كفارة يمين؛ لأنه جاء في الحديث الذي في رواية الطحاوي: (وعليه كفارة يمين) وابن القطان يقول: أنا في شك من هذه الزيادة، هل هي ثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم أم لا.
ولكن جاء في حديث آخر رواه أهل السنن أن من نذر أن يعصي الله فلا يعصه، وعليه كفارة يمين.(44/16)
النذر المستحب
وكذلك النذر قد يكون مثلاً مستحباً، وهذا في الأمور المستحبة، فالمقصود أن النذر تجري فيه الأحكام الخمسة، فيكون واجباً، ويكون محرماً، ويكون مستحباً، ويكون مكروهاً، ويكون مباحاً يستوي فعله وتركه، ونذر المجازاة هو الذي جاء النهي عنه، وأنه لا يأتي بخير، أما نذر الطاعة فلا يقال: إنه ينهى عنه، نذر الطاعة مطلوب ومأمور به، وإنما النذر المنهي عنه نذر الجزاء وذلك إذا رتب عليه حصول شيء، فإنه قد يوقع الإنسان في حرج، فالأمر كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم (النذر لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل) فهو لا يقدم حياة أحد ولا يؤخر موته، فإنه إنما يستخرج به من البخيل.
وقد يقع الإنسان في حرج كأن ينذر ثم لا يستطيع أن يفي بنذره، فيبقى آثماً في ذلك، قد ينذر مثلاً أن ينفق كذا وكذا أو ينحر كذا وكذا، ثم إذا حصل له ما علق النذر عليه يتساهل بذلك ويفعله، فيكون آثماً، هذا هو معنى النهي عن نذر الجزاء.
[ومن ذلك: نذر الشموع الكثيرة العظيمة وغيرها لقبر الخليل عليه السلام، ولقبر غيره من الأنبياء والأولياء].
وهذه أمور وهمية، وإلا فالخليل له آلاف السنين، فلا يدرى أين قبره، مثل البلد التي يسمى الآن الخليل يعبد فيها القبر، ويتقرب إليه ويقولون: هذا قبر إبراهيم خليل الرحمن، كلها أمور وهمية ليس عليها من دليل.(44/17)
حرمة نذر المعصية بالاتفاق
قال الشارح: [قوله: (في الصحيح) أي: في صحيح البخاري.
قوله: (عن عائشة) هي أم المؤمنين، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وابنة الصديق رضي الله عنهما، تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وهي ابنة سبع سنين، ودخل بها وهي ابنة تسع، وهي أفقه النساء مطلقاً، وأفضل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إلا خديجة ففيها خلاف.
ماتت سنة سبع وخمسين على الصحيح رضي الله عنها.
قوله: (من نذر أن يطيع الله فليطعه)، أي: فليفعل ما نذره من طاعة الله، وقد أجمع العلماء على أن من نذر طاعة لشرط يرجوه، كإن شفى الله مريضي فعلي أن أتصدق بكذا ونحو ذلك، وجب عليه إن حصل على ما علق نذره على حصوله.
وحكي عن أبي حنيفة: أنه لا يلزم الوفاء إلا بما جنسه واجب بأصل الشرع كالصوم، وأما ما ليس كذلك كالاعتكاف فلا يجب عليه الوفاء به.
قوله: (ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه) زاد الطحاوي: (وليكفر عن يمينه)، وقد أجمع العلماء على أنه لا يجوز الوفاء بنذر المعصية].
قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه) الطاعة: هي كل أمر أحبه الله جل وعلا وأمر به، يعني: شرعه على ألسنة رسله صلوات الله وسلامه عليهم، وقد تكون الطاعة غير واجبة على الإنسان.
والنذر: هو إلزام الإنسان نفسه شيئاً غير لازم شرعاً، وسبق أن النذر منهي عنه في الأصل، وأنه لا يغير من قدر الله شيئاً، وإنما قد يستخرج به من البخيل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد يوقع النذر الإنسان في أمر غير محمود عقباه؛ كأن يلزم نفسه -مثلاً- بنذر لله جل وعلا على حصول شيء يتوقعه، فإذا حصل تراخى وتساهل، ثم لم يوف بذلك؛ فيقع في الإثم؛ لأنه إذا نذر طاعة وجب الوفاء مطلقاً، إلا إذا نذر شيئاً لا يملكه، كأن جعل النذر بأن يعتق أو يتصدق بمال فلان، فهذا مر الحديث أنه لا نذر لابن آدم فيما لا يملك، ولكن هذا كما قال العلماء: يلزمه كفارة، والكفارة هي كفارة يمين.
ففي هذا الحديث وجوب الوفاء بالنذر إذا كان طاعة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (فليطعه) والأمر إذا جاء من الرسول صلى الله عليه وسلم حمل على الوجوب إلا أن يصرفه صارف، ولم يأت في هذا، فإذاً الوفاء بالنذر الذي هو طاعة واجب.
وأما قوله في الشطر الآخر: (ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه) فهذا يدلنا على أن الإنسان لو نذر نذر معصية أنه يحرم عليه أن يفي بنذره، فلا يجوز له أن يفي بنذره، فهذا مثال للنذر الذي يحرم الوفاء به، وهو مثل أن ينذر أن يشرب خمراً، أو ينذر أن لا يصلي، أو ينذر أن لا يكلم أخاه فلاناً بدون مناسبة، أو ما أشبه ذلك فهذا يسمى نذر معصية.
كذلك إذا نذر أن يذبح للولي الفلاني، أو أن يجعل مالاً في صندوق النذور الذي يوضع عند الضريح، فهذا نذر لا يجوز الوفاء به؛ لأنه نذر معصية.(44/18)
كفارة نذر المعصية
قال الشارح: [قال الحافظ: اتفقوا على تحريم النذر في المعصية، وتنازعوا: هل ينعقد موجباً للكفارة أم لا؟ وتقدم.
وقد يستدل بالحديث على صحة النذر في المباح، كما هو مذهب أحمد وغيره يؤيده: ما رواه أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وأحمد والترمذي عن بريدة: (أن امرأة قالت: يا رسول الله! إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف، فقال أوفي بنذرك)].
هذه المرأة نذرت لما غزا الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته إذا رجع أن تضرب على رأسه الدف، والضرب بالدف إذا لم يصحبه مزمار أو غناء أو طرب أو ذكر محاسن النساء أو ذكر مثالب الناس، أو إطراء في المدح وخروج عن الواقع فإنه يكون مباحاً، أما إذا صحب بشيء من هذه الأمور فهو يخرج من الإباحة إلى المحرم.
فلما رجع أخبرته بأنها نذرت أن تضرب على رأسه الدف إذا رجع، فقال: (أوفي بنذرك) وهذا أمر مباح.
فإذاً يدل ذلك على أن النذر يصح لأمر مباح، مثل أن ينذر أن يخرج ليتفرج في الجبال والأودية أو في البحر، وينذر مثلاً أن يأكل كذا وكذا أو ينذر أن ينام كذا وكذا في ساعة كذا في مكان كذا إذا لم يتضمن ترك واجب فإنه يكون مباحاً، فالعلماء يرون أن مثل هذا لا يلزم الوفاء به، وإنما يباح الوفاء به، ولو ترك ليس عليه شيء، ولهذا قسموا النذر إلى أقسام خمسة: واجب الوفاء به، ومحرم الوفاء به، ومستحب أن يفي به، ومكروه أن يفي به، ومباح مستوي الطرفين، ومثلوا للمباح بمثل هذا.
أما الواجب والمحرم فسبق كما في الحديث، وأما المستحب فما كان فعله مستحباً وليس لازماً، وأما المكروه فما كان فعله مكروهاً، مثل أن ينذر أن يطلق زوجته بدون مناسبة فهذا مكروه، والمكروه والمحرم عند بعض العلماء إذا لم يف به ففيه كفارة يمين، وكفارة اليمين إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فإن لم يجد ذلك انتقل إلى الصيام، فالصوم لا يذهب إليه إلا إذا لم يجد الكسوة أو الإطعام أو العتق، أما أن يصوم من أول الأمر وهو يقدر فصيامه غير صحيح ولا يكون ذلك مكفراً عن يمينه ولا عن نذره، لأنه ترك ما أمر الله جل وعلا به، فإن الله جل وعلا أمر أولاً بالعتق أو الكسوة أو الإطعام، قال: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة:89] فجعل الصيام مرتباً على عدم الوجود.(44/19)
نذر اللجاج وأحكامه
قال الشارح: [وأما نذر اللجاج والغضب: فهو يمين عند أحمد، فيخير بين فعله وكفارة يمين، لحديث عمران بن حصين مرفوعاً: (لا نذر في غضب، وكفارته كفارة يمين) رواه سعيد بن منصور وأحمد والنسائي.
فإن نذر مكروهاً كالطلاق استحب أن يكفر ولا يفعله].
اللجاج: هو أن يستلج على الإنسان نظره في العاقبة، فيكون بدون تفكير وبدون نظر في العاقبة، بل غضب غضباً أخرجه عن حاله الطبيعي العادي، إذا وقع الإنسان في مثل هذه الحالة ونذر فإنه ليس عليه شيء، ولكن يلزمه كفارة في قول بعض العلماء.(44/20)
مسائل باب من الشرك النذر لغير الله
قال المصنف: [وفيه مسائل: المسألة الأولى: وجوب الوفاء بالنذر].
النذر إذا كان طاعة يجب الوفاء به، أما إذا كان معصية فيحرم الوفاء به.
[المسألة الثانية: إذا ثبت كونه عبادة لله، فصرفه إلى غيره شرك].
وقد ثبت أن النذر عبادة فإذاً: النذر لغير الله كالنذر لولي أو لضريح أو ما أشبه ذلك، من الشرك الأكبر الذي لو مات الإنسان عليه يكون داخلاً في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] والشرك أمره عظيم، يجب أن يحذره الإنسان؛ لأن الله جل وعلا أخبر أنه لا يغفره لصاحبه قطعاً، وأن الذنوب ما عدا الشرك كلها تحت مشيئته جل وعلا، إذا شاء أن يغفرها غفرها، ولو لم يتب الإنسان منها، يعني: إذا مات عليها فإنها تكون تحت مشيئة الله جل وعلا، أما الشرك فلا بد من التوبة منه، والإقلاع عن فعله قبل أن يموت الإنسان، أما إذا مات وهو على الشرك فإن الله جل وعلا أخبر أنه لا يغفر للمشرك، وأخبر في الآية الأخرى أن المشركين مأواهم النار، وأن الجنة عليهم محرمة، وكذلك في آيات أخر أخبر أن الجنة حرام على المشرك.
فإذاً: يجب على الإنسان أن يبحث عن الشرك ويسأل عن الشرك ما هو؛ خوفاً من أن يقع فيه وهو لا يدري.
وكثير من الناس من يخفى عليه مسائل كثيرة من مسائل الشرك قد تلتبس وتخفى عليه؛ لأن الإنسان إذا ابتعد عن العلم، وعن معرفة معاني كتاب الله، ومعاني أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يتبصر في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه يجهل أشياء كثيرة من أمور دينه التي يجب أن يكون عارفاً بها.
[المسألة الثالثة: أن نذر المعصية لا يجوز الوفاء به].(44/21)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [45]
من الشرك الأكبر الاستعاذة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، ومن ذلك دعاء الجن والاستعاذة بهم، والواجب إفراد الله وحده بالدعاء والاستعاذة به وحده، ولا يعذر الإنسان في ذلك بجهله.(45/1)
من الشرك الاستعاذة بغير الله
قال المصنف رحمه الله: [باب: من الشرك الاستعاذة بغير الله تعالى].
قد سبق أنه عقد باباً قال فيه: باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله، ثم لما فرغ من ذلك قال: وكل ما أذكره في هذا الكتاب تفسير لهذا الباب، فهذا منه، يعني: أن الاستعاذة عبادة، وأنها داخلة في معنى لا إله إلا الله؛ لأن معنى لا إله إلا الله: أن تكون الألوهية لله وحده يعني: لا معبود بحق إلا الله جل وعلا، فهي تتضمن نفي العبادة عن غير الله وإثباتها لله وحده.
والاستعاذة من العبادة، وتكون مما يحذر ويخاف أمره، واللياذ يكون مما يرغب ويرجى، والمستعاذ هو الذي يعتصم به ويلتجأ إليه مما يخاف وقوعه، والله جل وعلا يقول: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] فأمر جل وعلا أن نستعيذ به، {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [الأعراف:200] فأمر أن تكون الاستعاذة به وحده، جل وعلا، وكون الاستعاذة من المخوف، واللياذ من الشيء الذي يؤمل ويرجى هذا هو ما دل عليه كلام العرب في الجملة كما قال الشاعر: يا من ألوذ به فيما أؤمله ومن أعوذ به مما أحاذره وهذا الشاعر يقول ذلك في رجل من الناس، وهذا لا يجوز أن يكون إلا لرب العالمين جل وعلا، فالعياذ الذي هو الاعتصام والالتجاء يجب أن يكون لله وحده، وكذلك كون الإنسان يرغب ويرجو ويطلب يجب أن يكون رجاؤه ورغبته وطلبه من الله وحده جل وعلا.
يجب أن يكون رجاء المسلم ورغبته وطلبه من الله وحده جل وعلا، ولهذا حرم الله جل وعلا علينا أن نسأل الناس إلا فيما اضطررنا إليه، وقد جاء في الحديث: (إن المسألة لا تحل إلا لإحدى ثلاث: رجل أصيب بجائحة اجتاحت ماله فتحل له المسألة حتى يجد قواماً من عيش، ورجل أصابته فاقة فيقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه يشهدون أنه أصيب بفاقة فتحل له المسألة حتى يجد قواماً من عيش، ورجل تحمل حمالة) يعني: يصلح بين الناس، ويتحمل مالاً في سبيل الإصلاح يدفعه لمن يصلح بينهم، فمثل هذا تحل له المسألة حتى يوفي هذا التحمل، أما ما عدا ذلك فالمسألة سحت، وهي خدوش أو خموش في وجه صاحبها، يأتي يوم القيامة وليس على وجهه مزعة لحم، وذلك لأن المسألة فيها افتقار لغير الله، وفيها التفات إلى غير الله، فجوزي الإنسان بطلبه من المخلوق بأن يأتي يوم القيامة وليس على وجهه مزعة لحم، وهي حرام كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (سحت فليستكثر أو ليستقل) وجاء أن المسألة تكون ناراً على من سأل إذا لم يكن يستحقها، كل هذا صيانة من الله جل وعلا لوجه عبده ولقلبه أن يلتفت إلى غيره أو يطلب من غيره.
إذاً: الاستعاذة والطلب الذي هو اللياذ واللوذ يجب أن يكونا بالله وحده، ولكن كون الإنسان يجهل بعض الأحكام التي يجب أن يكون عالماً بها، هل يكون ذلك عذراً له؟ في مثل هذه الأمور لا يكون عذراً له، لماذا؟ لأن التقصير منه، وإلا فالله جل وعلا قد بين، ورسوله صلى الله عليه وسلم أنذر وأعذر، ولم يترك شيئاً إلا وضحه، فيجب على المرء أن يبحث عن أمر دينه، وأن يسأل إذا كان لا يعلم، وقد قال الله جل وعلا: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، فهذا فيه وجوب المسألة لمن لا يعلم.
والمقصود: أن الاستعاذة يجب أن تكون بالله جل وعلا وحده، فمن استعاذ بغير الله فقد وقع في المحذور، وقع في الشرك كما قال الله جل وعلا: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:6]، وهذا فعل المشركين الذين أخبر الله جل وعلا عنهم بأنهم يعوذون بالمخلوق، وقد أخبر الرب جل وعلا أن المشرك لا يزداد بشركه إلا ضراً وخسراناً وبعداً عن الخير، لهذا أخبر أنهم زادوهم رهقاً، وسيأتي بيان ذلك.(45/2)
معنى الاستعاذة
قال الشارح: [الاستعاذة: هي الالتجاء والاعتصام، ولهذا يسمى المستعاذ به معاذاً وملجأً، فالعائذ بالله قد هرب مما يؤذيه أو يهلكه إلى ربه ومالكه، واعتصم واستجار به والتجأ إليه، وهذا تمثيل، وإلا فما يقوم بالقلب من الالتجاء إلى الله والاعتصام به والانطراح بين يدي الرب والافتقار إليه والتذلل له، أمر لا تحيط به العبارة، قاله ابن القيم رحمه الله].
يعني: أن الإنسان إذا انطرح بين يدي ربه جل وعلا، وعرف حقه، وأصبح ينزل كل حاجاته بالله وحده، فإنه يستغني به عن كل من سواه، ويرتفق بهذا، ويفرح فرحاً عظيماً لا يوازيه فرح الدنيا؛ لكونه عرف ربه وعبده واعتصم به ولجأ إليه، وأصبح غنياً بالله جل وعلا عن كل ما سواه، والحقيقة أن هذا هو العز المطلق، والغنى المطلق.
أما أن يكون له عز ظاهر في الدنيا، وهو منقطع عن الله؛ فهذا سوف يذهب، ولا ينفعه، وكذلك إذا كان له غنى ظاهر وهو مستغنٍ عن الله فسوف يذهب غناه ويعود فقراً، كما حكى الله جل وعلا عن الذي يؤتى كتابه بشماله يوم القيامة: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:24 - 28] كان له سلطان، وعنده مال، ولكن أصبح ماله وسلطانه عليه وبالاً، وذلك لأنه استغنى عن الله بسلطانه في الدنيا، ولأنه اعتز بذلك على عباد الله، وتطاول عليهم.
فالمقصود أن العبد لا غنى له عن ربه جل وعلا طرفة عين، فيجب أن يكون مفتقراً إليه دائماً، ويجب أن يكون لاجئاً إليه دائماً، عائذاً به، معتصماً به من شر نفسه أولاً، ومن شر الخلق الذين فيهم الشر، ومن شر كل ما فيه شر، وإذا عرف الله جل وعلا ذلك من نيته وقصده فسوف يعيذه وسوف يحميه من كل ما يؤذيه.
قال الشارح: [قال ابن كثير: الاستعاذة هي الالتجاء إلى الله، والالتصاق بجنابه من شر كل ذي شر.
والعياذ يكون لدفع الشر، واللياذ لطلب الخير.
قلت: وهي من العبادات التي أمر الله تعالى بها عباده، كما قال تعالى: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف:200]، وأمثال ذلك في القرآن كثير كقوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] فما كان عبادة لله فصرفه لغير الله شرك في العبادة، فمن صرف شيئاً من هذه العبادات لغير الله فقد جعله شريكاً لله في عبادته، ونازع الرب في إلهيته، كما أن من صلى لله وصلى لغيره يكون عابداً لغير الله ولا فرق، كما سيأتي تقريره قريباً إن شاء الله تعالى].
وذلك أن الله جل وعلا أمر بالصلاة له، وكما أمر بالصلاة له أمر بالاستعاذة به، والاستعاذة تكون عامة في كل ما لا يقدر الإنسان على صده عن نفسه سواء كان حسياً أو معنوياً، أما إذا كان حسياً فقد يستعيذ الإنسان بمن يقدر أن يصده إذا كان قادراً حاضراً سامعاً، أما إذا كان معنوياً فلا يجوز الاستعاذة إلا بالله جل وعلا.
ولهذا ذكر الله جل وعلا في القرآن الطريق للتخلص مما هو مشاهد بالإحسان إليه، بأن تحسن إليه حتى تصبح محبوباً لديه، وتصبح متخلصاً من أذاه، وأما الشيطان الذي لا تشاهده، ولا تراه، فأمر الله جل وعلا أن يستعاذ به، فقال الله جل وعلا: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] يعني: إذا وقعت بينك وبين إنسان عداوة فادفع هذه العداوة بالإحسان إليه، فإنه سوف يعود عليك بالمودة، وتذهب عداوته، ولكن الشيطان الذي لا تنظر إليه، ولا تراه ليس هناك طريق للتخلص منه إلا بأن تلجأ إلى الله، وتعتصم به، قال الله بعد هذه الآية: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [فصلت:36]، هذا هو الطريق الوحيد للتخلص من الشيطان.
والاستعاذة جاء الأمر بها مطلقاً كما سمعنا في قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] وهذا قول قيل للنبي صلى الله عليه وسلم خاص به، والأمة تبع له في ذلك، يعني: الخطاب خصص للنبي صلى الله عليه وسلم، وأمته تبع له في ذلك، فيجب عليهم أن تكون استعاذتهم بالله وحده.(45/3)
استعاذة المشركين بالجن
قال الشارح: [وقول الله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:6] قال ابن كثير: أي: كنا نرى أن لنا فضلاً على الإنس؛ لأنهم كانوا يعوذون بنا، أي: إذا نزلوا وادياً أو مكاناً موحشاً من البراري وغيرها -كما كانت عادة العرب في جاهليتها- يعوذون بعظيم ذلك المكان من الجان أن يصيبهم بشيء يسوءهم، كما كان أحدهم يدخل بلاد أعدائه في جوار رجل كبير وذمامه وخفارته، فلما رأت الجن أن الإنس يعوذون بهم من خوفهم منهم زادوهم رهقاً، أي: خوفاً وإرهاباً وذعراً، حتى يبقوا أشد منهم مخافة وأكثر تعوذاً بهم ـ إلى أن قال ـ قال أبو العالية والربيع وزيد بن أسلم: رهقاً أي: خوفاً.
وقال العوفي عن ابن عباس: فزادوهم رهقاً أي: إثماً، وكذا قال قتادة].(45/4)
حقيقة الجن
الجن أمة عظيمة، وهم مكلفون -كما كلف بنو آدم- بأن يعبدوا الله جل وعلا، وهم ذرية إبليس، ومنهم المؤمن، ومنهم الكافر، ومنهم المتمرد الشيطان، والله جل وعلا خاطبهم في القرآن، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن ينذرهم، {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} [الجن:1] إلى آخر السورة، ويقول الله جل وعلا: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} [الأحقاف:29 - 30]، والله جل وعلا يخبر يوم القيامة عن الجن والإنس أنهم جاءتهم النذر، وجاءتهم الرسل، وقامت عليهم الحجج، وأنه لا حجة لهم، فهم مكلفون بعبادة الله جل وعلا، وفيهم المؤمن، وفيهم الكافر، وفيهم الفاسق، وفيهم الصالح وغير ذلك.
وهم على الأرض يمشون مع الناس، ليسوا تحت طباق الأرض وليسوا فوقها، ولكنهم كما أخبر الله جل وعلا يروننا من حيث لا نراهم، ويسمعون كلامنا، ونحن لا نشاهدهم ولا نراهم، ولكن ينبغي بل يجب على الإنسان أن يتحرز من أعينهم، فلهذا يسن له إذا أراد أن يخلع ثوبه أن يسمي الله؛ لأن الستر الذي بينه وبينهم اسم الله جل وعلا، إذا سميت الله استترت منهم، وليس هناك شيء يسترهم من جدران أو غيرها، وقد جاء في الصحيح أن الإنسان إذا أتى إلى بيته وأراد الولوج -أي: الدخول في البيت- فإن ذكر الله وقال: باسم الله، قال الشيطان لأصحابه الذين يمشون معه: حرمتم المبيت، فإن دخل ولم يسم قال لمن معه: أدركتم المبيت، فإن قدم الطعام ولم يسم قال: أدركتم المبيت والعشاء، وربما يشارك الجني الإنسان في بيته، وفي طعامه، وفي ولده أيضاً فقد يشاركه في زوجه إذا لم يسم.
ولهذا ينبغي للإنسان أن يعرف هذه الأمور، ولا يكون جاهلاً؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أرشدنا إلى كل ما فيه الخير، وعلمنا هذه الأشياء، وقال لنا: (إن إخوانكم من الجن سألوني الطعام، فقلت لهم: لكم كل عظم ذكر عليه اسم الله تجدونه أوفر ما كان لحماً) وكذلك علف بهائمهم أرواث بهائمنا؛ ولهذا حرم علينا أن نستجمر بعظم أو روث؛ لأن العظم طعام المؤمنين من الجن، والروث طعام بهائمهم.
والمقصود أن الجن مكلفون، والله جل وعلا جعل لهم عقولاً، وجعلهم أهلاً للأمر والنهي، وجعل لهم جزاء يوم القيامة، من أطاع الله منهم يكون في الجنة، ومن عصى يكون في النار، ولهذا كلما ذكر الله آية من الآيات التي فيها نعمه في سورة الرحمن يقول: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) والمقصود بالتثنية هنا الجن والإنس، وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تلا هذه السورة على أصحابه قال: (مالي أراكم ساكتين؟! لرد إخوانكم من الجن أحسن من ردكم، قالوا: ماذا قالوا؟ قال: كلما تلوت قوله: ((فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)) قالوا: لا -يا ربنا- ولا بشيء من ذلك نكذب، فلك الحمد).(45/5)
إنكار وجود الجن كفر
بعض الناس اليوم ينكر وجود الجن، وإنكار وجود الجن كفر وخروج من الإسلام؛ لأنه أمر تواترت عليه كتب الله، وكذلك جاءت به آثار الرسل، وقد يلتبس الجني بالإنس ويداخله؛ لأن الجن سلطوا على الإنس إذا لم يتحصنوا منهم بذكر الله وبأسماء الله، وليس هناك مخلص إلا بالالتجاء إلى الله، وذكر أسمائه وذكره، فذكر الله يطرد المردة من الجن، أما المؤمنون فهم لا يؤذون؛ لأنهم يعرفون أن هذا أمر محرم، ولكن الجهلة والكفرة والمردة يتسلطون على الإنس بسبب جهلهم، وبسبب غفلتهم وعدم ذكرهم لله، وإلا فهم ضعفاء، وإذا ذكر المؤمن ربه وتحصن بذلك فإنه يفر منه أشد الفرار، وقد جاء في وصف الذي يأكل الربا أنه يوم القيامة يقوم كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، والشيطان المقصود به هنا الجنس، يعني: الجن، فإنه يداخل الإنسان فيسقطه فيصبح مجنوناً، والأمم السابقة كل أمة تتهم نبيها بأنه مجنون ويرمونه بذلك؛ لأنهم يعرفون أن الجن يلابسون الإنس، وقد ذكر الله جل وعلا أن الإنس يستمتعون بالجن، والجن يستمتعون بالإنس، واستمتاع بعضهم ببعض يكون بالطاعة، ويكون بغير الطاعة، بفعل الشهوة وغيرها، نسأل الله السلامة.
فالمقصود أن الجن أمة مكلفة، وهم يحضرون مع الناس، يشاهدون الناس والناس لا يرونهم، وإذا كان يوم القيامة حشروا جميعاً كل يرى الآخر؛ لأن القيامة هي محل الجزاء، فيصبح الإنس لهم قرناء وأزواج من الجن الذين أضلوهم، يقرنون معهم في النار، فيدخلون فيها جميعاً.
قال الله تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} [الجن:1 - 2] إلى أن قال: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:6].
ذكر المفسرون أن العرب كانت عادتهم إذا سافر أحدهم ثم أدركه الليل، أنه يلجأ ويعوذ بكبير الجن فيقول: أعوذ بسيد أهل هذا الوادي من سفهاء قومه، فصار هذا فتنة للجن والإنس؛ لأن الجن بهذه الاستعاذة زادوا الإنس رهقاً يعني: تسلطوا عليهم، فأكثروا تخويفهم؛ لأنهم رءوا أنهم يعوذون بهم، فتسلطوا عليهم، وهذا هو معنى زيادتهم رهقاً، والرهق هو الخوف والهلع أو الطغيان، فإذا كان الرهق عائداً إلى الإنس فهو الخوف، وإن كان عائداً إلى الجن فهو الطغيان، يعني: أن استعاذة الإنس بالجن زادت الجن طغياناً وتعدياً، فأصبحوا يتعدون على الإنس من أجل ذلك.
والآية تصلح لهذا وهذا، وقد جاء عن السلف المعنيان، جاء عن السلف أنهم جعلوا الرهق عائداً إلى الإنس، وعائداً إلى الجن، يعني: أن الجن زادوا الإنس خوفاً لما استعاذوا بهم فتسلطوا عليهم، وكذلك الإنس زادوا الجن طغياناً لما استعاذوا بهم، يعني: تكبراً وتجبراً وطغياناً على الإنس؛ لأنهم قالوا: أصبحنا سادة الجن والإنس.
وعلى كل فالمقصود من الآية: أن المؤمنين من الجن أخبروا أن الإنس استعاذوا بهم، وأن هذا لا يجوز، وأنه من الشرك الذي جاء القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم بإبطاله، فهم يتبرءون منه، ويخبرون عن أمر وقع وهم يقلعون عن ذلك يعني: المؤمنين منهم.
فدل ذلك على أن الاستعاذة عبادة، ويجب أن تكون بالله وحده، وأنها إذا وقعت الاستعاذة بالمخلوق فإن هذا شرك بذلك المستعاذ به.(45/6)
لا تجوز الاستعاذة بالجن
قال الشارح: [وذلك أن الرجل من العرب كان إذا أمسى بواد قفر وخاف على نفسه قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، يريد كبير الجن، وقد أجمع العلماء على أنه لا يجوز الاستعاذة بغير الله، وقال ملا علي قاري الحنفي: لا يجوز الاستعاذة بالجن].
لأن الاستعاذة عبادة كما سمعنا، والعبادة لا تجوز أن تكون لغير الله جل وعلا، فإذا ثبت أنها عبادة فيجب أن تكون خاصة بالله وحده، ويكون صرفها لغير الله كصرف سائر العبادات شركاً بالله.
قال الشارح: [فقد ذم الله الكافرين على ذلك، وذكر الآية وقال: قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام:128] فاستمتاع الإنسي بالجني في قضاء حوائجه، وامتثال أوامره، وإخباره بشيء من المغيبات، واستمتاع الجني بالإنسي تعظيمه إياه، واستعاذته به، وخضوعه له.
انتهى ملخصاً].
يقول جل وعلا للجن يخاطبهم: إنكم أضللتم أناساً كثيراً من الإنس، فيقول الإنس لرب العالمين: قد استمتع بعضنا ببعض، يعني: أنهم انتفعوا بالجن إما بإخبارهم ببعض المغيبات أو بنفعهم النفع الذي هو نفع محدود، وكذلك الجن استمتعوا بالجن بطاعتهم، وعبادتهم لهم، واستعاذتهم بهم، ويقولون: {بَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} يعني: أن الأجل الذي جعل لهم في الدنيا قد انتهى، وأنهم قد حضروا بين يدي الله، ولكن هذا الإذعان، وهذا الإقرار، وهذا الاستسلام لله جل وعلا؛ لا يفيدهم شيئاً؛ ولهذا يقول جل وعلا: {النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}، فهذه النهاية التي يخبر الله جل وعلا عنها سواء في المستعيذ المستمتع أو الذي استعيذ به، وكلاهما تكون نتيجته أن الله يجازيه بما يستحق.
قال الشارح: [فاستمتاع الإنسي بالجني في قضاء حوائجه، وامتثال أوامره، وإخباره بشيء من المغيبات، واستمتاع الجني بالإنسي تعظيمه إياه].
وقد يكون الاستمتاع في قضاء الشهوة من هذا وهذا، وهذا يقع كثيراً من الجهلة الذين تخلو قلوبهم من الإيمان، ومن ذكر الله جل وعلا، فإن الجن يستمتعون بهم، وهم يستمتعون بالجن، نسأل الله العافية.
قال الشارح: [واستعاذته به وخضوعه له].
المقصود أن هذا يدل على أن الجني قد يلابس الإنسي ويداخله، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)، فإذا كان يجري منه مجرى الدم فمعنى ذلك أنه يستطيع أن يداخله ويكون في جسمه.
قال المصنف: [وفيه أن كون الشيء يحصل به منفعة دنيوية لا يدل على أنه ليس من الشرك].
يعني: كون الإنسي إذا استعاذ بالجني قد يعيذه، وكذلك إذا ذبح الإنسي للجن فقد يخرج الجني الذي فيه، وينفعه في هذا، فيكون في هذا نفع، ولكن هذا ليس دليلاً على أنه جائز، بل الله جل وعلا أخبرنا أن الخمر فيها منفعة، ولكن مضرتها أعظم، فليس كل ما فيه نفع يجوز فعله، والشرك قد يكون فيه منفعة كما ذكر، ولكن عاقبته وخيمة جداً، فالمقصود أنه ليس كل ما فيه نفع يكون جائزا ًفعله.(45/7)
حديث: (من نزل منزلاً فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق)
قال المصنف: [وعن خولة بنت حكيم قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من نزل منزلاً فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك) رواه مسلم.
هي خولة بنت حكيم بن أمية السلمية، يقال لها: أم شريك، فيقال: إنها هي الواهبة، وكانت قبل تحت عثمان بن مظعون].
الواهبة يعني: التي جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ووهبت له نفسها، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يردها، وكان عنده رجل فقال: يا رسول الله! إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها، وذكر الحديث.
وهذا الحديث: (من نزل منزلاً فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شرك ما خلق، لم يضره شيء حتى يرتحل) يدلنا على أن الاستعاذة يجب أن تكون بالله أو بصفة من صفاته، وكلمات الله هي صفة من صفاته، وكلماته جل وعلا تنقسم إلى قسمين: كلمات دينية شرعية أمرية مثل القرآن؛ فهو كلامه الديني الأمري الذي يشرع به لعباده الأوامر، وينهاهم عن النواهي، فهذا كلام الله جل وعلا الذي تكلم به وسمعه جبريل من الله جل وعلا، ثم جاء به جبريل عليه السلام إلى رسولنا صلى الله عليه وسلم، فسمعه الرسول صلى الله عليه وسلم من جبريل، ثم أسمعه أصحابه، ثم لم تزل الأمة يسمع بعضها كلام الله من بعض جيلاً بعد جيل إلى يومنا هذا، والله جل وعلا أخبرنا أنه تولى حفظه، وهذا من حفظه، فلو حاول أي محاول أن يغير أو يبدل في كلام الله ما استطاع؛ لأن في الأمة من لا حصر لهم يحفظونه من زمن الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اليوم، فلو أراد مريد سوء أن يغير في المصحف شيئاً، فإن أصحاب الكتاتيب يردون عليه، ويعرفون أنه خطأ؛ لأن القرآن محفوظ، يحفظه المسلمون في صدورهم، فضلاً عن إثباته في الكتابة، والمقصود أن هذا القرآن كلامه الأمري الشرعي.
القسم الثاني من كلمات الله: كلماته الكونية القدرية، وهي التي يكون بها الأشياء ويقدرها، فهي التي لا يجاوزها بر ولا فاجر.
أما كلماته الدينية الشرعية فإن الفجار يتجاوزونها، يعني: يعصون أوامره، ويرتكبون نواهيه، بخلاف الكلمات الكونية فإنه لا أحد يستطيع أن يتعداها، والكلمات الكونية هي التي يقدر بها الأشياء ويكونها، فالكون كله يسير على وفق تقديره وتكونيه جل وعلا، والعباد كلهم مسخرون تجري عليهم أقداره وقهره، لا أحد يستطيع أن يخالف قدر الله جل وعلا وتكوينه، والكلمات الكونية غير الكلمات الشرعية، وكلها صفة لله جل وعلا، وكلها يستعاذ بها؛ لأنها من صفات الله.
ولهذا استدل العلماء بهذا الحديث على أن القرآن كلام الله؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يأمر بالاستعاذة بمخلوق، أمر أن نستعيذ بكلماته، فكلماته -إذاً- من صفاته جل وعلا؛ ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يستعيذ بذلك، وأخبر أن الاستعاذة بالمخلوق شرك، فدل هذا على أن الاستعاذة بكلمات الله هي استعاذة بصفته جل وعلا، وكلام الله من صفاته.(45/8)
معنى كلمات الله التامات
قال الشارح: [وقوله: (أعوذ بكلمات الله التامات) شرع الله لأهل الإسلام أن يستعيذوا به بدلاً عما يفعله أهل الجاهلية من الاستعاذة بالجن، فشرع الله للمسلمين أن يستعيذوا بأسمائه وصفاته].
الجن لا يستطيعون أن يعيذوا الإنسان، ولكن إذا استعاذ الإنسان بالله فإن الله يحميه من كل ما يؤذيه.
قال الشارح: [قال القرطبي: قيل: معناه الكاملات التي لا يلحقها نقص ولا عيب كما يلحق كلام البشر].
الكلمات التامات إما المراد بها الدينية، فهي تامة في الصدق والعدل وكمال الشرع، تامة من جميع هذه الأمور، وإما أن يراد بها الكونية فهي التي لا يمكن أن يلحقها نقص أو يتخلف مرادها بحال من الأحوال، فهي تامة من هذه الناحية.
[وقيل معناه: الشافية الكافية، وقيل: الكلمات هنا هي القرآن، فإن الله أخبر عنه بأنه: {هُدًى وَشِفَاءٌ} [فصلت:44]، وهذا الأمر على جهة الإرشاد إلى ما يدفع به الأذى.
ولما كان ذلك استعاذة بصفات الله تعالى كان من باب المندوب إليه المرغب فيه، وعلى هذا فحق المستعيذ بالله أو بأسمائه وصفاته أن يصدق الله في التجائه إليه، ويتوكل في ذلك عليه، ويحضر ذلك في قلبه، فمتى فعل ذلك وصل إلى منتهى طلبه ومغفرة ذنبه.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: وقد نص الأئمة كـ أحمد على أنه لا يجوز الاستعاذة بمخلوق، وهذا مما استدلوا به على أن كلام الله غير مخلوق، قالوا: لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استعاذ بكلمات الله وأمر بذلك؛ ولهذا نهى العلماء عن التعاويذ التي لا يعرف معناها خشية أن يكون فيها شرك].
التعاويذ التي تكون بكلمات أعجمية أو كلمات مركبة أو حروف ليس لها معنى، لا يجوز الاستعاذة بها؛ لأن الاستعاذة تكون بكلمات الله وبأسماء الله وصفاته المعروفة المفهومة باللغة العربية، فلا بد أن يكون لها معنى مفهوم يعرف، أما إذا كانت حروفاً، يقول: آخذ حرفاً من اسم الله، وحرفاً من الرحمن، وحرفاً من العزيز، وحرفاً من الكريم، وما أشبه ذلك فيجمعها ويقول: أنا أستعيذ بأسماء الله، فهذا لا يجوز؛ لأنه لا بد أن يكون لها معنى معروف، وقد تكون الحروف المركبة أسماء شياطين، فيستعيذ بالشياطين، وهذا شرك.(45/9)
معنى قوله: (من شر ما خلق)
قال الشارح: [وقال ابن القيم: ومن ذبح للشيطان ودعاه، واستعاذ به وتقرب إليه بما يحب، فقد عبده، وإن لم يسم ذلك عبادة، ويسميه استخداماً -وصدق- هو استخدام من الشيطان له، فيصير من خدم الشيطان وعابديه، وبذلك يخدمه الشيطان، لكن خدمة الشيطان له ليست خدمة عبادة، فإن الشيطان لا يخضع له، ولا يعبده كما يفعل هو به اهـ.
قوله: (من شر ما خلق) قال ابن القيم رحمه الله: أي من كل شر في أي مخلوق قام به الشر من حيوان أو غيره، إنسياً كان أو جنياً أو هامة أو دابة أو ريحاً أو صاعقة، أو أي نوع من أنواع البلاء في الدنيا والآخرة.
و (ما) هنا موصولة وليس المراد بها العموم الإطلاقي، بل المراد التقييدي الوصفي، والمعنى: من شر كل مخلوق فيه شر، لا من شر كل ما خلقه الله، فإن الجنة والملائكة والأنبياء ليس فيهم شر، والشر يقال على شيئين: على الألم، وعلى ما يفضى إليه].
قوله: قوله: (من شر ما خلق) يدلنا على أن الشر في المخلوق، وليس الشر من صفات الله، ولا من أفعال الله جل وعلا، وإنما هي في المخلوق الذي يخلقه الله جل وعلا، أما الله جل وعلا فكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في مناجاته لربه: (والشر ليس إليك)؛ ولهذا لا يضاف الشر إليه جل وعلا، لا وصفاً ولا فعلاً، بل ينزه عنه؛ لأن أفعاله كلها خير، وصفاته خير، وهو لا يفعل إلا الخير جل وعلا، وإنما الشر يكون في المفعول المخلوق كما قال مؤمنو الجن فيما قصه الله جل وعلا علينا: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا * وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ} [الجن:9 - 10] (أَشَرٌّ أُرِيد) لم يذكروا الفاعل، فحذف الفاعل هنا تأدباً مع الله جل وعلا، {أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن:10] لما جاء الرشد أضافوه إلى الله جل وعلا، أما الشر فيحذف فاعله ويدخل في العموم، أو يضاف إلى المخلوق كقوله جل وعلا: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:1 - 2] فجعل الشر للمخلوق، ولا يضاف إلى الله جل وعلا؛ وذلك أن أوصاف الله جل وعلا وأفعاله ليس فيها شر، والشر إضافي بمخلوقاته، بمعنى أنه ما كان شراً لقوم يكون خيراً للآخرين، فمثلاً: المطر إذا جاء قد يغرق من يغرق فيه، ويهلك ماله، فيكون بالنسبة إليه فيه شر، ولكن أكثر الناس هو خير لهم وللأرض، ومثل ذلك الشمس والليل والنهار وغير ذلك.
فالمقصود أن الشر يكون في مخلوقات الله، ولا يكون في فعل الله جل وعلا ولا في وصفه، وليس الشر إليه؛ ولهذا قال: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} يعني: لما أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق فهو الشر الذي يكون في المخلوق.
والشر أصله الخلو من الخير، فإذا وجد الخير يكون هذا الخير الذي وجد أصله من الله، فهو الذي أوجد الخير، وهو الذي وضعه في هذا المحل، وإذا أخلى الله جل وعلا فضله من هذا المكان جاء الشر من قبل المخلوق، فلهذا ما يصيب الإنسان شيء إلا من جراء فعله ومن جراء ذنبه الذي يفعله، {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79] فكل الخير يكون من الله، أما المصائب والشرور وما يترتب على ذلك فهو من أفعال الإنسان ومعاصيه ومخالفاته، وكون الله جل وعلا يخلق هذا وهذا لا يدل على أنه يتصف به تعالى وتقدس؛ لأن كونه قدر هذا الشيء ودخل في مخلوقاته هو وصف لمن قام به، فالشر وصف لمن قام به وهو المخلوق.(45/10)
فائدة هذا الذكر
قال الشارح: [قال قوله: (لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك) قال القرطبي: هذا خبر صحيح، وقول صادق علمنا صدقه دليلاً وتجربة].
أما دليلاً فصحيح، وأما تجربة فليس بصحيح لكل أحد، ولا ينبغي أن نختبر أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم بالتجربة؛ لأن الإنسان قد يجرب هذا الشيء فيتخلف المخبر به، فيظن أنه كذب، وإنما التخلف يكون من قبله هو، قد لا يكون صادقاً في قوله والتجائه واستعاذته، فيتخلف مقتضى ذلك، ولا يجوز أن يظن أن الخبر ليس بصحيح، فالمقصود أن الأخبار لا تقاس بالتجربة، بل إذا ثبتت بالسند وجب قبولها واعتقاد صحتها وثبوتها، والناس في تطبيقها يختلفون، منهم من يكون صادقاً فتنطبق عليه، ومنهم من لا يصدق في الفعل والاعتقاد والالتجاء والصدق فيتخلف المخبر به، فلا يظن أن هذا يكون مقياساً أو أن هذا يجب أن ترجع إليه الأخبار.
[قال: فإني منذ سمعت هذا الخبر عملت به، فلم يضرني شيء إلى أن تركته فلدغتني عقرب بالمهدية ليلاً، فتفكرت في نفسي فإذا بي قد نسيت أن أتعوذ بتلك الكلمات].(45/11)
مسائل باب من الشرك الاستعاذة بغير الله
قال المصنف رحمه الله: [فيه مسائل: الأولى: تفسير آية الجن].
آية الجن هي: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:6] وقد مر معناها.
[الثانية: كونه من الشرك].
يعني: أن الاستعاذة بالجن من الشرك، هذا هو المقصود، وكذلك بقية المخلوقات، والاستعاذة بالأموات أعظم من ذلك؛ لأن الأموات لا يملكون أي تصرف، وليس عندهم سماع لما يقال، ولا غير ذلك.
[الثالثة: الاستدلال على ذلك بالحديث؛ لأن العلماء يستدلون به على أن كلمات الله غير مخلوقة، قالوا: لأن الاستعاذة بالمخلوق شرك].
أي: أن كلمات الله من صفاته، وأنه لا يجوز الاستعاذة بمخلوق؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن الاستعاذة بالمخلوق شرك.
إذاً: تكون الاستعاذة بكلماته، وكلماته من صفاته، والاستعاذة بها استعاذة بكتابه.
[الرابعة: فضيلة هذا الدعاء مع اختصاره].
لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا يضره شيء)، وهذا فضل عظيم ينبغي للإنسان أن يحفظ هذا الدعاء، وألا يخل به، وأن يصدق مع الله في ذلك.
أما الاستدلال بأن كلمات الله جل وعلا غير مخلوقة فأمر واضح، وكان هذا في وقت ظهرت فيه الزنادقة الذين أرادوا أن يفسدوا عقائد المسلمين، فلبسوا على الناس بأمور مركبة يزعمون أنها عقلية، وأنها أدلة برهانية ثم استطاعوا أن يصلوا إلى خلفاء المسلمين، وأن يكونوا هم الذين يوجهونهم، فزينوا لهم دعوة الناس إلى ذلك، بل إرغام الناس على هذا، فحصل من الفساد ومن القتل وسفك الدماء من جراء ذلك ما هو في الواقع عار إلى الآن في تاريخ أولئك، حتى أنهم زينوا لبعض الخلفاء أن يكتب على ستار الكعبة: ليس كمثله شيء وهو العزيز الحكيم، فراراً من قوله: (وهو السميع البصير)؛ لأنهم لا يثبتون الصفات لله جل وعلا، وكانوا يقولون: لو نستطيع أن نحك بعض الآيات من المصحف لحككناها، وسلطوا على المسلمين ما يسمونه عقلاً، وهو في الواقع جهل، وقتل من قتل من كبار العلماء من جراء ذلك.
وصارت لهم مقالات معينة، ووضعوا أصولاً خمسة وضعوا عليها دينهم بدلاً من الأصول التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، وهذه هي أصول المسلمين التي بنوا عليها دينهم، أما هم فجاءوا بأصول أخرى غير هذه، ومن أين أتوا بها؟ لم يأتنا بها الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما لبسوا على الناس، وجاءوا بأمور من عقولهم، وتلك فتنة ذهبت ولا ينبغي بحثها.
[الخامسة: أن كون الشيء يحصل به منفعة دنيوية -من كف شر أو جلب نفع- لا يدل على أنه ليس من الشرك].(45/12)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [46]
بين الاستغاثة والدعاء عموم وخصوص، فكل استغاثة دعاء، وليس كل دعاء استغاثة، وينبغي أن يعلم أن الدعاء نوعان: دعاء عبادة، ودعاء مسألة، فدعاء العبادة مستلزم لدعاء المسألة، كما أن دعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة، ومن صرف شيئاً من الدعاء بنوعيه لغير الله فقد وقع في الشرك.(46/1)
من الشرك أن يستغاث بغير الله أو يدعو غيره
قال المصنف رحمه الله: [باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره].
قال الشارح رحمه الله: [قال شيخ الإسلام رحمه الله: الاستغاثة هي طلب الغوث، وهو إزالة الشدة، كالاستنصار: طلب النصر، والاستعانة: طلب العون، وقال غيره: الفرق بين الاستغاثة والدعاء: أن الاستغاثة لا تكون إلا من المكروب، والدعاء أعم من الاستغاثة؛ لأنه يكون من المكروب وغيره، فعطف الدعاء على الاستغاثة من عطف العام على الخاص، فبينهما عموم وخصوص مطلق، يجتمعان في مادة، وينفرد الدعاء عنها في مادة، فكل استغاثة دعاء، وليس كل دعاء استغاثة].
يعني: أن الدعاء أعم وأشمل حيث تدخل فيه الاستغاثة، والاستغاثة دعاء خاص في حالة الشدة والكرب.
[وقوله: (أو يدعو غيره) اعلم أن الدعاء نوعان: دعاء عبادة، ودعاء مسألة، ويراد به في القرآن هذا تارة، وهذا تارة، ويراد به مجموعهما، فدعاء المسألة: هو طلب ما ينفع الداعي من جلب نفع أو كشف ضر؛ ولهذا أنكر الله على من يدعو أحداً من دونه، ممن لا يملك ضراً ولا نفعاً، كقوله تعالى: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [المائدة:76]، وقوله: {قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:71]، وقال: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس:106].
قال شيخ الإسلام رحمه الله: فكل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة، وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة، قال الله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:55]، وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمْ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [الأنعام:40 - 41]، وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:18]، وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [الرعد:14]، وأمثال هذا في القرآن -في دعاء المسألة- أكثر من أن يحصر، وهو يتضمن دعاء العبادة؛ لأن السائل أخلص سؤاله لله، وذلك من أفضل العبادات، وكذلك الذاكر لله والتالي لكتابه ونحوه، طالب من الله في المعنى، فيكون داعياً عابداً].(46/2)
دعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة
قوله: دعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة، معناه: أن الإنسان إذا سأل شيئاً فإنه يخضع ويذل ويستكين، وهذا هو العبادة، فيكون في ضمن السؤال عبادة.
ومن هنا حرمت المسألة، أي: أن يسأل الإنسان أحداً من الخلق؛ لأنه يذل له قلبه، ويستكين له، ويخضع له، وهذا لا يجوز أن يكون إلا لله جل وعلا؛ لأنه عبادة، فيكون تحريم المسألة صيانة للإنسان، وإكراماً له من الله جل وعلا، أكرمه الله بأن لا يخضع لمخلوق مثله، ويكون خضوعه لله وحده، ويكون استغناؤه بالله وحده، ويكون افتقاره إلى الله وحده، كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (وأعوذ بك من الفقر إلا إليك)، نستعيذ من الافتقار إلى المخلوق، والافتقار إلى الله عبادة، أما الافتقار إلى المخلوق فهو شرك.
فهذا معنى كون دعاء المسألة يتضمن العبادة، أما دعاء العبادة فإنه يستلزم دعاء المسألة، وذلك أن المصلي والمزكي والمتصدق والذاكر والتالي يطلب بفعله هذا الثواب، يطلب من الله أن يثيبه على ذلك، وهذا هو دعاء المسألة؛ لكونه يطلب الثواب أو يطلب الالتجاء والاستعاذة من العذاب.
ومن المعلوم أن المخلوق لا بد له من طلب النفع الذي ينفعه، ومن الهرب مما يضره، يضطر إلى هذا اضطراراً، ولا بد له من ذلك، وكذلك الأسباب التي تجلب له النفع هو بحاجة إليها، وكذلك الأسباب التي بها يدفع الضر والعذاب والألم وغيرها، فالعبد مضطر إلى ما ينفعه، ومضطر إلى دفع ما يضره، ومضطر إلى تحصيل السبب الذي به جلب النافع، وإلى تحصيل السبب الذي به دفع المضر، فهو بأمس الحاجة إلى هذه الأمور، وهذه كلها يجب أن تطلب من الله وحده، ولا تطلب من المخلوق.
فيتبين لنا أن الأمر كله بيد الله، وأن الإنسان يجب أن يكون خاضعاً لله، وأن يكون عبداً لله من جميع الوجوه، والدعاء داخل في هذا، سواء كان دعاء مسألة أو دعاء عبادة.
قال الشارح: [فتبين بهذا قول شيخ الإسلام: إن دعاء العبادة مستلزم لدعاء المسألة، كما أن دعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة، وقد قال الله تعالى عن خليله: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا} [مريم:48 - 49]].
يعني: أن هذه الآية بينت أن الدعاء عبادة بأنواعه؛ لأنه -أولاً- قال: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ}، ثم بعد ذلك قال تعالى: ((فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ)) فبين أن الدعاء عبادة، وأنهم إذا دعوا شيئاً فقد عبدوه، وهذا كثير في القرآن.(46/3)
من آداب الدعاء
قال الشارح رحمه الله: [فصار الدعاء من أنواع العبادة، فإن قوله: {وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} كقول زكريا: {إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} [مريم:4]].
معنى قوله: {عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} أي: أني إذا دعوت ربي فسوف يهب لي ما أريد ولن أشقى؛ لأن الذي يدعو ربه لا يخيب، ولا بد أن يحصل له النفع والخير، سواء في العاجل أو في الآجل.
وكذلك قول زكريا: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا}، فبدعاء الله جل وعلا لا يشقى الإنسان، فإذا دعا ربه فإنه يهب له ما دعاه، سواء كان عاجلاً أو آجلاً، فلن يشقى الداعي الذي يخلص دعوته لله.
قال الشارح رحمه الله: [وقد أمر الله تعالى به في مواضع من كتابه] يعني: أمر بالدعاء في مواضع كثيرة من كتابه، وكذلك جاءت الأحاديث الكثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر بالدعاء، وأخبر أن الله إذا لم يدعوه الإنسان يغضب عليه، وهذا من كرم الله وجوده جل وعلا، فإن المخلوق إذا دعوته قد يغضب عليك، وقد يستثقل دعوتك ويكره ذلك؛ لأنه ضعيف وفقير، ومحتاج إلى ما في اليد، فلا يريد أحداً أن يأخذه منه، أو يطلب منه شيئاً.
أما الرب الجواد الكريم فإنه يدعو عباده إلى أن يدعوه، وإذا لم يدعوه غضب عليهم، ويحب الملحين بالدعاء، الذين يكثرون الدعاء ويبالغون فيه، يحبهم جل وعلا لكرمه وجوده.
قال الشارح رحمه الله: [كقوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:55 - 56]].
هذا التعليم من ربنا جل وعلا أن يكون دعاؤنا تضرعاً وخفية، يعني: أن يكون في الخفاء، يكون بين الإنسان وربه، وألا يرفع به صوته؛ ولهذا كان السلف يحرصون على إخفاء الدعاء، فيكون دعاؤهم همساً بينهم وبين ربهم جل وعلا؛ امتثالاً لأمر الله، وجاء عن بعضهم أن بين دعاء العلانية ودعاء الخفاء سبعون ضعفاً، فالدعاء في الخفية أفضل؛ لأنه أقرب إلى الإخلاص، فقد يعرض للإنسان عوارض في الدعاء المسموع الذي يسمعه غيره تعكر عليه إخلاصه؛ ولهذا أمره جل وعلا أن يخفيه: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}، أما التضرع فهو: الافتقار والذل والخضوع، أن يذل الداعي ويخضع ويظهر فقره لله جل وعلا، هذا هو التضرع إلى الله جل وعلا، وإذا كان الإنسان متصفاً بالتضرع والدعاء بالخفاء فلن تتخلف الإجابة إلا بأمر قدره الله جل وعلا.
وكذلك قوله: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} فهذا أيضاً هذا من الآداب التي علمنا الله جل وعلا في الدعاء، فعلى الإنسان أن تكون دعوته بين الرجاء والخوف، يدعو الله وهو يرجو أن يجيبه، ويتعلق به، ويظن به الخير والإحسان والكرم، ولكنه يخاف من نفسه، يخاف أن تتخلف الإجابة بسبب نفسه؛ لكونه لا يخلص، أو لا يصدق في دعائه، أو كونه يأكل حراماً، أو كونه يكثر الذنوب، وما أشبه ذلك من العوارض التي لا يخلو منها إنسان، والمقصود الأدب مع الله جل وعلا في هذه العبادة التي يعلمنا الله جل وعلا إياها.(46/4)
كل أمر شرعه الله ففعله عباده
قال الشارح رحمه الله: [وضابط هذا: أن كل أمر شرعه الله لعباده وأمرهم به، ففعله لله عبادة، فإذا صرف من تلك العبادة شيئاً لغير الله فهو مشرك].
ويدخل في هذا الأفعال والأقوال جميعها، كل أمرٍ أمر الله جل وعلا به عباده إذا فعله الإنسان فهو يدعو الله جل وعلا دعاء عبادة؛ لأنه يفعله ويطلب به الثواب، ويخاف إذا لم يفعله من عقاب الله، وهذا هو معنى السؤال.
قال الشارح رحمه الله: [فإذا صرف من تلك العبادة شيئاً لغير الله فهو مشرك، مصادم لما بعث الله به رسوله من قوله: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} [الزمر:14]، وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله تعالى.
قال شيخ الإسلام رحمه الله في الرسالة السنية: فإذا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم -ممن انتسب إلى الإسلام- من مرق منه مع عبادته العظيمة، فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام والسنة في هذه الأزمان قد يمرق أيضاً من الإسلام؛ لأسباب منها: الغلو في بعض المشايخ، بل الغلو في علي بن أبي طالب رضي الله عنه، بل الغلو في المسيح، فكل من غلا في نبي أو رجل صالح، وجعل فيه نوعاً من الإلهية، مثل أن يقول: يا سيدي فلان! انصرني، أو أغثني، أو ارزقني، أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال.
فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل، فإن الله سبحانه وتعالى إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب، ليعبد وحده لا شريك له، ولا يدعى معه إله آخر، والذين يدعون مع الله آلهة أخرى، مثل: المسيح والملائكة والأصنام لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق، أو تنزل المطر، أو تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدونهم، أو يعبدون قبورهم، أو يعبدون صورهم، ويقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس:18]، فبعث الله سبحانه رسله تنهى عن أن يدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة.
اهـ].(46/5)
حرمة الغلو وخطره
الإنسان قد يمرق من الدين في هذه الأزمان بسبب الغلو، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن ناساً يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، وقصد بذلك الخوارج كما بينت الأحاديث.
يقول ابن تيمية: إنه يجوز أن يكون في وقتنا -ووقته في القرن السابع- من يمرق من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ثم بين ما كان في وقته من المروق من الدين وهو الغلو في المشايخ، يعني: في المقبورين، والغلو: هو تجاوز الحد؛ بأن يمدحهم أو يحبهم أكثر مما شرعه الله جل وعلا وأمر به، هذا هو الغلو.
ثم بين أن الغلو في هذا كثير، ولكنه يتفاوت، فهو عند بعضهم يكون في علي بن أبي طالب، فجعلوا له نوعاً من الإلهية، وهذا وقع في زمن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، فـ عبد الله بن سبأ اليهودي الماكر الخبيث -الذي دخل الإسلام وتستر به حتى يتمكن من دس دسائسه على ضعاف العقول والأبصار وضعاف الإرادات من المسلمين، وتمكن من ذلك- كان يقول لأتباعه: إن علياً فيه جزء من الإلهية، وانطلى هذا القول على كثير من الناس، واعتقدوا هذا في حياة علي رضي الله عنه، حتى إنهم قابلوه، وقالوا له: أنت هو، وقال: ويلكم من أنا؟! قالوا: أنت إلهنا، يقولون له مقابلة، فقال: ويلكم ويلكم هذا الكفر! إن لم ترجعوا قتلتكم، وأمهلهم ثلاثة أيام فلم يرجعوا، فأمر بحفر تحفر، وأمر بالحطب أن يلقى فيها، فأضرمها ناراً، فأخذ من أمسك منهم وألقاهم في النار أحياء، حرقهم وهم أحياء، وذلك الماكر الخبيث فر منه، وقال: هذا دليل على أنه هو الإله؛ لأن النار لا يحرق بها إلا الله، فزاد البلاء بلاء، ولم يزل باق هذا الغلو في أتباع ابن سبأ إلى اليوم، فهم يعبدونه ويؤلهونه، وبعضهم يعتقد أنه نبي، وبعضهم يزيد ويعتقد أنه إله، ولما مات قالوا: ما مات، وإنما هو في السحاب وسوف يعود، وزعموا أن الرعد صوته، واعتقدوا الرجعة، أي: أنه يرجع إلى الدنيا فيقتل من زعم أنه مات.
يقول شيخ الإسلام: (بل الغلو في المسيح عليه السلام)؛ لأنهم جعلوا عيسى هو الله، ومنهم من قال: إنه ثالث ثلاثة، ومنهم من قال: هو ابن الله، كما ذكر الله جل وعلا ذلك في القرآن.
وهؤلاء الذين قالوا هذا القول، هم من بني آدم: لهم عقول، ولهم أبصار، ولهم أسماع، ومع ذلك اعتقدوا أن مخلوقاً مثلهم هو الذي يدبر، وهو الذي يملك الجنة والنار، ويملك ما في القلوب! فعلى الإنسان أن يخاف على نفسه أن يخرج من الدين الإسلامي بأدنى سبب؛ لأن الله جل وعلا إذا أزاغ قلب الإنسان فإنه لا يملكه، وربما يزين للإنسان سوء عمله فيراه حسناً، فيصبح لا فائدة فيه، ولا حيلة فيه إلا أن يهديه الله.(46/6)
دعاء غير الله كفر بالإجماع
قال الشارح رحمه الله: [وقال أيضاً: من جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم كفر إجماعاً].
لأن هذا هو شرك المشركين في الواقع، وهو الشرك الذي ذكره الله جل وعلا عن أول الأمم إلى آخرهم، في قصص الأنبياء التي قصها علينا في القرآن لنعتبر بها ونتعظ؛ لأننا نحن المقصودون بهذه القصص، أما الأمم السالفة انتهى أمرها، انتهى أهل الخير إلى الجنة، وأهل الشرك والشر إلى النار، ولا ينفعهم ذكرهم، وما جرى لهم، وإنما المقصود بقصصهم نحن؛ لنعتبر بها، وكل أمة من الأمم المشركة التي بعث إليها رسول من رسل الله جل وعلا بين الله جل وعلا أن شركهم في أنهم يدعون وسائط يطلبون منهم أن يقربوهم إلى الله، وأن يشفعوا لهم فقط، ما فيهم من يعتقد أن المدعو الذي يدعوه -سواء كان آدمياً، أو صورة أدمي، أو قبره، أو ملكاً من الملائكة، أو نبياً من الأنبياء أو غير ذلك- خلق السماء أو بعضها، أو خلق الأرض أو شيئاً منها، أو أنه يحيي أو أنه يميت، أو أنه ينزل المطر، أو يستطيع أن ينبت نباتاً، لا أحد يعتقد هذا أبداً، كلهم يقولون: إن الذي خلق الخلق، والذي يملك الموت والحياة، والذي يملك النفع والضر، هو الله وحده لا شريك له في ذلك، ولكن عبدوا من عبدوهم ليشفعوا لهم عند الله، عبدوهم ليدعوا لهم الله فقط، ويقولون: ندعوهم وهم يدعون الله لنا؛ لأن الله جل وعلا قربهم، ولأنهم لا ذنوب لهم مثلنا، ونحن مذنبون، فإذا سألناهم كان أنجح لمسألتنا وأقرب إلى الإجابة، هذا على حد زعمهم، وقاسوا الله على ما يقع لهم فيما بينهم، وضربوا لذلك مثلاً: إذا كان هناك رئيس أو كبير قوم، وكان الإنسان بعيداً عنه ويريد شيئاً منه، فإنه يقول: أذهب إلى من هو قريب منه: إلى وزيره أو صديقه أو أخيه، فأسأله أن يشفع لي، فيكون أقرب إلى إجابة طلبي، فهم قاسوا رب العالمين جل وعلا على هذا، فصاروا يسألون الشفعاء، ويجعلون الوسائط، وهذا هو شرك المشركين قديماً وحديثاً.
أما الآن فتجدهم يتجهون إلى الأولياء، ويقولون: إن الله ملكهم بعض الأشياء، وإن الله أكرمهم بأنهم إذا دعوا استطاعوا أن يجيبوا، وهذه دعوى مجردة لا برهان لها، ولا دليل لهم على ذلك إلا أنهم ادعوا هذا، وسوف يتبين لهم أن دعواهم هذه باطلة، فهي مثل شرك المشركين تماماً.
والمقصود أن هذا هو الشرك، وهذا هو أصله الذي وقع فيه الناس.
قال الشارح رحمه الله: [وقال أيضاً: من جعل بينه وبين الله وسائط، يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم، كفر إجماعاً، نقله عنه صاحب الفروع، وصاحب الإنصاف، وصاحب الإقناع وغيرهم، وذكره شيخ الإسلام في "مسألة الوسائط"، ونقلته عنه في الرد على ابن جرجيس في مسألة الوسائط.
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: ومن أنواعه -أي: الشرك- طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم، فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، فضلاً لمن استغاث به أو سأله أن يشفع له إلى الله، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده، وسيأتي تتمة كلامه في باب الشفاعة إن شاء الله تعالى].
يعني: أن الشافع عبد من عباد الله، وكل شافع يشفع عبد لا يملك مع الله شيئاً، أما المشفوع عنده فهو الله القهار الذي بيده ملك كل شيء، وقد أخبر جل وعلا أنه لا يأذن بالشفاعة إلا لمن رضي قوله وعمله، {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28]، وقال جل وعلا: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، وأخبر جل وعلا أنه إذا قامت القيامة، وحضر الخلق بين يديه، وقامت الملائكة، فلا أحد يتكلم إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً، وللآيات في هذا كثيرة جداً، وتبين أن هؤلاء ضالون، وأنهم مخطئون أعظم الخطأ، وأنهم قد وقعوا في الشرك، وأن قولهم هذا مجرد دعوى لا دليل عليها.(46/7)
تعظيم النبي لا يكون بدعائه
قال الشارح رحمه الله: [وقال الحافظ محمد بن عبد الهادي رحمه الله في رده على السبكي في قوله: إن المبالغة في تعظيمه -أي: الرسول صلى الله عليه وسلم - واجبة: إن أريد به المبالغة بحسب ما يراه كل أحد تعظيماً، حتى الحج إلى قبره، والسجود له والطواف به، واعتقاد أنه يعلم الغيب، وأنه يعطي ويمنع، ويملك لمن استغاث به من دون الله الضر والنفع، وأنه يقضي حوائج السائلين، ويفرج كربات المكروبين، وأنه يشفع فيمن يشاء، ويدخل الجنة من يشاء؛ فدعوى المبالغة في هذا التعظيم مبالغة في الشرك، وانسلاخ من جملة الدين].
يجب أن يكون التعظيم على حسب الشرع الذي أمر الله جل وعلا به، فتعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم واجب، ولكن ليس بدعوته وعبادته والاستغاثة به، وإنما هو في تعظيم أمره، وتعظيم قدره، وكما أمر الله جل وعلا بطاعته واتباعه، فهذا هو تعظيمه، فيطيعه ويتبع سنته، ويدعو الخلق إلى دينه الذي جاء به، ويجتهد في ذلك، هذا هو الذي يرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي يأمر به، أما أن يستغيث به أو أن يدعي له ما هو ملك لله فلا، كمن يقول: يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي فضلاً، وإلا فقل: يا زلت القدم وما أشبه ذلك، فيكون هو المدعو وهو المستغاث به، فهذا في الواقع تعظيم على خلاف أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو يوقع في الشرك، يقول محمد بن عبد الهادي رحمه الله: ليس للإنسان أن يعظم النبي عليه الصلاة والسلام على حسب نظره، وعلى وفق هواه، بل يجب أن يكون متقيداً بكتاب الله وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، في قوله وفي فعله، وفي جميع ما يرجو ثوابه ويخاف عقابه، بمعنى: أن كل عبادة يجب أن يكون العابد فيها متبعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أمر متفق عليه، ولا خلاف فيه بين العلماء.
أما الذي يخالف في هذا فلا يعد من العلماء في الواقع، فكل العلماء يقولون: إن العبادة لها شرطان: أحدهما: أن تكون على وفق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فيكون الإنسان متبعاً فيها.
الثاني: أن تكون خالصة لله جل وعلا، فإذا تخلف واحد من هذين الشرطين في العبادة فهي مردودة غير معتبرة.
والإنسان يقدم الشرع على هواه، ويجب أن يكون متقيداً بالشرع.
قال الشارح رحمه الله: [وفي الفتاوى البزازية -من كتب الحنفية-: قال علماؤنا: من قال: أرواح المشايخ حاضرة تعلم: يكفر].
يعني: بأرواح المشايخ: الأموات، ويعتقد بعد موتهم أن أرواحهم حاضرة عند الإنسان تعلم ما يقول وما يفعل، فمن قال هذا فهو كافر؛ لأنه ادعى ما لله جل وعلا لغيره من المخلوقين.
ومن المعلوم أن الأموات أضعف من الأحياء؛ لأن الحي يستطيع أن يتصرف، يستطيع أن يذهب ويأتي، ويستطيع أن يعمل، أما الميت لا يستطيع شيئاً، قد انتهى أمره، وأصبح مرتهناً بعمله، كما قال الله جل وعلا: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38].
وأخبر جل وعلا أن نفس الميت ممسوكة عنده، فالله يمسك من يتوفاهم كما في القرآن، أما كون الميت يسمع من يسلم عليه إذا جاء إلى قبره، فهذا لا يدل على أنه يستطيع أن يجيبه أو يستطيع أن يسأل له، أو يستطيع أن ينفعه، فأمر الموت أمر غيبي لا نعرفه، ولا نعرف حقيقته، ولكن قريب منه النوم، والإنسان في نومه لا يتصرف ولا يستطيع أن يعمل شيئاً، وإن كان يرى أنه يفعل شيئاً فهو في الواقع لا يفعل، والنوم نوع من الموت؛ ولهذا لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم وقيل له: (أينام أهل الجنة؟ قال: لا)؛ لأن النوم قسم من الموت، وأهل الجنة لهم الحياة الكاملة، لا ينامون، وإذا كملت الحياة فلا يحتاج الإنسان إلى نوم، وإنما يحتاج إلى النوم ما دام ضعيفاً، وما دامت حياته ناقصة.
والمقصود أن دعوى: أن الميت يعلم أو يتصرف! من اعتقد ذلك أو قال به فهو على خطر عظيم، بل هو على شفا جرف هار في نار جهنم -نسأل الله العافية-.
وكون الميت يسمع لا يدل على أنه يتصرف، ولا يدل على أنه ينفع، وقد جاء في الحديث الصحيح: لما رُمي كبار الكفار من قريش في بئر بدر، وجاء عليهم ثلاثة أيام، فالرسول صلى الله عليه وسلم ركب راحلته، وقام على البئر، وصار يناديهم بأسمائهم: (يا فلان ابن فلان! يا فلان ابن فلان! يا فلان ابن فلان! هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً، فإني وجدتُ ما وعدني ربي حقاً؟! فقال له أصحابه: يا رسول الله! ما تنادي من قوم قد جيَّفوا؟ -يعني: صاروا جيَفاً أمواتاً لا حراك لهم ولا حياة فيهم- قال لهم: ما أنتم بأسمع منهم لما أقول، إلا أنهم لا يستطيعون الإجابة) فبيَّن أنهم يسمعون ولكن لا يستطيعون أن يجيبوا، ومناداته لهم وكلامه لهم من باب التبكيت والتهديد والتعذيب والتقريع، يقرعهم بذلك حيث كفروا بالله جلَّ وعلا بعدما جاءتهم البينات.
وفي الحديث الآخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا وضع الميت في قبره وولى عنه أصحابه، وهو يسمع قرع نعالهم -يسمع قرع نعالهم! - أتاه الملكان) إلخ، فكونه يسمع: أمرٌ لا نعرف حقيقته، ولكن نعلم علماً يقينياً بأنه لا يتصرف، ولا يملك شيئاً، ولا ينفع الداعي إذا دعاه، ولا يستطيع أن يشفع له، أو يقربه إلى الله، أو يكون واسطة له عند الله؛ لأن الشرع بين هذا وأوضحه غاية الإيضاح، فالذي يخالف في هذا، ويعتقد غير هذا لا عذر له بعد البيان والإيضاح الكامل من ربنا جلَّ وعلا، ومن رسولنا صلى الله عليه وسلم.(46/8)
الرد على من ادعى أن للأولياء تصرفات في الكون حال حياتهم وموتهم]
قال الشارح رحمه الله تعالى: [وقال الشيخ صنع الله الحلبي الحنفي رحمه الله في كتابه في الرد على من ادعى أن للأولياء تصرفات في الحياة وبعد الممات على سبيل الكرامة: هذا وإنه قد ظهر الآن فيما بين المسلمين جماعات يدَّعون أن للأولياء تصرفات في حياتهم وبعد مماتهم، ويُستغاث بهم في الشدائد والبليات، وبهممهم تُكشف المهمات، فيأتون قبورهم وينادونهم في قضاء الحاجات، مستدلين أن ذلك منهم كرامات، وقالوا: منهم أبدال ونقباء، وأوتاد ونجباء، وسبعون وسبعة، وأربعون وأربعة، والقطب هو: الغوث للناس، وعليه المدار بلا التباس، وجوَّزوا لهم الذبائح والنذور، وأثبتوا لهم فيهما الأجور.
قال: وهذا كلام فيه تفريط وإفراط، بل فيه الهلاك الأبدي والعذاب السرمدي؛ لما فيه من روائح الشرك المحقق، ومصادمة الكتاب العزيز المصدَّق، ومخالفة لعقائد الأئمة وما اجتمعت عليه الأمة، وفي التنزيل: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرَاً} [النساء:115] ثم قال: فأما قولهم: إن للأولياء تصرفات في حياتهم وبعد الممات، فيرده قوله تعالى: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:60]، وقوله: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]، وقوله تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الشورى:49] ونحوها من الآيات الدالة على أنه المتفرد بالخلق والتدبير، والتصرف والتقدير، ولا شيء لغيره في شيء ما بوجهٍ من الوجوه، فالكل تحت ملكه وقهره تصرفاً وملكاً، وإحياءً وإماتةً وخلقاً، وتمدَّح الرب تعالى بانفراده بملكه في آيات من كتابه كقوله تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [فاطر:3]، وقوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:13 - 14]، وذكر آيات في هذا المعنى.
ثم قال: فقوله في الآيات كلها: (مِنْ دُونِهِ) أي: من غيره، فإنه عام يدخل فيه من اعتقدتَه، من ولي وشيطان تستمده، فإن من لم يقدر على نصر نفسه كيف يَمد غيره؟! إلى أن قال: إن هذا لقول وخيم وشرك عظيم إلى أن قال: وأما القول بالتصرف بعد الممات، فهو أشنع وأبدع من القول بالتصرف في الحياة، قال جلَّ ذكره: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] وقال: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر:42] وقال: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185] وقال: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38]، وفي الحديث: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلَّا من ثلاث:) الحديث.
فجميع ذلك وما هو نحوه: دال على انقطاع الحس والحركة من الميت، وأن أرواحهم مُمْسَكة، وأن أعمالهم منقطعة عن زيادة أو نقصان، فدل ذلك على أنه ليس للميت تصرف في ذاته فضلاً عن غيره، فإذا عجز عن حركة نفسه فكيف يتصرف في غيره؟! فالله سبحانه يخبر أن الأرواح عنده، وهؤلاء الملحدون يقولون: إن الأرواح مطلقة متصرفة، {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة:140].
قال: وأما اعتقادهم أن هذه التصرفات لهم من الكرامات، فهو من المغالطة؛ لأن الكرامة شيء من عند الله يكرم به أولياءه، لا قصد لهم فيه ولا تحدٍّ، ولا قدرة ولا علم، كما في قصة مريم بنت عمران رضي الله عنها وأسيد بن حضير وأبي مسلم الخولاني قال: وأما قولهم: فيستغاث بهم في الشدائد، فهذا أقبح مما قبله وأبدع؛ لمصادمته قوله جلَّ ذكره: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:62] وقال: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعَاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} [الأنعام:63 - 64]، وذكر آيات في هذا المعنى.
](46/9)
إيمان المشركين بربوبية الله
إن القرآن يقص علينا من أول ما بعث الله جلَّ وعلا الرسل إلى آخرهم: أن المشركين الذين بُعثت إليهم الرسل كانوا يؤمنون بأن الله جلَّ وعلا هو الخالق الرازق المدبر المحيي المميت، كما قال الله جلَّ وعلا عنهم: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف:87] وقال في الآية الأخرى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:9] وقال في الآية الأخرى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر:38] إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي تبين أن المشركين كانوا يعتقدون ويؤمنون بأن التصرف لله وحده في الكون كله: في الحياة والخلق والإيجاد والرزق وغير ذلك، ولهذا يقول الله جلَّ وعلا: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106].
وإيمانهم بالله: أنك إذا سألتهم، وقلت لهم: من خلق هذه الأشياء؟ ومن خلقكم؟ ومن خلق مَن قبلكم؟ قالوا: الله، هو المتفرد بهذا الخلق.
وشركهم: أنهم يعبدون مع الله غيره.
ويقول جلَّ وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشَاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقَاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادَاً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:21 - 22]، أقروا بأن الله جلَّ وعلا هو الذي خلقهم، وهو الذي خلق مَن قبلهم، وهو الذي خلق الأرض وجعلها على هذه الصفة: يمكن الانتفاع بها والاستقرار عليها، وهو الذي رفع السماء، وهو الذي ينزل من السماء الماء، فينبت به النبات الذي يأكلونه وتأكله أنعامهم فينتفعون منه، فلا يوجد أحد منهم ينازع في هذا أو ينكره، ولهذا قال: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادَاً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22] تعلمون أنه جلَّ وعلا هو المتفرد بهذه الأشياء المذكورة، ليس معه أحد: لا ولي ولا نبي ولا ملَك ولا غير ذلك.(46/10)
حال المشركين في زماننا
فاعتقاد أن الأولياء يتصرفون في الكون، ويتصرفون في العطاء والمنع والنفع والضر وغير ذلك، أشد مما اعتقده المشركون، فالذي يعتقد هذا -في الواقع- ضلَّ في عقله وفي دينه، وهو ضلال لم يصل إليه ضلال أبي جهل وأضرابه من الكفار السابقين، فهو ضلال متناهٍ، فالولي عبد من عباد الله جلَّ وعلا، أكرمه الله جلَّ وعلا بأن وفقه إلى عبادته وطاعته، وقد أخبرنا جلَّ وعلا عن صفة الأولياء مَنْ هم؟ فقال: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63]، هؤلاء هم الأولياء الذين آمنوا بالله جلَّ وعلا واهتدوا بهداه، واتبعوا كتابه، واقتفوا أثر رسوله صلى الله عليه وسلم، واتقوا أن يقعوا في المحرمات، اتقوها بطاعة الله.
فما ذَكر عن هؤلاء -في الواقع- خلاف ما كان عليه القدامى من المؤمنين ومن المشركين، فهو شذوذ عقلي وفكري، لا يدل عليه عقل، ولا وضع، ولا فطرة، فضلاً عن الكتب التي نزَّلها الله جلَّ وعلا فإنه مصادَمةٌ لها.(46/11)
الكرامات من فعل الله عز وجل
وأما دعوى الكرامة، فالكرامات من فعل الله جلَّ وعلا وليس للإنسان فيها صنع، ولا دخل له فيها، فإنها شيء يمن الله جلَّ وعلا به على عباده الذين يحتاجون إلى ذلك، يكرمهم به، وليس من شرط ولي الله أن يظهر على يده كرامة، فالكرامة تكون للحاجة، وهي من مقتضى ربوبية الله جلَّ وعلا، فإن رب العالمين هو الذي يربيهم بنعمه، فإذا احتاجوا إلى شيء أعطاهم إياه بمقتضى ربوبيته جلَّ وعلا.
وذكر بعض أمثلتها: كما وقع لـ مريم بنت عمران حينما ذكر الله جلَّ وعلا أن زكريا كلما دخل عليها المحراب: {وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقَاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:37] يعني: بلا سعي منها، وإنما يأتي به الله جلَّ وعلا، والمقصود بـ (المحراب): المسجد المصلى الذي يُصلى فيه مكان الصلاة.
وكذلك ما وقع لـ أسيد بن حضير حينما خرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة ظلماء وهو في المدينة، وكان بيده سوط فأضاء له السوط، وصار في رأسه ضوء يبصر به طريقه، ويراه واضحاً جلياً، وكان معه أحد الصحابة، فكان هذا السوط يضيء لهما كأنه السراج، ثم لما وصلا إلى مكان يفترقان فيه -كل واحد يذهب إلى بيته- افترق هذا الضوء، فصار لكل واحد منه نصيباً، حتى وصلا إلى بيتيهما، فهذه كرامة من الله جلَّ وعلا وليست منهما.
وكذلك ما ذكر أنه وقع لـ أبي مسلم الخولاني، أبو مسلم الخولاني من التابعين، وهو الذي قال له الأسود العنسي لما ادَّعى النبوة: أتؤمن بي؟ قال: لا أسمع.
قال: أتؤمن بمحمد؟ قال: نعم.
فأمر به أن يُلقى في نار، فصارت النار عليه برداً وسلاماً، كما كانت على إبراهيم.
فهل هذا من صنع أبي مسلم؟! ليس من صنعه، بل من صنع الله جلَّ وعلا ومن فعله، ولا دخل لـ أبي مسلم فيه.
وكذلك لما ذهب في الجهاد في سبيل الله فاعترضهم البحر، فقال لهم: سيروا خلفي، فإننا عباد الله، وفي سبيله: باسم الله وعلى الله توكلنا، ولا حول ولا قوة إلَّا بالله، فخاض البحر على فرسه، وخاض الناس خلفه، فلما عبروه وقف وقال: هل أحد منكم فقد شيئاً فأدعو الله أن يأتي به؟ فقال رجل منهم: فقدت قدحاً، فسأل ربه، فالتفت فإذا هو قد تعلق في خلف راحلته.
هذا وما أشبهه من الكرامات التي يكرم بها جلَّ وعلا عباده هي من فعل الله جلَّ وعلا، وليست من فعل العباد، ولا تصرف للعباد فيها، وهي أيضاً من آيات الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذه لا تكون إلَّا لأتباع الرسل، أما إذا كانت للعصاة، ولمن يخالف كتاب الله وسنة رسوله، فهي من أمور الشيطان التي يلبِّس بها، فهي -في الواقع- إهانات وليست كرامات.
والمقصود: أن الملك كله لله، والعبادة كلها لله، ولا يجوز أن يُسأل مخلوق من المخلوقات -سواءً كان نبياً أو ملَكاً أو ولياً أو غيرهم- شيئاً لا يقدرون عليه.(46/12)
جواز الاستعانة بالحي الحاضر فيما يقدر عليه
لا يجوز أن يُسألوا مما هو من خصائص الله جلَّ وعلا، فلا يُستغاث بهم، ولا تطلب منهم الحاجات التي لا يقدرون عليها، وإنما يُسأل الحي الحاضر المستطيع: يُسأل إذا كان مستطيعاً أن يعطيك ما تسأله، ويُستغاث به في الشيء الذي يستطيعه، كما قال الله جلَّ وعلا في قصة موسى عليه السلام: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص:15]، فبين أن الاستغاثة في مثل هذا جائزة: الاستغاثة في الشيء الظاهر، والأمر المحسوس المشاهَد، والمقدور عليه ممن يستطيع ذلك: لا بأس بها، أما الاستغاثة من ميت، أو من غائب، أو بحي حاضر غير مستطيع في أن يكشف عنه داء القلوب، أو مرض الأبدان، أو يجلب له الرزق، أو يوفقه، أو يهديه، أو ما أشبه ذلك من الأمور التي هي بيد الله، فهذا شرك بالله جلَّ وعلا؛ لأنه صرفٌ لحقه للمخلوق، فلا يجوز أن يقع المسلم في مثل هذه الأمور، ويجب أن يعرف أمر الله عليه، وما أوجبه الله جلَّ وعلا على عباده، فإن لله حقاً على العباد لا يجوز أن يُجعل منه شيء لأحد من الخلق، وليس طلبُ الدعاء والشفاعة من الحاضر الذي يسمع ويقدر من هذا الباب، بل هو جائز.
والخلاصة في هذا: أن المخلوق لا يُطلب منه إلَّا ما في مقدوره واستطاعته، والميت لا قدرة له، ولا استطاعة له، ولا تصرف له، وكذلك الغائب، مثل: الجني والملَك الذي لا يشاهَد ولا يُرى فإنه لا يُسأل ولا يُطلب منه، سواءً ادُّعي أنه ولي من أولياء الله، أو نبي من أنبياء الله، أو ملك من الملائكة أو غير ذلك، فإن الله جلَّ وعلا تعبَّد العباد بأنه يملك النفع ويدفع الضر، وأنه لا أحد من خلقه يشاركه في هذا.(46/13)
الأمر كله بيد الله وحده
ولهذا أمر رسولَه صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرَّاً وَلا نَفْعَاً} [يونس:49]، وأمره أن يقول: {قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدَاً} [الجن:22]، وهذا أفضل الخلق صلوات الله وسلامه عليه، يأمره ربه جلَّ وعلا أن يتبرأ إلى الله جلَّ وعلا بأنه لا يملك مما في يد الله شيئاً.
وقد وقع له ما وقع يوم أحد، حينما شُج وجهه صلوات الله وسلامه عليه، وكُسرت رباعيته، ودخلت حلقة المِغْفَر في وجنته صلوات الله وسلامه عليه، وصار الدم يسيل على وجهه، فيسلته ويقول: (كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم؟!) ثم صار يدعو على هؤلاء الذين فعلوا هذا الفعل الشنيع الفظيع دائماً في الصلاة، يقول: (اللهم العن فلاناً وفلاناً وفلاناً، وسادةُ الأولياء من صحابته خلفَه يؤمِّنون، ويقولون: آمين، مكث شهراً يفعل ذلك، فأنزل الله جلَّ وعلا عليه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128]) ثم تاب الله جلَّ وعلا عليهم -على هؤلاء- فأسلموا.
فليس لأحد من الخلق مع الله تصرف، فالأمر كله بيد الله، والنفع بيد الله، فليس للأحياء شيء فضلاً عن الأموات، أما الميت فهو مرتَهَن بعمله، كما قال الله جلَّ وعلا: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38] (رهينة) يعني: محبوسة ومحتبَسة بعملها، وليست مطلقة متصرفة كما يقول هؤلاء الضُّلَّال، فإنه كذب على الله جلَّ وعلا وعلى دينه، وتدخل في ملكه وتصرفه وأمره.
وكذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا مات الإنسان انقطع عمله) ينقطع وينتهي، فإذا كان ينقطع عمله لنفسه، فكيف يستطيع أن يعمل لغيره؟! وكيف يستطيع أن يغيث غيره؟!(46/14)
من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه
أما الشفاعة: فإن الله جلَّ وعلا أخبرنا أن الشفاعة له جميعاً، وليست لأحد من الخلق، ولا أحد يستطيع ويجرأ أن يشفع إلا إذا أذن له، وقال له: اشفع، كما قال الله جلَّ وعلا: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] (من ذا الذي؟!) هذا استفهام إنكار، يعني: أنه لا يوجد أحد من الخلق يتقدم طالباً الشفاعة من الله إلَّا إذا أذن له الله جلَّ وعلا وقال له: اشفع، وقد أخبرنا جلَّ وعلا أن الشفاعة لا تكون لمن يطلبها من الخلق، وإنما تكون لمن يطلبها من الله، ومَن يخلص دعوته لله جلَّ وعلا، فالشفاعة لأهل التوحيد، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لما سئل: (من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال صلى الله عليه وسلم: أسعدهم بشفاعتي: مَن قال: (لا إله إلَّا الله) خالصاً من قلبه) فبين أن الشفاعة لأهل الإخلاص، أما الذي يقول: (لا إله إلَّا الله) وهو يدعو غير الله، فإنه لم يخلص، وقد أتى بما يمنع من الشفاعة؛ لأن الشفاعة لأهل التوحيد الخالص، وهذا أمر جلي وواضح، ولكن إذا كثر الجهل، وتتابع الناس على أوضاع توافقوا عليها، أو وجدوا أهل بلادهم أو آباءهم عليها: اعتقدوا أنها دين، واستبعدوا أن يكون الناس قد تتابعوا على شرك وشيء باطل، فيقع هذا في نفوسهم ويتأصل، وإذا قيل لهم أو نوقشوا في هذا، استبعدوا أن يكون المناقِش والقائل هو المهتدي، والناس الكثيرون ضلوا في هذا! فصار الشيطان يصدهم عن اتباع الحق بهذا السبب.(46/15)
على الإنسان أن يسعى في فكاك نفسه وخلاصها من العذاب
ومعلوم أن الهدى في كتاب الله جلَّ وعلا، وفي سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته، وهذا بين وواضح ليس به خفاء، وإنما يقع في مثل هذه الأمور الجُهَّال، الذين لم يهتدوا بنور كتاب الله جلَّ وعلا، ولم يقتدوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم في ذلك -في الواقع- مقصرون؛ لأنهم تركوا ما يجب عليهم أن يهتموا به؛ فإن الواجب على الإنسان أن يعتني بأمر دينه أكثر من اعتنائه بأمر دنياه، ولا يجوز للعاقل أن تكون الدنيا عنده أهم من أمر آخرته، وأمر دينه.
ومعلوم أن الجزاء يقع على فعل الإنسان في حال حياته، أما إذا مات فقد انتهى الأمر، ولا يمكن أن يُستعتب الإنسان بعد موته ويُثاب عليه، ويَطلب المغفرة لنفسه فيُغفر له! قد انتهى الأمر، وقد جاء النذير إلى الناس، جاءهم الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الحياة وبلغهم، وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن من بلغه ذكره أنه قد وصل إليه البلاغ، ففي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (والله لا يسمع بي أحمر أو أبيض ثم لا يؤمن بي إلَّا أقحمه الله النار) فعلَّق ذلك بمجرد السماع بذكره؛ لأن العاقل إذا سمع بذلك وجب عليه أن يبحث وجب عليه أن يتعلم دينه ويعرفه، وهو ميسور والحمد لله، وليس صعباً، وكذلك يقول الله جلَّ وعلا: {لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:19]، فمن بلغه القرآن -بلغته ألفاظُه- فقد وصلت إليه الحجة وقامت عليه، فعليه هو أن يجتهد في معرفة الحق، وقد جعل الله جلَّ وعلا في الناس عقولاً وأفكاراً، فيجب أن يستعملوا عقولهم وأفكارهم فيما ينفعهم، لا أن يستعملوها في أمر الدنيا فقط، فالدنيا أمرها سهل وميسور، وهي عابرة وزائلة بسرعة، ولكن الأهوال بعد الموت؛ لأن الإنسان ما خلق ليفنى وما خلق ليموت بل خلق للبقاء السرمدي الذي لا نهاية له، ففي حياته الدنيوية إما أن يكتسب السعادة، وإما أن يجلب إلى نفسه الشقاء الأبدي، وليس هناك طريق ثالث، لأن الاستقرار بعد حشر الناس وجمعهم يوم القيامة إما في الجنة وإما في النار، ولا توجد منزلة ثالثة، ثم دخول الجنة ودخول النار ليس مؤقتاً ولا محدداً بفترة، لا بألف سنة ولا بمليون سنة ولا بمائة مليون سنة، بل حياة إلى أبد الآباد: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ} [هود:107]، والمصيبة أن الذي يوضع في النار لا يمكن أن يموت: {لا يَمُوتُ فِيْهَا وَلا يَحْيَا} [طه:74] {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودَاً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56]، وكلما: للتكرار الذي لا نهاية له.
فإذا كان الأمر هكذا: فإنه يجب على العاقل أن يسعى في فكاك نفسه، وفي خلاصها من العذاب، وفي تحصيل السعادة الأبدية التي لا تشبهها أي سعادة يعرفها الإنسان في هذه الدنيا، فإن الإنسان إذا عمل بتقوى الله وبطاعته وبرضاه، وقبل الله منه ذلك، فإنه يكون جاراً لله جلَّ وعلا في الجنة، وملائكة الله تخدمه، وتدخل عليه مسلمة وتقول: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:24]، فكيف يذهب العاقل يتعلق بمخلوق ضعيف مثله، لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً؟! هذا لا يليق بالعاقل، بل يجب أن يكون تعلقه بالخالق جلَّ وعلا بالرب الكريم بالجواد الرحيم بالذي بيده ملكوت كل شيء، وقد استدل ربنا جلَّ وعلا على المشركين في كونهم يقرون بأن الله جلَّ وعلا هو المتصرف وحده: بوجوب إخلاص العبادة له في آيات كثيرة سيأتي شيء منها إن شاء الله.
[فإنه جلَّ ذكره قرر أنه الكاشف للضر لا غيره، وأنه المتفرد بإجابة المضطرين، وأنه المستغاث لذلك كله، وأنه القادر على دفع الضر، القادر على إيصال الخير، فهو المتفرد بذلك، فإذا تعين هو جلَّ ذكره خرج غيره من ملَك ونبي وولي قال: والاستغاثة تجوز في الأسباب الظاهرة العادية من الأمور الحسية: في قتال أو إدراك عدو أو سبع أو نحوه، كقولهم: يا لَزيد! ويا لَلمسلمين! بحسب الأفعال الظاهرة بالفعل، وأما الاستغاثة بالقوة والتأثير، أو في الأمور المعنوية من الشدائد: كالمرض، وخوف الغرق، والضيق، والفقر، وطلب الرزق ونحوه فمن خصائص الله، لا يُطلب فيها غيره قال: وأما كونهم معتقدين التأثير منهم في قضاء حاجاتهم، كما تفعله جاهلية العرب والصوفية الجُهَّال، وينادونهم ويستنجدون بهم فهذا من المنكرات، فمن اعتقد أن لغير الله -من نبي أو ولي أو روح أو غير ذلك- في كشف كربة أو قضاء حاجة تأثيراً فقد وقع في وادي جهل خطير، فهو على شفا حفرة من السعير، وأما كونهم مستدلين على أن ذلك منهم كرامات فحاشَ لله أن يكون أولياء الله بهذه المثابة! فهذا ظن أهل الأوثان، كذا أخبر الرحمان قال تعالى: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس:18]، وقال: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، وقال: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئَاً وَلا يُنقِذُونِ} [يس:23]، فإنَّ ذِكْرَ ما ليس من شأنه نفع ولا دفع الضر -من نبي وولي وغيره- على وجه الإمداد منه: إشراكٌ مع الله؛ إذ لا قادر على الدفع غيره ولا خير إلَّا خيره].(46/16)
حال المشركين الأوائل عند الشدائد
المشركون القدامى لم يكونوا معتقدين في معبوداتهم -سواءً كانت أصناماً مثل: الشجر والحجر، أو كانت قبوراً مثل: اللات ونحوها -على أحد قولي العلماء-، أو مثل: عيسى وعزير وأم عيسى عليهم السلام، أو الملائكة، أو الأجرام السماوية مثل: الكواكب والشمس والقمر وما أشبه ذلك- أنها مشارِكة لله جلَّ وعلا في العطاء والمنع والدفع والنفع، وما كانوا يعبدونها على هذا الأساس، وإنما كانوا يعبدونها زاعمين أنها تقربهم إلى الله زلفى وتشفع لهم، كما ذكر الله جلَّ وعلا ذلك عنهم، وهذا هو شركهم الذي كانوا يفعلونه، وهذا شيء معروف لمن نظر في التاريخ، ونظر في وقائعهم، وفي حالتهم التي كانوا عليها.
ولهذا كانوا إذا وقعوا في شدة تركوا هذه الأشياء، واتجهوا إلى الله وأخلصوا له الدعوة، كما أخبر الله جلَّ وعلا ذلك عنهم: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت:65] أي: أنهم إذا ركبوا في البحر، فهبت عليهم الريح العاصفة -التي يتوقعون أنها ستهلكهم وتغرقهم- اتجهوا إلى الله مخلصين له في دعائهم، ولا يدعون معه غيره، وقد جاءت الأخبار بأنهم إذا كانوا في مثل هذه الحالة، وكانت معهم الأصنام ألقوها في البحر، وقالوا: إنها لا تنفع في مثل هذه الحالة.
فالمقصود: أن عبادتهم لهم كانت على سبيل الوساطة، يجعلونهم وسائط بينهم وبين ربهم، ويقولون: نسأل الله بهم، أي: نسألهم وهم يسألون الله لنا، ويقولون: نطلب منهم أن يشفعوا لنا عند الله، فهذا هو الشرك الذي وقعوا فيه، أما أن أحداً منهم كان يعتقد أن الشجرة -مثلاً- تنزل المطر، أو تنبت النبات، أو تجلب الرزق، أو تدفع العدو، فما كان أحد منهم يعتقد هذا، وكذلك الميت، ما كان أحد منهم يعتقد أنه ينزل المطر، أو يحيي أو يميت، أو أنه يجلب الرزق، أو أنه يدفع العدو، أو أنه يزيل المرض، أو أنه يمسك الخير، ما كانوا يعتقدون ذلك، وإنما كانوا يقولون: نطلب منه حتى يسأل الله لنا، فيعطينا الذي نريده، هذا هو شرك المشركين، ولم يكن أحد منهم يطلب مخلوقاً على وجه الاستقلال، أو وجه المشارَكة مع الله جلَّ وعلا.(46/17)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [47]
من المعلوم أن الإنسان لا يجوز له أن يفعل فعلاً أو يقدم على أمر من أمور العبادة إلا بدليل من كتاب الله أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، بخلاف أمور المعاملات والمطعومات والمشروبات فإن الأصل فيها الحل حتى يأتي الدليل بتحريمها، ولهذا فقد اتفق العلماء على أن العبادة مبنية على شرطين: الأول: أن تكون خالصة لله، والثاني: أن تكون على وفق ما جاء به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.(47/1)
لا وجود للأبدال والأقطاب والأوتاد
قال المصنف رحمه الله: [وأما ما قالوه: إن منهم أبدالاً ونقباءَ، وأوتاداً ونجباءَ، وسبعين وسبعة، وأربعين وأربعة، والقطب هو: الغوث للناس، فهذا من موضوعات إفكهم، كما ذكره القاضي المحدث أبو بكر بن العربي في سراج المريدين، وابن الجوزي، وابن تيمية رحمهم الله.
انتهى باختصار].
يعنون: أن هذا من الكذب وليس له أصل، وإنما جاء ذكر الأبدال في بعض الآثار، وفيها نظر عند بعض العلماء، وجاء: (أن الأبدال بالشام) ومعنى الأبدال: أنه كلما ذهب واحد منهم جاء غيره بدلاً عنه، وإذا صح ذلك فإن معناه: أنهم الذين يقومون بالدعوة إلى الله، والذين يقومون بالحجة على عباد الله؛ لأن حجة الله لا تضمحل ولا تزول ولا تنتهي، وفي الحديث المشهور: (يحمل هذا العلم من كل خَلَف عدولُه ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين)، وليس فيه أن الأبدال يُدعَون مع الله، وأنهم يغيثون.
أما الذي يسمونه: القطب، أو النجباء، أو السبعين، أو السبعة، أو الأربعة: فهذا من الكذب، ليس هناك ما يدل على هذا، لا من كتاب الله جلَّ وعلا، ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا من أقوال الصحابة وأتباعهم، وإنما هو من الكذب، وقد بين العلماء أن هذا لا أصل له، وإذا كان هناك أولياء لله جلَّ وعلا فهم لا يرضون بأن يدعَون مع الله، بل يغضبون لذلك، ويكفرون بالداعي، ويبغضونه ويتبرءون منه، كما أخبر الله جلَّ وعلا عنهم فقال: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزَّاً * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدَّاً} [مريم:81 - 82]، ما معنى (يكونون عليهم ضداً)؟ أي: يكونون ضدهم يوم القيامة: بأن يتبرءون منهم، ويلعنونهم، ويكفرون بهم، كما في الآية الأخرى: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضَاً} [العنكبوت:25]، وفي آية ثالثة: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:6]، يعني: إذا جُمعوا يوم القيامة، وقيل لهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تدعونهم، فيذهبون إليهم، ويسألونهم: أأنتم الذين نستغيث بكم ونسألكم؟ فيتبرءون منهم، ويقولون: كذبتم، نحن لا نغيث أحداً، ونحن نبرأ إلى الله منكم ومن أفعالكم، فماذا يكون مع الداعي؟! يكون معه الخيبة والضلال، وغرور الشيطان.
ومعلوم أن الإنسان لا يجوز له أن يفعل فعلاً، أو يقدم على أمر من الأمور، إلا بدليل من كتاب الله أو من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فالعبادة محرمة -كما يقول العلماء- حتى يأتي الدليل، بخلاف أمور المعاملات، وأمور المطعومات والمشروبات، فإن الأصل فيها الحل، حتى يأتي الدليل على التحريم، أما أمور العبادة فبالعكس، ولهذا اتفق العلماء على أن العبادة مبنية على شيئين: أحدهما: أن تكون العبادة خالصة لله جلَّ وعلا.
والثاني: أن تكون على وفق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، أما إذا كانت بالرأي، أو بالعادة التي وجد عليها الناس، فهي غير معتبرة وغير مقبولة، بل مردودة على صاحبها، ولهذا ثبت في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) أي: فهو مردود على صاحبه، فكل عمل ليس عليه أمر الرسول صلى الله عليه وسلم لا يكون معتبراً، ولا يكون صحيحاً.
[والمقصود: أن أهل العلم ما زالوا ينكرون هذه الأمور الشركية التي عمت بها البلوى، واعتقدها أهل الأهواء، فلو تتبعنا كلام العلماء المنكرين لهذه الأمور الشركية لطال الكتاب.
]: الواقع: أنه ما وقع فيها إلَّا الجُهَّال، والجُهَّال لا عبرة فيهم، ولا يجوز للإنسان أن يغتر بهم، أما العلماء فهم لا يزالون ينصحون الأمة ويحذرونها من الوقوع في مثل هذه الأمور؛ لظهورها ووضوحها، فهي واضحة، ومن المعلوم لدى المسلمين في عقائدهم أن الإنسان يُسأل عن أصول الدين في قبره: يُسأل مَن الذي تعبُد؟ وبأي شيء تعبُده؟ ومَن الذي جاءك بما تتعبَّد به؟ هذه الأسئلة الثلاثة لا بد منها لكل ميت، فإذا كان الإنسان عارفاً عالماً بذلك، أجاب بكل سهولة وبلا تلعثم ولا تردد، فيقول: أعبد الله، ويقول: أعبده بالشرع الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا قيل له: مَن؟ قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم عرفتُه وصدقته فاتبعته، وليس معنى ذلك أن الإنسان إذا عرف اسم الرسول صلى الله عليه وسلم، واسم أبيه، واسم جده، وقال: هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم أن هذا يكفي! بل لا بد أن تعرفه المعرفة الصحيحة بأنه رسول من عند الله، تعرفه بالآيات التي جاء بها، وتقتنع بذلك، وتؤمن به إيماناً لا يعتريه الشك.(47/2)
طرق معرفة رسول الله صلى الله عليه وسلم
ومعرفته لها طرق كثيرة: ومن أهم الطرق التي يتعرف بها على الرسول صلى الله عليه وسلم: سيرته صلوات الله وسلامه عليه، فقد جاء إلى أمة كافرة مشركة وهو وحده، فصار يقول لهم: (قولوا: (لا إله إلَّا الله) تفلحوا)، وإن لم تفعلوا فإن الله جلَّ وعلا سوف يسلطني عليكم، فأقتلكم وآخذ أموالكم، أيمكن أن يأتي رجل واحد ليس معه جند ولا قوة، إلى أمة كبيرة معادية له، فيقول لهم هذا القول وهو وحده؟! معنى ذلك: أنه يغريهم بقتله، ويدعوهم إلى ذلك، ولا يقول ذلك إلَّا من يثق بالله جلَّ وعلا من كان الله معه من كان رسولاً لله، وكذلك من المعلوم عند العقلاء أن الإنسان إذا جاء إلى الناس، وقال: أنا رسول الله، فإنه لا يخلو الأمر من شيئين: إما أن يكون أصدق الناس، وأبر الناس، وأتقى الناس، وأقرب الناس إلى الله، أو يكون أكذب الناس، وأفشل الناس، وأبعد الناس عن الله جلَّ وعلا.
وهل يلتبس هذا بهذا؟! أيمكن أن يلتبس هذا بهذا؟! لا يمكن أبداً؛ لأن مدعي النبوة من أبعد الخلق، ومن أكذب الخلق، ومن أخبث الخلق، أما النبي إذا جاء من الله صادقاً: فهو أبر الخلق، وأصدقهم، وأقربهم إلى الله.
وهذا من الأدلة المعتبرة.
ومنها: كونه يخبر بأمور الغيب يخبر بالشيء، فيقع كما أخبر به صلوات الله وسلامه عليه.
ومنها: كونه يسأل ربه فيعطيه.
ومنها: الآيات التي وقعت على يده، وهي كثيرة جداً، ومن أعظمها: هذا الكتاب الذي جاء به من عند الله.
بهذه الطرق تكون معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم، وليست بمعرفة اسمه وترديده وحفظه، كما قد يغتر به من يغتر.
وكذلك معرفة الله جلَّ وعلا بالأدلة المقنِعة، وهذا أمر لا يحتاج إلى ذكر أدلة؛ لظهوره ووضوحه.
أما معرفة الإسلام فهو بالتعلُّم، فلا بد من تلقيه وتعلُّمه، وهذا أمر يتعين على العبد، فيتعين عليه أن يعرف كيف يعبد الله كيف يصلي كيف يصوم كيف يتوضأ، ولا يجوز أن يكون جاهلاً بهذه الأمور، بحيث لا يدري هل الصلاة ركعتين أو أربع أو ثلاث؟ أو لا يدري ماذا يقول ويفعل في الصلاة؟ فالشيء الذي يتعين على العبد فعله يجب عليه أن يكون حريصاً على معرفته كل الحرص، وليس عيباً أن يسأل وأن يحرص على معرفة الحق، بل هذا يدل على اهتمامه، ويؤجر على ذلك.
قال الشارح رحمه الله تعالى: [والبصير النبيل يدرك الحق من أول دليل، ومن قال قولاً بلا برهان فقوله ظاهر البطلان مخالف لما عليه أهل الحق والإيمان، المتمسكون بمحكم القرآن، المستجيبون لداعي الحق والإيمان، والله المستعان وعليه التكلان].(47/3)
ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك
قال المصنف رحمه الله: [وقول الله تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذَاً مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس:106] {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس:107]]: هذه الآية خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن الأمة تبعٌ له، فالله جلَّ وعلا نهى أقرب الناس إليه أن يدعو ما لا ينفعه ولا يضره، وهذا يصدق على كل مخلوق من المخلوقات: سواءً كان من الملائكة، أو من الرسل، أو من البشر، فضلاً عن الجمادات وغيرها، فأمره بقوله: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ} [يونس:106] ثم قال: {فَإِنْ فَعَلْتَ} [يونس:106] يعني: دعوتَ من دون الله {فَإِنَّكَ إِذَاً مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس:106]: والظلم هنا المقصود به: الشرك، وهذا كقوله جلَّ وعلا: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:65 - 66]، وكذلك لما أخبر عن أنبيائه قال: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:88] يعني: لو أشركوا بالله جلَّ وعلا لحبطت أعمالهم، فليس بين العباد وبين الله صلة بقرابة أو ما أشبه ذلك إلَّا بطاعته، من أطاعه فهو وليه وهو الكريم عنده، {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، فإذا كان هذا الخطاب يوجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فكيف بمن عداه؟! وقوله: ((وَلا تَدْعُ)): يدخل فيه دعاء المسألة ودعاء العبادة.
{وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ} [يونس:106]، فكل الخلق لا ينفعون ولا يضرون، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس الذي رواه الترمذي وغيره: (واعلم أن الخلق لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لك لن يستطيعوا ذلك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لن يستطعيوا ذلك)، وكذلك ما رواه مسلم في صحيحه من قوله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه جلَّ وعلا: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد، ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد، ما نقص ذلك في ملكي شيئاً وفيه: إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني)، فالأمر كله بيد الله جلَّ وعلا، فهو الذي يملك النفع ويملك الضر، ولهذا قال له: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذَاً مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس:106] يعني: إذا دعوت غير الله فقد وقعت في الظلم الذي هو الشرك بالله؛ لأن الظلم أنواع، وأعظمها: الشرك، والظلم في الأصل هو: وضع الشيء في غير موضعه، ووضع العبادة لغير من يستحقها أعظم الظلم، ولا أظلم ممن يدعو مَن لا تجوز دعوته، وفي هذه الآية دليل على أن الإله المدعو يجب أن يكون مالكاً للنفع والضر، يملك ما يُدعى من أجله، وهذا لا يكون للمخلوق، ولا يكون إلَّا لله جلَّ وعلا، الذي بيده ملكوت كل شيء، وهو الذي إذا أراد نَفْعَ عبده نَفَعَه، وإن شاء ضُرَّه ضَرَّه، أما الخلق فلا يستطيعون شيئاً من ذلك، إلا إذا أراد الله جلَّ وعلا، والله لم يجعل الشرك سبباً لجلب الخير أو دفع الشر، بل هو سبب للشرور.
وقوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} [يونس:107] يعني: أن هذا منفي عن جميع الخلق، فلا يستطيع أحد أن يدفع عنك شراً أو مصيبة قدرها الله عليك، وذلك إنما هو بيد الله، فإن شاء أزاله عنك، وإن شاء أبقاه {وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس:107] أي: أنه لا يستطيع أحد أن يمنع فضلاً أراده الله لك، فإذا أراد بعبده رحمة: من صحة وعافية وهدىً ورزق وغير ذلك، فإنه لا أحد يستطيع رد فضله، إذاً: فالأمر كله بيده، فيجب أن يُعبد وحده، وتكون العبادة خالصة له، ويكون الدعاء له وحده.
وقوله تعالى: {فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [يونس:107] أي: يصيب بفضله من يشاء، فالأمر إليه، وليس للإنسان ولا للخلق.
{وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس:107] الله جلَّ وعلا غفور رحيم مع كثرة الخطائين، وتجاوزهم لأمر الله جلَّ وعلا، فهو غفور لمن استغفر ورجع وتاب، ورحيم بالمؤمنين الذين يؤمنون، وإن كانت عندهم ذنوب وأخطاء، فإنه يغفر لهم ويرحمهم.
قال الشارح رحمه الله: [قال ابن عطية: معناه: قيل لي: (وَلا تَدْعُ)، فهو عطف على {أَقِمْ} [يونس:105]، وهذا الأمر والمخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم] أي: أن الله جل وعلا أمره أن يقيم وجهه، ثم عُطف عليه قوله: ((وَلا تَدْعُ))، فهو أمر؛ لأن قوله: {أَقِمْ} أمر، وكذلك قوله: ((وَلا تَدْعُ)) معطوف عليه، فهو أمر من الله جلَّ وعلا لرسوله صلى الله عليه وسلم، والمقصود: أمته فهي تبع له في ذلك.
[وهذا الأمر والمخاطبة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
إذا كانت هكذا، فأحرى أن يحذر من ذلك غيره، والخطاب خرج مخرج الخصوص، وهو عام للأمة]: يعني: أن الخطاب خوطب به الرسول صلى الله عليه وسلم والمقصود به: العموم، فكل الخلق مخاطبون بذلك.(47/4)
العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب
قال الشارح رحمه الله: [قال أبو جعفر بن جرير في هذه الآية: يقول تعالى ذكره: ((وَلا تَدْعُ)): يا محمد! من دون معبودك وخالقك شيئاً ((لا يَنْفَعُكَ)): في الدنيا ولا في الآخرة ((وَلا يَضُرُّكَ)): في دين ولا دنيا، يعني بذلك: الآلهة والأصنام، يقول: لا تعبدها راجياً نفعها أو خائفاً ضرها، فإنها لا تنفع ولا تضر ((فَإِنْ فَعَلْتَ)): ذلك فدعوتها من دون الله {فَإِنَّكَ إِذَاً مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس:106] يقول: من المشركين بالله الظالم لنفسه]: قوله: يعني بذلك: الأصنام، ليس معنى هذا تخصيص الدعاء بالأصنام فقط، فإن الآيات عامة، ويدخل فيها كل مدعو، ولكنه أراد الواقع الذي نزلت فيه الآية، وقيل: لما خوطب الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك: كان القوم الذين قُصدوا بهذا الخطاب يدعون الأصنام، فكذلك إذا كان غيرهم يدعو مَن يقوم مقام الأصنام، مثل: صالح من الصالحين، أو ولي من الأولياء، أو نبي من الأنبياء، يدعونه الدعوة التي لا تجوز إلا لله: ككشف الضر أو جلب النفع، فإن هذا الخطاب يكون شاملاً لهم، وهذا باتفاق العلماء: أنه لا يعتبر خصوص السبب الذي نزل الخطاب من أجله، وإنما المعتبر عموم اللفظ، وهذا شيء مشهور، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، في جميع خطاب الشرع.
قال الشارح رحمه الله: [قلت: وهذه الآية لها نظائر: كقوله تعالى: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهَاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} [الشعراء:213]، وقوله: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهَاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [القصص:88]]: يعني: نظيرها في مخاطبة الرسول صلى الله عليه وسلم بمثل ذلك الخطاب، ومعلوم أن الله جلَّ وعلا كرمه ونزهه وحماه أن تقع منه دعوة لغير الله جلَّ وعلا، وفائدة هذا: أن ينتبه الإنسان إلى خطورة الشرك، فإذا كان أشرفُ الخلق لو وقع منه ذلك لوقع عليه العذاب فغيره من باب أولى، هذا هو المقصود من الخطاب، أعني: التنبيه.(47/5)
يجب الإخلاص لله في العبادة سواء كانت ظاهرة أو باطنة
قال الشارح رحمه الله: [ففي هذه الآيات بيان أن كل مدعو يكون إلهاً، والإلهية حق لله لا يصلح منها شيء لغيره، ولهذا قال: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [القصص:88]، كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [لقمان:30]، وهذا هو التوحيد الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، كما قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5]، والدين: كل ما يُدان الله به من العبادات الظاهرة والباطنة] المقصود بالعبادات الظاهرة: كالدعاء، والقراءة والتسبيح، والتكبير، والصلاة، والزكاة، وأمثال ذلك.
أما العبادات الباطنة: فكالخوف، والرجاء، والخشية، والإنابة، أي: أفعال القلب والنيات، وهي من العبادات، ويجب أن تكون لله فقط، ليس فيها لأحد من الخلق شيء، ولا يُراد بها الدنيا، ولهذا توعد الذين يقصدون بها الدنيا، فقال: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ} [هود:15]، فالإرادة هي: أعمال القلوب.
ثم قال: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ} [هود:16]: فالذين يريدون الدنيا بأعمالهم يكون هذا جزاؤهم.
والخلاصة: أن الأعمال تنقسم إلى قسمين: ظاهرة وباطنة: فالظاهرة: التي تظهر للرائي المشاهِد أو يسمعها السامع: من ذكر وتسبيح وغير ذلك، هذه تسمى ظاهرة؛ لأنها تظهر للناس، تُسمع أو تُرى.
أم الباطنة فهي: التي تكون في القلب، ولا يطلع عليها إلَّا رب العباد جلَّ وعلا.
ولهذا قد يكون ظاهر العمل أنه لله وفي الواقع هو لغير الله؛ لأن النية يُراد بها غير الله، وهذا يحاسب عليه رب العباد جلَّ وعلا، وقد جاءت الأخبار بأنه: (يأتي قوم بأعمال عظيمة يوم القيامة، فإذا جاءوا بها يقول الله جلَّ وعلا لملائكته: هذه حابطة وهم من أهل النار) لأنهم أرادوا بها غير وجه الله أرادوا بها أموراً أخرى من أمور الدنيا وغيرها، وفي الحديث: (من عمل عملاً فأشرك فيه مع الله غيره فإن الله يتركه وشريكه) يعني: يترك العمل للشريك فقط؛ لأنه جلَّ وعلا أغنى الشركاء، فهو لا يقبل عملاً فيه اشتراك، والعمل الذي يقبله هو ما كان خالصاً له جلَّ وعلا {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلَاً صَالِحَاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً} [الكهف:110]، فقوله: (لا يشرك) هنا: يعم جميع العمل، و (أحداً): يعم جميع الخلق.(47/6)
لا يملك النفع والضر إلا الله
قال الشارح رحمه الله تعالى: [وفسره ابن جرير في تفسيره: بالدعاء وهو فرد من أفراد العبادة، على عادة السلف في التفسير: يفسرون الآية ببعض أفراد معناها، فمن صرف منها شيئاً لقبر، أو صنم، أو وثن، أو غير ذلك: فقد اتخذه معبوداً، وجعله شريكاً لله في الإلهية التي لا يستحقها إلا هو، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهَاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون:117]، فتبين بهذه الآية ونحوها أن دعوة غير الله كفر وشرك وضلال.
وقوله: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس:107]، فإنه المتفرد بالملك والقهر، والعطاء والمنع، والضر والنفع، دون كل ما سواه، فيلزم من ذلك: أن يكون هو المدعو وحده، المعبود وحده، فإن العبادة لا تصلح إلا لمالك الضر والنفع، ولا يملك ذلك ولا شيئاً منه غيره تعالى، فهو المستحق للعبادة وحده دون من لا يضر ولا ينفع.
وقوله تعالى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر:38]]: هذا أيضاً خطاب الله جلَّ وعلا يتحدى فيه الكفار: بأن يدعوا أصنامهم وآلهتهم؛ لتجلب لهم شيئاً من النفع والنعم التي لم يقدرها الله جلَّ وعلا ولم يُردها، أو أن تدفع شيئاً من النقم والمصائب التي قدرها.
ويقول جلَّ وعلا في أول الآية: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الزمر:38] (قل أفرأيتم) أي: أخبروني عن هذه التي تدعونها من دون الله.
{إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ} [الزمر:38]، أي: هل تستطيع -إن أرادني بمرض، أو أصابني بفقر، أو أصابني بإدالة عدو، أو ما أشبه ذلك- أن تمنع هذا وتصرفه؟!
الجواب
لا تستطيع.
ثم قال تعالى: {أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} [الزمر:38]، هل تستطيع أن تمسك رحمته، وأن تأتي إلى هذا الذي أراده الله جلَّ وعلا بالرحمة فتمنعها عنه؟! لا تستطيع.
ثم يقول: {قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ} [الزمر:38] أي: هو كافيني، وهو الذي أعتمد عليه، وأدعوه وأعبده دون غيره.
يقول مجاهد رحمه الله: إن الرسول سألهم؛ لأن الله أمره أن يسألهم: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ} (قل): هذا أمر من الله أن يقول لهم، فسألهم وقال لهم: (أرأيتم هذه الأصنام: هل تدفع الضر عمن أراد الله جلَّ وعلا به الضر، أو تمسك الرحمة أن تصل إلى من أراد الله به الرحمة؟ فسكتوا) يقول: سألهم فسكتوا، لماذا (سكتوا)؟ لأنهم يعلمون أنها لا تفعل شيئاً من ذلك، ولكنهم يكابرون؛ ومتمسكون بدين آبائهم! وليس لهم في ذلك حجة إلَّا أنهم وجدوا آباءهم يعبدون هذه الأصنام، مع أنهم لا يعتقدون أنها شاركت الرب جلَّ وعلا في التدبير، أو شاركته في الملك، أو شاركته في الخلق والإيجاد، ولهذا بدأ بسؤالهم عن خالق السماء: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزمر:38] يعني: ليس عندهم شك أن الخالق هو الله، فهم يقرون بهذا، ومعنى هذا: أن الله يحتج عليهم بكونهم يقرون بأن الله هو الذي يتفرد بالخلق والنفع والضر ولا يشاركه أحد، فإذا كان كذلك فيجب أن يُفرَد بالعبادة، وألا يُدعَى غيره، هذا وجه التحدي ووجه إقامة الحجة عليهم، وهذا كثير جداً في القرآن، فكل الآيات التي فيها النهي عن الشرك والأمر بالعبادة تُبنى على هذا الشيء، كقوله جلَّ وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشَاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقَاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادَاً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:21 - 22]، يعلمون أن الله هو الخالق وحده هو الذي خلق السماوات وخلق الأرض على هذه الصفة، وهو الذي ينزل المطر فينبت النبات، يعلمون حقاً أن الله هو المتفرد بهذا، فإذا كانوا يعلمون ذلك: فلماذا يدعون معه غيره؟! ما حجتهم وما برهانهم وما دليلهم؟!(47/7)
ليس للمشركين حجة ولا برهان على شركهم
ليس لهم أي حجة ولا برهان إلَّا أنهم قالوا: {وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء:74] فقط، وهكذا يقول مَن بعدهم، إذا قيل لهم: لا تدعوا الأموات، لا تطلبوا من الأموات شيئاً، رأيتهم يسمونه توسلاً أو تقرباً أو تشفعاً، مع أن التسمية لا تغير من الواقع شيئاً، فلو سُمِّي الربا بغير اسمه، أو سُمِّي الخمر بغير اسمه، فإن الحكم لا يتغير، والمقصود: أن الناس من أول ما وقعت المخالفة فيهم، إلى آخر أمة أرسل فيهم آخر رسول صلوات الله وسلامه عليه، كلهم يقرون بأن الله جلَّ وعلا -وحده- هو الذي يخلق، وهو الذي يحيي ويميت، وهو الذي ينزل المطر، وهو الذي ينبت النبات، ويدر الرزق، وهو الذي يكشف السوء، وهو الذي إذا دعاه المضطر أزال ما فيه من الضر، كلهم يقرون بهذا، فلماذا يدعون حجراً أو شجرةً أو ميتاً؟! ليس عندهم إلَّا التقليد، وقع آباؤهم في ذلك فاتبعوهم عليه، كما قال إبراهيم عليه السلام: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} [الأنبياء:52 - 53] فقط، أهذا دليل؟! وكذلك يقول جلَّ وعلا في آيات أُخَر: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23] (على أمة) يعني: على دين، فالمقصود بـ (الأمة) هنا: الدين، {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23] يقتدون بهم، هكذا جميع الأمم تقول هذا الشيء، حتى في الوقت الحاضر، فإذا رأيت الناس على شيء من المخالفات، وقلت لهم: لا تفعلوا هذا، فإن هذا لا يجوز، وجدت كثيراً من الناس يقول لك: الناس كلهم يفعلون هذا، وهذا معنى قول الكفار: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23]، هو قولهم تماماً، والمسلم لم يكلف بالنظر إلى أفعال الناس، وإنما كلف بالنظر إلى الوحي إلى الدين الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، هذا الذي كُلِّف الإنسان به؛ لينظر إليه ويتعرف عليه، ثم يعمل به، فإن الناس لا ينفعونه، ولهذا: فإن الإنسان إذا وُضع في قبره، وجاءه الملك الذي يختبره فيقول له: (ما دينك؟ يقول: هاه! وجدتُ الناس يفعلون شيئاً ففعلتُه) أينفعه هذا؟! لا ينفعه، وإنما ينفع الإنسانَ العلمُ الذي جاء به الوحي، وهو الذي كُلِّف به الإنسان.
والمقصود: أن الذين يدعون غير الله أو يعبدونه ليس لهم حجة وليس عندهم برهان، حتى إن الشيطان يقوم فيهم خطيباً -إذا جُمع أهل النار في النار- ويقول: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} [إبراهيم:22]، يعني: ما كان لي عليكم حجة، لا توجد حجة أحتج بها عليكم، وإنما: {دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم:22] فقط، مجرد دعوة! ثم يقول: {فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ} [إبراهيم:22]، يعني: ما أنا بمنقذكم ولا بمغيثكم، لا أستطيع ذلك {وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} [إبراهيم:22] يعني: وأنتم لا تنقذونني من العذاب، ولا تغيثونني من ذلك وأنا كذلك، إذاً: غرَّهم فضرَّهم ثم تبرأ منهم، وهذه هي المصيبة، عند أن تجتمع عليهم أنواع العذاب من جميع الجهات، فلا يبقى شيء من العذاب إلَّا اجتمع لهم.
والمقصود: أن كل من تعلق بغير الله فليس له أي حجة وأي برهان، وإنما هي شُبَه تتعلل بها الأنفس، وترد بها الحق، أما البراهين والأدلة فهي تدل على أن ما هم فيه باطل.
قال الشارح رحمه الله: [وقال تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [فاطر:2]، فهذا ما أخبر به الله تعالى في كتابه من تفرده بالإلهية والربوبية، ونصَب الأدلة على ذلك، فاعتقد عُباد القبور والمشاهد نقيض ما أخبر به الله تعالى، واتخذوهم شركاء لله لاستجلاب المنافع ودفع المكاره: بسؤالهم، والالتجاء إليهم بالرغبة والرهبة والتضرع، وغير ذلك من العبادات التي لا يستحقها إلَّا الله تعالى، واتخذوهم شركاء لله في ربوبيته وإلهيته، وهذا فوق شرك كفار العرب القائلين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس:18]، فإن أولئك يدعونهم ليشفعوا لهم ويقربوهم إلى الله، وكانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك، لا شريك لك، إلَّا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك]: معناه: أنهم يحجون ويتعبدون لله جلَّ وعلا ويسألونه؛ ولكنهم يشركون به، ومن المهم جداً عند المسلم أن يعرف حقيقة الشرك الذي كان عليه المشركون؛ لأن الإنسان إذا لم يعرف الباطل لم يعرف الحق، وكثير من الناس يتصور أن شرك المشركين هو السجود للأصنام، واعتقادهم أنها تعطيهم الجنة وتمنعهم من النار، وأنها ترزقهم، وكذلك تسعدهم وتضرهم، وهذا لم يكن المشركون يعتقدونه، وإنما كان شركهم: أنهم يسألونها لتشفع لهم، وهذا معنى قوله: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] يعني: أنهم ليس بأيديهم شيء، وإنما هم وساطة لنا، فيشفعوا لنا عند من بيده النفع والضر، هذا هو شركهم، ومع ذلك صاروا من أهل جهنم، وهم يعلمون أن الأمور كلها بيد الله، حتى إن منهم مَن يؤمن بالقدر، ومنهم مَن يؤمن بالبعث، إلَّا أنه وقع في هذا الشرك، فجعل بينه وبين ربه وسائط يدعوها لتشفع له، وتقربه إلى الله زلفى، وهذه هي الشفاعة التي طلبوها، ولهذا جاءت الشفاعة في القرآن على نوعين:(47/8)
أنواع الشفاعة
نوع مثبت واقع.
ونوع منفي.
فالمنفي هو: الذي يزعمه المشركون: أن أصنامهم تشفع لهم.
والمثبت هو: الذي يقع بإذن الله ولمن يوحد الله؛ لأن الشفاعة لا تكون إلَّا لأهل التوحيد: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28]، ولما قال أبو هريرة رضي الله عنه للرسول صلى الله عليه وسلم: (من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال: من قال: (لا إله إلَّا الله) خالصاً من قلبه) والذي يقول: (لا إله إلَّا الله) خالصاً من قلبه هذا هو الموحد، وهو الذي يدخل الجنة بلا حساب ولا عذاب، وهو أسعد الناس بشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم أول ما يشفع في الفصل بين الخلق يسبق المخلصون إلى الجنة، ويكونون أسعد أهل الموقف بذلك.
والمقصود: أن الإنسان عليه أن يتعرف على حقيقة شرك المشركين، ويعرف ما هو؛ لأن الذي لا يعرف الشرك يوشك أن يقع فيه وهو لا يدري، والذي لا يعرف الشرك لا يعرف التوحيد، فهذا مهم جداً.
قال الشارح رحمه الله: [وأما هؤلاء المشركون فاعتقدوا في أهل القبور والمشاهِد ما هو أعظم من ذلك، فجعلوا لهم نصيباً من التصرف والتدبير، وجعلوهم معاذاً لهم وملاذاً في الرغبات والرهبات {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الحشر:23]].
يعني: أن عباد القبور يسألون الإنسان المدفون في القبر -الذي صار لحمه تراباً وعظامه متفتتة- كما يُسأل الفرد الصمد، تعالى الله وتقدس، فيقال له: انفعنا وأعطنا، ونحن بحسَبك، ونحن داخلون عليك، ونحن جئناك لكذا ونحن ونحن إلخ فإن قُدِّر ووقع القدر الذي قدره الله، وحصل لهم مرادهم أضافوا هذا إلى ذاك الولي، وقالوا: هذا الذي ينبغي أن يُدعى، وأن يُتَقَرب إليه، أما إذا لم يقع لهم ما يريدون فإنهم يعودون على أنفسهم ويقول: لم يكن اعتقادنا بالولي صادقاً، أو إن الولي غير راضٍ عنا؛ لأنا ما أدينا حقه الذي ينبغي، فيزدادون شركاً: سواءً حصل مرادهم أو لم يحصل مرادهم، نسأل الله العافية.(47/9)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [48]
أمر الله عباده أن يبتغوا عنده الرزق، وألا يلجئوا إلى غيره في ذلك، وأن تكون عبادتهم خالصة له، وأخبر أنه لا أضل ممن يعبد ويدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة، وهم عن دعائهم غافلون، بل إذا حشر العابد والمعبود كانوا أعداءً لبعضهم.(48/1)
شرح قوله تعالى: (فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [العنكبوت:17]].
سبق بيان معنى قول الله جلَّ وعلا: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذَاً مِنَ الظَّالِمِينَ * وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس:106 - 107] ثم أضاف إلى ذلك بعض الآيات، ومنها: قوله: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ} [العنكبوت:17] ففي هذه الآية يبين جلَّ وعلا أن الطلب هو المسألة ومنه: طلب الرزق، والرزق من الله جلَّ وعلا وحده، وعطف العبادة على ذلك مما يدل على أنه عبادة، ولهذا قدم المعمول مما يقتضي الحصر: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} [العنكبوت:17] وهذا يدل على وجوب ابتغاء الرزق عند الله فقط، ولا يجوز أن يُطلب من غيره؛ لأنه جلَّ وعلا هو رب العباد، وهو الذي يتولى أرزاقهم وحده، فهذا يدل على أنه عبادة، فطلب الرزق من الله عبادة يثاب عليه، وطلبه من غيره يكون شركاً بالله جلَّ وعلا، وليس معنى ذلك أن اتخاذ الأسباب التي يرتبها ربنا جلَّ وعلا على المسببات شركاً وإن كان كل شيء بأمره؛ ولكن لا يجوز للإنسان أن يعتمد على السبب ويظن أنه هو المؤثر، وهو الذي يتحصل به ما يطلبه، وإنما يفعل السبب لأن الله جعله سبباً، ولو شاء جلَّ وعلا لعطَّله، ولم يأتِ الأثر الذي يترتب عليه إلا بمشيئه جلَّ وعلا.
والمقصود أن الإنسان يفعل السبب الشرعي الذي أمره الشرع به، ويعتمد على الله جلَّ وعلا في حصول المطلوب، وكثيراً ما يتخلف المسبَّب عن سببه إذا أراد الله جلَّ وعلا ذلك.
إذاً: فقوله: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} [العنكبوت:17]: الابتغاء هو الطلب، ويكون بالمسألة، ويكون بالفعل، ويكون باتجاه القلب، وهذه الأشياء تجتمع عند الإنسان المؤمن: فيتجه قلبه إلى ربه ويسأله التوفيق، ويفعل السبب، ويحتسبه ثواباً عند الله جلَّ وعلا يجزيه على ذلك.
قوله: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ} [العنكبوت:17]: هنا عطف عام على خاص كما سبق في الآية الأولى أن العبادة أعم من ابتغاء الرزق، فابتغاء الرزق جزء من العبادة، والعبادة: ((وَاعْبُدُوهُ)) تكون من عطف العام على الخاص، فهذه نظير الآية الأولى، وهي تدل على وجوب حصر الدعاء في الله جلَّ وعلا، سواءً كان دعاء مسألة أو دعاء عبادة، والآية في دعاء المسألة واضحة، أنه أمر بابتغاء الرزق عند الله.
قال المصنف رحمه الله: [وقوله تعالى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُوْنَ} [العنكبوت:17] يأمر تعالى عباده بابتغاء الرزق عنده وحده دونما سواه، ممن لا يملك لهم رزقاً من السماوات والأرض شيئاً، فتقديم الظرف يفيد الاختصاص، وقوله: ((وَاعْبُدُوهُ)) من عطف العام على الخاص؛ فإن ابتغاء الرزق عنده من العبادة التي أمر الله بها.
قال العماد بن كثير رحمه الله تعالى: ((فَابْتَغُوا)) أي: فاطلبوا {عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} [العنكبوت:17] أي: لا عند غيره؛ لأنه المالك له وغيرُه لا يملك شيئاً من ذلك.
((وَاعْبُدُوهُ)) أي: أخلصوا له العباده وحده لا شريك له، {وَاشْكُرُوا لَهُ} [العنكبوت:17] أي: على ما أنعم عليكم {إِلَيْهِ تُرْجَعُوْنَ} [العنكبوت:17] أي: يوم القيامة سيجازى كل عامل بعمله].
ومما يستفاد من الآية أيضاً: أن الرزق الذي ينعم الله جلَّ وعلا به على عباده يجب أن يكون عوناً على الطاعة، فإن لم يستعمل لذلك فإن الإنسان مستحق لعذاب الله جلَّ وعلا، ويكون وضعه غير صحيح؛ لأنه لم يُخلق لذلك، وإنما خلق ليعبد الله ويستعين به على ذكر الله جلَّ وعلا وطاعته، والوضع الذي يكون على غير ذلك ويكون على غير أمر الله مسخط للرب جلَّ وعلا، فيجب على العباد عموماً، أن يكون هذا وضعهم وهذه حالتهم، وأن يكونوا في حال حصول الرزق متعبدين به لله جلَّ وعلا طائعين به لله، متقوين به على التقرب إليه، وهذا -المعنى- يدخل في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)؛ لأن الصحة والفراغ لا تدومان للإنسان، فيلزم أن يستغل الإنسان صحته وفراغه، وهذا من أعظم الرزق، ومن أعظم النعم التي ينعم بها الرب جلَّ وعلا على عبده، فينبغي عليه أن يستعملهما في اكتساب الطاعات والأجور وتحصيل الباقيات الصالحات التي تبقى عند الله جلَّ وعلا.(48/2)
شرح قوله: (ومن أضل ممن يدعو من دون الله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:5 - 6].
]: قوله جلَّ وعلا: ((وَمَنْ أَضَلُّ)) (من) هنا: استفهام، والاستفهام معناه: أنه ليس هناك ضلال، فهذا استفهام يدل على أن من فعل هذا الفعل قد تناهى في الضلال، وليس وراء هذا الضلال ضلال.
{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأحقاف:5]، وهذه صفة كل مدعو بدعاء لا يستطيع تلبيته وإجابة المطلوب فيه، سواء كان حياً أو ميتاً، وسواءً كان عاقلاً أو جماداً، فإن معنى: {مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ} [الأحقاف:5] أي: لا يحصل له الرد والالتفات والاهتمام بدعوته، أما حصول الشيء المطلوب فإنه لا يحصل من هؤلاء، بل وصوله مستحيل، وهذا يكون فيمن كان غائباً غالباً، ويكون فيمن كان ميتاً، أما من كان حاضراً فهو إما أن يكون طاغوتاً من أكبر الطواغيت مثل الشيطان الذي يدعو الإنسان إلى أن يعبده، ويغره ثم يتبرأ منه فيكون كاذباً، وإن استجاب له فهي استجابة وهمية؛ ولكن الاستجابة الحقيقية إذا سأله الله، وقال له: هذا يدعوك وهذا يعبدك.
ويقول للعابد: اطلب من هذا المعبود ما كنت تطلبه منه في الدنيا، فهنا تكون الإجابة بالتبري، ولعن كل واحد منهما الآخر، ويتبرأ منه ويلعنه ويصبح له عدواً كافراً بفعله، وهذا ضلال متناهٍ ليس بعده ضلال، ولهذا قال الله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأحقاف:5]، والاستجابة يوم القيامة ليست في حصول المطلوب، وإنما هي أن يلعنه ويتبرأ منه، ويكفر به ويصبح عدواً له، كما قال الله جلَّ وعلا في الآية الأخرى في قصة إبراهيم: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضَاً} [العنكبوت:25]، وهذا لأنه استعمل النعم واستعمل حياته في غير ما خلقت له، بل عكس القضية تماماً، فصار هذا جزاؤه، الذي استحقه، وهذه الآية عامة في كل مدعو من دون الله، فإنه لن يستطيع الإجابة الحقيقية ولا يتحصل الداعي على حقيقة دعوته إلا يوم القيامة، فإذا كان يوم القيامة اطلع على ذلك تماماً، وعرف أنه ليس عنده إلَّا الضلال والخسران، وهناك تكون الحسرة، ويتبين له أنه في سعيه وعمله متبع للشيطان، مبتعد عن ربه جلَّ وعلا الذي خلقه لعبادته.
قال الله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف:5] يعني: في هذه الدنيا غافلون عن دعوته؛ لأنه إما غائب وإما ميت وإما جماد لا يدري ماذا يُدعى، فهو غافل؛ لأنه مسخر في شيء يسير فيه مطيعاً لله جلَّ وعلا، لا يدري عن الذي يدعوه شيئاً، فهو غافل عنه، أما إن كان من العقلاء فإن كان صالحاً فهو لا يرضى بهذا، ويكفر بذلك في الدنيا قبل الآخرة؛ ولكن إذا كان لا يطلع فهو لا يعلم، وإنما يُسأل يوم القيامة، ولهذا يسأل الله جلَّ وعلا الملائكة يوم القيامة عمن يدعونهم فيقول إذا حشرهم وجمعهم: {أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} [سبأ:40] فيسأل المعبود قبل العابد، فيقولون: {سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} [سبأ:41] يعني: الشياطين التي أمرتهم بهذه العبادة، وكذلك الآيات الأُخَر التي تبين هذا المعنى، فالمعبود غافل؛ لأنه إما أن يشتغل بطاعة الله وتسخير الله جلَّ وعلا، أو أنه ميت لا يدري عن داعيه شيئاً ولا يحس به، أو أنه جماد لا يحس ولا يشعر، وليس عنده شعور ولا إحساس.
إذاً: إذا كان يوم القيامة وحصحص الحق هناك يتبين لهذا الداعي أنه من أضل خلق الله، بل هو أضلهم كما في هذه الآية: {وَمَنْ أَضَلُّ}.
وقوله: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً} [الأحقاف:6] الحشر هو: الجمع، والمقصود بالحشر: إحياؤهم بعد أن ماتوا، ثم جمعهم في مكان واحد على الأرض، والحشر يدل على الجمع الذي يكون بقوة، ولا يكون لهم فيه اختيار.
فالمحشورون لا اختيار لهم في ذلك، لأنه من الله جلَّ وعلا، فهم في ذلك في أشد الخوف، وهذا هو اليوم الذي ينذرنا ربنا جلَّ وعلا إياه كثيراً ويخوفنا به، ويخبرنا أنه يوم ثقيل على الكافرين، وفي ذلك اليوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت، وتضع ذات الحمل حملها، {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى} [الحج:2]، كأنهم سكارى {وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} [الحج:2] ولكنهم يخافون عذاب الله {وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2] أي: في ذلك اليوم، فهناك يتبين من هو المالك من هو الذي يتصرف من الذي بيده الأمر كله، وكل الخلق ليس عندهم شيء كلهم ضعفاء كلهم تحت قهره داخلين كل واحد منهم يأتي ربه فرداً لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً في أشد الخوف، حتى إن رسل الله يخافون في ذلك اليوم.
{وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً} [الأحقاف:6]، أي: كان الذي يزعم أنه يقربه إلى الله زلفى وأنه يتوسط له، وأنه يشفع له عدواً له! ومعلوم أن العدو لا يريد نفع عدوه بل يريد أن يضره.
{كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ} [الأحقاف:6] يعني: بدعائهم الذي يدعونه ((كَافِرِيْنَ)) وهذا يدلنا على أن الدعاء عبادة؛ لأنه ذكر في الآية الأولى لفظ الدعاء: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو} [الأحقاف:5]، وفي الآية الأخرى التي تليها ذكر أنه عبادة: {وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:6] يعني: الدعاء الذي سبق، فدلت الآية صراحةً بأن الدعاء عبادة، بل هو أفضل العبادة وخيرها كما سبق، وهذه الآية من أوضح الأدلة على بطلان دعوة غير الله، وأنها ضلال، بل ضلال متناهٍ ليس بعده ضلال.(48/3)
شرح قوله: (وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين)
قال الشارح رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:5 - 6] نفى سبحانه أن يكون أحد أضل ممن يدعو غيره، وأخبر أنه لا يستجيب له ما طلب منه إلى يوم القيامة، والآية تعم كل من يُدعى من دون الله، كما قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلَاً} [الإسراء:56] وفي هذه الآية أخبر أنه لا يستجيب له وأنه غائب عن داعيه.
{وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:6]: فتناولت الآية كل داعٍ وكل مدعوٍّ من دون الله.
قال أبو جعفر بن جرير في قوله: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً} [الأحقاف:6] يقول تعالى ذكره: وإذا جمع الناس ليوم القيامة في موقف الحساب كانت هذه الآلهة التي يدعونها في الدنيا لهم أعداءً؛ لأنهم يتبرءون منهم، {وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:6] يقول تعالى ذكره: وكانت آلهتهم التي يعبدونها في الدنيا لعبادتهم جاحدين؛ لأنهم يقولون يوم القيامة: ما أمرنا بعبادتنا ولا شعرنا بعبادتهم إيانا، تبرأنا إليك منهم يا ربنا، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمَاً بُورَاً} [الفرقان:17 - 18].
قال ابن جرير: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الفرقان:17] من الملائكة والإنس والجن، وساق بسنده عن مجاهد قال: عيسى وعزير والملائكة] وهذه أفراد من المجاميع الكثيرة التي تُعبد، كعيسى وأمه وعزير وإنما هو مثال فقط، والمقصود: أن الآية تعم كل معبود من دون الله، وكل مدعو يدخل فيها؛ لأن ربنا جلَّ وعلا خاطب الخلق عموماً، خاطب أمة محمد صلى الله عليه وسلم عامة من أولهم إلى آخرهم، فكل من أوقع شيئاً من العبادة لغير الله جلَّ وعلا فهو داخل فيه؛ لكن عادة السلف أنهم ينصون على الشيء الظاهر المعروف للسامع الذي يسمع قولهم، ومرادهم بهذا أن يقاس عليه ما هو داخل فيه من نظائره الكثيرة، فيُتَنَبَّه لذلك، وهذا جاء تفصيله في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنها: ما رواه البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما وذكر حديث الشفاعة ثم قال: (فيأت الله جلَّ وعلا).
يعني: يأتي إليهم وهم الوقوف في العرض، كما قال الله جلَّ وعلا: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [البقرة:210] وقال جلَّ وعلا: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفَّاً صَفَّاً * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} [الفجر:22 - 23].
(فيأتي الله جلَّ وعلا ويخاطب الناس كلهم عموماً، يخاطبهم ويسمعون قوله جلَّ وعلا، يقول: يا عبادي! أليس عدلاً مني أن أولي كل واحد منكم ما كان يتولاه في الدنيا؟ فيقولون: بلى يا رب! فيؤتى بكل معبود عُبِد في الدنيا على هيئته: أما إن كان المعبود ملَكاً أو نبياً -مثل: عيسى أو رجلاً صالحاً من عباد الله- فإنه يؤتى بشيطان على مثاله الذي كانوا يعبدونه أو يتخيلونه؛ -لأن الشيطان هو الذي أمرهم، وهم -في الواقع- عبادتهم وقعت عليه، أما عباد الله من الملائكة ومن الأنبياء والصالحين، فهم برآء من ذلك لا يرضون به بل يكفرون به- ثم يقال لهم: اتبعوهم، -ولا توجد محاسبة هنا لهؤلاء، هذا هو حسابهم- فيتبعونهم إلى جهنم فيلقون فيها جميعاً، كما قال جلَّ وعلا: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:98]، ويبقى المؤمنون وفيهم المنافقون فيأتهم الله) وذكر بقية الحديث.
والمقصود هنا: قول الله جلَّ وعلا في هذا الحديث: (أليس عدلاً مني أن أولي كل واحد منكم ما كان يتولاه في الدنيا؟) فالذي كان يدعو شيئاً في الدنيا ويجعله واسطة له عند الله يؤتى به في ذلك اليوم، ويؤتى بالشيطان الذي سول له هذا وأمره به -إذا كان ذلك المدعو صالحاً من عباد الله جلَّ وعلا- ثم يقال له: (اتبع إلى ما يوردك إليه: {وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} [هود:98]) فيكون هؤلاء قادتهم إلى جنهم، نسأل الله العافية.(48/4)
الدعاء في الكتاب والسنة
قال الشارح رحمه الله: [قال ابن جرير: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الفرقان:17] من الملائكة والإنس والجن، وساق بسنده عن مجاهد قال: عيسى وعزير والملائكة، ثم قال: يقول تعالى ذكره: قالت الملائكة -الذين كانوا هؤلاء المشركون يعبدونهم من دون الله- وعيسى: تنزيهاً لك يا ربنا وتبرئةً مما أضاف إليك هؤلاء المشركون: {مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} [الفرقان:18] نواليهم {وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمَاً بُورَاً} [الفرقان:18] ((أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ)) [سبأ:41].
انتهى.
قلت: وأكثر ما يستعمل الدعاء في الكتاب والسنة، واللغة، ولسان الصحابة ومن بعدهم من العلماء: في السؤال والطلب، كما قال العلماء من أهل اللغة وغيرهم: الصلاة لغةً: الدعاء، وقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [فاطر:13] الآيتين، وقال: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعَاً وَخُفْيَةً} [الأنعام:63] وقال: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدَاً أَوْ قَائِمَاً} [يونس:12] وقال: {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} [فصلت:51] وقال: {لا يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} [فصلت:49] الآية، وقال: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال:9] الآية، وفي حديث أنس مرفوعاً: (الدعاء مخ العبادة) وفي الحديث الصحيح: (ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة) وفي آخر: (من لم يسأل الله يغضب عليه) وفي حديث: (ليس شيء أكرم على الله من الدعاء) رواه أحمد والترمذي وابن ماجة وابن حبان والحاكم وصححه]: هذه الأحاديث وإن كان فيها من الضعيف مثل: (الدعاء مخ العبادة)، ومثل قوله: (ليس شيء أكرم على الله من الدعاء) إلا أنه ليس المقصود الاعتماد على ذلك، وإنما المقصود الاستشهاد بهذا، وما زال العلماء رحمهم الله يستشهدون بالضعيف؛ ولكنهم لا يعتمدون عليه، وذلك حينما يكون متفقاً مع الصحيح في المعنى فإنه يكون شاهداً؛ لأنه قد يكون أوضح في العبارة وأبين.
وأما قوله: إن الصلاة هي: الدعاء، فالمقصود بها: في لغة العرب الذي نزل بها القرآن، وليس المقصود في لغة الرسول صلى الله عليه وسلم حينما يقول: الصلاة؛ لأنه جعل الصلاة على أشياء مخصوصة تشمل الدعاء وتشمل القيام والركوع والتكبير، ولهذا تعرَّف الصلاة بأنها: أفعال مخصوصة تُفتَتح بالتكبير وتُختَتم بالتسليم، فهو شيء خاص؛ ولكن الأصل فيها أنها الدعاء؛ لأن الله جلَّ وعلا يقول: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103]، فالمراد بقوله: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} يعني: يدعو لهم، فالصلاة هنا: الدعاء، وهي مأخوذة من هذا؛ لأنها -في الواقع- دعاء، فالقيام يكون دعاء عبادة، والركوع دعاء عبادة، والسجود دعاء عبادة، والقراءة والتسبيح والتكبير والتهليل والتحميد وكل ما فيها يكون دعاءً، إلَّا المسألة حينما يقول: رب اغفر لي وارحمني وارزقني واهدني وما أشبه ذلك فهذا دعاء مسألة، ويلزم منه دعاء العبادة؛ لأن السائل يلزم أن يكون خاضعاً خائفاً راجياً: خائفاً من ذنوبه راجياً ثواب ربه، وهذه هي العبادة.
أما دعاء العبادة: فكونه يقوم خاشعاً لله يركع ويسجد ويقرأ ويكبر ويهلل؛ فإنه بهذه الأفعال يطلب من الله الإثابة، ويهرب من العذاب بذلك، وهذا هو الطلب في الحقيقة، فكل فعل يفعله الإنسان يريد التقرب به إلى الله فهو داخل في هذا.(48/5)
أحاديث الدعاء
قال الشارح رحمه الله تعالى: (الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدين ونور السماوات والأرض) رواه الحاكم]: هذا الحديث أيضاً ضعيف؛ ولكن مثلما قلنا: ليس هذا للاعتماد وإنما هو للاعتضاد، يُعتضد به ولا يُعتمد عليه.
قال الشارح رحمه الله تعالى: [وقوله: (سلوا الله كل شيء حتى الشسع إذا انقطع) الحديث]: والشسع هو: ما يدخل فيه إصبع الرجل من النعل إذا انقطع، وكذلك السير الذي يكون فوق القدم إذا انقطع، يسأل الإنسان ربه إصلاحه أو بدله، والمعنى: أنه يسأل كل شيء، وجاء في كلام السلف أنهم يقولون: (اسأل ربك حتى ملح العشاء)، والمعنى: اسأل ربك كل شيء، وكل ما تريده وتحتاجه، فتوجه إلى ربك في طلبه جلَّ وعلا؛ لأنه هو الذي يملك كل شيء، أما الخلق فهم لا يملكون شيئاً ولا يتحصل على أيديهم لك إلَّا ما أراده الله جلَّ وعلا، فهو الذي يسخرهم ويجعلهم أسباباً، وسؤاله يهيئ هذه الأمور كلها، فيكون عبادة، ويكون الإنسان ممتثلاً لأمر ربه جلَّ وعلا في ذلك ومطيعاً وعابداً، ويكون في حصول ذلك قد جاء من الطريق الصحيح الشرعي؛ لأن الرزق منه ما هو من طريق محرم فيكون الإنسان معاقباً عليه، ومنه ما هو من طريق شرعي يُثاب عليه الإنسان ويُحمد على فعله.
قال الشارح رحمه الله تعالى: [وقال ابن عباس رضي الله عنهما: أفضل العبادة الدعاء، وقرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] الآية رواه ابن المنذر، والحاكم وصححه]: يعني: أفضل العبادة: الدعاء.
قال الشارح رحمه الله تعالى: [وحديث: (اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلَّا أنت المنان) الحديث]: الأحاديث في هذا الباب كثيرة جداً، وجاء بهذا الحديث ليبين أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان كثيراً ما يسأل ربه ويستغفره ويتوب إليه، ولا يفتر عن ذلك صلوات الله وسلامه عليه، ويأمر الناس ويحضهم على هذا.
قال الشارح رحمه الله تعالى: [وحديث: (اللهم إني أسألك بأنك أنت الله لا إله إلَّا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤاً أحد)، وأمثال هذا في الكتاب والسنة أكثر من أن يُحصر في الدعاء الذي هو السؤال والطلب، فمن جحد كون السؤال والطلب عبادة؛ فقد صادم النصوص وخالف اللغة واستعمال الأمة سلفاً وخلفاً.
وأما ما تقدم من كلام شيخ الإسلام وتبعه العلامة ابن القيم رحمهما الله تعالى من أن الدعاء نوعان: دعاء مسألة، ودعاء عبادة، وما ذُكِر بينهما من التلازم وتضمُّن أحدهما للآخر، فذلك باعتبار كون الذاكر والتالي والمصلي والمتقرب بالنسك وغيره طالباً في المعنى، فيدخل في مسمى الدعاء بهذا الاعتبار، وقد شرع الله تعالى في الصلاة الشرعية من دعاء المسألة ما لا تصلح الصلاة إلَّا به، كما في الفاتحة وبين السجدتين وفي التشهد، وكذلك دعاء العبادة كالركوع والسجود، فتدبر هذا المقام يتبين لك جهل الجاهلين بالتوحيد]: كونه هو العبادة: كالركوع والسجود، أما دعاء المسألة فمثل: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:5 - 6] (اهدنا): هذا دعاء مسألة، {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]، وكذلك قوله: (رب اغفر لي وارحمني واهدني) إلخ، فهذا دعاء مسألة، وكذلك ما يقال في آخر التشهد: (أعوذ بالله من عذاب جهنم ومن عذاب القبر) إلخ، فهو دعاء مسألة، ودعاء العبادة في الصلاة أكثر.
قال الشارح رحمه الله تعالى: [فتدبر هذا المقام يتبين لك جهل الجاهلين بالتوحيد، ومما يبين هذا المقام ويزيده إيضاحاً: قول العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيَّاً مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110] وهذا الدعاء المشهور أنه دعاء المسألة، قالوا: كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ربه ويقول مرةً: (يا الله) ومرةً: (يا رحمان) فظن المشركون أنه يدعو إلهين، فأنزل الله هذه الآية، ذكر هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما]: الآية: {ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} [الإسراء:110] يعني: أنك إذا دعوت الله باسم من أسمائه فأنت على حق وصواب وعابد لله جلَّ وعلا.(48/6)
فضل دعاء السر
قال الشارح رحمه الله تعالى: [وقيل: إن الدعاء هنا: بمعنى التسمية، والمعنى: أي اسم سميتموه به من أسماء الله تعالى، إما الله وإما الرحمن: {فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110]، وهذا من لوازم المعنى في الآية، وليس هو عين المراد، بل المراد بالدعاء معناه المعهود المطرد في القرآن، وهو دعاء السؤال ودعاء الثناء.
ثم قال: إذا عُرف هذا فقوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعَاً وَخُفْيَةً} [الأعراف:55] يتناول نوعي الدعاء، لكنه ظاهر في دعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة، ولهذا أمر بإخفائه]: إن الذي يُخفى هو دعاء المسألة؛ لأن السلف رضوان الله عليهم كانوا يحرصون على أن يكون عملهم بينهم وبين ربهم فقط، فيُخفون السؤال، ولهذا جاء في وصف ذلك أن دعاءهم كان خفية بينهم وبين ربهم جلَّ وعلا، لا يُظهرونه؛ لأن هذا أقرب إلى الإخلاص وامتثالاً لأمر الله، (وَخُفْيَةً) يعني: في الخفاء، خفية وجاء أيضاً: (وخيفة) يعني: خوفاً أن لا يقبل عمل الإنسان أو يعاقَب على ذنبه، فيكون بين الخوف والرجاء، يخاف من ذنوبه، ويرجو ثواب ربه جلَّ وعلا، وكان أحدهم يكون في فراشه بجوار زوجته، وهو يسأل ربه، ويتضرع إليه، ويبكي وهي لا تشعر بذلك، مبالغةً في إخفاء العمل؛ لأن هذا أقرب إلى الإخلاص لله جلَّ وعلا، بخلاف الذين يحبون أن يُظهروا أعمالهم، بل يطلبون ذلك، ويميلون إليه، فإن هذا العمل قد يكون حابطاً؛ لأنه أريدَ به وجوه الناس، وما أريدَ به وجه الناس وثناؤهم فإن الله لا يقبله، وإنما يقبل الشيء الخالص الذي لا يدخله إرادة النفوس وحظوظها الدنيوية، وإنما يكون تعبُّداً خالصاً لله جلَّ وعلا، ولهذا يقول جلَّ وعلا في الأمم الذي قبلنا: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5]، فهو أمر من الله بأن يكون الدين كله خالصاً لله جلَّ وعلا.
قال الشارح رحمه الله تعالى: [قال الحسن: بين دعاء السر ودعاء العلانية سبعون ضعفاً، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء ولم يُسمع لهم صوت، إن كان إلَّا همساً بينهم وبين ربهم، وقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186]، يتناول نوعي الدعاء، وبكل منهما فُسرت الآية، قيل: أعطيه إذا سألني، وقيل: أثيبه إذا عبدني.
] {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] (أجيب): فسرت كلمة (أجيب) بأثيب، وفسرت بأعطي، فإذا كانت بمعنى (أعطي) فيكون الدعاء دعاء مسألة، وإن فسرت بمعنى (أثيب) فيكون الدعاء دعاء عبادة، والآية تعم هذا وهذا، وليس أن هذا يحتمل أن يكون معناها المسألة، ويحتمل أن يكون معناها العبادة، بل كلاهما داخل فيها؛ لأن دعاء المسألة: عبادة، ودعاء العبادة: عبادة من أفضل العبادات، والله جلَّ وعلا يطلب من الخلق ذلك، ولهذا بين الرسول صلى الله عليه وسلم هذا بفعله وبقوله، وكذلك الصحابة الذين تعلموا العلم، وتلقوا القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(48/7)
الحقيقة والمجاز في ألفاظ القرآن
قال الشارح رحمه الله تعالى: [وليس هذا من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، بل هذا استعمال في حقيقته الواحدة المتضمنة للأمرين جميعاً، وهذا يأتي في مسألة الصلاة، وأنها نقلت عن مسماها في اللغة، وصارت حقيقة شرعية، واستعملت في هذه العبادة مجازاً؛ للعلاقة بينها وبين المسمى اللغوي، وهي باقية على الوضع اللغوي]: هذا على القول بالمجاز، وأن المجاز موجود، والصواب أن المجاز هذا محدَث، لم يعرفه أهل اللغة الذين تكلموا فيها وتواضعوا عليها، وإنما جاء به الأعاجم الذين جاءوا بعد فساد الألسنة، وزعموا أن أصل الوضع على الحقيقة ثم نُقل إلى غير ذلك المعنى، وهذا يحتاج إلى دليل، ولن يستطيع الإنسان أن يأتي بدليل على هذا، وقالوا مثلاً: قوله جلَّ وعلا: {جِدَارَاً يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ} [الكهف:77] الأصل أن الإرادة للعاقل فقط، هذا الذي وضعت عليه اللغة، ثم نقل ذلك من باب الاستعارة، فجعلت الإرادة للجدار من هذا الباب -من باب الاستعارة- وهو من نوع المجاز، ويقال لهم: من أين لكم هذا؟ الجدار له إرادة تناسبه، وكل شيء له إرادة، فميله هذا هو الإرادة، وهو الذي يُفهم من اللغة، وكذلك قوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [يوسف:82]، زعموا أن القرية هي المباني والمباني لا تُسأل، وإنما جاءت الاستعارة وجاء المجاز من ذلك فاستعمل، والسؤال يوجه في الأصل إلى من يرد على السؤال ويعقله، ثم نقل إلى ما لا يعقل من باب المجاز، وكذلك قوله: {وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا} [يوسف:82]، العير: هي الإبل، والعير لا يتجه إليها السؤال، فوجه السؤال إليها وأريد سائقيها وقائديها وراكبيها من باب الاستعارة، وللعلاقة التي بين هذا وهذا، فيقال أيضاً: هذه دعوى، والذين وضعوا اللغة يفهمون هذا الخطاب بدون هذه الأشياء ولا تخطر لهم ببال، فالقرية في اللغة ما تسمى قرية بمجرد الحيطان إلَّا بقيد، مثلما قال الله جلَّ وعلا: {مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [البقرة:259]، (قرية خاوية على عروشها) إذا كانت مقيدة بهذا فنعم، أما إذا قيل: قرية، فلا تكون قرية إلا وفيها سكان، وإلا فلا تسمى قرية، وكذلك لفظة (العير) فالإبل بمفردها لا تسمى عيراً، وإنما تسمى كذلك إذا كان معها السائق والقائد والراكب ومن يصلحها ويدبرها، هنا تسمى عيراً، فيكون المفهوم من قوله: (اسأل العير)، يعني: اسأل جميع من فيها، ولا تخص واحداً أو اثنين، فليس هناك مجاز ولا غيره.
ثم هؤلاء طردوا هذا في جميع ما جاء في القرآن فقالوا أيضاً في الشيء الذي يكون باطلاً قطعاً في قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفَّاً صَفَّاً} [الفجر:22] قالوا: هذا من المجاز، وكذلك في قوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة:210] قالوا: أيضاً هذا مجاز، والله لا يجيء، وإنما المراد: وجاء أمر ربك، أو جاء عذاب ربك، أو ما أشبه ذلك، وعلى هذا الأساس نفوا صفات الله جلَّ وعلا، ولهذا قال البعض: إن المجاز واقع في اللغة إلَّا في صفات الله؛ لأنه تبين لهم أن هذا باطل قطعاً، وأنه يتضمن الإلحاد، فقالوا هذا القول، وهذه دعوى أيضاً، فإذا كان المجاز في اللغة فسيقال أنه أيضاً في القرآن فلا يخص شيئاً دون شيء؛ ولكن الصواب مثلما قال العلماء الذين أنكروا هذا: أن هذا أسلوب من أساليب اللغة العربية، وتسميته مجازاً اصطلاح حادث اصطلح عليه، ولا يوافَقون على ذلك، والذين أنكروه هم الذين معهم الحق.
قال الشارح رحمه الله تعالى: [وضُم إليها أركان وشرائط، فعلى ما قررنا لا حاجة إلى شيء من ذلك، فإن المصلي من أول صلاته إلى آخرها لا ينفك عن دعاء: إما دعاء عبادة وثناء أو دعاء طلب ومسألة، وهو في الحالين داعٍ.
(انتهى ملخصاً من البدائع)].(48/8)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [49]
مما يثير العجب والاستغراب أن أرباب الشرك كانوا إذا ادلهمت بهم الخطوب، وضاقت بهم السبل لجئوا إلى الله مخلصين له الدعاء، فإذا زال عنهم ما كانوا فيه من كرب جعلوا لله أنداداً فيما يدعون!! وهذا الأمر كافٍ بأن يحكم عليهم بالشرك والكفر، إذ فيه صرف ما لله لغير الله، حتى وإن كان غير الله ملك مقرب، أو نبي مرسل.
وجناب التوحيد جناب عظيم، لا يجوز أن يخدش أو يمس بشيء يعكر صفاءه، ويذهب ببريقه.(49/1)
شرح قوله تعالى: (أمن يجيب المضطر إذا دعاه)
قال المصنف رحمه الله: [وقوله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:62]].
هذه الآية من الآيات التي تبطل التعلق بغير الله جلَّ وعلا، وفيها الحجة الواضحة على المشركين، وإلزامهم بأن يعبدوا الله وحده، وقوله جلَّ وعلا: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62] هو سؤال من الله جلَّ وعلا واستفهام لهم ويطلب جوابهم عليه،
و
الجواب
أنه الله وحده، وكلهم يعترف بهذا، والمضطر هو الذي وقع في الضرورة، ووقع في شدة ألجأته إلى أن يرفع يديه إلى ربه، والإنسان إذا وقع في الكرب والشدة فإن في فطرته ما يجذبه إلى ربه، ويجعله متجهاً إليه وحده، إلَّا إذا تغيرت الفطرة نهائياً، وأصبحت منكوسة منتكسة، فربما دعى الاضطرار المقبور واتجه إليه وهو لا يزيده إلَّا ضلالاً، ولا يزيده إلَّا بعداً عن الله جلَّ وعلا، والخطاب هنا للعقلاء لا للمجانين الذين ذهبت عقولهم وأصبحوا لا عقل ولا فطرة لهم، إنما هو للعقلاء الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن المشركين كان أحدهم إذا ركب البحر وعصفت به الريح فإنه يقبل على الله وحده، ويدعوه وحده، وإذا كان معه صنم ألقاه في البحر وكفر به، حتى ينجو إلى البر، فإذا نجا وذهبت الشدة عاد إلى شركه القديم، وانتكس، فاحتج الله جلَّ وعلا عليهم بهذا: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62]، وهم يعلمون علماً يقينياً أنه الله، فجوابهم على هذا: الله هو الذي يجيب المضطر، ((وَيَكْشِفُ السُّوءَ)) وإذا وقع سوء عام أو خاص فلا تستطيع الأصنام والأوثان التي يعبدونها أن تكشفه، وإنما يكشفه الله جلَّ وعلا، وهم يعترفون بهذا، فلهذا جعل الله جلَّ وعلا ذلك دليلاً على وجوب إخلاص العبادة له، ولهذا قال: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:62] أي: أتتألهون شيئاً من المخلوقات مع الله جلَّ وعلا، وأنتم تعترفون أنه لا يجيب المضطر إلا هو؟! أليس هذا تناقض؟! أليس هذا -في الواقع- إهدارٌ للعقل وللفطرة وللدليل واتباع للهوى؟ إن التقليد والهوى ينكشفان ويذهبان إذا جاءت الشدائد، فإذا وقع الإنسان في الشدائد والسوء ذهب عنه الهوى والتقليد، كما وقع لفرعون الذي كان يقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، ويقول: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، فلما وقع في الغرق قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ} [يونس:90]، ولكن هذا لا يفيد في هذه الحالة، فصار هذا دليلاً واضحاً جلياً على وجوب الإخلاص في دعاء الله وعبادته، وأن تكون العبادة له وحده، وأن يكون التأله لله وحده، وكان ذلك دليلاً على المشركين، وأصبحوا لا عذر لهم في شركهم، لإقامة الأدلة والحجج عليهم ومنها هذا.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلَاً مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل:62]]: هذه الأمور الثلاثة: إجابة المضطر، كشف السوء، جعلكم خلفاء في الأرض، كلها ظاهرة في أنها خاصة بالله جلَّ وعلا، يعترف بها لله كل من له عقل سليم وفطرة سوية، إلَّا الذين يقولون -مثلاً- بإنكار وجود الله نهائياً، ويقولون: إن هذا الخلق من صنع الطبيعة، وما الحياة إلا موت يذهب بالمتقدم، وحياة تستقبل المواليد؛ لأن الحياة مادة، فليس هناك إلَّا هذا؛ ولكن هذا إهدار للعقل نفسه من الذي خلق وأمات؟! هل الإنسان يخلق نفسه أو يميتها؟! أو يعفل ذلك في غيره؟! لا أحد يقول هذا، ولا يستطيع أن يقوله أحد.
إذاً لابد أن يكون للمخلوق خالق قدير بصير عليم، غني بذاته عن كل ما سواه، وكل من سواه مفتقر إليه، وكل أهل العقول والفطر السليمة يقرون بهذا، وإنما المكابرون هم الذين يقولون بخلاف هذا في حالة العافية، وليس في حالة الشدة، فإذا جاءت الشدائد -حتى الملاحدة- يرجعون إلى رشدهم، ولكن لا ينفع رجوعهم حينها.
إذاً: الأمور الثلاثة واضحة الدلالة على وجوب عبادة الله، فكونه يجيب المضطر، وكونه يكشف الشدائد والأمراض والكربات التي يقع فيها الناس عموماً، وكونه يجعل الناس يخلف بعضهم بعضاً: يستوجب عبادته وحده سبحانه.
قال الشارح رحمه الله: يبين تعالى أن المشركين من العرب ونحوهم قد علموا أنه لا يجيب المضطر ويكشف السوء إلَّا الله وحده، فذكر ذلك سبحانه محتجاً عليهم في اتخاذهم الشفعاء من دونه، ولهذا قال: ((أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ)) يعني: يفعل ذلك.
فإذا كانت آلهتهم لا تجيبهم في حال الاضطرار، فلا يصلح أن يجعلوها شركاء لله الذي يجيب المضطر إذا دعاه، ويكشف السوء وحده، وهذا أصح ما فسرت به الآية كسابقتها من قوله: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارَاً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارَاً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزَاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [النمل:60 - 61]، ولاحقتها إلى قوله: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرَاً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [النمل:63 - 64]]: وهذه الآية التي ذكرها مثلما قوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:5 - 6]، والآيات في هذا المعنى في القرآن كثيرة، وهذه الآية وهي قوله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:62]، مثل قوله تعالى أيضاً: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشَاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} [البقرة:21 - 22] إلى آخر الآيات؛ لأن المشركين يقرون بأن الله جلَّ وعلا هو الخالق المتصرف، وهو الذي يملك كل شيء، وليس معه في ذلك مشارك، ولهذا قال: إن أصح التفسيرين في هذه الآية في قوله: ((أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ)).
بمعنى: أن ما يقوله بعض المفسرين بأن المعنى: أمشارك له فعل هذه الأشياء؟ أنه غير صحيح؛ لأنهم مقرون بأن الفاعل لهذه الأشياء الموجودة الظاهرة هو الله وحده، وما كان أحداً منهم ينكر ذلك، وإنما كانوا ينكرون أن تكون العبادة لله وحده، ولهذا ذكر ذلك بلفظ الألوهية ((أَإِلَهٌ)) ولم يقل: أمشارك له فعل ذلك؟ أخالق معه فعل ذلك؟ وإنما أنكر عليهم التأله؛ لأنهم مقرون بأنه جلَّ وعلا لا شريك له في الفعل والإيجاد، والخلق والتصرف، وهو الذي يسمى بتوحيد الربوبية، فقد كانوا مقرين به، وإنما أنكروا توحيد الإلهية بأن جعلوا معه شريكاً، وإلَّا فهم يتألهون لله جلَّ وعلا، ويرون أن الله جلَّ وعلا هو أعلى ما يُتأله وأعظم؛ ولكن الشركاء الذين أشركوهم في التأله جعلوهم وسائط بينهم وبين ربهم، مثلما أخبر الله جلَّ وعلا عنهم بقوله جلَّ وعلا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3].
يعني: وسطاء وشفعاء يشفعون لهم.
أما الملك والإيجاد والتصرف والخلق فما كان أحد منهم يشك أنه بيد الله جلَّ وعلا، وهذه الآيات استدل الله جلَّ وعلا بها على الكفار الذين يشركون معه في العبادة غيره؛ لأنهم إذا وقعوا في الاضطرار أخلصوا له الدعوة؛ ولأنهم يعلمون أن آلهتهم التي يشركونها مع الله لا تنفع ولا تستجيب لهم، فإذا كان الأمر هكذا، في أنها لم تستجب في وقت الشدة والاضطرار فهي كذلك في الرخاء لا تستجيب، وهذا كثيراً ما يرد في القرآن، فيستدل الله جلَّ وعلا عليهم بالشيء الذي يؤمنون ويقرون به، على الشيء الذي واقعوا الشرك فيه وهو العبادة، وليس لهم حجة في هذا، وإنما تمسكوا بما كان عليه آباؤهم، وما وجدوا عليه معظَّميهم تقليداً واتباعاً للآباء فقط، كما قال جلَّ وعلا عنهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23] أي: وجدناهم على ملة وعلى دين ونحلة -هذا هو المقصود بالأمة، فالأمة هنا: الملة والدين- فنحن متبعون لهم ومقتدون بهم، وهذه حجتهم فقط وهي حجة كل الكفار، حتى قال فرعون لموسى عليه السلام -لما جاءه بالدعوة إلى عبادة الله وحده-: {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} [طه:51] أي: ما بال الأمم السابقة.
لماذا لم توحّد في عبادتها؛ فجعل ذلك حجة، وهي لا تزال حجة عند الناس، ولكنها حجة تقليد فقط، ليس فيها أي برهان، وإنما البراهين القاطعة في إبطالها ظاهرة جلية، ولهذا استحقوا العذاب بذلك؛ لأنه ليس أمامهم ولا في أيديهم شيء يتمسكون به، لا حجة من كتاب مُنَزَّل، ولا من عقل سديد، ولا من فطرة سليمة، ولا من خلق، فالمشرك ليس عنده إلَّا مجرد التقليد فقط.
وفي هذه الآية ذكر أموراً، فإذا لم تتوافر في المعبود الم(49/2)
الاحتجاج على المشركين بما أقروا به على ما جحدوه
قال الشارح رحمه الله تعالى: [فتأمل هذه الآيات يتبين لك أن الله تعالى احتج على المشركين بما أقروا به على ما جحدوه من قصر العبادة جميعها عليه، كما في فاتحة الكتاب: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] قال أبو جعفر بن جرير: قوله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلَاً مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل:62] يقول تعالى ذكره: أم ما تشركون بالله خير، أم الذي يجيب المضطر إذا دعاه وَيَكْشِفُ السُّوءَ النازل به عنه؟ وقوله: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ} [النمل:62] يقول: يستخلف بعد أمواتكم في الأرض منكم خلفاء أحياء يخلفونهم.
وقوله: ((أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ)): أإله سواه يفعل هذه الأشياء بكم، وينعم عليكم هذه النعم؟ وقوله: {قَلِيلَاً مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل:62] يقول: تذكراً قليلاً من عظمة الله وأياديه عندكم، تذكرون وتعتبرون حجج الله عليكم يسيراً، ولذلك أشركتم بالله غيره في عبادته.
انتهى]: ومن لازم ذلك -أي: من لازم هذه الأمور التي ذكر-: أن المعبودات التي تُعبد من دون الله لا تملك من هذا شيئاً فعبادتها ضلال، وهذا لازم هذه الاحتجاجات، وفيها إبطال كل شرك وقع فيه الإنسان وقصر العبادة له؛ بأن ينال العابد مطلوبه وينجو من مرهوبه، وليس يفعل ذلك إلَّا الله وحده جلَّ وعلا، سواءً كان الذي يُتوجه إليه بالعبادة من الجمادات أو من الملائكة أو من الأنبياء أو من الأولياء أو من غيرهم، فكلهم لا يملكون شيئاً مما ذكره الله جلَّ وعلا، وإنما الملك بيد الله، وكلهم عبيد لله جلَّ وعلا تجري عليهم أحكامه، كما قال جلَّ وعلا في الملائكة وغيرهم إذا حشر العابدين معهم: {أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} [سبأ:40]، فيتبرءون منهم ويقولون: {سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ:41] يعني: أن الشياطين التي أمرتهم بهذه العبادة -في الواقع- عبادة المشركين وقعت عليهم، ويقول جلَّ وعلا مبيناً أن الأمور كلها بمشيئته وإرادته: {كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدَاً} [مريم:93] أي: كل من في السماوات والأرض سيأتيه ذليلاً خاضعاً.
والعبد هنا: بمعنى المعبَّد المذلًَّل الخاضع، وليس بمعنى العابد الذي عبد؛ لأن العبد يُطلق على معنيين: الأول: بمعنى: معبَّد مذلَّل، تجري عليه أحكام الرب الذي استعبده، ولا يعترض على شيء أراده الله جلَّ وعلا قدراً ومشيئة.
الثاني: بمعنى: عابد، أي: أنه يعبد باختياره، وهذا الذي ينفع، أما الأول فلا ينفع؛ لأن معناه أن السلطان كله لله جلَّ وعلا، والإنسان وسائر العقلاء من الملائكة وغيرهم ليس لهم أي تصرف، وإنما يأتون إليه خاضعين، وهذه حالة لازمة لهم؛ ولكن في ذلك اليوم -أعني يوم القيامة- يظهر جلياً عبادة الخلق له جلَّ وعلا وذلهم وخضوعهم له، وهو اليوم الذي يقول جلَّ وعلا فيه: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئَاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار:19]، أما في هذا الوقت وفي هذه الحياة فقد جعل للمخلوق شيئاً مما ملَّكه، وجعل له اختياراً ومقدرةً، وجعل الأمر إليه بعدما بين له طريق الهدى من طريق الضلال، وقيل له: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]، هكذا يخاطب الله عباده، وليس معنى ذلك التخيير؛ ولكنك مُكِّنتَ من العمل فاختر لنفسك ما ترى فيه فكاكك وخلاصك، وإن كان الإنسان لا يمكن أن يستقل بشيء دون إرادة الله ومشيئته؛ ولكن يتبين من قصد الإنسان ونيته وإرادته للخير أو للشر، فإن كان يريد الخير فإن الله ييسره لليسرى، وإن كان يريد الشر فلن يعجز الله ولن يفوته، ولا يجني إلَّا على نفسه، وهذا هو معنى الإثابة ومعنى العذاب؛ لأنه يثاب على فعله الذي يقع باختياره، ويعذب على فعله الذي يقع باختياره، أما إذا كان ليس له اختيار فهنا يُرفع العذاب عنه، ولهذا يُرتَّب كل ما يجري في الآخرة على ما يكون في هذه الحياة، فالعبد بمعنى العابد وهذا هو المعنى الذي ينفع، أما العبد بمعنى المعبَّد المذلَّل المسخر فهذا لا ينفع شيئاً، وهذا يجري على جميع الخلق.
والمقصود: أن المعبودات كلها التي يتجه إليها الإنسان في طلبه سواءً كانت من الجن، أو كانت من الملائكة، أو كانت من الأنبياء والرسل، أو من غير ذلك مما هو أقل قدراً من الجمادات أو الحيوانات؛ فإنها كلها لا تنفع، بل لا تملك لأنفسها نفعاً ولا تدفع عنها ضراً، فكيف يجوز للعاقل أن يتجه إليها أو يتعلق بها؟! وما أكثر ما يبين الله جلَّ وعلا هذا للخلق! ولكنهم قد يعمَون عن الحق، خاصة إذا كان الإنسان سالكاً طريقاً معيناً ووجد عليه آباءه وقومه وأهل بلده؛ فإنه لا يستطيع الخلاص إلَّا إذا أراد الله جلَّ وعلا له الهداية.(49/3)
حماية النبي صلى الله عليه وسلم لجناب التوحيد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وروى الطبراني بإسناده: أنه (كان في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم منافق يؤذي المؤمنين، فقال بعضهم: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنه لا يُستغاث بي وإنما يُستغاث بالله)]: هذا الحديث رواه الطبراني عن عبادة بن الصامت، وجاء في بعض الروايات أن المنافق هو: عبد الله بن أبي، وأن القائل: (قوموا بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نستغيث به من هذا المنافق) هو أبو بكر الصديق، والأذية كانت باللسان وبالقول، ولم تكن باليد أو بشيء يناله من أجسادهم؛ ولكن كان يقول قولاً يؤذي فيه المؤمنين، كما هو الحال مع المنافقين كثيراً، أما أن يؤذيهم بفعله: فهذا ما كان أحد من المنافقين يقدر عليه.
وقوله: (قوموا بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نستغيث به من هذا المنافق) يعني: أن يوبخه أو يعاقبه؛ لأنه يقدر على ذلك؛ ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم كره لهم هذا اللفظ -لفظ الاستغاثة- صيانةً للتوحيد، وحمايةً لجنابه أن يُخدش أو يناله شيء من النقص، وإلَّا فقولهم صحيح وجائز؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يقدر على ما طلبوا منه، والاستغاثة في الشيء المقدور عليه جائزة.
ولا تعارض ولا إشكال بين هذا الحديث وبين قوله جلَّ وعلا عن موسى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص:15]؛ لأن الآية تُدل على الجواز في الشيء المقدور عليه، والحديث يدل على الكراهة فقط، والكراهة في الشيء المقدور عليه كراهة اللفظ -لفظ الاستغاثة- مع جواز ذلك، فهو صلوات الله وسلامه عليه جعل هذا من باب الحماية -حماية جناب التوحيد- والصيانة أن يُدخَل عليه النقص من الشيء الذي يجوز، فقال لهم: (إنه لا يُستغاث بي وإنما يُستغاث بالله تعالى) وليس معنى هذا نفي الاستغاثة مطلقاً، وإنما صيانةً أن يقع الموحد في الشيء الذي لا يجوز، وهذا له نظائر سيأتي التنبيه عليها -إن شاء الله- فيما بعد.
إذاً: فالرسول صلى الله عليه وسلم يستطيع أن يغيثهم؛ لأنه حي حاضر، ويستطيع أن يأمر بعض المؤمنين بضربه، أو منعه، أو حبسه، أو حتى إخراجه من البلد، كما وقع له في بعض غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد نزل فيه قرآن حينما حدث بين الغلامين -الأنصاري والمهاجري- منازعة عند الماء وهم في سفر، والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نازلون، وكان الماء فيه شح، فقال أحدهما: (يا لَلأنصار! وقال الثاني: يا لَلمهاجرين! فسمعوا هذا القول وسمعه عبد الله بن أبي بن سلول -رأس المنافقين- فقال: ما مثلنا ومثل هؤلاء إلَّا كقول القائل: سمِّن كلبك يأكلك: (لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ)، وقال: لا تنفقوا عليهم لقد أوسعتموهم في النفقات وفي المساكن وفي كذا وكذا حتى أصبحوا يُزاحموننا في أرزاقنا وفي أماكننا، وأصبحنا نستغيث منهم، فذهب ذاهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما قال -وكانت عادته صلوات الله وسلامه عليه أنه إذا حدث مثل هذا الأمر بادر بإطفائه- فأمر بالمسير في وسط النهار في وقت ما كانوا يسيرون فيه، وانتشرت الأخبار بأن الرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن يقتل عبد الله بن أبي، وسمع ابنه عبد الله ذلك فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! أتريد أن تقتل أبي؟ فقال: من الذي أخبرك؟ فقال: إن كنت تريد أن تقتله فأمرني أقتله؛ لأنني أخشى أن يقتله غيري فلا يتسع صدري في أن أنظر إلى من قتل أبي، فأخشى أن أهلك -يعني: أن أقتل قاتله فأهلك- قال: أوَتفعل ذلك؟ قال: نعم.
فقال: لا.
ولكن نحسن صحبته، فلما وصلوا إلى المدينة أخذ ابنه السيف ووقف أمامه، وقال: والله لا تدخلها حتى تشهد على نفسك أنك الأذل، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأعز والمؤمنين).
فالمقصود: أنه صلوات الله وسلامه عليه كان يستطيع أن يغيثهم من هذا المنافق، ومع ذلك كره لهم هذا القول، وقال ذلك القول، وهذا يكون من باب الصيانة والحماية لجناب التوحيد، ومن باب الكراهة فقط مع الجواز.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وروى الطبراني بإسناده أنه (كان في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم منافق يؤذي المؤمنين فقال بعضهم: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وآله من هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنه لا يُستغاث بي وإنما يُستغاث بالله).
قال الشارح: الطبراني: هو الإمام الحافظ سليمان بن أحمد بن أيوب اللخمي الطبراني صاحب المعاجم الثلاثة وغيرها، روى عن النسائي وإسحاق بن إبراهيم الدبري وخلق كثير، مات سنة ستين وثلاثمائة.
روى هذا الحديث عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
قوله: أنه (كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين) لم أقف على اسم هذا المنافق]: الذي قال: (لم أقف على اسم هذا المنافق) صاحب الشرح المسمى تيسير العزيز الحميد -وفتح المجيد اختصار لذلك الشرح- وقد ذكر غيره -ممن وقف عليه- أنه: عبد الله بن أبي.
قال الشارح رحمه الله تعالى: [قلت: هو عبد الله بن أبي؛ كما صرح به ابن أبي حاتم في روايته.
قوله: (فقام بعضهم) أي: الصحابة رضي الله عنهم، هو: أبو بكر رضي الله عنه.
قوله: (قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من هذا المنافق) لأنه صلى الله عليه وسلم كان يقدر على كف أذاه.
قوله: (إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله) فيه: النص على أنه لا يستغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم ولا بمن دونه، كره صلى الله عليه وسلم أن يُستعمل هذا اللفظ في حقه -وإن كان فيما يقدر عليه في حياته- حمايةً لجناب التوحيد، وسداً لذرائع الشرك، وأدباً وتواضعاً لربه، وتحذيراً للأمة من وسائل الشرك في الأقوال والأفعال].
بما أن هذا جائز فهو غير ممنوع، والحديث لا يدل على المنع، فالاستغاثة جائزة فيما يقدر عليه المستغاث به، إذا كان حياً حاضراً سامعاً وقادراً، فهذا لا بأس به، كالذي -مثلاً- يهاجمه سبع، وعنده من يقدر أن يعينه، فيستغيث به قائلاً: أغثني من هذا السبع، أو -مثلاً- عنده شيء لا يستطيع حمله، وعنده من يساعده، فيقول: أغثني على حمل هذا الشيء، أو -مثلاً- إنسان يمشي على رجليه، فيأتي من معه سيارة أو ما أشبه ذلك فيقول: أغثني فأركبني، فإن هذا جائز؛ لأنه يستطيع فعل ذلك الطلب؛ ولكن لا يقال: (أغثني)، أو (أستغيث بك) كراهة؛ لأنه يخشى أن تحمل هذه اللفظة معها ما لا يجوز، والرسول صلى الله عليه وسلم حريص على نجاة أمته، رءوف رحيم بهم، فالشيء الذي يمكن أن يدخل الشيطان عليهم منه منعه، ونهى عنه؛ سداً للذرائع فقط، وليس لأن هذا الفعل -مثلاً- بعينه محرم، أو أنه لا يجوز أصلاً، وإنما لذلك الغرض الذي ذكرناه.(49/4)
حكم الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم
قال الشارح رحمه الله تعالى: [وأدباً وتواضعاً لربه، وتحذيراً للأمة من وسائل الشرك في الأقوال والأفعال، فإذا كان هذا فيما يقدر عليه النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، فكيف يجوز أن يستغاث به بعد وفاته، ويُطلب منه أمور لا يقدر عليها إلَّا الله عزَّ وجلَّ؟!].
يعني: كالذي يطلب منه أن يرزقه، أو يغفر ذنبه، أو يأخذ بيده يوم القيامة وينجيه من عذاب الله، أو يحميه من غضب الجبار جلَّ وعلا، أو -مثلاً- أن يزيل المرض الذي فيه، وما أشبه ذلك مما يقع كثيراً من الناس، فإن هذا من الشرك الأكبر، نسأل الله العافية، أو -مثلاً- كالذي يأتي ويقول: يا رسول الله! اشفع لي، يا رسول الله! أنا بحسبك، يا رسول الله! أنا داخل عليك أريد منك الشفاعة، وما أشبه ذلك، فإن هذا شرك؛ لأن هذا يجب أن يُطلب من الله جلَّ وعلا، والشفاعة لله وليست للرسول صلى الله عليه وسلم، ولكي تقع الشفاعة لابد من شيئين: أولهما: أن يأذن الله للشافع أن يشفع.
والثاني: أنه يحد له حداً، ويقول: هؤلاء اشفع فيهم.
وسيأتي أن الشفاعة معناها وحقيقتها: إظهار كرامة الشافع؛ إذا أراد الله جلَّ وعلا رحمة المشفوع فقط، هذه هي حقيقة الشفاعة.
وإلَّا فالأمر كله لله: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعَاً} [الزمر:44] {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28]، فالتعلق بغير الله -وإن كان من أوليائه، وإن كان من أقرب المقربين إلى الله- لا يجوز؛ لأن الملك كله لله، والأمر كله لله، فالعبادة كلها لله، ولا يجوز أن يكون الذل والخضوع، والتعظيم والخشية، والإنابة والخوف والرجاء، والرغبة والرهبة، والتوبة وغير ذلك من أنواع العبادة إلَّا لله وحده فقط، وكثيراً من الشعراء يأتي بأشعار صريحة في الشرك في دعوة الله جلَّ وعلا، كما يقول القائل: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العممِ إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي فضلاً وإلَّا فقل: يا زلة القدمِ! فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلمِ ولن يضيق رسولَ الله جاهُك بي إذا الكريمُ تحلى باسم منتقمِ إلى غير ذلك من ألفاظ الشرك، ويقول في قصيدة أخرى بعد أن ذكر عن نفسه أنه أنشدها وهو مكشوف الرأس، أمام قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه أنزل به فاقته وفقره، وأنزل به الشكوى من أعدائه، يقول: هذه علتي وأنت طبيبي ليس يخفى عليك في القلب داءُ هكذا يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم، فماذا يبقى لله إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يخفى عليه في القلوب داء؟! وكان من جوده: الدنيا والآخرة، وكان من جملة علومه: علم اللوح والقلم!! اللوح المحفوظ الذي فيه كل شيء، والقلم الذي قال له جلَّ وعلا: (اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة)، ثم الاستغاثة به: ولن يضيق رسولَ الله جاهُك بي إذا الكريمُ تحلى باسم منتقمِ يقول: إذا غضب الله يوم القيامة غضباً -لم يغضب مثله قبله، ولن يغضب مثله بعده- فأنا لائذ بك، لا يضيق جاهك بي، احمني من هذا الغضب.
فهل هذا يتناسب مع قول الرسول صلى الله عليه وسلم لأقرب الناس إليه: (يا صفية عمة رسول الله! لا أغني عنك من الله شيئاً، ويا فاطمة بنت محمد! سليني من مالي ما شئتِ، لن أغني عنك من الله شيئاً) فهل هذا يتناسب مع ذلك؟! وهل هذا يتناسب مع قول الله جلَّ وعلا: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:128]؟! وهو صلوات الله وسلامه عليه الذي علم أمته التوحيد، ونهاهم عن التعلق بغير الله جلَّ وعلا.
فالمقصود: أن الاستغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم وبمن دونه لا تجوز، وإنما الجائز منها ما كان في حياته وبمقدوره أن يغيث، أما إذا كان المستغاث به غائباً بعيداً أو كان ميتاً فهذا لا يجوز منه كثير ولا قليل؛ لأن هذا من حقوق الله وحده؛ ولأن الذي يعلم الغيب ويطلع على كل شيء هو الله، والذي يقدر على كل شيء هو الله جلَّ وعلا، وهو الذي إذا استغاث به المستغيث أغاثه؛ إذا كان صادقاً وخالصاً في دعوته، مقبلاً على الله، حتى وإن كان مشركاً، بشرط أن يكون صادقاً في استغاثته -أعني: أنه لجأ إلى الله لجوءاً صحيحاً وصدق في ذلك- ولهذا أخبر الله جلَّ وعلا أنه يغيث المشركين: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62] المضطر من المشركين ومن الكفار؛ لأن هذا مقتضى ربوبيته جلَّ وعلا، فهو رب الخلق جميعاً، والرب هو الذي يمدهم بما فيه حاجتهم، ويقوم على مصالحهم، وإن كانوا غير عابدين له؛ لأنه جلَّ وعلا حليم، حلمه يسع العصاة والكفرة، ولأنه جلَّ وعلا لا يعجل؛ ولأنه إذا أعطاهم لا ينقصه ذلك شيء، فالمآل إليه: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية:25 - 26] والمرجع إليه، ثم يحاسبهم على ذلك، والحياة قصيرة، فلهذا أمر الله جلَّ وعلا رسله أن يمهلوا الكفار: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدَاً * وَأَكِيدُ كَيْدَاً * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدَاً} [الطارق:15 - 17].
يعني: قليلاً قليلاً، وزمنهم الذي يُمهلون فيه قليل، وسوف يكون مآلهم بعده إلى الله جلَّ وعلا، فالأمر كله بيد الله جلَّ وعلا، وليس لأحد معه شيء، فيجب أن يكون الإنسان عبداً لله وحده، عبداً لربه، ولا يكون عبداً لعبيد من عباد الله جلَّ وعلا، ولهذا كان الصحابة رضوان الله عليهم إذا واجهوا الكفار في قتال وسألوهم: ما الذي جاء بكم من بلاد العرب؟ يقولون لهم: (جئنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب الناس)؛ لأن الناس يستعبد بعضهم بعضاً، ولا يزال ذلك موجوداً، فترى بعضهم أرباباً وبعضهم عبيداً يستعبدون، وإنما يخرج الإنسان من عبادة الخلق إذا أخلص العبادة لله جلَّ وعلا، وأخبر سبحانه أن العزة للمؤمنين، وأن العزة بعبادته وحده: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعَاً} [فاطر:10] فالواجب على الإنسان أن يعرف حق الله عليه، ويميز بين حق الله وحق الرسول صلى الله عليه وسلم، فحق الرسول صلوات الله وسلامه عليه: محبته، وتقديم محبته على محبة الأنفس -فضلاً عن الأولاد والمال والناس- أن تحبه أكثر من محبتك لنفسك؛ ومحبته صلى الله عليه وسلم ينبغي أن تكون كذلك؛ لأنه جاءك بالنور من الله؛ فأخرجك به من الظلمات، وخلصك من شبكات الهلكة إلى سبيل الله الذي يوصلك للجنة، ففضله عليك عظيم جداً، وكذا تحبه لأن الله جلَّ وعلا يحبه، فأنت تحب ما يحبه محبوبك، أما أن تكون المحبة مع الله فهذا شرك؛ لأن محبة الله محبة ذل وخضوع وتعظيم، أما محبة الرسول صلى الله عليه وسلم فهي محبة لله وفي الله، تحبه لأن الله يحبه، ولأنه بيَّن لك طريق المحبة الواجبة عليك لله جلَّ وعلا.
وكذلك من حقوقه عليك: اتباعه فيما قال وأمر، وتصديقه في جميع ما أخبر به، وأن تدعو إلى سنته ودينه، وأن تخلص في ذلك، وأن تجتهد في أن تكون ممن سلك سبيله وترسم خطاه، ولهذا يقول الله جلَّ وعلا: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]، فباتباعه صلى الله عليه وسلم تحصل محبته ومحبة الله جلَّ وعلا.(49/5)
بالتوحيد والتجريد يكون العمل مقبولاً عند الله
قال الشارح رحمه الله تعالى: [كما جرى على ألسنة كثير من الشعراء كـ البوصيري والبرعي وغيرهم من الاستغاثة بمن لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، ويعرضون عن الاستغاثة بالرب العظيم القادر على كل شيء، الذي له الخلق والأمر وحده، وله الملك وحده، لا إله غيره، ولا رب سواه، قال تعالى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعَاً وَلا ضَرَّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعراف:188] في مواضع من القرآن: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرَّاً وَلا رَشَدَاً} [الجن:21].
فأعرض هؤلاء عن القرآن، واعتقدوا نقيض ما دلت عليه هذه الآيات المحكمات، وتبعهم على ذلك الضلال الخلق الكثير والجم الغفير؛ فاعتقدوا الشرك بالله ديناً، والهدى ضلالاً، فإنا لله وإنا إليه راجعون! فما أعظمها من مصيبة عمت بها البلوى! فعاندوا أهل التوحيد، وبدَّعوا أهل التجريد، فالله المستعان!].
أهل التوحيد: هم الذين أخلصوا العبادة لله، وأما أهل التجريد: فهم الذين أخلصوا متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وصار قولهم وفعلهم متابعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
يعني: جردوا المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم فقط، وتركوا الناس، فلا ينظرون إلى أحد مهما كان من العبادة ومن العلم، إلا إذا كان قوله موافقاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم، أما إذا كان مخالفاً فلا يلتفتون إليه مهما كان، ومن المعلوم قطعاً عند المسلمين: أن المعصوم في أقواله وأفعاله هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط، أما ما عداه من الخلق -مهما أُعطي من العلم، ومن التعبد، ومن القبول عند الناس- فإنه غير معصوم.
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون).
أي: الذين إذا أخطئوا تابوا ورجعوا إلى الله جلَّ وعلا.
والمقصود: أن الإنسان جُعل الأمر إليه، وقد بُين له الحق من الباطل، فإذا تبين للإنسان الحق وجب عليه اتباعه، وإذا لم يتبعه فهو لا يضير أحداً شيئاً، ولا يضر الله جلَّ وعلا شيئاً، وإنما يضر نفسه؛ لأنه يكتسب بأعماله إما القرب إلى الله وحسن الثواب عنده، أو يكتسب بأعماله القرب من الشيطان والبعد من الله، ويكون بذلك قد تحصل على شدة العذاب الذي يلاقيه يوم القيامة: {بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة:14]، وفي هذا المعنى يقول الله جلَّ وعلا للخلق: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]، وقال بعد ذلك: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارَاً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} [الكهف:29]، نسأل الله العافية، والمهل هو: الماء الذي يتقطع من الغليان، إذا دخل في البطون قطع الأمعاء ومزقها، وإذا قرب من الوجوه شواها، ثم العذاب مستمر ودائم {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرَاً} [الإسراء:97] نسأل الله العافية.
فكيف يصبر الإنسان على هذا؟! كيف يستطيع الصبر؟! كيف لا يسعى في نجاته؟! وكما قيل: عجبت لمن آمن بوجود النار وحقيقتها، وأنه وارد إليها، كيف لا ينام عن المعاصي؟! وكيف لا يهرب؟! وعجبت لمن آمن بالجنة ونعيمها، كيف ينام عنها ولا يطلبها؟! مع أن المعروف لدى الناس لو قيل لإنسان: لو ذهبت إلى البلد الذي يبعد عنك -مثلاً- ألف كيلو أو أكثر، وبعت فيه بضاعة لربحت بدل الريال مائة ريال، ثم تعود وليس هناك أي مشاكل تواجهك.
لو قيل له هذا لما كان له أن يتخلف، ولو تخلف عن هذا الذهاب لقيل له: مجنون، لا يعرف مصلحته! فكيف والإنسان يؤمن إيماناً يقينياً بأنه سيموت، ثم يُبعث، ثم يجزى، ثم يبقى حياً أبد الآبدين، إما في نعيم وإما في عذاب لماذا لا يسعى في خلاص نفسه؟! إن أهم ما يسعى إليه الإنسان: أن يجرد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويخلص العبادة لله فقط، فإذا مات الإنسان على التوحيد وليس عنده شرك، فإنه يرجى له الخير، وإن كان عاصياً، المهم أن يموت موحداً لله، عابداً لله ليس عنده شرك، وإن كان مقصراً في ترك الواجبات وفي فعل المحرمات، أما إذا كان من عباد الله الذين يخلصون له العبادة، ويؤدون الواجب، ويجتنبون المحرم، فهذا من الذين {لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62].
إن الإنسان مهما اجتهد لا يضمن أن يكون عملُه مقبولاً، أو أن عملَه ليس مدخولاً -مدخولاً في نيته وقصده أو في عمله- لا يضمن ذلك أبداً، فلهذا ينبغي أن يجتهد، ثم يتوكل على الله جلَّ وعلا حق الاتكال والاعتماد، ويكون متعلقاً به وبرجائه وبدعوته دائماً، متضرعاً ذالَّاً له، يسأله حاجته التي لا غنى له عنها، فهو الغني عمن سواه، ومع ذلك يدعو العباد إلى دعوته، ويدعوهم إلى مغفرته وجنته: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ} [يونس:25] جلَّ وعلا.
ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (كلكم يدخل الجنة إلَّا من أبى)، أهناك أحد يقال له: تعال إلى الجنة ويأبى؟! يقول: (كلكم يدخل الجنة إلَّا من أبى، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى).
إذاً: الجنة لها ثمن، وهي: طاعة الله وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ومتابعته، فالرسول جاء بالهدى من عند الله، وعلى الإنسان أن يخلص نفسه: (والناس كلهم إما رائحون أو غادون -يعني: من هذه الدار إما أن يذهبوا مساءً أو صباحاً ولا بد، فإذا ذهبوا- فكلهم بائع نفسه فمعتقها أو موبقها) يعني: مشتريها بطاعة الله أو مشتريها بطاعة الشيطان.(49/6)
مسائل الباب
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيه مسائل: الأولى: أن عطف الدعاء على الاستغاثة من عطف العام على الخاص] وهذا كثير، عطف العام على الخاص، وبالعكس قد يُعطف الخاص على العام، كقوله جلَّ وعلا: {مَنْ كَانَ عَدُوَّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ} [البقرة:98]، فجبريل من عطف الخاص على العام.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [الثانية: تفسير قوله تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ} [يونس:106]].
تقدم أن الدعوة هنا عامة، تشمل: دعاء المسألة ودعاء العبادة، وأن كل مخلوق من المخلوقات لا ينفع ولا يضر إلَّا بإذن الله جلَّ وعلا، وأن الله جلَّ وعلا لم يأذن لأحد من عباده أن يدعو غيره.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [المسألة الثالثة: أن هذا هو الشرك الأكبر] نعم، فدعوة غير الله هو الشرك الأكبر، ولهذا يخاطب الله جلَّ وعلا الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول: {فَإِنْ فَعَلْتَ} [يونس:106] يعني: دعوت غير الله {فَإِنَّكَ إِذَاً مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس:106]، وسبق أن معنى الظلم هنا: وضع العبادة في غير موضعها، وأن الظلم هنا هو الشرك.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [الرابعة: أن أصلح الناس لو يفعله إرضاءً لغيره صار من الظالمين] إرضاءً لغيره من الخلق، ولو إرضاءً لإبليس صار من الظالمين.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [الخامسة: تفسير الآية التي بعدها] قال الله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس:107] والآية التي بعدها: {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقَاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ} [العنكبوت:17]، فبين سبحانه أن الذين يُعبدون من دون الله لا يملكون شيئاً، حتى من الشيء الظاهر (الرزق) الذي يأكله الإنسان أو يلبسه أو يتموله لا يملكون منه شيئاً.
ثم قال: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ} [العنكبوت:17]، فجعل الرزق بيد الله جلَّ وعلا فقط، وأنه لا يُطلب من غيره، وتقديم المعمول الذي هو الظرف والذي يعمل فيه الفعل -فابتغوا- يدل على الاختصاص، وأن طلب الرزق خاص بالله جلَّ وعلا، وأنه عبادة، ولهذا عطف عليه قوله: (واعبدوه)، وهذا أيضاً من عطف العام على الخاص.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [المسألة السادسة: كون ذلك لا ينفع في الدنيا، مع كونه كفراً] يعني: دعوة غير الله لا تنفع في الدنيا، وهي تضر في الآخرة؛ لأن هذا الفعل كفر.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [السابعة: تفسير الآية الثالثة] وهي قوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:5 - 6].
قال المصنف رحمه الله تعالى: [الثامنة: أن طلب الرزق لا ينبغي إلَّا من الله كما أن الجنة لا تُطلب إلَّا منه].
لقوله تعالى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ} [العنكبوت:17]، فيجب أن يكون طلب الرزق من الله وحده، مؤدياً للسبب غير معتمد عليه؛ لأن الذي جعل السبب هو الله ولا يجوز أن يُعتمد عليه، وفي المقابل لا ينبغي أن يُعطل السبب؛ بل يُفعل؛ لأن الله جعل لكل شيء سبباً؛ ولكن لو شاء لم يترتب المسبَّب على السبب جلَّ وعلا، فيجب أن يكون تعلق المسلم بالله وحده، مع فعل الأسباب.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [التاسعة: تفسير الآية الرابعة.
العاشرة: أنه لا أضل ممن دعا غير الله.
الحادية عشرة: أنه غافل عن دعاء الداعي لا يدري عنه.
يعني: أن المدعو غافل عن دعاء الداعي، ولا يدري عن ذلك شيئاً.
الثانية عشرة: أن تلك الدعوة سبب لبغض المدعو للداعي وعداوته له] يعني: يوم القيامة، الداعي والمدعو كلاهما يلعن أحدهما الآخر؛ كما قال إبراهيم عليه السلام لقومه: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضَاً} [العنكبوت:25]، ويقول الله جلَّ وعلا في الذين يتخذون من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} [البقرة:165 - 166]، تبرأ كل واحد من الآخر: {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا} [البقرة:167] يعني: لو أن لنا رجعة إلى الدنيا لتبرأنا منهم، ولجعلنا العبادة والحب والتعلق بالله وحده، ولكن من أين الكرة؟! قال المصنف رحمه الله تعالى: [الثالثة عشرة: تسمية تلك الدعوة عبادة للمدعو] وهي قوله جلَّ وعلا: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ} [الأحقاف:5]، ثم قال: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:6] فبين أن الدعاء عبادة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [الرابعة عشرة: كفر المدعو بتلك العبادة.
الخامسة عشرة: هي سبب كونه أضل الناس] يعني: سبب كونه أضل الناس أنه دعا غير الله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ} [الأحقاف:5].
قال المصنف رحمه الله تعالى: [السادسة عشرة: تفسير الآية الخامسة] وهي: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل:62].
قال المصنف رحمه الله تعالى: [السابعة عشرة: الأمر العجيب: وهو إقرار عبدة الأوثان أنه لا يجب المضطر إلَّا الله؛ ولأجل هذا يدعونه في الشدائد مخلصين له الدين]: وقد حصل لهم هذا الاعتقاد بالتجربة والواقع الذي شاهدوه ووقعوا فيه، وهو الذي اقتنعوا به وعلموه، ولكن إذا جاء الرخاء وذهبت الشدة عادوا لشركهم، ويوجد الآن ممن يدعي الإسلام من تجاوز هذا الفعل الذي كان المشركون يفعلونه؛ فإذا وقع في الشدة أخلص الدعوة لغير الله، وأخلص اللجوء إلى المقبور، فصار يتضرع ويبكي بكاءً لا يحصل له في المساجد ولا عند الكعبة، فإن حصل له مقصوده قدراً أضاف ذلك إلى الميت، وجعل ذلك دعوة يدعو بها غيره إلى التعلق به، أما إذا تخلف المقصود؛ فإنه يعود باللوم على نفسه.
فيقول: لم أكن مخلصاً في دعوته، أو أني قد فرطت أو قصرت في حقه؛ ولهذا ما أجابني.
وهذا شرك ما وصل إليه شرك أبي جهل وأبي لهب، وهو شرك عظيم، ومع ذلك يقع فيه كثير ممن يقول: (لا إله إلَّا الله) ويصلون ويصومون، ويكون قد أتى بالمتناقضات مناقضات العقول ومناقضات الشرع والوضع؛ لأنه -في الواقع- ما استعمل عقله، أما أولئك فعندهم عقل استعملوه، وعلموا أن هذه المدعوات لا تكشف الكربات، ولا تغيث اللهفات، فتبرءوا منها وتركوها في وقت الحاجة وإزالة الشدة التي يقعون فيها، وأخبر ربنا جلَّ وعلا كثيراً عنهم أنهم إذا ركبوا في البحر: {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت:65]، ولكن إذا نجوا وجاء الرخاء عادوا إلى الشرك.
ولهذا يقال: أولئك أصح عقولاً من هؤلاء، وأخف شركاً من هؤلاء، وإن كان هؤلاء يصلون ويصومون.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [الثامنة عشرة: حماية المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم حمى التوحيد والتأدب مع الله] هذا مأخوذ من الحديث وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله جلَّ وعلا) فهو من باب سد الذرائع، وحماية الشيء يكون بمنع الشيء الذي يجوز، لئلا يُدخل مع هذا الجائز إلى ما لا يجوز.(49/7)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [50]
الأصل أن العباد كلهم متعبدون لله عز وجل، ولكن وجد منهم من صرف العبادة لغير الله تعالى، وقد احتج الله على هؤلاء بأن الذين يتعلقون بهم ويصرفون شيئاً من العبادة لهم كانوا فقراء إلى الله في حياتهم -فضلاً عن حالهم بعد الموت- وأنهم ليس بأيديهم شيء من ملك الله جل وعلا، وليسوا شركاء له في الملك، ولا يملكون نفعاً ولا ضراً، لا لأنفسهم ولا لمن يعبدوهم من دون الله.(50/1)
باب قول الله تعالى: (أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب قول الله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئَاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرَاً وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} [الأعراف:191 - 192]]:(50/2)
شرح قوله: (أيشركون مالا يخلق شيئاً وهم يخلقون)
في هذا الباب وهو قوله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئَاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرَاً وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} [الأعراف:191 - 192] يبين سبحانه حالة المدعو من دون الله مطلقاً، وأنه لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، وأنه لو أصابه الله جلَّ وعلا بإدالة عدو أو تسليط أو ما أشبه ذلك لا يستطيع أن ينصر من يدعوه ولا أن ينصر نفسه، وهذه حال كل مدعو من دون الله، سواءً كان عاقلاً أو غير عاقل، وسواءً كان من المقربين إلى الله جلَّ وعلا: كالرسل والملائكة أو من هو أقل منهم كالأولياء، أو كان عبداً مسخراً خلقه الله جلَّ وعلا لعبادته القدرية: كالشمس والقمر والنجوم والشجر وغيرها، فإنها كلها بهذه المثابة.
يعني: أنها مخلوقة، الله خلقها، وإذا كانت مخلوقة فهي فقيرة من الأصل؛ لأن كل مخلوق كان معدوماً لا وجود له، فأوجده الخالق جلَّ وعلا، فهو يتصرف فيه كيف يشاء، ثم إن هذه المخلوقات لا تخلق شيئاً.
والمقصود بالخلق هنا: إيجاد الشيء من العدم، وليس الخلق الذي يطلقه بعض الناس على بعض أفعال الناس، وهو إطلاق فيه إيهام، وإنما المراد بالخلق هنا: الإيجاد.
أي: إيجاد الشيء من العدم، وهذا لا يمكن لغير الله جلَّ وعلا، كما قال الله جلَّ وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابَاً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئَاً لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج:73]، فهذه حالة كل معبود من دون الله، ولهذا ضرب الله جلَّ وعلا هذا المثل؛ ليبين ويوضح للعقلاء الذين عندهم فكر وتأمل.
والشارح رحمه الله أراد بهذا الباب أن يبين للذين يتعلقون بالقبور، ويتجهون إلى أصحابها، وقد صاروا رفاتاً أمواتاً، أن أرواحهم مرتَهنة عند الله، لا تستطيع أن تجيء أو تتصرف كما يزعمون، فإنهم يزعمون أن للأولياء تصرفات، وأنهم يسمعون الدعوات، ويغيثون اللهفات، وهذا كله باطل ليس لهم عليه برهان ولا دليل، وإنما هي مجرد ظنون واتباع للأهواء والآباء، والله جلَّ وعلا أصدق قيلاً، وأعلم بما يقوله جلَّ وعلا، وأعلم بما يقع في الكون، فهذا كتابه واضح جلي خاطب به عباده، وخطابه يتوجه لكل مكلف، ويجب أن يُفهم قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] ولا ينبغي للعبد أن يعرض عن تعلم ما ينجيه ويخلصه من النار ثم إذا أُحضر يوم القيامة مع من يتعلق به ويدعوه، فيقول حينها: ما تعلمت، وما دريت، أو أن فلاناً أضلني، أو أني اتبعت رؤسائي وكبرائي، فإن هذا لا يجديه شيئاً، فإن الرؤساء تتبرأ منه أيضاً، وهو أيضاً يعود باللوم على رؤسائه وكبرائه من العلماء والمقدمين وغيرهم؛ ولكن لا يفيد اللوم ولا اللعن ولا غير ذلك؛ لأن الله منَّ على العبد بأن جعل له عقلاً، ثم أرسل إليه رسولاً، ثم بين له بكتابه -الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه- الحق بياناً واضحاً، وجعل فيه الهدى والشفاء، وليس لمن ابتغى الهدى من الخلق نصيب من ذلك.
هذا هو مراده في ذكر هذه الآية، ومعنى الآية على ما قال المفسرون: أن هذا الاستفهام خرج للتوبيخ.
أي: لتوبيخ المشركين وتعنيفهم، حيث عبدوا من كان مخلوقاً، ثم إنه لا يخلق، ثم إنه لا يستطيع نصر نفسه فضلاً عن أن ينصر من دعاه، وهذه الأمور يجب أن تتوافر في المعبود، وأن يكون المعبود أولاً بلا بداية، وآخراً بلا نهاية، غني بنفسه عما سواه: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد:3]، وأن يكون مالكاً للنفع والضر، ومالكاً للنصر على العدو، والإعزار لمن تعلق به وطلب العزة منه، أما إذا فُقد شيء من ذلك فعبادته ضلال.
إذاً: هو احتجاج عليهم، وتوبيخ لهم، وتقريع لما فعلوه، حيث اتجهوا إلى ما اتجهوا إليه من المخلوقات حسب تنوعهم في عباداتهم، فمنهم من يعبد الشجر، ومنهم من يعبد القبور، ومنهم من يعبد الكواكب، ومنهم من يعبد الجن، ومنهم من يعبد الملائكة، ومنهم من يعبد الأنبياء، وكلهم سواء في هذا، وكلهم ضلوا، وكلهم أشركوا بالله جلَّ وعلا، وظلموا وتنقصوا الله جلَّ وعلا، وجعلوا حقه للمخلوق الذي هو متعبَّد لله جلَّ وعلا، كما أن العابد متعبد الله.
هذا معنى ما ذكره المفسرون في هذه الآية.(50/3)
توبيخ وتعنيف المشركين في عبادتهم مع الله ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون
قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله: {أَيُشْرِكُونَ} أي: في العبادة.
قال المفسرون: في هذه الآية توبيخ وتعنيف للمشركين في عبادتهم مع الله تعالى {مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئَاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الأعراف:191]، والمخلوق لا يكون شريكاً للخالق في العبادة التي خلقهم لها، وبين أنهم لا {يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرَاً وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} [الأعراف:192]، فكيف يشركون به من لا يستطيع نصر عابديه ولا نصر نفسه؟! وهذا برهان ظاهر على بطلان ما كانوا يعبدونه من دون الله، وهذا وصف كل مخلوق، حتى الملائكة والأنبياء والصالحين، وأشرفُ الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، وقد كان يستنصر ربه على المشركين، ويقول: (اللهم أنت عضدي ونصيري، بك أحول، وبك أصول، وبك أقاتل) وهذه الآية كقوله: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئَاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرَّاً وَلا نَفْعَاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتَاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورَاً} [الفرقان:3]]: يحتج الله جلَّ وعلا على المشركين بأن الذين يتعلقون بهم ويعبدونهم كانوا فقراء للرب جلَّ وعلا، وأنهم ليس بأيديهم شيء من ملك الله جلَّ وعلا، وليسوا شركاء له في الملك، ولا يملكون من دونه نفعاً ولا ضراً، حتى قال ذلك لنبيه الذي هو أشرف الخلق، وأمره جلَّ وعلا أن يقول: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعَاً وَلا ضَرَّاً} [الأعراف:188]، أمره أن يقول هذا للناس، وأمره أن يقول لهم أيضاً: {وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [العنكبوت:50]، نذير لكم أنذركم من عند الله جلَّ وعلا، أما ملك الأشياء، وملك النفع والضر والنصر على الأعداء، وإدالة العدو على من يريد، أو نصر من يريد أو ما أشبه ذلك، فهذا كله بيد الله جلَّ وعلا، كما سيأتي في قصة أحد حينما أصابه ما أصابه.
وهذا المعنى كثير في القرآن، يبين الله جلَّ وعلا فيه بطلان عبادة غيره، وفي مقابل ذلك: وجوب العبادة له وحده، وأن تكون خالصة له، وهذا هو الذي ينجي الإنسان، فلا ينجو يوم القيامة إلَّا بالإخلاص، وهو ما أمر به جميع الأمم من أولهم إلى آخرهم من بعثة نوح عليه السلام -أول رسول أرسله الله إلى الأرض- إلى آخر نبي ختم به الأنبياء، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، فكلهم يأمر بإخلاص العبادة لله جلَّ وعلا؛ كما قال الله جلَّ وعلا على لسان نوح لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون:23]، وكذلك غيره من الأنبياء الذين بعثهم الله جلَّ وعلا إلى الأمم.
يقول جلَّ وعلا: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف:45]
و
الجواب
أن هذا لا وجود له، بل هو افتراء من هؤلاء، ويقول جلَّ وعلا: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولَاً أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، والطاغوت: كل ما عُبد من دون الله، وكل ما صد عن شرع الله وعبادته، فهو طاغوت؛ لأن كل ما سوى الرب جلَّ وعلا لا يجوز أن يكون له في الملك والأمر والتشريع والعبادة شيء، فمن تعدى حد العبودية صار طاغوتاً، ينازع الله جلَّ وعلا في حقه أو في ملكه، فإن كان من المعبودات فإنه ينازعه في حقه؛ لأن حق الله جلَّ وعلا على عباده هو إخلاص العبادة له، ولا يكون فيها شيء لغيره، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لـ معاذ رضي الله عنه: (يا معاذ! أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ فقال: الله ورسوله أعلم.
فقال له: حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً)، وهو حق أوجبه على نفسه جلَّ وعلا، وإلَّا فليس هناك أحد يلزمه بشيء ويأمره به، تعالى وتقدس، وإنما هو الذي يحق الحق ويبطل الباطل، وهو الذي يتصرف في الكون.
ليس للعباد عليه حق واجب كلا ولا سعي لديه ضائعُ إن عُذِّبوا فبعدله أو نُعِّموا فبفضله وهو الكريم الواسعُ فله الملك كله، وله الحمد كله، وله الأمر كله، ولا يجوز أن يكون لأحد من الخلق معه شركة، ولهذا قال جلَّ وعلا: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبأ:22].
هذا عام أيضاً في جميع المدعوات، فكل مدعو من دون الله لا يملك مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، استقلالاً أو مشاركة، فإذا كانت هذه المدعوات لا تملك شيئاً استقلالاً أو مشاركة فماذا بيد داعيهم غير الخيبة والخسران فقط.
ثم أخبر سبحانه أنه ليس له منهم لا معاون ولا مظاهر ولا مساعد تعالى الله وتقدس، {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبأ:22] يعني: من يساعده ويؤازره ويعاونه، بل هو وحده القهار الذي يملك كل شيء: {بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك:1] يعز من يشاء ويذل من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء ويؤتيه من يشاء، فالأمر كله له.
وقد يتعلق المشرك بالشفاعة، فأخبر سبحانه أنها لا تنفع، فقال: {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:23].
إذاً: ماذا يبقى في يد من يدعو غيره غير الخسران والضلال والعذاب فقط، والآيات في هذا كثيرة جداً؛ لأن القرآن نزل لإبطال الشرك عموماً في الأرض إلى قيام الساعة، وفيه تبيان لكل شيء، وأعظم ما أوجبه الله جلَّ وعلا على عباده: توحيده وإخلاص الدعوة له، فبين هذا بياناً واضحاً لا عذر لمن أعرض عنه، ولا حجة لمن وقع في خلافه، بعد بيان الله جلَّ وعلا وإيضاحه، وبيان الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه أيضاً بين للناس ما نزل إليهم، كما قال الله جلَّ وعلا: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:67]، ولهذا جعل العلماء هذه الآية حجة قاطعة على إبطال كل بدعة ابتدعت في الدين، وقالوا: لم بلغها الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو كانت ديناً لبلغها؛ لأن الله جل وعلا أمره أن يبلغ ما نزل إليه، فلم يترك شيئاً مما أُمر به إلَّا بلغه ووضحه وأبانه.
ثم كذلك أعظم ما حرمه الله جلَّ وعلا على عباده: الشرك، فلهذا جلاّه تجلية واضحة لمن يعقل، فلا عذر لمن وقع في الشرك بعد الإيضاح التام والبيان الكامل الذي بينه ربنا جلَّ وعلا في كتابه، وكذلك بينه رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذان الأمران من أعظم الأمور التي بينها الله في كتابه، والرسول صلى الله عليه وسلم في سنته.
فكيف يقول قائل: إن من ترك التوحيد ووقع في الشرك، يكون معذوراً بعد هذا الأمر؟! هذا لا يقوله إلَّا جاهل بالشرع، وجاهل فيما أوضحه الله جلَّ وعلا وأوجبه على عباده، فإن هذا أمر ظاهر جداً لا خفاء فيه.(50/4)
شرح قوله تعالى: (قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً)
قال الشارح رحمه الله تعالى: [وقوله: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعَاً وَلا ضَرَّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:188] وقوله: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرَّاً وَلا رَشَدَاً * قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدَاً * إِلَّا بَلاغَاً مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ} [الجن:21 - 23]]: هذا أمر الله لنبيه صلى الله عليه وسلم وهو أشرف الخلق أن يقول هذا القول: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعَاً وَلا ضَرَّاً} [الأعراف:188] {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ} [الجن:21].
(لا أملك لكم): لمن هذا الخطاب؟ للخلق عموماً، ومن هم: ذريته، حتى بناته، حتى عماته وزوجاته لا يملك لهم شيئاً، كما سيأتي أنه قال: (يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئتِ، لا أغني عنك من الله شيئاً) يقول هذا القول لسيدة نساء العالمين فاطمة رضي الله عنها؛ لأنه رسول مبلغ فقط، ليس له مع الله شيء من الملك والتصرف، فالجنة بيد الله، والنار بيد الله، والعبيد كلهم عبيد الله، إذا شاء أن يعذبهم عذبهم، وليس بين العباد وبين الله صلة إلَّا الطاعة، فمن كان مطيعاً لله فهو المقرب لديه، ومن كان عاصياً لله فهو المبعد المعذب، وإن كان ابن نبي، فنوح عليه السلام ما أغنى عن ابنه شيئاً، ولا أغنى عن زوجته شيئاً، ولوط كذلك لم يغن عن زوجته شيئاً، ولهذا ضرب الله جلَّ وعلا بهما المثل للكافرين، فقال: {كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئَاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التحريم:10]، وإن كانتا زوجتي نبيين.
أما قوله: ((فَخَانَتَاهُمَا)) فالخيانة: في الدين، خانتاهما في دعوتهما وفي دينهما، وليس خيانة الفراش، فما خانت زوجة نبي قط؛ لأن الله جلَّ وعلا كرم الأنبياء أن تخونهم أزواجهم في فرشهم، فخيانة زوجة لوط وزوجة نوح في دينهما ودعوتهما، فاتبعتا القوم الكافرين.
وكذلك المؤمن لا يضره قريبه، وإن كان من أفجر الناس، ولهذا ضرب الله جلَّ وعلا مثلاً فقال: {اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتَاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنَ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ} [التحريم:11]، فهي وإن كانت زوجة أخبث الناس وأشر الناس فهي مقربة عند الله ومكرمة؛ لأنها أطاعت ربها وعبدته، وليس بين الخلق وبين ربهم جلَّ وعلا صلة إلَّا الطاعة فقط، واليهود أبناء أنبياء ومع ذلك لعنهم الله، وأقسم أنه سيبعث عليهم من يسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة، بكفرهم وعنادهم، وتعنتهم على أنبيائهم.
إذاً: فالإنسان إذا أطاع واتبع أمر الله كان قريباً إلى الله جلَّ وعلا؛ لأن الأصل أنهم كلهم عباد الله، فمن أبى العبادة استحق العقاب، ومن امتثل أمر ربه جلَّ وعلا وأطاعه استحق الثواب، هذا هو الأصل في الخلق كله، وإلَّا فالرب غني بذاته عن كل ما سواه، غني عن الخلق كلهم، لو كانوا كلهم على أفجر قلب رجل واحد ما ضر الله جلَّ وعلا ذلك شيئاً ولا نقص من ملكه شيء، كما جاء في الحديث القدسي الذي في صحيح مسلم، أن الله جلَّ وعلا يقول: (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني) وهذا خطاب للعباد كلهم من أولهم إلى آخرهم.
ويقول: (لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم، ما نقص ذلك في ملكي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم ورطبكم ويابسكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيت كل واحد ما سأله، ما نقص ذلك مما عندي إلَّا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر ثم رُفع) الإبرة إذا أدخلت البحر ثم رفعت ماذا تنقص البحر؟ لا شيء؛ لأنه إذا أراد الشيء قال له: (كن) فيكون، تعالى وتقدس.
والمقصود: أنه الغني عن الخلق كلهم، إن عبدوه وأطاعوا أمره واتبعوه، واجتنبوا نهيه فلأنفسهم، لا ينفعون الله، بل ينفعون أنفسهم، وإن عصوه وارتكبوا نهيه، وخالفوا أمره، فإنهم يضرون أنفسهم ولا يضرون الله شيئاً.
قال الشارح رحمه الله تعالى: [فكفى بهذه الآيات برهاناً على بطلان دعوة غير الله كائناً من كان، فإن كان نبياً أو صالحاً فقد شرفه الله تعالى بإخلاص العبادة له، والرضى به رباً ومعبوداً، فكيف يجوز أن يُجعل العابد معبوداً، مع توجيه الخطاب إليه في النهي عن هذا الشرك؟ كما قال تعالى: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهَاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88]]: يقول: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88] كل شيء -ما عدا ربنا جلَّ وعلا- داخل في هذا الهلاك حتى جبريل عليه السلام يموت ويهلك؛ لأنه عبد فقير إلى الله جلَّ وعلا، لا يملك شيئاً مع الله، والباقي هو الله جلَّ وعلا.
وقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]، ليس المراد أن الوجه هو المستثنى فقط؛ ولكن من المعلوم في لغة العرب أنه إذا ذكر أشرف الشيء فإن البقية تبع له.
إذاً: المعنى: كل شيء هالك إلَّا الله، وفي هذا إثبات الوجه لله جلَّ وعلا، صفةً حقيقة له على ما أراده الله جلَّ وعلا وبينه، وهذا كثير جداً في القرآن وفي أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن أبلغ ما جاء في هذا: ما جاء في الدعاء: (وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم) فجاء أن أفضل نعيم أهل الجنة: أن ينظروا إلى وجه ربهم جلَّ وعلا، فينسون نعيم الجنة عند ذلك.
وجاء في صحيح مسلم في تفسير (الزيادة) في قوله الله جلَّ وعلا: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] أن الحسنى هي الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله جلَّ وعلا، وأنها أفضل من الجنة.
يعني: هي أعلى نعيم الجنة، ولهذا يقول جلَّ وعلا في وعد المتقين: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23] وضدهم: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} [القيامة:24 - 25].
ويقول في موضع آخر في هؤلاء المجرمين: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15]، فجعل الحجاب عذاباً لهم، فدل على أن رفع الحجاب لرؤية الله جلَّ وعلا من أعلى أنواع النعيم، وهذا في الكتاب والسنة كثير، والذي ينكره يكون ضالاً في هذا الباب، قد ضل وترك النصوص الواضحة الظاهرة التي تدل على إثبات الوجه لله جلَّ وعلا صفةً له.(50/5)
شرح قوله: (إن الحكم إلا لله)
قال الشارح: [وقال: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف:40]، فقد أمر عباده من الأنبياء والصالحين وغيرهم بإخلاص العبادة له وحده ونهى أن يعبدوا معه غيره]: قوله: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [يوسف:40] يعني: الأمر والنهي.
وهذا هو الذي يكون به الحكم، الأمر والنهي الذي فيه يتصرف العباد، وكذلك الحكم القدري الذي لا يخرج الناس عنه، وهذا لا ينازع فيه أحد، وإنما نازعوا في الأول، وهو الذي نُص عليه في هذا.
وقوله: ((أَمَرَ)).
يعني: من الحكم الذي حكمه: (أمر ألَّا يُعبد إلَّا إياه)، وهذا عام شامل فكل عبادة يجب أن تكون له، ولا يجوز أن تكون لولي ولا لنبي ولا لملَك ولا لغير ذلك، فإن فعل الإنسان ذلك فقد خالف أمر الله جلَّ وعلا، وارتكب نهيه، واستحق عذابه.(50/6)
شرح حديث: (الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به)
قال الشارح: [وهذا هو دينه الذي بعث به رسله، وأنزل به كتبه، ورضيه لعباده، وهو الإسلام، كما روى البخاري عن أبي هريرة في سؤال جبريل عليه السلام، قال: (يا رسول الله! ما الإسلام؟ قال: الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان) الحديث]: الإسلام هو: الاستسلام لله بالطاعة، وعدم المنازعة والمخالفة، فيكون متبعاً أمر الله، منقاداً له مذعناً، وكذلك يبرأ من الشرك، وإلَّا لا يكون مسلماً على الوجه الصحيح حتى يتبرأ من الشرك وأهل الشرك.
إذاً: هذا هو الإسلام الحقيقي: الاستسلام لله بالطاعة، والانقياد له، وإخلاص العبادة له، وأن يتبرأ من الشرك وأهله، وهذا ما فرضه الله جلَّ وعلا على عباده عموماً، من أولهم إلى آخرهم، كما قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، الدين كله، من أول رسول أرسله الله إلى آخر رسول، إلى أن يرث الله جلَّ وعلا الأرض ومن عليها، لا يقبل الله جلَّ وعلا من العباد إلَّا الإسلام، وهو الاستسلام له بالطاعة وعدم المنازعة، والإذعان والانقياد لأمره، والخضوع له، والبراءة من أعدائه، فإذا أخل الإنسان بشيء من ذلك فقد أخل بإسلامه.(50/7)
شرح قوله: (والذين يدعون من دونه لا يملكون من قطمير)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:13 - 14]]: هذه الآية أيضاً مما يبطل الشرك عموماً، ويبين أن المدعو لا يملك لداعيه شيئاً: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [فاطر:13] القطمير: هو اللفافة التي تكون على نواة التمرة، إذا يبست ظهرت رقيقة، ولا نفع ولا قيمة لها، وإذا كانوا لا يملكون هذا الشيء فكيف يُدعَون؟! وهذا عام لكل مدعو: {مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [فاطر:13].
كل مدعو من دون الله لا يملك هذا المقدار، وهذا في كل مدعو سواء كان جماداً أو كان عاقلاً؛ لأنه إذا كان عاقلاً: فهو إما شقي كافر شيطان، وإما تقي يعبد الله، ويتبرأ من أن يكون له شيء من حق الله، فيصبح معادياً لهذا الذي يدعوه؛ لأنه خالف ربه ودينه، فهو يكتسب العداوة وإن زعم أنه يحبه، وإما جماداً لا حول له ولا قوة، وقد جاء الشيطان لكثير من الناس بالباطل في قالب الحق، فجعل دعوة غير الله جلَّ وعلا من الأولياء والأنبياء في قالب المحبة، وقال: هذا دليل حبهم وموالاتهم! فجعل دعوتهم والتضرع إليهم وإنزال الفقر بهم، وطلب الحاجات منهم محبةً لهم وتعظيماً.
ومن تلبيس الشيطان أيضاً أن جعل الذي ينهى عن هذا الشرك، ويأمر بأن تكون العبادة كلها لله، مبغضاً للرسول ومبغضاً للأولياء، فحمل أتباعه على أن يشنعوا على من أنكر عليهم، وهذا من تزيين الشيطان وقلبه للحقائق، فاتبعوا الشيطان على ذلك، وليس لهم على هذا من دليل، مع أن هؤلاء الذين يتجهون إليهم -إن كانوا أولياء- لو خرجوا عليهم لقاتلوهم؛ لأنهم خالفوا دينهم وخالفوا أمر ربهم، فلا يمكن أن يقرونهم عليه، ولهذا أخبر الله جلَّ وعلا يوم القيامة أنهم يتبرءون منهم، وفي هذه الآية يخبر الله أن المدعو -كل مدعو من دون الله- لا يملك لداعيه قطميراً، ومعنى هذا أنه لا يملك شيئاً، كما سبق في الآية الأولى: (لا يملك شيئاً)، ثم بين تعالى وتقدس أن المدعو يجب أن تتوافر فيه أمور: أولاً: الملك.
والثاني: السماع.
والثالث: استطاعة الإيجاد.
وهؤلاء المدعوون من دون الله ليس معهم من الأمور الثلاثة شيئاً حتى السماع لا يسمعون، والمراد بالسماع هنا: ليس مطلق السماع -سماع الصوت- إنما المراد به السماع الذي يكون به النفع، أما مجرد السماع فإنه قد يكون لا نفع فيه، وقد استدل بهذه الآية وبغيرها من الآيات بعض الناس على أن الموتى لا يسمعون شيئاً، والواقع أن الآية لا تدل على هذا، وإنما تدل على ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وللعلماء في تفسير قوله: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل:80] قولان، ولا يعرف في تفسيرها إلَّا هذان القولان: أحدهما: أنه على ظاهره، {لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل:80] سماع امتثال، أي: لا يستطيعون أن يستجيبوا لك.
والثاني: أن المقصود بالسماع هنا: السماع الذي ينتفعون به.
إذاً: الأول: أنك لا تُسمعهم مطلقاً؛ لأنهم مرتهنون وميتون ولا يسمعون.
الثاني: أنك لا تُسمعهم السماع الذي يكون فيه الامتثال والانتفاع، ولهذا قال: {وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [النمل:80] والأصم إذا كان مقبلاً لا تستطيع أن تسمعه الدعاء، تدعوه فلا يسمع منك فكيف إذا أدبر؟! وهذا مثل ضربه الله جلَّ وعلا للكفار، فإنهم لا يستطيعون أن يسمعوا السماع الذي ينتفعون به، وإلَّا فهم يسمعون قول الرسول صلى الله عليه وسلم ويرونه؛ ولكنهم لا يسمعونه السماع الذي ينتفعون به، ولهذا أخبر عنهم أنهم صم عمي بكم، مع أنهم يسمعون قوله ويردون عليه، ويقولون: هذه أساطير الأولين هذا سحر وكهانة وتَقَوَّله.
يعني: كذب أتى به، والمقصود أن السماع المنفي هو سماع الانتفاع.
أما الأحاديث الصحيحة الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فمنها: حديث أنس الذي في الصحيحين عن أبي طلحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان يوم بدر أمر بأربعة وعشرين من صناديد قريش، فسُحبوا وألقوا في بئر من آبار بدر، ثم أمر براحلته فركبها، فاتبعه أصحابه، وقالوا: يذهب لحاجة، فوقف عليهم وقام يناديهم: (يا فلان بن فلان! يا فلان بن فلان! يا فلان بن فلان! هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً، فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما تنادي من قوم قد جيَّفوا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، غير أنهم لا يستطيعون الإجابة)، وكذلك في الصحيح عن عبد الله بن عمر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أنه ذكر مثل هذا.
وفي الصحيحين عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دفن العبد في قبره، وولى عنه أصحابه، وهو يسمع قرع نعالهم، أتاه ملكان فيجلسانه فيسألانه: من ربك؟ وما دينك؟ وما هذا الرسول الذي بعث فيكم؟) فأخبر أنه يسمع قرع نعالهم.
أما ما جاء أن عائشة رضي الله عنها لما سمعت حديث ابن عمر قالت: إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنهم يعلمون ما أقول) هكذا قالت، فهذا رأي قالته، ولا يجوز أن يُترك نص الرسول صلى الله عليه وسلم لرأيها وقولها؛ لأنه واضح وجلي، وقد روي أنها رجعت عن ذلك لما ثبت عندها، كما رواه الإمام أحمد رحمة الله عليه.
والذي يدعي الخصوصية ليس عنده دليل على ذلك؛ لأن هذا شيء قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يقل بعده: إن هذا خاص بهؤلاء القوم، أو إنه في تلك الساعة فقط، بل جاءت أحاديث مطلقة في أن الميت يسمع قول من يزوره ومن يتكلم عنده؛ لكنه لا يستطيع رد الجواب، وقد يكون في سماعه ما يحزنه، ولا يستطيع أن يملك شيئاً لمن يدعوه؛ لأنه مرتهن بعمله، وإنما يسمع؛ لأنه حي، ولكن حياة غير الحياة المعهودة لنا حياة برزخية؛ لأن روح الميت لا تموت ولها اتصال ببدنه، ولا تفارق البدن مفارقةً كاملة، ولهذا جاءت النصوص الكثيرة في أن القبر فيه نعيم وفيه عذاب، وليس النعيم والعذاب على البدن فقط، ولا على الروح فقط، بل عليهما جميعاً، والأحاديث في هذا كثيرة جداً، ولا يجوز أن ترد النصوص بحجة أن فيها متعلق للمخرفين الذين يتجهون إلى عبادة القبور.
فمثل هؤلاء يُبيَّن لهم الحق ويوضَّح، ويقال لهم: إن هؤلاء لو كانوا أحياءً -وهم في حال الحياة أكمل من حال موتهم- ما أغنوا عنكم شيئاً، فكيف بعد موتهم؟! بل لا يستطيعون ان يقدموا لأنفسهم حسنة واحدة أو يحطوا عن سيئاتهم، فكيف بغيرهم؟! والمقصود: أنه لو تعلق أهل الباطل بشيء مما هو حق، فليبين لهم الفهم الصحيح والحق، وأنه لا تعلق لهم بما استدلوا به.
ومثال ذلك ما يقول النصارى: من أن القرآن فيه ما يدل على التثليث في نحو: (نحن)، و (أنا) مما بدل على خطاب الجماعة، فهل نقول: علينا أن نترك هذه النصوص؛ لأن فيها متعلق للنصارى!! وكذلك غيرهم من أهل الباطل، يتعلقون بشبهات قد تنطلي على بعض الجهلة؛ ولكنها -في الحق- إذا أُرجعت إلى المحكم زال الاشتباه نهائياً، والاشتباه الواقع لهم ليس عند أهل الحق.
وقوله: {وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} [فاطر:14] يعني: لو قدر -وهذا على سبيل التقدير- أنهم يسمعون قولكم سماع قبول فلا يستطيعون الاستجابة، يعني: لا يستطيعون أن يجيبوكم إلى ما تطلبونه منهم، ولو سمعوا سماع الاستجابة لكم، ما استطاعوا أن يملكوا لكم نصراً ولا نفعاً، ومثله ما سبق من أنهم لا يملكون شيئاً لعابديهم.
والآيات كلها يبين بعضها بعضاً، وكلها تدل على معنى واحد.
وقوله: {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:14]، يقول قتادة: يعني نفسه جلَّ وعلا، وأنه خبير بالأمور كلها، ولا ينبئك منبئ مثل تنبيء الله جلَّ وعلا وإخباره، فهو الحق الذي لا يأتيه الباطل، فيجب أن يُقطَع ويؤمَن به.(50/8)
عجز وضعف المدعوين من دون الله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [يخبر تعالى عن حال المدعوين من دونه -من الملائكة والأنبياء والأصنام وغيرها- بما يدل على عجزهم وضعفهم، وأنهم قد انتفت عنهم الأسباب التي تكون في المدعو، وهي: المُلك.
وسماع الدعاء.
والقدرة على استجابته.
فمتى لم توجد هذه الشروط تامة بطلت دعوته، فكيف إذا عُدمت بالكلية؟! فنفى عنهم الملك بقوله: {مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [فاطر:13] قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وعطاء والحسن وقتادة: القطمير: اللفافة التي تكون على نواة التمر.
كما قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقَاً مِنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئَاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ} [النحل:73]، وقال: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:22 - 23]، ونفى عنهم سماع الدعاء بقوله: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ} [فاطر:14]؛ لأنهم ما بين ميت وغائب عنهم مشتغل بما خلق له، مسخَّر بما أُمر به كالملائكة، ثم قال: {وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} [فاطر:14]؛ لأن ذلك ليس لهم، فإن الله تعالى لم يأذن لأحد من عباده في دعاء أحد منهم لا استقلالاً ولا واسطة، كما تقدم بعض أدلة ذلك.
وقوله: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} [فاطر:14]، فتبين بهذا: أن دعوة غير الله شرك، وقال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزَّاً * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدَّاً} [مريم:81 - 82].
وقال تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} [فاطر:14].
قال ابن كثير: يتبرءون منكم، كما قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:5 - 6].
قال: وقوله: {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:14] أي: ولا يخبرك بعواقب الأمور ومآلها، وما تصير إليه مثل خبير بها.
قال قتادة: يعني نفسه تبارك وتعالى، فإنه أخبر بالواقع لا محالة.
قلت: والمشركون لم يسلِّموا للعليم الخبير ما أخبر به عن معبوداتهم؛ فقالوا: تملك وتسمع وتستجيب وتشفع لمن دعاها، ولم يلتفتوا إلى ما أخبر به الخبير من أن كل معبود يعادي عابده يوم القيامة، ويتبرأ منه، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعَاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ * فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدَاً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ * هُنَالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [يونس:28 - 30]].
معنى قوله: ((فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ)) يعني: فرقنا بينهم في المحبة؛ فأصبح كل واحد عدواً للآخر، كل واحد يلعن الآخر ويعاديه، وإن كانوا في الدنيا يزعمون أنهم أولياؤهم وأنهم يحبونهم، فيتبين لهم يوم القيامة عكس ما كانوا يعتقدونه في الدنيا، وهذا معنى التزييل: (زيلنا بينهم)، وهو مثل الآية التي في سورة البقرة: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ} [البقرة:166]، والآية التي في قصة إبراهيم: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضَاً} [العنكبوت:25] فالله جلَّ وعلا يذكر هذه المعاني في ألفاظ مختلفة ومتنوعة؛ حتى يفقه الناس ويعلموا ويبتعدوا عن هذه الأمور؛ لأن القرآن هو التبيان لكل شيء، وهو الموضح إيضاحاً جلياً لا إشكال فيه.(50/9)
حكم لعن المعين
قال الشارح: [أخرج ابن جرير عن ابن جريج قال: قال مجاهد: {إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} [يونس:29] قال: يقول ذلك كل شيء كان يعبد من دون الله.
فالكيِّس يستقبل هذه الآيات -التي هي الحجة والنور والبرهان- بالإيمان والقبول والعمل، فيجرد أعماله لله وحده دون كل ما سواه ممن لا يملك لنفسه نفعاً ولا دفعاً، فضلاً عن غيره].
قال المصنف رحمه الله: [وفي الصحيح: عن أنس قال: شُج النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد وكُسرت رباعيته، فقال: (كيف يفلح قوم شجوا نبيهم، فنزلت: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:128])]: قوله: في الصحيح، يعني: في صحيح البخاري، وقد ذكره البخاري في ثلاثة مواضع من صحيحه، والحديث عن أنس -وقد رواه الإمام مسلم وغيره من أئمة الحديث- فهو حديث ثابت: يقول: (شُج النبي صلى الله عليه وسلم) والشج في الأصل هو: الجرح في الرأس، فيخرج الدم ويسيل، ثم صار يطلق على سائر ما يقع في البدن؛ ولكن الذي جاءت به اللغة: أن الشج يطلق على ما يقع في الرأس من جرح نازف.
شُج صلوات الله وسلامه عليه في وجهه، وكسرت رباعيته، كسر منها جزء وبقي أصلها، وكذلك شفته العليا -صلوات الله وسلامه عليه- شُجت فصار الدم يسيل، وكذلك أصيب في وجنته -في خده- ضربه عبد الله بن قمئة حتى دخلت حلقات المغفر في وجنته صلوات الله وسلامه عليه، فصار يسيل الدم على وجهه ويقول: (كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم) فجاء مالك بن سنان فأمسك حلقات المغفر بأسنانه واجتذبها، ثم ابتلع الدم الذي دخل في فمه، فقال له صلى الله عليه وسلم: (ابتلعت؟ قال: نعم.
قال: لا تمسك النار) وهذا من رفقه برسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صار يقول عليه الصلاة والسلام: كيف يفلح القوم الذين يدعوهم نبيهم إلى الله جلَّ وعلا وهم يفعلون به هذه الأفعال؟! حاولوا أن يقتلوه، واجتهدوا قدر استطاعتهم على فعل ذلك، فهذا تجرأ وكسر ثنيته، والآخر ضربه على وجهه حتى دخلت حلقات المغفر في وجنته، فصار يسيل منها الدم، وقال له ابن قمئة: (خذها وأنا ابن قمئة، فقال صلى الله عليه وسلم: ما لك أقمأك الله؟) فسلط الله جلَّ وعلا عليه تيس الجبل، فصار ينطحه حتى قطعه إرباً إرباً، وهذا هو الوحيد الذي دعا عليه النبي مباشرة في هذه الغزوة، أما البقية فإنه كان يدعو عليهم في الصلاة.
وكان يقول: (اللهم العن فلاناً وفلاناً وفلاناً)، وجاء في الصحيح أنه كان يسميهم بأسمائهم، ويقول: (اللهم العن صفوان بن أمية، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، والصحابة خلفه يقولون: آمين) يقولون ذلك في الصلاة، وبقي وقتاً وهو يقنت يدعو عليهم، فأنزل الله جلَّ وعلا عليه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128] والمعنى: أنك عبد من عباد الله، أمرك بإبلاغ الرسالة فامضِ في دعوتك، أما هؤلاء فهم عبادي إن شئتُ عذبتهم وإن شئتُ عفوت عنهم، فعفا الله جلَّ وعلا عنهم وأسلموا، أسلم الحارث بن هشام وصفوان بن أمية وسهيل بن عمرو وأبو سفيان، وهؤلاء هم قادة الكفار في تلك الغزوة، وغزوا نبيهم في بلده، وجاءوا بجيشهم ليقاتلوه في بلده، واجتهدوا في أن يقتلوه، وقتلوا المسلمين كعم رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره.(50/10)
مسائل باب قول الله تعالى: (أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون)
قال المصنف رحمه الله تعالى في مسائل باب: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئَاً} [الأعراف:191]:(50/11)
حكم تسمية المدعو عليهم في الصلاة بأسمائهم وأسماء آبائهم
[التاسعة: تسمية المدعو عليهم في الصلاة بأسمائهم وأسماء آبائهم.
العاشرة: لعن المعين في القنوت.
الحادية عشرة: قصته صلى الله عليه وسلم لما أنزل عليه: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214]]: يقول: من المسائل التي تؤخذ من الباب: أن تسمية الإنسان باسمه واسم أبيه في الصلاة للدعاء له أو عليه جائز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (اللهم العن فلاناً وفلاناً وفلاناً) وكذلك جاء في قنوته -في غير هذه القصة- أنه دعاء للمستضعفين الذين أُمسكوا بمكة، في الصلاة وكان يسميهم يقول: (اللهم انجِ فلاناً بن فلان، اللهم انجِ فلاناً بن فلان)، وفيه أيضاً جواز لعن المعين، أي: شخصاً بعينه، ومثل اللعن: التكفير، فمن ارتكب مكفراً، وارتد عن دينه فيصح أن يقال: إن فلاناً كفر، أما التكفير العمومي فهذا يجوز حتى على أصحاب المعاصي، الذين يفعلون أفعالاً ليست كفراً، كما جاء في الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاث في أمتي من أمر الجاهلية: الطعن في الأنساب، والنياحة على الميت، والاستسقاء بالأنواء) وإذا جاءت مثل هذه الأحاديث فإن لفظة الكفر تكون منكرة، ويكون المقصود به: كفراً دون كفر.
بخلاف ما إذا جاءت محالاة بـ (ال) فإنه يكون حينئذ المقصود: كفراً مخرجاً من الملة، ومثله قول الله جلَّ وعلا: {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18]، أي: عموم الظالمين، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله السارق يسرق البيضة فتُقطع يده، ويسرق عود الحبل فتُقطع يده)، والسارق هنا مطلق، وليس إنساناً معيناً، أما إذا جاء إنسان معين ووقع في السرقة فلا يجوز أن يُلعن؛ لأنه وقع في السرقة، وإنما يُلعن عموم أهل السرقة، وفرق بين العموم والخصوص، وهذا الحديث دليل على جواز لعن من استحق اللعنة بعينه؛ لأنه لعن أشخاصاً معينين.(50/12)
قصته عليه الصلاة والسلام لما نزلت عليه قوله تعالى: (وأنذر عشيرتك)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [الحادية عشرة: قصة صلى الله عليه وسلم لما أنزل عليه: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214].
أما قصته صلى الله عليه وسلم لما نزلت عليه الآية: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] فقد مضى شرحها، وهي: أنه صلوات الله وسلامه عليه خاف أن يكون قصر في أمر ربه؛ لأنه أمره أن ينذر، فقام يصيح في الناس: واصباحاه! حتى اجتمعوا عنده، فسألهم وقال: (أرأيتم لو أخبرتكم بخبر هل كنتم مصدقي؟ قالوا: نعم.
لم نجرب عليك كذبة واحدة، فقال: إني لكم نذير بين يدي عذاب شديد، أنقذوا أنفسكم من النار وصار يخصهم بعد التعميم، يعني: يعم قريشاً كلها ثم يخصص: يا بني فلان! يا بني فلان! إلى أن وصل إلى قوله: يا فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم أنفذي نفسك من النار، لا أغني عنك من الله شيئاً)، وسبق أن هذا دليل واضح على أن العبادة والملك كله بيد الله، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس له مع الله شيء من الإلهية أو الربوبية، بل الربوبية والإلهية كلها بيد الله جلَّ وعلا وهو من يستحقها، وتعبَّد عباده بها، فمن جعل منها شيئاً للرسول صلى الله عليه وسلم فقد ضل ووقع في الشرك.
[الثانية عشرة: جِده صلى الله عليه وسلم بحيث فعل ما نُسب بسببه إلى الجنون وكذلك لو يفعله مسلم الآن]: أراد أن يقول: إن فِعْله هذا الذي فعله: (من صعوده على الصفا، وصار يهتف: واصباحاه) -لأن هذه كانت عادة عند العرب، يفعلها مَن عاين الجيش أو العدو، وأراد أن يخبر قومه بذلك، قام وفعل مثل هذا الفعل- ولما سألوه: ما عندك؟ أخبرهم أنه ينذرهم عذاب الله الذي يستقبلهم، فنسبوه إلى الجنون، كما قال عمه أبو لهب: (ألهذا جمعتنا؟! تباً لك سائر هذا اليوم) وأكثرهم قالوا: هذا مجنون؛ لأن العذاب الذي وعدهم به من قبل الله -سواءً عاجلاً أو آجلاً- استبعدوه، وصاروا يقولون: ما نرى العذاب، وعذاب الله يأتي في لحظة؛ لأنه يقول للشيء: كن فيكون؛ ولكن الإنسان ظلوم جهول، فلهذا نسبوه إلى الجنون، وقول المصنف: لو أن أحداً قاله اليوم لنُسب كذلك إلى الجنون، يعني: لو أن إنساناً قام في الناس، وقال: يا أيها الناس! إنكم وقعتم في المعاصي فاتقوا الله، وإن العذاب يكاد أن يصل إليكم، وصار ينذرهم بهذا الشيء، لقالوا: هذا مجنون! مثلما هو واقع للرسل، والرسل كلهم يقال لهم ذلك، كما قال الله جلَّ وعلا: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} [فصلت:43]، وكل أمة قد قالت لرسولها: إنك مجنون، والمجنون معناه: الذي لابسه الجن، وأصبح يهذي بما لا يدري، لكونه قد غُلب على عقله؛ لأن الجن يسيطرون على عقله، وقد يتكلم الجني على لسانه، فيهذي بكلام لا يُعقل ولا يُعرف، وهذا شيء لا ينكره إلا الجهلة.
[الثالثة عشرة: قوله للأبعد والأقرب: (لا أغني عنك من الله شيئاً) حتى قال: (يا فاطمة بنت محمد! لا أغني عنك من الله شيئاً) فإذا صرح -وهو سيد المرسلين- بأنه لا يغني شيئاً عن سيدة نساء العالمين، وآمن الإنسان أنه صلى الله عليه وسلم لا يقول إلَّا الحق، ثم نظر فيما وقع في قلوب خواص الناس اليوم تبين له التوحيد وغربة الدين].
قصد بقوله: (خواص الناس) أن هناك علماء -ويقال لهم: علماء؛ لأنهم يكتبون ويؤلفون ويشرحون: في التفسير والحديث وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم كتباً تُنشر للناس ويقرءونها- دعاة إلى الشرك، يقولون: إنه لا فرق بين كونك تستغيث بالله أو تستغيث بالنبي صلى الله عليه وسلم، وكلاهما سواء، فيجوز لك أن تستغيث بالرسول، كما يجوز لك أن تستشفع به وتتوجه إليه، أو تتوجه به إلى الله وتدعو الله به، أو تدعوه وتطلب منه الشفاعة؛ لأن الله أعطاه الشفاعة، وهذا كله شرك؛ لأنه ليس هناك فرق بين من يفعل هذا ويقوله وبين المشركين القدامى؛ وقد سبق لنا أن عرفنا أن شرك المشركين القدامى كان بطلبهم من أصنامهم ومن معبوداتهم -سواءً كانت من الملائكة كما سيأتي أو من الأموات أو من الأنبياء أو من الصالحين- أن يتوسطوا لهم ويشفعوا لهم عند الله فقط، هذا هو شركهم، ولا يوجد إنسان عاقل زعم أن مخلوقاً من المخلوقات شارك الله جلَّ وعلا في الخلق والإيجاد والتدبير، كخلق الجنة أو النار، أو خلق الناس أو الملائكة أو السحاب، أو إنزال المطر وإنبات النبات، ليس هناك أحد اعتقد هذا أبداً، وإنما شركهم الذي وقعوا فيه هو أنهم جعلوا بينهم وبين الله وسائط يدعونها، وكانوا يقولون: إنها تقربنا إلى الله، وتدنينا إلى الله، وتشفع لنا إذا سألناها، وإذا دعوناها وطلبنا منها فهي بدورها تدعو الله؛ لأنها مقربة عند الله، هذا هو شركهم.
فهؤلاء الذين يقولون هذا القول -في الواقع- ليس هناك فرق بين قولهم وبين قول المشركين القدامى، وهذا مقصوده بـ (خواص الناس) يقول: إذا نظر الإنسان إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم لبنته فاطمة رضوان الله عليها التي هي سيدة نساء أهل الجنة، وآمن بأنه لا يقول إلَّا الحق صلوات الله وسلامه عليه، ثم نظر إلى ما يقوله هؤلاء ستتبين له غربة الدين، ويتبين له التوحيد، وهذا هو المطلوب في هذا الباب، وسيأتي في الباب الذي بعده زيادة بيان لذلك.(50/13)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [51]
من عقيدة أهل السنة والجماعة أنهم يثبتون لله سبحانه ما أثبته لنفسه في كتابه، وما أثبته له نبيه صلى الله عليه وسلم في سنته؛ ومن ذلك أن الله سبحانه وتعالى مستوٍ على عرشه، بائن من خلقه، وعلمه لا يخلو منه مكان، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.(51/1)
بيان شروط الشفاعة وبطلان شفاعة آلهة المشركين
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب قول الله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:23]].
هذه الآية متعلقة بالآية التي قبلها، وهي قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:22 - 23](51/2)
الشفاعة ملك لله
في الآية الأولى ذكر الله أربعة شروط، يقول العلماء: كلها تبطل الشرك، أو كل واحد منها يبطل الشرك، فإذا اجتمعت هذه الشروط أزالت الشرك من أصله من قلب العبد ومعنى ذلك أنه لا يبقى في قلب الذي يؤمن بها مثقال ذرة من شرك لأنها تزيله نهائياً، ولهذا قال بعض العلماء: هذه الآية تقلع شجرة الشرك من عروقها، ولا تبقي منها شيئاً، وما أكثر الآيات التي تشبه هذه الآية في القرآن! والشروط الأربعة واضحة من الآية، وهي قوله جلَّ وعلا: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سبأ:22] و (زعم) في لغة العرب تطلق على الاعتقاد الكاذب، والقول الكاذب، كما قال الله جلَّ وعلا: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} [التغابن:7] (زعم) أي: المشركون فقالوا: لن نبعث، وهذا القول كذب، ولهذا أطلق عليهم لفظ (زَعَمَ) {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي} [التغابن:7]، فهنا يقول جلَّ وعلا: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} [سبأ:22] وزعمهم في المدعوين أنهم شفعاء لهم، هذه هي دعواهم، وهذا كذب، فهم ليسوا شفعاء؛ لأن الشفاعة ملك لله، ولا تقع إلَّا بإذنه كما قال جلَّ وعلا: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، ثم تحداهم بقوله: {فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الأعراف:194]، وقال: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} [سبأ:22] إذا كانوا لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض فكيف يُدعَون؟! لأن المدعو يجب أن يكون مالكاً لما يُدعى من أجله وإلَّا صارت دعوته ضلالاً لا فائدة فيها، هذا الأول.(51/3)
لا يشارك الله في الشفاعة أحد
الأمر الثاني: قوله جلَّ وعلا: {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ} [سبأ:22] يعني: ما لهم في السماوات والأرض اشتراك في مثقال ذرة، أي: أنهم لا يملكون مثقال ذرة استقلالاً، ولا يشاركون المالك في مثقال ذرة.(51/4)
لا يملك الشفعاء المدعوون المساعدة والمظاهرة من دون الله
الأمر الثالث: وهو المساعدة والمظاهرة والمعاونة: وهو أن يكون أحد مساعداً له سبحانه، أو معاوناً له أو يكون وزيراً له تعالى الله وتقدس، فقال سبحانه وتعالى: {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبأ:22] يعني: ليس له معاون حتى يمكن له أن يدعي أن له شيئاً من الحق، هذا الأمر الثالث.(51/5)
لا تقع الشفاعة للمشفوع له إلا بإذن الله
الرابع: الشفاعة، قال سبحانه: {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:23] فأخبر الله جل وعلا أنه لا يأذن إلَّا لأهل التوحيد، فلا يأذن في الشفاعة إلَّا لمن عبده وحده.
والخلاصة: أن الأمر كله لله، والخير كله بيد الله، والشر لا يدفعه إلَّا الله، فالعبد هو عبد لله مهما كان، سواءً كان نبياً أو كان ملكاً من الملائكة، أو كان ولياً حياً أو ميتاً, فدعوته بهذه المثابة.
ومراد المؤلف بهذه الترجمة أن يبين أن أعظم المعبودات التي عُبدت من دون الله هي الملائكة، ومعلوم أن العبادة التي وقعت لغير الله وقعت للأصنام، ووقعت للجن، ووقعت للأنبياء والصالحين كعيسى وعزير وغيرهم، ووقعت للملائكة ووقعت لأصنام من جمادات ما بين شجر وحجر وشمس وقمر ونجوم وغير ذلك، فكل عبادات المشركين لا تخرج عن هذا، وأعظمها الملائكة، فإذا كان الملائكة أعظم المعبودات فلنستمع إلى صفاتهم التي وصفهم الله جلَّ وعلا بها فقال في هذه الآية: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:23] و (فُزِّع) يعني: أصابه الفزع، وشرح ذلك وبيانه سيأتي إن شاء الله في الحديث وفيه: إن الله جلَّ وعلا إذا تكلم بالوحي الذي يريد أن يوحيه -بأمره ونهيه وتدبيره في ملكه- إلى جبريل عليه السلام، فتشعر الملائكة كلها التي في السماء بصوت الوحي من الله، فتصيبهم رعده عظيمة، ثم يُصعقون خوفاً من الله، فتُصعق الملائكة -يُغشى عليهم- خوفاً من الله جلَّ وعلا، فإذا ذهب الصعق وفُزِّع عن قلوبهم -يعني: زال الفزع عن قلوبهم الذي هو الخوف من الله- صار يسأل بعضهم بعضاً: ماذا قال الله؟ - {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} [سبأ:23]؟ فينتهي السؤال إلى جبريل؛ لأنه هو أمين الله على وحيه، وهو أقرب الملائكة إلى الله، وهو الذي يوحي الله جلَّ وعلا بالأمر إليه سواءً كان الأمر في السماء أو في الأرض، فيقولون له: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول: قال {الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:23] وكلهم يقولون هذا، قال: {الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:23]، وفي رواية أخرى: (أن السماوات تأخذها رِعدة أو رَعدة أو رجفة شديدة خوفاً من الله جلَّ وعلا) وهذا يعني: أن السماء يصيبها هذا الشيء، ترتعد وترتجف خوفاً من الله، والسماوات التي هي جماد يجعل الله جلَّ وعلا فيها الإحساس والخوف منه وقد أخبر جلَّ وعلا أنها تسبح بحمده، فقال سبحانه: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء:44] فعند ذلك تتبين عظمة الله، وأن الذين يدعون أحداً غير الله ظالمون وهالكون، وأن الدعوة يجب أن تكون لله جلَّ وعلا، فإذا كان هذا بالنسبة للملائكة فكيف بالنسبة للبشر الضعفاء؟! كيف بالنسبة للجمادات وغيرها؟! فهذا دليل واضح على أن كل دعوة لغير الله باطلة.(51/6)
إثبات صفة الكلام لله جل وعلا
قال الشارح: [قوله: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} [سبأ:23] أي: زال الفزع عنها، قاله ابن عباس وابن عمر وأبو عبد الرحمن السلمي والشعبي والحاكم وغيرهم.
وقال ابن جرير: قال بعضهم: الذي فُزِّع عن قلوبهم: الملائكة، قالوا: وإنما فُزِّع عن قلوبهم من غشية تصيبهم عند سماعهم كلام الله بالوحي.
وقال ابن عطية: في الكلام حذف يدل على الظاهر، كأنه قال: ولا هم شفعاء كما تزعمون أنتم بل هم عبدة مسلمون لله أبداً يعني: منقادون، {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} [سبأ:23] والمراد: الملائكة، على ما اختاره ابن جرير وغيره.
قال ابن كثير: وهو الحق الذي لا مرية فيه، لصحة الأحاديث فيه والآثار.
وقال أبو حيان: تظاهرت الأحايث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} [سبأ:23] إنما هي في الملائكة، إذا سمعت الوحي إلى جبريل يأمره الله به سمعت كجر سلسلة الحديد على الصفوان، فتفزع عند ذلك تعظيماً وهيبة، قال: وبهذا المعنى من ذكر الملائكة في صدر الآية تتسق هذه الآية على الأولى، ومن لم يشعر أن الملائكة مشار إليهم من أول قوله: {الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} [سبأ:22] لم تتصل له هذه الآية بما قبلها.
وقوله: {قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} [سبأ:23] ولم يقولوا: ماذا خلق ربنا؟ ولو كان كلام الله مخلوقاً لقالوا: ماذا خلق؟ انتهى من شرح سنن ابن ماجة].
وهذا من الأمور التي انطلت على من تغيرت فطرته، وهذه من الفتن التي وقع فيها بعض المسلمين قديماً، حيث أنكروا أن يكون الرب جلَّ وعلا متكلماً، كما أنكروا أن يكون متصفاً بالصفات، ومعلوم أن هذا نقص في حق الله، وإنما أتوا من ناحية الشبهات التي تعلقوا بها فقالوا: إن الله لا يتكلم، وهذا نص صريح بأن الله يقول: {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} [سبأ:23]، فهو يقول ويكلم عباده ويخاطب ملائكته، ويأمر وينهى، ومعلوم أن الذي يتكلم أكمل ممن لا يتكلم؛ ولهذا عاب الله جلَّ وعلا على المشركين كونهم يدعون ومن لا يرد عليهم جواباً، من لا يسمع ولا يبصر؛ لأن هذا نقص، والمدعو يجب أن يكون سامعاً لدعوة داعيه، ويجب أن يكون قادراً على حمايته، وعلى إنزال الخير له، وإزالة ما نزل به من الشر، وإلَّا كانت دعوته غير صالحة وغير صحيحة، والأدلة على هذا كثيرة جداً، والحمد لله فإن هذه الفتنة قد زالت وانتهت، ولا يقول بها إلَّا أهل البدع الذين بقيت عندهم البقايا من مذهب الجهمية، والمعتزلة الذين ألحقوا الله جلَّ وعلا بالجمادات، وعطلوه عن صفاته، وجعلوه ناقصاً تعالى الله وتقدس، فمعلوم أن الله جلَّ وعلا هو القادر على كل شيء، وأن الرسالة بأمره ونهيه، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم لما كان الصحابة يرفعون أصواتهم بدعاء ربهم: (أربعوا على أنفسكم! فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إن الذي تدعونه سميع قريب، أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته) وهذه عقيدة المسلمين التي يعتقدونها، وكل مسلم يدعو ربه سراً ويعلم علماً يقينياً أن ربه يسمعه، وكل مسلم يعلم أن الله يكلم عباده يوم القيامة فيخاطب أحدهم ويقول: يا عبدي! ألم أنعم عليك؟ ألم أصح بدنك؟ ألم أعطك المال؟ ألم أزوجك؟ فماذا فعلت؟ كما في الحديث الصحيح: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان) أي: يكلمه بلا واسطة، وهذا التكليم في آن واحد، كل الخلق يكلمهم الله جلَّ وعلا في آن واحد، وكل واحد يرى أنه يكلم وحده فقط، وذلك أن أفعال الله لا تقاس بأفعال المخلوقين تعالى الله وتقدس، فهو أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، وهو القادر على كل شيء.
والمقصود: أن وصف الله جلَّ وعلا بالكلام أمر مستقر في قلوب عباد الله وفي فطرهم، وأدلة ذلك كثيرة جداً في كتاب الله، وفي أخبار الرسل، من أولهم إلى آخرهم، فمنكره مكابر ومصادِم لما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم بل عن رسل الله كلهم، وقد قال الله جلَّ وعلا في قصة موسى بعد أن ذكر الرسل قال: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمَاً} [النساء:164] يعني: كلمه في الدنيا، وفضله على الخلق بالمخاطبة، وقد سمع موسى كلام الله بلا واسطة، وكان موسى في الأرض والله فوق عرشه جلَّ وعلا، وإذا كان يوم القيامة فإن الله جلَّ وعلا يأتي لفصل القضاء بين عباده إلى الأرض، وهو على عرشه، ويكلمهم ويخاطبهم، والذي ينكر الكلام معناه أنه ينكر الرسالة، وينكر قدرة الله، ويلحق الله جلَّ وعلا بالناقصات تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً!(51/7)
إثبات صفة العلو لله سبحانه
قال الشارح: [ومثله الحديث: (ماذا قال ربنا يا جبريل؟) وأمثال هذا في الكتاب والسنة كثير.
قوله: {قَالُوا الْحَقَّ} [سبأ:23] أي قالوا: قال الله الحق، وذلك لأنهم إذا سمعوا كلام الله صُعقوا، ثم إذا أفاقوا أخذوا يسألون فيقولون: {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} [سبأ:23] فيقولون: قال الحق: قوله: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:23] علو القدر، وعلو القهر، وعلو الذات، فله العلو الكامل من جميع الوجوه كما قال عبد الله بن المبارك لما قيل له: بماذا نعرف ربنا؟ قال: بأنه على عرشه بائن من خلقه، تمسكاً منه بالقرآن، لقول الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} [الفرقان:59] في سبعة مواضع من القرآن.
قوله: ((الْكَبِيرُ)) أي: الذي لا أكبر منه ولا أعظم منه تبارك وتعالى]: قوله عن الملائكة أنهم لما سألوا جبريل ماذا قال ربهم؟ فأجابهم قال: الحق، ثم يقولون كلهم: قال الحق، هذا دليل على خضوعهم وذلهم أمام الله جلَّ وعلا، وأنهم عند قول جبريل: قال الحق، ينتهون عن الاستفسار والسؤال، ومعلوم أن الله جلَّ وعلا لا يقول إلَّا الحق، وكل قوله حق تعالى وتقدس، فهم عندما صعقوا وخروا سجداً توقعوا أنه تكلم بالأمر بقيام الساعة، هذا سبب الخوف؛ لأن الوحي انقطع بعد عيسى عليه السلام، وقد علموا أن الوقت اقترب، والساعة خفيت عليهم؛ لأنها ثقلت في السماوات والأرض، ولا تأتي الخلق إلَّا بغتة، ولا يعلم مجيئها إلَّا الله، فلما تكلم الله جلَّ وعلا بالوحي الذي أوحاه إلى جبريل وأمره أن يذهب به إلى محمد صلى الله عليه وسلم، خشي الملائكة لما سمعوا ذلك وأحسوا به أن يكون الأمر وحي إلى إسرافيل بالنفخ في الصور، فصُعقوا خوفاً من قيام الساعة؛ لأن الله جلَّ وعلا يجزي كل مسيئ بإساءته، ويستقر أهل النار في النار، وأهل الجنة في الجنة، والملائكة يخافون الله جلَّ وعلا، مع أنهم لا يفعلون إلَّا ما يؤمرون، ولكن الله جلَّ وعلا في ذلك اليوم يغضب غضباً شديداً حتى أن أولي العزم من الرسل يقولون: (إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله)، وغضبه ذلك على الكفار والعصاة والفجار الذين بارزوه بالمعاصي، وحاربوه في الدنيا، فهو يمهل لهم العقوبة إلى ذلك اليوم، وفي ذلك اليوم يظهر الجزاء، والملائكة خافوا أن يكون قد حضر وقت الجزاء، فهم يخشون ربهم أشد الخشية، وإن كانوا لا يعصون الله جلَّ وعلا؛ ولكن مع ذلك يخشون عذابه، فإذا قال لهم: قال الحق، انتهوا إلى هنا، فصاروا يرددون هذا القول، ويقولون: قال الحق قال الحق، فهذا دليل على تعظيمهم لله جلَّ وعلا، وعلى أنهم لا يتجاوزون ما قيل لهم، ولا يستفسرون أكثر مما قيل لهم.(51/8)
أنواع العلو الثابتة لله عز وجل
قوله جلَّ وعلا: (وَهُوَ الْعَلِيُّ) (العلي) من العلو، والعلو ثابت لله جلَّ وعلا من جميع الوجوه، والوجوه التي يوصف علو الله بها ثلاثة وجوه:(51/9)
علو القدر
الوجه الأول: علو القدر، وهو يكون في قلوب عباده العارفين له، أما الفساق والفجار والكفرة فليس هو عليٌّ في قلوبهم، ولهذا يبارزونه بالمعاصي، فلو كان عالياً في قلوبهم لما بارزوه بالمعاصي؛ ولكن علو القدر هذا يكون في قلوب عباده المؤمنين من الملائكة والبشر والجن، أما أكثرهم فهم لا يرجون لله وقاراً، كما قال الله جلَّ وعلا: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارَاً * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارَاً} [نوح:13 - 14]، وقال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعَاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67] فالعصاة والكفار والفجرة ما قدروا الله حق قدره، ولا صار لله علوٌّ في قلوبهم، تعالى الله وتقدس.(51/10)
علو القهر
الوجه الثاني: علو القهر: وهذا علو مطلق، فإنه قاهر لكل شيء، الخلق كلهم تحت قهره، يتصرف فيهم وأقدارُه تجري عليهم رضوا أم لم يرضوا: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدَاً} [مريم:93] يعني: ذليلاً مقهوراً خاضعاً ليس له شيء، وكذلك يخبر جلَّ وعلا أنه يخاطب الناس يوم القيامة، وأنهم يأتون إليه فرادى كما خلقهم، ويقول لهم: {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام:94] يعني: تقطعت المودة والدعوات {وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:94] أي: الشيء الذي زعموه ضل عنهم وذهب، وحصحص الحق وظهر ظهوراً تاماً، فالملك كله لله، والقهر كله لله، فهو القاهر، وله علو القهر تعالى وتقدس.
وهذان الوصفان -علو القدر وعلو القهر- لم ينكرهما أحد من أهل البدع حتى الجهمية والمعتزلة أقروا بهما؛ ولكن الأمر الثالث هو الذي أنكره أهل البدع.(51/11)
علو الذات
الوجه الثالث: علو الذات: كونه العالي على كل شيء، العالي فوق خلقه كلهم، وليس فوقه شيء تعالى وتقدس، وأرفع المخلوقات وأعلاها هو عرش الرحمن، وهو أوسعها وأكبرها وأعظمها، وذلك أن السماوات ومنها السماء الدنيا أكبر من الأرض آلاف المرات بل ليس هناك نسبة؛ لأن السماء تحيط بالأرض من جميع الجهات، والأرض كالبيضة في قلب السماء الدنيا، والجهات جهتان: جهة العلو والسفل فقط، أما الجهات الأخرى فلا حقيقة لها، والسماء الثانية أوسع وأكبر وأعظم من السماء الدنيا بشيء كبير جداً، والسماء الثالثة أوسع وأعظم وأكبر من السماء الثانية، وكذلك الرابعة والخامسة والسادسة والسابعة، فأعظم السماوات وأوسعها وأكبرها السماء السابعة، وفيها الجنة التي أخبر الله جلَّ وعلا أن عرضها عرض السماوات والأرض، والعرش فوق السماوات كلها، وهو أعظم منها كلها، وقد جاء في الآثار أن الكرسي أوسع من السماوات والأرض، بل قال الله جلَّ وعلا: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255] والكرسي كما في الآثار: السماوات السبع بالنسبة إليه كدراهم سبعة ألقيت في أرض فلاة، هذا بالنسبة للكرسي، أما العرش فنسبة الكرسي إلى العرش كحلقة ألقيت في أرض فلاة، فالعرش هو أعظم المخلوقات وأكبرها وأوسعها، ولهذا يقول الله جلَّ وعلا: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة:129] {رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:116] والكريم هو: الواسع الحسن، والشيء العظيم إذا عظَّمه الله فهو عظيم جداً، وليس فوق العرش شيء من المخلوقات، وإنما فوقه رب العالمين تعالى وتقدس، وهو أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، ولهذا يقول لنا ويخبرنا عن شيء من عظمته حتى نعلم ذلك ونقدره حق قدره: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعَاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67] وعلى هذه السعة والكِبَر والعِظَم يطويها بيده، وتكون بيده كالخردلة في يد الإنسان، ولله المثل الأعلى.
فإن كان هذا شيء من عظمته فكيف يجوز للإنسان أن يعبد معه غيره؟! وكيف يجوز للإنسان أن يصفه بما يتصف به المخلوق الحقير الذليل الذي لا يملك مع الله شيئاً؟! وإذا شاء عذَّبه ولا يُسأل ربك عما يفعل، تعالى الله وتقدس.(51/12)
علو ذاته سبحانه لا ينافي قربه ومعيته لخلقه
فإن كان هذا شيء من عظمته فكيف يجوز للإنسان أن يعبد معه غيره؟! وكيف يجوز للإنسان أن يصفه بما يتصف به المخلوق الحقير الذليل الذي لا يملك مع الله شيئاً؟! وإذا شاء عذَّبه ولا يُسأل ربك عما يفعل، تعالى الله وتقدس.
فعلوُّ الذات هو علو على جميع المخلوقات، ومع علوه تعالى وتقدس فهو معنا يسمع كلامنا، ويرى أفعالنا، ولا يخفى عليه مما في صدورنا شيء، فهو يعلم ما في الصدور: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4] معنا باطلاعه وإحاطته وقبضته، وبعلمه ورؤيته تعالى الله وتقدس، فهو أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء؛ ولهذا يقول العلماء: لا منافاة بين المعية والعلو، ولهذا جمع الله جلَّ وعلا بينهما في آية واحدة، كما قال جلَّ وعلا: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد:3 - 4] فأخبر بهذه الآية أنه استوى على العرش، وأنه يعلم كل شيء، وأنه معنا أينما كُنَّا، ومعيته جلَّ وعلا معية على حقيقتها؛ لأن المعية في لغة العرب معناها: المصاحَبة، وليس معناها: الامتزاج والاختلاط كما يزعم أهل الباطل، بل معناها: المصاحَبة، وهذا شيء معقول جداً، وهي تختلف باختلاف ما أضيفت إليه، فكل شيء تضاف إليه تكون معية مَن أضيفت له على ظاهرها، فمثلاً: يقول الإنسان: أنا مع فلان، وفلان يكون متحداً بنفسه فإنه وحده لا يختلط به، ويقول: معي مالي، وإن كان ماله في بلد وهو في بلد آخر، ويقول: معي زوجتي، وإن كانت زوجته في مكان وهو في مكان آخر، وسُمع من كلام العرب: سرنا مع القمر، والقمر في السماء وهم في الأرض، وكذلك: إذا ذُكرت المعية مع المصاحِب: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح:29] يعني: صحبوه بالإيمان والقتال والجهاد والاتباع والطاعة، فإذا جاءت صفةٌ لله تعالى: (وَهُوَ مَعَكُمْ) فهو تعالى وتقدس معيته تليق به، ولا يجوز أن تكون معيته كمعية المخلوق للمخلوق تعالى الله وتقدس.
إذاً: معيته تعالى لا تنافي علوَّه، وكذلك لا تنافي قُربَه، فهو قريب منا وهو على عرشه تعالى وتقدس، فصفات الله يجب أن تكون خاصة به، وألَّا تكون خصائص الخلق التي تخصهم لله منها شيء، كما أن خصائص الرب جلَّ وعلا ليس للمخلوق منها شيء.
قال: [قوله: (الكبير)، أي: الذي لا أكبر منه ولا أعظم منه تبارك وتعالى].
ولهذا شرع الله جلَّ وعلا لنا أن نكبِّره، وأن يقول الإنسان دائماً: (الله أكبر) في جميع الانتقالات في الصلاة، وإذا هوى الإنسان ساجداً في الأرض، وإذا ركب دابةً، وإذا صعد إلى شيء، أو رأى شيئاً يعجبه، أو شيئاً لا يعجبه، فيذكر ذلك بتكبير الله أن يقول: (الله أكبر)، ولا يجوز للمؤمن إذا قال: (الله أكبر) أن يكون هذا في لسانه فقط، بل يجب أن يستشعر ذلك في قلبه، وألَّا يكون شيء من المخلوقات عنده أكبر من الله جلَّ وعلا، فهو الكبير فوق كل شيء، والكبير معنىً وقدراً وذاتاً تعالى الله وتقدس.(51/13)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [52]
من صفات الله تعالى الثابتة بالكتاب والسنة صفة الكلام، فالله عز وجل لم يزل متصفاً بصفة الكلام، يكلم من شاء من خلقه متى شاء، وهذه هي عقيدة السلف الموافقة لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن خالفها فقد ضل عن سواء السبيل.(52/1)
حديث (إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [في الصحيح: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، ينفذهم ذلك، {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:23]، فيسمعها مسترق السمع -ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض، وصَفَه سفيان بكفه فحرَّكها وبدَّد بين أصابعه- فيسمع الكلمة فيُلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كذبة، فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا: كذا وكذا؟! فيصدَّق بتلك الكلمة التي سُمعت من السماء)].(52/2)
إثبات كلام الله لملائكته وبعض عباده
قوله: (إذا قضى الله الأمر في السماء) أي: إذا تكلم، والأمر هو كلامه ووحيه.
وقوله: (كأنه سلسلة على صفوان): الصفوان هو: الصخر الأملس، والسلسلة: حِلَقٌ الحديد، يُدخَل بعضُها في بعض، فإذا جُرَّت على الصفوان صار لها صوت، وهذا تشبيه للصوت المسموع، وليس تشبيها لله جلَّ وعلا، وإنما هو للصوت الذي يُسمع، وهذا كقول الرسول صلى الله عليه وسلم لما سئل: (هل نرى ربنا؟ قال: نعم، ترونه كما ترون القمر ليلة البدر ليس بينكم وبينه سحاب) فشبَّه الرؤية في وضوحها وجلائها برؤية القمر في وقت تمامه وكِبَره، وهنا شبَّه الصوت الذي تسمعه الملائكة كصوت السلسلة التي تُجر على الصفا، ومعنى ذلك: أنهم سمعوا صوتاً لم يميزوا شيئاً من المعاني فيه، وقد علموا أنه صوت كلام الله إذا أمر، ولهذا السبب صُعقوا وصاروا يسألون بعدما زال الصعق عنهم: ماذا قال الله؟ علموا أنه قول الله.
وقوله: (ينفذهم ذلك) يعني: أن هذا يمضي فيهم كلهم، كلهم يسمعون، وكلهم يصعقون.
وكذلك يدل أيضاً على أن الله جلَّ وعلا إذا أوحى بالأمر أن السماء نفسها تشعر بذلك وتعلمه، ثم يصيبها رجفة شديدة خوفاً من الله جلَّ وعلا، وهذا دليل واضح على أن الله يتكلم تعالى وتقدس؛ ولكن كلامه يتعلق بمشيئته، يتكلم إذا شاء بما يشاء، ويكلم من يشاء، ولقد جاءت الأدلة بإثبات كلامه جلَّ وعلا لملائكته ورسله، بل لأفراد الناس من أهل الجنة، يكلم بعضَهم بمفرده، ففي صحيح البخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوماً جالساً مع أصحابه، وكان عندهم أعرابي، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن رجلاً من أهل الجنة يستأذن ربه ويقول: يا رب! أريد أن أزرع، فيقول الله جلَّ وعلا له: ألست فيما تريد وما تشتهي؟ فيقول: بلى يا رب، ولكني أريد الزرع، فيقول الله جلَّ وعلا: دونك فازرع، فيزرع وينبت الزرع ويخرج، ثم يستوي، ثم يتكدس حباً كأمثال الجبال، فيقول الله جلَّ وعلا: دونك يا ابن آدم، فإنه لا يملأ بطنك إلَّا التراب.
عند ذلك قال الأعرابي: يا رسول الله! تجد هذا إما أنصارياً أو مهاجرياً، أما نحن فلسنا بأصحاب زرع، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم).
فالمقصود: أن الله يكلم بعضَ عباده من أهل الجنة، وفي الصحيح أيضاً: (آخر من يخرج من النار -من أهل التوحيد؛ لأن أهل التوحيد العصاة منهم من يدخل النار تطهيراً لذنوبه ثم يُخرج من النار- رجل يحبس قرب النار ووجهه مقبل على النار، فيدعو ربه: يا رب! يا رب! اصرف وجهي عن النار، يا رب! اصرف وجهي عن النار، لا أسألك غير هذا.
فيقول الله جلَّ وعلا: لعلك أن تسأل غيره! فيقول: لا وعزتك، لا أسألك غير هذا، فيصرف الله جلَّ وعلا وجهه عن النار.
ثم تُرفع له شجرة خضراء حسناء فإذا رآها يصبر ما شاء الله أن يصبر، ثم يقول: يا رب! أوصلني إلى تلك الشجرة لأستظل بظلها، وأشرب من مائها، ويدعو ربه، فيقول الله جلَّ وعلا له: يا ابن آدم! ألم تعطِ العهود والمواثيق ألا تسأل غير ما سألت؟ فيقول: يا رب! لا تجعلني أشقى خلقك، والله يعلم أنه يرى ما لا صبر له عليه، فيعذره، فيقول: لعلك إن أعطيتك ما سألت أن تسأل غيره! فيقول: لا وعزتك لا أسألك غيره، فيعطي ربه العهود والمواثيق أنه لا يسأل غير هذا السؤال، فيوصله إلى هذه الشجرة فيستظل بظلها، ويشرب من مائها، ويأكل من ثمارها، ثم تُرفع له شجرة هي أحسن منها، فيراها ويتصبر ولكنه لا يصبر، فيقول: يا رب! أوصلني إلى تلك الشجرة؛ لأستظل بظلها، وأشرب من مائها، ويدعو ربه، ويقول الله جلَّ وعلا له: يا ابن آدم، ويلك! ما أغدرك! ألم تعطِ العهود أنك لا تسأل غير ما سألت؟ فيقول: يا رب! لا تجعلني أشقى خلقك، فيقول الله جلَّ وعلا له: لعلك تسأل غيرها! فيقول: لا وعزتك، والله لا أسألك غيرها، ويعطي العهود والمواثيق أنه لا يسأل غيرها، فيعطيه الله جلَّ وعلا ذلك، ويوصله إليها، فإذا وصل إليها رأى الجنة، فإذا رآها انفتح بابها، ورأى ما في داخلها، عند ذلك لا يصبر، فيقول: يا رب! يا رب! أدخلني الجنة، ويسأل ما شاء الله أن يسأل، فيقول الله جلَّ وعلا: ويلك يا ابن آدم! ما أغدرك! -ما أكثر غدرك! - ألم تعطِ العهود أنك لا تسأل غير ما سألت؟ فيقول: يا رب! لا تجعلني أشقى خلقك، فيقول: اذهب فادخل الجنه، فيذهب، فإذا وصل إلى الجنة خُيِّل إليه أنها ملأى -أنها مملوءة لم يبق فيها مكان- فيعود ويقول: يا رب! إنها ملأى -لم يبق فيها مكان- فيقول الله جلَّ وعلا: أترضى أن يكون لك مثل الدنيا؟ فيقول: يا رب! أتسخر بي وأنت رب العالمين؟! عند ذلك ضحك الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: ألا تسألوني ممَّ أضحك! قالوا: مم تضحك يا رسول الله؟! قال: أضحك من ضحك رب العالمين، فإنه إذا قال: أتسخر بي وأنت رب العالمين؟! يضحك الله ويقول: لا؛ ولكني على ما أشاء قدير، لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها معها)، وهذا هو أدنى أهل الجنة منزلة، فهذه محاورة بين الرب جلَّ وعلا وبين العبد.
وهكذا إذا شاء الله أن يتكلم تكلم، ولا يمنعه أحد من الكلام تعالى وتقدس، فالذين لا يصفونه بالكلام ويزعمون أنهم يعظمونه بذلك؛ في الواقع أنهم يعطِّلوه عن صفاته التي وصف بها نفسه، وتعرَّف بها إلى عباده تعالى وتقدس، فعباده عرفوه بذلك أنه يتكلم ويُكلم ويخاطب، ويحاسب عباده يوم القيامة، ويقررهم بذنوبهم، ويعفو عمن يشاء، ويعذب من يشاء، ويأمر ملائكته بما يشاء، فهو جلَّ وعلا يتكلم بما شاء، والكلام من صفاته الثابتة، وهي من صفات الكمال.(52/3)
خضوع الملائكة وذلهم عند سماع كلام الله
قال الشارح: [قوله: (في الصحيح): أي: في صحيح البخاري.
قوله: (إذا قضى الله الأمر في السماء) أي: إذا تكلم الله بالأمر الذي يوحيه إلى جبريل بما أراده، كما صُرِّح به في الحديث الآتي، وكما روى سعيد بن منصور وأبو داود وابن جرير عن ابن مسعود: (إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات صلصلة كجَرِّ السلسلة على الصفوان).
وروى ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لما أوحى الجبار إلى محمد صلى الله عليه وسلم دعا الرسولَ من الملائكة ليبعثه بالوحي، فسمعت الملائكة صوت الجبار يتكلم بالوحي، فلما كُشف عن قلوبهم سألوا عما قال الله؟ فقالوا: الحق، وعلموا أن الله لا يقول إلَّا حقاً).
قوله: (ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله) أي: لقول الله تعالى، قال الحافظ: (خَضَعاناً) بفتحتين: من الخضوع، وفي رواية: بضم أوله وسكون ثانيه، وهو مصدرٌ بمعنى: خاضعين.
قوله: (كأنه سلسلة على صفوان) أي: كأن الصوت المسموع سلسلة على صفوان وهو: الحجر الأملس.
قوله: (يَنْفُذُهم ذلك) هو: بفتح التحتية، وسكون النون، وضم الفاء والذال المعجمة، (ذلك) أي: القول، والضمير في (ينفذهم): للملائكة، أي: ينفذ ذلك القولًُ الملائكةَ أي: يخْلُص ذلك القول ويمضي فيهم حتى يفزعوا منه، وعند ابن مردويه من حديث ابن عباس: (فلا ينزل على أهل سماء إلَّا صُعقوا)]: في هذه الأوصاف دلائل واضحة على ذل الملائكة لله جلَّ وعلا وخضوعهم، وأنهم لهم أجنحة يطيرون بها إلى حيث أراد الله جلَّ وعلا من أوامره التي يأمرهم بها؛ لأنهم عباد مُكرَمون: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:29].(52/4)
استراق الشياطين للسمع من العنان
قوله في الحديث: (إذا تكلم جلَّ وعلا بالوحي الذي يوحيه إلى الملائكة فإن مسترقي السمع يركب بعضُهم بعضاً -يعني: الشياطين- فيستمعون ماذا قالت الملائكة الذين أُمروا بالأمر الذي يأمرهم الله جلَّ وعلا به، فيأخذون الكلمات من الملائكة مما يتحدثون بها، فيُلقيها الأعلى للذي تحته لأنهم يركب بعضُهم بعضاً، كما فعل سفيان - حيث صفَّ أصابعه وبدَّدها يعني: فرَّق بينها وحرَّكها.
إذاً: الشياطين يركب بعضُهم على بعض حتى يصلوا إلى العنان، فهم لا يصلون إلى السماء؛ ولكن جاء في صحيح البخاري: (أن الملائكة تنزل إلى العنان) والعنان هو: السحاب، تنزل الملائكة لإنزال الغيث وتصريف السحاب؛ لأن السحاب يُصرَّف من الملائكة، فما ينزل قطر المطر إلَّا بتكليف، فيتكلمون بالأمر الذي أمروا به، فتكون الشياطين راكبة بعضها على بعض، ويستمعون ماذا تقول الملائكة، فيأخذ الأعلى الكلمة التي يسمعها فيلقيها إلى من تحته، والذي تحته يلقيها إلى من تحته بسرعة خوفاً من الشهاب الذي ينزل عليهم، فإذا فعلوا ذلك نزل عليهم الشهاب، وربما أصاب الشيطانَ فقتله، وربما خبله.
قال الشارح: [وعند أبي داود وغيره مرفوعاً: (إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء الدنيا صلصلة كجر السلسلة على الصفا، فيُصعقون، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل) الحديث.
قوله: (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ): تقدم معناه.
قوله: (قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا الْحَقَّ) أي: قالوا: قال الله الحق، علموا أنه لا يقول إلَّا الحق.
قوله: (فيسمعها مسترق السمع) أي: يسمع الكلمة التي قضاها الله، وهم الشياطين يركب بعضهم بعضاً.
قوله: (ومسترق السمع هكذا -وصفه سفيان بكفه-) أي: وصف ركوب بعضهم فوق بعض، وسفيان هو: ابن عيينة أبو محمد الهلالي الكوفي ثم المكي، ثقة حافظ فقيه إمام حجة، مات سنة ثمان وتسعين ومائة، وله إحدى وتسعون سنة.
قوله: (فحرفها): بحاء مهملة وراء مشددة وفاء.
قوله: (وبدَّد) أي: فرَّق بين أصابعه.
قوله: (فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته) أي: يسمع الفوقاني الكلمة، فيلقيها إلى آخر تحته، ثم يلقيها إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن.
قوله: (فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها) الشهاب هو: النجم الذي يُرمى به، أي: ربما أدرك الشهابُ المسترقَ وهذا يدل على أن الرمي بالشهب كان قبل المبعث، لما روى أحمد وغيره -والسياق له في المسند من طريق معمر -: أنبأنا الزهري عن علي بن الحسين عن ابن عباس قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً في نفر من أصحابه -قال عبد الرزاق: من الأنصار- قال: فرُمي بنجم عظيم؛ فاستنار، قال: ما كنتم تقولون إذا كان مثل هذا في الجاهلية؟ قالوا: كنا نقول: لعله يولد عظيم أو يموت عظيم -قلتُ للزهري: أكان يُرمى بها في الجاهلية؟ قال: نعم.
ولكن غلظت حين بُعث النبي صلى الله عليه وسلم- قال: فإنها لا يُرمى بها لموت أحد ولا لحياته؛ ولكن ربنا تبارك اسمه إذا قضى أمراً سبح حملة العرش، ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم حتى يبلغ التسبيح هذه السماء الدنيا، ثم يستخبر أهلُ السماء الذين يلون حملة العرش، فيقول الذين يلون حملة العرش لحملة العرش: ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم، ويخبر أهل كل سماء سماءً، حتى ينتهي الخبر إلى هذه السماء، وتخطف الجن السمع، فيرمون، فما جاءوا به على وجهه فهو حق؛ ولكنهم يقرفون فيه ويزيدون.
قال عبد الله: قال أبي: قال عبد الرزاق: ويُخطف الجن ويرمَون.
وفي رواية له: لكنهم يزيدون فيه ويقرفون ويُنقصون).
قوله: (فيكذب معها مائة كذبة) أي: الكاهن أو الساحر]: في هذا الحديث إضافة إلى ما سبق أن الملائكة عباد يمتثلون أمر الله جلَّ وعلا، ويخضعون لقوله، ويذلون له، ويزيد خضوعهم وذلهم عندما يسمعون كلام الله بالوحي، خوفاً من أن تقوم الساعة، بأن يأمر الله جلَّ وعلا إسرافيل بالنفخ في الصور، وكل هذا خوف من عذابه جلَّ وعلا، وخشية منه، مع أنهم يطيعونه ولا يعصونه فيما أمرهم به، بل يفعلون ما يؤمرون، ومع ذلك يخافون خوفاً شديداً.
والملائكة كما سبق هم من أعظم خلق الله جلَّ وعلا، يدل على هذا ما ذكره الله جلَّ وعلا في صفاتهم، مثلاً: جبريل عليه السلام اقتلع مدائن قوم لوط، وحملها على طرف جناحه، وطار بها حتى صار الذين في عنان السماء من الملائكة -يعني: في السحاب- يسمعون نباح الكلاب، وصياح الديكة، عند ذلك قلبها وجعل عاليها سافلها، ثم أُمطروا بحجارة من سجيل، وكذلك صاح بقوم صالح صيحة؛ فتقطعت قلوبهم في أجوافهم، صيحة واحدة! وهذا يدل على قوته وعِظَمه، ومع ذلك يخضع لله ذليلاً خاشعاً حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يُروى عنه في حديث الإسراء والمعراج: (أنه رآه لاصقاً كالحلس من خشية الله جلَّ وعلا)؛ لأن من كان بالله أعرف كان له أخوف.
وكل هذا يدل على أنه لا يجوز قصدهم أو التوجه إليهم بشيء من العبادة، وإنما العبادة تكون لله جلَّ وعلا وحده، وكذلك غيره من الملائكة، وقد جاء في خلقهم وعِظَم ذلك أحاديث كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وما ذكره من أن الله جلَّ وعلا يتكلم بالوحي يدلنا على أن كلامه تسمعه الملائكة، وأنهم في أول الأمر يسمعون شيئاً لا يفقهونه، ويعلمون أنه كلام الله؛ ولكن لا يدرون ماذا قال؛ ولهذا يسألون جبريل عليه السلام الذي أُمر بأمر الله جلَّ وعلا أن يمضي بالوحي حيث أمره الله جلَّ وعلا، فيجيبهم قائلاً: قال الحق، ثم يجاوبونه كلهم: قال: {الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:23]، وهو جلَّ وعلا يقول إذا شاء، ويتكلم ويقول بما شاء، وكلامه يتعلق بمشيئته إذا شاء أن يتكلم تكلم، وهذا من صفات الكمال التي يوصف بها ربنا جلَّ وعلا.(52/5)
تحمل الشياطين للمخاطر من أجل إضلال الناس
قوله: (فيسمعها مسترق السمع) المعنى: أن مسترقي السمع هم الشياطين ومعهم الجن؛ لأن الشياطين من الجن وهم مَرَدَتُهم، كما أن الإنس منهم شياطين؛ فمن تمرد منهم وخرج عن قوله فهو شيطان، ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم لـ أبي ذر: (استعذ بالله من شياطين الإنس والجن)، كذلك قال الله جلَّ وعلا: {شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورَاً} [الأنعام:112]، فإذاً: يكون الشياطين من الإنس كما يكونون من الجن.
وكونه يسترق السمع ليس معنى ذلك أن الشياطين يصلون إلى السماء، فهم لا يستطيعون ذلك، ولكن الملائكة ينزلون في السحاب حسب أمر الله جلَّ وعلا وتدبيره لهم، فيتكلمون فيما بينهم بأمرٍ مما أُمروا به من أمر الله، فتخطفها الشياطين، ووصف: أن الشياطين يركب بعضُهم بعضاً لأجل أن يسترقوا هذه الكلمة، مع أن فيها خطورة، ومع ذلك يرتكبون الخطر لأجل أن يضلوا الناس، مما يدل على حرصهم على إضلال بني آدم، فإذا تراكبوا لاستراق السمع، وسمعوا كلمةً أخذها الذي يليهم بسرعة، ثم ألقاها على من تحته حتى لا يدركه الشهاب قبل أن يلقيها، إلى أن تصل إلى آخر واحد في الأرض، فيذهب بها مسرعاً إلى وليه من الإنس الذي هو الكاهن أو الساحر، ويقُرُّها في أذنه كما تقُرُّ الدجاجة، فيزيد معها مائة كذبة، والزيادة هذه يحتمل أن تكون من الكاهن أو الساحر، ويحتمل أن تكون من الشيطان.
وقوله: (فإذا حدث بالحديث -الذي من الكذب- يصدقه الناس لأجل هذه الكلمة الواحدة، وقد زاد معها مائة كذبه، فإذا خالف خبرُه الواقع قالوا: ألم يقل يوم كذا وكذا: كذا وكذا؟!) يعني: يستدلون بهذه الكلمة الصادقة على أن كل ما يقوله حق وصدق، وهذا من الغرور، وهذا يدل على أن النفوس تقبل الباطل بكلمة واحدة، فمثلاً الكلمة الواحدة تكون حقاً، فيُنقل إلى الناس فيها مائة كلمة تكون كذباً، فهذا من لبس الحق بالباطل، وذلك لأن الأمر لو كان كله باطلاً ما قُبل، ولكن قد يكون فيه شيء من الحق، وهذا يدلنا على أن الشيء إذا كان فيه نفع أو حق لا يدل على أنه جائز، وقد قال الله جلَّ وعلا: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة:219] فأخبر أن في الخمر والميسر منافع للناس، وكون فيهما منافع للناس لا يدل على حِلِّهما، ولا على جوازهما، فكذلك الشرك الذي يقع من الكاهن أو الساحر وإن كان فيه منفعة فهو ممنوع ومحرم شرعاً.(52/6)
السماء محروسة من قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم
معنى قول الزهري: إن الشياطين كانوا يسترقون السمع في الجاهلية، ثم إن السماء حُرست: أن الحراسة كانت من قديم؛ ولكن شُدِّد فيها ومُنعت منهم السماء نهائياً، فأصبحوا لا يجدون مكاناً يجلسون فيه ليركب بعضُهم بعضاً، بل يُرمون من أول الأمر، ولا يُنظَرون إلى أن يسترقوا؛ حفاظاً على الوحي الذي يوحيه الله جلَّ وعلا إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، قال الله جلَّ وعلا في ذلك عن الجن: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسَاً شَدِيدَاً وَشُهُبَاً * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابَاً رَصَدَاً} [الجن:8 - 9] هذا في وقت مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، حُرست السماء بالشهب فأصبح الجن والشياطين لا يستطعيون أن يصلوا إلى شيء من استراق السمع، شُدِّد فيها تشديداً عظيماً، فأصبحوا يُرجمون، ولهذا جاء في الخبر: أنه: (لما حدث ذلك قال الشيطان -يسأل أبناءه وأولياءه-: ما ترون؟ -أي: ما السبب؟ صاروا يبحثون عن السبب- فذهب طائفة منهم ووجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن في وادي نخلة قرب مكة، فاستمعوا فقالوا: هذا هو السبب هذا هو السبب الذي منعتم به من الاستراق) أما قبل ذلك فالاستراق والرمي بالشهب كان منذ خلق الله جلَّ وعلا السماوات، وقد ذكر ذلك جلَّ وعلا في كتابه في عدد من الآيات: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومَاً لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} [الملك:5] فأخبر جلَّ وعلا أنه زين السماء -يعني: نضَّرها- بالنجوم كالقناديل المعلقة زينة، وأنها رجوم للشياطين يُرجمون بها، وكذلك في الآية الأخرى في قوله جلَّ وعلا: {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابَاً رَصَدَاً} [الجن:9] (يجد له شهاباً رصداً) يعني: أنه مرصود له، فأخبر أنها مرصودة لكل شَيْطَانٍ مَارِدٍ؛ وأنهم: {لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُورَاً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ} [الصافات:8 - 9] هذا في الشهب والنجوم، والتي يُرمى بها ليست هي من النجوم المرئية المشاهَدة التي تُرى ويُستدل بها؛ ولكن الذي يُرمى به شيء لا يُرى، أو يرمى بقسم منها بحيث يبقى المشاهَد المعيون، وهي كثيرة جداً.
وقوله: في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وكذلك رواه مسلم في صحيحه (أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان في أصحابه يوماً، فرُمي بشهاب فاستنار فقال: ما كنتم تقولون لهذا في الجاهلية؟ فقالوا: كنا نقول إذا رُمي به: إنه يولد عظيم أو يموت عظيم -يعني: من الناس، ملك أو رئيس أو ما أشبه ذلك- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه لا يُرمى بها لموت أحد ولا لحياته؛ ولكن مسترق السمع إذا ركب بعضُهم بعضاً يسترقون السمع رُمي بها، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها إلى وليه فقتله، وربما أذهب عقله فخبله -فيصبح ليس له عقل- وربما أخطأه) وهذا لحكمة يريدها الله جلَّ وعلا، وإذا أراد الله شيئاً لا يخطئه.
فهذا دليل على أنها من قديم، وكذلك الآن لا تزال يُرمى بها وإن كان الوحي قد انقطع، وكذلك في الأوقات التي لا يكون فيها وحي إلى نبي من الأنبياء يُرمى بها، فهي باقية كما كانت قبل ذلك منذ خلقت السماوات والأرض، وأوجدت لرمي الجن، فإنها رجوم لهم يُرجَمون بها، فأحياناً يحترق الشيطان إذا أصابه الشهاب فيحرقه نهائياً، وأحياناً يصيبه ويذهب بقوته إما ببعض جسده، وإما أن يذهب بعقله لقوة رميه، فهو شيء عجيب جداً.
قوله: (فيكذب معها مائة كذبة) يعني: يحتمل الأمرين: إما أن الشيطان يكذب على الكاهن أو الساحر، وإما أن الساحر أو الكاهن هو الذي يكذب كذلك، فيصبح كل واحد يكذب مائة، وهذا يدل على أن الكاهن أو الساحر لا يخبر بهذه الأمور من عند نفسه، وإنما يجعل له مستنداً وهو ما أخذه من الشيطان، والشيطان قد يكون كاذباً وقد يكون صادقاً، وأنه يزيد على ذلك حتى يُصدَّق، وهذا يدل أيضاً على أن الكُهَّان والسحرة لهم صلة بالشياطين، هذا هو القول الصحيح من أقوال العلماء، وهو أن السحر لا يتأتى إلَّا بواسطة الشياطين، ولا يمكن أن يأتي الشيطان إلى الكاهن أو الساحر بغير شيء يقدمه الكاهن أو الساحر للشيطان، لا بد أن يقدم له عبادة، أن يعبده ويخضع ويركع له، ويذل له ويسجد، أما إذا لم يفعل شيئاً من ذلك فلا يأتيه، وإنما يأتيه إذا خضع وذل وعبَده سواءً كان كاهناً أو ساحراً.
وأما كون الملائكة يتكلمون بالوحي في العنان، فهذا فيما بينهم، يذكرون الشيء الذي أُمروا به، سواءً كان شيئاً يخص بعض الناس من مرض أو موت أو ولادة مولود أو ما أشبه ذلك، أو شيئاً يخص جميع الناس مثلاً كإنزال المطر أو الرياح أو ما أشبه ذلك؛ لأنهم مأمورون بهذه الأشياء، وقد أوحيت إليهم، فيخطفها الشيطان ويفرح بها حتى يضل بني آدم بذلك.(52/7)
تلبيس الشياطين الحق بالباطل
قال الشارح: [قوله: (فيكذب معها مائة كذبة) أي: الكاهن أو الساحر، وكذبة: بفتح الكاف، وسكون الذال المعجمة]: كَذِبة وكِذْبة كلها سواء.
قال الشارح: [قوله: (فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا: كذا وكذا): هكذا في نسخة بخط المصنف، كالذي في صحيح البخاري سواء.
قال المصنف: وفيه: قبول النفوس للباطل، كيف يتعلقون بواحدة ولا يعتبرون بمائة! وفيه: أن الشيء إذا كان فيه شيء من الحق فلا يدل على أنه حق كله، فكثيراً ما يلبِّس أهلُ الضلال الحقَّ بالباطل ليكون أقبل لباطلهم، قال تعالى: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:42]]: ولولا لبس الحق بالباطل ما انطلى كلام أهل الباطل على أحد؛ ولكنهم يلبسون الكلام، ويزينون الأفعال حتى تنطلي على الناس الذين لا يميزون بين الحق والباطل، ولهذا الله جلَّ وعلا يحب البصر والبصيرة عند الفتن، والفتن تكون بالأقوال والأفعال والشهوات والشبهات، وأعظمها فتن الشبهات، وهذه التي يضل بها كثير من الناس، وسبب ذلك تلبيس الكلام بعضه ببعض والتلبيس معناه: أن يحرف الدليل الذي يدل على الحق ويصرفه حتى يكون دليلاً على الباطل، وهذا كثير في الناس جداً، وهو من الإرث الذي ورثوه عن اليهود، والله جلَّ وعلا ذكر عن اليهود أنهم يلبسون الحق بالباطل، وأحياناً يكتمون الحق، فإذا لم يُكتم وأظهروه خلطوه بباطل حتى لا ينتفع به المنتفع، أو يضل الذي يسمعه ويأخذه، والله جلَّ وعلا لا يقبل باطلاً، وإنما الذي يقبله الحق المحض الخالص.(52/8)
أهل الكلام ونهاية المطاف
قال الشارح: [وفي هذه الأحاديث وما بعدها وما في معناها إثبات علو الله تعالى على خلقه على ما يليق بجلاله وعظمته، وأنه تعالى لم يزل متكلماً إذا شاء بكلام تسمعه الملائكة، وهذا قول أهل السنة قاطبة سلفاً وخلفاً، خلافاً للأشاعرة والجهمية ونفاة المعتزلة، فإياك أن تلتفت إلى ما زخرفه أهل التعطيل! وحسبنا الله ونعم الوكيل!] أما كونه يدل على علو الله جلَّ وعلا فهذا ظاهر؛ لأنه ذكر النزول، وذكر أن أول من يسمع حملة العرش الذي هم قرب العرش؛ لأن العرش حوله ملائكة يطوفون به، ويسبحون بحمد الله: {وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:7] ثم بعد ذلك ينفذ إلى أهل السماء السابعة، ثم للتي تليها وهكذا، فهو يدل على علو الله، وعلو الله جلَّ وعلا أمر فطري؛ ولهذا جعل العلماء مسألة العلو من صفات الذات، يعني: أن علو الله ذاتي، بمعنى: أنه لا ينفك عنه بحال من الأحوال، ويكون دائماً هو الأعلى في أي وقت كان، ولا يمكن أن يكون شيء فوقه، تعالى الله وتقدس، والشبه التي أوجدها نفاة العلو هي شبه تطرأ على النفوس والفطر، وإلَّا فالخلق كلهم مفطورون على أن الله عال على خلقه، ولهذا علمهم المرشد إلى الهدى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول أحدهم: سبحان ربي الأعلى في سجوده، إذا جعل رأسه أخفض شيء من بدنه، ووضعه على الأرض، يقول: سبحان ربي الأعلى؛ لأنه هو العالي على كل شيء تعالى وتقدس، وكذلك كل عبد من عباد الله سواءً كان مسلماً أو كان كافراً، إذا احتاج واضطر إلى دعوة الله جلَّ وعلا فإنه يدعو الله من فوق، ما تجده يلتفت يميناً أو شمالاً، ولا أسفل، بل يمد يديه فوق، يقول: يا رب! يا رب! ولا أحد علمه هذا، وإنما هذا شيء موجود في فطرته، ولهذا لما كان إمام الحرمين عبد الملك الجويني في هذا المسجد الشريف -مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم- يقرر ويتكلم في العلم ويقول: كان الله ولا مكان، وهو الآن على ما كان عليه قبل خلق المكان، ويتكلم بمثل هذه الكلمات التي توهِم، فقام رجل أمامه وقال: دعنا من هذا الكلام الذي لا نفهمه، وكثير منا لا يدري ما حقيقته، ولكن أخبرني: عن شيء أجده أنا في نفسي، ويجده كل واحد حتى أنت تجده في نفسك، ما هذه الضرورة التي في قلوبنا إذا دعا أحدنا ربه رفع يديه إلى السماء وقال: يا رب! يا رب؟! كيف ندفعها؟ فوضع يده على رأسه، ونزل من على الكرسي الذي كان عليه، وصار يبكي ويقول: حيَّرني الرجل! فلا يدري ماذا يقول وماذا يجيب لأن عقيدته على خلاف الحق، والوحي الذي جاء من عند الله يتفق تماماً مع الفطرة التي فُطر عليها الناس، وما أكثر ما يذكر الله جلَّ وعلا الأدلة الواضحة الجلية التي تدل على علوه! كما يقول جلَّ وعلا: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ} [الجاثية:2] {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:50]، {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16]، في أشياء لا حصر لها، كلها أدلة صريحة واضحة على علو الله جلَّ وعلا، ومع ذلك يحاول أهل البدع الذين اعتاضوا عن الوحي المعصوم بالآراء التي تخطئ كثيراً، وتضل كثيراً، وصارت عقوبتهم أن تحيَّروا، ثم هذا الذي يقول ذلك عند الموت يتحيَّر، وهذا الجويني عفا الله عنا وعنه كان -في الواقع- يطلب الحق ولكنه ما وجده، ولا قيَّض الله جلَّ وعلا له من يبينه له؛ لأن الإنسان إذا تلقى شيئاً من مشايخه وفي بيئته يصعب أن يهتدي إليه لمجرد أن يسمع نصاً، لأنه يستبعد كثيراً أن يكون المشايخ الذين تلقى عنهم العلم من الصغر تركوا هذه النصوص ولم يفهموها، أو خالفوها، فيحاول أن تكون النصوص متفقة مع ما يقولونه، فكان عند وفاته يقول: يا أصحابي! لا تشتغلوا بالكلام، فوالله لو كنتُ أظن أنه يبلغ بي ما بلغ ما اشتغلت به، ويقول: هأنذا قد تركت أهل الإسلام وعلومهم، وخضت البحر الخضم، والآن إن لم يتداركني ربي فالويل لي، ويقول: هأنذا أموت على عقيدة عجائز نيسابور؛ لأنه من أهل نيسابور.
وكذلك غيره من الأذكياء مثل الفخر الرازي عفا الله عنا وعنه، فإنه حار في آخر حياته، وهو أيضاً من ذلك البلد، وقد كان كثير الكلام جداً؛ وكثير التأويل لكلام الله الصريح، ويصرفه عن ظواهره، وفي النهاية ذكر أنه ألف كتاباً سماه: كتاب اللذات، ثم جاء إلى العلم وقال: لذة العلم، وتكلم بكلام يدل على أنه ما استفاد شيئاً من العلم، وقال فيه: وأرواحنا في وحشة من جسومنا وغاية دنيانا أذىً ووبال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقال إلى آخر ما قال.
فدل على أنه حائر ما استفاد شيئاً.
وذكر المؤرخون أنه كان له تلميذ من أذكى تلامذته، وصار هو خليفته والمرجع في المسائل التي يُختلف فيها في الكلام ونحوه بعد وفاة شيخه، وكان له صديق من الحنابلة، فدخل مرة عليه وهو في مجلسه وحده، وكان مستغرقاً في التفكير، فدخل عليه وسلم، فلم يشعر به لاستغراقه في تفكيره ونظره، فأعاد السلام الرجل مرةً أخرى، فلم يشعر، فأعاد مرة ثالثة، فلم يشعر، فقال في نفسه: ما دهاه؟! وهَمَّ أن ينصرف، عند ذلك رفع رأسه إليه وقال: يا فلان! ماذا تعتقد؟ فضحك عليه ساخراً فقال: ماذا أعتقد؟! أعتقد ما يعتقده المسلمون والحمد لله، فأطرق رأسه وجعل يبكي، ويقول: والله ما أدري ماذا أعتقد؛ لأنه اشتغل بالكلام، وترك كتاب الله، وحديث رسوله صلى الله عليه وسلم الذي فيه الهدى والنور.
وذكروا في ترجمة الرازي أيضاً أنه مرةً في نيسابور كان معه أكثر من ثلاثمائة تلميذ خلفه، خرج بهم إلى السوق، وعجوز في بابها واقفة تنظر، فسألت واحداً منهم فقالت: من هذا الملك؟ فقال: ليس هذا ملكاً، هذا فخر الدين الرازي يعرف على وجود الله ألف دليل، يقول هذا الكلام ليعظمه في نفسها، فضحكت ساخرةً منه وقالت: يعرف ألف دليل؟! وهل وجود الله يحتاج إلى ألف دليل؟! والله لو لم يكن عنده ألف شك ما احتاج إلى أن يعرف ألف دليل! وهذا الجويني الذي يقول: هأنذا أموت على عقيدة عجائز نيسابور، يعني: أنهن يمتن على الفطرة التي فُطِرن عليها، أحسن من الذين توغلوا في علم الكلام الذي يزيد في الشكوك والحيرة.
فلا ينكر علو الله إلَّا من كان بهذه المثابة، تحيَّر وأصبح عنده من الشكوك والريب ما يدفع به النصوص، وإلَّا فالأدلة على وصف الله جلَّ وعلا بأنه يتكلم، وبأنه يسمع ويبصر، وبأنه يَرى، وبأنه يُرى يوم القيامة يراه المؤمنون، بل رؤيته هي أفضل النعيم، وبأنه فوق، وبأنه: (ينزل إلى سماء الدنيا -كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم- كل ليلة ويبسط يده يقول: هل من تائب فيُتاب عليه؟ هل من مستغفر فيُغفر له؟ هل من سائل فيُعطى؟ حتى يطلع الفجر) وهذا كل ليلة.(52/9)
الإيمان بصفات الله فرض فيجب تعليم الناس ما تيسر من ذلك
جاء في رواية في الصحيح: أنه جلَّ وعلا يقول: (لا أسأل عن عبادي غيري، هل من تائب فيُتاب عليه؟ هل من طالب فيُعطى؟ هل من مستغفر فيُغفر له؟) وهذا من كرمه جلَّ وعلا وجوده، وإلَّا فهو ليس بحاجة إلى أحد من الخلق، هو الغني بذاته عن جميع خلقه.
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يخطب في المجامع مبيناً صفات ربه جلَّ وعلا؛ لأن الإيمان بها فرض، فهو يعلم الناس ويخبرهم بذلك، حتى ولو كان في الجمع أعرابي، والأعراب عندهم جرأة بالأسئلة التي لا يستطيع الصحابة أن يسألوا عنها؛ ولهذا يقول عبد الله بن عمر: (إني لأفرح أن يأتي الأعرابي العاقل فيسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نسمع)، وفي رواية: (كان يعجبنا أن يأتي الأعرابي العاقل فيسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نسمع)، فيستفيدون من هذا، ومرة كان يتكلم صلوات الله وسلامه عليه وعنده أعرابي، ولعلهم شكوا إليه تأخر المطر، فقال لهم: (إن الله جلَّ وعلا ينظر إليكم أزلين قنطين فيظل يضحك، يعلم أن فرجكم قريب، فقال له الأعرابي: يا رسول الله! أوَيضحك ربنا؟! قال: نعم.
فقال: إذاً: لا نُعدم خيراً من ربنا إذا ضحك، فأقره الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك) وهذا دليل على أنهم كان إذا سمعوا من الرسول صلى الله عليه وسلم شيئاً يأخذوه على ظاهره، وأن الظاهر هو المراد، والمعطلة ما يقبلون هذه الأشياء، ويقولون: هذا لا يجوز، لا يجوز أن نصف الله جلَّ وعلا بالضحك؛ لأن الضحك كذا، ولأنه كذا، ولأنه كذا، ويأتون بأمور من خصائص المخلوقين، ويجعلونه المانع من وصف الله جلَّ وعلا بهذه الأمور، ومعنى ذلك أن التشبيه أولاً ارتسم في نفوسهم وإن لم يتكلموا به، يعني: أنهم ما عرفوا من أوصاف الله جلَّ وعلا إلَّا ما عرفوه من أنفسهم، فصاروا ينفون هذا الذي استقر في نفوسهم، والله جلَّ وعلا ليس كمثله شيء، لا في ذاته ولا في وصفه ولا في أفعاله، بل ولا في حقه الذي أوجبه على خلقه، فيجب ألَّا يساوَى بأحد من خلقه تعالى وتقدس.
هذا؛ وعلو الله جلَّ وعلا ثابت، والأدلة عليه كثيرة، وهي أنواع وليست أفراداً فقط، وليس المسلم بحاجة إلى أن يستدل على ذلك؛ لأنه فُطر على هذا، ولأنه يؤمن بكتاب الله وبأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما يحتاج الاستدلال على ذلك لمَن تغيرت فطرته بالكلام الباطل الذي يزيده شكاً وحيرة.
هذا؛ والله جلَّ وعلا يتكلم، وكلامه أزلي، والأزل هو: القِدم الذي لا مبدأ له ولا أول له، يعني: الشيء الماضي الذي لم يكن له مبتدأ، هذا معنى الأزل، والله جلَّ وعلا أول بلا بداية، فليس لله بداية، كما أنه جلَّ وعلا آخر بلا نهاية، وهو جلَّ وعلا أول بصفاته، كان قبل خلق هذا الخلق المشاهَد لنا من السماوات والأرض ومن فيهن، ولا يجوز أن يُعطل عن كونه لا يتكلم ولا يسمع ولا يرى، بل هو جلَّ وعلا أزلي بجميع صفاته تعالى وتقدس، يعني: أنه لم يكتسب صفةً جديدة لم تكن له تعالى وتقدس.
ويقال: جنس الكلام: أزلي لا مبدأ له، وأفراده حادثة، مثل تكلمه جلَّ وعلا بالقرآن، فالله تكلم بالقرآن في أوقات معينة، مثل قوله جلَّ وعلا: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة:1].
فـ خولة جاءت إلى النبي حينما ظاهر منها زوجها وهو كبير مسن، وهي كذلك قد كبرت، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تستفتيه وتقول: (يا رسول الله! كيف أصنع؟ ترك صبية، إن ضممتهم إليَّ جاعوا، وإن تركتهم عنده ضاعوا، كيف أصنع؟! فيقول: ما أراكِ إلَّا قد بنت منه، فقالت: إلى الله أشكو، فأنزل الله جلَّ وعلا هذه الآيات)، تقول عائشة رضي الله عنها كما في صحيح مسلم: سبحان الذي وسع سمعه الأصوات، والله إني كنت في طائفة من البيت، وإنه يخفى علي بعض كلامها، فأنزل الله جلَّ وعلا: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} [المجادلة:1]، والبيت الذي تريده عائشة رضي الله عنها عبارة عن غرفة واحدة، وهي الغرفة التي فيها قبره صلوات الله وسلامه عليه، وهي غرفة عائشة ما اتسعت إلَّا للقبور الثلاثة؛ قبر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أبي بكر وعمر فقط، هذا هو البيت، فهي غرفة صغيرة، ومع ذلك تقول: كان يخفى علي بعض كلامها، فأنزل الله جلَّ وعلا: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة:1] وهو فوق عرشه تعالى وتقدس، وهذا شيء معلوم، فإنه لا يخفى على الله جلَّ وعلا شيء، يسمع دبيب النملة على الصفاة في ظلمة الليل.(52/10)
تعليم النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه الصفات
في سنن أبي داود: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في خطبة يخطب ويتكلم على المنبر، فقرأ قول الله جلَّ وعلا: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعَاً بَصِيرَاً} [النساء:134] فوضع إصبعاً واحدةً على عينه والأخرى على أذنه)؛ ليبين أن هذا حقيقة، فالله يرى ويسمع حقيقةً، فهو يعلم المؤمنين ذلك، وهؤلاء النفاة لا يقرون مثل هذا.
وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم جالساً فجاء حبر من اليهود فقال: يا رسول الله! إن الله يضع السماوات على إصبع، والأراضين على إصبع، والجبال على إصبع، والشجر على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، ثم يهزهن ويقول: أنا الملك أنا الملك أين ملوك الدنيا؟! فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لما قال، وقرأ قول الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعَاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67]).
وفي رواية: أن هذا الحبر اليهودي كان يشير بالأصابع ويقول: (يضع السماوات على ذِه، والأراضين على ذِه، ويشير بأصابعه) وقد جاء هذا مسلسلاً بالأئمة، روَوه هكذا.
والمقصود أن ذكر الصفات في تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم وخطاباته كذكرها في كتاب الله، فإن الله ذكرها كثيراً في كتاب الله، فلهذا يقول بعض العلماء: تأويل نصوص المعاد أسهل وأيسر من تأويل نصوص الصفات؛ لأن نصوص المعاد ليست كثيرة كنصوص الصفات، والصحابة رضوان الله عليهم اتفقوا على الإيمان بها ولم يوجد بينهم خلاف في ذلك أبداً، ولن يستطيع الإنسان أن يأتي بمسألة من مسائل الصفات فيها خلاف، أما ما يشغِّب به بعض المشغِّبين الذين فُتنوا باتباع الشبهات من قولهم: إنه وُجد الخلاف بينهم؛ لأنهم اختلفوا هل رأى الرسول صلى الله عليه وسلم ربه أو لم يره ليلة المعراج؟ فهذا ليس من هذا الباب، فهم اختلفوا في هذا أثبت أم لم يثبت؟ أما الصفات فما اختلفوا فيها.
فعلى كل حال فالصفات هي التي تعرف الله جلَّ وعلا بها إلى عباده؛ لأن الله غيب، ما أحد يراه، وليس كمثله شيء فيُقاس على الشيء المشاهَد، فلا يمكن أن يكون هناك طريق للتعرف على صفاته جلَّ وعلا إلَّا بالوحي فقط، فالوحي هو الطريق الوحيد، لا العقل ولا غيره.(52/11)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [53]
الله تعالى يتكلم متى شاء بما شاء، وإذا تكلم بالوحي أخذت السماوات منه رجفة شديدة خوفاً من الله عز وجل، فإذا سمع ذلك أهل السماوات صعقوا وخروا لله سجداً، وهذا يدل على عظمة الله تعالى، وعلى خوف أهل السماوات منه سبحانه.(53/1)
حديث: (إذا أراد الله أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي)
قال المصنف رحمه الله: [وعن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي أخذت السماوات منه رجفة -أو قال: رعدة- شديدة خوفاً من الله عزَّ وجلَّ، فإذا سمع ذلك أهل السماوات صُعقوا وخروا لله سجداً، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل، فيخبره الله من وحيه بما أراد، ثم يمر جبريل على الملائكة، كلما مر بسماء سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول جبريل: قال: {الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:23]، فيقولون كلهم مثلما قال جبريل، فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عزَّ وجلَّ)].
هذا الحديث كالحديث الذي سبق، ولكنه أوضح من الحديث السابق، وقد تقدم الكلام على ما فيه، وأنه يدل على عظمة الرب جلَّ وعلا، ووجوب عبادته وحده، وأن الملائكة يخضعون ويخافون ويُصعقون إذا سمعوا كلامه جلَّ وعلا؛ خوفاً منه وخشيةً له، وأن كلامه يُسمع جلَّ وعلا وأنه عالٍ على خلقه.
قال الشارح: [هذا الحديث رواه ابن أبي حاتم بسنده، كما ذكره العماد ابن كثير في تفسيره.
والنواس بن سمعان -بكسر السين- ابن خالد الكلابي ويقال: الأنصاري صحابي، ويقال: إن أباه صحابي أيضاً.
قوله: (إذا أراد الله أن يوحي بالأمر) إلخ: فيه النص على أن الله تعالى يتكلم بالوحي، وهذا من حجة أهل السنة على النفاة لقولهم: (لم يزل الله متكلماً إذا شاء).
قوله: (أخذت السماوات منه رجفة): السماوات مفعول مقدم، والفاعل: رجفة، أي: أصاب السماوات من كلامه تعالى رجفة أي: ارتجفت، وهو صريح في أنها تسمع كلامه تعالى كما روى ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: (إذا قضى الله أمراً تكلم تبارك وتعالى رجفت السماوات والأرض والجبال، وخرت الملائكة كلهم سجداً).
وقوله: (أو قال: رعدة شديدة) شك من الرواي، هل قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رجفة) أو قال: (رعدة)؟ والراء مفتوحة فيهما].(53/2)
خوف المخلوقات من الله وتسبيحها
قال الشارح: [قوله: (خوفاً من الله عزَّ وجلَّ) وهذا ظاهر في أن السماوات تخاف الله بما يجعل الله تعالى فيها من الإحساس ومعرفة مَن خلقها، وقد أخبر تعالى أن هذه المخلوقات العظيمة تسبحه كما قال تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمَاً غَفُورَاً} [الإسراء:44]، وقال تعالى: {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدَّاً} [مريم:90]، وقال تعالى: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة:74]، وقد قرر العلامة ابن القيم رحمه الله أن هذه المخلوقات تسبح الله وتخشاه حقيقةً مستدلاً بهذه الآيات وما في معناها].
للعلماء في هذا قولان: القول الأول: أن التسبيح ليس حقيقة؛ وإنما معنى ذلك أن من رآها سبح الله؛ لأنها دليل على علو الله جلَّ وعلا وعلى عظمته.
القول الثاني: أن التسبيح يصدر منها حقيقةً بلسان يعلمه الله جلَّ وعلا، وكل شيء على حسب ذلك، وهذا هو الصواب، وقد سُمع الطعام يسبح بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذا الحصى، وكان جذع يابس وُضع ليخطب عليه صلوات الله وسلامه عليه في هذا المسجد، فأمر أن يُتخذ له منبر من الخشب، فلما وُضع المنبر ترك الجذع، فأول ما قام على المنبر ليخطب صار الجذع يحن، فسمعه أهل المسجد كلهم، وكان يحن مثل حنين الناقة إذا فقدت ولدها، حتى نزل صلى الله عليه وسلم والتزمه، فصار يهدأ كما يهدأ الصبي إذا التزمته أمه، فقال: (لو تركتُه لبقي يحن إلى يوم القيامة)؛ بكى لأجل فقد الذكر الذي كان يكون عليه.
وكذلك ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إني لأعرف حجراً في مكة كان يسلِّم عليَّ) أي: يقول: السلام عليك يا رسول الله! حجر يسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم! وقد أخبر الله جلَّ وعلا في كتابه عن أشياء كثيرة تتكلم كقوله: {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت:20 - 21]، فالله ينطق الأشياء كلها، فهي تتكلم وتسبح بحمده.
قال الشارح: [وفي البخاري عن ابن مسعود قال: (كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل)، وفي حديث أبي ذر: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذ بيده حصيات فسُمع لهن تسبيح) الحديث.
وفي الصحيح قصة حنين الجذع الذي كان يخطب عليه النبي صلى الله عليه وسلم قبل اتخاذ المنبر، فمثل هذا كثير.
قوله: (صُعقوا وخروا لله سجداً) الصعوق هو: الغشي، ومعه السجود].(53/3)
فضل جبريل عليه السلام
قال الشارح: [قوله: (فيكون أول من يرفع رأسه جبريل) بنصب (أول): خبر (يكون) مقدماً على اسمها، ويجوز العكس، ومعنى جبريل: عبد الله، كما روى ابن جرير وغيره عن علي بن الحسين قال: كان اسم جبريل عبد الله، واسم ميكائيل عبيد الله، وإسرافيل عبد الرحمن، وكل شيء رجع إلى (إيل)، فهو معبَّد لله عزَّ وجلَّ، وفيه فضيلة جبريل عليه السلام كما قال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير:19 - 21]، قال ابن كثير رحمة الله عليه: إن هذا القرآن لَتبليغ رسول كريم، وقال أبو صالح في الآية: جبريل يدخل في سبعين حجاباً من نور بغير إذن، ولـ أحمد بإسناد صحيح عن ابن مسعود قال: (رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جبريل بصورته وله ستمائة جناح، كل جناح منها قد سد الأفق، يسقط من جناحه من التهاويل والدر والياقوت ما الله به عليم)، فإذا كان هذا عِظَم هذه المخلوقات فخالقها أعظم وأجل وأكبر، فكيف يُسوَّى به غيره في العبادة دعاءً وخوفاً ورجاءً وتوكلاً وغير ذلك من العبادات التي لا يستحقها غيره؟! فانظر إلى حال الملائكة وشدة خوفهم من الله تعالى وقد قال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدَاً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:26 - 29].
قوله: (فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عزَّ وجلَّ من السماء والأرض) وهذا تمام الحديث.
والآيات المذكورة في هذا الباب والأحاديث تقرر التوحيد الذي هو مدلول شهادة أن لا إله إلَّا الله، فإن الملك العظيم الذي تصعق الأملاك من كلامه خوفاً منه ومهابةً، وترجف منه المخلوقات، الكامل في ذاته وصفاته وعلمه وقدرته وملكه وعزه وغناه عن جميع خلقه، وافتقارهم جميعاً إليه، ونفوذ تصرفه، وقدره فيهم لعلمه وحكمته؛ لا يجوز شرعاً ولا عقلاً أن يُجعل له شريك من خلقه في عبادته التي هي حق عليهم، فكيف يُجعل المربوب رباً، والعبد معبوداً؟! أين ذهبت عقول المشركين؟! {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الطور:43]، وقال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدَاً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدَّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدَاً} [مريم:93 - 95] فإذا كان الجميع عبيداً فلِمَ يعبد بعضُهم بعضاً بلا دليل ولا برهان بل بمجرد الرأي والافتراء والابتداع؟ ثم قد أرسل رسله من أولهم إلى آخرهم تزجرهم عن ذلك الشرك، وتنهاهم عن عبادة ما سوى الله.
انتهى من شرح سنن ابن ماجة].(53/4)
مسائل باب قول الله تعالى: (حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم)(53/5)
تفسير قوله: (حتى إذا فزع عن قلوبهم)
قال المصنف: [فيه مسائل: الأولى: تفسير الآية].
الآية هي قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:23]، وسبق أن الضمائر في هذا الخطاب للملائكة، (فزع عن قلوبهم) يعني: عن قلوب الملائكة، والتفزيع هو: إزالة الفزع، فهم يفزعون حينما يسمعون كلام الله فيخرون سجداً ويُغشى عليهم، فإذا ذهب الغُشِي صار بعضهم يسأل بعضاً: ماذا قال ربكم؟ ويجيب المسئول بقوله: قال {الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:23].
[الثانية: ما فيها من الحجة على إبطال الشرك خصوصاً ما تعلق على الصالحين وهي الآية التي قيل: إنها تقطع عروق شجرة الشرك من القلب].
المقصود هذه الآية والتي قبلها، وهي قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} [سبأ:22] إلخ.
[المسألة الثالثة: تفسير قوله تعالى: {قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:23]].
سبق أن هذا قول الملائكة حينما يُكشف عنهم الفزع يعني: الغشي الذي يصيبهم خوفاً من الله جلَّ وعلا، فيتساءلون فيما بينهم حتى ينتهي السؤال إلى جبريل عليه السلام، وهو الذي يتولى الوحي من الله جلَّ وعلا سواءً كان ذلك إلى الملائكة أو إلى البشر، فيقول لهم: قال: الحق، فيقولون كلهم: قال الحق، والله جلَّ وعلا لا يقول إلَّا الحق تعالى وتقدس، ومعنى ذلك: أنه يجب أن يُؤمَن بأن الله يقول قولاً يُسمع، ويَسمَعه مَن يُسمِعه إياه جلَّ وعلا، وأن قوله حق، والحق معناه: الشيء الثابت الذي لا يتزعزع، تقول العرب: حق فلان بالمكان إذا ثبت فيه وأقام، فالحق هو: الثابت، بخلاف الباطل، فإن الباطل يزول ويتزعزع ولا يثبت.
[المسألة الرابعة: سبب سؤالهم عن ذلك].
سبب السؤال هو ما ذكره بعض المفسرين من أنهم يخافون أن يكون هذا الأمر بقيام الساعة؛ لأن الوقت قريب، وهذا كان في أول ما أوحى الله جلَّ وعلا إلى محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن الوقت مقترب، فخشوا أن يكون أمراً إلى إسرافيل بنفخه في الصور، وساعة قيام الساعة هو النفخ في الصور النفخة الأولى، وهي النفخة التي يموت فيها كل حي من خلق الله جلَّ وعلا.
[الخامسة: أن جبريل يجيئهم بعد ذلك بقوله: قال: كذا وكذا.
السادسة: ذكر أن أول من يرفع رأسه جبريل].
جبريل أيضاً يصيبه الصعق، فحينما يسمع أن الله جلَّ وعلا يتكلم بالوحي يُصعق خوفاً من الله جلَّ وعلا، ثم إذا رفع رأسه أوحى الله جلَّ وعلا إليه ما أوحى، وبعد ذلك تسأله الملائكة الأقربون ثم الأقرب فالأقرب، فأول من يسأله ملائكة أهل السماء السابعة.
[السابعة: أنه يقول لأهل السماوات كلهم؛ لأنهم يسألونه].
يعني: حينما يمر بهم يسألونه.
[الثامنة: أن الغشي يعم أهل السماوات كلهم].
وذلك يدل على أن أهل السماوات كلهم يسمعون الصوت الذي يعرفون أنه كلام الله بالوحي؛ ولكن لا يفقهونه، وإنما يسمعون صوتاً كجر السلسلة على الصفوان، فهم يسمعون صوتاً يعلمون أنه كلام لله جلَّ وعلا؛ ولكن لا يميزونه ولا يعلمون ما هو، فيصيبهم الصعق، ثم بعد ذلك يسأل بعضهم بعضاً عنه.(53/6)
ارتجاف السماوات بكلام الله
[التاسعة: ارتجاف السماوات بكلام الله].
يعني: أن السماوات ترتجف، فيصيبها رجفة ورعدة شديدة، وهذا يدلنا على أنه حتى الجمادات تخاف ربها جلَّ وعلا وتخشاه، والسماوات على سعتها وكبرها يصيبها الرعدة أو الرجفة الشديدة، فكيف بالعاقل الذي يخشى أن يعذبه الله جلَّ وعلا إذا لم يلتزم أمره؟ فينبغي أن يكون أشد خوفاً من الشيء الذي لم يعصِ الله مثل الجمادات والسماوات وغيرها، وهذا يدلنا على أنها تحس إحساساً جعله الله جلَّ وعلا فيها على حسب حالها، وإن كنا لا نشعر بهذا الإحساس، وهذا يُنكر؛ لأن هذا شُوهد مثله في الدنيا على الأرض، وقد مضى أن الجذع الذي كان يخطب عليه الرسول صلى الله عليه وسلم -وهو جذع نخلة يابس- حن حينما فقد ذكر الله جلَّ وعلا الذي كان يقال عليه، وكذلك صح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلِّم عليَّ)، حجر كان يسلم على الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول: سلام عليك يا رسول الله، وكذلك صحت الأخبار بأن الطعام كان يسبح وهم يأكلونه، والحصى كان يسبح في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في أصحابه فقال: (بينما راعي في غنمه إذ عدا عليه ذئب فأخذ شاة، فأدركه الراعي وانتزعها منه، فأقعى الذئب على ذنبه وقال: من لها إذا كنتُ أنا الذي أرعاها؟ فقالوا: سبحان الله! ذئب يتكلم! قال صلى الله عليه وسلم: آمنتُ بذلك أنا وأبو بكر وعمر) ولم يكن أبو بكر وعمر يومئذٍ حاضرَين، وفي الصحيحين أيضاً: (أنه صلى الله عليه وسلم ذكر رجلاً كان يسوق بقرة، ثم ركبها، فالتفتت إليه وقالت: لم نخلق لهذا، وإنما خُلقنا للحرث -أي: حرث الأرض- فقالوا: سبحان الله! بقرة تتكلم! قال: آمنت به أنا وأبو بكر وعمر) ولم يكن أبو بكر وعمر حاضرَين في ذلك المجلس.
والمقصود: أن الكلام يحصل من البهيم ومن الجماد إذا أراد الله جلَّ وعلا ذلك، وقد قال الله جلَّ وعلا: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44]، كل الأشياء تسبح الله جلَّ وعلا، ومن العجب أن الله جلَّ وعلا ذكر في كتابه أن كل شيء يسجد لله، كل شيء من الدواب والجبال والشجر ثم قال: {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} [الحج:18]، فالناس فقط أكثرهم لا يسبحون! قال: {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} [الحج:18] أما بقية المخلوقات فكلها تسبح الله وتسجد له، وإنما الذي يعصي ويأبى ذلك كثير من الناس العقلاء، فهم لا يسبحون الله ولا يسجدون له؛ ولهذا حقت عليهم كلمة الله جلَّ وعلا بالعذاب.
[المسألة العاشرة: أن جبريل هو الذي ينتهي بالوحي إلى حيث أمره الله].
جبريل عليه السلام هو الذي يتولى إبلاغ الوحي من الله جلَّ وعلا، فهو أمينه، وقد ذكر الله جلَّ وعلا ذلك في عدة آيات من كتابه.(53/7)
استراق الشياطين للسمع
[الحادية عشرة: ذكر استراق الشياطين].
الشياطين عندما يسترقون السمع لا يصلون إلى السماء كما قد يتصوره من يتصوره، وإنما المراد بكونهم يسترقون السمع من السماء: مجرد العلو؛ لأن كل ما فوق الإنسان فهو سماء، حتى السقف يسمى سماءً، وكل ما فوق رأسك يسمى سماءً، وقد قال الله جلَّ وعلا: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ} [الحج:15] والمعنى: من كان يظن أن الله لا ينصر رسوله فليعجل بقتل نفسه، فليجعل حبلاً في السقف، ثم ليضع هذا الحبل في عنقه، ثم ليقطع حتى يعجل بالموت على نفسه، فإن الله ناصر عبده ولابد.
فالمقصود أنه سمى سقف البيت سماءً فقال: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} [الحج:15] يعني: إلى سقف البيت، فكل ما فوق رأس الإنسان سماء.
[المسألة الثانية عشرة: سبب ركوب بعضهم بعضاً].
يعني: أن الشياطين يركب بعضهم بعضاً حتى يصلوا إلى قرب أدنى مكان يكون فيه الملائكة، وهم يكونون في العنان -يعني: في السحاب- يدبرون أمر الله جلَّ وعلا الذي أمرهم به، وهي الأمور التي يوحيها الله جلَّ وعلا إلى جبريل فيبلغهم إياها، فإذا كانوا في العنان يتكلم بعضهم مع بعض في الأمر الذي أمروا به، فإذا تكلموا استمع ذلك الشيطان الذي يسترق السمع، فأمسك كلمة إما أن تكون بإنزال مطر أو هبوب ريح أو حياة أحد أو موته أو ما أشبه ذلك من الأمور التي يأمر الله جلَّ وعلا بها، وينفذها رسله من الملائكة، فإذا سمعوا هذه الكلمة أسرعوا بها، فيلقيها الأعلى إلى الذي تحته، ثم الذي تحته يلقيها إلى من تحته، وكل ذلك خوفاً من أن يصيبهم الشهاب قبل أن يتمكنوا من إيصالها إلى وليهم من الإنس، وهو الكاهن أو الساحر، وهذا يدلنا على شدة حرصهم على إضلال بني آدم، ويرتكبون المخاطر في ذلك؛ لأنهم يعرفون أن الشهاب يرسل عليهم، فيقتل من يقتل منهم، وأحياناً يذهب عقله، فيصبح لا عقل له، وأحياناً يحرق جزءاً منه.(53/8)
إرسال الشهب على مسترقي السمع
[الثالثة عشرة: إرسال الشهاب].
إرسال الشهب كان منذ أن خلق الله جلَّ وعلا السماوات، وقد ذكر الله جلَّ وعلا أنه خلق النجوم لثلاث حكم نص عليها جلَّ وعلا في كتابه: الحكمة الأولى: أنها زينة للسماء، فإن الذي ينظر إلى السماء يرى زينة السماء بالكواكب كأنها قناديل معلقة في السماء، فالسماء تتزين بها، وهذا من الأدلة على قدرة الله جلَّ وعلا، وعلى أنه هو المقدر الخالق لكل شيء؛ ولهذا يقسم بها جلَّ وعلا لأنها دليل عليه.
الحكمة الثانية: أنها علامات يُهتدى بها في ظلمات البر والبحر، كما قال الله جلَّ وعلا: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل:16].
الحكمة الثالثة: إرصاداً للشياطين الذين يسترقون السمع فيُرجمون بها، فجعلها رجوماً لهم، والرجم يكون من النجوم التي ليست علامات ظاهرة مرئية تُرى وتُعرف، فالنجوم كثيرة جداً، وقد يكون الرجم بأجزاء منها، وقد يكون من غيرها.
[الرابعة عشرة: أنه تارةً يدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وتارةً يلقيها في أذن وليه من الإنس قبل أن يدركه.
الخامسة عشرة: كون الكاهن يصدُق بعض الأحيان].
وصدقه بعض الأحيان هو لهذا السبب، والمراد بالصدق: ما يخبر به عن الأمور المستقبلة، فقد يخبر بشيء مستقبل أو أمور غائبة فيصدق في ذلك، والسبب في هذا: الكلمة التي تسمع من الملائكة؛ ولكنهم يكذبون مع هذه الكلمة، ويضع مائة كذبة مع هذه الكلمة التي يصدق بها، والعجيب أنهم يُصَدَّقون في كذبهم بسبب هذه الكلمة، فإذا قيل: هذا ليس صحيحاً، قالوا: ألم يخبرنا بكذا وكذا وصار كما أخبر؟! فيكون ذلك فتنة لهم.
والكذب هذا يُحتمل أن يكون من الكهنة ويُحتمل أن يكون من الشيطان، وكلاهما يكذب، فالشيطان يكذب على الكاهن، والكاهن يكذب على من يخبرهم.(53/9)
كذب الكهنة
[السادسة عشرة: كونه يكذب معها مائة كذبة.
السابعة عشرة: أنه لم يُصدَّق كذبه إلَّا بتلك الكلمة التي سُمعت من السماء].
وهذا يدل على أن الباطل لو كان خالصاً ليس فيه شيء من الحق لما قُبِل، ولكن يقبل الباطل بسبب أنه يُخلط معه حق، فيلتبس على الناس، فيقبلون الباطل لهذا السبب، فالكاهن لو كان دائماً يكذب ولا يصدق لما قبل منه أحد، ولا ذهب إليه أحد، وإنما يذهب الناس إليه لأنه قد يصدُق.
[الثامنة عشرة: قبول النفوس للباطل، كيف يتعلقون بواحدة ولا يعتبرون بمائة؟].
يعني: النفوس قد تميل إلى الباطل، بل هي جُبلت على ذلك، فتميل إلى ما يلائمها، وهي بطَّالة، ولا تترك البطالة إلَّا بتهذيبها وتأديبها بأدب الوحي، أما إذا خلت من ذلك فهي تميل إلى الباطل وتحبه وتريده؛ ولهذا لا هداية ولا نور وحق إلَّا باتباع الحق الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[التاسعة عشرة: كونهم يتلقى بعضهم من بعض تلك الكلمة، فيحفظونها ويستدلون بها].(53/10)
إثبات الصفات خلافاً للأشعرية
[العشرون: إثبات الصفات خلافاً للأشعرية المعطلة].
في هذا الباب من الصفات أن الله جلَّ وعلا في السماء، وأنه يتكلم، فهاتان الصفتان ظاهرتان من هذه الآية، كونه جلَّ وعلا هو العلي الكبير، وكونه يتكلم بكلام يُسمع؛ ولهذا تقول الملائكة: ماذا قال ربنا؟ والذين ذكرهم من الأشاعرة وغيرهم لا يؤمنون بأن الله يقول قولاً يُسمع، وإنما يقولون: إن كلام الله هو معنىً قائم بذاته والقرآن والتوراة والإنجيل وغيرها من الكتب التي أنزلت على الرسل هي عبارة عن كلام الله، يقولون: عبارة! ومن الذي عبَّر عن كلام الله؟! هذا شيء عجيب! يقولون: إن الله جلَّ وعلا علم بما في نفسه جبريل أو غيره، فأخذ ما في نفسه من المعنى وعبَّر عنه، فيقولون: إن الله جلَّ وعلا جعل في جبريل أو خلق في جبريل الشيء الذي أراد أن يعبر عنه، أراد من جبريل أن يعبِّر عنه فعبَّر عنه، وكل هذا فراراً منهم -زعموا- من التشبيه، فالواقع أنهم وقعوا في التعطيل وفي التشبيه، والذي دعاهم إلى التعطيل هو التشبيه أولاً، وهذا -في الواقع- إنكار للرسالة، وإنكار لكون الله جلَّ وعلا هو الكامل؛ لأن الذي يتكلم أكمل ممن لا يتكلم، وكثيراً ما يعيب الله جلَّ وعلا عبدة الأصنام بأنهم يعبدون من لا يسمع ولا يبصر، ولا يفهم منهم القول ولا يرده، وهذا عيب في المعبود؛ لكونه لا يسمع الكلام ولا يتكلم، ومن المعلوم أنه لو قدر أن مخلوقين من الناس أحدهما يتكلم ويستطيع أن يبين عما في نفسه بالكلام الفصيح والآخر ما يستطيع، فعند كل العقلاء أن المتكلم أكمل ممن لا يتكلم، ثم كيف يكون الإنسان متكلماً بليغاً فصيحاً؟! من الذي خلق هذا؟! من الذي خلق فيه الكلام والمقدرة على البيان؟! فهل الذي خلق فينا الكلام يكون عادماً لصفة الكلام؟! تعالى الله وتقدس.
المقصود: أن الذي دعاهم إلى هذا هو كونهم تركوا كتاب الله جلَّ وعلا، ولم يؤمنوا الإيمان الواجب به وبما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وتعلقوا بما يزعمون أنها براهين عقلية، وهي -في الواقع- وساوس وشكوك ليس إلَّا، ليست براهين، والله جلَّ وعلا يقول: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [السجدة:13]، كيف نقول: لا؟! يقول لنا ربنا هذا ونقول: لا؟! تعالى الله وتقدس، ويقول جلَّ وعلا: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] وهو يسمع كلام الله ممن يبلغه من الرسول أو من غيره، ويقول جلَّ وعلا لما ذكر أنه فضل بعض النبيين على بعض: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمَاً} [النساء:164]، ومن المعروف في لغة العرب أن الكلام إذا أُكد بمصدر فإنه لا يحتمل إلَّا النص الذي نص عليه، ولا يحتمل تأويلاً، فهنا يقول: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمَاً} [النساء:164]، والرسول صلى الله عليه وسلم لما كان في مكة كان يعرض نفسه على القبائل ويقول: (مَن يؤويني حتى أبلغ كلام ربي؟! فإن قريشاً منعتني أن أبلغ كلام ربي) وليس هناك أحد من الكفرة قال: إن الله لا يتكلم، فكيف هؤلاء الذين يأتون فيما بعد ويتركون كتاب الله جلَّ وعلا ويقول أحدهم: إن الله لا يتكلم؟! أخذوا بترهات وشكوك ودعاوى باطلة تخالف نصوص الكتاب والسنة.(53/11)
سبب ضلال الأشاعرة
السبب في ضلال الأشاعرة أنه ارتسم في قلوبهم وفي نفوسهم التشبيه، فقالوا: نحن لا نعرف كلاماً إلَّا بلسان وشفتين وبلهاة وبحنجرة وبحبال صوتية وما أشبه ذلك، فإذا أثبتنا الكلام لزم أن نثبت ذلك لله جلَّ وعلا فيكون هذا تشبيهاً، تعالى الله عن قولهم! فمعنى ذلك أنهم تخيلوا أن كلام الله مثل كلام المخلوق الذي يعرفونه من أنفسهم، فنفوا ذلك بعد هذا التخيل، وهذا باطل مركب، باطل على باطل، فلهذا قال الأشاعرة: إن الكلام ينقسم إلى قسمين: الأول: كلام لفظي مسموع، وهذا مخلوق.
الثاني: كلام نفسي، وهو عبارة عن معنىً واحد يقوم بنفس الله جلَّ وعلا، وهذا هو الذي يثبتونه لله، يعني: معنىً يقوم بنفس الله جلَّ وعلا، وليس هناك شيء يُسمع أو يُتلى، فعلى هذا يكون القرآن الذي يحفظه المسلمون، وكل واحد يرجو من ربه إذا تلا حرفاً منه أن يعطيه بالحرف الواحد عشر حسنات كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ليس كلام الله، وإنما هو كلام البشر سواءً كان كلام جبريل أو كلام محمد صلوات الله وسلامه عليه، ويستدلون بأشياء من المتشابه كقوله جلَّ وعلا: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير:19 - 20]، وفي الآية الأخرى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلَاً مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلَاً مَا تَذَكَّرُونَ} [الحاقة:40 - 42] والمعنى: إنه قول هذا الرسول يبلغه، فالرسول يبلغ الرسالة، لا أن يأتي بالقول من عند نفسه، وإنما يبلغ رسالة أتى بها؛ ولهذا قال: {لَقَوْلُ رَسُولٍ} والرسول يأتي بالرسالة التي أرسل بها، والكلام يضاف ويُنسب إلى من قاله مبتدئاً لا إلى من قاله مبلغاً مؤدياً، وإنما هو لمن قاله أولاً مبتدئاً، ثم إذا كان كذلك فأين تحدي الله جلَّ وعلا للخلق؟! وقوله جلَّ وعلا في آيات عدة: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:23]، وقوله جلَّ وعلا متحدياً الجن والإنس: {قل لو اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرَاً} [الإسراء:88]، فهل ربنا جلَّ وعلا يتحدى الإنس والجن على أن يأتوا بشيء في نفسه؟! هذا لا يمكن أن يقال، ولا يمكن لعاقل أن يصدق به، ثم إن الله جلَّ وعلا لا يجوز أن نتخيل صفاته كصفات المخلوق، وأنه يلزم من كونه يتكلم هذه اللوازم التي ذكروها، وقد أخبرنا الله جلَّ وعلا أن الجلود تتكلم، والأسماع تتكلم، والأبصار تتكلم، فهل يلزم أن يكون للجلد لسان وشفتان ولهاة وحنجرة إلخ؟! لا يلزم، فالله قادر على كل شيء، قادر على أن ينطقها بلا هذه الأشياء، والله جلَّ وعلا ليس له مثيل لا في ذاته ولا في صفاته، ومن المعلوم أن الصفات تتبع الذات، هذا بالنسبة للكلام، فمذهبهم باطل، والواقع أن الذي ينكر كلام الله يلزمه أن ينكر رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرسالة لا بد أن تكون بالكلام، لا بد أن يتكلم المرسل بالأمر والنهي، فيلزم على هذا إنكار الشرع كله.(53/12)
إنكار الأشاعرة لعلو الله على خلقه
مسألة علو الله جلَّ وعلا لا يقر بها الأشاعرة ولا يقولون بها، بل من قال بها رموه بالتشبيه، والسبب في هذا شبهات تنطلي على كثير منهم، أوجدها المتكلمون الذين اعتاضوا عن كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم بمحاكاة الأفكار التي نحتوها من زبالة الأذهان، وهي زبالات في الواقع؛ لأن الإنسان قاصر، وعقله محدود، ولا يستطيع أن يحكم على الله جلَّ وعلا، والله غيب ما أحد شاهده ونظر إليه حتى يستطيع أن يصفه، وهو لا مثل له ولا ند له ولا سمي له تعالى وتقدس، فلا يجوز أن يقاس على غيره من المخلوقات، فعلى هذا لا بد أن تُتَلقى صفاته من الوحي الذي قاله جلَّ وعلا، وأرسل به رسله، حتى لا يكون الإنسان ضالاً، مع أن الله جلَّ وعلا فطر خلقه كلهم على أنه في العلو، ولا يمكن لعاقل بل ولا غير عاقل أن يسأل ربه ويبتهل إليه إلَّا ويجد في نفسه دافعاً يدفعه إلى أنه يطلب ربه من فوق في السماء، وكل أحد يمد يديه إلى السماء ويقول: يا رب يا رب، وليس هناك أحد من الخلق ينكس يديه إلى الأرض ويسأل ربه من تحت، أو يلتفت يميناً أو شمالاً أو خلفه يبحث عن ربه تعالى الله وتقدس، فالله فطر الناس على هذا، وهذا هو الحق، فالله عالٍ على عرشه، وليس فوقه شيء، ولا يمكن أن يكون فوقه شيء تعالى الله وتقدس، أما الترهات والشبهات والأمور التي يقولونها فلا يجوز الالتفات إليها مع قول الله جلَّ وعلا وقول رسوله صلى الله عليه وسلم والفطرة التي فطر الله جلَّ وعلا عليها خلقه، كقولهم مثلاً: (كان الله ولا مكان، وهو الآن على ما كان عليه قبل خلق المكان)، فالله سبق الأمكنة كلها، (كان ولا مكان وهو الآن على ما كان عليه قبل خلق المكان) وهم لا يدرون أين هو الآن! بل يقولون: هو في كل مكان، تعالى الله وتقدس، يعني: حتى في الأماكن التي يُرغب عن ذكرها، تعالى الله وتقدس! ولهذا لما كان أحدهم يجادل أحد العلماء وقال: إنه ليس على العرش، إنه في كل مكان، فقال: أتُراه في جوفك؟ فبُهت.
فتعالى الله وتقدس عن أن يكون في جوف الإنسان! فالواجب أن يؤمن العبد بما قاله الله وقاله رسوله، والصفات تبع لهاتين الصفتين: - العلو.
- والكلام.
وهذا في الواقع الأدلة عليه أكثر من أن تحصى، سواء إثبات الكلام أو إثبات العلو، وقد حاول بعض العلماء أن يحصروا الأدلة فذكروا أكثر من ألف دليل على علو الله؛ ولكن الأدلة أكثر من ذلك، فهم ذكروا بعض الأدلة التي يدخل تحت النوع منها أفراد كثيرة كثيرة.
وليس المسلمون بحاجة إلى الشبه؛ لأنهم يؤمنون بكتاب الله تعالى وبقول رسوله صلى الله عليه وسلم، وبما فطرهم الله جلَّ وعلا عليه، فليسوا بحاجة إلى ذكر مثل هذه الشبه، وإنما يخشى على الإنسان أن يقع نظره على كتاب من كتب هؤلاء فيحصل عنده شيء من الشبه.
[المسألة الحادية والعشرون: أن تلك الرجفة والغشي خوفاً من الله عزَّ وجلَّ الثانية والعشرون: أنهم يخرون لله سجداً].(53/13)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [54]
الشفاعة ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع، وهي لله جل وعلا وحده، وليست ملكاً لأحد من خلقه، ولا حتى للرسول صلوات الله وسلامه عليه، وإنما الله جل وعلا إذا أراد أن يرحم عبده أذن للشافع أن يشفع إكراماً له، ورحمة لذلك المشفوع.(54/1)
الشفاعة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب الشفاعة].
الشفاعة مأخوذة من الشفع، والشفع مقابل الوتر، كما قال الله جلَّ وعلا: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [الفجر:3]، فالشفع: ما كان منضماً إلى الفرد سواءً كان اثنين أو أربعة أو ستة أو ثمانية أو عشرة، هذه تسمى شفعاً.
أما الفرد فهو ما كان منفرداً، وليس المقصود بالشفاعة هنا الشفع الحسابي، وإنما المقصود ضم شيء إلى شيء، سواءً كان شفعاً حسابياً أو فرداً حسابياً، يعني: سواءً كان اثنين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة أو ستة أو سبعة؛ لأن الشفع الحسابي: اثنان وأربعة وستة وثمانية، والفرد الحسابي: واحد وثلاثة وخمسة وسبعة وهكذا، فالمقصود أن الشفاعة مأخوذة من الشفع، وهو ضم دعوة الشافع إلى دعوة المشفوع له، هذا تعريفها الذي أخذت منه، أن يضم الشافع دعوته إلى المشفوع له، فالأصل أن المشفوع له يطلب الحاجة، فيذهب ويطلب من الشافع أن يساعده، فيضم الشافع دعوته إلى دعوة المشفوع له، فبعدما كان فرداً يصبح شفعاً، وهذا لا ينافي أن يكون الشافع اثنين أو ثلاثة أو أكثر.(54/2)
الشفاعة المثبتة والشفاعة المنفية
الشفاعة في كتاب الله جاءت مثبتة ومنفية، فالمثبتة هي: التي تكون بإذن الله جلَّ وعلا وبرضاه، كما قال جلَّ وعلا: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28].
أما المنفية فهي: ما يزعمه الكفار والمشركون من أن أصنامهم ومعبوداتهم تشفع لهم ولو لم يأذن الله جلَّ وعلا، فهذه نُفيت في كتاب الله.
إذاً: الشفاعة اثنتان: مثبتة، ومنفية، الأولى حق ثابتة، والأخرى باطلة وغير واقعة، وهي كل ما زُعم أنه يقع بغير رضاه، أما الواقعة الثابتة فهي ما تكون بعد إذن الرب جلَّ وعلا، ولمن يرضى عنه.
وأصل الشرك من قديم الزمان وحديثه هو بطلب الشفاعة، وتعلق الناس بأذيالها، حيث قاسوا رب العالمين على ما يعهدونه فيما بينهم، فإذا كان هناك رئيس أو ملك فلا يستطيع كل إنسان أن يصل إليه، ولو قدر أن يصل إليه وله طلب يطلبه منه، فقد لا يحصل له ولا يتهيأ له، بخلاف ما إذا طلب من وزيره أو قريبه المقرب عنده أن يشفع له، فإن الغالب أنه يدرك ذلك، ومن هنا اتخذت الشفاعة، وطلبوا الشافعين من الأصنام والأشجار والأموات والملائكة وغيرهم، وإن كان الإنسان غير ملتزم بأمر الله، بل تاركاً أمر الله جانباً، ومرتكباً كل ما نهى الله عنه، ومع ذلك يزعمون أنه يشفع لهم قياساً على ما يشاهدوه في الدنيا، وهذا هو سبب وقوع الخلق في الشرك كما قال الله جلَّ وعلا عن المشركين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] يعني: يتخذون الأصنام من دون الله أنداداً ويقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] يعني: يشفعوا لنا، وكما قال الله جلَّ وعلا: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ} [الزمر:43] (من دون الله)، يعني: بغير إذنه وبغير رضاه، هذا معنى (من دون الله) وكل ما جاء في القرآن في ذكر الشفاعة من دون الله فالمقصود أنها تقع بلا إذنه وبلا رضاه، وهذا لا يمكن، قال: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئَاً وَلا يَعْقِلُونَ} [الزمر:43] يعني: كيف تتخذونهم وتطلبون منهم الشفاعة وهم لا يملكون شيئاً؟! و (شيئاً) نكرة تدخل فيها الشفاعة وغيرها، فكيف يُطلب من الإنسان شيئاً لا يملكه؟! كيف يُطلب من المطلوب منه الشيء الذي لا يملكه؟! هذا ضلال -في الواقع- وخسارة، ثم قال: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعَاً لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزمر:44]، فالشفاعة التي أبطلها جلَّ وعلا هي هذه، وهي كثيرة، فهم -في الواقع- اتخذوا أصناماً على صورة الصالحين، أو على صورة الملائكة، أو على صور ما يتخيلونه من أنه مقدس ومعبود وأنه يقرب إلى الله، اتخذوا هذه فصاروا يدعونها ويتقربون بالجلوس عندها، ومسحها والطواف عليها، والتوجه إليها بالدعوة وغيرها، ويزعمون أنها ستشفع لهم في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فشفاعتها بأن يحصل لهم المطلوب من الغيث أو الرزق أو صحة البدن أو ذهاب المرض أو ما أشبه ذلك من مطالبهم التي يزعمون أنها تحصل لهم إذا سألوها من الميت أو ممن يكون معبوداً لهم، وكل ذلك يزعمون أنه بواسطة الشفاعة؛ لأنه مقرب عند الله، وهو يسأل ربه، وهذا السؤال هو الشفاعة، فيتوسط لهم ويسأل الله، والواقع أن هذا شرك وتنقُّص لرب العالمين جلَّ وعلا، وهو ناتج من سوء الظن بالله جلَّ وعلا؛ لأن الذي يطلب الشفاعة من دون الله إما أنه يتصور أن الله لا يسمع، وإنما سيسمع بواسطة هذا المدعو إذا دعاه وطلب منه، أو يتصور أنه لا يرحم عبده إلَّا أن يجعله ذلك الشافع عاطفاً على هذا الطالب فيرحمه، أو يتصور أنه لا يعلم حاجات الناس والخلق إلَّا أن يعلم بها مثلما يكون للملوك وغيرهم، فإنهم لا بد أن يُبلَّغوا بشئون الناس؛ لأنهم لا يعرفونها.
وكل هذه ظنون فاسدة؛ وكلها مما يدعو إلى الشرك وتنقُّص الله جلَّ وعلا.
فالمقصود أن الشفاعة على نوعين: نوع شركي، وهو الذي وقع فيه المشركون.
ونوع حق، قد أثبته الله جلَّ وعلا في كتابه، وأثبته رسوله صلى الله عليه وسلم، وأخبر أنه سيقع.
والمؤلف ذكر الشفاعة في هذا الكتاب ليبين الحق في ذلك؛ لأن المسلم يجب أن يميز بين الحق والباطل، فيكون عنده فرقان في ذلك، فيتبع الحق خوفاً من أن يقع في شيء من الباطل فيضل.(54/3)
تفسير قوله تعالى: (وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ)
قال الشارح: [قوله: باب الشفاعة أي: بيان ما أثبته القرآن منها وما نفى وحقيقة ما دل القرآن على إثباته.
قال المصنف رحمه الله تعالى: وقول الله عزَّ وجلَّ: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأنعام:51]].
يقول الله جلَّ وعلا: (وَأَنذِرْ بِهِ) يعني: بالقرآن، فالضمير يعود على القرآن، والإنذار هو الإعلام عن أمرٍ مَخُوْفٍ يُتوَقَّع وصولُه إلى الإنسان، {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا} [الأنعام:51] فهؤلاء هم الذين ينتفعون بالنذارة، الذين يخافون ربهم ويعلمون أنهم يُحشرون إلى الله، والحشر هو: الجمع بعد التفرق، والمقصود بـ (الحشر): أنهم يُخرجَون من قبورهم بعد موتهم فيُجمعون في صعيد واحد يقومون فيه لرب العالمين، {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6]، وهو يوم القيامة، وهذا اليوم هو الذي أخبر الله جلَّ وعلا أنه يوم عبوس قمطرير، وشره مستطير، وأنه يوم ثقيل على الخلق، فالله جلَّ وعلا يأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن ينذر أهل الخوف والإيمان والقرآن هذا اليوم فقال: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} [الأنعام:51] أي: يخافون أن يُجمعوا للحساب والمجازاة ثم إسكانهم دورهم الأبدية، وليس هناك إلَّا الجنة أو النار فقط، فبعد هذا الموقف ينصرفون إلى مساكنهم، فريق ينصرف إلى جهنم وفريق ينصرف إلى الجنة.
{وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [الأنعام:51] هذا في الذين يخافون ربهم، ليس لهم من دون الله ولي ولا شفيع، هؤلاء مؤمنون فكيف المشركون والكافرون؟ والولي المقصود به من يتولى الشخص، ويقوم بشئونه أو يحميه من المخوف أو يدفع عنه بعض الضرر، فيوم القيامة ليس هناك أحد من هذا النوع، لا يوجد ولي يتولى شئونك، ولا يوجد من يدافع عنك، ولا من يجلب لك منفعة أو يدفع عنك مضرة وإن قلَّت، كل واحد يأتي إلى ربه في ذلك الموقف فرداً كيوم ولدته أمه، لا لباس ولا شراب ولا طعام ولا نعال، ولا شيء كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (تُحشرون حفاةً عراةً غُرلاً، فقيل: وما غُرلاً؟ قال: غير مختونين) وفي رواية: (بُهماً، فقيل: وما بُهماً؟ قال: ليس معهم شيء) وعائشة رضي الله عنها قالت للرسول صلى الله عليه وسلم: واسوأتاه! يحشر الرجال والنساء بعضهم ينظر إلى بعض؟! -ليس هناك لباس أصلاً- فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (يا عائشة! الأمر أعظم من ذلكِ) يعني: ما أحد يهمه النظر، ولا أحد ينظر إلى أحد، كل واحد شاخصٌ بصره، تكاد تبلغ القلوب الحناجر من الخوف، ولا يدري من بجواره.
فالمقصود: أن الله جلَّ وعلا خوف المؤمنين هذا اليوم، وليس لأحد منهم من دون الله ولي ولا شفيع، وإذا كان المؤمن ليس له شفيع من دون الله، فكيف بالكافرين؟! وليس معنى هذا أن الشفاعة منفية، ولكن الشفاعة تكون بعد إذن الله، وحقيقة الأمر أن الشفاعة لله، وليست ملكاً لأحد، لا للرسول صلى الله عليه وسلم ولا لغيره، وإنما الله جلَّ وعلا إذا أراد أن يرحم عبده أذن للشافع أن يشفع إكراماً له، ورحمةً لذلك المشفوع، هذه هي حقيقة الشفاعة، فحقيقتها أن الله جلَّ وعلا إذا أراد رحمة المشفوع أذن للشافع أن يشفع إظهاراً لكرامته فقط، وإلَّا فالأمر كله بيد الله.
فمعنى هذه الآية: أن الشفاعة لا يملكها أحد، وإنما هي بيد الله جلَّ وعلا، فالمؤمنون الأتقياء لا يملكون الشفاعة دون الله لا لهم ولا لغيرهم، وليس لهم من دون الله ولي ولا شفيع.
وقوله: (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) يعني: يستشعرون هذا في قلوبهم، ويعلمونه ويوقنون به، فيكون باعثاً لهم على تقوى الله، والتقوى حقيقتها: فعل المأمور واجتناب المحظور، هذا حقيقة التقوى، وقد قال الله جلَّ وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] قال ابن مسعود: أن يُطاع فلا يُعصَى، وأن يُشكَر فلا يُكفَر.
يُطاع بلا معصية، وأن يُشكَر على نعمه ولا يُكفَر؛ ولكن جاءت الآية الأخرى تبين المعنى أيضاً وهي قوله جلَّ وعلا: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] فهذه الآية تبين أن التقوى المطلوبة هي حسب الاستطاعة، والله لا يكلف نفساً إلَّا وسعها، لا يكلف الإنسانَ شيئاً لا يستطيعه فلله الحمد والمنة، تعالى وتقدس.
فالمقصود: أن هذه الآية تبين أن المؤمنين الأتقياء الخائفين ينتفعون بالنذارة بالقرآن، وأنه ليس لهم من دون الله ولي ولا شفيع، فكيف بمن يطلب الشفاعة من الأموات أو من الأحياء أو من الشجر أو من غيرها؟! كيف تكون له شفيعاً؟! ليس لهم في طلبهم هذا إلَّا الإبعاد، فطلبهم هذا يبعدهم عن الله جلَّ وعلا، ويكون سبباً لتعذيبهم؛ لأنه شرك.
وكونه في هذه الآية وجه النذارة بالقرآن إلى من يخشى الله دليل على أن النذارة الحقيقية هي التي يُنتفع بها، وإلَّا فالرسول صلى الله عليه وسلم منذر للجميع، لكل أحد، لكل الثقلين من الجن والإنس المؤمنين والكفار؛ ولكن هذه نذارة خاصة، فهي أخص من النذارة العامة، فهو نذير للعالمين، والعالَمون هم العقلاء من الجن والإنس، فهو نذير لهم، يعني: أنه ينذرهم عذاب الله جلَّ وعلا إن لم يؤمنوا.(54/4)
أقوال السلف في تفسير الآية
قال الشارح: [قوله: وقوله الله عزَّ وجلَّ: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [الأنعام:51] الإنذار هو: الإعلام بأسباب المخافة والتحذير منها.
قوله: (بِهِ) قال ابن عباس: بالقرآن.
وعن الفضيل بن عياض: ليس كل خلقه هكذا، إنما عاتب الذين يعقلون فقال: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} [الأنعام:51] وهم المؤمنون أصحاب القلوب الواعية.
قوله: {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [الأنعام:51] قال الزجاج: موضع (ليس) نُصب على الحال كأنه قال: متخلين من كل ولي وشفيع، والعامل فيه: (يخافون)].
يعني: أنه ليس لهم في ذلك اليوم ولي ولا شفيع؛ ولكن هذا معناه أنهم في ذلك اليوم وفي غيره في جميع أحوالهم متخلون عن كل شيء مما يزعمه الكفار والمشركون، فهم لا يتولون إلَّا الله جلَّ وعلا، ولا يطلبون الشفاعة إلَّا من الله، فإذا طلبوها طلبوها من الله، فيقولون: اللهم شفِّع فينا الشفعاء، اللهم ارزقنا شفاعة الشفعاء، اللهم أدخلنا في شفاعة سيد الخلق، وهكذا، يطلبونها من الله ولا يطلبونها من أحد من الخلق، وهذا هو الطلب الصحيح، فمن طلبها على هذا الوجه يوشك أن يدركه، وأن يُعطاها، أما إذا طلبها من المخلوق فيكون طلبه من المخلوق سبباً في منعه إياها؛ لأنه حق لله جُعل للمخلوق، فصار شركاً بالله جلَّ وعلا.
[قوله: (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أي: فيعملون في هذه الدار عملاً ينجيهم الله به من عذاب يوم القيامة].
وهذا يدلنا على أن (لعل) للترجي، والله جلَّ وعلا لا يخفى عليه شيء تعالى وتقدس، فهو علام الغيوب، وإنما هذا على وفق ما في لغة العرب.(54/5)
تفسير قوله تعالى: (قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًَا)
قال المصنف رحمه الله: [وقوله تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعَاً} [الزمر:44]].
قبل هذه الآية قوله جلَّ وعلا: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئَاً وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعَاً لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزمر:43 - 44].
قوله: (أَمِ اتَّخَذُوا) يقول المفسرون: إذا جاءت (أم) فمعناها: (بل) يعني: (بل اتخذوا من دون الله شفعاء) واتخاذهم الشفعاء أنهم يزعمون أنها تشفع لهم ولو لم يأذن الله جلَّ وعلا، ولو لم يرضَ عن المشفوع له، هكذا زعموا؛ ولهذا صار ذلك شركاً حيث إنه -على حد زعمهم- يقع شيء لا يأذن الله جلَّ وعلا به ولا يريده، ثم إن الشفاعة التي اتخذوها جعلوا الشفيع الذي زعموه بمنزلة الله جلَّ وعلا بحيث إنه يُدعى ويُسأل الشفاعة، يقال له: اشفع لنا عند الله، فالشفاعة هي الدعاء والطلب، والدعاء والطلب يجب أن يكون ممن يملك الشفاعة، وكل مَن دون الله جلَّ وعلا لا يملك شيئاً من ذلك، فالشفاعة لله جميعاً يعني: لا أحد من الخلق يملك شيئاً من الشفاعة.
{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ} [الزمر:43] يعني: أنهم قد وقعوا في هذا، وهذا أمر باطل قد حرمه الله جلَّ وعلا، وجعله سبباً لمنع الشفاعة، فالمتخذون للشفاعة -في الواقع- عملوا عملاً يمنعهم من الشفاعة، وهو أنهم يطلبون الشفاعة من غير الله جلَّ وعلا، والمفروض أن الذي يُطلب منه نفع يكون مالكاً لذلك النفع أو الذي يُطلب منه دفع ضرر يكون قادراً ومستطيعاً لدفع ذلك الضرر، والله جلَّ وعلا يقول: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئَاً} [الزمر:43] و (شيئاً) هنا: نكرة، يعني: ليس بأيديهم أي نفع يملكونه ويعطونه هذا السائل، ثم زاد على ذلك وصفهم بأنهم لا يعقلون؛ لأنهم إما جماد أو أموات أو جن غائبون لا يعرفون شيئاً من ذلك أو أنهم شجر أو غير ذلك.
(ولا يعقلون) بمعنى: لا يعلمون شيئاً مما في نفوس الناس من حاجاتهم؛ لأن هذا إلى الله جلَّ وعلا، ثم بعد هذا يقول جلَّ وعلا: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعَاً} [الزمر:44] فليس لأحد من دون الله شفاعة، وهذا يبين أن الشفاعة لا يجوز طلبها إلَّا من الله جلَّ وعلا، وهذا لا ينافي كون الحي الحاضر الذي يُرجى قبول دعوته يُطلب منه الدعاء، فإن هذا شفاعة، والصحابة رضوان الله عليهم كانوا يفعلون ذلك في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، كانوا يطلبون منه أن يدعو لهم، وأن يشفع لهم كما هو معروف، فهذا لا ينافي هذا؛ لأن الداعي يدعو الله، والذي يرجى قبول دعوته يسأل الشيء الذي يملكه وهو الدعاء فقط، فيسأله الدعاء والطلب من الله، ولا يسأله أن يشفع له الشفاعة التي يعتقد المشركون أنها تقع ولو لم يأذن الله، ولو لم يرضَ عن المشفوع له، وإنما يسأله الدعاء؛ لأنه يرجو أن تُستجاب دعوته، ومن هذا القبيل ما شرعه الله جلَّ وعلا للمسلمين بأن يدعوا للميت في الصلاة عليه، فإنها شفاعة يشفعون له إلى الله جلَّ وعلا ليغفر ذنبه ويتجاوز عن سيئاته وإلخ، فهذه شفاعة قد تُقبل وقد لا تُقبل، فالأمر كله لله جلَّ وعلا، وإذا طُلبت الشفاعة من الله يكون هذا من الأسباب التي يرحم الله جلَّ وعلا بها مَن سُئلت له.
إذاً: حقيقة الشفاعة أنها بيد الله جلَّ وعلا إذا شاء أن يرحم عبده جعل له سبباً من الأسباب مثل: دعوة المؤمنين له، أو دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم له؛ ولكن الله جلَّ وعلا أخبرنا أن الشفاعة لا تنفع إلَّا لمن رضي قوله، والرسول صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة وضح هذا وبينه بحيث إنه لم يترك الأمر فيه التباس أو اشتباه، ففي الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لكل نبي دعوة تَعَجَّلها -يعني: دعا بها على قومه- وقد اختبأت دعوتي شفاعةً لأمتي، فهي نائلة إن شاء الله كل من مات لا يشرك بالله شيئاً) فأخبر بأن شفاعته تكون لأهل التوحيد الذين لا يشركون بالله شيئاً، أما الذي يسأل الشفاعة من الميت سواءً كان نبياً أو ولياً على حد زعمه أو ملكاً من الملائكة أو شيئاً لا يعقل، فإنه -في الواقع- أشرك بالله، فصار قد جاء بسبب يمنعه من قبول الشفاعة؛ لأنه وقع في الشرك، وهذا هو الذي دلت عليه الآيات ودل عليه قوله في هذه الآية: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئَاً وَلا يَعْقِلُونَ * قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعَاً} [الزمر:43 - 44] فالشفاعة مُلك لله، ولا يأذن جلَّ وعلا للشافع أن يشفع إلَّا إذا شفع لمن رضي الله جلَّ وعلا عنه، {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28]، {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:23] فالإذن شرط في الشفاعة، والرضا عن المشفوع له شرط آخر، ويبقى شرط ثالث وهو: أن يكون المشفوع له متبعاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يتديَّن ولا يتعبَّد بشرع يخترعه من عنده ويبتدعه، فالشفاعة من التوحيد، وهي تدل على أن الأمر كله بيد الله جلَّ وعلا، وعلى أنه جلَّ وعلا يتفضل على من يشاء بالإذن لمن يريد أن يكرمه، فيأذن له بالشفاعة فيشفع.(54/6)
تفسير قوله تعالى: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ)
قال الشارح: [وقوله: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعَاً} [الزمر:44]، وقبلها: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئَاً وَلا يَعْقِلُونَ} [الزمر:43]، وهذه كقوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس:18]].
معنى هذه الآية ظاهر، وقد قال الفخر الرازي عند تفسيرها لما ذكر الشرك وأنواعه قال: ومن هذا القبيل: الذين يذهبون إلى القبور ويطلبون شفاعة المقبورين، فإنهم قد وقعوا في الشرك الأكبر؛ ولكن معنى قوله جلَّ وعلا: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} [يونس:18] يعني: أن الله جلَّ وعلا لا يعلم أن الشفاعة هذه التي تزعمون تقع، والشيء الذي لا يعلمه الله لا وجود له، ولا حقيقة له، فالمعنى: أنه جلَّ وعلا يقول: هذا الطلب وهذا الزعم لا وجود له ولا حقيقة له، فكيف تتعلقون بشيء تتوهمونه وهو من الأسباب التي تمنع وصول الخير والسعادة إليكم؟! وقوله جلَّ وعلا: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ} [يونس:18] هذا يشمل كل ما عُبد من دون الله سواءً كان حياً أو ميتاً، سواءً كان من الملائكة أو من البشر أو من الجن أو من الجمادات وغيرها، كلها لا تنفع ولا تضر، والمنفعة والمضرة كلها بيد الله، فالعبادة يجب أن تكون لمن يملك النفع والضر، والله جلَّ وعلا هو الذي بيده ملكوت كل شيء، وكل مخلوق هو عبد له، لا يملك معه شيئاً، فالتوجه إلى مخلوق من المخلوقات وطلب الشفاعة منه ضلال وحرمان، لتعذيب من يقع فيه.(54/7)
ضلال المشركين في باب الشفاعة
قال الشارح رحمه الله: [فبين تعالى في هذه الآيات وأمثالها: أن وقوع الشفاعة على هذا الوجه منتفٍ وممتنع، وأن اتخاذهم شفعاء شرك يتنزه الرب تعالى عنه، وقد قال تعالى: {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانَاً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأحقاف:28]].
معنى قوله: (فَلَوْلا نَصَرَهُمُ) يعني: هلَّا نصرهم لما جاءهم العذاب ووقع فيهم عذاب الله لماذا لم تنصرهم آلهتهم؟! وقوله: {بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ} [الأحقاف:28] يعني: ذهبوا أصبحت دعوتهم ضلالاً، يعني: لا قيمة لها، وتبين أن الأمر كله بيد الله؛ ولكن هناك لا ينفع الإنسان إذا تبين له أنه قد ضل؛ لأنه لا يُقبل منه الاستعتاب ولا يفيده الندم، وليس بإمكانه أن يرجع مرةً أخرى إلى الدنيا أو إلى عمر جديد فيعمل غير الذي كان يعمل، وإنما يزداد عذاباً على عذاب، يعني: حسرات مع العذاب الذي يلاقيه.
قال الشارح رحمه الله: [فبين تعالى: أن دعواهم أنهم يشفعون لهم بتألههم: أن ذلك منهم إفك وافتراء.
وقوله تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعَاً} [الزمر:44] أي: هو مالكها، فليس لمن تُطلب منه شيء منها، وإنما تُطلب ممن يملكها دون كل ما سواه؛ لأن ذلك عبادة وتأليه لا يصلح إلَّا لله، قال البيضاوي: لعله ردٌّ لما عسى أن يجيبوا به وهو: أن الشفعاء أشخاص مقربون].
يعني: يقدر أنهم يقولون: الشفعاء ذو جاه عند الله مقربون، والله ملَّكهم الشفاعة وإن كانت لله؛ ولكن الله جلَّ وعلا أعطاهم الشفاعة! والقرآن يرد هذا، يقول الله جلَّ وعلا: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعَاً} [الزمر:44] وقد أخبر جلَّ وعلا أن كل طلب يُطلب من غير الله فهو ضلال، وأن ذلك سبب لمنع الشفاعة، ففي الواقع: هم يؤتَون من قِبل أنفسهم، فإنهم يأتون بالأسباب التي تمنع الشفاعة وهم يزعمون أنها شفاعة! والسبب في ذلك جهلهم أو عنادهم وتركهم ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم.(54/8)
الشفاعة كلها لله سبحانه
قال الشارح رحمه الله: [وقوله تعالى: {لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزمر:44] تقرير لبطلان اتخاذ الشفعاء من دونه؛ لأنه مالك الملك، فاندرج في ذلك ملك الشفاعة، فإذا كان هو مالكها بطل أن تُطلب ممن لا يملكها: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28] قال ابن جرير: نزلت لما قالت الكفار: ما نعبد أوثاننا هذه إلَّا ليقربونا إلى الله زلفى، قال الله تعالى: {لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزمر:44].
قال المصنف رحمه الله تعالى: وقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]].
(مَن) هذه: استفهامية للإنكار، يُنكر جلَّ وعلا أن تقع الشفاعة عنده إلَّا بإذنه، وذلك من تمام ملكه وعظمته، بحيث لا يجرؤ أحد من خلقه أن يشفع قبل أن يأذن له، وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم هذا في حديث الشفاعة فقال: (أَخِرُّ ساجداً لربي جلَّ وعلا، فيفتح عليَّ من المحامد والثناء ما الله به عليم، ثم يقول: ارفع رأسك، واشفع تشفَّع -قبل أن يقول: اشفع تشفَّع لا يشفع- يقول: ثم يحد لي حداً ويقول: هؤلاء اشفع فيهم) فإذاً: أصبح الأمر كله بيد الله، الشافع لا يشفع إلَّا إذا أذن له ولا يشفع إلَّا في الذين يحدهم له ويقول: اشفع في هؤلاء؛ ولهذا قال العلماء: حقيقة الشفاعة هي: رحمة الله جلَّ وعلا للمشفوع له، وإظهار كرامة الشافع فقط، فليس للخلق شيء مع الله، والذي يزعم أن المخلوق يمكن أن يتقدم ويطلب طلباً مستقلاً بدون أن يأمره الله جلَّ وعلا بذلك فمعنى ذلك: أنه ما قدَّر الله حق قدره ولا عرف عظمته، وهذا قد نفاه الله جلَّ وعلا في هذه الآية: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] يعني: أنه لا يقع، وأنه لا يجرؤ أحد من الخلق سواء كانوا ملائكة أو أنبياء أو غيرهم، ما أحد يجرؤ أن يشفع عنده إلَّا إذا أذن له، فالشفاعة لا تقع من أحد من الخلق: لا الرسل ولا الملائكة ولا غيرهم إلَّا إذا أمرهم الله جلَّ وعلا أن يشفعوا، والإذن هنا المقصود به: الأمر؛ أن يأمرهم ويقول: اشفعوا، وأمره إياهم ليظهر كرامتهم أمام الخلق وإلَّا فالأمر كله بيد الله، ولهذا يحد لهم الحد فيقول: اشفعوا في كذا وكذا، يعني: الذين يُشفع لهم معيَّنون، وهذا يدلنا على أن الأمر كله لله جلَّ وعلا، وهذا معنى قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] والإذن هو: الأمر، فإذا أمره أن يشفع شفع، أما قبل الأمر فلا أحد يجرؤ على الشفاعة.
وبهذا يتبين ضلال الذين يزعمون أنهم إذا طلبوا الشفاعة من شخص من الأشخاص يحسنون الظن به أن ذلك يحصل، وزعموا أن لهذا الشافع ما لله من الملك، وبذلك وقعوا في الشرك.(54/9)
شروط وقوع الشفاعة
قال الشارح رحمه الله: [وقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]: قد تبين مما تقدم من الآيات: أن الشفاعة التي نفاها القرآن هي التي تُطلب من غير الله، وفي هذه الآية: بيان أن الشفاعة إنما تقع في الدار الآخرة بإذنه كما قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلَاً} [طه:109] فبين أنها لا تقع لأحد إلَّا بشرطين: إذن الرب تعالى للشافع أن يشفع.
ورضاه عن المأذون بالشفاعة فيه].
قوله: {إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلَاً} [طه:109] أما الإذن فهو للشافع، وأما الرضا فهو عن المشفوع له، والله جلَّ وعلا لا يرضى إلَّا التوحيد، أما الشرك فلا يرضاه، فمعنى ذلك أن الشفاعة تكون لأهل التوحيد، وهذا بُيِّن في الأحاديث بياناً واضحاً، فلما قال أبو هريرة: (يا رسول الله! من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: من قال: (لا إله إلَّا الله) خالصاً من قلبه) يعني: أنه ليس عنده شيء من الشرك، ولا التعلق بغير الله، وكذلك الحديث الذي ذكرنا وفيه: (فهي نائلة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئاً) فتبين أنه إذا مات الإنسان مشركاً بالله شيئاً أنه لا تنفعه الشفاعة ولهذا يقول: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48]، ويقول جلَّ وعلا في آيات كثيرة: {وَاتَّقُوا يَوْمَاً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئَاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} [البقرة:48]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} [البقرة:254] فالشفاعة التي نفاها جلَّ وعلا هي: التي يتعارفها الناس وتقع لبعضهم من بعض، ولو لم يكن المشفوع عنده آذناً أو راضياً؛ وهذا لنقص الإنسان؛ لأن الإنسان يحتاج إلى الناس الآخرين، ولو كان ملكاً، يحتاج إلى مساعدة وزرائه وأمرائه وأعوانه، وإذا لم يقبل شفاعتهم يخشى أن ينتقدوا عليه، وألَّا يؤدوا الواجب من النصح له وما يريد، فيقبل شفاعتهم مضطراً، وقد يقبل المخلوق شفاعة زوجته أو شفاعة ابنه أو شفاعة أخيه أو قريبه أو صديقه؛ لأنه يحتاج إليهم، أما رب العالمين جلَّ وتقدس فهو الغني بذاته عن كل ما سواه، وكل من سواه فقير إليه، فالملك كله بيده، وله تمامه، ولهذا صار طلب الشفاعة من غيره شرك؛ لأنه جعل ما هو حق لله سبحانه للمخلوق، وهذا سبب في منع الشفاعة التي يزعم أنها تقع له؛ لأنه ارتكب المانع من قبل نفسه، وخالف ما جاء عن الله جلَّ وعلا، ولأنه لم يعرف الله جلَّ وعلا حق المعرفة، ولم يجعل له الحق الذي أوجبه عليه، فصرف بعضه للمخلوق، فاستحق بذلك الحرمان.
قال الشارح رحمه الله: [وهو تعالى لا يرضى من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة إلَّا ما أريد به وجهه، ولقي العبد به ربه مخلصاً غير شاك في ذلك، كما دل على ذلك الحديث الصحيح، وسيأتي ذلك مقرراً أيضاً في كلام شيخ الإسلام رحمه الله.
قال المصنف رحمه الله تعالى: وقوله: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئَاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:26]].
قوله: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ} [النجم:26] (كم) هذه: خبرية، ومعناها: كثير، أي: كثير من الملائكة، والملائكة أخبر الله جلَّ وعلا عنهم أنهم: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، وأنهم: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:20] لا يفترون أبداً، دائمون في التسبيح والتهليل والعبادة، ولا يعصون الله طرفة عين، ومع هذه العبادة وهذا العمل الدائم في طاعة الله جلَّ وعلا لا تنفع شفاعتهم عند الله لأحد إلَّا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء منهم أن يشفع، ولمن شاء أن يشفعوا له، فهذا كالآية السابقة يبين جلَّ وعلا فيها أن المقربين عنده لا تنفع شفاعتهم ولا تجزئ لأحد، ولا يستطيع أحد أن يتقدم للشفاعة إلَّا إذا أذن له جلَّ وعلا، والإذن هو أمره بأن يشفع، وأن الشفاعة لا تقع منهم ولا من غيرهم إلَّا لمن رضي الله جلَّ وعلا عنه.
إذاً: تكون الشفاعة -بدليل هذه الآيات- لأهل التوحيد، الذين يموتون على التوحيد، فهم الذين تنفعهم شفاعة الشافعين، وذلك من فضل الله فيأمر الشافعين أن يشفعوا لهم؛ لإظهار كرامتهم فقط، وإلَّا فالأمر لله جلَّ وعلا.
أما المشرك الذي يدعو غير الله فهذا لا تنفعه شفاعة الشافعين، كما أخبر الله جلَّ وعلا بذلك في آيات متعددة كثيرة.(54/10)
أقسام الشفاعة في كتاب الله
تبين لنا أن الشفاعة في كتاب الله قسمان: شفاعة منفية لا تقع، وهي: التي تُطلب بغير إذنه جلَّ وعلا، ولمن يكون مشركاً.
وشفاعة واقعة وهي: أمر الله جلَّ وعلا للشافع أن يشفع، وتكون لمن رضي الله عنه.
قال الشارح رحمه الله: [قال ابن كثير رحمه الله: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئَاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:26] كقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:23] فإذا كان هذا في حق الملائكة المقربين فكيف ترجون أيها الجاهلون شفاعة هذه الأنداد عند الله، وهو لم يشرع عبادتها ولا أذن بها بل قد نهى عنها على ألسنة جميع رسله، وأنزل بالنهي عن ذلك جميع كتبه؟!].(54/11)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [55]
الشفاعة لله جميعاً، وقد ضل من طلبها من غير الله تعالى، فإن سبب شرك المشركين هو طلبهم الشفاعة من آلهتهم الباطلة، وأسعد الناس بالشفاعة من قال: لا إله إلا الله مخلصاً بها من قلبه.(55/1)
تفسير قوله تعالى: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:22 - 23]].
هذه الآية توضح وتبين أن طلب الشفاعة من غير الله ضلال وشرك، وأن الذي يُدعى أو يُطلب يجب أن يكون مالكاً لما يُدعى من أجله، فإن لم يكن مالكاً يكون مشاركاً للمالك، وهذا أقل درجة، فإن لم يكن مشاركاً للمالك يكون مساعداً ومظاهراً له ومعاوناً له، فإن لم يكن كذلك -يعني: انتفت الأمور الثلاثة- ينبغي أن يكون شافعاً كما يقع من الوزارء والكبراء لمن يكون عنده أمر من أمور الناس يطلبونه، فنفى الله جلَّ وعلا ذلك، وأن هذا لا يقع إلَّا بإذنه، فنفى على التدريج: نفى الأعلى، ثم ما دونه، ثم ما دونه، ثم نفى الشفاعة: {قُلِ ادْعُوا} [سبأ:22] وهنا: (قل) الأمر للتعجيز يعني: يأمر الله جلَّ وعلا نبيه أن يقول للمشركين الذين يزعمون أن أصنامهم تشفع لهم، على حسب اختلافها؛ لأنه عُلم أن المدعوات من دون الله مختلفة، فمنهم من يدعو شجراً، ومنهم من يدعو حجارةً، ومنهم من يدعو الجن، ومنهم من يدعو الأنبياء، ومنهم من يدعو الملائكة، ومنهم من يدعو أجراماً من أجرام السماء كالشمس والقمر والنجوم وغيرها، وكلهم سواء، وكلهم يشملهم هذا الخطاب، وهذا الأمر: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} [سبأ:22] (زعمتم) يعني: أن دعوتهم هذه كذب؛ وذلك لأن المدعو من دون الله ما يملك شيئاً، وليس إلهاً، فتسميتهم آلهة من الكذب الذي افتروه على الله جلَّ وعلا؛ ولهذا قال جلَّ وعلا: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا} [النجم:23] يعني: أسماء وضعتموها على مسميات لا حقيقة لها، وليس لها شيء من هذه التسمية في الحقيقة.
{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} [سبأ:22] وغالباً إذا جاءت كلمة (زعم) فالمقصود بها: الكذب، فهم يكذبون في أن هذه آلهة، ويكذبون في أنها تملك شيئاً.
{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [سبأ:22] يعني: غير الله، وقد دعوتموهم وهم عباد مسخرون مقهورون ذليلون لا يملكون شيئاً.
{لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} [سبأ:22] ومعنى ذلك: أنهم ليس لهم ملك القليل الحقير في الدنيا ولا في الآخرة، حتى في الدنيا ما يملكون شيئاً إلَّا أن يملِّكهم الله جلَّ وعلا إياه، أما إذا منعهم الله جلَّ وعلا فلا يستطيعون شيئاً، ثم هذا الملك الذي يملِّكهم إياه يُسلب منهم، فيذهبون إلى قبورهم وليس معهم شيء، ثم يخرجون من قبورهم إذا بعثهم الله جلَّ وعلا عندما يريد ذلك، وليس معهم شيء، ولا يملكون لأنفسهم شيئاً، ويأتون إلى الله جلَّ وعلا فرادى: ملوكهم ورؤساؤهم وأغنياؤهم، كلهم يأتي فرداً ليس معه لا ولد ولا خادم ولا صديق ولا مال ولا أي شيء، وإنما يأتي إلى الله فرداً ذليلاً خاضعاً، فكيف يشفع؟! ومن أين له ذلك؟! {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} [سبأ:22] إذا كان المدعو لا يملك شيئاً فكيف يُدعى؟! هذا كلام الله جلَّ وعلا، وهو شامل لكل مدعو من دون الله، هذه الدرجة الأولى.
ثم الدرجة الثانية: أنه قد يقال: هم لا يملكون شيئاً ولكن يشاركون المالك، فنفى الله جلَّ وعلا ذلك، فقال: {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ} [سبأ:22] يعني: ما لهم في السماوات والأرض من اشتراك مع المالك الذي هو الله جلَّ وعلا.
هذه الدرجة الثانية.
ثم قد يتصور متصور: أنهم إذا كانوا لا يملكون، وليس لهم اشتراك مع المالك فقد يكونون مقربين عنده أو يكونون مساعدين له، فنفى ذلك جلَّ وعلا فقال: {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبأ:22] يعني: ليس للمالك منهم مظاهر يعني: مساعد ومعاون، فنُفي الملك، ونُفي الاشتراك، ونُفيت المساعدة، فماذا بقي؟ بقيت الشفاعة، فقال: {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:23] وهذه الجملة تدل على شيئين: تدل على أن الشفاعة بلا إذن الله جلَّ وعلا باطلة ومنفية وغير واقعة.
وتدل على أن الشفاعة التي تكون بإذنه واقعة.
والشفاعة التي تكون بإذنه تكون لمن يرضى عنهم، والله جلَّ وعلا لا يرضى الشرك ولا يرضى عن المشرك، بل حرم الجنة على المشرك لما قال جلَّ وعلا: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة:72].
فتبين بهذا أن طلب الشفاعة من غير الله شرك، والمشرك محروم من ذلك.(55/2)
كلام ابن القيم حول هذه الآية
قال الشارح: [وقوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:22 - 23] قال ابن القيم رحمه الله تعالى في الكلام على هذه الآيات: وقد قطع الله الأسباب التي يتعلق بها المشركون جميعها، فالمشرك إنما يتخذ معبوده لما يحصل له من النفع، والنفع لا يكون إلَّا ممن فيه خصلة من هذه الأربع: إما مالك لما يريده عابده منه.
فإن لم يكن مالكاً كان شريكاًً للمالك.
فإن لم يكن شريكاً له كان معيناً له وظهيراً.
فإن لم يكن معيناً ولا ظهيراً كان شفيعاً عنده.
فنفى الله سبحانه المراتب الأربع نفياً مرتباً، منتقلاً من الأعلى إلى الأدنى، فنفى الملك والشركة والمظاهرة والشفاعة التي يطلبها المشرك، وأثبت شفاعةً لا نصيب فيها لمشرك وهي الشفاعة بإذنه.
فكفى بهذه الآية نوراً وبرهاناً، وتجريداً للتوحيد، وقطعاً لأصول الشرك وموادّه لمن عقلها.
والقرآن مملوء من أمثالها ونظائرها، ولكن أكثر الناس لا يشعرون بدخول الواقع تحته وتضمُّنه له ويظنونها في نوع وقوم قد خلوا من قبل ولم يعقبوا وارثاً، فهذا هو الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن، ولَعَمْرُ الله إن كان أولئك قد خلوا فقد ورثهم من هو مثلهم أو شر منهم أو دونهم، وتناوُل القرآنِ لهم كتناوُله لأولئك.
ثم قال: ومن أنواعه -أي: الشرك-: طلب الحوائج من الموتى والاستغاثة بهم، وهذا أصل شرك العالَم، فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، فضلاً عمن استغاث به وسأله أن يشفع له إلى الله، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده، فإنه لا يقدر أن يشفع له عند الله إلَّا بإذنه، والله لم يجعل استغاثته وسؤاله سبباً لإذنه، وإنما السبب كمال التوحيد، فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن، وهو بمنزلة من استعان في حاجته بما يمنع حصولها، وهذه حالة كل مشرك.
فجمعوا بين الشرك بالمعبود وتغيير دينه، ومعاداة أهل التوحيد، ونسبة أهله إلى التنقُّص بالأموات، وهم قد تنقَّصوا الخالق بالشرك، وأولياءه الموحدين بذمهم وعيبهم ومعاداتهم، وتنقَّصوا من أشركوا به غاية التنقُّص، إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا، وأنهم أمروهم به، وأنهم يوالونهم عليه، وهؤلاء هم أعداء الرسل في كل زمان ومكان، وما أكثر المستجيبين لهم!].
يعني: أن هؤلاء الذين يطلبون من الأموات والأولياء الشفاعة، إذا نهاهم أهل الحق عن ذلك قالوا: أنتم لا تحبون أولياء الله، أو لا تحبون أنبياء الله! كالذي يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم الشفاعة، فإذا قال له إنسانٌ: هذا ما يُطلب إلَّا من الله، ولا يجوز أن تطلبه من الرسول قال له: أنت ما تحب الرسول! أو أنت تتنقَّص الرسول! وما أشبه ذلك، وهذا من الجهل؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يرضى إلَّا ما رضي الله جلَّ وعلا وأمر الله به، وقد أمره الله جلَّ وعلا أن يبلغ الناس وأن يُعْلِمهم أن الشافعة ملك لله جلَّ وعلا وحده، وأنه من حق الله.
أما تنقُّصهم مَن يدعونه ويتشفعون به فمعناه: أنهم يظنون أنهم راضون عنهم بذلك، وأولياء الله وأنبياؤه لا يرضون بهذا، بل إذا اجتمعوا بهم يوم القيامة يتبرءون منهم، ويعادونهم أشد العداء، ويبرءون إلى الله من أفعالهم.
وأما ظنهم السيئ بالله جلَّ وعلا فهو أنهم ظنوا أنه يمكن للمخلوق أن يشفع لإنسان ولو لم يكن الرب جلَّ وعلا راضياً عنه، وهذا من قياسهم الخالق على المخلوق تعالى الله وتقدس، وهذا غاية التنقُّص.
فمعنى ذلك: أنهم ما عرفوا الله ولا عرفوا قدره، فوقعوا في هذه الأمور التي فيها تنقُّص المؤمنين الموحِّدين وتنقُّص الأولياء والرسل، وفيها إساءة الظن بالله جلَّ وعلا، وفيها الوقوع في الشرك، وعدم معرفة حق الله، حيث صرفوا ما هو من خالص حقه إلى مخلوق لا يملك مع الله شيئاً.(55/3)
سبيل النجاة من الشرك الأكبر
قال رحمه الله: [وما نُجِّي من شَرَك هذا الشرك الأكبر إلَّا من جرد توحيده لله، وعادى المشركين في الله، وتقرب بمقتهم إلى الله، واتخذ اللهَ وحده وليه وإلهه ومعبوده].
وهذا واجب، وهو من مقتضى الإيمان: كونه يبغض المشرك ويمقته، وبغضُه ومقتُه لأجل الله جلَّ وعلا؛ لأن الله يبغض ذلك المشرك ويمقته، فهو يحب ما يحبه الله ويكره ما يكرهه الله، فالله جلَّ وعلا يأمره بهذا ويتبع ذلك ويتقرب بذلك إلى الله، ولهذا يقول جلَّ وعلا: {لا تَجِدُ قَوْمَاً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22] يعني: ولو كان أقرب قريب إليك ووقع في شيء من ذلك فإنه فرض عليك أن تبغضه وتمقته وتتقرب إلى الله جلَّ وعلا ببغضه، والإيمان ينتفي إذا لم يحصل ذلك، قال الله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمَاً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ} [المجادلة:22] ويقول جلَّ وعلا: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدَاً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4] وهذا كثير في القرآن، يبين الله جلَّ وعلا أن هذا مقتضى الإيمان، وأن الذي لا يحصل ذلك منه، فإيمانه غير صحيح، فالله قطع الصلة بين المؤمن وبين المشرك والكافر، فالصلة مقطوعة نهائياً، وإنما الرابطة بين المؤمن وبين أخيه المؤمن ولو لم يكن بينه وبينه نسب، فالمؤمنون إخوة يتوادُّون فيما بينهم ويتعاونون على البر والتقوى.
أما إذا كان أخوك مشركاً أو كافراً فإنه يجب عليك أن تقطع الصلة بينك وبينه، وأن تجعل بدل الصلة العداوة والبغضاء.
قال رحمه الله: [فجرَّد حبَّه لله، وخوفَه لله، ورجاءَه لله، وذلَّه لله، وتوكلَه على الله، واستعانتَه بالله، والتجاءَه إلى الله، واستغاثتَه بالله، وقصدَه لله، متبعاً لأمره، متطلباً لمرضاته، إذا سأل سأل الله، وإذا استعان استعان بالله، وإذا عمل عمل لله، فهو لله وبالله ومع الله.
انتهى كلامه رحمة الله عليه.
وهذا الذي ذكره هذا الإمام في معنى هذه الآية هو حقيقة دين الإسلام، كما قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينَاً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفَاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَاً} [النساء:125].
قال المصنف رحمه الله تعالى: قال أبو العباس: نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون، فنفى أن يكون لغيره ملك أو قسط منه، أو يكون عوناً لله.
ولم يبق إلَّا الشفاعة فبين أنها لا تنفع إلَّا لمن أذن له الرب، كما قال: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28] فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة، كما نفاها القرآن، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (يأتي فيسجد لربه ويحمده، لا يبدأ بالشفاعة أولاً، ثم يُقال له: ارفع رأسك، وقل يُسمع، وسل تُعطَ، واشفع تشفَّع).
وقال أبو هريرة له صلى الله عليه وسلم: (من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: من قال: (لا إله إلَّا الله) خالصاً من قلبه) فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله، ولا تكون لمن أشرك بالله، وحقيقته: أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص، فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع؛ ليكرمه وينال المقام المحمود.
فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك، ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تكون إلَّا لأهل التوحيد والإخلاص.
انتهى كلامه].
أبو العباس هي كنية شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهذا الكلام في معنى الآية السابقة: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:22 - 23] فهو يقول: إن الله جلَّ وعلا نفى أن يكون أحد من الخلق يملك شيئاً من دونه، ونفى أن يكون له اشتراك في هذا الملك، ونفى أن يكون أحد من الخلق مساعداً أو معاوناً لله تعالى وتقدس، ونفى أن تقع الشفاعة لأحد من الخلق إلَّا إذا أذن له.
وهذه الشفاعة التي نفاها هي: ما يزعم المشركون أنها تقع لمن طلبوا منه الشفاعة استقلالاً، فأخبر جلَّ وعلا أن هذا شرك، وأنه يمنع حصول الشفاعة، بل يمنع ألَّا يُعذَّبوا، فهم من المعذَّبين؛ لأنهم مشركون، ثم بين أن الشفاعة لله، كما جاء في الأحاديث التي أخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لا يطلب الشفاعة استقلالاً، وإنما أول ما يفعل: أنه يسجد لربه جلَّ وعلا ويحمده ويثني عليه، وأنه لا يرفع رأسه حتى يأمره جلَّ وعلا بذلك، ولا يشفع حتى يقول له جلَّ وعلا: (اشفع) فعند ذلك يشفع.
وقوله: (فحقيقتها) يعني: حقيقة الشفاعة هي رحمة الله جلَّ وعلا للمشفوع، وإظهار كرامة الشافع، يعني: أمرُه بالشفاعة وقبول شفاعته ليظهر كرامته، فإذاً: هي رحمة من الله للشافع وللمشفوع له، والأمر كله بيد الله.(55/4)
الشفاعة الكبرى هي المقام المحمود لنبينا عليه الصلاة والسلام
المقام المحمود الذي وعد الله جلَّ وعلا بينه في قوله: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامَاً مَحْمُودَاً} [الإسراء:79] معنى (محمود): أنه يُحمد على هذا المقام، والصحيح أن المقام المحمود هو الشفاعة الكبرى في الموقف؛ حتى يفصل الله بين عباده ويحاسبهم، وليس فيها أنه يشفع في قوم معينين، بل شفاعة عامة، يشفع إلى الله أنه يأتي ليحاسِب خلقه، وهذا لإظهار كرامته فقط، حتى يبلغ المقام المحمود؛ ولأن الله جلَّ وعلا أراد أن يريح المؤمنين من عناء هذا الموقف، ويدخل الكافرين في جهنم بعدما وقفوا وقوفاً طويلاً وعظيماً، وهذا جاء تفصيله في الأحاديث الصحيحة: أن الله جل وعلا إذا أراد محاسبتهم ألهمهم أن يسألوا الشفاعة من الأنبياء، والأنبياء معهم يخاطبونهم، فيطلبون منهم قائلين: اسألوا الله أن يأتي ليفصل بيننا، وليس هذا مثل سؤالهم وهم في قبورهم؛ لأنهم واقفون معهم، فالموقف فيه الأنبياء وفيه الشهداء وفيه العلماء إلخ، فلهذا أول من يذهبون إليه: آدم؛ لأنهم يتشاورون فيما بينهم بعدما يلهمهم الله جلَّ وعلا ذلك، ولا يلزم أن يكون ذلك لأهل الموقف كلهم، وإنما يكون للبعض، فإذا تشاوروا فيما بينهم قالوا: (ليس هناك أحد أولى من أبيكم آدم؛ لأن الله خلقه بيده، وأسجد له ملائكته، وأسكنه جنته، فيذهبون إليه -وهو واقف معهم- فيخاطبونه ويقولون: يا آدم! أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وأسكنك جنته، ألا ترى ما نحن فيه؟! اشفع لنا عند الله ليحاسبنا فيريحنا من هذا الموقف، فيقول: لستُ كما تظنون، أنا عصيت ربي وأكلت من الشجرة، فأخرجني من الجنة؛ ولكن اذهبوا إلى نوح فإنه أول رسول أرسله الله جلَّ وعلا إلى الأرض، وقد سماه الله جلَّ وعلا عبداً شكوراً، فيذهبون إليه ويطلبون منه مثلما طلبوا من آدم، فيعتذر ويقول: إني دعوت على قومي دعوة أُغرقوا بسببها، وإني سألت ربي ما ليس لي به علم، ولا أسأل اليوم إلَّا نفسي، اذهبوا إلى غيري) ومقصودُه بهذا: قوله فيما أخبر الله جلَّ وعلا عنه: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} [هود:45] لأن الله جلَّ وعلا وعده أن ينجيه وأهله، فقال الله جلَّ وعلا له: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي} [هود:46 - 47] إلى آخر الآية، فهذا الذي جعله يعتذر، وقد غفر الله له وعفا عنه واجتباه، ولكن الموقف هائل، فيرسلهم إلى إبراهيم ويقول: (اذهبوا إلى إبراهيم فإنه خليل الرحمن، فيذهبون إليه ويطلبون منه ذلك، فيعتذر، ويرسلهم إلى موسى ويقول: إن الله فضله على خلقه بكلامه حيث كلمه بلا واسطة، فيذهبون إليه ويعتذر، فيرسلهم إلى عيسى)، واعتذار إبراهيم يقول: (إني كذبت ثلاث كذبات)، وموسى يقول: (إني قتلت نفساً بلا حق)، وهذا قبل النبوة، وقتله إياه كان خطأً، أما الكذبات التي ذكرها إبراهيم عليه السلام فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنها كلها في ذات الله) يعني: في مجادلته الكفار وفي دعوته إلى إقامة دين الله، وهي أيضاً من المعاريض وليست كذباً صريحاً، وهي قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89] وقوله: {فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء:63] وقوله في زوجته للظالم الفاجر الكافر: إنها أختي، وقد قال لها: أنت أختي في الإسلام؛ لأنه لو قال: إنها زوجته لأخذها ظلماً، فهذه سماها كذباً من باب التجوُّز، وإلَّا فلها وجه صحيح قد عذر بها إبراهيم عليه السلام؛ ولكن الموقف شديد، وأما موسى عليه السلام فإنه ضرب الرجل بيده، وَكَزَه بيده ولم يرد قتله، فمات بهذه الوكزة، فقتله كان خطأً، والخطأ معفوٌّ عن المخطئ يعني: ما يكون مثل الذي يفعله عمداً، وكان هذا قبل النبوة أيضاً، وقد أخبر الله جلَّ وعلا أنه غفر له، فإنه طلب من ربه أن يغفر له ذلك، فغفر له، فأخبره أنه قد غفر له، ومع ذلك يعتذر ويقول: (إني قتلت نفساً بلا نفس، فيرسلهم إلى عيسى، فإذا أتوا إلى عيسى عليه السلام لا يذكر ذنباً ولكنه يعتذر، ويقول: لستُ كما تظنون، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم وهو خاتم الرسل، وهو الذي يشفع لكم، فيذهبون إليه، فإذا أتوا إليه يقول صلى الله عليه وسلم: أخرج في سماطين من المؤمنين -يعني: في صفين يخرجون معه من الموقف- يقول: فإذا رأيت ربي خررت ساجداً، فيَدَعُني ما شاء الله أن يدَعَني، ويفتح عليَّ من المحامد والثناء ما لا أحسنه الآن.
جاء: أنه يُترك ساجداً قدر جمعة -أسبوع وهو ساجد-، ثم بعد ذلك يقول الله جلَّ وعلا له: أيْ محمد! ارفع رأسك، واسأل تُعْطَ، واشفع تشفَّع، فيشفع في أن الله جلَّ وعلا يأتي ليفصل بين عباده، فيعده الله جلَّ وعلا بذلك فيأتي لفصل القضاء)، هذه هي الشفاعة الكبرى، وهي المقام المحمود، حيث يحمده كل أهل الموقف، وهذا فضل الله فهو الذي أذن له بذلك، وهو الذي أقامه هذا المقام، فالأمر كله بيد الله جلَّ وعلا.
وهذه الشفاعة متفق عليها بين أهل السنة وأهل البدع، حتى الذين ينكرون الشفاعة من المعتزلة والخوارج يقرُّون بهذه الشفاعة، وأما التي أنكروها فهي: الشفاعة في أهل الذنوب، وكونهم يُخرجون من النار، أو كونهم يُمنعون دخول النار، وهم يستحقونها بذنوبهم، فهذه أنكرها هؤلاء.(55/5)
مسائل باب الشفاعة(55/6)
تفسير آيات الشفاعة
قال المصنف رحمه الله: [فيه مسائل: الأولى: تفسير الآيات].
الآيات في الشفاعة كثيرة، لكن المقصود: الآيات التي ذكرها، وإلَّا فالآيات في الشفاعة كثيرة جداً، وتفسيرها -والحمد لله- واضح.
فإن الآية الأولى التي ذكرها: قوله جلَّ وعلا: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعَاً} [الزمر:44] وتفسيرها يتبين بذكر الآية التي قبلها؛ لأن الآية التي قبلها يذكر الله جلَّ وعلا فيها: أن المشركين اتخذوا شفعاء؛ وزعموا أن شفاعتهم تقع ولو لم يأذن الله جلَّ وعلا، فأبطل الله جلَّ وعلا ذلك فقال: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئَاً وَلا يَعْقِلُونَ} [الزمر:43] يعني: كيف يشفعون وهم لا يملكون شيئاً؟! و (شيء) هنا: دخل فيها الشفاعة وغيرها، ومع ذلك لا يعقلون؛ لأنهم جماد ما بين شجر أو حصى: إما حصى كاللات، أو شجر كالعُزَّى وما أشبه ذلك، أو أصنام مثل كونهم يبنون الصنم بأيديهم ثم يزعمون أنه يشفع لهم! ثم قال: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعَاً} [الزمر:44] فقوله: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ} [الزمر:44] يدل على أن الشفاعة كلها ملك لله، ثم أكد ذلك بقوله: {جَمِيعَاً} فدل على أنه لا أحد يملك الشفاعة من دون الله جلَّ وعلا، فالشفاعة لله، وإذا أراد جلَّ وعلا أن يكرم أحداً من عباده أذن له بالشفاعة، ولكن فيمن يحدُّهم له، يقول: (هؤلاء اشفع فيهم)، وليست الشفاعة إلى الشافع.
وكذلك الآية التي ذكرها بعدها وهي قوله جلَّ وعلا: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] تبين أن الشفاعة لا تقع عند الله جلَّ وعلا إلَّا إذا أذن، وهذا أيضاً مثل قوله: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعَاً} [الزمر:44] فهو لا يأذن إلَّا لمن رضي عنه، ولا يمكن للشافع أن يشفع إلَّا إذا أذن له، والإذن هو: الأمر بأن يشفع، فأصبح الأمر كله الله.
وكذلك الآية الثالثة وهي قوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:22 - 23] فيتبين بها أن الأمر كله لله جلَّ وعلا، وأن هؤلاء الذين يُزعم أنهم يشفعون لا يملكون مثقال ذرة لا في السماء ولا في الأرض، لا يشتركون في ملك المالك، وليس له منهم مساعد أو مظاهر أو معاون تعالى وتقدس، فالأمر كله لله جلَّ وعلا.
فيتبين بذلك أن الذي يدعو شافعاً ويطلب منه أن يشفع له ولو لم يأذن الله له أنه مشرك؛ لأنه جعل ما لله لغيره، ولهذا قال: {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:23].
فتبين من هذه الآيات أن الشفاعة قسمان: القسم الأول: شفاعة منتفية وهي: التي يطلبها الطالب بدون إذن الله، وسواءً كان الذي تُطلب منه الشفاعة نبياً أو ملَكاً أو ولياً أو غير ذلك، فهذه منتفية، وهي الشفاعة التي زعمها الكفار في شركهم؛ لأن شركهم كله في الشفاعة، فالذين عبدوهم -يعني: دعَوهم- زعموا أنهم يشفعون لهم فقط، فما كان أحد منهم يقول: إن الأصنام أو غيرها ممن يُدعى من دون الله يملك مع الله شيئاً، وإنما يطلبون منها الشفاعة فقط، {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] وتبين بهذا أن طلب الشفاعة من غير الله رأساً شرك، كأن يأتي الإنسان إلى شخص ميت أو قبر أو غيره فيقول: يا فلان! اشفع لي، فهذا هو شرك المشركين.
القسم الثاني: الشفاعة المثبتة وهي: التي تقع بأمر الله ولمن رضي الله عنه، قال الله: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28]، {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28].(55/7)
صفة الشفاعة المنفية
[المسألة الثانية: صفة الشفاعة المنفية].
صفة الشفاعة المنفية هي: الشفاعة التي يزعمون أنها تقع ولو لم يأذن الله وهي: أن تكون للمشركين؛ لأن الشفاعة خاصة للموحدين، أما المشرك فلا تناله شفاعة الشافعين.(55/8)
صفة الشفاعة المثبتة
[الثالثة: صفة الشفاعة المثبتة].
وصفة الشفاعة المثبتة هي: التي تقع إذا أذن الله للشافع أن يشفع، والمشفوع معين يعينه الله، ويقول للشافع: (هؤلاء اشفع فيهم) كما جاء ذلك صريحاً في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (فيحد لي حداً فيقول: هؤلاء اشفع فيهم).
[المسألة الرابعة: ذكر الشفاعة الكبرى، وهي المقام المحمود.
الخامسة: صفة ما يفعله صلى الله عليه وسلم: أنه لا يبدأ بالشفاعة، بل يسجد فإذا أُذن له شفع].
يعني: أنه يبدأ بالسجود أولاً، ويثني على الله ويمجده، ثم إذا أمره الله جلَّ وعلا وقال: (اشفع) شفع، أما قبل ذلك فما يشفع، وهذا من معنى قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] والمعنى: ما أحدٌ يشفع عند الله إلَّا بعد أن يأذن له، وهذا من عظمة الله جلَّ وعلا وتمام ملكه.(55/9)
أسعد الناس بالشفاعة
[المسألة السادسة: مَن أسعد الناس بها؟].
أسعد الناس بها: أهل الإخلاص، ولا يلزم من هذا أن يكون أهل الإخلاص هم السابقون إلى الجنة؛ لأنه قد يكون العبد مخلصاً وتكون عنده ذنوب، فيستوجب بهذه الذنوب الدخول في النار، فيُشفع له ألَّا يدخل النار، أو يدخل النار، ثم يُشفع له أن يخرج منها؛ لأنه قد يترك واجبات وقد يفعل محرمات، والواجبات التي يفعلها يكون مخلصاً فيها لله.(55/10)
الشفاعة لا تنال المشرك
[المسألة السابعة: أنها لا تكون لمن أشرك بالله].
الشفاعة لا تنال المشرك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم -كما تقدم- قال: (كل نبي له دعوة فعجّلها في قومه) يعني: أن يدعو على قومه أن يُصابوا بالعذاب العام، كما فعل نوح عليه السلام فقال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارَاً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرَاً كَفَّارَاً} [نوح:26 - 27]، فاستجاب الله جلَّ وعلا له، وأغرق أهل الأرض جميعاً بدعوته، وكذلك غيره من الأنبياء، فكل نبي له دعوة فعجَّلها، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (واختبأت دعوتي شفاعةً لأمتي، فهي نائلة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئاً)، فبين أنها لأهل الإخلاص لأهل التوحيد، أما الذي يشرك بالله شيئاً فهو ليس أسعد الناس بها بل هو أتعسهم.
ومن المعروف أن السعادة تتفاوت، فهذه في المذنبين سواءً دخلوا النار أو لم يدخلوها، أما أسعدهم بها مطلقاً فهم السبعون ألفاً الذين يسبقون إلى الجنة بلا حساب ولا عذاب؛ لأنهم لا يُدخلون الجنة إلَّا بعد الشفاعة بعد أن يشفع صلوات الله وسلامه عليه، فيأتي الله جلَّ وعلا ليفصل بين عباده ويحاسبهم، فإذا جاء ذهب هؤلاء إلى الجنة، وأول من يذهب إلى الجنة: هؤلاء السبعون ألفاً، وكذلك السابقون، والله جلَّ وعلا قد قسم الناس إلى أقسام ثلاثة: قسمين أهل سعادة.
وقسم أهل شقاء.
فأهل السعادة هم: السابقون وأصحاب اليمين.
فالسابقون هم الذين يسبقون الناس إلى الجنة، ومنهم السبعون ألفاً، فهؤلاء هم أسعد الناس على الإطلاق بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم العظمى الكبرى التي يشفع فيها ليحاسَب الناس.
أما الشفاعة التي تكون في أهل الذنوب سواءً استوجبوا دخول النار، فشُفع فيهم فلم يدخلوها، أو أنهم دخلوا النار فشُفع فيهم بعدما دخلوا النار، فكلهم سعداء بها؛ ولكن أسعد اسم تفضيل، يعني: الذين يسبقون إلى الجنة على الإطلاق.(55/11)
حقيقة الشفاعة
[المسألة الثامنة: بيان حقيقتها].
حقيقة الشفاعة: أن الله يرحم المشفوع، ويُظهر كرامة الشافع، وإلَّا فالشافع لا يؤثر في الله شيئاً، فإنه ما شاء فعل، وما لم يشأ لم يفعل، وإنما المقصود فقط: إظهار كرامته، وليس معنى الشفاعة أنه: إذا شفع أثر في الله في أن يفعل شيئاً ما يريد فعله، تعالى الله! هذا ما يكون إلَّا في المخلوق فقط، أما الخالق جلَّ وعلا فهو لتمام ملكه لا أحد يملك الشفاعة عنده، وإنما حقيقتها: أن الله يرحم عبده، ويظهر كرامة الشافع، وإلَّا فكل الأمر بيد الله جلَّ وعلا.(55/12)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [56]
قسم العلماء رحمهم الله الهداية إلى قسمين: هداية توفيق، وهذه لا تكون إلا لله عز وجل، والهداية الثانية: هداية دلالة وتوجيه وإرشاد، وهذه تكون للنبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الدعاة والمرشدين.(56/1)
قوله تعالى: (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء)
قال المصنف رحمه الله: [باب قول الله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56]].
هذا الباب ترجمه بهذه الآية، وغالب الكتاب يترجمه بآيات، ثم يذكر آية بعدها أو آيتين أو حديث فقط، فهو كتاب يعتمد على كتاب الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، وليس فيه آراء ولا ذكر قول فلان وفلان، وهو أيضاً مختصر جداً وواضح، بحيث إنه يمكن للإنسان أن يحفظه في أيام قلائل.
ومراده بهذه الترجمة وهي قوله: باب قول الله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56] أن يبين ضلال الذين يتعلقون بالأولياء، ويدعونهم زاعمين أنهم يكشفون الكروب! ويعلمون ما في القلوب! ويغفرون الذنوب! فهو يقول: هذه الآية تدل على أن سيد الخلق محمداً صلوات الله وسلامه عليه الذي هو أقرب الناس إلى الله وسيلةً، وأعظمهم عنده جاهاً، لا يملك شيئاً من هداية القلوب أو نجاة أحد من العذاب، ولو كان يملك شيئاً لكان أحق من يخصه بالهداية هو من كان يحوطه ويحميه منذ صغره إلى السنة الثامنة في البعثة أو قريباً من ذلك، كان يحوطه ويحميه ويدافع عنه ويتفانى في ذلك ويتحمل في سبيل ذلك العنت الشديد، حتى إنه بقي محبوساً معه في شِعب من شعاب مكة ثلاث سنوات، لا يبايَع ولا يُشترى منه، ولا يُجلب له طعام، ولا يُخطب منه النساء ولا يُنكَحون، فحاصروه حصاراً شديداً جداً، وكل هذا لأجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لَمَّا حضرته الوفاة جاء إليه وقال: (يا عم، قل: (لا إله إلَّا الله) كلمةً أحاجُّ بها لك عند الله)، فأعادها عليها مراراً، ولم يستطع أن يجعله قائلاً لها، فمات على الشرك.
فكيف بعد هذا يسوغ لأحد من الناس أن يأتي إلى مخلوق ويسأله أن يغفر ذنوبه، أو أن يهدي قلبه، أو أن ينصره على العدو، أو أن يشفع له عند الله ويقربه، أو أن يكون هو الملجأ في جميع الملمات، كما يقول قائلهم: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العممِ إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي فضلاً وإلَّا فقل يا زلة القدمِ ولن يضيق رسولَ الله جاهُك بي إذا الكريمُ تحلى باسم منتقمِ فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلمِ إلى آخره، وما أشبه ذلك، وهذا كذب على الله جلَّ وعلا وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن الدنيا والآخرة بيد الله، وليست من جملة جود النبي صلى الله عليه وسلم، وأما علم اللوح والقلم فقد استأثر الله جلَّ وعلا به فلا يُطلِع عليه أحداً من خلقه إلا من شاء على جزئيات منه، أما اللوح والقلم فقد كتب فيه كل شيء إلى أن يستقر أهلُ الجنةِ الجنةَ وأهلُ النارِ في النار؛ ولكن الغلو هو الذي يحدو بهؤلاء، ويجعلهم يسلبوا خصائص الله جلَّ وعلا ويعطوها البشر، مع أن القرآن قد نهى عن ذلك نهياً جلياً، فكيف يمكن اجتماع الإيمان بمثل هذه الآية: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56] والإيمان بمثل هذه الأبيات؟! هذا يتناقض تمام المناقضة، ولا يمكن أن يجتمع إيمان بهذا وبهذا، إما أن يؤمن بهذه الأبيات وبمعانيها ويكفر بآيات الله وما قاله الله جلَّ وعلا ودعوة الرسول صلى الله عليه وسلم التي جاء بها؛ أو أن يكفر بهذه الأبيات وما دلت عليه، وغيرُها كثير، ويكون الحق هو ما قاله الله جلَّ وعلا وما قاله رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد أراد المؤلف من الترجمة بهذه الآية تحذير من يتعلق بغير الله جلَّ وعلا زاعماً أن من سأله وطلب منه أنه ينفعه ولو لم يأذن الله! كما هي الوقائع الكثيرة المشاهَدة في الناس، والواجب على الإنسان أن يتفهم خطاب الله جلَّ وعلا وكلامه؛ لأنه فيه النور والهدى.(56/2)
أنواع الهداية
قوله جلَّ وعلا: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56] المقصود بالهداية هنا: هداية التوفيق بأن يخلق الله في قلبه محبة الخير وإرادته، فهذه من الله لا يملكها النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيره، وهذه الهداية هي التي نفيت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
أما قوله جلَّ وعلا: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ} [الشورى:52 - 53] فمعنى ذلك: هداية الدلالة والإرشاد، فهو يدل ويرشد، ولكن لا يملك مما في القلوب شيئاً، بل يبين الحق ويدل عليه؛ لأنه مبلِّغ عن الله جلَّ وعلا، فجعل له هداية البيان والدلالة، ونفى عنه هداية التوفيق والخلق وتكريه الباطل وتبغيضه، ولهذا يقول جلَّ وعلا: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلَاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} [الحجرات:8] هذا كله فضل من الله على الإنسان، والإنسان لا يستحق على الله شيئاً؛ ولكن إذا تفضل الله جلَّ وعلا على عبده حبَّب إليه الإيمان وزيَّنه في قلبه، وكرَّه إليه الكفر والفسوق والعصيان، فيكون بذلك راشداً، وهذه الهداية خاصة بالله جل وعلا، وهي التي نفيت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فلا يكون هناك تعارض بين ما نفي عنه وما أثبت له، فالذي نُفي غير المثبت.
المثبت: البيان والإرشاد إلى الحق.
والمنفي: هداية القلوب، فهي إلى الله، وهي المراده بهذه الآية: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] يعني: ما تستطيع أن تجعل في قلب من تحبه إرادةً للخير ومحبةً له وكراهيةً للكفر والشرك وبغضاً له، هذا إلى الله جلَّ وعلا، فإذا كانت الهداية -التي هي هداية التوفيق- بيد الله، فيجب أن تُطلب من الله ولا تطلب من غيره.
قال الشارح رحمه الله: [قوله: باب قول الله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56] سبب نزول هذه الآية: موت أبي طالب على ملة عبد المطلب كما سيأتي بيان ذلك في حديث الباب].
كون سبب نزول الآية هو موت أبي طالب هذا أمر متفق عليه وثابت في الصحيحين من حديث سعيد بن المسيب، وغيره والآية مكية؛ ولكن سيأتي أن آيةً أخرى نزلت في ذلك، ويأتي البحث فيها.(56/3)
الهداية بيد الله وليس على الرسول إلا البلاغ
قال الشارح رحمه الله: [قال ابن كثير رحمة الله عليه: يقول تعالى لرسوله: إنك يا محمد لا تهدي من أحببت، أي: ليس إليك، إنما عليك البلاغ، والله يهدي من يشاء، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة، كما قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:272]، وقال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103]].
من المعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم حريص على هداية أمته، فكان حريصاً على هداية الكفار أشد الحرص، ولهذا نهاه الله جلَّ وعلا عن المبالغة في ذلك فقال: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:3] يعني: قاتل نفسك، ويقول جلَّ وعلا: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} [الأعلى:9 - 12] وقال: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل:127]، في آيات كثيرة نهاه عن الحزن عليهم، ونهاه عن كونه يحرص كل الحرص على ذلك؛ لأن الأمر إلى الله، وقال: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ} [آل عمران:20] أي: عليك أن تبلغ وتبين، وأما الهداية فهي إلى الله؛ لأنهم عبيدُه يتصرف بهم كيف يشاء؛ ولهذا قال: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128] وإنما عليك أن تبلغ، والأمر إلى الله جلَّ وعلا، فكُلِّف بالبلاغ ولم يُكَلَّف بهداية القلوب فإنها إلى الله جلَّ وعلا، فكان حريصاً حرصاً عاماً وخاصاً.
ومعلوم ما وقع له صلى الله عليه وسلم من عمه من الحماية، فما استطاع الكفار أن يصلوا إليه بالأذى لما كان أبو طالب حياً، فقد كان يحوطه، وكان رئيساً في قومه معظماً، وكانوا لا يجرءون على مخالفته، ولا يستطيعون أن يصلوا إليه، وقد كان يقول: لن تصلوا إلى ابننا حتى نقتل حوله مجندلين، فكان مستعداً أن يقاتل حتى يُقتل، ومع ذلك كان على دين قومه.
وهذه من حكمة الله جلَّ وعلا؛ ليبين لخلقه جلَّ وعلا أن الرسول ليس بيده شيء من هداية الناس، وإنما الهداية بيد الله جلَّ وعلا يختص بها من يشاء، وهو أعلم بمواقع فضله، وأين يضع فضله.
ومن المعلوم أن الإنسان أعطي عقلاً ونظراً وفكراً، ثم جاءته رسالة من الله، وبُين له طريق الخير وطريق الشر، فقيل له: هذا الخير فاسلكه، وهذا الشر فاجتنبه، فجُعل الأمر إليه، وهذه الدلالة بإمكان كل أحد، أما جَعْله محباً للخير ومبغضاً للشر فهذا فضل الله، وإذا تفضل به على مخلوق فيجب عليه أن يشكره، ويعرف حقه عليه، ويزداد عبادةً له جلَّ وعلا.
فعلى المسلم أن يقارن حالته مع حالة الكفار الآن، فالكافرون اليوم كثيرون جداً، الأرض مملوءة منهم، وكلهم عندهم أفكار وعندهم عقول كبيرة، يخترعون المخترعات، ويجيدون الصناعات؛ ولكن مُنعوا أفضل ما يكون، مُنعوا الإيمان بالله جلَّ وعلا، وأنت أيها المسلم قد تفضل الله جلَّ وعلا عليك بالإيمان، فهل لأنك أكثر منهم عقلاً؟! لا.
لست أكثر منهم عقلاً، وإنما هذا فضل الله يختص به من يشاء جلَّ وعلا.
فالمقصود: أن من الحكم التي تظهر للمتأمل في كون الرسول صلى الله عليه وسلم لم يستطع أن يقنع أبا طالب بدعوته ويجعله مسلماً أن الأمر كله لله، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يملك مع الله شيئاً، وقد حرص أشد الحرص على هداية عمه فما استطاع.
وهذا مما يبين بوضوح أن العبادة يجب أن تكون لله وحده، وأنْ ليس للرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك شيء؛ لأنه عبدٌ لله كلفه الله بإبلاغ رسالته.
وكذلك يتبين أن التعلق بالنسب والقرابة لا تُجدي شيئاً ولا تفيد شيئاً، وإنما الذي يفيد هو: تقوى الله وطاعته فقط، فهذا أبو لهب عمه أخو أبيه، ومع ذلك {سيصلى نَارَاً ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد:3] فلم تنفعه القرابة ولم تجد عنه شيئاً، وإنما الصلة بين الإنسان وبين السعادة: بطاعة الله جلَّ وعلا وامتثال أمره واجتناب نهيه.
قال الشارح رحمه الله: [قلت: والمنفي هنا هداية التوفيق والقبول فإن أمر ذلك إلى الله وهو القادر عليه، وأما الهداية المذكورة في قول الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52] فإنها هداية الدلالة والبيان، فهو المبين عن الله، والدال على سدينه وشرعه].(56/4)
قوله تعالى: (وأما ثمود فهديناهم)
قوله جلَّ وعلا في قوم صالح: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} [فصلت:17] (هديناهم) يعني: بينا لهم بياناً واضحاً ليس فيه لبس؛ لأنهم أجيبوا إلى اقتراحهم الذي اقترحوه، وقد اقترحوا شيئاً كانوا يظنون استحالة وقوعه، فقالوا لنبيهم: ما نؤمن بك حتى تُخرج لنا من هذا الجبل ناقة عظيمة، كلنا يشرب من لبنها ويروى! -كل أهل البلد! - فإذا أخرجت لنا ناقة من هذا الجبل آمنا بك، فأخذ عهودهم ومواثيقهم أن يؤمنوا، فأعطوه ذلك، فسأل ربه، فصار الجبل يتمخض كأنه ناقة، فانفلق عن ناقة عظيمة على الوصف الذي أرادوا، فصاروا كلهم يشربون من لبنها، يشربون مرة واحدة من لبنها، ومعها أيضاً فصيل لها، ومع ذلك كفروا، فهُدوا إلى هذا؛ لأن هذا أمر باهر يضطر الإنسانَ إلى أن يؤمن بالله جلَّ وعلا، ولكن -مع ذلك- لما حكم الله جلَّ وعلا عليهم بالضلالة في قضائه وقدره ما نفعهم هذا، فكفروا بنبيهم وعقروا الناقة، فأخذهم العذاب العاجل.(56/5)
قصة وفاة أبي طالب
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وفي الصحيح عن ابن المسيَّب عن أبيه].
هو ابن المسيَّب ويقال: ابن المسيِّب، وكان يقول: سيَّب الله من سيَّبني، فلهذا يقول العلماء: ابن المسيِّب ليتجنبوا دعوته؛ لأنه ما كان يرضى بهذا الاسم.
[قال: (لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل فقال له: يا عم! قل: (لا إله إلَّا الله) كلمة أحاج لك بها عند الله، فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟! فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم فأعادا، فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: (لا إله إلَّا الله)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لأستغفرن لك ما لم أنه عنك، فأنزل الله عزَّ وجلَّ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى} [التوبة:113]، وأنزل الله في أبي طالب: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56])].
أما سعيد رحمه الله فهو تابعي وأحد الفقهاء السبعة، بل قال ابن المديني: لا أعلم في التابعين أوسع علماً منه.
وأبوه مسيَّب بن حُزن صحابي، وجده كذلك حُزن صحابي قتل في وقعة اليمامة شهيداً، وأبوه هو الذي روى هذا الحديث، ويجوز أنه كان حاضراً عند أبي طالب، أما قول بعضهم: إن هذا من مراسيل الصحابة فليس صحيحاً.
وأبو جهل اسمه: الحكم بن هشام؛ ولكن سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبا جهل، وكذلك عبد الله بن أبي أمية، وكلاهما مخزومي، وكذلك المسيَّب من بني مخزوم، فيجوز أنه كان حاضراً هذه القصة.
ومعنى قوله: (لما حضرت أبا طالب الوفاة) يعني: لما قَرُب من الموت، وتبينت فيه علاماته، والإنسان يتبين قُرْب الموت منه، وكل الناس يعرفون هذا، وعند ذلك أتاه الرسول صلى الله عليه وسلم وكان عنده هذان الرجلان: أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية، فقال له: (يا عم)، وهذا الكلمة (يا عم) أراد بها الاستعطاف لعله يقبل هذه الكلمة، فهو يجتهد في ذلك، فقال: قل: (لا إله إلَّا الله)، ومن المعلوم أن العرب يعرفون معنى (لا إله إلَّا الله)، وأن معناها: حصر التألُّه والعبادة في الله وحده، وألَّا يُجعل منها شيء لغيره، فنظر إليه وكاد أن يقولها، فمنعه جلساء السوء أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية، وإن كان عبد الله أسلم فيما بعد، ومات أبو جهل كافراً، وقد قُتل في وقعة بدر كافراً.
أما المسيَّب فإنه أسلم هو وأبوه كما عرفنا، فلما قال له الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الكلمة نظر إليه وكاد أن يقولها؛ ولكن حكمةَ الله يريده ألا يؤمن، فقالا له: (أترغب عن ملة عبد المطلب؟!) وهذا يدلنا على أمور، منها: أنهم يعرفون معنى (لا إله إلَّا الله)، وأن الإنسان إذا قالها خرج بها عن ملة عبد المطلب التي هي ملة الشرك إلى ملة محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، وصار مسلماً بهذه الكلمة.
وكذلك فيه مضرة تعظيم الأسلاف والكبراء، ومضرة التقليد، إذ إنه منعه الإيمان! فلما قالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟! أحجم وسكت، فأعاد عليه الرسول صلى الله عليه وسلم قوله: (يا عم! قل: (لا إله إلَّا الله) كلمةً أحاج لك بها عند الله)، فأعادا عليه الكلمة فقط: أترغب عن ملة عبد المطلب؟! ثم قال: هو على ملة عبد المطلب)، وكلمة (هو) هذه غيَّرها الرواي؛ لأنه استبشع واستقبح أن يقول: أنا على ملة عبد المطلب، وقد جاء في مسند الإمام أحمد بهذا اللفظ: (أنا على ملة عبد المطلب)، فمات على ذلك.
يقول الحافظ: من أحسن الأمور: كون الإنسان يغير الكلمة التي إذا رويت كما هي كانت بشعة قبيحة، فيغيرها ويصرفها إلى ما هو حسن طيب؛ لأن المعنى مفهوم وواضح.
وهذا يدلنا على أن الأعمال بالخواتيم، وأنه لو قال هذه الكلمة في تلك الحال لنفعته؛ ولَحُكِم له بالإسلام، ومن المعلوم أن الناس في مكة في ذلك الوقت قسمان فقط، ليس فيهم منافق؛ لأن المسلمين مستضعفون، والكفار هم الذين لهم الكلمة، وهم الذين لهم الدولة ولهم البلد، ومن أسلم من أبنائهم وإخوتهم عذبوه وأرهبوه، إلَّا أن يفر أو تكون له قوة أو قبيلة تحميه، وكثير منهم عُذِّب وقُتِل تحت التعذيب لأجل أنه أسلم! فلهذا لم يوجد فيهم في العهد المكي منافق، وإنما النفاق وُجِد في المدينة لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم مهاجراً، وصار له أنصار وقوة، وكان في المدينة خليط من المؤمنين والمشركين واليهود، واليهود كانوا كثيرين، وهم قبائل ثلاث كما هو معروف: بنو قينقاع.
وبنو النضير.
وبنو قريظة.
وكل قبيلة تزعم أنها هي القوية.
فلما وقعت غزوة بدر، وانتصر المسلمون فيها، بدأ النفاق عندما ظهرت قوة الرسول صلى الله عليه وسلم وقوة المؤمنين، والإنسان إذا قال: (لا إله إلَّا الله) حُكم له بالإسلام ظاهراً، فإن كان قد عَرف معناها -معنى هذه الكلمة- وعمل بمعناها في نفسه وما دلت عليه؛ فهو مسلم ظاهراً وباطناً، أما إذا قالها بلسانه فقط، وهو في قلبه منكر لمعناها فهذا هو المنافق، ويكون حكمه حكم المسلمين في الظاهر، وأما في الباطن فهو من أهل الكفر ومن أهل النار، بل هو تحت الكافرين في الدرك الأسفل من النار؛ لأنه قدم خشية الناس على خشية الله، وجعل خوف الناس أعظم من خوف الله عنده، وأما في هذه الحال فلا يمكن للإنسان إلَّا أن يعتبر معرفة المعنى فقط، ويعتقده بقلبه؛ لأنه لا يمكنه العمل عند قُرْب الموت، فيشترط فقط أن يعرف المعنى، ويعتقده بقلبه، ولا يلزم أن يعمل؛ لأنه لا يستطيع العمل، فقد انتهت القضية.
فإذا مات الإنسان قائلاً لهذه الكلمة عارفاً لمعناها فإنه يُحكم له بالإسلام كما هو ظاهر هذا الحديث، ولهذا قال: (كلمةً أحاج لك لها عند الله) يعني: قل: (لا إله إلَّا الله) وهذه الكلمة هي كلمة الإيمان.(56/6)
كلمة التوحيد تنقل قائلها من ملة الكفر إلى ملة الإسلام
قولهم: (أترغب عن ملة عبد المطلب؟!) يدلنا على أنه لو قالها لانتقل من ملة إلى ملة أخرى، من ملة الكفر والشرك إلى ملة الإسلام، وإلَّا فـ عبد المطلب نفسه يؤمن بأن الله هو الرب المتفرد، فإنه لما أخذ أبرهة الحبشي إبله، فذهب إليه؛ نظر إليه أبرهة فأعجبه وأعظمه فقال لترجمانه: قل له: يسأل ويطلب ما يشاء، فقال: أطلب إبلي، فقال لترجمانه: قل له: إنك سقطت من عيني بعدما كنتَ في عيني كبيراً؛ جئتُ لأجل هدم بيت هو شرفك وشرف آبائك، وتسألني: أين الإبل؟! لماذا لم تسأل عن البيت لئلا أتعرض له ولئلا أهدمه؟ فقال له عبد المطلب: أنا رب الإبل، وأما البيت فله رب سيحميه، ويقصد بالرب: الله جلَّ وعلا، وقد وقع أن حماه الله حمايةً لا يحميها البشر.
فالمقصود: أنه كان يؤمن بالله، ويؤمن بأنه الرب القادر على كبت الكافرين الذين يريدون هدم البيت، ومع ذلك ما نفعه هذا؛ لأنه مات مشركاً.
وفي هذا أيضاً دليل واضح بأن أبا طالب مات على الشرك، كما هو صريح في هذا الحديث، وأما قول الحافظ رحمه الله في (فتح الباري): إن قول الراوي: (فمات على ذلك)، يظهر أنه استند إلى هذه الكلمة.
والصواب: أنه استند إلى الواقعة وإلى ما حدث وما حصل؛ ولهذا نزل قول الله جلَّ وعلا: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] فالأمر واضح في هذا.
وأما ما ذكره السهيلي أن في بعض الكتب للمسعودي أن أبا طالب قال: (لا إله إلَّا الله)، فهذا لا يجوز أن يُلتفت إليه مع ما ثبت في الأحاديث التي في الصحيحين، وما جاء الإشارة إليه في كتاب الله، والمسعودي معروف حاله، فهو رجل من الرافضة، والرافضة مذهبهم أن أبا طالب ناجٍ، وعبد المطلب ناجٍ.
وهذه الآية التي نزلت فيه: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56] واضحةٌ.
وأما قوله: وأنزل الله جلَّ وعلا: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة:113 - 114] فالاستدلال بهذه الآية ليس واضحاً؛ لأن هذه الآية من آخر ما نزل، هذه الآية في سورة (التوبة)، وسورة (التوبة) نزلت في رجوعه صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك في آخر الأمر، ويجوز أن تكون نزلت قبل هذا؛ ولكن هناك أحاديث صحيحة تعترض على هذا، مثل: كون الرسول صلى الله عليه وسلم يستغفر للمنافقين، وقد صلى على عبد الله بن أبي، وأعطى ابنه ثوبه يكفنه فيه، واستغفر له حتى أمسك عمر ثوبه وقال: (يا رسول الله! أتصلي عليه وقد قال: كذا وكذا وكذا وكذا؟ فقال له: دعني؛ إن الله قال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة:80] فوالله! لو أعلم أني إذا زدتُ على السبعين غُفِر لهم لزدتُ، ثم أنزل الله جلَّ وعلا عليه: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدَاً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة:84]).
فهذا يدل على أنه كان يستغفر للمنافقين ويصلي على بعضهم.
وكذلك جاء في الصحيح أنه صلوات الله وسلامه عليه لما اعتمر عمرة القضاء مَرَّ بقبر أمه فزاره وبكى وقال: (إني استأذنت ربي في الاستغفار لها فأبى، فاستأذنت في زيارة قبرها فأذن لي، فزوروا القبور ولا تقولوا هجراً) فلو كانت الآية هذه قد نزلت قبل تلك الحادثة، لما قال الرسول صلى الله عليه وسلم هذا القول: (فاستأذنت ربي في الاستغفار لأمي) لأنه قد نُهي، وعلى هذا فالصواب: أن النهي عن الاستغفار كان متأخراً، يعني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعدما مات أبو طالب كان يستغفر له، فسمع المؤمنون ذلك فقالوا: نستغفر لآبائنا كما أن النبي صلى الله عليه وسلم يستغفر لـ أبي طالب، فنزلت الآية بعد وقت، ولا مانع أن يقال: إن أسباب النزول تعددت، فيكون هذا سبباً وهذا سبباً، وقد جاء أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه سمع رجلاً يستغفر لأبويه وهما قد ماتا مشركَين، فأخبر النبيَّ صلى الله عليه وسلم بذلك فنزل قول الله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ} [التوبة:113] إلى آخره، ويكون هذا القول ثالثاً إذا صحَّ، والله أعلم.(56/7)
معنى قول المصنف: (في الصحيح)
قول المؤلف: (في الصحيح): هو لا يقصد أنه في الكتاب، يعني: في صحيح البخاري وفي صحيح مسلم، وإنما قصده أعم من هذا، فإذا قال: في الصحيح فيعني: في الحديث الصحيح الثابت، ويجوز أن يكون في صحيح البخاري أو في صحيح مسلم أو في غيرهما.(56/8)
ترجمة سعيد بن المسيب وأبوه وجده
قال الشارح رحمه الله تعالى: [و (ابن المسيِّب) هو: سعيد بن المسيِّب بن حُزن بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم القرشي المخزومي أحد العلماء والفقهاء الكبار السبعة من التابعين، اتفق أهل الحديث على أن مراسيله أصح المراسيل، وقال ابن المديني: لا أعلم في التابعين أوسع علماً منه، مات بعد التسعين وقد ناهز الثمانين.
وأبوه المسيِّب صحابي، بقي إلى خلافة عثمان رضي الله عنه، وكذلك جده حُزن صحابي، استشهد باليمامة].
وهو الذي أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يغير اسمه فقال: (اسمك: سهل، قال: لا أغير اسماً سمانيه أهلي).
فأبى أن يغيره؛ ولهذا يقول سعيد: لم تزل تلك الحزونة فينا؛ لأن الاسم قد يكون له أثر، ولا سيما إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد طلب منه أن يغيره فأبى.(56/9)
التوبة لا تقبل عند الغرغرة
قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله: (لما حضرت أبا طالب الوفاة) أي: علاماتها ومقدماتها].
لماذا يقول: علاماتها ومقدماتها؟ لأن الإنسان إذا عاين الموت ما يفيده قول: (لا إله إلَّا الله)، كما قال صلى الله عليه وسلم: (تُقبل توبة العبد ما لم يغرغر) والغرغرة هي: أن تبدأ الروح بالخروج، وفي رواية: (ما لم يعايِن) والمعاينة هي: معاينة الموت، إما يعاين الملائكة أو يُوقن بأنه ميت؛ لأنه انتهت حياته، وفي هذه الحالة لا تُقبل التوبة، وإنما تُقبل التوبة ما دامت الحياة مستقرة؛ ولهذا قال: علاماتها، يعني: علامات الوفاة، وعلاماتها: شدة المرض.(56/10)
أكثر شرك الأولين سببه تقليد الآباء والأجداد
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم) يحتمل أن يكون المسيَّب حضر مع الاثنين؛ فإنهما من بني مخزوم، وهو أيضاً مخزومي، وكان الثلاثة إذ ذاك كفاراً، فقتل أبو جهل على كفره، وأسلم الآخَران.
قوله: (يا عم!) منادى مضاف يجوز فيه إثبات (الواو) وحذفها، حذفت (الياء) هنا، وبقيت الكسرة دليلاً عليها.
وقوله: (قل: (لا إله إلَّا الله)) أمره أن يقولها لعلم أبي طالب بما دلت عليه من نفي الشرك بالله وإخلاص العبادة له وحده، فإن من قالها عن علم ويقين فقد برئ من الشرك والمشركين ودخل في الإسلام؛ لأنهم يعلمون ما دلت عليه، وفي ذلك الوقت لم يكن بمكة إلَّا مسلم أو كافر، ولا يقولها إلَّا من ترك الشرك وبرئ منه.
ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة كان فيها المسلمون الموحدون، والمنافقون الذين يقولونها بألسنتهم وهم يعرفون معناها لكن لا يعتقدونها لما في قلوبهم من العداوة والشك والريب، فهم مع المسلمين بظاهر الأعمال دون الباطن، وفيها اليهود، وقد أقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر ووادعهم بألَّا يخونوه، ولا يظاهروا عليه عدواً، كما هو مذكور في كتب الحديث والسير.
قوله: (كلمةً) قال القرطبي: بالنصب على أنه بدل من (لا إله إلَّا الله)، ويجوز الرفع على أنه خبرُ مبتدإٍ محذوف.
قوله: (أحاجّ لك بها عند الله) هو بتشديد (الجيم) من المحاجَّة، والمراد بها: بيان الحجة بها لو قالها في تلك الحال.
وفيه دليل على أن الأعمال بالخواتيم؛ لأنه لو قالها في تلك الحال معتقداً ما دلت عليه مطابقة من النفي والإثبات لنفعته.
قوله: (فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟!) ذكَّراه الحجة الملعونة التي يحتج بها المشركون على المرسلين، كقول فرعون لموسى: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} [طه:51]، وكقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23].
قوله: (فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم فأعادا) فيه معرفتهما لمعنى (لا إله إلَّا الله)؛ لأنهما عرفا أن أبا طالب لو قالها لبرئ من ملة عبد المطلب؛ فإن ملة عبد المطلب فيها الشرك بالله في إلهيته، وأما الربوبية فقد أقروا بها كما تقدم، وقد قال عبد المطلب لـ أبرهة: (أنا رب الإبل، والبيت له رب يمنعه منك).
وهذه المقالة منهما عند قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمه: (قل: لا إله إلَّا الله) استكباراً عن العمل بمدلولها، كما قال الله تعالى عنهما وعن أمثالهما من أولئك المشركين: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات:35 - 36]، فرد عليهم بقوله: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:37] فبين تعالى استكبارهم عن قول: (لا إله إلَّا الله) لدلالتها على نفي عبادتهم الآلهة التي كانوا يعبدونها من دون الله].
قوله: إنه عندما عرض عليه أن يقول: (لا إله إلَّا الله) قالا له - أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية -: أترغب عن ملة عبد المطلب؟! يقول: فذكَّراه الحجة الملعونة، يعني بـ (الحجة): أنهم وجدوا آباءهم على شيء، وهذه هي التي يحتج بها المشركون قديماً وحديثاً، فإذا نُهوا عن الشرك قالوا: الكثيرون على هذا، والقليل الشاذ هو الذي خالف ذلك، وهؤلاء الذين عندهم تعظيم الآباء والعادة التي وجدوا عليها أسلافهم استبعدوا أن يكون هذا ضلالاً وكفراً، بل تمسكوا به بغض النظر عن كون الأدلة واضحة في بطلانه، وهذه -في الواقع- حجة نشأ بعض الناس عليها، وهي تمنعهم من استعمال عقولهم؛ لأنه إذا عاش على شيء ووجد عليه آباءه وأقرباءه وقومه ومعظَّميه يصعب عليه مخالفتهم؛ فيسبب ذلك أنه يتبعهم ويسلك مسلكهم.
ويقول: إن هذا هو الذي قال فيه فرعون لموسى: {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} [طه:51] لما قال لهم موسى عليه السلام: اعبدوا الله وحده، وأخلصوا العبادة له.
يقول: إن القرون السابقة ما كانت تعبد الله، وإنما كانت تعبد الأصنام والأوثان وغيرها، فما بالها؟ بالها أنها هالكة، وأنها على ضلال، والله جلَّ وعلا أهلكها، وليست هذه حجة.(56/11)
معرفة كفار قريش أن كلمة التوحيد تبطل الكفر
قوله: إن قولهم: (أترغب عن ملة عبد المطلب؟!) يدل على أنهم يفهمون أن قول: (لا إله إلَّا الله) يبطل ملة الكفر، وينقل الإنسان من ملة الكفر والشرك إلى ملة الإخلاص والتوحيد التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأنهم عرب يفهمون الكلام الذي رُكِّب من النفي والإثبات، فقوله: (لا إله): هذا نفي لأن يكون هناك إله، وقوله: (إلَّا الله): إثبات للمنفي أن يكون لله وحده فقط، فمعنى ذلك أنه لا يجوز التألُّه والتعبُّد والتعلُّق على غير الله جلَّ وعلا، بل هذا يجب أن يُحصر في الله وحده، وهذا هو حقيقة الإسلام وحقيقة الدين الذي جاءت به الرسل كلها، فكل الرسل يدعون إلى هذا، ويقولون لقومهم أول ما يقولون: (لا إله إلَّا الله)؛ ولهذا ذكر الله جلَّ وعلا في كتابه أن نوحاً عليه السلام قال لقومه: {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59] فقوله: {اعْبُدُوا اللَّهَ} هو معنى: (إلَّا الله)، وقوله: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59] هو معنى: (لا إله).
وهكذا قال هود وقال صالح وقال شعيب، وكل الرسل الذين ذكرهم الله جلَّ وعلا بدءوا دعوتهم إلى قومهم بـ (لا إله إلَّا الله).
ويقول الله جلَّ وعلا: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولَاً أَنِ اْعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] فهذا أيضاً معنى (لا إله إلَّا الله)، فقوله: {اْعْبُدُوا اللَّهَ} هو معنى: (إلَّا الله)، وقوله: {وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} هو معنى: (لا إله).
وكذلك قوله جلَّ وعلا: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} [البقرة:256] فقوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ} [البقرة:256] هو معنى: (لا إله)، وقوله: {وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} هو معنى: (إلَّا الله).
وقال جلَّ وعلا: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاه} [الإسراء:23].
فهذه الكلمة التي قالها الرسول صلى الله عليه وسلم لعمه هي التي كان يقولها للناس من أول ما أرسل إليهم، وهي التي جاءت بها الرسل إلى أممهم من أولهم إلى آخرهم، وهي التي يقول الله جلَّ وعلا فيها: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19] في جميع الأزمنة ولجميع الخلق، هذا هو الدين، ولهذا يقول جلَّ وعلا: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5]، وما دخل الضرر والنقص على المسلمين إلَّا لأنهم جهلوا معنى هذه الكلمة الذي دلت عليه، فوقعوا في المتناقضات، فهم يقولون: (لا إله إلَّا الله) ولكنهم يأتون بما ينقاضها تماماً؛ لأنهم: أولاً: جهلوا اللغة العربية؛ فلغتهم التي يتخاطبون بها، جهلوا معانيها.
ثانياً: جهلوا معنى العبادة، ومعنى (الإله)، فظنوا أن العبادة مجرد السجود أو مجرد كون الإنسان يعتقد أن العبادة لا تكون إلَّا لمن يخلق ويرزق ويتصرف في الكونيات الظاهرة تصرفاً لا يشاركه غيره فيه، فوقعوا في عبادة غير الله جلَّ وعلا، وتركوا مفهوم هذه الكلمة، والسبب هو: أنهم لم يهتموا لذلك؛ لأن الأمور التي يهتمون لها لابد أن يدركوا معانيها، ويدركوا من المقصود بها، لكنهم لا يدركون إلا ما يهتمون به، أما هذا فالاهتمام به قليل، ومع ذلك فإن الأمر واضح وجلي، والقرآن كله من أوله إلى آخره يدل على هذا دلالةً واضحة؛ لأن الله أقام الحجة عليهم، فكل من أعرض عن ذلك وقصر فيه فاللوم عليه؛ لأن الحجة قائمة، فهو الملوم؛ ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بالهدى ووضح وبين.
قال الشارح رحمه الله تعالى: [فإن دلالة هذه الكلمة على نفي ذلك دلالة تضمُّن، ودلالتها عليه وعلى الإخلاص دلالة مطابقة].
دلالة هذه الكلمة على نفي الشرك: دلالة تضمُّن؛ لأن في ضمنها أنه لا يُعبد إلَّا الله (لا إله)، ودلالتها على نفي الشرك وعلى الإخلاص دلالة مطابقة، والمطابقة هي: دلالة الكلام على جميع المعنى، والتضمُّن: دلالة الكلام على بعضه أو على مفهومه، ومعلوم أن الإخلاص ضد الشرك.
والشيء يظهر حسنه الضد وبضدها تتبين الأشياءُ وهي واضحة وجلية في الإخلاص، ولهذا قال: (إنها مطابقة)، وكذلك واضحة وجلية في كونه لا يجتمع إخلاص وشرك، فلهذا قال: (ودلالتها عليه وعلى الإخلاص دلالة مطابقة)، فالأول: مفرد، والثاني: مجموع، وهذا ولو لم يفهمه الإنسان ولم يعرف دلالة المطابقة أو دلالة التضمُّن ما يضره.
والمقصود: أنه يفهم ما وُضعت له وما دلت عليه، ولا يلزم أن يميز بين المطابقة والالتزام والتضمُّن، فهذه أمور اصطلاحية، وهي من اصطلاح المناطقة، كون الدلالات تكون ثلاث: التزام.
وتضمُّن.
ومطابقة.
ولكن الذي يفهم اللغة العربية يفهم معنى الدلالة، وكونه لا يفرق بين دلالة التزام أو تضمُّن أو مطابقة لا يضره.(56/12)
الحكمة في عدم إسلام أبي طالب
قال الشارح رحمه الله تعالى: [ومن حكمة الرب تعالى في عدم هداية أبي طالب إلى الإسلام ليبين لعباده أن ذلك إليه، وهو القادر عليه دون من سواه، فلو كان عند النبي صلى الله عليه وسلم -الذي هو أفضل خلقه- من هداية القلوب وتفريج الكروب ومغفرة الذنوب والنجاة من العذاب ونحو ذلك شيء؛ لكان أحق الناس بذلك وأولاهم به: عمه الذي كان يحوطه ويحميه وينصره ويؤويه، فسبحان من بهرت حكمته العقول، وأرشد العباد إلى ما يدلهم على معرفته وتوحيده وإخلاص العمل له وتجريده!].
يعني: أن من الحكم التي تظهر للناظر في كون أبي طالب لم يسلم، ما بينه بقوله: (يدل ذلك على أن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس بيده شيء من أمر الله؛ من هداية القلوب وإيصال الهدى إليها) هذا ليس إليه، وإنما هذا لله جلَّ وعلا، مع أنه أقرب الناس إلى الله، وهو رسوله الذي أكرمه الله جلَّ وعلا بالرسالة، ويجيب دعوته إذا شاء كثيراً، ومع ذلك ما استطاع هداية عمه الذي كان يحوطه ويحميه، مما يدل دلالة واضحة أن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس له مع الله شيء، وإنما الأمر كله بيد الله، فالله هو الذي يهدي من يشاء، ويضل من يشاء.
وقد تقدم أن الهداية تنقسم إلى قسمين: هداية دلالة وإرشاد: وهذه هي التي أُثبتت للرسول صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ} [الشورى:53] يعني: أنه يدل ويبين ويوضح؛ لأن عليه مجرد تبيين الأدلة، وإيضاح الحق من الباطل.
وهداية توفيق: فهداية التوفيق هي: أن تُخلَق الهداية في القلوب، وأن يُحبَّب الإيمان إلى القلب ويُكرَّه إليه ضده، فهذا إلى الله، وليس لأحد منه شيء، لا الرسول صلى الله عليه وسلم ولا غيره، وهذا هو المقصود في قوله: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56] يعني: لا تستطيع أن تجعل الإيمان في قلب من تشاء ومن تحب، وإنما هذا إلى الله جلَّ وعلا.
ويجوز أن يكون هناك حكم غير هذه في كون أبي طالب لم يؤمن، ومن سنة الله جلَّ وعلا أنه إذا بعث رسولاً في أمة يبعثه في أشرافها، وتكون قبيلته قوية، ولابد أن يوجد فيهم متعصب له ليمنعه من أذى الآخَرين، كما قال الله جلَّ وعلا في قصة شعيب أن قومه قالوا: {وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} [هود:91] (رَهْطُكَ) يعني: جماعتك، ورهطه لم يؤمنوا به ولو كانوا من قبيلته، {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّه} [هود:92] ومع ذلك كل رسول يتحدى قومه بأن يقتلوا أو يفعلوا به ما يشاءون فلم يستطيعوا، حتى رسولنا صلى الله عليه وسلم أمره الله جلَّ وعلا بذلك، قال له: {ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنظِرُونِ * إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف:195 - 196] هكذا قال الله جلَّ وعلا له، وكان يقول لهم ذلك فما استطاعوا، ولهذا في آخر الأمر لما مات أبو طالب اتفقوا على أنهم يقتلونه واستعدوا لذلك، وأخذوا من كل قبيلة من قبائل قريش رجلاً شاباً جَلْداً وأعطوه سيفاً، زاعمين أنهم يضربونه ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه في القبائل؛ فترضى بنو هاشم بطلب الدية فقط؛ لأنها لن تستطيع أن تقتل من كل قبيلة من فعل ذلك منهم، فاتفقوا على أن يقتلوه، فأحاطوا بيته ومعهم سلاحهم وجلسوا عليه، فخرج من بينهم وهم ينظرون ولكن لا يبصرونه، خرج وصار يأخذ التراب من الأرض ويذره على رءوسهم ويقرأ قول الله جلَّ وعلا: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدَّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدَّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس:9] وذهب وتركهم، وقد أمر علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن ينام على فراشه، وقال له: (لا تخف؛ لن يصل إليك أذىً) وكانوا ينظرون إليه ويتصورون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما خرج إليهم قالوا: أين محمد؟ قال: خرج من بينكم وقد وضع على رءوسكم التراب، فانظروا إليه فوق رءوسكم، فلمسوه بأيديهم فرأوا تراباً موضوعاً على رءوسهم.
فالخلق ليسوا شيئاً بالنسبة لله جلَّ وعلا، فأعمى أبصارهم كما أعمى قلوبهم، ومنعهم من الوصول إليه بأي طريق شاء، تعالى الله وتقدس.
وكذلك قال هود لما قال له قومه: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود:54] يعني: يقولون: إن بعض أصنامنا أصابك بجنون، فصرتَ مجنوناً؛ لأنك صرت تنهانا عن عبادتها، فقال لهم: {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعَاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:54 - 56]، فتحداهم وقال: أجمِعوا أمركم أنتم ومعبوداتكم، واجتمعوا على كيدي بما تستطيعون، ولا تُنظروني ساعةً، أي: لا تمهلوني، فما استطاعوا، وهو وحده، وهم أمة قوية جبابرة كما هو معلوم، ومع ذلك لم يستطيعوا له.
وكذلك نوح عليه السلام، وكذلك الرسل كلها.
ولكن الله جلَّ وعلا يُجري غالب الأمور على الأمر المعتاد عند الناس؛ لأنها سنن وأسباب وضعها لخلقه.
فبعث الرسول في قوة من قومه، ولذلك تعصب له أبو طالب، والعصبية تفيد في بعض الأحيان، وليست مذمومة مطلقاً، بل هي تفيد في بعض الأمور، وكون الإنسان يتعصب للحق، ويتعصب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولدينه؛ أمر مطلوب، ولكن لا يجعله ذلك يتعدى الحق إلى الباطل.
والذي ذُكر من الرسل أنه لم يكن له قبيلة قوية تدافع عنه هو: لوط عليه السلام؛ ولهذا قال لقومه: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:80] وقصده بالركن: القبيلة القوية التي تمنعه وتحميه؛ ولهذا جاء في الحديث: (أن الله جلَّ وعلا ما أرسل بعد لوط نبياً إلَّا في منعة من قومه)، وجاء أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (يرحم الله لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد) لأنه يأوي إلى الله جلَّ وعلا؛ ولكن هو ما أراد هذا، إنما أراد أنه يدافعهم -لما أرادوا السوء بأضيافه- مدافعةً على ما جرت به السنن، وما جرت به العادة؛ لقوته وقوة من يكون معه، أما كونه يعلم أن الله سينصره فهذا ثابت عنده لا مرية فيه، وهو ما علم أن أضيافه ملائكة؛ لأنهم جاءوا إليه بصورة شباب حسان الوجوه، وقد فُتن قومه -نسأل الله العافية! - بإتيان الذكران وترك النساء، وهم أول من فعل هذه الجريمة، فمن تمام البلية أن الملائكة جاءوا إلى لوط بصورة شباب حسان الوجوه، فجاءوا يهرعون إليه، فدافعهم بكل ما يستطيع، حتى عرض بناته أن يزوجهم إياهن؛ ولكن هم لا يريدون إلَّا الفساد فقالوا: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} [هود:79] فقال: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:80] عند ذلك قال له جبريل: لا تخف؛ نحن رسل الله {لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} [هود:81] ثم طمس أعينهم بجناحه، فعميت أبصارهم، ثم قال للوط: إن هؤلاء قد قرب أمر الله فيهم، والعذاب آتٍ إليهم، فقال له لوط: الآن أرني فيهم عذاب الله وأنا أنظر؛ لأنهم أوصلوه واضطروه إلى أقصى غاية لا يستطيع أن يصبر فيها، فقال له: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود:81] أي: الصبح قريب؛ لأنهم كانوا في أول الليل.
فالمقصود: أن قيام أبي طالب بالذود عن النبي صلى الله عليه وسلم وحمايته هذه سنة من السنن التي جرت عادة الله عليها في الرسل السابقين، ومن تمام ذلك أن هؤلاء الذين يذودون عن الرسل يكونون على دين أقوامهم؛ لأنه لو كانوا على دينه لقال أعداؤه: قومه يحمونه لأجل أنهم على دينه، ولا يتأملون ما جاء به، ولا تقوم الحجة عليهم كاملة، فقد تمنعهم العصبية واتباع الهوى من النظر في الأدلة التي يأتي بها، ولله حِكَم في هذا، ومن تأملها وجد الشيء الذي يهديه الله جلَّ وعلا إليه.(56/13)
إعراب قوله: (فكان آخر ما قال)
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (فكان آخر ما قال) الأحسن فيه الرفع على أنه اسم كان، وجملة (هو) وما بعدها الخبر].
يعني: قد يكون الخبر مؤخَّراً، ويكون على ما جرت عليه العادة: الاسم مقدم، والخبر مؤخر، هذا هو الأصل، ولهذا قال: الأحسن، ويجوز العكس، يجوز أن الجملة هي: اسم كان مؤخر، و (آخر) يكون هو الخبر مقدم، فيكون: كان آخرَ ما قال.(56/14)
جواز صرف اللفظ المستقبح عن ظاهره إذا أوهم قبحاً
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (هو على ملة عبد المطلب) الظاهر: أن أبا طالب قال: أنا، فغيره الراوي استقباحاً للفظ المذكور، وهو من التصرفات الحسنة.
قاله الحافظ].
يعني الاستقباح: أن القائل ينسب هذا القول إلى نفسه، هذا هو المراد، وإلَّا فهذا هو الشيء الذي وقع، وليس قبيحاً كون الإنسان يذكره؛ ولكن يُستقبح أن يضيف هذا القول إلى نفسه، يعني: في الصورة؛ لأن هذا كفر، فيكون هذا ليس جيداً كون الإنسان يضيف الكفر إلى نفسه في الظاهر، وإنما المقصود: أنه حكاية، وحكاية الكفر ليست كفراً، فإذا تصرف في الكلام وصرفه عن الظاهر يكون حسناً، هذا هو المقصود.(56/15)
الرد على من زعم إسلام أبي طالب ووالده، ووالدي النبي صلى الله عليه وسلم
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (وأبى أن يقول: لا إله إلَّا الله) قال الحافظ: هذا تأكيد من الرواي في نفي وقوع ذلك من أبي طالب].
لأن قوله: (هو على ملة عبد المطلب) يكفي عن قوله: (وأبى أن يقول: لا إله إلَّا الله) فصار هذا مجرد تأكيد.
قال الشارح رحمه الله: [قال المصنف رحمه الله: وفيه الرد على من زعم إسلام عبد المطلب وأسلافه].
يعني: أن بعض أهل البدع وأهل التطرف والغلو يزعمون أن أبا طالب أسلم، وأنه مات مسلماً، ويخالفون ما ثبت في الصحيحين مثل هذا الحديث، وكذلك يزعمون أن عبد المطلب أسلم أيضاً، وهي دعوى ليس عليها أي دليل.
وكذلك زعموا أن والدَي رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلما، مع أن والده مات قبل ولادته وهو حَمل، وأمه ماتت وهو صلوات الله وسلامه عليه صغير، يعني: أنهما ماتا في الجاهلية قبل أن يُبعث، ومع ذلك يقولون: إنهما أسلما! وبعضهم يقول: هم من أهل الفترة، وأهل الفترة لا نتكلم فيهم.
والأدلة التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم أولى بالاتباع من هذه الدعاوى التي تدل على الغلو، فإذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم خبر وجب القول بموجبه، ولا يجوز مخالفة ذلك.(56/16)
مضرة أصحاب السوء على الإنسان
قال الشارح: [ومضرة أصحاب السوء على الإنسان، ومضرة تعظيم الأسلاف].
يعني: أن فيه من الفوائد: أن الجلساء إذا كانوا أصحاب سوء فمضرتهم بليغة وعظيمة جداً؛ ولهذا كاد أبو طالب أن يقول هذه الكلمة لولا هؤلاء الجلساء عنده، ومعلوم أن الأمر بيد الله، فإذا أراد الله جلَّ وعلا شيئاً جعل له أسباباً تقتضي وجود ما أراد، أو موانع تمنع من خلاف ما أراد؛ ولكن نحن ننظر إلى الأسباب، فالإنسان عليه أن يفعل السبب، ولا يجوز للعبد أن يخالط أهل السوء وأن يجالسهم؛ لأنهم يدعونه إلى خلاف الحق، فإذا عُرف عن الإنسان أنه يدعو إلى خلاف الحق أو أن عنده أفكاراً سيئة فالواجب أن يبتعد عنه؛ لأنه لا يأمن الإنسان على نفسه، فقد يقول له كلمة فيكون فيها ضلاله، ومعلوم أن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمان يقلبها كيف يشاء، فإذا شاء أن يصرفها صرفها، وإذا شاء أن يثبتها ثبتها؛ ولكن يجب على العبد أن يفعل السبب، والحماية أفضل من العلاج، فكون الإنسان يحتمي ويبتعد عن مواقع السوء وأسبابه أفضل من كونه يدافع السوء ويدافع الكلام الذي يكون فيه الشبه؛ ولهذا لما أتى إلى محمد بن سيرين رحمه الله رجل وهو جالس عند تلامذته، وطلب منه أن يقرأ عليه آية، فأبى، فقال: ما أزيد على قراءتها فأبى، فقال: ولو بعض آية، فلما كرر عليه وضع إصبعيه في أذنيه وقال: أحرج عليك إلَّا خرجت، فإن لم تخرج سوف أخرج أنا، فقال له القوم: اتقِ الله، لا تخرج الرجل من بيته، فلما ذهب وخرج قيل له: يرحمك الله! ما الذي يمنعك من أن تسمع الآية؟ فقال: أخشى أن يقذف في قلبي شبهةً يصعب عليَّ إخراجها، أي: وهو في عافية؛ لأن العافية لا يعدلها شيء.
فالمقصود: أن جلساء وقرناء السوء غالباً يضلون الإنسان، وقد جرت العادة أن الناس إذا أرادوا أن يعرفوا عن رجل استقامته أنهم يسألون عن جلسائه: من جليسه؟ ومن الذين يجالسهم؟ فإذا عرفوا أن جلساءه من الطيبين استدلوا على أنه طيب، وإذا عرفوا أنهم ليسوا من الطيبين استدلوا على أنه ليس بطيب، وهذا شيء معروف، ولهذا يقول القائل: عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي وفي هذه القصة دليل على مضرة التقليد، والتقليد مأخوذ من القلادة، فكأن الإنسان وضع في رقبته قلادةً فأعطاها من يقوده بها، أي: كونه يقلد رجلاً أو طائفة بعينها كلما قال قولاً اتبعه عليه، فالتقليد هو: اتباع الأسلاف وغيرهم بدون دليل، هذا هو التقليد، أما اتباعهم بالدليل فلا يكون تقليداً وإنما يكون اتباعاً؛ لأن التقليد هو أن يتبعهم بدون دليل، فهذا مضر جداً، بل هذا التقليد هو الذي رُدَّت به دعوات الرسل غالباً، فهو مضر جداً.(56/17)
حكم تعظيم الأسلاف
قال الشارح: [قوله: ومضرة تعظيم الأسلاف.
أي: إذا زاد على المشروع، بحيث تُجعل أقوالهم حجة يُرجع إليها عند التنازع].
الأسلاف هم: الماضون، وتعظيمهم أي: إذا كان مجرداً عن الحق، ليس لأنهم قاموا بالحق وعملوا به؛ فعُظِّموا التعظيم الذي يستحقونه؛ فإن هذا حق، وهذا قد يكون فيه لبس بين الحق والباطل؛ فمطلق التعظيم لابد أن يُفصل.
فنقول: إذا كان هذا من الإنسان تعظيماً لأنهم أسلافه ولأنه ينتسب إليهم وينتمي إليهم فقط فهذا مضر ولا يجوز ذلك.
أما إذا كان تعظيمهم لأنهم قاموا بالحق، وقاموا بالجهاد في سبيل الله، ولأنهم حملوا دين الله وبلَّغوه، وتعظيمهم يكون على ضوء ما جاء به كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهذا فيه خير، بل هذا من الدين ويُثاب الإنسان عليه؛ ولكن معلوم أن الكفار: أبا طالب، وأبا جهل، وعبد الله بن عتبة وغيرهم كان تعظيمهم لأسلافهم ضد الحق؛ فهم كانوا يضادون بذلك دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، فصار تعظيمهم لأسلافهم في هذا تعظيم مجرد ضرر ليس فيه نفع، بل كله ضرر، وهو من الموانع التي منعتهم من اتباع الحق مع وضوحه وبيانه لهم، فليسوا في شك من ذلك.(56/18)
جواز الحلف من غير استحلاف
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنك)) قال النووي: وفيه جواز الحلف من غير استحلاف، وكأن الحلف هنا لتأكيد العزم على الاستغفار تطييباً لنفس أبي طالب].
إذا جاءت (اللام) هذه التي في قوله: (لأستغفرن) فهذه لام القسم، وإن كان القسم يأتي بأدوات معينة، فحروف القسم ثلاثة كما هو معروف: (الواو، والتاء، والباء): تقول: والله، وتالله، وبالله، هذه هي حروف القسم؛ ولكن هذه تُحذف، والقسم يؤكد بحروف: يؤكد بـ (قد)، ويؤكد بـ (اللام)، ويؤكد بـ (النون الثقيلة) مع حذف حروف القسم، والمحذوف يُحذف لكثرة الاستعمال ولدلالة الباقي عليه، ومع ذلك يُحكم بأنه قسم.
فقوله: (لأستغفرن) التقدير: والله! لأستغفرن لك، فاقتصر على (اللام) والتأكيد، (اللام) للتأكيد و (النون) للتأكيد؛ لأن القسم كله تأكيدات.
وقوله: (فيه جواز الحلف من غير استحلاف) يعني: إنشاءً، وهذا أدلته كثيرة، وكثيراً ما يأتي في الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يُقسم ولو لم يُطلب منه قسم، فكثيراً ما يقول: (والذي نفسي بيده!) على أخبار يخبر عنها، وذلك من عادة العرب في مخاطباتهم.
مثلاً: إذا صار الأمر مهماً أو صار المخاطَب عنده غفلة أو عنده عدم قبول فإن الأخبار تؤكد له بالقسم وبغيره من المؤكِّدات حتى يكون ذلك أوقع في نفسه وأدل على قيام الحجة عليه، وهذا هو المراد والمقصود بالقسم.
والقسم لا يجوز في دين الإسلام أن يكون بغير الله جلَّ وعلا أو صفاته، أما في دين الجاهلية فهم يقسمون بمعظَّمات عندهم، فيقسمون بالأصنام، ويقسمون بالآباء، وبالشرف، وبالأمانة، وبغير ذلك؛ ولكن هذا شرك كما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم.
فيجوز للإنسان أن يقسم على الشيء المؤكد عنده ولو لم يُطلب منه ذلك، ولا يكون آثماً بذلك، بل قد يكون هذا مستحباً كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفعله.(56/19)
اشتداد الأذى على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاة عمه أبي طالب
قال الشارح رحمه الله: [وكانت وفاة أبي طالب بمكة قبل الهجرة بقليل.
قال ابن فارس: مات أبو طالب وللرسول صلى الله عليه وسلم تسع وأربعون سنة وثمانية أشهر وأحد عشر يوماً.
وتوفيت خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها بعد موت أبي طالب بثمانية أيام].
ولهذا كان العام الذي توفي فيه أبو طالب وخديجة يُسمى (عام الحزن)، واشتد الأمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك كثيراً؛ لأن الكفار تمكنوا من أذيته أكثر مما كان قبل، وهذا لا ينافي ما سبق أنه كان يتحداهم بأن يصلوا إليه بشيء، فالأذى يُوجد، والأذى هو للأمور الخفيفة، بل ابن آدم قد يؤذي الله ربه، كما قال الله جلَّ وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [الأحزاب:57] فالإنسان يؤذي ربه بالكلام السيئ البذيء الذي يتكلم به، والمسبة، وشتم الدين أو شتم الرسول أو نسبة ما يتعالى عنه الرب جلَّ وعلا، ويتقدس عن نسبته إليه، كأن ينسب له ولداً أو ينسب له أماً أو ينسب له أنه لا ينصر رسوله، أو ما أشبه ذلك من الأمور التي تخالف مقتضى أسمائه وصفاته تعالى وتقدس؛ ولهذا جاء في الحديث القدسي الذي في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول الله: يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر وأنا الدهر أقلب ليله ونهاره) (يؤذيني) فابن آدم يؤذي الله، ولكنه لا يضر الله، فالأذى غير الضرر، الضرر: لا أحد يضر الله جلَّ وعلا، كما قال تعالى: {لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئَاً} [محمد:32] ولكن الأذى قد يقع من ابن آدم على ربه جلَّ وعلا، وقد لعن الله جلَّ وعلا من يؤذيه؛ لأن الأذى يخص في الشيء الذي يكون أثره خفيفاً، كما جاء عن الأصمعي أنه قال: رأيت أعرابية في الفلاة، فقلت: كيف تصبرون على الحر والبرد؟ أما يضركم الحر والبرد؟ فقالت: لا سواء؛ أما الحر فهو أذى، وإنما الذي يضر هو البرد.
فالعرب يفرقون بين هذا وهذا، ويعرفون مواقع اللغة.
فعلى هذا نقول: الأذى: للشيء الذي يخص أثرُه ووضعُه.
أما الضرر فهو: لما عظُم أثرُه وأيضاً بلغ فيمن وصل إليه.
والناس لا يصلون إلى الله في ضرر؛ ولكنهم يؤذونه كما يؤذون رسله، والأذى يحصل بالكلام، ويحصل بالفعل المخالف، ويحصل بالتكذيب، كل هذا يكون أذىً يؤذي.
فآذوه صلى الله عليه وسلم عليه وسلم أكثر مما كان قبل؛ لأن عمه كان يحوطه، أوصلوا إليه الأذى أكثر، ومن أبلغ ما آذوه به أنهم كانوا يضعون -مثلاً- عليه سلى الجزور على ظهره وهو ساجد، كما فعل ذلك ابن أبي معيط، فقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي عند الكعبة، وكبار الكفار جالسون عنده، فقال بعضهم لبعض: انظروا إلى هذا المرائي، من يأتي بسلا جزور فلان فيضعه على ظهره؟ فذهب الشقي ابن أبي معيط، فأخذ سلا جزور ووضعها على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم، فصاروا يضحكون، وهو ساجد لم يتحرك من سجوده صلوات الله وسلامه عليه، حتى جاءت فاطمة وأزالته.
فهذا من الأذى البليغ.
وكذلك كونه يأتي الرجل منهم ويأخذ العظم البالي ويفته أمامه ويقول: تزعم أن الله يحيينا بعدما نموت، كيف يحيينا إذا كنا مثل هذا العظم؟ فقال له صلى الله عليه وسلم: (يحييك الله، ثم يجعلك في جهنم) فهذا التكذيب وذكر الحجج التي يراد بها إبطال الحق هو من الأذى.
فهم يؤذونه، ولكن ما وصلوا إلى ضره؛ لأن الضر هو الذي يمنعه من القيام بدعوته صلوات الله وسلامه عليه، فما وصلوا إلى هذا؛ لأن الله يحميه من ذلك.
وكونهم يؤذونه يعظُم بذلك أجره عند الله وجزاؤه، فكلما حصل له من أذى يرفع درجته عند الله، ويكون أجره أعظم، ولهذا لما كان يقسم مالاً، فقال الرجل الشقي: إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله، فلم يسمع النبي صلى الله عليه وسلم هذا القول، وقد سمعه بعض الصحابة، وذهب إليه وقال له: إن هذا الرجل يقول كذا وكذا، عند ذلك تغير وجهه صلوات الله وسلامه عليه، وقال: (ويلك! من يعدل إذا لم أعدل؟! ثم بعد ذلك قال: رحم الله موسى؛ لقد أوذي أكثر مما أوذيتُ فصبر).
فالمقصود: أن الأذى يكون بالكلام وفي نسبته إلى ما يتنزه عنه، أو القيام بالباطل أمام الحق.(56/20)
ذكر الخلاف في سبب نزول قوله تعالى: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفورا للمشركين)
قال الشارح رحمه الله: [قوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى} [التوبة:113] الآية، أي: ما ينبغي لهم ذلك.
وهو خبر بمعنى النهي.
والظاهر: أن هذه الآية نزلت في أبي طالب؛ فإن الإتيان بـ (الفاء) المفيدة للترتيب في قوله: (فأنزل الله) بعد قوله: (لأستغفر لك ما لم أُنْهَ عنك) يفيد ذلك].
ولكن يشكل على هذا أن هذه الآية من آخر ما نزل؛ لأن هذه القصة كانت في مكة، والآية هذه هي في سورة التوبة، وسورة التوبة نزلت في رجوعه صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك في السنة العاشرة، فكيف يكون نزولها بسبب ذلك؟! وكذلك ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم لما ذهب في عمرة القضية -وعمرة القضية في السنة السابعة من الهجرة- ووصلوا إلى الأبواء، ذهب إلى قبر أمه؛ لأن قبر أمه صلوات الله وسلامه عليه في الأبواء، وبكى عند قبرها فقال: (إني استأذنت ربي أن أستغفر لها فأبى، واستأذنته أن أزورها فأذن، فزوروا القبور ولا تقولوا هجراً) فلو كانت هذه الآية نازلة قبل هذا ما استأذن ربه جلَّ وعلا أن يستغفر لها، فدل هذا على أنها نزلت بعد ذلك، وعلى هذا فإن القول بتأخر نزول هذه الآية متعين، ويدل على ذلك أيضاً أنه كان يستغفر للمنافقين، فلما مات عبد الله بن أبي وهو رأس المنافقين استغفر له، مع أنه قد فعل الأفاعيل المعروفة والمذكورة في القرآن من قوله: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون:8] وفي غزوة أحد رجع بثلث الجيش، وقال: إنه يخالف أمري وأمره ويطيع أمر السفهاء، فعلام نقتل أنفسنا؟! فخذله الله، فلما مات جاء عبد الله بن عبد الله بن أبي وكان من أفضل المؤمنين، وطلب من النبي عليه الصلاة والسلام أن يعطيه قميصه ليكفنه به، فأعطاه قميصه، يقول بعض العلماء: إن عطيته قميصه كانت مجازاةً له؛ لأن العباس لما جاء مأسوراً بعد معركة بدر -وكان العباس رجلاً ضخماً طويلاً- فما وجدوا له ثوباً إلَّا ثوب عبد الله بن أبي؛ لأنه كان كذلك، فأعطاه، فكان مجازاةً له، وليس هذا هو الظاهر، بل الظاهر: أنه أعطاه قميصه لما طلب ابنه منه ذلك، وطلب منه أن يُصلي عليه فأجابه، فقام ليصلي عليه، فعلق به عمر فقال: أتصلي عليه وقد قال يوم كذا وكذا، وفعل يوم كذا وكذا؟! فقال له: (دعني؛ فإن الله جلَّ وعلا قال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة:80] فوالله! لو علمت أني إذا زدت على السبعين أن الله يغفر لهم لزدتُ، فقام وصلى عليه)، ثم بعد ذلك نزل قول الله جلَّ وعلا: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدَاً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة:84]، وهذه الآية التي في سورة التوبة هي في المنافقين، وكل هذا يدل على أن نزول هذه الآية كان متأخراً.
وكذلك جاء ما يدل على ذلك: فعن علي بن أبي طالب أنه سمع رجلاً يستغفر لأبيه وأمه، وقد ماتا على الشرك، فأخبر الرسولَ صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية.
ويجوز أن تتعدد الأسباب، ويكون المعنى: أن هذه الآية نزلت في النهي عن استغفاره للمشركين عامة، وإذا ماتوا على الشرك لا يجوز الاستغفار لهم، كما أن الإنسان إذا مات على الكفر أو على النفاق لا يجوز أن يُصلى عليه أو يُقام على قبره.
[وقد ذكر العلماء لنزول هذه الآية أسباب أُخَر، فلا منافاة؛ لأن أسباب النزول قد تتعدد.
قال الحافظ: أما نزول الآية الثانية فواضح في قصة أبي طالب، وأما نزول الآية التي قبلها ففيه نظر].
يقصد بالآية الثانية آية سورة القصص: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] وهذا واضح.
قال الشارح رحمه الله: [ويظهر: أن المراد: أن الآية المتعلقة بالاستغفار نزلت بعد أبي طالب بمدة، وهي عامة في حقه وحق غيره، يوضح ذلك ما يأتي في التفسير، فأنزل الله بعد ذلك: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة:113] الآية، ونزل في أبي طالب: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] كله ظاهر في أنه مات على غير الإسلام، ويضعِّف ما ذكره السهيلي أنه روي في بعض كتب المسعودي أنه أسلم؛ لأن مثل ذلك لا يعارِض ما في الصحيح.
انتهى].
المسعودي لا يوثق بكلامه، ولا بنقله، ولا بقوله؛ لأن مذهبه معروف، وطريقته معروفة، وكتبه مشحونة بما هو كذب، هذا في الظاهر، وإن كان هو قد لا يتعمد الكذب، ولكن كون الإنسان ينقل ما يراه كذباً وما يراه باطلاً فهذا يكفي في اجتناب ما يكتب وما يقول.(56/21)
مسائل باب قوله تعالى: (إنك لا تهدي من أحببت)
قال الشارح: [وفيه تحريم الاستغفار للمشركين وموالاتهم ومحبتهم؛ لأنه إذا حَرُم الاستغفار لهم فموالاتهم ومحبتهم أولى].
[فيه مسائل: الأولى: تفسير: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِيْ مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56].
الثانية: تفسير قوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113]].
قوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ} [التوبة:113] يعني: لا يجوز للنبي والذين آمنوا، وهذا يدل على المنع والتحريم.(56/22)
معنى: (لا إله إلا الله)
[الثالثة: وهي المسألة الكبيرة: تفسير قوله: (قل: لا إله إلَّا الله) بخلاف ما عليه من يدَّعي العلم].
يعني: المقصود: معرفة معنى (لا إله إلَّا الله)، وقد تبين لنا أن هذا -في الواقع- هو أصل الدين، وأن هذا هو لب دعوات الرسل التي جاءوا بها، وأنه يجب على المسلم أن يعرف المعنى، ومعناها: إبطال كل تعلق بغير الله، وإثبات التعلق والتأله والتعبد لله وحده، و (الإله) اسم جنس يقع على كل من قُصد بحب القلب وخضوعه وذله، فكل من خضع له قلبه ذلاً وتعظيماً فهو إله، فهو اسم جنس سواءً كان شيئاً مشاهَداً محسوساً أو أمراً معنوياً، مثل: حب المال، ومثل: حب الشهوات، ومثل: حب الهوى، وقد قال الله جلَّ وعلا: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان:43] فالهوى يكون إلهاً، ومعنى ذلك أنه إذا هوى شيئاً وأحب شيئاً وأراده فَعَلَهُ، سواءً كان حلالاً أو حراماً، لا يلتفت إلى ذلك، فهذا يكون ممن تأله ما يهواه.(56/23)
كفار قريش كانوا يعرفون معنى: (لا إله إلا الله)
[الرابعة: أن أبا جهل ومن معه يعرفون مراد النبي صلى الله عليه وسلم، إذ قال للرجل: (قل: (لا إله إلَّا الله))].
هذا بلا شك؛ لأنهم أهل اللغة، وخاطبهم بلغتهم، وهم أهل الفصاحة والبلاغة، فإذا قال لهم: قولوا: (لا إله إلَّا الله)، عرفوا أنه يريد أن يبطل الشرك الذي هم عليه، ويجعل العبادة لله وحده؛ ولهذا كانوا يقولون: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهَاً وَاحِدَاً} [ص:5] وكما قال تعالى: {إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات:35] فكانوا يأبون أن يقولوها؛ لأنهم يعرفون أن فيها إبطال دينهم.
[الرابعة: أن أبا جهل ومن معه يعرفون مراد النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال للرجل: (قل: (لا إله إلَّا الله)) فقبح الله مَن أبو جهل أعلم منه بأصل الإسلام].
يقصد: الذي يكون مسلماً ولا يعرف معنى (لا إله إلَّا الله)، ويكون أبو جهل -الذي هو فرعون هذه الأمة -أعلم منه بمعنى: (لا إله إلَّا الله)! وهل يجوز هذا؟! هذا لا يجوز أن يقع؛ ولكن الواقع هو هذا.(56/24)
حرص النبي صلى الله عليه وسلم على إسلام عمه أبي طالب
[الخامسة: جِدُّه صلى الله عليه وسلم ومبالغته في إسلام عمه].
نعم.
هو جَدَّ وبالغَ؛ ولكن ما أدرك شيئاً من ذلك؛ لأن الأمر بيد الله، والله جلَّ وعلا أمره وأخبره أنه ليس عليه إلَّا البلاغ: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} [الشورى:48] والهداية إلى الله جلَّ وعلا، وهي بيده سبحانه، وليست عند الرسول صلى الله عليه وسلم.(56/25)
الرسل عليهم السلام لا يخلفون الوعد
[السادسة: الرد على من زعم إسلام عبد المطلب وأسلافه.
السابعة: كونه صلى الله عليه وسلم استغفر له فلم يُغفر له، نُهي عن ذلك].
فيكون استغفاره له كاستغفار إبراهيم عليه السلام لأبيه حيث قال له: {سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيَّاً} [مريم:47] وأخبر الله جلَّ وعلا أن استغفار إبراهيم هو وفاء بوعده؛ لأن الوعد من الرسل لا يُخلف، فاستغفر له من أجل ذلك.(56/26)
الأعمال بالخواتيم
[التاسعة: مضرة تعظيم الأسلاف والأكابر.
العاشرة: استدلال الجاهلية بذلك.
الحادية عشرة: الشاهد لكون الأعمال بالخواتيم؛ لأنه لو قالها لنفعته].
نعم.
نفعته ولو لم يعمل؛ لأن هذا هو الشيء الذي يستطيعه، فالذي يستطيعه في ذلك الوقت هو أن يقول: (لا إله إلَّا الله)؛ ولكن كونه يعمل فهذا يُشترط له الاستطاعة، وهو عند الموت ما يستطيع أن يفعل أكثر من ذلك.(56/27)
أكبر شبه الضالين هي شبهة التقليد
[الثانية عشرة: التأمل في كِبَر هذه الشبهة في قلوب الضالين؛ لأن في القصة أنهم لم يجادلوه إلَّا بها، مع مبالغته صلى الله عليه وسلم وتكريره، فلأجل عظمتها ووضوحها عندهم اقتصروا عليها].(56/28)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [57]
حرم الشرع الغلو لما يفضي إليه من محذور، والغلو في الصالحين يفضي إلى الشرك كما وقع من قوم نوح الذين غلوا في بعض الصالحين فصوروهم ثم عبدوهم، وقد وقع مثل ذلك في هذه الأمة حتى عكفت على القبور وقدمت لها القرابين.(57/1)
حكم الغلو في الصالحين
قال المصنف رحمه الله: [باب: ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو: الغلو في الصالحين].
يقول رحمه الله تعالى: باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم: الغلو في قبور الصالحين.
لما ذكر في الأبواب السابقة الأمور التي يكون الإنسان فيها قد خالف ما جاء عن الله جلَّ وعلا لكونه عبد غيره أو جعل شيئاً من العبادة لغيره، أراد أن يبين الأسباب التي تدعو إلى هذه الأمور، فذكر أن سبب ذلك هو الغلو، والغلو يكون في قبور الصالحين، فعلى هذا لا يجوز الغلو في قبور الصالحين.
والغلو معناه: تجاوز الحد المشروع، سواء بالحب والفعل، أو بالمدح والقول، أو بالذم والبغض، فكل ما تجاوز به الإنسان ما شرعه الله جلَّ وعلا فقد غلا، سواء كان قصده وإرادته الخير وكان الدافع له الحب في الصالحين، أو كان الدافع له البغض والكراهية، سواء فعل ذلك فعلاً أو قاله قولاً، فكل ما فيه تجاوز المشروع فهو غلو.
فالغلو مأخوذ من (غلا) يعني: ارتفع على الشيء المقرر شرعاً والمأمور به، ومنه: الطغيان؛ لأنه قريب من الغلو.
ولهذا جاء النهي في كتاب الله جلَّ وعلا لأهل الكتاب ولنا عن الغلو في الدين، وقصر هذا هنا على قبور الصالحين، وذلك أن قبور الصالحين تميل إليها النفوس أكثر من غيرها، وتكون فتنة لمن رفعها فوق ما أمر الشارع بها، سواء بالفعل بأن بنى عليها أو جعل عندها فُرُشاً أو أسرجها أو ما أشبه ذلك؛ فإن هذا يكون مدعاةً لعبادتها، أو أنه أكثر من التردد إليها والزيارة لها والجلوس عندها، أو أنه تحرى أن يدعو الله أو يعبد الله عندها، ورأى أن هذا محل للإجابة، فإن هذا أيضاً من الغلو الذي هو تجاوُز الحد الذي حده النبي صلوات الله وسلامه عليه، وقد ثبت في الصحيح من حديث علي رضي الله عنه أنه قال لـ أبي هياج الأسدي: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ألَّا تدع قبراً مشرفاً إلَّا سوَّيته، ولا صورةً إلَّا طمستها).
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يبعث الرسل نحو القبور التي شُيدت لتُسَوَّى بالأرض، ولا يكون لها ما يدعو إلى الالتفات إليها، وجذب النفوس والجلوس عندها أو قصدها؛ لأن هذا فتنة.
وسيذكر المؤلف أيضاً أن الغلو في الصالحين هو الذي كان به مبدأ الكفر بالله جلَّ وعلا والشرك، ولهذا خصه بذلك في باب، وإن كان هناك أسباب أخرى غير هذا.
قوله: (وتركهم دينهم) يعني: أن الشيء الذي يبدأ أولاً مشروع، ثم يزداد بالغلو -الذي هو تجاوز المشروع- إلى أن يصل إلى ترك الدين والخروج منه نهائياً، وهذا عام سواء في الاعتقادات أو في العمل الذي يتم وهو فعل الإنسان، كما حصل للذين يمرقون من الدين الإسلامي كمروق السهم من الرمية بسبب الغلو، وقد وقع مثل ذلك في صدر هذه الأمة، بل في وقت الصحابة رضوان الله عليهم، كالذين غلوا في حب علي رضي الله عنه، فتجاوزوا الحد حتى ألَّهوه وقالوا: إنه هو الله، قالوا هذا في حياته، بل قابلوه بذلك، فغضب لله جلَّ وعلا وأمر بإحراقهم، فقُذفوا في النار أحياءً، وقد اتفق الصحابة على أنه يجب أن يُقتلوا، وكان علي رضي الله عنه لشدة غضبه لله قتلهم قتلاً بالنار.
ولم ينتهِ هذا الأمر عند ذلك الفعل الذي أراد أن يكون حاسماً؛ لأن الدعايات الباطلة ولأن ميل النفوس إلى تعظيم من فيه الصلاح شيء متأصل فيها، ويزداد بالتحريض من دعاة الباطل الذين يريدون التفرقة بين المسلمين وإيقاد الفتن، وهذه الأشياء عملت عملها، واستمر الأمر إلى اليوم.
[قوله: (باب: ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين).
قوله: (تركهم) بالجر، عطفاً على المضاف إليه.
وأراد المصنف رحمه الله تعالى بيان ما يئول إليه الغلو في الصالحين من الشرك بالله في الإلهية الذي هو أعظم ذنب عُصي الله به، وهو ينافي التوحيد الذي دلت عليه كلمة الإخلاص (شهادة ألَّا إله إلَّا الله)].(57/2)
معنى قوله تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ)
قال المصنف رحمه الله: [وقول الله عزَّ وجلَّ: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [النساء:171]].
سبق أن الأوامر التي وجهها الله جلَّ وعلا لأهل الكتاب حول الأمور التي ذمهم عليها وأخبر أنهم فعلوها وتركوا بذلك دينهم، أننا نحن المقصودون بها، ومن المعلوم لدى المسلمين أن خطاب الله جلَّ وعلا يعم كل من على وجه الأرض؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُرسل إلى الناس كافة، وليس هذا خاصاً بأهل الكتاب؛ ولكن المفروض في أهل الكتاب الذين أُنزل عليهم الكتاب من الله أن يكونوا قدوة للناس في فعل الحق وسلوكه، وإذا ضل هؤلاء فغيرهم أولى أن يضلوا.
وقول الله جلَّ وعلا: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ) هذا نداء من الله جلَّ وعلا لهؤلاء، والنداء في ضمنه طلب الالتفات والعطف والنظر والاهتمام، فإن الله جلَّ وعلا ينبههم إلى هذا الأمر المهم.
قوله: (لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) يعني: لا تتجاوزوا الأوامر والنواهي التي جاءت من عند الله جلَّ وعلا.
فأما مجاوزة الأوامر فبالتشدد والمبالغة عند من يرى أنه أهل للاجتهاد والارتفاع عن هذا الشيء، فمجاوزة الأمر بالتشدد من الغلو.
وأما في النهي فهو مثل ذلك أيضاً، بأن يتجاوزه إلى غير المنهي عنه، فيقع في المحظور.
ويقابل هذا الجفاء والمعصية، فإن الأمر يجب أن يكون على وفق ما جاءت به الرسل، ويكون مراداً به وجه الله جلَّ وعلا، فلا يكون فيه تقصير، ولا يكون فيه غلو وزيادة؛ لأن الإنسان عبد، والعبد عليه أن يمتثل أمر سيده بدون نقص ولا زيادة.
قوله: (لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) هذا عام يشمل الدين كله، وهو خطاب لكل من تأتى له الخطاب من أهل الكتاب وغيرهم، ومعلوم أن الكتب السابقة لكتابنا قد نُسخت بالقرآن، ولكن الكتب التي جاءت من عند الله بعضُها يصدِّق بعضاً، وهي في العقائد وعبادة الله متفقة ومتحدة لا تختلف، قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5]، فالأولون والآخِرون أُمروا بهذا، وكتب الله اتفقت على ذلك، ولهذا أمرهم ألَّا يتجاوزوا الحدود، فقال: {لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [النساء:171].
وقوله: (وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ) يدلنا على أن الغلو يكون بالفعل وبالقول.
وقولهم على الله غير الحق قد بُيِّن في أماكن متعددة من القرآن نذكر بعضاً منها: منها ما هو كفر صريح كقولهم: {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30]، وقولهم: {الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30] وما أشبه ذلك.
ومنها ما هو أقل من الكفر.
ومنها ما هو معصية.
وقد أخبر الله جلَّ وعلا عن أشياء مما كانوا يفعلونها، ومن الأمور التي تجاوزوا الحدود وغلوا فيها، فمنها تغييرهم حدود الله جلَّ وعلا وتبديلها بأشياء من عندهم، فقد كانوا يبدلونها بأشياء يتفقون عليها وأوضاع يتواضعونها مع معرفة ذلك ووضوحه في كتاب الله جلَّ وعلا عندهم، فهذا أيضاً من الغلو في الأمر؛ حيث تركوه مع وضوحه غالين في محبتهم لأنفسهم ولأهوائهم، ومحبتهم لما يكون سائغاً فعله بينهم جميعاً.
وكذلك غيرهم ممن كان متبعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه وقع فيهم الغلو، ولهذا عُبدت القبور، ونُصبت عليها القباب، ووُضعت لها الأستار، وجُعل لها السَّدَنَة الذين يدعون الناس إلى عبادتها، ويحضونهم على تقديم النذور، وإن كانوا هم الذين ينتفعون بذلك، ويوجدون الحكايات التي لا تستسيغها العقول من أن هؤلاء الأموات يتصرفون، وأنهم ينفعون ويضرون، وأنهم يزورون من يشاءون، وأشياء عجيبة جداً، وكلها من الغلو الذي بسببه تُرك الدين.(57/3)
تحريق علي بن أبي طالب رضي الله عنه للرافضة الذين ألهوه
قال الشارح رحمه الله: [الغلو هو: الإفراط بالتعظيم بالقول والاعتقاد، أي: لا ترفعوا المخلوق عن منزلته التي أنزله الله، فتنزِّلوه المنزلة التي لا تنبغي إلَّا لله.
والخطاب وإن كان لأهل الكتاب فإنه عام يتناول جميع الأمة، تحذيراً لهم أن يفعلوا بنبيهم صلى الله عليه وسلم فعل النصارى في عيسى، واليهود في العزير، كما قال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16]، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم) ويأتي.
فكل من دعا نبياً أو ولياً من دون الله فقد اتخذه إلهاً، وضاهى النصارى في شركهم، وضاهى اليهود في تفريطهم؛ فإن النصارى غلوا في عيسى عليه السلام، واليهود عادَوه وسبوه وتنقَّصوه، فالنصارى أفرطوا، واليهود فرَّطوا، وقال تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة:75] ففي هذه الآية وأمثالها الرد على اليهود والنصارى.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: ومن تشبه من هذه الأمة باليهود والنصارى وغلا في الدين بإفراط فيه أو تفريط فقد شابههم، قال: وعلي رضي الله عنه حرَّق الغالية من الرافضة، فأمر بأخاديد خُدَّت لهم عند باب كِندة، فقذفهم فيها، واتفق الصحابة على قتلهم؛ لكن ابن عباس مذهبه أن يُقتلوا بالسيف من غير تحريق، وهو قول أكثر العلماء].
باب كِندة: باب من أبواب الكوفة، وهو منسوب إلى قبيلة كِندة؛ لأن العرب لما سكنوا في هذا البلد صار لكل قبيلة حي ومكان معين يُضاف إليهم، والمسجد يُضاف إليهم، والباب الذي يُدخل منه عليهم يُضاف إليهم.
والسر في هذا هو: عبد الله بن وهب بن سبأ اليهودي الذي جاء من صنعاء في ذلك الوقت وهو على يهوديته؛ ولكنه أظهر الإسلام ليمكر بالإسلام، وذكروا أنه من الدهاة الذين يتقنون الفجور، فصار ينشر في الناس: أنه ما مات نبي إلَّا وله وصي، وصار يقول لهم: إن وصيَّه هو علي بن أبي طالب، ثم تمادى به الأمر إلى أن قال: إن علياً هو الإله، وصار يدعو الناس إلى هذا ويزينه، فاستجاب له أشباه الأنعام الذين يتبعون كل ناعق، فصاروا ينمُّون هذا في أفكارهم حتى ارتسم في أذهانهم ورسخ في قلوبهم، وقاموا وواجهوا علياً بذلك، فلما خرج من بيته ليصلي قابلوه وقالوا: أنت هو.
قال: ويلكم! ومن أنا؟! قالوا: أنت إلهنا.
قال: هذا الكفر! إن لم ترجعوا فسوف أقتلكم.
وحدد لهم ثلاثة أيام، وفي اليوم الثاني قابلوه بمثل ذلك، وفي اليوم الثالث كذلك، عند ذلك أمر بالحفَر أن تُحفر، وأمر أن يوضع فيها الحطب وتوقد ناراً، فأمسكهم وقذفهم فيها أحياءً، وكان يقول: لما رأيت الأمر أمراً منكراً أجَّجت ناري ودعوت قنبراً وقنبر هو: مولىً من مواليه، يعني: دعاه ليساعده على ذلك، وهرب ابن سبأ.
وقد اتفق الصحابة في ذلك الوقت على وجوب أن يُقتلوا إن لم يتوبوا؛ لأن هذه الدعوى ما ادعاها إلَّا شُذَّاذ من الناس، فهي كفر صريح.
ولكن ما انحسم الأمر، بل ذهب هذا الخبيث وصار ينشر في الناس أفكاراً رديئة جداً تخالف الدين الإسلامي، فذهب إلى الشام فطُرد منه، ثم ذهب إلى مصر فباض وفرَّخ فيها، وصار الغوغاء الذين أتوا لمحاصرة أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه يقومون بدعوته وتحريضه، كما أن الذين أتوا من العراق كانوا أنصاراً له على هذا.
وقد ذكر المؤرخون أشياء واضحة في هذا الأمر؛ ولكن تترك الأمور على الظاهر الذي يظهر للناس فقط، والأشياء تتبين وتتضح.
ثم لما قتل علي رضي الله عنه صار ينشر في الناس أن علياً رضي الله عنه ما قتل ولا يمكن أن يموت، بل صعد إلى السحاب وسوف يرجع، والرعد الذي تسمعون هو صوته، في خرافات كثيرة، وصار كثير من الناس يتأثر بهذه الأفكار السيئة الرديئة.
والمقصود: أن هذا كله دعا إليه الغلو في الحب، وإلَّا كيف يصدق الإنسان عقله أن رب العالمين يحل في مخلوق يأكل ويشرب وينام ويحتاج حاجاتٍ كثيرة ويكون فقيراً ثم في النهاية يموت، ويصير تراباً؟! وقد سبق إلى هذا النصارى حيث زعموا أن عيسى بن مريم هو (ابن الله) أو (الله) تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً! والمعلوم أنهم من بني آدم ولهم عقول؛ ولكن كما قال الشاعر: يُقضى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسناً ما ليس بالحسنِ بل كما قال الله عز وجل: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنَاً} [فاطر:8] فالذي يُزَيَّن له سوء العمل يراه حسناً، فيرى القبيح حسناً، والأمورُ بيد الله، والهدايةُ بيد الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمان) فلا يستغرب الإنسان من أن فكر بني آدم يتغير ويصير أقل من أفكار الصبيان! ولا سيما والإنسان خُلق وجُبِل على العبادة، فإذا ترك الطريق المستقيم الذي جاء به الرسول فلابد أن تستهويه الشياطين وتضله، ويعبد المظاهر التي تحيط به، والتي يزينها له الشيطان، وأكثر الناس على ذلك؛ ولكن عباداتهم تختلف، والإنسان لا ينفعك عن عبادةٍ، والنفس إذا لم تُشغل بالسنة والحق شغلت صاحبها بالباطل والبدعة، ولابد.(57/4)
قصة عبادة الأصنام بدأت من الغلو
قال المصنف رحمه الله تعالى: [في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدَّاً وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرَاً} [نوح:23] قال: (هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً، وسَمُّوها بأسمائم، ففعلوا، ولم تُعبد، حتى إذا هلك أولئك ونُسي العلم عُبدت)]:(57/5)
غلو النصارى في المسيح
الآية التي قبل هذا هي في نهي الله جلَّ وعلا أهلَ الكتاب أن يغلوا في دينهم وألَّا يقولوا على الله إلَّا الحق، يقول جلَّ وعلا: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ} [النساء:171] وهذا لرد باطلهم، ومعلومٌ أن الرسول هو المأمور الذي أمره المرسِل أن يمتثل أمره، وأن يؤدي إلى عباده ما أمره به، فالرسول عبدٌ مطيع لمرسِلِه، فعيسى لما خالفَ في خلقه العادة التي أجرى الله جلَّ وعلا عليها بني آدم من كون الإنسان يتولد من أب وأم، وعيسى ولدته مريم عليها السلام ولم يمسها بشر، ومن المعروف أن خلق بني آدم تنوَّعَ للدلالة على قدرة الله جلَّ وعلا: فأبو البشر آدم خلقه الله جلَّ وعلا من طين ليكون آية لنا، ولنعرف ذلك ونستدل به على إعادتنا بعدما نكون تراباً، فإننا إذا راجعنا إلى أصلنا تراباً نُعاد مرةً أخرى، ونُخرَج من التراب أحياءً كما كنا، فيكون هذا دليلاً لنا، وجعل ذلك جلَّ وعلا حجةً على الذين ينكرون البعث بعد الموت، وهو أمر قد تواردت عليه الأمم، وجاءت به أخبار الله التي لا يمكن أن يتطرق إليها شك أو ريب، ومن المؤسف أن كثيراً من المسلمين صارت تنطلي عليهم أفكار الملاحدة الذين يشككون فيما يذكره الله جلَّ وعلا، وقد يكون الذين جاءوا بهذه الأفكار قد رجعوا عنها، وكأنهم يضحكون على الناس.
فالمقصود: أن الله جلَّ وعلا أخبرنا أنه خلق آدم من تراب.
وأخبرنا أنه خلق زوجه منه، امرأة خُلقت من ذكر، وهذا ليس أغرب من خلق البشر من التراب؛ ولكن قدرة الله جلَّ وعلا صالحةٌ لكل شيء، ولا تُحَدُّ بِحَد.
ثم صار خلق سائر بني آدم من ذكر وأنثى على الشيء الذي يتعارفونه.
وجاء القسم الرابع وهو: خلق ذكر من أنثى بلا أب، وهو عيسى عليه السلام.
كل ذلك تنوُّعٌ في قدرته تعالى، وبيان على أنه لا يعجزه شيء.
فلما رأوه جاء مخالفاً لما اعتاده الناس غلوا فيه، وقالوا: إنه (ابن الله)، تعالى الله وتقدس عن الزوجات وعن الحاجات، وهؤلاء -قبحهم الله- جعلوا الله بمنزلة المخلوق المحتاج، ومنهم من يقول: (عيسى هو الله)، يعني: أن الله دخل في أحشاء الأنثى، وبقي في ظلمات الأحشاء تسعة شهور، ثم خرج من فرجها ضعيفاً، ثم تسلط عليه اليهود -على حد زعمهم- فأخذوه وقتلوه وصلبوه! أيُّ عقول هذه التي تزعم أن هذا (هو الله)؟! تعالى الله وتقدس.
فلهذا أخبر عن قولهم أنه كفر صريح، وأخبر أنه رسول أكرمه الله جلَّ وعلا بالرسالة، فصار الناس في وقته طائفتين: طائفة: غلت فيه بالحب والثناء والمدح حتى جعلوه إلهاً، فقالوا: (هو ابن الله) أو (هو الله) أو (هو ثالث ثلاثة: الله والمسيح وأمَّهُ)، يعني: جعلوا المخلوق الضعيف مشاركاً لله جلَّ وعلا في خصائصه.
الطائفة الأخرى: غلت في الجفاء والبغض وهم اليهود، حتى رموا والدته بأنها زانية، وأنه ابن زنىً، قبحهم الله، ثم حاولوا قتله، فابتلاهم الله جلَّ وعلا وألقى شَبَههُ على رجل منهم فقتلوه وصلبوه وزعموا أنه هو عيسى، وقد بين الله جلَّ وعلا أنهم ما قتلوه ولا صلبوه كما قال تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء:158]، وسينزل في آخر الزمان، ويقتل الخنزير ويكسر الصليب ويضع الجزية ولا يقبل إلَّا الإسلام، ثم يموت ويُدفن، ثم بعد ذلك يبعثه الله جلَّ وعلا مثل سائر الخلق.
ولهذا بين الله جلَّ وعلا أن خصائص المخلوقين موجودة في عيسى وأمِّه، ولكنه جعل عيسى رسولاً وأمَّه صديقة، فهما يحتاجان ما يحتاجه البشر ولهذا قال: {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة:75] والذي يأكل الطعام لا يصلح أن يكون إلهاً، والذي يحتاج إلى الطعام فيأكله، لابد أن يأتي بلازم المأكول من قضاء الحاجة، وهذا نقص فيه، فلو احتبس فيه ما أكله لمات.
هذه هي عقيدة النصارى تعالى الله وتقدس عنها! وكل هذه أفكار سيئة جداً، وتنقُّصٌ لله جلَّ وعلا غاية التنقُّص، ولهذا كفَّرهم الله جلَّ وعلا بذلك.(57/6)
غلو قوم نوح في الصالحين
ثم ذكر بعد هذا القصةَ التي ذكرها البخاري في صحيحه: فقوله: (في الصحيح) يعني: في صحيح البخاري: عن ابن عباس أن وَداً وسُواعاً ويغوث ويعوق ونسراً كانت أسماء رجال صالحين في قوم نوح، وهؤلاء كانوا قبل بعث نوح عليه السلام على الإسلام كما جاء في الصحيح عن ابن عباس قال: إن عشرة قرون قبل نوح كلهم كانوا على التوحيد.
يعني: أن أولاد آدم سلكوا الحق بعده، وآدم نبي كريم قد كلمه الله جلَّ وعلا بلا واسطة، وأنزله إلى الأرض بالرسالة إلى بنيه.
وكان بنوه على الحق، ومضَوا وقتاً طويلاً على الإسلام لم تحدث فيهم مخالفة، ولم يعبدوا غير الله، حتى طرأت هذه الحادثة، ووُجِد منهم هؤلاء: وَد وسُواع ويغوث ويعوق ونسر أسماء كانت لأناس صالحين، يعني: كانوا مجتهدين، وكانوا قدوة في قومهم، فماتوا واحداً بعد الآخر في زمن متقارب، فأسف عليهم قومهم وجزعوا؛ لأنهم كانوا يقتدون بهم، فإذا رأوهم في اجتهادهم وعملهم الصالح زاد عملهم واجتهدوا كاجتهادهم.
فلما علم الشيطان بأسفهم جاء إليهم بصورة الناصح وهكذا يفسد الشيطان دين الإنسان بكونه يظهر له بأنه يزين له الباطل، وربما جاءه بحق وله فيه أغراض ونظرات بعيدة كما في هذه القصة، فقال لهم: ألَّا تصوِّرون صورهم، وتنصبونها في المجالس التي تجلسون فيها -يعني: مجالس التعبد والذكر- حتى إذا رأيتموهم -رأيتم هذه الصور- تذكرتم أفعالهم، فاجتهدتم كاجتهادهم؟! فاستحسنوا هذه الفكرة وفعلوا ذلك، وبقوا على هذا وقتاً إلى أن ماتوا.(57/7)
عبادة قوم نوح لتماثيل الصالحين
ثم جاء أبناؤهم، وربما أبناء أبنائهم, ونُسي السبب الذي من أجله صُوِّرت هذه الصور، فجاء دور الشيطان أيضاً مرةً أخرى، فأتى إليهم وقال: آباؤكم ما صوروا هذه الصور إلَّا للتبرك والاستشفاع وطلب الوساطة بها، وقد كانوا يستسقون بها ويجعلونها واسطةً لهم عند الله! فعُبدت، وهذا أول شرك وقع في الأرض.
وهذا الشرك سببه: الغلو، والحب الزائد في الصالحين، فزِيد في الحق حتى تُرك الدين، ووقع الناس في عبادة غير الله جلَّ وعلا.
ولهذا السبب أرسل الله عز وجل نوحاً عليه السلام، وصار يدعوهم إلى عبادة الله وحده وترك هذه الأصنام، وبقي -كما ذكر الله جلَّ وعلا- يدعوهم ليلاً ونهاراً وسراً وجهاراً ألف سنة إلَّا خمسين عاماً، فلم يستجيبوا له، بل صار بعضهم يوصي بعضاً بالتمسك بهذه الأصنام، ويؤكدون على ذلك كما قال تعالى: {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارَاً * وَمَكَرُوا مَكْرَاً كُبَّارَاً * وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدَّاً وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرَاً * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرَاً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالَاً} [نوح:21 - 24].
فقوله: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} [نوح:23] يعني: يقول بعضهم لبعض ويوصي بعضهم بعضاً: إياكم أن تتأثروا بدعوة نوح! إياكم أن تتركوا آلهتكم لقول نوح! تمسكوا بها! ولهذا أكَّدوا ذلك: (لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ)، فجعلوها آلهة، والآلهة هي المألوهة التي تألهها القلوب وتحبها وتعظمها وترجو نفعها ودفع الضر بها، وهذا عام، ثم صاروا يخصون هذه الأصنام، فهم: أولاً: أوصوا بالتمسك بالآلهة عموماً: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} [نوح:23].
ثم أكدوا الوصية بهذه الأصنام الخمسة: وَد وسُواع ويغوث ويعوق ونسر.
إلى أن أيس نوح عليه السلام من استجابتهم، وكان يرجو أن يولد لهم أولاد يستجيبون لدعوته، فصار كلما وُلد مولود علَّموه عبادة الأوثان وحذَّروه من اتباع نوح عليه السلام، ولهذا قال تعالى حاكياً عنه: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارَاً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرَاً كَفَّارَاً} [نوح:26 - 27] أي: أن أولادهم كانوا فجاراً وكفاراً.
ثم بسبب تمسكهم بعبادة غير الله أهلكهم الله جلَّ وعلا بالغرق الذي جاء على جميع الأرض، ولم يَبقَ على الأرض حي إلَّا من كان في سفينة نوح فقط.
ثم إن الذين كانوا في السفينة نموا وكثروا، وقد ذكر الله جلَّ وعلا في كتابه أن ذرية نوح هم الباقون، فصار الناس الذين بقوا هم أولاد نوح وكان أولاده أربعة، فانتشروا في الأرض وصار منهم الأمم الكبيرة.
فوقع فيهم الشرك مرة أخرى بأسباب الله أعلم ما هي؛ ولكن هذا من أعظمها، فأرسل الله جلَّ وعلا إليهم الرسل تدعوهم إلى التوحيد وتنهاهم عن الشرك وعبادة غير الله جلَّ وعلا، وكل أمة تعصي رسولها وتأبى من اتباعه وإخلاص الدين لله جلَّ وعلا، فكان الله جلَّ وعلا يهلكهم بعذاب عام يعمهم، كما وقع لقوم نوح، وقد ذكر الله جلَّ وعلا بعض قصصهم؛ لأن الله لم يقص علينا قصص كل الرسل، وإنما قُصَّ علينا بعضهم، ولهذا يقول جلَّ وعلا: {وَرُسُلَاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} [النساء:164] إنما ذُكر لنا ما فيه الكفاية وفيه المعتبر.
وقد جاء أن هذه الأصنام التي كانت في قوم نوح وُجدت في العرب، ذكر ذلك ابن عباس، وذكره محمد بن إسحاق في السيرة، وذكره ابن الكلبي في كتابه (الأصنام) وذكره عمر بن شبه في (تاريخه)، وذكره الأزرقي أيضاً، وغيرهم من الذين كتبوا في هذا، ذكروا أن هذه الأصنام حملها الطوفان وألقاها في قرب جدة على الساحل، فسَفَتْ عليها السَّوافي فاندفنت، ومرت عليها العصور الطويلة الكثيرة جداً.(57/8)
أول من جعل الأصنام من العرب
ثم بعدما كان العرب على دين إسماعيل، وكانوا مستقيمين على الحق، صار فيهم رجل من كبار خزاعة -وهو عمرو بن لحي الخزاعي - مطاعاً فيهم ورئيساً لهم، وذكروا أنه كان له شيطان يأتيه بالأخبار كحال الكُهَّان، فجاء إليه يوماً وأمره أن يذهب إلى هذا المكان، وقال له: إنك تجد فيه أصناماً مُعَدَّة فخذها ولا تهب، وادعُ إلى عبادتها العرب تُجَب، في سجع يقوله له، فذهب فوجد أن الشيطان قد استخرجها لهم، ففرقها في قبائل العرب بعدما دعاهم إلى عبادتها في الموسم فأجابوه، فصار كل صنم في قبيلة من قبائل العرب، وصاروا يعبدونه.
وبقيت إلى أن بعث الله جلَّ وعلا خاتم رسله محمداً صلى الله عليه وسلم فحطمها، وكُسِّرت بدعوته.
ثم إن الأمر ما انتهى عند ذلك، فقد استحدث العرب أصناماً أخرى، كما سبق أنهم عبدوا اللات والعزى، وعبدوا مناة وهُبل، وعبدوا الحجارة، وعبدوا أصناماً كثيرة، وقد جاء في الصحيح أنها: (لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس على ذي الخَلَصة) وذو الخلصة: صنم لدوس، وقد وقع ذلك كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم.
وكذلك من هذه الأصنام ما يكون بصورة رجل صالح من القبور، ولا يزال الناس يشاهدون ذلك إلى الآن، فهذه المشاهد التي يُطاف عليها، وتُقصَد من أماكن نائية عنها، وتُراق عندها الدماء، وتُقدم لها النذور، وتَسمَع إذا وصلتَ إليها دعوات الناس مرتفعةً، يدعون أصحابَها بالابتهال والخضوع والذل، وينادون المقبور بأن يفعل بهم كذا، ويعطيهم، ويمنعهم من العدو، ويهب لهم ما يريدونه من ولد أو رزق أو ربما غفران الذنوب يدعونه وقد أصبح رميماً تحت التراب!! وهؤلاء الذين يُدعَون أمثال: البدوي وأمثال: الدسوقي وأمثال: عبد القادر الجيلاني وأشباههم ليسوا من خيار الناس وأفاضلهم، بل هناك كثيرٌ من الصالحين ومن أولياء الله قُبروا في مصر وفي الشام وفي العراق وفي الحجاز وفي اليمن وفي أماكن متعددة ولكن في زمن الاستقامة؛ وما كان الشيطان يطمع في أن يدعو الناس إلى عبادة هؤلاء، وإنما زين لهم الشيطان عبادة هؤلاء لما فرغت قلوبهم من التوحيد الخالص لله جلَّ وعلا، فدعاهم إلى ذلك فاستجابوا له.
ومن العجائب أنه قد يُعبد طاغوت من الطواغيت الذي كان ينكر شرع الله، بل كان يدعو إلى مسخه، مثل ابن عربي الطائي الذي كان في الشام، فقبره لا يزال معروفاً إلى الآن يُعبد ويُعظم ويُطاف عليه، وهو الذي يقول: إن فرعون على الحق وإن موسى على الباطل، وهو الذي يقول: إن الرسل ضيَّقوا على الناس، وإن الناس أخطئوا في تخصيصهم العبادة بـ (اللات والعزى ومناة) وما أشبه ذلك، أما لو عبدوا كل شيء لكانوا على الحق والصواب، وهو الذي يقول: إذا صار أهل النار إلى النار صارت عليهم عذْباً، وصارت نعيماً لا يتأثرون بعذابها، وأشياء عجيبة جداً من مسخ دين الله! بل قال: إنه لا فرق بين الزوجة والأم، ولا بين الخمر واللبن، فكله حلال، فمن كان هذه بعض أقواله كيف يُعظم ويُعبد؟! ولكن الجهل وإضلال الشيطان لهؤلاء هو الذي جعلهم يعبدونه.
وكل هذا بسبب تقصيرهم وبسبب تركهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم والتعمُّق فيه والتمسك به، فالجهل هو الذي يكون سبباً لكل ضلال.
ومن المعلوم أن الله جلَّ وعلا قد خلق خلقه لعبادته، فالعبادة حقه لا يجوز أن يكون شيء منها لغيره، فإن جُعل شيء من العبادة لغيره فقد حرم الله جلَّ وعلا الجنة على هذا الذي جعل بعض العبادة لغيره، وأخبر أنه لا يغفر ذلك له إذا مات عليه.
ثم كيف يسوغ للعاقل وهو يعلم أن الله حرم الجنة على المشرك ألا يهتم بمعرفة الشرك ولا يبحث عنه؟! حتى انقلبت الأوضاع وصار الشرك عند كثير من الناس هو الحق والصواب، وهو الدين الذي يُدان به، بل ويُزعم أنه الدين الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصبح تجريد التوحيد لله وحده وتجريد المتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم باطلاً، وأصبح صاحبه ضالاً تجب محاربته ويجب نبذه، فانعكست الأمور تماماً، وكل هذا بسبب الجهل والتفريط، وكون الإنسان يفرط في أمر الله جلَّ وعلا الذي أوجبه عليه، والإنسان هو الذي يقع عليه اللوم؛ لأنه لا حجة له، فقد بين الله جلَّ وعلا الحق بياناً جلياً، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يترك شراً يمكن أن يُبعِد عن الله إلَّا وحذَّرنا منه ولا خيراً يقرِّبنا إلى الله إلَّا وبينه ووضحه لنا وأمرنا به، فإذا تركنا ما جاء به فنحن الملومون، ونحن الذين قامت عليهم الحجة وليس لهم على ربهم عذر ولا حجة، بل الحجة لله؛ لأنه أرسل الرسول وأنزل الكتاب، ولازال كتاب ربنا بيننا، فهل نتخذ كتابه للتبرك أو للرقى وطرد الجن وما أشبه ذلك؟! هذا لا يكفي، بل هذا شبه اللعب، ونحن بهذا كأننا اتخذناه للدنيا ولمصلحة أبداننا فقط.
وإنما يجب أن نصلح به القلوب أولاً، ثم نصلح به كل أوضاعنا وعلاقاتنا، وإلَّا فسوف يسألنا الله جلَّ وعلا: كيف يأتيكم كتابي ولا تتفهمونه ولا تعملون به؟! فما العذر؟ أيقول الإنسان: يا رب! ما أدري ماذا قلتَ؟! وهل يكون هذا عذراً؟! أيقول: يا رب! أنا ما فهمتُ قولك؟! أيكون هذا عذراً والله جلَّ وعلا يقول: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] ويقول: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17] يقول علماء التفسير في هذه الآية: هل مِن طالب علم فيُعان؟! فالله قد يسَّره، ولكن الإعراض هو الذي يحول بين الإنسان وبين ذلك، وهكذا إذا لم يهتم وإنما يجعل الاهتمام بأمور الدنيا، وسوف يُسأل كل إنسان عن كتاب ربه: ماذا عمل به؟! ولماذا ما اتبع الرسول؟! فليعد للسؤال جواباً، وليكن الجواب صواباً، وإلَّا فهو يستحق العذاب، نسأل الله العافية.(57/9)
الفرق بين الصنم والوثن
قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله: في الصحيح أي: في صحيح البخاري، وهذا الأثر اختصره المصنف.
ولفظ ما في البخاري: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (صارت الأوثان التي في قوم نوح في العرب بعدُ، أما وَد فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما سُواع فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ، وأما يعوق فكانت بهمدان، وأما نسر فكانت لحِمْيَر لآل ذي الكلاع: أسماء رجال صالحين في قوم نوح) إلخ.
وروى عكرمة والضحاك وابن إسحاق نحو هذا.
قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد قال حدثنا مهران عن سفيان عن موسى عن محمد بن قيس: (أن يغوث ويعوق ونسراً كانوا قوماً صالحين من بني آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة، فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال: إنما كانوا يعبدونهم وبهم يُسْقون المطر، فعبدوهم).
قوله: (أن انصبوا) هو بكسر الصاد المهملة.
قوله: (أنصاباً): جمع نُصُب، والمراد به هنا: الأصنام المصورة على صورة أولئك الصالحين التي نصبوها في مجالسهم، وسمَّوها بأسمائهم.
وفي سياق حديث ابن عباس ما يدل على أن الأصنام تسمى أوثاناً، فاسم الوثن يتناول كل معبود من دون الله، سواء كان ذلك المعبود قبراً أو مشهداً أو صورةً أو غير ذلك] سبق أن بعض العلماء فرَّق بين الوثن والصنم فقال: الصنم هو: ما نُحت على صورة إنسان أو حيوان وكان مجسَّداً، سواء كان منحوتاً أو منجوراً أو مبنياً أو ما أشبه ذلك.
أما الوثن فهو أعم، وتعريفه هو: كل معبود من دون الله، سواء كان شيئاً مجسداً على صورة إنسان أو على صورة أسد أو غير ذلك، فالقبر يكون وثناً؛ ولكن نقول: لا يسمى صنماً على هذا القول، ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم أوثاناً).
ومنهم من لا يفرق ويقول: الوثن يطلق على الصنم، والصنم يطلق على الوثن، وقد جاء في القرآن ما يدل على هذا، فإن في قصة إبراهيم: مرةً سمَّوها أصناماً ومرةً سمَّوها أوثاناً، فهذا يدل على أنها تُطلق على هذا مرةً وتُطلق على هذا مرةً أخرى.(57/10)
الجهل سبب من أسباب الوقوع في الشرك
قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله: (حتى إذا هلك أولئك) أي: الذين صوروا تلك الأصنام.
قوله: (ونُسي العلم) ورواية البخاري: (وتنسَّخ).
وللكشمهيني: (ونُسخ العلم) أي: درست آثارُه بذهاب العلماء، وعم الجهل حتى صاروا لا يميزون بين التوحيد والشرك، فوقعوا في الشرك ظناً منهم أنه ينفعهم عند الله.
قوله: (عُبدت) لما قال لهم إبليس: إن من كان قبلكم كانوا يعبدونهم، وبهم يُسقون المطر، هو الذي زين لهم عبادة الأصنام وأمرهم بها، فصار هو معبودهم في الحقيقة كما قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلَّاً كَثِيرَاً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} [يس:60 - 62]]: الجِبِلُّ هم: الجماعات الكثيرة، فقوله تعالى: {جِبِلَّاً كَثِيرَاً} يعني: جماعات كثيرة أضلها الشيطان، فلماذا لم تعتبروا بذلك؟! ولماذا لم تتبعوا الرسل وتهتدوا بهديهم، وتتفكروا بعقولكم؟! ولماذا لم تستدلوا بآيات الله جلَّ وعلا القائمة المشاهَدة وكذلك المقولة المسموعة؟!
و
الجواب
أنه لا عذر لهم في ذلك.
قال الشارح رحمه الله تعالى: [وهذا يفيد الحذر من الغلو ووسائل الشرك؛ وإن كان القصد بها حسناً، فإن الشيطان أدخل أولئك في الشرك من باب الغلو في الصالحين والإفراط في محبتهم، كما قد وقع مثل ذلك في هذه الأمة: أظهر لهم الغلو والبدع في قالب تعظيم الصالحين ومحبتهم ليوقعهم فيما هو أعظم من ذلك من عبادتهم لهم من دون الله.
وفي رواية: أنهم قالوا: (ما عظّم أوّلنا هؤلاء إلا وهم يرجون شفاعتهم عند الله) أي: يرجون شفاعة أولئك الصالحين الذين صوروا تلك الأصنام على صورهم وسموها بأسمائهم، ومن هنا يُعلم أن اتخاذ شفعاء ورجاء شفاعتهم بطلبها منهم شرك بالله، كما تقدم بيانه في الآيات المحكمات].(57/11)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [58]
نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن الغلو في الصالحين، وأخبر أن هذا هو سبب هلاك الأمم من قبلنا، وقد وقع كثير من الناس فيما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغلوا في الصالحين، وعكفوا على قبورهم، ثم صاروا يدعون غيرهم إلى ذلك، فوقعوا في الشرك وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.(58/1)
تفصيل المراحل التي تنقل فيها المشركون حتى عبدوا تماثيل الصالحين(58/2)
كلام ابن القيم عن مراحل التنقل إلى عبادة القبور
قال الشارح رحمه الله: [وقال ابن القيم: قال غير واحد من السلف: لما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم.
قوله: (وقال ابن القيم رحمه الله): هو الإمام العلامة محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي الدمشقي المعروف بـ ابن قيم الجوزية].
إذا جاءت إضافةٌ لا بد أن تحذف (أل)؛ لأن (قيم) معناه: مدير المدرسة، و (الجوزية): مدرسة.
قال الشارح رحمه الله: [قال الحافظ السخاوي: العلامة الحجة، المتقدم في سعة العلم ومعرفة الخلاف وقوة الجنان، المُجْمَع عليه بين الموافق والمخالف، صاحب التصانيف السائرة والمحاسن الجمة، مات سنة إحدى وخمسين وسبعمائة.
قوله: (وقال غير واحد من السلف) هو بمعنى ما ذكره البخاري وابن جرير، إلَّا أنه ذكر عكوفهم على قبورهم قبل تصويرهم تماثيلهم، وذلك من وسائل الشرك، بل هو الشرك؛ لأن العكوف لله في المساجد عبادة، فإذا عكفوا على القبور صار عكوفُهم -تعظيماً ومحبةً- عبادةً لها.
قوله: (ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم) أي: طال عليهم الزمان، وسبب تلك العبادة والمُوصِل إليها هو: ما جرى من الأولين من التعظيم بالعكوف على قبورهم، ونصب صورهم في مجالسهم، فصارت بذلك أوثاناً تُعبد من دون الله، كما ترجم به المصنف رحمه الله تعالى، فإنهم تركوا بذلك دين الإسلام الذي كان أولئك عليه قبل حدوث وسائل هذا الشرك، وكفروا بعبادة تلك الصور واتخذوهم شفعاء، وهذا أول شرك حدث في الأرض.
قال القرطبي: وإنما صور أوائلُهم الصور ليتأسوا بها ويتذكروا أفعالهم الصالحة، فيجتهدوا كاجتهادهم، ويعبدوا الله عند قبورهم، ثم خلفهم قوم جهلوا مرادهم فوسوس لهم الشيطان أن أسلافهم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها.
انتهى.
قال ابن القيم رحمه الله: وما زال الشيطان يوحي إلى عُبَّاد القبور ويُلقي إليهم أن البناء والعكوف عليها من محبة أهل القبور من الأنبياء والصالحين، وأن الدعاء عندها مستجاب.
ثم ينقلهم من هذه المرتبة إلى الدعاء به، والإقسام على الله به، فإن شأن الله أعظم من أن يُقسم عليه أو يسأل بأحد من خلقه.
فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى دعائه وعبادته وسؤاله الشفاعة من دون الله، واتخاذ قبره وثناً تُعلَّق عليه القناديل والستور، ويُطاف به ويُستلَم ويُقَبَّل ويُحَجُّ إليه ويُذْبَح عنده.
فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى دعاء الناس إلى عبادته، واتخاذه عيداً ومنسكاً، ورأوا أن ذلك أنفع لهم في دنياهم وأخراهم.
وكل هذا مما قد عُلم بالاضطرار من دين الإسلام أنه مضاد لما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من تجريد التوحيد وألَّا يُعبَد إلَّا الله.
فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى أن مَن نهى عن ذلك فقد تنقَّص أهل هذه الرتب العالية وحطَّهم عن منزلتهم، وزعم أنه لا حرمة لهم ولا قدر، وغضب المشركون واشمأزت قلوبهم كما قال تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر:45] وسرى ذلك في نفوس كثير من الجُهَّال والطغام، وكثير ممن ينتسب إلى العلم والدين، حتى عادَوا أهل التوحيد ورمَوهم بالعظائم ونفَّروا الناس عنهم، ووالَوا أهل الشرك وعظموهم، وزعموا أنهم أولياء الله وأنصار دينه ورسوله، ويأبى الله ذلك {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} [الأنفال:34] انتهى كلام ابن القيم رحمه الله].(58/3)
ذكر أن الجهل باللغة العربية من أسباب الوقوع في الشرك
من المعلوم لدى كل مسلم أن الله جلَّ وعلا خلق خلقه ليعبدوه، وهذا أصل يعلمه المسلمون جميعاً؛ ولكن بعض المسلمين يجهل تفاصيل العبادة، ويجهل كذلك تفاصيل معنى (الإله).
والسبب في هذا: الجهل باللغة العربية؛ لأن ربنا جلَّ وعلا أنزل كتابه بهذه اللغة، كما أنه أرسل رسوله عربياً؛ فصار من المبادئ التي هي مُسَلَّمة ولا ينازع فيها أحد من العلماء أن تعلُّم اللغة العربية أمر واجب ضروري؛ لأن الدين الإسلامي لا يُفهم إلَّا بها، وليس معنى (اللغة العربية) أن يخاطب الناسَ اليوم باللغة العربية، إنما المقصود باللغة العربية: أن يعرف لغة القرآن، ويعرف معاني القرآن؛ لأن اللغة العربية هي لغة القرآن، فإذا خاطبه الله جلَّ وعلا بشيء فَهِمَه؛ وإذا خاطبه الرسول صلى الله عليه وسلم بشيء فَهِمَه، وإذا سمع آية من كتاب الله فهمها ولو لم يفهم جميع ما أُريد بهذه الآية، ولكن يفهم الخطاب العام الذي يفهمه العربي، هذا هو المقصود، وإلَّا فكتاب الله اشتمل على علوم عظيمة وكثيرة، ولا يزال كتاب الله طرياً، والآية الواحدة يستخرج منها الإنسان أحكاماً كثيرة؛ لأن كلام الله ينطوي على أسرار وعلوم وأشياء عظيمة، ولهذا يتفاوُت العلماء بتفاوُت معرفتهم لمعاني كلام الله.
فالمقصود: أن يعرف ظاهر الخطاب، فيعرف -مثلاً- معنى (الإله) معنى (الرب) معنى (الله) معنى (الصلاة) معنى (الصوم)، وهكذا، ويعرف الشيء الذي يخاطبه الله جلَّ وعلا به.
فإذا صرف الإنسان شيئاً من العبادة لغير الله، فقيل له: هذا توسل أو هذا تقرب إلى الولي أو هذا تشفع أو ما أشبه ذلك، فإن كان يجهل اللغة العربية فسوف يجهله، وينطوي عليه، ويظنه مما يقربه إلى الله.
ومن المعلوم أيضاً بين المسلمين عموماً أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بدعوة الناس إلى ترك جميع من يُتَعلَّق به في العبادة، وجعل العبادة لله وحده، وكان يقول للناس: (قولوا: (لا إله إلَّا الله) تفلحوا) ويقول لهم: (أمرت أن أقاتل الناس) وهو لم يؤمر بالقتال إلَّا لما جاء إلى المدينة، أما قبل ذلك فكان الله جلَّ وعلا يأمره بالصبر والتحمل مع إبلاغ الرسالة والدعوة، يأمره بأن يدعو الناس بالتي هي أحسن، وأن يصبر على الأذى الذي يناله منهم، كما قال له جلَّ وعلا: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل:127] ويكرر له هذا الأمر، ويقص عليه قصص الرسل الذين سبقوه ليتسلى ويتأسى بهم، وكثيراً ما يقص عليه قصة موسى عليه السلام؛ لأن فيها معتبراً عظيماً، ولهذا كان يقول صلى الله عليه وسلم إذا أوذي: (رحم الله موسى! لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر) فكان يتأسى ويتسلى بذلك.
ولبث صلوات الله وسلامه عليه في مكة يدعو إلى الله جلَّ وعلا وإلى التوحيد أكثر من ثلاث عشرة سنة، ولم يأمر بالقتال، وإنما كان يدعو الناس إلى قول (لا إله إلَّا الله)، وكان العرب فصحاء، نزل القرآن بلغتهم، يعرفون معنى الكلام، فإذا قال لهم: (قولوا: لا إله إلَّا الله) قالوا له: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهَاً وَاحِدَاً} [ص:5] يقولون: لنا آلهة كثيرة، فإذا قلنا: (لا إله إلَّا الله) لابد أن نتركها وإلا لم يصبح التأله لله وحده.
وكثر الداخلون في الإسلام الواحد بعد الآخر، وكان لا يدخل في الإسلام إلَّا من هو مقتنع تمام الاقتناع، حيث كان يضحي بنفسه وبماله وبأولاده وبأقاربه في سبيل ذلك ولا يبالي، وكان كل من دخل في الإسلام يصير الإسلام عنده أغلى من الأرض ومن عليها من الخلق ومن الأموال ومن المُلك، بل لا يمكن أن يوازيه شيء عنده.(58/4)
علم الكفار باللغة جعلهم يرفضون دعوة الإسلام
فلما رأى الكفار ذلك خشوا أن يكثر الداخلون في الإسلام، فذهبوا إلى أبي طالب وهو زعيمهم وكبيرهم ولا يجرءون على مخالفته، فقالوا: نتحاكم إليك في ابن أخيك، فأنصفنا منه، فصاروا يتكلمون ويقولون له: إن كان يريد مالاً جمعنا له مالاً حتى يكون أغنى رجل فينا، وإن كان يريد نساءً زوجناه أحسن النساء عندنا، وإن كان يريد وإن كان يريد فلما أكثروا ذلك قال له عمه: هؤلاء قومك يطلبون أن تنصفهم، فقال صلوات الله وسلامه عليه: أريد منهم كلمة واحدة -لا أريد كل هذه الأشياء- فقال أبو جهل: نعطيك مائة كلمة -مائة كلمة! وليست كلمة واحدة- فقال: (أريد أن تقولوا: لا إله إلَّا الله)، عند ذلك نفروا وأبَوا وتكبروا وقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهَاً وَاحِدَاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] وهم قالوا: نعطيك مائة كلمة، فلما قال لهم: (قولوا: لا إله إلَّا الله) أبوا كل الإباء؛ لأنهم يعلمون أن هذه الكلمة تبطل الشرك كله.
ثم لما تمادى الأمر في المسلمين واختلط بالعرب غيرهم من غير العرب فسدت اللغة العربية وصار الإنسان لا يفهم اللغة كالعرب السابقين، فبدأ عدم الفهم للقرآن من هنا، وأول ما بدأ ذلك استنكره العلماء، حتى إن أحد العلماء من السلف سئل عن رجل يقرأ القرآن ولا يفهمه؟ فقال: كيف هذا؟! هذا من البدع التي ما كانت معروفة! والسبب هو: اختلاط العرب مع العجم، وفساد اللسان.(58/5)
فساد اللغة أدى إلى فساد الدين
ثم كلما ابتعد الوقت ازداد الأمر بعداً، فتجد الآن في كثير من بلاد المسلمين لهجات بعيدة عن العربية، بل بعض العرب أنفسهم لا يفهمون بعضاً، وكل هذا لأنهم لا يعتنون باللغة العربية الفصحى، لا اللغة التي تحصل بها المخاطبة للناس كلهم على أشياء يتفقون عليها ويتخاطبون ويتفاهمون فيها؛ ولكن المقصود أن لغة القرآن ولغة الرسول صلى الله عليه وسلم، يجب أن تتَعَلَّم وأن يُحْرَص عليها؛ لأن الإنسان لن يفهم خطاب الله جلَّ وعلا وخطاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلَّا بذلك، حتى ولو تُرجمت له المعاني، فالترجمات تختلف، وكثير من العلماء يقول: ترجمة القرآن مستحيلة؛ لأن ما يترجم هو بعض كلام المفسرين، وقد تكون الترجمة خطأً، فيصبح هذا الذي يقرأ الترجمة يبتعد أكثر مما لو تُرك حتى يقيض الله جلَّ وعلا له من يفهِّمه.
والمقصود: أنه لا يمكن للإنسان أن يعرف الحقوق الواجبة التي أوجبها الله جلَّ وعلا عليه تمام المعرفة التي يتيقن بها إلَّا إذا تعلم هذه اللغة وعرفها.
أقول ذلك لأن وقوع كثير من الناس في عبادة القبور وعبادة الأولياء هو بسبب الجهل باللغة العربية، وهناك عوامل أخرى لأغراض معينة لأناس معينين: أهل رئاسة، وأهل مناصب، وكذلك الذين يريدون الاستيلاء على أموال الناس ولو بالباطل، وهم يعرفون الحق، ويزينون لهم عبادة القبور، ويجعلون لها من طرق التعظيم والوسائل التي تجلب الناس الشيء الكثير، ويكونون مباشرين أو غير مباشرين، حتى يمكنهم أن يسلبوا أموال الناس التي تقدم إلى هذه القبور، باسم النذور وحقوق الأولياء والقرابين التي تقدم، لأجل ذلك.(58/6)
حرص المسلمين الأوائل على سد الذرائع لتعظيم القبور
لما كان المسلمون على الحق لم يكونوا يقرون بالبناء على القبور، ولا كان يُمَيَّز قبر الصحابي الفلاني أو الإمام الفلاني من غيره، بل تعلموا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسووا القبور كلها، وألَّا تجصص وألَّا يبنى عليها بناء، بل لا يوضع عليها من غير ترابها الذي أُخرج منها شيء؛ لأنهم علموا مثل هذه الوقائع التي قصها الله جلَّ وعلا علينا وفهموها تمام الفَهم، وأنها سبب لخروج الإنسان من دينه ودخوله في الكفر، تعلموا ذلك من كتاب الله ومن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولهذا لما فتحوا المدائن وجدوا في خزائن الملوك رجلاً على سرير -وقد مات من أزمان متطاولة- ووجدوا عنده كتاباً، فتُرجم الكتاب، يقول أبو العالية: فأنا أول من قرأه.
فقيل له: وماذا فيه؟ قال: فيه حليكم وعليها أوصافكم وسيرتكم وما سيقع لكم.
فقال له السائل: من تظنون هذا؟ وماذا كانوا يصنعون به؟ قال: كانوا إذا تأخر المطر خرجوا به فسألوا الله جلَّ وعلا به فيُسقون.
فقال له السائل: ومن كان هذا الرجل؟ قال: هو دانيال -ودانيال نبي من الأنبياء-.
فماذا صنع الصحابة به؟ حفروا ستة عشر قبراً أو ثلاثة عشر قبراً في النهار متفرقة، فدفنوه في واحد منها وسووها كلها ليُعَمُّوا ذلك على الناس؛ لأنهم خشوا الفتنة في هذا.
يقول بعض العلماء: هذا لو ظفر به المتأخرون لجالدوا عليه بالسلاح.
والمقصود من هذا: أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يعرفون الفتنة في القبور من خطاب الله جلَّ وعلا لهم ومن القصص التي قُصَّت عليهم، فكانوا من أبعد الناس عن تعظيمها أو البناء عليها أو الكتابة عليها.
ثبت في صحيح مسلم عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألا تَدَع قبراً مشرفاًَ إلا سويته، ولا صورة إلَّا طمستها) فهذا الأمر بتسوية القبور وطمس الصور هو من أجل أن الفتنة في القبور وفي الصور فتنة عظيمة يمكن أن يخرج تعظيمها عن الدين الإسلامي.(58/7)
قصة أول شرك حدث في الأرض
هذه القصة فيها معتبر، وهؤلاء الذين صوروا صور هؤلاء الصالحين ما كان عندهم في زمنهم شرك؛ لأنهم ذرية آدم؛ وآدم نبي، خاطبه الله جلَّ وعلا وأمره أن يتبع، وبين له الأوامر، وكان أولادُه على طريقته، ما كانوا يخالفون في ذلك، فبقوا وقتاً طويلاً، يقول ابن عباس: عشرة قرون، وقد اختلفوا في تحديد القرن فمنهم من يقيده بمائة سنة، ومنهم من يقيده بمائة وعشرين، ومنهم من يقول أقل، ومنهم من يقول أكثر.
ثم حدثت هذه الحادثة وهي: أنه كان فيهم خمسة رجال من الصالحين المجتهدين فيهم، فماتوا واحداً بعد الآخر في زمن متقارب، فأسفوا عليهم وجزعوا لذلك، فدعاهم الجزع عليهم وحبهم والتعظيم لهم أن صوروا صورهم، ونصبوها في المجالس التي كانوا يجلسونها ويعبدون الله فيها، ووضعوها لغرض أنهم إذا رأوها يجتدهون في العبادة، لا لأجل أنهم يعبدونهم، وإنما لأجل أن يتذكروا أفعالهم إذ رأوا صورهم؛ ولكن الشيطان فرح بهذا؛ لأن الشيطان له نظر بعيد، يعرف كيف تئول الأمور، وهو يشم القلوب ويعرف ميلها، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم) يعني: يعرف ماذا يميل إليه الإنسان، فيميله بشهواته.
فلما صوروا هذه الصور فرح بهذا؛ لأنه فقيه في الشر يعرف كيف يدعو إليه، فسكت عن هذا الأمر حتى مات هؤلاء الذين يعرفون السبب، ومات أبناؤهم الذين علمهم آباؤهم السبب، وجاء من لا يعرف ذلك، ولهذا يقول ابن عباس: (فنُسي العلم) يعني: العلم بسبب التصوير نُسي وذهب، عند ذلك جاءت فرصة الشيطان، فجاء إليهم وقال: آباؤكم ما صوروا هذه الصور إلَّا ليتوسلوا بها ويجعلوها وساطة بينهم وبين الله، فيطلبون الله بها، ويستغيثون بها ويتشفعون بها، فوقعوا في الشرك بدعوة الشيطان هذه، وهذا هو أول شرك وقع في الأرض، وإنما كان بسبب الصور والغلو في الحب الذي لم يشرعه الله، وإن كان حب الصالحين مشروعاً، إلا أن محبتهم ليست لذواتهم، فلا تحب الصالح لأنه لحم ودم، ولأن صورته كذا وطوله كذا، ولأنه ابن فلان، وإنما تحبه لأنه يعبد الله، ولأنه مجتهد في طاعة الله، ولأنه صلح في اتباع أمر الله واجتناب نهيه، هذا أمر مشروع؛ ولكن هؤلاء تعدوا هذا الأمر فزادوا وتجاوزوا فيه إلى أن فعلوا هذه الأفاعيل فصارت سبباً في الشرك، فكل تجاوز عن المشروع لابد أن تكون نتيجته سيئة جداً مثل هذه.
فلما وقعوا في هذا الشيء ازداد الأمر واتسع، وصار من بعدهم يستشهد بهم، فكل من جاء من الناس يوجِد له معبوداً شبيهاً لهذه المعبودات حتى انتشرت المعبودات جداً عندهم، وكثرت المعبودات التي تُجعل واسطة بين الإنسان وبين ربه، فعند ذلك أرسل الله جلَّ وعلا إلى أهل الأرض نوحاً عليه السلام، وهو أول رسول، أما والده آدم فإنه كان نبياً؛ لأن النبي يكون في الأمة المؤمنة بمنزلة العالم الذي يكون في هذه الأمة؛ يبين الحق ويكون مرجعاً عند الاختلاف وما أشبه ذلك، وليسوا بحاجة إلى رسالة جديدة، وإنما الرسالة تكون إلى القوم الكافرين المشركين، وهذا هو الفرق بين الرسول والنبي.
فجاء نوح عليه السلام يدعوهم إلى عبادة الله وحده، وترك ما كانوا عليه من هذه الأصنام؛ ولكنهم كانت قلوبهم قد أُشْرِبَت حبَّها، وقد مضى على ذلك كثير منهم متمسكين بها، فصارت سُنَّة ماضية، وصار يوصي بعضهم بعضاً بعدم الاستجابة لنوح، ويبالغون في ذلك أشد المبالغة؛ لأن النفوس -في الواقع- تحب الباطل وتميل إليه وتكره الحق، هذا شيء مغروس في الإنسان، والكل يدرك ذلك، والحق قد يكون ثقيلاً عند أكثر الناس؛ والسبب في هذا أنه لا حظ للنفس فيه؛ لأنه أمر الله جلَّ وعلا، وهو شيء ليس جزاؤه العاجل بل جزاؤه الحقيقي هو المنتظر، وقد يستبعد الإنسان ذلك.(58/8)
مجاهدة نوح عليه السلام في الدعوة إلى التوحيد
فصار نوح عليه السلام يشكو إلى ربه ويقول: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلَاً وَنَهَارَاً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارَاً} [نوح:5 - 6] يفرون من التوحيد {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} [نوح:7] لئلا يسمعواكلامه {وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} يعني: غطوا عيونهم بثيابهم حتى لا ينظرون إليه، وهذا من المبالغة في الإعراض، فكانوا يغطون وجوههم ويصمون آذانهم، {وَأَصَرُّوا} [نوح:7] على فعلهم الذي هم عليه من عبادة غير الله، وجعلوا هذه الأشياء وسائط يتشفعون بها، {وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا} [نوح:7] عن دعوة نوح استكبارً متكرراً ومبالَغاً فيه.
ثم يقول عليه السلام: إنه حاول بجميع الطرق: دعوتهم جهاراً ودعوتهم في الليل والنهار، ودعوتهم في السر والعلن ولكن ما أفاد شيئاً، فيقول: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارَاً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارَاً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارَاً} [نوح:10 - 12] يعني: في الدنيا، فجاءهم بالترغيب والترهيب، وبالأفراد وبالجماعات، ولكن لم يُجدِ شيئاً، إلى أن قال في شكايته إلى ربه: {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارَاً} [نوح:21] من هو هذا الذي لم يزده ماله وولده إلَّا خساراً؟ هو الذي يتبع غير دين الله، فالمال والولد يزيده بعداً عن الله، فيكون خاسراً، ثم يذكر وصايتهم في التمسك بأمواتهم، وأنهم كانوا يوصي بعضهم بعضاً: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} [نوح:23] أي: كل من كانت عنده آلهة فليتمسك بها، أما الآلهة الخاصة المقدَّمة العظيمة التي هي أول ما حدث من أجله الشرك، فهم الذين ذكروهم بقولهم: {وَلا تَذَرُنَّ وَدَّاً وَلا سُوَاعَاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرَاً} [نوح:23]، فهذه منهم وصية خاصة بعد الوصية العامة، فأوصى بعضهم بعضاً.
أولاً: بالتمسك بكل المعبودات.
ثانياً: بالتمسك بهؤلاء الخمسة الذين ذُكرت قصتهم، والذين كانوا في الأصل أسماء رجال صالحين فيهم، فماتوا ثم صوروا صورهم ونصبوها ليتذكروا أفعالهم؛ فيجتهدوا كاجتهادهم، فصاروا فيما بعد من أكبر المعبودات، ومن أعظم ما يصد عن دعوة رسول الله نوح صلى الله عليه وسلم.
إلى أن قال في شكايته إلى ربه: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارَاً} [نوح:26] أي: لا تترك واحداً من الكافرين يسكن في الأرض، ولماذا؟ لأنه حاول كل المحاولات، وكرر وأبدى وأعاد، وبقي معهم ألف سنة إلَّا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله، ومع ذلك ما أجدى شيئاً، فتمسك بكل من جاء من شبابهم الذين يظن ويرجو أنهم لا يكونون مثل آبائهم، ولكن لم يجد شيئاً، بل أوصاهم آباؤهم ولقنوهم وعلموهم -وربما بالقوة- وحذروهم من سماع قول نوح، ولهذا دعا عليهم فقال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارَاً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ} [نوح:26 - 27] والله علام الغيوب ولا شك، ونوح لم يدع علم الغيب الذي عند الله جلَّ وعلا، ولكن الله جلَّ وعلا قد قال لنوح وأوحى إليه: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [هود:36].
فلما جاءه الوحي بأنه لن يؤمن من قومه إلَّا من قد آمن دعا هذا الدعاء: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارَاً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ} [نوح:26 - 27] أي: عبادك المؤمنين الذين سيولدون، أما الموجود منهم فهو ضال، {وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرَاً كَفَّارَاً} [نوح:27] يعني: أولادهم يكونون مثلهم، ثم دعا لنفسه ولوالديه وللمؤمنين ولمن دخل بيته مؤمناً، وهذه الدعوة ينبغي أن يقتدي المسلم بنوح عليه السلام فيها.(58/9)
الزيادة في المشروع قد يؤدي إلى الشرك
والمقصود بهذا: أن يتبين لنا أن سبب الوقوع في الشرك، هو زيادة المشروع من الحب في الصالحين وتعظيم الصور.
وهنا ما ذُكِرت القبور، وإنما ذكرت هذه القضية، والفتنة في القبور ليست بأقل من الفتنة في الصور، بل هي أعظم، ولهذا أبدى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعاد، وأكثر من القول والتحذير في المبالغة فيها، بل حرَّم أن يصلي الإنسان عند القبر صلاة لله، وأمر أن تسوى القبور بالأرض، وألَّا يُبنى عليها، وألَّا تُجصص، وألَّا تُسرج، ولعن من فعل ذلك.
وليس هذا كما يقول بعض الفقهاء الذين يقولون: إن تحريم الصلاة في القبور هو لأجل النجاسة، فإن هذا كلام من لا يعرف دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنما جاء النهي عن الصلاة عند القبور خوف الافتتان بها، خوف أن تكون الصلاة لها، كما ذكر ابن القيم هنا: أن التدرج فيها كان على مراحل، فيقول: إن الناس في هذا تدرجوا شيئاً فشيئاً فصاروا خمس درجات، ينقلهم الشيطان من درجة إلى درجة، إلى أن وصل بهم الدرجة الخامسة: الدرجة الأولى: أنه دعاهم إلى تعظيمها، والبناء عليها، ووضع الستور لها، والكتابة عليها: هذا قبر فلان بن فلان الفلاني، وللأسف لأن مثل هذا يقع من بعض العلماء، فإنهم يكتبون في تراجم الأموات -يقول بعضهم: وإن كانوا لا يقصدون الدعوة إلى عبادة القبور؛ ولكنها صارت دعوة في الواقع-: إجابة الدعاء عند قبر فلان مجربة، وهل إذا سمع الإنسان مثل هذا يتركه؟
الجواب
لا، فإذا كان مجرب الإجابة فإنه يقول: سأذهب وأدعو؛ لأن الدعوة مجابة عند هذا القبر، وربما كانت الإجابة قدراً قدره الله، فقد يذهب جاهل من الجُهَّال -ولما في قلبه من تعظيم الموتى ذهب في ذلك المكان يظن أنه أرجى إجابة من المسجد الذي هو بيت الله- فيدعو ويحصل له مراده، فينتشر هذا بين الناس، ويصير فتنة لمن لم يعرف دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وحقيقة الإسلام، ويقول الناس بعد ذلك: إن قبر فلان الفلاني يُعظَّم ويُزار، وهذا كثير جداً في تراجم العلماء، حتى إنك لا تكاد تجد كتاباً من الكتب التي تكتب في التراجم إلَّا وكتب هذا فيها، إما تساهلاً وإما غير ذلك.
والواقع أنه لا يجوز أن يُتساهل في هذا؛ لأنه صار سبباً لعبادة هذه القبور، وهو أمر عظيم جداً، والرسول صلى الله عليه وسلم حذر منه، حتى إنه يوجد في بعض الكتب: قبر فلان الترياق المجرب، كما قيل ذلك في قبر معروف الكرخي، وللأسف أن هذا يُكتب ويطبع ويُنشر في الناس (والترياق) يعني: الدواء الناجع المفيد الذي جُرِّب فنفع، وكذلك إذا ترجم بعضهم لإنسان يريد نشر فضائله وما أشبه ذلك يقول -مثلاً- مما روي عن جنازته: تزاحم عليه الناس فصاروا يتبركون بكفنه، ويتلمسون البركة من ذلك، ولكن هذا كان في الأزمنة المظلمة بعدما اختلط الحابل بالنابل، وقد لا يسلم من هذا أحد حتى من الأئمة؛ مثل الإمام الشافعي رحمه الله ومثل الإمام أحمد ومثل الإمام أبي حنيفة وغيرهم، يوضع عليهم من هذا القبيل أشياء.
ثم صار لهذا المبدأ قوم يتبنونه ويدعون إليه، ويكتبون الكتب فيه، ولا تزال الكتب تكتب وللأسف في هذا؛ لأن كل قوم لهم وارث، فالصالح له من يرثه، والطالح الفاسد له من يرثه، فبعضهم يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغاث به كما يستغاث بالله، فكل شيء تستغيث فيه بالله يجوز لك أن تستغيث فيه بالرسول صلى الله عليه وسلم، حتى وصل الأمر ببعضهم إلى أن يقول: قوله جل وعلا: (وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ} [الفتح:9] المقصود: وتسبحوا الرسول! هكذا يقولون ويكتبون في الكتب يقولون فيه: سبحانك، إلى هذا الحد! والذي يقول هذا ما هو جاهل من العوام، لا، بل هو من العلماء الذين يكتبون الكتب وينشرونها، ويكونون قدوة لبعض الناس.
ثم تمادى الأمر إلى غيره صلوات الله وسلامه عليه فصاروا يقولون: يجوز أن تتوسل بالصالح، بل يستحب أن تتوسل بالصالحين، بل بعضهم قد يوجب ذلك! والصالح من هو؟ يعينون ناساً الله أعلم هل كانوا صالحين أو طالحين، وما هو التوسل؟ التوسل أن تذهب إلى قبره وتدعوه، وتقول: يا فلان! أنا أتوسل بك في كذا وكذا، وأريد أن تتوسط لي عند الله، تخاطبه!(58/10)
انتشار المرائي عن تأثير الموتى والكذب في الحديث لذلك
ومن الدعايات الباطلة أنهم صاروا ينشرون بين الناس مرائي: أن فلاناً رأى في النوم أن من في القبر الفلاني خرج، وعمل كذا وعمل كذا، وأنه قال له كذا، وقال له كذا وتنشر، وهذه كثيرة.
ثم إن بعض هؤلاء -ما هو كلهم بل بعضهم- صاروا يضعون الأحاديث المكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي مكذوبة كذباً صريحاً، ويقولون: إنه يقول: (إذا أعيتكم الأمور فلوذوا بأصحاب القبور)، وهذه دعوة صريحة إلى أهل القبور، وينسبون ذلك إلى الرسول صلى الله عليه وسلم كذباً وزوراً، ويقولون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه)، وما أشبه ذلك من الأحاديث المكذوبة التي وضعوها على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولا فائدة في تعيين الأشخاص أو تعيين الكتب، والكتب موجودة وتتجدد طباعتها ونشرها وللأسف، وتجد لها أصحاباً يسوقونها، ويتاجرون بها، ويدعون إليها، فهي مسألة مقصودة في الواقع من أشخاص قلوبهم مريضة، تحب عبادة القبور.
ثم ذكر ابن القيم الدرجة الثانية: وهي أنه إذا نقلهم إلى هذه الحالة ينقلهم إلى العكوف والجلوس عند القبور لطلب البركة، والعكوف في مساجد الله عبادة كما هو معروف في شرع الله، والعبادة لا يجوز أن تكون لغير الله جل وعلا، وهذا شيء معلوم في الشرع، فإذا جعلت العبادة لغير الله فقد وقع الإنسان في الشرك.(58/11)
تطور الشرك من درجة إلى درجة
يقول: ثم ينقلهم إلى الدرجة الثالثة: وهي أن تحري الدعاء عندها والصلاة عندها أفضل وأحرى إجابة من المساجد، فالصلاة والدعاء عند القبر ليس شركاً لذاته، ولكنه بدعة منكرة، فإذا ذهب الإنسان وصلى لله عند القبر أو كان عند القبر يدعو ربه؛ لا نقول: إن هذا شرك، ولكن نقول: هذه بدعة، والبدعة: هي كل عبادة لم تشرع ولم يأت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نهى عن هذا صلوات الله وسلامه عليه، وهذه البدعة من وسائل الشرك.
ثم ينقلهم من هذه الدرجة إلى أن يدعو أصحابها إلى أن يقصدوا القبر ويدعوا صاحبه: يا فلان! جئنا لنطلب منك كذا وكذا، يا سيدنا كذا، يطلبون منه طلبات معينة وغير معينة، وهذا شيء معروف وموجود ومنتشر ولا ينكر هذا، ثم يقولون: ما يفعل هذا إلا الجهال أو الصوفية الذين تمادوا في الباطل وما أشبههم، أما الناس المثقفون أو الناس العقلاء فإنهم لا يقعون في مثل ذلك، ولكن هؤلاء الجهال كثيرون، فلماذا يتركونهم يهلكون في هذا، ويقولون: هم جهال لا يعرفون؟! لو عرفوا لتركوا ذلك، وهم كثيرون، حتى ذكر بعض العلماء الذين يشاهدون بعض هذه الأشياء: أن في مدينة من المدن، في وقت من الأوقات، يقصد القبر في تلك المدينة أكثر من ثلاثمائة ألف، ويجتمعون عنده رجالاً ونساءً، فهل بعد هذا كله نقول: نتركهم، ونقول: هؤلاء جهال، وهذا لا يؤبه به، ولا يلتفت إليه؟! ليس بصحيح، فهذا أمر مهم، ولا يجوز أن يترك المسلم يعبد غير ربه جل وعلا، يجب أن يحذر؛ لأن عبادة غير الله شرك، وإذا مات الإنسان على الشرك فقد أخبر الله أنه لا يغفر أن يشرك به.
ثم يقول: إذا وصلوا إلى هذه الدرجة نقلهم إلى دعوة الناس إلى عبادتها، فيصيرون دعاة، كما ذكرنا أنهم يضعون فيها الأحاديث والكتب، فإذا كانوا دعاة فمعنى ذلك أنهم صاروا في الواقع مضادين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولدعوته تمام المضادة، ووجد منهم من يفضل هذه المشاهد على المشاعر! يقول: ثم إذا وصلوا إلى هذا الحد نقلهم إلى درجة أخرى، وهي أن من نهى عن ذلك وحذر منه، وأمر بعبادة الله وحده؛ اتخذوه عدواً، وأوجدوا فيه المطاعن بأنواعها، واتهموه بأنه لا يحب الصالحين، وأنه من أعداء الأولياء، وأنه ينهى عن حب الأولياء، حتى قالوا: إنه لا يحب الرسول صلى الله عليه وسلم.
من المعلوم أن الذي لا يحب الرسول يكون كافراً؛ لأن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم يجب أن تقدم على محبة النفس فضلاً عن محبة الولد والمال والآخرين، لأن حبه دين، فهذه الدرجات التي يزينها الشيطان، وينقل الإنسان من درجة إلى أخرى حتى يوصله إلى العبادة لغير الله.
ومن المعلوم أن الإنسان ليس له إلا حياة واحدة وعمر واحد، فإذا انتهت هذه الحياة وانتهى عمره ولم يكن في هذه الحياة وهذا العمر قد اكتسب السعادة بطاعة الله جل وعلا فقد خسر، وهل هذه الخسارة تشبه خسارة الدنيا؛ لأنه من ذهب رأس ماله في الدنيا فقد خسر؟ الواقع أنها لا تشبه هذا؛ لأنه خسر نفسه، وهل توازن النفس بالمال؟ لا.
ثم كيف خسر نفسه؟ هل خسر نفسه لأنه مات فقط؟ لو كان هذا لكان الأمر سهلاً، ولكن خسر نفسه بأنه صار في العذاب الأبدي خالداً فيه ما دامت السماوات والأرض، وكيف النجاة من هذا؟ بالإخلاص، وهل يمكن أن يعود؟ لا يمكن أبداً، انتهت القضية، ويتمنى أن يقضى عليه بالموت ولكن لا يحصل ذلك.
فعلى الإنسان أن يهتم بهذا الأمر أكثر من اهتمامه بتحصيل المال، وأكثر من اهتمامه بتحصل المسكن، وغير ذلك مما يعد من الأمور الضرورية، فهذا أمر ضروري جداً، فالإنسان عليه أن يهتم بنفسه، وأن يعرف دين الله ويتبعه، ويعرف ما يخالف الدين ويجتنبه؛ لأن هذا هو الذي يمكن أن يكون قد أنجى نفسه، مع الاستعانة بالله جل وعلا، وهو خير معين.(58/12)
العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح
قال الشارح رحمه الله: [وفي القصة فوائد ذكرها المصنف رحمه الله، ومنها: رد الشبه التي يسميها أهل الكلام عقليات، ويدفعون بها ما جاء به الكتاب والسنة من توحيد الصفات وإثباتها على ما يليق بجلال الله وعظمته وكبريائه.
ومنها: مضرة التقليد].
يقول: وفي القصة فوائد، منها: رد ما يزعمه المتكلمون من العقليات التي ردوا بها صفات الله جل وعلا، والواقع أن الذي يقوله المتكلمون ليس عقليات، وإنما هو ظنون وشكوك وشبه؛ لأن العقل الصحيح السليم لا يخالف الوحي، بل يتفق معه، ولكن العقل لا يستطيع أن يستقل بما جاء به الوحي، فإنه يحار ولا يستطيع أن يدرك ما جاءت به الرسل، ولكن لا يخالف ذلك، فليست عقليات في الواقع، وإنما هي جهليات، ينبغي أن تسمى جهليات لا عقليات، وأصل المبدأ عندهم في هذا أنهم جعلوا العقل هو الأصل الذي يرجع إليه في كل شيء، ولكن عقل من؟ فمن المعروف أن عقول الناس تختلف، ولا يمكن أن يكون عقل أبي بكر الصديق رضي الله عنه كعقل أبي جهل، فالعقول تختلف على اختلاف المواهب التي يهبها الله جل وعلا لأصحابها، فكيف نرجع إلى شيء لا ضابط له، ولا سيما إذا كان الحكم في أمور غيبية لا تدرك بالعقل، وإنما تدرك بالوحي؟ فهذا من أضر ما يكون على الإنسان إذا تبنى هذا الشيء، وجعل الوحي راجعاً إلى ما يسميه عقلاً، ويحكم العقل عليه، وليس هذا في زمن كان فباد، بل لا يزال إلى الآن كثير من الناس يتبنون هذا المبدأ، وكلما جاء أمر من أمر الرسول صلى الله عليه وسلم قالوا: هذا لا يعقل، وهذا يخالف العقل، فيردونه بهذه الدعوى!(58/13)
أهل الكلام أهل نزاع وخصام
المتكلمون هم الذين صار دينهم الكلام، وكثرت المجادلات فيما بينهم، كل يجادل الآخر في أمور يدعونها، وكل يدعي أن العقل معه؛ فلهذا كثر بينهم الكلام والنزاع والخصام فسموا أهل الكلام، بخلاف أهل الوحي الذين يعتصمون بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإنهم لا اختلاف بينهم، ولا يجوز شرعاً أن يقع بينهم اختلاف؛ لأن الله نهاهم عن ذلك، والشرع يمنع أن يقع الخلاف بينهم، لأن الله جل وعلا يقول: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103].
ومن الشيء المسلم به في العقائد وغيرها أن أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم يسمون أهل السنة والجماعة، فالجماعة وصف لهم؛ لأن الاجتماع ملازم لهم، فيجب أن يجتمعوا ولا يتفرقوا، أما هؤلاء فهم أهل كلام وأهل تنافر وأهل خصام، تأتي فرقة جديدة ثم لا يمضي عليها وقت إلا وقد افترقت إلى فرق متعددة، بسبب ما يسمونه عقليات، ولا سيما إذا كانت الأمور في صفات الله جل وعلا، ومبدؤهم أنهم يقولون: الذي دلنا على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم هو العقل، يعني: عرفنا صدقه بالعقل، فعندهم أن العقل هو الأصل الذي دل على صدق الرسول، ولا يكون محكوماً عليه، بل لا بد أن يكون هو الحاكم، لأننا نرجع إليه، فمبدأ قولهم من هنا.
ثم صاروا يبنون على هذا من باب القياس العقلي، والقياسات وإن لم تكن بارزة متلفظاً بها فهي كامنة في الأنفس، فلهذا نفوا صفات الله جل وعلا على هذا القياس، مثال ذلك: أنهم قالوا: لو وصفنا الله جل وعلا بأنه يتكلم للزم من ذلك أن يكون له فم، وله لسان، وله شفتان، وله لهوات، وله حبال صوتية إلخ.
ما معنى هذا؟ معنى هذا أنهم ما عرفوا من الكلام إلا ما عرفوه من أنفسهم، فصار التشبيه عندهم مستكناً أولاً، ثم صاروا ينفون هذا التشبيه المستكن في أنفسهم، فقالوا: إن الله لا يتكلم لئلا يلزم التشبيه الذي كان في أنفسهم، والله جل وعلا يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، فلما قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] صار هذا نفياً عاماً مطلقاً يدل على عدم وجود شيء من الأشياء تماثله.
ثم أخبرنا جل وعلا أن هذا النفي العام المطلق لا يدعوكم إلى أن تنفوا عن الله جل وعلا صفاته التي اتصف بها فقال: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، فنص على السمع والبصر؛ لأن السمع والبصر يوصف بهما المخلوق، فكون المخلوق يوصف بأشياء لا يمنع أن الله جل وعلا يوصف بها، ولكن صفات المخلوق خاصة به لا يشاركه الله جل وعلا فيها، وصفات الله جل وعلا خاصة به لا يشاركه المخلوق فيها، تعالى الله وتقدس، ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله.(58/14)
ضلال أهل الكلام
أهل الكلام سلكوا هذا المسلك في جميع الصفات، وقالوا: إن العقل يدل على ذلك، ونحن نلتزم بالعقل، أما هذه الأخبار التي تأتي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصفات فهي أخبار آحاد، ولا نثبت الأمور القطعية إلا بأمور برهانية، وهي العقليات، هكذا يقولون! والواقع أن الأمر بالعكس تماماً، فالذي يأتي به الرسول صلى الله عليه وسلم هو البرهان، وما يقولونه هو شكوك وظنون، بعضها كاذب، وبعضها خطأ.
وإذا كان الدليل من كتاب الله، فإن ثبوت القرآن أمر مقطوع به، ولا أحد يشك فيه؛ لأنه متواتر، نقلته الأمة بعضها عن بعض من زمن الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الآن، ما انفرد به ألف أو مائة ألف أو مليون، بل الأمة كلها تنقله، فهو أمر متواتر لا يمكن أن يطعن فيه؛ وإذا كان كذلك قالوا: دلالته ظنية، يعني: كوننا نعين أن هذه الآية تدل على كذا وكذا؛ هذا أمر مظنون فيه؛ فلا نعتمد عليه، وإنما نعتمد على الأمور اليقينية البرهانية، والأمور اليقينية البرهانية زعموا أنها محاكاة الأفكار، وزبالة الأذهان، وكل ما كان الإنسان منهم أذكى صار أسرع إلى الحيرة وإلى الشكوك التي تأكل قلبه، ويصبح لا يستطيع أن ينام، لأنه ما يدري ماذا يعتقد، ويتمنى أن يكون في الاعتقاد مثل عوام المسلمين، أو مثل العجائز التي في دُورها، ويقول: يا ليتني أموت على ما تموت عليه العجائز، وهذا بسبب أنه سلك مسالك مختلفة لاختلاف العقول، يأخذ مسلكاً يرى أنه براهين وعقليات ثم يأتيه آخر ويبطلها، ثم يأتي آخر بأدلة تعارض أدلته فتصبح الأدلة عنده متعارضة؛ فيبقى حائراً لا يدري ماذا يقول، ولا يدري ماذا يعتقد!! ذكر المترجمون لأحد هؤلاء أنه توغل في هذا حتى بلغ الغاية، وكان له صديق من أهل السنة، فدخل عليه يوماً وهو في بيته مستغرق التفكير، فسلم عليه فلم يشعر به ولم يرد عليه السلام، ثم أعاد السلام مرة أخرى فلم يرد عليه، فقال في نفسه: لا بد أنه دهاه أمر، إما أنه ذهب عقله، وإما يوجد أمر ليس طبيعياً، فوقف متحيراً، ثم هم أن يرجع ما دام بهذه المثابة! عند ذلك انتبه فرفع رأسه وقال له: يا فلان! ماذا تعتقد؟ فضحك ساخراً منه!! وقال: ماذا أعتقد؟! أعتقد ما يعتقده المسلمون والحمد لله، فأطرق رأسه وجعل يبكي، وقال ولكني -والله- ما أدري ماذا أعتقد! هذا بعدما أمضى في التعلم والقراءة أكثر من سبعين سنة، ويقول وهو بهذه المثابة: ما أدري ماذا أعتقد!! لماذا؟ لأنه ترك الوحي الذي به الهداية، الله جل وعلا يقول لرسوله: {وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ} [سبأ:50]، الرسول صلى الله عليه وسلم يهتدي بالوحي، فكيف يمكن أن يهتدي غيره بغير الوحي، هذا مستحيل لا يمكن، فالمقصود أن هذه التي يقولون عنها: عقليات، فيها إبطال العقليات، والواقع أنها ليست عقليات، بل هي شبه وأمور تدعو إلى الحيرة والشك.
والعقل في الشرع ليس مهدراً، ولكن لا يستقل بالهداية؛ ولهذا يذكر الله جل وعلا أموراً كثيرة وينبه العقول عليها كما قال جل وعلا: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة:164] يعني: يدل العقول على أن تفكر في هذه الأمور، والعقول لا تستطيع أن تستقل بالهداية، ولو كان كما يقولون فما الداعي إلى إرسال الرسل؟ لا داعي من ذلك إذا كان الأصل هو العقل، وإذا كان ما يأتي به الرسول نرجعه إلى العقول فلماذا إرسال الرسل؟ يكفي العقل لو كان كما يقولون، ولكن هذا يدل على بطلان قولهم، فإنه لا بد من إرسال الرسل، والناس لا يهتدون إلا بالرسل الذين أرسلهم الله جل وعلا.(58/15)
ضرورة إعادة الأمة إلى ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم علماً وعملاً
قال الشارح رحمه الله: [ومنها: ضرورة الأمة إلى ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم علماً وعملاً بما يدل عليه الكتاب والسنة].
لأن العقل لا يستطيع أن يستقل بالهداية، ولا أن يعرف الطريق الذي يوصل إلى السعادة، ويكون فيه طاعة الله جل وعلا وطاعة رسوله، فلا بد من الرسالة، فالناس في أمس الحاجة إلى رسالة الرسول، أكثر من حاجتهم إلى الأكل والشرب، والأكل والشرب غايته إذا تركه الإنسان أن يموت، والموت ليس هو الشقاء، بل الشقاء أن يموت الإنسان على غير الإسلام، على غير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا هو الشقاء في الواقع.
إذاً: تكون الضرورة إلى معرفة رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم أشد من الضرورة إلى الأكل والشرب وما يشابهه من الضروريات التي لا يمكن أن يستقيم أمر الإنسان بدونها، فهو أمر ضروري جداً؛ لأن به سعادة الإنسان، وإذا فقده شقي، [فإن ضرورة العبد إلى ذلك فوق كل ضرورة].(58/16)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [59]
الغلو والإفراط في مدح الأنبياء والأولياء وتعظيمهم وسيلة إلى الشرك والخروج عن المشروع، ولذلك حذر الرسول صلى الله عليه وسلم أمته أشد التحذير من ذلك، ورغم ذلك فقد وقع فيه كثير ممن ينتسبون إلى الإسلام.(59/1)
حديث: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم)
قال المصنف رحمه الله: [وعن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله) أخرجاه].
الإطراء هو الزيادة في المدح والكذب فيه، بأن يكذب فيه، ويزيد على غير الواقع ويتعمد الكذب، فيقول شيئاً ليس فيه، هذا هو الإطراء، إذا قالوا: فلان أطرى فلاناً، فالمعنى أنه مدحه مدحاً فوق ما يستحقه، وقال فيه شيئاً ليس فيه من المدح، فالرسول صلى الله عليه وسلم ينهى الأمة أن تمدحه بشيء لم يجعله الله له، كأن يقال: إنه يعلم الغيب، أو يقال: إنه يجيب الدعاء إذا دعي، أو يقال: إنه يكشف الكروب، ويغيث اللهفان، ويفرج الكربات، ويعلم ما يعلمه الله، وأنه يقدر على أن يدخل من يشاء الجنة، ويقدر على أن يدخل من يشاء النار، وما أشبه ذلك.
أو أن يمدحه بالمدح الذي نهى عنه، فالرسول صلى الله عليه وسلم حريص جداً على هداية الأمة، فكان يعنته ما يشق عليهم، والذي يشق على الأمة هو كل ما يكون سبباً لعذاب الله فإن هذا يشق على الرسول صلى الله عليه وسلم، كما قال الله جل وعلا: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] (عزيز عليه ما عنتم) يعني: يعز عليه ويشق عليه الشيء الذي يعنتكم، والعنت هو ما فيه العذاب (حريص عليكم) يعني: على هدايتكم (بالمؤمنين رءوف رحيم) صلوات الله وسلامه عليه.(59/2)
عقائد النصارى الضالة في عيسى عليه السلام
قوله صلوات الله وسلامه عليه: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم) النصارى مدحوا عيسى عليه السلام بأشياء مكذوبة، فقالوا: إنه ابن الله، أو إنه الله، أو إنه هو وأمه والله آلهة، وإلى الآن يقولون: الأقانيم الثلاثة، والأقنوم مرة يفسرونه بمعنى، ومرة يفسرونه بشخص، ومرة لا يدرون ما هو، ولو سألت أحدهم: هي أو الأقانيم الثلاثة، فكثير منهم لا يدري ما هي، وكثير منهم يفسرها بأشياء لا تعقل، وقد يقول: هو اجتماع اللاهوت بالناسوت، فاللاهوت دخل وحل في الناسوت، أي أن الإله حل في الإنسان، تعالى الله وتقدس.
ثم منهم من يقول: اليسوع هو الذي جاء لإنقاذ البشرية، وهو الذي قدم نفسه فداء حتى يتحمل ذنوب الناس، وهو الإله، وقد كان في رحم أمه تسعة شهور، ثم خرج من فرجها صبياً رضيعاً يحتاج إلى من يقوم عليه، ومن يجلب له الأمر الذي به حياته، ثم يأكل ويشرب، ثم يأتي بلازم ذلك، ثم يتسلط عليه اليهود على حد زعمهم حتى يمسكوه ويصلبوه على خشبة ويقتلوه، تعالى الله عن قولهم، أين عقولهم؟ عقول سخيفة جداً؛ ولهذا لعنهم الله بذلك، {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73] أو {قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة:17] وأخبر أن هؤلاء كفروا بالله جل وعلا.
وعلى كل حال يحذرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن نسلك مسلك هؤلاء المتطرفين، ولكن الأمة الإسلامية ليس فيها من يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الله، أو هو إله مع الله بهذه الصراحة، ولكنهم أعطوه بعض من المعاني التي هي لله جل وعلا، فادعوا أنه يعلم الغيب، وادعوا أنه يجيب من دعاه ومن ناداه، وأنه من تعلق به نجاه من عذاب الله، وأنه من استغاث به يغيثه، ولو كان الله غاضباً على ذلك المستغيث، وأشياء من هذا القبيل، فأعطوه المعاني فقط، وأما ما يقوله النصارى فإنهم تركوا القول به لظهور الكفر فيه، والشيطان يقنع بهذا، وهذا المعنى يكفي عنده.(59/3)
عيسى عليه الصلاة والسلام عبد لله
وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد)، العبد ليس له مع الإله شيء، بل هو معبد تحت قهر سيده وتصرفه، يكون مطيعاً لسيده غير خارج عن طاعته، ولا يكون شريكاً لسيده، فقوله: (إنما أنا عبد) يعني: كسائر عبيد الله جل وعلا.
عيسى عليه السلام وصفه أنه عبد، وأول كلمة تكلم بها أمام الناس قوله: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} [مريم:30]، وقد كلم أمه عندما: {قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا * فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} [مريم:23 - 26].
فهذا كلامه لها فقط، ولكن كلامه للناس أول ما سمعوا منه أنه قال: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} [مريم:30]، فأمه عليها السلام كما قال الله: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} [مريم:27 - 29] يعني قالت: كلموه ولا تكلموني أنا، {قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} [مريم:29 - 30] إلخ.
فهو عبد من عبيد الله جل وعلا، ولا أحد من عباد الله -لا من رسله ولا من ملائكته- يتكبر ويترفع عن أن يكون عبداً لله جل وعلا، بل كلما كان الإنسان أعرف بالله صار تحقيقه للعبودية أعظم من غيره، كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه حقق مقام العبودية لربه جل وعلا حتى أثنى الله عليه بلفظ العبادة في أشرف المقامات التي يقومها الرسول صلى الله عليه وسلم، كمقام التحدي حيث قال: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23] قال: (على عبدنا) فأشرف ما يتحلى به الإنسان أن يكون عبداً حقيقياً لله جل وعلا.
والمقصود أن قوله: (إني عبد الله) يعني: ليس لي من الإلهية شيء، ولا من الملك شيء، ولا من حقوق الله شيء، وإنما أنا عبد كسائر عباد الله إلا أن الله منَّ علي بالرسالة، فالله شرفه بها وكرمه بها، وأوجب طاعته واتباعه.(59/4)
حرمة الغلو في النبي محمد صلى الله عليه وسلم
قوله عليه الصلاة والسلام: (فقولوا: عبد الله ورسوله) يعني: خاطبوني بهذا الخطاب، قولوا: عبد الله ورسوله، وهذا الذي ينبغي أن يقوله الإنسان، وهو ما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم، والإنسان إذا كان يحب الرسول صلى الله عليه وسلم فعلامة حبه أن يكون متبعاً لسنته كما قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31].
ولا يمكن أن يكون الإنسان محباً لله جل وعلا وهو غير محب للرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم ملازمة لمن يحب الله إذا كان صادقاً، فإذا كان الرجل ممن يحب الرسول صلى الله عليه وسلم فيجب عليه أن يمتثل أمره، فيقول مثلما قال له: (قولوا: عبد الله ورسوله)، ويتبع سنته، ويبتعد عن الشيء الذي نهاه عنه مثل الإطراء.
والإطراء هو المدح الزائد الذي لا يجوز، وكثير من الناس ومن الشعراء وغيرهم يقع فيه، فجعلوه بمنزلة الرب جل وعلا، فجعلوا له كل الأمور، وقالوا: لولاه ما خلق الله شيئاً، ويرددون كلاماً باطلاً كقولهم: لولاك ما خلقت الأملاك ولا الأفلاك، فيقولون: إنه أصل الخلق، وهو أصل الأنوار، فآدم خلق من أجله، والملائكة خلقت من أجله، والسماوات والأرض خلقت من أجله، وهذا إطراء زائد، وفيه مخالفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هو في الواقع ضد ما أمر به تماماً، فصار هؤلاء في جانب، وهو في جانب صلوات الله وسلامه عليه.
وأشرف ما يقوم بالإنسان أن يشرفه الله جل وعلا بالرسالة، فيكفي أن يقال: عبد الله ورسوله، وجاء في سنن أبي داود وغيره كما سيأتي، أن قوماً جاءوا إليه وقالوا له: أنت سيدنا وابن سيدنا، فكره هذا القول، وقال: (قولوا بقولكم، لا أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله جل وعلا)، فهو صلوات الله وسلامه عليه يكره أن يدعى له شيء مما هو خاص بالله، ومن فعل ذلك أبغضه وعاداه صلوات الله وسلامه عليه، فهؤلاء يأتون بأسباب بغضه ومعاداته لهم، فهو يعاديهم ويبغضهم، ثم هم يدعون أنهم يسلكون الطرق السليمة الموصلة إلى قربه ومحبته، ولكن الشيطان يغري الإنسان بالأمور التي يقبلها هو، فكلما رآه يقبل شيئاً زاده حباً لها.(59/5)
فضل عمر رضي الله عنه
قال الشارح: (قوله: عن عمر) هو ابن الخطاب بن نفيل -بنون وفاء مصغراً- العدوي أمير المؤمنين، وأفضل الصحابة بعد الصديق رضي الله عنهم، ولي الخلافة عشر سنين ونصفاً، فامتلأت الدنيا عدلاً، وفتحت في أيامه ممالك كسرى وقيصر، واستشهد في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين رضي الله عنه].
وهذا باتفاق أهل العلم، بخلاف أهل البدع الذين لا يجوز أن يلتفت إليهم، فإن أفضل الصحابة على الإطلاق أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ويليه في الفضل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ويليه في الفضل عثمان رضي الله عنه، ويليه في الفضل علي رضي الله عنه، فترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة، هذا ما عليه أهل السنة، وهو الذي دلت عليه النصوص.
وبعد ذلك بقية الصحابة، فأفضلهم من شهد بدراً، ثم الصحابة الذين شهدوا بيعة الرضوان، ثم من جاء بعدهم، على هذا الترتيب؛ لأن الله جل وعلا يقول: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} [الحديد:10] يعني: لا يستوون مع الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا.(59/6)
فضل الصحابة
حصل نزاع بين بعض المهاجرين الأول وبعض من هاجر متأخراً قبل فتح مكة، بين خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف، ومعروف أن عبد الرحمن بن عوف من المهاجرين الأولين، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (دعوا لي أصحابي، فوالله! لو أنفق أحدكم مثل جبل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)، هذا القول يوجه إلى الصحابة فكيف بمن بعدهم؟ والصحابة رضوان الله عليهم كلهم خير قرون هذه الأمة؛ لأن الله اختارهم لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، فصاروا يقاتلون العدو معه، وصاروا يمتثلون أمره، ويظهرون دين الله على يديه، ويتربون على يديه، ويتلقون الإيمان منه، فلا يمكن أن يكون أحد مثلهم، فالصحابة رضوان الله عليهم اختارهم الله جل وعلا؛ ولهذا نص الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك وقال: (خير القرون الذين بعثت فيهم)، وكان يوصي ويقول: (لا تتخذوا أصحابي غرضاً ترمونهم، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم)، فالذي يبغض الصحابة يبغض رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا شك، والذي يحبهم يحبهم بمحبة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يحبهم صلوات الله وسلامه عليه، ويوصي بحبهم.
والله جل وعلا أثنى عليهم كثيراً فقال جل وعلا: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح:29] من هم الذين معه؟ هم الصحابة عموماً، ثم يثني عليهم ويقول: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29]، ويذكر مثلهم في التوراة، ومثلهم في الإنجيل.
وكذلك يقول جل وعلا: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:8 - 10].
وهذا الذي يجب أن يكون عليه المسلم، أن يقول هذا القول: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10].
وفي آخر سورة الفتح يقول الله: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29]؛ ولهذا يقول الإمام مالك رحمه الله: من غاظه شأن الصحابة فليس من المسلمين؛ لقول الله تعالى: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29] فحب الصحابة دين، يرجى به الخير الكثير، فالله يثيب عليه، وهم الواسطة بيننا وبين رسولنا صلوات الله وسلامه عليه الذين نقلوا إلينا الشرع، فنقلوا إلينا القرآن، ونقلوا إلينا أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم كاملة، فالذي يطعن فيهم معناه أنه يطعن في الدين، ويكون النقلة الذين نقلوا الدين ليسوا عدولاً عنده، وربما يقول: إنهم كفار! فماذا يكون المعنى؟ ولهذا يقول أبو زرعة رحمه الله: من طعن في الصحابة فإنما يطعن في الدين الإسلامي، فهم الذين نقلوا إلينا الدين الذين جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وقد عدلهم الله جل وعلا، فهم عدول بتعديل الله، ولا يمكن أن يثني الله جل وعلا على قوم يعلم أنهم سيرتدون ويكفرون؛ لأنه علام الغيوب، فكيف يثني عليهم ويمدحهم ثم بعد ذلك يتركون دينهم؟ هذا لا يمكن، فهو علام الغيوب جل وعلا، وقد قال جل وعلا: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18]، وفي آيات كثيرة جداً يمدحهم، ويذكر خير أمة أخرجت للناس، وأنهم تركوا ديارهم وأموالهم وأولادهم نصرة لله ولرسوله، ويذكر أنه رضي عنهم، ويذكر أنه أعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار.(59/7)
أفضل الصحابة أبو بكر الصديق
أفضل الصحابة على الإطلاق أبو بكر الصديق رضي الله عنه، للنصوص التي جاءت، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان كثيراً ما يقول: أبو بكر وعمر، ففي مرة قال صلوات الله وسلامه عليه لأصحابه: (إن رجلاً كان يسوق بقرة، فبينما هو كذلك إذ تعب فركبها، فالتفتت إليه وقالت: ما خلقنا لهذا، وإنما خلقنا لحرث الأرض والسقي! فقالوا: سبحان الله! بقرة تتكلم؟! فقال: آمنت بذلك أنا وأبو بكر وعمر ولم يكن أبو بكر وعمر يومئذ في المجلس).
ومرة أخرى كان يحدث أصحابه صلوات الله وسلامه عليه -كما في الصحيحين- فقال: (بينما راع يرعى غنمه، إذ عدا عليه ذئب فأخذ شاة، فاستنقذها راعي الغنم منه، فجلس الذئب على ذنبه فقال: من لها يوم لا راعي لها غيري؟ فقالوا: سبحان الله! ذئب يتكلم؟! فقال: آمنت بذلك أنا وأبو بكر وعمر، ولم يكن أبو بكر وعمر في الناس يومئذٍ)، وأشياء كثيرة.
ولما مرض صلوات الله وسلامه عليه قال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس)، ولما سمعت عائشة ذلك قالت: إن حدث بالرسول صلى الله عليه وسلم حادث لا يزال الناس يكرهون من يقوم مقامه، ولا يمكن أن يوازي رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد، فيكرهون الرجل الذي قام مقام الرسول صلى الله عليه وسلم، فقالت: (يا رسول الله! لو أمرت غيره، فإنه رقيق القلب، إذا قرأ القرآن كثر بكاؤه فلا يسمع الناس -وهي ليس قصدها هذا- لو أمرت غيره، فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس، فذهبت وقالت لـ حفصة: اذهبي وقولي له: كذا وكذا -وحفصة كانت صديقتها - فذهبت وقالت له ذلك، فغضب الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال: إنكن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس)، فكرر ذلك، وأكد ذلك، فبقي أبو بكر يصلي بالناس مدة ما كان مريضاً، ولما مات وحدث ما حدث بين الصحابة من الخلاف، تراجعوا وقالوا: قد رضيه لديننا فنرضاه لدنيانا، ووفقهم الله جل وعلا إلى ذلك، وقد هم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكتب كتاباً له ثم ترك الكتاب، وعلم أن الله جل وعلا يهديهم إلى هذا، وأنهم لا يحتاجون للكتاب فتركه.(59/8)
معنى الإطراء
قال الشارح: [قوله: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم)، الإطراء مجاوزة الحد في المدح، والكذب فيه، قاله أبو السعادات وقال غيره: أي: لا تمدحوني بالباطل، ولا تجاوزوا الحد في مدحي.
قوله: (إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله) أي: لا تمدحوني فتغلوا في مدحي كما غلت النصارى في عيسى عليه السلام فادعوا فيه الإلهية، وإنما أنا عبد الله ورسوله، فصفوني بذلك كما وصفني ربي، فقولوا: عبد الله ورسوله، فأبى المشركون إلا مخالفة أمره وارتكابه نهيه، وعظموه بما نهاهم عنه، وحذرهم منه].
قصده بالمشركين هنا الذين يعبدون قبور الصالحين، ويعبدون الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن كان الله جل وعلا قد صان قبره عن العبادة، فحماه لدعوته صلوات الله وسلامه عليه، فأصبح لا يستطيع أحد أن يصل إلى قبره صلوات الله وسلامه عليه؛ صيانة له من الله، واستجابة لدعوته حينما دعا ربه وقال: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، ولكن كثيراً من الناس يعبد الصالحين عبادة صريحة، فيدعوهم، ويلجأ إليهم فيما لا يستطيعه إلا الله، مثل شفاء المرض، ومثل الرزق، ومثل الولد، ودفع العدو، وما أشبه ذلك، يستغيثون بالأموات، ويسألونهم هذا، وهذا شرك، فقصده بالمشركين هؤلاء.
قال الشارح: [وناقضوه أعظم مناقضة، وضاهوا النصارى في غلوهم وشركهم، ووقعوا في المحذور، وجرى منهم من الغلو والشرك شعراً ونثراً ما يطول عده، وصنفوا فيه مصنفات] مضى في درس سابق ذكر المصنفات والمصنفين في هذا، ولكن تسميتها أو تسمية أصحابها لا داعي له، وليس هناك دافع للتسميات.(59/9)
من الإطراء تجويز الاستغاثة برسول الله صلى الله عليه وسلم
قال الشارح: [وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله عن بعض أهل زمانه أنه جوز الاستغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما يستغاث فيه بالله، وصنف في ذلك مصنفاً رده شيخ الإسلام، ورده موجود بحمد الله].
الرد هو كتاب الاستغاثة، وهو موجود مطبوع بهذا الاسم: "كتاب الاستغاثة".
[ويقول: إنه يعلم مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا الله، وذكر لهم أشياء من هذا النمط، نعوذ بالله من عمى البصيرة].
والعجيب أن هذا المؤلف من القضاة! ألف هذا الكتاب رداً على شيخ الإسلام ابن تيمية حينما قال: لا يجوز شد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، وأن شد الرحال إلى زيارة القبور لا يجوز، فرد عليه وقال: إنه يجب أن تشد الرحال إلى زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، بل ويستغاث به، وكل ما يستغاث فيه بالله جل وعلا فالرسول مثله يستغاث به! يعني: تستغيث به من ذنوبك كما تستغيث بالله جل وعلا، وتسأله الجنة والنجاة من النار مثلما تسأل الله جل وعلا، يقول هذا القول وهو قاض؛ ولهذا قال الشارح: (نعوذ بالله من عمى البصيرة)، والإنسان إذا عميت بصيرته لم ينفعه العلم، نسأل الله العافية!(59/10)
قصيدة البوصيري فيها غلو في إطراء النبي عليه الصلاة والسلام
قال الشارح: [وقد اشتهر في نظم البوصيري قوله: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حدوث الحادث العمم] البوصيري نسبة إلى بوصير، وهي بلدة في مصر معروفة، ومقصوده في قصيدة البردة، وهي مشهورة، وفيها استغاثة برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويوجد ما هو أشر من البردة، مثل: شعر البرعي، وكله استغاثات شركية شنيعة، نسأل الله العافية! فليس ذلك خاصاً وكثير جداً غيرهما.
فليس ذلك خاصاً بـ البوصيري أو بـ البرعي، بل كثيرون وقعوا في هذا الأمر العظيم الذي فيه مخالفة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم)، ومضادة له صلوات الله وسلامه عليه، ثم هم يزعمون أنهم يحبونه بذلك، ولكن الشيطان يزين للإنسان السوء حتى يصبح الباطل في قالب الحق، ويرى أن الباطل حقاً، ويرى أن الحق باطلاً؛ ولهذا يقول الله جل وعلا: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} [فاطر:8] فمن يهديه؟ لا يستطيع أحد أبداً، الذي يزين له سوء عمله يرى عمله السيئ حسناً، وهذا معناه الهلاك.
قال الشارح: [وما بعده من الأبيات التي مضمونها إخلاص الدعاء واللياذ والرجاء والاعتماد في أضيق الحالات] ما بعد هذا البيت أبيات معروفة، حتى أن كثيراً من الناس يحفظها كما يحفظ الفاتحة، ويجعلون لهم ورداً منها، يدعون الله بها، وقوله: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حدوث الحادث العمم يعني: ما له من يلوذ به إلا الرسول صلى الله عليه وسلم! أين الله؟! وما هو الحادث العمم؟ الحادث العمم هو الذي يعم الخلق، وهو يوم القيامة، فإذا جمع الناس في صعيد واحد فهذا هو الحادث العمم، يقول: في ذلك الموقف ما لي من ألوذ به سواك ثم يقول: ولن يضيق رسول الله جاهك بي إذا الكريم تجلى باسم منتقمِ الكريم هو الله، أي: إذا اتصف باسم المنتقم لينتقم من العصاة يقول: لا يضيق جاهك بي يا رسول الله! احمني من غضب الله، فهذا استغاثة بالرسول على الله، وهذا شيء فظيع جداً، نسأل الله العافية.
ثم يقول: فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلمِ وضرة الدنيا هي الآخرة، يعني: من جملة جودك -يا رسول الله- الدنيا والآخرة، إذاً: ماذا بقي لله؟! يقول: ومن جملة علومك علم اللوح والقلم! اللوح الذي كتب فيه كل شيء، والقلم الذي كتب به الله جل وعلا كل شيء، فماذا بقي لله؟ هل يوجد إطراء فوق هذا؟ نسأل الله العافية.
ثم يمضي بنحو هذا الكلام الذي هو مضادة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم تماماً، وهذا كثير في الواقع من هذا الرجل، ويوجد غيره أيضاً؛ ولهذا يجب على الإنسان أن يسأل ربه السلامة دائماً، وأن يسأله الهداية؛ لأن المسألة ما هي مسألة عقل، أو مسألة كون الإنسان العاقل يعلم ويعرف، بل من منّ الله جل وعلا عليه بالهداية، فهذا الذي يكون فضل الله عليه عميماً، ويجب عليه أن يشكر الله، وإلا فهؤلاء علماء يشرحون الأحاديث، ويفسرون القرآن، ويؤلفون في سائر أصناف العلم، ومع ذلك يقعون في هذه الأمور الفظيعة الشنيعة، نسأل الله العافية!(59/11)
المطرون للنبي عليه الصلاة والسلام ناقضوه بارتكاب ما نهى عنه
قال الشارح: [وأعظم الاضطرار لغير الله، فناقضوا الرسول صلى الله عليه وسلم بارتكاب ما نهى عنه أعظم مناقضة، وشاقوا الله ورسوله أعظم مشاقة، وذلك أن الشيطان أظهر لهم هذا الشرك العظيم في قالب محبة النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه، وأظهر لهم التوحيد والإخلاص الذي بعثه الله به في قالب تنقصه].
يعني أنهم يقولون: إذا نهيت عن الاستغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم فهذا تنقص له، وما عرفت حقه، ولو عرفت حقه لدعوت إلى الاستغاثة به ودعائه، هذا معنى أنهم جعلوه في قالب التنقص، فجعلوا النهي عن الشرك الذي هو التوحيد تنقصاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا كما نقول: إذا زين للإنسان سوء عمله فإنه يرى القبيح حسناً، والحسن قبيحاً، نسأل الله العافية، فلا أحد يستطيع هدايته إلا رب العالمين، إذا شاء أن يهديه هداه.
قال الشارح: [وهؤلاء المشركون هم المتنقصون الناقصون، أفرطوا في تعظيمه بما نهاهم عنه أشد النهي، وفرطوا في متابعته، فلم يعبئوا بأقواله وأفعاله، ولا رضوا بحكمه ولا سلموا له].
الإفراط: هو الزيادة على المشروع، وأما التفريط فهو النقص منه وتركه، ومعصية أمره، والناس ما يأتيهم النقص في دينهم إلا من هذين الوجهين فقط، إما أن يزيدوا على المشروع أو ينقصوا منه.
قال الشارح: [وإنما يحصل تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم بتعظيم أمره ونهيه، والاهتداء بهديه، واتباع سنته، والدعوة إلى دينه الذي دعا إليه، ونصرته، وموالاة من عمل به، ومعاداة من خالفه، فعكس أولئك المشركون ما أراد الله ورسوله علماً وعملاً، وارتكبوا ما نهى عنه ورسوله، فالله المستعان].(59/12)
حديث: (إياكم والغلو)
[وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو)].
هذا الحديث رواه أصحاب السنن والإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما يقول: لما كان غداة مزدلفة قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (القط لي حصى، فلقطت له سبع حصيات هن حصى الخذف)، والخذف صفة معروفة، يضع الإنسان الحصاة على ظفر أصبعه الإبهام ثم يرميها هكذا، هذا يسمى الخذف، فهي حصى صغيرة، يقول: (فأخذهن وصار ينفضهن بيده، ويقول: بمثلهن فارموا، وإياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو)، والغلو هو التجاوز والزيادة على المشروع، وهذا وإن كان في حصى الجمار فإنه عام في الواقع، يعني: إياكم أن تظنوا أن الرمي بالحصى الكبار أبلغ فتخالفوا سنة الرسول صلى الله عليه وسلم فتهلكوا، وتكونون غلوتم في ذلك، (فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو)، وهو تجاوز الشيء المشروع، وهذا يكون في كل الدين، فإذا تجاوز الإنسان ما شرعه الله كان طريقاً إلى الهلاك، ومنه الغلو في الحب.
قال الشارح: [قوله: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو) هذا الحديث ذكره المصنف بدون ذكر راويه، وقد رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث ابن عباس] بل رواه أهل السنن، ولكن هو اقتصر على الراجح الصحيح، فذكر أصحاب السنن الذين رووه بسند صحيح.(59/13)
حرمة الغلو في الاعتقادات والأعمال
قال الشارح: [وهذا لفظ رواية أحمد: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة جمع: (هلم القط لي، فلقطت له حصيات من حصى الخذف، فلما وضعهن في يده قال: نعم بأمثال هؤلاء فارموا، وإياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين).
قال شيخ الإسلام: هذا عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال، وسبب هذا اللفظ العام رمي الجمار وهو داخل فيه، مثل الرمي بالحجارة الكبار بناء على أنه أبلغ من الصغار، ثم علله بما يقتضي مجانبة هدي من كان قبلنا إبعاداً عن الوقوع فيما هلكوا به، فإن المشارك لهم في بعض هديهم يخاف عليه من الهلاك].
مقصود شيخ الإسلام بقوله: إنه عام، قوله: (إياكم والغلو)، فهذا عام في كل شيء، سواء في الأوامر التي يؤمر بها الإنسان مثل أن يزيد فيها فيكون قد تعدى المشروع، أو في النواهي التي نهي عنها بأن يبالغ في تركها فيترك الشيء الذي شرع، فيكون متعدياً للمشروع.
وقوله: (وهو داخل فيه) يعني: أن رمي الجمار داخل في هذا لأنه من الدين، فالغلو هو المجاوزة سواء كان في الفعل أو كان في الترك، أو كان في القول كالمدح الذي يكون في كذب أو غير ذلك.(59/14)
حديث: (هلك المتنطعون)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولـ مسلم عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (هلك المتنطعون قالها ثلاثاً)].
قال الشارح: [قال الخطابي: المتنطع المتعمق في الشيء، المتكلف البحث عنه على مذاهب أهل الكلام الداخلين فيما لا يعنيهم، الخائضين فيما لا تبلغه عقولهم.
ومن التنطع: الامتناع من المباح مطلقاً كالذي يمتنع من أكل اللحم والخبز، ومن لبس الكتان والقطن، ولا يلبس إلا الصوف، ويمتنع من نكاح النساء، ويظن أن هذا من الزهد المستحب، قال الشيخ تقي الدين: فهذا جاهل ضال.
انتهى].
يعني: أن الإنسان إذا بالغ في مجانبة الأمور التي قد يخيل إليه أن تركها أحب إلى الله، وهو في ذلك ليس على دليل؛ لأن الإنسان في كل ما يتعبد به يجب أن يكون على دليل، ولا يجوز أن يعمل برأيه أو بقياسه أو بالنظر إلى ما الناس عليه؛ لأن العبد مقيد في عبادة الله جل وعلا بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، سواء قدر على فعل ذلك أو لم يقدر؛ لأنه ليس كل إنسان يستطيع أن يأتي بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم: (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه)، فقيد الفعل بالمستطاع، أما الترك فيجب أن يجتنب جميعاً، ولا يقول: ما استطعت أن أترك هذا، فكل منهي عنه يستطيع أن يجتنبه.
فالإنسان إذا لم يكن متقيداً بالشرع فهو على خطر عظيم، ولا بد أن يقع في التقصير أو يقع في التفريط، إما أن يقع في البدع أو يقع في المعاصي، ولا يخلو من ذلك إذا لم يكن متقيداً بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
لما جاء أولئك النفر يسألون عن عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبروا بهديه وبطريقته، وأرادوا أن يزيدوا على ما كان يفعله الرسول صلى عليه وسلم، فقال أحدهم: أنا أقوم ولا أنام، وقال الآخر: أنا لا أتزوج النساء، وقال الآخر: أنا لا آكل اللحم، كل ذلك تقشفاً وطلباً للخير باجتهادهم، ولما بلغ ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لكني أقوم وأنام، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، وأصوم وأفطر، فمن رغب عن سنتي فليس مني).
من كان مجتهداً وقاصداً الخير، ولكنه لم يكن على طريقة المصطفى صلى الله عليه وسلم فإنه يكون ضالاً، ويكون غاوياً، ويكون آثماً، فقد قال الله جل وعلا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية:2 - 4] فأخبر أنها مع خشوعها وعملها ونصبها تصلى النار الحامية، وذلك لأنهم يتعبدون بالبدع، بغير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.(59/15)
معنى التنطع
قال الشارح: [وقال ابن القيم رحمه الله: قال الغزالي: والمتنطعون في البحث والاستقصاء.
وقال أبو السعادات: هم المتعمقون الغالون في الكلام، المتكلمون بأقصى حلوقهم، مأخوذ من النِطع، وهو الغار الأعلى من الفم، ثم استعمل في كل متعمق قولاً وفعلاً].
الصواب أن هذا عام ليس كما يقول الخطابي رحمه الله، فإنه يخصه بالمتكلم المتشدق، بل هو عام مطلق في كل شيء، فالذي يبالغ في الأمور، ويتعدى فيها المشروع متنطع، ويكون هالكاً.
وأما كون الرسول صلى الله عليه وسلم ردد هذه الكلمة ثلاثاً فهذه سنته صلوات الله وسلامه عليه، كان إذا تكلم بالكلمة أعادها ثلاث مرات حتى تفهم عنه وتحفظ، ولم يكن كلامه كثيراً، بل يستطيع الإنسان الحاضر عنده أن يحصي كلامه وأن يحفظه، وإذا تكلم بكلام أعاده ثلاثاً حتى يحفظ عنه، وقد تكون الإعادة للمبالغة في التحذير والتبليغ الذي كلف به وأُمر به، وقد تكون لهذا وهذا، أي: للتعليم وللمبالغة والتحذير.
قال الشارح: [وقال النووي: فيه كراهة التقعر في الكلام بالتشدق وتكلف الفصاحة، واستعمال وحشي اللغة ودقائق الإعراب في مخاطبة العوام ونحوهم.
قوله: (قالها ثلاثاً) أي: قال هذه الكلمة ثلاث مرات مبالغة في التعليم والإبلاغ، فقد بلغ البلاغ المبين صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين].(59/16)
مسائل باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين
قال المصنف رحمه الله: [فيه مسائل: الأولى: أن من فهم هذا الباب وبابين بعده، تبين له غربة الإسلام، ورأى من قدرة الله وتقليبه للقلوب العجب].
هذا الباب والذي قبله والبابان اللذان بعده؛ كلها بمعنى واحد، ولكن المؤلف رحمه الله نوع الأدلة، ونوع الكلام، وأبدى فيه وأعاد؛ لأن الخطأ فيه عميق وكثير، حتى يفهم الإنسان، ومعلوم أنه بتنويع الكلام وترديده يفهم الناس أكثر مما لو كان مرة واحدة، وهذا الخطر لا يزال قائماً بين الناس من عبادة القبور والتبرك بها، والعكوف عندها، وقصدها لطلب النفع ودفع الشر، فهذا لا يزال في الناس، وهذا أعظم ما وقع من النقص في الدين؛ ولهذا أكثر المؤلف من ذكر النصوص في الباب الذي قبل هذا، وفي هذا الباب، وبابين بعده.
[الثانية: معرفة أول شرك حدث في الأرض أنه بشبهة الصالحين].
المقصود بشبهة الصالحين شبهة حبهم، ولا يعني أن الصالحين مشبهون وملبسون على الناس، ليس هذا المراد، ولكن المقصود أنه لبس الحق بالباطل، فزعموا أنهم يحبون الصالحين، وكان هذا هو الباعث لهم أولاً، فصوروا صورهم، ونصبوها في مجالسهم التي كانوا يجلسونها للتعبد، زاعمين أن في هذا تذكيرهم وتنشيطهم على العمل الذي كان يعمله أولئك، فبقوا على هذا وقتاً كما سبق، ثم بعد ذلك جاء الجيل الذي بعدهم، ونسي السبب الذي من أجله نسبت الصور، ودب إليهم الشيطان فقال لهم: إن آباءكم صوروا هذه الصور للتبرك بها، والتوسل بها، وطلب شفاعتها، وجعلها وساطة بينكم وبين رب العالمين، لتسألوا بها؛ فوقعوا في الشرك، هذا معنى قوله: بشبهة الصالحين، يعني: بشبهة حبهم، وكل هذا سببه البدع، فإن هذا أمر مبتدع، ولو التزموا ما جاء به أبوهم آدم عليه السلام ولم يحيدوا عنه ما وقعوا في شيء من ذلك.
[الثالثة: أول شيء غير به دين الأنبياء، وما سبب ذلك، مع معرفة أن الله أرسلهم].
هذه نفس المسألة، يعني بالتصوير والعكوف على الصور.(59/17)
قبول البدع مع كون الشرائع والفطر تردها
[الرابعة: قبول البدع، مع كون الشرائع والفطر تردها].
الشرائع تردها، والنفوس التي بقيت على فطرتها تردها، ولكن الواقع أن الإنسان لا يستطيع أن يدرك الشرع بعقله أو بفطرته، فالشرع هو أمر ونهي من عند الله جل وعلا، فلا بد من تلقيه من الرسل، والفطرة لا تستطيع أن تستقبل أمر الله ونهيه وتعرفه، وإن كانت الفطرة تميل إلى الحق وتقبله وتريده، وتنفر عن الباطل، ولكن لا بد لها من هادٍ ومرشد الذي هو الوحي، وإلا كان المجتمع نفسه يضل الفطرة ويغيرها، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، وليس المقصود بالأبوين الأم والأب حقيقة، وإنما المقصود المربي، وقد يكون المربي هو الشارع، وقد يكون المربي وسائل تعليمية، وقد يكون المربي هو المدرسة وغير ذلك، فالمربي هو الذي يغير فطرة الإنسان.
فالمقصود: أن الفطرة لا تستقل بمعرفة الشرع، وأنه لا بد من تلقي الأمر والنهي من الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن هي تنفر عن الباطل إذا لم تألفه، أما إذا ألفته وعايشته فإنها تحبه وتبقى متغيرة، فإذا ذهبت الفطرة جاء بدلها حب الشر وإلفه كما هو نص هذا الحديث: (فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه).(59/18)
أن من سبب الشرك مزج الحق بالباطل
[الخامسة: أن سبب ذلك كله: مزج الحق بالباطل، فالأول: محبة الصالحين.
والثاني: فعل أناس من أهل العلم والدين شيئاً أرادوا به خيراً، فظن من بعدهم أنهم أرادوا به غيره].(59/19)
تفسير قوله تعالى: (وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا)
[السادسة: تفسير الآية التي في سورة نوح].
هي واضحة: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح:23]، وقد تقدم أن هذه أسماء رجال صالحين، وأن هؤلاء هم الذين صوروا صورهم، ثم صارت صورهم أوثاناً تعبد، حتى وصلت إلى العرب.(59/20)
جبلة الآدمي على كون الحق ينقص في قلبه ويزيد الباطل
[السابعة: جبلة الآدمي في كون الحق ينقص في قلبه، والباطل يزيد].
الواقع أنه ليس في قلبه فقط، وإنما ينقص في قلبه وفي أفعاله، وقد ثبت في الصحيح من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يأتي زمان إلا وما بعده شر منه)، جاء أصحاب أنس بن مالك رضي الله عنه يشكون إليه ما يجدونه من الحجاج وظلمه وتعسفه، فقال: (اصبروا، فإنه لا يأتي زمان إلا وما بعده شر منه، سمعت ذلك من نبيكم صلى الله عليه وسلم) , وهذا مطلق: (لا يأتي زمان إلا وما بعده شرٌ منه)، حتى تأتي الساعة التي تقوم على شرار خلق الله، فإنها تقوم على أناس لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً.(59/21)
البدع سبب الكفر
[الثامنة: فيه شاهد لما نقل عن السلف أن البدع سبب الكفر].
وهذا واضح في أن هذه البدعة لما ابتدعوها في دين الله جرتهم إلى الكفر وعبادة الشياطين وعبادة الأصنام، فصارت سبباً لترك الدين كله وليس بعضه، وهكذا البدع كلها؛ ولهذا يقول السلف: إن الشيطان يفرح بالبدعة أكثر من فرحه بالمعصية.
أي: كون الإنسان يبتدع أحب إلى الشيطان من أن يزني أو يسرق؛ لأنه إذا فعل جريمة من الجرائم وهو يعرف أنها منكر، وأنها قبيحة، وأن الله يبغضها، ويعاقب عليها، يبقى في قلبه حرج منها وضيق، ثم ربما يتوب ويرجع، بخلاف البدعة فإنه إذا كان يراها ديناً فإنه يتمسك بها ويزداد منها، وتثبت في قلبه حتى يتشرب بها فلا يتركها، فهذا كون البدع بريد الكفر والشرك، والشيطان يحبها أكثر.
وهذا معنى قول السلف: إن صاحب البدعة لا توبة له، وليس معناه أنه لا تقبل توبته إذا تاب، وإنما المراد أنه لا يتوب؛ لأنه إذا كان يعتقد أن هذا دين كيف يتوب منه؟ إنما هذا علاجه بالعلم واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا تبين له ذلك ربما يتوب فيتوب الله عليه.(59/22)
معرفة الشيطان بما تئول إليه البدعة
[التاسعة: معرفة الشيطان بما تئول إليه البدعة ولو حسن قصد الفاعل].
الشيطان فقيه فيما يدعو إليه، وفي تزيين المعاصي للناس، وعنده دقة فيها، وعنده في الواقع مبالغة وفصاحة، وعنده حيل عجيبة وغريبة، فهو يجري من ابن آدم مجرى الدم، فيرى ماذا تميل إليه نفسه! وماذا يحب! فيزين له هذه الأشياء حتى يكون تمسكه بها وأخذه بها عن إقبال واقتناع، بخلاف الذي تحذوه حاجة إلى فعل المعصية، فإن هذا يفلت من يد الشيطان غالباً، إذا كان الذي دعاه إلى مواقعة المعصية: إما شهوة، أو حاجة، أو غضب، أو معاندة لإنسان أو ما أشبه ذلك، فهذا ممكن أن ينفلت من يد الشيطان ويرجع إلى صوابه ويتوب، فيتوب الله عليه.(59/23)
النهي عن الغلو ومعرفة ما يئول إليه
[العاشرة: معرفة القاعدة الكلية، وهي النهي عن الغلو ومعرفة ما يئول إليه.
الحادية عشرة: مضرة العكوف على القبر لأجل عمل صالح].
المقصود أن هؤلاء لما صوروا هذه الصور للتذكر، ثم بعد ذلك صارت أصناماً، من ذلك العكوف على القبر؛ لكونه مثلاً يدعوه، أو أنه يظن أن الدعاء عنده يتقبل ببركة الصلاح الذي كان هو عليه، أو لأن له عند الله جاهاً، وأن الله يكرمه، فإذا كان الإنسان كما يقوله العوام وغيرهم من طلبة العلم أشباه العوام الذين يذهبون إلى القبور يلتجئون إلى أصحابها، ويزعمون أن فيها البركة وأن الجلوس عندها ينيل الجالس بركة من بركاتها، وقد يدفع عنه مثلاً سوءاً أو عدواً أو أذى، والواقع أنها لا تنفع ولا تضر، بل تضر أكثر مما تنفع.
والذي شرعه لنا الرسول صلى الله عليه وسلم في إتيان القبور هو السلام عليهم، والدعاء لهم، وتذكر الآخرة فقط، أما أن يلتمس شيئاً آخر فهو ضلال.
فإذاً: الجلوس عند القبر لطلب نفع من أمور الدنيا أو الآخرة بدعة وضلالة، ويجعل الإنسان سائراً في طريق الشرك إلى جهنم؛ لأن هذا من وسائل الشرك العظيم.(59/24)
معرفة النهي عن التماثيل والحكمة في إزالتها
[الثانية عشرة: معرفة النهي عن التماثيل والحكمة في إزالتها] التماثيل: هي الصور، فكل صورة تسمى تمثالاً سواء كان لها ظل أو كانت منحوتة باليد، أو مصورة باليد، أو لم يكن لها ظل، فهي تمثال، والتماثيل هي سبب عبادة الأصنام، ولهذا جاءت الأحاديث في تحريمها، والوعيد على فاعلها، وهذا شيء أظنه ما جاء في معصية من المعاصي، وقد بالغ الرسول صلى الله عليه وسلم وأكثر من الأحاديث فيها، فقال صلوات الله وسلامه عن ربه جل وعلا أنه قال: (ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا شعيرة).
وقال صلوات الله وسلامه عليه: (كل مصور في النار يجعل له صورة بما صور، يعذب بها في النار) وقال: (من صور صورة كلف أن ينفخ فيها الروح يوم القيامة، وليس بنافخ) يقال له: أحي ما خلقت، انفخ فيها الروح وأحيها.
أحاديث كثيرة وصحيحة، ومبالغة في التحذير.
فينبغي للمسلم أن يحذر من الوقوع في هذه المعصية، وكثير من الناس يتخذ هذا له رزقاً، ويتخذه له مهنة، وربما يفعله الإنسان عبثاً مثلما يقول بعضهم: يصور للتذكرة، وبعضهم قد يملأ بيته صوراً نسأل الله العافية، وقد جاء أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة، وليست الملائكة التي تحفظ على الإنسان أعماله، فهؤلاء لا يفارقون الإنسان: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18].
ولكن هناك ملائكة للرحمة، يبحثون عن مجالس الذكر، وملائكة معقبات وغيرها، لكن الكتبة لا يفارقون العبد، فلا ينطق كلمة إلا سجلوها.
المقصود أن التصوير أمره ليس سهلاً، والواقع أنه كله حكمه سواء، سواء كان (فوتغرافياً) أو نقشاً باليد أو غير ذلك، بل التصوير بالآلة يكون أدق من التصوير باليد، والمحذور موجود في هذا وهذا؛ لأن المحذور فيه مشابهة الرب جل وعلا الخلق؛ لهذا يتحداهم الله جل وعلا ويقول: (فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا شعيرة)، ويكلفهم أن ينفخوا الروح.
أما إذا اضطر الإنسان إلى التصوير فالضرورة تبيح المحرم، وذلك كمن لا يستطيع أن يسافر إلا بصورة، ويلزم بأن يأتي بصورة حتى يكون مثبتاً هويته وما أشبه ذلك، فهذه ضرورة، والإنسان يفعل الضرورة مضطراً وكارهاً، ولكن لا يفعل ذلك اختياراً؛ لأنه إذا فعل ذلك اختياراً دخل في الوعيد.(59/25)
معرفة شأن قصة قوم نوح
[الثالثة عشرة: معرفة شأن هذه القصة، وشدة الحاجة إليها مع الغفلة عنها].
المقصود بالقصة قصة هؤلاء الذين صوروا هذه الصور، ثم عبدوها فيما بعد، يقول: إنها كثيرة في كتب التفسير والحديث، وهي مشهورة، وفيها إيضاح وبيان؛ لأن الناس وقعوا فيما وقع فيه أولئك، ومع كثرتها والحاجة إليها وكون الناس يقرءونها في الكتب؛ لكنهم يقعون في نفس ما وقع فيه أولئك، فما السبب؟ السبب في الواقع هو كون الإنسان لا يطبق الذي جاء في كتاب الله، وفي أحاديث رسوله على عمل نفسه، ويظن أن هذه الأخبار والوقائع في قوم كانوا ففنوا، وليس لهم وجود ولا وارد، فإذا قيل له مثلاً: لا تفعل كذا وكذا، قال: لا تستدل علي بآيات نزلت في اليهود، أو نزلت في المشركين، وما علم أن فعله هو فعل المشركين تماماً، والقرآن نزل للمستقبل وليس للماضي، نزل ليعمل به، وليتفهمه الإنسان، والذي يحول بين الإنسان وبين فهم كلام الله وفهم كلام رسوله صلى الله عليه وسلم هو كون الشيطان يأتيه ويقول: لا تطبق هذه الآيات على المسلمين؛ فتكون بذلك قد سلكت مسلك الخوارج، هكذا يقولون! ثم هناك أمور وضعها الشيطان للحيلولة بين الناس وبين فهم كتاب الله، والشيطان قد يكون شيطاناً من الإنس، وليس شيطان الجن فقط، وقد جاءوا مثلاً بشروط وضعوها لمن يريد أن يعرف كلام الله، وما أنزل الله جل وعلا بها من سلطان، فقالوا: لا بد أن يكون الإنسان عارفاً باللغة العربية، مجملها ومفصلها، وعامها وخاصها، ولا بد أن يكون عالماً بالناسخ والمنسوخ، ولا بد أن يكون عالماً بالفصاحة والبلاغة لا بد أن يكون ذكروا ما يقرب من ثلاثين شرطاً في الإنسان الذي يريد أن يتكلم بكتاب الله أو بحديث رسوله.
يقول شيخ الإسلام: هذه الشروط لا تجتمع في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فيجعلونها حائلاً بين الإنسان وبين فهمه لكتاب الله وهي من الشيطان.(59/26)
أن الله حال بين القبوريين وبين قلوبهم في معرفة حقيقة ما صنعه قوم نوح
[الرابعة عشرة: وهي أعجب وأعجب: قراءتهم إياها في كتب التفسير والحديث، ومعرفتهم بمعنى الكلام، وكون الله حال بينهم وبين قلوبهم، حتى اعتقدوا أن فعل قوم نوح أفضل العبادات، واعتقدوا أن ما نهى الله ورسوله عنه فهو الكفر المبيح للدم والمال].
المقصود بهذا أنه مع ظهور هذه المسألة ووضوحها، وكونهم يقرءونها في كتب التفسير وغيرها، فإن الله جل وعلا حال بينهم وبين قلوبهم أن يفقهوا ذلك، فوقعوا فيما وقع فيه قوم نوح، واعتقدوا أن هذا الذي وقعوا فيه أفضل العبادات، يعني: أن العكوف على القبور، وسؤال أصحابها، والاستنجاد بهم في الملمات، وطلب جلب المنافع ودفع الضرر من أصحاب القبور، يرون أنه أفضل الأعمال، ويسمونه توسلاً، ويسمونه حباً للصالحين، ومن كراماتهم.
ويقولون: كرامة الصالحين هي ثابتة لهم بعد مماتهم كثبوتها لهم قبل مماتهم في حال حياتهم.
وكل ما يعتمدون عليه دعاوى، وربما اعتمدوا على المنامات والأحلام، وربما اعتمدوا على شيء يأتي به الشيطان لهم ليضلهم ويزيدهم في الضلال، والذي ينهى عن هذا ويأمر بما أمر به رسول الهدى صلوات الله وسلامه عليه يقولون: هو مبتدع! هو ضال! هو خارجي! أو جاء بمذهب خامس، ليس من أهل السنة، وهو من الذين يكفرون المسلمين ويخرجون عليهم.
وهذا معنى قوله: وصار التوحيد عندهم الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من أعظم الضلال، (عندهم) يعني: حسب عقيدتهم.(59/27)
التصريح بأنهم لم يريدوا إلا الشفاعة
[الخامسة عشرة: التصريح بأنهم لم يريدوا إلا الشفاعة] يعني: تصريح الذين عبدوا الأصنام أنهم لا يريدون منهم إلا الشفاعة، أي: لا يعتقدون أنهم يخلقون مع الله، أو شركاء لله في الخلق والإيجاد والتدبير والتصريف، فلا أحد منهم اعتقد هذا، وإنما يقول: أدعوهم ليشفعوا لي عند الله، هذا شرك المشركين، وليس عندهم شرك أكثر من ذلك، أما الذي يزعم أن المشركين يسجدون للأصنام لأنهم يعتقدون أنها تدبر وتتصرف في الكون، فهذا كذب عليهم، ما كانوا يفعلون هذا، بل هذا تكذيب للقرآن، فإن الله جل وعلا يقول: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25] ويقررهم بذلك، فيقول جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21] {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22] تعلمون أن هذه الأشياء كلها بيد الله، وأن الأصنام ليس لها شيء من ذلك، فشركهم هو طلب الشفاعة.
ويقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس:18] هذه عبادتهم! وهذا شركهم! فهذا أخف من شرك المشركين الذين يشركون بالقبور اليوم، فإنهم يزعمون أن أصحاب القبور يتصرفون بالأمور كجلب المنافع ودفع المضار، ولهم تصرف وأن الله ملكهم التصرف، هكذا يقولون! فيمكن أن يهزموا الأعداء، ويمكن أن يجلبوا النفع للإنسان الخاص بأن يوجدوا له ولداً، أو زوجة أو رزقاً أو ما أشبه ذلك.(59/28)
نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن إطرائه
[السادسة عشرة: ظنهم أن العلماء الذين صوروا الصور أرادوا ذلك.
السابعة عشرة: البيان العظيم في قوله: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم) فصلوات الله وسلامه على من بلغ البلاغ المبين] الرسول صلى الله عليه وسلم لم يترك شيئاً ما بلغه، ولا سيما الأمور التي تتعلق بعبادة الله جل وعلا، فإنه بالغ فيها حتى لم يترك شيئاً من الأمور التي تكون وسيلة إلى فعل الشرك إلا ونهى عنها وحذر منها، فلما قالوا له: أنت سيدنا وابن سيدنا، قال: (قولوا بقولكم أو بعض قولكم، لا أحب أن تطروني أو أن تنزلوني فوق منزلتي التي أنزلني الله جل وعلا إياها، أنا عبد الله ورسوله، فقولوا: عبد الله ورسوله).
ولما قال له الرجل: (ما شاء الله وشئت، قال: أجعلتني لله نداً؟!) ومعلوم أن له مشيئة يفعل بها، وهذا القائل يقول هذا القول أمام فعل يفعله صلوات الله وسلامه عليه، ولكن منعه منه صلى الله عليه وسلم حتى لا يدخل الشيطان إليهم من هذا الباب، فيوقعهم في الضلال.
كذلك لما قال قائل منهم: (قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق، قال: إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله) كل هذا سداً للباب، ومنعاً من أن يقعوا في محذور مما نهى الله جل وعلا عنه، فهو صلوات الله وسلامه عليه ما ترك شيئاً من الأمور التي يمكن أن تكون وسيلة أو طريقة إلى الشرك إلا وسدها ومنعها ونهى عنها، مبالغة في ذلك.
ومن ذلك: كونه نهى عن مدحه وقال: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد الله ورسوله، فقولوا: عبد الله ورسوله).(59/29)
نصيحته صلى الله عليه وسلم إيانا بهلاك المتنطعين
[الثامنة عشرة: نصيحته إيانا بهلاك المتنطعين.
التاسعة عشرة: التصريح بأنها لم تعبد حتى نسي العلم، ففيها بيان معرفة قدر وجوده ومضرة فقده].
يعني: وجود العلم، والمقصود به العلم النافع، وهو العلم الشرعي الموروث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما العلم الذي يكون من أفكار الرجال وأقيستهم، أو يكون من الوضع الذي تواضعوا عليه، أو من علوم الدنيا، فهي إما مضرة أو يكون نفعها قليل جداً، وإنما النفع بالعلم الشرعي الذي يهدي إلى الله، وإذا فقد العلم فقد الخير كله، وفقد العلم بموت العلماء؛ لأن الكتب لا تفيد إذا كان الإنسان لم يوفق إلى من يدله على الفهم الصحيح، وكيف يسير في الطريق فيخطئ أكثر مما يصيب، ويضر أكثر مما ينفع.
الكتب تنفع ولكن نفعها محدود، وليس في كل شيء، وقد يفهم فهماً خطأ، ولا بد أن يكون الإنسان عارفاً بالأدلة، فالمقصود أن العلم النافع هو ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو ما في كتاب الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم.(59/30)
سبب فقد العلم موت العلماء
[العشرون: أن سبب فقد العلم موت العلماء].(59/31)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [60]
لقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من اتخاذ القبور مساجد أشد التحذير، وبين أن سبب لعن اليهود والنصارى أنهم اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، حتى آل الأمر إلى عبادتهم إياهم، ولذلك خشي النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ قبره مسجداً فقال: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد)؛ فاستجاب الله دعاءه وحمى جنابه من أن يكون وسيلة إلى الشرك.(60/1)
التغليظ من عبادة الله عند قبور الصالحين
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده؟] هذا الباب من الأبواب التي كررها المؤلف للحاجة إليها؛ لكثرة ما يقع الناس في المخالفة في هذا، ولا يزال الناس بأمس الحاجة إلى معرفة الحق في ذلك، واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن كثيراً منهم يقع في الشرك وهو يظن أنه جائز، والواقع أنهم يخطئون في فهم الخطاب الذي يتعلقون به، فمثلاً: يسمعون كلمة التوسل فيظنون أن التوسل هو طلب الشفاعة من الأموات؛ لأنهم وجدوا الناس هكذا يصنعون، فظنوا أن هذا هو التوسل، وهو الوسيلة، فإذا قال الله جل وعلا: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة:35] قالوا: الوسيلة أن نذهب إلى الأولياء، ونطلب منهم أن يشفعوا لنا عند الله، ويقربونا إلى الله، فتكون الوسيلة التي أمر الله بها هي الشرك على حد قولهم وزعمهم.
كذلك ما فهموا معنى العبادة التي أمر الله جل وعلا بها الخلق فقال: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ} [النساء:36]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة:21] هل معنى (نعبد ربنا) أن العبادة مجرد السجود؟ لا، العبادة كل شيء يتقرب به، ويطلب نفعه أو ضره، ويجب أن تكون لله، والأمور التي ليست من الأسباب الظاهرة التي يباشرها الإنسان لا يجوز طلبها إلا من الله جل وعلا، فمن أين للأموات أن يطلب منهم النفع أو الضر؟ هل عندهم أسباب؟ كلا، ليس عندهم شيء، والأموات في الواقع أعجز من الأحياء، إذ الأحياء يقدرون على ما لا يقدر عليه الأموات، فكيف يطلب من ميت انقطع عمله ولا يستطيع أن يزيد في صحيفة حسناته حسنة واحدة، ولا أن يمحو من سيئاته سيئة واحدة، بل ما استطاع أن يدفع الديدان عن بدنه، ثم يأتي إنسان عاقل ويلتجئ إليه ويدعوه؟!! من أين له الدعوة؟ والله خلقك وكرمك بالعقل، وسخر لك ما في الأرض، ثم تهبط بعقلك وبفعلك إلى هذا المستوى المنحط الذي يمقتك الله جل وعلا عليه، ويجعلك من أبعد الخلق عنه، ولهذا صار المشرك الذي يجعل الدعاء والعبادة لغير الله ميئوساً منه، وإذا مات على ذلك فهو في النار قطعاً: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] وهل يجوز للمسلم أن يسمع أن الله جل وعلا لا يغفر الشرك ثم لا يتعرف على الشرك ولا يعرف ما هو؟ لا يجوز، فيجب أن يعرف الإنسان الشرك، ويعرف العبادة والتأله؛ حتى لا يقع فيما نهاه الله جل وعلا عنه؟ فالنقص كله يأتي الناس من هذه النواحي.
أصل الدين الإسلامي الذي دعت إليه الرسل: لا إله إلا الله، وليس المقصود التلفظ بها، وإنما المقصود أن ينفي التأله عن غير الله، ويثبته لله وحده، وأن يجعل التأله لله وحده وينفيه عن غيره.
وفي هذا الباب يقول: (ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده؟) أي: فكيف إذا عبد ذلك الصالح؟ يعني: فإنه يكون مشركاً إذا عبد الرجل الصالح، والمشرك مخلد في جهنم، وإنما كان هذا الوعيد لمن عبد الله عند القبر؛ لأن ذلك وسيلة إلى عبادة القبر.(60/2)
علماء السوء ومشابهتهم النصارى في تجويز البناء على القبور
قال الشارح رحمه الله: [قوله: باب ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده؟ أي: الرجل الصالح، فإن عبادته هي الشرك الأكبر، وعبادة الله عنده وسيلة إلى عبادته، ووسائل الشرك محرمة؛ لأنها تؤدي إلى الشرك الأكبر وهو أعظم الذنوب.
قال المصنف رحمه الله تعالى: في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أن أم سلمة ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور؛ فقال: (أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك الصور؛ أولئك شرار الخلق عند الله)، فهؤلاء جمعوا بين فتنتين: فتنة القبور، وفتنة التماثيل] هذا الحديث مخرج في الصحيحين، قوله: (في الصحيح) يعني: في الحديث الصحيح، وهو جاء برواية أم سلمة وأم حبيبة زوجتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه القصة ذكرت له في مرض موته صلوات الله وسلامه عليه، فقال هذا القول.
(أنها رأت في كنيسة)، الكنيسة هي معبد النصارى، أي: المكان الذي يتعبدون فيه، فأخبرت أنها رأت فيها تصاوير، فقال: (أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح)، أما قوله: (الرجل الصالح أو العبد الصالح)، فهذا شك من الراوي هل قال الرسول صلى الله عليه وسلم: العبد الصالح أو قال: الرجل الصالح؟ وكلاهما بمعنى واحد، والمعنى أنه إذا مات فيهم الصالح صوروا صورته، ووضعوها للتذكر كما هو في القصة الماضية، والهدف أن تذكر بأعماله فيجتهد كاجتهاده، هذا في الأصل، ثم بعد ذلك كانوا يتبركون به، وربما يكون لإحياء ذكراه وتعظيمه.
والصور إذا صورت وعلقت للتعظيم فهذا من أكبر المحرمات، ومن أكبر وسائل الشرك التي تدعو إليه، فالمقصود أنه أخبر أنهم شرار الخلق عند الله، بسبب هذا الصنيع، وهو اتخاذ التصاوير مع العبادة عندها، ومثل ذلك كون الإنسان يقصد قبراً ويصلي عنده أو يقصد قبراً ويدعو الله عنده، فيكون داخلاً في شرار الخلق، فهذا وجه الدليل من ذلك، وهو واضح.
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (في الصحيح) أي: الصحيحين، قوله: (أن أم سلمة) هي: هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشية المخزومية، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أبي سلمة سنة أربع وقيل: ثلاث، وكانت قد هاجرت مع أبي سلمة إلى الحبشة، ماتت سنة اثنتين وستين.
قوله: (ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم) وفي الصحيحين أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والكنسية بفتح الكاف وكسر النون: معبد النصارى.
قوله: (أولئك) بكسر الكاف خطاباً للمرأة.
قوله: (إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح) هذا -والله أعلم- شك من بعض رواة الحديث: هل قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا أو هذا؟ ففيه: التحري في الرواية، وجواز الرواية بالمعنى.
قوله: (وصوروا فيه تلك الصور) الإشارة إلى ما ذكرت أم سلمة وأم حبيبة من التصاوير التي في الكنسية.
قوله: (أولئك شرار الخلق عند الله) وهذا يقتضي تحريم بناء المساجد على القبور، وقد لعن صلى الله عليه وسلم من فعل ذلك كما سيأتي] وعلماء السوء الذين يدعون إلى الضلال يقولون: يستحب البناء على القبور، وفيه أجر، ويدعون الناس إلى بذل الأموال في ذلك، وإلى فعل هذا، وهذا في الواقع مصادمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فما حجة الفاعل الذي يفعل مثل هذا إذا وقف بين يدي الله؟ يقول: غرني فلان! قال لي: إنه يستحب فاتبعته! هذا لا يفيد؛ لأن فلاناً ليس رسولاً، كل إنسان كلف أن يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط، وأن يتعرف على قوله، وإذا جاءه إنسان يقول له: هذا الأمر مستحب أو فيه فضل؛ يقول: ما الدليل من قول الله أو قول رسوله؟ وربما لبس عليه إذا كان ما عنده علم؛ لأن هؤلاء عندهم شبه وزيغ، ويريدون أموراً معينة، فيضلوا الناس بها؛ ولهذا أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن أخوف ما يخاف على أمته جدال منافق عليم بالقرآن، فبين أن المنافق يكون عليم اللسان بالقرآن، ولكنه يكون ضالاً، فلا بد من الاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا بد من الاهتمام بذلك، يجب أن يهتم الإنسان بأمر دينه أكثر من اهتمامه بأمر دنياه في جلب الأموال وتحصيلها، فتكون همته بما يقدم في صحائفه، ويعمر به قبره أكثر مما يعمر به بيته؛ لأن البيت لبثه فيه ليس كثيراً في الواقع، وإن لبث ستين سنة أو سبعين سنة لكنه سيلبث في قعر قبره مئات السنين، وليس معنى ذلك أن الإنسان إذا مات صار نسياً منسياً، كلا، هو حي في الواقع، ولكن في حياة أخرى، وإلا فهو حي، إما أن يعذب وإما أن ينعم، ولا يجوز أن ينسى الإنسان مستقبله.
وأهم شيء أن تكون عباداته صحيحة، وعلى وفق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، هذا أهم شيء، وليس المهم أن يكثر من العبادات، لا، المهم أن تكون عباداته صحيحة، وأن يؤدي الواجب مثل الصلوات الخمس، والزكاة، وصوم رمضان، والحج، فإذا أدى العبادة صحيحة فهو من أهل الجنة بلا شك، إذا جاء بها كما ينبغي، ولا يلزم أن يقوم الليل، وأن يصوم النهار، وأن يتصدق بأمواله، ليس هذا بلازم، وأهم شيء أن تكون عبادته كلها لله خالصة.(60/3)
الدين الإسلامي مبني على الإخلاص والمتابعة
العلماء يقولون: الدين الإسلامي مبني على شيئين: أن تكون العبادة خالصة لله، وأن تكون العبادة موافقة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ما نعبد الله إلا بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، أما الكثرة فهي أمر آخر، الكثرة لا شك أنه يتحصل بها العبد على الدرجات العالية، لكن إذا نجا الإنسان من العذاب وسلم فقد فاز: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران:185] مهما كان عمله، ومهما كانت درجته، دع عنك التفاوت في الدرجات، المهم أن تزحزح عن النار وتدخل الجنة، والشقاء الأبدي أن يموت الإنسان مشركاً، هذا هو الشقاء في الواقع؛ ولهذا: يجب على الإنسان أن يعتني بذلك كثيراً، فكيف مثلاً بعلماء يكتبون الكتب في التفسير، وشروح الحديث، وفي الكلام، وفي الفقه وأصوله وغيرها، ويدعون الناس إلى عمارة القبور والبناء عليها والعكوف عندها عكس ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! كيف يكون هذا؟! من للإنسان إذا اغتر بهؤلاء؟! الإنسان ليس معذوراً، ولا ينفعه إذا قال يوم القيامة لربه: رب هؤلاء غروني وأضلوني كما أخبر الله جل وعلا أن الضعفاء يقولون للملأ من الكبراء والقادة الذين يقودونهم: {رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ} هل يكفي هذا؟ ما يكفي، يقول الله جل وعلا: {قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ} [الأعراف:38] لهم ولكم؛ لأنكم ما كلفتم أن تتبعوهم، فالمسألة واضحة في الواقع، الرسول صلى الله عليه وسلم ينهى عن إسراج القبور، ويلعن من أسرجها، ومن جصصها، ويأمر بتسويتها، ثم يأتي هؤلاء ويأمرون بعمارتها، والبناء عليها، والإسراج عليها، وإذا قيل لهم؛ قالوا: الحديث الذي في صحيح مسلم عن أبي الهياج الأسدي ضعيف! هل الذي في صحيح مسلم ضعيف وقولهم صحيح؟ هكذا يقولون صراحة.
فالضلال ما له حد، ويجب على الإنسان أن يكون على بصيرة من أمره، والرسول صلى الله عليه وسلم قد أنذر وبلغ، وقامت الحجة على الناس ببلاغه، فلا حجة لإنسان على ربه بقول فلان أو فلان.(60/4)
علة لعن النبي صلى الله عليه وسلم النصارى في اتخاذ القبور مساجد
قال الشارح رحمه الله: [قال: قال البيضاوي: لما كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور الأنبياء تعظيماً لشأنهم، ويجعلونها قبلة يتوجهون في الصلاة نحوها، واتخذوها أوثاناً؛ لعنهم النبي صلى الله عليه وسلم.
قال القرطبي: وإنما صور أوائلهم الصور ليتأسوا بهم، ويتذكروا أعمالهم الصالحة؛ فيجتهدوا كاجتهادهم؛ ويعبدوا الله عند قبورهم، ثم خلفهم قوم جهلوا مرادهم، ووسوس لهم الشيطان أن أسلافهم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها؛ فحذر النبي صلى الله عليه وسلم عن مثل ذلك؛ سداً للذريعة المؤدية إلى ذلك.
قوله: (فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين: فتنة القبور، وفتنة التماثيل) هذا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، ذكره المصنف رحمه الله تنبيهاً على ما وقع من شدة الفتنة بالقبور والتماثيل، فإن الفتنة بالقبور كالفتنة بالأصنام أو أشد، قال شيخ الإسلام رحمه الله: وهذه العلة -التي لأجلها نهى الشارع صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ المساجد على القبور- هي التي أوقعت كثيراً من الأمم إما في الشرك الأكبر أو فيما دونه من الشرك، فإن النفوس قد أشركت بتماثيل الصالحين، وتماثيلٍ يزعمون أنها طلاسم الكواكب ونحو ذلك.
فإن الشرك بقبر الرجل الذي يعتقد صلاحه أقرب إلى النفوس من الشرك بخشبة أو حجر؛ ولهذا تجد أهل الشرك يتضرعون ويخضعون، ويعبدون بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في بيوت الله، ولا وقت السحر، ومنهم من يسجد لها، وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة عندها والدعاء ما لا يرجونه في المساجد.
فلأجل هذه المفسدة حسم النبي صلى الله عليه وسلم مادتها حتى نهى عن الصلاة في المقبرة مطلقاً، وإن لم يقصد المصلي بركة البقعة بصلاته كما يقصد بصلاته بركة المساجد.
كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس وغروبها؛ لأنها أوقات يقصد المشركون فيها الصلاة للشمس، فنهى أمته عن الصلاة حينئذ وإن لم يقصد ما قصده المشركون، سداً للذريعة.
وأما إذا قصد الرجل الصلاة عند القبور متبركاً بالصلاة في تلك البقعة فهذا عين المحادة لله ولرسوله، والمخالفة لدينه، وابتداع دين لم يأذن به الله.
فإن المسلمين قد أجمعوا على ما علموه بالاضطرار من دين رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن الصلاة عند القبور منهي عنها، وأنه لعن من اتخذها مساجد.
فمن أعظم المحدثات وأسباب الشرك: الصلاة عندها، واتخاذها مساجد، وبناء المساجد عليها] نهي الرسول صلى الله عليه وسلم ولعنه للذين يبنون على القبور مساجد ليس لأجل نجاسة المقابر أو نجاسة القبر التي يزعمون أنها بسب الصديد؛ ولهذا لا يوجد فرق بين كون المقبرة قديمة أو حديثة، ولا يوجد فرق -على القول الصحيح عند العلماء الذين فهموا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم- بين كونها قبوراً متعددة أو قبراً واحداً، ولا يوجد فرق من كون المسجد إذا وضع فيه قبر أن يكون في قبلة المسجد أو خلفه أو يمينه أو شماله، بل الصلاة عند القبور باطلة إذا كان المسجد بني على القبر أو وضع القبر فيه، ولكن إذا كان المسجد سابقاً وجب أن يزال القبر، فينبش ويذهب به إلى المقبرة، أما إذا بني المسجد على القبر فيجب أن يهدم المسجد؛ لأنه وضع وضعاً غير شرعي مخالف لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم وقوله، وكل هذا خوفاً من أن يتعلق قلب المسلم بغير الله جل وعلا، وقد علم كيف صارت المقابر معابد وأصناماً تقصد بسبب تعظيم القبور؛ ولهذا نهى صلوات الله وسلامه عليه أن ترفع القبور، وأن يزاد عليها غير ترابها، بل أمر أن تسوى بالأرض.
وكذلك نهى عن تجصيصها أو إسراجها وهذا في صحيح مسلم، وفي سنن أبي داود زيادة الكتابة عليها، وكل هذا لأجل ألا تكون وسيلة إلى عبادتها وإلى دعاء من فيها، فإن هذا من أعظم ما يصد عن عبادة الله، ومن أعظم وسائل الشرك، حتى يكون ذلك شركاً صريحاً كما هو واقع من كثير من الناس.
ولكن إذا لم يفهم الإنسان دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وما جاء به، وأن الدين يجب أن يكون لله وحده، ولا يكون منه شيء لغيره، فإنه يقع في المخالفات وفي المصادمات كما ذكر، يعني: المحادة لله ولرسوله، والمحادة: هي أن يعلم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ثم يخالفه، ويكون مقابلاً لأمره تماماً، يخالفه قصداً سواء طلب التأويل أو لم يطلب، كما هو فعل كثير ممن يدعون إلى الوثنية، وثنية ليست كوثنية الجاهلية بل أعظم؛ لأنهم في الواقع أشركوا في أصحاب القبور شرك العبادة وشرك الربوبية، وقد كان المشركون الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أعقل منهم بكثير، حيث علموا يقيناً أن التصرف لله وحده، وأن هؤلاء يستشفى بهم، وجعلوهم وسائط بينهم وبين ربهم، أما هؤلاء فصاروا يزعمون أن المدفونين في هذه البقاع يتصرفون، ويجلبون النفع، ويدفعون الضر بأنفسهم، وأن البلد الفلاني تدفع عنه الآفات والكوارث لأجل قبور الصالحين، هكذا يقولون، وهذا شرك لم يقع فيه المشركون القدامى.(60/5)
حكم البناء على القبور واتخاذ المساجد عليها
قال الشارح رحمه الله: [وقد تواترت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن ذلك، والتغليظ فيه، وقد صرح عامة الطوائف بالنهي عن بناء المساجد عليها؛ متابعة منهم للسنة الصحيحة الصريحة، وصرح أصحاب أحمد وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي بتحريم ذلك، وطائفة أطلقت الكراهة] الواقع أن الخلاف موجود عندهم، ولكن خلاف المتأخرين في مثل هذه المسألة ينبغي ألا يلتفت إليه؛ لأنه مخالف لنصوص الرسول صلى الله عليه وسلم تماماً، وهذا تمام المخالفة، وإذا خالف قول الإنسان قول الله جل وعلا أو قول رسوله صلى الله عليه وسلم لا يجوز أن يؤخذ به، بغض النظر عن صاحب القول؛ لأنه قد يكون مثلاً جهل هذا الشيء أو التبس عليه، وقد يكون له عذر، وقد لا يكون له عذر، ولكن الإنسان إذا علم قول الله جل وعلا وقول رسوله صلى الله عليه وسلم يجب أن يأخذ بقول الله وقول رسوله، ولا يلتفت إلى قول القائل مهما كانت إمامته وعلمه.
ومن المعلوم أن أئمة الهدى من الأئمة الأربعة وغيرهم من أقرانهم وأتباعهم من علماء المسلمين لا يقصدون مخالفة الله جل وعلا، ومخالفة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما حصل التعلق بالقبور والتعبد عند أصحابها وقصدها إلا في الأزمنة المتأخرة، وأما ما يذكر في كتب الفقه من مجرد الكراهة فالمقصود به التحريم، فمثلاً في المدونة أو في غيرها من الكتب التي يزعمون أنها لأصحاب المذاهب من الأئمة الكبار، يذكرون أن هذا مكروه، وأن الصلاة في المقبرة مكروهة، فيأتي من بعدهم ويقول: الكراهة هل هي كراهة تنزيه أو كراهة تحريم؟ ويختلفون في هذا، وهذا يجب ألا يلتفت إليه؛ لأن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم صريحة في ذلك، ولا نحتاج إلى قول فلان فيها، ولا قول فلان، الإنسان إذا استبان له قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم لا يجوز له أن يأخذ بقول أحد من الناس مهما كان، وقد قال الإمام مالك رحمه الله: كل يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر صلوات الله وسلامه عليه، وكان يقول ذلك لأنه كان بجوار قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا قال قولاً وجب اتباعه وأخذه، والله جل وعلا يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63].
يقول الإمام ابن كثير رحمه الله على هذه الآية بعدما ذكر أقوال بعض الأئمة: إن الفتنة المقصود بها هنا الشرك، فإن الإنسان إذا رد قول الرسول صلى الله عليه وسلم يزيغ قلبه؛ فيكره الحق، ويؤثر الباطل على الحق؛ فيكون بذلك عابداً لهواه أو عابداً لمتبوعه، وأما العذاب الأليم فهو العذاب العاجل في الدنيا قبل الآخرة، أما الآخرة فالأمر أشد من ذلك وأعظم.
ولهذا يقول الإمام أحمد: عجبت لقوم عرفوا الحديث وصحة سنده يذهبون إلى قول سفيان.
ويقصد بسفيان سفيان الثوري رحمه الله الإمام المشهور، قال يذهبون إلى قول سفيان والله جل وعلا يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] ثم يقول: أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله يرد بعض قوله فيقع في قلبه زيغ فيهلك.
وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يأمر بمتعة الحج، فقيل له: إن أبا بكر وعمر ينهيان عن المتعة، فقال: أقول لكم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعترضون علي بقول أبي بكر وعمر؟ يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء.
هذا وهو قول أبي بكر وعمر فكيف بقول إنسان متأخر قد قل نصيبه من العلم؟! وتعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم ليس بهوى النفوس واتباع الشهوات، وإنما تعظيمه صلوات الله وسلامه عليه باتباع أمره.
وكذلك محبته صلوات الله وسلامه عليه تكون باتباع أمره وطاعته، ليس بالدعوى، ولا بالبدع وإحداث أمور يكرهها صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنه كان يقول في خطبه وفي كل مناسبة: (إن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها) دائماً يردد هذا! في صحيح مسلم أنه صلوات الله وسلامه عليه قال (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) فإذا كان الأمر الذي هو عبادة يُتقرب به إلى الله لم يكن عليه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مردود على صاحبه لا خير فيه، لا يقبل ولا يثاب عليه، وهذا في مجرد البدع، فكيف إذا كان الأمر فيه تعبد لغير الله، وفيه صرف حق الله جل وعلا لمخلوق ضعيف؟! هل من فعل هذا عرف الله؟ هل قدر الله حق قدره؟ تعالى الله وتقدس! {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا * أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا} [نوح:13 - 15] ما أحقر الإنسان! ما أحقر الخلق كلهم بالنسبة لله جل وعلا! ولهذا إذا صار يوم القيامة وجمعهم جل وعلا في صعيد واحد؛ يتبين الغبن العظيم، الذي لو قدر أن إنساناً يموت بسببه لمات الخلق، ولكن لا موت، يعضون على أيديهم من الندامة، ويعودون على الذين كانوا يصرفون إليهم هذه الأمور بالبغض والكراهية، بل باللعن، ولكن إذا كانوا لم يأمروهم بهذا ولم يدعوهم إليه فهم برآء من أفعالهم، كما أخبر الله جل وعلا عن الملائكة وغيرهم من الأنبياء والصالحين عندما يقال لهم: {أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} [سبأ:40] تقريراً لوقوع العذاب بهؤلاء العابدين، فيوجه السؤال أولاً إلى المعبود: {أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} [سبأ:40] فيقولون: {قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} [سبأ:41] الجن هي التي أمرتهم، ولا يلزم أن تكون عبادة الشيطان نفسه بأن يتجسد أمامهم ويسجدون له، ولكن من يطيع أمره بالمعصية فهو عابد له.
حق الله هو أن يكون التعلق والتعبد والرجاء والخوف والإنابة والتوبة وغير ذلك كله له، ليس لأحد من الخلق فيه شيء؛ لأنه خلق عباده ليعبدوه، فيجب أن يحمى هذا الجانب كما حماه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصانه، غير أن عدم الاهتمام بما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به هو الذي يوقع في الخلل والنقص، ثم يوقع في الشرك نسأل الله العافية، وإلا فكيف يتصور الإنسان أن أناساً يتحصلون على أعلى شهادة اليوم في العلم، ثم يصبح أحدهم يقرر الشرك الذي يقع عند القبور، بل يقولون: إنه مستحب؛ لأنه توسل، أين العلم؟ وما فائدة العلم إذا كانت هذه هي النتائج؟! ثم هذا الكلام وهذه التقريرات تقدم للمطابع فتطبعها، ثم تنشر على العالم الإسلامي، وليس كل الناس في العالم الإسلامي يميز بين الحق والباطل، كثير منهم يغتر بالاسم، إذا رأى على الكتاب: الدكتور الفلاني، أو العالم الفلاني الذي من صفته كذا وكذا؛ تمسك بهذا، وصار كأنه متيقن بأن هذا حق؛ لأنه عنده كتاب، وهذا لا يكون معذوراً؛ لأن الناس كلهم يجب عليهم أن يأخذوا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ينفعهم قول الدكتور الفلاني أو العالم الفلاني، كما أخبرنا ربنا جل وعلا أنه إذا كان يوم القيامة يقول الأتباع لأتباعهم: {رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا} [الأعراف:38] ما يفيد، الله جل وعلا يعذب الجميع وتقول الملائكة: قد جاءكم الرسل فلماذا ما أجبتموهم؟ هل هؤلاء رسل لكم؟ هل جاءوكم بسلطان؟ هل جاءوكم بوحي من عند ربكم؟ ليس لأحد الحجة على الله جل وعلا.
ثم إن هذا الشيء لا يجوز التفريط فيه، ويجب الاهتمام بذلك؛ لأن الأمر خطر جداً، أخطر من أن يتصوره الإنسان الذي لا يعرف الحقائق، وذلك أن الإنسان قد يكون على شيء يظن أنه حق، ثم يموت عليه وهو باطل فيهلك، فهل يمكنه أن يعود مرة أخرى ليصلح ما فسد؟ كلا، العمر واحد، فإذا لم يحسن وضعه وقصده ونيته وعبادته لربه جل وعلا في هذه الحياة فإنه إذا مات لا يفيده كونه تعلق بفلان أو فلان أو اغتر بفلان، وكل إنسان مسئول، والله جل وعلا أخبر عن الرسل أنهم يسألون: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:6]، {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ} [المائدة:109] الرسل يجمعون ويسألون أولاً، لماذا لم تجابوا؟ الأمر شديد جداً، الرسل ليس لهم سلطة على الخلق، الرسل جاءوا يبلغون الرسالة فقط، ولكن ليسألهم حتى يعلم الجاني خطر موقفه، وأنه يستحق أليم العذاب، وهكذا في كل مجرم، فإن الله جل وعلا أخبرنا أنه يسأل البنت المقتولة التي تدفن حية أولاً قبل الفاعل: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8 - 9] تسأل بأي ذنب قتلت؟ وهل تستطيع هي أن تدافع عن نفسها أو تأتي بالحجج؟ لا، فكيف بالقاتل؟ ماذا يقال فيه؟! كذلك الذين جاءتهم الرسل ما لهم حجة؛ إذ إن الرسل بينوا ووضحوا كما أمرهم الله جل وعلا، ولا نحتاج إلى بيان بعض الناس الذين فروا سواء قصدوا الفرار أو أنهم وقعوا في التكذيب الأعمى، والتعصب الشديد لفلان وفلان، فإن النفوس تحمل صاحبها على الهلاك والتعصب، حتى إنه من العجب أنه قيل لبعضهم وهو في مقام الذم لبعض أهل العلم والقدح فيهم: يا فلان! اتق الله فإننا نرجو أن الله جل وعلا يجمعك مع خصمك هذا في الجنة.
فقال: الجنة التي يكون فيها فلان لا أريدها! هذا كلام فيه شدة التعصب والبغض لبعض الأمور -وهي حق-، فيؤدي هذا إلى أن يقول مثل هذا القول، ويرى أنه على علم وحده، وهو في الواقع على جهل مركب، يعني: جاهل ويجهل أنه جاهل، وهذه مصيبة! فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم الله جل وعل(60/6)
تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من اتخاذ قبره مسجداً
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولهما عنها -أي: عن عائشة - قالت: (لما نُزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها فقال -وهو كذلك-: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذرهم ما صنعوا، ولولا ذلك أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً) أخرجاه].
(لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم) المقصود بقوله: (نزل) يعني: نزل الموت به، والخميصة: هي الكساء الذي يلتحف به، وقد يوضع على البدن، وقد كان على وجهه، (فإذا اغتم) يعني: ضاقت نفسه لشدة الكرب الذي يكون قبل الموت، وهذا يدلنا على أنه صلوات الله وسلامه عليه كان عنده نزع شديد؛ ليتضاعف أجره صلوات الله وسلامه عليه، ومع ذلك ما نسي أمته، وقد سبق أنه قال قبل ذلك كلاماً يحذر من اتخاذ القبور مساجد، فلما أخبرته أم سلمة عن الكنيسة التي رأتها في الحبشة وما فيها من التصاوير قال: (أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح -أو قال: العبد الصالح- بنوا على قبره مسجداً -أي: كنيسة- وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق)، يحذر أن تقع أمته في هذا الشيء، ومعلوم أن كنائسهم بمنزلة المساجد، ولهذا جعل المؤلف هذا دليلاً على الترجمة التي ترجمها، فلا يجوز أن يتعبد لله عند القبور، وإن كانت العبادة خالصة لله، ولكن المكان ممنوع أن تقع فيه العبادة؛ خوفاً أن يكون هذا التعبد وسيلة إلى أن تصرف العبادة لغير الله.
فبينما هو كذلك، وهو في هذه الحالة إذا اغتم ألقى الخميصة عن وجهه قال هذا القول: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، ولماذا في هذه الحالة وفي هذا الوقت يقول هذا القول؟ كل من عرف الحالة، وسمع القول، عرف مقصوده صلوات الله وسلامه عليه، فهو يحذر أمته مما وقعوا فيه، وهذا من كمال تبليغه وتمام نصحه صلوات الله وسلامه عليه.
قوله: (لولا ذلك لأبرز قبره)، هذا ليس من قوله صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من قول عائشة أو قول غيرها، (لولا ذلك لأبرز قبره) يعني: وضع في البقيع مع أصحابه، ولكن خشي أن يتخذ مسجداً، وما كانوا يخشون أنهم يعبدونه، فالصحابة لا يعبدون الرسول، ولكن يخشى أن يأتي من لا يعرف هديه وأمره فيقصد قبره للتعبد عنده، فيكون بذلك مخالفاً لما قاله صلوات الله وسلامه عليه، وفي هذا دليل على أنه ما ذكر لهم مكان قبره، وإنما دفنوه في بيته صلوات الله وسلامه عليه باجتهادهم، مع أنه جاء عن أبي بكر رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الأنبياء يدفنون في المكان الذي ماتوا فيه) فدفنوه في المكان الذي مات فيه صلوات الله وسلامه عليه، وهو في حجرة عائشة في بيتها؛ لأنه أول ما حصل له المرض صار كل يوم عند زوجة من زوجاته، يقسم بينهن وهو مريض، فلما شق عليه ذلك جمعهن واستأذنهن أن يكون مرضه في بيت عائشة فأذنَّ له، ولو لم يأذنَّ له ما فعل ذلك، فصار في آخر الأمر في بيت عائشة، والبيت عبارة عن غرفة واحدة فقط، كل واحدة من زوجاته التسع لها غرفة، وكان يقسم لهن إلا سودة لأنها وهبت يومها لـ عائشة؛ تلتمس رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنها تعرف أنه يحبها، فوهبت لها يومها، فصار يمكث عند عائشة يومين، فالمقصود أن كل واحدة منهن لها غرفة واحدة، والغرفة قد لا تتسع إلا للسرير وللأغراض التي لا بد منها، كالإناء الذي يتوضأ به وما أشبه ذلك، ولهذا لم تتسع هذه الغرفة إلا للقبور الثلاثة فقط، وكل واحد صارت رجلاه عند رأس الآخر حتى تكون واسعة لهم.(60/7)
الكلام على حديث (ما بين بيتي ومنبري) وتصرف الرواة فيه
جاء حديث في صحيح البخاري: (ما بين منبري وقبري روضة من رياض الجنة) والظاهر أنه مغير من الراوي، الراوي نفسه غير لفظه، بدليل أنه جاء في الرواية الأخرى: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة) فغير بعض الرواة بدل البيت (القبر)، ولو كان هذا ثابتاً ما اختلف الصحابة في مكان دفنه، وهذا نص صريح، وجاء عن عدد من الصحابة رووه، فدل هذا على أن اللفظ قد غير، وأن الصواب: (ما بين منبري وبيتي روضة من رياض الجنة) كما هو في بعض الروايات التي في الصحيح أيضاً.
قوله: (ولكن خشي) جاءت هذه الكلمة مضمومة الخاء ومفتوحة الخاء، (خَشي، وخُشي)، فإذا كانت بالضم فمعنى ذلك أن الصحابة هم الذين خشوا ذلك، أما إذا كان بالفتح فيكون صلوات الله وسلامه عليه هو الذي خشي ذلك، وهذا بعيد؛ لأنه لو وقع ذلك لما صار عندهم خلاف أين يدفنوه، فإنهم اختلفوا في دفنه حتى روى لهم أبو بكر رضي الله عنه الحديث.
والإبراز هي العادة التي جرت بينهم، فما اعتادوا أن أحداً يدفن في بيته، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم خشي أن يقع ما وقع، وهذا في الواقع وقع لغيره ممن لا يدانيه، بل لا يداني لباسه الذي يكون عليه، بل لا يداني نعاله صلوات الله وسلامه عليه، فلا أحد يقاس على رسول الله صلى الله عليه وسلم مهما كان.
فلا شك أن الفتنة تكون في هذا أقرب وأكثر؛ لهذا يوجد الآن كثير من الناس الذين لا يعرفون التوحيد كما ينبغي؛ لو مكن من حمل ترابه وأكله والسجود عليه لفعل، كثير من الناس لو يتمكن من أكل التراب الذي على قبره لأكله، ولو يتمكن أن يسجد عليه لسجد، ويرى أن هذا هو غاية المنى؛ لجهلهم بدين الرسول صلى الله عليه وسلم، وما يحبه وما يكرهه، فهذا مكروه، بل هو من أبغض ما يكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.(60/8)
حماية الله لنبيه صلى الله عليه وسلم من أن يعبد قبره
حمى الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم وصانه من أن يعبد، وقد كان يقول: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ألا إني أنهاكم عن ذلك) ولهذا كره الأئمة التردد إليه للزيارة، والإمام مالك رحمه الله كره أن يقول الإنسان: زرت قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول: ما ينبغي هذا، وليس قبر الرسول صلى الله عليه وسلم كقبر غيره، فصانه الله جل وعلا وحماه أن يسري إليه الناس، فبالغ السلف في حمايته حتى بنوا عليه حيطاناً، وأغلقوها من جميع الجهات، من السقف ومن الجوانب كلها مغلقة، ولا أحد يصل إليه، ثم بني جدران عن يمين القبر وشماله، جدران ينحرفان حتى ينتهيان بزاوية من جهة الشمال؛ لئلا يستقبل في الصلاة، ولكن غير هذا، ثم غير بالشبك الذي وضع عليه، فصار الناس يستقبلونه، والإنسان له نيته وقصده، فإذا كان في استقباله يقصد القبر فله هذه النية، والإنسان يحاسب على نيته، فإنما الأعمال بالنيات.
قال الشارح رحمه الله: [قوله: ولهما عنها -أي: عائشة رضي الله عنها- قالت: (لما نُزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها فقال -وهو كذلك-: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر ما صنعوا، ولولا ذلك أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً) أخرجاه].
الصواب أن يُقال: (خُشي)، هذا هو الراجح، وإن كان بعض العلماء ضبطوه (خَشي)، فإذا كان (خَشي) فهو الذي أمر بذلك، ولكن هذا بعيد؛ لأنهم لو كانوا يعلمون أمره لما حصل خلاف بينهم في موضع دفنه.
والله يلعن من يشاء، كما أنه يرحم من يشاء، والملعون من حقت عليه اللعنة، واللعن معناه: الطرد والإبعاد عن الرحمة ومظانها، فإذا صار الإنسان ملعوناً فمعنى ذلك أنه مطرود مبعد عن الخير كله، وعن رحمة الله، وإذا طرد عن رحمة الله فمعنى ذلك أنه من أشر الخلق نسأل الله العافية.
والرسول صلى الله عليه وسلم يلعن من يلعنه الله، فالذي استحق اللعن يُلعن، ولكن قد يلعن قوماً؛ لأنهم يستحقون ذلك، ثم تتغير أحوالهم ويتفضل الله جل وعلا عليهم بالتوبة، كما سبق في قصة أحد أنه لعن عدداً من رؤساء الكفار، ثم تاب الله عليهم بعد ذلك، فمثل هذا في بيان الأحكام يدل على أن فعل هذا من الكبائر، ما يلعن إلا من خالف أمر الله أو أمر الرسول؛ لأن هذا في بيان الأحكام، وليس لعن شخص معين فعل فعلاً معيناً، فلعن هذا أمره أعظم؛ فكل من فعل هذا فهو داخل في اللعنة، فإذا فعل شيئاً من ذلك فهو داخل في لعنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسواء قلنا: إن اللعن خبر يخبر به عن الله أنه لعنه، فخبره صدق وحق، أو قلنا: إنه دعا عليه بأن الله يلعنه، والأول هو الصواب؛ لأنه صلوات الله وسلامه عليه يبين ما أنزل إليه.(60/9)
التحذير من اتخاذ القبور مساجد ومعناه
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (ولهما) أي: البخاري ومسلم وهو يغنى عن قوله -في آخره- (أخرجاه).
قوله: (لما نزل) هو بضم النون وكسر الزاي، أي: نزل به ملك الموت والملائكة الكرام عليهم السلام.
قوله: (طفق) بكسر الفاء وفتحها، والكسر أفصح، وبه جاء القرآن، ومعناه: جعل.
قوله: (خميصة) بفتح المعجمة والصاد المهملة: كساء له أعلام.
قوله: (فإذا اغتم بها كشفها) أي: عن وجهه.
قوله: (لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) يبين أن من فعل مثل ذلك حل عليه من اللعنة ما حل على اليهود والنصارى] ليس معنى الأعلام التي في الخميصة الصور، وإنما معناها: النقوش والزين المخيط عليها بالتطريز، فهذا هو المعنى المقصود، وليست الصور.
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (يحذر ما صنعوا) الظاهر: أن هذا من كلام عائشة رضي الله عنها؛ لأنها فهمت من قول النبي صلى الله عليه وسلم ذلك تحذير أمته من هذا الصنيع الذي كانت تفعله اليهود والنصارى في قبور أنبيائهم، فإنه من الغلو في الأنبياء، ومن أعظم الوسائل إلى الشرك.
ومن غربة الإسلام أن هذا الذي لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعليه -تحذيراً لأمته أن يفعلوه معه صلى الله عليه وسلم ومع الصالحين من أمته- قد فعله الخلق الكثير من متأخري هذه الأمة، واعتقدوه قربة من القربات، وهو من أعظم السيئات والمنكرات، وما شعروا أن ذلك محادة لله ورسوله.
قال القرطبي في معنى هذا الحديث: وكل ذلك لقطع الذريعة المؤدية إلى عبادة من فيها، كما كان السبب في عبادة الأصنام.
انتهى إذ لا فرق بين عبادة القبر ومن فيه وعبادة الصنم، وتأمل قول الله تعالى عن نبيه يوسف بن يعقوب حيث قال: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [يوسف:38] نكرة في سياق النفي تعم كل شرك.
قوله: (ولولا ذلك) أي: ما كان يحذر من اتخاذ قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسجداً لأبرز قبره، وجعل مع قبور الصحابة الذين كانت قبورهم في البقيع.
قوله: (غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً) روى بفتح الخاء وضمها، فعلى الفتح يكون هو الذي خشي ذلك صلى الله عليه وسلم، وأمرهم أن يدفنوه في المكان الذي قبض فيه، وعلى رواية الضم يحتمل أن يكون الصحابة هم الذين خافوا أن يقع ذلك من بعض الأمة، فلم يبرزوا قبره؛ خشية أن يقع ذلك من بعض الأمة غلواً وتعظيماً بما أبدى وأعاد من النهي والتحذير منه ولعن فاعله.
قال القرطبي: ولهذا بالغ المسلمون في سد الذريعة في قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فأغلقوا حيطان تربته، وسدوا المداخل إليها، وجعلوها محدقة بقبره صلى الله عليه وسلم، ثم خافوا أن يتخذ موضع قبره قبلة إذا كان مستقبل المصلين، فتصور الصلاة إليه بصورة العبادة؛ فبنوا جدارين من ركني القبر الشماليين، وحرفوهما حتى التقيا على زاوية مثلثة من ناحية الشمال؛ حتى لا يتمكن أحد من استقبال قبره.
انتهى].(60/10)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [61]
أخبرنا الله تعالى في كتابه أنه اتخذ إبراهيم خليلاً، وجاء عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه خليل الرحمن، فالخلة الإلهية خاصة بإبراهيم وبخاتم المرسلين صلوات الله وسلامه عليهما، وفيه دليل على أن الله يحب من يشاء من عباده حباً يليق به سبحانه، وحبه تعالى ليس لأنه محتاج إلى أحد من عباده، بل هو كرم منه سبحانه وتعالى، وقد تبرأ النبي صلى الله عليه وسلم من خلة أحد من البشر حتى لا يشارك أحدٌ ربه عز وجل في خلته صلى الله عليه وسلم.(61/1)
ثبوت خلة النبي صلى الله عليه وسلم لربه
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولـ مسلم عن جندب بن عبد الله قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: (إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل؛ فإن الله قد اتخذني خليلاً، كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك)].
قوله: (إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل) البراءة: هي الابتعاد عن الشيء والتخلص منه نهائياً، بحيث لا يقرب.
والخلة: هي أعلى مراتب الحب، ليس بعدها شيء من مراتب الحب، سميت خلة؛ لأنها تتخلل جميع القلب، فلا يبقى في القلب موضع لغير الخليل، كما قال بعض الناس في امرأة يحبها: تخلل حبها الفؤاد مني ولذا سمي الخليل خليلا يعني: أنه ليس في فؤاده موضع خال عن حبها.(61/2)
الخلة أعلى مراتب الحب
والله جل وعلا أخبرنا أنه اتخذ إبراهيم صلى الله عليه وسلم خليلاً، فالخلة الإلهية خاصة بإبراهيم وبخاتم الرسل صلوات الله وسلامه عليهما، وفيه دليل على أن الله يحب من يشاء من عباده، حباً يليق به، وحبه جل وعلا ليس لأنه -تعالى وتقدس- بحاجة إلى شيء، بل هو كرم منه.
والدليل على أن الخلة أعلى من الحب: أن الله جل وعلا ذكر أنه {يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222] {يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:4]، وذكر أصناف كثير من المؤمنين وأنه يحبهم، ولم يذكر أنه اتخذ أحداً خليلاً إلا إبراهيم، ورسولنا صلى الله عليه وسلم بين لنا أن الله اتخذه خليلاً، فصار هذا دليل على أن الخلة: أعلى مراتب الحب.(61/3)
علو منزلة أبي بكر رضي الله عنه
قول بعض الناس -الذين لا علم لهم-: إن الله اتخذ محمداً حبيباً! خطأ؛ لأن الخلة أعظم من المحبة، وقوله: (ولو اتخذت أحداً منكم خليلاً لاتخذت أبا بكر) يدلنا على أن أبا بكر رضي الله عنه هو أفضل الصحابة، وأقربهم إلى الله وسيلة وفضلاً؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يحب ما يحبه الله جل وعلا.
وقد جاءت الأحاديث الصحيحة بأنه يحب أبا بكر ففي صحيح مسلم: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث عمرو بن العاص في سرية، ثم تخلف عمرو ليصلي مع الرسول صلى الله عليه وسلم الوقت الذي يليه هذا الوقت، فلما رآه قال: ألم أرسلك؟ قال: بلى، ولكن ذهب أصحابي وأردت أن أصلي معك ثم ألحق بهم، فأخبره صلى الله عليه وسلم أنه لا يدرك أجر اللحاق بهم بهذه الصلاة؛ لأن الذهاب في سبيل الله فضله عظيم، والشاهد: أن عمرو بن العاص سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الناس أحب إليك؟ والرسول صلى الله عليه وسلم لا يخشى أحداً، ولا يداري أحداً، ولا يجامل صلوات الله وسلامه عليه أحداً، فقال: عائشة، قال: من الرجال؟ قال: أبوها، ثم قال له: ثم من؟ قال: ثم عمر، فسكت) فهذا نص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يحب عائشة، وأن عائشة أحب الناس إليه من النساء، وأن أباها أحب الناس إليه من الرجال، ثم يلي ذلك عمر رضي الله عنه، وهذا لا ينافي قوله: (لو اتخذت أحداً منكم خليلاً لاتخذت أبا بكر) بل يدل هذا على معنى، وهذا على معنى، فدل على أن الخلة أعلى من المحبة، وهذا واضح.
واستدل بهذا بعض العلماء على خلافة أبي بكر؛ لأنه ما دام هو أفضل الصحابة، وأحب الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فهو الأولى بالخلافة، وهناك أدلة أوضح من هذا وأجلى، وهي ثابتة في الصحيح.
منها: أمره صلى الله عليه وسلم له بأن يصلي بالناس، والصلاة هي أعظم ما يجتمع عليه المسلمون من أمورهم، ولهذا فهم ذلك الصحابة وقالوا: رضيه لديننا أفلا نرضاه لدنيانا؟! ومنها: (أنه جاءته امرأة تطلب حاجة، فقال: ائتيني يوم كذا وكذا، أو بعد وقت كذا وكذا، فقالت: أرأيت إن لم أجدك؟ -يقول الراوي: تقصد الموت- قال: ائتي أبا بكر).
ومنها: ما ثبت في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: (رأيتني على قليب أنزع، فنزعت ما شاء الله أن أنزع -يعني: بالدلو لاستخراج الماء- فجاء أبو بكر ليريحني فنزع ذنوباً أو ذنوبين وفي نزعه ضعف والله يغفر له، ثم جاء عمر فتحولت الدلو غربا -الغرب: معروف أنه الجلد الكبير الذي لا يخرجه إلا البعير أو ما أشبهه من البئر- فما رأيت عبقرياً ينزع نزعه، حتى شرب الناس وارتووا وضربوا بعطن) فهذا أيضاً واضح بأن المقصود به الخلافة.
ومنها: ما ثبت في الصحيح أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر رؤيا رآها، فقال: إني رأيت سبباً أدلي من السماء فتعلقت به أنت فذهبت، ثم تعلق به أبو بكر، فصعد، ثم تعلق عمر فصعد، ثم تعلق عثمان فصعد، ثم تعلق علي فنشب فأصابه كذا وكذا -يعني: أشياء - عند ذلك تغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم} وأحاديث كثيرة كلها تدل على المعنى الذي أردناه.(61/4)
خلاف العلماء في خلافة أبي بكر هل هي نص أم إشارة
اختلف العلماء: هل خلافة أبي بكر نص أو أنها إشارات وإيماء؟ فمنهم من قال: إنها منصوص عليها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم من قال: هي إشارات، وهذا هو الواقع، والإشارات هذه قريبة من التصريح، وأما ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في مرض موته: (ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً أن لا تضلوا بعدي، فاختلفوا فمنهم من يقول: نأتي بالكتاب، ومنهم من يقول: هل قال هذا من شدة المرض أو أنه يقصد ذلك، فلما اختلفوا قال: قوموا عني فما أنا فيه خير مما أنتم فيه) فلم يكتب، وقال ابن عباس: (الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الكتابة)، وقالوا: إن هذه الكتابة هي كتابة بالخلافة، والواقع أن الرسول صلى الله عليه وسلم لو أراد أن يكتب شيئاً لم يمنعه أحد من الكتابة، ولأمر أن يكتب، ولهذا جاء في رواية: (أنه صلى الله عليه وسلم قال لـ عائشة: ادعي لي أخاك وأباك لأكتب لهما لئلا يقول قائلٌ، ثم بعد ذلك قال: ولكن يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر فترك الكتابة) فرأى أن تركهم بدون كتابة واجتماعهم عليه بالاتفاق أحسن وأولى، كما قال: (يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر) قوله صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك) المقصود بالقبور هنا: عموم القبور؛ لأن نهي النبي إذا كان موجهاً إلى قبور الأنبياء فقبور غير الأنبياء أولى بأن يوجه النهي إليها، وأن يمنع من اتخاذها مساجد، ثم ليس معنى ذلك: أن تبنى عليها المساجد وتقصد، بل المقصود أن لا يصلى عندها؛ لأن كل مكان صليت فيه فهو مسجد، كما قال صلى الله عليه وسلم: (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأي إنسان أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره) وهذا من خصائص هذه الأمة، فأي موضع يصلي فيه الإنسان يكون مسجداً، فمعنى ذلك: أنه لا يجوز أن يصلى عند القبور؛ لأنه منهي عنه، ولهذا نص العلماء: على أن الصلاة لا تصح في المقبرة، أو عند القبر، مطلقاً، بل قالوا: لا تنعقد أصلاً لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن إيقاعها في لك الموضع.
وأما ما جاء من أنه صلى الله عليه وسلم صلى على بعض القبور فإن هذا خاص بالصلاة على الجنازة، وقالوا: إذا كان في المقبرة حائل فيجوز أن تصلي على الميت خاصة، أما غير صلاة الجنازة فلا يجوز مطلقاً؛ لهذه الأحاديث التي صحت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا سيما وهي أحاديث قالها وهو في مرض موته صلوات الله وسلامه عليه، ولا يمكن أن يقول قائل: إن هذه منسوخة، أو إنها خاصة، بل هي عامة وظاهرة في أنه قصد بها المنع من الصلاة عند المقابر.
ولـ مسلم عن جندب بن عبد الله قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: (إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل؛ فإن الله قد اتخذني خليلاً، كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك)(61/5)
قوله صلى الله عليه وسلم: (فإن الله قد اتخذني خليلاً)
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (عن جندب بن عبد الله) أي: ابن سفيان البجلي وينسب إلى جده، صحابي مشهور، مات بعد الستين.
قوله: (إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل) أي: أمتنع عما لا يجوز لي أن أفعله، والخلة فوق المحبة، والخليل هو المحبوب غاية الحب، مشتق من الخَلة ـ بفتح الخاء ـ وهي تخلل المودة في القلب، كما قال الشاعر: قد تخللت مسلك الروح مني وبذا سمي الخليل خليلا هذا هو الصحيح في معناها كما ذكره شيخ الإسلام وابن القيم وابن كثير وغيرهم رحمهم الله تعالى.
قال القرطبي: وإنما كان ذلك؛ لأن قلبه صلى الله عليه وسلم قد امتلأ من محبة الله وتعظيمه ومعرفته فلا يسع خلة غيره.
قوله: (فإن الله قد اتخذني خليلاً) فيه بيان أن الخلة فوق المحبة.
قال ابن القيم رحمه الله: وأما ما يظنه بعض الغالطين من أن المحبة أكمل من الخلة، وأن إبراهيم خليل الله، ومحمداً حبيب الله؛ فمن جهلهم، فإن المحبة عامة، والخلة خاصة، وهي نهاية المحبة.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله قد اتخذه خليلاً، ونفى أن يكون له خليل غير ربه، مع إخباره بحبه لـ عائشة ولأبيها ولـ عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وغيرهم رضي الله عنهم، وأيضاً جاء أنه يحب التوابين، ويحب المتطهرين، ويحب الصابرين، أما خلته فخاصة بالخليلين.
قوله: (ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً) فيه بيان أن الصديق أفضل الصحابة، وفيه: الرد على الرافضة وعلى الجهمية، وهما شر أهل البدع، وأخرجهم بعض السلف من الثنتين والسبعين فرقة، وبسبب الرافضة حدث الشرك وعبادة القبور، وهم أول من بنى عليها المساجد، قاله المصنف رحمه الله، وهو كما قال بلا ريب.
وفيه: إشارة إلى خلافة أبي بكر؛ لأن من كانت محبته لشخص أشد، كان أولى به من غيره، وقد استخلفه على الصلاة بالناس، وغضب صلى الله عليه وسلم لما قيل: يصلي بهم عمر، وذلك في مرضه الذي توفى فيه صلى الله عليه وسلم.
واسم أبي بكر: عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة.
الصديق الأكبر، خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأفضل الصحابة بإجماع من يعتد بقوله من أهل العلم.
مات في جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة، وله ثلاث وستون سنة رضي الله عنه].(61/6)
معنى قوله: (كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد)
قوله: (ألا) حرف استفتاح، (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد) الحديث قال الخطابي: وإنكار النبي صلى الله عليه وسلم صنيعهم هذا مخرج على وجهين: أحدهما: أنهم يسجدون لقبور الأنبياء تعظيماً.
الثاني: أنهم يجوزون الصلاة في مدافن الأنبياء والتوجه إليها حالة الصلاة، نظراً منهم بذلك إلى عبادة الله، والمبالغة في تعظيم الأنبياء، والأول: هو الشرك الجلي، والثاني: الخفي؛ فلذلك استحقوا اللعن] وقد عرفنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرص على سلامة عقيدة أمته من أن يدخلها شيء يكون حارفاً لها أو صارفاً لها عن أن تكون العبادة كلها لله جل وعلا، لأن هذه هي المهمة التي أرسل بها صلوات الله وسلامه عليه؛ ليُعبد الله وحده ويكون الدين كله لله، ولا يكون الدين موزعاً بين الله وبين خلقه، وإنما يخلص من الشوائب كلها، ويكون لله وحده، وليس فيه شيء للأنبياء، ولا للملائكة، ولا للجن، ولا لمخلوق من المخلوقات؛ لأن هذا حق خالص لله جل وعلا، الذي لا يقبل من العبد عملاً إلا إذا كان خالصاً له، فحرص صلوات الله وسلامه عليه على التنبيه على ذلك حتى في آخر لحظاته من الدنيا، وكان يكرر هذا ويبينه، ويلعن اليهود والنصارى؛ لأنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد؛ ليبين أن من فعل ذلك من أمته فهو ملعون مثلهم، أو أشد؛ لأن من خالف أفضل الرسل، وخير الأديان يكون عذابه أفظع وأعظم، وهذا مقرر في كتاب الله، وفي قصص الأنبياء، وكذلك في أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال في هذا الحديث: (ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذون القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك).(61/7)
أقسام المحبة
وقبل هذا بيّن صلوات الله وسلامه عليه أن ربه اتخذه خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، والخلة: هي نهاية المحبة التي ليس بعدها محبة؛ لأن المحبة درجات الواحدة فوق الأخرى، فأولها العلاقة، ثم الصبابة، ثم ترتقي شيئاً فشيئاً حتى تصل إلى الخلة، غير أنه ينبغي أن يعلم أن المحبة تنقسم إلى قسمين: محبة عامة مشتركة بين الخلق، مثل: محبة الألفة، ومحبة الحنو والشفقة، ومحبة التوقير والتقدير، فالأولى: مثل محبة الزملاء الذين يكون بعضهم مع بعض، أو المتصاحبين، فهذه المحبة تحصل حتى بين الحيوانات؛ لأنها أمر طبيعي.
والثاني: مثل محبة الولد الصغير والضعيف، فهي محبة شفقة وحنو ورحمة.
والثالث: مثل محبة الوالد وهي محبة التقدير والتوقير، وكذلك محبة الطبيعة، مثل: محبة الجائع للطعام، والظمآن للماء، وما أشبه ذلك، فهذه وما أشبهها مشتركة بين الناس وليس فيها شيء من العبادة، ولا ضير على من وقعت منه.
القسم الثاني: محبة خاصة وهي المحبة التي تتضمن الذل والخضوع والتعظيم، وهذه لا يجوز أن تكون إلا لله جل وعلا؛ لأنها عبادة.(61/8)
محبة الله لعباده فضل منه على عباده
محبة الرب جل وعلا لعبده شيء لا نعقل كيفيته، ولكن نعرف أنها على خلاف ما للمخلوق؛ لأن الله جل وعلا هو الغني بذاته عن كل ما سواه، ولا يحتاج لأحد من الخلق، وكل الخلق لو كانوا على أفجر قلب رجل منهم ما ضر ذلك الله جل وعلا، ولا نقص من ملكه شيء، ولو كانوا على أتقى قلب رجل واحد منهم ما زاد ذلك في ملك الله شيئاً، فهو جل وعلا الكامل بذاته وصفاته، المستغني بذلك عن كل ما سواه، فإذا حب عبده فليس حبه لأجل الحاجة تعالى وتقدس، بخلاف العبد، فإن عبادته لربه ضرورية لا يستغني عنها أبداً، وإن انفك عنها فإن ذلك علامة على عذابه وشقائه الأبدي الذي لا يفارقه أبداً.
فاتخاذ الرب جل وعلا عبديه ورسوليه إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم خليلين هذا إكرام لهما، وإعلاء لشأنهما، وليس لأن الله جل وعلا بحاجة إليهما، بل هو الغني بذاته عن كل ما سواه، فهو مجرد كرم وجود، وفضل تفضل به عليهما.
وكذلك محبته لعباده المؤمنين، ومحبته للتائبين، ومحبته للمجاهدين في سبيله، ومحبته للمتطهرين، ومحبته للصادقين والصابرين، كل ذلك مجرد كرم وفضل وجود وإحسان، وإلا فهو جل وعلا لا تزيده طاعة الطائعين.
وكثرتهم شيئاً، ولا تنقصه معصية العاصيين وكثرتهم شيئاً، كما في الحديث القدسي حديث أبي ذر رضي الله عنه الذي في صحيح مسلم وفيه أنه جل وعلا يقول: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته محرماً بينكم؛ فلا تظالموا -إلى أن قال: - ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانو على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل واحد منكم مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر) في آن واحد! في مقام واحد! لو أعطاهم كلهم، من أولهم إلى آخرهم، إنسهم وجنهم، حسب طلباتهم وما تنتهي إليه أمنياتهم، ما نقص ذلك مما عنده شيء تعالى وتقدس.
والمقصود أن هذه الخلة التي اتخذها الله ليست إلا لإبراهيم ومحمد فقط صلوات الله وسلامه عليهما، فلم يتخذ من الناس خليلاً غيرهما.
وليس معنى ذلك أن خلة الله على وفق ما يتصوره الإنسان مما يجده من نفسه، أو يعلمه من غيره من الخلق، فصفات الله لا تشبه صفات الخلق، كما أنه جل وعلا لا يشبه خلقه، بل يجب أن يعلم أن الله غني كريم جواد، وأنه ليس بحاجة لأحد، فهو غني عن خلقه، وكونه اتخذهما خليلين هو مجرد إكرام لهما، وإحسان إليهما، وكذلك كونه يحب العبد التائب، ليس ذلك لأنه يحتاج إلى توبته، وإنما هو مجرد فضل وجود، مع أنه جل وعلا شديد العقاب، ولهذا يقول جل وعلا لرسوله: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} [الحجر:49 - 50]، فليس هناك أحد أشد عذاباً من الله، فإذا عذب عبده فلا يبالي به، فقد يرميه في جهنم ولا يبالي، ولهذا كان أحد السلف يكثر من الاجتهاد في العبادة ويبكي، فقيل له في ذلك، فقال: أخاف أن يرميني في جهنم ولا يبالي.
فالرب جل وعلا غني عن جميع الخلق، فإذا أحب التائب فلكرمه وجوده، وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً لفرح الله عند توبة عبده -وهذا لا يستطيع أهل البدع سماعه فضلاً عن أن يقولوا به؛ لأنهم يحسبون أن هذا تشبيه؛ فهم لم يعرفوا من صفات الله جل وعلا إلا ما عرفوا من أنفسهم، حيث شبهوا أولاً، فكان التشبيه مستقراً في نفوسهم، ثم حملهم هذا التشبيه على نفي صفات الله جل وعلا- فقال صلوات الله وسلامه عليه: (لله أشد فرحاً بتوبة عبده التائب، من أحدكم يضل راحلته في الأرض المهلكة، عليها متاعه فيطلبها فلا يجدها، فييأس من وجودها، فيأوي إلى شجرة ويجلس تحت ظلها ينتظر الموت قد أيس من الحياة، فيضع رأسه لانتظار الموت، فبينما هو كذلك إذ راحلته واقفة على رأسه، فيأخذ بخطامها ويقول: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح) (الله أشد فرحاً لتوبة عبده التائب من هذا)، هل لأنه يحتاج إلى طاعة العبد أو إلى توبته؟! كلا؛ ولكن لكرمه وجوده، ولهذا لا يدخل أحداً النار إلا إذا أعذر منه، فهو يدعو خلقه -بفضله وجوده وإكرامه- ولكنهم يأبون، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (كلكم يدخل الجنة إلا من أبى -فهناك من يدعى إلى الجنة، ويقال له: تعال ادخل الجنة، ويقول لا! لا أريدها! - قالوا: ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى).
وكثير من الخلق يستبعد يوم القيامة؛ لأنهم لم يشاهدوا ما أخبرهم الله جل وعلا به، بل كثير منهم لا يؤمن بالله؛ لأنه لا يؤمن إلا بالمحسوسات المشاهدات، وقد وجد نفسه بين أمور اعتيادية، ليل يأتي ونهار يعقبه، وهو يأكل ويشرب إلخ، فتصور أن هذه الأمور تتوقف عند هذا الحد، وأنه ليس بعد ذلك شيء.(61/9)
فوائد إخباره صلى الله عليه وسلم بخلة الله له
والخلة التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم فيها فوائد: الفائدة الأولى: جواز إخبار الإنسان عما لديه من الفضل والرفعة إذا كان ذلك لا يعلم إلا من جهته، وكان فيه مصلحة، مع أننا لا نقيس غير الرسول صلى الله عليه وسلم بالرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا يفهم من ذلك؛ لأنه قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً).
الثانية: براءته صلوات الله وسلامه عليه أن يكون أحد من الخلق خليلاً له، فإنه قال: (إني أبرأ إلى الله أن يكون أحد منكم خليلاً لي، فإن الله اتخذني خليلاً) والبراءة معناها: الخلاص من الشيء نهائياً؛ لئلا يكون داخلاً فيه أو عنده منه شيء، فهو يتخلص من ذلك ويبتعد عنه، هذا معنى البراءة.
الأمر الثالث: فضل أبي بكر الصديق، وأنه أفضل الصحابة على الإطلاق، حيث قال: (ولو كنت متخذاً -من الناس خليلاً - منكم خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً) ولكن الذي منع هذا هو كون الرب جل وعلا اتخذه خليل.
الأمر الرابع: وفيه الإشارة إلى خلافة أبي بكر الصديق وهذا أمر واضح؛ لأن الفضل فيه ظاهر، ومن كان أفضل.
وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرب، فهو الذي ينبغي أن يكون خليفة له، والخلافة ليست هي الملك، الخلافة خلافة النبوة، فالخليفة هو الذي يخلف من خلفه لتنفيذ أوامره، وإبلاغ ما كان يبلغه فقط؛ ولهذا خرج أبو بكر من الدنيا أفقر مما دخل في الخلافة بكثير، فما كان عنده شيء لما مات، كان عنده إداوة وقدح فبعث بهما إلى عمر، فلما رآهما عمر بكى وقال: لقد كلفني الأمور الصعبة؛ ولهذا كان عمر رضي الله عنه يخطب الناس وفي درعه ما يقرب من ثلاثين رقعة، ولا يستعمل الأموال تأتيه، بل كان يقدم لنفسه ولأهله الطعام الناشف من شعير وما أشبه ذلك، ويجعل الأطعمة الطيبة للمسلمين.
خرج يوماً من الأيام يعس في الليل حول المدينة بنفسه، فوجد خباءً فيه صبيان يتضاغون، وعندهم رجل يسكتهم ويقول: إن أمير المؤمنين مسئول عنكم؛ لأنه ليس لكم عشاء، فجاء إليه وقال: ما شأنك؟ قال: جئت من البر فلم أجد من يأويني ولا من يعشيني فقال: من المسئول عنك؟ قال: عمر، قال: وما يدري عمر؟ قال: عجيب! يتولى أمر المسلمين ولا يدري عني؟! فذهب عمر وحمل على ظهره دقيقاً وما يحتاج إليه، فجاء به إلى الرجل، وذهب يبحث عن الحطب، فأوقد القدر، فصار يطبخ وينفخ في النار، ويطير الرماد من جوانب لحيته والرجل لا يعرفه، حتى أنضج الطعام وقدمه للصبية وأكلوا وناموا، ثم بعد ذلك أعطاه ما يحتاج إليه وذهب، ثم عُلم به وقيل له: كيف تصنع هذا ولم تأمر غيرك؟! قال: غيري لا يتحمل وزري وذنبي، ولو عثرت بغلة في العراق في الطريق لخفت أن الله يسألني عن ذلك، لماذا لم تسوِّ لها الطريق؟! إلى هذا الحد كانوا يفعلون؛ لأنهم خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم، ليسوا ملوكاً.
فإذا كان أبو بكر أفضلهم فهو أولاهم بالخلافة، مع أن هناك أدلة واضحة جلية تدل على خلافته، ولهذا كثير من العلماء يقول: إن خلافته منصوص عليها نصاً، وقد جاء في مسند الإمام أحمد وغيره عن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ادعي لي أخاك وأباك لأكتب لهما كتاباً؛ لئلا يقول قائل أو يجترئ مجترئ، ثم قال: يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر) فترك الكتابة، وهذا صريح وواضح، فقد قاله في مرض موته صلى الله عليه وسلم.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم للمرأة التي جاءت تطلب منه حاجة: (ائتيني يوم كذا قالت: أرأيت إن لم أجدك؟ قال: إن لم تجديني فأتي أبا بكر) إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة الواضحة.
وفيه أيضاً: أن الخلة غير المحبة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يحب عائشة، ويحب أباها، ويحب معاذ، ويحب عمر، ويحب أناساً كثيرين من صحابته، ولكن بعضهم أحب من بعض، ففي صحيح مسلم عن عمرو بن العاص رضي الله عنه: أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة، قال: من الرجال؟ قال: أبوها، قال: ثم من؟ قال: ثم عمر فسكت) ولو زاد لزاد، وفي سنن الترمذي أنه صلى الله عليه وسلم قال لـ معاذ: (يا معاذ! إني أحبك، فلا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)، وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه يحب الحسن والحسين وأنهما ريحانته من الدنيا، وأخبر أن علي بن أبي طالب يحبه الله ورسوله، والأحاديث في هذا كثيرة، أما الخلة فقد تبرأ أن يكون أحد منهم خليلاً له، فدل على بطلان من يقول: إن المحبة أكمل من الخلة كما ذكر المؤلف.
والحديث يدل -أيضاً- على أمور منها:(61/10)
نهى النبي عن اتخاذ القبور مساجد
الأمر الأول: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد اهتم اهتماماً بالغاً في تصفية الدين، وتخليصه من شوائب الشرك، والتعلقات بغير الله، فنهى أن تتخذ المساجد على القبور.
الأمر الثاني: أن اتخاذ المساجد على القبور من دواعي الشرك ووسائله، وأن فاعله عاص لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وليس معنى اتخاذ القبور مساجد أن تبنى عليها المساجد وتشيد وفقط، وإنما كل ما صلى فيه الإنسان سمي مسجداً، كما قال صلى الله عليه وسلم: (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيّ رجل من أمتي أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره) فالأرض كلها مسجد، والمسجد اسم لما يسجد فيه، ولهذا كل أماكن الصلاة التي صلى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم سميت مساجد، وقد كان عبد الله بن عمر يتتبعها ويصلي فيها، ومن فعل ابن عمر هذا عرفت الأماكن التي صلى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أنه لم يوافقه على هذا أحد من الصحابة بل خالفوه، وممن خالفه أبوه، بل كلهم، ولا يعلم في الصحابة أحد سلك هذا المسلك إلا عبد الله بن عمر مع أنه ليس قصده ما يقصده الذين يتعلقون بالبقع والأماكن للتبرك فيها، ليس هذا مقصده، إنما مقصده التشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا كان يفعل الأفعال التي يفعلها، حتى إنه لما انصرف من عرفات، ووصل إلى الشجرة التي بال عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل فبال في ذلك المكان، وتوضأ وصب فضل وضوئه في قلب الشجرة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، ومثل هذا ليس تعبداً، ولكن مبالغة من عبد الله بن عمر في التشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما الذين يعتنون بالآثار؛ لأجل البركة؛ ولأجل التعلق بها، فإنهم لا يفعلون ما يفعله عبد الله بن عمر بل إن قلوبهم متعلقة بغير الله، متعلقة بهذه البقع وهذه الأماكن، ويطلبون منها البركة والخير، والبركة والخير لن يكونا إلا باتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يكون إلا بطاعته وعبادة الله وحده، وأن يكون الدين كله لله، ليس فيه شيء لغيره جل وعلا.
الأمر الثالث: أن اتخاذ المساجد على القبور ملعون فاعله، واللعن: هو الطرد عن الرحمة ومظانها، فمن لعنه الله ورسوله فهو المبعد عن كل خير، والرسول صلى الله عليه وسلم يلعن من يستحق اللعنة، وإذا لعن شيئاً فأقل ما يقال: إن هذا يدل على أن هذا من كبائر الذنوب.
الأمر الرابع: أن ما فعلته اليهود والنصارى وذموا عليه -وجاء ذكر ذلك في كتاب الله وسنة رسوله- فإن ذلك من باب التحذير أن نقع فيما وقعوا فيه، وأن القصص التي قصت علينا في القرآن من قصص الأنبياء وغيرهم أننا معنيون، وأن الذي وقع لهم من العذاب -إذا فعلنا فعلهم- سيقع لنا، فهذا هو المقصود بذكر حال من كان قبلنا، وأما ما ذكره الخطابي رحمه الله، أن هذا يقع منهم على وجهين: أحدهما: أنهم يسجدون لقبور أنبيائهم، ويكون هذا هو الشرك الجلي.
والثاني: أنهم يتخذونها معابد، وأن هذا هو الشرك الخفي، فليس هذا هو المقصود في الحديث، والمقصود أهم من هذا وأعم، وهو النهي عن أن يكون عندها تعبد مطلقاً، لا بسجود ولا بجعلها أماكن عبادة، فلا يفعل عندها ما يفعل عند المساجد من ذكر الله وتلاوة القرآن، والصلاة، وإظهارالشعائر الدينية، والتعبد لله عامة، هذا هو المقصود، وأن من فعل شيئاً من ذلك فقد حاد الله ورسوله، وصار مخالفاً مخالفة صريحة، ولا يجوز أن نقصره على السجود أو الركوع، بل هو عام مطلق.
[قوله: (فقد نهى عنه في آخر حياته) أي: كما في حديث جندب، وهذا من كلام شيخ الإسلام وكذا ما بعده.
قوله: (ثم إنه لعن -وهو في السياق- من فعله) كما في حديث عائشة.
قلت: فكيف يسوغ بعد هذا التغليظ من سيد المرسلين أن تعظم القبور ويبنى عليها، ويصلى عندها وإليها؟! هذا أعظم مشاقة ومحادة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم لو كانوا يعقلون.
قوله: (الصلاة عندها من ذلك، وإن لم يبن مسجد) أي: من اتخاذها مساجد ملعون فاعله، وهذا يقتضي تحريم الصلاة عند القبور وإليها.(61/11)
الأرض مسجد وطهور إلا ما استثني
قال الشارح: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعاً: (الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام) رواه أحمد وأهل السنن وصححه ابن حبان والحاكم].
كون الأرض كلها مسجداً هذا أمر متفق عليه، وليس معنى ذلك أنها مباني تبنى، بل كلها يصح الصلاة فيها، وكل ما صحت الصلاة فيه فهو مسجد، وهذا من خصائص هذه الأمة التي أعطاها الله جل وعلا لنبيه إكراماً وتفضيلاً له على غيره، وإلا فكانت الأمم قبلنا لا يصلون إلا في أماكن معينة، في البيع والكنائس، يصلون فيها فقط، ولا يصلون في جميع الأرض، كما كانوا لا يصلون إلا بالطهارة ولا تكون إلا باستخدام الماء فقط، وتفضل الله جل وعلا على هذه الأمة وخصها بخصائص، كما قال صلى الله عليه وسلم: (أعطيت خمساً لم يعطهن نبي قبلي: أحلت لي الغنائم، ونصرت بالرعب مسيرة شهر) وليس هذا خاص به صلوات الله وسلامه عليه، بل المقصود هو وأمته.
قوله: (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأي رجل أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره) في أي مكان كان.
وقوله: (أعطيت الشفاعة) والمقصود بالشفاعة: ما سبق ذكره من أنه صلوات الله وسلامه عليه يشفع للناس كلهم في الموقف؛ ليفصل الله بينهم ويحاسبهم، وهذه له فقط وخاص به.
وقوله: (كان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة) فهذه خمس خصائص، وله غيرها من الخصائص صلوات الله وسلامه عليه، ولكن هذه ظاهرة جلية، كان يذكرها وينشرها في الأمة.
وقد تكاثرت الأحاديث في النهي عن الصلاة في المقابر وسواء كانت القبور كثيرة أو قليلة فالحكم واحد وهو عدم جواز الصلاة عندها، واستثني من البقاع التي يجوز فيها الصلاة الحمام، وهو: محل التحمم، وقيل له: حمام؛ لأن الغالب أن يكون الماء فيه حاراً، وإنما نهي عن الصلاة فيه؛ لأنه محل لكشف العورات، ولقضاء الحاجات وما أشبه ذلك.
وكذلك المجزرة التي تذبح فيها البهائم، فتوجد فيها الدماء والقاذورات وغيرها، وكذلك قارعة الطريق: كالشوارع التي يسير عليها الناس والسيارات، لا يجوز أن يصلى فيها، فهذه الأماكن خصت من بين سائر الأرض، وهناك أمر خامس استثناه الفقهاء -مع أن وقوعه أندر من النادر- وهو الصلاة على ظهر بيت الله، فلا تصح صلاة الفريضة على ظهر الكعبة؛ لأن المصلي لا بد أن يستقبل شيئاً من البيت، والذي يكون على ظهر الكعبة لا يستقبل شيئاً منها، وهذا يدلنا على استقصاء العلماء، وأنهم لم يتركوا شيئاً من الأمور التي يمكن أن يحتاج إليها الإنسان إلا وبينوا حكمه.
فهذه هي الأماكن التي لا تصح الصلاة فيها، وهي المستثناة من الأرض، أما ما عدا ذلك فالصلاة فيها جائزة ولا يتعين أن يكون هناك فراش، ولا يتعين أن يكون هناك بناء ولا غير ذلك، فإذا أدركت الإنسان صلاته صلى، سواء على أرض مصمتة أو مبلطة أو أرض فيها نبات، أو ليس فيها نبات، أو على جبل، أو في وادي، أو سبخة، أو رمل، أو غير ذلك، ما لم يكن هناك نجاسات، فإذا رأى النجاسة المعينة فإنه لا يجوز أن يصلي عليه، أما إذا لم يشاهد النجاسة وكان يظن وجودها فهذا لا يضر، فالأرض كلها طهور، والصلاة جائزة بنص الحديث.
أما الأرض المغصوبة فلا تصح الصلاة فيها؛ لأنها مغصوبة، لا لأنها أرض، بل لأنها ملك للغير، وملك الغير لا يجوز التصرف فيه، فالنهي عن الصلاة فيها من هذه الناحية.(61/12)
علة النهي عن الصلاة في المقابر
قال الشارح رحمه الله: [قال ابن القيم رحمه الله: وبالجملة فمن له معرفة بالشرك وأسبابه وذرائعه، وفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاصده؛ جزم جزماً لا يحتمل النقيض أن هذه المبالغة واللعن والنهي بصيغتين: صيغة (لا تفعلوا) وصيغة (إني أنهاكم عن ذلك) ليس لأجل النجاسة، بل هو لأجل نجاسة الشرك اللاحقة لمن عصاه وارتكب ما عنه نهاه، واتبع هواه، ولم يخش ربه ومولاه، وقل نصيبه أو عدم من لا إله إلا الله، فإن هذا وأمثاله من النبي صلى الله عليه وسلم صيانة لحمى التوحيد أن يلحقه الشرك ويغشاه، وتجريد له وغضب لربه أن يعدل به سواه، فأبى المشركون إلا معصية لأمره، وارتكاباً لنهيه، وغرهم الشيطان بأن هذا تعظيم لقبور المشايخ والصالحين، وكلما كنتم لها أشد تعظيماً وأشد فيهم غلواً كنتم بقربهم أسعد، ومن أعدائهم أبعد، ولعمر الله! من هذا الباب دخل الشيطان على عباد يغوث ويعوق ونسراً، ودخل على عباد الأصنام منذ كانوا إلى يوم القيامة، فجمع المشركون بين الغلو فيهم والطعن في طريقتهم، فهدى الله أهل التوحيد لسلوك طريقتهم، وأنزلهم منازلهم التي أنزلهم الله إياها: من العبودية، وسلب خصائص الإلهية عنهم.
قال الشارح رحمه الله تعالى: وممن علل بخوف الفتنة بالشرك: الإمام الشافعي وأبو بكر الأثرم وأبو محمد المقدسي وشيخ الإسلام وغيرهم رحمهم الله وهو الحق الذي لا ريب فيه] يقصد: أن بعض الفقهاء المتأخرين علل المنع من الصلاة في المقابر بأنها نجسة؛ لأن فيها صديد الموتى وما أشبه ذلك، وهذا تعليل عليل بل هو ميت؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قصد بذلك سد الذرائع؛ حتى لا تكون العبادة لغير الله تعالى، ولكن الذين لم يفهموا هذا، وكان عندهم من الأمور العالقة من حب التعلق بغير الله، وصرف شيء من العبادة لهم، قالوا هذا التعليل؛ حتى يصح لهم ما أرادوه من جواز التعبد عند المقابر، ولكن إذا سلم بالتعليل فكيف يسلم بالنصوص.
ومن المعلوم أن الألفاظ وضعت للمعاني التي وضعت لها، وأن الإنسان يجب عليه أن يتعرف على مراد الله ورسوله، فإذا تبين مراهما فلا يجوز أن يعدل عنه بقول أحد من الناس، ولكن: ليس كل من قال قولاً من العلماء يؤاخذ به دون النظر إلى قصده؛ لأنه قد يخفى عليه المراد، فيقول قولاً -وعنده من النية الحسنة ما يثاب عليها- ويكون في قوله ذلك مخطئاً، ولا يجوز أن يتابع على هذا، ولذلك فإن الذي يعلم مراد الرسول صلى الله عليه وسلم يتعين عليه أن يحذر من ذلك وينهى؛ لأن النصيحة لله ولكتابه ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ولعامة المسلمين، ولأئمتهم أمر واجب، وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم النصيحة ديناً، فقال: (الدين النصيحة، الدين النصيحة الدين النصيحة، فقيل لمن يا رسول الله؟ لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)، وأئمتهم هم قادتهم، والنصيحة: مأخوذة من النصح وهو: الصفاء، أن تبذل لمن تنصح صافي قولك، وصافي ودك، وصافي محبتك، وهذه من صفات المؤمنين، فالمؤمن يود لأخيه ما يود لنفسه، فمن اطلع على شيء من أمور الشرع يتعين عليه إفشاء ذلك، وإظهاره والدعوة إليه، ومن أعظم الأمور التي ينبغي أن يتناصح الناس فيها: العبادات، والتعلق بغير الله جل وعلا: إما أن يكون مفسداً للعبادة نهائياً، أو يكون منقصاً لها ومذهب لكمالها، أما إذا كان مفسداً لها فمعنى ذلك أنه شرك، وأما إذا ذهب بكمالها ونقصها فهو من البدع فقط.
والبدعة مردودة على صاحبها، ولكن لا يكون المبتدع كالمشرك، وإذا مات على بدعته فإنه يخاف عليه، ولكن لا يكون خارجاً من الإسلام إذا كانت البدعة ليست مخرجة من الدين، بل له حكم المسلمين، بخلاف المشرك الذي مات وهو يعبد مع الله غيره، ويجعل لغير الله شيئاً من العبادة التي أمر الله جل وعلا بإخلاصها له، فإن هذا غير مغفور له، نسأل الله العافية.
فتعليلهم: بأنها مظنة للنجاسة غير صحيح، والمسلم لا ينجس حياً ولا ميتاً، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن المسلم لا ينجس)، وأما كونه يغسل إذا مات فليس للنجاسة، وإنما ليستقبل داراً جديدة بطهارة كاملة، وإن كان غير مكلف ولكن الشرع يجب أن يتبع.
قوله: (فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجداً)، أي: لما علموا من تشديده في ذلك، وتغليظه النهي عنه، ولعن من فعله.
قوله: (وكل موضع قصدت الصلاة فيه فقد اتخذ مسجداً)، أي: وإن لم يبن عليه مسجد، بل كل موضع يصلى فيه يسمى مسجداً، يعني: وإن لم يقصد بذلك اتخاذ ذلك المكان مسجداً، فإذا أوقع الصلاة عنده -من غير أن يقصد ذلك الموضع بخصوصه- صار بفعل الصلاة فيه مسجداً.
قال الشارح رحمه الله: [قوله: كما قال صلى الله عليه وسلم: (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) أي: فسمى الأرض مسجداً، تجوز الصلاة في كل بقعة منها، إلا ما استثني من المواضع التي لا تجوز الصلاة فيها كالمقبرة ونحوها.
قال البغوي في شرح السنة: أراد أن أهل الكتاب لم تبح لهم الصلاة إلا في بيعهم وكنائسهم، فأباح الله لهذه الأمة الصلاة حيث كانوا؛ تخفيفاً عليهم وتيسيراً، ثم خص من جميع المواضع: الحمام والمقبرة والمكان النجس.
انتهى].(61/13)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [62]
النهي عن الصلاة عند القبور لم يكن لأجل النجاسة، وإنما لأنها وسيلة إلى الشرك، يدل على ذلك: النهي عن الصلاة عند قبور الأنبياء، على الرغم من أن أجساد الأنبياء طاهرة ولا تتغير.
وليس لأحد أراد أن يجيز الصلاة عند القبور أن يحتج بوجود قبره صلى الله عليه وسلم في المسجد النبوي؛ لأنه عليه السلام قد حذر من هذا، ثم إنه لم يدفن في المسجد، وإنما دفن خارجه في حجرة عائشة.(62/1)
من شرار الناس من يتخذون القبور مساجد
قال المصنف رحمه الله: [قوله: ولـ أحمد بسند جيد عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً: (إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد) ورواه ابن حبان في صحيحه].
قال الشارح: [قوله: (إن من شرار الناس) بكسر الشين، جمع شرير.
قوله: (من تدركهم الساعة وهم أحياء) أي: مقدمتها كخروج الدابة وطلوع الشمس من مغربها، وبعد ذلك ينفخ في الصور نفخة الفزع.
قوله: (والذين يتخذون القبور مساجد) معطوف على خبر (إن) في محل نصب على نية تكرار العامل، أي: وإن من شرار الناس الذين يتخذون القبور مساجد، أي: بالصلاة عندها وإليها، وبناء المساجد عليها، وتقدم في الأحاديث الصحيحة أن هذا من عمل اليهود والنصارى، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لعنهم على ذلك، تحذيراً للأمة أن يفعلوا مع نبيهم وصالحيهم مثل اليهود والنصارى، فما رفع أكثرهم بذلك رأساً، بل اعتقدوا أن هذا الأمر قربة إلى الله، وهو مما يبعدهم عن الله ويطردهم عن رحمته ومغفرته.
والعجب أن أكثر من يدعي العلم ممن هو من هذه الأمة لا ينكرون ذلك، بل ربما استحسنوه ورغبوا في فعله، فلقد اشتدت غربة الإسلام وعاد المعروف منكراً والمنكر معروفاً والسنة بدعة والبدعة سنة، نشأ على هذا الصغير وهرم عليه الكبير.
](62/2)
أقوال أهل العلم في النهي عن بناء المساجد على القبور
قال الشارح: [قال شيخ الإسلام رحمه الله: أما بناء المساجد على القبور فقد صرح عامة الطوائف بالنهي عنه، متابعة للأحاديث الصحيحة، وصرح أصحابنا وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي بتحريمه، قال: ولا ريب في القطع بتحريمه، ثم ذكر الأحاديث في ذلك إلى أن قال: وهذه المساجد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين أو الملوك وغيرهم تتعين إزالتها بهدم أو غيره، هذا مما لا أعلم فيه خلافاً بين العلماء المعروفين.
وقال ابن القيم رحمه الله: يجب هدم القباب التي بنيت على القبور؛ لأنها أسست على معصية الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد أفتى جماعة من الشافعية بهدم ما في القرافة من الأبنية منهم ابن الجميزي والظهير التزمنتي وغيرهما.
وقال القاضي ابن كج: ولا يجوز أن تجصص القبور، ولا أن يبنى عليها قباب ولا غير قباب، والوصية بها باطلة.
وقال الأذرعي: وأما بطلان الوصية ببناء القباب وغيرها من الأبنية وإنفاق الأموال الكثيرة فلا ريب في تحريمه.
وقال القرطبي في حديث جابر رضي الله عنه: (نهى أن يجصص القبر أو يينى عليه)، وبظاهر هذا الحديث قال مالك: وكره البناء والجص على القبور.
وقد أجازه غيره، وهذا الحديث حجة عليه.
وقال ابن رشد: كره مالك البناء على القبر وجعل البلاطة المكتوبة، وهو من بدع أهل الطول أحدثوه إرادة الفخر والمباهاة والسمعة، وهو مما لا اختلاف فيه.
وقال الزيلعي في شرح الكنز: ويكره أن يبني على القبر.
وذكر قاضي خان: أنه لا يجصص القبر ولا يبني عليه لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه نهى عن التجصيص والبناء فوق القبر) والمراد بالكراهة عند الحنفية رحمهم الله كراهة التحريم.
وقد ذكر ذلك ابن نجيم في شرح الكنز.
وقال الشافعي رحمه الله: أكره أن يعظم مخلوق حتى يجعل قبره مسجداً مخافة الفتنة عليه وعلى من بعده من الناس.
وكلام الشافعي رحمه الله يبين أن مراده بالكراهة كراهة التحريم].
وهذا كثير في كلام العلماء ومنهم المتأخرين حتى قال ابن حجر الهيتمي -وليس ابن حجر العسقلاني - صاحب الزواجر، وهو متأخر وهو ممن صادم دعوة الشيخ محمد وقام ضدها، وكان يكفر ابن تيمية! وله كتب في هذا، ومع ذلك يقول: يجب إزالة القباب وينبغي أن يُبدأ بقبة الشافعي.
هكذا لماذا يقول هذا؟ لأنه شافعي رحمه الله؛ ولأن هذا مجمع على أنه ضلال.
قال الشارح رحمه الله تعالى: [وجزم النووي رحمه الله في شرح المهذب بتحريم البناء مطلقاً، وذكر في شرح مسلم نحوه أيضا.
وقال أبو محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة إمام الحنابلة صاحب المصنفات الكبار كالمغني والكافي وغيرهما رحمه الله تعالى: ولا يجوز اتخاذ المساجد على القبور؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله اليهود والنصارى) الحديث وقد روينا أن ابتداء عبادة الأصنام: تعظيم الأموات واتخاذ صورهم والتمسح بها والصلاة عندها.
انتهى].(62/3)
النهي عن الصلاة عند القبور سداً لوسائل الشرك لا لأجل النجاسة
قال الشارح: [قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وأما المقبرة فلا فرق فيها بين الجديدة والعتقية انقلبت تربتها أو لم تنقلب، ولا فرق بين أن يكون بينه وبين الأرض حائل أو لا؛ لعموم الاسم وعموم العلة؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ومعلوم أن قبور الأنبياء لا تنجس.
وبالجملة فمن علل النهي عن الصلاة في المقبرة بنجاسة التربة خاصة؛ فهو بعيد عن مقصود النبي صلى الله عليه وسلم، ثم لا يخلو أن يكون القبر قد بنى عليه مسجد، فلا يصلى في هذا المسجد، سواء صلى خلف القبر أو أمامه بغير خلاف في المذهب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك) وخص قبور الأنبياء؛ لأن عكوف الناس على قبورهم أعظم، واتخاذها مساجد أشد.
وكذلك إن لم يكن بني عليه مسجد؛ فهذا قد ارتكب حقيقة المفسدة التي كان النهي عن الصلاة عند القبور من أجلها، فإن كل مكان صلي فيه يسمى مسجداً، كما قال صلى الله عليه وسلم: (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) وإن كان موضع قبر أو قبرين].
الأئمة يقولون بالنهي عن اتخاذ القبور مساجد، وأن الصواب في منع ذلك ما دلت عليه النصوص، وهو خشية أن تكون العبادة لغير الله جل وعلا؛ لأنه من المعلوم أن الافتتان بالقبر يشتد سيما إذا كان قبر نبي، أو قبر ولي، وهذا هو الواقع.
وأما التعليل بأن النهي عن اتخاذ القبور مساجد؛ لأن ذلك الموضع مظنة للنجاسة فإن هذا تعليل غير صحيح؛ لأن الصلاة في المقبرة لا تجوز سواء صلى على فراش أو صلى من دون فراش فكل ذلك باطل؛ لأن النهي لأجل القبور، ومن المعلوم أن القبور تدفن في أسفل الأرض، وتسوى عليها الأرض، وتأتي الأمطار وتأتي الرياح والشمس وغير ذلك وكل هذا يطهر النجاسة، واستحالة النجاسة يجعلها طاهرة، وهذا كله لو وجد فإن علة النهي باقية.
ثم إنه ليس المقصود أنه لا بد أن تكون على المقابر مساجد مبنية كالمساجد التي يصلي فيها المسلمون، وإنما المقصود أن يسجد الإنسان ويصلي فكل موضع سجود يعد مسجداً.
وقد قال بعض الذين يحادون رسول الله صلى الله عليه وسلم محادة ظاهرة: إن المقصود باتخاذها مساجد أن تضع جبهتك على القبر أما إذا سجدت خلفه أو أمامه أو عن يمينه أو عن شماله فلا بأس! وهذه محادة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس المقصود أنه يضع جبهته على القبر، فهذا كذب متعمد على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعلوم جرم من يفعل ذلك، والذي يحمله على هذا القول هو التقليد والتعصب فقط، نسأل الله السلامة، والواجب على الإنسان أن يتجرد لله جل وعلا، وأن يكون قصده وعمله لله جل وعلا، وإذا تبين له الحق فيجب عليه أن يقول به وأن يعمل به.(62/4)
عموم النهي عن الصلاة عند القبور ولا فرق بين قلة القبور وكثرتها وقدمها وحداثتها
ثم إنه لا فرق بين كون القبور كثيرة أو قليلة حتى وإن كان قبراً واحداً، ثم إذا اتخذت مساجد فسواء خصها أو جعل يتردد إليها أو صلى فيها مرة واحدة فكل ذلك سواء.
أما إذا بنيت المساجد على القبور لأجل إقامة صلاة الجماعة فيها والتردد عليها فيجب أن يهدم هذا المسجد؛ لأنه أشد من مسجد الضرار الذي اتخذ لمضارة المسلمين، وهذا لمضارة عباد الله المؤمنين، حيث يدعى فيه إلى الشرك عن طريق التعلق بالموتى، وإذا ما قدر أن المسجد كان مبنياً فأدخل فيه القبر فإنه يجب أن ينبش ويزال، ولا يجوز أن يدفن في المساجد أو بالقرب من المساجد؛ لأن هذا قد يجر إلى التعلق بهم وقصدهم، وقصد هذا المسجد لأنه قرب القبور، والتبرك بها وسؤال أصحابها، أو لأن الدعاء عند القبور ترجى إجابته! وكل هذا من البدع التي هي وسائل إلى الشرك الأكبر.
ولا فرق في كون القبر قديماً أو جديداً، ولا فرق بين كونه مسوى بالأرض أو ظاهراً، فلا يجوز أن يتخذ أي قبر مسجداً لعموم النهي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما قال ابن قدامة والنووي: إن مبدأ الشرك من هذا الأمر، ويشير بهذا إلى ما تقدم: أن أول شرك وقع في بني آدم بسبب الغلو في الصالحين، وتصوير صورهم ووضعه في أماكن يرونهم وإذا رأوهم تذكروا عبادتهم واجتهادهم فاجتهدوا كاجتهادهم، ثم فيما بعد عُبدوا، وصاروا يُسألون إلى أن صار التعلق بهم شديداً جداً حيث أصبح بعضهم متمسكاً بعبادتها {وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح:23] ويوصي بعضهم ببعض خوفاً من أن تؤثر دعوة الرسل عليهم! مع أن الرسل جاءوا يدعونهم إلى أن يعبدوا الله وحده، فهذا هو المبدأ، ولهذا السبب جاء النهي.(62/5)
تخصيص الأنبياء في الحديث لعظم الفتنة بقبورهم
أما تخصيص قبور الأنبياء في هذا الحديث وأشباهه؛ فلأن الفتنة فيهم أشد؛ لأن النبي ليس كغيره من الأولياء والعلماء، فهو أقرب الخلق إلى الله جل وعلا، ودعوته يرجى استجابتها أكثر من دعوة غيره، ولا سيما إذا علم أنهم أحياء في قبورهم، وعند ذلك يقول: أنا أتوجه إليهم وأدعوهم؛ لأنهم أحياء، وهم يدعون الله لي، فأجعلهم وساطة بيني وبين ربي، وهذا هو شرك المشركين تماماً، ولهذا جاء تأكيد النهي عن الصلاة عند قبور الأنبياء أو قصدها بالدعاء أو الدعاء عندها، أما دعاؤها فمعروف أنه شرك صريح وهو الشرك الأكبر.(62/6)
بطلان قول من يقول: إن النهي عن الصلاة عند القبور لأجل النجاسة
[وقال بعض أصحابنا: لا يمنع الصلاة فيها؛ لأنه لا يتناولها اسم المقبرة وليس في كلام أحمد ولا بعض أصحابه هذا الفرق، بل عموم كلامهم يقتضى منع الصلاة عند كل قبر.
وقد تقدم عن علي رضي الله عنه أنه قال: (لا أصلي في حمام ولا عند قبر)، فعلى هذا ينبغي أن يكون النهي متناولاً لحريم القبر وفنائه.
ولا تجوز الصلاة في مسجد بني في مقبرة، سواء كانت له حيطان تحجز بينه وبين القبور، أو كان مكشوفاً، قال في رواية الأثرم: إذا كان المسجد بين القبور لا يصلى فيه الفريضة، وإن كان بينها وبين المسجد حاجز فرخص أن يصلي فيه على الجنائز ولا يصلى فيه على غير الجنائز، وذكر حديث أبي مرثد عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تصلوا إلى القبور) وقال: إسناده جيد.
انتهى.
ولو تتبعنا كلام العلماء في ذلك لاحتمل عدة أوراق، فتبين بهذا أن العلماء رحمهم الله بينوا أن علة النهي ما يؤدي إليه ذلك من الغلو فيها وعبادتها من دون الله كما هو الواقع والله المستعان.
وقد حدث بعد الأئمة الذين يعتد بقولهم أناس كثر في أبواب العلم بالله اضطرابهم، وغلظ عن معرفة ما بعث الله به رسوله من الهدى والعلم حجابهم، فقيدوا نصوص الكتاب والسنة بقيود أوهنت الانقياد، وغيروا بها ما قصده الرسول صلى الله عليه وسلم بالنهي وأراد، فقال بعضهم: النهي عن البناء على القبور يختص بالمقبرة المسبلة، والنهي عن الصلاة فيها لتنجسها بصديد الموتى، وهذا كله باطل من وجوه: منها: أنه من القول على الله بلا علم، وهو حرام بنص الكتاب.
ومنها: أن ما قالوه لا يقتضي لعن فاعله والتغليظ عليه، وما المانع له أن يقول: من صلى في بقعة نجسة فعليه لعنة الله، ويلزم على ما قاله هؤلاء: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبين العلة، وأحال الأمة في بيانها على من يجيء بعده صلى الله عليه وسلم وبعد القرون المفضلة والأئمة، وهذا باطل قطعاً وعقلاً وشرعاً، لما يلزم عليه من أن الرسول صلى الله عليه وسلم عجز عن البيان، أو قصر في البلاغ، وهذا من أبطل الباطل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بلغ البلاغ المبين، وقدرته في البيان فوق قدرة كل أحد، فإذا بطل اللازم بطل الملزوم].
وهذا من مقتضى شهادة أن محمداً رسول الله، ومعنى شهادة أن محمداً رسول الله: أن يشهد شهادة يقينية بلا تردد ولا شك أنه رسول من عند الله جاء برسالة الله فبلغها عن الله، وأداها كما أمر الله جل وعلا، وإذا اعتقد أن الرسول ترك شيئاً من الجوانب المهمة أو غير المهمة مما يلزم الناس في دينهم ولم يوضحه ويبينه، فشهادته أن محمداً رسول الله غير سليمة.
ومن المعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمره الله جل وعلا بالبلاغ، وقال: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:67]، وإذا لم يبلغ الرسالة ماذا يكون؟ توعده الله جل وعلا، ولهذا كان صلوات الله وسلامه عليه يخاف في بعض الأحيان ويستشهد الناس فيقول: (إنكم مسئولون عني فكيف تقولون؟) فيقولون له: نشهد أنك بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، ونصحت الأمة، وقمت بما يلزم، ويستشهد ربه ويقول: يا رب اشهد عليهم، اشهد أنهم شهدوا لي بالبلاغ؛ لأنهم سيسألون يوم القيامة، وهو يسأل كما قال الله جل وعلا: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ * فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} [الأعراف:6 - 7].
فلا بد من سؤال المرسل إليه والرسول، ولهذا يقول العلماء: كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون ولا بد إذا وقفوا بين يدي الله: ماذا كنتم تعبدون؟ وبماذا أجبتم المرسلين؟ فلا بد أن يكون ذلك صحيحاً.
فإذاً: يكون معنى شهادة أن محمداً رسول الله: أن يشهد الإنسان أن الرسول صلى الله عليه وسلم بلغ كل ما أمره الله جل وعلا، وقد قال الله جل وعلا في آيات كثيرة لرسوله: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44] وقد بين صلوات الله وسلامه عليه كل ما يلزم، وما ترك شيئاً مما يلزمنا إلا ووضحه وبينه غاية البيان.
حتى إنه علمنا آداب الأكل، وآداب قضاء الحاجة، وقال: (إذا أراد أحدكم أن يقضي حاجته فليبعد، ثم ليستتر، ولا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض)، وما أشبه ذلك من الآداب، وكذلك إذا دخل المنزل يقول: باسم الله، نسأل الله خير المولج، وإذا قدم الطعام يسمي، إذا أوى إلى فراشه يقول: كذا وكذا، وهذه أمور لو تركها الإنسان فليس عليه شيء، ومع هذا فقد بينها صلى الله عليه وسلم، فهل بعد هذا يعتقد أنه يترك الشيء الذي إذا فعلناه أثمنا وربما هلكنا؟ لا يجوز هذا أصلاً.
كيف يقال: إن العلة في هذا النجاسة! إنما العلة أن تخلص العبادة لله، وأن لا يدخل العبادة شيء مما يشوبها أو يفسدها أو يبطلها نهائياً، ولا يحسبن حاسب أن الذين يقصدون القبور ويتبركون بها ويدعون أصحابها: أنهم كلهم عوام، بل فيهم علماء، وهؤلاء العلماء هم الذين أضروهم في الواقع، ففيهم من يحتج به ويقال: إنه عالم، وهو إما يقر ذلك أو يفعله.
وربما تجد من هؤلاء من يدعو الناس إلى عبادته قبل موته، فهذا أحدهم يقول لأصحابه: إذا كانت لأحدكم حاجة بعد موتي فليأت إلى قبري وليسألني! فلا خير فيمن يحول بينه وبين قضاء حوائج أصحابه ذراع من تراب! فهذه دعوة إلى عبادته.
وآخر يقول: إذا كان يوم القيامة نصبت خيمتي على النار فلا أدع أحداً يدخلها! ينصب خيمته على النار! نعوذ بالله من هذا الهوس، وما أشبه ذلك من أقاويل أناس ضلوا في عقولهم بعد ضلالهم في أديانهم، أو أناس ضعاف من دعاة الشيطان يدعون إلى عبادة غير الله جل وعلا، وكل هذا مما يلبس على كثير من الناس ويضرهم.
ومعلوم أن من فعل ذلك وتبعه عليه من تبعه، أن عليه وزره ووزر من تبعه من غير أن ينقص من أوزار الأتباع شيئاً؛ لأنه لا عذر لأحد في ذلك، فالذي يقتدى به ويؤتم بأقواله هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط، أما غيره من الناس فيجب أن تعرض أقواله على أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن وافقت أقواله قول رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلت؛ لأنها وافقت قول الرسول صلى الله عليه وسلم لا لأنها أقواله.
فلا أحد يحكم على كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، فهما الحجة فقط، وبهما يقوم العذر، أما أفعال الناس وأقوالهم وتقدريراتهم، فليست حجة ولن تنجي الإنسان؛ ولهذا ذكر الله جل وعلا في القرآن عن الملأ من الناس -يعني: الكبراء والعلماء والقادة- أن الضعفاء يشكونهم عند الله يقولون: {رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا} [الأعراف:38] فهل ينفعهم؟ كلا، لا ينفعهم.(62/7)
براءة الشيطان وأتباعه بعضهم من بعض يوم القيامة
بل ذكر الله جل وعلا أنهم يجتمعون فيلوم بعضهم بعضاً ثم يتبرأ بعضهم من بعض، حتى إن الشيطان يأتي أمامهم في جهنم، يقول مقاتل بن سليمان في تفسيره: إنه ينصب له منبر في النار! فيقوم فيهم خطيباً، فيقول: ((إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ)) يعني: من حجة ((إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي)) يعني: ما هي إلا مجرد دعوة دعوتكم فاستجبتم، وليس عندي سلطان ولا عندي حجة أقيمها عليكم {فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم:22] هكذا يقول لهم الشيطان، يقول: ما أنا بمغن عنكم شيئاً، وما أنتم بمغنين عني شيئاً، ما أنا بنافعكم اليوم ولا أنتم تنفعوني، ويقول: إنه يكفر بإجابتهم وبكونهم استجابوا، فيكفر بذلك ويتبرأ منه، وليس هناك أحد يعذر! وإنما يزداد العذاب عليهم لأنهم لا عذر لهم ولا حجة.
وكذلك هؤلاء الذين يعبدون القبور ويدعون أصحابها، ويلتجئون إليهم عند الضر وعند الشدائد أو عند الرغبة التي يرغبون فيها أن يهبوا لهم أولاداً أو أموالاً أو غير ذلك كما هو الواقع، وإذا كان يوم القيامة يقال لهم: اذهبوا إلى أولئك الذين كنتم تدعونهم فليجيروكم من عذاب الله! فيقولون: ربنا ضلوا عنا، يعني ذهبوا عنا فلا نجدهم، وربما كذبوا على أنفسهم، وقالوا: والله ربنا ما كنا مشركين، يكذبون على أنفسهم! وهل يخفى على الله شيء؟ {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:5 - 6] يعني: إذا جمعوا جميعاً وقيل لهم: اذهبوا إليهم، تبرءوا منهم وأظهروا لهم العداوة، وقالوا: ما أمرناكم بهذا، ونحن نبرأ إلى الله منكم ومن أعمالكم ونكفر بها وبكم، وصاروا أعداء لهم.
فمن كان هذا سعيه وهذا عمله وهذا رجاؤه، فيبدو له يوم القيامة ما لم يكن يحتسب، وهذه هي المصيبة، ثم تتضاعف الحسرات فتكون حسرات مع عذاب ونكال، نسأل الله العافية.
فليس هناك طريق ينجي إلا اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فقط، وكل الطرق تؤدي إلى جهنم إلا الطريق التي تكون خلف المصطفى صلوات الله وسلامه عليه، فمن سلك هذا الطريق نجا وفاز، أما إذا حاد يميناً أو شمالاً مع الطرق الكثيرة فإن هذه الطرق تؤديه إلى النار، نسأل الله العافية.(62/8)
الأنبياء لا تستحيل أجسادهم ولا تتطرق إليها نجاسة
قال: [ويقال أيضا: هذا اللعن والتغليظ الشديد إنما هو فيمن اتخذ قبور الأنبياء مساجد، وجاء في بعض النصوص ما يعم الأنبياء وغيرهم، فلو كانت هذه هي العلة لكانت منتفية في قبور الأنبياء لكون أجسادهم طرية لا يكون لها صديد يمنع من الصلاة عند قبورهم، فإذا كان النهي عن اتخاذ المساجد عند القبور يتناول قبور الأنبياء بالنص علم أن العلة ما ذكره هؤلاء العلماء الذين قد نقلت أقوالهم، والحمد لله على ظهور الحجة وبيان المحجة، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله].
الأنبياء في قبورهم أحياء، فلا تتطرق إليهم الأرض بأكل أجسادهم أو شيئاً منها، ولكن هذه الحياة لا نعرف ما كيفيتها، فهي حياة برزخية غير معروفة، ولكن حياتهم أكمل من حياة الشهداء، وقد نهانا الله جل وعلا أن نقول لمن يقتل في سبيل الله إنه ميت {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} [البقرة:154] {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169]، هذا في الشهداء.
أما الأنبياء فهم أكمل حياة من الشهداء، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم لـ جابر بن عبد الله: (أتدري ماذا قال الله لأبيك؟ -وأبوه قتل في أحد- فإنه قال له: يا عبدي! تمن علي، فقال: ماذا أتمنى وقد أعطيتني ما لم تعطه أحداً من الناس؟! ثم يقول: تمن علي ثم تمن علي، فلما رأى ذلك قال: يا ربي! أريد أن تعيدني إلى الدنيا فأقتل في سبيلك مرة أخرى) للشيء الذي رآه.
وقد جاء أن معاوية رضي الله عنه أراد أن يجري عيناً من أحد إلى المدينة، وذلك بعد أربعين من وقعة أحد، فجاءت بالقرب من مقبرة شهداء أحد، فقيل للناس: من كان له ميت فليزله من هذا المكان، فلما أزالوهم وجدوهم كما هم، وكأنهم دفنوا الآن، ومع الحفر ضربت المسحاة قدم أحدهم أو يده فسال الدم.
وكذلك يقول جابر: إن والده دفن مع رجل، يقول: وبعد وقت ما سمحت نفسي حتى أخرجته فوجدته كما هو، وهذا كثير، ولكن كلام الله أبلغ من هذا، وهو الذي يجب أن يصدق ويؤمن به.
فهذا في آحاد الناس أنهم أحياء وأنهم يرزقون عند ربهم، والرزق حقيقي كما قال الله: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169] إذا كان يقول: (عند ربهم يرزقون) فليس الرزق للأرواح فقط، بل يعم البدن والروح.
وإذا كان هذا للشهداء فحياة الأنبياء أكمل بلا شك، وحياة رسولنا صلى الله عليه وسلم أكمل بلا شك؛ ولهذا فإن النبي صلوات الله وسلامه عليه حي في قبره ولكن مثلما قلنا: حياة برزخية لا نعرف كيفيتها، ولا يحتاج معها إلى ما يحتاجه في هذه الحياة، ومع ذلك ما طمع الشيطان في صحابة النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتي إليهم ويقول لهم: إنه حي في قبره فاذهبوا واسألوه عن المشاكل التي تقع بينكم، وكان أحدهم يبكي وإذا قيل له: مالك؟ يقول: لأني ما سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن كذا وكذا.(62/9)
ظهور الشرك في القرون التي ابتعدت عن عهد النبوة
حتى جاءت القرون التي ابتعدت عن عهد النبوة ونورها، ووقع فيهم من الضلال والجهل فطمع فيهم الشيطان، وكونه يأتي إلى أحدهم ويقول: اذهب إلى القبر واسأل، ثم قد يلبس عليه فتنة وضلالاً، مثل الحكاية التي تذكر عن البكري مع أنها حكاية لا تصح، أن أعرابياً جاء إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وأنه استنجد به والبكري يسمع، ثم نام، فجاءه الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: يا بكري اذهب إلى الأعرابي فبشره أن الله قد غفر له.
فتؤخذ هذه الحكاية المكذوبة الواهية وتجعل دليلاً على دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وتترك النصوص التي جاءت في هذا الباب وغيره ويضرب بها جانباً، ويقال: إن هذا رأى رؤيا! وهذه عمدة الذين يعبدون غير الله، عمدتهم الرؤى التي مستندها الشيطان الذي يضحك عليهم، ويزور عليهم، أو عمدتهم أمور مكذوبة عن فلان وفلان، وحكايات ليس لها سند، أو أمور ضعيفة لا تدل على ذلك، فليس عندهم أكثر من هذا، أما النصوص الواضحة الظاهرة الجلية التي إذا تمسك بها الإنسان يكون على يقين من ربه، فهذه لا يلتفتون إليها {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [المائدة:41] نسأل الله العافية.
ولهذا يخبر الله جل وعلا عن الذين أراد ضلالهم: أنهم لو أتوا بكل آية ما آمنوا، بل أخبر جل وعلا عن الكفار أنهم إذا كان يوم القيامة يقولون: يا ربنا! ردنا إلى الدنيا حتى نعبدك حقاً، ونتبع رسلك حقاً، فيخبر الله جل وعلا عنهم أنهم لو ردوا لعادوا إلى ما نهوا عنه، فالذي كتب عليه الضلال لا بد من ضلاله، وضلاله عن عمد، وعن اختيار منه، ولهذا تجدهم يسخرون بأهل الحق، ويمقتونهم ويكرهونهم أشد الكراهية، ويرون أنهم سخفاء عقول، وأنهم هم أهل الذكاء وأهل الحكمة وأهل البصر وأهل العقل.
هذا هو واقع حالهم، فإذا تبين للإنسان الحق وتمسك به فهذه منة الله عليه، فعليه أن يشكر الله وأن يكثر من شكره ومن دعوته أن يثبته على ذلك؛ لأنها منةٌ يمن بها على من يشاء، مع أنه جل وعلا يعلم من يستحق الضلالة ومن هو أهل للهداية، فيضع الأمور في مواضعها.(62/10)
مسائل الباب
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فيه مسائل: الأولى: ما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم فيمن بنى مسجداً يعبد الله فيه عند قبر رجل صالح، ولو صحت نية الفاعل].
يعني: أن الذي يبني مسجداً عند قبر رجل وإن كان قصده بذلك تكثير الأجر أو يقصد التقرب بذلك إلى الله، ولا يقصد عبادة هذا الرجل؛ فهو واقع في اللعنة، وليس كل مجتهد يكون مصيباً؛ لأن الاجتهاد يجب أن يكون على وفق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وإلا فهو مردود.(62/11)
النهي عن التماثيل
[الثانية: النهي عن التماثيل، وغلظ الأمر في ذلك].
التماثيل: هي الصور، وقد جاء تغليظ الأمر في ذلك، يعني: أن كل مصور يجعل له نفس يعذب بها يوم القيامة بعدد الصور التي صورها، وفي الحديث الآخر: (الناس عذاباً الذين يضاهون الله في خلقه) (أشد الناس عذاباً الذين يصورون) (وكل مصور يكلف يوم القيامة أن ينفخ الروح فيما صور، وليس بنافخ) وفي الحديث القدسي: (من أظلم من ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا شعيرة) وهذا تعجيز.
ولم يأت في الوعيد على الذنوب مثلما جاء في المصورين، وسبق الكلام في هذا وأنه لا فرق في التصوير بين الفوتغرافي أو الرسم الذي يكون باليد، ولا فرق بين المجسد، ولا المخطوط خطاً، وكل تصوير فهو داخل في هذا.(62/12)
شدة تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من الشرك ووسائله
[الثالثة: العبرة في مبالغته صلى الله عليه وسلم في ذلك.
كيف بين لهم هذا أولاً، ثم قبل موته بخمس قال ما قال، ثم لما كان في السياق لم يكتف بما تقدم].
يعني أن هذا كله مبالغة وخروج من التكليف الذي كلفه الله جل وعلا به، ونصح لأمته صلوات الله وسلامه عليه، وبراءة مما كلفه الله جل وعلا به، فهو يجمع بين أمر الله جل وعلا وبين الشفقة على أمته أن يقعوا في شيء يعنتهم ويشق عليهم، وأشد ما يعنتهم ما إذا خالفوا أمر الله جل وعلا في أمر العبادة.
وهو حق الله الذي أوجبه عليهم، فكيف يصرفون شيئاً منه لغيره؟! هذا هو أشد ما يعنت الأمة؛ ولهذا حرص على ذلك أشد الحرص، فبالغ هذه المبالغة حتى وهو في سياق الموت صلوات الله وسلامه عليه يقول: (ألا إني أنهاكم أن تتخذوا القبور مساجد) (ألا فلا تتخذوا القبور مساجد).
ولهذا فهم الصحابة ذلك فهماً جيداً حتى إنهم صاروا يبعثون البعوث في الآفاق إذا وجدوا قبراً مرفوعاً عن المستوى الشرعي، وإذا وجدوا صورة مصورة طمسوها وأزالوها؛ لأنهم فهموا مراد الرسول صلى الله عليه وسلم.
ففي صحيح مسلم عن أبي هياج الأسدي أنه قال له علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أن لا تدع قبراً مشرفاً إلا سويته، ولا صورة إلا طمستها)، وكان صلى الله عليه وسلم قد بعث علياً بهذا الأمر وبعث غيره، ومعروف ماذا صنع في مكة لما فتحها: طمس الصور وكسر الأصنام، وكان يبعث البعوث لذلك، والصحابة سلكوا مسلكه ودعوا بدعوته؛ لأنهم هم الذين بلغوا دعوته إلى الناس رضي الله عنهم.
[الرابعة: نهيه عن فعله عند قبره قبل أن يوجد القبر].
يعني أنه قال: (لا تتخذوا قبري عيداً، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا قبري مسجداً) نهى عن ذلك وكرر النهي، ومعلوم أن هذا يقوله وهو مقبل على ربه جل وعلا، ولهذا حماه الله جل وعلا بسبب هذه الدعوة، ولو كان بارزاً فماذا يكون؟! لا يستطيع أحد أن يمنع الناس، ولو وضعت الشرطة والجنود فلا يستطيعون، فلا بد أن يقفل، فصانه الله جل وعلا استجابة لدعوة نبيه صلى الله عليه وسلم وبنيت عليه الجدران جداراً بعد جدار بعد جدار، فلا يستطيع أحد أن يصل إليه، أما لو وصل الناس إليه لتقاتلوا عليه؛ لأن الحق لا يعرفونه كلهم، ولا كلهم يقبل الحق، بل أكثرهم لا يقبل ولا يعرف الحق، وفتنوا بالتعلق بالقبور، فكيف بقبر المصطفى صلوات الله وسلامه عليه!!(62/13)
اتخاذ القبور مساجد من سنن اليهود والنصارى
[الخامسة: أنه من سنن اليهود والنصارى في قبور أنبيائهم].
ويدل لهذا أنه صلى الله عليه وسلم عين لهم المكان قال: ادفنوني في هذا المكان، وإن كان جاء حديث استدل به أبو بكر رضي الله عنه عندما اختلفوا في موضع دفنه رضي الله عنه أنه سمعه يقول: (، كل نبي يدفن في المكان الذي يموت فيه) فلهذا دفن تحت سريره الذي كان عليه صلوات الله وسلامه عليه لهذا.
وأما الحديث الذي في الصحيحين أنه قال: (ما بين منبري وقبري روضة من رياض الجنة) فقال المحققون من العلماء: هذا اللفظ غير صحيح، واللفظ الصحيح: (ما بين منبري وبيتي روضة من رياض الجنة)، وقد جاء بهذا اللفظ وبهذا اللفظ، ولا شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال واحداً منهما، فيكون الثاني اجتهاداً من الراوي؛ والقبر ما كان إلا بعد ذلك، فهذا يدل على أن هذا من تصرف الرواة، ومن المعلوم أنه يجوز رواية الحديث بالمعنى إذا كان معنى اللفظ الذي يرويه بالمعنى لا يختلف عن معنى اللفظ النبوي وإن كان الاتفاق (100%) نادراً وقليلاً جداً، ولكن يكفي أن يكون المعنى الذي يؤدى به هذا اللفظ هو مقصود الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا له أمثلة كثيرة.
من ذلك حديث معاذ رضي الله عنه حينما بعثه إلى اليمن وخرج صلى الله عليه وسلم يشيعه، ومعاذ راكب وهو يمشي صلوات الله وسلامه عليه، فقال له معاذ: (يا رسول الله! إما أن تركب وإما أن أنزل، فقال: لست بنازل ولست براكب، ثم قال له: إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله)، جاء في لفظ آخر: (ليكن أول ما تدعوهم إليه: أن يعبدوا الله)، وفي لفظ ثالث: (ليكن أول ما تدعوهم إليه: أن يوحدوا الله) وهذه كلها بمعنى واحد، وكلها يدل على أن الراوي هو الذي تصرف في هذا، فمرة قال: (شهادة أن لا إله إلا الله) ومرة قال: (أن يعبدوا الله) ومرة قال: (أن يوحدوا الله).(62/14)
لعن من اتخذ القبور مساجد
[السادسة: لعنه إياهم على ذلك].
لعن اليهود والنصارى؛ لأنهم كانوا يبنون المساجد على قبور أنبيائهم، ولهذا يتبين لنا أن بناء المساجد على القبور من سنة اليهود والنصارى، وأن المسلمين ممنوعون من ذلك ومنهيون عنه، والعجب أن المفتونين في القبور من العلماء يتركون مثل هذه النصوص ويستدلون بأمور مشتبهة! حتى استدلوا بقول الله جل وعلا: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف:21] فقالوا: هذا دليل على أنه يجوز اتخاذ المساجد على القبور، وهذا نص القرآن! فهل نأخذ بدعوى هؤلاء! أو بما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم ووضحه، فهذه سنة الذين قبلنا، وهم مذمومون عليها، وملعونون عليها، أفيجوز أن يأخذ المسلم بهذا وقد لعنهم الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك ثم نقول إنه دليل؟! أليس هذا هو عكس ما أراده صلى الله عليه وسلم تماماً؟! إنما هو مجرد تشبيه على الناس وتلبيس، وإلا فإن هؤلاء الذين اتخذوا عليهم مسجداً هم الذين قال فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم: (لعن الله اليهود والنصار اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر ما صنعوا).
[السابعة: أن مراده تحذيره إيانا عن قبره.
الثامنة: العلة في عدم إبراز قبره].
فالعلة كونهم خشوا أن يتخذ معبداً فدفنوه في بيته مع ما سمعوه من النص، وهذا الحديث يدل على أنه صلى الله عليه وسلم منعهم، ولا مانع أن تجتمع أمور متنوعة تتظافر على كونهم يدفنونه في بيته.
[التاسعة: في معنى اتخاذها مسجداً].
سبق أن معنى هذا أنه يصلى عندها، وليس معناه أن يبنى عليها المساجد، بل يتحقق ذلك بمجرد أن يصلى عندها.(62/15)
الذين يتخذون القبور مساجد هم من شرار الناس
[العاشرة: أنه قرن بين من اتخذها وبين من تقوم عليهم الساعة، فذكر الذريعة إلى الشرك قبل وقوعه مع خاتمته].
والمقصود بهذا أن الذين يتخذون المساجد شرار الناس؛ لأنه جاء في الصحيح: (إن شرار الناس من تقوم عليهم الساعة)، وأن الساعة لا تقوم حتى لا يوجد في الأرض من يعرف الله وحتى لا يقال: الله الله! وليس المقصود بقيام الساعة نفخ الصور؛ ولكن المقصود قربها، ووجود علاماتها الكبيرة، مثل خروج الدابة، ومثل خروج الدجال الذي يدعي أنه رب الناس، ومثل طلوع الشمس من المغرب، ومثل الخسوف التي تكون في وسط الجزيرة وفي غربها وشرقها، ومثل النار التي تخرج من قعر عدن، ومثل يأجوج ومأجوج ونزول عيسى وغيرها كثيرة.
فإذا طلعت الشمس في مغربها فلا ينفع الإنسان إيمان جديد؛ لأنها تظهر آيات باهرة تؤذن بنهاية هذه الدنيا، أما الساعة التي هي الساعة المرادة فهي النفخ في الصور النفخة الأولى، فإذا نفخ في الصور مات الخلق كلهم، والصور معروف، وجاء في الحديث أنه قرن عظيم، الله أعلم بصفته، وينفخ فيه إسرافيل عليه السلام.
وقد جاء أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (كيف أنعم وقد التقم صاحب القرن القرن وحنى جبهته وصار ينتظر الأمر) فالأمر قريب جداً كأنه لحظات، فهو قريب وسوف يأتي.
أما المراد بقيام الساعة هنا أي: العلامات الكبيرة، أما العلامات الأخرى فهي كثيرة جداً، وأولها بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله جل وعلا: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1] ورسولنا صلى الله عليه وسلم من أسمائه نبي الساعة؛ لأنه بعث هو والساعة إلا أنه سبقها وسوف تلحق بعده.(62/16)
ضرر الرافضة والجهمية على الإسلام والمسلمين
[الحادية عشرة: ذكره في خطبته قبل موته بخمس الرد على الطائفتين اللتين هما أشر أهل البدع، بل أخرجهم بعض أهل العلم من الثنتين والسبعين فرقة، وهم الرافضة والجهمية.
وبسبب الرافضة حدث الشرك وعبادة القبور، وهم أول من بنى عليها المساجد].
يقصد بهذا الرافضة الذين كانوا في مصر والذي يسمون بالعبيديين، فهم أول من بني المساجد على القبور، وأول من بنى القباب، وأول من سن هذه السنة الخبيثة، وقد كتب العلماء فيهم: أنهم ليسوا من الإسلام في شيء، وأن دعواهم النسب كذب، وأنهم من أبناء المجوس، وقد تغلبوا على المغرب ثم على مصر قروناً، وبعضهم صار يدعو الناس إلى عبادته، وبعضهم صار يقول إنه هو الله.
وأما الجهمية فهم الذين أنكروا أسماء الله وصفاته ووصفوه بالعدم، وقالوا: إنه ليس فوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال ولا داخل العالم ولا خارج العالم ولا في مكان ولا يجري عليه زمان، ولا تصح إليه الإشارة، ولا أن يقال أين هو، ولا يحس، ولا يرى، ولا يقول، ولا يتكلم، ولا يحب، ولا يُحب إلى غير ذلك، فماذا يكون؟ يكون عدماً.
ولو أن إنساناً قيل له: صف لنا العدم، فلن يستطيع أن يصف العدم بأكثر مما ذكرنا ولهذا يقول: أخرجهم كثير من العلماء الذين كتبوا في الفرق من الثنتين والسبعين فرقة؛ لأن الثنتين والسبعين هم من أهل الإجابة إلا أنهم متوعدون بالنار؛ لأنهم فارقوا سنة المصطفى ولو في جزئيات منها، وأخرجوهم منها؛ لأنهم ليسوا من أمة الإجابة، ومن خرج من أمة الإجابة فهو من الكفار، هذا هو المقصود بالإخراج.(62/17)
كرامة النبي صلى الله عليه وسلم ومضاعفة أجره
[الثانية عشرة: ما بلي به صلى الله عليه وسلم من شدة النزع.
].
فقد ورد أنه كانت له خميصة إذا غطي وجهه واغتم كشفها عن وجهه، وهذا يدل على أنه حصل له شدة عند الموت، صلوات الله وسلامه عليه، والسبب في هذا مضاعفة أجره، لما جاء عن عبد الله بن مسعود أنه لما جاء إليه قال: (يا رسول الله! إنك لتوعك وعكاً شديداً، فقال: أجل! أوعك كما يوعك رجلان منكم، فقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ذلك لأن لك أجرين؟ قال: نعم) فهذا لأجل زيادة أجره ورفع درجاته عند الله.
[الثالثة عشرة: ما أكرم به من الخلة.
].
والخلة أخص من المحبة، وهي خاصة به صلوات الله وسلامه عليه وبأبيه إبراهيم عليه السلام فقط، وليس من الخلق أحد اتخذه الله خليلاً إلا إبراهيم ومحمداً صلوات الله وسلامه عليهما.
[الرابعة عشرة: التصريح بأنها أعلى من المحبة.
الخامسة عشرة: التصريح بأن الصديق أفضل الصحابة.
السادسة عشرة: الإشارة إلى خلافته].(62/18)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [63]
لقد جاءت الشريعة بسد ذرائع الشرك، وبينت أن الغلو في الصالحين يصيرها أوثاناً تعبد من دون الله، فالواجب على المؤمن أن يجتنب الغلو بأنواعه، سواء في الأمكنة أو في الأزمنة أو في الأشخاص؛ وهو من أعظم أسباب الوقوع في الشرك الأكبر الذي يخلد صاحبه في النار.(63/1)
الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثاناً تعبد من دون الله
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثاناً تعبد من دون الله.
].
الغلو: تجاوز الحد في الشيء المشروع، ومقصود المؤلف بهذا الباب أمور: الأول: التحذير من الغلو في القبور.
الثاني: أن الغلو فيها يؤول إلى عبادتها.
الثالث: أنها إذا عبدت صارت أوثاناً ولو كانت قبور أنبياء وصالحين.
الرابع: التنبيه على العلة في التحذير من الغلو فيها وتجاوز الحد، وأن العلة: عبادة غير الله جل وعلا، والحفاظ على التوحيد.
هذا هو مقصود المؤلف من عقد هذا الباب وإلا فهو قريب من الذي قبله.
قال المصنف: [روى مالك في الموطأ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم لا تجعل قبرى وثناً يعبد.
اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)].
هذا الحديث رواه الإمام مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم عن عطاء مرسلاً، وقد جاء من غير هذا الطريق، وهو حديث ثابت عند من يحتج بالمرسل؛ لأن رواته ثقات، وعند من لا يحتج به فإنه جاء ما يعضده من طرق أخرى مرفوعة وكذلك له شواهد تعضده.(63/2)
الفرق بين الوثن والصنم
قوله: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد)، هذا دعاء يدعو به الرسول صلى الله عليه وسلم حتى لا يكون قبره معبوداً، وفي هذا دليل على أنه لو عبد لسمي وثناً، وهذا الذي أراد المؤلف أن ينبه عليه أخذاً من هذا الحديث: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد) والفرق بين الوثن والصنم: أن الأوثان كل ما عبد من غير صورة، مثل الججر والشجر والقبر وما أشبه ذلك من المعبودات التي يطلب منها البركة ويطلب منها النفع ودفع الأذى وما أشبه ذلك، وهذه الأمور من خصائص الله جل وعلا، ولا يجوز طلبها من غيره.
والصنم: هو ما كان مصوراً على صورة آدمي، أو صورة حيوان، هذا هو الفرق.
أما إذا افترقا بأن جاء ذكر أحدهما دون الآخر فإنه يدخل فيه الآخر، ولكن إذا اجتمعا لفظاً افترقا في المعنى، كنظائرهما في اللغة العربية وهي كثيرة.
وقال بعض العلماء: لا فرق بين هذا وهذا، فيطلق الوثن على الصنم، والصنم على الوثن، واستدلوا بقصة إبراهيم مع قومه ففي موضع قال: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء:52] وفي موضع سماها أوثاناً، وفي موضع آخر سماها أصناماً، فدل على أنه لا فرق بين هذا وهذا، والصواب أن هناك فرقاً، ويجوز أن تكون معبودات قوم إبراهيم فيها الأوثان وفيها الأصنام، فمرة يعبر عن هذا، ومرة يعبر عن هذا.
وكلها شر سواء كانت وثناً أو صنماً، وكلها يقع فيه الشرك الأكبر الذي من مات عليه يكون خالداً في جهنم، ولا يجوز أن يكون عند المسلم شعبة من شعب الشرك، والشرك شعب كثيرة، ولكن الشرك الأصغر قد لا يسلم منه أحد إلا نادراً إلا الذين حققوا التوحيد وخلصوه من شوائب الشرك والبدع والذنوب، أما أكثر الناس فإنهم لا يسلمون من شوائب الشرك الأصغر، وهذا لا يخرجهم من الدين الإسلامي، ولكنه فيه خطورة؛ لأنه قد يكون وسيلة إلى ما هو أكبر منه، ويترتب عليه عقاب، لا سيما على قول كثير من العلماء الذين يقولون: إن الشرك لا يغفر كبيره وصغيره، وليس معنى هذا القول أن الشرك كله يكون كفراً، وليس هذا مرادهم، ولكن مرادهم: أن الشرك إذا كان أكبر فإنه مخرج من الدين وهذا لا إشكال فيه، أما إذا كان أصغر فمقصودهم بذلك: أنه لا بد من العقاب عليه قبل دخول الجنة، يعني: ما يعفى عنه، ولا يكون مثل بقية الذنوب التي قال الله جل وعلا فيها: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].
وهم يستدلون بهذه الآية ويقولون: إن الله جل وعلا استثنى من المعاصي كلها الشرك، والشرك يدخل فيه القليل والكثير، كما يدخل فيه الكبير والصغير، يقولون: فدل ذلك على أن الشرك الأصغر غير مغفور لصاحبه، ولا بد من عقابه وإن كان مسلماً، ومعنى ذلك: أن الذي يموت على الشرك الأصغر بدون توبة يناله العقاب، أما على القول الآخر فإن كل ما يكون غير مخرج من الدين الإسلامي فإنه داخل في الاستثناء الذي ذكره الله جل وعلا في قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].
والمقصود: أن قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد) قاله صلوات الله وسلامه عليه خوفاً من وقوع ذلك، وهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يتوقع أن يحصل شيء من ذلك، ولو لم يتوقع ذلك لما دعا بهذا الدعاء.
الثاني: أن هذا يدل على أنه لو عبد لسمي وثناً (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد).
الثالث: أن عبادته ليست السجود له، أو الاعتقاد بأنه يخلق من العدم أو أنه يحيي ويميت، أو أنه يتصرف في السماوات والأرض وفي المخلوقات، ليس هذا المراد، وإنما المراد: أن يتوجه إليه، ويسأله مع الله، ويعتقد أنه ينفع ويدفع ويجلب للسائل خير الدنيا والآخرة، ويدفع عنه شرور الدنيا والآخرة، هذا هو المقصود، وهذا يحصل من كثير من الناس الذين يجهلون الأمر، والنبي صلوات الله وسلامه عليه بين عن ربه جل وعلا بياناً شافياً، ولم يترك للناس عذراً حتى يقول قائلهم: أنا أجهل هذا الأمر.(63/3)
اشتداد غضب الله على الذين يتخذون القبور مساجد
يجب على المسلم أن يتتبع ويطلب بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن البيان قوله المتقدم، وقوله صلى الله عليه وسلم: (اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) وهذا يدلنا أيضاً على أمور: الأول: أن الله يغضب على بعض الناس، وأن غضبه قد يكون شديداً، وقد يكون أقل من ذلك، يعني: أن غضبه يتفاوت على حسب الذنوب.
الثاني: أن معنى قوله: (اتخذوها مساجد) أي: محلاً للسجود، يعني يصلون عندها، فجعلوها محلاً للعبادة، يعني: أنهم يتحرون العبادة عندها، وهذا ليس بشرك ولكنه من وسائل الشرك التي توقع فيه؛ لأنه إذا صلى عند القبر تحرى الصلاة عنده، وتحرى الدعاء عنده، ويوشك أن يتدرج شيئاً فشيئاً حتى يعبد القبر، ويسأل من فيه، فلهذا منعت العبادة عند القبور.
الثالث: أن الأمور التي جاءت في ذم اليهود والنصارى ومن سبق من الأمم إنما المقصود بها تحذيرنا نحن أن نقع فيما وقعوا فيه.
الرابع: أنه إذا حصل منا شيء يشابه ما حصل منهم فالحكم سواء لا يختلف، يعني: ما قيل فيهم يقال فينا، وما أصابهم يصيبنا، وقد يكون أشد، وذلك أن نبينا صلى الله عليه وسلم هو أفضل الأنبياء، ومن خالف أفضل الأنبياء يكون عذابه أشد وأعظم، وهو صلوات الله وسلامه عليه بالغ في التحذير من ذلك.
الخامس: أنه لا فرق بين قبور الأنبياء وغيرها في جعلها محلاً للعبادة، وبهذا يتبين لنا معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً) كما في الصحيح، وأن المعنى لا تجعلوها شبيهة بالقبور ليس فيها عبادة؛ لأنه متقرر في الشرع أن المقبرة لا يتعبد فيها، والقبور لا تفعل العبادة فيها، فإذا ترك البيت من العبادة: من تلاوة القرآن والصلاة والذكر وما أشبه ذلك؛ صار شبيهاً بالمقبرة؛ ولهذا أمر بالتعبد فيها بالصلاة والقراءة، (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً)، وبهذا يتبين لنا أن المقصود: منع الأمة أن تتعبد عند القبور بعبادة تقصد بها وجه الله، فكيف إذا قصد صاحب القبر بالعبادة؟! فالمنع من أجل ألا يقع شيء من الشرك؛ لأن هذا هو الشرك الأكبر الذي إذا فعله الإنسان ومات عليه يكون خالداً في جهنم.
قال الشارح رحمه الله: [قوله: روى مالك في الموطأ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد).
هذا الحديث رواه مالك مرسلاً عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الحديث.
ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن ابن عجلان عن زيد بن أسلم به، ولم يذكر عطاء، ورواه البزار عن زيد عن عطاء عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعاً، وله شاهد عند الإمام أحمد بسنده عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رفعه: (اللهم لا تجعل قبري وثناً، لعن الله قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد).
قوله: روى مالك في الموطأ هو: الإمام مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو الأصبحي أبو عبد الله المدني إمام دار الهجرة، وأحد الأئمة الأربعة، وأحد المتقنين للحديث حتى قال البخاري: أصح الأسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر مات سنة تسع وسبعين ومائة، وكان مولده سنة ثلاث وتسعين، وقيل: أربع وتسعين وقال الواقدي: بلغ تسعين سنة.
قوله: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد) قد استجاب الله دعاءه كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى: فأجاب رب العالمين دعاءه وأحاطه بثلاثة الجدران حتى غدت أرجاؤه بدعائه في عزة وحماية وصيان].
هذا قاله ابن القيم في زمنه في القرن السابع؛ لأنه توفي سنة سبع مائة وواحد وخمسين رحمه الله، وتغير الوضع عن ذلك الوقت، ولكن الأمور تتعلق بالنيات، إذا كان الإنسان خلف القبر وقصد الصلاة إليه وإن كان من مسافات بعيدة؛ فلا ينفعه إذا كان بينه وبينه حائط أو حيطان، وإنما المقصود منع التوجه إليه.(63/4)
دفن النبي عليه الصلاة والسلام في بيته وليس في المسجد
النبي صلوات الله وسلامه عليه في بيته، فقبره في بيته وليس في المسجد، وإنما كان في بيته، وبيته صلى الله عليه وسلم كان على حائط المسجد.
فإنه صلوات الله وسلامه عليه لما أتى إلى المدينة مهاجراً ونزل في قباء أول ما نزل، ثم بعد ذلك جاء متجهاً إلى المدينة وكان الأنصار متوزعين في أماكن متفرقة في المدينة، كل فخذ منهم لهم أماكن، وكانوا يتعرضون له، وكل قوم يقولون: إلينا يا رسول الله، يودون أن يسكن عندهم، وكان راكباً على ناقته ويقول: (دعوها فإنها مأمورة)، حتى جاءت إلى هذا الموضع فبركت، ولما بركت لم ينزل عنها؛ لأنه كان يتوقع أن تقوم أيضاً، فتلحلحت ثم وضعت رقبتها على الأرض، وعند ذلك نزل، وكان بيت أبي أيوب الأنصاري قريباً من ذلك المكان، فبادر وأخذ رحل الرسول صلى الله عليه وسلم وأدخله في بيته، فلما طلب منه بعض الأنصار أن يذهب معهم قال: (المرء مع رحله).
فنزل عند أبي أيوب، وكان بيت أبي أيوب مكوناً من دورين على حسب الحال، فجعل الرسول صلى الله عليه وسلم تحت ليكون أسهل له، ثم استدعى من كانت له هذه الأرض، وكانت مربداً يعني: حوشاً فيه نخل وفيه قبور للمشركين، فلما سأل عنها قيل: هذه لأيتام من بني النجار، فطلبهم وقال: (ثامنوني فيه) يعني: بيعوني الأرض، المثامنة البيع، فقالوا: بل نريد الأجر من الله، ولا نطلب له ثمناً.
والمقصود أنه بدأ بعمارة المسجد صلوات الله وسلامه عليه، وأمر بالقبور فنبشت وأخرجت، وأمر بالنخل فقطع، ثم صاروا يبنون، ولما كمل البناء بنى حجراته -لكل زوجة حجرة- خلف المسجد.
لما مرض صلوات الله وسلامه عليه صار كل يوم يذهب إلى واحدة من زوجاته، وبعدما اشتد به المرض صلوات الله وسلامه عليه استأذن منهن أن يمرض عند عائشة، فأذن له، وكان بيت عائشة مع هذه البيوت، فكان عندها حتى توفي في بيتها.
ولما توفي صلوات الله وسلامه عليه اختلفوا أين يدفنونه؟ فروى لهم وأبو بكر رضي الله عنه حديثاً: أن الأنبياء تدفن في الأماكن التي تموت فيها، وعند ذلك دفنوه في موضعه الذي مات فيه، وكان خارج المسجد، وبقي هكذا في زمن الخلفاء الراشدين وزمن معاوية بن أبي سفيان، وزمن عبد الله بن الزبير، وكذلك زمن مروان، وخلافة ابنه عبد الملك حتى جاء ابن عبد الملك الوليد بن عبد الملك وكان مغرماً بالعمارة، فأمر بهدم المسجد وبناءه بناء حديثاً، وزخرفته، وإدخال الحجر فيه، وكان أميره على المدينة عمر بن عبد العزيز، فشرع في ذلك، وصار يشتري من الناس ما حول المسجد، ويدخله فيه توسعة له، وهدمت الحجر، وصارت من ضمن المسجد، وقد عارض هذا الفعل كثير من السلف والتابعين وغيرهم، ولكن لم ينفع اعتراضهم، فصار إدخال القبر في المسجد بفعل الملوك، لا بفعل العلماء ولا بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا بالنظر إلى الشرع، وإلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم، فعلى هذا لا يكون في ذلك حجة، ثم لما أدخل لم يجز أن يتصرف فيه كالتصرف في قبر غيره صلوات الله وسلامه عليه، فصار أمراً واقعاً لا يمكن التصرف فيه.
أما البناء عليه وبناء القبة فهو من المحدثات التي كان ينهى عنها صلوات الله وسلامه عليه، ولكن خولف في ذلك، ومرتكبه آثم إثماً يبقى عليه طوال الدنيا، وهو يزداد يوماً بعد يوم، وهو يحسب أنه كسب بذلك أجراً؛ لأن: (من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة) وقد كان صلى الله عليه وسلم ينهى عن البناء على القبور أو تشريفها وتسنيمها زيادة على التراب الذي يكون فيها، وينها عن تجصيصها والكتابة عليها، فكيف ببناء القباب عليها؟! ويكون الحكم في إزالة ذلك مثل حكم إدخال القبر، ولا يمكن إزالتها؛ لأن في ذلك من التشويش ومن المفاسد التي قد تحدث أضعاف المصلحة؛ لأن أكثر الناس لا يعرف الحق في هذا، ويرون أن هذا من تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم، والواقع أنه من معصيته، وليس من تعظيمه.
وعلى هذا فلا يجوز أن يكون هذا حجة لمن يبني على القبور أو يدخلها في المساجد؛ لأن الحجة مقصورة على قول الرسول صلى الله عليه وسلم، وقول الله جل وعلا فقط، وليست الحجة في أفعال الملوك ولا أفعال الجهلة الذين يجهلون شرع الله جل وعلا، ولا يتبعون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الواقع، ولا يمكن أن ينكره من كان عنده أدنى طرف من العلم.
وقد حذر صلوات الله وسلامه عليه من ذلك في أحاديث كثيرة منها: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تتخذوا قبري عيداً، فإني أنهاكم عن ذلك)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تتخذوا قبري عيداً، وصلوا علي أينما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني) كل ذلك تحذيراً من أن يكون قبره قبلة للدعاء والمسألة والتبرك وما أشبه ذلك، فيئول الأمر إلى أن يعبد، وأن يتخذ إلهاً من دون الله جل وعلا.
وإذا حدث شيء من ذلك فإن إثمه على الفاعل؛ لأن البيان والإيضاح والبلاغ من الرسول صلى الله عليه وسلم قد حصل، فإذا خولف فإن الإثم على من خالف، ومعلوم أن العبادة لا يجوز أن تكون لغير الله جل وعلا.(63/5)
المشركون الأوائل أعقل من مشركي زماننا
كثير من الناس بلي بالتعلق بالأموات، حتى أصبحوا يعبدون من يظنون فيه الصلاح عبادة أكثر من عبادة الله جل وعلا، وهذا الميت قد دفن في التراب وأصبح لا يستطيع أن يكف عن نفسه الديدان التي تأكل بدنه؛ فكيف يسأل ويطلب منه؟! ويزعمون أن هذا من الأولياء، وأن الأولياء لهم جاه عند الله، وأنهم إذا سألوا الله شيئاً أعطاهم، فهم يسألونهم ليسألوا الله، هذا هو مبنى عبادتهم، وهذه -في الواقع- هي عبادة المشركين الذين بعث إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم ليحذرهم من هذا الفعل، ويدعوهم إلى تركه، بل أولئك أكثر عقلاً من هؤلاء، فقد قالوا: إن هذه المعبودات: الأشجار والأحجار والموتى والملائكة وغيرهم، لا تتصرف مع الله ولا تملك شيئاً مع الله، ولكننا نجعلها وسائط بيننا وبين ربنا تشفع لنا، فقال الله جل وعلا: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ} [الزمر:43] يعني: كيف تتخذونهم شفعاء وهم بهذه الصورة: لا يملكون شيئاً، وشيئاً: نكرة في سياق النفي فيعم ويدخل فيه كل ما صح أن يطلق عليه أنه شيء، ومعنى ذلك: أنه ليس عندهم أي ملك، لا شفاعة ولا غيرها، {قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ} [الزمر:43] قالوا: هي ليس لها ذنوب، بل هي مطيعة لله، ونحن نطلب منها أن تتوسط لنا، وأعظم حججهم: أنهم وجدوا آباءهم على هذا الفعل: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} يعني: على ملة ودين {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22] يعني: نتبعهم ونقتدي بهم وهم أسوتنا وأئمتنا.
وكانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك! تملكه وما ملك، ويعترفون بهذا: هو شريك لك، تملكه وما ملك! يعني: ليس له ملك معك، ولكنه شريك في الدعاء وفي الشفاعة فقط، هذا هو قولهم، أما هؤلاء الذين يعبدون القبور فهم يجعلون هؤلاء وكلاء لله، يتصرفون في الكون كله؛ لأنه إما قطب من الأقطاب التي تدور الدنيا والكون عليها! فلا يدخل البلد شيء إلا بإذن هذا الميت الرميم، ولا يخرج منها شيء إلا بإذنه، هكذا تقول غلاة الوثنية.
فمعنى ذلك: أنهم يسلبون ما لله جل وعلا من الصفات، ويجعلونها لعظام رميم، وربما تكون هذه العظام في جهنم كبعض الطواغيت التي تدعى ويزعم أنها من الأولياء وهي من الأشقياء، كأصحاب وحدة الوجود، وكذلك غيرهم ممن عرف بأنه جاسوس لدولة كافرة، ثم يموت فيقبر وتبنى عليه القباب ويدعى الناس إلى عبادته، فيصبح من أكبر المعبودات، وهذه حقيقته، وربما يكون خيالاً لا حقيقة له، وإنما جاء الشيطان إلى إنسان من الناس فقال: هذا قبر ولي، فبنى الناس تقربهم وذهابهم إلى هذا القبر على هذه الرؤيا الشيطانية، والشيطان حريص كل الحرص على إضلال الناس، وقد وجد في دعوتهم إلى عبادة القبور سهولة، فهم ينقادون له في هذا، بينما لو دعوتهم إلى عبادة الله لنفروا واشمأزوا، ولو قلت لهم: هذا لا ينفع ولا يضر، بل فعلكم ضرر محض؛ لرموك بالعظائم واشمأزوا كما قال الله جل وعلا: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر:45] يعني: إذا قيل لهم: اعبدوا الله وحده؛ نفروا وأبوا، أما إذا ذكر تعظيم المقبورين فإنهم يفرحون ويستبشرون ويقبلون على ذلك، لماذا؟ ما السبب؟ السبب ما في النفوس من حب الباطل، وميلها إلى القبور، وهذا هو سر كثرة التحذير من الرسول صلى الله عليه وسلم، عن الصلاة حول القبور وتحري العبادة عندها.
قال الشارح: [ودل الحديث على أن قبر النبي صلى الله عليه وسلم لو عبد لكان وثناً، لكن حماه الله تعالى بما حال بينه وبين الناس فلا يوصل إليه.
ودل الحديث على أن الوثن هو ما يباشره العابد من القبور والتوابيت التي عليها، وقد عظمت الفتنة بالقبور بتعظيمها وعبادتها].
التوابيت أنواع: النوع الأول: تابوت ينصب فوق القبر، إما من رخام يضعونه فوق القبر منصوباً، ثم يضعون عليه الستور من الأقمشة الثمينة جداً كالحرير وغيره، ويغطونه ويسترونه، فهذا نوع.
النوع الثاني: يجعلون تابوتاً من الخشب شبيهاً بالنصب، ويضعونه فوق القبر، ثم يكسونه بالأقمشة النفيسة، وكلما تقادم الوقت على هذه جدودها ونظفوها وزخرفوها، وهذا يفعله سدنة الأوثان، وسدنة القبور، وربما فعله الأثرياء، وربما فعله القادة، فبعض القادة قد يموت له قريب فيضعون عليه هذه الأشياء ويكون سبباً لعبادة الناس له، فيكون هذا من الدعاة إلى جهنم نسأل الله العافية.
ووجود النصب والتوابيت على القبور كثير، وربما بنوا عليها البنايات، والذي يذهب إلى هذه الأماكن يشاهد ذلك ويعرف كيف يصنعون بها، وكيف يصنعون عندها، وكيف يتعبدون، وكيف يغرون العامة الذين هم أشباه الأنعام، وليس عندهم معرفة بالحق، ولا ما يميزون به عبادة غير الله جل وعلا من عبادة الله جل وعلا، وربما زيادة في الفتنة ذهب معهم أصحاب عمائم، يتعممون ويقال: إنهم علماء، فيدعون إلى عبادة القبور، فيكون ذلك زيادة فتنة لهؤلاء، ويكون حجة لهم، فيقولون: هؤلاء العلماء قدوتنا، ونحن نتبعهم، فإذا جاء منكر وأنكر عليهم لم يقبلوا منه، ويقولون: أنت ليس عندك علم مثل العالم الفلاني الذي يفعل كذا ويفعل كذا، والمقصود: أن النفوس عندها في الواقع إقبال على مثل هذه الأشياء، والحق قد يكون ثقيلاً على النفوس، وأما الباطل ففيه سهولة على النفوس، ويكون هذا من معنى الحديث الذي جاء في الصحيح (أن الله جل وعلا لما خلق النار أمر جبريل أن يذهب فقال: انظر إليها، فلما رآها يحطم بعضها بعضاً قال: والله لقد ظننت أنه لا يسمع بها أحد فيدخلها، ثم قال له: اذهب وانظر إلى الجنة، فلما رآها قال: والله لقد ظننت أنه لا يسمع بها أحد إلا دخلها -لما فيها من النعيم وفيها من قرة العيون- ثم حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات، فقال الله جل وعلا له: اذهب فانظر، فلما نظر إلى النار وقد حفت بالشهوات قال: والله لقد خفت ألا ينجو منها أحد، ولما ذهب إلى الجنة وقد حفت بالمكاره قال: لقد خفت أن لا يدخلها أحد).
المسألة ليست سهلة بل صعبة، ولا سيما إذا كان الإيمان ضعيفاً، وكثير من الناس إيمانه شبه الحلم، لو شكك في إيمانه لشك، والشك في الإيمان بالله جل وعلا وبالبعث وبالآخرة كفر، وقد قال الله جل وعلا حاكياً عن الرجل الكافر: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} [الكهف:36] فلما قال هذا قال له الذي يحاوره: {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ} [الكهف:37].
فالشك في الله، أو في البعث، أو في وعده من الكفر.
فالكثير من الناس يكون إيمانه ضعيفاً، ويكون علمه قليلاً، فإذا رأى كثرة الناس على شيء من الكفر تبعهم على كفرهم.(63/6)
خوف الصحابة من الغلو في الصالحين حماية للتوحيد
قال الشارح: [كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبير، وينشأ فيها الصغير، تجري على الناس يتخذونها سنة، إذا غيرت قيل: غيرت السنة! انتهى.
ولخوف الفتنة نهى عمر عن تتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم.
قال ابن وضاح: سمعت عيسى بن يونس يقول: أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي صلى الله عليه وسلم فقطعها؛ لأن الناس كانوا يذهبون فيصلون تحتها؛ فخاف عليهم الفتنة].
هي الشجرة التي ذكرها الله جل وعلا في القرآن: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18]، وهذه الشجرة شجرة من السمر وهي في الحديبية، كان الرسول صلى الله عليه وسلم جلس تحت ظلها، فبايع المؤمنين تحتها، وكانت معروفة، فلما كان في زمن عمر رضي الله عنه رأى الناس يذهبون إليها، ويصلون عندها؛ لأنها حصلت عندها بيعة الرضوان، والله ذكرها جل وعلا في كتابه، فيصلون عندها هناك طلباً للبركة، فأمر أن تقطع وتزال.
وعن المعرور بن سويد أنه قال: صليت مع عمر رضي الله عنه قرب مكة في الطريق صلاة الفجر، وقرأ في الركعة الأولى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل:1] وقرأ في الركعة الثانية: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ} [قريش:1]، فلما سلم رأى الناس يذهبون، فقال: أين يذهب هؤلاء؟ قالوا: يذهبون إلى مساجد صلى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون فيها، فقال: (أيها الناس! إنما هلك من كان قبلكم بتتبعهم آثار أنبيائهم، من أدركته الصلاة عند هذه المساجد فليصل فيها، ومن لم تدركه الصلاة فليمض) يعني: لا تتحروا الصلاة فيها؛ لأن هذا هو سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ما كان يقصد هذه الأماكن بعينها فيصلي فيها، حتى يكون طلبها سنة، ولهذا ما فعل ذلك أحد من الصحابة إلا عبد الله بن عمر، وقد أنكر عليه بقية الصحابة وأنكر عليه والده، ولكن فعل عبد الله بن عمر ليس على ما يظنه هؤلاء أنه لأجل التبرك، بل فعله استناناً برسول الله صلى الله عليه وسلم، وطلباً للاقتداء به، وهو معروف بشدة اقتدائه وتتبعه لما كان يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا منه اقتداء به، حتى إنه كان يبول في المكان الذي يبول فيه، ومرة توضأ وبقي من وضوئه شيء من الماء فصبه في وسط شجرة توضأ عندها فكان ابن عمر يفعل هذا.
هل هذا سنة؟ ليس من السنة، ولكن هذا فيه مبالغة في اتباعه للسنة، وهذا الذي أنكر عليه، فكيف بمن يحرص حرصاً شديداً على أن يطلب المكان الذي قيل: إنه جلس فيه، أو إنه صلى فيه، أو إنه نزل فيه، أو ما أشبه ذلك، فيأخذ ترابه ويتبرك به، وربما يأكل التراب طلباً للثواب، وتعظيماً لذلك المكان؟! هذا ليس من دين الإسلام في شيء، بل هذا في الواقع من البدع والضلالات التي هلك فيها من هلك.
والمقصود أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) كل الأرض لك مسجد، إذا أدركتك الصلاة وأنت تمشي فصل في المكان الذي أنت فيه، فهو مسجدك، ولا تذهب تتحرى أماكن معينة، فالمساجد التي تبنى على هذه الآثار من البدع، وهي في الواقع تدل على نقص الدين، وتدل كذلك على عدم التمسك بسنة المصطفى صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنه قد علم مراده بمنع التتبع للأماكن وتعظيمها وتقديسها، فإن هذا قد يكون شركاً، وقد يكون ضلالاً.(63/7)
نهي عمر الناس عن تتبع آثار الأنبياء وأماكن صلاتهم
قال الشارح: [وقال المعرور بن سويد: (صليت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه بطريق مكة صلاة الصبح، ثم رأى الناس يذهبون مذاهب، فقال: أين يذهب هؤلاء؟ فقيل: يا أمير المؤمنين! مسجد صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فهم يصلون فيه، فقال: إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا، كانوا يتتبعون آثار أنبيائهم ويتخذونها كنائس وبيعاً، فمن أدركته الصلاة في هذه المساجد فليصل، ومن لا، فليمض ولا يتعمدها).
وفي مغازي ابن إسحاق من زيادات يونس بن بكير عن أبي خلدة خالد بن دينار قال: حدثنا أبو العالية قال: (لما فتحنا تستر وجدنا في بيت مال الهرمزان سريراً عليه رجل ميت عند رأسه مصحف، فأخذنا المصحف فحملناه إلى عمر، فدعا له كعباً فنسخه بالعربية، فأنا أول رجل قرأه من العرب، قرأته مثلما أقرأ القرآن، فقلت لـ أبي العالية: ما كان فيه؟ قال: سيرتكم، وأموركم، ولحون كلامكم، وما هو كائن بعد، قلت: فماذا صنعتم بالرجل؟ قال: حفرنا له بالنهار ثلاثة عشرة قبراً متفرقة، فلما كان بالليل دفناه وسوينا القبور كلها لنعميه على الناس لا ينبشونه، قلت: وما يرجون منه؟ قال: كانت السماء إذا حبست عنهم برزوا بسريره فيمطرون، فقلت: من كنتم تظنون الرجل؟ قال: رجل يقال له: دانيال، فقلت: منذ كم وجدتموه مات؟ قال: منذ ثلاثمائة سنة، قلت: ما كان تغير منه شيء؟ قال: لا إلا شعيرات من قفاه.
إن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض].
هذه القصة تدل على أن الصحابة والتابعين لهم يعرفون العلة في المنع من اتخاذ القبور مساجد، وتحري الصلاة عندها، وخوفاً من العبادة لها، وليس كما يزعم بعض الفقهاء الذين قل نصيبهم من مقاصد الشرع ومن معرفة مراد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فزعموا أن النهي لأجل النجاسة فقط، فمعنى ذلك: إذا أمطرت السماء على القبور وغسلت وجه الأرض فإنه يجوز أن نصلي عندها؛ لأنها طاهرة غسلها الماء.
وكذلك إذا أصابتها الريح وأصابتها الشمس؛ لأن الريح على القول الصحيح تطهر كما أن الشمس على القول الصحيح تطهر إذا استحالت الأرض وزال أثرها، يعني: على قولهم هذا الباطل يجوز أن نصلي فيها، وهذا في الواقع مصادمة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم تماماً، فالسلف فهموا المراد من نهي الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا لما وجدوا هذا النبي الذي على السرير مخزوناً محفوظاً في الصندوق صنعوا به هذا الصنيع، حفروا له ثلاثة عشر قبراً في النهار متفرقة، كل قبر في مكان، ثم لما كان في ظلام الليل دفنوه في واحد منها، وسووها كلها؛ خوفاً من أن يتخذ معبوداً من دون الله عز وجل، يقول ابن القيم: هذا لو ظفر به المتأخرون لجالدوا عليه بالسلاح.
يعني: لتقاتلوا عليه حتى يعبدوه؛ لأنهم في الواقع ما فهموا عبادة الله على الوجه الذي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم، فصاروا يتعلقون بغير الله جل وعلا ممن يرجون صلاحهم.
وقوله: (وجدنا عنده مصحفاً)، المقصود: وجدنا عنده كتاباً؛ لأن كل كتاب يكتب يسمى: مصحفاً؛ لأنه من الصحف، كل ما كان في صحائف فهو مصحف، والصحائف التي كتبت كانت بلغة غير لغة العرب، يظهر أنها باللغة العبرية -لغة اليهود- أو السريانية والله أعلم، ودانيال من أنبياء بني إسرائيل.
وقوله: (إنه دعا له كعباً، المقصود به كعب الأحبار؛ لأنه كان من اليهود فأسلم، وكان يعرف لغتهم، وكان يقرأ كتبهم، فنقله من لغتهم إلى اللغة العربية، وأبو العالية يقول: (أنا أول من قرأه) فلما سئل عنه، يقول: (إن فيه وصفكم وفيه سيرتكم وتلحينكم وأفعالكم) يظهر أن هذا مأخوذ عن الأنبياء.
وهذا الأمر يدل على أن تحري العبادة عند القبور أو التوسل بها -كما يقول الكثير من الناس- لا يجوز عند الصحابة؛ ولهذا منعوا من ذلك، وفعلوا هذا الصنيع للتعمية، حتى لا يكونوا مثل هؤلاء الذين يخرجون به إذا قحطوا فيسقون، فإن هذا لا يجوز في دين الإسلام، هذا من دعاء غير الله جل وعلا، دعاء الله لا يكون إلا بأسمائه وصفاته، أو بالإيمان به، والأعمال الصالحة التي يعملها الإنسان يسأل الله بها، أما أن يسأل بجثث، أو بأعمال الآخرين، أو بوجاهتهم، أو ما أشبه ذلك فهذا من البدع والضلالة، ولهذا منع من ذلك الصحابة رضوان الله عليهم، وفعلوا هذا الفعل؛ لئلا يقع فيه من لا يعرف الحق في هذا.
قال الشارح: [قال ابن القيم رحمه الله: ففي هذه القصة ما فعله المهاجرون والأنصار رضي الله عنهم من تعمية قبره؛ لئلا يفتتن به، ولم يبرزوه للدعاء عنده والتبرك به، ولو ظفر به المتأخرون لجالدوا عليه بالسيوف، ولعبدوه من دون الله.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: وهو إنكار منهم لذلك، فمن قصد بقعة يرجو الخير بقصدها، ولم يستحب الشارع قصدها، فهو من المنكرات، وبعضه أشد من بعض، سواء قصدها ليصلي عندها، أو ليدعو عندها، أو ليقرأ عندها، أو ليذكر الله عندها، أو لينسك عندها، بحيث يخص تلك البقعة بنوع من العبادة التي لم يشرع تخصيصها به لا نوعاً ولا عيناً، إلا أن ذلك قد يجوز بحكم الاتفاق لا لقصد الدعاء فيها، كمن يزورها ويسلم عليها ويسأل الله العافية له وللموتى كما جاءت به السنة.
وأما تحري الدعاء عندها بحيث يستشعر أن الدعاء هناك أجوب منه في غيره فهذا هو المنهي عنه.
انتهى ملخصاً].
معنى هذا الكلام: أن تحري العبادة من دعاء وقراءة وصلاة في أماكن معينة -غير الأماكن التي أذن فيها الشرع أو رغب فيها- ضلال، ومن ذلك القبور أو أماكن معينة تقصد لهذا الشيء، من زاوية أو مكان يقال: إن فيه بركة أو ما أشبه ذلك، فإن فعل هذا ضلال، ولكن إذا كان الإنسان في طريقه سائراً وكان يدعو أو يقرأ، فمر بشيء من هذه الأماكن فإنه لا يقال: إنه قصدها، ولا يمنع من فعله بل يستمر على فعله، كما أن الذي يزور القبور مثلاً لأمر الشرع وهو تذكر الآخرة والاعتبار بالقبور؛ لأن الإنسان مآله إلى أن يقبر، والاستغفار لأصحابها إحسان إليهم، فهذا لا بأس به؛ لأنه مأذون به شرعاً، بخلاف من يذهب إليها ويسأل الله عندها ويرى أنه يجاب؛ لأن فيها الولي الفلاني، أو فيها النبي الفلاني أو ما أشبه ذلك، فإن هذا من الضلال.
فيجب أن يميز الإنسان بين ما هو مشروع وبين ما هو بدع وضلال، والله جل وعلا لا يقبل من العبد إلا ما كان خالصاً له، وكان على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولابد من هذين الشرطين في كل عمل يتقرب به إلى الله، أن يكون هذا العمل خالصاً لله، وأن يكون على سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم.(63/8)
حكم اتخاذ قبور الأنبياء وغيرهم مساجد
قال الشارح: [قوله: (اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) فيه تحريم البناء على القبور، وتحريم الصلاة عندها، وأن ذلك من الكبائر.
وفى القِرَى للطبري عن أصحاب مالك عن مالك أنه كره أن يقول: زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ وعلل ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد) الحديث.
كره إضافة هذا اللفظ إلى القبر؛ لئلا يقع التشبه بفعل أولئك؛ سداً للذريعة.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: ومالك قد أدرك التابعين، وهم أعلم الناس بهذه المسألة، فدل ذلك على أنه لم يكن معروفاً عندهم ألفاظ زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم.
إلى أن قال: وقد ذكروا أسباب كراهته لأن يقول: زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا اللفظ قد صار كثير من الناس يريد به الزيارة البدعية، وهو قصد الميت لسؤاله ودعائه، والرغبة إليه في قضاء الحوائج، ونحو ذلك مما يفعله كثير من الناس، فهم يعنون بلفظ الزيارة مثل هذا، وهذا ليس بمشروع باتفاق الأئمة، وكره مالك أن يتكلم بلفظ مجمل يدل على معنى فاسد، بخلاف الصلاة والسلام عليه فإن ذلك مما أمر الله به.
أما لفظ الزيارة في عموم القبور فلا يفهم منها مثل هذا المعنى، ألا ترى إلى قوله: (فزوروا القبور؛ فإنها تذكركم الآخرة) مع زيارته لقبر أمه، فإن هذا يتناول قبور الكفار، فلا يفهم من ذلك زيارة الميت لدعائه وسؤاله والاستغاثة به، ونحو ذلك مما يفعله أهل الشرك والبدع، بخلاف ما إذا كان المزور معظماً في الدين كالأنبياء والصالحين، فإنه كثيراً ما يُعنى بزيارة قبورهم هذه الزيارة البدعية الشركية، فلهذا كره مالك ذلك في مثل هذا، وإن لم يكره ذلك في موضع آخر ليس فيه هذه المفسدة.
انتهى].
يفهم من هذا الكلام كما هو صريح فيما يأتي أن الزيارة تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: زيارة مرغب فيها مطلوبة، وتضاف إلى الشرع؛ لأن الشرع أمر بها وشرعها، وهي ما كان فيه خير للزائر والمزور.
القسم الثاني: زيارة بدعية قد تكون شركية، وقد تكون أقل من كونها شركية، وقد تكون من البدع الداعية إلى الشرك، والتي توصل إلى الشرك، فالزيارة التي تكون مطلوبة وفيها إحسان إلى الإنسان الزائر وإلى المزور هي ما جاءت في الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل قوله: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها) فهذا أمر بعد منع، ومعروف عند العلماء القواعد التي يقعدونها في معرفة مراد الشارع: أنه إذا جاء الأمر بعد الحظر والنهي فالغالب أنه يكون للإباحة وليس للوجوب، مثل قوله جل وعلا: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة:2] يعني: أنه حرم الصيد على المحرم ثم قال: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة:2] فالأمر بالاصطياد هنا للإباحة، وليست للوجوب بالاتفاق.
كذلك قوله: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة:10] (فانتشروا) (وابتغوا) كله أمر بعد قوله: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة:9] فنهاهم عن البيع وأمرهم بتركه، ثم قال: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة:10] فالانتشار في الأرض وابتغاء فضل الله للإباحة؛ لأنه جاء بعد الحظر، وهذا مثله.
قوله: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها) يعني: أنه رخص لهم، ومعلوم أن مجرد الزيارة بدون ما تشتمل عليه من المعاني لا فائدة فيها، وإنما المقصود أن يتعظ الإنسان وينزجر عن الركون إلى الدنيا، ويكون عنده رغبة في الآخرة؛ لأنه إذا نظر إلى القبر تذكر أنه سوف يقبر، وأن هذا مآله، وسوف يكون يوماً في هذا القبر ولابد، فيدعوه ذلك إلى زيادة العمل، وإلى الانكفاف عن المعاصي، فيكون فيه خير للزائر من هذه الناحية، أما من جهة المزور فإنه يدعو له ويستغفر له، يقول: (اللهم اغفر له) كما علم الرسول صلى الله عليه وسلم الزائر أن يقول: (السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين، يرحم الله المستقدمين منكم والمستأخرين، وإنا بكم إن شاء الله لاحقون.
نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم) هكذا يقول أو نحو هذا مما جاء.
ففيه دعاء للميت واستغفار له، ولا شك أن الدعاء والاستغفار ينفع، إذا كان خرج من قلب إنسان صالح، وبإخلاص؛ لأن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً له، أما دعاء مخلوط بالشرك وبالطلب من المخلوق فهذا مردود لا ينفع، بل هو يضر صاحبه ولا ينفعه، وغيره لا ينفعه، فلابد أن يكون الدعاء على وفق الشرع، وليس فيه شيء من البدع، هذه هي الزيارة النافعة.
ثم ليس معنى الزيارة أن الإنسان يتردد على القبور، فالتردد لا يجوز، ولكن مرة في الوقت، أما إذا أكثر التردد فهذا لا يجوز.
ثم الزيارة الممنوعة هي ما كان فيه خلاف الشرع، إما ليتعبد عند القبر، أو ليسأل صاحب القبر ويتوجه به إلى الله كأن يقول: أسألك بفلان الولي التقي الذي فيه كذا وكذا.
هذا وإن كثيراً من الزائرين يقصدون التبرك بالأموات، وطلب الله جل وعلا بجاههم، وطلب الشفاعة، وربما تمادى الأمر ببعضهم إلى أن يقع في الشرك الأكبر، بأن يسأل الميت نفسه، فيكون مشركاً شركاً كبيراً محبطاً للأعمال التي سبقت، وإذا كان مسلماً قبل هذا فقد ارتد وخرج من الدين الإسلامي بذلك، وإن مات على هذا فهو مخلد في جهنم نسأل الله العافية.
إذاً: الأمر فيه خطورة، ولابد للإنسان أن يتعلم الحق ويعرفه، ويتبع سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ويدلنا هذا الكلام على أنه حتى في زمن الإمام مالك رحمه الله وقع الخطأ في مثل هذه الأمور؛ فلهذا كره أن يقول القائل: زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم.
وبين الشيخ رحمه الله أن وجه الكراهة كونه اختلط الأمر عند كثير من الناس، فصار يطلق لفظ الزيارة على الزيارة البدعية، فمنع الإمام مالك أن يطلق ذلك خوفاً أن يفهم من هذه الزيارة الزيارة البدعية، وكل هذا اتباعاً لقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا علي أينما كنتم)، فالعيد: اسم لما يعتاد ويتردد، إما بتردد الزمن، أو تردد الإنسان إلى المكان، وترداده إلى المكان يجعله عيداً، وتعيين الزمان يجعله عيداً أيضاً.
فلهذا يجب أن يكون الإنسان متقيداً بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا مع كونه واجباً ومتعيناً لا يقبل العمل إلا به، والعمل إذا تعدى الشيء الذي شرع فإنه يكون مردوداً على صاحبه.
قال: [وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستعذ إلا مما يخاف وقوعه.
ذكره المصنف رحمه الله تعالى].(63/9)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [64]
من أعظم أسباب الشرك اتخاذ القبور مساجد، وبناء القباب والمشاهد عليها، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من ذلك، وحذرهم من كل ما يفضي إلى الشرك.(64/1)
تفسير قوله تعالى: (أفرأيتم اللات والعزى)(64/2)
حقيقة اللات وسبب عبادة الكفار له
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولـ ابن جرير بسنده عن سفيان عن منصور عن مجاهد: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [النجم:19] قال: كان يلت لهم السويق فمات، فعكفوا على قبره، وكذا قال أبو الجوزاء عن ابن عباس قال: (كان يلت السويق للحاج)].
يعني: أن اللات الذي كان يعبده أهل الطائف، وهو من أكبر الطواغيت في الجاهلية، وقد كان رجلاً يلت السويق، والسويق: هو الحب الذي يحمص على النار ثم يطحن، ثم يوضع معه سمن أو زيت ويخلط ويؤكل، وقد يكون معه غير ذلك، وذكروا في سبب هذا أنه كان يصنع هذه الأشياء، وكان له غنم يأخذ منها السمن، ويجعل السويق ثم يقدمه لمن يأتي إليه، وفي بعض الآثار: أنهم إذا أكلوا من سويقه سمنوا، فصار ذلك فتنة، فلما مات دفنوه تحت صخرة ونقشوا عليها نقوشاً، وصاروا يطوفون بها، ويجلسون عندها للتبرك بها، ثم صاروا يطلبون من الله أن تشفع لهم.
وسبق أن اللات فيه قراءتان: قراءة التخفيف اللات، وقراءة التشديد اللّاتّ.
يعني: مثقلة مشددة، وإذا كانت القراءة مشددة مثقلة فهي على ما قال مجاهد، وأبو الجوزاء عن ابن عباس: (أنه كان يلت) مأخوذ من اللت، اللاتّ يعني: كان يلت السويق، يلته يعني: يخلطه بالزيت أو بالسمن، فهذا هو لته، أي: يخلطه بالزيت أو السمن ثم يقدمه لمن يأكله، فهذا في زمن حياته، فلما مات عظموه بأن جعلوا عليه بناء ثم صاروا يطوفون به، ويعكفون عنده من أجل التبرك به، ولطلب شفاعته؛ لأنهم زعموا أنه صالح، فيكون هذا مثل القبور التي تعبد الآن تماماً، التي يقول أصحابها: إن ساكنها ولي، وإنه ترجى شفاعته أو تطلب منه الشفاعة، وقد يطلبون منه أشياء في الدنيا كما هو معلوم مشتهر في كثير من بلاد المسلمين، وللأسف فإنهم يعبدون الرفاة، يعبدون ساكني القبور الذين لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، فضلاً عن غيرهم، يعبدونهم عبادة كعبادة رب العالمين؛ وذلك لأنهم ضلوا السبيل، ولأنهم ما عرفوا دعوة رسولهم الذي جاء بها إليهم، أو أنهم أعرضوا عنها ولم يلتفتوا إليها، وصاروا يتبعون ما وجدوا عليه أهل بلدهم، وما تواضعوه بينهم من هذه الطقوس وهذه الخرافات، التي أصبح الكفار وللأسف يقدحون في الإسلام، فيقولون: إن دين المسلمين هو طلب الحاجات من الأموات، ونقول: إن هذا ليس ديناً للمسلمين، وإنما هذا دين المشركين، أما المسلمون فهم برآء من ذلك، فلا يجوز أن يكون مثل هذا منسوباً للإسلام، وإن فعله من يتسمى بالإسلام فهو في الواقع مجرد اسم انتسب إليه.
والمقصود أن اللات على هذه القراءة وعلى هذا القول: رجل، وسواء كان صالحاً أو طالحاً، إنما كان هذا صنيعه، يصنع للناس هذا الفعل، ثم لما مات دفنوه وبنوا على قبره، ونقشوا على الصخرة التي فوق قبره نقشاً يدل على تعظيمه، وأنه يفعل وأنه يفعل كما يصنع بالقبور التي يوضع فوقها النقش، يوضع فيها الرخامة التي يكتب عليها، ويكون هذا داعياً إلى التبرك بها والتوسل بها.
وبعد ذلك اشتهر، وصاروا يفتخرون بعبادة هذا الرميم الميت على غيرهم من العرب، كما أن قريشاً كانت تفتخر بأنها تعبد شجرة، هذا شيء عجيب! يفتخرون بأنهم يعبدون شجرة، الشجرة كيف تنفع أو تضر؟! ولكن الواقع أن الشيطان يدخل في الشجرة؛ ولهذا يسمعون الكلام من وسط الشجرة؛ لأن الشيطان يأتي ويكون في الشجرة، هم لا يرونه، لا يدخل في جوفها، فالشيطان لا يستطيع أن يدخل في جوف الشجرة، ولكنه يدخل في غصونها ويقف عليها ويخاطبهم ويكلمهم وهذا ما أخبر الله جل وعلا به: {يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27].
ثم كثرت هذه الأوضاع وتوارثوها، فصار ديناً يورث عن الأكابر والآباء، فلما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم بالوحي من عند الله، يأمرهم بإخلاص العبادة له، صاروا يحتجون عليه بما كان يصنعه آباؤهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22] أي: وجدناهم على دين وعلى ملة، ونحن متمسكون بذلك، فهم قدوتنا وأسوتنا، ولا نترك دينهم وطريقتهم لقولك، هذا معناه: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف:22] فكانت هذه الخرافات أمراً أشربت قلوبهم بحبه ولا يتركونه.
ومن السخافة أنهم كانوا يعبدون حجراً، وقد يعجب المسلم الذي عافاه الله جل وعلا من ذلك فيقول: أليس عندهم عقول؟! نقول: بلى عندهم عقول، ولكن إذا لم يجعل الله لعبده عوناً منه، فإن أول ما يجني عليه عقله واجتهاده، فلابد أن يكون للإنسان مساعد من الله وعون منه يرشده ويمده إلى الطريق السوي وإلا هلك.
يقول أحد الذين هداهم الله جل وعلا بدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت: (أرسلني أهلي بلبن وزبد إلى الآلهة، وكنت محتاجاً إلى ذلك، وأود أني أشربه وآكل الزبد، ولكن خفت من الآلهة، فذهبت به ووضعته تحت الآلهة لتأكل، ماذا صار؟ يقول: فجاء الثعلب فشرب اللبن، وأكل الزبد، وبال على الآلهة، فقلت: أهذه آلهة؟ يتعجب!! أرب يبول الثعلبان برأسه قد ذل من بالت عليه الثعالب يقضى على المرء أيام محنته حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [المائدة:41].
لما صار ما صار على سيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه يوم أحد تمحيصاً وابتلاء، وعلى من معه من المؤمنين، وانتصر عليهم المشركون، وقتل منهم من قتل، وصار رئيس الكفار في أعلى جبل أحد ينادي ويهتف بصوته لما كان مشركاً يعبد الأصنام، ويقول: (اعل هبل، اعل هبل، اعل هبل) هبل هو؟ صنم في مكة قد خلفه، أصم أبكم لا يسمع ولا ينطق ولا يملك شيئاً، ويقول له وهو في المدينة هنا: اعل، يعني: تصير أنت العالي؛ ولهذا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يردوا عليه وأن يقولوا: (الله أعلى وأجل).
فهذا في الواقع هو دين الشرك، هكذا العقل الذي شرف الله جل وعلا به عباده وميزهم به عن البهائم وعن الكلاب والحمير وغيرها، ميزهم بهذا العقل.
فما بال الإنسان ينتكس ويرمي عقله تحت قدميه، ثم يصبح قلبه متعلقاً بمن هو أقل منه قيمة بكثير؟! الحي يستطيع أن ينفع، يستطيع أن يمشي، يستطيع أن يذهب، يستطيع أن يأتي، يستطيع أن يملك شيئاً، وأن يتصرف التصرف المحدود، أما الميت فماذا يصنع؟! لا شيء.
الميت عظام رميم أو حبات تراب قد ذهبت أجزاؤه وصارت تراباً، أما روحه فهي معذبة أو منعمة، وغافلة عما يفعل هذا الذي يدعوه ويطلب منه، فإذا صار يوم القيامة قال له: كذبت ولعنه، وأنا بريء منك ومن دعوتك، سواء كان صالحاً أو غير صالح فإنه يتبرأ منه: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:5 - 6]، وقال: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [العنكبوت:25].
هكذا المعبود يلعن العابد، والعابد يلعن المعبود، وكل واحد يتبرأ من الآخر.
{وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا} [البقرة:167] ولكن هيهات انتهت القضية، وحقت الحاقة، ووجب العذاب، فما يفيد الندم، ولا تفيد المعاداة، ولكن العذاب كله يجمع عليه، والحسرات تجتمع عليه، في وقت لا يملكون شيئاً، وإنما يتمنون أن يردوا لعلهم يخلصون الدعوة، فهذه حقيقة شرك المشركين، وهي حقيقة شرك المشركين في وقتنا تماماً، إن لم يكن شرك هؤلاء الذين يعبدون القبور أعظم من شرك أولئك بدرجات فهو ليس بدونه، ولكنه في الواقع أعظم منه من وجوه: الوجه الأول: أن الكفار في القديم أكثر عقلاً من هؤلاء؛ لأنهم إذا قيل لهم: أهذه التي تدعونها تنفع أو تضر؟ قالوا: لا، ما تنفع ولا تضر، ولكن نريد الشفاعة، هي ليست لها ذنوب فنحن نطلب منها الشفاعة، أما هؤلاء إذا قيل لهم مثل ذلك قالوا: هؤلاء أعطاهم الله التصرف، فهم يتصرفون في الكون، ويملكون الرزق، ويملكون العافية والصحة، ويملك الواحد منهم أن يعطيك ولداً، ويملك أن يمنعك من المال، أو أن يعطيك المال أو غير ذلك من الغلو الزائف، فأي عقل هذا؟! أين تذهب العقول؟! الوجه الثاني: أن المشركين الأوائل إذا وقعوا في كرب وشدة أخلصوا العبادة لله وحده قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت:65]، إذا جاءت السلامة والعافية أشركوا، أما في وقت الكرب والشدة فهم يخلصون، أما هؤلاء إذا وقعوا في الشدائد زاد شركهم، وصار أحدهم يبكي ويتضرع أمام القبر، ويدعوه بتلهف وبدموع تسيل، وبكاء لا يحصل منه في المسجد إذا قام يصلي بين يدي الله، فأي نسبة بين هؤلاء وهؤلاء؟ ثم إذا قلنا: إن القراءة الأخرى أيضاً اللات مخففة فهل معناها أخذت من اللت؟ يجوز أن تكون أخذت من اللت، وأنها خففت لكثرة الاستعمال، فجاءت القراءة بالتخفيف على لغة العرب؛ لأن الله خاطبهم بلغتهم وعادتهم، والكلمة إذا استعملت وكثر استعمالها وكان فيها ثقل على اللسان فإنهم يخففونها، وهذا أمر معروف في اللغة.
أما القول الثاني: أن الاشتقاق من غير اللت، وأنه من الإلحاد في أسماء الله جل وعلا، قال الله جل وعلا: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف:180] الإلحاد: هو الميل عن القصد المراد إلى غير ما أراده الشارع، فهم يقولون: إنهم اشتقوا لهذا الصنم اسماً من أسماء الله، فهم قالوا: اللات من الإله، يعني: أنهم أخذوا اسمه من الل(64/3)
التعلق بالقبور سبب وقوع الشرك في الأرض أول مرة
قد سبق أن أول شرك وقع في الأرض في قوم نوح بسبب القبور، كما قال جل وعلا: {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا * وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا * وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح:21 - 23] فود وسواع ويغوث ويعوق ونسر هذه أسماء رجال صالحين لما ماتوا صوروهم ثم عبدوهم، وهناك قول آخر وهو: إنهم لما قبروهم عبدوا قبورهم، فهم صوروهم ونصبوهم في مجالس معينة، فصاروا يعظمونهم حتى صارت آلهة يعبدونها، فصار يوصي بعضهم بعضاً بالتمسك بعبادتهم؛ لئلا يؤثر عليهم نبي الله نوح عليه السلام: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} [نوح:23] لا تذرنها لقول نوح، إياكم أن تتركوها لقول نوح هذا معناه، ثم أكدوا على هذه الأصنام كلها {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} [نوح:23] وهذه توصية عامة بالتمسك بالآلهة كلها على اختلاف أنواعها، ثم أكدوا وصية مؤكدة خاصة بعد ذلك بالتمسك بهذه الأصنام الخمسة: {وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح:23] فدل هذا على أن الفتنة في هذا قريبة وليست كما يقول من جهل الحكمة التي نهى الشارع من أجلها عن تحري العبادة عند القبور، أو أداء العبادة عندها، وقال: إن المراد بالنهي النجاسة، فإن المقبرة نجسة فلا يصلى فيها، وإلا لو خلت من النجاسة أو فرش فراش على هذه القبور وصليت عندها فلا بأس، أهذا يقوله من يعرف مراد الشرع؟ كلا.
ما يقوله إلا إنسان ما عرف مراد الشارع، وإنما المراد هو خوف أن تقع العبادة لهؤلاء الأموات، وهذا عجيب أن ميتاً أفضى إلى ما عمل يطلب منه أن ينفع الحي، والسبب في هذا اعتقاد الصلاح، واعتقاد الولاية، وأنه ولي، وأن الولي يعطى مطلوبه، وأنه إذا سئل منه شيء فيمكنه أن ينفع في هذا الشيء، هذا هو أساس الشرك، وهذا هو أصله.
قال الشارح: [قوله: ولـ ابن جرير هو الإمام الحافظ محمد بن جرير بن يزيد الطبري صاحب التفسير والتاريخ والأحكام وغيرها قال ابن خزيمة: لا أعلم على الأرض أعلم من محمد بن جرير وكان من المجتهدين لا يقلد أحداً، وله أصحاب يتفقهون على مذهبه ويأخذون بأقواله، ولد سنة أربع وعشرين ومائتين، ومات ليومين بقيا من شوال سنة عشر وثلاثمائة].
في زمنه رحمه الله نظراؤه كثير، كان الأئمة المجتهدون كثيرين، ولكن بعضهم صار له أصحاب يذكرون أقوالهم ويتفقهون على أقوالهم وينشرونها، فاشتهر منهم الأئمة الأربعة: وهم الإمام مالك والإمام أبو حنيفة والشافعي وأحمد رحمهم الله جيمعاً، ولهم نظراء كثير، مثل: سفيان الثوري، ومثل: الليث بن سعد، ومثل: الزهري ويصعب حصرهم وكلهم أئمة كبار، ولهم اجتهاد، ولهم إدراك وفقه عميق، ولكن ما صار لهم أصحاب مثلما صار لهؤلاء، مع أن الأئمة هؤلاء أنفسهم كانوا ينهون الناس أن ينقلوا أقوالهم ويدونوها، ويقولون لهم: تفقهوا في كتاب الله وفي أحاديث رسوله كما فعلنا نحن، واتركوا أقوالنا، ومعلوم أن المسائل تتجدد، وأن كثيراً من الناس لا يستطيع أن يستنتج حكم الفعل الذي يفعله أو الأمر الذي يقع له، ما يستطيع أن يستنتجه من كتاب الله ومن أحاديث رسوله، فيذهب إلى سؤال العلماء، أو ينظر في أقوالهم، فيجد فيها الشيء الذي يطابق الفعل؛ لكثرتها ولكثرة الأسئلة، ولكونهم تكلموا في مثل هذه المسائل، فمن هنا صاروا يعتنون بأقوالهم.
التقليد: هو أن يتبع الإنسان غيره بغير دليل، أن تتبع هذا الشخص بلا دليل، كأن يقول لك: افعل كذا فتتبعه وتأخذ بقوله، أما اعتبار قوله بالدليل والنظر إلى الدليل فهذا لا يكون تقليداً؛ ولهذا يستعان بأقوال العلماء في معرفة معاني كلام الله، ومعاني كلام رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ولأن الإنسان إذا عرف اللغة وفهم مراد المتكلم واستعان بأقوال العلماء فإنه يتبين له الحق، ولا يكون بذلك مقلداً، أما إذا كان الإنسان ليس عنده استطاعة، فلابد له من التقليد، فالإنسان العامي كيف يقال له: ابحث عن الدليل؟! هذا ما يجوز، وقد قال الله جل وعلا: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] فأمر بسؤالهم، ومعلوم أن الأمر بسؤالهم يقتضي أن يتبعهم في أقوالهم، هذا هو الذي لا يستطيع أكثر المسلمين إلا ذلك، ولا يجوز أن يكلفوا بالشيء الذي لا يطيقونه، لا كما يقول بعض من لم يتمكن من العلم: يجب على الناس أن يعرفوا أدلة الأحكام، وأن يعرفوا حكم الوقائع من الكتاب والسنة، كلهم عليهم أن يعرفوا ذلك! نقول: هذا مستحيل ما يمكن، وليس عيباً كون الإنسان يقلد إماماً من الأئمة الذين صار لهم لسان صدق في الأمة، وعرفوا بعلمهم وتقواهم وحرصهم على نفع الناس، وشدة اتباعهم للرسول صلى الله عليه وسلم، وعرف اقتداؤهم بالسلف، ليس عيباً ولكن على الإنسان أن يتقي الله حسب استطاعته فإذا لم يستطع فإن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها.
قال الشارح: [قوله: عن سفيان الظاهر: أنه سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري أبو عبد الله الكوفي ثقة حافظ فقيه إمام عابد، كان مجتهداً، وله أتباع يتفقهون على مذهبه، مات سنة إحدى وستين ومائة، وله أربع وستون سنة.
قوله: عن منصور هو ابن المعتمر بن عبد الله السلمي ثقة ثبت فقيه مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة.
قوله: عن مجاهد هو ابن جبر -بالجيم والموحدة- أبو الحجاج المخزومي مولاهم المكي ثقة إمام في التفسير، أخذ عن ابن عباس وغيره -رضي الله عنهم- مات سنة أربع ومائة، قاله يحيى القطان، وقال ابن حبان: مات سنة اثنتين أو ثلاث ومائة وهو ساجد، ولد سنة إحدى وعشرين في خلافة عمر رضي الله عنه].
ومجاهد من تلامذة ابن عباس وكان يقول: عرضت المصحف على ابن عباس مرتين، أسأله عن كل آية فيما نزلت وما معناها؛ ولهذا السبب اعتمد البخاري رحمه الله في صحيحه قول مجاهد؛ لأنه لاحظ في ذلك ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لـ ابن عباس: (اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل) والتأويل في لغة السلف المقصود به التفسير، (علمه التأويل) يعني: تفسير القرآن، ولهذا اشتهر ابن عباس بتفسير القرآن، ولهذا السبب اعتمد البخاري رحمه الله على قوله، استناداً إلى دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم له.(64/4)
سبب غلو المشركين في اللات
قال الشارح: [قوله: (كان يلت السويق لهم فمات فعكفوا على قبره) في رواية: (فيطعم من يمر من الناس فلما مات عبدوه وقالوا: هو اللات) رواه سعيد بن منصور ومناسبته للترجمة: أنهم غلوا فيه لصلاحه حتى عبدوه، وصار قبره وثناً من أوثان المشركين].
واللات ليس من أقدم الأصنام، فمناة وجدت قبل اللات، بدليل أن العرب لهم أسماء عبد مناة كثيرة، فهم يعبدون أبناءهم لهذه الأصنام مثل: عبد العزى، وعبد مناة، وعبد اللات، وعبد ياليل، وعرف في التاريخ أنه استحدث فيما بعد عندهم.
وقوله: (كان صالحاً) أي: الصلاح الذي كان معهوداً عندهم، ولا يلزم من هذا أن يكون مسلماً، بل الصلاح الذي كان معهوداً عندهم.
قال الشارح: [قوله: وكذا قال أبو الجوزاء هو أوس بن عبد الله الربعي بفتح الراء والباء مات سنة ثلاث وثمانين.
قال البخاري: حدثنا مسلم وهو ابن إبراهيم حدثنا أبو الأشهب حدثنا أبو الجوزاء عن ابن عباس قال: (كان اللات رجلاً يلت سويق الحاج).
قال ابن خزيمة: وكذا العزى، وكانت شجرة عليها بناء وأستار بنخلة، بين مكة والطائف، كانت قريش يعظمونها، كما قال أبو سفيان يوم أحد: لنا العزى ولا عزى لكم].(64/5)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [65]
إن طبيعة المرأة -التي تتسم بالضعف وقلة الصبر- تحملها على الجزع والندب والنياحة عند الموت، وعند زيارة القبور، فإذا كانت زيارة النساء للقبور مظنة وسبباً لحصول أمور محرمة، فإنها تمنع من ذلك؛ لأن من أصول الشريعة: أن الحكمة إذا كانت خفية أو مستترة علق الحكم بمظنتها.(65/1)
حديث: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج) رواه أهل السنن].
وجه الاستشهاد من الأثر السابق الذي أورده المؤلف: هو أن الغلو في القبور الزيارة التي يكون فيها الاستنجاد بالميت أو طلب النفع منه؛ تجعل القبر وثناً يعبد، ويكون الإنسان واقعاً في الشرك، وفي هذا تحذير الإنسان أن يغلو في القبور غلواً يتجاوز المشروع، وإنما يجب عليه أن يتقيد بالسنة التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأن تكون الزيارة لأجل الاتعاظ والاعتبار، ولأجل الاستغفار للميت فقط، ولا يتخذ ذلك عيداً يتردد ويتكرر في اليوم عدة مرات، وإنما يكون في وقت دون وقت، كما هو معروف عن السلف.
ولهذا لا يقتصر هذا الحكم على قبور المسلمين، بل يجوز أن تزار قبور الكفار، ولكن يجب أن تكون زيارة قبور الكفار للاتعاظ فقط، وليس للاستغفار ولا للدعاء لهم، وإنما يكون للموعظة؛ لأن العلة موجودة وهي الاتعاظ، سواء كان المقبور مسلماً أو غير مسلم، ولكن إذا كان مسلماً يضاف إلى ذلك أنه يستغفر له ويدعو له؛ لأن المسلم أخو المسلم، وينبغي بل يجب عليه أن يود له ما يود لنفسه، وإذا كان في كرب وفي شدة وقد ارتهن بعمله وختم على صحائفه ولم تزدد له حسنة ولم تنقص من سيئاته سيئة؛ فهو في أمس الحاجة إلى من يأتي من إخوته ويستغفر له ويدعو له، لعل حسنة تضاف إليه، أو سيئة تمحى عنه، وهذا من أعظم الإحسان، فيكون هذا شبيهاً بالصلاة على الميت؛ لأن الصلاة هذا مقصودها؛ لأنه انتهى عمله، وطويت صحائفه، فصلاه المسلمين عليه زيادة في صحيفته، ويطلبوا من ربهم جل وعلا أن يحط من سيئاته؛ ولهذا جاء دعاء الجنازة مشتملاً على هذه المعاني، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا صليتم على الجنازة فأخلصوا له الدعاء) قوله: (أخلصوا له الدعاء) معناه: اجعلوا دعاءكم له، لا تجعلوه لأنفسكم ولغيركم، أخلصوا له الدعاء ولكن جاء في تعليمه صلى الله عليه وسلم أن دعاء الجنازة كما سيأتي يكون على قسمين: قسم يكون دعاء عاماً، ثم بعد ذلك يكون دعاء خاصاً، أول ما تبدأ تقول: (اللهم اغفر لحينا وميتنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، وحاضرنا وغائبنا) وهذا يكون للمسلمين عموماً، ثم بعد ذلك يدعو للميت نفسه بقوله: (اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه، وأكرم نزله ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس) إلى آخر الدعاء، والمقصود أن هذا إحسان إليه وهو بحاجة إلى ذلك.
وزيارة القبور مثل هذا، يعني: يزوره ليدعو له بعدما يتعظ هو بنفسه، أما إذا تعدت هذين المعنيين فهي بدعة، ولا ينتفع بها الإنسان، لا الميت ولا الحي، بل الحي يتضرر، أما الميت ما يضره ذلك؛ لأن هذا فعل الحي.
قال الشارح: [قلت: وفي الباب حديث أبي هريرة وحديث حسان بن ثابت.
فأما حديث أبي هريرة فرواه أحمد والترمذي وصححه، وحديث حسان أخرجه ابن ماجة من رواية عبد الرحمن بن حسان بن ثابت عن أبيه قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور).
وحديث ابن عباس هذا في إسناده أبو صالح مولى أم هانئ وقد ضعفه بعضهم ووثقه بعضهم.
قال علي بن المديني عن يحيى القطان: لم أر أحداً من أصحابنا ترك أبا صالح مولى أم هاني، وما سمعت أحداً من الناس يقول فيه شيئاً، ولم يتركه شعبة ولا زائدة ولا عبد الله بن عثمان، قال ابن معين: ليس به بأس، ولهذا أخرجه ابن السكن في صحيحه، انتهى من الذهب الإبريز عن الحافظ المزي].
إذا كان الحديث في سنده من تكلم فيه، ولم يرضه بعض الحفاظ، وبعضهم سكت عنه، ثم جاء الحديث بسند آخر من طريق آخر فهذا الذي يقول الترمذي عنه: إنه حسن، وهذا الحديث جاء من عدة طرق ليس من طريق واحد، بل كثرت الطرق وتعددت، ومع ذلك اختلف الصحابي، فدل هذا على أنه من أقوى ما يقال عنه: إنه من قبيل الحسن، فالحكم عليه بأنه ضعيف غير صحيح؛ لأنه تعددت طرقه، واختلاف الرواة فيه يدل على أن له أصلاً، وأنه ليس غلطاً، وليس وهماً من الراوي، فهذا أقوى مما وسمه الترمذي رحمه الله؛ لأنه إذا قال: هذا الحديث حسن فمقصوده إذا تعددت طرقه، وإن كانت طرقه ضعيفة، بل بسبب التعدد وكونه جاء من أكثر من طريق يحكم عليه بأنه حسن.(65/2)
القول الراجح في زيارة النساء للقبور
سبق أن اللعن من الله جل وعلا: الطرد والإبعاد، فالملعون هو المبعد عن الخير وعن الرحمة، وأن الله جل وعلا يلعن من يشاء كما أنه يرحم من يشاء، ولكن الملعون من حقت عليه اللعنة واستحقها، وسبق أيضاً أنه إذا جاء لعن فاعل فعل من الأفعال فإن هذا الفعل يكون كبيرة من كبائر الذنوب، ولا يلعن فاعل فعل يكون فعله خلاف الأولى، بل لكونه فعل فعلاً هو معصية وكبيرة من الكبائر فعلى هذه القاعدة يقال: إن زائرات القبور من النساء ملعونات، وأن زيارة القبور منهن كبيرة من الكبائر، ولا فرق بين زيارة قبر أو زيارة قبور، وقد اختلف العلماء في هذه المسألة: فمنهم من قال: إنه لا يجوز للنساء زيارة القبور مطلقاً، بل ولا يجوز اتباع الجنائز لهن، أما اتباع الجنائز فجاء في الحديث الصحيح أنه قال: (ارجعن مأزورات غير مأجورات، فإنكن تؤذين الميت، وتفتن الحي) أو نحو ذلك وهذا يدل على أنه لا يجوز، فإذاً: النساء ممنوعات من اتباع الجنائز، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من صلى على جنازة فله قيراط، ومن صلى عليها واتبعها فله قيراطان) فهنا (من) لفظ عام بالاتفاق، يدخل فيه الرجال والنساء، ولكن جاء دليل خاص أخرج النساء من ذلك، فخرجن من هذا العموم بدليل خاص.
أما الزيارة للنساء فجاء فيه اللعن، ولكن سبب الخلاف أنه جاء ما يدل على الجواز، فقد جاء عن عائشة رضي الله عنها أنها زارت قبر أخيها عبد الرحمن فلما قيل لها: (ألم ينه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زيارة القبور؟ قالت: نعم، نهى ثم رخص، ولو حضرته عند موته ما زرته) فهذا في الواقع ليس فيه حجة ولا دليل فيه؛ لأن ظاهره كما احتجت بأن النهي جاء أولاً ثم جاء بعده الإذن العام، ولم يحتج عليها القائل بأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى النساء خاصة، فكأنها ما بلغها هذا، فلا يكون في ذلك حجة.
أما المرأة التي جاءت قصتها في الصحيح أنه مر صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر فقال لها: (اتقي الله، فقالت: إليك عني فإنك لم تصب بما أصبت به، فقيل لها: هذا رسول الله، فندمت وجاءت إلى بيته، فلم تجد عنده بواباً فقالت: يا رسول الله! أصبر، فقال: إنما الصبر عند الصدمة الأولى) فهذا الحديث صحيح، ولكن ما يعرف تاريخه، وإذا كان الأمر هكذا فلا يؤخذ بالشيء العام باتفاق العلماء بل يقدم الخاص على العام.
ومعلوم أن العلة إذا عرفت فإن الحكم يناط بها، فالنساء قلوبهن أرق من قلوب الرجال، وهن أضعف عقولاً، وصبرهن أقل، فربما يقعن في زيارتهن في الأمور الممنوعة، والنفع الذي يكون فيها هو كونهن يتعظن، وإذا كانت الأمور المحذورة أو الممنوعة أكثر مما يرجى منه النفع فلا يجوز أن يؤذن لهن، ولا يجيز الشارع في مثل هذا، أما مجرد الاستغفار فيمكنهن أن يستغفرن وهن في بيوتهن.
أما ما جاء أن الرسول صلى الله عليه وسلم علم عائشة كيف تقول إذا زارت القبور، فهذا لا يدل على جواز الزيارة، ولكن إذا مرت المرأة في طريقها على القبور فيجوز لها أن تقول هذا الدعاء وهي سائرة في الطريق، وهذا غير ممنوع، فالذي يظهر أنه علمها هذا من أجل أنها إذا مرت على قبور في طريقها وهي سائرة أن تقول هذا الدعاء، فيبقى النهي على بابه، وهذا هو الراجح، فلا يجوز للنساء أن يزرن القبور، بل زيارتهن محرمة، وإذا جاء عن العلماء أنها مكروهة فإن هذه الكراهة تحمل على كراهة التحريم، ولا فرق بين زيارة القبور في المقابر، أو زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، لا فرق بين هذا وهذا، فإذا منع النساء من زيارة قبور الناس فهن ممنوعات أيضاً من زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الشارح: [قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريقين: فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لعن زوارات القبور) وذكر حديث ابن عباس ثم قال: ورجال هذا ليس رجال هذا، فلم يأخذه أحدهما عن الآخر، وليس في الإسنادين من يتهم بالكذب، ومثل هذا حجة بلا ريب.
وهذا من أجود الحسن الذي شرطه الترمذي؛ فإنه جعل الحسن إذا تعددت طرقه، ولم يكن فيه متهم، ولم يكن شاذاً أي: مخالفاً لما ثبت بنقل الثقات.
وهذا الحديث تعددت طرقه، وليس فيها متهم، ولا خالفه أحد من الثقات، هذا لو كان عن صاحب واحد، فكيف إذا كان هذا رواه عن صاحب، وذاك عن آخر؟ فهذا كله يبين أن الحديث في الأصل معروف.
والذين رخصوا في الزيارة، اعتمدوا على ما روي عن عائشة رضي الله عنها: (أنها زارت قبر أخيها عبد الرحمن وقالت: لو شهدتك ما زرتك)، وهذا يدل على أن الزيارة ليست مستحبة للنساء كما تستحب للرجال، إذ لو كان كذلك لاستحبت زيارته، سواء شهدته أم لا.
قلت: فعلى هذا لا حجة فيه لمن قال بالرخصة.
وهذا السياق لحديث عائشة رواه الترمذي من رواية عبد الله بن أبي مليكة عنها، وهو يخالف سياق الأثرم له عن عبد الله بن أبي مليكة أيضاً: (أن عائشة رضي الله عنها أقبلت ذات يوم من المقابر، فقلت لها: يا أم المؤمنين! أليس نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زيارة القبور؟ قالت: نعم، نهى عن زيارة القبور ثم أمر بزيارتها).
فأجاب شيخ الإسلام رحمه الله عن هذا وقال: ولا حجة في حديث عائشة، فإن المحتج عليها احتج بالنهي العام، فدفعت ذلك بأن النهي منسوخ، ولم يذكر لها المحتج النهي الخاص بالنساء الذي فيه لعنهن على الزيارة.
يبين ذلك قولها: (قد أمر بزيارتها) فهذا يبين أنه أمر بها أمراً يقتضي الاستحباب، والاستحباب إنما هو ثابت للرجال خاصة.
ولو كانت تعتقد أن النساء مأمورات بزيارة القبور، لكانت تفعل ذلك كما يفعله الرجال، ولم تقل لأخيها: لما زرتك.
واللعن صريح في التحريم، والخطاب بالإذن في قوله: (فزوروها) لم يتناول النساء، فلم يدخلن في الحكم الناسخ، والعام إذا عرف أنه بعد الخاص لم يكن ناسخاً له عند جمهور العلماء، وهو مذهب الشافعي وأحمد في أشهر الروايتين عنه، وهو المعروف عند أصحابه.
فكيف إذا لم يعلم أن هذا العام بعد الخاص؟ إذ قد يكون قوله: (لعن الله زوارات القبور) بعد إذنه للرجال في الزيارة؛ يدل على ذلك أنه قرنه بالمتخذين عليها المساجد والسرج، ومعلوم أن اتخاذ المساجد والسرج المنهي عنها محكم، كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، وكذلك الآخر.
والصحيح: أن النساء لم يدخلن في الإذن في زيارة القبور لعدة أوجه: أحدها: أن قوله صلى الله عليه وسلم: (فزوروها) صيغة تذكير وإنما يتناول النساء أيضاً على سبيل التغليب.
لكن هذا فيه قولان: قيل: إنه يحتاج إلى دليل منفصل، وحينئذ فيحتاج تناول ذلك للنساء إلى دليل منفصل.
وقيل: إنه يحمل على ذلك عند الإطلاق.
وعلى هذا فيكون دخول النساء بطريق العموم الضعيف، والعام لا يعارض الأدلة الخاصة ولا ينسخها عند جمهور العلماء، ولو كان النساء داخلات في هذا الخطاب لاستحب لهن زيارة القبور، وما علمنا أحداً من الأئمة استحب لهن زيارة القبور، ولا كان النساء على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين يخرجن إلى زيارة القبور.
ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم علل الإذن للرجال بأن ذلك (يذكر الموت، ويرقق القلب، وتدمع العين) هكذا في مسند أحمد، ومعلوم أن المرأة إذا فُتح لها هذا الباب أخرجها إلى الجزع والندب والنياحة؛ لما فيها من الضعف وقلة الصبر، وإذا كانت زيارة النساء مظنة وسبباً للأمور المحرمة، فإنه لا يمكن أن يحد المقدار الذي لا يفضي إلى ذلك، ولا التمييز بين نوع ونوع، ومن أصول الشريعة: أن الحكمة إذا كانت خفية أو منتشرة علق الحكم بمظنتها فيحرم هذا الباب؛ سداً للذريعة، كما حرم النظر إلى الزينة الباطنة، وكما حرم الخلوة بالأجنبية وغير ذلك، وليس في ذلك من المصلحة ما يعارض هذه المفسدة، فإنه ليس في ذلك إلا دعاؤها للميت، وذلك ممكن في بيتها.
ومن العلماء من يقول: التشييع كذلك، ويحتج بقوله صلى الله عليه وسلم: (ارجعن مأزورات غير مأجورات، فإنكن تفتن الحي وتؤذين الميت) وقوله صلى الله عليه وسلم لـ فاطمة: (أما إنك لو بلغت معهم الكدى لم تدخلي الجنة) ويؤيده ما ثبت في الصحيحين: (من أنه نهى النساء عن اتباع الجنائز)، ومعلوم أن قوله صلى الله عليه وسلم: (من صلى على جنازة فله قيراط، ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان) هو أدل على العموم من صيغة التذكير، فإن لفظ (من) يتناول الرجال والنساء باتفاق الناس، وقد علم بالأحاديث الصحيحة أن هذا العموم لم يتناول النساء لنهي النبي صلى الله عليه وسلم لهن عن اتباع الجنائز، فإذا لم يدخلن في هذا العموم فكذلك في ذلك بطريق الأولى.
انتهى ملخصاً].(65/3)
خلاف العلماء في حكم زيارة النساء للقبور
مسألة زيارة النساء للقبور فيها نصوص منها ما هو مظنة الجواز أو المنع، والراجح المنع مطلقاً، سواء كانت القبور مجموعة أو قبراً واحداً، لا فرق بين المجموع وبين المفرد، فيدخل كل ذلك في نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمنع يكون مطلقاً، واللعن معناه الطرد والإبعاد من الرحمة، والرسول صلى الله عليه وسلم يلعن على الأفعال التي تكون من الكبائر أو تنافي الواجبات التي شرعها الله جل وعلا، والذي يلعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم -سواء قدر أن اللعن دعاء أو أنه خبر- يكون قد فعل فعلاً استحق عليه ذلك اللعن، أما إذا كان في شيء لا يستحق عليه اللعن فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه اشترط على ربه أن كل من لعنه وهو لا يستحق اللعنة أن يجعلها الله جل وعلا عليه صلاة ورحمة.
ثم هذه الأحاديث جاء ما فيه شبه معارضة لها، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها)، قيل: (فزوروها) عموم يدخل فيه الرجال والنساء، وبهذا احتج من قال: إن زيارة النساء للقبور جائزة، قال: فقوله: (زوروها) عام، والرسول صلى الله عليه وسلم إذا خاطب الأمة بحكم من الأحكام يكون خطابه شاملاً للذكور والإناث إلا أن يأتي مخصص، ونقول: جاء دليل أخرجه من هذا العموم، مع أن الخلاف موجود بين العلماء فيما إذا جاء الخطاب من الرسول صلى الله عليه وسلم للذكور هل يدخل في ذلك النساء؟ على قولين للعلماء: منهم من قال: لا تدخل فيه النساء، ومنهم من قال: يدخلن، أما في هذه المسألة بعينها فإنه جاء فيها تخصيص يخرج هذا الادعاء، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله زورات القبور، والمتخذين عليها السرج)، فاللعن يكون على شيء محرم ليس على فعل شيء مكروه تركه أولى من فعله، بل يكون على شيء محرم فعله محرم، وبهذا يتبين أن الصواب أن تمنع النساء من زيارة القبور.(65/4)
الجواب عن حديث عائشة
الحديث الذي يروى عن عائشة جاء على وجهين: أحدهما: أنها زارت قبر أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر، ولما زارته قالت: لو كنت شهدتك ما زرتك.
يعني: لو شهدت موتك ما زرتك، وعبد الرحمن دفن في المقابر، فيكون هذا دليل على الجواز.
وأما الصيغة الأخرى فإنها جاءت مطلقة، أنها رؤيت قد أقبلت من المقابر فقيل لها: ألم ينه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زيارة القبور؟ فقالت: نهى ثم رخص، وهذا -كما هو ظاهر- لا حجة فيه؛ لأن الترخيص للرجال فقط، فإنه قال: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزورها) فإذا فهمت أن النساء دخلن في هذا العموم فمعنى ذلك أنها لم يبلغها النهي الخاص، وإذا لم يبلغ الإنسان أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم فإنه يكون معذوراً في ذلك، ولكن لا يكون فعله حجة، مع أن أصل المسألة عند العلماء إذا جاء فعل للصحابي مخالف لقول الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه لا ينظر إليه، وإنما الحجة في قول النبي صلى الله عليه وسلم.
وحديثها الأول كونها تعللت بأنها ما حضرته، ولو حضرته ما زارته، يدلنا بمفهومه أن الزيارة للنساء غير مستحبة، وهذا يدل أيضاً على أن النساء في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمن الصحابة ما كان معروفاً زيارتهن للقبور، وهذا أيضاً دليل آخر يضم إلى المسألة، فإنه لم يعرف أن النساء كن يزرن القبور في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد الصحابة، ويكون قولها هذا دليلاً على أنها ما بلغها النهي الخاص الذي فيه لعن زائرات القبور، وبهذا يتبين أن الدليل سالم من المعارضة.
يبقى ما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم علمها دعاء زيارة القبور إذا زارتهم أن تقول: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم)، فهذا الدعاء جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه عائشة لما سألته، وهذا لا دليل فيه؛ لأن المرأة قد تمر على القبور في طريقها، وإذا مرت في طريقها على المقابر تسلم عليهم كغيرها من الناس، ولكن لا يجوز أن تذهب قاصدة للزيارة، فهذا هو ملخص الكلام الذي ذكره الشارح، وهذا هو الصواب في المسألة، وهو أن النساء ممنوعات من زيارة القبور.
أما مسألة اتباع الجنائز فهذه لا إشكال فيها؛ لأن الأحاديث فيها صحت، ففي الصحيحين أن الرسول صلى الله عليه وسلم منع النساء من ابتاع الجنائز، وروي أنه قال: (إنكن تفتن الحي، وتؤذين الميت) وهذا تعليل للمنع، فكيف بزيارة القبور؟ فهي أعظم من ذلك، وهذا ينبغي أيضاً أن يكون دليلاً آخر على منع النساء من زيارة القبور، وإذا كان الإنسان يطلب الخير عند الله جل وعلا فينبغي له أن يتحرى الصواب في الأعمال التي يأتيها، ويجتنب الشيء الذي فيه الخطورة، فهذه المسألة لا أحد من العلماء يقول: إن المرأة إذا لم تزر القبور فإنها آثمة، بل بالعكس فإن أكثر العلماء يقول: إنها مرتكبة كبيرة من كبائر الذنوب، فيجب الابتعاد عن مثل هذا، وهذا ليس في هذه المسألة خاصة، بل في مسائل كثيرة نظير هذه المسألة.
ثم الدليل الخاص لا ينسخه الدليل العام، ولا يخصصه كما في هذه المسألة، وهذه مسألة أصولية عند علماء الأصول، وذلك أن الخاص ينص على إخراج أفراد معينين، فيكون الدليل العام ليس متناولاً لذلك، وهذا أيضاً يكون جواباً على من استدلوا بفعل عائشة رضي الله عنها أو نحو ذلك.
قال الشارح: [قلت: ويكون الإذن في زيارة القبور مخصوصاً للرجال، خص بقوله: (لعن الله زوارات القبور) الحديث فيكون من العام المخصوص.
وعما استدل به القائلون بالنسخ أجوبة أيضاً: منها: أن ما ذكروه عن عائشة وفاطمة رضي الله عنهما معارض لما ورد عنهما في هذا الباب فلا يثبت به نسخ].
يعني: ثبت عنهما أيضاً خلاف ذلك، فلا يثبت بهذا النسخ، ثم هو فعل صحابي والفعل لا يعارض قول الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال الشارح: [ومنها: أن قول الصحابي وفعله ليس حجة على الحديث بلا نزاع، وأما تعليمه عائشة رضي الله عنها كيف تقول إذا زارت القبور ونحو ذلك، فلا يدل على نسخ ما دلت عليه الأحاديث الثلاثة من لعن زائرات القبور؛ لاحتمال أن يكون ذلك قبل هذا النهي الأكيد والوعيد الشديد، والله أعلم].(65/5)
البناء على القبور ليس من الإسلام
قال الشارح رحمه الله: [قال محمد بن إسماعيل الصنعاني رحمه الله في كتابه تطهير الاعتقاد: فإن هذه القباب والمشاهد التي صارت أعظم ذريعة إلى الشرك والإلحاد، وأكبر وسيلة إلى هدم الإسلام وخراب بنيانه: غالب بل كل من يعمرها هم الملوك والسلاطين والرؤساء والولاة، إما على قريب لهم أو على من يحسنون الظن فيه، من فاضل أو عالم أو صوفي أو فقير أو شيخ أو كبير، ويزوره الناس الذين يعرفونه زيارة الأموات من دون توسل به، ولا هتف باسمه، بل يدعون له ويستغفرون، حتى ينقرض من يعرفه أو أكثرهم فيأتي من بعدهم فيجد قبراً قد شيد عليه البناء، وسرجت عليه الشموع، وفرش بالفراش الفاخر، وأرخيت عليه الستور، وألقيت عليه الأوراد والزهور؛ فيعتقد أن ذلك لنفع أو دفع ضر، وتأتيه السدنة يكذبون على الميت بأنه فعل وفعل، وأنزل بفلان الضر وبفلان النفع حتى يغرسوا في جبلته كل باطل.
والأمر ما ثبت في الأحاديث النبوية من لعن من أسرج على القبور وكتب عليها وبنى عليها، وأحاديث ذلك واسعة معروفة، فإن ذلك في نفسه منهي عنه].
مثل هذا الحديث: أنه لعن زائرات القبور والمتخذين عليها السرج، ومقصود الصنعاني رحمه الله أن البناء على القبور ليس من الإسلام في شيء، ولا يمت إلى شيء من الأدلة، وإنما يفعله أناس جهلة أصحاب ثروات أو أصحاب سلطة، ويكون ذلك تعظيماً لقريب لهم ليميزوه؛ لأنه كان متميزاً في حياته فيريدون أن يميز عن الأموات، فيبنون عليه البناء، ويوقدون عليه السرج، وربما وضعوا عليه الفرش، وصار له خدم ينظفون مكانه، ويدعون إلى زيارته، ويلقون على من يأتي إليه من وساوس الشيطان التي يعظم بها الشرك، حتى يخرج الإنسان من دين الإسلام إلى دين المشركين، فإذا قدر أن هذا لأجل تعظيم الميت وإكرامه حسب ما يزعمون أولاً؛ فإن هذا لا يستمر، بل يزول إذا زال أولئك، ثم يأتي من بعدهم ويجد القبر بهذه الحالة فيقر في قلبه أن هذا لأجل نفع من صاحب القبر أو دفع بلاء لمن توجه إليه إذا عظم، وهذا الذي ذكره لا يزال موجوداً في كثير من بلاد المسلمين للأسف، فيتجهون إلى القبور، ويسألون أربابها تفريج الكروب، وكشف الخطوب، والنفع والدفع، وهي رميم لا تسمع ولا تملك شيئاً، مع مخالفة ذلك لأصل الدين الإسلامي الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه جاء بوجوب عبادة الله وحده، وأن تكون العبادة خالصة له جل وعلا، ولا يتعلق قلب الإنسان بمخلوق؛ لأنه يكون بذلك شريك لرب العالمين {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:18]، وأمر الله جل وعلا بالإخلاص {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5]، والدين كل ما يتدين به، ويرجى أن يثاب عليه المرء إذا عمله أو يعاقب إذا تركه، فيجب أن يكون هذا كله لله جل وعلا، ليس لأحد من الأموات ولا من الأحياء.(65/6)
بعض شبه القبوريين
هذا الشرك الذي وقع فيه كثير من المسلمين ليس له أصل لا في الشرع، ولا في قول السلف الذين يقتدى بهم من أهل العلم والمعرفة، ولا في قول أحد العلماء المتأخرين، وإنما اغتر بعض المتأخرين بحكايات ودعاوى لا أصل لها، وادعوا أن التوسل بالميت جائز، واستدلوا بشبه لا تدل على ذلك.
مثل: كون الرسول صلى الله عليه وسلم طلبت منه الشفاعة في حياته، كما في قصة الأعمى الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! ادع الله أن يرد علي بصري، فقال: (أوتصبر، وهو خير لك؟ قال: بل ادع، فأمره أن يتوضأ ويصلي ركعتين ويسأل ويقول في سؤاله: اللهم إني أسألك بنبيك نبي الرحمة أن ترد علي بصري) هكذا جاء في بعض الروايات، فتمسكوا بهذه اللفظة على أنه سؤال بذات النبي صلى الله عليه وسلم، والواقع أنه سؤال بدعائه؛ لأنه أمره أن يدعو وهو دعا له، ولهذا قال في آخره: (اللهم شفعه فيّ، وشفعني فيه).
وكذلك قصة عمر لما استسقى بالناس وقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبيك، وإننا نتوسل إليك بعم نبيك.
فقالوا: هذا يدل على الطلب بالأشخاص، فيطلب بهم من الله، وهذا في الواقع تضليل، ولو كان كما يقولون لما عدل عمر رضي الله عنه عن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى عمه؛ لأنه لا فرق بين كونه حياً أو ميتاً إذا كان التوسل بذاته، وإنما هذا يدل على أن التوسل بالدعاء وبالشفاعة، ولهذا طلب من العباس الدعاء والشفاعة فقال: قم فادع يا عباس! فصار يدعو، وهم يؤمنون على دعائه، هذا هو توسلهم الذي توسلوا به، يعني أنهم قدموه إماماً لهم يدعو ويؤمنون على دعائه لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا يقول الفقهاء في كتب الفقه في الاستسقاء: ويستحب أن يتوسل إلى الله بالدعاء كما توسل عمر رضي الله عنه بـ العباس، وتوسل معاوية بـ أبي يزيد الأسود بن أبي يزيد الجرمي؛ لأن مقصدهم هو أن يقدموا الدعاء، فيدعون ثم يؤمن الحاضرون على دعائهم، فهو توسل بدعائهم وليس بذواتهم.
أما هؤلاء ففهموا عكس ما أراد أولئك، وهذا فهم خاطئ يجب أن يرد عليهم، ولا يجوز أن يغتر به.
قال الشارح: [ومنه تعلم مطابقة الحديث للترجمة والله أعلم قوله: والمتخذين عليها المساجد تقدم شرحه في الباب قبله].
ليس معنى ذلك أنه يشترط أن تكون مساجد مبنية كالمساجد التي تعتاد للصلوات، وإنما يتخذونها مكاناً لسجودهم ولو فرضاً، وكل مكان يسجد فيه فهو مسجد كما قال صلى الله عليه وسلم: (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) الأرض كلها مسجد، يعني: كل مكان صحت الصلاة فيه فهو مسجد، ولا يجوز أن يكون القبر محلاً للعبادة من الصلاة وغيرها كما سيأتي أنه صلى الله عليه وسلم نهى أن تجعل البيوت قبوراً، يعني: أن تجعل مشابهة للقبور؛ لأن القبور مهجورة لا يتعبد فيها.(65/7)
حرمة إيقاد السرج على القبور
قال الشارح: [قوله: السرج قال أبو محمد المقدسي: لو أبيح اتخاذ السرج عليها لم يلعن من فعله؛ لأن فيه تضييعاً للمال في غير فائدة، وإفراطاً في تعظيم القبور أشبه بتعظيم الأصنام].
من الناس من قال: تسريج القبور مستحب، ولا يقول هذا إلا إنسان جاهل أو ضال على عنت، يريد أن يصادم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل النصوص جاءت بالنهي عن تمييز القبر بأي شيء يميزه، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يبعث إلى أماكن في الأرض من يسوي القبور، كما في صحيح مسلم عن أبي الهياج الأسدي عن علي رضي الله عنه أنه قال: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألا تدع قبراً مشرفاً إلا سويته، ولا صورة إلا طمستها)، فكان يرسل الرسل لأجل تسوية القبور بالأرض، لا يجعلها مرتفعة ومشرفة فكيف بإسراجها؟ كيف بوضع القناديل عليها والبناء عليها؟ هذه مصادمة للشرع تمام المصادمة فلا يقول قائل ممن له نصيب من علم الشرع: إن الإسراج مستحب، أو جائز، بل هو من أعظم المحرمات وهو من وسائل الشرك الذي هو أعظم الذنوب، ومن مات عليه يكون خالداً في النار نسأل الله العافية.
[وقال ابن القيم رحمه الله: اتخاذها مساجد وإيقاد السرج عليها من الكبائر].
هذا من الكبائر لأنه وسيلة إلى الشرك، فكونه يبني على القبر بناء هذا يلفت النظر إلى هذا القبر، ويجعل المغتر يغتر به، وربما وقع في الشرك بسبب ذلك، فيكون الفعل كبيرة؛ لأنه يكون وسيلة إلى أعظم الذنوب الذي هو الشرك، أما مجرد البناء أو الإسراج فليس هذا شركاً إذا انفك عن الاعتقاد بأن صاحب القبر ينفع أو يضر أو يتصرف أو يملك شيئاً، أما إذا وقع البناء أو الإسراج أو الفرش أو الكتابات أو ما أشبه ذلك مما يوضع على القبور باعتقاد أن هذا ينفع، وأنه قد يدفع الضر؛ فهذا شرك، ويكون الفاعل لذلك مشركاً، والشرك هو أعظم الذنوب، وهذا الشرك ليس الشرك الأصغر بل هو الشرك الأكبر الذي يكون مضاداً لقول: لا إله إلا الله، وإن قال الإنسان: لا إله إلا الله، وفعل ما يضادها، وصلى وصام وحج؛ فإنه لا تنفعه صلاته ولا صومه ولا حجه؛ لأنه في الواقع ما فهم معنى لا إله إلا الله؛ لأن هذه الكلمة وضعت لإبطال الشرك كله بحيث لا يبقى عند الإنسان تعلق بغير الله جل وعلا، أو تأله لغيره، سواء كان من الأحياء والأموات أو من الأولياء والنبيين أو غيرهم، فإذا أتى بما يضاد ذلك فمعنى ذلك أنه ما فهم هذه الكلمة التي تميز الرجل المسلم عن الرجل الكافر.
قال الشارح: [قوله: رواه أهل السنن يعني: أبا داود والترمذي وابن ماجه فقط ولم يروه النسائي].
بلى رواه النسائي، ولكن هذا فات الشارح رحمه الله، وإلا فهو موجود في السنن مطلقاً، وإذا قيل: أهل السنن فالمراد أهل السنن الأربع: أبو داود والنسائي وابن ماجة والترمذي، هؤلاء يطلق عليهم أهل السنن، وإذا زيد عليهم فلا بد من النص على ذلك، وإذا قيل: متفق عليه فهذا يختلف باختلاف الاصطلاح، فبعض العلماء يجعل المتفق عليه ما خرجه البخاري ومسلم، وبعضهم يزيد حسب الاصطلاح مثل صاحب المنتقى فإنه جعل المتفق عليه ما خرجه البخاري ومسلم وأحمد، وكل له اصطلاح يصطلح عليه، ولكن لا بد أن يبين الاصطلاح في أول الكتاب.(65/8)
مسائل باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثاناً تعبد من دون الله(65/9)
معنى الأوثان
[وفيه مسائل: الأولى: تفسير الأوثان].
الأوثان هي كل ما عبد من دون الله من غير تشخيص، فالوثن يكون على صورة الآدمي أو صورة الحيوان، أما إذا كان مصوراً -سواء كان من الطين، أو من الخشب، أو منحوتاً من الحجارة، أو مصنوعاً من الحديد، أو غير ذلك- صورة مجسدة فهذا يسمى صنماً، أما إذا كان يعبد ويقصد سواء كان قبراً أو مكاناً أو شجرة أو حجراً أو حائطاً أو ما أشبه ذلك فهذا وثن، وهذا من ناحية اللفظ فقط وإلا فالمعنى واحد، وما يقع من الفاعل سواء كان للوثن أو كان للصنم لا فرق بين هذا وهذا، وقد جاء أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه مر على قوم يلعبون الشطرنج، فقال: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء:52]؟ فجعلها من التماثيل وهي من الأصنام، وهذا يدل على أن كل ما شغل الإنسان عن طاعة الله وصرفه عنها فإنه يأخذ هذا المعنى.(65/10)
معنى العبادة
[الثانية: تفسير العبادة].
العبادة فسرت بتفسيرات وتعريفات مختلفة الألفاظ، ومتفقة المعنى، فمنها التعريف المشهور عند العلماء: هي ما أمر به شرعاً من غير اطراد عرفي، ولا اقتضاء عقلي، هذا التعريف مشهور عند كثير من العلماء، العبادة: كل ما أمر به شرعاً من غير اطراد عرفي، ولا اقتضاء عقلي، يعني: أن العبادة مبنية على الأمر فقط، لا ينظر فيها إلى عرف الناس، ولا إلى عقولهم، ولا كون العرف يطرد في هذا أو يكون جائزاً، أو أن العقل يقتضيه، لا دخل للعبادة في ذلك.
ومنها التعريف الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو قوله: العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، والمقصود بالباطن أعمال القلوب، مثل الخشية والرجاء والإنابة والحب، وما أشبه ذلك، فإن هذه من أفضل العبادة.
ومنهم من قال: العبادة هي طاعة الله جل وعلا باتباع أمره، واجتناب ما نهى عنه، مع غاية الحب والتذلل له في هذا الفعل.
وهذا تعريف أيضاً صحيح، والمقصود من ذلك أن الإنسان يجب أن يكون عابداً لله، والعبادة تكون خالصة له، وتكون متضمنة للحب والخوف والرجاء، فيفعل هذه الأمور ويخاف أن يعاقبه الله لو تركها، ويرجو ثواب الله عند فعلها؛ وذلك لأن الله جل وعلا جعل الإنسان ضعيفاً لا يستطيع أن يصبر عن رحمة الله جل وعلا، ولا يستطيع أن يصبر على عذاب الله جل وعلا، لا صبر له على عذابه، ولا غنى له عن رحمته، فهو يطلب فكاك نفسه وخلاصها، وليست العبادة لنفع الله، فلا ينبغي أن يقول: أنا أخدم الله جل وعلا! الله جل وعلا غني عن كل أحد، وإنما الإنسان يعبد ربه لفكاك نفسه؛ ولهذا السبب كثر ذكر الجنة والنار في القرآن، تذكر النار ثم تذكر الجنة ترغيباً في الجنة وترهيباً من النار، حتى يفعل الإنسان ما أمر به، وينتهي عما نهي عنه.
إذاً: العبادة غير محصورة في أفعال معينة من الصلاة والصوم والزكاة والذكر والقراءة، بل هي كل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الأمور الواجبة أو الأمور المستحبة، وكل ما طلب فعله يجب أن يكون خالصاً لله جل وعلا، فكل ما كان في فعله ثواب فهو عبادة، أو كان في فعله عقاب، فيكون تركه من العبادة.
وأكثر الناس جهل معنى العبادة، ووقع في الشرك لهذا السبب، فصاروا يتجهون بالدعاء إلى الأموات وإلى غيرهم ويقولون: هذا توسل، والسبب في ذلك أنهم جهلوا أن هذا عبادة، مع أن الدعاء من أكبر العبادة، كما قال الله جل وعلا: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60]، فجعل الدعاء عبادة، بل هو من أفضل العبادة، وسواء كان الدعاء دعاء مسألة كأن يسأل شيئاً معيناً من أمور الدنيا أو من غيرها، أو دعاء عبادة كأن يفعل فعلاً من الأفعال التي يتقرب بها كالقراءة أو الذكر أو الصلاة أو الصوم أو الصدقة، فهذه كلها تدخل في دعاء العبادة.(65/11)
استعاذة النبي عليه الصلاة والسلام مما يخاف وقوعه
[الثالثة: أنه صلى الله عليه وسلم لم يستعذ إلا مما يخاف وقوعه].
المقصود بهذا أنه قال: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد) فاستعاذته بالله جل وعلا وطلبه منه ذلك خوفاً مما يتوقع، فدل على أن الخوف من الافتتان بالقبور وارد، وأنه ليس كما يقول كثير من الناس: إن النهي عن الصلاة عند القبور لأنه مظنة النجاسة، وإنما الواقع أنه مظنة النجاسة المعنوية التي هي نجاسة الشرك؛ لتطهر القلوب وتكون العبادة خالصة لله جل وعلا، هذا معنى قوله: إنه ما يستعيذ إلا من شيء يخاف وقوعه، يعني: استعاذ بربه ألا يجعل قبره وثناً يعبد؛ لأنه يخشى أن يقع ذلك صلوات الله وسلامه عليه.
[الرابعة: قرنه بهذا اتخاذ قبور الأنبياء مساجد].
يعني: أنه قرن في هذا الدعاء قوله (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، فهذه قرينة تدل على أنه قصد بذلك ألا يتعلق المتعلق بغير الله جل وعلا، حتى لا يصرف لغير الله شيئاً من العبادة.(65/12)
شدة غضب الله على المشركين
[الخامسة: ذكر شدة الغضب من الله].
يعني قوله: (اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، والمقصود بهذا أن الله يوصف بالغضب، وغضبه يكون شديداً على بعض الناس، وبعضهم لا يكون شديداً، فمن صفات الفعل التي يتصف بها الله جل وعلا أنه يغضب على بعض خلقه، وإذا غضب جل وعلا فإنه يلعن، وإذا لعن فلعنته تبعد الإنسان كل البعد عن الخير، وقد يكون أثر ذلك في نسل الإنسان؛ ولهذا جاء في أثر -وإن كان لم يثبت ولكن معناه صحيح- أن الله جل وعلا يقول: (إني إذا رضيت باركت وليس لبركتي نهاية، وإذا غضبت لعنت، ولعنتي تبلغ السابع من الولد) يعني: أثر المعصية يجري على أبناء الإنسان، وأبناء أبنائه، وأبناء أبنائه إلى المرتبة السابعة نسأل الله العافية، وهذا من شؤم ذلك الإنسان.
ومعلوم أن الفساد الذي يقع في الأرض كله بسبب المعاصي، ولو أن الناس أطاعوا الله جل وعلا وامتثلوا أمره لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ولصافحتهم الملائكة على الأرض، ولن يحدث لهم شيء يزعجهم أو يؤلمهم أو يخيفهم، ولكن لا بد أن يحصل ما أراده الله جل وعلا من خلقه، وهو جل وعلا خلق الجنة والنار، وجعل لكل واحدة سكاناً، بل جعل لكل واحدة عليه ملؤها، فإنه أخبر جل وعلا أنه سوف يملأ جهنم من الجنة والناس أجمعين {لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود:119]، فهي لا تمتلئ إلا من الناس والجن فقط، هؤلاء هم الذين يسكنونها، فلا بد أن يعملوا المعاصي ويبارزوا ربهم جل وعلا بالعظائم حتى يستحقوا النار؛ لأن الله لا يدخل النار إلا من يستحقها بفعله، بعدما يعذر منه بإرسال الرسل.
وقد أرسل الله جل وعلا إلى هذه الأمة رسولاً بلغهم رسالة الله جل وعلا، وأعلمهم كل ما فيه خير لهم، وحذرهم من كل ما فيه شر لهم، ولكن أكثر الناس يعرض عن دعوته، ولا يبالي بها، ولا يرفع بها رأساً، وكأنه يريد أن يدخل عليه الرسول في بيته ويقول له: افعل كذا، ولا تفعل كذا! ما علم أن الله جل وعلا كلفه أن يطلب ويبحث عن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم ويتعرف عليها، وإذا لم يفعل فإنه الملوم، وهو المسئول عن ذلك.(65/13)
صفة عبادة اللات وقصته
[السادسة: وهي من أهمها: معرفة صفة عبادة اللات التي هي أكبر الأوثان].
يقصد بهذا قول مجاهد وغيره: إنه كان رجل يلت السويق، يعني: يجعل فيه السمن ويخلطه به ثم يقدمه إلى من أتى إليه، ثم مات فدفن تحت صخرة فعبدوه، وصاروا يطوفون عليها ويعظمونها تعظيماً لذلك الشخص، فقصده بهذا أن هذا الفعل نفسه هو الذي يفعله كثير من الناس اليوم تعظيماً لذلك الميت كما عظم المشركون اللات، وكما أنها عبادة منهم للات فكذلك الذين يصنعون نظير هذا الصنيع للمقبورين اليوم هم يعبدونهم، هذا هو المقصود.
[السابعة: معرفة أنه قبر رجل صالح].
يعني: اللات رجل صالح، سواء كان صلاحه لأنه متبع لدين الله جل وعلا، ومعروف أن العرب كانوا على بقايا من دين إبراهيم، وبعضهم كان حنيفاً ما كان يشرك، مثل زيد بن نفيل ومثل القس بن ساعدة، ومثل ورقة بن نوفل وغيرهم ممن كان المشركون يسمونهم الموحدين؛ لأنهم يجتنبون الأصنام، ولا يأكلون مما يذبح لغير الله، ويتعبدون لله وحده، على حسب طاقتهم واجتهادهم وقدرتهم: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، وقد استدلوا بفطرتهم على أن الشرك لا يجوز، فإذا كان اللات من هذا الصنف فإنه يكون صالحاً، أو أن معنى صلاحه أنه يفعل الخير ويقدمه للناس، ويحسن إليهم، فلما مات فعلوا به ما صاروا به عبيداً له.
[الثامنة: أنه اسم صاحب القبر، وذكر معنى التسمية].
صاحب القبر اللات، يعني: أنه اشتق له هذا الاسم من فعله وهو اللت، وهذا على قراءة التشديد، وقد يكون أيضاً على قراءة التخفيف؛ لأن التخفيف قد يكون لكثرة الاستعمال، وإن كان الأصل فيه أنه مشدد، فهو مأخوذ من اللت، أما على قول ابن عباس في الرواية الأخرى: أنه اشتق له اسم من الله سموه اللات أخذاً من اسم الله جل وعلا؛ لأنه مألوه، فهذا لا ينافي هذا القول، لأنه يجوز هذا وهذا، فإذا كان يلت، فهم كذلك ألهوه، وجعلوه إلهاً مع الله جل وعلا.(65/14)
لعن زوارات القبور والمتخذين عليها السرج
[التاسعة: لعنه زوارات القبور].
زوارات قيل: إنه جاء بهذا التشديد ليدل على المبالغة والكثرة، وهذا غير صحيح؛ لأن المبالغة تأتي ولا يقصد بها الكثرة، بل الزيارة ممنوعة مطلقاً ولو مرة واحدة، ولا يمكن أن يكون النهي عن المبالغة فقط، فتكون الملعونة التي تكثر من الزيارة، أما من دون ذلك فلا تدخل في هذا كما يقوله من يقوله من الذين لم يفهموا مراد الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا قول مخالف للحق ومجانب له.
[العاشرة: لعنه من أسرجها].
أسرجها: أي: وضع عليها السرج، ويدخل في هذا أيضاً الكتابات عليها، وكذلك تجصيصها أو تلوينها بألوان أو وضع الستور عليها، وكل ما يدل على تعظيمها يكون داخلاً في هذا.(65/15)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [66]
إن أبلغ وأعظم صفة اتصف بها النبي صلى الله عليه وسلم هي: صفة الرحمة، وقد بلغ الغاية فيها، حتى أنه كان يعز عليه ما يعنت ويشق على أمته، وكان أخشى ما يخشاه على أمته أن تقع في الشرك، ولذلك سد كل ذريعة توصل إليه.(66/1)
سد النبي عليه الصلاة والسلام لكل طريق يوصل إلى الشرك
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك].
المراد بجناب التوحيد جوانبه التي قد يدخل منها الشرك، أو شيء من أنواع الشرك، والحماية هي الصيانة والاعتناء، بأن يمنع كل وسيلة قد تكون موصلة إلى ما لا يجوز، وهذا شيء كثر ذكره في نصوص النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم بعضه، ولكن أراد المؤلف أن يبين في هذا الباب أن الرسول صلى الله عليه وسلم اعتنى بذلك اعتناء تاماً، واستدل على هذا بأمور متعددة: منها ما ذكره الله عنه من رأفته ورحمته وحرصه على هداية الناس، ومنها نصوص تدل على أنه صلى الله عليه وسلم صان توحيد عبادة الله جل وعلا أن يتلبس به بعض أمراض القلوب أو أمراض الشكوك، فأصبح الأمر واضحاً جلياً، ولا عذر لمن وقع في خلاف ذلك.
والمقصود من هذا أن يبين ما عليه كثير من الناس ممن يزعم مشروعية التعلق بالأموات، والتبرك بالقبور والبقع، والتوسل بالأحياء أو الأموات؛ التوسل الذي يعرفه المتأخرون ويصطلحون عليه، لا التوسل الذي ذكره جل وعلا في كتابه، وذكره الرسول صلى الله عليه وسلم في سننه فإنه نوع آخر غير التوسل الذي اصطلح عليه المتأخرون، فهذا الذي اصطلح عليه المتأخرون هو أن يجعل المخلوق وسيلة بذاته إلى الله، بأن يجعل جاهه وعمله الزاكي عند الله ينفع به هذا المتوسل، أو يقسم به على الله، وما أشبه ذلك من معاني المتأخرين الذين ما عرفوا حقيقة التوسل الذي جاء في الكتاب والسنة، فلا عذر لهم في ذلك؛ لأنهم تركوا ما نص عليه الرسول صلى الله عليه وسلم صراحة، واتبعوا أهواءهم في ذلك؛ ولهذا تجد كثيراً من الناس يترك النصوص الواضحة الظاهرة ويتعلق بشبه، أو يتعلق بأحاديث موضوعة مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يتعلق بمنامات ومرائي رآها في النوم أو رؤيت، أو يتعلق بأمور يزعم أنها مجربة، يقول: إن فلاناً دعا بكذا، وإنه ذهب إلى كذا، وحصل له كذا وكذا، وهذه كلها لا تغني شيئاً، وإنما الذي يعتمد عليه هو ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وما قاله آمراً به أمته أو ناهياً لها أن تفعله.
هذا الذي يجب أن يؤخذ ويجب أن يعتنى به، أما ما عليه هؤلاء من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو الاعتماد على الرؤى، أو الاعتماد على أقوال بعض الذين يزعمون أنهم حصل لهم ما حصل، فهذا كله لو تعلق به الإنسان فإنه غير معذور، والله سائله عما أرسل به رسوله صلى الله عليه وسلم، لا عن المرائي ولا عن فعل الناس ولا عن شيء عدا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو الذي سيسأل عنه الإنسان، فإن الله سيسأل المتقدمين والمتأخرين: ماذا أجبتم المرسلين؟ والسؤال للتهديد، والتعذيب بعد ذلك.
فإذا كان الإنسان لم يقدم عملاً وفق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم متبعاً قوله، منتهياً عن نهيه وإلا فهو هالك، فالحماية في هذا يقصد بها أمر زائد على الأوامر التي تأمر بالتوحيد، وتنهى عن الشرك، فهي أمور زائدة على ذلك، كالنهي عن الوسائل التي تقرب من الشرك، كالنهي عن أمور قد يفعلها الإنسان وهي جائزة ولكن قد يدخل منها إلى أمور لا تجوز، وهي التي تسمى بالوسائل والذرائع، وهذا موجود في كتاب الله وفي أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم بكثرة، وسيذكر الشارح شيئاً من ذلك.(66/2)
قوله تعالى: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم)
قال المصنف رحمه الله: [وقول الله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة:128 - 129]] هذه الآية استدل بها على صيانة رسول الله صلى الله عليه وسلم جانب التوحيد أن يدخل عليه شرك سواء كان دقيقاً أو صغيراً، خفياً أو جلياً.
{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ} [التوبة:128] (رسول) علم على من أرسله الله جل وعلا برسالة، وكل أمة لها رسول، ولا يصلح الناس إلا برسول؛ ولهذا تتابعت الرسل من أول الخلق إلى آخرهم، ولكن الله ختمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، وجعله رسولاً لأهل الأرض كلهم، فإذا كان رسولاً لأهل الأرض جميعاً فالخطاب هنا (لقد جاءكم) هل يكون عاماً أو يكون خاصاً لقوم معينين؟ الواقع أنه عام، ولكن الخطاب فيه للعرب؛ لأنهم أخص الناس بذلك، وهذا يقتضي أن يشكروا الله ويحمدوه على هذه النعمة العظيمة؛ لأنهم أخص من غيرهم، وإلا فغيرهم من الناس كلهم يدخل في هذا الخطاب؛ لأن الخطاب للأمة إلى يوم القيامة، والأمة التي أرسل إليها الرسول صلى الله عليه وسلم ليسوا العرب فقط، بل العرب والعجم بأنواعهم والجن والإنس، كلهم مخاطبون بذلك، ولكن من كان الرسول منهم بالنسب واللغة ومعرفة المولد والمنشأ والمخرج والمدخل؛ فالنعمة عليهم أتم، والمنة عليهم أعظم، فيجب أن يشكروا الله جل وعلا أكثر من غيرهم.
{مِنْ أَنفُسِكُمْ} يعني: من جنسكم، يخاطبكم بلغتكم، تعرفون نسبه، وترجعون أنتم وهو إلى أب واحد وهو إسماعيل عليه السلام، وهذا استجابة من الله لدعاء إبراهيم عليه السلام: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة:129] فبعث منهم الرسول، فامتن الله جل وعلا عليهم بذلك، (من أنفسكم) يعني: أنه من جنسكم تعرفون لغته، وتعرفون أمانته وصدقه، فمن كان كذلك كانت المنة عليه أعظم، فيجب أن يشكر الله، أما إذا انعكست القضية وقابلوا هذه المنة العظيمة بالرد والنفور عنها، والتكذيب والكفران لها؛ فإن العذاب عليهم يكون أشد من غيرهم ممن لا يعرف هذه الأمور.
ومن المعلوم أن الله جل وعلا عذب الأمم التي كذبت الرسل، وقص الله جل وعلا ذلك علينا، وقد أخبرنا ربنا جل وعلا أنه فضل بعض الرسل على بعض، وقد علم أن رسولنا صلوات الله وسلامه عليه هو أفضل الرسل، ومن المعلوم أن من كذب أفضل الرسل يكون عذابه أشد ممن كذب من هو دونه؛ لأن الفضل لا بد أن يأتي بزيادة بيان وزيادة إيضاح وزيادة حجة، بحيث يصبح الإنسان لا عذر له بوجه من الوجوه، فيكون مصادماً تمام المصادمة لما جاء به، فيكون عذابه أشد.
وقوله: (حريص عليكم) يعني: حريص على إيمانكم، وعلى طاعتكم، وعلى ما ينفعكم؛ ولهذا نهاه الله جل وعلا أن يحزن وأن يأسف الأسف الذي يعود عليه بالضرر، فقد كاد يهلك نفسه حرصاً على إيمانهم، فنهاه ربه جل وعلا عن شدة حرصه عليهم، وتأسفه على عدم إيمانهم، وأخبره جل وعلا أن ما عليه إلا البلاغ المبين، وهذا يكفي.(66/3)
معنى قوله: (عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم)
{عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (عزيز عليه): يعني: يشق عليه عنتكم، والعنت هو الأمر الذي يقع لهم العذاب من جهته، وهذا يقتضي أنه لا بد أن يبين لهم ما ينفعهم، وأن يحميهم من السلوك في المسالك التي تضرهم إذا سلكوها، هذا وجه الاستدلال، (عزيز عليه ما عنتم) يعز عليه -أي: يشق عليه- عنتكم، يعني: الشيء الذي فيه عذابكم وفيه هلاككم شاق عليه صلوات الله وسلامه عليه.
(حريص عليكم) أي: حريص على هدايتكم (بالمؤمنين رءوف رحيم) ورأفته ورحمته بهم أن ينالهم عذاب الله أشد وأعظم من رأفته ورحمته بهم أن ينالهم شيء من أمور الدنيا المؤذية، فتضاعف رأفته ورحمته بأن يبين لهم الطريق الذي يسلكونه ويسلمون به من عذاب الله الأخروي، ومن مقتضى ذلك أن ينهاهم عن كل طريق يوصل بهم إلى ما يسخط الله جل وعلا ويغضبه.
والرأفة شدة الرحمة، فهي أبلغ من الرحمة، (رءوف) يعني: أنه وصل الغاية في رحمتهم، رءوف بالمؤمنين ورحيم بهم، وتقديم المعمول يدل على الاختصاص، أي: أن رأفته ورحمته بالمؤمنين فقط، وأما الكافرون فهو غليظ وشديد عليهم كما وصفه الله جل وعلا في قوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} [الفتح:29]، وقال جل وعلا في أمره بذلك: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:73] أمره أن يغلظ عليهم؛ ولهذا كان ممتثلاً لذلك، فرأفته ورحمته صلوات الله وسلامه عليه هي بالمؤمنين فقط، أما الكافرون فهو قتّال لهم، وشديد عليهم؛ ولهذا جاء في صفته في الكتب السابقة (الضّحاك القتّال) صلوات الله وسلامه عليه، يعني: ضحاك للمؤمنين، قتّال للكافرين، والمؤمن يجب أن يكون متحلياً بحلته، ومتصفاً بصفته، فإنه قدوته صلوات الله وسلامه عليه.(66/4)
معنى قوله: (فإن تولوا فقل حسبي الله)
قوله: (فَإِنْ تَوَلَّوْا) يعني: إن أبوا قبول ما جئتهم به، وأبوا اتباعك ونصحك مع شدة الرأفة والرحمة وشدة الحرص عليهم، إذا أبوا ذلك وامتنعوا (فقل حسبي الله) يعني: الله يكفيني (حسبي الله لا إله إلا هو) يعني: هو إلهي، وعليه اعتمادي، وهو كافيّ.
(عليه توكلت) وهو نعم الوكيل جل وعلا (فقل حسبي الله لا إله إلا هو) يعني: لا معبود ولا مألوه أتعبده وأخضع له وأذل له وأعتمد عليه وأتوكل عليه إلا هو جل وعلا، فهذا أمره جل وعلا الخاص بذلك في دعوته وفي كونه لا يحزنه المخالفات، لا يحزن إذا خولف، وإذا أبى القوم أن يقبلوا ما جاء به فإن عليه أن يقول: (حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم) يعني: اعتمادي عليه، وهو الذي يكفي من اعتمد عليه، وهو رب العرش العظيم الذي هو أعظم المخلوقات وأكبرها، وإضافته إليه تدل على التعظيم والتشريف والتكريم، فإذا كان رب العرش العظيم فكل شيء تحت قهره، وتحت سلطانه، وفي قبضته؛ فلا يهمك كونهم خالفوا، أو كونهم أبوا، فإنهم في قبضة الله، وسوف يعذبهم العذاب الذي يستحقونه.
وجه الدلالة من هذه الآية ظاهر، وهو أن الله جل وعلا وصف رسولنا صلى الله عليه وسلم بالحرص على ما ينفعنا، فهو حريص على إيماننا، ويشق عليه الشيء الذي يعنتنا ويشق علينا؛ فلا بد أن يبين البيان الذي يكون فيه حمايتنا من الوقوع في المخالفات، ولا بد أن يحضنا الحض الذي يكفي في كون الإنسان يعبد ربه، ولا تكون العبادة لغيره بوجه من الوجوه.(66/5)
النبي عليه الصلاة والسلام بالمؤمنين رءوف رحيم
النبي بالمؤمنين رءوف رحيم، وهذا يقتضي أنه صلى الله عليه وسلم يحمي جناب التوحيد، حتى لا يدخل على المؤمن شيء مما ينقص التوحيد أو يذهبه أو يذهب بكماله؛ لأن هذه كلها من مقتضيات العذاب، وقد جاءت الأحاديث عنه صلوات الله وسلامه ببيان هذا المعنى، كما جاء عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يطير بجناحيه إلا وقد ذكر لنا منه علماً، وفي صحيح مسلم أنه قال: (إنه حق على كل نبي بعثه الله جل وعلا أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينهاهم عن كل شر يكون فيه عنتهم) أو نحو ما قال صلوات الله وسلامه عليه، وفي الحديث الذي في الصحيح أيضاً أن يهودياً قال لأحد الصحابة: نبيكم يعلمكم كل شيء حتى الخراءة، يقصد بذلك آداب التخلي والاستنجاء، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يقول لهم: (إذا ذهب أحدكم إلى الخلاء فليستجمر بثلاثة أحجار)، وكان يأمر من أراد قضاء الحاجة أن يبعد، وأن يستتر، ومن الآداب ألا يتجه إلى الهواء حتى لا ترجع عليه النجاسة ونحو ذلك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني بمنزلة الوالد لكم، أعلمكم ما ينفعكم)، فهو صلوات الله وسلامه عليه ما ترك شيئاً ينفعنا إلا وعلمنا إياه، وهذا مقتضى كونه حريصاً على هدايتنا، وكون ما يعنتنا شديداً عليه، ويشق عليه، فالنبي صلوات الله وسلامه عليه بالمؤمنين رءوف رحيم، فوجه الدلالة من الآية ظاهر جلي، فلا بد أن يكون حرصه على بيان التوحيد وعلى بيان الشرك الذي هو أعظم الذنوب أشد من حرصه على كونه صلى الله عليه وسلم يعلم الأمة أدب التخلي، وأدب الأكل، وأدب الشرب، وأدب النوم، وأدب الجلوس، وأدب دخول المنزل، وغير ذلك، وهذا كله ثابت عنه صلوات الله وسلامه عليه.
فهل يعقل أنه يبين هذه الأمور التي لو تركها الإنسان ما يقتضي تركه أن يعذب، ويترك الأمر الذي لو فعله الإنسان ترتب على فعله عذاب؟ هذا لا يعقل، لا بد أنه صلوات الله وسلامه عليه اعتنى بذلك، أما الذين فتنوا بعبادة نظرائهم وأمثالهم من الخلق، وصارت قلوبهم فارغة من تعظيم الله وتقديره؛ فإنهم يتلمسون ما يكون دليلاً على الشرك، ويبحثون عنه، ومن المعلوم أن الإنسان إذا فتن فإنه يعمى عن الحق، ويفتح عينيه على الباطل، ويصبح قابلاً لما يهواه، ومبغضاً لمن ينهاه عما هو فيه، غير قابل له؛ ولهذا أخبرنا ربنا جل وعلا أننا إذا رأينا الذين يتبعون ما تشابه من القرآن ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله أن نحذرهم، وأخبرنا ربنا جل وعلا أنه أنزل {آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران:7] وقد جاء النص عن النبي صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها- أنه قال: (إذا رأيتم الذين يتبعون المتشابه فأولئك الذين سماهم الله فاحذروهم) مع أن القرآن ليس فيه شيء يدل على الباطل، ولكن فيه شيء مجمل قد يحتمل أمراً باطلاً ولو من بعيد، فيتعلق به من كان مفتوناً.
كما أنه جل وعلا أخبرنا أن الذي في قلبه مرض الشبهات فإن الحق لا يزيده إلا ضلالاً ويتمادى في الباطل {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة:10]، {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:124 - 125].
إذاً: من كان عنده مرض شبهة فإنه يزداد ببيان الحق وإيضاحه ضلالاً وتمادياً في باطله، وذلك أن الحجة تزداد قياماً عليه، فيستحق من العذاب أكثر؛ ولهذا تجدهم يتعلقون بأمور تافهة، وأمور واهية، بل بأحاديث مكذوبة موضوعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويفرحون بها إذا وجدوها، وقد يجرؤ بعضهم على تصحيحها ويقول: إنها صحيحة، وقد يجرؤ بعضهم على وضع الأسانيد لها كذباً وزوراً، فكيف مقامه أمام الله جل وعلا؟ كل ذلك لما زين في قلبه ونظره من عبادة غير الله، نسأل الله العافية! ومثل هؤلاء ليس البيان والإيضاح لهم، البيان والإيضاح يكون لمن يريد الحق، فالذي يلتبس عليه الحق وهو يريد الحق ينتفع بالإيضاح والتبيين، أما من كان قلبه ملبساً بالفتنة وقابلاً لها فإنه لا يزداد بذلك إلا غياً وتمادياً في الباطل.(66/6)
حماية المصطفى لجناب التوحيد
قال الشارح رحمه الله: [قوله: باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك.
الجناب: هو الجانب، والمراد حمايته عما يقرب منه أو يخالطه من الشرك وأسبابه.
قوله: وقول الله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة:128 - 129] قال ابن كثير رحمه الله: يقول الله تعالى ممتناً على المؤمنين بما أرسل إليهم رسولاً من أنفسهم، أي: من جنسهم وعلى لغتهم كما قال إبراهيم عليه السلام: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} [البقرة:129]، وقال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران:164]، وقال: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ} [التوبة:128] أي: منكم كما قال جعفر بن أبي طالب للنجاشي والمغيرة بن شعبة لرسول كسرى: إن الله بعث فينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصفته ومدخله ومخرجه وصدقه وأمانته، وذكر الحديث، قال سفيان بن عيينة عن جعفر بن محمد عن أبيه في قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ} [التوبة:128] أي: لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية].
ليس هذا مما نصت عليه الآية، ولكن هذا من مفهومها البعيد، ومن المعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نسبه ينتهي إلى معد بن عدنان، وهذا متفق عليه ولا خلاف في ذلك بين أهل النسب، وكذلك نسب أمه ينتهي إليه، أما ما بعد معد بن عدنان فهذا فيه خلاف لأنه بعيد، والمؤرخون اختلفوا في ذلك إلى إسماعيل بن إبراهيم، ولكن هو من ذرية إسماعيل يقيناً؛ لأن بعض العرب من ذريته.(66/7)
بعض العرب من ذرية إسماعيل بن إبراهيم
العرب ينقسمون إلى قسمين: قسم يعود إلى يعرب بن يشجب الذي ينتهي نسبه إلى هود عليه السلام، وهؤلاء هم الذين يسمون العرب العاربة.
وقسم آخر ينتهي نسبهم إلى إسماعيل بن إبراهيم، وهو أكبر ولده، وهو ابن جاريته التي وهبتها له زوجه سارة، واسمها هاجر، وقد وهبها لها الطاغية الذي أمر أن تدخل عليه لما قيل له: إن رجلاً دخل بلادك معه امرأة ما تصلح إلا أن تكون لك لجمالها، فأخذ إبراهيم وقال: من هذه التي معك؟ فقال: هي أختي، وعلم أنه إذا قال: هي أختي لا يتسلط عليها، لسبب لا ندري ما هو، ولو قال: إنها زوجتي لأخذها، فقال: إنها أختي، وهذه إحدى الكذبات التي يعتذر بها إبراهيم عليه السلام حين تطلب منه الشفاعة، فقال لها بعد ما رجع من عند هذا الطاغية: إنه سألني عنك، وقلت: إنك أختي، فلا تكذبيني، فإنك أختي في الإسلام، فليس اليوم مسلم غيري وغيرك.
فذهبت إليه فسألها فقالت: أنا أخته، ومع ذلك مد يده إليها، فأمُسكت يده مسكة شديدة، وكان إبراهيم يصلي ويدعو ربه ألا يسلط هذا الظالم على زوجته، فلما أمسكت يده عرف أنه بسبب ذلك، فقال لها: ادع الله أن يفك يدي ولا أنالك بأذى، فدعت الله جل وعلا ففكت يده، ثم رجع مرة ثانية ليتناولها، فأمسكت أشد من الأولى حتى صار يركض برجله الأرض من شدة ما أصابه، فقالت: اللهم إن يمت يقولون: قتلته، فدعت ألا يموت من هذا الشيء، ثم انتبه وقال: ادع الله أن يفك يدي ولا أنالك بأذى، فدعت الله جل وعلا ففك يده، فأراد مرة ثالثة فأصابه أشد من تلك، ثم بعد ذلك قال: ادع الله أن يفكني ولن أنالك بشيء، فدعت الله فدعا قومه، وقال: أخرجوها عني فإنكم جئتوني بشيطان، لم تأتوني بآدمي، وأمر أن تخدم بجارية.
ثم بعد ذلك وهبت سارة هذه الجارية لإبراهيم، وقد أعلمنا الله جل وعلا أنه بلغه الكبر ولم يولد له مولود، ثم جاءته الملائكة تبشره بغلام، ثم إن هذه الجارية حملت، فلما ولدت غارت عليها سارة زوجته، كيف تحمل وهي لم تحمل؟! فأمره الله جل وعلا أن يهاجر بها إلى مكة مع ولدها وهو صغير يرضع، فذهب بها ووضعها عند مكان البيت، ولم يكن هناك بيت؛ لأنه هو الذي بناه هو وهذا الغلام، ثم ولى راجعاً إلى الشام، ووضعها في ذلك المكان الخالي القفر، الذي ليس فيه ماء ولا أنيس ولا حسيس، ثم ولى راجعاً، وكان معها قليل من الماء وقليل من الطعام، فلما ولى راجعاً صارت تناديه: يا إبراهيم! إلى من تتركنا؟ ولا يجيبها بشيء، ولا يلتفت إليها، ولما رأت ذلك قالت له: آلله أمرك؟ فقال: نعم، عند ذلك وقفت ورجعت، وقالت: إذن لن يضيعنا الله جل وعلا.
ورجعت إلى ابنها، وصارت ترضعه حتى نفد الماء، وانتهى الطعام، فنشف ضرعها، فجاع الصبي وظمأ ثم أدركه الموت، فكرهت أن تجلس تنظر إليه وهو يموت، فنظرت فإذا أقرب مرتفع إليها هو الصفا، فذهبت وصعدت تتطلع لعلها ترى أحداً، فلما لم تر أحداً نزلت متجهة إلى المروة تبحث لعلها ترى أحداً، فعلت ذلك سبع مرات، وفي السابعة سمعت صوتاً فقالت لنفسها: صه؛ لأنها سمعته ولم تتأكد، ثم سمعته مرة أخرى فقالت: لقد أسمعت إن كان عندك غوث فأغث، فنظرت فإذا برجل واقف عند إسماعيل ابنها، فذهبت إليه فإذا هو جبريل عليه السلام، فحفر الأرض بطرف جناحه فنبع الماء من زمزم فصارت تحجر على الماء حتى لا يذهب، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (رحم الله أم إسماعيل، لو تركت زمزم لكانت عيناً معيناً) يعني: لصارت عيناً كثيرة الماء تسير، وصارت تشرب منها وترضع ابنها.
ثم جاء قوم من اليمن من جرهم، ونزلوا في أسفل الوادي، فرأوا الطير تحوم على الماء، وقالوا: عهدنا بهذا الوادي وليس فيه ماء، والطير لا بد أنها تحوم على ماء، فأرسوا واردهم يختبر لهم ذلك، فوجد الماء ووجد المرأة عنده، فاستأذنها بأن يأتوا إلى الماء، وأصابوا منها أنها تحب الأنيس، فقالت: نعم، ولكن لا حق لكم فيه، يعني: تشربوا منه وليس لكم حق في أصله، فرضوا بذلك.
فكبر الصبي، وتعلم العربية منهم، ثم تزوج منهم، وكان إبراهيم يأتي كل فترة يبحث ويطالع ابنه، وماتت أم إسماعيل، وتزوج إسماعيل، فجاء مرة ولم يجده، فسأل زوجته: أين بعلك؟ فقالت: ذهب يطلب لنا الطعام، فقال: ما حالكم؟ قالت: نحن في شر، ما عندنا طعام، ولا عندنا كذا وكذا، فقال: إذا جاء زوجك فأقرئيه مني السلام، وقولي له: غير عتبة بابك، فلما جاء إسماعيل كأنه أحس فقال: هل أتاكم أحد؟ قالت زوجته: نعم جاءنا شيخ صفته كذا وكذا، قال: هل أوصاكم بشيء؟ قالت: نعم، يقرؤك السلام، ويقول لك: غير عتبة بابك، فقال: أنت عتبة بابي، وذاك والدي، اذهبي إلى أهلك، ثم تزوج أخرى، فجاء إبراهيم مرة أخرى ولم يجده، ووجد الزوجة، فسألها عن حالتهم فقالت: نحن بخير، فقال: ما طعامكم؟ فقالت: اللحم، قال: وما شرابكم؟ قالت: الماء، قال: اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم، ويقولون: إن الإنسان لا يعيش على الشيئين إلا في مكة بدعوة إبراهيم عليه السلام، فقال لها: إذا جاء بعلك فاقرئيه السلام، وقولي له: أمسك عتبة بابك، فلما جاء أحس فسأل: هل جاءكم أحد؟ قالت: نعم، شيخ صفته كذا وكذا، فقال: هل أوصاكم بشيء؟ فقالت: نعم.
يقرؤك السلام ويقول لك: أمسك عتبة بابك، فقال: ذاك أبي وأنت عتبة بابي، ثم جاء مرة أخرى فوجده تحت شجرة يبري له نبلاً، فاعتنقه وصنع معه ما يصنع الوالد مع ولده إذا لقيه بعد غيبة، ثم قال له: إن الله أمرني أن أبني هنا بيتاً، فهل أنت مساعدي؟ قال: نعم، فبدأ ببناء البيت، كما قال الله جل وعلا: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} [البقرة:127 - 128] إلى آخر القصة.
أما قضية الذبح فإنها كانت قبل هذا، وكانت بمكة، وسارة لم تأت إلى مكة، كان مقرها الشام؛ ولهذا كان القول بأن الذبيح إسحاق قول باطل بعيد عن الصواب، وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرن الكبش الذي فدي به إسماعيل موجود في الكعبة معلق فيها، وهذا شيء يعرفه المؤرخون.(66/8)
قصة دخول بني إسرائيل مصر
نبينا صلى الله عليه وسلم من ذرية إبراهيم، ولم يبعث رسول بعد إبراهيم إلا من ذريته، كل الرسل الذين بعثوا بعده هم من ذرية إبراهيم، ولكن أكثرهم من أبناء إسحاق، كل رسل بني إسرائيل من ذرية إسحاق، بُدِئوا بموسى وختموا بعيسى، فأول أنبياء بني إسرائيل موسى عليه السلام، وهو الذي خرج بهم من مصر من تعذيب فرعون، وأول دخولهم مصر حينما كاد إخوة يوسف إياه، وألقوه في البئر، ثم جاء ركب من مصر، ووجدوا الغلام في البئر فأخذوه وفرحوا به، ثم ذهبوا به وباعوه في مصر بثمن زهيد، واشتراه عزيز مصر (الوزير).
ثم بعد ذلك مكنه الله جل وعلا، وجعله وزيراً للمالية على ما نتعارف عليه اليوم، وصارت أمور مصر تحت يده بعدما أصابهم ما أصابهم من القحط، وجاء إخوته يبحثون عن الطعام، فعرفهم وهم له منكرون، فسألهم عن حالهم وعن أبيهم وقال: هل لكم من أخ؟ قالوا: نعم، وذكروا عنه ما لا يرضى، وهو أخوه من أمه وأبيه، ولكن أم هؤلاء غير أم يوسف وأم أخيه، فقال لهم: ائتوني بأخيكم من أبيكم حتى أوفي لكم الكيل وأزيدكم، وإن لم تأتوني به فلن يحصل لكم كيل، ثم أمر غلمانه أن يجعلوا الأثمان التي اشتروا بها الطعام في رحالهم، حتى إذا رجعوا وعرفوها لزمهم الرجوع لأداء الحق؛ لأنهم لم يتركوا ذلك.
ثم لما جاءوا جعل المكيال الذي يكيل به في رحل أخيه، ثم أمر مؤذن أن يؤذن: أيتها العير إنكم لسارقون، قالوا: ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين، فقال: ما جزاؤه إذا تبين لنا كذبه؟ قالوا: جزاؤه من وجدت معه السرقة هو لك، فأمر أن يبدأ بتفتيش رحالهم أولاً، ثم استخرجها من رحل أخيه، عند ذلك أصبحوا مستسلمين لهذا الأمر.
ثم بعد هذا لما رجعوا إلى أبيهم قالوا: {إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} [يوسف:81] فقال لهم: لم يسرق ولكن {سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا} [يوسف:18]؛ لأنه ظن أنهم فعلوا به كما فعلوا بيوسف لما جاءوا إليه يبكون وقالوا: إن الذئب أكله ولم يصدقهم بذلك وقال: {وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18] يعني: أنه أمر دبرتموه على غير ما قلتموه، ويعقوب عليه السلام نبي كريم، وهو ابن إسحاق، ثم أمرهم أن يعودوا ويبحثوا عن يوسف وأخيه، وقال: لا تيأسوا من رحمة الله، فذهبوا ودخلوا على يوسف وهم لا يعرفونه فقالوا: {أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} [يوسف:88]، فهنا جاءت الفرصة {قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ} [يوسف:89] عند ذلك تنبهوا {قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:90].
عند ذلك {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف:91] ماذا قال؟ {قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ} [يوسف:92] يعني: لن أعاتبكم، ولن آخذ بثأري، بل أعفو عنكم، وأسأل الله أن يغفر لكم، وهذا هو الكرم والعفو المتناهي، ثم أمرهم أن يذهبوا بقميصه إلى أبيه، فإنهم إذا ألقوه عليه رجع إليه بصره، وقد كف بصره من الحزن، وأمرهم أن يأتوا بأهلهم جميعاً، فجاءوا وسكنوا مصر.
ثم لما جاء فرعون تسلط عليهم، وصار يقتل أبناءهم، ويترك نساءهم.
كان أولاً يقتل كل مولود سواء كان ذكراً أو أنثى من بني إسرائيل، والسبب في هذا أنه قال له الكهنة والسحرة أو غيرهم: إن زوال ملكك سيكون على يد مولود من بني إسرائيل، عند ذلك قال: لن ندع مولوداً يعيش، فصار يقتل، فقالوا له: سيفنى بنو إسرائيل وتتعطل أعمالنا؛ لأنهم كانوا يسخرونهم في الأعمال، في البناء وغيرها مثل ما هو مشاهد الآن من الأهرام وغيرها من آثار فرعون، يعملون تحت السياط، حملهم على العمل بالتعسف والظلم، كحمل الصخور حتى يبنوا بالقهر والقوة، فعند ذلك قال له أعوانه الظلمة: تتعطل أعمالنا، قال: ما الحيلة؟ فقالوا: تقتلهم سنة، وتبقيهم سنة، حتى نستطيع أن نشغلهم في الأعمال، فولد موسى عليه السلام في السنة التي فيها القتل، أما هارون فولد في السنة التي لا يقتل فيها المواليد.
والمقصود أن كل رسل بني إسرائيل من أولاد يعقوب بن إسحاق، ويعقوب هو إسرائيل الذي ذكر في القرآن كثيراً: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} [البقرة:40]، ويعقوب أولاده إثنا عشر ثم كثر نسلهم وانتشروا، قيل: إنهم لما خرجوا من مصر كانوا سبعين ألفاً، والواقع أنهم أكثر من سبعين ألفاً، وكلهم أولاد يعقوب، وهو إسرائيل النبي الكريم.
لما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: (من أكرم الناس؟ قال: يوسف الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم -يعني يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم- فقيل له: ليس عن هذا نسألك، فقال: تسألوني عن معادن العرب، خيركم في الجاهلية خيركم في الإسلام إذا فقهوا).
فالمقصود: أن إسرائيل نبي كريم؛ ولهذا ما يجوز أن نسمي شذاذ الخلق وخبثاءهم اليوم من اليهود إسرائيل، الناس اليوم يسمونهم دولة إسرائيل، والواجب أن يسموا اليهود؛ لأن إسرائيل نبي، والنبي بريء من كل من خالف نهجه وطريقته، وإن كان من أولاده، وإن كان من أبنائه، فالنسب لا يفيد شيئاً، وإنما يفيد العمل.
والمقصود: أن نسب رسولنا صلى الله عليه وسلم ينتهي إلى إبراهيم بلا إشكال، وهذا أمر يجب القطع به، وقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم في عدة أحاديث أنه صلوات الله وسلامه عليه ابن إسماعيل، وإسماعيل لم يبعث نبي من ذريته إلا محمد صلوات الله وسلامه عليه، بخلاف إسحاق فإن جميع الأنبياء من أولاده.
أما ما ذكر أن خالد بن سنان نبي من العرب، وأن قومه هم أصحاب الرس؛ فهذا لم يثبت، وجاءت فيه أحاديث الله أعلم بها، وجاء أنه نبي ضيعه قومه، وإذا صحت الأحاديث وجب اعتقاد ذلك، ولكن لم تثبت الأحاديث.(66/9)
الشريعة الإسلامية حنيفية سمحة
قال الشارح: [وقوله: (عزيز عليه ما عنتم) أي: يعز عليه الشيء الذي يعنت أمته ويشق عليها؛ ولهذا جاء في الحديث المروي من طرق عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بعثت بالحنيفية السمحة)، وفي الصحيح: (إن هذا الدين يسر) وشريعته كلها سمحة سهلة كاملة يسيرة على من يسرها الله عليه].
وكلمة حنيف معناها مبتعد عن الشرك، مبتعد عنه قصداً مع العلم والقوة، ولهذا قالوا: إن هذا الدين الذي جاء به الرسول هو أشد الأديان وأعظمها في مسألة الشرك، ولكن في الشرع وأعمال الفروع هو أسمح الأديان وأسهلها، أما في العقيدة فهو أشدها وأعظمها، يبعد عن الشرك ووسائله، فالحنيف غير السمح السهل.
إبراهيم عليه السلام كان حنيفاً يعني: بعيداً عن أن يقع في شيء من الشرك، تاركاً للشرك قصداً، مائلاً إلى توحيد الله جل وعلا وإخلاص العمل له وحده، فهكذا هذه الأمة على هذا النهج، أما في الشرائع فإنها سهلة وسمحة، فهي أيسر الشرائع كلها، وعرف من الأمثلة الشيء الكثير، فإن بني إسرائيل كانت عليهم آصار وأغلال في شرائعهم، كانوا لا يصلون إلا في بيعهم وكنائسهم، وإذا خرج الإنسان من ذلك المكان فلابد أن يرجع إليه ويصلي فيه، وكان أحدهم إذا أصاب ثوبه نجاسة ما يكفي أن يغسله، لا بد أن يقرضه بالمقراض ويلقيه، وهذا من الآصار، وحرمت عليهم أشياء من الأطعمة، وحرم عليهم أشياء كثيرة أحلت لهذه الأمة تسهيلاً وسماحة من الله جل وعلا، ومن القواعد التي يذكرها العلماء وتؤخذ من كليات الشرع: المشقة تجلب التيسير، كل شيء يشق على الناس فلا بد أن يكون الدين جاء بتيسيره وتسهيله، وهذه قاعدة جعلوها أصلاً يرجعون إليها.(66/10)
رحمة الرسول بالمؤمنين
قال الشارح: [قوله: (حريص عليكم) أي: على هدايتكم، ووصول النفع الدنيوي والأخروي إليكم، وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: (تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في الهواء إلا وهو يذكر لنا منه علماً) أخرجه الطبراني، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما بقي شيء يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بينته لكم).
وقوله: (بالمؤمنين رؤوف رحيم) كما قال تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} [الشعراء:217].
وهكذا أمره تعالى في هذه الآية الكريمة وهي قوله: (فإن تولوا) أي: عما جئتهم به من الشريعة العظيمة المطهرة الكاملة {فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة:129]] هذا يدل على اختصاص رأفته ورحمته بالمؤمنين، أما الكافرون فهو لايرحمهم، بل هو شديد عليهم، كما قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:73]، وقوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29]، بينهم رحماء، ولكن على الكفار أشداء، وهذا وصفه على ضوء أمر الله له، حينما قال له: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:73]، فرأفته ورحمته خاصة بالمؤمنين صلوات الله وسلامه عليه.
[قلت: فاقتضت هذه الأوصاف التي وصف بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حق أمته أن أنذرهم وحذرهم الشرك الذي هو أعظم الذنوب، وبين لهم ذرائعه الموصلة إليه، وأبلغ في نهيهم عنها، ومن ذلك تعظيم القبور والغلو فيها، والصلاة عندها وإليها ونحو ذلك مما يوصل إلى عبادتها كما تقدم وكما سيأتي في أحاديث الباب].
يعني أنه بين هذا ووضحه، ومن ذلك النهي عن الصلاة عند القبور.(66/11)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [67]
سد النبي صلى الله عليه وسلم كل طريق يوصل إلى الشرك، ومن ذلك أنه نهى أن يجعل قبره عيداً، وأخبر بأن السلام عليه يصله حيث كان المُسلِّم.(67/1)
حديث: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم) رواه أبو داود بإسناد حسن ورواته ثقات].
هذا الحديث من أدلة حمايته صلوات الله وسلامه عليه لجناب التوحيد حتى لا يخدش أو ينال بشيء يكدر صفوه، وحتى لا تكون العبادة فيها شيء لغير الله، قال: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا علي أينما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني) هذه الكلمات فيها إرشاد للأمة، وفيها حماية لعبادة الله جل وعلا، وصيانة لحق الله جل وعلا، ورأفة بالمؤمنين، ورحمة منه صلوات الله وسلامه عليه.
وقوله: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً) ليس المعنى: لا تقبروا الموتى في بيوتكم، هذا غير مقصود؛ لأن هذا ما أحد يعمله، لا أحد يجعل بيته مقبرة؛ لأن الإنسان إذا مات عنده الميت يضيق به ذرعاً، ويود بكل سرعة أن يخرجه من بيته، ويذهب به إلى المقابر، هذا شيء معروف عند الناس كلهم، وإنما المقصود: لا تعطلوا بيوتكم من الصلاة والذكر والتلاوة والعبادة، فتكون مثل المقبرة، وهذا يدلنا على أنه متقرر عند المسلمين من أول الأمر أن المقابر ليست محلاً للعبادات؛ ولهذا قال: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً) يعني: لا تجعلوها شبيهة بالقبور؛ ولهذا جاء في الحديث الثاني: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً فإن الشيطان يفر من البيت الذي تتلى فيه سورة البقرة)، فدل على أنه قصد بقوله: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً) تعطيلها من العبادة، لا تعطلوها من العبادة، وذلك أن القبور معطلة من العبادة، ما يتعبد أحد عندها، وليست محلاً لأن يعبد الله جل وعلا فيها، ومن فيها مرتهن ما يستطيع أن يعبد الله، ما يستطيع أن يستغفر، ما يستطيع أن يتوب، ما يستطيع أن يكتسب حسنة واحدة، أو يتوب عن سيئة واحدة؛ لأن الأعمال ختم عليها بالموت، إذا مات الإنسان انقطع عمله، أما ما جاء في صحيح مسلم أنه استثني من ذلك ثلاث، فالواقع أن الثلاث من عمله، يقول: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) فهذه من عمله في الواقع، الصدقة الجارية من عمله، وسميت جارية على حسب الوضع وإلا فلابد أن تنقطع في يوم من الأيام، ولكنها تستمر وقتاً ما ثم تنقطع.
أما العلم الذي ينتفع به فيقصد به التعليم، إذا كان يعلم الناس الخير بالنية الصالحة والقصد الحسن، لا أن يعلم الناس ويريد أن يثنوا عليه أو يحبوه ويمدحوه، فإن كانت هذه صفته فبئس الحالة حالته، فهو مأزور، ولا يكون له أجر، فضلاً عن أن يجري عليه هذا العمل، وكذلك إذا أبقى بعده علماً مكتوباً ينتفع به إذا كانت نيته صالحة أراد به وجه الله جل وعلا، وأراد الدعوة إليه، وبيان الحق، ونفع العباد، فهذا ينتفع بهذا العلم، أما إذا أراد النقود من كتب العلم، يريد أن يحصل الدنيا فليس له إلا ما حصل، وليس له إلا ما دخل في جيبه فقط، أما الذي يجرى عليه فهو أن يعذب نسأل الله العافية؛ لأن الذي يريد بالأعمال الصالحة عرضاً دنيوياً ليس له إلا النار، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أول من تسجر بهم النار ثلاثة: شهيد ومتصدق ومتعلم أو قال: عالم، فيؤتى بالشهيد فيقرر بنعم الله جل وعلا فيقر بها، فيقول الله جل وعلا له: ماذا صنعت؟ فيقول: يا رب! بذلت نفسي في سبيلك حتى قتلت، فيقول الله جل وعلا له: كذبت، بذلت نفسك ليقال: شجاع، جريء، وقد قيل، ثم يؤمر به فيسحب إلى النار) ما صار له من جهاده ومن قتله وإراقة دمه إلا قول الناس: هذا شجاع، هذا جريء، هذا مقدام، هذا فيه كذا وكذا، يعني: أجره المدح فقط، أما في الآخرة فهو من الخاسرين نسأل الله العافية، وذلك لأنه قصد الترفع على الناس، هذا قصده؛ لأنه إذا أثني عليه ومدح صار فوق الناس في ذلك.
(ويؤتى بالمتصدق ويقرر بنعم الله فيقرر بها) ومعنى يقرر أن تذكر له، ألم يخلقك الله ولم تكن شيئاً؟ فيقول: بلى، فيقول: ألم يجعل لك سمعاً وبصراً وعقلاً؟ فيقول: بلى يا رب، ألم يفضلك على كثير من خلقه؟ فيقول: بلى يا رب، ألم ينعم عليك بالنعم من الأرزاق؟ ألم يزوجك؟ ألم يجعل لك أولاداً؟ إلى غير ذلك من النعم، فيقر بها ولا يستطيع أن ينكر، ويقول: بلى يا رب، عند ذلك يقول: (ماذا صنعت؟ -يعني: ماذا عملت مقابل هذه النعم؟ -فيقول: يا رب! ما تركت باباً من أبواب الخير إلا أنفقت الأموال في سبيلك ابتغاء وجهك، فيقول الله: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، تبعاً لقول الله جل وعلا، ولكنك تصدقت ليقال: هو جواد، هو كريم، وقد قيل -يعني: قد أخذت أجرك من قول الناس - فيؤمر به فيسحب إلى النار.
ويؤتى بالعالم أو المتعلم، فيقرر بنعم الله فيقر بها، فيقول الله جل وعلا: ماذا صنعت فيها؟ فيقول: يا رب! تعلمت فيك العلم وعلمته، فيقول الله جل وعلا: كذبت، ولكنك تعلمت ليقال: هو عالم، وقد قيل -يعني: قد أخذت أجرك واستوفيته- فيسحب إلى جهنم)، هؤلاء أول من تسجر بهم جهنم.
وعالم بعلمه لم يعملن معذب من قبل عباد الوثن يلقى في جهنم قبل عباد الوثن نسأل الله العافية، وهو مسلم في الظاهر، بل عالم في الظاهر، فهكذا إذا كان الإنسان ترك علماً أو ترك صدقة جارية فإنه متوقف على نيته وقصده ومراده وإخلاصه، إن كان قصده صالحاً ونيته طيبة مخلصاً لله فليبشر بالخير، وإن كان العمل قليلاً، فإن الله جل وعلا يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} يعني: مثقال الذرة (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:40].
إذا بقي للإنسان من الحسنات بعد المحاصة والمقاصة والموازنة مثقال ذرة ضاعفها الله جل وعلا له وأدخله بها الجنة.
إذاً: ليس الاهتمام بالكثرة، وإنما الاهتمام بالصفة، بالإخلاص، بالمقاصد، أن تكون نيته ومقصده لله جل وعلا، وأن يكون عمله موافقاً لسنة المصطفى صلوات الله وسلامه عليه، هذا هو أهم ما لدى الإنسان، فعلى هذا نقول: إن قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً) أمر منه صلى الله عليه وسلم بأن نجعل شيئاً من عبادتنا في البيوت، من الصلاة، ومن الذكر، والدعاء، وتلاوة القرآن، وغير ذلك، ولا يجوز أن يكون البيت محلاً لمأوى الشياطين نسأل الله العافية، والغناء، والصور، والأمور التي ترضي الشيطان، وتغضب رب العالمين، فإنه إذا كان كذلك فإنه يكون مأوى للشياطين، ولهذا يكثر تلبس الجن بكثير من الناس لأجل تعطيلهم ذكر الله جل وعلا، ولأجل كونهم لا يتلون آيات الله؛ ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم: (فإن الشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة)، فلا يمكن أن يدخل فيه، بل يهرب منه، فتلاوة القرآن تطرد الشياطين؛ ولهذا الأمر قال صلى الله عليه وسلم: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً) أي: لا تعطلوها من التلاوة ومن الصلاة ومن الذكر فتكون مثل القبور.(67/2)
قوله: (ولا تجعلوا قبري عيداً)
قوله: (ولا تجعلوا قبري عيداً) وهذا أيضاً نهي أن نجعل قبره عيداً، والعيد اسم لما يعود ويتكرر من الوقت أو من الفعل أو المكان، إذا جعل الناس مكاناً معيناً ليفعل فيه أشياء معينة، فهذا المكان يكون عيداً، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي في السنن لما جاء الرجل الذي نذر أن ينحر إبلاً ببوانة، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أكان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قال: لا، قال: هل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قال: لا، قال: فأوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم)، فقوله: (هل كان فيها عيد من أعيادهم؟) يعني: هل كانوا يعودون إلى هذا المكان لصنع أشياء معينة من أعمالهم، فهذا يدل على أن المكان قد يسمى عيداً، وكذلك بعود الفعل يكون عيداً أو بعود الوقت والزمن وتكراره.(67/3)
النهي عن التردد إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم
قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا تجعلوا قبري عيداً) يعني: لا تترددوا على قبري، وهنا لم يذكر لا سلاماً ولا غيره مطلقاً؛ ولهذا قال: (وصلوا علي أينما كنتم) يعني: أنه لا داعي لأن تذهبوا إلى القبر وتصلون علي هناك، بل في أي مكان صليتم علي (فإن صلاتكم تبلغني)، فهو المبلغ صلوات الله وسلامه عليه الصلاة، الصلاة التي يصليها عليه المسلم تبلغه، سواء كان المصلي عليه بعيداً وقريباً؛ ولهذا فإن الترداد على القبر ممنوع مفهوماً ونصاً، فالنص في قوله: (لا تجعلوا قبري عيداً)، والمفهوم في قوله: (فإن صلاتكم تبلغني) بعد قوله: (وصلوا علي أينما كنتم) فدل على أنه لا داعي للذهاب إلى السلام عليه عند قبره صلوات الله وسلامه عليه، فإنك أينما صليت عليه في أي مكان كنت فإن الصلاة تبلغه صلوات الله وسلامه عليه، يعني: أنها تعرض عليه، هذا معنى تبلغه، تعرض عليه ويقال له صلى الله عليه وسلم: فلان يصلي عليك أو فلان يسلم عليك.
ومن صلى على النبي صلى الله عليه وسلم واحدة صلى الله عليه بها عشراً، فهي حسنة بعشر أمثالها، بل من أفضل الحسنات الصلاة عليه، فهذا حماية منه صلى الله عليه وسلم لجناب التوحيد، حتى لا يجر الشيطان من كان عنده ضعف إيمان أو ضعف علم فيدعوه إلى أن يتحرى الدعاء عند قبره صلى الله عليه وسلم، وهذا ممنوع، وربما إذا وصل إلى هذا الحد دعاه إلى أن يتجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويدعوه بأن يشفع له، فيقول: يا رسول الله اشفع لي أو أعطني كذا، أو أنا جئت إليك أو أنا مستجير بك، أو نحو ذلك مما يقع لكثير من الناس، فهذا شرك؛ لأنه دعوة للرسول صلى الله عليه وسلم بالشيء الذي يجب أن يكون لله جل وعلا، وكل هذا نفاه صلى الله عليه وسلم، وحمى الأمة من أن تقع فيه بهذا الحديث وأمثاله.
ومن الجهل ما يقع من بعض الناس إذا علم أن صاحبه أو قريبه أو من يعرفه سيذهب إلى المدينة قال: سلم لي على رسول صلى الله عليه وسلم، وربما كتب كتاباً وقال: ضعه عند قبره، فهذا عمل باطل، وهو خلاف ما جاء به المصطفى، وكل ما كان خلاف ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فهو رد على صاحبه كما قال صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، فهذا ليس عليه أمره، وأمره صلى الله عليه وسلم واضح وجلي قد بينه، ويجب أن يعلم، فتبين بهذا أن هذا كله صيانة لحق الله جل وعلا أن ينتهك، ورحمة بالأمة أن تقع في العنت ومواقع العذاب الذي يشق على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فصلوات الله وسلامه عليه الذي نصح الأمة وأدى الأمانة، وقام بكل ما وجب عليه للأمة، بل وأكثر من ذلك رأفة بهم ورحمة.(67/4)
الحث على النوافل في البيوت
قال الشارح: [قوله: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً) قال شيخ الإسلام: أي: لا تعطلوها من الصلاة فيها والدعاء والقراءة، فتكون بمنزلة القبور، فأمر بتحري العبادة في البيوت، ونهى عن تحريها عند القبور، عكس ما يفعله المشركون من النصارى ومن تشبه بهم من هذه الأمة].
ليس معنى ذلك أنه خص البيوت بالتعبد، وإنما حث على أن يجعل فيها شيء من العبادة، والمقصود بالعبادة هنا النوافل، أما الفرائض فيجب على المسلم أن يؤديها في المساجد حيث ينادى لها، ولا تكون في البيت، وإنما الذي يكون في البيت النوافل، والمسلم مطلوب منه أن يتزود من الخير، والذي يقتصر على الفرائض فقط على خطر؛ لأن الإنسان يعتريه النسيان، ويعتريه التقصير، ويعتريه الجهل، تعتريه نواقص كثيرة جداً، وقد جاءت النصوص بأن الإنسان يوم القيامة تكمل فرائضه من النوافل والتطوعات، جاء في الحديث أن أول ما يحاسب عليه الإنسان صلاته، فإذا نقص منها شيء قيل: انظروا هل له تطوع؟ فيكمل من التطوع، وهذا من فضل الله جل وعلا وإحسانه، وإلا له الحق بألا يقبل التطوع إذا نقص الفرض؛ لأن الفرض يجب أن يؤتى به على الوجه المطلوب، فإن لم يأت به على الوجه المطلوب فقد قصر الإنسان، فالصلاة والذكر والتلاوة وغيرها من العبادة إذا كانت تطوعاً ففعلها في البيت أفضل، حتى وإن كان الإنسان في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم الذي الصلاة فيه بألف صلاة، فربما ركعة في البيت تساوي ركعات كثيرة في المسجد لماذا؟ لأنه في البيت يكون وحده، ويأمن نظر الناس الذي قد يدعوه إلى تزيين الصلاة وتطويلها وتحسينها فيكون ذلك لغير الله، ويكون العمل مردوداً، أما في بيته فهو يأمن هذا، لأجل هذا حث الشرع على الصلاة في البيوت صلاة التطوع، وقد جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بأن تكون صلاة التطوع في البيوت، فعلى هذا لا يكون تناقض أو تضارب بين قوله: (صلاة في مسجدي هذا بألف صلاة) وبين حثه وأمره على الصلاة في البيوت؛ لأن الصلاة في البيت وإن لم تكن الركعة بألف ركعة تكون أفضل من حيث الصفة من الإخلاص، ومقصد الإنسان، وبعده عن المراءاة، من هذه النواحي، والعبرة بالصفة وبالكيفية وليست بالكمية.
والله جل وعلا ينظر إلى القلوب، أما الصور الظاهرة فهذه لا تجزي بشيء، فهذا هو الذي اقتضى الحث على العبادة في البيوت، ثم لا يجوز للإنسان أن يكون بيته معطلاً من ذكر الله ومن تلاوة القرآن، ومن المعلوم أن أكثر البيوت الآن فيها من المزامير والأغاني والصور والمسلسلات، وغير ذلك من أمور كثيرة داعية إلى المعاصي، والنظر إلى كثير منها معصية، فهي من دواعي حضور الشياطين إليها؛ لأن الشيطان يحب المعاصي ويحضرها، فينبغي أن يقاوم المسلم هذا الشيء، وربما كانت المقاومة ضعيفة، ولكن إذا كان الإنسان عنده إيمان وعنده إخلاص طرد الشياطين بإذن الله.(67/5)
المسلم مبارك أينما كان
يجب على المسلم أن يكون مباركاً أينما كان، وإذا حل في أي مكان نفع، هذا هو المبارك، إذا كنت عند أهلك نفعت، وإذا كنت في السوق نفعت، إذا كنت في مسيرك نفعت، والنفع هو الدعوة إلى الله جل وعلا، والتذكير بآيات الله، وبالرجوع إليه، فإننا سائرون، نحن نسير في الطريق سيراً حثيثاً أعظم من سير الطائرة، فكل لحظة تقربنا إلى المقبرة، فضلاً عن اليوم والليلة والشهر والسنة، وما أسرع ما يقال: فلان مات، ثم إذا مت من يصلي لك؟ من يتصدق عنك؟ من يصوم عنك؟ انتهت القضية، لا يوجد عمر يعود مرة أخرى، وعندها يقول: {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100] فيقال له: (كَلَّا) كلا، لا رجوع، انتهت القضية، كم جاءك من النذر ومن الآيات ولكنك لم تتعظ، وتستبعد هذا؟ فيندم حين لا ينفع الندم، وينبغي للإنسان أن يتنبه ما دام بإمكانه أن يتنبه ويعمل، ولا يقول: أنا صحيح، وأنا شاب، ربما اغتبط بشبابه ثم يموت وهو شاب، وهذا كثير، فيجب أن يحذر الإنسان {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:28]، فاحذروا احذروا أن تقعوا في المعاصي ثم يموت الإنسان بإثر معصية -نسأل الله العافية- فيلقى ربه وهو عليه غضبان، فماذا يكون مصيره؟ إذا كنت مثلاً عند الملك، يعرفك، ويغدق عليك بالنعم، ويعطيك ما تريد وأكثر مما تريد، ثم بعد ذلك تعصيه معصية بارزة ظاهرة وهو يراك ويشاهدك، فتفر منه؛ لأنه سيعاقبك، ثم بعد ذلك تمسك مكبلاً، ويؤتى بك على رغم أنفك، ماذا تكون حالتك؟ هذا تقريب فقط، وإلا فالله جل وعلا يقول: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} [الحجر:49 - 50]، فإنه لا يعذب عذابه جل وعلا أحد.(67/6)
فضل سورة البقرة
قال المصنف: [وفي الصحيحين عن ابن عمر مرفوعاً: (اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبوراً) وفي صحيح مسلم عن ابن عمر مرفوعاً: (لا تجعلوا بيوتكم مقابر فإن الشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة)].
خص سورة البقرة لما فيها من الأحكام والآيات والصفات العظيمة، ولأنها أطول سورة في المصحف، فهي (286) آية، مع أن فيها آيات طويلة، فأطول آية في القرآن فيها، وأعظم آية في القرآن فيها، وفيها ألف أمر، وألف نهي، وفيها أشياء عظيمة جداً؛ ولهذا كان الصحابة يعظمونها، وإذا كانوا في معركة حامية وحصل ارتباك صار ينادي بعضهم بعضاً: يا أهل سورة البقرة! يا أهل سورة البقرة! يذكر بعضهم بعضاً بهذه السورة العظيمة، فلهذا الشيطان يفر منها.
وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن المسلمين جمعوا صدقة الفطر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت عادتهم أن يجمعوا الصدقة عند الرسول صلى الله عليه وسلم فيفرقها، فجمعت في المسجد، لا يوجد خزائن وأبواب ووزراء، فجعل أبا هريرة حارساً لها، وهي تمر، ومعروف أن أهل المدينة أكثر طعامهم التمر، فاجتمع كوم من التمر من صدقة الفطر، فأمر أبا هريرة أن يحرسها في الليل، وبينما هو يحرس جاء رجل فصار يحثو من التمر في حجره فأمسكه، فقال: ما لك؟ لأرفعنك إلى رسول صلى الله عليه وسلم، فقال: دعني، والله! إني فقير، وعندي عيال، والصدقة هذه للفقراء، قال: فرحمته، وتركته، وذهب.
وفي الليلة الثانية أتى فصار يحثو فقلت: هذه ثاني ليلة تأتي! فقال: دعني فإني فقير وعندي عيال، وأنا ذو حاجة، قال: فرحمته وتركته، ولما غدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما فعل أسيرك يا أبا هريرة؟ فقلت: يا رسول الله! زعم أنه ذو حاجة وأنه فقير وعليه عيال فرحمته وتركته، فقال: أما إنه سيعود، قال: فعلمت أنه سيعود، فجاء وصار يحثو فأمسكته وقلت: هذه ثالث ليلة، والله! لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: دعني أنا فقير وذو عيال، ودعني أعلمك شيئاً ينفعك الله به، وكانوا أحرص شيء على الخير، فقال: نعم، قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي، فإنه لا يقربك شيطان، ولا يزال عليك من الله حافظ حتى تصبح، قال: فلما غدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما صنع أسيرك يا أبا هريرة؟ فقلت: يا رسول الله! زعم أنه يعلمني شيئاً ينفعني فقال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي فإنه لا يقربك شيطان، ولا يزال عليك من الله حافظ حتى تصبح، فقال: (صدقك وهو كذوب، أتدري من تخاطب منذ ثلاث؟ قلت: لا، يا رسول الله! قال: ذلك الشيطان)، لماذا أتى الشيطان يأخذ تمراً؟ لم يستطع أن ينقص الصحابة بشيء من أديانهم، فهذه آخر حيلة له، يريد أن ينقصهم من التمر فقط، وهذا أمر سهل، وكيده أضعف الكيد، والمقصود قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (صدقك وهو كذوب) يعني: أن الإنسان إذا أوى إلى فراشه وقرأ آية الكرسي فإنه لا يقربه شيطان تلك الليلة، ولا يزال عليه من الله حافظ حتى يصبح، وهذا أمر سهل، وآية الكرسي في سورة البقرة، فكيف بالذي يقرؤها كلها؟ جاء في بعض الآثار: من قرأ عشر آيات من سورة البقرة فإن الله يحفظه من كل سوء، وإذا مات مات مغفوراً له، والعشر الآيات ثلاث من أولها، وواحدة من وسطها: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة:163]، وآية الكرسي وآيتان بعدها، وثلاث من آخرها: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [البقرة:284]، وبعدها: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} [البقرة:285] وقد صح أن (من قرأ الآيتين الأخيرتين منها في ليلته كفتاه)، من قرأ: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285] حتى يختم السورة في ليلة كفتاه، قيل: كفتاه عن قيام الليل، والصواب أن معنى (كفتاه) أي: أن الله يحفظه بهاتين الآيتين.
وفضائل سورة البقرة كثيرة جداً، وهذا يدلنا دلالة واضحة على أن كلام الله يتفاضل، فبعضه أفضل من بعض، وهذا الذي عليه أئمة السلف، أن كلام الله بعضه أفضل من بعض، وكذلك صفاته جل وعلا، وأسماؤه كذلك بعضها أفضل من بعض، حسب ما تدل عليه من المعاني والجوامع، فالحي القيوم يجمع معاني الأسماء كلها، الحي يجمع معاني أسماء الذات كلها، والقيوم يجمع معاني أسماء الأفعال كلها، وهما في سورة البقرة.(67/7)
النهي عن جعل القبر عيداً
قال الشارح: [قوله: (ولا تجعلوا قبري عيداً) قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: العيد اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد، عائداً إما بعود السنة أو بعود الأسبوع أو الشهر ونحو ذلك.
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: العيد ما يعتاد مجيئه وقصده من زمان ومكان، مأخوذ من المعاودة والاعتياد، فإذا كان اسماً للمكان فهو المكان الذي يقصد فيه الاجتماع وانتيابه للعبادة وغيرها كما أن المسجد الحرام ومنى ومزدلفة وعرفة والمشاعر جعلها الله عيداً للحنفاء ومثابة للناس].
المثابة الرجوع، وهو بمعنى العيد، ثاب يثوب، ثاب مرة بعد أخرى، يعني: أن الإنسان إذا ذهب إلى مكة يعود مرة أخرى، ويجد في نفسه دافعاً يدفعه، وحادياً يحدوه إلى أن يعود مرة أخرى، وكل إنسان إذا جاء وقت الحج وكان عنده إيمان ومحبة للخير؛ تجد في قلبه ما يدعوه إلى ذلك، ويحن إلى هذه الأماكن، ويقال: إن هذا أثر دعوة إبراهيم عليه السلام: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم:37] فإن الله استجاب له هذه الدعوة، ويقول بعض العلماء: لولا أنه قال: من الناس لكان هذا عام شامل لجميع الخلق، فتجد الخلق كلهم يريدون المجيء إلى مكة.
فالمقصود أن معنى المثابة هو بمعنى العيد، فهم يثوبون بمعنى: يرجعون مرة بعد أخرى، ويكررون ذلك، ولو لم يكن من رجل واحد ولكن من الجميع.
قال الشارح: [كما جعل أيام العيد فيها عيداً، وكان للمشركين أعياد زمنية ومكانية، فلما جاء الله بالإسلام أبطلها وعوض الحنفاء منها عيد الفطر وعيد النحر وأيام منى، كما عوضهم من أعياد المشركين المكانية بالكعبة ومنى ومزدلفة وعرفة والمشاعر].
الواقع أن أعياد الجاهلية زادت الآن وكثرت، من قبل كانت أقل، أعياد الجاهلية التي كانت قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم ليست كثيرة مثل أعياد الجاهلية اليوم، فجاهلية اليوم لا تحصى أعيادها، عيد مولد، وعيد شجرة، وعيد أم، وعيد أمة، وعيد اعتلاء العرش، وعيد وطن، وعيد كذا، تجد أعياداً كثيرة جداً، وكلها بدع وضلالة، وكلها مخالفة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (فإن الله عوضكم عن أعياد الجاهلية بعيد الفطر والأضحى)، ليس للمسلمين إلا هذين العيدين: عيد الفطر، وعيد الأضحى.
الأسبوع له عيد وهو الجمعة، ولكن العيد لا يعطل فيه العمل كما يتصور بعض الناس، فإن الله أمرنا بالسعي في يوم الجمعة لطلب الرزق، يقول الله: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} [الجمعة:10]، ولكنه عيد بمعنى أنه فيه عمل صالح، وفيه اجتماع على عمل صالح، هذا معنى كونه عيد الأسبوع، فيه اجتماع في بيت من بيوت الله على عمل صالح، وليس معنى ذلك ترك الأعمال.
أما الأعياد الأخرى -وإن زعم أن فيها منفعة- فالواجب أن يكون المسلم مكتفياً بما في تعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس فيها شيء فيه تقصير أبداً، النفع كله موجود في تعاليم الإسلام، وكل ما يزعم في هذه الأعياد من منافع ففي تعاليم الإسلام أكثر منه وأعظم، ولكن ليس على ذلك الوجه، بل على وجه يرضي الله جل وعلا ويرضي رسوله صلوات الله وسلامه عليه، أما البدع فإنها ترضي الشيطان، وتبعد عن الله، وتجعل العمل لا خير فيه ولا بركة فيه، ولا جدوى فيه في الآخرة، بل هو ممحوق البركة.
قال الشارح: [قوله (وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم) قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: يشير بذلك إلى أن ما ينالني منكم من الصلاة والسلام يحصل مع قربكم من قبري وبعدكم، فلا حاجة لكم إلى اتخاذه عيداً.
قوله: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً) تقدم كلام شيخ الإسلام في معنى الحديث قبله.
انتهى].(67/8)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [68]
لا يجوز شد الرحال إلى القبور، ولو كانت قبور أنبياء؛ لأن شد الرحال إليها قد يفضي إلى الشرك، وقد وقع كثير من هذه الأمة في عبادة القبور بسبب الغلو في أصحابها.(68/1)
حديث: (صلوا علي فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعن علي بن الحسين رضي الله عنه: أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فيدخل فيها فيدعو فنهاه، وقال: ألا أحدثكم حديثاً سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: (لا تتخذوا قبري عيداً، ولا بيوتكم قبوراً، وصلوا علي فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم) رواه في المختارة].
هذا الحديث رواه علي بن الحسين الذي هو زين العابدين، وهو من أفضل أهل زمانه، عن أبيه الحسين بن علي ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن جده رسول الله صلى اله عليه وسلم أنه قال: (لا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا علي؛ فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم)، وفي هذا الحديث ما كان عليه السلف -وأهل البيت خاصة- من معرفة هذه السنة، فهذا الرجل جاء يتحرى الدعاء عند قبر الرسول فنهاه، وقال: لا تفعل، وجاء نظير هذا أيضاً عن ابن عمه الحسن بن الحسن أنه رأى رجلاً بهذه الصفة، يقول: جئت وهو يتعشى في بيت فاطمة، فدعاني فقلت: لا أريده، فقال: ما لي أراك تأتي إلى القبر، فقلت: أسلم، فقال: لا تفعل، يعني: لا تتردد على القبر للسلام، ثم ذكر الحديث، وقال: ما أنت ومن بالأندلس إلا سواء، فسلم أينما كنت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن تسليمك يبلغه، ودل هذا على أنه لا يجوز تحري الدعاء عند القبر، وإن قصد الإنسان الدعاء فليكن في روضة مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز أن يتجه إلى القبر ويدعو، بل يتجه إلى القبلة ويدعو ربه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (ما بين منبري وبيتي روضة من رياض الجنة)، فهذا هو الذي يرجى فيه إجابة الدعاء، وينبغي أن يتحرى الدعاء فيها وليس عند القبر، والقبر ما كان في المسجد، بل كان خارج المسجد، ولكن الوليد بن عبد الملك أدخله المسجد لا استناناً بسنة، ولا امتثالاً لأمر عالم من العلماء، وإنما بمقتضى أمر الملوك وفعل الملوك فقط؛ لأنه ملك من الملوك يريد أن يظهر عمله، فعمله خطأ، لا وافق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا امتثل مشورة العلماء، بل جانب ذلك.
إذاً: القبر ليس مكاناً للدعاء، بل هو منهي عنه، هذا لو لم تأت النصوص الصرحية الواضحة فكيف وقد جاءت النصوص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فليس للمخالف في ذلك عذر، ويكون مرتكباً لإثم إذا خالف هذه النصوص، وفي هذا دليل على أن من كان في المدينة لا يتردد على قبر الرسول صلى الله عليه وسلم بالسلام كلما جاء إلى المسجد، وإنما إذا دخل المسجد يصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما كان الصحابة يفعلون ذلك مع أنهم كانوا يتمكنون من الوصول إلى قبره، ولا شيء يحول بينهم وبينه، بخلاف اليوم لا يستطيع أحد أن يصل إلى القبر، وهذا من فضل الله جل وعلا، فإن الله جل وعلا حماه عن الجهال الذين لو تمكنوا منه لم يتركوا حتى من التراب شيئاً، التراب سيحملوه لو تمكنوا من ذلك، ولكن من فضل الله جل وعلا أن صانه وحماه.
فالمقصود أن السنة التي بينها صلى الله عليه وسلم للمسلمين أن يصلوا عليه أينما كانوا، وألا يترددوا على قبره ويجعلوه عيداً، فإنهم إذا فعلوا ذلك فإنهم يكونون مخالفين لرسول الله صلى الله عليه وسلم.(68/2)
صحة حديث علي بن الحسين في النهي عن الدعاء عند القبر
قال الشارح رحمه الله: [قال: هذا الحديث والذي قبله جيدان حسنا الإسنادين.
أما الأول: فرواه أبو داود وغيره من حديث عبد الله بن نافع الصائغ قال: أخبرني ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة فذكره، ورواته ثقات مشاهير لكن عبد الله بن نافع قال فيه أبو حاتم: ليس بالحافظ، تعرف وتنكر، وقال ابن معين: هو ثقة، وقال أبو زرعة: لا بأس به، قال شيخ الإسلام رحمه الله: ومثل هذا إذا كان للحديث شواهد علم أنه محفوظ، وهذا له شواهد متعددة، وقال الحافظ محمد بن عبد الهادي: هو حديث حسن جيد الإسناد، وله شواهد يرتقي بها إلى درجة الصحة.
وأما الحديث الثاني: فرواه أبو يعلى والقاضي إسماعيل والحافظ الضياء محمد بن عبد الواحد المقدسي في المختارة.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: فانظر هذه السنة كيف مخرجها من أهل المدينة وأهل البيت الذين لهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم قرب النسب وقرب الدار؛ لأنهم إلى ذلك أحوج من غيرهم فكانوا له أضبط.
انتهى.
وقال سعيد بن منصور في سننه: حدثنا عبد العزيز بن محمد أخبرني سهيل بن أبي سهل قال: رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم عند القبر فناداني وهو في بيت فاطمة رضي الله عنها يتعشى فقال: هلم إلى العشاء فقلت: لا أريده فقال: ما لي رأيتك عند القبر؟ فقلت: سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إذا دخلت المسجد فسلم ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تتخذوا قبري عيداً، ولا تتخذوا بيوتكم مقابر، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم، لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) ما أنتم ومن في الأندلس إلا سواء.
وقال سعيد أيضاً: حدثنا حبان بن علي حدثنا محمد عجلان عن أبي سعيد مولى المهري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تتخذوا قبري عيداً ولا بيوتكم قبوراً، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني) قال شيخ الإسلام: فهذان المرسلان من هذين الوجهين المختلفين يدلان على ثبوت الحديث، لا سيما وقد احتج به من أرسله، وذلك يقتضي ثبوته عنده، هذا لو لم يرو من وجوه مسندة غير هذين فكيف وقد تقدم مسنداً].
في هذين الحديثين دليل على أن قصد القبر للسلام غير مشروع، وإنما المشروع قصد المسجد، وفيه كذلك أن علي بن الحسين والحسن بن الحسن أخبرا أن هذا يدخل في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تتخذوا قبري عيداً)، فاستدلا به على المنع من قصد القبر؛ ولهذا قال: لا تفعل، يعني: لا تأت إلى القبر للسلام، وهذا لم يكن الصحابة يفعلونه، قال عبيد الله بن عمر عن نافع أن ابن عمر كان إذا أتى من السفر جاء إلى المسجد فصلى ركعتين، ثم جاء إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك يا رسول الله، ثم قال: السلام عليك يا أبا بكر، ثم قال: السلام عليك يا أبتي، ثم ينصرف، يقول عبيد الله بن عمر: ولم أعلم أحداً من الصحابة كان يفعل ذلك غير ابن عمر.
فمن فعل مثل هذا اقتداء بـ عبد الله بن عمر فلا بأس إذا قدم من سفر، أما أن يقصد القبر للسلام فقط فهذا داخل في النهي.
وكذلك يدل الحديث على أن الإنسان إذا جاء إلى المسجد النبوي ليصلي فلا يشرع له أن يذهب ويسلم؛ لأنه قال: لا تفعل، وفهموا أن هذا داخل في قوله: (لا تتخذوا قبري عيداً)؛ ولهذا ما كان أحد من الصحابة يفعل ذلك، ومعلوم أنه لو كان ذلك خيراً لسبقونا إليه؛ لأنهم أولى الناس بفعل الخير، وأبعد الناس عن فعل البدع والباطل.
وكذلك فيه دليل على أنه لا يقصد القبر للدعاء عنده؛ ولهذا أنكر مالك رحمه الله على أهل المدينة أنهم إذا دخلوا المسجد يقصدون القبر للسلام وللدعاء، وقال: لم يكن أحد من السلف يفعل ذلك، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها.(68/3)
من سلم على قبر النبي فليتجه إلى القبر ولا يدعو عنده
وردت حكاية عن مالك أن المنصور سأله: إذا أردت أن أدعو فهل أتوجه إلى القبر أو أتوجه إلى القبلة؟ فقال: لا تصرف وجهك عن وسيلتك ووسيلة آبائك، اتجه إلى القبر واستشفع به، فإنك تشفع في ذلك، فهذه حكاية موضوعة على الإمام مالك، وفيها من هو متهم بالكذب، مثل محمد بن حميد فإنه كذاب، وكذلك في سندها من لا يعرف، ومثل هذا لا يقوله الإمام مالك وقد صح عنه ما سبق، وكان من أعظم الناس تمسكاً بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن أشد الناس كراهية للبدع، وبغضاً لها ونهياً عنها.
ثم إنه يجب على الإنسان أن يكون عمله متقيداً بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم حتى لا يرد عمله، فإذا لم يكن العمل مقيداً بالسنة فإنه مردود؛ لأن العلماء اتفقوا على أن الدين الإسلامي مبني على أصلين عظيمين: أحدهما: أن يكون الدين كله خالصاً لوجه الله، لا يراد به غير الله.
والثاني: أن تكون العبادة قد جاءت بالنص، جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فمعنى شهادة أن لا إله إلا الله: أنه لا يأله ولا يعبد إلا الله وحده، ومعنى شهادة أن محمداً رسول الله: أنه رسول جاء من عند الله، وأنه لا يعبد الله إلا بما جاء به هذا الرسول صلوات الله وسلامه عليه.
وليس الأمر مطلقاً لكل من أراد أن يفعل شيئاً فعله أو استحسن شيئاً سلكه، وإذا رأى أحداً يفعل شيئاً مخطئاً سواء عن حسن قصد أو عن غيره فإنه لا يجوز له الاقتداء به.
وهذه المسألة الأخيرة وهي كونه لا يقصد القبر للدعاء؛ يقول عنها شيخ الإسلام ابن تيمية: ما أعلم فيها خلافاً بين السلف، يعني: أنها محل إجماع، لا أعلم فيها خلافاً بين السلف، هكذا يقول، وهذا يدل على أنها من البدع التي جاء به الخلوف.
وأما ما يذكر في كتب الفقه وغيرها من ذكر خلاف في المسألة، وبعضهم قد يرفع هذا الخلاف إلى بعض علماء السلف، أنه إذا سلم هل يدعو ويتجه إلى القبر أو يتجه إلى القبلة، فهذا لا يدل أن هذا محل دعاء، بل من قصد هذا المكان للدعاء فقد ابتدع وجاء بخلاف النص الذي نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن مثل هذا، وجعله من الذرائع التي يدخل منها الشيطان إلى الإنسان لإفساد عبادته، فمثل هذا يدخل في قاعدة: سد الذرائع، وحماية المصطفى صلى الله عليه وسلم لجناب التوحيد.(68/4)
فضل علي بن الحسين
قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله: علي بن الحسين أي: ابن علي بن أبي طالب رضي الله عنه المعروف بـ زين العابدين رضي الله عنه، أفضل التابعين من أهل بيته وأعلمهم، قال الزهري: ما رأيت قرشياً أفضل منه، مات سنة ثلاث وتسعين على الصحيح، وأبوه الحسين سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وريحانته، حفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم واستشهد يوم عاشوراء سنة إحدى وستين وله ست وخمسون سنة رضي الله عنه].
حفظ أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنها ليست كثيرة، وعلى كل حال هو ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه ابن بنته، وكان يحبه هو وأخوه الحسن، ويجب محبتهما لقرابتهما ولصحبتهما ولتقواهما لله جل وعلا، وأما ما حدث له من الاستشهاد فهذا حدث من قوم فجرة، ولا يجوز أن ينسب هذا إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم كما يقوله أهل البدع، ويضيفون قتله إلى الأمة عموماً، فإن الأمة مجمعة على أن من فعل ذلك فقد استحق من الله جل وعلا العذاب والنكال، ولكن ليس استشهاده رضي الله عنه وقتله ظلماً بأكثر من قتل أبيه رضي الله عنه، فإن أباه أيضاً أفضل منه وقد قتل أيضاً ظلماً، وهو أحد الخلفاء الراشدين، فلا يجوز أن يتخذ مقتله مأتماً ومناحاً ومثاراً للفتن وبثاً للبدع.
الإنسان إذا أصيب بمصيبة يجب أن يصبر ويحتسب ويسترجع، أما أن يتخذ هذا وسيلة لنشر البدع وإثارة الفتن فهذا من أكبر المفسدات التي ينهى عنها الإسلام، وقبل ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه قتل ظلماً، وقتل وهو قائم يصلي، ولا يجوز أن نتخذ هذا المقتل أيضاً مناحاً ومأتماً، وكذلك الخليفة بعده عثمان رضي الله عنه قتل في بيته ظلماً، حصر ثم قتل ظلماً، وهو صابر محتسب، وأبى أن يقاتل عن نفسه حتى لا يكون سبباً في سفك دماء هذه الأمة، فهذه كلها من العظائم الكبيرة، ومع ذلك لا يجوز أن نتخذ هذه الأشياء مآتم ومناحات ومسارات بالنعرات الخبيثة التي تعزز الفساد والفتن، وإنما يتخذ ذلك أصحاب الأهواء الذين لهم مقاصد فاسدة.(68/5)
النهي عن قصد القبور لأجل الدعاء والصلاة عندها
قال الشارح رحمه الله: [قوله: أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة بضم الفاء وسكون الراء، وهي الكوة في الجدار والخوخة ونحوهما.
قوله: فيدخل فيها فيدعو فنهاه، هذا يدل على النهي عن قصد القبور والمشاهد لأجل الدعاء والصلاة عندها].
ينهى عنه مطلقاً، ويدخل في ذلك قبر الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا استدل به من استدل على المنع من ذلك، لقوله: لا تفعل، يعني: تأتي للسلام والدعاء، فإن هذا داخل في قوله: لا تتخذوا قبري عيداً.
قال الشارح رحمه الله: [قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: ما علمت أحداً رخص فيه لأن ذلك نوع من اتخاذه عيداً، ويدل أيضاً على أن قصد القبر للسلام إذا دخل المسجد ليصلي منهي عنه؛ لأن ذلك لم يشرع، وكره مالك لأهل المدينة كلما دخل الإنسان المسجد أن يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن السلف لم يكونوا يفعلون ذلك] ومن ذلك أيضاً التوجه إليه وهو في مكانه إذا دخل أو إذا أراد أن ينصرف، فبعضهم يتجه إلى القبر ويسلم، فإن هذا من البدع أيضاً، وكل بدعة ضلالة.
قال الشارح رحمه الله: [ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها.
وكان الصحابة والتابعون رضي الله عنهم يأتون إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فيصلون، فإذا قضوا الصلاة قعدوا أو خرجوا، ولم يكونوا يأتون القبر للسلام، لعلمهم أن الصلاة والسلام عليه في الصلاة أكمل وأفضل، وأما دخولهم عند قبره للصلاة والسلام عليه هناك أو للصلاة والدعاء فلم يشرعه لهم بل نهاهم عنه في قوله: (لا تتخذوا قبري عيداً، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني) فبين أن الصلاة تصل إليه من بعد وكذلك السلام، ولعن من اتخذ قبور الأنبياء مساجد، وكانت الحجرة في زمانهم يدخل إليها من الباب].
يعني: أنهم يتمكنون من الوصول إلى القبر ولا يفعلون ذلك؛ لأنهم ممتثلون لقوله صلى الله عليه وسلم، وهم أعلم الناس بمراده صلوات الله وسلامه عليه، ولم يكن الشيطان يطمع فيهم بأن يصدهم عما جاء به نبيهم صلى الله عليه وسلم كما طمع في بعض المتأخرين، وربما جاءهم في صورة ظاهرة؛ ولهذا يذكر من الحكايات الباطلة التي لا يجوز أن يعتمد عليها أشياء من هذا النوع، مثل أن فلاناً أتى فسلم وتكلم ودعا فخرجت يد من القبر وصافحته! وما أشبه ذلك من الحكايات التي إما أن تكون مكذوبة، أو تكون من الشيطان ليصد الناس عن الحق، فهذه لا يجوز أن تكون قاضية على أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى سيرته ودعوته التي امتثلها صحابته؛ ولهذا ما حدث شيء من ذلك في زمن الصحابة، ولا كان أحد منهم يفكر أن يأتي إلى القبر يدعو أو يسأل صاحب القبر صلوات الله وسلامه عليه عن قضية من القضايا، أو عن حديث من الأحاديث أو ما أشبه ذلك؛ لأن الشيطان لم يطمع فيهم.
بخلاف من أتى بعدهم فقد طمع وأدرك منهم بعض الأشياء، وهذا أيضاً يحدث عند القبور الأخرى، كثير منهم يذكر أنه إذا جاء إلى القبر الذي يعتقد في صاحبه يقول: إنه يخرج صاحب القبر ويكلمه ويقضي حوائجه ويساعده في أشياء، والواقع أن الشيطان يتصور في صورة هذا المقبور، فيتمثل له ليفتنه؛ لأنهم يتعلقون بالمقبورين، وهذا هو سبب عبادة القبور، والسبب الذي دعا الناس إلى الاتجاه للقبور هو مثل هذه الأمور؛ ولذا نهى المصطفى صلوات الله وسلامه عليه عن قصد القبور خوفاً أن يقع مثل هذه الأشياء.
قال الشارح رحمه الله: [قال: وكانت الحجرة في زمانهم يدخل إليها من الباب إذ كانت عائشة رضي الله عنها فيها، وبعد ذلك إلى أن بني الحائط الآخر، وهم مع ذلك التمكن من الوصول إلى قبره لا يدخلون عليه، لا للسلام ولا للصلاة، ولا للدعاء لأنفسهم، ولا لغيرهم، ولا لسؤال عن حديث أو علم، ولا كان الشيطان يطمع فيهم حتى يسمعهم كلاماً أو سلاماً فيظنون أنه هو كلمهم، وأفتاهم، وبين لهم الأحاديث، أو أنه قد رد عليهم السلام بصوت يسمع من خارج كما طمع الشيطان في غيرهم فأضلهم عند قبره وقبر غيره، حتى ظنوا أن صاحب القبر يأمرهم وينهاهم ويفتيهم ويحدثهم في الظاهر، وأنه يخرج من القبر، ويرونه خارجاً من القبر، ويظنون أن نفس أبدان الموتى خرجت تكلمهم، وأن روح الميت تجسدت لهم فرأوها كما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج.
والمقصود: أن الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يعتادون الصلاة والسلام عليه عند قبره كما يفعله من بعدهم من الخلوف، وإنما كان بعضهم يأتي من خارج فيسلم عليه إذا قدم من سفر كما كان ابن عمر يفعله].
هذا لم يرد إلا عن ابن عمر فقط كما قال عبيد الله بن عمر: ما أعلم أحداً من الصحابة فعل ذلك غير عبد الله بن عمر.
قال الشارح رحمه الله: [قال عبيد الله بن عمر عن نافع: كان ابن عمر إذا قدم من سفر أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك يا رسول الله! السلام عليك يا أبا بكر! السلام عليك يا أبتاه! ثم ينصرف.
قال عبيد الله: ما نعلم أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك إلا ابن عمر، وهذا يدل على أنه لا يقف عند القبر للدعاء إذا سلم كما يفعله كثير.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: لأن ذلك لم ينقل عن أحد من الصحابة فكان بدعة محضة، وفي المبسوط: قال مالك: لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن يسلم ويمضي، ونص أحمد أنه يستقبل القبلة ويجعل الحجرة عن يساره لئلا يستدبره].
يعني عند السلام، ولكن الصواب إذا أراد أن يسلم يتجه إليه، ويسلم عليه، أما الدعاء فلا، وليس هذا مكاناً للدعاء، ولا ينبغي أن يقصد للدعاء، فإن هذا كما قال شيخ الإسلام بدعة.(68/6)
منع شد الرحال إلى القبور والمشاهد
قال الشارح رحمه الله: [وبالجملة فقد اتفق الأئمة على أنه إذا دعا لا يستقبل القبر، وتنازعوا: هل يستقبله عند السلام عليه أم لا؟ وفي الحديث دليل على منع شد الرحال إلى قبره صلى الله عليه وسلم وإلى غيره من القبور والمشاهد؛ لأن ذلك من اتخاذها عيداً، بل من أعظم أسباب الإشراك بأصحابها، وهذه هي المسألة التي أفتى بها شيخ الإسلام رحمه الله، أعني: من سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين، ونقل فيها اختلاف العلماء فمن مبيح لذلك كـ الغزالي وأبي محمد المقدسي، ومن مانع لذلك كـ ابن بطة وابن عقيل وأبي محمد الجويني والقاضي عياض، وهو قول الجمهور نص عليه مالك، ولم يخالفه أحد من الأئمة، وهو الصواب].
عطف المشاهد على القبور ليس معنى ذلك أن هذه مغايرة، هذا من عطف الخاص على العام، ذلك أن المشاهد تكون خاصة لبعض من يعظموا القبور التي يبنى عليها القباب والأبنية التي تدل على التعظيم، سميت مشاهد؛ لأنها تشاهد من بعد، ومن شاهدها عرف أنها على قبر معظم، وهذه من أعظم البدع التي حدثت في الإسلام، وأول من فعل ذلك بنو عبيد القداح الرافضة الذين ملكوا مصر والمغرب، وزعموا أنهم من أبناء فاطمة، وهذا كذب كما بينه العلماء، فليس لهم نسب يتصل بـ فاطمة وإنما هم ملاحدة، يقول ابن الجوزي والباقلاني والغزالي: ظاهرهم الرفض، وباطنهم الكفر المحض.
فهم أول من فعل هذه الفعلة الخبيثة التي صدت كثيراً من الناس عن التوحيد، وأدخلتهم في الشرك، فهذه هي المشاهد، ثم وجد من الناس من يعظمها تعظيماً مبالغاً فيه، وكتبوا كتباً سموها حج المشاهد، وبعضهم فضل قصدها والذهاب إليها على قصد بيت الله الحرام! وهذه محادة ظاهرة لله جل وعلا ولرسوله.
وقد استفتي بعض العلماء فيمن يقصدها أو يحمل من يقصدها، فقال في
الجواب
قصدها لأداء شيء من العبادة ردة عن الإسلام، أما حمل من يقصدها فهو من أعظم الكبائر، ويخشى على من فعل ذلك أن يكون مرتداً، هكذا أجاب عبد اللطيف بن حسن بن عبد الرحمن رحمه الله.
والمقصود أن عطف المشاهد على القبور من عطف الخاص على العام.
قال الشارح رحمه الله: [نص عليه مالك، ولم يخالفه أحد من الأئمة، وهو الصواب لما في الصحيحين عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى) فدخل في النهي شدها لزيارة القبور والمشاهد، فإما أن يكون نهياً وإما أن يكون نفياً، وجاء في رواية بصيغة النهي، فتعين أن يكون للنهي؛ ولهذا فهم منه الصحابة رضي الله عنهم المنع، كما في الموطأ والمسند والسنن عن بصرة بن أبي بصرة الغفاري أنه قال لـ أبي هريرة وقد أقبل من الطور: لو أدركتك قبل أن تخرج إليه لما خرجت؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى)].
الطور هو الجبل الذي ذكر الله جل وعلا أنه كلم موسى عنده، وذكر في القرآن أنه من الأماكن المباركة، فلا يشرع قصده تبركاً لهذا الحديث، وإنما المشروع قصده بإعمال المطي -يعني: بالسفر إليه بأي وسيلة كانت سواء كانت بالسيارات أو الأقدام أو غيرها- المساجد الثلاثة فقط لأجل أداء العبادة فيها، ليس لأجل زيارة قبور أو غيرها.
أما قصد المسجد الحرام فهذا فريضة على كل مسلم مستطيع، لا بد منه، إذا كان مستطيعاً؛ لأن الله افترض ذلك، وأما قصد المسجدين الآخرين مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى لأداء العبادة فيها فهو سنة؛ لأن العبادة تضاعف فيها، فقط لأجل ذلك، أما أن يكون مقصوداً لأجل الحضور عند القبور سواء كانت قبور الأنبياء كقبر إبراهيم الخليل أو قبر رسولنا صلى الله عليه وسلم فهذا من البدع، وهذا أيضاً يكون مخالفاً لنص الحديث، وليس معنى ذلك أن هذا ممنوع في كل سفر يقصد لأمور الدنيا، فإن أمور الدنيا لا تدخل في هذا، التجارة والسياحة والفرجة والعلاج وغير ذلك هذه ليست عبادة، وإنما المقصود الذي يسافر إليه تعبداً، فلا يجوز إلا لهذه المساجد الثلاثة.
قال الشارح رحمه الله: [وروى الإمام أحمد وعمر بن شبة في أخبار المدينة بإسناد جيد عن قزعة قال: أتيت ابن عمر فقلت: إني أريد الطور فقال: إنما تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد المدينة، والمسجد الأقصى، فدع عنك الطور ولا تأته، فـ ابن عمر وبصرة بن أبي بصرة جعلا الطور مما نهي عن شد الرحال إليه؛ لأن اللفظ الذي ذكراه في النهي عن شدها إلى غير الثلاثة مما يقصد به القربة، فعلم أن المستثنى منه عام في المساجد وغيرها، وأن النهي ليس خاصاً بالمساجد؛ ولهذا نهيا عن شدها إلى الطور مستدلين بهذا الحديث، والطور إنما يسافر من يسافر إليه لفضيلة البقعة، فإن الله سماه الوادي المقدس والبقعة المباركة، وكلم كليمه موسى عليه السلام هناك، وهذا هو الذي عليه الأئمة الأربعة وجمهور العلماء، ومن أراد بسط القول في ذلك والجواب عما يعارضه فعليه بما كتبه شيخ الإسلام مجيباً لـ ابن الأخنائي فيما اعترض به على ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، وأخذ به العلماء، وقياس الأولى؛ لأن المفسدة في ذلك ظاهرة].
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن شد الرحال إلى القبور فأفتى بالمنع، وقال: ما أعلم أحداً من العلماء أجاز ذلك واستدل بالحديث: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد)، وأدخل في ذلك قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فقام ابن الأخنائي فرد عليه، وقال: إن شد الرحال إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم من أفضل الأعمال، واستدل بأحاديث موضوعة، وأوضاع وجد الناس عليها، فحاول أن يخطئ شيخ الإسلام في ذلك، فرد عليه شيخ الإسلام بكتاب مطبوع الآن، ومتداول بين طلبة العلم، فيه البسط لهذه المسألة، وذكر كلام العلماء والأحاديث التي تبين أن قول هذا الرجل قول مخالف للكتاب والسنة ولإجماع السلف، وأنه قول باطل، فصار في هذا خير كثير لطلبة العلم وللمسلمين، وطبع الكتاب باسم: الرد على الأخنائي، وسماه بعضهم (الجواب الباهر فيمن جوز زيارة المقابر) أما شيخ الإسلام ابن تيمية ما كان يسمي كتبه، وإنما يسميها أصحابه والذين ينسخونها، وأحياناً يسمي وهذا نادر، وكل كتاب كتبه هو جواب سؤال، وليس له كتاب كتبه استقلالاً، جميع كتبه التي انتشرت على كثرتها وعلى كبر بعضها كلها أجوبة أسئلة، وكان مجاهداً في سبيل الله، دائماً يجيب السائلين، ويفتي المستفتين، ويبحث عن مشاكل المسلمين.
قال الشارح رحمه الله: [وأما النهي عن زيارة غير المساجد الثلاثة فغاية ما فيها: أنها لا مصلحة في ذلك توجب شد الرحال، ولا مزية تدعو إليه، وقد بسط القول في ذلك الحافظ محمد بن عبد الهادي في كتاب (الصارم المنكي في رده على السبكي)] وهذا ابن السبكي أيضاً بجانب ابن الأخنائي قام يرد على شيخ الإسلام، فلفق أحاديث موضوعة وأشياء واهية لا قيمة لها، وزعم أن هذا مشروع، فرد عليه تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية ابن عبد الهادي في كتاب سماه (الصارم المنكي في الرد على ابن السبكي)، وابن السبكي سمى كتابه: شفاء السقام في زيارة خير الأنام، وجعله رداً على شيخ الإسلام ابن تيمية، ثم هذه المسألة توارثها من بعدهم إلى اليوم، كثير من الناس يرثون هذه المسألة بعضهم عن بعض، فأولهم هؤلاء، فجاء بعدهم من نمى هذه الأمور، وصار يكتب فيها إلى اليوم، ولهؤلاء القوم وارث، وكل تعلقهم إما أحاديث مكذوبة، أو أحاديث واهية، أو حكايات منامات، وأمور من هذا القبيل، أو أن فلاناً قال كذا، وفلاناً قال كذا، هذا كل ما تعلقوا به، وليس لهم حديث صحيح أو آية تدل على ذلك، إلا أن يحرفوه عن المقصود لأجل أن يوافق الهوى، وأهل البدع كلهم يسلكون هذا المسلك.(68/7)
ضعف الأحاديث الواردة في زيارة قبر النبي عليه الصلاة والسلام
قال الشارح رحمه الله: [وقد بسط القول في ذلك الحافظ محمد بن عبد الهادي في كتاب: الصارم المنكي في رده على السبكي، وذكر فيه علل الأحاديث الواردة في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر هو وشيخ الإسلام رحمهما الله تعالى: أنه لا يصح منها حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من أصحابه، مع أنها لا تدل على محل النزاع؛ إذ ليس فيها إلا مطلق الزيارة وذلك لا ينكره أحد بدون شد الرحال، فيحمل على الزيارة الشرعية التي ليس فيها شرك ولا بدعة].
الأحاديث التي تنكر مثل قوله: (من زارني كنت له شفيعاً)، وهذا كذب عليه صلوات الله وسلامه عليه، ومثل قولهم: (من حج ولم يزرني فقد جفاني) وما أشبه ذلك، والعجيب أن الشوكاني رحمه الله في نيل الأوطار لما جاء إلى كتاب الجنائز وانتهى منه، قال: إن المجد ابن تيمية جد شيخ الإسلام لم يذكر زيارة القبور، ثم عقد فصلاً في الزيارة، وذكر كثيراً من هذه الأحاديث الواهية، وجعلها دليلاً على مشروعية ذلك، وهذا غريب من الشوكاني رحمه الله! لأن الشوكاني معروف أنه يتبع الدليل، ولكن الجواد قد يكبو، وكل أحد قد يخطئ، ولا يجوز متابعة المخطئ على خطئه.
قال الشارح رحمه الله: [قوله: رواه في المختارة، المختارة: كتاب جمع فيه مؤلفه الأحاديث الجياد الزائدة عن الصحيحين.
ومؤلفه: هو أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي الحافظ ضياء الدين الحنبلي أحد الأعلام، قال الذهبي: أفنى عمره في هذا الشأن مع الدين المتين، والورع، والفضيلة التامة، والإتقان، فالله يرحمه ويرضى عنه.
وقال شيخ الإسلام: تصحيحه في مختاراته خير من تصحيح الحاكم بلا ريب، مات سنة ثلاث وأربعين وستمائة].(68/8)
مسائل باب ما جاء في حماية النبي عليه الصلاة والسلام جناب التوحيد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وفيه مسائل: الأولى: تفسير آية براءة].
سورة براءة المقصود بها قوله جل وعلا: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] ومقصوده بقوله: تفسير آية كذا: أن يفهم الإنسان معنى الآية؛ لأنه إذا لم يفهم معناها ما فهم مراد الشيخ وكلامه، فينبغي أن يفهم مراد الله ولو على سبيل الإجمال، أما سبيل التفصيل فقد يتطلب جهداً كبيراً، إذ كلام الله جل وعلا لا يشبه كلام البشر، ففيه من الهدى والنور الشيء الذي لا ينتهي.
[المسألة الثانية: إبعاده أمته عن هذا الحمى غاية البعد].
يعني: حمى التوحيد، أبعدهم عن الشرك بعداً كثيراً جداً؛ بأن نهاهم عن الوسائل التي يمكن أن تقربهم إلى ذلك، هذا معناه.
[المسألة الثالثة: ذكر حرصه علينا ورأفته ورحمته].
وقوله: هذا مأخوذ من الآية {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، فحرصه على هدايتنا يجعله يبعدنا كل البعد عن ذلك، ومعنى قوله: (عزيز عليه ما عنتم) أي: أنه يشق عليه الشيء الذي يشق علينا، ومعلوم أن الإنسان بطبيعته وبعقله يبتعد عن الأمور الشاقة، ويحذر منها، فكيف إذا كان أفضل الخلق وأعلم الخلق بالله جل وعلا؟! ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد أوتي من المقدرة ومن العلم ومن البيان ما لم يؤت غيره صلوات الله وسلامه عليه، وكذلك من النصح لأمته، ومن البلاغ الذي أمره الله جل وعلا به، كل هذا يقتضي أنه يقوم بهذا الجانب أتم القيام، فدل ذلك دلالة واضحة على منع الأمة من هذه الأمور.
[المسألة الرابعة: نهيه عن زيارة قبره على وجه مخصوص، مع أن زيارته من أفضل الأعمال].
النهي عن زيارته على وجه مخصوص يعني أن يتخذ عيداً، وهو كثرة الترداد إليه، أو أن يكون في وقت معين يقصده، وقوله: مع أن الزيارة من أفضل الأعمال، هذا سنده فيه ما جاء في سنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من سلم علي عند قبري سمعته)، فاستدل بهذا أن هذا من الفضائل، وقد اعترض على هذا القول بعض العلماء وقال: هذا فيه نظر، ولكن ما دام له سند صحيح لا يجوز أن ينظر فيه، وليس هذا من قول شيخ الإسلام ابن عبد الوهاب استقلالاً، بل هو أخذ هذا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، فإنه قال هذا اللفظ تماماً، فتبعه في ذلك، ولكن المستند هو ما ذكرت من الحديث.
[المسألة الخامسة: نهيه عن الإكثار من الزيارة].
وهو مفهوم من قوله: (لا تتخذوا قبري عيداً)؛ لأنها إذا كثرت صار عيداً، فدل على النهي من الإكثار منها.
[المسألة السادسة: حثه على النافلة في البيت].
هو مأخوذ من قوله: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً) لأن النافلة في البيت أفضل منها في المساجد؛ لعلة أنها أقرب إلى الإخلاص، وأبعد عن الرياء.
[المسألة السابعة: أنه متقرر عندهم أنه لا يصلى في المقبرة].
وهذا أيضاً مأخوذ من هذا الحديث في قوله: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً) فمعناه: لا تجعلوا بيوتكم شبيهة بالقبور، إذ إنه متقرر عندهم أنها ليست محلاً للعبادة، فهي مهجورة من العبادة، ولا ينبغي أن يهجر البيت فيكون شبيهاً بالقبر، فدل على أن هذا أمر متقرر عندهم، فهم يعرفون أن القبور ليست محلاً للتعبد.
[المسألة الثامنة: تعليله ذلك بأن صلاة الرجل وسلامه عليه يبلغه وإن بعد، فلا حاجة إلى ما يتوهمه من أراد القرب].
مثلما جاء صريحاً في قول الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء) يعني: إذا سلم الإنسان أو صلى على الرسول صلى الله عليه وسلم في أي مكان فإنه يبلغه الله جل وعلا إياه.(68/9)
حياة البرزخ غير الحياة في الدنيا
[المسألة التاسعة: كونه صلى الله عليه وسلم في البرزخ تعرض عليه أعمال أمته في الصلاة والسلام عليه].
هذا أخذه من حديث: (إنه بلغه السلام)، وهذا يدل على أنه صلوات الله وسلامه عليه لا يعلم ما يجري حتى يبلغ إياه، يبلغ من الملائكة أو من ربه جل وعلا، كما أنه يدل على أنه حي في قبره، وهذا ليس خاصاً به صلوات الله وسلامه عليه، ولكن حياته صلوات الله وسلامه عليه أكمل من حياة غيره، وحياة الأنبياء في قبورهم أكمل من حياة الآخرين من الناس، ولكنها حياة لا نعرف حقيقتها، حياة برزخية مخالفة للحياة الدنيا، وعقيدة أهل السنة أن الروح لا تموت، فهي حية، والإنسان إذا وضع في قبره يحيا، وقد جاء ذلك صريحاً في الحديث الذي في البخاري: (إذا وضع الميت في قبره أتاه ملكان، وأعيدت الروح إليه، فيجلسانه ويسألانه) وهو يخاطبهما، وهذا علمه عند الله جل وعلا، ومعلوم أن الإنسان يوضع في قبره ويبقى على الحالة التي هو عليها، فأمور البرزخ على خلاف ما نعهده نحن، يعني: يجوز إجلاسه وتكليمه وهو على وضعه الذي وضع عليه، وليس كما يقول الزنادقة المنكرين: نحن نضع الزئبق في عين الميت أو على رأسه ثم نأتي بعد وقت ونراه ما تغير من موضعه، فلا توجد حياة ولا حركة ولا سؤال، فهؤلاء لا يؤمنون إلا بالمحسوسات، ولكن هذا من أمور الغيب التي أمرنا بالإيمان بها ولا نعرف حقيقتها، وقد جاء في حديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لولا ألا تدافنوا لسألت الله أن يريكم عذاب القبر)، ولكن لو أرينا عذاب القبر ما استطعنا أن نقرب القبور، ولا استطعنا أن ندفن الموتى للهول العظيم، وقد يظهر الله جل وعلا شيئاً من هذا آية وموعظة لبعض الناس، وهذا كثير جداً، وقد شاهد الناس أشياء عجيبة، وليس الأمر مبني على هذه المشاهدات، ولكن مبني على النصوص التي جاءت في كتاب الله وفي أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، ونؤمن بأنها حق ولو لم نشاهد شيئاً، فإذا جاءت المشاهدات والحكايات التي تحدث لبعض الناس يكون ذلك مؤيداً فقط، وأدلة على أدلة، وقد ألف الحافظ ابن رجب رحمه الله كتاباً في هذه المسائل سماه: أهوال القبور وأحوال أهلها إلى النشور، وكذلك كثير من العلماء ألفوا كتباً كثيرة، وذكروا فيها أشياء كثيرة من هذه الأمور.
والمقصود: أن الحياة البرزخية حياة حقيقية، ولكنها مخالفة للحياة التي نعرفها من حياتنا هذه، وهي من أمور الآخرة، فالقبر أول منازل الآخرة.
والقبر إما أن يكون روضة على صاحبه فيه من الحبور والسرور الشيء الذي يتنعم به، أو يكون حفرة من النار تلتهب على صاحبه، وبين هذين الشيئين أمور كثيرة على حسب حالة الإنسان ووضعه وذنبه، فقد يعذب عذاباً مؤقتاً ثم يزول، قد يبقى سنة، قد يبقى سنتين، قد يبقى عشر سنوات، قد يبقى مائة سنة، أو أكثر من ذلك وهو معذب، ثم ينقطع عذابه على قدر ذنبه، وقد يبقى عذابه إلى البعث، ثم يتصل عذابه بالوقوف بالموقف، والموقف ليس سهلاً، جاء أنه مقدار خمسين ألف سنة، وفي بعضها أنه ألف سنة، وفي بعضها أنه أربعون ألف سنة، وعلى كل حال هو وقوف طويل، وقد سماه الله جل وعلا {يَوْمًا ثَقِيلًا} [الإنسان:27]، وقد سماه يوماً عسيراً، وسماه عبوساً قمطريراً، فشره مستطير، وخوفنا منه كثيراً جل وعلا، وقد يتصل العذاب بعد ذلك ويكون في النار، وهي أشد العذاب نسأل الله العافية! جاء في بعض الأحاديث أن الناس يشتد كربهم، فيسألون الفصل بينهم والقضاء بينهم ولو إلى النار؛ من شدة الوقوف، ويتصورون أن إلقاءهم في النار أسهل مما هم فيه، وليس كذلك، فأمور الآخرة كل شيء يأتي يكون أشد من الذي قبله، فالأمر ليس سهلاً، هذا الإنسان خلق لأمور هائلة جداً، ومع ذلك يلهو ويسهو ويلعب، وقد يعصي عن عمد؛ لأن الإنسان أمره عجيب جداً، هو جبار متكبر، وهو ضعيف أدنى شيء يعثره، فهو من أضعف خلق الله، الذرة تؤذيه، لو دخلت في أذنه أو في عينه آذته، وهو كذلك ظلوم، جهول، ومعاند، ولكنه سهل جداً بيد الله، والله جل وعلا يحلم على عباده ولا يعاجلهم بالعذاب؛ لأن مصيرهم إليه، وسوف يأتونه فراداً، كل واحد يأتيه كيوم ولدته أمه، عريان بلا ثوب، ولا نعل، ولا طعام، ولا ظل، ولا شافع، ولا نافع، ما يملكون شيئاً، وهذا ليس بعيداً، الله جل وعلا أخبر أنه قريب، بل أخبر أن قيام الساعة كلمح البصر، ليس الأمر بعيداً، فلا يجوز للإنسان أن يهمل هذا الأمر، يجب أن يعد ويستعد ويعمر بيته الذي يبقى فيه طويلاً أكثر من بقائه في عمارته التي يزوقها ويحسنها ويجلب إليها كل وسيلة مريحة، فيبقى فيها قليلاً، ثم يخرج منها بالقوة، لا يخرج هو، بل يُخرَج.
زار أحد السلف أبا ذر فما رأى في بيته شيئاً! لا إناء، لا فراش، لا سرير، قال: أين أثاثكم؟ فقال: لنا بيت نرسل إليه، بيت آخر نعمره، قال: ولكن لا بد لكم من شيء، قال: وهل أنتم سترتحلون؟ قال: لا، لا نرتحل ولكن نُرحل بالقوة، نزعج ونطرد طرداً من هذا، فنحن نعمر البيت الذي أمامنا وسنبقى فيه طويلاً، هذا هو الذي ينبغي أن يعمره الإنسان، وليس معنى ذلك أن الإنسان يعطل أمور دنياه نهائياً، لا، ما يعطلها، ولكن عليه أن يتقي الله، لا يفعل المحرمات، ولا يأكل المحرم، ويتقوى بالحلال على بقائه في هذه الدنيا، ويعرف أنه سيذهب إلى الله جل وعلا ليحاسبه، ثم إذا أدخل قبره ليس معناه أنه يكون نسياً منسياً، كلا، إما أن ينعم أو يعذب، فليستعد لهذا الأمر.(68/10)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [69]
لقد انتشر الشرك وفشا في هذه الأمة؛ بسبب جهلها وانحرافها، وبعدها عن دين نبيها محمد صلى الله عليه وسلم، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة ستقلد الأمم المنحرفة في السلوك والعقائد، كما أخبر أن هذه الأمة إذا تسلط بعضها على بعض هانت في أعين الأعداء، وأصبحت لقمة سائغة للمتربصين بها.(69/1)
عبادة بعض هذه الأمة للأوثان
قال المصنف رحمه الله تعالى: [باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان] مراده بهذا الرد على الذين يعبدون القبور ويقولون: إن الشرك لا يقع في هذه الأمة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان قد أيس أن يعبد في جزيرة العرب)، ولقوله: (من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة)، فاعتقدوا أن الشرك غير واقع في هذه الأمة، وأفعالهم سموها توسلاً وحباً للصالحين، وجعلوها قربات، يعتقدون أنها تقربهم إلى الله، وهذا بسبب جهلهم بدين الإسلام، الدين الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم جهلوه، فجعلوا مجرد النطق بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله كاف في نجاة الإنسان.
وهذا جهل عظيم أكثر من جهل أبي جهل، وأمثاله الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن أولئك لما قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: (قولوا: لا إله إلا الله)، قالوا: أجعل الآلهة إلهاً واحداً؟! يعني: عرفوا أنهم إذا قالوا: لا إله إلا الله وجب عليهم أن يعبدوا إلهاً واحداً، ويتبرءون من بقية الآلهة التي هي معبودات باطلة على تنوعها، وهؤلاء ما عرفوا هذا، والسبب في هذا يدور على شيئين: أحدهما: جهلهم معنى العبادة، ما عرفوا معنى العبادة، فصاروا يقصرون العبادة على السجود، وعلى اعتقاد أن المسجود له يحيي ويميت ويتصرف بالخلق والإيجاد، فإذا لم يكن كذلك فمهما صنعت نحوه من الدعاء والتوسل والالتجاء إليه لا يكون شركاً.
الأمر الثاني: أنهم جهلوا معنى الإله الذي يعرفه العرب من لغتهم، فهو الذي تألهه القلوب بأي شيء كان، جهلوا هذا، وهذا بين واضح في كتاب الله، فإن كل من تأله شيئاً وتعلق قلبه به يكون مألوهاً له؛ ولهذا يقول الله جل وعلا: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23] يقول العلماء: معنى ذلك أنه إذا هوى شيئاً -يعني: اشتهاه- فعله، بدون خوف من الله جل وعلا، ولا مراقبة، فيكون هواه شهوته وما يحبه؛ لهذه الأمور قالوا: إن الشرك لا يقع في هذه الأمة، والعجب أن هؤلاء الذين يقولون مثل هذا القول ويفعلون هذه الأفعال، يعدون من العلماء، ويشرحون أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ويكتبون تفسير كتاب الله، ويكتبون الكتب في أنواع العلوم، ولكنهم في توحيد الله أجهل من المشركين! نسأل الله العافية.
أراد الشيخ رحمه الله بهذا الباب أن يرد على مثل هؤلاء، وأن يبين بطلان قولهم، وأن هذا قول مناف لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه لا يجوز أن يكون المسلم بهذه الصفة، ثم بين أن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم مع قول الله جل وعلا لا تتضارب ولا تتعارض، وقوله: (أيس الشيطان أن يعبد في جزيرة العرب) لا ينافي أو يعارض قوله: (ولا تقوم الساعة حتى يعبد فئام من هذه الأمة الأوثان، وحتى يلتحق جماعات من هذه الأمة بالمشركين)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة)، وكذلك قوله: (لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس حول ذي الخلصة)، وذو الخلصة صنم من الأصنام القديمة، وكذلك الآيات التي ذكرت وهي كثيرة، ولكن عادة المؤلف رحمه الله أنه يقتصر على الشيء الذي يكفي أن يكون دليلاً ومقنعاً لمن مراده الحق؛ لأن هذا هو الذي ينفع معه التوجيه والكلام والاستدلال، أما الذي له وجهة معينة فإنه قد عمي بصره عن الأدلة وصم سمعه عن استماع القول وإن كان حقاً؛ لأنه يريد شيئاً معيناً، فهذا مهما أتيته بالأدلة، ومهما أكثرت عليه؛ ما يستفيد من ذلك، والكتب التي تؤلف وتوضع هي لمن يكون مريداً للحق ويجهله، فإذا تبين له أخذ به واتبعه، بغض النظر عمن جاء به ومن قاله؛ لأن الهدف هو عبادة الله جل وعلا واتباع الحق، هؤلاء هم الذين ينفع فيهم القول، وتنفع فيهم الكتب، والمؤلف نحا هذا النحو؛ ولهذا يقتصر على القليل من الأدلة، ويعتمد على أن تكون واضحة؛ ولهذا يذكر الحديث الواضح الجلي وإن كان في سنده ضعف، ولكنه يجعله عاضداً وشاهداً لأدلة ثابتة يقينية مثل آيات يذكرها من كتاب الله جل وعلا، هذه طريقة المؤلف التي سلكها في هذا الكتاب.(69/2)
الفرق بين الوثن والصنم
[قوله: باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان، الوثن يطلق على ما قصد بنوع من أنواع العبادة من دون الله من القبور والمشاهد وغيرها؛ لقول الخليل عليه السلام: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} [العنكبوت:17]، مع قوله: {قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} [الشعراء:71]، وقوله: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} [الصافات:95] فبذلك يعلم أن الوثن يطلق على الأصنام وغيرها مما عبد من دون الله كما تقدم في الحديث].
مقصوده أن من العلماء من فرق بين الوثن والصنم، فقال: الوثن هو كل ما تعلق به واتجه إليه بنوع من العبادة، سواء كان قبراً أو شجرة أو مكاناً أو غير ذلك، أما الصنم فهو الشيء الذي يكون مصوراً ومجسداً على صورة رجل أو صورة حيوان أو ما أشبه ذلك، وفرقوا بين الصنم والوثن، فهو يريد بهذا أن يبين أن الوثن يطلق على الصنم وبالعكس؛ ولهذا ذكر الله جل وعلا في موضع الأصنام الأوثان، وهذا يدل على أن هذا هو القول الصواب، وإن كان هذا من الأشياء التي إذا اجتمعت افترقت، وإذا افترقت اجتمعت، وهذا شأن كثير من الألفاظ العامة التي تأتي في اللغة العربية، كثيراً ما يكون هذا شأنها: إذا اجتمعت افترقت في المعنى، وإذا انفرد واحد منها دخل فيه الآخر.(69/3)
قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [النساء:51]] يقول الله جل وعلا: (ألم تر) أي: ألم تعلم وتنظر وتعتبر وتتفكر؛ في الذين أعطوا حظاً من الكتاب -يعني: من العلم الذي جاء به الوحي من رب العباد- يختارون الضلالة على الهدى عن عمد وقصد (يؤمنون بالجبت والطاغوت) يعني: أنهم يقدمون القول والفعل الذي يريده الشيطان وأعوانه وأنصاره وأتباعه، على الحق الذي جاءت به الرسل، ويتبعون ذلك وهم عالمون بأن فعلهم باطل، وأن من فعل ذلك فقد خرج عن طريقة الرسل التي أوجب الله جل وعلا اتباعها، ومع ذلك يفضلون طريقة الكفار ومنهجهم ومسلكهم على سبيل المؤمنين الذين يتبعون الرسول صلى الله عليه وسلم.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} [النساء:51 - 52] روى ابن أبي حاتم والإمام أحمد أن الذين يؤمنون بالجبت والطاغوت هم حيي بن الأخطب وكعب بن الأشرف، لما قدموا مكة قال لهم الكفار: أنتم أهل الكتاب وأهل العلم، أخبرونا عنا وعن محمد، فقالا لهم: ما أنتم، وما محمد؟ فقالوا: نحن نصل الأرحام، وننحر الكوماء، ونفك العناة، ونسقي الحجيج، ونحن أهل البيت، ومحمد صنبور قطع أرحامنا، واتبعه سراق الحجيج من القبائل من كذا وكذا، فقالوا: أنتم خير وأهدى سبيلاً من محمد، فنزلت هذه الآية، ونزل قوله جل وعلا: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} [الكوثر:3] والأبتر هو المقطوع الذي لا نسل له.
هذا وإن كان سبب النزول في فرد أو أفراد فكما يقول العلماء: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وهذا في جميع ما نزل من آيات الله جل وعلا، وجميع ما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن كان سببه حادثة معينة؛ لأن الشرع جاء للعموم إلى قيام الساعة، وإن كان له سبب خاص.
المؤلف رحمه الله -كما سيأتي في المسائل على هذه الآية- يقول: ينظر هل إيمانهم بالجبت والطاغوت عن عقيدة واقتناع أو أنه مجرد موافقة للكفار مع بغضهم للجبت والطاغوت وكراهتهم له؟ يعني: أنهم يؤمنون به كما وصفهم الله جل وعلا، مع أنهم يكرهونه ويعتقدون بطلانه، إلا أنهم وافقوا الكفار في الظاهر، فكانوا بهذه المثابة، ووصمهم الله جل وعلا بأنهم يؤمنون بالجبت والطاغوت، وهذا عبرة للمعتبر يجب أن يحذر أن يقع في شيء من ذلك.(69/4)
معنى الجبت والطاغوت
اختلف السلف في الجبت فقال عمر رضي الله عنه: الجبت: الشيطان، ومرة قال: السحر، وهكذا روي عن ابن عباس وعن مجاهد وعن قتادة وعن الحسن وغيرهم، وجاء أن الجبت الشرك، وجاء عن بعضهم أن الجبت هو حيي بن أخطب وبعضهم قال: الجبت: كعب بن الأشرف، وجاء عن بعضهم أنه قال: الجبت الكاهن، والأزهري يقول: الجبت كلمة تطلق على الوثن وعلى الشيطان ونحوهما، يعني: أنها تعم، والمعنى الواضح أن الجبت هو خلاف أمر الله.
فالجبت كل ما خالف الشرع وانصرف الإنسان إليه معتاضاً به عن شرع الله، وعن الهدى الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
أما الطاغوت فقد تقدم أنه مأخوذ من الطغيان، وأنه أطلق على ما يطلق عليه الجبت، فقيل: إنه الشيطان، وقيل: إنهم كهان ينزل عليهم الشيطان، وقيل: إنه الحاكم بغير ما أنزل الله، وقيل: إنه الشرك، يعني أنه الشريعة التي يعتاض بها عن شرع الله جل وعلا، وهذا تقدم، وكل ذلك حق وصواب، وإن اختلفت الألفاظ فهي متفقة في المعنى، فلا خلاف فيها، وهذا الذي يسمى في مقدمات التفسير باختلاف التنوع، يعني: أن كل واحد ينوع عبارته عن الآخر فتختلف ولكن المعنى واحد ما يختلف، والسبب في هذا أن السامع قد يكون لديه لفظ أوضح من اللفظ الآخر، فيعبر بهذا اللفظ الواضح الذي يجلي أمامه المقصود، فكثرت عباراتهم عن معان واحدة، واللغة العربية من خصوصياتها أنها تأتي بألفاظ كثيرة لمعنى واحد، وتسمى الألفاظ المترادفة، فمثلاً: يقول: الخبز، والرغيف، والعيش، والقرص، وتقول: الثوب، والقميص، واللباس، وهكذا والمعنى واحد، وإن كانت الألفاظ الكثيرة ترد على هذا المعنى، وهذا لسعة اللغة، وهي أوسع اللغات في ذلك، فبهذا يتبين لنا أن هذه الأقوال وغيرها التي لم نذكرها ليست دالة على أن هذا المعنى خفي عليهم، وأنهم اختلفوا فيه، بل هو واضح جلي، ولكن كل واحد يعبر بالشيء الذي يراه أوضح وأقرب لتفهيم السامع.(69/5)
معرفة علماء اليهود بأن النبي عليه الصلاة والسلام حق
قال الشارح: [قوله: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء:51] روى ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: جاء حيي بن الأخطب وكعب بن الأشرف إلى أهل مكة، فقالوا لهم: أنتم أهل الكتاب وأهل العلم، أخبرونا عنا وعن محمد، فقالوا: ما أنتم وما محمد؟ فقالوا: نحن نصل الأرحام، وننحر الكوماء] الكوماء هي الناقة السمينة التي عليها الشحم، سميت كوماء لأن على سنامها شحم متكوم متكدس، وهذه أطيب لحماً، وأغلى ثمناً، ومن نحرها يدل على كرمه وجوده، فوصفوا أنفسهم بذلك، وهذه القضية وقعت بعد وقعة بدر، وذلك أن اليهود أهل حسد وحقد، لم ينكروا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، بل عرفوا أنه حق ولكنهم أبوا قبوله، والعجيب أنهم جاءوا إلى المدينة يطلبون ويتحرون مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتبعوه، وكانوا يظنون أنه منهم من ذرية يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، فلما تبين أنه من ذرية إسماعيل بن إبراهيم من أبناء عمهم حقدوا عليه، وأنكروه، وكفروا به بعدما عرفوا! قال الله جل وعلا: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146]، بل قال الذين آمنوا منهم مثل عبد الله بن سلام: والله إننا لنعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من معرفتنا لأبنائنا، وذلك أن أحدنا يخرج من بيته ثم لا يدري ماذا تصنع زوجته، وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا نرتاب بأي وجه من الوجوه أنه رسول جاء من عند الله جل وعلا، ومع ذلك الذين آمنوا منهم لا يتجاوزون عدد الأصابع! الشيء الثاني من العجب! أنهم لما نزلوا في المدينة، وكان أهل المدينة أبناء رجل واحد، ثم انقسموا إلى قسمين أوس وخزرج، فصار -كعادة الجاهلية وعادة العرب- قتال بينهم، فصار كل فريق من الأوس ومن الخزرج محالفاً لقبيلة من قبائل اليهود، وقبائل اليهود كانت ثلاث: بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة، فكل قبيلة من هؤلاء صارت مع طائفة من الأوس والخزرج، وسموهم حلفاء، فصار القتال قائماً أكثر من مائة سنة بينهم في المدينة قبل مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم، فكان إذا انتصر أحد الفريقين من الأوس والخزرج على هؤلاء اليهود يقولون لهم: إنه قرب وقت نبي سيبعث ونتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم، فيتوعدوهم بهذا.
فكان هذا هو السبب في إسلام الأنصار، فقد كان العرب يحجون، أما اليهود فما كانوا يحجون، أما العرب فهم على إرث من إرث إسماعيل أبيهم؛ لأنه بعث فيهم، وبقي من دينه الحج إلى البيت، بقي إلا أنه غير بالشرك، فكانوا يقولون: لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا جاء وقت الموسم يذهب بنفسه ويعرض الإسلام على القبائل، ويقول: (ألا رجل يحملني إلى قومه حتى أبلغ كلام ربي، فإن قريشاً منعتني أن أبلغ كلام ربي).
فيمشي على القبائل ومعه بعض أعمامه وبعض الكفار يحذرون منه، ويقولون: لا تسمعوا له فإنه كذاب، وبعضهم يقول: إنه مجنون، ويرمونه بأشياء هي من أبعد ما يكون عنه صلوات الله وسلامه عليه، فعرض للأنصار فقالوا فيما بينهم: هذا هو الذي تتوعدنا اليهود به، فلا يسبقونكم إليه، يقول الله جل وعلا: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة:89] يعني: جاءهم الرسول الذي يعرفونه، وكانوا يستفتحون به يعني: يقولون: إنه سيأتي وقته ونتبعه ثم نقتلكم معه، {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89]، وهذا مما يدل على أن الأمر بيد الله جل وعلا، وأن الإنسان وإن كان عالماً وإن كان عارفاً للحق إذا أريد فتنته فلا أحد يملك له شيئاً، فإنه يتجنب الحق الواضح الجلي ويتبع الباطل إذا لم يهده الله، وبهذا يتبين أن الإنسان بأمس الحاجة إلى طلب الهداية من الله دائماً، وإظهار الفقر؛ لأنه إذا لم يهده فإنه ضال؛ ولهذا أوجب الله جل وعلا على العباد أن يدعوه بطلب الهداية في كل ركعة من ركعات الصلاة {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] هذا أمر ضروري جداً، ومن أهم ما ينبغي للإنسان أن يلازمه، فيسأل ربه الهداية دائماً، وهداية الإنسان ما تكمل وإن علم وعرف وتبين له الحق من الباطل، فهدايته بيد الله دائماً، ولا تكمل هدايته وتتم إلا إذا استقر في مسكنه في الجنة، هناك تمت الهداية.
وقد أخبر جل وعلا أن من تمام هداية المؤمنين هدايتهم إلى مساكنهم في الجنة، فإن الله يهديهم بإيمانهم إلى مساكنهم في الجنة حتى يعرفونها أكثر من معرفتهم بمساكنهم في الدنيا التي بنوها بأيديهم، وعمروها الوقت الذي كانوا في الدنيا، وهذا هو تمام الهداية، وهذا أمر ضروري جداً.
أما قول كثير من المفسرين أن معنى قوله جل وعلا: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]، وكذلك معنى قوله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا} [النساء:136]: إن المعنى اثبتوا على الإيمان، ومعنى اهدنا: ثبتنا على الإيمان فإن هذا القول فيه قصور، فالإنسان بحاجة إلى هداية بعد هداية دائماً، ولا تكمل هدايته، وقد يضل في مسألة أو مسألتين أو أكثر أو يضل في أمور كثيرة، فهو دائم في أمس الحاجة إلى هداية ربه جل وعلا، والأمر كله بيد الله؛ لأنه هو مالك الملك تعالى وتقدس، وبيده الخير، يتصرف كيف يشاء، الخلق كلهم ملكه، خلقهم وملكهم وهو يتصرف فيهم، وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، وكثيراً ما كان رسول الهدى صلوات الله وسلامه عليه يقول: (لا ومقلب القلوب)، أكثر ما يحلف هكذا، قيل له مرة: (أتخاف علينا -يا رسول الله- وقد آمنا بك؟! فقال: وما يؤمنني وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن إذا شاء أن يقلبها قلبها؟) فهو جل وعلا يهدي من يشاء بعد الضلال كما أنه يضل من يشاء بعد الهدى.
إذاً: ليس غريباً أن الأحبار من علماء اليهود كـ حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف وغيرهما من علمائهم وكبرائهم وساداتهم وقاداتهم لما رءوا الحق بيناً واضحاً كوضوح الشمس شرقوا بالحق، وما استساغوه، بل كرهوه أشد الكراهية، حتى صاروا يسافرون ويركبون الإبل يبحثون عمن يكون عدواً لرسول الله صلى الله عليه وسلم يؤلبونه عليه، ويساعدونه على قتاله، ويحرضونه عليه، فلما انتصر صلوات الله وسلامه عليه على كبار المشركين في بدر أصابهم ألم ما استطاعوا معه القرار، ألم الحقد والحسد وكراهية الحق، فذهبوا إلى قريش يقولون: هذا الذي وتركم في رءوسائكم وكباركم هلم إلى قتاله، كيف يهنأ عيشكم وقد قتل كباركم؟ مع أنهم يعرفون أنه جاء بالوحي من عند الله حقاً! فهل يستوي العالم الذي يعرف كتاب الله مع عبدة الأوثان؟ بل صار كثير من عبدة الأوثان أفضل من هؤلاء، فالذي لم يرد الله جل وعلا هدايته فلن تملك له هداية أبداً، فعلى العبد أن يعرف هذا الأمر، ويسأل ربه دائماً أن يهديه.(69/6)
سبب نزول الآية
قال الشارح: [روى ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: جاء حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف إلى أهل مكة فقالوا لهم: أنتم أهل الكتاب وأهل العلم فأخبرونا عنا وعن محمد؟ فقالوا: ما أنتم وما محمد؟ فقالوا: نحن نصل الأرحام، وننحر الكوماء، ونسقي الماء على اللبن، ونفك العناة، ونسقي الحجيج؛ ومحمد صنبور قطع أرحامنا، واتبعه سراق الحجيج من غفار، فنحن خير أم هو؟ فقالوا: أنتم خير وأهدى سبيلاً فأنزل الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [النساء:51]].
الصنبور هي النخلة الضعيفة التي ليس فيها فراخ، فإنها إذا سقطت وليس لها عقد انتهت ونسيت، فهم أخذوا كلمة الصنبور من هذا المعنى، وذلك أنهم قالوا: إنه ليس له أولاد صلوات الله وسلامه عليه، والواقع أن هذا من أعظم الكذب، وأعظم الزور، فالرسول صلى الله عليه وسلم بارك الله جل وعلا فيه، وفي دعوته، وجعله منقذاً للبشرية، فكل عبد آمن في وقته ويؤمن متبعاً له إلى قيام الساعة يعتبر ولداً له، له أجره في عمله، وكل عمل يعمله في عبادة الله والتقرب إليه له صلوات الله وسلامه عليه مثل أجر هذا العامل، من أول مؤمن إلى آخر مؤمن قبل قيام الساعة، فهل يصل إلى هذا الشيء أحد من الخلق مهما كثر ماله وكثر ولده؟ لا، أبداً.
ولهذا يقول العلماء: الرسول صلى الله عليه وسلم ليس بحاجة إلى أن يهدى إليه عمل، أو يتصدق عنه، أو يضحى عنه؛ لأن كل عمل يعمله الإنسان فله مثله صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنه هو السبب في هداية الناس، فليس هناك مخلوق أبرك منه صلوات الله وسلامه عليه، وأعظم منة على الخلق منه صلوات الله وسلامه عليه؛ ولهذا شرفه الله جل وعلا على جميع الخلق، فهو أشرف المخلوقات، وهو أقربهم إلى ربه، فهل يجوز لمن كان عنده عقل -فضلاً عن إيمان- أن يوجه إليه شيئاً من اللوم أو من المسبة؟ لا، إلا إذا كان شيطاناً رجيماً يبغض الحق، فالشيطان الرجيم الملعون هو الذي يغيضه مثل هذا الشيء، ومن اتبعه فهو مثله، وهذا هو معنى قولهم: الأبتر، يعني أنه إذا مات فليس له عقب، وهذا من أكذب القول، فهو مثل قولهم: صنبور.(69/7)
أقوال السلف في تفسير الجبت والطاغوت
قال الشارح: [وفي مسند أحمد عن ابن عباس نحوه.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الجبت السحر، والطاغوت الشيطان، وكذلك قال ابن عباس وأبو العالية ومجاهد والحسن وغيرهم.
وعن ابن عباس وعكرمة وأبي مالك: الجبت: الشيطان.
زاد ابن عباس: بالحبشية].
يقولون: الباء مع الجيم لا تجتمع في كلمة عربية، إلا أن يكون فيها حرف من الحروف الذلقية، فإذا كان حرف منها في كلمة من هذه الكلمات وإلا تكون الكلمة غير عربية، والجبت ليست من هذه، فلهذا قال: إنها بالحبشية، وكذلك يقول الأزهري في الصحاح: إن هذه الكلمة أصلها غير عربي، ولكن الصواب أن العرب إذا تكلموا بكلمة، وعرف معناها، وصار الخطاب بها معروفاً؛ فهي عربية وإن كان أصلها غير عربي.
قال الشارح: [وعن ابن عباس أيضاً: الجبت: الشرك، وعنه: الجبت: الأصنام، وعنه: الجبت: حيي بن أخطب، وعن الشعبي: الجبت: الكاهن، وعن مجاهد: الجبت: كعب بن الأشرف، قال الجوهري: الجبت: كلمة تقع على الصنم والكاهن والساحر ونحو ذلك.
قال المصنف رحمه الله تعالى: وفيه معرفة الإيمان بالجبت والطاغوت في هذا الموضع، هل هو اعتقاد قلب أو هو موافقة أصحابها مع بغضها ومعرفة بطلانها؟].
يعني: أن كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب وافقوهما باللسان فقط مع اعتقاد قلوبهم أن المشركين على باطل، وأنهم يظهرون ذلك وهم يكرهونه؛ ولهذا كانوا إذا انتصر عليهم عباد الأوثان يقولون: سيبعث نبي نتبعه ونقتلكم معه، فكانوا يستغربون كيف أن عباد الأوثان ينتصرون عليهم وهم لا يعبدون الأوثان؟! ولكنهم كفروا عن عناد وعلم فصار كفرهم أشد من كفر الجاهل، فكفر العالم أشد من كفر الجاهل نسأل الله العافية.
إذاً: الإيمان الذي أطلق عليهم هو الموافقة في الظاهر وليس في الباطن، وهذا أمر مخيف جداً، أن الإنسان إذا وافق أهل الباطل في الظاهر وإن كان يكره ما هم عليه يكون حكمه حكمهم؛ لأن الله جل وعلا كلف عبده أن يقول الحق ويعمل به، ولا يبالي بالناس مهما كانت الظروف، وخصوصاً إذا كانت المسألة مسألة إيمان وكفر، إما إذا كانت من الأمور الأخرى التي تكون مجرد معصية فالأمر أسهل من ذلك.(69/8)
قوله تعالى: (قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقول الله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} [المائدة:60]].
هذه الآية أيضاً في اليهود، وذلك أنهم يستهزئون ويسخرون من المؤمنين، فقوله: (أنبئكم بشر من ذلك) إشارة إلى ما صدر منهم من الاستهزاء، وأنهم يقولون: أنتم وإن كنتم على حق فأنتم تخلفونا في النار؛ لأننا نبقى في النار أياماً معدودات ثم تكونون أنتم بدلنا ونحن نخرج، وهذه من تمنياتهم، ويقولون: ما رأينا أهل دين أشر منكم، هكذا كانوا يقولون للمؤمنين، ما رأينا أهل دين أشر منكم، فقال الله جل وعلا: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ} يعني: مما تظنونه بنا وتصمونا به، هو أنتم الذين لعنهم الله وغضب عليهم، وجعل منهم القردة والخنازير، وجعل منهم من عبد الطاغوت.
هذا هو الصواب في تقدير الآية، وأن هذه أفعال معطوفة بعضها على بعض، وقد استشكل كثير من المفسرين قوله: (وعبد الطاغوت) من ناحية الإعراب، وهذا ليس فيه إشكال في الواقع وإن كان الفاعل مختلف، فالأفعال الأولى الفاعل فيها هو الله، أما هذا فالفاعل فيها هم اليهود الذين عبدوا الطاغوت.
وهذا يدل على أن الإنسان يرث آباءه وأجداده إذا كان على نهجهم وعلى طريقهم، ولكنه إذا تبرأ من باطلهم وعمل بالحق فلا يضره هذا الشيء، والقردة والخنازير هم اليهود وقد ذكرهم الله في قوله جل وعلا: {الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة:65]، وقد ذكر الله قصتهم في سورة الأعراف، وذلك أن الله جل وعلا أمرهم بتعظيم يوم السبت واحترامه، وحرم عليهم اصطياد الحيتان فيه، والله جل وعلا إذا أمر عبده فقد يبتليه هل يكون صادقاً في امتثال الأمر أو يكون كاذباً؟ كما قال الله جل وعلا: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2]، وآيات كثيرة في هذا المعنى.
فصارت الحيتان تأتيهم يوم السبت، وتخرج من الماء على ساحل البحر بكثرة، وإذا ذهب السبت ذهبت فلا يرون منها شيئاً، فلما طال عليهم ذلك تحيلوا، فوضعوا الشباك، ووضعوا الحفر، فتأتي الحيتان وتقع فيها، فيتركونها فيها إلى أن تغيب الشمس يوم السبت فيأخذونها، وهذا صورته كأنه موافق للحق، ولكنه حيلة على الباطل؛ ولهذا فالقردة من أقرب الحيوانات في الصورة الظاهرة إلى الإنسان، فمسخهم الله جل وعلا على وفق صنيعهم؛ لأن ظاهر صنيعهم ليس باطلاً؛ لأنهم ما أخذوا الحيتان من البحر إلا بعدما ذهب السبت؛ فجعلوا قردة.
ذكر المفسرون أنهم انقسموا إلى ثلاثة أقسام كما ذكر الله جل وعلا في القرآن: طائفة صنعت هذا، وطائفة أنكرت عليهم، والطائفة الثالثة: قالت للمنكرين: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ} [الأعراف:164] يعني: أنه لا فائدة في الكلام معهم، فقد ارتكبوا أمراً واضحاً، فقال الواعظون والمنكرون: {قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف:164] يعني: أننا نفعل هذا إعذاراً حتى يعذرنا الله جل وعلا؛ لأننا إذا سكتنا ولم ننكر كنا معهم، ولم نعذر بذلك، فاعتزلوهم وتركوهم، فلما كان يوم من الأيام أصبحوا ولم يروا أحداً خرج من البلد، فعجبوا! وقالوا: لا بد أنه حصل شيء، فأتوا إليهم فإذا هم قد مسخوا قردة وخنازير.
يقول ابن عباس وغيره: شبابهم صاروا قردة، وشيوخهم خنازير، أما القردة والخنازير الموجودة الآن فليست مسخاً، بل هي من الحيوانات التي خلقها الله جل وعلا، وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه سئل: هل هذه القردة مسخ؟ فقال: إن الله إذا مسخ أمة لم يجعل لها نسلاً)، فالذي يمسخ ليس له نسل، فعلى هذا قول بعض الناس: إن الفأر أو الضب أو ما أشبه ذلك كان آدمياً ومسخ، هذا خطأ، ليس الأمر كذلك؛ لأن المسخ عذاب، والمعذب يهلك ولا يكون له نسل كما في هذا الحديث.
وهذا يدلنا أيضاً على أن هؤلاء لهم نصيب مما فعله أولئك؛ لأنهم يتحيلون على الباطل بوجوه متعددة، ومن تحيل على الباطل فإنه يتحيل على ربه جل وعلا، والله لا تخفى عليه خافية، يعلم ما في الصدور، ولا يجوز أن يظهر الإنسان شيئاً في عمله، ويبطن خلافه في قلبه فإن الله يعلمه، وسوف يحاسبه عليه: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:284] المقصود بهذا أن هؤلاء خالفوا أمر الله جهاراً عن عمد، ووجه الدليل من الآية يظهر في الحديث الذي سيذكره، وهو أن هذه الأمة ستعمل ما عملته اليهود والنصارى وفارس والروم وغيرها من الأمم السابقة، ولهذا ثبت أنه يكون في هذه الأمة مسخ، يعني: أن فيهم طائفة تمسخ قردة وخنازير؛ لأنهم يفعلون مثلما فعل اليهود فيعاقبون كما عوقب أولئك.
وكذلك يكون فيهم رجم بالحجارة من السماء؛ لأنهم يفعلون كما يفعل قوم لوط، فيرجمون كما رجم قوم لوط، ويكون فيهم خسف كما حدث في الأمم السابقة، فإن منهم من خسف به كما ذكر الله جل وعلا ذلك، وهذا ثابت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن ذلك الشرك الذي وقعوا فيه، فإنهم عبدوا أحبارهم ورهبانهم وقالوا: عزير ابن الله، والنصارى قالت: المسيح ابن الله، وصارت تعبد ثلاثة: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73] وكل ما وقع في اليهود والنصارى سيقع مثله في هذه الأمة لا يخطئونه في شيء، هذا هو وجه الاستدلال من الآيات، ويظهر ويتضح بذكر حديث أبي سعيد رضي الله عنه الذي سيأتي.
قال الشارح رحمه الله تعالى: [يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد! هل أخبركم بشر جزاء عند الله يوم القيامة مما تظنونه بنا؟ وهم أنتم أيها المتصفون بهذه الصفات المفسرة بقوله: (من لعنه الله) أي: أبعده من رحمته (وغضب عليه) أي: غضباً لا يرضى بعده أبداً، (وجعل منهم القردة والخنازير).
وقد قال الثوري: عن علقمة بن مرثد عن المغيرة بن عبد الله عن المعرور بن سويد أن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القردة والخنازير أهي مما مسخ الله؟ فقال: إن الله لم يهلك قوماً -أو قال: لم يمسخ قوماً- فيجعل لهم نسلاً ولا عقباً، وإن القردة والخنازير كانت قبل ذلك) رواه مسلم].
العجيب أن بعض دعاة الشر من اليهود -كما هو معروف- جاء بنظرية يقول: إن الأصل في البشر هو القردة، والإنسان فصيلة منها.
واتبعه على هذا القول الباطل البين البطلان طوائف كثيرة، ثم بعد ذلك لما جاء نظيره من الكفار يبطل هذه النظرية رجع هؤلاء، مع أن الله جل وعلا يذكر لنا أنه خلق آدم بيده، وأنه خلقه من طين، كما جاء في آيات متعددة كثيرة، فكيف يعتنقون قول هذا الفاجر الخبيث ويأخذون به مع وضوح هذا الأمر؟! وهذا من الأدلة على أن الله جل وعلا إذا أراد إضلال إنسان فإنها لا تنفع فيه الأدلة الواضحة الجلية.
والغريب أن هذا وقع لبعض العلماء الذين يكتبون الكتابات، وموجود عندنا بعض هذه الكتب، بعضها يسمى دائرة المعارف يقول صاحبها: نحن نؤيد نظرية دارون، فإن قيل لنا: كيف تقولون بما ذكره الله جل وعلا في القرآن من أنه خلق آدم من طين؟ نقول: هذا أمره سهل، نؤوله كما أولنا قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] يعني: بهذه السهولة وبهذا الأمر نؤول القرآن؛ لأن كافراً من الكفار قال هذا القول، والتأويل هذا إبطال وتكذيب في الواقع، وتحريف لا يجوز أن نسميه تأويلاً، وأشياء كثيرة من هذا القبيل.
فالإنسان يجب أن يكون على حذر دائماً، فيكون إمامه هو كتاب الله، وفي هذه الآية دليل واضح على أن الله جل وعلا يلعن من يشاء، إذا أراد أن يلعن لعن، كما أنه يرحم من يشاء، ويغضب على من يشاء: {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ} [المائدة:60] وهذه من صفات الفعل التي تتعلق بمشيئته، إذا شاء أن يفعلها فعلها كما يشاء، فيجب أن يوصف الله جل وعلا بذلك وهذا كثير.(69/9)
تفسير البغوي لقوله تعالى: (قل أفأنبئكم بشر من ذلكم)
قال الشارح: [قال البغوي في تفسيره: (قل) يا محمد! (هل أنبئكم) أخبركم (بشر من ذلكم) يعني: قولهم: لم نر أهل دين أقل حظاً في الدنيا والآخرة منكم، ولا ديناً شراً من دينكم.
فذكر الجواب بلفظ الابتداء -وإن لم يكن الابتداء شراً- كقوله تعالى: {قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ} [الحج:72].
وقوله: (مثوبة) ثواباً وجزاءً نصب على التمييز (عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير) فالقردة أصحاب السبت، والخنازير كفار مائدة عيسى].
هذا على قول، والقول الآخر أن القردة والخنازير كلاهما من أصحاب السبت، وهذا هو المشهور، والمعنى: أن هذه الأمة سوف يكون فيها من يلعنه الله ويغضب عليه ويمسخه قردة وخنازير، بدليل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة) وكذلك ما ورد من الآيات الأخرى.(69/10)
التفسيرات اللغوية لقوله تعالى: (قل أفأنبئكم بشر من ذلكم)
[وعن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أن المسخين كلاهما من أصحاب السبت، فشبابهم مسخوا قردة، وشيوخهم مسخوا خنازير.
(وعبد الطاغوت) أي: وجعل منهم من عبد الطاغوت، أي: أطاع الشيطان فيما سول له، وقرأ ابن مسعود: (وعبدوا الطاغوت) وقرأ حمزة: (وعَبُدَ الطاغوت) بضم الباء وجر التاء أراد العبد].
يعني: الجمعي، عُبُد يعني جمع عابد، جعل منهم من عبد، والمعنى واحد.
[وهما لغتان: عبد بسكون الباء، وعبد بضمها].
هذا إذا أريد الإفراد.
[مثل سَبُع وسُبْع وقرأ الحسن (وعبد الطاغوت) على الواحد.
وفي تفسير الطبرسي: قرأ حمزة وحده (وعبُد الطاغوت) بضم الباء وجر التاء، والباقون (وعبد الطاغوت) بنصب الباء وفتح التاء، وقرأ ابن عباس وابن مسعود وإبراهيم النخعي والأعمش وأبان بن تغلب (وعُبُدَ الطاغوتِ) بضم العين والباء وفتح الدال وخفض التاء.
قال: وحجة حمزة في قراءته (وعبُد الطاغوت) أنه يحمله على ما عمل فيه قوله (جعل)].
يعني: يعطفه على الأفعال السابقة، وكلها أفعال ماضية، لعن: فعل ماضي، (من لعنه الله) وقوله: (وغضب) كذلك، وحمله على هذه الأفعال الماضية يكون الباب واحداً، كل هذه أفعال ماضية.
[كأنه: وجعل منهم عبُد الطاغوت ومعنى: (جعل) أي: خلق كقوله: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:1] وليس عبد لفظ جمع؛ لأنه ليس من أبنية الجموع شيء على هذا البناء، ولكنه واحد يراد به الكثرة، ألا ترى أن في الأسماء المفردة المضافة إلى المعارف ما لفظه الإفراد ومعناه الجمع؟ كما في قوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34] ولأن بناء فعُل: يراد به المبالغة والكثرة نحو يقظ ودنس، وكأن تقديره: أنه ذهب في عبادة الطاغوت كل مذهب] كلمة (جعل) هذه تأتي على استعمالين: استعمال بمعنى: خلق، كهذه الآية وكقوله جل وعلا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1] وهذا كثير، وعلامة ذلك أنها إذا جاءت بمعنى (خلق) أنها لا تتعدى إلا إلى مفعول واحد فقط.
وتأتي بمعنى: صير، وليس معنى (صير) أنه خلق، لا، معناها: أنه عالج الأشياء أو اعتقدها، أي: اعتقد أنها كذا، أو قال: إنها كذا، وهذا أيضاً استعماله كثير في اللغة العربية، ووروده في القرآن أيضاً كثير، وعلامة ذلك أنه يتعدى إلى مفعولين كما في قوله جل وعلا: {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} [النحل:91] {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزخرف:19] وهذا بمعنى اعتقدوا أو قالوا ذلك.
وهذا قد يغلط فيه بعض الناس لا سيما الذين لهم أهواء، وربما قالوا: إن (جعل) تدل على الخلق، ثم يدخلون ما يريدون كإدخالهم للقرآن بأنه مخلوق، فيقولون: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف:3] يعني: خلقناه! وكقوله: {جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} [الحجر:91] وما أشبه ذلك.
وهذا يدل على الجهل في الواقع؛ لأنه لا يمكن أن يقال: خلقوا الملائكة، وكذا قوله: {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} [النحل:91] وما أشبه ذلك، وهذا من أنفع ما يكون لطالب العلم أن يفرق بين الألفاظ واستعمالاتها، ويعرف مواقعها.
[وأما من فتح فقال: (وعبد الطاغوت) فإنه عطفه على بناء المضي الذي في الصلة وهو قوله: (لعنه الله) وأفرد الضمير في عَبَد، وإن كان المعنى فيه الكثرة؛ لأن الكلام محمول على لفظه دون معناه.
وفاعله ضمير (من)، كما أن فاعل الأمثلة المعطوف عليها ضمير (من)، فأفرد لحمل ذلك جميعاً على اللفظ، وأما قوله: (عبد الطاغوت) فهو جمع عبد.
وقال أحمد بن يحيى: عُبُد جمع عابد كبازل وبُزل، وشارف وشرف، وكذلك عُبَّد جمع عابد ومثله عباد وعباد.
انتهى].
قال الشارح رحمه الله: [وقال شيخ الإسلام في قوله (وعبد الطاغوت): الصواب: أنه معطوف على ما قبله من الأفعال أي: من لعنه وغضب عليه، ومن جعل منهم القردة والخنازير، ومن عبد الطاغوت، قال: والأفعال المتقدمة الفاعل فيها اسم الله تعالى مظهراً أو مضمراً، وهنا الفاعل اسم من عبد الطاغوت، وهو الضمير في عبد، ولم يعد سبحانه من؛ لأنه جعل هذه الأفعال صفة لصنف واحد وهم اليهود.
قوله: (أولئك شر مكاناً) مما تظنون بنا.
(وأضل عن سواء السبيل) وهذا من باب استعمال أفعل التفضيل فيما ليس في الطرف الآخر له مشارك، كقوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان:24] قاله الـ عماد ابن كثير في تفسيره وهو ظاهر].
هذا لأنه يأتي أفعل التفضيل فيما لا مشارك له في الجانب الآخر، وبهذا يرد على القدرية الذين قالوا: إن قوله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14] وما أشبه ذلك يدل على إثبات الخلق للعباد، وأنهم يخلقون أفعالهم بدليل هذه الآية ونحوها.
الجواب
هو ما ذكره هنا، أن قوله: (تبارك الله أحسن الخالقين) هذا استعمل فيما لا مشارك له في الخلق؛ لأن قوله: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان:24] أصحاب النار ما يشاركون أهل الجنة بشيء مما فيها، وقوله: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان:24] لا يمكن أن يقال: إن هذا استعمل على بابه، وإنما استعمل بالشيء الذي لا مشاركة فيه، يقول الله جل وعلا: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل:59] لا يوجد أحد يقول: إن الأصنام تشارك الله في الخيرية أو في شيء من ذلك مطلقاً، وهذا كثير في القرآن، ومن المعلوم أن أصحاب البدع والأهواء يتعلقون بالشبهات، ويفرحون إذا وجدوا شيئاً يتعلقون به من القرآن أو من الأحاديث، ومن الأمور التي ينبغي أن تعلم أن القرآن فيه شيء مما قد يشتبه في اللفظ للدلالة، وإذا صار الإنسان عنده سوء فهم أو سوء اتجاه يكون فتنة له، وهذا الذي يشير إليه قوله جل وعلا: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران:7] فهم يبحثون عن الشيء الذي يتفق مع أهوائهم، ومع مناهجهم ومقاصدهم، بغض النظر عن مراد المتكلم، ولو كانوا يريدون مراد المتكلم لكان الأمر واضحاً جلياً؛ لأن هناك آيات واضحات تبين هذا، إذا أرجعت إليها زال الإشكال نهائياً، وأصبح لا يوجد إشكال.
والواجب على العبد أن يتخلى من هوى النفس، ومن الأغراض التي تكون على خلاف مراد الرب جل وعلا أو مراد رسوله صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن هذا يحتاج إلى مجاهدة، ويحتاج إلى توفيق من الله جل وعلا، والإنسان قد لا يملك نفسه {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [المائدة:41] إلا أنه إذا فعل الإنسان الأسباب التي أمر بها فغالباً أن الله يوفقه، بخلاف الذي يعرض عن أمر الله من أول وهلة اتباعاً لشيء يريده، إما يريد علواً على الخلق، يريد أن يكون هو أفضل منهم، وأعلى منهم أو كان له أغراض دنيوية، أو عنده حسد وحقد على الآخرين؛ فهذا غالباً لا يوفق ويزداد ضلالاً إلى ضلاله إلا أن يشاء الله، ولهذا يقول الله جل وعلا: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5]، ويقول تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:110] والمعنى: أنه لما جاءهم أمرنا فردوه أول الأمر قلبت أفئدتهم وأبصارهم جزاءً لردهم الحق أول ما جاءهم.
ومن المعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم وضح الأمور وبينها، وأما فهوم الناس واتجاهاتهم فهذه يجب أن تعرض على الكتاب والسنة، ويجب أن يتجرد في ذلك، ليس لأن ينتصر على فلان، أو ينصر المذهب الفلاني، ويرد على المذهب الفلاني، إذا كان هذا قصده فالقصد سيء، والعمل ليس لله جل وعلا، وإنما الواجب على الإنسان أن يطلب الحق، وعلامة ذلك أنه يقبل الحق ممن جاء به سواءً كان صديقاً له أو غير صديق، إذا تبين له الحق قبله، أما إذا كان لا يقبل الحق إلا ممن يتفق معه في رأيه ومنهجه فهذا علامة أنه لا يريد الحق، والله جل وعلا يتولى جزاء عباده، وسوف يحاسبهم على نياتهم ومقاصدهم، وإنما على الإنسان أن يجتهد لنفسه لئلا يقع في الباطل، ولن يضيع شيء أبداً، وكل خلاف وقع، وكل حكومة وقعت، وكل مسألة وقعت سوف تعرض بين يدي الله، ويحكم فيها بحكمه العدل، فهو جل وعلا يعلم لسان كل متكلم، ويعلم قلب كل متكلم ماذا يريد، على الإنسان أن يستحضر هذه الأمور، ويسعى لنفسه إما أن يكتسب الحسنات أو يكتسب السيئات.(69/11)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [70]
دلائل النبوة كثيرة، ومن ذلك ما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوقوعه في أمته من بعده، ثم وقع كما أخبر عليه الصلاة والسلام، مثل قوله: (لاتقوم الساعة حتى يلحق فئام من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان).(70/1)
قوله تعالى: (قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجداً)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقول الله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف:21]].
هذه الآية ذكرها الله جل وعلا في قصة أصحاب الكهف، وهم الفتية الذين هربوا بدينهم من قومهم المشركين، وجعلهم الله جل وعلا آية، فأووا إلى غار ليختبئوا فيه، فضرب عليهم النوم، فناموا أكثر من ثلاثمائة سنة وهم نيام، ثم استيقظوا بعد ذلك وظنوا أنهم ما لبثوا إلا يوماً أو بعض يوم، وكان معهم نقود، فلما استيقظوا إذا هم جياع؛ فأمروا واحداً منهم أن يذهب إلى البلد ليشتري لهم بهذه النقود طعاماً، ووصوه بأن يتلطف أي: يختفي لئلا يعرفه القوم فيأتون إليهم فيفتنونهم عن دينهم، فذهب بالنقود، فلما حضر إلى البلد فإذا هي غير البلد، والناس غير الناس، فلما أخرج النقود إذا هي غير النقود التي يتعارف عليها الناس، فظهر أمرهم بذلك، فمسكوه وقالوا: من أين أتيت؟ ومن أين جئت بهذه النقود؟ فعرفوهم لهذا السبب، وجاءوا إليهم، ولما وصل إليهم زميلهم الذي ذهب ليأتيهم بالطعام، ضرب عليهم النوم مرة أخرى، فناموا، فأصبح هؤلاء يتخاصمون فيهم، كيف نصنع بهم؟! فقال الكبراء والوجهاء: {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف:21] يعني: يبنون عليهم مسجداً، وبنوا عليهم المسجد، وهذا من صنيع اليهود، ومن صنيع النصارى.
والآثار الصحيحة جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم في منع بناء المساجد على القبور صراحة، وقد أخبر الله جل وعلا أن من كان قبلنا من أهل الكتاب قد بنوا المساجد على قبور أنبيائهم وصالحيهم مثل هؤلاء الفتية، والخبر الذي سيذكره يدل على أن هذا سيقع في هذه الأمة كما وقع في الأمم التي قبلها.
هذا هو وجه إيراد هذه الآية ووجه الاستدلال بها، يعني: أن البناء على القبور وقع من اليهود والنصارى على قبور أنبيائهم وصالحيهم، ورسولنا صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن هذه الأمة ستتبع سنن من كان قبلها حذو القذة بالقذة، فلا بد أن يقع البناء على القبور في هذه الأمة كما وقع في الأمم التي قبلنا، والبناء على القبور من وسائل الشرك، ومن المحرمات التي جاءت فيها أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا هو وجه الاستدلال بالآية، ووجه مطابقتها للترجمة.
[والمراد أنهم فعلوا مع الفتية بعد موتهم ما يذم فاعله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أبنيائهم مساجد) أراد تحذير أمته أن يفعلوا كفعلهم].(70/2)
قوله صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن من كان قبلكم) وعلاقته بالشرك
قال المصنف رحمه الله تعالى: وعن أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟) أخرجاه].
هذا الحديث مخرج في الصحيحين ولكن بغير هذا اللفظ والمعنى واحد، والآية التي ذكرها قبل هذا واضحة الدلالة مع ذكر الحديث أنها تدل على الذم، يعني: ذم هؤلاء الذين غلبوا على أمر قومهم؛ يعني: لأنهم الكبراء والوجهاء فبنوا عليهم المسجد، فالآية سيقت على وجه الذم، وليس كما يقول من فتن بالقبور وبعبادة أصحابها والبناء عليها: إن الآية تدل على جواز البناء على القبور؛ لأن كلام الله جل وعلا مع كلام رسوله لا يتعارضان، بل يؤيد أحدهما الآخر، ويبينه ويوضحه، وقد أخبرنا ربنا جل وعلا أنه أنزل على رسوله الوحي ليبين ما نزل إليه للناس، وقد بين ذلك، والذي يقول مثلاً أن الآية تدل على الجواز هو مغالط، فهذا كلام مغالطة ومحادة لله جل وعلا، ولرسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قد يقول جاهل هذا القول: الآية تدل على ذلك؛ لأن الله ذكر هذا عنهم، وما ذكر عن شرع من كان قبلنا يكون شرعاً لنا، هذا لا يكون صحيحاً بل هذه مغالطة، والله ذكر ذلك على سبيل الواقع منهم، والرسول صلى الله عليه وسلم بين أن هذا لا يجوز، وأن فعلهم مذموم، فيجب أن يعلم هذا وأن يعتقد؛ بأنه على سبيل الذم وليس على سبيل الجواز.
حديث أبي سعيد هذا: (لتتبعن) ابتدأه صلى الله عليه وسلم باللام، اللام التي وقعت في جواب القسم، وهذا هو الصواب أنها وقعت في جواب القسم، والتقدير: والله لتتبعن، ومن المعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أخبر بخبر فإنه صدق وحق؛ لأنه كما قال الله جل وعلا عنه: لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، يوحيه الله جل وعلا إليه.
وكذلك إذا أخبر الله جل وعلا بشيء فإنه صدق وحق بلا ريب، فيأتي القسم لزيادة التأكيد، والمؤكدات سواء كان قسماً أو كان تأكيداً لفظياً، أو تكراراً أو غير ذلك، واهتمامي بهذا الموضوع ولفت الأنظار إليه ليعلم هذا أنه واقع لا محالة.
والسنن: هي الطرق -ويجوز أن تكون (سُنن وسَنن) - التي يسلكونها، وتخص بأمور الدين التي يتعبدون بها أو يعتقدونها.
وقوله: (من كان قبلكم) هذا مجمل؛ لأنه إذا قيل: (من كان قبلنا) يشمل كل الذين قبلنا، ولهذا استفسر الصحابة عن ذلك وقالوا: من تريد؟ من هم الذين قبلنا اليهود والنصارى؟ فقال: فمن؟ يعني: أن هذا هو المراد، وهذا لا ينافي أو يخالف ما جاء في الرواية الأخرى، وهي رواية صحيحة أيضاً: (أهم فارس والروم؟ فقال: ومن الناس إلا أولئك) يعني: من المقصود إلا فارس والروم، المقصود يريد أن يخبر أن هذه الأمة ستتبع الذين قبلهم من الأمم القريبة منهم، مثل اليهود والنصارى وفارس والروم وغيرهم، وجاء في بعض الآثار الأعاجم أيضاً.
فكل لفظ يدل على ما يدل عليه الآخر إلا أنه يدل على أنه لم يرد أمة معينة بخصوصها غير أن هؤلاء هم الذين لهم كلمة ولهم دين، ولهم كيان وقد يقتدى بهم، وينظر إليهم، فبين أن هذا هو المراد.
وقوله: (حذو القذة بالقذة) المعنى أنكم تسيرون خلفهم، فكل ما فعلوه سوف تفعلونه دقيقاً أو كبيراً، لا تخطئون شيئاً مما فعلوا، فقوله: (حذو القذة بالقذة) كقولك: خطوة خطوة.
بل كقولك: إنك تفعل هذا كما يفعل فلان هذا الشيء تماماً بلا زيادة ولا نقصان.
والقذة: هي ريشة السهم، وريشة السهم غير معروفة لنا الآن، ولكن هي الحربة التي تحدد وتجعل في السهم ليطلق منه، والسهم القوس الذي يرمى به سابقاً، ويقابل ذلك الرصاصة الموجودة الآن التي تجعل في بندقية واحدة ما تزيد عن الأخرى، كل واحدة مساوية للأخرى تماماً بلا زيادة، هذا هو المعنى المراد، يعني: أنكم تفعلون كل ما فعلوه.(70/3)
وجه التشبيه بجحر الضب في متابعة هذه الأمة غيرها
[قوله: (حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)، هذا الفرض على سبيل لو قدر أن هذا يمكن وأنه وقع فيهم لوقع فيكم، وفعلتموه كما فعلوه.
وخص جحر الضب لأن الضب جحره من أصعب الجحور سلوكاً؛ لأنه إذا حفر جحره يحفره متجهاً إلى تحت ملتوياً، لا يكون مستقيماً، يجعله ملتوياً ومدوراً حتى يكون الدخول عليه عسراً؛ ولهذا إذا دخل هو على وجهه لا يستطيع أن يلتفت، لا بد أن يخرج على ذنبه من الخلف لعسر هذا الجحر، ولكونه لا يسع غيره، وإذا دخل أيضاً على خلفه -على ذنبه- ما يستطيع أن يلتفت يبقى هكذا حتى يخرج على وجهه، هذا هو السبب في تشبيهه صلى الله عليه وسلم وتخصيصه لجحر الضب، فهو ليس كسائر الجحور التي يكون الدخول فيها سهل، والمعنى: لو قدر أنهم يدخلون هذا المدخل الصعب، والمسلك الذي قد يكون سلوكه ممتنعاً لفعلتم أنتم هذا الفعل.
ولهذا جاء بعد ذلك في الرواية الأخرى: (حتى لو أن أحداً منهم وقع على أمه علانية لصار في هذه الأمة من يفعل ذلك)، وهذا شيء فضيع، فإنسان يقع -نسأل الله العافية - على أمه والناس ينظرون إليه أمر مستفظع جداً، يقول: لو وقع هذا لوقع في هذه الأمة.
وفي رواية أخرى: (حتى لو أن منهم من وطئ زوجته على قارعة الطريق لكان في هذه الأمة من يفعل ذلك) في ألفاظ ذكرها صلى الله عليه وسلم من المبالغة في اتباع هؤلاء، وأن هذه الأمة سوف تسلك مسلك اليهود والنصارى وكذلك الفرس وغيرهم، فينظرون ماذا يصنعون فيصنعون مثلهم تماماً.
ثم ليعلم أن هذا ليس من باب الخبر الذي يخبر الرسول صلى الله عليه وسلم مقراً له، أو راضياً به! كلا، بل هو يخبر عنه من باب التحذير، أي: احذروا أن تكونوا من هؤلاء.
وهذا الإخبار منه صلوات الله وسلامه عليه من علامات نبوته، بل كل جملة في هذا تدل على صدقه صلوات الله وسلامه عليه، وأنه حق؛ لأن الأمر وقع كما أخبر، والذي لم يقع سيقع.
هذا شيء.
الشيء الثاني: أنه يجب أن يعلم أن هذا ليس في الأمة كلها، وإنما هذا في طوائف من الأمة، ولا بد أن يبقى في الأمة المسلمة أمة متمسكة بدينها، متبعة لهدي نبيها صلى الله عليه وسلم، لا تبالي بمن خالفها، ولا يغرها من خالفها، كما جاء في الحديث الآخر الذي رواه أصحاب السنن -وهو حديث صحيح- أنه صلى الله عليه وسلم قال: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، فقيل: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي) فبين أن هذه الأمة ستزيد على النصارى الذين زادوا على اليهود فرقة واحدة، وهذا التفرق يكون في الأمة التي استجابت للنبي صلى الله عليه وسلم، كما أن الحديث: (لتتبعن سنن من كان قبلكم) هو في الأمة التي استجابت له، وهم الذين يتبعونه، وذلك أن الناس كلهم جنهم وإنسهم، عربهم وعجمهم، كلهم أمة لمحمد صلى الله عليه وسلم، والذي يسمع به مجرد سماع ثم لا يؤمن به يدخله الله جل وعلا النار، كما جاء في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (والله لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا أقحمه الله جهنم)، فجعل الأمر متعلقاً بمجرد السماع.
والمقصود أن الخطاب في قوله: (لتتبعن) للأمة المستجيبة التي اتبعته، يعني: أن هذا الاتباع يقع في أمة الإجابة، وهذا الحديث يبين لنا أن الآيات السابقة في اليهود والنصارى التي ذكر عنهم أفعالاً وقعت منهم كالبناء على القبور والأموات، كما ذكر في الآية وكالتحيل على المحرمات، وأكلها بشبهة أنها حلال، والجزاء الذي يقع على هؤلاء من اللعن والمسخ وعبادة الطاغوت سيقع في هذه الأمة، هذا هو المقصود، وهذا رد -كما قلنا سابقاً في الفصل السابق- على الذين يعبدون القبور، ويبنون عليها المساجد ويقولون: الشرك لا يقع في هذه الأمة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (قد أيس الشيطان أن يعبد في جزيرة العرب) حسبما قالوا، وكذلك يقولون: إن من قال: لا إله إلا الله يكون موحداً ويدخل الجنة، ولا يقع منه الشرك، فهم جهلوا الشرع، وذابوا في جهلهم، وصاروا فتنة للجهال الذين لا يميزون بين الحق والباطل، فبين بهذا أن هذا قول باطل، وأنه محادة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
هذه الأمة التي يقول صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن من كان قبلكم)، خرجت منها فرقة تكون متمسكة بالحق، بدليل الحديث الآتي حديث ثوبان: (ولا تزال طائفة من أمتي على الحق) إلخ، فيكون هذا الحديث ليس على عمومه.(70/4)
من دلائل النبوة في حديث متابعة الأمة غيرها من الأمم
قال الشارح: [قوله: (سنن) بفتح المهملة، أي: طريق من كان قبلكم قال المهلب: الفتح أولى.
قوله: (حذو القذة بالقذة) بنصب حذو على المصدر.
والقذة -بضم القاف- واحدة القذذ، وهو ريش السهم، أي: لتتبعن طريقهم في كل ما فعلوه، وتشبهوهم في ذلك كما تشبه قذة السهم القذة الأخرى، فوقع كما أخبر صلى الله عليه وسلم، وبهذا تظهر مناسبة الآيات للترجمة، وقد وقع كما أخبر، وهو علم من أعلام النبوة].
أعلام النبوة كثيرة جداً، وأعلام النبوة يعني: دلائلها، أي: الدلائل التي تدل على صدقه صلى الله عليه وسلم، وأنه نبي، ومنها إخباره بالمغيبات أنها ستأتي، فتأتي كما أخبر صلوات الله وسلامه عليه، وهذا لا يمكن أن يكون إلا عن وحي من الله جل وعلا.
قال الشارح: [قوله: (حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه) وفي حديث آخر: (حتى لو كان فيهم من يأتي أمة علانية لكان في أمتي من يفعل ذلك)، أراد صلى الله عليه وسلم أن أمته لا تدع شيئاً مما كان يفعله اليهود والنصارى إلا فعلته كله، لا تترك منه شيئاً، ولهذا قال سفيان بن عيينة: من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى.
انتهى] قد يقول قائل: هذا ليس صحيحاً؛ لأن اليهود قالوا: عزير ابن الله، والنصارى قالوا: المسيح ابن الله، وقالوا: إن الله ثالث ثلاثة، وهذه الأمة ليس فيها من يقول هذا، ولا يقول ذلك، فكيف تقول: إن هذا الحديث يدل على أن كل ما وقع من اليهود والنصارى سيقع من هذه الأمة، فيقال: ليس شرطاً أن هذه الأمة تفعل ما فعلته اليهود والنصارى بألفاظه وصورته تماماً، يكفي أن يفعلوه في المعنى، وأن يوافقوه في المعنى، وقد وقعت الموافقة من كثير من الناس في هذا، فصاروا مثلاً يعتقدون أن الولي الفلاني يتصرف بالكون، وأنه يقول للشيء: كن فيكون، وأنه لا يدخل هذا البلد شيء إلا بإذنه وهو ميت مدفون، قد أكله الدود وارتهن بعمله، وربما يكون معذباً؛ لأن كثيراً ممن يدعى أنه ولي هو زنديق كافر بالله جل وعلا، لا يصلي ولا يتطهر، ولا يترك فعل الفواحش من الزنا وغيرها، ومع ذلك يدعون أنه ولي.
وأحياناً يكون مجنوناً يمشي في الأسواق عرياناً ليس عليه شيء من اللباس، فيزعمون أنه ولي، فإذا مات عبدوه وقالوا: إنه يتصرف في الكون، وإن الرزق لا يأتي إلا عن طريقه، وإن العافية والصحة لا تأتي إلا بإرادته، النصارى ما قالوا مثل هذا، قالوا أقل من ذلك، ويكفي هذا في موافقتهم، بل هذا زيادة، مع أنه جاء شيء من بعض هذه الأمة -من بعض خواصها- يصل إلى ما قالته النصارى واليهود في أنبيائهم، مثل الذين صار حظهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم واتباعه الكذب عليه، وادعوا أنه مشارك لله جل وعلا في كل شيء، بل له ما لله، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في بعض كتبه: هناك أناس يقولون: نحن نعبد الله ونعبد رسوله، نعبد الله ونعبد الرسول، ويستدلون بقوله: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ} [الفتح:9] فيجعلون معنى قوله: (وتسبحوه) يعني: تسبحون الرسول وتعبدونه، فيستدلون بمثل هذا.
وكذلك بعض الشعراء الذين صاروا يمدحون الرسول صلى الله عليه وسلم مدحاً جاوز الحد، فرفعوه إلى مقام الربوبية، كقول القائل مثلاً: فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم وكذلك قوله: ولن يضيق رسول الله جاهك بي إذا الكريم تحلى باسم منتقمِ يعني يقول: أنا أستغيث وأستجير بك إذا غضب الله يوم القيامة! هذا شيء عظيم نسأل الله العافية! يعوذ الإنسان بمخلوق من الخالق، تعالى الله وتقدس.
كقوله: فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم ضرة الدنيا هي الآخرة، وهنا (من) تبعيضية، فماذا بقي لله؟! إذا كانت الدنيا والآخرة من جملة جود الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان كل ما كتب في اللوح المحفوظ من جملة علومه، فأي شيء أبقى هذا الرجل لله جل وعلا تعالى وتقدس؟ هذا قد يكون أعظم مما قالت النصارى.
والمقصود: أن الذي يقول: إن هذا الكلام فيه مبالغة مخطئ، فليس فيه مبالغة، بل هذا اعتقاد من هذه الأمة كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم تماماً.(70/5)
فساد بعض العلماء كفساد أهل الكتاب سواء
قال الشارح: [قلت: فما أكثر الفريقين! لكن من رحمة الله تعالى ونعمته أن جعل هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة، كما في حديث ثوبان الآتي قريباً].
يقول: إن من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى، وذلك أن اليهود يعلمون ولكن لا يعملون، يعلمون ويقعون في المعاصي على عمد، وعن علم، وهذا أعظم من الذي يقع في معصية عن جهل، أما النصارى فهم يتعبدون بجهل وضلال؛ ولهذا وصف الله جل وعلا اليهود بأنهم مغضوب عليهم، ووصف النصارى بأنهم أهل ضلال؛ لأنه ليس عندهم علم، وإنما عندهم اجتهاد وعبادة وتقشف، فتجد الراهب منهم في الصوامع، وهذا كان من قبل، أما في الوقت الحاضر فقد تغيرت الأوضاع والأمور، وأصبح الذين في الصوامع أو في البيع أو في الكنائس ساسة وقادة يخططون لأمتهم ولرؤسائهم في الاستيلاء على الضعفاء -ولا سيما إذا كانوا مسلمين- بكل وسيلة كانت، بغض النظر عن كون هذا يسوغ أو لا يسوغ، لا ينظرون إلى ذلك.
وصاروا عباداً للدنيا والمناصب والشهوات، القول فهو يخالف الفعل، وإذا خالف الفعل فلا قيمة له.
وهكذا هذه الأمة! الذي يفسد من العلماء يكون شبيهاً باليهود؛ لأن عنده علم ولكنه ترك العلم على عمد لغرض يريده خاص به أو لغرض آخر ليس خاصاً به، كله سواء، وأما الذي تكون عنده عبادة وتقشف فيفسد ويضل ويترك السنة فإنه يكون مشابهاً للنصارى؛ لأن هذا عنده اجتهاد لكنه في ضلال، وهذا من الذين يقول الله جل وعلا فيهم: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ * لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ * لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} [الغاشية:2 - 7] لأنهم يتعبدون بضلال، وإن كان عندهم خشوع ونصب وتعب ولكنهم ضالون؛ لأن من شرط قبول العبادة وصحتها أن تكون على سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، كما أنه من شرطها أيضاً أن تكون خالصة لله جل وعلا، لا يراد بها إلا وجه الله، فإذا اختل شرط من هذين الشرطين فهو ضلال ووبال، ويكون صاحبه معذباً.
والناس في الواقع تبع لهؤلاء، تبع للعلماء والعباد، العباد يقتدى بهم ويرى أنهم على خير، وأنهم أهل زهد وطاعة، فيعظمون من أجل ذلك، والعلماء كذلك يقتدى بهم لأنهم الذين يعرفون الأحكام، فإذا فسدوا فسد الناس تبعاً لهم.
قتل الشارح: [قوله: (قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟) هو برفع اليهود خبر مبتدأ محذوف أي: أهم اليهود والنصارى الذين نتبع سننهم؟ ويجوز النصب بفعل محذوف تقديره: تعني قوله: (قال فمن؟) استفهام إنكاري أي: فمن هم غير أولئك؟].(70/6)
شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [71]
من دلائل نبوة النبي عليه الصلاة والسلام: أنه أخبر بأن الله زوى له الأرض حتى رأى مشارقها ومغاربها، وأن أمته سيبلغ ملكها ما زوي له منها، وإخباره ببقاء طائفة من هذه الأمة على الحق، وإخباره بلحوق طوائف من الأمة بالمشركين، وإخباره بظهور الدجالين، وقد حصل ذلك كما أخبر به، ودلائل النبوة كثيرة جداً، ومعرفتها تزيد المؤمن يقيناً وطمأنينة.(71/1)
حديث ثوبان (إن الله زوى لي الأرض)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولـ مسلم عن ثوبان رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي لأمتي ألا يهلكها بسنة بعامة، وألا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال: يا محمد! إني إذا قضيت قضاءً فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة بعامة، وألا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها، حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً) ورواه البرقاني في صحيحه وزاد: (وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين، وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان، وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى)].
هذا الحديث كل جملة منه علامة وآية من آيات النبي صلى الله عليه وسلم تدل على صدقه، وعلى أنه نبي جاء من عند الله جل وعلا، والأدلة على ذلك كثيرة جداً، والفائدة في مثل هذا أن الإنسان يزداد إيماناً وتصديقاً للنبي صلى الله عليه وسلم، ويقيناً بأنه جاء من عند الله، كلما زادت الآيات زاد إيمانه بذلك، فالذي ينبغي لمن يقرأ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته أن يزداد دائماً إيماناً ويقيناً بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وهو الذي جاء بالهدى، وهو الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى، وأن كل ما أخبر به حق، وأن ما خالفه باطل مهما كان.
هذا الحديث سيق لأجل الرد على من يزعم أن الشرك لا يقع في هذه الأمة بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا القول أو هذا الزعم حدث من أناس جهال في الواقع، جهلوا دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم بعدما جهلوا حق الله الذي أوجبه عليهم، فزعموا أن من قال: لا إله إلا الله فذلك يكفيه وإن عبد القبور، وطاف عليها، واستنجد بأصحابها، واستغاث بهم، فإنه لا يؤثر عندهم، فجاءوا بالمتناقضات؛ لأنهم لم يعرفوا التوحيد ولم يعرفوا حق الله عليهم، ولم يعرفوا دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، فجاءوا بالمتناقضات، قالوا: من قال: لا إله إلا الله لا يقع منه الشرك، وزعموا أن مجرد النطق بهذه الكلمة كافٍ، وزعموا أن هذا هو معنى أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم كقوله: (إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله).
فلم يفهموا قوله: (يبتغي بذلك)، ولم يفهموا معنى لا إله إلا الله، وما علموا أن هذه الكلمة تهدم كل الشرك دقيقه وجليله وتبطله، وأن المشركين لما قيل لهم: قولوا: لا إله إلا الله فهموا ذلك، وعرفوا أن هذا يبطل مذهبهم وعبادتهم فقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص:5]، فتحصل بهذه الكلمة التأله والعبادة لله وحده تعالى وتقدس، فهؤلاء لما جهلوا هذه الأمور الواجبة على كل إنسان جاءوا بالمتناقضات.
والمشكلة أن لهم أتباعاً كثر، وأن كثيراً من الناس ينظر إليهم، ويقتدي بهم، فصاروا قدوة، وصاروا يعادون كل من جاء بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، ويريد أن ينقذ الناس من الهلكات ومن الشرك الذي وقعوا فيه، فيرمونه بتنقص الرسول وبغضه، وأنه شاذ، وخارج عن الأمة، وأنه يكفر الأمة، وما أشبه ذلك من العظائم التي يرمون بها من كان مقتفياً آثار الرسول صلى الله عليه وسلم، ويدعو بدعوته؛ وذلك لجهلهم وظلمهم وعنادهم واستكبارهم على الحق، ومن هنا تستحكم المصائب والبلايا، ويصبح كثير من الناس مغتراً بهم، فيتابعونهم، والواقع يشهد لهذا.
هذا الحديث والآيات التي ذكرها المؤلف في أول الباب والحديث هو حديث أبي سعيد - دليل على جهل هؤلاء، وبطلان دعواهم.(71/2)
وجوب التسليم لأخبار النبي صلى الله عليه وسلم
قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله زوى لي الأرض) معنى (زوى) يعني: أنه جمعها فأصبحت أنظر إليها كأنها أمامي، أنظر إلى أقصاها وأدناها سواء، ولا يلزم أن تكون كل جزئية من الأرض أمامه ينظر إليها، وهذا من قدرة الله جل وعلا التي لا حدود لها، فهو على كل شيء قدير، ولا يجوز أن نقيد قدرة الله بالعقل أو بالفكر والنظر، وإذا كنا لا نستوعب ذلك ولا نستطيع أن ندركه بعقلنا لا نكذب به، بل هذا شأن الذين يعبدون عقولهم أو يكونون مغرورين بعقولهم ويقولون: إن الشيء الذي يخالف العقل يجب أن يرد.
الرسل لا يأتون بشيء يخالف العقول، ولكنهم يأتون بأمور تحار فيها العقول ولا تدركه؛ لأن العقول قاصرة بالنسبة لأمر الله جل وعلا، وخلقه وتدبيره، وقدرته ومشيئته، وهذا نظير قول الرسول صلى الله عليه وسلم لما قام يصلي صلاة الكسوف بمسجده صلوات الله وسلامه عليه، وقال: (عرضت علي الجنة والنار دون هذا الحائط -يعني: دون حائط المسجد- فرأيت بعضها يحطم بعضاً، حتى خشيت أن تأتي عليكم، فقلت: يا رب! وأنا فيهم؟ -يعني: أنها تأكلهم وأنا فيهم- ثم عرضت علي الجنة يقول: فهممت أن آخذ منها قطفاً حينما رأيتموني تقدمت، ثم بدا لي ألا أفعل، ولو أخذت ذلك منها لأكلتم منه ما بقيت الدنيا) قطف يعني: عنقود عنب، عنقود واحد لو أخذه لأكلت منه الأمة ما بقيت الدنيا؛ لأن الذي في الجنة لا ينتهي، بل يتبدل، كلما يؤخذ منه شيء جاء مكانه غيره دائماً.
وقال: (رأيت عمرو بن لحي الخزاعي يجر قصبه في النار -يعني: أمعاءه- لأنه أول من غير دين إسماعيل)، وقد كان رئيساً في العرب، ومات في الجاهلية قبل مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: (ورأيت امرأة في النار بسبب هرة حبستها حتى ماتت، لم تطعمها ولم تتركها تأكل من خشاش الأرض، فرأيتها تخمش وجهها في النار) وهذا أمر حقيقي، وكون الجنة والنار دون هذا الحائط شيء لا تستوعبه العقول، ولكن يجب أن نصدق به.
ومثله الحديث الذي مر معنا في الدعوة إلى التوحيد، وقوله صلى الله عليه وسلم: (عرضت علي الأمم فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي فقيل لي: هذا موسى وقومه، ثم قيل لي: انظر إلى الأفق فرأيت وجوه الرجال قد سدت الأفق، ثم قيل لي: انظر إلى الأفق الآخر فرأيت وجوه الرجال قد سدت الأفق، فقيل لي: هذه أمتك، ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بلا حساب) فهذا العرض على ظاهره، ولكن ليست هي أعيان الناس بأنفسهم، الناس أموات في قبورهم.
ومثل ذلك ما وقع له في قصة الإسراء والمعراج لما وصل إلى بيت المقدس، واجتمع بالأنبياء وصلى بهم، ثم لما صعد إلى السماء وجد كل نبيٍ في سماء من السماوات حسب منازلهم، وهذه أرواحهم لا إشكال في هذا، وهذه كلها أمور حق على ظاهرها، يجب أن نؤمن بها، ونصدق بها كما أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه صلوات الله وسلامه عليه إذا قال كلاماً باللغة التي يفهمها المخاطبون فإنه يبلغ عن الله جل وعلا، ولو لم يكن الظاهر هو المراد ما كان هناك تبليغ، ولا سأل السامعون وقالوا: هو هذا المعنى أو هناك غيره؟ فلما سكتوا وفهموا النص على ظاهره دل أن هذا هو المراد قطعاً بلا تردد، ولا يجوز أن يشكك في هذا الشيء.(71/3)
من أعلام النبوة في حديث ثوبان
قوله: (إن الله زوى لي الأرض -جمعها- فرأيتها أمامي، أنظر إلى مشارقها ومغاربها) هذا محدود بدليل قوله: (وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها) وقد بلغ الملك في زمن الصحابة هذا الذي زوي منه، حتى وصلوا إلى حدود الصين شرقاً، ووصلوا إلى المحيط الأطلسي غرباً، وانتهى ملكهم إلى هذا الحد، ولم يذكر جهة الجنوب والشمال، ولهذا لم تتسع لا جنوباً ولا شمالاً، فإنه لم يتسع فيها ملك الأمة، وإنما اتسع من جهة الشرق والغرب.
ثم قال: (وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض) الكنزان: هما كنز الدولتين العظيمتين في ذلك الوقت في زمنه، فكان في وقته دولة الروم ودولة الفرس، وكانت هاتان الدولتان تتناظران دائماً وتتقاتلان، ومرة تغلب هذه، ومرة تغلب هذه، وهما أعظم الدول في ذلك الوقت، وما في الأرض نظير لهما.
قوله: (الأحمر والأبيض) يقول العلماء: الأحمر عبارة عن الذهب، وهذا يقصد به كنوز دولة الروم؛ لأن الغالب عليهم استعمال الذهب في أموالهم.
وأما الأبيض: فهو كنوز دولة الفرس؛ لأن الغالب على أموالهم الجواهر والفضة، فوقع كما قال.
وقد جاء في حديث آخر: (وإنهما سينفقان في سبيل الله) فأنفقت كنوز هاتين الدولتين في سبيل الله كما أخبر صلوات الله وسلامه عليه قبل وقوع ذلك.
فهاتان الجملتان كل واحدة منهما تدل على صدقه صلوات الله وسلامه عليه، حيث أخبر بشيء لم يقع، فوقع كما أخبر تماماً.
ثم قال: (وإني سألت ربي لأمتي ألا يهلكها بسنة بعامة، أو بسنة عامة) الباء هنا زائدة وتأتي للتأكيد، وإذا حذفت استقام المعنى، والسنة المقصود بها الجدب المهلك، أو العذاب المستأصل الذي يأتي عليهم جميعاً كما وقع للأمم السابقة مثل ثمود وعاد وقوم شعيب، وقوم لوط، وغيرهم ممن قص الله جل وعلا علينا قصصهم في كتابه، فأعطاه الله جل وعلا هذا، فقال: (إني لا أهلكهم في سنة عامة).
وسأل ربه ألا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم.
(من سوى أنفسهم) يعني: من الكفار، سأله ألا يسلط عليهم عدواً من الكفار فيستبيح بيضتهم، يعني: يستولي على معظم الأمة أو على جملتها، فيسبي نساءها، ويأخذ أموالها، ويقتل مقاتلتهم، فأعطاه الله جل وعلا ذلك، ولكن هذا مقدمة الشروط التي ذكرها بعد هذا.(71/4)
قوله: (وألا يسلط بعضهم على بعض)
قوله: (وألا يسلط بعضهم على بعض) فهذه منعها؛ لأن الله جل وعلا قال: (يا محمد! إني إذا قضيت قضاءً فإنه لا يرد) وإن الله قضى أن يسلط بعضهم على بعض، وبهذا يستدل بأن ما قدره الله وقضاه لا يمكن تغييره، ولا يمكن تبديله، وأن الدعاء لا يؤثر في ذلك ولا يجدي.
وأما ما جاء في بعض الأحاديث أنه: (لا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا صلة الرحم) أو قال: (إن الدعاء يرد القضاء، وإن صلة الرحم تزيد في العمر) فليس هذا كما قد يتبادر إلى ذهن الإنسان من أول وهلة، أنه إذا دعا زاد عمره بالدعاء، وإذا وصل رحمه زاد عمره بالصلة، فالمعنى: أن تقدير الله لا يتغير، وقد قال بعض العلماء: إن هذا معناه: أن الإنسان يكون أمامه تقديرين: تقدير مثلاً أنه يبلغ ثمانين سنة إذا وصل رحمه، وستين سنة إذا لم يصل رحمه، فإن وصلها بلغ ذلك، وإن لم يصلها لم يبلغ ذلك.
وتقدير أنه يكون عليه كذا وكذا إن لم يدع، وإن دعا امتنع ذلك، وهذا غير صحيح؛ لأن هذا شأن الجاهل، والله علام الغيوب لا يخفى عليه شيء، ويعلم الذي يقع كيف يكون، وقد كتب كل شيء قبل وجود الخلق، كما جاء في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله كتب مقادير الخلائق قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء) وفي السنن والمسند من حديث عبادة أنه قال عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، فجرى في تلك الساعة ما هو كائن إلى يوم القيامة).
فقوله (مقادير الأشياء) يعم كل شيء، وقوله في هذا الحديث: (أول ما خلق الله القلم فجرى في تلك الساعة ما هو كائن إلى يوم القيامة) يعم كل شيء، حتى حركة يد الإنسان ووضعها على وجهه أو على أي شيء، فلا يمكن أن أي حركة تحدث أو أي سكون إلا بمشيئة الله، وقد كتبت، فيكون المعنى: إن من الأشياء التي كتبت وقدرت وفرغ منها أن هذا الشخص يدعو ويكون عنده ابتهال وتضرع، ويكون هذا سبب زيادة عمره، فالدعاء نفسه من القدر.
وكذلك هذا الواصل قد كتب في الأزل أنه يصل عمره، وتكون هذه الصلة سبباً لزيادة العمر، فلا يكون فيه إشكال في ذلك، ولا يكون كما قيل: هناك تقديران، فهذا شأن الجاهل الذي لا يعرف ما الذي يقع تعالى الله وتقدس عن ذلك، فعلى هذا قول الله جل وعلا في إجابته لرسوله: (إني إذا قضيت قضاءً فإنه لا يرد) على عمومه.
كل شيء قضاه وكتبه في الأزل فإنه لا بد من وقوعه ولا يتغير.
أما قول الله جل وعلا: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39] فقد ذكر العلماء فيها أقوالاً، وأصح ذلك قول أحدهم: إن هذا المحو والإثبات في صحائف الملائكة، التي يسجل بها عمل الإنسان في اليوم، فإذا صار آخر النهار يمحون الشيء الذي ليس فيه جزاء وليس عليه عقاب، يعني: لا يترتب عليه عقاب ولا ثواب، مثل: أعطني القلم خذ الكتاب أعطني الكأس وما أشبه ذلك، هذه تمحى، ويثبت الشيء الذي يكون فيه الجزاء، وكل هذا مقدر مكتوب، ولكن هذا محو في الصحائف؛ لأن الصحائف يسجل فيها أعمال الإنسان التي يجازى بها، ويوم القيامة إذا بعث يعطى كتابه ويقال له: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:14] يعني: حاسب نفسك أنت، انظر صحائفك صحيفتك التي سجلت عليك منذ بلغت إلى أن تموت، أين هذه الصحيفة؟ في أيدي الملائكة يحفظونها، قال الله: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:10 - 12]، {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:16 - 18].
فالملك يترقب أي لفظ تتلفظه ليسجله ويكتبه؛ وهما اثنان: واحد يكتب الحسنات، والآخر يكتب السيئات.
يقول ابن رجب رحمه الله: اتفق السلف على أن الذي على اليسار هو الذي يكتب السيئات، والذي عن اليمين يكتب الحسنات، ولكن ليس في هذا نص، ولكن إذا اتفقوا على ذلك فلا بد أن يكون حقاً؛ لأن الأمة لا تتفق إلا على حق كما في هذا الحديث.
فإذاً المحو الذي يذكر يكون في الصحائف، هذا قول.
القول الثاني: أن المحو يكون في الشرائع التي ينسخها الله جل وعلا، يقول ابن أبي العز في شرحه للطحاوية: إن هذا القول هو الراجح، وهو الصحيح، وهو الذي تدل عليه الآيات وسياقها، وهو أن الإثبات والمحو في الشرائع التي يشرع الله ما يشاء منها، وينسخ ما يشاء، فلا يوجد فيه إشكال حيث إنه ليس من أمور القدر.
أما قوله جل وعلا: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} [فاطر:11] فقد قالوا: المعنى: ما يعمر من معمر ولا ينقص من عمر معمر آخر -غير هذا المعمر- إلا في كتاب، وليس معنى ذلك أن الأعمار يزاد فيها وينقص منها، فهذا مثل قولك: عندي دينار ونصفه، فالنصف الذي أعدت الضمير فيه على الدينار نصف آخر، غير نصف الدينار الأول؛ لأن عندك ديناراً كاملاً ونصفه، يعني: نصف دينار آخر؛ فيكون هذا معناه: ما يزاد عمر معمر، وينقص من عمر معمر آخر إلا في كتاب، يعني: هذا مكتوب ومفروغ منه فلا يكون فيه زيادة ونقص، ويدل على هذا ما في صحيح مسلم عن أم حبيبة أنها قالت: (اللهم متعني بزوجي رسول الله وبأخي معاوية وبأبي أبي سفيان، فقال: لقد سألت الله لآجال مضروبة لا يزاد فيها ولا ينقص، ولو قلت: اللهم اغفر لي وارحمني لكان أنفع) والله جل وعلا يقول: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34] {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} [المنافقون:11] الأجل لا يؤخر ولا يقدم فالآجال مفروغ منها، وهذا هو الصحيح الذي تدل عليه النصوص، وبذلك تتفق النصوص، وليس فيها أي اعتراض مخالف، ولكن يجب أن يفهم مراد الرسول صلى الله عليه وسلم، فقوله: (إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد) يعني: أنه جل وعلا قضى أن بأس هذه الأمة يكون بينها، وأنه إذا وقع فيهم السيف فإنه لا يرفع إلى يوم القيامة، وقد وقع السيف بقتل الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه، فبقي في الأمة وسيستمر إلى يوم القيامة، فالقتال موجود في الأمة من ذلك اليوم إلى يوم القيامة كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا من القضاء الذي لا يرد، ولكنه قد يقل وقد يكثر، وقد يكون في جهة دون أخرى، والذي يقرأ التاريخ يعلم ذلك يقيناً كيف يعني هذا، وسيكثر أيضاً ويزيد في آخر الزمان، حتى يأتي زمان يقتل فيه الإنسان وما يدري على أي شيء يقتل؛ لكثرة الفتن والأهواء.(71/5)
شرط تسليط الأعداء على الأمة
قوله في الغاية: (حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً، وحتى يكون بعضهم يسبي بعضاً) يعني: أن الهلاك مغياً بهذه الغاية، فإذا بدأ ذلك فإنه يأتي ما كتبه الله، ويدل على أن عدم التسليط إذا لم يكن بعضهم يقاتل بعضاً، أما إذا قاتل بعضهم بعضاً فيجوز أن يسلط الله عليهم عدواً، كما هو الواقع، فكلما حصل بين المسلمين خلاف سلط الله عليهم عدواً فأخذ بلادهم وقتلهم، ومن يقرأ التاريخ وينظر فيه يرى العجائب، فالأندلس ذهبت وأصبحت ليس فيها مسلم، محيت نهائياً بعدما كانت دولة كبيرة وفيها من المسلمين والعلماء والصناع والفقهاء والكتاب الشيء الذي عرف وملأ الدنيا، ثم لما صار كل بلد فيها أمير أو خليفة أصبح بعضهم يقاتل بعضاً، فجاءهم العدو واستباح بيضتهم وأهلكهم، ووضعت المحاكم التي يسمونها محاكم التفتيش، يعني: كل إنسان تبين أن عنده شيء من الدين يقتل؛ فانمحى الدين الإسلامي من الأندلس نهائياً، وإلى الآن وهي بيد الكفار.
وكذلك لما كان الخلفاء كل واحد يغير على الآخر، وكل واحد يقتل الآخر؛ سلط الله عليهم التتار فقتلوا الفقهاء والكبراء والعلماء والخليفة وغيرهم، بدءوا بالعلماء.
وقد ذكر ابن الأثير في تاريخه ما حصل من التتار، وقتلهم للمسلمين، وقال: لقد ترددت كثيراً هل أكتب ذلك أو لا أكتبه، فإن النفس لم تقدم على ذلك؛ لما فيه من الأمور التي تدمي الكبد، ولكن لا بد من تسجيل التاريخ، وذكر أنهم قتلوا في يوم واحد ثلاثة ملايين في بغداد! حتى أصبحت الخيل تمشي على الجثث والدماء تصل إلى ركب الخيل، وأخذوا الكتب من مكتبات المسلمين وألقوها في النهر حتى أصبح ماء النهر متغيراً من الحبر، فعاثوا في الأرض فساداً، شيء عظيم جداً، مقتلة ما صار مثلها، ثم استمر القتل حتى فسد الهواء، فصاروا يموتون موتاً ذريعاً، وتركوا البلاد وقد أخربوها.
ثم عادت الكرة مرة أخرى، وجاءوا إلى دمشق في وقت تيمور الأعرج الخبيث الظالم العنيد الذي جاء من سمرقند، فصنع فيها كما صنع التتار، وحصلت أشياء كثيرة، ولكن ليس معنى هذا أنه يقضى على الأمة نهائياً، لا بد أن يبقى فيها طوائف، غير أنه قد يقضى على معظمها، فإذا قتل الخليفة وقتل جنوده وقتل العلماء وقضي على بلاد الخلافة، فتبقى الأمور ضعيفة، ويكون المسلمون في ارتباك وخوف شديد.
فالمقصود: أن ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم وقع كما أخبر صلوات الله وسلامه عليه.
ثم قوله بعد هذا: (وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين) الأئمة يقصد بهم العلماء والأمراء، هؤلاء هم الأئمة، وإذا صلح العلماء والأمراء فالناس تبع لهما، وإذا فسد هذان الصنفان فالناس كلهم يفسدون، وهؤلاء هم الأئمة الذين يؤتم بهم ويقتدى بهم، وإذا كانوا ضالين فالناس يضلون تبعاً لهم.(71/6)
لا تقوم الساعة حتى يلحق فئام من الأمة المشركين
قال عليه الصلاة والسلام: (وإنها لا تقوم الساعة حتى يلحق فئام من أمتي بالمشركين) هذا هو الشاهد من الحديث، والفئام: هي القبائل، ومعنى إلحاقهم بالمشركين: إما أنهم يدخلون في دينهم، ويرتدون وإن كانوا في بلادهم، أو أنهم يذهبون إلى المشركين في بلادهم ويكونون معهم، ومن تتبع الأحوال ونظر سيجد الأمرين قد وقعا، ويقعا.
والمقصود بهذا أنها تحصل الردة، فالرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن ناساً يرتدون عن دينهم، والرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بالواقع.
(وحتى تعبد قبائل من هذه الأمة الأوثان)، الوثن لا يشترط أن يكون نصباً منصوباً على صورة شخص أو صورة حيوان، كل ما عبد من دون الله فهو وثن، والعبادة: اسم جامع لكل ما أمر الله جل وعلا به وأحبه ورضيه، فمن صرف شيئاً منها لمخلوق من المخلوقات فقد جعل ذلك الشيء وثناً أو صنماً يعبد.
وقد جاء في الصحيحين: (لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس على ذي الخلصة)، وذو الخلصة صنم قديم في الجاهلية في بلاد دوس، وهذا خبر صحيح ولا بد من وقوعه، وربما يبعث مرة أخرى ويقع كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وكل هذا يكذب قول من ينفي الشرك في هذه الأمة، ويستدل بحديث: (إن الشيطان أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم)، والمعنى الصحيح: أن الشيطان يئس أن تعود جزيرة العرب جاهلية كما كانت قبل البعثة، فإن هذا لا يكون بإذن الله، ولكن ليس معنى ذلك أنه لا يقع فيها الشرك.(71/7)
لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق منصورة
قوله: (وإنه لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك) يقول العلماء: الطائفة يصح أن تطلق على جماعة، وهذه الجماعة قد تكون كثيرة، وقد تكون قليلة، وقد تكثر مرة، وقد تقل أخرى، ويقول النووي في شرحه لهذا الحديث في صحيح مسلم: يجوز أن تكون هذه الجماعة مختلفة الاتجاهات والأعمال، بين شجاع يقاتل في سبيل الله، وبين تاجر ينفق في الدعوة إلى الله، وبين فقيه يعلم الناس وينشر دين الله، وداعية يدعو إلى الحق إلى غير ذلك، ويجوز أن يكونوا مجتمعين، ويجوز أن يكونوا متفرقين، ويجوز أن يكونوا في قطر واحد، ويجوز أن يكونوا في أقطار مختلفة، وأن يقلوا ويكثروا، هذا معنى كلام النووي رحمه الله، وهذا هو الصواب الذي يدل عليه الحديث.
أما ما جاء في بعض الروايات: (أنهم في الشام) كما جاء في رواية معاذ، وهي في صحيح البخاري، فإن هذا لا يلزم منه أن يكونوا في الشام دائماً، ولكن يكونون في وقت دون وقت، والواقع يشهد لهذا، والشام يطلق على البلاد المعروفة الآن بالأردن ولبنان وفلسطين وسوريا وبعض أجزاء من تركيا، كلها كان يطلق عليها الشام.
وقد جاء في بعض الروايات: (أن هذه الطائفة في فلسطين)، فيكون ذلك في وقت من الأوقات، ومعروف الآن أن فلسطين فيها اليهود، وهم أشر عباد الله وأشر خلق الله، ولكن سيأتي يوم من الأيام يكون فيها الموحدون الذين يقتلون اليهود، ويكون ذلك في آخر الزمان، والله أعلم متى يكون.(71/8)
الدجالون في هذه الأمة
قوله: (وإنه سيكون في هذه الأمة ثلاثون كذابون، كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي) المقصود بالثلاثين الذين يكون لهم قوة وأتباع ودعوة، وإلا فلو تتبع من ادعى النبوة لبلغوا آلافاً وليس ثلاثين، ولكن بعضهم يكون مريضاً، وبعضهم يصاب بشبه جنون فيدعي النبوة، ولكن المقصود الذين صار لهم سلطة، وصار لهم أتباع وقوة مثل: الأسود العنسي الذي خرج في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فقتل قبل موته صلوات الله وسلامه عليه، وقد جاء إليه أبو مسلم الخولاني فقال له: أتشهد أني نبي؟ قال: لا أسمع، قال: أتشهد أن محمداً نبي؟ قال: نعم، فأمر أن يلقى في نار، فلم تضره النار، فخرج منها كأن لم يكن هناك نار! وهو من التابعين وليس من الصحابة، ولما قدم على عمر رضي الله عنه في خلافته قال: الحمد لله الذي جعل في أمة محمد مثل إبراهيم الخليل، ألقي في النار فلم تضره، ثم سلط الله جل وعلا على الأسود رجلاً من أهله فقتله.
وكذلك مسيلمة الكذاب، خرج وصار له أتباع وصار له قوة، وحصلت معركة هائلة بينه وبين الصحابة، قتل فيها من حفظة القرآن سبعون قارئاً، وكان هذا هو السبب في جمع أبي بكر للقرآن؛ خوفاً أن يكثر القتل في القراء فيذهب شيء منه، فجمعوه وكتبوه في الصحف.
وكذلك خرج طليحة الأسدي في بني أسد، وزعم أنه نبي وتبعته قبيلته، وصار قتال بينه وبين الصحابة فانهزم، ثم بعد ذلك تاب، وقتل شهيداً في وقعة نهاوند.
وبعد ذلك خرج المختار بن أبي عبيد الثقفي، خرج في البصرة وفي الكوفة، فأول أمره خرج نصرة للحسين رضي الله عنه، ففرح الناس به، وتبعه خلق على ذلك، وتتبع قتلة الحسين فقتل أكثرهم، ثم بعد ذلك زعم أنه نبي، وأن جبريل يأتيه ويكلمه، فقاتله مصعب بن الزبير حتى قتله.
ثم كذلك الحارث في زمن عبد الملك خرج وصار له أتباع فقتل.
ثم تتابعوا إلى أن جاء القادياني الخبيث الذي ادعى أنه نبي، وله أتباع إلى اليوم في أنحاء الأرض، ولهم دعوة، وما يقرب من أربعين مجلة يصدرونها دعوة لدينهم، وعندهم أموال، وعندهم دعاة، ويفسرون القرآن على حسب رأيهم، ويعتقدون أن سيدهم نبي، ولا يشك مسلم أن هذه ردة وكفر وتكذيب بالقرآن.
ثم لا ينتهي الأمر، فيكون آخر من يدعي النبوة الكذاب الأكبر الدجال الذي حذرنا النبي عليه الصلاة والسلام منه، ومن الأمور العجيبة التي تدل على استهانة الكذابين بأمر الله، والضحك على الناس في أديانهم أن رجلاً خبيثاً خرج وسمى نفسه (لا) قال: أنا لا، ثم بعد ذلك ادعى النبوة، وقال: قد أخبر عني الرسول فقال: (لا نبي بعدي)! ونظير ذلك أن امرأة خرجت وادعت النبوة، فلما قيل لها: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر أنه لا نبي بعده، والله جل وعلا يقول: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40] قالت: ولكنه لم يقل: لا نبية بعدي، أنا نبية، وهو أخبر أنه لا يكون بعده نبي، سخافات واستهانة بعقول الناس وأديانهم إلى هذا الحد! وليس معنى هذا كما يقول بعض الأدباء: هذه من الطرائف، هذه ما هي طرائف، هذا كفر واستهانة بأمر الله جل وعلا وبدينه وبأديان الناس وعقولهم وأفكارهم، وهذا العدد الذي أخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم المقصود به من يأتي ويظهر ويكون له قوة.
والمسيح الدجال سيكون هو آخر الكذابين، وهو أعظم الكذابين لماذا؟ لأنه أول ما يخرج يزعم أنه مصلح، وأنه يريد أن يقضي على الظلم والظلمة، فإذا تمكن من ذلك ادعى النبوة، وقال: أنا نبي، فيتركه كثير ممن كان يتبعه، ولكن من يفتن به أكثر، ثم بعد ذلك يتمادى به الأمر ويقول: أنا رب العالمين، ويكون عنده كثير من الفتن والأمور العظيمة حتى إنه يقول للأرض: أنبتي، ويقول للسماء: أمطري، فيحصل ذلك، ويأتيه الرجل ويقول له: إذا أحييت أباك وأمك أتؤمن بأني ربك؟ فيقول: نعم، فيتمثل له شيطانان: واحد بصورة أمه، والآخر بصورة أبيه، فيقولان له: يا بني! آمن به فإنه ربك؛ ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا سمعتم به فانئوا عنه، فإن الرجل يأتيه واثقاً من نفسه فلا يزال حتى يتبعه)، بسبب الفتن التي يرى، حتى يكون متبعاً له، وهو رجل من بني آدم، وعينه اليمنى عوراء مطموسة كأنها عنبة طافية، ومكتوب على جبهته كافر، ولكن هذا يقرؤه المؤمنون، وأكثر الناس لا يقرءونه، فهو يأتي بفتن عظيمة يمر على القوم ويردون دعوته فيمحلون، ويمر على القوم فيؤمنون به، فتغدق عليهم الدنيا، ولشدة فتنته أمرنا رسولنا صلى الله عليه وسلم أن نستعيذ من فتنته في كل صلاة، وأخبر أن كل نبي حذر أمته من المسيح الدجال، وأنه خارج في هذه الأمة ولا محالة؛ لأنه ليس بعد هذه الأمة أمة.
ونزول عيسى عليه السلام لا ينافي قوله صلى الله عليه وسلم: (لا نبي بعدي)؛ لأن عيسى وإن كان رسولاً فإنه ينزل حاكماً بهذا الشرع، فهو من هذه الأمة، بل هو أفضل هذه الأمة على الإطلاق، وقد صحت الأحاديث وتواترت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (سينزل فيكم ابن مريم ويضع الجزية، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير) يعني أنه لا يقبل إلا الإسلام، وهو الذي يقتل الدجال.
وقوله: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك)، فيه بشارة أن الحق لا يزول ولا يضمحل، بل لا بد أن تبقى أمة تقاتل على الحق، وتدعو إليه ولا يضرهم المخالف ولا الخاذل، الخاذل يكون منهم على دينهم وعلى ملتهم ولكنه يخذلهم، بمعنى أنه لا يساعدهم ولا يناصرهم، أما المخالف فليس على نهجهم، ولا يضرهم لا هذا ولا هذا، وقوله: (حتى يأتي أمر الله) لا يخالف ما جاء في صحيح مسلم أنها: (لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق)، وفي رواية: (حتى لا يقال في الأرض: الله الله) يعني أنه لا يذكر الله أصلاً، شرار الناس هم الذين يبنون على القبور والذين تدركهم الساعة وهم أحياء؛ ولهذا لما روى عبد الله بن عمرو كما في الصحيح حديث: (تأتي ريح فتقبض روح كل من في قلبه إيمان، فيبقى الناس يتهارجون تهارج الحمر، فعليهم تقوم الساعة، فقال له أحد الصحابة: اعلم ما تقول! أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة)، فقال له: إن قيام الساعة المقصود به ساعتك، يعني: هذه الريح، وهذا هوالصواب، فليس في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم منافاة.(71/9)
معنى قوله: (إن الله زوى لي الأرض)
قال الشارح رحمه الله: [ولـ مسلم إلخ.
هذا الحديث رواه أبو داود في سننه، وابن ماجه بالزيادة التي ذكرها المصنف.
قوله: عن ثوبان هو مولى النبي صلى الله عليه وسلم، صحبه ولازمه، ونزل بعده الشام، ومات بحمص سنة أربع وخمسين.
قوله: (زوى لي الأرض) قال التوربشتي: زويت الشيء جمعته وقبضته، يريد تقريب البعيد منها حتى اطلع عليه اطلاعه على القريب، وحاصله أنه طوى له الأرض، وجعلها مجموعة كهيئة كف في مرآة ينظره، قال الطيبي: أي: جمعها حتى بصرت ما تملكه أمتي من أقصى المشارق والمغارب منها.
قوله: (وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها) قال القرطبي: هذا الخبر وجد مخبره كما قال، وكان ذلك من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم، وذلك أن ملك أمته اتسع إلى أن بلغ أقصى طنجة ـ بالنون والجيم ـ الذي هو منتهى عمارة المغرب، إلى أقصى المشرق مما هو وراء خراسان والنهر، وكثير من بلاد السند والهند والصغد، ولم يتسع ذلك الاتساع من جهة الجنوب والشمال، وذلك لم يذكر عليه السلام أنه أريه، ولا أخبر أن ملك أمته يبلغه.
قوله: (زوي لي منها) يحتمل أن يكون مبيناً للفاعل، وأن يكون مبنياً للمفعول.
قوله: (وأعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض) قال القرطبي: عنى به كنز كسرى وهو ملك الفرس، وكنز قيصر وهو ملك الروم، وقصورهما وبلادهما، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده! لتنفقن كنوزهما في سبيل الله)، وعبر بالأحمر عن كنز قيصر؛ لأن الغالب عندهم كان الذهب، وبالأبيض عن كنز كسرى؛ لأن الغالب عندهم كان الجوهر والفضة، ووجد ذلك في خلافة عمر، فإنه سيق إليه تاج كسرى وحليته، وما كان في بيوت أمواله وجميع ما حوته مملكته على سعتها وعظمتها، وكذلك فعل الله بقيصر، والأبيض والأحمر منصوبان على البدل].(71/10)
عدم هلاك هذه الأمة بسنة بعامة
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (وإني سألت ربي لأمتي ألا يهلكها بسنة بعامة) هكذا ثبت في أصل المصنف رحمه الله (بعامة) بالباء، وهي رواية صحيحة في صحيح مسلم، وفي بعضها بحذفها، قال القرطبي: وكأنها زائدة؛ لأن عامة صفة السنة، والسنة الجدب الذي يكون به الهلاك العام، ويسمى الجدب والقحط: سنة، ويجمع على سنين كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ} [الأعراف:130] أي: الجدب المتوالي.
قوله: (من سوى أنفسهم) أي: من غيرهم من الكفار من إهلاك بعضهم بعضاً، وسبي بعضهم بعضاً كما هو مبسوط في التاريخ فيما قبل، وفي زماننا هذا نسأل الله العفو والعافية.
قوله: (فيستبيح بيضتهم) قال الجوهري: بيضة كل شيء حوزته، وبيضة القوم ساحتهم، وعلى هذا فيكون معنى الحديث: إن الله تعالى لا يسلط العدو على كافة المسلمين حتى يستبيح جميع ما حازوه من البلاد والأرض، ولو اجتمع عليهم من بأقطار الأرض وهي جوانبها، وقيل: بيضتهم معظمهم وجماعتهم وإن قلوا.
قال المصنف رحمه الله في شرح حديث ثوبان: قوله: (حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً)، والظاهر أن حتى عاطفة أو تكون لانتهاء الغاية، أي: أن أمر الأمة ينتهي إلى أن يكون بعضهم يهلك بعضاً، وقد سلط بعضهم على بعض كما هو الواقع، وذلك لكثرة اختلافهم وتفرقهم.
قوله: (وإن ربي قال: يا محمد! إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد) قال بعضهم: أي: إذا حكمت حكماً مبرماً نافذاً فإنه لا يرد بشيء، ولا يقدر أحد على رده كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا راد لما قضيت)].(71/11)
الاختلاف أساس كل شر
من المعلوم أن الاختلاف هو أساس كل شر؛ ولهذا يمتنع استباحة الكفار للمسلمين حتى يقع الاختلاف بينهم، فإذا وقع فإنه يجوز أن يهلكوا عموماً، فالاختلاف محرم في كتاب الله جل وعلا وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وليس المراد بالاختلاف هنا الاختلاف في الفهوم، الفهم لا يمكن أن يتفق، الاختلاف هنا اختلاف مذموم محرم مكروه عند الله جل وعلا ورسوله، والاختلاف المباح هو الذي يكون في الفهوم، في فهم النصوص مثلاً؛ لأن النصوص فيها مجال للفهم والاختلاف في مناص الحكم، فمثلاً قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة)، قد يقول بعض العلماء: هذا النهي وهذا القول يدل على أنها إذا أقيمت الصلاة بطلت كل صلاة تلبس بها المصلي، ويقول آخر: لا، ليس هذا معناه، بل معناه: أنها إذا أقيمت الصلاة فلا يجوز أن يدخل في صلاة جديدة، أما إذا كان في صلاة فيكملها؛ لأن الله جل وعلا يقول: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33]، مثل هذا الاختلاف لا بأس به، وهذا الذي يكون بين الفقهاء وبين العلماء؛ لأن كل واحد يتمسك بالنص، ويقول: المراد به كذا وكذا.
أما الاختلاف الذي يحدث العداوة، ويحدث التفرق، ويحدث بعد ذلك التدابر ثم التباغض ثم التقاتل؛ فهذا هو الذي إذا حدث أصيبت الأمة بتسليط الأعداء عليها؛ لأن بعضهم سلط على بعض أولاً، وإذا حدث شيء من ذلك فعلى الإنسان أن يصبر، ويحاول تلافي هذا الشيء بكل ما يستطيع، ولا يضرم النيران، ولا يزيد الاختلاف فيصبح مثلاً يغري الذين لا يكون عندهم علم، ومن كان عندهم من الغرور ما يحدوهم إلى التمادي في هذا الباطل، ولا يجوز له أن يتمادى معهم، يجب أن يتلافى الأمر بكل ممكن، ولا يكون شريكاً لهؤلاء، يقول الله جل وعلا: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103] وحبل الله هو كتابه أو دينه، ما دام المؤمنون نهجهم وعقيدتهم وهدفهم واحداً فالفهوم لا يجوز أن تكون مجالاً للتنافر والتباغض، ولا يمكن أن يكون فهم هذا كفهم هذا، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (مثلي ومثل ما بعثني الله جل وعلا به كمثل غيث أصاب أرضاً، فكان منها أرضاً طيبة قبلت الماء وأنبتت الكلأ، فرعى الناس وانتفعوا، وكان منها طائفة قيعان لا تنبت الكلأ، ولكنها أمسكت الماء، فورد الناس وارتووا وانتفعوا، ومنها أجادب لا تمسك ماءً، ولا تنبت كلأ) فجعل الناس بالنسبة للوحي ثلاثة أقسام: قسم: أهل فقه وأهل علم يستطيع أن يستنتج من النص ما لا حصر له من الأحكام، وهذا الذي مثله بالأرض الطيبة التي تنبت الماء، وتنبت الكلأ الكثير.
وقسم آخر: ليس عنده فقه، ولكن عنده حفظ يحفظ النصوص فينتفع الناس بحفظه.
وقسم ثالث: لا حفظ عنده ولا فهم ولا فقه، مثل الأعراب ليس لهم اهتمام بأمر الدين، فهؤلاء مثل السباخ التي ينزل عليها المطر ويزيدها دحضاً وأذىً للناس، لا تنبت كلأ ولا تمسك ماء.(71/12)
من أدب الخلاف
ينبغي للإنسان أن يفهم عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، أما أن يقصد بخلافه أن يظهر على الناس، وأن يشار إليه، وأن يقال: فلان عالم أو فلان مجادل أو أنه يستطيع أن يغلب فلاناً ويرد على فلان فلا، فهذه الحالة السيئة تدخل في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من طلب العلم ليماري به السفهاء، ويجاري به العلماء فله النار) نسأل الله العافية.
فينبغي أن يكون القصد من الخلاف الإظهار للحق، ولا يجوز أن يكون مثاراً للبغضاء والتفرق، بل يجب على الإنسان إذا أرشد ونبه على معنى من معاني النصوص أن يشكر من نبهه وأرشده على هذا، وأن يكون هذا داعياً للتقارب والصلة والمحبة، ولا يكون داعياً للتنافر، ومن الأسف أن بعض طلبة العلم إذا نبه على شيء وقيل له: إن معنى هذا كذا وكذا، أو أنك في قولك كذا وعمل كذا قد أخطأت معنى النص، أو أخطأت كذا وكذا؛ أصبحت المسألة عداوة، وأصبح يعاديك ويبغضك؛ لأنك نبهته! فهو يريد أن يكون أعلم منك وفوقك، وكأنه يتصور في نفسه أنه هو الكامل، وليس هذا خلق طلبة العلم، هذا مسلك الجهلة الظلمة الذين يريدون العلو في الأرض.
والمقصود أن دواعي الخلاف ليست هي نصوص الكتاب والسنة، بل نصوص الكتاب والسنة تدعو إلى الاتفاق، وإلى التواد والتراحم (والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)، أما إذا لم يسلم المسلمون من لسانه أو من يده فإسلامه غير مستقيم، ومستقل من ذلك ومستكثر.
وأما كون الإنسان يريد بيان الحق وإيصاله إلى الناس، فبيان الحق له أسلوب وله طريق قد بينه الرسول صلى الله عليه وسلم، وبينه الله جل وعلا في كتابه، ومعلوم أنك إذا أردت دعوة إنسان وأتيته بالعنف والازدراء والسخرية وما أشبه ذلك فإنه يزداد بعداً منك، ونفوراً عن قولك، ويحاول أن يرد كلامك عليك، فيجب أن يكون هدف الإنسان من كلامه شيئين: أحدهما: أداء الحق الواجب عليه، فإن الله جل وعلا أخذ على العلماء أن يبينوا لمن لا يعرف، وأخبر أن الذي يكتم العلم ملعون، وأن الله يلعنه، والملائكة تلعنه، والدواب تلعنه، وكل لاعن يلعنه.
الثاني: رحمة الناس وطلب هدايتهم؛ لأن المسلم أخو المسلم، يجب عليه أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ولا يكون له مقصد آخر فيهلك، فهذا الذي يكون له نصيب من قول الله جل وعلا: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108]، الرسول صلى الله عليه وسلم كان يأتي إلى الكافر ويقول له: يا أبا فلان! ألا تسمع مني، هكذا يقول، يكنيه بكنيته ويقول: ألا تسمع مني؟ ما يقول له: قف أكلمك! وأنت كذا وكذا، وليس معنى ذلك أنه يوده، إن هذه هي الطريقة للسماع، ولإيصال الحق للناس، فالنفوس جبلت على أنها لا تقبل ممن ينتقصها ويزدريها، بل تزدريه وتتنقصه، وربما زاد الأمر فوق ما يتصوره هو، وهذا شيء يقع فيه كثير ممن يتصدى للدعوة والبيان؛ إما لأنه لم يصل في العلم إلى الدرجة التي يجب عليه أن يصل إليها، وإما لسوء نية وطوية عنده، وإما لغير ذلك من الآفات التي تعترض الإنسان.
فعلى الإنسان أن يتقي ربه، وألا يكون سبباً في خلاف الأمة، سواء كانت الأمة التي تختلف بسببه كثيرة أو قليلة.
[قوله: رواه البرقاني في صحيحه، هو الحافظ الكبير أبو بكر أحمد بن محمد بن أحمد بن غالب الخوارزمي الشافعي، ولد سنة ست وثلاثين وثلاثمائة، ومات سنة خمس وعشرين وأربعمائة، قال الخطيب: كان ثبتاً ورعاً، لم نر في شيوخنا أثبت منه، عارفاً بالفقه، كثير التصانيف، صنف مسنداً ضمنه ما اشتمل عليه الصحيحان، وجمع حديث الثوري وحديث شعبة وطائفة.
وهذا الحديث رواه أبو داود بتمامه بسنده إلى أبي قلابة عن أبي أسماء عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله ـ أو قال: إن ربي ـ زوى لي الأرض، فأريت مشارق الأرض ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوى لي منها، وأعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي لأمتي ألا يهلكها بسنة عامة، ولا يسلط عليهم عدواً سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال لي: يا محمد! إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني لا أهلكهم بسنة عامة، ولا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بين أقطارها ـ أو قال: بأقطارها ـ حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً، وحتى يكون بعضهم يسبي بعضاً، وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين، وإذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنها إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى يلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان، وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق -قال ابن عيسى: ظاهرين، ثم اتفقا- لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله تعالى)].(71/13)